9. مرعاة المفاتيح
وهي عندنا صحاح قوية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ينزل ولم يقل كيف ينزل، فلا نقول كيف ينزل، نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى البيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن أبي محمد أحمد بن عبدالله المزني يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما يصدقه، وهو قوله. ?وجاء ربك والملك صفا صفا? [22:90] انتهى. وذكر البيهقي عنه مثل هذا في السنن الكبرى (ج3:ص3) أيضا. (وفي رواية لمسلم: ثم يبسط يديه) قال النووي: هو إشارة إلى نشر رحمته، وكثرة عطائه، وإجابته، وإسباغ نعمته. (ويقول) أي بذاته، أو على لسان ملك من خواص ملائكته. (من يقرض) بضم الياء من الإقراض. والمراد بالقرض عمل الطاعة، سواء فيه الصدقة والصلاة والصوم والذكر وغيرها من الطاعات، وسماه قرضا ملاطفة للعباد، وتحريضا لهم على المبادرة إلى الطاعة، فإن القرض إنما يكون ممن يعرفه المقترض، وبينه وبينه موانسة ومحبة، فحين يتعرض للقرض يبادر المطلوب منه بإجابته لفرحه بتأهيله للاقتراض منه، وإدلاله عليه، وذكره له. والمعنى من يعطي العبادة البدنية والمالية على سبيل القرض وأخذ العوض. (غير عدوم) أي ربا غنيا غير فقير عاجز عن العطاء. (ولا ظلوم) بعدم وفاء دينه أو بنقصه أو بتأخير أدائه عن وقته. وإنما خص نفي هاتين الصفتين، لأنهما المانعان غالبا عن الإقراض، فوصف الله تعالى ذاته بنفي هذا المانع. وحاصل المعنى من يعمل خيرا في الدنيا يجد جزاءه كاملا في العقبى، فشبه هذا المعنى بالإقراض. وفيه تحريض على عمل الطاعة، وإشارة إلى جزيل الثواب عليها. (حتى ينفجر الفجر) أي ينشق أو يطلع ويظهر الصبح وهي غاية للبسط والقول، أي لا يزال يقول ذلك حتى يضيء الفجر. وفيه دليل على امتداد وقت الرحمة واللطف التام إلى إضاءة الفجر. وزاد في رواية للدارقطني في آخر الحديث: ولذلك كانوا يفضلون صلاة آخر الليل على
(7/421)
أوله، وله من رواية ابن سمعان
عن الزهري ما يشير إلى أن قائل ذلك هو الزهري. وبهذه الزيادة تظهر وتتضح مناسبة
ذكر الحديث في باب التحريض على قيام الليل. وفي الحديث من الفوائد تفضيل صلاة آخر
الليل على أوله، وتفضيل تأخير الوتر، لكن ذلك في حق من طمع أن ينتبه، وأن آخر
الليل أفضل للدعاء والاستغفار. ويشهد له قوله تعالى، وإن الدعاء في ذلك الوقت
مجاب. ولا يعترض على ذلك بتخلفه عن بعض الداعين، لأن سبب التخلف وقوع الخلل في شرط
من شروط الدعاء، كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس، أو لاستعجال الداعي أو بأن
يكون الدعاء باثم أو قطعية رحم أو تحصل الإجابة، ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد
أو لأمر يريده الله تعالى.
1231- قوله: (إن في الليل لساعة) بلام التأكيد، أي مبهمة كساعة الجمعة، وليلة
القدر، وأبهمت
لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله فيها خيرا من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه،
وذلك كل ليلة)) رواه مسلم
1232-(7) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحب
الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل
ويقوم ثلثه،
(7/422)
لأجل أن يجتهد الشخص جميع الليل، ولا يقتصر على العبادة في وقت دون وقت، وسيأتي مزيد الكلام فيه. (لا يوافقها رجل مسلم) وكذا امرأة مسلمة. وهذه الجملة صفة لساعة أي ساعة من شأنها أن يترقب لها ويغتنم الفرصة لإدراكها؛ لأنها من نفحات رب رؤوف رحيم، وهي كالبرق الخاطف، فمن وافقها أي تعرض لها واستغرق أوقاته مترقبا للمعاتها فوافقها قضى وطره. (يسأل الله) أي فيها، والجملة صفة ثانية أو حال. (خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه) أي حقيقة أو حكما. (وذلك) أي المذكور من ساعة الإجابة. (كل ليلة) بالنصب على الظرفية، وهو خبر ذلك أي ثابت في كل ليلة، يعني وجود تلك الساعة، لا يتقيد بليلة مخصوصة، أي لا يختص ببعض الليالي دون بعض، فينبغي تحري تلك الساعة ما أمكن كل ليلة. قال النووي: فيه إثبات ساعة الإجابة في كل ليلة، ويتضمن الحث على الدعاء في جميع ساعات الليل رجاء مصادفتها-انتهى. وقال العزيزي: قال الشيخ: ظاهر الرواية التعميم في كل الليل، لكن من المعلوم أن الجوف أفضله، فعلى كل حال ساعة أول النصف الثاني والتي بعدها أفضل، نعم من لم يقم فيها فالأخيرة لرواية الحاكم: أنه لا يزال ينادي إلا إلا إلا، وفي أخرى: هل من تائب هل من مستغفر الخ. حتى يطلع الفجر-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد.
(7/423)
1232- قوله: (أحب الصلاة) أي
أكثر ما يكون محبوبا من جهة شرف الوقت وزيادة المشقة على النفس. (إلى الله) أي من
النوافل. (صلاة داود) عليه السلام. (وأحب الصيام) أي أكثر ما يكون محبوبا. (إلى
الله صيام داود) وفي رواية: وأحب الصوم إلى الله صوم داود. واستعمال أحب بمعنى محبوب
قليل؛ لأن الأكثر في أفعل التفضيل أن يكون بمعنى الفاعل. ونسبة المحبة فيهما إلى
الله تعالى على معنى إرادة الخير لفاعلهما. (كان) استئناف مبين للجملتين
السابقتين. وفي بعض النسخ: وكان بزيادة الواو. (ينام) أي داود. (نصف الليل) أي
نصفه الأول، والظاهر أن المراد كان ينام من الوقت الذي يعتاد فيه النوم إلى نصف
الليل، أو المراد بالليل ما سوى الوقت الذي لا يعتاد فيه النوم من أول. والقول
بأنه ينام من أول الغروب لا يخلو عن بعد. (ويقوم) أي بعد ذلك، ففي رواية لمسلم:
كان يرقد شطر الليل ثم يقوم ثلث الليل بعد شطره. (ثلثه) أي في الوقت الذي ينادي
فيه الرب تعالى
وينام سدسه، ويصوم يوما، ويفطر يوما))
(7/424)
هل من سائل هل من مستغفر؟. (وينام سدسه) بضم الدال ويسكن أي سدسه الأخير، ثم يقوم عند الصبح، وكان ينام السدس الأخير ليستريح من نصب القيام في بقية الليل، وإنما صارت هذه الطريقة أحب إلى الله تعالى؛ لأنه أخذ بالرفق التي يخشى منها السآمة التي هي سبب ترك العبادة، والله تعالى يحب أن يديم فضله ويوالى إحسانه، قاله الكرماني. وإنما كان ذلك أرفق؛ لأن النوم بعد القيام يريح البدن ويذهب ضرر السهر وذبول الجسم، بخلاف السهر إلى الصباح. وفيه من المصلحة أيضا استقبال صلاة الصبح، وأذكار النهار بنشاط وإقبال، ولأنه أقرب إلى عدم الرياء؛ لأن من نام السدس الأخير أصبح ظاهر اللون سليم القوى، فهو أقرب إلى أن يخفى عمله الماضي على من يراه، أشار إليه ابن دقيق العيد. قال في اللمعات: قيل: الحديث يشكل بأنه لم يكن عمل نبينا - صلى الله عليه وسلم - دائما على هذا الوجه، فالجواب أن صيغة التفضيل إما بمعنى أصل الفعل أو الأحبية إضافية محمولة على بعض الوجوه، لكونه أقرب إلى الاعتدال وحفظ صحته، ولما قيل في نوم السدس الأخير من دفع الكلفة والملال- انتهى. وقال القاري: ولعله - صلى الله عليه وسلم - ما التزم هذا النوم، ليكون قيامه جامعا سائر الأنبياء، وليهون على أمته في القيام بوظيفة الإحياء. (ويصوم) أي داود. (يوما ويفطر يوما) قال ابن المنير: كان داود عليه السلام يقسم ليله ونهاره لحق ربه وحق نفسه، فأما الليل فاستقام له ذلك في كل ليلة، وأما النهار فلما تعذر عليه أن يجزئه بالصيام؛ لأنه لا يتبعض، جعل عوضا من ذلك أن يصوم يوما ويفطر يوما، فيتنزل ذلك منزلة التجزئه في شخص اليوم، قيل: وهو أشد الصيام على النفس، فإنه لا يعتاد الصوم ولا الإفطار، فيصعب عليه كل منهما. وظاهر قوله: أحب الصيام يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقا، ووقع في بعض الروايات أفضل الصيام صيام داود، ومقتضاه أن تكون الزيادة عليه كصوم يومين وإفطار يوم، وكصيام الدهر بلا
(7/425)
صيام أيام الكراهة مفضولة،
وإنما كان ذلك أعدل الصيام وأحبه إلى الله؛ لأن فاعله يؤدي حق نفسه وأهله وزائر
أيام فطره، بخلاف من يصوم الدهر أي يتابع الصوم ويسرده، فإنه قد يفوت بعض الحقوق
وقد لا يشق باعتياده، فلا يحصل المقصود من قمع النفس، نظير ما قاله الأطباء: من أن
المرض إذا تعود عليه البدن لم يحتج إلى دواء، ولم يلتزم النبي - صلى الله عليه
وسلم - الوصف المذكور في صيامه لما قيل: إن فعله كان مختلفا يتضمن مصالح راجعة إلى
أمته أقوياءهم وضعفاءهم، وكان يفعل العبادات بحسب ما يظهر له من الحكمة في أوقات
الطاعات دون الحالات المألوفات والعادات. وقد روى البخاري وغيره عن عائشة قالت:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل بالشيء، وهو يحب أن يعمل به خشية
أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، زاد في رواية قالت: وكان يحب ما خف على الناس. قال
الشوكاني: الحديث يدل على أن صوم يوم وإفطار يوم أحب إلى الله من غيره، وإن كان
أكثر منه، وما كان أحب إلى الله عزوجل فهو أفضل، والاشتغال به أولى، وفي رواية
لمسلم: أن عبد الله بن عمرو قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إني أطيق أفضل من
ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم - :
متفق عليه.
1233-(8) وعن عائشة، قالت: ((كان - تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- ينام
أول الليل، ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم نام، فإن كان
عند النداء الأول جنبا، وثب فأفاض عليه الماء،
لا أفضل من ذلك. ويدل على أفضليته قيام ثلث الليل بعد نوم نصفه، وتعقيب قيام ذلك
الثلث بنوم السدس الآخر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في قيام الليل، وفي كتاب
الأنبياء، ومسلم في الصيام، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود في الصوم، والنسائي فيه وفي
الصلاة، وابن ماجه في الصوم، والبيهقي. (ج3 ص3) وأخرج الترمذي فضل الصوم فقط.
(7/426)
1233- قوله: (تعني) تفسير لضمير كان. قال ابن الملك: أي تريد عائشة بذلك. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بالنصب وهو مفعول تعني في الظاهر، واسم كان في المعنى. (ينام أول الليل) أي إلى تمام نصفه الأول ومعلوم أنه كان لا ينام إلا بعد فعل العشاء"؛ لأنه يكره النوم قبلها. (ويحيي أخره) أي بالصلاة. قال السندي: من الإحياء، وإحياء الليل تعميره بالعبادة، وجعله من الحياة على تشبيه النوم بالموت، وضده بالحياة لا يخلو عن سوء أدب- انتهى. وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري: كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي. (أي في السدس الرابع والخامس)، ثم يرجع إلى فراشه. (أي لينام السدس السادس ليقوم لصلاة الصبح بنشاط). (ثم) أي بعد صلاته وفراغه من ورده. (إن كانت له حاجة إلى أهله) المراد مباشرة زوجته. (قضى حاجته) أي فعلها. وفي رواية النسائي: فإذا كان له حاجة ألم بأهله أي قرب من زوجته، وهو كناية عن الجماع. وكلمة ثم بابها، كما تقدمت الإشارة إليه، فيؤخذ منه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقدم التهجد ثم يقضي بعد إحياء الليل حاجته من نساءه، فإن الجدير به أداء العبادة قبل قضاء الشهوة. وقيل: يمكن أن ثم ههنا لتراخي الإخبار أخبرت أولا أن عادته - صلى الله عليه وسلم - كانت مستمرة بنوم أول الليل وإحياء أخره. ثم أن اتفق له احتياج إلى أهله يقضي حاجته، ثم ينام في كلتا الحالتين. قال ابن حجر: وتأخير الوطأ إلى آخر الليل أولى؛ لأن أول الليل قد يكون ممتلئا، والجماع على الامتلاء مضر بالإجماع. (ثم ينام) أي السدس الأخير ليستريح. (فإن كان عند النداء الأول) تعني الأذان المتعارف عند تبيين الصبح. (جنبا وثب) بواو ومثلثة وموحدة مفتوحات أي قام بنهجه وشدة وسرعة. (فأفاض عليه الماء) أي أسال على جميع بدنه الماء يعني اغتسل. هكذا في جميع النسخ للمشكاة، وكذا في المصابيح أي فإن عند النداء الأول جنبا وثب فأفاض عليه الماء. ولفظ مسلم: فإذا كانت عند
(7/427)
النداء الأول قالت وثب ولا
والله ما قالت:
وإن لم يكن جنبا توضأ للصلاة، ثم صلى ركعتين)). متفق عليه.
((الفصل الثاني]
1234-(9) عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بقيام
الليل، فإنه دأب الصالحين
قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم)) .
قام فأفاض عليه الماء، ولا والله ما قالت اغتسل وأنا أعلم ما تريد، ولفظ البخاري:
فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة. (أي أثر حاجة أو المراد بالحاجة هي
الجنابة لكونها أثرا لها، أو المراد حاجة الاغتسال بقرينة الجزاء) اغتسل، وإلا
توضأ وخرج. وهذا يدل على أن بعض الرواة ذكره بالمعنى، وحافظ بعضهم على اللفظ. ولفظ
النسائي: فإذا سمع الأذان وثب، فإن كان جنبا أفاض عليه من الماء وإلا توضأ، ثم خرج
إلى الصلاة أي بعد أن صلى ركعتي الفجر. (وإن لم يكن جنبا توضأ للصلاة) وفي مسلم:
توضأ وضوء الرجل للصلاة أي إما للتجديد؛ لأن نومه - صلى الله عليه وسلم - لا ينقض
الوضوء، أو لحصول ناقض آخر غير النوم. (ثم صلى ركعتين) وفي مسلم: ثم صلى الركعتين،
أي سنة الصبح في بيته، ثم خرج إلى المسجد لصلاة الصبح. ويؤخذ من الحديث أنه ينبغي
الاهتمام بالعبادة، وعدم التكاسل بالنوم والإقبال عليها بالنشاط. (متفق عليه)
ولفظه لمسلم. وأخرجه أيضا النسائي والترمذي في الشمائل، وأخرجه أيضا النسائي وابن
ماجه مختصرا بلفظ: كان ينام أول الليل ويحيي آخره.
(7/428)
1234- قوله: (عليكم بقيام
الليل) أي التهجد فيه. (فإنه دأب الصالحين قبلكم) بسكون الهمزة ويحرك أي عادتهم.
قال الطيبي: الدأب العادة والشأن، وقد يحرك، وأصله من دأب في العمل إذا جد وتعب،
أي هي عادة قديمة واظب عليها الأنبياء والأولياء السابقون. (وهو) أي مع كونه
إقتداء بسيرة الصالحين. (قربة لكم إلى ربكم) أي مما تتقربون به إلى الله تعالى.
(ومكفرة) بفتح الميم وسكون القاف مصدر ميمي بمعنى اسم فاعل من الكفر وهو الستر.
(للسيئات) أي خصلة ساترة ماحية لذنوبكم، والحسنات كلها تكفير للسيئات، كما قال
تعالى:. ?إن الحسنات يذهبن السيئات? [11: 114]، وقيام الليل يزيد عليها لكونه
(منهاة) بفتح الميم وسكون النون مصدر ميمي أيضا بمعنى اسم فاعل من النهي. (عن
الإثم) كذا في جميع النسخ، وكذا في المصابيح، وهكذا عند البيهقي، وكذا نقله الجزري
(ج10 ص266). ولفظ الترمذي في حديث أبي أمامة: للإثم أي بلام الجر بدل عن، نعم وقع
في رواية بلال عند الترمذي: عن الإثم. والمعنى ناهية عن ارتكاب ما يوجب الإثم. قال
تعالى:. ?إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر? [29: 45] وقال الجزري في النهاية:
منهاة عن الإثم أي حالة من شأنها أن تنهى الإثم أو هي مكان مختص بذلك، وهي مفعلة
من النهي،
رواه الترمذي.
1235-(10) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((ثلاثة يضحك الله إليهم:
(7/429)
والميم زائدة. زاد في رواية بلال عند الترمذي والبيهقي، وفي رواية سلمان الفارسي عند الطبراني في الكبير: ومطردة للداء عن الجسد أي طارد ومبعد للداء عن البدن، أو حالة من شأنها إبعاد الداء، أو مكان مختص به، ومعنى الحديث أن قيام الليل قربة تقربكم إلى ربكم، وخصلة تكفر سيئاتكم، وتنهاكم عن المحرمات، وتطرد الداء عن أجسادكم. (رواه الترمذي) في الدعوات، وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا في كتاب التهجد، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وابن عدي في الكامل، والطبراني في الكبير الأوسط والبيهقي في السنن (ج2 ص502) كلهم من رواية عبدالله بن صالح كاتب الليث. قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. قال الشوكاني: عبدالله بن صالح كاتب الليث مختلف فيه- انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزائد (ج2 ص251): قال عبدالملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون، وضعفه جماعة من الأئمة. وقال في التقريب في ترجمته: صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة- انتهى. وفي الباب عن بلال عند الترمذي وغيره بإسناد ضعيف، وعن سلمان الفارسي عند الطبراني وغيره. وفيه عبدالرحمن بن سليمان بن أبي الجون، وثقة دحيم وابن حبان وابن عدي، وضعفه أبوداود وأبوحاتم.
(7/430)
1235- قوله: (ثلاثة) أي ثلاث
رجال، قاله الطيبي: والأولى أشخاص، ويراد بها الأنواع ليلائم القوم، ولذا قال ابن
حجر: أصناف. وقيل: ثلاثة نفر. (يضحك الله) قيل الضحك من الله الرضا والإرادة
الخير. وقيل: بسط الرحمة بالإقبال وبالإحسان، أو بمعنى يأمر الملائكة بالضحك ويأذن
لهم فيه، كما يقال السلطان قتله، إذا أمر بقتله. قال ابن حبان في صحيحه: هو من
نسبة الفعل إلى الآمر. وهو في كلام العرب كثير. وقيل: إن الضحك وأمثاله مما هو من
قبيل الانفعال إذا نسب إلى الله يراد به غايته. وقيل: بل المراد إيجاد الانفعال في
الغير، فالمراد ههنا الإضحاك. ومذهب أهل التحقيق أنه صفة سميعة يلزم إثباتها مع
نفي التشبيه وكمال التنزيه، كما أشار إلى ذلك مالك، وقد سئل عن الاستواء فقال:
الاستواء معلوم، والكيف غير معلوم، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. (إليهم)
قبل عدي الضحك بإلى لتضمينه معنى الإقبال. وقال الطيبي: الضحك مستعار للرضى، وفي
إلى معنى الدنو كأنه قيل إن الله يرضى عنهم ويدنو إليهم برحمته ورأفته، ويجوز أن
يضمن الضحك معنى النظر، ويعدي بإلى. فالمعنى أنه تعالى ينظر إليهم ضاحكا أي راضيا
عنهم مستعطفا عليهم؛ لأن الملك إذا نظر إلى رعيته بعين الرضى لا يدع شيئا من الأنعام
إلا فعله، وفي عكسه قوله تعالى: ?ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة? [3:
77] - انتهى. قلت: قد تقدم أن مذهب أهل التحقيق إثبات الضحك لله
الرجل إذا قام بالليل يصلي، والقوم إذا صفوا في الصلاة، والقوم إذا صفوا في قتال
العدو)) .
رواه في شرح السنة.
1236- وعن عمرو بن عبسة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أقرب ما
يكون الرب من العبد في جوف الليل
(7/431)
تعالى من غير تأويل ولا تكييف ولا تشبيه، وهو الحق عندنا، فالتفويض والتسليم أسلم وأصوب (الرجل) خص ذكره نظر الغالب الأحوال. (إذا قام بالليل يصلي) نفلا وهو التهجد، ولعله لم يقل القوم إذا قاموا مع أنه المطابق لما بعده من المتعاطفين لئلا يوهم قيد الجماعة والاجتماع. قال الطيبي: إذا المجرد الظرفية، وهو بدل عن الرجل كقوله تعالى: ?واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت? [19: 16] أي ثلاثة رجال يضحك الله منهم وقت قيام الرجل بالليل. وفي إبدال الظرف مبالغة، كما في قوله: أخطب ما يكون الأمير قائما- انتهى. (والقوم إذا صفوا) يحتمل البناء للفاعل وللمفعول. (للصلاة) وسووا صفوفهم على سمت واحد، وتراصوا كما أمروا به. (والقوم) المسلمون (إذا صفوا في قتال العدو) أي لقتال الكفار بقصد إعلاء كلمة الله تعالى. (رواه) أي البغوي. (في شرح السنة) ونسبه السيوطي في الجامع الصغير إلى أحمد وأبي يعلى، وأخرجه ابن ماجه في باب ما أنكرت الجهمية من كتاب السنة بلفظ: إن الله ليضحك على الثلاثة: للصف في الصلاة. وللرجل يصلي في جوف الليل. وللرجل يقاتل أراه خلف الكتيبة. وفي سنده عبدالله بن إسماعيل عن مجالد بن سعيد، وعبدالله بن إسماعيل هذا قال فيه أبوحاتم والذهبي في الكاشف: مجهول، ومجالد قال في التقريب في ترجمته: ليس بالقوى، وقد تغير في آخر عمره- انتهى. وأخرج له مسلم في صحيحه، لكن مقرونا بغيره، وأخرجه البزار بغير هذين السياقين، وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام كثير لسوء حفظه لا لكذبه.
(7/432)
1236- قوله: (عن عمرو بن عبسة)
بفتح العين المهملة والباء الموحدة. (أقرب ما يكون الرب من العبد) أي الإنسان حرا
كان أو رقيقا. (في جوف الليل) خبر أقرب أي أقربيته تعالى من عباده كائنة في الليل.
قال الطيبي: إما حال من الرب أي قائلا في جوف الليل من يدعوني فاستجيب له؟-
الحديث، سدت مسد الخبر، أو من العبد أي قائما في جوف الليل داعيا مستغفرا، ويحتمل
أن يكون خبر الأقرب، ومعناه سبق في باب السجود مستقصى. فإن قلت المذكور ههنا أقرب
ما يكون الرب من العبد، وهناك أقرب ما يكون العبد من ربه، فما الفرق؟ أجيب بأنه قد
علم مما سبق في حديث أبي هريرة من قوله. ينزل ربنا الخ أي رحمته سابقة، فقرب رحمة
الله من المحسنين سابق على إحسانهم، فإذا سجدوا قربوا من ربهم بإحسانهم، كما قال
تعالى: ?واسجد واقترب? [96: 19]
الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة، فكن)). رواه الترمذي.
وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب إسنادا.
(7/433)
وفيه أن لطف الله وتوفيقه سابق على عمل العبد وسبب له، ولولاه لم يصدر من العبد خير قط- انتهى. وقال ميرك: فإن قلت ما الفرق بين هذا القول، وقوله: فيما تقدم في باب السجود: أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد؟ قلت: المراد ههنا بيان وقت كون الرب أقرب من العبد، وهو جوف الليل، والمراد هناك بيان أقربية أحوال العبد من الرب، وهو حال السجود، تأمل- انتهى. يعني فإنه دقيق بالتأمل حقيق وتوضيحه أن هذا وقت تجل خاص بوقت، لا يتوقف على فعل من العبد لوجوده لا عن سبب، ثم كل من أدركه أدرك ثمرته، ومن لا فلا، غايته أنه مع العبادة أتم منفعة ونتيجة. وأما القرب الناشئ من السجود فمتوقف على فعل العبد وخاص به، فناسب كل محل ما ذكر فيه، كذا في المرقاة. (الآخر) صفة لجوف الليل على أنه ينصف الليل، ويجعل لكل نصف جوفا، والقرب يحصل في جوف النصف الثاني، فابتداؤه يكون من الثلث الأخير، وهو وقت القيام للتهجد، قاله الطيبي. وقال القاري: ولا يبعد أن يكون ابتداءه من أول النصف الأخير. (فإن استطعت) أي قدرت ووفقت. (أن تكون ممن يذكر الله) في ضمن صلاة أو غيرها. (في تلك الساعة) إشارة إلى لطفها. (فكن) أي اجتهد أن تكون من جملتهم. وهذا أبلغ مما لو قيل: إن استطعت أن تكون ذاكرا فكن؛ لأن الأولى فيها صفة عموم شامل للأنبياء والأولياء، فيكون داخلا في جملتهم ولأحقابهم، بخلاف الثانية. قال الطيبي: في قوله: فإن استطعت إشارة إلى تعظيم شأن الأمر وتفخيمه، وفوز من يستعد به، ومن ثمة قال أن تكون ممن يذكر الله، أي تنخرط في زمرة الذاكرين الله، ويكون لك مساهمة فيهم، وهو أبلغ من أن يقال: إن استطعت أن تكون ذاكرا- انتهى. (رواه الترمذي) في الدعوات. (وقال هذا حديث صحيح حسن غريب إسنادا) تمييز عن غريب سندا لا متنا. واعلم أن المراد بالحديث الغريب من حيث الإسناد فقط حديث يعرف متنه عن جماعة من الصحابة، وانفرد واحد برايته عن الصحابي آخر. قال السيوطي في
(7/434)
التدريب (ص192): وينقسم الغريب
أيضا إلى غريب متنا وإسنادا، كما لو انفرد بمتنه راو واحد وإلى غريب إسنادا لا
متنا كحديث معروف روى متنه جماعة من الصحابة انفرد واحد بروايته عن صحابي آخر،
وفيه يقول الترمذي غريب من هذا الوجه- انتهى. وقال الزرقاني في شرح البيقونية
(ص92): ثم الحديث قد يغرب متنا وإسنادا كحديث انفرد بروايته واحد، وقد يغرب إسنادا
فقط كأن يكون معروفا برواية جماعة من الصحابة فينفرد به راو من حديث صحابي آخر،
فهو من جهته غريب مع أن متنه غير غريب. قال ابن الصلاح: ومن ذلك غرائب الشيوخ في
أسانيد المتون الصحيحة، قال: وهذا الذي يقول الترمذي في غريب من هذا الوجه، قال ولا
أرى
1237-(12) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله
رجلا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله
امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها
(7/435)
هذا النوع، يعني غريب الإسناد فقط، ينعكس، فلا يوجد أبدأ ما هو غريب متنا وليس غريبا إسنادا إلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن انفرد به، فرواه عنه عدد كثير، فإنه يصير غريبا مشهورا وغريبا متنا لا إسنادا، لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد، فإن إسناده غريب في طرفه الأول، مشهور في طرفه الآخر، كحديث: إنما الأعمال بالنيات، فإن الشهرة إنما طرأت له من عند يحيى بن سعيد، وما ذكره من أن غريب الإسناد لا ينعكس هو بالنظر إلى الوجود كما قال، وإلا فالقسمة العقلية تقتضي العكس، ومن ثم قال ابن سيد الناس، فيما شرحه من الترمذي الغريب أقسام: غريب سندا ومتنا، أو متنا لا سندا، أو سندا لا متنا، وغريب بعض السند، وغريب بعض المتن، فالأول واضح، والثاني هو الذي أطلقه، ولم يذكر له مثالا لعدم وجوده، ثم ذكر الزرقاني أمثلة الأقسام الثلاثة الباقية، ولا تنافي بين الغرابة والصحة، كما بين في علم الأصول. قال الزرقاني: الغرابة تجامع الصحة والضعف، فالغريب الصحيح كأفراد الصحيح وهي كثيرة، والغريب الذي ليس بصحيح هو الغالب على الغريب- انتهى مختصرا. وحديث عمرو بن عبسة هذا أخرجه ابن خزيمة في صحيحة والحاكم والبيهقي، وله حديث آخر مطول أخرجه أحمد (ج4 ص114) وفيه: فقلت هل من ساعة أقرب إلى الله تعالى؟ قال جوف الليل الآخر- الحديث.
(7/436)
1237- قوله: (رحم الله رجلا)
خبر عن استحقاقه الرحمة واستجابة لها، أو دعاء له ومدح له بحسن ما فعل. وقال
العلقمي: هو ماض بمعنى الطلب. (قام من الليل) أي بعضه. (فصلى) أي التهجد. (وأيقظ
امرأته) وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة الآتي: إذا أيقظ الرجل أهله، وهو أعم لشموله
الولد والأقارب. (فصلت) ما كتب الله لها ولو ركعتين. (فإن أبت) أن تستيقظ. وقيل:
أي امتنعت عن القيام لغلبة النوم، وكثرة الكسل. (نضح) وفي رواية ابن ماجه: رش. (في
وجهها الماء) ليزول عنها النوم. والمراد التلطف معها، والسعي في قيامها لطاعة ربها
مهما أمكن. قال تعالى: ?وتعانوا على البر والتقوى? [5 :2]. وفيه أن أصاب خيرا
ينبغي له أن يتحرى إصابة الغير، وأن يحب له ما يحب لنفسه، فيأخذ بالأقرب فالأقرب.
وقوله: "رحم الله" تنبيه للأمة بمنزلة رش الماء على الوجه لاستيقاظ
النائم، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نال بالتهجد ما نال من الكرامة
والمقام المحمود أراد أن يحصل لأمته نصيب وافر، فحثهم على ذلك بألطف وجه. قيل: خص
الوجه بالنصح؛ لأنه أفضل الأعضاء وأشرفها، وبه يذهب النوم والنعاس أكثر من بقية
الأعضاء، وهو أول الأعضاء المفروضة غسلا، وفيه العينان وهما آلة النوم. (رحم الله
امرأة قامت من الليل) أي وقفت بالسبق. (فصلت) صلاة التهجد. (وأيقظت زوجها)
فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء )). رواه أبوداود، والنسائي.
1238-(13) وعن أبي أمامة، قال: ((قيل: يا رسول الله ! أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف
الليل
الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات )). رواه الترمذي.
1239-(14) وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن
في الجنة غرفا
(7/437)
الواو لمطلق الجمع. وفي الترتيب الذكري إشارة لا تخفى، قاله القاري. (فصلى) أي بسببها. (فإن أبى) أن يقوم لغلبة النوم. (نضحت) أي رشت. (في وجهه الماء) ليزول عنه النوم وينتبه. وفي الحديث الدعاء بالرحمة للحي كما يدعى بها للميت، وفيه فضيلة صلاة الليل وفضيلة مشروعية إيقاظ النائم للتنفل كما يشرع للفرض، وهو من المعاونة على البر والتقوى. وفيه بيان حسن المعاشرة وكمال الملاطفة والموافقة. وفيه إشارة إلى أن الرجل أحق بأن يكون مسابقا بالقيام وإيقاظ امرأته، وإلى أن فضل الله لا يختص بأحد، فقد يكون المرأة سابقة على الرجل. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي (ج2 ص501) والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وسكت عنه أبوداود، وكذا المنذري في الترغيب، وصحح النووي سنده في رياض الصالحين (ص442). وقال المنذري في مختصر السنن: في سنده محمد بن عجلان، وقد ثقة أحمد وابن معين وأبوحاتم الرازي، واستشهد به البخاري، وأخرج له مسلم في المتابعة، وتكلم فيه بعضهم- انتهى. وفي الباب عن أبي مالك الأشعري، رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف، قاله الهيثمي.
(7/438)
1238- قوله: (أي الدعاء أسمع)
أي أقرب إلى أن يسمعه الله أي يقبله. قال الطيبي: أي أرجى للإجابة؛ لأن المسموع
على الحقيقة ما يقترن بالقبول ولا بد من مقدر، إما في السؤال أي، أي أوقات الدعاء
أقرب إلى الإجابة؟ وإما في الجواب أي دعاءه في جوف الليل. (قال جوف الليل) بالرفع
على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي دعاء جوف الليل. وروي بالنصب
على الظرفية أي الدعاء في جوف الليل. (الآخر) صفة للجوف، فيتبعه في الإعراب. قال
الخطابي: المراد ثلث الليل الآخر، وهو الخامس من أسداس الليل. (ودبر الصلوات
المكتوبات) برفع دبر ونصبه. (رواه الترمذي) في الدعوات. وقد تقدم الحديث مع شرحه
في الفصل الثاني من باب الذكر بعد الصلاة، أعاده هنا؛ لأنه من أدلة استحباب الدعاء
في ضمن الصلاة وغيرها في ثلث الليل الآخر، ومن أدلة أنه وقت الإجابة.
1239- قوله: (إن في الجنة غرفا) بضم الغين المعجمة وفتح الراء المهملة، جمع غرفة
بالضم، وهي العلية،
يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام،
وتابع الصيام، وصلي بالليل والناس نيام)). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
1240-(15) وروى الترمذي عن علي نحوه، وفي روايته: ((لمن أطاب الكلام.
(7/439)
أي البيت فوق البيت أي علالي في غاية من اللطافة ونهاية من الصفاء والنظافة. (يرى) بالبناء للمفعول. (ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها) لكونها شفافة لا تحجب ما وراءها. (أعدها الله) أي هيأها. (لمن ألان) أي أطاب كما في رواية. (الكلام) أي بمداراة الناس، واستعطافهم. قال الطيبي: جعل جزاء من تلطف في الكلام الغرفة، كما في قوله تعالى: ?أولئك يجزون الغرفة? [25: 75] بعد قوله: ?وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما? [25: 63]. وفيه تلويح على أن لين الكلام من صفات عباد الله الصالحين الذين خضعوا لبارئهم، وعاملوا الخلق بالرفق في القول والفعل، وكذا جعلت جزاء من أطعم، كما في قوله: ?والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا? [25: 67]، وكذا جعلت جزاء من صلى بالليل، كما في قوله: ?والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما? [25: 64]. ولم يذكر في التنزيل الصيام استغناء بقوله بما صبروا؛ لأن الصيام صبر كله. (وأطعم الطعام) للعيال والفقراء والأضياف ونحو ذلك، قاله المناوي. وقيل: يكفي في إطعام الطعام أهله ومن يمونه، وهذا إذا قصد الاحتساب. وقيل: المراد بالطعام الزائد على ما يحتاجه لنفسه وعياله. (وتابع الصيام) أي أكثر منه بعد الفريضة بحيث تابع بعضها بعضا، ولا يقطعها رأسا، قاله ابن الملك. وقيل: يكفي في متابعة الصوم مثل حال أبي هريرة وابن عمر وغيرهما من صوم ثلاثة أيام من كل شهر أوله، ومثلها من أوسطه وآخره، والاثنين، والخميس، ويوم عرفة وعاشوراء وعشر ذي الحجة. وفي رواية: أدام الصيام. والمراد به الكثرة، لا المواصلة، ولا صوم الدهر. (وصلى بالليل) أي تهجد لله تعالى. (والناس) أي غالبهم. (نيام) بكسر النون. جمع نائم أي لا يتهجدون. وإن لم يكونوا نائمين. والأوصاف الثلاثة أي لين الكلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل إشارة إلى استجماع صفة الجود والتواضع والعبادة المتعدية واللازمة. (رواه
(7/440)
البيهقي في شعب الإيمان)
وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان في صحيحة، والطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع
الزوائد (ج2 ص254) بعد عزوه إلى الطبراني: رجاله ثقات.
1240- (وروى الترمذي عن علي) أي ابن أبي طالب. (نحوه) في باب قول المعروف من أبواب
البر والصلة، وفي باب صفة غرف الجنة من أبواب صفة الجنة. ولفظه: إن في الجنة غرفا،
ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله
؟ فقال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام،
?الفصل الثالث?
1241-(16) عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: ((يا عبدالله! لا تكن
مثل فلان، كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)). متفق عليه.
وأدام الصيام، وصلى بالليل، والناس نيام. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا
من حديث عبدالرحمن بن إسحاق- انتهى. وعبدالرحمن بن إسحاق هذا. قال الحافظ في
التقريب في ترجمته: ضعيف، ولكن له شاهد قوي من حديث عبدالله بن عمرو عند أحمد
والطبراني في الكبير والحاكم. قال المنذري. والهيثمي: إسناده حسن. وقال الحاكم:
صحيح على شرطهما.
(7/441)
1241- قوله: (لا تكن مثل فلان) أي في هذه الخصلة التي أذكرها لك وهي أنه (كان يقوم من الليل) أي فيه كإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة أي في يوم الجمعة. وقال الحافظ: أي بعض الليل وسقط لفظ "من" من رواية الأكثر، وهي مرادة- انتهى. وقال العيني: ليس في رواية الأكثرين لفظ من موجودا، بل اللفظ كان يقوم الليل أي في الليل، والمراد في جزء من أجزائه. وقال القسطلاني: يقوم الليل أي بعضه- انتهى. ونقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص46) بذكر لفظ "من". ووقع عند البيهقي بحذفه. (فترك قيام الليل) أي لا عن عذر، بل دعة ورفاهية، فلم يكن من الموفين بعهدهم إذا عاهدوا. قال ابن العربي: في هذا الحديث دليل على أن قيام الليل ليس بواجب، إذ لو واجبا لم يكتف لتاركه بهذا القدر، بل كان يذمه أبلغ الذم. وفيه استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير من غير تفريط. وفيه الإشارة إلى كراهة قطع العبادة وإن لم تكن واجبة. وقيل: معنى قوله "كان يقوم الليل" أي غالبه أو كله "فترك قيام الليل" أصلا حين ثقل عليه، أي فلا تزد أنت في القيام أيضا فإنه يؤدي إلى ترك رأسا. قال السندي: يريد أن الإكثار في قيام الليل قد يؤدي إلى تركه رأسا، كما فعل فعلان، فلا تفعل أنت ذاك، بل خذ فيه التوسط والقصد أي؛ لأن التشديد في العبادة قد يؤدي إلى تركها وهو مذموم. وقال في اللمعات: فيه تنبيه على منعه من كثرة قيام الليل والإفراط فيه، بحيث يورث الملالة والسآمة- انتهى. وقوله: مثل فلان قال الحافظ: لم أقف على تسميته في شيء من الطرق، وكان إبهام هذا لقصد الستر عليه كالذي تقدم قريبا في الذي نام حتى أصبح. قال ابن حبان: فيه جواز ذكر الشخص بما فيه من عيب إذا قصد بذلك التحذير من صنيعة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في قيام الليل، ومسلم في الصوم. وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه كلاهما في الصلاة والبيهقي (ج3 ص14) .
(7/442)
1242-(17) وعن عثمان بن أبي
العاص، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كان لداود عليه
السلام من الليل ساعة يوقظ فيها أهله يقول: يا آل داود: قوموا فصلوا، فإن هذه ساعة
يستجيب الله عز وجل فيها الدعاء إلا لساحر أو عشار)) .
1242- قوله(كان لداود) نبي الله. (عليه السلام من الليل ساعة) بالرفع اسم كان
و"من" بيانية متقدمة، قاله القاري، ويفسر هذه الساعة المبهمة ما تقدم في
حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: كان أي داود ينام نصف الليل ويقوم ثلثه- الحديث.
فوقت إيقاظه لأهله هو وقت قيامه وهو وقت الإجابة، كما سبق. (يوقظ فيها أهله) لقوله
تعالى: ?اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور? [34: 13] أي القائم بالليل. ويناسبه
قوله تعالى: ?كانوا قليلا من الليل ما يهجعون? [51: 17]. (يقول) وفي المسند فيقول
بزيادة الفاء. (فصلوا) أي من الليل ولو قليلا. (فإن هذه ساعة يستجيب الله فيها
الدعاء) أي يقبله، والصلاة نفسها دعاء؛ لأن الثناء والقيام في خدمة المولى تعرض
للعطاء، أو لاشتمالها على الدعاء المحفوف بالذكر والثناء. (إلا لساحر) أي لمخالفته
الخالق. (أو عشار) بفتح العين المهملة وتشديد الشين المعجمة أي آخذ العشور من
أموال الناس على عادة أهل الجاهلية، وذلك لكونه ترك فرض الله، وهو ربع العشر
ولمضرته الخلق، يقال: عشرت المال عشرا وعشورا فإن عاشر من باب قتل وعشرته، فإن
معشر وعشار إذا أخذت عشرة، وعشرت القوم عشرا عشورا، من باب قتل وعشرتهم إذا أخذت
عشر أموالهم، وأما من يعشر الناس على ما فرض الله فحسن جميل محتسب ما لم يتعد
فيأثم بالتعدي والظلم، وقد عشر جماعة من الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -
وللخلفاء بعده، وسمي هذا عاشرا للإضافة ما يأخذه إلى العشر كربع العشر ونصفه، وهو
يأخذ العشر جميعه فيما سقته الماء والعيون وعشر أموال أهل الذمة في التجارات.
وقيل: المراد بالعشار في الحديث المكاس والماكس، وهو
(7/443)
الذي يأخذ من التجار إذا مروا
به مكسا باسم العشر، والمكس الضربية أي دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في أسواق
الجاهلية. وقيل: هو ما يأخذه أعوان الدولة عن أشياء معينة عند بيعها أو عند
إدخالها في البلاد والمدن. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليس على
المسلمين عشورا، أي ليس عليهم غير الزكاة من الضرائب والمكس ونحوهما. وقال القاري:
قوله: أو عشار أي آخذ العشر، وهو المكاس وإن أقل من العشر؛ لأن ذلك باعتبار غالب
أحوال المكاسين، وذلك لمضرته الخلق، وأو للتنويع لا للشك- انتهى. وبالجملة ليس
المراد بالعشار المذكور في الحديث العاشر أي الساعي الذي يأخذ الصدقة من المسلمين
على ما فرض الله من ربع العشر أو نصفه أو العشر جميعه، ولا من يأخذ العشر أو نصفه
أو نحوه من أهل الذمة إذا مروا بأموال التجارة. وقيل: المكس النقصان والماكس من
العمال من ينقص من حقوق المساكين
رواه أحمد.
1243-(18) وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
((أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة في جوف الليل)) .
(7/444)
ولا يعطيها بتمامها، قاله البيهقي. قال الطيبي: استثنى من جميع خلق الله تعالى الساحر والعشار تشديدا عليهم وتغليظا وأنهم كالآئسين من رحمة الله تعالى العامة للخلائق كلها، وتنبيها على استجابة دعاء الخلق كائنا من كان سواهما-انتهى. يعني فإنهم وإن قاموا ودعوا لم يستجب لهم لغلظ معصيتهم وصعوبة توبتهم، أو المعنى أنهم ما يوفقون لهذا الخير لما ابتلوا به من الشر الكثير، فالاستثناء على الأول متصل، وعلى الثاني منفصل. قاله القاري. (رواه أحمد) (ج4:ص22) من طريق علي بن زيد وهو ابن جدعان عن الحسن. (البصري) قال مر عثمان بن أبي العاص على كلاب بن أمية، وهو جالس على مجلس العاشر بالبصرة، فقال: ما يجلسك ههنا؟ قال: استعملني هذا على هذا، يعني زيادا، فقال عثمان: ألا أحدثك حديثا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بلى ، فقال عثمان: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كان لداود نبي الله-الحديث. وفي آخره: فركب كلاب بن أمية سفينته فأتى زيادا فاستضعفاه فأعفاه-انتهى. والحسن البصري كان يرسل كثيرا ويدلس، ولم يصرح ههنا بسماعه عن عثمان بن أبي العاص، بل المفهوم من كلام الحافظ أنه لم يسمع منه شيئا حيث قال في تهذيب التهذيب (ج2:ص223، 224): روى الحسن عن أبي بن كعب وسعد بن عبادة وعمر بن الخطاب ولم يدركهم، وعن ثوبان وعمار بن ياسر وأبي هريرة وعثمان بن أبي العاص ومعقل بن سنان ولم يسمع منهم-انتهى.
(7/445)
1243- قوله: (أفضل الصلاة بعد
المفروضة صلاة في جوف الليل) أي سدسه الرابع والخامس. وهذه الأفضلية باعتبار
الزمان، فالصلاة في البيت أفضل باعتبار المكان. وفي الحديث دليل لما اتفق عليه
العلماء أن النفل المطلق في الليل أفضل منه في النهار، وذلك؛ لأن الخشوع فيه أوفر،
وفيه حجة لأبي إسحاق المروزي ومن وافقه من الشافعية: أن صلاة الليل أفضل من السنن
الرواتب. وقال أكثر العلماء: الرواتب أفضل؛ لأنها تشبه الفرائض. قال النووي:
والأول أقوى وأوفق لنص هذا الحديث. قال الطيبي: ولعمري أن صلاة التهجد لو لم يكن
فيها فضل سوى قوله تعالى: ?ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما
محمودا? [17: 79] وقوله تعالى: ?تتجافى جنوبهم عن المضاجع? إلى قوله تعالى: ?فلا
تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين? [32: 16- 17] وغيرهما من الآيات لكفاه
مزية-انتهى. قال ميرك: وقد يجاب عن هذا الحديث بأن معناه من أفضل الصلاة وهو خلاف
سياق الحديث-انتهى. وقيل: يحمل الحديث على أن المراد بقوله "بعد
المفروضة" أي بعد الفرائض وما يتبعها من السنن، وقد يقال التهجد أفضل من حيث
زيادة مشقته على النفس، وبعده عن الرياء
رواه أحمد.
1244-(19) وعنه، قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن فلانا
يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، فقال: إنه سينهاه ما تقول)). رواه أحمد، والبيهقي في
شعب الإيمان.
1245، 1246-(20، 21) وعن أبي سعيد، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: ((إذا أيقظ الرجل أهله من الليل،
والرواتب أفضل من حيث الآكدية في المتابعة للمفروضة فلا منافاة. (رواه أحمد) أصل
هذا الحديث عند مسلم. والترمذي وأبي داود والنسائي وابن خزيمة في صحيحه بألفاظ
متقاربة، وسيأتي في الفصل الأول من باب صيام التطوع.
(7/446)
1244- قوله: (جاء رجل) لم أقف
على تسميته. (فقال: إن فلانا) أي رجلا معينا، ولم يدر من هو. (فإذا أصبح) أي قارب
الصبح. (سرق) أو المراد سرق بالنهار. ولو بالتطفيف ونحوه، وهو بفتح الراء من باب
ضرب. (فقال إنه) أي الشأن. (سينهاه) من النهي. (ما تقول) قال الطيبي: هو فافعل
سينهاه يعني أن قولك يدل على أنه محافظ على الصلوات، فإن من لا يدع الصلاة بالليل
لا يدعها بالنهار، فمثل تلك الصلاة سينهي عن الفحشاء والمنكر فيتوب عن السرقة.
ومعنى السين التأكيد في الإثبات أي بالنسبة إلى عدمها، كما أن لن للتأكيد في النفي
أي بالنسبة إلى لا. وقال ابن حجر: فمثل هذه الصلاة لا محالة تنهاه فيتوب عن السرقة
قريبا، فالسين على أصلها من التنفيس، إذ لا بد مزاولة الصلاة زمنا حتى يجد منها
حالة في قلبه تمنعه من الإثم- انتهى. وفي بعض النسخ: ستنهاه أي بالمثناة الفوقية،
فالفاعل إما ضمير فيه عائد إلى الصلاة أي هي تنهاه عما تقول، أو ما في قوله ما
تقول؛ لأنها عبارة عن الصلاة. ووقع في بعض النسخ "ما يقول" أي بالغيبة
أي الرجل الأول، والصحيح ما تقول بالخطاب، قاله القاري: وفي الحديث إيماء إلى قوله
تعالى: ?إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر? [29: 45] أي أن مواظبتها تحمل على ترك
ذلك. (رواه أحمد الخ) وأخرجه أيضا البزار. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص258)
بعد عزوه لأحمد والبزار: ورجاله رجال الصحيح. وأخرج البزار أيضا مثله عن جابر. قال
الهيثمي: ورجاله ثقات- انتهى. قلت: قد وقع الاختلاف في سند هذا الحديث فرواه غير
واحد، ومنهم وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، ورواه قيس عن الأعمش عن أبي
سفيان عن جابر. وقال جرير بن عبدالحميد، وزياد بن عبدالله عن الأعمش عن أبي صالح
عن جابر، نقله ابن كثير في تفسيره (ج7 ص296) عن البزار.
1245، 1246- قوله: (إذا أيقظ الرجل أهله) أي امرأته. وقيل: نساءه وأولاده وأقاربه.
(من الليل)
(7/447)
فصليا أو صلى ركعتين جميعا،
كتبا في الذاكرين والذاكرات)). رواه أبوداود، وابن ماجه.
1247-(22) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أشراف
أمتي حملة القرآن، وأصحاب
الليل)) .
أي في بعض أجزاء الليل. (فصليا) أي الرجل والمرأة، أو الرجل وأهله. (أو صلى) أي كل
واحد منهما. وأو للشك من الراوي بين الإفراد والتثنية. (ركعتين جميعا) تأكيد لضمير
صليا "أو صلى" لما تقرر أن المراد كل واحد منهما. وفي رواية لأبي داود:
من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعا. (من غير شك). ولفظ ابن ماجه:
إذا استيقظ الرجل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين. قال السندي: قوله إذا استيقظ الرجل
أي مثلا، وكذا العكس فلا مفهوم لاسم الرجل، كما يدل عليه حديث أبي هريرة (السابق
في الفصل الثاني) والمقصود إذا استيقظ أحدهما وأيقظ الآخر، والله أعلم، بل الظاهر
أنه لا مفهوم للشرط أيضا. والمقصود أنهما إذا صليا من الليل ولو ركعتين كتبا الخ.
وإنما خرج هذا الشرط مخرج العادة. وفيه تنبيه على أن شأن الرجل أن يستيقظ أولا
ويأمر امرأته بالخير. وفيه أنه يجوز الإيقاظ للنوافل، كما يجوز للفرائض، ولا يخفى
تقييده بما إذا علم من حال النائم أنه يفرح بذلك أو لم يثقل عليه ذلك. (كتبا) أي
الصنفان من الرجال والنساء. (في الذاكرين والذاكرات) أي كتب الرجل في الذاكرين
الله كثيرا والمرأة في الذاكرات كذلك، أي ومن كتب كذلك فله أجر عظيم، كما في قوله
تعالى: ?والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما? [33: 35]
ففي الحديث إشارة إلى تفسير القرآن. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضا النسائي
وابن حبان في صحيحه والحاكم وألفاظهم متقاربة. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين،
كذا في الترغيب. وأخرجه أيضا البيهقي (ج2 ص501) وقال النووي في رياض الصالحين رواه
أبوداود بإسناد صحيح. والحديث ذكر أبوداود والبيهقي. الاختلاف في
(7/448)
رفعه ووقفه. وقال المنذري في
مختصر السنن: رواه النسائي، وابن ماجه مسندا أي مرفوعا، وهذا يشير إلى أنه لم ير
هذا الاختلاف شيئا، وهذا؛ لأن الرفع زيادة الثقة فتقبل.
1247- قوله: (أشراف أمتي) جمع شريف. (حملة القرآن) جمع حامل أي حفظته، المداومون
على تلاوته، العاملون بأحكامه فإنهم الحملة الحقيقة. (وأصحاب الليل) أي الملازمون
لإحياء الليل بصلاة أو ذكر أو نحو ذلك. وإنما قلنا الملازمون؛ لأن صاحب الشيء،
وابن الشيء الملازم له، كقولهم ابن السبيل أي الملازم له. قال الطيبي: المراد
بقوله حملة القرآن من حفظه وعمل بمقتضاه وإلا كان في زمرة من قيل في حقهم: ?كمثل
الحمار يحمل أسفارا?، وإضافة الأصحاب إلى الليل تنبيه على كثرة الصلاة فيه، كما
يقال: ابن السبيل لمن يواظب على السلوك فيه- انتهى أي وكما يقال: ابن الوقت لمن
يحافظ أوقاته ويراعي ساعاته ليرتب طاعاته. والحديث من أدلة فضل أهل صلاة
رواه البيهقي في شعب الإيمان.
1248-(23) وعن ابن عمر، أن أباه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ((كان يصلي من الليل
ما
شاء الله، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة، ثم يتلو
هذه
الآية: ?وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك
الليل وفضل أهل القرآن. (رواه البيهقي) وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا. والطبراني في
الكبير. والحديث سنده ضعيف؛ لأن المنذري صدره في الترغيب بلفظة: روي وأهمل الكلام
في آخره. وهذه علامة الإسناد الضعيف، كما صرح بذلك في بدء الكتاب.
(7/449)
1248- قوله: (وعن ابن عمر أن أباه عمر بن الخطاب) كذا في جميع النسخ للمشكاة، وكذا وقع في جامع الأصول (ج7 ص45). والظاهر أنه وهم من الجزري، وتبعه المصنف في ذلك، فإن الحديث في جميع نسخ الموطأ من رواية زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب، وكذا حكاه السيوطي في الدر المنثور عن موطأ مالك. وهكذا أخرجه محمد في موطئه عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه، وكذا ذكر السيوطي في الدر المنثور عن البيهقي، وكذا روى ابن أبي حاتم بسنده عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب. (كان يصلي من الليل) وفي موطأ محمد: كان يصلي كل ليلة. (ما شاء الله) أي من عدد الركعات، أو من استيفاء الأوقات. وفي الموطأ محمد: ما شاء الله أن يصلي. (حتى إذا كان من آخر الليل) عند السحر. (أيقظ أهله للصلاة) أي لإدراك شيء من صلاة التهجد. وقيل: يحتمل أن يكون إيقاظه لصلاة الفجر، والأول أظهر بل هو المتعين يعني أنه لم يكلف أهله منه ما كان هو يفعله بل يوقظهم في آخر الوقت ليصلوا تخفيفا لهم. (يقول لهم) أي عند الاستيقاظ. (الصلاة) كذا وقعت في جميع النسخ مرة. وفي الموطأ وقعت مكررة، وهي منصوبة بتقدير أقيموا أو صلوا. ويجوز الرفع بمعنى حضرت الصلاة، قاله القاري. (ثم يتلو هذه الآية) التي في آخر سورة طه. (وأمر أهلك بالصلاة) وهي بعمومها تشمل صلاة الليل، والمعنى استنقذهم من عذاب الله بأمر إقامة الصلاة. (واصطبر عليها) أي اصبر أنت على محافظتها، كما قال تعالى: ?قوا أنفسكم وأهليكم نارا? [66: 6] وقيل: المعنى اصبر عليها فعلا فإن الوعظ بلسان الفعل أبلغ منه بلسان القول. وقال القاري: أي بالغ في الصبر على تحمل مشقاتها ومشاق أمر أهلك بها، فاقبل أنت معهم على عبادة الله تعالى ولا تهتم بأمر الرزق، وفرغ قلبك لأمر الآخرة؛ لأنا لعظمتنا وقدرتنا على رزق العباد. (لا نسألك) أي لا نكلفك. (رزقا) أي تحصيل رزق لنفسك ولا لغيرك بل نسألك العبادة. (نحن نرزقك) كما نرزق غيرك.
(7/450)
قال ابن كثير: يعني إذا أقمت
الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما
والعاقبة للتقوى? . رواه مالك.
(34) باب القصد في العمل
قال تعالى: ?ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب? [65: 2، 3] وقال
تعالى: ?وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق? [51: 56، 57]
الآية. وقد أخرج أحمد والبيهقي وغيرهما عن ثابت قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم
إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله: يا أهلاه صلوا صلوا. قال ثابت وكانت الأنبياء إذا
نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة. (والعاقبة) أي المحمودة أو حسن العاقبة في الدنيا
والآخرة وهي الجنة. (للتقوى) أي لأهل التقوى على حذف المضاف، روى ابن النجار وابن
عساكر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية كان النبي - صلى
الله عليه وسلم - يجيء إلى باب على صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم
الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. قال الباجي:
يحتمل أن عمر رضي الله عنه يوقظهم امتثالا لأمر الباري تعالى، فيتلو هذه الآية عند
امتثالها ليتأكد قصده لذلك. ويحتمل أن يقرأ ذلك على سبيل الاعتذار من إيقاظهم-
انتهى. (رواه مالك) في موطئه عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب الخ، لا عن
ابن عمر عن عمر، كما وقع في المشكاة وجامع الأصول.
(7/451)
(باب القصد) بفتح القاف وسكون
الصاد المهملة، هو سلوك الطريق المعتدلة والتوسط بين الإفراط والتفريط: والمراد
باب استحباب ذلك، وأصل القصد الاستقامة في الطريق، كقوله تعالى: ?وعلى الله قصد
السبيل? [16: 9] ?ومنها جائر? أي على الله بيان الطريق المستقيم، وهو من إضافة
الصفة إلى الموصوف. والمعنى على الله بيان السبيل القصد وهو الإسلام، والقصد مصدر
يوصف به فهو بمعنى قاصد، يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه
السالك لا يعدل عنه، ثم استعير للتوسط في الأمور. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم
-: القصد القصد. رواه البخاري في حديث طويل، والمعنى ألزموا الطريق الوسط المعتدل.
ومنه قوله في حديث جابر عند ابن ماجه: أيها الناس عليكم القصد عليكم القصد، أي من
الأمور في القول والفعل والتوسط بين طريق الإفراط والتفريط. ومنه قوله في حديث
جابر عند مسلم: كانت خطبته قصدا، أي لا طويلة ولا قصيرة. ومنه قوله: عليكم هديا قاصدا
الخ. أخرجه أحمد والحاكم من حديث بريدة، والمعنى طريقا معتدلا. ومنه قوله: ما عال
من اقتصد. أخرجه أحمد عن ابن مسعود أي ما افتقر من لا يسرف في الإنفاق ولا يقتر.
(في العمل) أي الصالح. وقال القاري: أي عمل النوافل.
?الفصل الأول?
1249-(1) عن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر من الشهر حتى
يظن أن لا يصوم منه شيئا،
ويصوم حتى يظن أن لا يفطر منه شيئا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا
رأيته،
ولا نائما إلا رأيته)). رواه البخاري.
1250-(2) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أحب الأعمال
إلى الله أدومها
(7/452)
1249- قوله: (يفطر من الشهر) أي أياما كثيرة. وقيل: أي يكثر الفطر في الشهر. (حتى نظن) بنون الجمع التي للمتكلم وبالياء التحتانية على البناء للمجهول، ويجوز بالمثناة الفوقية التي للمخاطب مبنيا للفاعل، قال الحافظ: ويؤيده قوله بعد ذلك: إلا رأيته، فإنه روى بالضم والفتح معا. (أن لا يصوم) بفتح الهمزة، ويجوز في يصوم النصب على كون أن مصدرية، والرفع على كونها مخففة من الثقيلة، فيوافق ما في رواية أنه. (منه) أي من الشهر. (شيئا) يعني يكثر الفطر في الشهر حتى نظن أنه لا يريد أن يصوم منه شيئا ثم يصوم باقية. (ويصوم) أي ويكثر الصوم في الشهر. (حتى نظن) بالوجوه الثلاثة. (أن لا يفطر) بالإعرابين. (منه) أي من الشهر. (شيئا) أي ثم يفطر باقية. (وكان) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي الشمائل: كنت. (لا تشاء) قال المظهر: لا بمعنى ليس، أو بمعنى لم، أي لست تشاء، أو لم تكن تشاء، أو لا زمان تشاء، أو لا من زمان تشاء. (أن تراه) أي رؤيته فيه. (من الليل مصليا إلا رأيته) أي مصليا (ولا) تشاء أن تراه من الليل. (نائما إلا رأيته) أي نائما. قال الطيبي: هذا التركيب من باب الاستثناء على البدل، وتقديره على الإثبات أن يقال: إن تشاء رؤيته متهجدا رأيته متهجدا، وإن تشاء رؤيته نائما رأيته نائما، أي كان أمره قصدا لا إسراف فيه ولا تقصير، ينام في وقت النوم وهو أول الليل، ويتهجد في وقته وهو آخره. وعلى هذا حكاية الصوم ويشهد له حديث ثلاثة رهط على ما روى أنس قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال الآخر: أصوم النهار أبدا ولا أفطر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأصلي وأنام وأصوم وافطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني- انتهى. وفي رواية للبخاري: قال حميد: سألت أنسا عن صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما إلا رأيته ولا مفطرا إلا رأيته ولا من الليل قائما إلا
(7/453)
رأيته ولا نائما إلا رأيته–
الحديث. يعني أنه كان يصوم ويفطر ولا يصوم الشهر كله، وكذا كان يصلي وينام ولا
يصلي الليل كله، فكان عمله التوسط بين الإفراط والتفريط، وهذا هو المراد من القصد
في العمل. (رواه البخاري) في قيام الليل، وفي الصوم. وأخرجه أيضا أحمد والنسائي
والترمذي في الشمائل والبيهقي (ج3 ص17).
1250- قوله: (أحب الأعمال إلى الله أدومها) خرج هذا جواب سؤال، ففي رواية للشيخين
قالت،
وإن قل)). متفق عليه.
1251- (3) وعنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا من الأعمال
(7/454)
أي عائشة: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومه. قال ابن العربي: معنى المحبة من الله تعلق الإرادة بالثواب أي أكثر الأعمال ثوابا أدومها. (وإن قل) أي ولو قل العمل، والحاصل أن العمل القليل مع المداومة والمواظبة خير من العمل الكثير مع ترك المراعاة والمحافظة؛ لأن العمل القليل يصل إلى الأكثر من الكثير الذي يفعل مرة أو مرتين ثم يترك ويترك العزم على العمل الصالح مما يثاب عليه، وأيضا أن العمل الذي يداوم عليه هو المشروع، وأن ما توغل فيه بعنف ثم قطع فإنه غير مشروع، قاله الباجي. قال النووي: في الحديث الحث على المداومة على العمل، وإن قليلة الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان كذلك؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى، بخلاف الكثير المنقطع، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة. وقال ابن الجوزي: إنما أحب الدائم لمعنيين: أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، وهو متعرض للذم، ولذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه. والثاني: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتا ما كمن لازم يوما كاملا ثم انقطع- انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب القصد والمداومة على العمل من كتاب الرقاق. ومسلم في الصلاة. وأخرجه أيضا مالك والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص485) بألفاظ متقاربة. قال في الأزهار: هذا الحديث من إفراد مسلم. قال الأبهري: لعل المصنف جعله متفقا عليه، لما روى البخاري عن مسروق قال: سألت عائشة أي الأعمال أحب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟: قالت: الدائم- انتهى. فتكون رواية البخاري نحو رواية مسلم في المعنى، ويكون الحديث متفق عليه بتفاوت يسير في اللفظ، والمصنف قد لا يلتفت إليه. قلت الحديث بهذا السياق
(7/455)
موجود في البخاري، فقد روي من
طريق أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سددوا وقاربوا-
الحديث، وفيه: أن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل. وفي رواية: قالت: سئل النبي
- صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومه وإن قل. وقال أكلفوا
من الأعمال ما تطيقون.
1251- قوله: (خذوا من الأعمال) أي من أعمال البر صلاة وغيرها، وحمله الباجي وغيره
على الصلاة خاصة؛ لأن الحديث ورد فيها. لما روى مسلم عن عائشة أن الحولاء بنت تويت
مرت بها وعندها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: هذه الحولاء بنت تويت
زعموا أنها لا تنام الليل. وفي رواية: لا تنام تصلي، فقال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: لا تنام الليل خذوا من العمل الخ. وحمله على جميع العبادات أولى؛ لأن
العبرة لعموم اللفظ. وقال عياض: يحتمل أن يكون هذا خاصا بصلاة الليل، ويحتمل أن
ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا))
(7/456)
يكون عاما في الأعمال الشرعية. قال الحافظ: سبب وروده خاص بالصلاة، ولكن اللفظ عام، وهو المعتبر وعدل عن خطاب النساء إلى الرجال تعميما للحكم، فغلب الذكور على الإناث في الذكر. (ما تطيقون) أي الذي تطيقون المداومة عليه، وحذف العائد للعلم به. قال الحافظ: أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقة يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق. (فإن الله لا يمل حتى تملوا) بفتح الميم فيها. قال البيضاوي: الملال فتور يعرض للنفس من كثرة مزاولة شيء، فيوجب الكلال في الفعل والإعراض عنه، وأمثال ذلك على الحقيقة إنما تصدق في حق من يعتريه التغير والإنكسار، فأما من تنزه عن ذلك فيستحيل تصور هذا المعنى في حقه، فإذا أسند إليه أول بما هو منتهاه وغايته كإسناد الحياء وغيره إلى الله تعالى، فالمعنى والله أعلم، اعملوا حسب وسعكم وطاقتكم فإن الله لا يعرض عنكم إعراض الملول عن الشيء، ولا ينقص ثواب أعمالكم ما بقي لكم نشاط، فإذا فترتم فاقعدوا فإنكم إذا مللتم عن العبادة وأتيتم بها على وجه كلال وفتور، كان معاملة الله معكم حينئذ معاملة ملول عنكم. وقال التوربشتي: إسناد الملال إلى الله تعالى على طريقة المشاكلة والإزدواج، وهو أن تكون إحدى اللفظتين موافقة للأخرى وإن خالفتها معنى، والعرب تفعل ذلك إذا جعلو ما جوابا وجزاء لها، وإن كانت مخالفة في المعنى، فمعنى الحديث لا يقطع ثواب عملكم حتى تتركوا العمل ملالا وسأمة من كثرته وثقله فعبر عن ترك الإثابة وقطع الجزاء بالملال؛ لأنه بحذائه وجواب له فهو لفظ خرج على مثال لفظ كقول الله تعالى: ?وجزاء سيئة سيئة مثلها? [42: 40] ومنه قول عمرو بن أبي كلثوم التغلبي: ألا لا يجهلن أحد علينا- فنجهل فوق جهل الجاهلينا. ومن المستبعد أن يفتخر ذو عقل بجهل، وإنما فنجازية لجهله ونعاقبه على سوء صنيعة. والحاصل أنه أطلق لفظ الملال على الله
(7/457)
على جهة المقابلة اللفظية
مجازا. قال القرطبي: وجه مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالا
عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببة. وقال الهروي: معناه لا يقطع
عنكم فضله حتى تملوا سؤاله، فتزهدوا في الرغبة إليه. وقيل: معناه لا يتناهى حقه
عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم، وهذا كله بناء على أن حتى على بابها في انتهاء
الغاية وما يترتب عليها من المفهوم. وجنح بعضهم إلى تأويلها، فقيل: معناه لا يمل
الله إذا مللتم أو لا يمل أبدا وإن مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب، ومنه قولهم
في البليغ لا ينقطع حتى تنقطع خصومه، أي لا ينقطع بعد انقطاع خصومه، بل يكون على
ما كان عليه قبل ذلك، فإنه لو انقطع حين ينقطعون لم يكن له عليهم مزية. وقيل: إن
"حتى" بمعنى الواو فيكون التقدير لا يمل وأنتم تملون، فنفي عنه الملل
وأثبته لهم. وقيل: حتى بمعنى حين لا يمل حين تملون. قال الحافظ: كونه على طريق
المشاكلة والإزدواج أولى وأجرى على القواعد، وأنه من باب المقابلة اللفظية، ويؤيده
ما وقع في بعض طرق حديث عائشة: فإن الله لا يمل من
متفق عليه.
1252-(4) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليصل أحدكم
نشاطه، وإذا فتر فليقعد)).
متفق عليه.
1253-(5) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا نعس أحدكم
الثواب حتى تملوا من العمل، لكن في سنده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. وأخذ
بظاهر الحديث جماعة من الأئمة فقالوا: يكره قيام جميع الليل، وبه قال مالك مرة ثم
رجع عنه، وقال: لا بأس به ما لم يضر بالصلاة الصبح، فإن كان يأتي وهو ناعس فلا
يفعل، وإن كان إنما يدركه كسل وفتور فلا بأس به. وكذا قال الشافعي: لا أكرهه إلا
لمن خشي أن يضر بصلاة الصبح، قاله الزرقاني. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وآخره أيضا
مالك وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص17).
(7/458)
1252- قوله: (ليصل) بكسر
اللام. (نشاطه) بفتح النون أي قدر نشاطه أو مدة نشاطه وزمان انبساطه، فنصبه على
الظرفية، أو صلاته التي ينشط لها. (فإذا فتر) بفتح التاء المثناة فوق، أي ضعف وكسل
في أثناء القيام. (فليقعد) أي ويتم صلاته قاعدا، أو إذا فتر بعد فراغ بعض
التسليمات فليقعد لإيقاع ما بقي من نوافله قاعدا، أو إذا فتر بعد انقضاء البعض
فليترك بقية النوافل جملة إلى أن يحدث له نشاط، أو إذا فتر بعد الدخول فيها
فليقطعها، خلافا للمالكية حيث منعوا من قطع النافلة بعد التلبس بها، ذكره
القسطلاني. والحديث طرف من حديث طويل. أخرجه الشيخان وغيرهما، ذكر في أوله سبب هذا
القول وهو أنه قال أنس: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فإذا حبل ممدود
بين ساريتين أي من سواري المسجد فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا هذا حبل لزينب أي ابنة
جحش أم المؤمنين، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأحلوه
أحدكم الخ. قال الحافظ: والحديث فيه الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن
التعمق فيها والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وفيه إزالة المنكر باليد واللسان، وجواز
تنفل النساء في المسجد، واستدل به على كراهة التعلق في الحبل في الصلاة- انتهى.
(متفق عليه) وأخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص18).
1253- قوله: (إذا نعس) بفتح العين من بابي فتح ونصر. (أحدكم) أي أخذته فترة في
حواسه، فقارب النوم والنعاس بضم العين فترة في الحواس أو مقاربة النوم أو الوسن،
وأول النوم وهي ريح لطيفة تأتي من قبل الدماغ تغطي العين ولا تصل إلى القلب، فإذا
وصلته كان نوما، وفي العين والمحكم النعاس النوم. وقيل: مقاربته. قال الحافظ:
المشهور التفرقة بينهم،ا وإن من قرت حواسه بحيث يسمع كلام جليسه ولا يفهم معناه،
فهو ناعس، وإن زاد على
وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله
يستغفر فيسب نفسه)).
(7/459)
ذلك فهو نائم. ومن علامات النوم الرؤيا طالت أو قصرت. (وهو يصلي) جملة اسمية في موضع الحال. وفي رواية أبي داود: وهو في الصلاة. قيل المراد في صلاة الليل؛ لأنها محل النوم غالبا، وهذا عند مالك وجماعة. وقال النووي: الجمهور على عمومها الفرض والنفل ليلا أو نهارا لكن لا يخرج فريضة عن وقتها. (فليرقد) بضم القاف من باب نصر أي فلينم احتياطا؛ لأنه علل بأمر محتمل، كما سيأتي، والأمر للندب، قاله الزرقاني. وفي حديث أنس عند البخاري: فلينم. وعند محمد بن نصر في قيام الليل: فلينصرف فليرقد. وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره: إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول فليضطجع. وفي رواية عائشة عند النسائي: فلينصرف أي بعد أن يتم صلاته مع تخفيف، لا أنه يقطع الصلاة بمجرد النعاس، خلافا للمهلب حيث حمله على ظاهره، فقال إنما أمر بقطع الصلاة لغلبة النوم، فدل على أنه إذا كان نعاس أقل من ذلك عفي عنه- انتهى. وقد تقدم أن هذا الحديث حمله مالك وطائفة على نفل الليل خلافا للجمهور. قال المهلب: إنما هذا في صلاة الليل؛ لأن الفريضة ليست في أوقات النوم، ولا فيها من التطويل ما يوجب ذلك- انتهى. قال الحافظ: قد قدمنا أن الحديث جاء على سبب، لكن العبرة بعموم اللفظ، فيعمل به أيضا في الفرائض ما أمن بقاء الوقت- انتهى. قلت: أشار الحافظ بقوله قدمنا أنه جاء على سبب إلى ما روى محمد بن نصر في قيام الليل (ص77) عن عائشة قالت: مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحولاء بنت تويت فقيل له: يا رسول الله إنها تصلي بالليل صلاة كثيرة، فإذا غلبها النوم ارتبطت بحبل فتعلقت به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل تصلي ما قويت على الصلاة فإذا نعست فلتنم. (حتى يذهب عنه النوم) أي ثقله فالنعاس سبب للأمر بالنوم. (فإن أحدكم) علة للرقاد وترك الصلاة. (إذا صلى وهو ناعس) جملة حالية يريد أنه إذا صلى في حال غلبة
(7/460)
النوم. (لا يدري) أي ما يفعل
فحذف المفعول للعلم به واستأنف بيانا قوله (لعله يستغفر) بالرفع يريد أن يدعو ويستغفر
لنفسه. (فيسب نفسه) أي يدعو عليها، وقد صرح به النسائي في روايته: والمعنى يريد
ويقصد أن يستغفر له فيسب نفسه، أي يدعو عليها من حيث لا يدري، مثلا يريد أن يقول
اللهم اغفر لي فيقول اللهم اعفر لي، والعفر هو التراب فيكون دعاء عليه بالذل
والهوان، وهو تمثيل وإلا فلا يشترط التصحيف. وقوله: فيسب بالنصب جوابا للعل،
والرفع عطفا على يستغفر، وجعل ابن أبي جمرة علة النهي خشية أن يوافق ساعة للإجابة.
قال القسطلاني: والترجي في لعل عائد إلى المصلي لا إلى المتكلم به، أي لا يدري
أمستغفر أم ساب مترجيا للاستغفار، وهو في الواقع بضد ذلك، وغاير بين لفظي النعاس
في الأول نعس بلفظ الماضي، وهنا بلفظ اسم الفاعل تنبيها على أنه لا يكفي تجدد أدنى
نعاس وتقضيه في الحال، بل لا بد من ثبوته
متفق عليه.
1254-(6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الدين
يسر، ولن يشاد الدين أحد
(7/461)
بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول وعدم علمه بما يقرأ- انتهى. وقال الطيبي: الفاء في "فيسب" للسببية كاللام في قوله تعالى: ?فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا? [28: 8]. قال المالكي: يجوز في "فيسب" الرفع باعتبار عطف الفعل على الفعل، والنصب باعتبار جعل فيسب جوابا للعل، فإنها مثل ليت في اقتضائها جوابا منصوبا، ونظيره قوله تعالى: ?لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى? [80: 4] نصبه عاصم ورفعه الباقون- انتهى كلامه. قال الطيبي: النصب أولى لما مر، ولأن المعنى لعله يطلب من الله لذنبه الغفران ليصير مزكي فيتكلم بما يجلب الذنب فيزيد العصيان، فكأنه سب نفسه- انتهى. والحديث يدل على أن النعاس لا ينقض الوضوء، إذ لو كان ناقضا الوضوء لما منع الشارع عن الصلاة بخشية أن يدعو على نفسه، بل وجب أن يذكر الشارع أنه لا تصح صلاته مع النعاس، أو نحوه؛ لانتقاض وضوءه، وفيه الحث على الإقبال على الصلاة بخشوع وفراغ قلب ونشاط، وفيه أمر الناعس بالنوم أو نحوه مما يذهب عنه النعاس، وفيه اجتناب المكروهات في الطاعات، وجواز الدعاء في الصلاة من غير تقييد بشيء معين. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص16).
(7/462)
1254- قوله: (إن الدين) وفي
رواية النسائي: إن هذا الدين أي دين الإسلام. (يسر) بضم الياء التحتية وسكون السين
أي مبني على اليسر والسهولة، فلا تشددوا على أنفسكم على دأب الرهبانية، وقيل: يسر
مصدر وضع موضع المفعول مبالغة، ذكره الطيبي. وقال القسطلاني: أي ذو يسر، وذلك لأن
الإلتئام بين الموضوع والمحمول شرط، وفي مثل هذا لا يكون إلا بالتأويل، أو هو
اليسر نفسه، كقول بعضهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه عين الرحمة مستدلا
بقوله تعالى: ?وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين? [21: 107] كأنه لكثرة الرحمة المودعة
فيه صار نفسها، والتأكيد بأن فيه رد على منكر يسر هذا الدين، فإما أن يكون المخاطب
به منكرا أو على تقدير تنزيله منزلته أو على تقدير المنكرين غير المخاطبين، أو
لكون القصة مما يهتم بها. قال تعالى: ?ما جعل عليكم في الدين من حرج? [22: 78].
وقال: ?يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر? [2: 185]. وسماه يسرا بالنسبة إلى
ذاته أو بالنسبة إلى سائر الأديان؛ لأن الله تعالى رفع عن هذه الأمة الإصر الذي
كان على من قبلهم. ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم وتوبة هذه
الأمة بالإقلاع والعزم والندم. (ولن يشاد الدين أحد) بضم الياء وتشديد الدال
للمغالبة من الشدة، وهو منصوب بلن. والدين منصوب على المفعولية، وأصله لا يقاوم
إلا غلبة، فسددوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)).
(7/463)
الدين ولا يقابله أحد بالشدة ولا يجزى بين الدين وبينه معاملة بأن يشدد كل منهما على صاحبه (إلا غلبة) الدين ويعجزه عن العمل، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز. وانقطع عن عمله كله أو بعضه فيغلب. والمقصود أنه لا يفرط أحد فيه ولا يخرج عن حد الاعتدال. قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع أي منفرد ومتعمق في الدين ينقطع، وليس المراد منه منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلي طول الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس، فخرج وقت الفريضة. وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: لن تنالوا هذا الأمر بالمبالغة وخير دينكم اليسرة. وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع، كمن يترك التيم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر. (فسددوا) بالمهملة من السداد، وهو القصد والتوسط في العمل، أي ألزموا السداد أي الصواب من غير إفراط ولا تفريط. (وقاربوا) في العبادة وهو بالموحدة أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه. قال الطيبي: الفاء جواب شرط محذوف يعني إذا بينت لكم ما في المشادة من الوهن فسددوا أي أطلبوا السداد، وهو القصد المستقيم الذي لا ميل فيه وقاربوا تأكيد للتسديد من حيث المعنى. يقال: قارب فلان في أموره إذا اقتصد. (وأبشروا) بقطع الهمزة من الإبشار. وفي لغة: بضم الشين من البشرى بمعنى الإبشار أي أبشروا بالثواب الجزيل على العمل الدائم وإن قل. والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعة لا يستلزم نقص
(7/464)
أجره، وأبهم المبشر به تعظيما
له وتفخيما. (واستعينوا) على المداومة العبادة من بين الأوقات. (بالغدوة) بفتح
أوله وضمه وسكون الثانية سير أول النهار إلى الزوال، أو ما بين صلاة الغداة وطلوع
الشمس. وقال الطيبي: الغدوة بالضم ما بين صلاة الغدوة إلى طلوع الشمس، وبالفتح
المرة من الغدو وهو سير أول النهار، نقيض الرواح. (والروحة) بالفتح اسم للوقت من
زوال الشمس إلى الليل. وقيل: السير بعد الزوال. (وشيء) أي واستعينوا بشيء ولو
قليل، وفي تنكير شيء الدال على القلة إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يترك القيام
بالليل ولو يسيرا، فإن الإكثار فيه يتعب الجسد ويضر بالمزاج. (من الدلجة) بضم أوله
وفتحه وإسكان اللام، سير آخر الليل. وقيل: سير الليل كله، ولهذا عبر فيه بالتبعيض،
ولأن عمل الليل أشق من عمل النهار. وهذه الأوقات الثلاثة أطيب أوقات المسافر.
والمعنى استيعنوا على مدوامة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة، وفيه تشبه
للسفر إلى الله تعالى بالسفر الحسي،
رواه البخاري.
1255-(7) وعن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام عن حزبه
أو عن شيء منه، فقرأه فيما
بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل)).
(7/465)
ومعلوم أن المسافر إذا استمر على السير انقطع وعجز وإذا أخذ الأوقات المنشطة نال المقصد بالمداومة. قال القسطلاني: في هذا استعارة الغدوة والروحة وشيء من الدلجة لأوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، فإن هذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - خاطب مسافرا إلى مقصده، فنبهه على أوقات نشاطه فإن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة، وحسن هذه الاستعارة إن الدنيا في الحقيقة دار نقله إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة. (رواه البخاري) في كتاب الإيمان. وأخرجه أيضا النسائي فيه وأحمد وابن حبان والبيهقي (ج3 ص18) كلهم من طريق عمر بن علي المقدمي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة وعمر بن علي، هذا بصري ثقة لكنه مدلس شديد التدليس، وصفه بذلك ابن سعد وغيره. وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، وصححه وإن كان من رواية مدلس بالعنعنة لتصريحة فيه بالسماع من طريق أخرى، فقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أحمد بن المقدام أحد شيوخ البخاري عن عمر بن علي المذكور قال: سمعت معن بن محمد، فذكره، وهو من أفراد معن بن محمد، وهو ثقة قليل الحديث، لكن تابعه على شقه الثاني ابن أبي ذئب عن سعيد. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق بمعناه، ولفظه: سددوا وقاربوا وزاد في آخره: والقصد القصد تبلغوا، ولم يذكر شقه الأول. ومن شواهد حديث عروة الفقيمي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن دين الله يسر. ومنها حديث بريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عليكم هديا قاصدا، فإنه من يشاد الدين يغلبه. رواهما أحمد وإسناد كل منهما حسن، كذا في الفتح.
(7/466)
1255- قوله: (من نام عن حزبه)
بكسر الحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة وبالموحدة، هو ما يجعله الإنسان وظيفة له
من صلاة أو قراءة أو غيرهما. وقال السيوطي: الحزب هو الجزء من القرآن يصلي به.
وقال العراقي: هل المراد به صلاة الليل أو قراءة القرآن في صلاة أو غير صلاة،
يحتمل كلا من الأمرين- انتهى. والمعنى من فاته ورده كله في الليل لغلبة النوم.
والحمل على الليل بقرينة النوم ويشهد له آخر الحديث، وهو قوله: ما بين صلاة الفجر
وصلاة الظهر، ويؤيده قوله في رواية النسائي: من نام عن حزبه أو قال: عن جزءه من
الليل. (أو عن شيء منه) أي من حزبه أي فاته بعض ورده. (كتب له) جواب الشرط. (كأنما
قرأه من الليل) صفة
رواه مسلم.
1256-(8) وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صل
(7/467)
مصدر محذوف أي أثبت أجره في صحيفة عمله إثباتا مثل إثباته حين قرأه من الليل. وقوله: كتب له الخ. قال القرطبي: هذا تفضل من الله تعالى، وهذه الفضيلة إنما تحصل لمن غلبه نوم أو عذر منعه من القيام مع أن نيته القيام، وظاهره أن له أجره مكملا مضاعفا، وذلك لحسن نيته وصدق تلهفه وتأسفه، وهو قول بعض شيوخنا. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون غير مضاعف إذا التي يصليها أكمل وأفضل، والظاهر هو الأول، قلت: بل هو المتعين وإلا فأصل الأجر يكتب بالنية. قال الشوكاني: الحديث يدل على مشروعية اتخاذ ورد في الليل، وعلى مشروعية قضاءه إذا قات لنوم أو عذر من الأعذار، وأن من فعله ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر كان كمن فعله في الليل. وقد ثبت من حديث عائشة عند مسلم والترمذي وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا منعه من قيام الليل نوم أو وضع صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة، وفيه استحباب قضاء التهجد إذا فاته من الليل- انتهى. وفي الحديث إشارة إلى قوله تعالى: ?وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا? [25: 62] قال الفاضي: أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخر- انتهى. وهو منقول عن كثير من السلف كابن عباس وقتادة والحسن وسلمان، كما ذكره السيوطي في الدر، فتخصيصه بما قبل الزوال مع شمول الآية النهار بالكمال إشارة إلى المبادرة بقضاء الفوت قبل إتيان الموت، أو لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وأخرجه مالك موقوفا على عمر من قوله، والبيهقي مرفوعا وموقوفا (ج2 ص485). والحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم، وزعم أنه معلل بأن جماعة رووه هكذا مرفوعا وجماعة رووه موقوفا. قال النووي: وهذا التعليل فاسد. والحديث صحيح، وإسناده صحيح أيضا، لما بينا أن الصحيح، بل الصواب الذي
(7/468)
عليه الفقهاء والأصوليون
ومحققوا المحدثين إذا روى الحديث مرفوعا وموقوفا أو موصولا ومرسلا حكم بالرفع
والوصل؛ لأنها زيادة ثقة. وسواء كان الرافع والواصل أكثر أو أقل في الحفظ والعدد.
1256- قوله: (وعن عمران بن حصين) مصغرا (صل) أي الفرض، والحديث خرج جوابا عن سؤال،
كما يدل عليه أوله قال عمران بن حصين: كانت بي بواسير فسألت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عن الصلاة فقال: صل قائما. والبواسير جمع باسور، يقال بالموحدة
وبالنون، والذي بالموحدة ورم في باطن المقعدة. وقيل: علة في المقعدة يسببها تمدد
عروق المقعدة، ويحدث فيها نزف دم. وقيل: هو في عرف الأطباء نفاطات تحدث على نفس
المقعدة ينزل منها كل وقت مادة، والذي بالنون قرحة فاسدة في البدن لا تقبل البرأ
ما دام فيها ذلك الفساد.
قائما، فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنب)).
(7/469)
والمراد بقوله عن الصلاة أي عن صلاة المريض بدليل قوله: كانت بي بواسير. وفي رواية الترمذي: سألت عن صلاة المريض. (قائما) هذا صريح في وجوب القيام في الفرض في حق المستطيع، إذ السؤال كان فيه دون النوافل، فراكب السفينة يجب له القيام إن استطاعه كما عليه الجمهور. ومن يجوز القعود له يجعل مظنة عدم الاستطاعة بمنزلة عدم الاستطاعة. (فإن لم تستطع) أي القيام. (فقاعدا) أي فصل حال كونك قاعدا، واستدل به من قال: لا ينتقل المريض إلى القعود إلا بعد عدم القدرة على القيام. وقد حكاه عياض عن الشافعي، وعن مالك وأحمد وإسحاق: لا يشترط العدم بل وجود المشقة، ويدل لذلك حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يصلي المريض قائما، فإن نالته مشقة صلى جالسا، فإن نالته مشقة صلى نائما يؤمئ برأسه. أخرجه الطبراني في الأوسط. وقال: لم يروه عن ابن جريج إلا حلس بن محمد الضبعي. قال الهيثمي: ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات- انتهى. قال الحافظ: والمعروف عند الشافعية أن المراد بنفي الاستطاعة وجود المشقة الشديدة بالقيام أو خوف زيادة المرض أو الهلاك، ولا يكتفي بأدنى مشقة، ومن المشقة الشديدة دوران الرأس في حق راكب السفينة، وخوف الغرق لو صلى قائما فيها. قلت: ويدل لذلك حديث جعفر بن أبي طالب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يصلي في السفينة قائما إلا أن يخشى الغرق. أخرجه البزار، وفيه رجل لم يسم، وبقية رجاله ثقات، وسنده متصل، قاله الهيثمي. قال الحافظ: ولم يبين كيفية القعود، فيؤخذ من إطلاق قوله: فقاعدا أنه يجوز أن يكون القعود على أي صفة شاء المصلي، وهو مقتضى كلام الشافعي في البويطي. وقد اختلف في الأفضل: فعن الأئمة الثلاثة: يصلي متربعا واضعا ليديه على ركبتيه. وقيل: يجلس مفترشا، وهو موافق لقول الشافعي في مختصر المزني. وصححه الرافعي ومن تبعه. وقيل: متوركا. في كل منها أحاديث- انتهى. (فإن لم تستطع) أي
(7/470)
القعود للمشقة. (فعلى جنب) أي
فصل على جنبك. قال المجد بن تيمية في المنتقى: وزاد النسائي فإن لم تستطع
فمستلقيا، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها- انتهى. والمراد الجنب الأيمن متوجها إلى
القبلة، ففي حديث علي عند الدارقطني مرفوعا بإسناد ضعيف: يصلي المريض قائما إن
استطاع، فإن لم يستطع صلى قاعدا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ برأسه، وجعل سجوده
أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة،
فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستقليا رجلاه مما يلي القبلة، وهو حجة
للجمهور في الانتقال من القعود إلى الصلاة على الجنب الأيمن قالوا: ويكون كتوجه
الميت في القبر. وعن الحنفية وبعض الشافعية يستلقي على ظهره، ويجعل رجليه إلى
القبلة، وحديثا عمران وعلى يردان عليهم؛ لأن الشارع قدم فيهما الصلاة على الجنب
على الاستلقاء، وصرح بأن حالة الاستلقاء تكون عند العجز عن حالة الاضطجاع. قال ابن
الهمام: لا ينتهض حديث عمران حجة على العموم، فإنه خطاب له، وكان مرضه البواسير
وهو يمنع الاستلقاء، فلا يكون خطابه خطابا للأمة- انتهى. قلت:
رواه البخاري.
1257-(9) وعنه، ((أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل قاعدا، قال:
إن صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائما فله نصف
أجر القاعد)).
(7/471)
يرد عليه حديث على المذكور، فإنه خرج على وجه بيان الحكم لكل مريض من غير تخصيص برجل دون رجل ومرض دون مرض. واستدل بقوله: فإن لم تستطع فمستلقيا على أنه لا ينتقل المريض بعد عجزه عن الاستلقاء إلى حالة أخرى، كإشارة بالرأس ثم الإيماء بالطرف ثم إجراء القرآن والذكر على اللسان ثم على القلب؛ لكون جميع ذلك لم يذكر في الحديث، وهو قول الحنفية والمالكية وبعض الشافعية. وقال بعض الشافعية بالترتيب المذكور. لما كانت القدرة شرطا في الفرض وسقط بالضرر، ففي النفل أولى، ففيه تنبيه على نوع مناسبة للباب. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود وابن ماجه وغيرهم.
(7/472)
1257- قوله: (وعنه) أي عمران بن حصين وهذا حديث آخر لعمران غير الحديث المتقدم، لا أنهما روايتان في حديث واحد، كما توهم بعضهم، وهما حديثان صحيحان، وكل منها مشتمل على حكم غير الحكم الذي اشتمل عليه الآخر. (أنه سأل) أي عمران. (النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل) حال كونه. (قاعدا) سؤال عمران عن الرجل خرج مخرج الغالب. فلا مفهوم له، بل الرجل والمرأة في ذلك سواء، والنساء شقائق الرجال. (قال) وفي البخاري: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -. (إن صلى) حال كونه. (قائما فهو أفضل) قال الخطابي: إنما هو في التطوع دون الفرض؛ لأن الفرض لا جواز له قاعدا والمصلي يقدر على القيام، وإذا لم يكن له جواز لم يكن لشيء من الأجر ثبات- انتهى. وقال الحافظ: حكى ابن التين وغيره عن أبي عبيد وابن الماجشون وإسماعيل القاضي وابن شعبان والإسماعيلي والداودي وغيرهم: أنهم حملوا حديث عمران على المتنفل، وكذا نقله الترمذي عن الثوري، قال: وأما المعذور إذا صلى جالسا، فله مثل أجر القائم. وقد روي في بعض الحديث مثل قول سفيان الثوري يشير إلى ما أخرجه البخاري من حديث أبي موسى رفعه: إذا مرض العبد أو سافر كتب له صالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، ولهذا الحديث شواهد كثيرة. (ومن صلى) أي نفلا حال كونه. (قاعدا) أي بغير عذر. (فله نصف أجر القائم) قال النووي في الخلاصة: قال العلماء هذا صلاة في النافلة أي مع القدرة على القيام. وأما الفرض فلا يجوز القعود فيه مع القدرة على القيام بالإجماع، فإن عجز لم ينقص ثوابه- انتهى. (ومن صلى) حال كونه (نائما) أي مضطجعا على هيئة النائم مع القدرة على القيام والقعود. (فله نصف أجر القاعد) يستثني من عمومه النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن صلاته قاعدا لا ينقص أجرها عن صلاته قائما؛ لحديث عبدالله بن عمرو الآتي في الفصل
(7/473)
الثالث وقد عد الشافعية هذه المسألة من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. والحديث يدل على أن يتطوع مضطجعا على الجنب لغير عذر، أي مع القدرة على القيام والقعود. قال ابن حجر: فيه أبلغ حجة على من حرم الاضطجاع في صلاة النفل مع القدرة على القعود. وقال الطيبي: وهل يجوز أن يصلي التطوع نائما مع القدرة على القيام أو القعود، فذهب بعض إلى أنه لا يجوز، وذهب قوم إلى جوازه، وأجره نصف القاعد، وهو قول الحسن، وهو الأصح والأولى لثبوته في السنة- انتهى. قلت: اختلف شراح الحديث في هذا الحديث هل هو محمول على التطوع أو على الفرض في حق غير القادر؟ فحمله الجمهور على المتطوع القادر كما تقدم، وحمله آخرون، ومنهم: الخطابي على المفترض الذي يمكنه أن يتحامل، فيقوم مع مشقة وزيادة ألم فجعل أجره على النصف من أجر القائم ترغيبا له في القيام لزيادة الأجر وإن كان يجوز قاعدا، وكذا في الاضطجاع. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص225): أما قوله صلاته نائما على النصف من صلاته قاعدا فإني لا أعلم أني سمعته إلا في هذا الحديث، ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائما، كما رخصوا فيها قاعدا، فإن صحت هذه اللفظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن من كلام بعض الرواة أدرجه في الحديث وقاسه على صلاة القاعد أو اعتبره بصلاة المريض نائما إذا لم يقدر على القعود، فإن التطوع مضطجعا للقادر على القعود جائز، كما يجوز أيضا للمسافر إذا تطوع على راحلته، فأما من جهة القياس، فلا يجوز له أن يصلي مضطجعا، كما يجوز له أن يصلي قاعدا؛ لأن القعود شكل من أشكال الصلاة، وليس الاضطجاع في شيء من أشكال الصلاة- انتهى. وقد لخص الحافظ في الفتح كلام الخطابي، ثم نقل عنه أنه قال: وقد رأيت الآن أن المراد بحديث عمران المريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم مع مشقة، فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم ترغيبا له في القيام مع جوازه
(7/474)
قعوده- انتهى. قال الحافظ: وهو
حمل متجه قال: فمن صلى فرضا قاعدا وكان يشق عليه القيام أجزأه، وكان هو ومن صلى
قائما سواء. فلو تحامل هذا المعذور وتكلف القيام ولو شق عليه كان أفضل لمزيد أجر
تكلف القيام، فلا يمتنع أن يكون أجره على ذلك نظير أجره على أصل الصلاة، فيصح أن
أجر القاعد على النصف من أجر القائم. ومن صلى النفل قاعدا مع القدرة على القيام
أجزأه، وكان أجره على النصف من أجر القائم بغير إشكال، قال: ولا يلزم من اقتصار
العلماء في حمل الحديث على صلاة النافلة أن لا تراد الصورة التي ذكرها الخطابي.
وقد ورد في الحديث ما يشهد لها، فعند أحمد من طريق ابن جريج عن ابن شهاب عن أنس
قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهي محمة فحم الناس، فدخل النبي -
صلى الله عليه وسلم - المسجد والناس يصلون من قعود، فقال: صلاة القاعد نصف صلاة
القائم، رجاله ثقات، وعند النسائي متابع له من وجه آخر، وهو وارد في المعذور،
فيحمل على من تكلف القيام مع مشقته عليه، كما بحثه الخطابي- انتهى كلام الحافظ
مختصرا. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص210) بعد نقل كلام
الخطابي ما لفظه: وكل هذا تكلف وتمحل من الخطابي، بناء على زعمه أنه لم يرخص أحد
من أهل العلم في
رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
1258-(10) عن أبي أمامة، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أوى إلى
فراشه طاهرا، وذكر الله حتى يدركه النعاس، لم يتقلب ساعة من الليل يسأل الله فيها
خيرا من خير الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه))
(7/475)
صلاة التطوع نائما، فحاول تأول الحديث ليخرجه عن معناه أو التشكيك في صحة اللفظ في النائم، والحديث حجة على أقوال العلماء، وليست أقوالهم حجة على الحديث، ومع ذلك فإن ما لم يعلمه الخطابي من أقوال العلماء في هذا علمه غيره، فقد نقل الشوكاني عن الحافظ العراقي قال: أما نفي الخطابي وابن بطال للخلاف في صحة التطوع مضطجعا للقادر فمردود، فإن في مذهب الشافعية وجهين: الأصح منهما الصحة. وعند المالكية فيه ثلاثة أوجه: حكاها القاضي عياض في الإكمال. أحدها الجواز مطلقا في الاضطرار، والاختيار للصحيح والمريض بظاهر الحديث، وهو الذي به صدر القاضي كلامه. وقد روى الترمذي بإسناده عن الحسن البصري جوازه، فكيف يدعي مع هذا الخلاف القديم والحديث الإتفاق-انتهى. قلت: الظاهر عندي هو قول الجمهور، فالحديث محمول على المتطوع القادر، والراجح أنه يجوز صلاة التطوع مضطجعا مع القدرة على القيام أو القعود لظاهر الحديث، والله أعلم. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2:ص308-491).
(7/476)
1258- قوله: (من أوى) بالقصر
ويمد. (إلى فراشه) أي أتاه لينام، في النهاية. أوى وآوى بمعنى واحد يقال: أويت إلى
المنزل وآويت إليه وأويت غيري وآويته. وأنكر بعضهم المقصور المتعدي. وقال الأزهري:
هي لغة فصيحة.وقال النووي: إذا أوى إلى فراشه فمقصور. وأما آوانا فممدود. هذا هو
الصحيح المشهور الفصيح. وحكى القصر فيهما وحكي المد فيهما، كذا في المرقاة.
(طاهرا) أي متوضئا. (وذكر الله) بلسانه أي نوع من الأذكار.ولفظ الترمذي: يذكر
الله، وهي جملة حالية. (حتى يدركه النعاس) بضم النون يعني حتى ينام. (لم يتقلب) من
التقلب أي من جنب إلى جنب. وقال القاري: أي لم يتردد ذلك الرجل على فراشه، وفي عمل
اليوم والليلة لم ينقلب أي من الانقلاب، قيل: المراد من الانقلاب هنا الاستيقاظ
والانتباه من النوم. (ساعة) بالنصب أي في ساعة. (يسأل الله) حال من فاعل
"يتقلب". (فيها) أي في تلك الساعة. (خيرا) الخير هنا ضد الشر. (من خير
الدنيا والآخرة) المراد من الخير الثاني الجنس، والتنوين في الأول للتنكير. (إلا
أعطاء إياه). قال الطيبي:
ذكره النووي في كتاب الأذكار برواية ابن سني.
1259- (11) وعن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجب
ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته، فيقول
(7/477)
هو أيضا حال من يسأل، وجاز لأن الكلام في سياق النفي، يعني لا يكون للسائل حال من الأحوال في أي زمان من الليل إلا كونه معطي إياه، أي ما طلب فلا يخيب. (ذكره النووي) وفي بعض النسخ: النووي، بالألف. (في كتاب الأذكار) (ص75) في باب ما يقوله إذا أراد النوم واضطجع على فراشه. (برواية ابن السني) هو الإمام الحافظ الثقة أبوبكر أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الدينوري، مولى جعفر بن أبي طالب الهاشمي المعروف بابن السني، بضم السين المهملة.وتشديد النون المكسورة. قيل: نسبة إلى العمل بالنسبة، وهو صاحب كتاب عمل اليوم والليلة. وراوي سنن النسائي، سمع النسائي وأبا خليفة الجمعي وزكريا الساجي وغيرهم، وأكثر الترحال. روى عنه خلق كثير كان دينا خيرا صدوقا عاش بضعا وثمانين سنة. قال القاضي: أبوزرعة روح بن محمد سبط ابن السني سمعت عمي علي بن أحمد بن محمد يقول: كان أبي يكتب الحديث، فوضع القلم في أنبوبة المحبرة ورفع يديه يدعوا الله تعالى فمات، وذلك في آخر سنة أربع وستين وثلاث مائة. وروى ابن السني هذا الحديث في آخر عمل اليوم والليلة في باب ما يقول: إذا أخذ مضجعة (ص229) من طريق شهر بن حوشب عن أبي أمامة، ومن هذا الطريق أخرجه الترمذي في الدعوات، وقال: حديث حسن. وقد روي هذا أيضا عن شهر بن حوشب عن أبي ظبية عن عمرو بن عبسة عن النبي - صلى الله عليه وسلم --انتهى. قال المنذري في كتابه عمل اليوم والليلة: صنف العلماء في عمل اليوم والليلة والدعوات كتبا كثيرة، ومن أحسنها للإمام أبي عبدالرحمن النسائي، وأحسن منه لصاحبه الحافظ أحمد بن محمد المعروف بابن السني الدينوري، المتوفى سنة أربع وستين وثلاثمائة، وهو أجمع الكتب في هذا الفن لكنها مطولة قال: فحذفت الأسانيد لضعف همم الطالبين-انتهى. وقد ورد في الباب أحاديث، ذكرها ابن السني والمنذري والهيثمي.
(7/478)
1259- قوله: (عجب ربنا) قيل:
العجب روعة تعترى الإنسان عند استعظام الشيء، والعجب لله بمعنى مجرد الاستعظام.
قال الطيبي: أي عظم ذلك عنده وكبر لديه. وقيل: عجب ربنا أي رضي وأثاب، والأول أوجه
لقوله: أنظروا إلى عبدي على وجه المباهاة-انتهى. (من رجلين) قال القاري: أي رضي
واستحسن فعلهما. (رجل) بالجر، بدل، وجوز الرفع، فالتقدير أحدهما أو منهما أو هما
رجل. (ثار) أي قام على سرعة بهمة ونشاط ورغبة. (عن وطائه) بكسر الواو أي فراشه
اللين. (ولحافه) بكسر اللام أي ثوبه الذي فوقه. قيل: اللحاف كل ما يلتحف به أي
يتغطى واللباس الذي فوق ما سواه. (من بين حبه) بكسر الحاء المهملة أي محبوبه.
(فيقول
الله لملائكته: أنظروا إلى عبدي، ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته،
رغبة فيما عندي، وشفقا مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم مع أصحابه، فعلم ما
عليه في الانهزام وما له في الرجوع، رجع حتى هريق دمه، فيقول الله لملائكته:
أنظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي، وشفقا مما عندي حتى هريق دمه) رواه في شرح
السنة.
?الفصل الثالث?
1260- (12) وعن عبدالله بن عمرو، قال: حدثت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: ((صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة.
(7/479)
الله لملائكته) أي مباهاة
لعبده. (انظروا إلى عبدي) أي نظر الرحمة المترتب عليه الاستغفار له والشفاعة،
والإضافة للتشريف، وأي تشريف أو تفكروا في قيامه من مقام الراحة. (رغبة) أي لا
رياء وسمعة بل ميلا (فيما عندي) من الجنة والثواب، أو من الرضاء واللقاء يوم
المآب. (وشفقا) أي حذرا وخوفا. (مما عندي) من الجحيم وأنواع العذاب، أو من السخط
والحجاب. (ورجل) بالوجهين. (غزا في سبيل الله) أي مخلصا لوجه الله. (فانهزم) أي
غلب وهرب. (فعلم ما عليه) أي من الإثم أو من العذاب. (في الانهزام) إذا كان بغير
عذر له في المقام. (وما له) أي وعلم ما له من الثواب والجزاء. (في الرجوع) أي في
الإقبال على محاربة الكفار ولو كانوا أكثر منه في العدد وأقوى عنه في العدد.
(فرجع) أي حسبة لله وجاهد. (حتى هريق) أي صب، والهاء يدل من الهمزة. (دمه) يعني
قتل واستشهد. والحديث من أدلة استحباب قيام الليل وفضيلته. (رواه) صاحب المصابيح
(في شرح السنة) أي بإسناده. وأخرجه أيضا أحمد وأبويعلى والطبراني وابن حبان في
صحيحه. قال العراقي: وإسناده جيد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص255) إسناده
حسن، ونقل القاري عن الجزري أنه قال: رواه أحمد بإسناد صحيح، فيه عطاء بن السائب،
وروى له الأربعة، والبخاري متابعة، ورواه الطبراني-انتهى.
1260- قوله: (حدثت) بصيغة المجهول أي حدثني ناس من الصحابة (صلاة الرجل قاعدا نصف
الصلاة) أي قائما، والمعنى صلاة القاعد لغير عذر فيها نصف ثواب صلاة القائم،
فيتضمن صحة صلاة القاعد ونقصان أجرها. قال النووي: هذا الحديث محمول على صلاة
النفل قاعدا مع القدرة على القيام، فهذا له نصف ثواب القائم. وأما إذا صلى النفل
قاعدا لعجزه عن القيام فلا ينقص ثوابه بل يكون كثوابه قائما. وأما الفرض فإن صلاته
قاعدا مع القدرة على القيام لم يصح، فلا يكون فيه ثواب بل يأثم وإن صلى الفرض
قاعدا لعجزه عن
(7/480)
قال: فأتيته فوجدته يصلي
جالسا، فوضعت يدي على رأسه. فقال: ما لك يا عبدالله بن عمرو؟ قلت: حدثت يا رسول
الله ! أنك قلت: صلاة الرجل قاعدا على نصف الصلاة، وأنت تصلي قاعدا. قال: أجل،
ولكني لست كأحد منكم)) رواه مسلم.
1261- (13) وعن سالم بن أبي الجعد، قال: قال رجل من خزاعة: ليتني صليت فاسترحت،
القيام أو مضطجعا لعجزه عن القيام والقعود فثوابه كثوابه قائما لا ينقص، فيتعين
حمل الحديث في تنصيف الثواب على من صلى النفل قاعدا مع قدرته على القيام، هذا
تفصيل مذهبنا، وبه قال الجمهور في تفسير هذا الحديث وحكاه عياض عن جماعة، منهم
الثوري وابن الماجشون-انتهى مختصرا. (فوضعت يدي) الظاهر أنه فعل ذلك بعد فراغه صلى
الله عليه وآله وسلم من الصلاة، إذا ما يظن به ذلك قبله. (على رأسه) أي ليتوجه
إليه، وكأنه كان هناك مانع من أن يحضر بين يديه، ومثل هذا لا يسمى خلاف الأدب عند
طائفة العرب لعدم تكلفهم وكمال تألفهم، قاله القاري. وقيل: هذا على عادة العرب
فيما يعتنون به. وقيل: كان ذلك في عادتهم فيما يستغربونه ويتعجبون منه، كقول المستغرب
للشيء المتعجب من وقوعه مع من استغرب منه. ونظيره أن بعض العرب كان ربما لمس لحيته
الشريفة عند مفاوضته معه. وقيل: صدر ذلك عنه من غير قصد منه استغرابا وتعجبا.
(فقال ما لك) أي ما شأنك وما عرض لك. (على نصف صلاة القائم) أي يقاس صلاة الرجل
قاعدا على نصف صلاته قائما في الثواب. (وأنت تصلي قاعدا) أي فكيف اخترت نقصان
الأجر مع شدة حرصك على تكثيره!. (قال أجل) أي نعم قد قلت ذلك. (ولكني لست كأحد
منكم) أي ذلك الذي ذكرت من أن صلاة الرجل قاعدا على نصف صلاته قائما هو حكم غيري
من الأمة فهو مختص بهم. وأما أنا فخارج عن هذا الحكم، ويقبل ربي مني صلاتي قاعدا
مقدار صلاتي قائما، فصلاتي النافلة قاعدا مع القدرة على القيام في تمام الأجر
وكمال الثواب كصلاتي قائما، أو ذلك من خصائصي لما اختص به من
(7/481)
غاية التوجه والحضور والمعرفة
والقرب، فلا تقيسوني على أحد ولا تقيسوا أحدا علي. قال النووي: هذا من خصائصه -
صلى الله عليه وسلم - فجعلت نافلته قاعدا مع القدرة على القيام كنافلته قائما
تشريفا له، كما خص بأشياء معروفة وفي كتب أصحابنا وغيرهم وقد استقصيتها في أول
كتاب تهذيب الأسماء واللغات. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي.
1261- قوله: (وعن سالم بن أبي الجعد) الغطفاني الأشجعي، مولاهم الكوفي، ثقة من
أوساط التابعين، مات سنة سبع، أو ثمان وتسعين، وقيل: مائة أو بعد ذلك. (من خزاعة)
بضم الخاء المعجمة وبالزاي، قبيلة، وهو صفة رجل. (ليتني صليت فاسترحت) أي
بالاشتغال بالصلاة لكونها مناجاة مع الرب تعالى، أو بالفراغ
فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أقم
الصلاة يا بلال! أرحنا بها)). رواه أبوداود.
(35) باب الوتر
(7/482)
منها لاشتغال الذمة بها قبل الفراغ عنها. (فكأنهم) أي بعض الحاضرين. (عابوا ذلك عليه)؛ لأن ظاهر كلامه يدل على أن الصلاة ثقيلة وشاقة عليه فيطلب الاستراحة بعد رفعها. قال في اللمعات: عابوا ذلك عليه لما تبادر إلى أفهامهم من طريان الكسل والثقل، كأنه قال يا ليتني صليت فاسترحت ونمت فإني لم أطق انتظارها، وقال الطيبي: أي عابوا تمنيه الاستراحة في الصلاة وهي شاقة على النفس وثقيلة عليها، ولعلهم نسوا قوله تعالى: ?وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين? [2: 45]. (فقال) أي الرجل الخزاعي. (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أقم الصلاة يا بلال أرحنا بها) أي ليست أريد ما فهمتم حاشا ذلك، بل أردت ما أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله يا بلال أرحنا بها فسكتوا، واعلم أنه ذكر في معنى قوله- صلى الله عليه وسلم -: أرحنا بها يا بلال وجهان: أحدهما أن أذن بالصلاة حتى نستريح بأدائها من شغل القلب فيها. وثانيهما أنه كان اشتغاله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة راحة له، فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعبا، فكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله تعالى، ولذا قال: وجعلت قرة عين لي في الصلاة. وما أقرب الراحة من قرة العين. وهذان المعنيان مذكوران في النهاية، والفرق بينهما أن الراحة في الأول بخلاص الذمة بالأداء عن تعب الاشتغال بالصلاة، وتعلق القلب بها. وفي الثاني الراحة بوجود الصلاة، ولذة المناجاة وشهود الحق الذي كان يحصل فيها، ولا شك أن الحمل على المعنى الثاني أنسب وأليق بمقامه - صلى الله عليه وسلم -. (رواه أبوداود) في كتاب الأدب، وسكت عليه هو والمنذري.
(7/483)
(باب الوتر) أي صلاة الوتر،
وبيان وقته، وعدد ركعاته، وقراءته، وقضاءه، وقنوته. وكونه واجبا أو سنة وغير ذلك
مما يشتمل عليه أحاديث الباب من الأمور المتعلقة بالوتر، كمشروعية الركعتين بعده
جالسا، وما يقال بعد الفراغ منه من التسبيح، والوتر بكسر الواو الفرد أو ما لم يتشفع
من العدد وبفتحها الثأر، وفي لغة مترادفان. قال ابن التين: أخلف في الوتر في سبعة
أشياء: في وجوبه، وعدده ، واشتراط النية فيه، واختصاصه بقراءة، واشتراط شفع قبله،
وفي آخره وقته، وصلاته في السفر على الدابة. قال الحافظ: وفي قضائه، والقنوت فيه،
وفي محل القنوت منه، وفيما يقال فيه وفي فصله ووصله، وهل تسن ركعتان بعده، وفي
صلاته من قعود، وفي أول وقته، وفي كونه أفضل صلاة التطوع أو الرواتب أفضل منه، أو
خصوص ركعتي الفجر- انتهى. وقد ذكر المصنف من الأحاديث ما يجيء في شرحها بيان أكثر
هذه الأشياء.
?الفصل الأول?
1262-(1) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الليل
مثنى مثنى،
1262- قوله: (صلاة الليل) الحديث خرج جوابا لسؤال، ففي رواية للبخاري: أن رجلا جاء
(7/484)
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب فقال: كيف صلاة الليل؟ فقال: مثنى مثنى. قال الحافظ: وقد تبين من الجواب أن السؤال وقع عن عددها أو عن الفصل الوصل. وفي رواية محمد بن نصر قال: قال رجل: يا رسول الله كيف تأمرنا أن نصلي من الليل. وقيل: جوابه بقوله "مثنى" يدل على أنه فهم من السائل طلب كيفية العدد لا مطلق الكيفية. قال الحافظ: فيه نظر، وأولى ما فسر به الحديث من الحديث. (مثنى) بلا تنوين؛ لأنه غير منصرف لتكرار العدل فيه، قاله صاحب الكشاف. وقال آخرون: ومنهم سيبوية: للعدل والوصف يفيد التكرار؛ لأنه بمعنى اثنتين اثنتين. وأما إعادة مثنى الثاني فللمبالغة في التأكيد، وإلا فالتكرار يكفي في إفادته مثنى الأول، وهو خبر لفظا، لكن معناه الأمر والندب. والمقصود أنه ينبغي للمصلي أن يصليها ركعتين ركعتين. قال الحافظ: وقد فسره ابن عمر راوي الحديث فعند مسلم من طريق عقبة بن حريث قال: قلت: لابن عمر ما معنى مثنى مثنى. قال تسلم من كل ركعتين. وفيه رد على من زعم من الحنفية أن معنى مثنى أن يتشهد بين كل ركعتين؛ لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسره به هو المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يقال في الرباعية مثلا أنها مثنى – انتهى. قلت: ويؤيد حمله على الفصل بالسلام بين كل ركعتين حديث المطلب بن ربيعة مرفوعا عند أحمد بلفظ: الصلاة مثنى مثنى وتشهد وتسلم في كل ركعتين الخ. ويؤيده أيضا ما تقدم من حديث عائشة في باب صلاة الليل: كان يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين. ويؤيده أيضا حديث ابن عباس عند ابن خزيمة في قصة مبيته في بيت خالته ميمونة حيث وقع فيه التصريح بالفصل، ولفظه: يسلم من كل ركعتين. وحديث أبي أيوب عند أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام يصلي من الليل صلى أربع ركعات لا يتكلم ولا يأمر بشيء ويسلم بين كل ركعتين. وأما حديث عائشة عند البخاري وغيره
(7/485)
يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسهن وطولهن، فليس فيه دليل على الوصل، وقد اعترف بذلك الشيخ محمد أنور حيث قال: لا دليل فيه للحنفية في مسألة أفضلية الأربع، فإن الإنصاف خير الأوصاف، وذلك لأن الأربع هذه لم تكن بسلام واحد، بل جمع الراوي بين الشفعين لتناسب بينهما نحو كونهما في سلسلة واحدة بدون جلسة في البين كالترويحة في التراويح، فإنها تكون بعد أربع ركعات، هكذا شرح به أبوعمر في التمهيد- انتهى. واستدل بالحديث على تعين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل. قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج2 ص83): أخذ به مالك في أنه لا يزاد في صلاة النفل على ركعتين، هو ظاهر هذا اللفظ في صلاة الليل، وقد
(7/486)
ورد حديث آخر صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، وإنما قلنا إنه ظاهر اللفظ؛ لأن المبتدأ محصور في الخبر، فيقتضي ذلك حصر صلاة الليل فيما هو مثنى، وذلك هو المقصود إذ هو ينافي الزيادة لما انحصرت صلاة الليل في المثنى- انتهى. وقال الأمير اليماني: قال مالك لا تجوز الزيادة على اثنين؛ لأن مفهوم الحديث الحصر؛ لأنه في قوة ما صلاة الليل إلا مثنى مثنى؛ لأن تعريف المبتدأ قد يفيد ذلك على الأغلب- انتهى. ويجوز الزيادة على الركعتين عند الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، لما صح وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى النافلة أكثر من ركعتين، ومحمل الحديث عند الشافعي وأحمد على أنه لبيان الأفضل، لما صح من فعله - صلى الله عليه وسلم - يخالف ذلك، ويحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف، إذ السلام بين كل ركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوقها لما فيه الراحة غالبا وقضاء ما يعرض من أمر مهم، ومحمله عند الحنفية الحصر في الإشفاع، يعني لا يجوز الجلوس على الأكثر أو الأقل من ركعتين. قال في الهداية: ومعنى ما رواه شفعا لا وترا، وقد تقدم الرد عليه في كلام الحافظ. واستدل به أيضا على عدم النقصان عن ركعتين في النافلة ما عدا الوتر، واختلفوا فيه أيضا فقال مالك وأبوحنيفة: التطوع بركعة واحدة باطل، إلا أنهما اختلفا في الوتر فقال مالك بالجواز، وأبوحنيفة بالمنع. وذهب الشافعي وأحمد إلى جواز التطوع بركعة فردة، واستدل بعض الشافعية للجواز بعموم قوله: الصلاة خير موضوع فمن شاء استكثر ومن شاء استقل، صححه ابن حبان وقد اختلف من رأى الزيادة على الركعتين في النافلة في الفصل والوصل أيهما أفضل، فذهب الشافعي وأحمد إلى أن الفصل في صلاة الليل والنهار أفضل، واستدل لهما بما رواه الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر مرفوعا: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وتعقب بأن أكثر أئمة الحديث أعلوا زيادة قوله والنهار وضعفوها؛ لأنها من طريق علي
(7/487)
الأزدي البارقي عن ابن عمر،
وهو ضعيف عند ابن معين. روى محمد بن نصر في سؤالاته وابن عبدالبر في التمهيد عن
يحيى بن معين أنه قال صلاة النهار أربع لا تفصل بينهن، فقيل له إن ابن حنبل يقول:
صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، فقال: بأي حديث؟ فقيل له: بحديث الأذري عن ابن عمر،
فقال: ومن على الأذري؟ حتى أقبل هذا منه وأدع يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن
ابن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن، لو كان حديث الأذري صحيحا لم
يخالفه ابن عمر يعني مع شدة إتباعه. وقال الترمذي: وروى الثقات عن ابن عمر عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكروا فيه صلاة النهار وحكم النسائي على
راويها بأنه أخطأ فيها. وقال الدارقطني في العلل: إنها وهم. وقال الحافظ: روى ابن
وهب بإسناد قوي عن ابن عمر قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى موقوف. أخرجه ابن
عبدالبر من طريقة فلعل الأذري اختلط عليه الموقوف بالمرفوع، فلا تكون هذه الزيادة
صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذا- انتهى. قلت: قد صححها ابن
خزيمة وابن حبان والحاكم في المستدرك وقال: رواتها ثقات. وقال الخطابي: إن سبيل
الزيادة
فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى)).
(7/488)
من الثقة أن تقبل. وقال البيهقي: هذا حديث صحيح، وقد صححه البخاري لما سئل عنه، ثم روى ذلك بسنده إليه قال: وقد روى عن محمد بن سيرين عن ابن عمر مرفوعا بإسناد كلهم ثقات- انتهى كلام البيهقي، وله طرق وشواهد، وقد ذكر بعض ذلك الحافظ في التلخيص. وذهب أبوحنيفة إلى أن الأفضل فيهما أربع أربع ولم أر حديثا صحيحا صريحا يدل على أفضلية ذلك في الليل والنهار. وذهب بعضهم إلى أن الأفضل في صلاة الليل مثنى مثنى، وأما في صلاة النهار فأربع أربع، وهو قول الثوري وابن المبارك وإسحاق وأبي يوسف ومحمد، واستدل لهم بمفهوم حديث ابن عمر: صلاة الليل مثنى مثنى، قالوا: إنه يدل بمفهومه على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعا وتعقب بأنه مفهوم لقب وليس بحجة على الراجح، وعلى تقدير الأخذ به فليس بمنحصر في أربع، وبأنه خرج جوابا للسؤال عن صلاة الليل فقيد الجواب بذلك مطابقة للسؤال، واستدلوا أيضا بما تقدم من حديث أبي أيوب مرفوعا: أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم، وقد أسلفنا الكلام فيه مع الجواب عن هذا الاستدلال، والأولى عندي أن تكون صلاة الليل مثنى مثنى، لكونه أجاب به السائل، ولكون أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقا، وأما صلاة النهار فإن شاء صلى أربعا بسلام واحد أو بسلامين لحديث على الأذري، ولحديث أبي أيوب وقد عرفت ما فيها من الكلام. (فإذا خشي أحدكم الصبح) أي فوت الوتر بطلوع الفجر وظهوره (صلى بركعة واحدة توتر) أي هذه الركعة الفردة. (له) أي لأحدكم. (ما قد صلى) أي تجعل تمام ما صلى وترا، فإن تلك الواحدة كما أنها بذاتها وتر، كذلك يصير بها جميع صلاة الليل وترا، قال ابن الملك: أي تجعل هذه الركعة الصلاة التي صلاها في الليل وترا بعد أن كانت شفعا، والحديث حجة للشافعي في قوله: الوتر ركعة واحدة، وتعقبه القاري بما نقله عن ابن الهمام أن نحو هذا كان قبل أن يستقر أمر الوتر، وفيه أنه لا دليل على أن هذا كان قبل استقرار أمر
(7/489)
الوتر، ولا على أن الوتر محصور في ثلاث ركعات، فهو مردود على ابن الهمام. قال السندي: في حاشية النسائي قوله: فإذا خشيت الصبح فواحدة، ظاهر الحديث مع أحاديث آخر يفيد جواز الوتر بركعة واحدة، كما هو مذهب الجمهور، والقول بأنه كان ثم نسخ إثباته مشكل- انتهى. ووقع في رواية للبخاري: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت. وفيه رد على من ادعى من الحنفية أن الوتر بواحدة مختص بمن خشي طلوع الفجر؛ لأنه علقه بإرادة الإنصراف، وهو أعم من أن يكون لخشية طلوع الفجر أو غير ذلك. واعلم أنه مذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى صحة الإيتار بركعة واحدة، إلا أن مالكا اشترط تقدم الشفع قبلها، فكان الوتر عنده ثلاث ركعات بتسليمتين وجوبا، فيفي المدونة قال مالك: لا ينبغي لأحد أن يوتر بواحدة ليس قبلاها شيء لا في حضر ولا سفر، لكن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يوتر بواحدة- انتهى. قال
(7/490)
الحافظ: واستدل بقوله: توتر له ما قد صلى على تعين الشفع قبل الوتر، وهو عن المالكية بناء على أن قوله: ما قد صلى أي من النفل، وحمله لا يشترط سبق الشفع على ما هو أعم من النفل والفرض، وقالوا: أن سبق الشفع شرط في الكمال لا في الصحة، ويؤيده حديث أبي أيوب مرفوعا: الوتر حق فمن شاء أوتر بخمس ومن شاء بثلاث ومن شاء بواحدة. أخرجه أبوداود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم، وصح عن جماعة من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة من غير تقدم نفل قبلها، ففي كتاب محمد بن نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد أن عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها، وسيأتي في الدعوات أي عند البخاري حديث عبدالله بن ثعلبة أن سعدا أوتر بركعة، وسيأتي في المناقب عن معاوية أنه أوتر بركعة، وأن ابن عباس استصوبه، وفي كل ذلك رد على ابن التين في قوله: إن الفقهاء لم يأخذوا بعمل معاوية في ذلك، وكأنه أراد فقهاءهم- انتهى كلام الحافظ. وقد ذكر محمد بن نصر في قيام الليل آثارا كثيرة عن السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم في الوتر بركعة من أحب الوقوف عليها رجع إليه. قال الشوكاني في النيل نقلا عن الحافظ العراقي: وممن كان يوتر بركعة من الصحابة الخلفاء الأربعة وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبوموسى الأشعري وأبوالدرداء وحذيفة وابن مسعود وابن عمر وابن عباس ومعاوية وتميم الداري وأبوأيوب الأنصاري وأبوهريرة وفضالة بن عبيد وعبدالله بن الزبير ومعاذ بن الحارث القاري، وهو مختلف في صحبته. وقد روي عن عمر وعلي وأبي وابن مسعود الإيتار بثلاث متصلة، وممن أوتر بركعة سالم بن عبدالله بن عمر وعبدالله بن عياش بن أبي ربيعة والحسن البصري ومحمد بن سيرين وعطاء بن أبي أرباح وعقبة بن عبدالغافر وسعيد بن جبير ونافع بن جبير بن مطعم وجابر بن زيد والزهري وربيعة بن أبي عبدالرحمن وغيرهم، ومن الأئمة مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وداود وابن
(7/491)
حزم- انتهى. واستدل لهم فيما قالوا من جواز الإيتار بركعة واحدة فردة، بحديث ابن عمر هذا، وبحديثه الآتي بعد ذلك، وبحديث عائشة السابق في باب صلاة الليل يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة، فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في موضع النزاع، وبحديث أبي أيوب الآتي في الفصل الثاني، وبحديث ابن عباس عند مسلم: الوتر ركعة من آخر الليل، وبحديث القاسم بن محمد عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر بركعة. رواه الدارقطني وإسناده صحيح، وبما روى الطحاوي من طريق سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله. قال الحافظ في الفتح: وإسناده قوي، ذ1كره في التلخيص (ص117) بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفصل بين الشفع والوتر، ثم قال رواه أحمد وابن حبان وابن السكن في صحيحهما، والطبراني من حديث إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر به، وقواه أحمد. قال في الفتح: ولم يعتذر الطحاوي عنه إلا باحتمال أن يكون المراد بقوله بتسليمة أي التسليمة
(7/492)
التي في التشهد، ولا يخفى بعد هذا التأويل- انتهى. وحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر بركعة، رواه ابن حبان من طريق كريب، ذكره في التلخيص، وفي هذه الأحاديث رد على ابن الصلاح فيما قال: لا نعلم في روايات الوتر مع كثرتها أنه عليه السلام أوتر بواحدة فحسب، وذهب أبوحنيفة إلى أن الوتر ثلاث ركعات موصولة بتشهدين وتسليمة واحدة لا أقل منها ولا أكثر، فالوتر عنده كصلاة المغرب يجلس في الثانية ثم يقوم دون تسليم ويأتي بالثالثة ثم يجلس ويتشهد ويسلم. واستدل له بالأحاديث التي تدل على الإيتار بثلاث ركعات، كحديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يسلم في ركعتي الوتر. أخرجه النسائي والحاكم (ج1 ص304) والدارقطني والبيهقي (ج3 ص31) بإسناد حسن، وكحديث أبي بن كعب عند النسائي بلفظ: يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، لا يسلم إلا في آخرهن. وقد بين في عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات، وكحديث ابن أبزى عند النسائي أيضا نحوه. وفيه أن هذه الأحاديث ليس فيها ما يدل على الحصر في الإيتار بالثلاث، وأنه لا يجوز أقل منها ولا أكثر، وليس فيها تصريح الجلوس في الركعة الثانية، بل في رواية عائشة عند الحاكم (ج1 ص304) على ما نقله الحافظ في الفتح والتلخيص، والزرقاني في شرح المواهب اللدنية، والذهبي في تلخيص المستدرك، وقد صوب ذكرها النيموني في تعليق التعليق، وذكرها أيضا البيهقي (ج3 ص31) نفي الجلوس في الثانية. ولفظها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن، وكذا ينفيه حديث النهي عن التشبه بصلاة المغرب، ولم أجد حديثا مرفوعا صحيحا صريحا في إثبات الجلوس في الركعة الثانية عند الإيتار بثلاث. واستدل له أيضا بحديث النهي عن البتيراء، وسيأتي الجواب عنه. قال الحافظ في الفتح: وحمل الطحاوي قول عائشة: يسلم من كل ركعتين ويوتر ركعتين ويوتر بواحدة
(7/493)
ومثله على أن الركعة مضمومة
إلى الركعتين قبلها ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء. أخرجه ابن
عبدالبر في التمهيد عن عبدالله بن محمد يوسف نا أحمد بن محمد بن إسماعيل بن الفرج
نا أبي نا الحسن بن سليمان قبطية نا عثمان بن محمد بن ربيعة بن أبي عبدالرحمن نا
عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - نهى عن البتيراء أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها. وأجيب عنه
بوجوده: أحدها أنه حديث ضعيف، فإن في سنده عثمان ابن محمد. قال عبدالحق في أحكامه
بعد ذكره من جهة ابن عبدالبر: الغالب على حديث عثمان بن محمد بن ربيعة الوهم. وقال
ابن قطان في كتاب الوهم والإيهام: هذا حديث شاذ لا يعرج عليه ما لم يعرف العدالة
رواته، وعثمان بن محمد بن ربيعة الغالب على حديثه الوهم. والثاني أن معارض بما
رواه ابن ماجه والطحاوي ومحمد بن نصر من طريق الأوزاعي عن المطلب بن عبدالله
المخزومي أن رجلا سأل ابن عمر عن الوتر، فأمره بثلاث يفصل بين شفعه ووتره
متفق عليه.
1263-(2) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوتر ركعة من آخر
الليل)). رواه مسلم.
1264-(3) وعن عائشة، قالت ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل
ثلاث عشرة ركعة، يوتر من
ذلك بخمس،
(7/494)
بتسليمة، فقال الرجل: إني أخاف أن يقول الناس هي البتيراء، فقال ابن عمر: هذه سنة الله ورسوله، فهذا يدل على أن الوتر بركعة بعد ركعتين قد وجد من النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثالث أنه معارض بحديث أبي أيوب الآتي بلفظ: من أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل. والرابع أن البتيراء فسره ابن عمر بعدم إتمام الركوع والسجود، هكذا أخرجه البيهقي في المعرفة بسنده عن محمد بن إسحاق عن زيد بن أبي حبيب عن أبي منصور مولى سعد بن أبي وقاص قال: سألت عبدالله بن عمر عن وتر الليل فقال: يا بني هل تعرف وتر النهار؟ قلت: نعم، هو المغرب، قال: صدقت، ووتر الليل بواحدة، بذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا أبا عبدالرحمن، إن الناس يقولون هي البتيراء؟ قال: يا بني ليست تلك البتيراء، إنما البتيراء أن يصلي الرجل الركعة، يتم ركوعها وسجودها وقيامها، ثم يقوم في الأخرى ولا يتم لها ركوعا ولا سجودا ولا قياما فتلك البتيراء- انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج3 ص48): ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن البتيراء ولا في الحديث على سقوطه بيان ماهي البتيراء، وقد روينا من طريق عبدالرزاق عن سفيان بن عيينة عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: الثلاث بتيراء، يعني في الوتر، فعادت البتيراء على المحتج بالخبر الكاذب فيها- انتهى. وقال النووي في الخلاصة: حديث محمد بن كعب القرظي في النهي عن البتيراء ضعيف ومرسل- انتهى. والحق عندي أن الأمر في ذلك واسع، فيجوز الإيتار بركعة واحدة فردة، وبثلاث مفصولة وموصولة، لكن بقعدة واحدة، وبخمس وبسبع وبتسع، وكل ذلك ثابت بالأحاديث الصحيحة الثابتة، وارجع إلى المحلى (ج3 ص42- 48). (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص21، 22) وغيرهم.
(7/495)
1263- قوله: (الوتر ركعة) هذا
نص في مشروعية الإيتار بركعة واحدة، وأن أقل الوتر ركعة. قال الطيبي: أي منشأة.
(من آخر الليل) يعني آخر وقتها آخر الليل أو وقتها المختار بعض أجزاء آخر الليل.
(رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص22) وأخرجه ابن
ماجه بلفظ: ركعة قبل الصبح.
1264- قوله: (يصلي من الليل) أي بعضه، كما قاله الطيبي. (ثلاث عشرة ركعة) ثمان
ركعات منها بأربع تسليمات. (يوتر من ذلك) أي من مجموع ثلاث عشرة أو من ذلك العدد
المذكور. (بخمس) أي يصلي خمس ركعات
لا يجلس في شيء إلا في آخرها)).
(7/496)
بنية الوتر. (لا يجلس في شيء) أي للتشهد. (إلا في آخرها) أي لا يجلس في ركعة من الركعات الخمس إلا في آخرهن، وفيه دليل على مشروعية الإيتار بخمس ركعات بقعدة واحدة، وهذا أحد أنواع إيتاره - صلى الله عليه وسلم -، كما أن الإيتار بواحدة أحدها كما أفاده حديثها السابق في باب صلاة الليل، وعلى أن القعود على آخر كل ركعتين غير واجب، ففيه رد على من قال بتعيين الثلاث، وبوجوب القعود بعد كل من الركعتين. قال الترمذي: وقد رأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم الوتر بخمس، وقالوا لا يجلس في شيء منهن إلا في آخرهن، وروى محمد بن نصر في قيام الليل عن إسماعيل بن زيد أن زيد بن ثابت كان يوتر بخمس ركعات لا ينصرف فيها. (أي لا يسلم). وقال الشيخ سراج أحمد السر هندي في شرح الترمذي: وهو مذهب سفيان الثوري، وبعض الأئمة- انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وهو الظاهر من كلام الشافعي ومذهبه، فقد حكى الربيع بن سليمان في (اختلاف مالك والشافعي) الملحق بكتاب الأم (ج7 ص189) أنه سأل الشافعي عن الوتر بواحدة ليس قبلها شيء فقال الشافعي/ نعم، والذي اختار أن أصلي عشر ركعات ثم أوتر بواحدة. ثم حكى الحجة عنه في ذلك، ثم قال قال الشافعي: وقد أخبرنا عبدالمجيد عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الآخرة منهن. فقلت للشافعي: فما معنى هذا؟ قال: هذه نافلة يسع أن يوتر بواحدة وأكثر، ونختار ما وصفت من غير أن نضيق غيره، وانظر المجموع للنووي (ج4 ص12، 13) فقد رجح جواز هذا لدلالة الأحاديث الصحيحة عليه- انتهى. والحديث مشكل على الحنفية جدا، فإنهم قالوا بوجوب القعود والتشهد بعد كل من الركعتين في الفرض والنفل جميعا، وأجابوا عنه بوجوه كلها مردودة باطلة، أحدها: أن المعنى لا يجلس في شيء للسلام بخلاف ما قبله من الركعات، ذكره
(7/497)
القاري. وقد رده صاحب البذل
حيث قال: وفيه نظر؛ لأن الحنفية قائلون بأن الوتر ثلاث لا يجوز الزيادة عليها،
فإذا صلى خمس ركعات، فإن نوى الوتر في أول التحريمة لا يجوز ذلك؛ لأن الزيادة على
الثلاث ممنوعة، وإن نوى النفل في أول التحريمة لا يؤدي الوتر بنية النفل، وإن قيل:
إنها كانت في ابتداء الإسلام ثم استقر الأمر على أن الوتر ثلاث ركعات فينافيه ما
سيأتي من حديث زرارة بن أوفي عند داود: فلم تزل تلك صلاة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - حتى بدن، فنقص من التسع ثنتين، فجعلها إلى الست والسبع وركعتيه وهو
قاعد حتى قبض على ذلك. وثانيها: أن المنفي جلسة الفراغ والاستراحة أي لا يجلس في
شيء من الخمس جلسة الفراغ والاستراحة إلا في آخرها أي بعد الركعة الآخرة، يعني بعد
الفراغ منها، وكانت الركعتان نافلتي الوضوء أو غيرها والثلاثة وترا. وفيه أن تخصيص
الجلوس المنفي بجلوس الاستراحة
وفي نسخة "الأخيرة"
متفق عليه.
1265-(4) وعن سعد بن هشام،
(7/498)
والفراغ يحتاج إلى دليل، وإذ لا دليل على ذلك فهو مردود على قائله، على أن قوله: إلا في آخرهن يدل على وجود الجلوس في آخر الركعات الخمس، بناء على أن "في" للظرفية، وهي تقتضي تحقق الجلوس داخل الصلاة لا خارجها، وعلى أن الأصل في الاستثناء الاتصال، وهذا ينافي كون المراد بالجلوس المنفي جلسة الفراغ. وثالثها: أن المعنى لم يكن يصلي من تلك الخمس جالسا إذ قد ورد أنه كان يصلي قائما وقاعدا، وعلى هذا فالمنفي من الجلوس هو الجلوس مقام، والاستثناء في قوله: إلا في آخرهن منقطع، كما في الوجه الثاني والمعنى لا يصلي جالسا إلا بعد أن يفرغ من الخمس. وهذا أيضا مردود لما تقدم آنفا. ورابعها: أن المراد بقوله: آخرهن الركعتان الأخيرتان، فالثلاثة الأول من الخمس وتر والركعتان بعده هما اللتان كان يصليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا بعد الوتر، والمعنى لم يكن يصلي شيئا من تلك الخمس جالسا إلا الركعتين الأخيرتين منها، وعلى هذا فالاستثناء متصل. وفيه أن هذا يرده قوله: يوتر من ذلك بخمس؛ لأنه يدل على أن الركعات الخمس كلها ركعات الوتر، ويبطله أيضا رواية الشافعي بلفظ: كان يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الآخرة منها، ورواية أبي داود: يوتر منها بخمس لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة فيسلم، وهذا ظاهر. وخامسها: أن المراد بآخرهن الركعة الأخيرة والمنفي بالجلوس الجلوس الخاص وهو الذي فيه تشهد بلا تسليم، فالمعنى لا يجلس بهذه المثابة إلا في ابتداء الركعة الأخيرة. وأما الجلوس بعد الركعتين فهو على المعروف المتبادر يعني مع التسليم. وهذا أيضا مردود يرده رواية الشافعي وأبي داود، كما لا يخفي، وهذه الوجوه كلها تحريف للحديث الصحيح وإبطال لمؤاده، واستهزاء بالسنة الثابتة الظاهرة وتحيل لدفعها، وهي تدل على شدة تعصب أصحابها وغلوهم في تقليد غير المعصوم، بل على بغضهم للسنة، ذكرناها مع كونها أضاحيك ليعتبر بها
(7/499)
أولوا الألباب والبصائر. (متفق
عليه) فيه نظر؛ لأن قوله: يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها، ليس عند
البخاري، بل هو من أفراد مسلم، وكان المصنف قلد في ذلك الجزري وصاحب المنتقى
والمنذري حيث نسبوا هذا السياق إلى الشيخين، والعجب من الحافظ أنه قال بعد ذكره في
بلوغ المرام: متفق عليه مع أنه عزاه في التلخيص (ص116) لمسلم فقط، اللهم إلا أن
يقال: إنهم أرادوا بذلك أن أصل الحديث متفق عليه لا السياق المذكور بتمامه، ولا
يخفى ما فيه، والحديث أخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص27، 28)
وغيرهم، وفي الإيتار بخمس أحاديث كثيرة، ذكرها الشوكاني في النيل.
1265- قوله: (وعن سعد) بسكون عين مهملة. (بن هشام) بن عامر الأنصاري المدني، ابن
عم أنس
قال: انطلقت إلى عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خلق رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى
الله عليه وسلم كان القرآن. قلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن وتر رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -. فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من
الليل، فيتسوك، ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر
الله، ويحمده، ويدعوه، ثم ينهض، ولا يسلم، فيصلي التاسعة، ثم يقعد، فيذكر الله،
ويحمده، ويدعوه، ثم يسلم تسليما يسمعنا،
(7/500)
ثقة من أوساط التابعين. قال في التقريب: استشهد بأرض الهند. وفي تهذيب التهذيب ذكر البخاري: أنه قتل بأرض مكران على أحسن أحواله. قال أبوبكر الحازمي: مكران بضم الميم، بلدة بالهند. وذكره ابن حبان في الثقات: وقال قتل بأرض مكران غازيا. (أنبئيني) وقال في رواية: حدثيني، يعني أخبريني. (عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بضمتين، وقد يسكن الثاني أي أخلاقه وشمائله وعاداته. (فإن خلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن) أي كان متمسكا بآدابه وأوامره ونواهيه ومحاسنه، ويوضحه أن جميع ما فصل في كتاب الله من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب مما قصه عن نبي أو ولي أو حث عليه أو ندب إليه أو ذكر بالوصف الأتم والنعت الأكمل كان - صلى الله عليه وسلم - متحليا به ومتوليا له ومتخلقا به وبالغا فيه من المراتب أقصاها، حتى جمع له من ذلك ما تفرق في سائر الخلائق، وكل ما نهى الله تعالى عنه فيه ونزه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يحوم حوله، ويبين ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. قال النووي: معناه العمل بالقرآن والوقوف عند حدود والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته-انتهى. وفيه إشارة إلى قوله تعالى. ?إنك لعلى خلق عظيم? [4:68]. (عن وتر رسول الله) أي عن وقته وكيفيته وعدد ركعاته. (كنا نعد) من الإعداد أي نهيئ. (له سواكه وطهوره) بالفتح أي ماء وضوئه، وفيه استحباب ذلك والتأهب بأسباب العبادة قبل وقتها والاعتناء بها. (فيبعثه الله) أي يوقظه. (ما شاء أن يبعثه) أي في الوقت المقدر الذي شاء بعثه فيه. وفي رواية: فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل. (من الليل) أي من ساعات الليل وأوقاته، فمن تبعيضية، وقيل: بيانيه. (فيتسوك) أولا. (ويتوضأ) فيه استحباب السواك عند القيام من النوم. (ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة) الخ. فيه مشروعية الإيتار بتسع ركعات متصلة لا
(8/1)
يسلم إلا في آخرها، ويقعد في
الثامنة ولا يسلم. (فيذكر الله) أي يقرأ التشهد. (ويحمده) أي يثني عليه. قال
الطيبي: أي يتشهد، فالحمد إذا لمطلق الثناء، إذ ليس في التحيات لفظ الحمد.
(ويدعوه) أي الدعاء المتعارف. (ثم ينهض) أي يقوم. (ثم يسلم تسليما يسمعنا) من الإسماع
أي يرفع صوته بالتسليم بحيث نسمعه، وفيه دليل على
ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني! فلما أسن صلى
الله عليه وآله وسلم وأخذ اللحم، أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في
الأولى، فتلك تسع يا بني! وكان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى صلاة أحب
أن يداوم عليها،
(8/2)
عدم وجوب الجلسة عند الركعتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ثمانيا متصلا بلا تخلل جلسات بينها على الشفعات، وهذا مخالف للحنفية لما تقدم أنهم قالوا بوجوب الجلسة للتشهد عند كل ركعتين، وأجابوا بأن المراد بالجلسة المنفية الجلسة الخالية عن السلام، قالوا: فالوتر منها ثلاث ركعات ست قبله من النفل. قال العيني وهذا اقتصار منها على بيان جلوس الوتر وسلامه؛ لأن السائل إنما سأل عن حقيقة الوتر ولم يسأل عن غيره، فأجابت مبينة بما في الوتر من الجلوس على الثانية بدون سلام، والجلوس أيضا على الثالثة بسلام، وسكتت عن جلوس الركعات التي قبلها وعن السلام فيها، كما أن السؤال لم يقع عنها فجوابها قد طابق سؤال السائل-انتهى. ولا يخفى ما فيه فإنه لا دليل على حمل الجلوس المنفي على الجلسة الخالية عن السلام. فالحديث ظاهر بل هو كالنص في نفي الجلوس قبل الثامنة، ونفي السلام قبل التاسعة مطلقا، وأنها كانت كلها بجلستين وسلام واحد، وهذا أحد أنواع إيتاره صلى الله عليه وسلم. (ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد) فيه مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس، ويدل عليه أيضا حديث أم سلمة وحديث أبي أمامة الآتيان في الفصل الثالث. وقد ذهب إليه بعض أهل العلم: وجعل الأمر في قوله الآتي: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا. مختصا بمن أوتر آخر الليل. وحمله النووي على أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان جواز النفل بعد الوتر وجواز التنفل جالسا، يعني أن الأمر فيه أمر ندب لا إيجاب، فلا تعارض بينهما. وقال الشوكاني: لا يحتاج إلى الجمع بينهما باعتبار الأمة؛ لأن الأمر يجعل آخر صلاة الليل وترا مختص بهم، وأن فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يعارض القول الخاص بالأمة، لاختصاص فعله للركعتين بعد الوتر بذاته - صلى الله عليه وسلم -، وأما الجمع باعتباره - صلى الله عليه وسلم - فهو أن يقال: إنه كان يصلي الركعتين بعد الوتر تارة ويدعهما تارة-انتهى.
(8/3)
والراجح عندي ما ذهب إليه
النووي أن الأمر في قوله اجعلوا الخ. للندب لا للإيجاب. (فلما أسن) أي كبر. (وأخذ
اللحم) وفي بعض نسخ مسلم: أخذه اللحم. قيل: أي السمن. وقال ابن الملك: أي ضعف قال
ابن حجر: إنما كان في آخر حياته قبل موته بنحو سنة. (أوتر بسبع وصنع في الركعتين
مثل صنعيه في الأولى) يعني صلاهما قاعدا، كما كان يصنع قبل أن يسن. وفي رواية:
فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم
إلا في السابعة. (فتلك تسع) فنقص ركعتين من التسع لأجل الضعف. (وكان نبي الله -
صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة) أي من النوافل. (أحب أن يداوم عليها)؛ لأن أحب
الأعمال عنده صلى الله عليه وسلم
وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل، صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة، ولا أعلم
نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح،
ولا صام شهرا كاملا غير رمضان)) رواه مسلم.
1266- (5) وعن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((اجعلوا آخر
صلاتكم بالليل وترا))
(8/4)
أدومها. (وكان إذا غلبه نوم أو وجع) أي منعه مرض أو ألم. (عن قيام الليل صلى بالنهار) أي في أوله ما بين طلوع الشمس إلى الزوال. (ثنتي عشرة ركعة) قيل: ثمان منها صلاة الليل وأربع صلاة الضحى، وفيه استحباب المحافظة على الأوراد وإنها إذا فاتت تقضى. (ولا صلى ليلة) تامة من أولها إلى آخرها. (إلى الصبح) قيل: هذا محمول على علمها، وإلا فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أحيا ليلة كله صلى فيه حتى الفجر، فقد أخرج النسائي في باب إحياء الليل عن خباب بن الأرت أنه راقب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها حتى كان مع الفجر-الحديث. (ولا صام شهرا كاملا غير رمضان) لا ينافيه ما روى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم شعبان كله؛ لأن المراد أنه كان يصوم أكثره. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص30، ج2: ص500).
(8/5)
1266- قوله: (اجعلوا آخر
صلاتكم بالليل) أي تهجدكم فيه. (وترا) أي اجعلوا صلاة الوتر في آخرها واستدل به
على أنه لا صلاة بعد الوتر. وقد اختلف السلف في ذلك في موضعين: أحدهما في مشروعية
ركعتين بعد الوتر جالسا، والثاني فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل في الليل، هل يكتفي
بوتره الأول وليتنفل ما شاء، أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل ثم إذا فعل ذلك يحتاج
إلى وتر آخر أولا، فأما الأول فقد تقدم الكلام فيه. وأما الثاني فذهب الأكثر وهم
الأئمة الأربعة، والثوري وابن المبارك وغيرهم إلى أنه يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض
وتره عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: لا وتران في ليلة، وهو حديث حسن. أخرجه أحمد
والترمذي وأبوداود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان من حديث طلق بن علي، وجعل هؤلاء
الأمر في حديث ابن عمر للندب، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز نقض الوتر، وقالوا:
يضيف إليها أخرى ويصلي ما بدأ له، ثم يوتر في آخر صلاته، والأول هو الراجح عندي.
قال الترمذي: واختلف أهل العلم في الذي يوتر من أول الليل ثم يقوم من آخره، فرأى
بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم نقض الوتر، وقالوا
يضيف إليها ركعة ويصلي ما بدا له ثم يوتر في آخر صلاته؛ لأنه لا وتران في ليلة،
وهو الذي ذهب إليه إسحاق، وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم
- وغيرهم: إذا أوتر من أول الليل ثم نام ثم قام من
رواه مسلم.
1267- (6) وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((بادروا الصبح بالوتر))
(8/6)
آخره أنه يصلي ما بدا له ولا ينقض وتره، ويدع وتره على ما كان، وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد وابن المبارك، وهذا أصح؛ لأنه قد روي من غير وجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى بعد الوتر-انتهى. وقد بسط الشيخ الكلام في هذه المسألة في شرح الترمذي وقال: هذا أي عدم نقض الوتر هو المختار عندي، ولم أجد حديثا مرفوعا صحيحا يدل على ثبوت نقض الوتر-انتهى. واستدل بهذا الحديث لأبي حنيفة على وجوب الوتر بأن اجعلوا صيغة الأمر، وأصل الأمر للوجوب وأجيب عنه من ثلاثة وجوه. الوجه الأول: أن أصل الأمر وإن كان للوجوب. لكنه إذا وجدت قرينة صارفة عن الوجوب يحمل على غير الوجوب، وقد صرح علماء الحنفية بأن صيغة "اجعلوا" في هذا الحديث ليست للوجوب. قال القاري: في المرقاة. اجعلوا أمر ندب، وكذا قال صاحب البذل (ج2:ص332) ولو سلم أن "اجعلوا" في هذا الحديث للوجوب فهو إنما يدل على وجوب جعل الوتر آخر صلاة الليل، أي إذا صليتم بالليل فعليكم أن تصلوا الوتر في آخر صلاة الليل لا في أولها ولا في وسطها، والحاصل أنه يدل على وجوب جعل آخر الصلاة بالليل وترا، لا على وجوب نفس الوتر، والمطلوب هذا لا ذاك، فالاستدلال به على وجوب الوتر غير صحيح. الوجه الثاني: أن صلاة الليل ليست بواجبة، فكذا آخرها. قال الحافظ في الفتح: قد استدل به بعض من قال بوجوبه، وتعقب بأن صلاة الليل ليست واجبة، فكذا آخرها، وبأن الأصل عدم الوجوب حتى يقول دليله-انتهى. الوجه الثالث: أنه لو ثبت من هذا الحديث وجوب الوتر لقال به ابن عمر، وأفتى به من غير تأمل وتردد، لكنه لما استفتى عنه لم يزد في فتياه على أن يقول: أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوتر المسلمون، كما سيأتي. (رواه مسلم) الحديث ليس من أفراد مسلم بل هو متفق عليه، فقد أخرجه البخاري في باب ليجعل آخر صلاته وترا من أبواب الوتر. وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3:ص34).
(8/7)
1267- قوله: (بادروا الصبح
بالوتر) أي عجلوا بأداء الوتر قبل طلوع الصبح. قال الطيبي: بادروا أي سارعوا كان
الصبح مسافر يقدم إليك طالبا منك الوتر وأنت تستقبله مسرعا بمطلوبه وإيصاله إلى
بغيته. وفي حديث أبي سعيد عند مسلم وغيره: أوتروا قبل أن تصبحوا أي تدخلوا في
الصبح، وهو دليل على أن الوتر قبل الصبح وأنه إذا طلع الفجر خرج وقت الوتر، وسيأتي
الكلام فيه، وقد استدل بهذا الحديث على وجوب الوتر. قال القاري في شرحه: أي أسرعوا
بأداء الوتر قبل الصبح، والأمر للوجوب عندنا-انتهى. وأجيب عنه بأنه إنما
رواه مسلم.
1268- (7) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خاف أن لا
يقوم من آخر الليل فليوتر
أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك
أفضل)) رواه مسلم.
1269- (8) وعن عائشة، قالت: ((من كل الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
من أول الليل، وأوسطه
وآخره،
يدل على وجوب الإيتار قبل طلوع الصبح لا على وجوب نفس الإيتار، والمطلوب هذا لا
ذاك، فالاستدلال به على وجوب الوتر باطل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي
وأبودواد ومحمد بن نصر والحاكم (ج1: ص301) والبيهقي (ج1: ص478).
(8/8)
1268- قوله: (من خاف أن لا
يقوم من آخر الليل) قال ابن الملك: "من" فيه للتبعيض أو بمعنى في. وفي
رواية: من خشي منكم أن لا يستيقظ من آخر الليل. (فليوتر أوله) أن ليصل الوتر في
أول الليل. (ومن طمع أن يقوم آخره) بالنصب على نزع الخافض، أي في آخره بأن يثق
بالانتباه. وفي رواية: ومن وثق بقيام من آخر الليل. (فان صلاة آخر الليل مشهودة)
أي محضورة تحضره ملائكة الرحمة. وقال الطيبي: أي يشهدها ملائكة الليل والنهار.
(وذلك) أي الإيتار في آخر الليل. (أفضل) فثوابه أكمل. وفي رواية: فإن قراءة القرآن
في آخر الليل محضورة وهي. (أي قراءة القرآن في آخر الليل) أفضل. وفي الحديث دلالة
على أن تأخير الوتر أفضل، ولكن إن خاف أن لا يقوم قدمه لئلا يفوته فعلا، وقد ذهب
جماعة من السلف إلى هذا وإلى هذا وفعل كل بالحالين، ويحمل الأحاديث المطلقة التي
فيها الوصية بالوتر قبل النوم والأمر به على من خاف النوم عنه. قال النووي: فيه
دليل صريح على أن تأخير الوتر إلى آخر الليل أفضل لمن وثق بالاستيقاظ آخر الليل،
وأن من لا يثق بذلك فالتقديم له أفضل، وهذا هو الصواب، ويحمل باقي الأحاديث
المطلقة على هذا التفصيل الصحيح الصريح-انتهى. وقد استدل بهذا الحديث على وجوب
الوتر. قال القاري: أمره بالإتيان عند خوف الفوت يدل على وجوبه-انتهى. وأجيب بأنه
يحتمل أن يكون أمره بالإتيان عند خوف الفوت لمزيد تأكده لا لوجوبه، وإذا جاء
الاحتمال بطل الاستدلال. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وابن ماجه
والبيهقي (ج3:ص35).
1269- قوله: (من كل الليل) قال الطيبي: "من" ابتدائية منصوبة بقوله:
(أوتر) أي أوتر من كل أجزاء الليل. وقيل: "من" بمعنى في، أي في جميع
أوقات الليل أوتر وقولها: (من أول الليل وأوسطه وآخره)
وانتهى وتره إلى السحر)) متفق عليه.
(8/9)
يدل أو بيان، والمراد أجزاء كل من الثلاثة الأقسام المستغرقة لليل فساوت ما قبلها، ثم المراد بأول الليل بعد صلاة العشاء، كما سيأتي. (وانتهى وتره) زاد أبوداود والترمذي حين مات أي قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم -. (إلى السحر) بفتح السين، وهو قبيل الصبح، وحكي الماوردي أنه السدس الأخير من الليل. وقيل: أوله الفجر الأول يعني اختار آخر العمر الوتر في آخر الليل، فهو أحب. قال النووي: معناه كان آخر أمره الإيتار في السحر، والمراد به آخر الليل كما قالت في الروايات الأخرى، ففيه استحباب الإيتار آخر الليل، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة عليه. قال: وفيه جواز الإيتار في جميع أوقات الليل بعد دخول وقته-انتهى. ويدل عليه أيضا حديث جابر وحديث ابن عمر السابقان وحديث علي عند ابن ماجه بنحو حديث عائشة، وحديث أبي مسعود عند أحمد والطبراني بلفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر من أول الليل وأوسطه وآخره. قال العراقي: إسناده صحيح. وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وحديث عبدالله بن قيس عند أبي داود، وحديث أبي موسى وعقبة بن عمرو عند الطبراني في الكبير، وحديث أبي قتادة عند أبي داود، وحديث أبي هريرة عند البزار والطبراني، وحديث عقبة بن عامر عند الطبراني أيضا، وهذه الأحاديث كلها بيان لوقت الوتر وأنه الليل كله لكن بعد مغيب الشفق من بعد صلاة العشاء إذ لم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أوتر في الوقت الذي قبل صلاة العشاء، وقد دل عليه صريحا حديث خارجة بن حذافة الآتي حيث قال: الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر. قال الشوكاني: أحاديث الباب تدل على أن جميع الليل وقت الوتر إلا الوقت الذي قبل صلاة العشاء، ولم يخالف في ذلك أحد لا أهل الظاهر ولا غيرهم، إلا ما ذكر في وجه لأصحاب الشافعي أنه يصح قبل العشاء، وهو وجه ضعيف صرح بذلك العراقي وغيره، وقد حكي صاحب المفهم الإجماع على أنه لا يدخل وقت الوتر إلا
(8/10)
بعد صلاة العشاء-انتهى. وقال
الحافظ: أجمعوا على أن ابتداء وقت الوتر مغيب الشفق بعد صلاة العشاء، كذا نقله ابن
المنذر لكن أطلق بعضهم (يعني أبا حنيفة فإن أول وقت الوتر عنده وقت العشاء إلا أنه
لا يقدم عليه عند التذكر. وقال النووي: وفي وجه في مذهبنا أنه يدخل بدخول وقت
العشاء) أنه يدخل بدخول العشاء قالوا ويظهر أثر الخلاث فيمن صلى العشاء، بأن أنه
كان بغير طهارة ثم صلى الوتر متطهرا أوظن أنه صلى العشاء فصلى الوتر فإنه يجزئ على
هذا القول دون الأول-انتهى. قلت: واختلفوا فيمن صلى العشاء قبل وقته في جمع
التقديم هل يجوز له الوتر قبل مغيب الشفق أم لا؟ فقال الشافعية والحنابلية: يصح
وتره، كما صرح به أصحاب فروعهم. وقالت المالكية: لا يصح بل يكون لغوا، كما صرح به
في الشرح الكبير من فروع المالكية. وأما عند الحنفية فلا يصح العشاء بجمع التقديم
فالوتر أولى أن لا يصح عندهم. وأما آخر وقت الوتر فهو إلى طلوع الفجر الثاني، وبعد
طلوع الفجر يكون قضاء، وهو المشهور المرجح الصحيح عند الأئمة
1270- (9) وعن أبي هريرة، قال: ((أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر،
وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام))
(8/11)
الثلاثة الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وعند المالكية للوتر وقتان: وقت اختيار، وهو إلى طلوع الفجر، ووقت ضرورة، وهو إلى تمام صلاة الصبح. ويكره تأخيره لوقت الضرورة بلا عذر، ويندب قطع صلاة الصبح للوتر لفذ لا لمؤتم، وفي الإمام روايتان. قال الحافظ: وحكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري، ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح، وحكاه القرطبي عن مالك والشافعي وأحمد، وإنما قاله الشافعي في القديم-انتهى. والقوال الراجح عندي أن ابتداء وقته مغيب الشفق بعد صلاة العشاء إلا في جمع التقديم، فيصح قبل الشفق بعد العشاء، وينتهي لطلوع الفجر الثاني، وبعد طلوع الفجر يكون قضاء لا أداء كما يدل الأحاديث التي أشرنا إليها. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، لكن عنده "قد أوتر" أي بزيادة قد قبل أوتر، وأيضا عنده "فانتهى" بدل وانتهى. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص35).
(8/12)
1270- قوله: (أوصاني) أي عهد
إلي وأمرني أمرا مؤكدا. (خليلي) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخليل
الصديق الخالص الذي تخللت محبته القلب فصارت في خلاله أي في باطنه. واختلف هل الخلة
أرفع من المحبة أو بالعكس، وقول أبي هريرة هذا لا يعارضه قوله - صلى الله عليه
وسلم -: لو كنت متخذا خليلا غير بي لأتخذت أبابكر؛ لأن الممتنع هو أن يتخذ هو -
صلى الله عليه وسلم - غيره تعالى خليلا، ولا يمتنع إتخاذ الصحابي وغيره النبي -
صلى الله عليه وسلم - خليلا. (بثلاث) أي خصال زاد في رواية: لا أدعهن حتى أموت.
ولفظ أبي داود: لا أدعهن في فر ولا حضر (صيام ثلاثة أيام) أي الثالث عشر، والرابع
عشر، والخامس عشر. (من كل شهر) يعني أيام البيض هذا هو الظاهر. وقيل: يوما من
أوله، ويوما من وسطه، ويوما من آخره. وقيل: كل يوم أول كل عشر، وصيام بالجر يدل من
ثلاث. (وركعتي الضحى) أي في كل يوم كما زاده أحمد وهما أقلها، ويجزئان عن الصدقة
التي تصبح على مفاصل الإنسان في كل يوم، وهي ثلاثمائة وستون مفصلا كما في حديث
مسلم عن أبي ذر وقال فيه: ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى، وفيه استحباب الضحى، وأن
أقلها ركعتان وعدم مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعلها لا ينافي
استحبابها؛ لأن حاصل بدلالة القول وليس من شرط الحكم أن تتظافر عليه أدلة القول
والفعل، لكن ما واظب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله مرجح على ما لم يواظب
عليه. (وأن أوتر قبل أن أنام) وفي رواية: ونوم على وتر، أي يكون النوم عقب الوتر
لا قبله، لا أنه لا بد من نوم بعده، ولعله أوصاه بذلك؛ لأنه خاف عليه الفوت
بالنوم، ففيه أن من خاف فوات الوتر
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
(8/13)
1271- (10) عن غضيف بن الحارث،
قال. ((قلت لعائشة: أرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل من الجنابة
في أول الليل أم في آخره؟ قالت: ربما اغتسل في أول الليل، وربما اغتسل في آخره،
قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة،
فالأفضل له التقديم ومن لا فالتأخير في حقه أفضل. قال الحافظ: لا معارضة بين وصية
أبي هريرة بالوتر قبل النوم وبين قول عائشة: وانتهى وتره إلى السحر؛ لأن الأول
لإرادة الاحتياط والآخر لمن علم من نفسه قوة، كما ورد في حديث جابر عند
مسلم-انتهى. قال القسطلاني: وقد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على
التهجد، فأمره بالضحى بدلا عن قيام الليل، ولهذا عليه السلام أن لا ينام إلا على
وتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر ولا عمر ولا غيرهما من الصحابة، لكن قد وردت وصيته
عليه الصلاة والسلام بالثلاث أيضا لأبي الدرداء، كما عند مسلم ولأبي ذر، كما عند
النسائي، فقيل: خصصهم بذلك لكونهم فقراء لا مال لهم، فوصاهم بما يليق بهم وهو
الصوم والصلاة، وهما من أشرف العبادات البدنية. وقال الحافظ: والحكمة في الوصية
على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام، ليدخل في الواجب منهما
بانشراح، ولنجبر ما لعله يقع فيه من نقص، وليثاب ثواب صوم الدهر بانضمام ذلك لصوم
رمضان، إذ الحسنة بعشر أمثالها. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي
والبيهقي (ج3 ص36) وأخرجه الترمذي مختصرا بلفظ: أمرني رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أن أوتر قبل أن أنام.
(8/14)
1271- قوله: (عن غضيف) بضم
الغين وفتح ضاد معجمتين وياء ساكنة وآخره فاء. (بن الحارث) بن زنيم الثمالي، يكن
أبا أسماء الحمصي تقدم ترجمته. قال المؤلف: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -،
وقد اختلف في صحبته وسمع أباذر وعمر وعائشة. (أرأيت) بكسر التاء أي أخبرني. (كان
يغتسل) بتقدير حرف الاستفهام أي هل كان يغتسل. وقيل: معنى أرأيت على الاستفهام
سواء كانت الرؤية بصرية أو علمية أي هل رأيت. (من الجنابة في أول الليل) أي على
الفور بعد الفراغ من الجنابة أي دائما. (أم في آخره) أي يغتسل في آخر الليل يعني
يؤخر الغسل إلى آخر الليل. (قالت) أي عائشة كانت له حالات مختلفة. (وربما اغتسل في
آخره) أي جامع أوله واغتسل آخره تيسيرا على الأمة ولبيان الجواز. (قلت الله أكبر)
استعظاما لشفقته على الأمة وتعجبا. (الحمد لله الذي جعل في الأمر) أي في أمر الشرع
أو في هذا الأمر. (سعة) بفتح السين المهملة يعني جعل في الاغتسال سعة، بأن يغتسل
متى شاء من الليل ولم يضيق عليه فيه بأن يغتسل على الفور، بل أباح لنا الأمرين
وبين لنا نبيه - صلى الله عليه وسلم - ذلك بتقديم الغسل مرة وتأخيره أخرى. قال
الطبي: دل على أن السعة من الله تعالى في التكاليف نعمة يجب تلقيها بالشكر، والله
أكبر دل على أن تلك
قلت: كان يوتر أول الليل أم في آخره؟ قالت: ربما أوتر في أول الليل، وربما أوتر في
آخره.
قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قلت: كان يجهر بالقراءة أم
يخفت؟ قالت:
ربما جهر به، وربما خفت. قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة)). رواه
أبوداود.
وروى ابن ماجه الفصل الأخير.
1272-(11) وعن عبدالله بن أبي قيس، قال: ((سألت عائشة: بكم كان رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان ثلاث، وعشر
وثلاث،
(8/15)
النعمة عظيمة خطيرة لما فيه من معنى التعجب (قلت كان يوتر) أي أكان يوتر؟ وفي أبي داود: قلت أرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر. (أول الليل) أي في أوله. (ربما أوتر) أي صلى الوتر. (في أول الليل) وهو القليل الأسهل. (وربما أوتر في آخره) وهو الكثير الأفضل بحسب ما رأى فيه مصلحة الوقت، وتقدم قولها أنه انتهى وتره إلى السحر. (قلت كان) أي أكان. (يجهر بالقراءة) أي في صلاة الليل. وفي أبي داود: قلت: أرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالقرآن. (أم يخفت) أي يسر بها. (ربما جهر به، وربما خفت) أي في ليلتين أو في ليلة بحسب ما يناسب المقام والحال. وفيه دليل على أن المرء مخير في صلاة الليل، يجهر بالقراءة أو يسر. (رواه أبوداود) في باب الجنب يؤخر الغسل من كتاب الطهارة، وسكت عنه هو والمنذري. ورواه النسائي في الطهارة مقتصرا على الفصل الأول وكذا البيهقي (ج1 ص199). (وروى ابن ماجه الفصل الأخير) أي الفقرة الأخيرة من فقرات الحديث، وهو قوله: قلت أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهر بالقرآن؟ الخ. وأخرجه الترمذي وأبوداود والبيهقي أيضا عن عبدالله بن أبي قيس عن عائشة مطولا.
(8/16)
1272- قوله: (وعن عبدالله بن
أبي قيس) ويقال ابن قيس، ويقال ابن موسى، والأول أصح، يكنى أبا الأسود النصري
الحمصي مولى عطية بن عازب، ويقال ابن عفيف، روى عن مولاه وابن عمر وعائشة وغيرهم.
قال في التقريب: ثقة مخضرم. وقال العجلي: تابعي ثقة. (بكم) أي ركعات. (كان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر) أي يصلي صلاة الليل مع الوتر. (كان يوتر بأربع)
أي ركعات بتسليمة أو بتسليمتين. (وثلاث) أي بتسليمة، كما هو الظاهر، فيكون سبعا،
أربع منها صلاة الليل، وثلاث الوتر. (وست) أي وبست ركعات بتسليمتين أو بثلاث.
(وثلاث) فيكون تسعا، ست منها صلاة الليل، وثلاث الوتر. (وثمان وثلاث) فيكون إحدى
عشرة ركعة. (وعشر وثلاث) فيكون ثلاث عشرة ركعة. واعلم أن عائشة أطلقت في هذه
الرواية على جميع صلاته - صلى الله عليه وسلم -
ولم يكن يوتر بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة))، رواه أبوداود.
1273-(12) وعن أبي أيوب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوتر حق
على كل مسلم،
(8/17)
في الليل التي كان فيها الوتر، وترا. وقد أطلقه غيرها أيضا. قال الترمذي بعد روايته حديث أم سلمة بلفظ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -يوتر بثلاث عشرة، فلما كبر وضعف أوتر بسبع، ما لفظه: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوتر بثلاث عشرة وإحدى عشرة وتسع وسبع وخمس وثلاث وواحدة. قال إسحاق بن إبراهيم. (يعني ابن راهوية): معنى ما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث عشرة، قال إنما معناه أنه كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، فنسبت صلاة الليل إلى الوتر. (أي أطلق على صلاة الليل مع الوتر لفظ الوتر فمعنى يوتر بثلاث عشرة أي يصلي صلاة الليل مع الوتر ثلاث عشرة ركعة) وروي في ذلك حديثا. (كأنه يشير إلى حديث عبدالله بن أبي قيس هذا) ، واحتج بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أوتروا يا أهل القرآن، قال إنما عنى به قيام الليل يقول إنما قيام الليل، على أصحاب القرآن- انتهى. قلت: في إتيان عائشة بثلاث في كل عدد دلالة ظاهرة بأن الوتر في هذه الرواية في الحقيقة هو الثلاث، وما وقع قبله من مقدماته المسمى بصلاة التهجد. فالمراد بالوتر هنا صلاة الليل كلها. ويؤيده ما تقدم من حديث ابن عمر: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا. (ولم يكن يوتر) أي يصلي صلاة الليل مع الوتر. (بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة) أي غالبا، وإلا فقد ثبت أنه أوتر بخمس عشرة. وهذا الاختلاف بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت وضيقه وطول القراءة، كما جاء في حديث حذيفة وابن مسعود، أو من نوم، أو من مرض وغيرهما، أوفي بعض الأوقات عند كبر السن، كما قالت: فلما أسن صلى أربع ركعات. والحاصل أن ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز، وبهذا يجمع بين ما اختلف الروايات عن عائشة. (رواه أبوداود) ومن طريقة البيهقي (ج3 ص28) ، وسكت عنه أبوداود والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد والطحاوي (ج1 ص168) وإسناده
(8/18)
حسن.
1273- قوله: (الوتر حق) قال الطيبي: الحق يجيء بمعنى الثبوت والوجوب. فذهب
أبوحنيفة إلى الثاني، والشافعي إلى الأول أي ثابت في الشرح والسنة. وفيه نوع
تأكيد- انتهى. وقال السندي: قد يستدل به من يقول بوجوب الوتر بناء على أن الحق هو
اللازم الثابت على الذمة. ويجيب من لا يرى الوجوب بأن معنى حق أنه مشروع
ثابت-انتهى. وذكر المجد بن تيمية في المنتقى أن ابن منذر روى هذا الحديث بلفظ:
الوتر حق، وليس بواجب. وهذا صريح في أن لفظ حق هنا بمعنى الثابت في الشرع لا
الواجب، ولو سلم أنه بمعنى
فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر
بواحدة
فليفعل)).
(8/19)
واجب، بل ولو ورد لفظ واجب صريحا، لم يكن فيه حجة لمن يقول بوجوب الوتر؛ لأنه يكون مصروفا إلى معنى المسنون المؤكد للأدلة الصريحة على الدالة على عدم الوجوب. والواجب قد يطلق على المسنون تأكيدا، كما سلف تأويل الجمهور في غسل الجمعة. واعلم أنه ذهب الجمهور إلى أن الوتر غير واجب، وخالف الإمام أباحنيفة صاحباه الإمام يوسف والإمام محمد، فذهبا أيضا إلى ما ذهب إليه الجمهور، وقالا بعدم وجوب الوتر، ولم يوافق أباحنيفة إلا عدة من أهل العلم. قال الحافظ: قد بالغ الشيخ أبوحامد فادعى أن أباحنيفة قال بوجوب الوتر، ولم يوافقه صاحباه، مع أن ابن أبي شيبة أخرج عن سعيد بن المسيب وأبي عبيدة ابن عبدالله بن مسعود والضحاك ما يدل على وجوبه عندهم. وعنده عن مجاهد الوتر واجب، ولم يثبت. ونقله ابن العربي عن أصبغ من المالكية، ووافقه سحنون، وكأنه أخذه من قول مالك: من تركه ادب، وكان جرحة في شهادته- انتهى. قلت: والقول الراجح المنصور هو ما قال به لجمهور. قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (ج2 ص13): والحق أن الوتر سنة، هو أوكد السنن، بينه علي وابن عمر وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم. (فمن أحب أن يوتر بخمس فلفعل) بأن لا يجلس إلا في آخرهن كما تقدم من حديث عائشة. ويحتمل على بعد أن يصلي ركعتين، ثم يصلي ثلاثا، كما هو مذهب أبي حنيفة. (ومن أحب أن يوتر بثلاث) أي موصولة بتسليمة وبتشهد، فلا يجلس إلا في آخرها، هذا هو الظاهر. ويؤيده حديث عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث، لا يقعد إلا في آخرهن. أخرجه الحاكم والبيهقي. وقيل: مفصولة بتسليمتين، والكل واسع، والخلاف في الأفضل. (فليفعل) في دليل على الإيتار بثلاث موصولة. ولا يعارضه ما روي عن أبي هريرة مرفوعا: لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب، ولكن أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة أو أكثر من ذلك. أخرجه محمد بن نصر والبيهقي وغيرهما؛ لأنه يجمع
(8/20)
بينهما بأن النهي عن الثلاث
إذا كان يقعد للتشهد الأوسط؛ لأنه يشبه المغرب. وأما إذا لم يقعد إلا في آخرها فلا
يشبه المغرب. قال الأمير اليماني في السبل (ج2 ص9): وهو جمع حسن. وقال الحافظ في
الفتح: وجه الجمع أن يحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف، يعني
الإيتار بثلاث بتشهد واحد، فروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهض في
الثانية من الوتر بالتكبير، ومن طريق المسور بن مخرمة أن عمر أوتر بثلاث، لم يسلم
إلا في آخرهن، ومن طريق ابن طاووس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث، لا يقعد بينهن، ومن
طريق قيس بن سعد عن عطاء وحماد بن زيد عن أيوب مثله. وروى محمد بن نصر عن ابن
مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاث
(1) وفي نسخة " بعض"
رواه أبوداود، والنسائي وابن ماجه.
1274- (13) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وتر
______________________________________________________________________________________________________________________
(8/21)
كالمغرب، وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور- انتهى كلام الحافظ. قلت: ويؤيد هذا الجمع ما قدمنا من حديث عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يوتر بثلاث، لا يقعد إلا في آخرهن، وهو حديث حسن أو صحيح. وقال: بعض الحنفية في تأويل قوله: "لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب" الخ. إن معنى أنه لا يترك تطوعا قبل الإيتار بثلاث، فرقا بينه وبين المغرب، فكره إفراد الوتر حتى تكون معه شفع، فمحط النهي هو جعل الوتر ثلاثا بحيث لم يتقدمهن شيء. فأما إذا قدم عليهن شفعا فلا يكره لعدم المشابهة بينه وبين المغرب حينئذ؛ لأنه لا يندب الصلاة قبل الفرض المغرب. وفيه أن هذا التأويل سخيف جدا بل هو باطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون التطوع قبل الإيتار بثلاث، وتقديم الشفع عليه واجبا، واللازم باطل، فالملزوم مثله، ولأن التطوع قبل فرض المغرب سنة ثابتة ندب إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا وفعلا وتقريرا، كما ذكرنا مفصلا، وحينئذ لا يرتفع المشابهة بينه والمغرب على هذا التأويل، فتفكر. ولبطلانه وجوه أخرى لا تخفى على المتأمل، وارجع إلى تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (ج1 ص339، 340). (ومن أحب أن يوتر بواحدة) ظاهره مقتصرا عليها. قال النووي: فيه دليل على أن أقل الوتر ركعة، وأن الركعة الواحدة صحيحة. وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وقال أبوحنيفة: لا يصح الإيتار بواحدة، ولا تكون الركعة الواحدة صلاة، والأحاديث الصحيحة ترد عليه. (رواه أبوداود والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص418) وابن حبان والدارمي والطحاوي (ص172) والطيالسي (ص81) والدارقطني (ص171) والحاكم (ج1 ص303) والبيهقي (ج3 ص23، 24، 27) وسكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: على شرطهما. وقال المنذري: وقد وقفه بعضهم ولم يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه أبوداود والنسائي وابن ماجه مرفوعا من رواية بكر بن وائل عن الزهري، وتابعه على رفعه الإمام أبوعمرو
(8/22)
الأوزاعي وسفيان بن حسين ومحمد
بن أبي حفصة وغيرهم. ويحتمل أن يكون يرويه مرة فتياه ومرة من روايته- انتهى. وقال
الحافظ في التلخيص (ص116): وصحح أبوحاتم والذهلي والدارقطني في العلل، والبيهقي
وغير واحد وقفه، وهو الصواب، وقال في بلوغ المرام: رجح النسائي وقفه. وقال الأمير
اليماني: وله حكم الرفع، إذ لا مسرح للاجتهاد فيه أي في المقادير. وقال النووي:
إسناده صحيح، ورجح ابن قطان الرفع، وقال: لا حفظ من لم يحفظه.
1274- قوله: (إن الله وتر) قال الجزري: الوتر الفرد وتكسر واؤه وتفتح، فالله واحد
في ذاته لا يقبل الانقسام والتجزئة، واحد في صفاته فلا شبه له ولا مثل، واحد في
أفعاله فلا شريك له ولا معين.
يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن)). رواه الترمذي، أبوداود، والنسائي.
(8/23)
(يحب الوتر) أي يثيب عليه ويقبله من عامله. قال القاضي: كل ما يناسب الشيء أدنى مناسبة كان أحب إليه مما لم يكن له تلك المناسبة. (فأوتروا) أمر بصلاة الوتر، وهو أن يصلي مثنى مثنى، ثم يصلي في آخرها ركعة مفردة أو يضيفها إلى ما قبلها من الركعات. كذا في النهاية. وقال الطيبي: يريد بالوتر في هذا الحديث قيام الليل، فإن الوتر يطلق عليه، كما يفهم من الأحاديث، فلذلك خص الخطاب بأهل القرآن- انتهى. قال ابن الملك: الفاء تؤذن بشرط مقدر، كأنه قال: إذا اهتديتم إلى أن الله يحب الوتر فأوتروا- انتهى. والأمر للندب. (يا أهل القرآن) يعني المؤمنين المصدقين به، أو المتولين بحفظه وتلاوته. وقال القاري: أي أيها المؤمنون به، فإن الأهلية عامة شاملة لمن آمن به سواء قرأ أو لم يقرأ وإن كان الأكمل منهم من قرأ وحفظ، وعلم وعمل ممن تولى قيام تلاوته ومراعاة حدود وأحكامه- انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص285) تخصيصه أهل القرآن بالأمر فيه يدل على أن الوتر غير واجب، ولو كان واجبا لكان عاما، وأهل القرآن في عرف الناس هم القراء والحفاظ دون العوام. ويدل على ذلك أيضا قوله للأعرابي: ليس لك ولأصحابك- انتهى. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا ابن ماجه كلهم من رواية عاصم بن ضمرة عن علي. وفي رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن علي رضي الله عنه قال: الوتر ليس بحتم، ولا كصلاتكم المكتوبة. وفي بعضها: ولكنه سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال إن الله تعالى وتر الخ. وهذا ظاهر، بل نص في عدم وجوب الوتر، كما عليه الجمهور، ويدل عليه أيضا ما روي عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى حديث علي زاد: فقال أعرابي: ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليس لك ولأصحابك. أخرجه أبوداود وابن ماجه والبيهقي من طريق أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود. وأبوعبيدة لم يسمع من أبيه ابن مسعود. قال
(8/24)
السندي: قوله: "ليس لك
ولا لأصحابك" أي ممن ليس بأهل القرآن ظاهره الرفع لا الوقف. وهذا ينافي وجوب
الوتر عموما أو استنانه، إذا قلنا المراد بالوتر في هذا الحديث صلاة الليل، نعم
ينبغي أن تكون صلاة الليل مخصوصة بأهل القرآن، فيمكن أن يكون التأكيد في حقهم،
ويكون في حق الغير ندبا بلا تأكيد- انتهى. ويدل عليه أيضا ما روي عن ابن عباس
مرفوعا: ثلاث على الفرائض، وهي لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر. أخرجه أحمد
والدارقطني والطبراني والبيهقي والحاكم، وقال البيهقي في روايته: ركعتا الضحى بدل
ركعتي الفجر، وهو حديث ضعيف، كما بينه الحافظ في التلخيص. ويدل عليه أيضا ما أخرجه
الحاكم والبيهقي عن عبادة بن الصامت بلفظ: قال الوتر حسن جميل عمل به النبي - صلى
الله عليه وسلم - ومن بعده. وليس بواجب، ورواته ثقات، قاله البيهقي. ويدل أيضا
عليه ما روي عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتر على بعيره.
أخرجه الجماعة، فهو ظاهر في عدم الوجوب؛
1275-(14) وعن خارجة بن حذفة قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
قال: إن الله أمدكم بصلاة
(8/25)
لأن الفريضة لا تصلى على الراحلة. وأجاب الحنفية عنه بأن هذا كان قبل وجوب الوتر. وفيه أن لم يقم دليل على وجوبه حتى يحمل على أنه كان ذلك قبل الوجوب. وقد روى عبدالرزاق عن ابن عمر أنه كان يوتر على راحلته، وربما نزل فأوتر بالأرض. ويدل أيضا عليه ما علم من الدين بالضرورة أن الصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمس، فلو كان الوتر واجبا لصار المفروض ست صلوات في كل يوم وليلة، ولا فرق بين الواجب والفرض في لزوم الأداء عملا، مع أن حديث طلحة بن عبيد الله عند الشيخين يدل على أنه لا يلزم العبد صلاة في اليوم والليلة غير الصلوات الخمس إلا أن يتطوع، ففيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. وفي الباب أحاديث وآثار تدل على عدم وجوب الوتر، ذكرها محمد بن نصر في قيام الليل. وفي ما ذكرنا كفاية.
(8/26)
1275- قوله: (وعن خارجة بن
حذافة) بحاء مهملة مضمومة وخفة ذال معجمة وفاء بعد الألف، ابن غانم القرشي العدوي.
صحابي من مسلمة الفتح، وكان أحد فرسان قريش، يقال: كان يعدل بألف فارس، روي أن
عمرو بن العاص استمد من عمر بثلاثة آلاف فارس، فأمده بخارجة بن حذافة هذا والزبير
بن العوام والمقداد بن الأسود. سكن خارجة مصر واختلط بها، وكان قاضيا لعمرو بن
العاص بمصر. وقيل: كان على شرطته وعداده في أهل مصر؛ لأنه شهد فتح مصر، ولم يزل
فيها إلى أن قتل بها، قتله أحد الخوارج الثلاثة الذين كانوا انتدبوا لقتل علي
ومعاوية وعمرو، فأراد الخارجي قتل عمرو فقتل خارجة هذا، وهو يظنه عمرا. وذلك أنه
كان استخلفه عمرو على صلاة الصبح ذلك اليوم، فلما قتله أخذ وأدخل على عمرو. فقال
الخارجي: أردت عمرا وأراد الله خارجة، فذهبت مثلا. وكان قتله سنة أربعين ليلة قتل
علي بن أبي طالب. وليس له غير هذا الحديث الواحد. (إن الله أمدكم بصلاة) أي زادكم
كما في بعض الروايات، قاله الطيبي. وقال محمد طاهر الفتني في مجمع البحار: هو من
أمد الجيش. إذا ألحق به ما يقويه، أي فرض عليكم الفرائض ليوجركم بها ولم يكتف به،
فشرع صلاة التهجد والوتر ليزيدكم إحسانا على إحسان- انتهى. وقال القاري: أي جعلها
زيادة لكم في أعمالكم من مد الجيش وأمده أي زاده. قال الخطابي في المعالم (ج1
ص285): قوله "أمدكم بصلاة" يدل على أنها غير لازمة لهم، ولو كانت واجبة
لخرج الكلام فيه على صيغة الإلزام، فيقول ألزمكم. أو فرض عليكم، أو نحو ذلك من
الكلام. وقد روي أيضا في هذا الحديث: أن الله قد زادكم صلاة. ومعناه الزيادة في
النوافل. وذلك أن نوافل الصلوات شفع لا وتر فيها، فقيل: أمدكم بصلاة وزادكم بصلاة
لم تكونوا تصلونها قبل على تلك الهيئة
هي خير لكم من حمر النعم. الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع
الفجر)).
رواه الترمذي، وأبوداود.
(8/27)
والصورة، وهي الوتر- انتهى. (هي خير لكم من حمر النعم) بضم الحاء وسكون الميم، جمع أحمر. والنعم هنا الإبل، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، وإنما قال ذلك ترغيبا للعرب فيها؛ لأن حمر النعم أعز أموال العرب عندهم، فكانت كناية عن أنها خير من الدنيا كلها؛ لأنها ذخيرة الآخرة التي هي خير وأبقى. وقيل: المراد إنها خير لكم من أن تتصدقوا بها، وهو اعتقادهم الخيرية فيها، وإلا فذرة من الآخرة خير من الدنيا وما فيها. (الوتر) بالجر بدل من صلاة بدل المعرفة من النكرة، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف بتقدير هي الوتر. وجوز النصب بتقدير أعني (جعله الله لكم) أي وقت الوتر. (فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر) فيه دليل على أن أول وقت الوتر يدخل بالفراغ من صلاة العشاء، ويمتد إلى طلوع الفجر، كما قالت عائشة: وانتهى وتره إلى السحر. قال المجد بن تيمية في المنتقى: فيه دليل على أنه لا يعتد به قبل العشاء بحال. واستدل الحنفية بهذا الحديث على وجوب الوتر. وذلك بوجوه: الأول أنه أضاف الزيادة إلى الله تعالى، والسنن إنما تضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: أن الزيادة إنما تتحقق في الواجبات؛ لأنها محصورة العدد، لا في النوافل؛ لأنها لا نهاية لها. والثالث: أن الزيادة على الشيء لا تتصور إلا إذا كان من جنس المزيد عليه. والرابع: أنه جعل له وقتا معينا، وهو من أمارات الوجوب. وقد رد عليهم ابن العربي في شرح الترمذي، حيث قال به احتج علماء أبي حنيفة، فقالوا: إن الزيادة لا تكون إلا من جنس المزيد عليه، وهذه دعوى، بل تكون الزيادة من غير جنس المزيد، كما لو ابتاع بدرهم، فلما قضاه زاده ثمنا أو ربحا إحسانا، كزيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لجابر في ثمن الجمل، فإنها زيادة، وليست بواجبة. وليس في هذا الباب حديث صحيح يتعللون به- انتهى. وقال الحافظ الدارية: ليس في قوله: "زادكم" دلالة على وجوب الوتر؛ لأنه لا يلزم أن يكون
(8/28)
المزاد من جنس المزيد، فقد روى
محمد بن نصر المروزي في الصلاة من حديث أبي سعيد رفعه: أن الله زادكم صلاة إلى
صلاتكم، هي خير لكم من حمر النعم، ألا وهي الركعتان قبل الفجر، وأخرجه البيهقي (ج2
ص469) ونقل عن ابن خزيمة أنه قال: لو أمكنني لرحلت في هذا الحديث- انتهى. قلت:
حديث أبي سعيد هذا يرد على جميع وجوه استدلالهم المتقدمة، ويقطع جميع ما ذكره صاحب
البدائع من وجوه الاستدلال، وهو حديث مشكل على الحنفية جدا. وقد ذكر ابن الهمام في
فتح القدير على الهداية هذا الإشكال، ثم قال: فالأولى التمسك بما في أبي داود عن
بريدة مرفوعا: الوتر حق، فمن لم يوتر فليس مني الخ. قلت: يريد به ما سيأتي في
الفصل الثالث من حديث بريدة بلفظ: الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا الخ. وسيأتي
هناك الجواب عنه. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا الطحاوي (ج1 ص250)
1276-(15) وعن زيد بن أسلم، قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام
عن وتره فليصل إذا أصبح)).
(8/29)
والحاكم (ج1 ص306) وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه لتفرد التابعي عن الصحابي، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن سعد في الطبقات (ج4 ق1 ص139) والبيهقي (ج2 ص469و 478) والدارقطني (ص274) والطبراني وابن عدي في الكامل وابن عبدالحكم في فتوح مصر (ص259،260) كلهم من طريق عبدالله بن راشد الزوفي أبي الضحاك عن عبدالله بن أبي مرة عن خارجه بن حذافة. وعبدالله بن راشد. قال الحافظ في التقريب: مستور. وقال الذهبي في الميزان في ترجمته: روى عن عبدالله بن أبي مرة الزوفي عن خارجة بحديث الوتر، رواه عنه يزيد بن أبي حبيب، وخالد بن يزيد قيل: لا يعرف سماعه من ابن أبي مرة. قلت: ولا هو بالمعروف. وذكره ابن حبان في الثقات- انتهى. قال الحافظ في التهذيب: وقال أي ابن حبان يروى عن عبدالله بن أبي مرة أن كان سمع منه، ومن اعتمده فقد اعتمده فقد اعتمد إسنادا مشوشا- انتهى. وأما عبدالله بن أبي مرة فقال الحافظ في التقريب: صدوق. أشار البخاري إلى أن روايته عن خارجة منقطعة. وقال في التهذيب: لا يعرف سماعه من ابن أبي مرة. قلت: نقل ابن عدي في الكامل عن البخاري أنه قال لا يعرف سماع بعض هؤلاء من بعض. وقال ابن حبان: إسناد منقطع ومتن باطل- انتهى. لكن الحديث له شواهد: منها حديث عمرو بن العاص وعقبة بن عامر، أخرجه ابن راهويه والطبراني في الكبير والأوسط. وفيه سويد بن عبدالعزيز، وهو متروك، قاله الهيثمي (ج2 ص340). ومنها حديث ابن عباس، أخرجه الدارقطني والطبراني، وفي سنده النضر أبوعمر الخزار، وهو ضعيف، ومنها حديث أبي بصرة أخرجه أحمد والحاكم والطبراني. وبعض أسانيده صحيح. ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أخرجه الدارقطني. وفي سنده محمد بن عبيدالله العزرمي، وهو متروك، وأخرجه أيضا أحمد. وفي سنده الحجاج ابن أرطاة، وهو غير ثقة. ومنها حديث ابن عمر أخرجه الدارقطني في غرائب مالك. وفيه حميد بن أبي الجون، وهو ضعيف. ومنها حديث أبي سعيد أخرجه
(8/30)
الطبراني في مسند الشاميين.
قال الحافظ في الدراية (ص112): بإسناد حسن.
1276- قوله: (وعن زيد بن أسلم) من ثقات التابعين المشهورين، وهو مولى عمر. (من نام
عن وتره) أي عن أدائه. (فليصل إذا أصبح) أي فليقض الوتر بعد الصبح متى اتفق، وكذا
من نسي الوتر فليصله إذا ذكر. ففيه دليل على أن من نام عن وتره أو نسيه فحكمه حكم
من نام عن الفريضة أو نسيها أنه يأتي بها عند الاستيقاظ أو الذكر. وهذا يدل على
مشروعية قضاء الوتر. واختلف فيه العلماء: فذهب مالك إلى أن الوتر يصلي إلى تمام
صلاة الصبح أداء، ولا قضاء له بعد ذلك، يعني أنه لا يقضي بعد صلاة الصبح. وذهب
الشافعي وأحمد إلى سنية القضاء، وقالا: إنه يقضى أبدا ليلا ونهارا. وذهب أبوحنيفة
وصاحباه إلى وجوب القضاء. واستشكل قول الصاحبين؛ لأن وجوب القضاء فرع لوجوب
الأداء، وقد قالا بسنية الوتر لا بوجوبه. وأجيب بأنهما لما ثبت
رواه الترمذي مرسلا.
1277 -(16) وعن عبدالعزيز بن جريج، قال: سألنا عائشة: بأي شيء كان يوتر رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -؟
(8/31)
عندهما دليل السنية ذهبا إليه، ولما ثبت دليل وجوب القضاء قالا به اتباعا للنص وإن خالف القياس. والراجح عندي ما ذهب إليه الشافعي وأحمد من أن الوتر يقضى أبدا ليلا ونهارا، لكن ندبا لا وجوبا، خلافا لمالك، فإنه قال بعدم مشروعية القضاء، وخلافا للأئمة الحنفية، فإنهم ذهبوا إلى وجوب القضاء. وذهب بعض العلماء إلى التفرقة بين أن يتركه نوما أو نسيانا، وبين أن يتركه عمدا، فيقضيه في الأول إذا استيقظ أو إذا ذكر في أي وقت كان ليلا أو نهارا. قال الشوكاني: وهو ظاهر الحديث. واختاره ابن حزم، واستدل بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، قال: وهذا عموم يدخل فيه كل صلاة فرض أو نافلة، وهو في الفرض أمر فرض، وفي النفل أمر ندب، قال: ومن تعمد تركه حتى دخل الفجر فلا يقدر على قضائه أبدا، قال فلو نسيه أحببنا له أن يقضيه أبدا متى ذكره ولو بعد أعوام. وقد استدل بالأمر بقضاء الوتر على وجوبه. وحمله الجمهور على الندب. ويكون المعنى أن المندوب يقضى كالواجب لكن ندبا لا وجوبا، وقد جاء قضاء المندوب. (رواه الترمذي مرسلا) من طريق عبدالله بن زيد بن أسلم عن أبيه زيد بن أسلم. وأخرجه أيضا هو وابن ماجه ومحمد بن نصر موصولا من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد، وسيأتي في الفصل الثالث. قال الترمذي: والمرسل أصح من الموصول أي؛ لأن عبدالرحمن ابن زيد ضعيف، وأخوه عبدالله ابن زيد أحسن حالا منه وأمثل وأثبت، وثقه أحمد ومعن بن عيسى القزاز. وقال أبوحاتم ليس به بأس. وقال الحافظ: صدوق فيه لين، ولكن الحديث صحيح من طريق أخرى فقد رواه أبوداود في السنن والدارقطني (ص171) والحاكم (ج1 ص302) والبيهقي (ج2 ص480) كلهم من طريق أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه أيضا
(8/32)
الحافظ العراقي. قال الشوكاني:
وإسناد الطريق التي أخرجه منها أبوداود صحيح، كما قال العراقي.
1277- قوله: (وعن بد العزيز بن جريج) بضم الجيم الأولى وفتح الراء وسكون الياء،
تابعي لين. قال العجلي: لم يسمع من عائشة، وأخطأ خصيف. (راوي هذا الحديث عنه) فصرح
بسماعه، كذا في التقريب. وقال البخاري والعقيلي: لا يتابع في حديثه. وذكره ابن
حبان في الثقات. (قال: سألنا عائشة) هذا لفظ الترمذي. وفي رواية أبي داود قال:
سألت عائشة. (بأي شيء) أي من السور. (كان يوتر) أي يصلي الوتر وقال ابن حجر أي بأي
قالت: كان يقرأ في الأولى بـ?سبح اسم ربك الأعلى? وفي الثانية بـ?قل يأيها
الكافرون? وفي الثالثة بـ?قل هو الله أحد? والمعوذتين)) رواه الترمذي، وأبوداود.
____________________________________________
(8/33)
شيء من القرآن يقرأ في وتره؟ (كان يقرأ في الأولى) أي من الثلاث بـ?سبح اسم ربك الأعلى? أي بعد الفاتحة. (وفي الثالثة) فيه إشارة إلى أن الثلاث بسلام واحد. قال الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص119): ظاهر الحديث أن الثالثة متصلة غير منفصلة، وإلا لقال: وفي ركعة الوتر أو الركعة المفردة أو نحو ذلك. ولكن يعكر عليه في لفظه للدارقطني (ص172) والطحاوي (ص168) والحاكم (ج2:ص305) والبيهقي (ج3:ص37) عن عائشة أيضا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما بـ?سبح اسم ربك الأعلى? و ?قل يا أيها الكافرون? ويقرأ في الوتر بـ?قل هو الله أحد? و ?قل أعوذ برب الفلق? و ?قل أعوذ برب الناس? انتهى. وقال الحافظ في الدراية بعد ذكر هذه الرواية: وهو يرد استدلال الطحاوي بأنه لو كان مفصولا لقال: وركعة الوتر أو الركعة المفردة أو نحو ذلك-انتهى. وقال الحاكم في المستدرك بعد روايته. وسعيد بن عفير. (يعني الذي روى عن يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة) إمام أهل مصر بلا مدافعة، وقد أتى بالحديث مفسرا مصلحا دالا على أن الركعة التي هي الوتر ثانية غير الركعتين اللتين قبلهما-انتهى. أي فيحمل ما أجمله غيره كسعيد بن الحكم بن أبي مريم وغيره على هذا المفصل. (والمعوذتين) بكسر الواو، وتفتح. وفي الحديث دليل على مشروعية قراءة ثلاث سور الإخلاص والمعوذتين في الركعة الثالثة من الوتر، لكن اختار أكثر أهل العلم قراءة الإخلاص فقط.؛ لأن حديث عائشة فيه كلام، وحديث أبي بن كعب وابن عباس بإسقاط المعوذتين أصح. وقال ابن الجوزي: أنكر أحمد وابن معين زيادة المعوذتين. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص38)، وسكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، لكن قال شيخنا في شرح الترمذي: في كونه حسنا نظر، فإن عبدالعزيز بن جريج لم يسمع من عائشة. (كما قال العجلي وابن حبان والدارقطني) وأيضا فيه خصيف،
(8/34)
وهو قد خلط بآخره، ولا يدرى أن
محمد بن سلمة رواه عنه قبل الاختلاط أو بعده، والله أعلم، نعم يعتضد برواية عمرة
عن عائشة التي أشار إليها الترمذي يعني التي تقدم لفظها في كلام الزيلعي. وقال
العلامة أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي متعقبا على كلام الشيخ ما لفظه: وليس هذا
بشيء. أما خصيف فإنه ثقة. تكلم بعضهم في حفظه، كما سبق، وعبدالعزيز بن جريج قديم؛
لأن ابنه عبدالملك مات في أول عشر ذي الحجة سنة 150 عن 76 سنة فكأنه ولد سنة 74،
بل قال بعضهم: إنه جاز المائة، فكأنه ولد حول سنة 50، وعائشة ماتت 58، فأبوه
عبدالعزيز أدرك عائشة يقينا. ثم قد تأيد الحديث برواية عمرة عن عائشة التي أشار
إليها الترمذي. وحديثها رواه الحاكم في المستدرك (ج1:ص305) من طريق سعيد بن عفير
وسعيد بن أبي مريم عن يحيى بن أيوب عن عمرة، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه، ووافقه الذهبي. ويحيى بن
1278- (17) ورواه النسائي عن عبدالرحمن بن أبزى.
1279- (18) ورواه أحمد عن أبي بن كعب.
1280- (19) والدارمي عن ابن عباس،
___________________________________
أيوب الغافقي ثقه حافظ، ولا حجة لمن تكلم فيه، ورواه أيضا ابن حبان والدارقطني
والطحاوي فيما حكاه الحافظ في التلخيص-انتهى. قلت: ويؤيده أيضا ما روى الطبراني في
الأوسط عن أبي هريرة بزيادة المعوذتين، وفيه المقدام بن داود، وهو ضعيف، وما روى
ابن السكن من حديث عبدالله بن سرجس بإسناد غريب، كما في التلخيص. فالظاهر أن حديث عائشة
حسن لشواهده. وأما من جهة سنده ففي كونه حسنا كلام لما تقدم أن فيه خصيفا وهو سيء
الحفظ، وقد خلط بآخره. والله أعلم.
(8/35)
1278- (ورواه النسائي) وكذا
أحمد (ج3:ص407، 406) قال الحافظ في التلخيص (ص118): وإسناده حسن. (عن عبدالرحمن بن
أبزى) بفتح الهمزة وسكون الموحدة بعدها زاي مقصور، الخزاعي مولاهم، مختلف في
صحبته، فذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال البخاري: له صحبة. وذكره غير واحد
في الصحابة. وقال أبوحاتم: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى خلفه. وقال ابن
عبدالبر: استعمله علي رضي الله عنه على خراسان. وذكره ابن سعد فيمن مات رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، وهم أحداث الأسنان. وممن جزم بأن له صحبة: خليفة بن خياط
والترمذي ويعقوب بن سفيان وأبوعروبة والدارقطني والبرقي وبقي بن مخلد وغيرهم، كذا
في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: إنه صحابي صغير، وكان في عهد عمر رجلا، وكان
على خراسان لعلي-انتهى. قلت: ويدل على كونه صحابيا أنه روى ابن سعد والطحاوي
وأبوداود وأحمد من حديثه أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: خلف
النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالراجح أنه صحابي. وقد اختلفوا هل هذا الحديث من
روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من روايته عن أبي بن كعب عن النبي -
صلى الله عليه وسلم -؟ قال الترمذي: روي عن عبدالرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب،
ويروي أيضا عن عبدالرحمن بن أبزى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، هكذا روى بعضهم
فلم يذكر عن أبي، وذكر بعضهم عن عبدالرحمن ابن أبزى عن أبي-انتهى. والظاهر أن له
في القراءة في الوتر روايتين: إحداهما روايته عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله
عليه وسلم -. وثانيتهما روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير واسطة، وقد
قال العراقي: كلاهما عند النسائي بإسناد صحيح، كما في النيل.
1279- (ورواه أحمد عن أبي بن كعب) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه
والطحاوي وابن حبان والحاكم والبيهقي. وزاد النسائي في رواية: ولا يسلم إلا في
آخرهن.
(8/36)
1280- (والدارمي عن ابن عباس)
وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والطحاوي
ولم يذكرا: والمعوذتين.
1281- (20) وعن الحسن بن علي، قال: ((علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
كلمات أقولهن في قنوت الوتر:
_________________________________
والبيهقي (ج3:ص38). (ولم يذكرا) أي أحمد والدارمي أو أبي بن كعب وابن عباس.
(والمعوذتين) وتقدم حديث أبي وابن عباس بإسقاط المعوذتين أصح، ولذلك اختاره أكثر
أهل العلم.
(8/37)
1281- قوله: (وعن الحسن بن علي) بن أبي طالب الهاشمي سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة أمير المؤمنين أبومحمد، ولد في النصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وهو أصح ما قيل في ولادته، ومات سنة 49، وهو ابن سبع وأربعين. وقيل: مات سنة 50. وقيل بعدها، ودفن بالبقيع، ويقال: إنه مات مسموما، وقد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحفظ عنه. قال الخرزجي: له ثلاثة عشر حديثا. وقال البرقي: جاء عنه نحو من عشرة أحاديث، روى عنه ابنه الحسن وأبوهريرة وعائشة أم المؤمنين وجماعة كثيرة. ولما قتل أبوه علي بن أبي طالب بالكوفة بايعه الناس على الموت أكثر من أربعين ألفا، ثم كره سفك الدماء، فسلم الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان وانخلع، وبايعه في النصف من جمادى الأولى سنة 41، فكانت ولايته سبعة أشهر وأحد عشر يوما، ويقال أربعة أشهر. ومناقبه وفضائله كثيرة جدا. (أقولهن) أي أدعو بهن. (في قنوت الوتر) وفي رواية: في الوتر. والقنوت يطلق على معان، والمراد به ههنا الدعاء في صلاة الوتر في محل مخصوص من القيام. قال السندي في حاشية النسائي: الظاهر أن المراد علمني أن أقولهن في الوتر بتقدير أن، أو باستعمال الفعل موضع المصدر مجازا، ثم جعله بدلا من كلمات، إذ يستبعد أنه علمه الكلمات مطلقا، ثم هو من نفسه وضعهن في الوتر. ويحتمل أن قوله أقولهن صفة كلمات، كما هو الظاهر، لكن يؤخذ منه أنه علمه أن يقول تلك الكلمات في الوتر، لا أنه علمه نفس تلك الكلمات مطلقا-انتهى. قلت: ويؤيد ذلك ما وقع في بعض روايات أحمد: وعلمه أن يقول في الوتر، وما في رواية للنسائي: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الكلمات في الوتر، وما في رواية ابن الجارود: علمه هذه الكلمات ليقول في قنوت الوتر. ثم ظاهر الحديث الإطلاق في جميع السنة، كما هو مذهب الحنفية والحنابلة وهو وجه للشافعية، والمشهور من مذهبهم تخصيص
(8/38)
القنوت في الوتر بالنصف الأخير
من رمضان، وهو رواية عن مالك والمشهور المعتمد عند المالكية نفي القنوت في الوتر
جملة، وهي رواية ابن القاسم، قال في المدونة: لا يقنت في رمضان لا في أوله ولا في
آخره ولا في غير رمضان ولا في الوتر أصلا-انتهى. والراجح عندنا: هو أن القنوت في
الوتر مستحب في جميع السنة؛ لأنه ذكر يشرع في الوتر فيشرع في جميع السنة كسائر
الأذكار، ولإطلاق لفظ الوتر في هذا الحديث. وإليه ذهب ابن مسعود وغيره من أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما
أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت
ربنا وتعاليت))
____________________________________________________________
(8/39)
أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال السندي: ثم قد أطلق الوتر فيشمل الوتر طول السنة، فصار الحديث دليلا قويا لمن يقول بالقنوت في الوتر طول السنة-انتهى. (اللهم اهدني) أي ثبتني على الهداية، أو زدني من أسباب الهداية. (فيمن هديت) أي في جملة من هديتهم، أو هديته من الأنبياء والأولياء، كما قال سليمان: ?وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين?. وقال ابن الملك: أي اجعلني ممن هديتهم إلى الصراط المستقيم. وقال الطيبي: أي اجعل لي نصيبا وافرا من الاهتداء معدودا في زمره المهتدين من الأنبياء والأولياء وقيل: "في" فيه وفيما بعده بمعنى مع قال تعالى. ?فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم? [69:4]. (وعافني) أمر من المعافاة التي هي دفع السوء. (وتولني) أي تول أمري وأصلحه. (فيمن توليت) أمورهم ولا تكلني إلى نفسي. وقال المظهر: أمر مخاطب من تولى إذا أحب عبدا وقام بحفظه وحفظ أموره. (وبارك) أي أكثر الخير. (لي) أي لمنفعتي. (فيما أعطيت) أي فيما أعطيتني من العمر والمال والعلوم والأعمال. وقال الطيبي: أي أوقع البركة فيما أعطيتني من خير الدارين. (وقني) أي احفظني. (شر ما قضيت) أي شر ما قضيته أي قدرته لي، أو شر قضائك. قيل: سؤال الوقاية وطلب الحفظ عما قضاه الله وقدره للعبد مما يسوءه، إنما هو باعتبار ظاهر الأسباب والآلات التي يرتبط بها وقوع المقضيات، ويجري فيها المحو والإثبات فيما لا يزال. (فإنك) وفي رواية: إنك بغير فاء. (تقضي) أي تقدر أو تحكم بكل ما أردت. (ولا يقضى عليك) بصيغة المجهول، أي لا يقع حكم أحد عليك، فلا معقب لحكمك ولا يجب عليك شيء إلا ما أوجبته عليك بمقتضى وعدك. (إنه) أي الشأن. وفي بعض الروايات: وإنه بزيادة الواو. (لا يذل) بفتح فكسر، أي لا يصير ذليلا. (من واليت) الموالاة ضد المعاداة. وهذا في مقابلة لا يعز من عاديت، كما جاء في بعض الروايات. قال ابن حجر: أي لا يذل من واليت من عبادك في الآخرة أو مطلقا وإن
(8/40)
ابتلي بما ابتلي به، وسلط عليه
من أهانه وأذله باعتبار الظاهر؛ لأن ذلك غاية الرفعة والعزة عند الله وعند
أوليائه، ولا عبرة إلا بهم. ومن ثم وقع للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من
الامتحانات العجيبة ما هو مشهور. وزاد البيهقي، وكذا الطبراني من عدة طرق: ولا يعز
من عاديت، أي لا يعز في الآخرة أو مطلقا وإن أعطي من نعيم الدنيا وملكها ما أعطي،
لكونه لم يمتثل أوامرك، ولم يجتنب نواهيك. (تباركت) أي تكاثر خيرك في الدارين.
(ربنا) بالنصب أي يا ربنا. (وتعاليت) أي ارتفع عظمتك وظهر قهرك وقدرتك على من في
الكونين. وقال ابن الملك: أي ارتفعت عن مشابهة كل شيء. وزاد النسائي في رواية:
وصلى الله على النبي. قال النووي في شرح المهذب: إنها
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي.
(8/41)
زيادة بسند صحيح أو حسن. وتعقبه الحافظ بأنه منقطع، فإن عبدالله بن علي، وهو ابن الحسين بن علي، لم يلحق الحسن بن علي- انتهى. ورواه ابن أبي عاصم وزاد: ونستغفرك ونتوب إليك. وقال القاري في شرح الحصن: وفي رواية ابن حبان زيادة: نستغفرك ونتوب إليك، وهو موجود في أصل الأصيل-انتهى. والظاهر أن هذه الزيادة قبل زيادة الصلاة على ما يفهم من الحصن. والحديث يدل على مشروعية القنوت بهذا الدعاء، وهو مختار الشافعية والحنابلة، واختار الحنفية القنوت في الوتر بسورة الخلع وسورة الحقد، أي اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونخضع لك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحقد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق. أخرجه أبوداود في المراسيل والبيهقي في السنن (ج2 ص210) عن خالد بن أبي عمران مرفوعا مرسلا، وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفا على ابن مسعود، وابن السني موقوفا على ابن عمر، وأخرجه محمد بن نصر والطحاوي والبيهقي في السنن عن عمر بن الخطاب. قال الحنفية: هما سورتان من القرآن في مصحف أبي، كما ذكر السيوطي في الدر المنثور، وابن قدامة في المغني (ج2 ص153) قلت: الأولى عندي أن يدعو في الوتر بالقنوت المروي في حديث الحسن ابن علي؛ لأنه حديث صحيح أو حسن مرفوع متصل، ولو قرأ ما هو مختار الحنفية جاز من غير شك، ومن لا يحسن شيئا من ذلك يدعو بما يحفظ من الدعاء المأثور، أو يستغفر من ذنوبه ويكرر ذلك. (رواه الترمذي) وحسنه، وقال: لا نعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت في الوتر شيئا أحسن من هذا. (وأبوداود) الخ وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص199 و200) وابن الجارود (ص142) ومحمد بن نصر المرزوي والحاكم في المستدرك (ج3 ص172) والبيهقي (ج2 ص209 و498) وإسحاق بن راهويه وأبوداود الطيالسي (ص163) وابن حبان وابن خزيمة والدارقطني وأبويعلى والطبراني في الكبير، وسعيد بن منصور في سننه. وقد
(8/42)
أطال الكلام عليه الحافظ في التلخيص (ص94 و95) وأخرجه ابن حزم في المحلى (ج4 ص147) من طريق أبي داود، وضعفه حيث قال بعد روايته: وهذا الأثر وإن لم يكن مما يحتج بمثله فلم نجد فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيره، وقد قال أحمد: ضعيف الحديث أحب إلينا من الرأي- انتهى. ونقل الحافظ في تهذيب التهذيب (ج3 ص256) كلام ابن حزم هذا، ولم يتعقبه بشيء، وضعفه أيضا ابن حبان، كما قال الشوكاني في النيل، وقال في تحفة الذاكرين (ص128): قد ضعفه بعض الحفاظ، وصححه آخرون. وأقل أحوله إذا لم يكن صحيحا أن يكون حسنا- انتهى. قلت: الحق أن هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن، بل هو صحيح، ولا حجة لمن ضعفه، وقد رجح صحته علامة أحمد شاكر في تعليقه على المحلى (ج4 ص147، 148). تنبيه حديث الحسن هذا رواه الحاكم
(8/43)
(ج3 ص172) والبيهقي (ج3 ص39) من طريق أبي بكر بن شيبة الحزامي عن ابن أبي فديك عن إسماعيل ابن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن الحسن بن علي، قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره. قال البيهقي: تفرد بهذا اللفظ أبوبكر بن شيبة الحزامي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين إلا أن إسماعيل بن إبراهيم خالفه، محمد بن جعفر بن أبي كثير في إسناده، ثم أخرجه عن محمد بن جعفر بن أبي كثير عن موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم به بسند السنن ومتنه وسكت عنه. قال الحافظ في الدراية: هو. (أي طريق محمد بن جعفر) الصواب- انتهى. وقال في التلخيص (ص94): ينبغي أن يتأمل قوله في هذا الطريق: إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، فقد رأيت في الجزء الثاني من فوائد أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني تخريج الحاكم له، قال: ثنا محمد بن يونس المقري، قال: ثنا الفضل بن محمد البيهقي، ثنا أبوبكر شيبة المدني الحزامي ثنا ابن أبي فديك عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة بسنده. ولفظه: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوال في الوتر قبل الركوع فذكره- انتهى. وهذا كله يدل على أن رواية الحاكم بلفظ: إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، ليست بمحفوظة عند الحافظ والبيهقي، ولذلك لم يعتمد عليها البيهقي في محل قنوت الوتر بعد الركوع، بل اعتمد على قياس قنوت الوتر على قنوت الصبح. ومال الشوكاني إلى تقويتها حيث قال بعد ذكر كلام البيهقي: وقد روى عنه أي عن أبي بكر بن شيبة الحزامي البخاري في صحيحة. وذكره ابن حبان في الثقات، فلا يضر تفرده. وقواها أيضا الشيخ أحمد محمد شاكر حيث قال في تعليقه على المحلى (ج4 ص148) بعد ذكر الاختلاف في السند على موسى بن عقبة: ويظهر أن موسى روى عن هؤلاء الثلاثة. (أي علي بن عبدالله عند
(8/44)
النسائي وهشام بن عروة عند
الحاكم وأبي إسحاق عند الحاكم وغيره) وابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ثقة،
روى له البخاري. وبهذه الطرق كلها ظهر أن الحديث صحيح- انتهى. وعندي في كون رواية
الحاكم المذكورة محفوظة تأمل، ولا يطمئن قلبي بما ذكره الشوكاني والشيخ أحمد شاكر
لتقويتها. وأبوبكر بن شيبة وإن روى عنه البخاري لكن لم يحتج به، كما صرح به الحافظ
في مقدمة الفتح. واعلم أنه اختلف في أن القنوت في الوتر قبل الركوع أو بعده،
فاختار الحنفية الأول، والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه الثاني، واستدل لهم بما
روى محمد بن نصر عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت بعد الركعة
وأبوبكر وعمر حتى كان عثمان، فقنت قبل الركعة ليدرك الناس. قال العراقي: إسناده
جيد. وبما ذكرنا من حديث الحسن بن علي برواية الحاكم بلفظ: إذا رفعت رأسي ولم يبق
إلا السجود، وقد عرفت حالها، واستدل لهم أيضا بآثار بعض الصحابة، وبالقياس على
قنوت صلاة الصبح بعد الركوع، واستدل الحنفية بما روى البخاري (ج1 ص136) من طريق
عاصم الأحول
1282-(21) وعن أبي بن كعب، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا سلم
في الوتر قال: سبحان الملك
القدوس)). رواه أبوداود،
(8/45)
عن أنس أن القنوت قبل الركوع، ذكره الحافظ في التلخيص (ص94)، وبما روى النسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص39، 40) عن أبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر، فيقنت قبل الركوع. لفظ ابن ماجه. وللنسائي: كان يوتر بثلاث يقرأ في الأولى ?سبح اسم ربك الأعلى? ، وفي الثانية. ?قل يآيها الكافرون?، وفي الثالثة. ?قل هو الله أحد? ويقنت قبل الركوع. وذكره أبوداود معلقا مختصرا، وضعف ذكر القنوت فيه، وتبعه البيهقي حيث حكى كلامه ولم يتعقب عليه. وقد أجاب عنه ابن التركماني في الجوهر النقي، وحقق كون ذكر القنوت فيه محفوظا. وهذا هو الصواب عندي. فحديث أبي بذكر القنوت صحيح أو حسن حجة. قال الشوكاني: وضعف أبوداود ذكر القنوت فيه أي في حديث أبي، ولكنه ثابت عند النسائي وابن ماجه من حديثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت قبل الركوع. واستدل لهم أيضا بما روى ابن أبي شيبة والدارقطني (ص175) والبيهقي (ج3 ص41) عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في الوتر قبل الركوع. وفيه أبان بن عياش وهو متروك، قاله الدارقطني. وبما روى الخطيب في كتاب القنوت عن ابن مسعود أيضا بنحوه. قال الحافظ في الدراية: حديث ضعيف، وبما روى أبونعيم في الحلية عن عطاء بن مسلم عن العلاء ابن المسيب عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس. قال: أوتر النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث، فقنت فيها قبل الركوع. قال أبونعيم: غريب من حديث حبيب، والعلاء تفرد به عطاء بن مسلم. وقال البيهقي: تفرد به عطاء وهو ضعيف. وبما روى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث ركعات، ويجعل القنوت قبل الركوع. قال الحافظ في الدراية (ص115): إسناده ضعيف. وبما روى ابن أبي شيبة عن علقمة أن ابن مسعود وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع. قال الحافظ في الدراية (ص115): إسناده حسن. قلت:
(8/46)
يجوز القنوت في الوتر قبل
الركوع وبعده. والأولى عندي أن يكون قبل الركوع لكثرة الأحاديث في ذلك، وبعضها جيد
الإسناد، ولا حاجة إلى قياس قنوت الوتر على قنوت الصبح مع وجود الأحاديث المروية
في الوتر من الطرق المصرحة بكون القنوت فيه قبل الركوع، وكيف يقاس الوتر على الصبح
وليس بينهما معنى مؤثر يجمع به بينهما. وسيأتي شيء من الكلام فيه في باب القنوت.
1281- قوله: (إذا سلم في الوتر) أي في آخره. (قال سبحان الملك القدوس) أي البالغ
أقصى النزاهة عن كل وصف، ليس فيه غاية الكمال المطلق. قال الطيبي: هو الطاهر
المنزه عن العيوب والنقائص، وفعول بالضم من أبنية المبالغة. فيه مشروعية هذا
التسبيح بعد الفراغ من الوتر. (رواه أبوداود) ومن طريقة البيهقي
والنسائي، وزاد: ثلاث مرات يطيل.
1283-(22) وفي رواية للنسائي، عن عبدالرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: ((كان يقوم إذا
سلم:
سبحان الملك القدوس ثلاثا، ويرفع صوته بالثالثة)).
(ج3 ص41، 42). (والنسائي) واللفظ لأبي داود، وهو حديث مختصر. ولفظ النسائي: أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث ركعات، كان يقرأ في الأولى بـ?سبح اسم
ربك الأعلى? وفي الثانية بـ?قل يأيها الكافرون? وفي الثالثة بـ?قل هو الله أحد?
ويقنت قبل الركوع، فإذا فرغ قال عند فراغه. سبحان الملك القوس ثلاث مرات، يطيل في
آخرهن. والحديث أخرجه أيضا أحمد وابن أبي شيبة والدارقطني، وإسناده صحيح. (وزاد)
أي النسائي في روايته. (ثلاث مرات يطيل) أي في آخرهن. والمعنى يمد في المرة
الثالثة صوته. وزاد الدارقطني (ص174) والبيهقي (ج3 ص40) في روايتهما: رب الملائكة
والروح.
(8/47)
1283- قوله: (وفي رواية للنسائي
عن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه) هذا خطأ، والصواب عن ابن عبدالرحمن بن أبزى عن
أبيه، هكذا وقع في مسند أحمد والنسائي؛ لأن أبزى الخزاعي والد عبدالرحمن لم يرو
عنه إلا حديث واحد، وهو غير هذا الحديث. قال ابن السكن: ذكره البخاري في الواحدان،
وروى عنه حديث واحد، إسناده صالح فذكره. وقال ابن مندة وأبونعيم وابن الأثير: لا
تصح لأبزى رؤية ولا رواية. وقال الذهبي في التجريد: أبزى والد عبدالرحمن خزاعي، لا
يصح صحبة إلا من طريق ضعيفة. وابنه أي عبدالرحمن صحابي- انتهى. وابن عبدالرحمن بن
أبزى هو سعيد بن عبدالرحمن بن أبزى الخزاعي مولاهم الكوفي تابعي، وثقة النسائي
وابن حبان. وقال أحمد: هو حسن الحديث، روى عن أبيه وابن عباس وواثلة. (قال كان) أي
النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ويرفع صوته بالثالثة) أي في المرتبة الثالثة.
وأخرجه أيضا الطحاوي وأحمد (ج3 ص406، 407) وعبد بن حميد والبيهقي (ج3 ص41) وإسناده
صحيح. قال العراقي: حديث أبي بن كعب وعبدالرحمن بن أبزى كلاهما عند النسائي بإسناد
صحيح. والحديث فيه سنية الجهر بهذا الذكر في المرة الثالثة، هكذا في كل ما ثبت عنه
- صلى الله عليه وسلم - الجهر فيه، نعم الإسرار أفضل حيث لم ينقل عنه الجهر فيه.
قال المظهر: هذا يدل على جواز الذكر برفع الصوت، بل على الاستحباب إذا اجتنب
الرياء إظهار للجدين، وتعليما للسامعين، وإيقاظا لهم من رقدة الغفلة، وإيصالا
لبركة الذكر إلى مقدار ما يبلغ الصوت إليه من الحيوان والشجر والحجر والمدر، وطلبا
لاقتداء الغير بالخير، وليشهد له كل رطب ويابس سمع صوته.
1284-(23) وعن علي، قال: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وتره:
اللهم إني أعوذ برضاك من
سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت
على نفسك)). رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
?الفصل الثالث?
(8/48)
1285-(24) عن ابن عباس، قيل
له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية
1284- قوله: (كان يقول في آخر وتره) أي بعد السلام منه، كما في رواية: ففي الحديث
بيان الذكر المشروع بعد الفراغ من صلاة الوتر. قال ميرك: وفي إحدى روايات النسائي
كان يقول ذلك إذا فرغ من صلاته وتبوأ مضجعه، ذكره القاري قال ابن القيم في زاد
المعاد (ج1 ص89) والشوكاني في تحفة الذاكرين (ص129) وهذا يرد ما قال السندي في
حاشية النسائي: يحتمل أنه كان يقول في آخر القيام، فصار هو من القنوت، كما هو
مقتضى كلام المصنف. (النسائي) ويحتمل أنه كان يقول في قعود التشهد- انتهى. وكأنه
لم يقف على رواية النسائي التي ذكرها ميرك وابن القيم والشوكاني، ولعلها في السنن
الكبرى. وقد تقدم في باب السجود من حديث عائشة أنه قال ذلك في السجود. قال ابن
القيم: فلعله قاله في الصلاة وبعدها. (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)
وفي رواية النسائي التي ذكرها ميرك وغيره: لا أحصي ثناء عليك وهو لو حرصت، ولكن
أنت كما أثنيت على نفسك. وقد قدمنا شرح ألفاظ الحديث في باب السجود. (رواه
أبوداود) في باب القنوت في الوتر من الصلاة. (والترمذي) في باب الدعاء الوتر من
أبواب الدعوات وحسنه. (والنسائي) في باب الدعاء في الوتر من الصلاة. (وابن ماجه)
في باب ما جاء في القنوت في الوتر. وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج1 ص306) وصححه،
والبيهقي (ج3 ص42) والطبراني في الأوسط وابن أبي شيبة مقيدا بالوتر. قال الشوكاني:
وأخرجه الدارمي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان، وليس فيه ذكر الوتر.
(8/49)
1285- قوله: (عن ابن عباس قيل
له) وفي البخاري عن ابن أبي ملكية قيل لابن عباس الخ. ولا أدري ما وجه تغيير هذا
السياق مع كون ابن أبي ملكية قد شهد القصة، وهو الراوي لها، والقائل هو كريب مولى
ابن عباس. وقيل: علي بن عبدالله بن عباس. (هل لك) أي جواب أو إفتاء. (في أمير
المؤمنين معاوية) أي في فعله. وقال الطيبي: يقال: هلك لك في كذا، وهل لك إلى كذا؟
أي هل ترغب فيه، وهل ترغب إليه؟ فالاستفهام في
ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب إنه فقيه. وفي رواية: قال ابن أبي ملكية: أوتر معاوية
بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتي ابن عباس فأخبره. فقال: دعه فإنه قد
صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________________________________________________________
(8/50)
الحديث بمعنى الإنكار، أي هل لك رغبة في معاوية وهو مرتكب هذا المنكر. ومن ثم أجاب دعه، فإنه قد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يفعل إلا ما رآه منه، وهو فقيه أصاب في اجتهاده- انتهى. وقال الشيخ عبدالحق: أي هل لك رغبة وميل ومحبة لمعاوية مع صدور أمر غير مشروع منه؟. (ما أوتر) وفي رواية: فإنه ما أوتر. (إلا بواحدة) أي اكتفى بركعة واحدة فردة بعد صلاة العشاء من غير أن يقدم عليها شفعا. هذا هو الظاهر. قال الشيخ عبدالحق ظاهره أن هذا القائل لم يكن يعلم بمشروعية الإيتار بركعة واحدة. (قال) أي ابن عباس. (أصاب) أي فعل الحق وأتى بالصواب. (إنه فقيه) أي عالم بالشريعة مجتهد، فيمكن أن يكون الذي فعله قد استنبطه من موارد السنة. (وفي رواية قال ابن أبي ملكية) بضم الميم مصغرا، هو عبدالله بن عبيد الله بن عبدالله بن أبي ملكية بن عبدالله بن جدعان. يقال: اسم أبي ملكية زهير التيمي القرشي، من مشاهير ثقات التابعين وعلماءهم. قال الحافظ: أدرك ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثقة فقيه من أوساط التابعين. وقال ابن حبان في الثقات: رأى ثمانين من الصحابة روى عن العبادلة الأربعة وغيرهم، وكان قاضيا لابن الزبير على الطائف، مات سنة (117) ، وقيل: (118). (أوتر معاوية بعد) صلاة. (العشاء بركعة) واحدة. (وعنده مولى لابن عباس) هو كريب روى ذلك محمد بن نصر المرزوي في كتاب الوتر له من طريق ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن كريب، وأخرج من طريق علي بن عبدالله بن عباس، قال: بت مع أبي عند معاوية، فرأيته أوتر بركعة، فذكرت ذلك لأبي. فقال يا بني هو أعلم. (فأتى) أي مولاه كريب. (فأخبره) بذلك. (فقال) ابن عباس. (دعه) وفي البخاري: فأتى ابن عباس فقال دعه أي ليس عنده لفظ فأخبره. قال الحافظ: قوله: "دعه" فيه حذف يدل عليه السياق، تقديره فأتى ابن عباس، فحكى له ذلك، فقال له: دعه أي أترك القول في معاوية والإنكار عليه. ونقله
(8/51)
الجزري في جامع الأصول (ج7
ص35) عن البخاري بذكر لفظ: فأخبره، وكذا رواه البيهقي (ج3 ص27). (فإنه) عارف
بالفقه عالم بالشريعة؛ لأنه (قد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -) وتعلم منه، أي
فلم يفعل شيئا إلا بمستند. وقال الطيبي: أي فلا يفعل إلا ما رآه. وفي فعل معاوية
واستصوب ابن عباس له دليل على مشروعية الإيتار بركعة واحدة، وأنه لا يحب تقدم نفل
قبلها. وقد ورد فيه عدة أحاديث، كما سبق. وفعله أيضا كثير من الصحابة: منهم سعد بن
أبي وقاص، أخرجه البخاري في الدعوات، والبيهقي في المعرفة والطحاوي. ومنهم عثمان
بن عفان، أخرجه الطحاوي والدارقطني ومحمد بن نصر المروزي، ومنهم عمر بن الخطاب،
أخرجه البيهقي في المعرفة وفي السنن، ومنهم أبوالدرداء وفضالة بن عبيد ومعاذ بن
جبل، أخرجه الطحاوي، ومنهم أبوأمامة، أخرجه الدارقطني. وفي كل ذلك رد على من لم
يقل بمشروعية
رواه البخاري.
1286-(25) وعن بريدة، قال: قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
((الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق، فمن
لم يوتر فليس منا)). رواه أبوداود.
___________________________________________________
الإيتار بركعة، أو قال بوجوب تقدم الشفع عليها. قال الحافظ: ولا التفات إلى قول
ابن التين: إن الوتر بركعة لم به الفقهاء؛ لأن الذي نفاه قول الأكثر، وثبت فيه عدة
أحاديث، نعم الأفضل أن يتقدمها شفع، وأقله ركعتان. واختلف أيهما الأفضل، وصلهما
بها أو فصلهما. وذهب الكوفيون إلى شرطية وصلهما، وأن الوتر بركعة لا تجزيء- انتهى.
وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا. (رواه البخاري) في ذكر معاوية من أبواب المناقب.
(8/52)
1286- قوله: (الوتر حق) أي ثابت في الشرع ومؤكد. (فمن لم يوتر فليس منا) أي ليس على سنتنا وطريقتنا. قال الطيبي: "من" فيه اتصالية، كما قوله تعالى: ?المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض? [9: 67] وقوله عليه السلام: فإني لست منك ولست مني. والمعنى فمن لم يوتر فليس بمتصل بنا وبهدينا وبطريقتنا، أي إنه ثابت في الشرع وسنة مؤكدة، والتكرير لمزيد تقرير حقيقته وإثباته- انتهى. واستدل به الحنفية على وجوب الوتر بناء على أن الحق هو الواجب الثابت على الذمة. ويؤيد ذلك كونه مقرونا بالوعيد على تاركه. وأجيب عنه بأن الحق بمعنى الثابت في الشرع كما تقدم في كلام الطيبي. ومعنى ليس منا، أي ليس من سنتنا وعلى طريقتنا، أو المراد من لم يوتر رغبة عن السنة فليس منا. فالحديث محمول على تأكيد السنية للوتر جمعا بينه وبين الأحاديث الدالة على عدم الوجوب. وقال الحافظ في الفتح: يحتاج من احتج به على الوجوب إلى أن يثبت أن لفظ حق بمعنى واجب في عرف الشارع، وأن لفظ واجب بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد- انتهى. (رواه أبوداود) قال الحافظ في الدراية وبلوغ المرام بسند لين، وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في الفتح: في سنده أبوالمنيب، وفيه ضعف وقال المنذري: في إسناده عبيدالله بن عبدالله أبوالمنيب العتكي المروزي، وقد وثقه ابن معين. وقال أبوحاتم الرازي: صالح الحديث. وتكلم فيه البخاري والنسائي وغيرهما- انتهى. قلت: أراد بغيرهما ابن حبان والعقيلي، فإنهما أيضا تكلما فيه. وأخرجه الحاكم (ج1 ص306) والبيهقي (ج2 ص470) ولم يكررا لفظه. قال الحاكم: حديث صحيح، وأبوالمنيب ثقة. وقال الذهبي في التلخيص: قلت: قال البخاري: عنده مناكير- انتهى. وقال الحاكم أبوأحمد ليس بالقوي عندهم. وقال البيهقي: لا يحتج به. وهذا كله يدل على أن فيه ضعفا، ولذلك لين الحافظ سند حديثه، وقد أصاب. وللحديث شاهد ضعيف أحمد (ج3 ص443) من طريق خليل بن مرة عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة
(8/53)
مرفوعا بلفظ: من لم يوتر فليس
منا، وهو منقطع؛ لأن معاوية بن قرة لم يسمع من أبي هريرة شيئا ولا لقيه. قاله
أحمد. والخليل بن مرة ضعفه يحيى والنسائي. وقال لبخاري: منكر الحديث.
1287-(26) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام عن
الوتر أو نسيه فليصل إذا ذكر وإذا استيقظ)). رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.
1288-(27) وعن مالك، بلغه ((أن رجلا سأل ابن عمر عن الوتر: أواجب هو؟ فقال
عبدالله: قد
أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوتر المسلمون، فجعل الرجل يردد عليه،
وعبدالله يقول: أوتر رسول
الله- صلى الله عليه وسلم -، وأوتر المسلمون)).
1287- قوله: (من نام عن الوتر) أي عن أدائه. (أو نسيه) فلم يصله. (فليصل) أي قضاء.
(إذا ذكر) راجع إلى النسيان. (وإذا استيقظ) راجع إلى النوم، فالواو بمعنى أو،
والترتيب مفوض إلى رأي السامع. وفيه دليل على مشروعية قضاء الوتر إذا فات. وأما ما
روى ابن خزيمة في صحيحة، والحاكم (ج1 ص301، 302) والبيهقي (ج2 ص478) من طريق قتادة
عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا: من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له، فمحمول على
التعمد أو على أنه لا يقع أداء جمعا بين الحديثين، لا أنه لا يجوز له القضاء. وقد
تقدم الكلام في ذلك مفصلا. (رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجه) واللفظ للترمذي.
ولفظ ابن ماجه: فليصل إذا أصبح أو ذكره. وفي سندهما عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وهو
ضعيف. وأخرجه أبوداود من طريق أخرى صحيحة بلفظ: من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا
ذكره، ولم يقل: إذا أصبح. قال العراقي: سنده صحيح. وأخرجه أيضا الحاكم وصححه
الدارقطني والبيهقي كما سبق في تخريج حديث زيد بن أسلم.
(8/54)
1288- قوله: (وعن مالك) بن
أنس، إمام دار الهجرة، صاحب المذهب المشهور. (بلغه) وفي الموطأ: أنه بلغه. وقد
تقدم قول ابن عبدالبر أن جميع ما في الموطأ من قول مالك: بلغني، ومن قوله: عن
الثقة عندي مما لم يسنده كله مسند من غير طريق مالك إلا أربعة أحاديث، فذكرها،
وهذا البلاغ ليس منها، فيكون مسندا. وسيأتي ذكر من وصله وأسنده. (أواجب هو) أي أو
هو سنة؟. (فقال عبدالله) بن عمر في جوابه. (قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -، وأوتر المسلمون) قال القاري: اكتفى ابن عمر بالدليل عن المدلول، فكأنه
قال: إنه واجب بدليل مواظبته عليه الصلاة والسلام وإجماع أهل الإسلام- انتهى. قلت:
المواظبة إنما يكون دليلا على الوجوب حيث لم يرو ما يصرفها إلى الندب، وههنا قد صح
ما يدل على عدم وجوب الوتر. والظاهر أن ابن عمر نبه بهذا الجواب على أن الوتر سنة
معمول بها وطريقة مسلوكة. ولو كان واجبا عنده لأفصح للرجل بوجوبه. (فجعل الرجل
يردد عليه) أي يكرر السؤال، ويطلب الصريح. (وعبد الله) يردد عليه جوابه السابق.
(ويقول) في كل مرة: (أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوتر المسلمون) قال
الباجي: يحتمل أن عبدالله بن عمر
رواه في الموطأ.
(8/55)
قد علم أنه غير واجب، ولم ير الرجل لهذا المقدار من العلم، وكان يخبره بما هو يحتاج إليه من أنه - صلى الله عليه وسلم - أوتر، وأوتر المسلمون بعده، وطوى عنه ما لا يحتاج هو إليه. ويحتمل أن ابن عمر لم يتبين له حكم ما سأل عنه، فأجاب بما كان، وترك ما أشكل عليه- انتهى. وقال الطيبي: وتلخيص الجواب أن لا أقطع بالقول بوجوبه ولا بعدم وجوبه؛ لأني إذا نظرت إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم واظبوا عليه ذهبت إلى الوجوب، وإذا فتشت نصا دالا عليه نكصت عنه، أي رجعت وأحجمت. قلت: لا شك أنه لم يرو حديث صحيح صريح في وجوب الوتر، بل قد ثبت وصح ما يدل على استحبابه. وهو قرينة واضحة على أن الوتر سنة لا واجب، نعم هو سنة مؤكدة أوكد من سائر السنن، وعلى أن مواظبته - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بعده على الوتر كالمواظبة على بعض السنن المؤكدة الأخر. (رواه) أي مالك. (في الموطأ) بالهمزة وقيل بالألف. وسبق الاعتراض على هذا التعبير، فتذكر. وهذا الحديث أخرجه أحمد موصولا (ج2 ص29) قال: حدثنا معاذ حدثنا ابن عون عن مسلم مولى لعبد القيس- قال معاذ: كان شعبة يقول القرى- قال: قال رجل لابن عمر أرأيت الوتر أسنة هو؟ قال ما سنة أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوتر المسلمون بعده. قال: لا أسنة هو؟ قال: مه، أتعقل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوتر المسلمون. قال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج7 ص36): إسناده صحيح، مسلم مولى عبدالقيس هو مسلم بن مخراق القرى، وهو مولى بنى قرة حي من عبدالقيس، كما ذكره البخاري في الكبير. تابعي ثقة، وثقه النسائي والعجلي وغيرهما. وهذا الحديث رواه مالك في الموطأ بنحوه بلاغا غير متصل فذكره، ثم قال: والظاهر لي أن الحفاظ القدماء لم يجدوا وصل هذا البلاغ، فذكره ابن عبدالبر في التقصي رقم (808) ولم يذكر شيئا في وصله، وكذلك صنع السيوطي في شرح الموطأ، وكذلك الزرقاني
(8/56)
في شرحه (ج1 232) وها هو ذا
موصول في المسند. وقد ذكره الحافظ المروزي في كتاب الوتر (ص114) ولكنه ذكره معلقا
عن مسلم القرى كرواية المسند هنا، ولم يذكر إسناده إلى مسلم القرى- انتهى. وأخرجه
أحمد في (ج2 ص58) مختصرا قال: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عمرو بن محمد عن نافع سأل
رجل ابن عمر عن الوتر أواجب هو؟ فقال: أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
والمسلمون. قال الشارح: إسناده صحيح، سفيان هو الثوري عمر بن محمد بن زيد بن
عبدالله بن عمر بن الخطاب المدني نزيل عسقلان، ثقه، وثقه أحمد وابن معين والعجلي
وأبوداود وغيرهم، قال: وهذا الحديث مختصرا لحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغا
عن ابن عمر، ولم يذكر المتقدمون ممن كتبوا على الموطأ طريق وصله. وقد مضى نحوه
موصولا من طريق مسلم القرى عن ابن عمر، ولكن السؤال هناك "أسنة هو" وما
هنا أواجب هو؟ وهذا اللفظ يوافق السؤال في رواية مالك، فقد وجدنا وصل هذا البلاغ
من طريقتين صحيحين في المسند والحمد لله- انتهى.
1289-(28) وعن علي قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث، يقرأ فيهن
بتسع سور من المفصل، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور آخرهن: ?قل هو الله أحد?)). رواه
الترمذي.
1290-(29) وعن نافع، قال: كنت مع ابن عمر بمكة، والسماء مغيمة،
___________________________________________________
(8/57)
1289- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث) أي بثلاث ركعات. (يقرأ فيهن بتسع سور المفصل) أي من قصارة، كما سيأتي. (آخرهن) أي آخر السور. (قل هو الله أحد) الحديث أخرجه أيضا أحمد ولفظه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بتسع سور من المفصل يقرأ في الركعة الأولى: ?ألهاكم التكاثر? و?إنا أنزلناه في ليلة القدر? و?إذا زلزلت الأرض?، وفي الركعة الثانية: ?والعصر? و?إذا جاء نصر الله والفتح? و?إنا أعطيناك الكوثر?، وفي الركعة الثالثة: ?قل ياأيها الكافرون? و?تبت يدا أبي لهب? و?قل هو اله أحد?- انتهى. والحديث يدل على مشروعية قراءة هذه السور في الوتر، لكنه حديث ضعيف، كما ستعرف. وروى محمد بن نصر عن سعيد بن جبير قال: لما أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب أن يقوم الناس في رمضان كان يوتر بهم فيقرأ في الركعة الأولى: ?إنا أنزلناه في ليلة القدر?، وفي الثانية بـ?قل يآيها الكافرون?، وفي الثالثة بـ?قل هو الله أحد? قلت: والمختار عندي أن يقرأ في الوتر بـ?سبح اسم ربك الأعلى? و?قل يآيها الكافرون? و?قل هو الله أحد? لما صح ذلك عن أبي بن كعب، وابن عباس مرفوعا، وهو الذي اختاره أكثر أهل العلم، كما سبق، ولو زاد المعوذتين في الثالثة أو قرأ بما ورد في حديث علي أو بما روي عن عمر من فعله أحيانا لم يكن فيه بأس. (رواه الترمذي) من طريق أبي بكر ابن عياش عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وأخرجه أحمد (ج1 ص89) ومحمد بن نصر من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، وأخرجه أيضا أحمد بن إبراهيم الدورقي في مسند علي له، كما في التلخيص (ص118).
(8/58)
1290- قوله: (وعن نافع) مولى
عبدالله بن عمر. (كنت مع ابن عمر) ذات ليلة (بمكة) وفي بعض نسخ الموطأ: بطريق مكة.
(والسماء مغيمة) أي مغطاة بالغيم يعني محيط بها السحاب، كذا وقع في أكثر النسخ
الموجودة عندنا بتقديم الياء على الميم الثانية من التغييم أو الإغامة، وكذا وقع
في جامع الأصول (ج7 ص42)، وهكذا وقع في الموطأ. قال الشيخ سلام الله في المحلى شرح
الموطأ: على زنة المفعول أو الفاعل من التغييم أو بكسر الغين وسكون الياء من
الإغامة. قال عياض: كذا ضبطناه في الموطأ عن شيوخنا، وكله صحيح- انتهى. وفي أصل
القاري الذي أخذه في شرح المشكاة: مغمية: بتقديم الميم الثانية على الياء، قال
القاري: كذا في نسخ المصححة بضم الميم الأولى وكسر الثانية، وفي نسخة: مغيمة: بكسر
الياء المشددة، وقيل بفتحها. وفي نسخة بضم
فخشي الصبح، فأوتر بواحدة، ثم انكشف، فرأى أن عليه ليلا، فشفع بواحدة، ثم صلى
ركعتين ركعتين، فلما خشي الصبح أوتر بواحدة)). رواه مالك.
___________________________________________________
(8/59)
الميم وكسر الياء مغيمة وقيل بكسر الغين أي مغيمة وفي نسخة مغماة مشددة ومخففة، وفي نسخة كمرضية، ومآل الكل إلى معنى واحد. قال الطيبي: أي مغطاة بالغيم. وقال الجزري في النهاية: يقال غامت السماء وأغامت وتغيمت كله بمعنى- انتهى. زاد في الصحاح والقاموس: وأغيمت وتغيمت تغيما، وقال ابن حجر: يقال غيمت الشيء إذا غطيته وأغمي وغمي، وغمي بتشديد الميم وتخفيفها الكل بمعنى- انتهى. وفي التاج: التغييم والإغامة الدخول في الغيم، والإغماء تستر الشيء على الشخص ويعدى بعلى، والتغمية التغطية. قال شجاع: فعلى هذه الأقوال يجوز لغة مغيمة بكسر الياء والتشديد من التفعيل من الأجوف ومغمية من الناقص الثلاثي على وزن مرمية، ومغماة اسم مفعول من التغمية أو الإغماء- انتهى. ووقع في الموطأ للإمام محمد متغيمة من التغيم. (فخشي) عبدالله بن عمر. (الصبح) أي طلوع الفجر فيفوت وتره. (فأوتر بواحدة) أي بركعة فردة من غير أن يضمها إلى شفع قبلها. (ثم انكشف) وفي الموطأ ثم انكشف الغيم أي ارتفع السحاب. (فرأى أن عليه ليلا) أي باق عليه الفجر لم يطلع بعد. (فشفع) وتره. (بواحدة) قال الباجي يحتمل أنه لم يسلم من الواحدة فشفعها بأخرى على رأي من قال: لا يحتاج في نية أول الصلاة إلى اعتبار عدد الركعات والاعتبار وتر وشفع، ويحتمل أنه سلم- انتهى. والثاني هو الظاهر بل هو المتعين؛ لأن ابن عمر قائل بنقض الوتر، فقد روى أحمد في مسنده عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن الوتر قال: أما أنا فلو أوترت قبل أن أنام ثم أردت أن أصلي بالليل شفعت بواحدة ما مضى من وتري ثم صليت مثنى، فإذا قضيت صلاتي أوترت بواحدة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نجعل آخر صلاة الليل الوتر. قلت: وما فعله ابن عمر من نقض الوتر هو من رأي منه واجتهاد، وليس عنده في هذه رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما روى ذلك محمد بن نصر عنه، ولا دليل على ذلك في الأمر
(8/60)
يجعل الوتر آخر صلاة الليل،
فإنه ليس للإيجاب بل هو للندب، كما تقدم. وارجع إلى كتاب الوتر لمحمد بن نصر
(ص127، 128). (ثم صلى) بعد ذلك. (ركعتين ركعتين) للتهجد. (فلما خشي الصبح) بعد ذلك
(أوتر بواحدة). روي مثله عن علي وعثمان وابن مسعود وأسامة وعروة ومكحول وعمرو بن
ميمون، وهذه مسألة يعرفها أهل العلم بنقض الوتر، وخالف في ذلك جماعة منهم أبوبكر
كان يوتر قبل أن ينام ثم أن قام صلى ولم يعد الوتر، وروي مثله عن أبي هريرة وعمار
وعائشة وكانت تقول: أوتر أن في ليلة إنكارا لذلك، وهو قول مالك والشافعي وأحمد
وأبي حنيفة والأوزاعي وأبي ثور وغيرهم، وقد تقدم شيء من الكلام في هذه المسألة في
شرح حديث: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا. (رواه مالك) لم أقف على من أخرجه من
غيره.
1291-(30) وعن عائشة ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي جالسا، فيقرأ
وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية، قام وقرأ وهو
قائم، ثم ركع، ثم سجد، ثم يفعل في
الركعة الثانية مثل ذلك)).
(8/61)
1291- قوله: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان) أي في آخر حياته لما أسن وكبر، ففي رواية قالت: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في شيء من صلاة الليل جالسا حتى إذا كبر قرأ جالسا، فإذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية قام- الحديث. قال الحافظ: بينت حفصة أن ذلك كان قبل موته بعام. (يصلي) أي النوافل في الليل (جالسا) حال. (فيقرأ) فيها القرآن بقدر ما شاء. (فإذا بقي من قراءته) أي مما أراد من قراءته، وفيه إشارة إلى أن الذي كان يقرأه قبل أن يقوم أكثر؛ لأن البقية تطلق في الغالب على الأقل. (قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية) اكتفى بهذا التمييز عن تمييز الأول، وأو قيل للشك من الراوي، وقيل للتنويع باعتبار اختلاف الأوقات. (قام وقرأ) هذه الآيات. (وهو قائم ثم ركع) فيه دليل على أن من لم يطق أن يقوم في جميع صلاته جاز له أن يقوم فيما أمكنه منه. قال الباجي: ولا خلاف نعلمه في جواز ذلك في النافلة، وفيه أيضا دليل على أن الأفضل أن يقوم فيقرأ شيئا ثم يركع ليكون موافقا للسنة ولو لم يقرأ ولكنه استوى قائما ثم ركع جاز. (ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك) المذكور من قراءته أولا جالسا ثم قائما، والحديث يدل على جواز الركوع من قيام لمن قرأ قاعدا. وقد روي عن عائشة أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يصلي ليلا طويلا قائما وليلا طويلا قاعدا، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم وإذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد. أخرجه الجماعة إلا البخاري، وهذا بظاهره يخالف حديثها الأول؛ لأنه يدل على أن المشروع لمن قرأ قائما أن يركع ويسجد من قيام، ومن قرأ قاعدا أن يركع ويسجد من قعود. وفي بعض طرق هذا الحديث عند مسلم: فإذا افتتح الصلاة قائما ركع قائما وإذا افتتح الصلاة قاعدا ركع قاعدا وهذا يدل على أن من افتتح النافلة قاعدا يركع قاعدا أو قائما يركع قائما، ويجمع بين هذه
(8/62)
الروايات بأنه كان يفعل كلا من
ذلك بحسب النشاط وعدمه. وقال العراقي: فيحمل على أنه كان يفعل مرة كذا، ومرة كذا،
فكان مرة يفتتح قاعدا ويتم قراءته قاعدا ويركع قاعدا، وكان مرة يفتتح قاعدا ويقرأ
بعض قراءته قاعدا وبعضها قائما ويركع قائما، فإن لفظ كان لا يقضي المداومة. قال
الشوكاني والحديث يدل على أنه يجوز فعل بعض الصلاة من قعود، وبعضها من قيام وبعض
الركعة من قعود، وبعضها من قيام . قال العراقي: وهو كذلك سواء قام ثم قعد أو قعد
ثم قام، وهو قول جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وحكاه
النووي عن عامة العلماء، وحكي عن بعض السلف منعه. قال: وهو غلط، وحكى القاضي عياض
عن أبي يوسف
رواه مسلم.
1292-(31) وعن أم سلمة، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد الوتر
ركعتين)). رواه الترمذي، وزاد ابن ماجه: خفيفتين وهو جالس.
1293-(32) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يوتر بواحدة، ثم يركع
ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع. قام فركع)). رواه ابن ماجه.
ومحمد في آخرين كراهة القعود بعد القيام، ومنع أشهب من المالكية الجلوس بعد أن
ينوي القيام، وجوزه ابن القاسم والجمهور- انتهى. (رواه مسلم) بل أخرجه الجماعة،
وله ألفاظ هذا أحدها، قال القاري: ولا يظهر وجه مناسبته للباب، اللهم إلا أن يقال:
أن الحديث ساكت عن الركعة الثالثة، أو ذكر هذا الشفع؛ لأنه مقدمة الوتر، أو يحمل هذا
الشفع على ما بعد الوتر، فكان حقه أن يذكره في آخر الباب- انتهى.
(8/63)
1292- قوله: (وعن أم سلمة) أم
المؤمنين. (كان يصلي بعد الوتر ركعتين) أي جالسا كما سيأتي. (رواه الترمذي) وأخرجه
أيضا أحمد (ج6 ص298، 299) والدارقطني (ص177) ومحمد بن نصر والبيهقي (ج3 ص32) كلهم
من حديث ميمون بن موسى المرئي عن الحسن عن أمه عن أم سلمة. (وزاد ابن ماجه خفيفتين
وهو جالس) وزاده أيضا الدارقطني ومحمد بن نصر، والحديث لم يحكم الترمذي عليه بشيء،
وصححه الدارقطني في سننه، ثبت ذلك في رواية محمد بن عبدالملك بن بشران عنه، وليس
في رواية أبي طاهر محمد بن أحمد بن عبدالرحيم عن الدارقطني تصحيح له، قاله
العراقي. قلت: في سنده ميمون بن موسى المرئي، وهو صدوق، لكنه مدلس، وروى عن الحسن
بالعنعنة. قال أحمد كان يدلس لا يقول: حدثنا الحسن ما رأى به بأسا. وقال الفلاس:
صدوق لكنه يدلس، وقال النسائي وأبوأحمد الحاكم: ليس بالقوى. وقال أبوداود: ليس به
بأس. وقال البيهقي: ميمون هذا بصري، ولا بأس به، إلا أنه كان يدلس، قاله أحمد بن
حنبل وغيره، وروي عن زكريا بن حكيم عن الحسن، وخالفهما هشام، فرواه عن الحسن عن
سعد بن هشام عن عائشة. قال البخاري: وهذا أصح.
1293- قوله: (يوتر بواحدة) أي بركعة واحدة فردة. (ثم يركع) أي يصلي (ركعتين هو
جالس فإذا أراد أن يركع قام فركع) قال ابن حجر: لا ينافي ما قبله؛ لأنه كان تارة
يصليهما في جلوس من غير قيام، وتارة يقوم عند إرادة الركوع- انتهى. (رواه ابن
ماجه) وكذا البيهقي (ج3 ص32) كلاهما من طريق الأوزاعي
1294-(33) وعن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن هذا السهر جهد
وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن لم قام من الليل، وإلا كانتا له)). رواه
الدارمي.
___________________________________________________
(8/64)
عن يحيى بن أبي كثير عن أبي
سلمة عن عائشة، قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات- انتهى. قلت: أصل الحديث
عند مسلم من طريق هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة قالت: سألت عائشة
عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي
ثمان ركعات ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع-
الحديث.
1294- قوله: (إن هذا السهر) أي الذي تسهرونه في طاعة الله. والسهر بفتحتين عدم
النوم، وروى الدارقطني والبيهقي (ج3 ص33) بلفظ: أن هذا السفر أي بالفاء بدل الهاء،
وكذا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص246) نقلا عن معجم الطبراني، وكتب على
هامش سنن الدارمي، طبعه الهند هذه العبارة، وعليها علامة النسخة، ويقال هذا السفر
وأنا أقول السهر، والظاهر أنها مقولة الدارمي، ويؤيد لفظ السفر كون القصة وقعت في
حالة السفر، ففي رواية الدارقطني والبيهقي والطبراني عن ثوبان، قال: كنا مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال: إن السفر جهد وثقل الخ. (جهد) بالفتح
وبالضم أيضا المشقة. (وثقل) بكسر المثلثة وسكون القاف وفتحها أي شاق، وثقيل على
النفوس البشرية بحكم العادة الطبيعة. (فإذا أوتر أحدكم) أي قبل النوم في أول الليل
لعدم الوثوق بالاستيقاظ في آخر الليل. (فليركع) أي فليصل. (ركعتين) قال البيهقي:
يحتمل أن يكون المراد به ركعتان بعد الوتر، ويحتمل أن يكون أراد، فإذا أراد أن
يوتر فليركع ركعتين قبل الوتر. (فإن قام من الليل) وصلى فيه فيها أي أتى بالخصلة
الحميدة ويكون نورا على نور. (وإلا) أي وإن لم يقم أي من الليل لغلبة النوم له.
(كانتا) أي الركعتان (له) أي كافيتين له من قيام الليل، والمعنى من قام بعد
الركعتين وصلى التهجد. فهو الأفضل وإن لم يقم ولم يصل كانتا مجزئتين عن أصل ثواب
التهجد في السفر؛ لأن الحديث كان في حالة السفر، كما تقدم. قال ابن حجر: هذا لا
ينافي خبر:
(8/65)
اجعلوا آخر صلاتكم بالليل
وترا، أما لأن أوتر هنا بمعنى أراد أي إذا أراد أن يوتر فليركع ركعتين فليوتر أي
بواحدة أو بثلاث فيكون الركعتان قبل الوتر نافلة قائمة مقام التهجد، أو لأن الأمر
بالركعتين هنا لبيان الجواز نظير ما مر من تأويل فعله - صلى الله عليه وسلم - لهما
بعد الوتر بذلك، وهذا الأخير هو الذي فهمه الدارمي والدارقطني حيث أورداه في باب
الركعتين بعد الوتر. وقال القاري: والأخير غير صحيح إذا لم يعرف ورود الأمر لبيان
الجواز فيتعين التأويل الأول- انتهى. (رواه الدارمي) بسند جيد، وأخرجه أيضا
الطحاوي والدارقطني (ص177) والطبراني في الكبير الأوسط والبيهقي (ج3 ص33). وفي سند
الثلاثة عبدالله بن صالح أبوصالح كاتب الليث بن سعد، وفيه كلام.
1295-(34) وعن أبي أمامة: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليهما بعد
الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما، . ?إذا زلزلت? و?قل يآيها الكافرون?)). رواه أحمد.
(36) باب القنوت
1295- قوله: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان) أي أحيانا. (يصليهما) أي
الركعتين. (يقرأ فيهما) أي في الركعتين. ?إذا زلزلت? في الأولى و?قل يآيها
الكافرون? في الثانية. (رواه أحمد) (ج5 ص260) قال الهيثمي: رجاله ثقات، وأخرجه
أيضا الطحاوي والبيهقي (ج3 ص33) والطبراني في الكبير ومحمد بن نصر المروزي في كتاب
الوتر، وروى الدارقطني والبيهقي نحوه من حديث أنس.
(باب القنوت) القنوت ورد في معان كثيرة، ذكر ابن العربي في شرح الترمذي: أن له
عشرة معان، وقد نظمها في البيتين:
دعاء خشوع والعبادة طاعة ……إقامتها إقراره بالعبودية
سكوت صلاة والقيام وطوله ……كذاك دوام الطاعة الرابح النية
(8/66)
والمراد هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام واعلم أن ههنا عدة مسائل خلافية: إحداها أنه يقنت في الوتر أم لا. والثانية أنه إذا قنت في الوتر يقنت قبل الركوع أو بعده. والثالثة أن القنوت في الوتر في جميع السنة أو في النصف الأخير من رمضان. والرابعة ألفاظ قنوت الوتر، وقد سبق الكلام في هذه المسائل، وتعيين ما هو الراجح في ذلك، وسيأتي شيء من الكلام في الثانية والثالثة. وأما مسألة التكبير عند إرادة القنوت في الوتر ورفع اليدين عند تكبير القنوت فيه كرفعهما عند التحريمة، كما يفعله الحنفية فلم يصح فيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، نعم ورد فيهما آثار عن بعض الصحابة، فقد ذكر محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر عن عمر وعلي وابن مسعود والبراء أنهم كبروا عند القنوت في الوتر قبل الركوع. قال شيخنا في شرح الترمذي: لم أقف على حديث مرفوع في التكبير للقنوت، ولم أقف على أسانيد هذه الآثار. وأما رفع اليدين في قنوت الوتر أي كرفعهما عند التحريمة، فلم أقف على حديث مرفوع فيه أيضا، نعم جاء فيه عن ابن مسعود من فعله، فذكره نقلا عن جزء رفع اليدين للبخاري، وعن كتاب الوتر للمروزي، وذكر أيضا في ذلك آثارا عن عمر وأبي هريرة وأبي قلابة ومكحول عن كتابة المروزي، ثم قال: وفي الاستدلال بها على رفع اليدين في قنوت الوتر كرفعهما عند التحريمة نظر، إذ ليس فيها ما يدل على هذا، بل الظاهر منها ثبوت رفع اليدين كرفعهما في الدعاء، فإن القنوت دعاء- انتهى. قلت: الأمر كما قال الشيخ فليس في هذه الآثار دلالة على مطلوبهم، بل هي ظاهرة في رفع اليدين في القنوت حال الدعاء، كما يرفع الدعي فيجوز أن ترفع اليدان حال الدعاء في قنوت الوتر عملا بتلك الآثار كما
(8/67)
ترفعان في قنوت النازلة في غير الوتر لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما سيأتي. قال شيخ مشائخنا الشيخ حسين بن محسن الأنصاري في مجموعة فتاواه (ص160): قد ثبت الرفع من فعله - صلى الله عليه وسلم - في قنوت غير الوتر، فالوتر مثله لعدم الفارق بين القنوتين إذ هما دعاءان، ولهذا قال أبويوسف أنه يرفعهما في قنوت الوتر إلى صدره ويجعل بطونهما إلى السماء، واختاره الطحاوي والكرخي. قال الشامي: والظاهر أنه يبقيهما كذلك إلى تمام الدعاء على هذه الرواية- انتهى. قال: والحاصل أن رفع اليدين في قنوت الوتر. (كرفع الداعي) ثبت من فعل ابن مسعود وعمر وأنس وأبي هريرة، كما ذكره الحافظ في التلخيص، وكفى بهم أسوة وثبت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -في غير الوتر- انتهى. والمسألة الخامسة: هل يشرع القنوت في غير الوتر من غير سبب أو لا يشرع؟ فذهب جماعة، ومنهم أبوحنيفة وأحمد إلى عدم مشروعيته قالوا: لا يسن القنوت من غير سبب في صلاة الصبح، ولا في غيرها من الصلوات سوى الوتر، وذهب جماعة ومنهم مالك والشافعي إلى أنه يسن القنوت في صلاة الصبح في جميع الزمان، وهذا يدل على أنهم اتفقوا على ترك القنوت في أربع صلوات من غير سبب، وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، واختلفوا في صلاة الصبح فقال مالك والشافعي باستمرار شرعيته في الصبح، وذهب أحمد وأبوحنيفة إلى عدم شرعيته وأنه مختص بالنوازل، واحتج المثبتون بما روى الدارقطني (ص118) وعبدالرزاق وأحمد (ج3 ص162) وأبونعيم والطحاوي (ج1 ص143) والبيهقي في المعرفة وفي السنن (ج2 ص201) والحاكم وصححه من حديث أنس قال: ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا. وأجاب النافون بأنه لو صح لكان قاطعا للنزاع، ولكنه من طريق أبي جعفر الرازي، وثقه غير واحد، ولينه جماعة. قال: فيه عبدالله بن أحمد، عن أبيه والنسائي والعجلي: ليس بالقوي. وقال ابن المديني: أنه يخلط. وقال
(8/68)
أبوزرعة: يهم كثيرا. وقال ابن خراش والفلاس: صدوق سيء الحفظ. وقال ابن معين: ثقة لكنه يخطيء. وقال الدوري: ثقة ولكنه يغلط. وقال الساجي: صدوق ليس بمتقن. وقال ابن القيم: هو صاحب مناكير، لا يحتج بما انفرد به أحد من أهل الحديث البتة. وقال ابن حبان: كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير. وقال ابن الجوزي في التحقيق، وفي العلل المتناهية: هذا حديث لا يصح، ثم ذكر الكلام في أبي جعفر الرازي. وقال صاحب التنقيح: وإن صح فهو محمول على أنه ما زال يقنت في النوازل أو على أنه ما زال يطول في الصلاة، فإن القنوت لفظ مشترك بين الطاعة والقيام والخشوع والسكوت وغير ذلك. وقال ابن القيم: ولو صح لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة، فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء، فإن القنوت يطلق على القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخضوع، وحمل قول أنس على إطالة القيام بعد الركوع، وأجاب عن تخصيصه بالفجر بأنه وقع بحسب سؤال السائل، فإنه إنما سأل عن قنوت الفجر فأجابه
(8/69)
عما سأله عنه، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، قال: ومعلوم أنه كان يدعو ربه ويثني عليه ويمجده في هذه الاعتدال، وهذا قنوت منه بلا ريب، فنحن لا نشك ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، إلى آخر ما بسط الكلام فيه. قال الشوكاني: وهو على فرض صلاحية حديث أنس للاحتجاج وعدم اختلافه واضطرابه محمل حسن- انتهى. وأجابوا أيضا بمعارضته بما روى الخطيب من طريق قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان قلنا؛ لأنس أن قوما يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يقنت في الفجر فقال كذبوا إنما قنت شهرا واحدا يدعو على حي من أحياء المشركين، وقيس وإن كان ضعيفا، لكنه لم يتهم بكذب، وروى ابن خزيمة في صحيحة، والخطيب في كتاب القنوت من طريق سعيد عن قتادة عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم. قال الحافظ في الدارية: سنده صحيح، وكذا قال صاحب التنقيح، فاختلفت الروايات عن أنس واضطربت فلا يقوم بمثل هذا حجة، واحتج هؤلاء على عدم مشروعية القنوت في غير الوتر من غير سبب بحديث أبي مالك الأشجعي في الفصل الثاني، وسيأتي الكلام فيه هناك. واحتجوا أيضا بأحاديث مرفوعة صحيحة غير صريحة، أو صريحة غير صحيحة، وبآثار الصحابة، ذكرها النيموي في آثار السنن وغيره في غيره. والراجح عندي ما ذهب إليه أبوحنيفة وأحمد أنه لا يسن القنوت في غير الوتر من غير سبب لا في صلاة الصبح ولا في غيرها من الصلوات، وأنه مختص بالنوازل؛ لأنه لم يرد في ثبوته في غير الوتر من غير سبب حديث مرفوع صحيح خال عن الكلام، صريح في الدلالة على ما ذهب إليه مالك والشافعي، بل قد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على خلاف ما قالا به كما ستقف عليه. والمسألة السادسة: أنه إذا حدث سبب أي نزل بالمسلمين نازلة أي شدة وبليه مثل الوباء والقحط والعدو ونحو ذلك، فهل يشرع القنوت في غير الوتر
(8/70)
أم لا؟ وإذا شرع فهل يختص
بصلاة الفجر أو الجهرية أو يعم الصلوات الخمس؟ فذهب جمهور أهل الحديث والشافعي إلى
أن ذلك مشروع ومطلوب في الصلوات الخمس، وذهب الحنابلة إلى تخصيصه بصلاة الفجر فقط،
وهو مذهب الحنفية على القول المفتى به، وإلا فلهم في المسألة قولان، أحدهما أنه
يختص بالصلوات الجهرية. قال في البناية شرح الهداية: وبه قال الأكثرون، والآخر أنه
يختص بصلاة الفجر فقط. والراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي وجمهور أهل الحديث؛
لأن الأحاديث الصحيحة صريحة في طلب القنوت في الصلوات الخمس، ولم يجئ حديث مرفوع
صحيح أو ضعيف في تخصيصه بالجهرية أو الصبح فقط. قال الشوكاني: الحق ما ذهب إليه من
قال: أن القنوت مختص بالنوازل، وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به بصلاة
دون صلاة. وقد ورد ما يدل على اختصاصه بالنازلة من حديث أنس عند ابن خزيمة في
صحيحة، وقد تقدم، ومن حديث أبي هريرة عند ابن حبان بلفظ: كان لا يقنت إلا أن يدعو
لقوم أو على
?الفصل الأول?
1296-(1) عن أبي هريرة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن
يدعو على أحد، أو يدعو لأحد،
(8/71)
قوم- انتهى. قال الحافظ في الدارية (ص117) وصاحب التنقيح: سند كل من حديث أنس عند ابن خزيمة، وحديث أبي هريرة عند ابن حبان صحيح. وقال ابن القيم ما معناه: الإنصاف الذي يرتضيه العالم المصنف أنه - صلى الله عليه وسلم - قنت وترك وكان تركه للقنوت أكثر من فعله فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم وللدعاء على آخرين ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وخلصوا من الأسر، وأسلم من دعى عليهم، وجاؤوا تائبين، وكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت- انتهى. والمسألة السابعة: أنه إذا قنت في النازلة هل يقنت قبل الركوع أو بعده؟ فذهب الشافعي وأحمد إلى أنه بعد الركوع، واختلفت الحنفية فيه، قال في رد المحتار (ج1 ص628): وهل القنوت هنا قبل الركوع أو بعده؟ لم أره، والذي يظهر لي أن المقتدي يتابع إمامه إلا إذا جهر فيؤمن، وأنه يقنت بعد الركوع لا قبله، بدليل أن ما استدل به الشافعي على قنوت الفجر، وفيه التصريح بالقنوت بعد الركوع حمله علماؤنا على القنوت للنازلة، ثم رأيت الشرنبلالي في مراقي الفلاح صرح بأنه بعده واستظهر الحموي أنه قبله، والأظهر ما قلنا- انتهى. وقال النيموي في تعليق التعليق (ج2 ص21): والذي يظهر لي أنه يقنت للنازلة قبل الركوع أو بعده كلاهما جائز، لما روى عن غير واحد من الصحابة أنهم قنتوا في صلاة الصبح قبل الركوع، ثم ذكر حديث أنس الآتي في آخر الباب، وقال: ورواه ابن المنذر عن حميد عن أنس بلفظ: أن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع وبعضهم بعد الركوع- انتهى. قال: ولكن الأفضل أن يقنت بعد الركوع؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قنت في النازلة بعد ما رفع رأسه من الركوع- انتهى كلام النيموي. قلت: والمختار عندي أن القنوت في النازلة بعد الركوع؛ لأنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - غير ذلك، لكن لو قنت قبل الركوع جاز لما جاء عن بعض الصحابة أنهم قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع. واعلم
(8/72)
أنه لم يثبت في الدعاء في قنوت
النازلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن السلف والخلف دعاء مخصوص متعين
كقنوت الوتر؛ لأنه من المعلوم أن الصحابة كانوا يقنتون في النوازل، وهذا يدل على
أنهم ما كانوا يحافظون على قنوت راتب، ولذلك قال العلماء: أنه ينبغي الدعاء في ذلك
بما يناسب الحال، كما صرح به فقهاء الشافعية والعلامة الأمير اليماني في شرح بلوغ
المرام، فبأي دعاء وقع كفى وحصل به المقصود.
1296- قوله: (كان إذا أراد أن يدعو) أي في صلاته. (على أحد) أي لضرره. (أو يدعو
لأحد) أي
قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد: اللهم أنج
الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة،
___________________________________________________
(8/73)
لنفعه (قنت بعد الركوع) قال القاري: هو يحتمل التخصيص بالصبح، أو تعميم الصلوات، وهو الأظهر- انتهى. قلت: بل هو المتعين؛ لأنه لا دليل على التخصيص، بل يبطله حديث ابن عباس الآتي وغيره، والحديث يدل بمفهومه على أن القنوت في المكتوبة إنما يكون عند إرادة الدعاء على قوم أو لقوم، ويؤيده ما قدمنا من حديث أنس عند ابن خزيمة، وحديث أبي هريرة عند ابن حبان، وأخذ منه الشافعي، وجمهور أهل الحديث أنه يسن القنوت في أخيرة سائر المكتوبات النازلة أي الشدة التي تنزل بالمسلمين عامة كوباء وقحط وخوف وعدو، أو خاصة ببعضهم كأسر العالم أو الشجاع ممن تعدى نفعه، وفيه رد على ما قال الطحاوي في شرح الآثار (ص149): فثبت بما ذكرنا أنه لا ينبغي القنوت في الفجر في حال الحرب وغيره قياسا ونظرا على ما ذكرنا من ذلك، ورد عليه أيضا فيما قال: "إن القنوت في الصلوات كلها للنوازل لم يقل به إلا الشافعي"، "فربما قال" أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (اللهم أنج) بفتح الهمزة أمر من الإنجاء أي أخلص. (الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة) هذا مثال الدعاء لأحد كما أن قوله: اللهم اشدد وطأتك الخ مثال للدعاء على أحد، وكان هؤلاء الصحابة الذين دعا لهم بالإنجاء أسراء في أيدي الكفار بمكة. أما الوليد بن الوليد فهو أخو خالد بن الوليد المخزومي القرشي، شهد بدرا مشركا فأسره عبدالله بن جحش فقدم في فداءه أخواه خالد وهشام وكان هشام أخا الوليد لأبيه وأمه فافتكاه بأربعة الآلف درهم، فلما اقتدى وذهبا به أسلم، فقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفتدي وأنت مع المسلمين؟ قال: كرهت أن تظنوا بي إني جزعت من الإسار، فحبسوه بمكة فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له في القنوت بالنجاة فيمن يدعو لهم من المستضعفين ثم أفلت من أسارهم، ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد معه عمرة القضية. وقال الحافظ في الفتح: كان ممن شهد بدرا مع المشركين
(8/74)
وأسر وفدى نفسه، ثم أسلم فحبس
بمكة، ثم تواعد هو وسلمة وعياش المذكورون معه، وهربوا من المشركين، فعلم النبي -
صلى الله عليه وسلم - بمخرجهم فدعا لهم حتى قدموا فترك الدعاء لهم. قال: ومات
الوليد لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما سلمة فهو سلمة بن هشام بن
المغيرة المخزومي القرشي كان من مهاجري الحبشة، وكان من خيار الصحابة وفضلائهم،
وهو أخو أبي جهل بن هشام، وابن عم خالد بن الوليد، وكان قديم الإسلام حبس بمكة
وعذب في الله عزوجل ومنع من الهجرة إلى المدينة ولم يشهد بدرا لذلك، فكان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له في القنوت، فأفلت ولحق برسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ولم يزل بالمدينة حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف، يجهر بذلك.
(8/75)
فخرج إلى الشام مجاهدا حين بعث أبوبكر الجيوش إلى الشام، فقتل بمرج الصفر في المحرم سنة (14)، وقيل: بأجنادين. وأما عياش بتشديد التحتية بعد العين المهملة المفتوحة وآخره معجمة، فهو ابن أبي ربيعة عمرو بن المغيرة المخزومي، وهو أخو أبي جهل لأمه أسلم قديما قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر الهجرتين، ثم خدعه أبوجهل، فإنه لما قدم عياش إلى المدينة قدم عليه أبوجهل والحارث ابنا هشام فذكرا له أن أمه حلفت أن لا تدخل رأسها دهنا ولا تستظل حتى تراه، فرجع معهما فأوثقاه وحبساه بمكة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له، ثم تخلص وفر مع رفيقه المذكورين، وعاش على خلافة عمر، فمات سنة (15) وقيل: قبل ذلك. وزاد في رواية: اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، وهو تعميم بعد تخصيص. (اللهم اشدد وطأتك) بفتح الواو وسكون الطاء المهملة وهمزة مفتوحة، وأصلها الدوس بالقدم سمي بها الإهلاك؛ لأن من يطأ على شيء برجله فقد استقصى في إهلاكه، والمعنى خذهم أخذا شديدا، ذكره السيوطي. قال السندي: الأقرب أن المراد ههنا العقوبة والبأس، كما يدل عليه آخر الكلام لا الإهلاك كما يدل عليه أوله. (على مضر) بميم مضمومة وفتح ضاد معجمة، وترك صرف بن نزار بن معد بن عدنان، وهو شعب عظيم، فيه قبائل كثيرة كقريش وهذيل وأسد وتميم ومزينة وغيرهم، والمراد كفار أولاد مضر. (واجعلها) الضمير للوطأة أو السنين أو للأيام وإن لم يجر لها ذكر لما يدل عليه المفعول الثاني وهو (سنين) جمع سنة، وهو القحط. (كسني يوسف) أي كسني أيام يوسف عليه السلام من القحط العام في سبعة أعوام، فالمراد بسني يوسف ما وقع في السنين السبع، كما وقع في قوله تعالى: ?ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد? [12: 48] وقد بين ذلك في حديث ابن مسعود عند البخاري حيث قال: سبعا كسبع يوسف، وأضيفت إليه لكونه الذي أنذر بها أو لكونه الذي قام بأمور الناس فيها، وشبه بها لتشديد
(8/76)
القحط واستمراره زمانا. وإجراء
سنين مجرى المذكر السالم في الإعرابي بالواو والياء وسقوط النون بالإضافة شائع.
وقال القسطلاني: فيه شذوذان تغيير مفرده من الفتح إلى الكسر، وكونه جمعا لغير
عاقل، وحكمه أيضا مخالف لجموع السلامة في جواز إعرابه كمسلمين، وبالحركات على
النون وكونه منونا وغير منون منصرفا وغير منصرف- انتهى. (يجهر بذلك) أي بالدعاء
المذكور. وفي حديث جواز الدعاء في قنوت غير الوتر لضعفة المسلمين بتلخيصهم من
الأسر، ويقاس عليه جواز الدعاء لهم بالنجاة من كل ورطة يقعون فيها من غير فرق بين
المستضعفين وغيرهم، وفيه جواز الدعاء على الكفار بالجدب والبلاء، وفيه مشروعية
الجهر بالقنوت للنازلة، وفيه أن الدعاء لقوم بأسمائهم وأسماء آباءهم لا يقطع
الصلاة، وأن الدعاء على الكفار والظلمة
وكان يقول في بعض صلاته: اللهم العن فلانا وفلانا، لأحياء من العرب، حتى أنزل الله
?ليس لك من الأمر شيء? الآية. متفق عليه.
1297-(2) وعن عاصم الأحول، قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة، كان قبل
الركوع أو بعده؟ قال
(8/77)
لا يفسدها (وكان يقول في بعض صلاته) زاد في رواية للبخاري: في صلاة الفجر، وهو بيان لقوله في بعض صلاته. قال الحافظ: فيه إشارة إلى أنه كان لا يداوم على ذلك. (اللهم العن فلانا فلانا لأحياء) أي لقبائل جمع حي بمعنى القبيلة. (من العرب) أي أبعدهم وأطردهم عن رحمتك، وهذا لا يستلزم الدعاء بالإماتة على الكفرة وسوء الخاتمة، وأراد بفلانا وفلانا القبائل نفسها لا إعلاما خاصة لما وقع تسميتهم في رواية يونس عن الزهري عند مسلم بلفظ: اللهم العن رعلا وذكوان وعصية، وكذا وقع تسميتهم بذلك في حديث ابن عباس الآتي، وسنذكره قصتهم في شرح حديث أنس. (حتى أنزل الله ليس لك من الأمر شيء) المعنى أن الله مالك أمرهم. فأما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم أن أسلموا أو يعذبهم أن أصروا على الكفر وماتوا عليه وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت مبعوث؛ لأنذارهم ومجاهدتهم، فليس لك من الأمر إلا التفويض والرضى بما قضى. (الآية) بتثليثها وتمامها أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون واستشكل هذا بأن قصة رعل وذكوان كانت بعد أحد ونزول ليس لك من الأمر من شيء في قصة أحد، كما بينه في حديث أنس عند مسلم وأحمد والترمذي وغيرهم، وفي حديث ابن عمر عند البخاري وغيره فكيف يتأخر السبب عن النزول وأجاب في الفتح بأن قوله: حتى أنزل الله. منقطع من رواية الزهري عمن بلغه، كما بين ذلك مسلم في رواية يونس المذكورة فقال هنا قال يعني الزهري ثم أنه ترك ذلك لما نزلت، قال: وهذا البلاغ لا يصح وقصة رعل وذكوان أجنبية عن قصة أحد ويحتمل أن كان محفوظا أن يقال إن قصتهم كانت عقب ذلك وتأخر نزول الآية عن سببها قليلا ثم نزلت في جميع ذلك. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وغيرهما واللفظ المذكور للبخاري في تفسير آل عمران.
(8/78)
1297- قوله: (وعن عاصم الأحول)
هو عاصم بن سليمان الأحول أبوعبد الرحمن البصري، ثقة تابعي، لم يتكلم فيه إلا
قطان، وكأنه بسبب دخوله في الولاية، مات سنة. (140) وقيل. (141) وقيل. (142) وقيل.
(143) قال ابن سعد: كان من أهل البصرة، وكان يتولى الولايات، فكان بالكوفة على
الحسبة في المكائيل والأوزان، وكان قاضيا بالمدائن لأبي جعفر. (سألت أنس بن مالك
عن القنوت في الصلاة) أي في صلاة الوتر هذا، هو الظاهر عندي. وقيل: المراد في
الصلاة المكتوبة عند النازلة. (كان) أي محله. (قبل الركوع أو بعده قال)
قبله، إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع شهرا، إنه كان بعث
أناسا يقال لهم: القراء، سبعون رجلا، فأصيبوا، فقنت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بعد الركوع شهرا يدعو عليهم)). متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1298-(3) عن ابن عباس، قال: ((قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرا متتابعا
في الظهر
___________________________________________________
(8/79)
أي أنس. (قبله) أي كان محل القنوت في الوتر قبل الركوع، والمتن وقع في اختصار من البغوي وسياقه عند البخاري قال أي عاصم: سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: كذب إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ. وقد وافق عاصما على روايته هذه عبدالعزيز بن صهيب عن أنس، كما وقع في المغازي للبخاري بلفظ: سأل رجل أنسا عن القنوت بعد الركوع أو عند الفراغ من القراءة، قال: لا بل عند الفراغ من القراءة. (إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع) أي في المكتوبة عند النازلة. (شهرا) فقط، وأما في غير المكتوبة أي في الوتر فقنت قبله، يعني فمن حكى أن القنوت دائما بعد الركوع فقد أخطأ فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قنت بعد الركوع شهرا فقط. (إنه) بالكسر استئناف مبين للتعليل للتحديد في الشهر. (كان بعث) أي أرسل. (أناس) أي جماعة من أهل الصفة. (يقال لهم القراء) لكثرة قراءتهم وحفظهم للقرآن وتعليمهم لغيرهم. (سبعون) أي هم سبعون (رجلا) وكانوا من أوزاع الناس ينزلون الصفة يتفقهون العلم ويتعلمون القرآن، وكانوا ردءا للمسلمين إذا نزلت بهم نازلة وكانوا حقا عمار المسجد وليوث الملاحم، بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجد من بني عامر ليدعوهم على الإسلام ويقرؤا عليهم القرآن، فلما نزلوا بئر معونة قصدهم عامر بن الطفيل في أحياء من بني سليم، وهو رعل وذكوان وعصية فقاتلوهم. (فأصيبوا) أي فقتلوا جميعا. قيل: ولم ينج منهم إلا كعب بن زيد الأنصاري، فإنه تخلص وبه رمق وظنوا أنه مات، فعاش حتى استشهد يوم الخندق وأسر عمرو بن أمية الصغرى، وكان ذلك في السنة الرابعة من الهجرة أي في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزنا شديدا، قال أنس: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد على أحد ما وجد عليهم. (فقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في الصلوات الخمس. (بعد
(8/80)
الركوع شهرا يدعو عليهم) أي
على قاتليهم. والحديث يدل على مشروعية القنوت في النازلة، وعلى أن القنوت في
النازلة بعد الركوع. وأن قنوته - صلى الله عليه وسلم - في المكتوبة لهذه النازلة
كان محصورا على الشهر بعد الركوع، وأنه لم يقنت بعد ذلك الشهر لعدم وقوع نازلة
تستدعي القنوت بعده، وأنه لم يقنت في المكتوبة لغير النازلة قط لا قبل الركوع ولا
بعده، كما دل عليه حديث أنس عند ابن خزيمة وحديث أبي هريرة عند ابن حبان، وقد
تقدما. (متفق عليه) للحديث ألفاظ في الصحيحين وغيرهما، وأخرجه البخاري في مواضع
مطولا ومختصرا.
1298- قوله: (شهرا متتابعا) أي مواليا أيامه يعني قنت في كل يوم منه لم يتركه في
وقت. (في الظهر
والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة
الأخيرة، يدعو
على أحياء من بنى سليم: على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه)). رواه أبوداود.
1299-(4) وعن أنس، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت شهرا ثم تركه)). رواه
أبوداود، والنسائي.
1300-(5) وعن أبي مالك الأشجعي،
___________________________________________________
(8/81)
(والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح) في أبي داود بعده في دبر كل صلاة، وفيه دليل على أن القنوت للنوازل لا يختص ببعض الصلوات، فهو يرد على من خصصه بالجهرية أو بصلاة الفجر عندها. (إذا قال سمع الله لمن حمده) أي وقال ربنا لك الحمد، كما ثبت ذلك في حديث ابن عمر عند البخاري وأحمد. وفيه أن القنوت للنازلة بعد الركوع. (من بني سليم) مصغر. (على رعل) بدل بإعادة الجار، وهو بكسر الراء وسكون المهملة، قبيلة من بني سليم. (وذكوان) بفتح الذال المعجمة، قبيلة من بني سليم أيضا. (وعصية) كسمية تصغير عصا، قبيلة أيضا من بني سليم فالأول هو رعل بن خالد بن عوف بن امرىء القيس بن بهثه بن سليم، والثاني هو ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم. والثالث عصية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم، فالثلاثة قبائل من سليم. (ويؤمن من خلفه) أي يقول آمين من خلفه من المأمومين. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج1 ص225 -226) والبيهقي (ج2 ص200، 212) من طريق الحاكم وأبي داود. وزاد الحاكم: أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام فقتلوهم. والحديث سكت عنه أبوداود، وصححه الحاكم، وذكره الحافظ في التلخيص من غير كلام فيه. وقال المنذري: في إسناده هلال بن خباب أبوالعلاء العبدي، وقد وثقه أحمد وابن معين وأبوحاتم الرازي. وقال أبوحاتم: وكان يقال تغير قبل موته من كبر السن. وقال العقيلي: في حديثه وهم تغير بآخرة. وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره فكان يحدث بالشيء على التوهم لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد- انتهى. وقال الحافظ: أنه صدوق تغير بأخرة.
(8/82)
1299- قوله: (قنت) أي في
المكتوبة. (شهرا) أي بعد الركوع. (ثم تركه) أي القنوت في الفرض؛ لأنه قنت في
نازلة. كما تقدم، فلما زالت وارتفعت تركه. وقال الشافعي ومن وافقه: معناه تركه في
الصلوات الأربع ولم يتركه في الصبح أو ترك اللعن والدعاء على القبائل، ولا يخفى ما
فيه. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد ومسلم ولفظه: قنت شهرا يدعو على
أحياء العرب ثم تركه، وأخرج بهذا اللفظ أحمد والنسائي والبيهقي (ج2 ص201) أيضا.
1300- قوله: (وعن أبي مالك الأشجعي) اسمه سعد بن طارق الكوفي من ثقات التابعين،
روى عن
قال: قلت لأبي: يا آبت! إنك قد صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي
بكر، وعمر، وعثمان،
وعلي، ههنا بالكوفة نحوا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني! محدث )). رواه
الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
(8/83)
أبيه وأنس وعبدالله بن أبي أوفي وغيرهم، مات في حدود الأربعين ومائة، ووالده طارق بن أشيم بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الياء التحتية على وزن أحمر ابن مسعود الكوفي، صحابي، قليل الحديث، لم يرو عنه إلا ابنه سعد أبومالك، وأحاديثه في مسند أحمد (ج3 ص472 وج6 ص394- 395). (يا أبت) بكسر التاء. (وأبي بكر وعمر وعثمان) أي بالمدينة. (وعلي) أي وصليت خلف علي. (ههنا بالكوفة) هما ظرفان متعلقان بصليت خلف علي المحذوف. (نحوا) أي قريبا. (من خمس سنين) هذا أيضا متعلق بصليت خلف علي المحذوف. (أكانوا يقنتون) بإثبات همزة الاستفهام. وفي نسخ المصابيح بإسقاطها. واختلفت نسخ الترمذي في ذلك، فبعضها بحذفها وبعضها بإثباتها. وفي رواية ابن ماجه: فكانوا يقنتون في الفجر، فالسؤال مقدر. (قال) أي أبي. (أي بني محدث) بفتح الدال أي القنوت في المكتوبة أو في الفجر بدعة، والمراد الدوام والاستمرار عليه لا القنوت مطلقا جمعا بين الأحاديث، فهذا يدل على أن القنوت في المكتوبة كان مخصوصا بأيام المهام والنوازل والوقائع. وقال البيهقي (ج2 ص213): لم يحفظ طارق بن أشيم القنوت عمن صلى خلفه فرآه محدثا وقد حفظه غيره، فالحكم لمن حفظ دون من لم يحفظه- انتهى. وقال غيره: ليس في هذا الحديث دليل على أنهم ما قنتوا قط، بل اتفق أن طارقا صلى خلف كل منهم وأخذ بما رأى. ومن المعلوم أنهم كانوا يقنتون في النوازل. وهذا الحديث يدل على أنهم ما كانوا يحافظون على قنوت راتب، كذا في نصب الراية (ج2 ص131). وقال الطيبي: لا يلزم من نفي هذا الصحابي نفي القنوت؛ لأنه شهادة بالنفي، وقد شهد جماعة بالإثبات مثل الحسن وأبي هريرة وابن عباس- انتهى. يعني أن المثبت مقدم على المنفي. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن صحيح. وقال في التلخيص (ص93): إسناده حسن. (والنسائي) ولفظه عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه
(8/84)
وسلم - فلم يقنت، وصليت خلف
أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف
علي فلن يقنت، ثم قال يا بني إنها بدعة. (أي المداومة على القنوت بدعة، وتأنيث
الضمير باعتبار الخبر). (وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص472 وج6 ص394) والبيهقي
(ج2 ص213) والطحاوي (ج1 ص146).
?الفصل الثالث?
1301-(6) عن الحسن، أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بهم
عشرين ليلة، ولا يقنت بهم إلا في النصف الباقي، فإذا كانت العشر الأواخر يتخلف
فصلى
في بيته، فكانوا يقولون: أبق أبي. رواه أبوداود.
(8/85)
1301- قوله: (عن الحسن) أي البصري. (أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب) أي كان الناس قبل ذلك يصلون في المسجد في رمضان أوزعا متفرقين، كما سيأتي في الفصل الثالث، من الباب الذي يلي هذا الفصل. فجمعهم عمر على أبي. (فكان) أي أبي. (يصلي بهم) أي صلاة التراويح. (عشرين ليلة) يعني من رمضان. (ولا يقنت بهم) أي في الوتر. (إلا في النصف الباقي) أي الأخير، وذكره الزيلعي عن أبي داود بلفظ الثاني، وهو الظاهر. (يتخلف) أي أبي عن المسجد. وفي بعض النسخ: تخلف بالماضي، موافقا لما في أبي داود والبيهقي وجامع الأصول (ج6 ص262). (فكانوا يقولون أبق) بفتح الباء من باب ضرب ونصر. (أبي) أي هرب عنا، يعني لم يدخل المسجد ليصلي بهم التراويح. قال الطيبي: في قولهم أبق إظهار كراهة تخلفه، فشبهوه بالعبد الآبق، كما في قوله تعالى: ?إذا أبق إلى الفلك المشحون? [37: 140] سمي هرب يونس بغير إذن ربه إباقا مجازا، ولعل تخلف أبي كان تأسيا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث صلاها بالقوم ثم تخلف، كما سيأتي، والأولى أن يحمل تخلفه على عذر من الأعذار. قال ابن حجر: وكان عذره أنه كان يؤثر التخلي في هذا العشر الذي لا أفضل منه، ليعود عليه من الكمال في خلوته فيه ما لا يعود عليه في جلوته عندهم. والحديث استدل به للشافعية على تخصيص القنوت في الوتر بالنصف الأخير من رمضان، لكنه حديث ضعيف؛ لأنه منقطع، فإن الحسن لم يدرك عمر؛ لأنه ولد لسنتين بقيتا من خلافته، ويضعفه أيضا أن الحسن كان يقنت في جميع السنة، كما ذكره محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر (ص32)، ثم هو فعل الصحابي مع أن القنوت في حديث الباب يحتمل كونه طول القيام، فإنه يقال عليه تخصيصا للنصف الأخير بزيادة الاجتهاد، ولم يرو حديث مرفوع صحيح أو حسن في تخصيص قنوت الوتر برمضان، وقد تقدم في باب الوتر ما يدل على مشروعيته في جميع السنة، فهو الراجح المعول عليه. (رواه أبوداود) ومن
(8/86)
طريقة البيهقي (ج2 ص498) وهو
منقطع، كما تقدم، وأخرجه أيضا محمد بن نصر بمعناه، وأصل جمع عمر الناس على أبي في
صحيح البخاري دون القنوت، كما سيأتي. وأخرج أيضا أبوداود والبيهقي من طريقه عن
هشام عن محمد بن سيرين عن بعض أصحابه أن أبي بن كعب أمهم يعني في رمضان وكان يقنت
في النصف الأخير من رمضان، وفيه مجهول. وقال النووي في الخلاصة: الطريقان ضعيفان.
قال أبوداود: وهذان الحديثان يدلان على ضعف
1302-(7) وسئل أنس بن مالك عن القنوت: فقال: ((قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- بعد الركوع)). وفي رواية: ((قبل الركوع وبعده)). رواه ابن ماجه.
(37) باب قيام شهر رمضان
حديث أبي بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في الوتر- انتهى. يشير إلى
ما قدمنا من حديث أبي بن كعب نقلا عن النسائي وابن ماجه في إثبات قنوت الوتر قبل
الركوع. قلت: ولا دلالة في هذين الحديثين على ضعف حديث أبي؛ لأنهما ضعيفان، كما
تقدم.
(8/87)
1302- قوله: (وسئل) بصيغة المجهول. (أنس بن مالك) والسائل هو محمد بن سيرين، كما ستعرف. (عن القنوت) أي عن محله في المكتوبة، أو في الصبح عند النازلة. (فقال: قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع) أي شهرا فقط، يعني في المكتوبة، أو في الصبح حين دعاء على رعل وذكوان وعصية كما تقدم من حديث عاصم الأحول عن أنس. وأصل هذا الحديث عند الشيخين أخرجاه من طريق أيوب عن محمد بن سيرين قال: سئل أنس بن مالك: أقنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصبح؟ قال: نعم. فقيل: أو قنت قبل الركوع. (أو بعد الركوع) ؟ قال: بعد الركوع يسيرا. لفظ البخاري ولمسلم عن أيوب عن محمد قال: قلت؛ لأنس هل قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح؟ قال نعم بعد الركوع يسيرا. (وفي رواية) هذا حديث آخر، أخرجه ابن ماجه من طريق حميد عن أنس قال: سئل عن القنوت في صلاة الصبح فقال: كنا نقنت قبل الركوع وبعده، والرواية الأولى أخرجها من طريق أيوب عن محمد. (ابن سيرين) قال: سألت أنس بن مالك عن قنوت فقال: قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع، وبهذا ظهر أن الرواية الثانية موقوفة. (قبل الركوع وبعده) أي في الصبح وقت قنوت النازلة. ورواه ابن المنذر عن حميد عن أنس بلفظ: إن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع، وبعضهم بعد الركوع، وهذا كله يدل على اختلاف عمل الصحابة في محل القنوت المكتوبة فقنت بعضهم قبل الركوع وبعضهم بعده، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يثبت عنه القنوت في المكتوبة إلا عند النازلة، ولم يقنت في النازلة إلا بعد الركوع، هذا ما تحقق لي، والله أعلم. (رواه ابن ماجه). الرواية الثانية صححها أبوموسى المديني، كما في التلخيص (ص94). وقال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
(8/88)
(باب قيام شهر رمضان) أي قيام
لياليه وإحياءها بالعبادة من صلاة التراويح وتلاوة القرآن وغيرهما، وذكر النووي أن
المراد بقيام رمضان صلاة التراويح. قال الحافظ: يعني أنه يحصل بها المطلوب من
القيام، لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها. وقال الكرماني: اتفقوا على أن المراد
بقيامه صلاة التراويح، وبه جزم النووي
?الفصل الأول?
1303-(1) وعن زيد بن ثابت، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة في المسجد
وغيره، وذكر في الباب قيام ليلة النصف من شعبان تبعا. والتراويح جمع ترويحة، وهي
المرة الواحدة من الراحة، كتسليمة من السلام، سميت الصلاة في الجماعة في ليالي
رمضان التراويح؛ لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، كذا
في الفتح. وقال المجد في القاموس: ترويحة شهر رمضان سميت بها لاستراحة بعد كل أربع
ركعات- انتهى. وروى البيهقي في السنن (ج2 ص497) عن عائشة قالت: كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يصلي أربع ركعات في الليل ثم يتروح فأطال حتى رحمته فقلت:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: أفلا
أكون عبدا شكورا. قال البيهقي: قوله ثم يتروح إن ثبت فهو أصل في تروح الإمام في
صلاة التراويح، وفي سنده المغيرة بن زياد الموصلى. قال البيهقي: قد تفرد به، وهو ليس
بالقوي صاحب مناكير. وقال أحمد: مضطرب الحديث منكر الحديث أحاديثه مناكير. وقال
أبوحاتم وأبوزرعة: لا يحتج به. وقال النسائي والدارقطني: ليس بالقوي، ووثقه ابن
معين والعجلي وابن عمار ويعقوب بن سفيان. وقال أبوداود: صالح. وقال الحافظ: صدوق
له أوهام. واعلم أن التراويح وقيام رمضان وصلاة الليل وصلاة التهجد في رمضان عبارة
عن شيء واحد واسم لصلاة واحدة، وليس التهجد في رمضان غير التراويح؛ لأنه لم يثبت
من رواية صحيحة ولا ضعيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في ليالي رمضان
صلاتين إحداهما التراويح، والأخرى
(8/89)
التهجد، فالتهجد في غير رمضان
هو التراويح في رمضان، كما يدل عليه حديث أبي ذر وغيره، وإليه ذهب صاحب فيض الباري
من الحنفية حيث قال: المختار عندي أن التراويح وصلاة الليل واحد وإن اختلفت
صفتاهما، كعدم المواظبة على التراويح، وأدائها بالجماعة، وأدائها في أول الليل تارة،
وإيصالها إلى السحر أخرى بخلاف التهجد، فإنه كان في آخر الليل، ولم تكن فيه
الجماعة، وجعل اختلاف الصفات دليلا على اختلاف نوعيهما ليس بجيد عندي، بل كانت تلك
صلاة واحدة، إذا تقدمت سميت باسم التراويح، وإذا تأخرت سميت باسم التهجد، ولا بدع
في تسميتها باسمين عند تغاير الوصفين، فإنه لا حجر في التغاير الاسمي إذا اجتمعت
عليه الأمة، وإنما يثبت تغاير النوعين إذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه صلى التهجد مع إقامته بالتراويح-انتهى. قلت: لا شك في أن التراويح والتهجد
صلاة واحدة، لكن تخصيص التهجد بكونه في آخر الليل، فيه عندي كلام، نعم أكثر صلاته
- صلى الله عليه وسلم - بالليل كانت في آخره.
1303- قوله: (اتخذ) أي في رمضان. (حجرة) بالراء. قال الحافظ: كذا للأكثر بالراء،
ولأبي ذر عن الكشمهيني: بالزاي أي شيئا حاجزا، يعني مانعا بينه وبين الناس. (في
المسجد) أي في مسجد المدينة
من حصير، فصلى فيها ليالي، حتى اجتمع عليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلة، وظنوا أنه قد
نام،
فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال:
(8/90)
(من حصير) أي موضعا من المسجد بحصيرة ليستره، يعني جعل الحصير كالحجرة ليصلي فيه التطوع، ولا يمر بين يديه مار ليتوفر خشوعه ويتفرغ قلبه، وفيه جواز مثل هذا إذا لم يكن فيه تضييق على المصلين ونحوهم ولم يتخذه دائما؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحتجره بالليل يصلي فيه، ويبسطه بالنهار فيجلس عليه، كما في رواية عائشة عند الشيخين. (فصلى فيها) أي في تلك الحجرة. (ليالي) أي من رمضان. (حتى اجتمع) قال القاري: أي فكان يخرج عليه الصلاة والسلام منها، ويصلي بالجماعة في الفرائض والتراويح حتى اجتمع. (عليه ناس) أي وكثروا، وقول ابن حجر ههنا: فأتموا به موهم أن الإقتداء وقع به، وهو في داخل الحجرة، وهو محل بحث، ويحتاج إلى نقل صحيح- انتهى كلام القاري. قلت: ظاهر الحديث أنهم اقتدوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في داخل الحجرة، ويؤيده رواية البخاري في الأدب بلفظ: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها قال: فتتبع إليه رجال. (أي طلبوا موضعه واجتمعوا عليه) وجاءوا يصلون بصلاته الخ. ويؤيده أيضا حديث عائشة عند البخاري قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل في حجرته. (أي التي اتخذها من حصير) وجدار الحجرة قصيرة فرأى الناس شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام أناس يصلون بصلاته- الحديث. وقيل: هذه قصة أخرى غير ما وقع في حديث زيد بن ثابت، والله أعلم. واستشكل صلاته - صلى الله عليه وسلم - في المسجد؛ لأنه يلزم منه أن يكون تاركا للأفضل الذي أمر به الناس به حيث قال: فصلوا في بيوتكم الخ. وأجيب عنه بوجوه: منها أن هذه الصلاة مما استثني عنه؛ لأن الأفضل عند الجمهور في صلاة التراويح المسجد، كما سيأتي. ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم -كان إذ ذاك معتكفا، ومن المعلوم أن المعتكف لا يصلي إلا في المسجد. ومنها أنه إذا احتجر صار كأنه بيت بخصوصية. ومنها أن السبب في كون صلاة التطوع في البيت
(8/91)
أفضل عدم شوبه بالرياء غالبا،
والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن الرياء في بيته وفي غير بيته. (ثم فقدوا
صوته) أي حسه. (ليلة) بأن دخل الحجرة بعد ما صلى بهم الفريضة ولم يخرج إليهم بعد
ساعة للتراويح، قاله القاري، وفيه ما تقدم. (فجعل بعضهم يتنحنح) فيه دليل لما
أعتيد في بعض النواحي من التنحنح إشارة إلى الاستئذان في دخوله، أو إلى الإعلام
بوجود المتنحنح بالباب أو بطلبه خروج من قصده إليه. (ليخرج) أي النبي - صلى الله
عليه وسلم - من الحجرة. (إليهم) لصلاة التراويح بعد أن دخل فيها، كما في الليالي
الماضية، قاله القاري. (فقال) أي فخرج فقال، ففي رواية البخاري في الأدب: ثم جاءوا
ليلة فحضروا وابطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، فلم يخرج إليهم فرفعوا
أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضبا، وقوله: حصبوا الباب يدل بظاهره على أنه
دخل بيتا من بيوت أزواجه بعد ما صلى بهم الفريضة
ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم، حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما
قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة
المكتوبة)).
(8/92)
فلم يخرج منه إلى الحجرة التي كان احتجرها في المسجد بالحصير، فحصبوا باب بيته ليخرج منه إلى حجرة الحصير فيصلوا بصلاته من ورائها. (ما زال بكم) أي متلبسا كم. (الذي رأيت) بكم خبر زال قدم على الاسم، وهو الموصول بصلته، أي أبدا ثبت بكم الذي رأيت. (من صنيعكم) قال الحافظ: كذا للأكثر، وللكشمهيني بضم الصاد وسكون النون، أي من شدة حرصكم على إقامة صلاة التراويح بالجماعة، حتى رفعتم أصواتكم وحصب بعضكم الباب وتنحنح بعضكم. (حتى خشيت أن يكتب) أي يفرض (عليكم) أي لو واظبت على إقامتها بالجماعة لفرضت عليكم. (ولو كتب عليكم) ذلك (ما قمتم به) ولم تطيقوه بالجماعة كلكم بعجزكم. قال القاري: فيه دليل على أن التراويح سنة جماعة وانفرادا، والأفضل في عهدنا الجماعة لكسل الناس. وقد استشكلت هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء من أن الله تعالى قال: هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي، فإذا أمن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟ وقد أجيب عنه بأجوبة ذكرها الحافظ في الفتح عن الشراح، وتكلم في كل واحد منها، ثم قال: وقد فتح الباري بثلاثة أجوبة أخرى: أحدها يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل بمعنى جعل التهجد في المسجد جماعة شرطا في صحة التنفل بالليل، ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فمنعهم من التجميع في المسجد إشفاقا عليهم من اشتراطه وأمن مع أذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم. ثانيها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون زائدا على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها. ثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع في حديث الباب. (أي حديث عائشة) إن ذلك كان في رمضان، وفي رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة عند أحمد: خشيت أن يفرض عليكم قيام
(8/93)
هذا الشهر، فعلى هذا يرتفع
الإشكال؛ لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة، فلا يكون ذلك قدرا زائدا على
الخمس، وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة في نظري الأول-انتهى كلام الحافظ. (فصلوا أيها
الناس في بيوتكم) أي النوافل التي لم تشرع فيها الجماعة والتي لا تخص المسجد،
والأمر للاستحباب. (فإن أفضل صلاة المرء) هذا عام لجميع النوافل والسنن إلا
النوافل التي من شعار الإسلام كالعيد والكسوف والاستسقاء. قاله القاري. وقال بعض
الأئمة الشافعية: هو محمول على ما لا يشرع فيه التجميع، وكذا ما لا يخص المسجد
كركعتي التحية. (في بيته) خبر إن أي صلاته في بيته. (إلا الصلاة المكتوبة) أي
المفروضة. قال النووي:
متفق عليه.
1304-(2) وعن أبي هريرة قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب في قيام
رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: من قام رمضان إيمانا واحتسابا،
(8/94)
إنما حث على النافلة في البيت، لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وليتبرك البيت بذلك فتنزل فيه الرحمة وينفر منه الشيطان. قلت: والحديث يدل على أن صلاة التراويح في البيت أفضل؛ لأنه ورد في صلاة رمضان في مسجده - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان صلاة رمضان في البيت أفضل منها في مسجده - صلى الله عليه وسلم - فكيف غيرها في مسجد آخر؟ وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن صلاة رمضان أي التراويح في المسجد أفضل، وهذا يخالف هذا الحديث؛ لأن مورده صلاة رمضان. وأجيب عنهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لخشية الافتراض، فإذا زالت الخشية بوفاته - صلى الله عليه وسلم - ارتفعت العلة المانعة، وصار أداءها في المسجد أفضل، كما أداها - صلى الله عليه وسلم - في المسجد عدة ليال، ثم أجراها عمر بن الخطاب واستمر عليها عمل المسلمين إلى يومنا هذا؛ لأنه من الشعائر الظاهرة للإسلام فأشبه صلاة العيد، وأجاب السندي بأنه يقال: صار أفضل حين صار أداءها في المسجد من شعار الإسلام، والله تعالى أعلم. وفي الحديث ندب قيام رمضان جماعة؛ لأن الخشية المذكورة أمنت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك جمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب، كما سيأتي. وفيه أن الكبير إذا فعل شيئا خلاف ما اعتاده أتباعه ينبغي أن يذكر لهم عذره وحكمه والحكمة فيه. وفيه ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه من الشفقة على أمته والرأفة بهم. وفيه ترك بعض المصالح لخوف المفسدة وتقديم أهم المصلحتين. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة والأدب والاعتصام، ومسلم في الصلاة، واللفظ للبخاري في الاعتصام. وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي والبيهقي (ج2 ص494).
(8/95)
1304- قوله: (يرغب) أي الناس،
وهو بضم الياء وفتح الراء وكسر الغين المعجمة المشددة من الترغيب. (في قيام رمضان)
أي يحضهم على قيام لياليه، مصليا أي صلاة التراويح، كما قاله النووي. (من غير أن
يأمرهم فيه بعزيمة) أي بعزم وقطع وبت، يعني بفريضة، وفيه التصريح بعدم وجوب
القيام. قال النووي: معناه لا يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم بل أمر ندب وترغيب، ثم فسره
بقوله فيقول الخ. وهذه الصيغة تقتضي الندب والترغيب دون الإيجاب، واجتمعت الأمة
على أن قيام رمضان ليس بواجب بل هو مندوب. (من قام رمضان) أي قام لياليه مصليا
يعني صلى التراويح، وقيل: المراد ما يحصل به مطلق القيام. (إيمانا أي تصديقا بوعد
الله عليه بالثواب. (واحتسابا) أي طلبه للأجر والثواب من غير رياء وسمعة،
غفر له ما تقدم من ذنبه، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ثم كان
الأمر على ذلك في خلافة
أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر على ذلك)).
(8/96)
فنصبهما على المفعول له. وقيل: على الحال مصدران بمعنى الوصف أي مؤمنا بالله ومصدقا بأن هذا القيام حق وتقرب إليه معتقدا فضيلته ومحتسيا بما فعله عند الله أجرا، مريدا به وجه الله، لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص. وقيل: منصوبان على التمييز، يقال: فلان يحتسب الإخبار أي يتطلبها، ويقال: احتسب بالشيء أي اعتد به. (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي من الصغائر من حقوق الله. وقال الحافظ: ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر. وقال النووي: المعروف عند الفقهاء أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين، وعزاه عياض لأهل السنة. قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة- انتهى. وزاد أحمد وغيره وما تأخر. وقال الحافظ: وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب عدة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد، وقد استشكلت هذه الزيادة من حيث أن المغفرة تستدعي سبق شيء يغفر، والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر، والجواب عنه أنه كناية عن عدم الوقوع يعني يحفظهم الله في المستقبل عن الكبائر فلا تقع منهم كبيرة، وقيل: معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة، وبهذا أجاب جماعة منهم الماوردي في الكلام على حديث صيام عرفة، وأنه يكفر سنتين سنة ماضية وسنة آتية. (فتوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كذا وقع مدرجا في نفس الخبر عند مسلم والترمذي وأبي داود، وهو قول الزهري صرح به مالك في الموطأ والبخاري في صحيحة ومحمد بن نصر في قيام الليل من رواية مالك. قال الباجي: وهذا مرسل أرسله الزهري وأدرجه معمر في نفس الحديث. أخرجه مسلم والترمذي وأبوداود من طريق معمر عن ابن شهاب. (والأمر على ذلك) أي على ترك اهتمام الجماعة الواحدة في صلاة التراويح، يعني كانوا يصلون أوزاعا متفرقين يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، ويصلي بعضهم في أول الليل، وبعضهم في آخره ويصلي بعضهم في بيته وبعضهم في المسجد، إما لكونهم
(8/97)
معتكفين أو؛ لأنهم من أهل
الصفة أو لغير ذلك. (ثم كان الأمر) أي أمر صلاة التراويح. (على ذلك) أي على وفق ما
كان زمانه - صلى الله عليه وسلم - في خلافة أبي بكر أي في جميع زمانها. (وصدرا)
بالنصب عطفا على خبر كان. (من خلافة عمر) أي في أول خلافته، وصدر الشيء وجهه
وأوله. (على ذلك) أي ما ذكر، ثم جمعهم عمر على قاري في المسجد واهتم بالجماعة
الواحدة، قيل: المراد بصدر من خلافته السنة الأولى من خلافته؛ لأن بدء خلافته في
أخرى الجمادين سنة ثلاث عشرة، واستقر أمر التراويح سنة أربع عشرة من الهجرة في
السنة الثانية من خلافته، كما ذكره السيوطي وابن الأثير وابن سعد. قال الباجي:
وإنما أمضاه أبوبكر على ما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد علم أن
رواه مسلم.
1305-(3) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا قضى أحدكم
الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته
خيرا)).
(8/98)
الشرائع لا تفرض بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد وجهين: إما لأنه شغل بأمر أهل الردة وغير ذلك من مهمات الأمور، ولم يتفرغ للنظر في جميع أمور المسلمين مع قصر مدة خلافته، أو لأنه رأى من قيام الناس في آخر الليل وقوتهم عليه ما كان أفضل عنده من جمعهم على إمام واحد في أول الليل، ثم رأى عمر أن يجمعهم على إمام واحد-انتهى مختصرا. والحديث يدل على فضيلة قيام رمضان وتأكد استحبابه، واستدل به أيضا على استحباب صلاة التراويح؛ لأن القيام المذكور في الحديث المراد به صلاة التراويح، كما تقدم عن النووي والكرماني. قال النووي: واتفق العلماء على استحبابها، قال: واختلفوا في أن الأفضل صلاتها في بيته منفردا أم في جماعة في المسجد، فقال الشافعي: وجمهور أصحابه وأبوحنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم: أن الأفضل صلاتها جماعة في المسجد، كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم، واستمر عمل المسلمين عليه؛ لأنه من الشعائر الظاهرة فأشبه صلاة العيد، وبالغ الطحاوي فقال: إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية. وقال مالك وأبويوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل فرادى في البيت لحديث زيد بن ثابت المتقدم بلفظ: صلوا في بيوتكم الخ. وقد تقدم الجواب عنه. وقال الحافظ: عند الشافعية في أصل المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: من كان يحفظ القرآن ولا يخاف من الكسل ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه فصلاته في الجماعة والبيت سواء، فمن فقد بعض ذلك فصلاته في الجماعة أفضل- انتهى. قلت: وهذا هو الراجح عندي، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد ومالك والبخاري والترمذي وأبوداود ومحمد بن نصر والبيهقي (ج2 ص492). لكن ليس عند البخاري قوله: كان يرغب في قيام رمضان إلى قوله بعزيمة وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصرا.
(8/99)
1305- قوله: (إذا قضى أحدكم
الصلاة) أي أداها "وال" للعهد أي المكتوبة. (في مسجده) يعني أدى الفرض
في محل الجماعة، ويحتمل أن المراد مطلق الصلاة التي يريد أن يصليها في المسجد. قال
السندي: يحتمل أن المراد بالصلاة جميع ما يريد أن يصلي من الفرائض والنوافل،
والمعنى إذا أراد أن يقضي ويؤدي تلك الصلاة. (فليجعل لبيته نصيبا من صلاته) أي
فليصل شيئا منها في البيت، "فمن" تبعيضية، ويحتمل أن المراد بها الفرائض،
والمعنى إذا فرغ من الفرائض في المسجد فليجعل نصيبا منه في البيت يجعل سنته
ومتعلقاته فيه، ومن سببية. (فإن الله تعالى جاعل) أي خالق أو مصير. (في بيته من
صلاته) أي من أجلها. (خيرا) يعود على أهله
رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1306-(4) عن أبي ذر، قال: ((صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم بنا
شيئا من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم
بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا، حتى ذهب شطر الليل،
بتوفيقهم وهدايتهم ونزول البركة في أرزاقهم وأعمارهم. قال العلقمي: من سببية بمعنى
من أجل، والخير الذي يجعل في البيت بسبب التنفل فيه هو عمارته بذكر الله تعالى
وطاعته، وحضور الملائكة واستغفارهم ودعاؤهم، وما يحصل لأهله من الثواب والبركة،
وتستثنى التراويح لما تقدم من فعله عليه السلام ولما تقرر عليه عمل الصحابة بعده،
فيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب تبعا للبغوي موهم، كما لا يخفى. (رواه مسلم)
وكذا أحمد (ج3 ص316) والبيهقي (ج2 ص189) كلهم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي
سفيان عن جابر، وأخرجه ابن ماجه والبيهقي أيضا من حديث أبي سعيد كلاهما من طريق
سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أبي سعيد الخدري. قال البوصيري في
الزوائد: رجاله ثقات. وأخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحة من حديث أبي سعيد، كما في
الترغيب، وأخرجه الدارقطني في الإفراد عن أنس.
(8/100)
1306- قوله: (صمنا مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في رمضان، كما في رواية أبي داود والنسائي وابن
ماجه والبيهقي. (فلم يقم بنا) أي في لياليه يعني لم يصل لنا التراويح. (شيئا من
الشهر) بل كان إذا صلى الفرض دخل حجرته. (حتى بقي سبع) أي من الشهر، كما في
الترمذي والنسائي أي ومضى اثنان وعشرون. قال الطيبي: أي سبع ليال نظرا إلى
المتيقن، وهو أن الشهر تسع وعشرون، فيكون القيام في قوله: (فقام بنا) ليلة الثالثة
والعشرين، وهو مصرح في بعض روايات أحمد، وصرح أيضا بذلك في حديث النعمان بن بشير
عند النسائي. ولفظ ابن ماجه: فقام بنا ليلة السابعة. قال السندي: وهي الأولى من
الباقية، ودأب العرب أنهم يحسبون الشهر من الآخر، وهذا القيام لم يعلم كيف كان،
وفسره كثير من العلماء بالتراويح- انتهى. ورواه البيهقي بلفظ: فلم يقم بنا من
الشهر شيئا حتى كانت ليلة ثلاث وعشرين قام بنا حتى ذهب نحو من ثلث الليل. (حتى ذهب
ثلث الليل) قال شيخنا: المراد بالقيام صلاة الليل، والمعنى صلى بنا بالجماعة صلاة
الليل إلى ثلث الليل، وفيه ثبوت صلاة التراويح بالجماعة في المسجد أول الليل-
انتهى كلام الشيخ. وهذا يدل على أن المراد عنده بقيام ليالي رمضان صلاة التراويح،
كما ذهب إليه كثير من العلماء، وادعى الكرماني الاتفاق عليه. (فلما كانت السادسة)
أي مما بقي وهي الليلة الربعة والعشرون. (فلما كانت الخامسة) وهي الليلة الخامسة
والعشرون. (حتى ذهب شطر الليل) أي نصفه
فقلت: يا رسول الله ! لو نفلتنا قيام هذه الليلة؟ فقال: إن الرجل إذا صلى مع
الإمام حتى
ينصرف، حسب له قيام الليلة. فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتى بقي ثلث الليل،
(8/101)
(لو نفلتنا) بتشديد الفاء من التنفيل. (قيام هذه الليلة) وفي رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه بقية ليلتنا هذه، أي لو أعطيتنا قيام بقية الليل وزدتنا إياه كان أحسن وأولى، ويحتمل أن كلمة "لو" للتمني فلا جواب لها. وقال القاري: أي لو جعلت الليل زيادة لنا على قيام الشطر. وفي النهاية: لو زدتنا من الصلاة النافلة، سميت بها النوافل؛ لأنها زائدة على الفرض. قال المظهر: تقديره لو زدت قيام الليل على نصفه لكان خيرا لنا. (إن الرجل) أي جنسه. (إذا صلى) أي الفرض. (مع الإمام) أي وتابعه. (حتى ينصرف) أي الإمام. (حسب) على البناء للمفعول أي عد واعتبر (له) وفي رواية النسائي: كتب الله له. (قيام ليلة) قال القاري: أي حصل له ثواب قيام ليلة تامة، يعني الأجر حاصل بالفرض، وزيادة النوافل مبنية على قدر النشاط؛ لأن الله لا يمل حتى تملوا. والظاهر أن المراد بالفرض العشاء والصبح لحديث ورد بذلك يعني عثمان المتقدم في باب فضائل الصلاة بلفظ: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله. أخرجه مسلم وغيره. وقيل: المراد بالصلاة في قوله: إذا صلى مع الإمام صلاة التراويح، والمعنى: (إن الرجل إذا صلى) أي التراويح في أول الليل في رمضان. (مع الإمام حتى ينصرف) أي يفرغ الإمام من الصلاة ويرجع. (حسب له قيام ليلة) أي كاملة، وعلى هذا يكون دليلا للجمهور على أن صلاة التراويح مع الإمام أفضل من الانفراد، وأجاب من خالفهم بأنه يجوز أن يكتب له بالقيام مع الإمام بعض الليل قيام كله، وأن يكون قيامه في بيته أفضل من ذلك، ولا منافاة بين الأمرين. وأما حديث عثمان الذي أشار إليه القاري، فيقال في معناه: أن من صلى فريضة العشاء والصبح مع الإمام أي بالجماعة يكون له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة الفرض، ويقال ههنا أنه إذا صلى التراويح مع الإمام حتى ينصرف يحصل له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة النفل. قيل: ويؤيد ذلك
(8/102)
رواية الترمذي والنسائي وابن
ماجه بلفظ: "من قام مع الإمام" بدل "إذا صلى مع الإمام"، فإن
لفظ القيام ظاهر في معنى صلاة الليل أي التراويح، ويؤيده أيضا أن أبا ذر سأله - صلى
الله عليه وسلم - أن ينفل بقية الليلة، وهذا يقتضي أن يجيب بأنه لا يحتاج إلى قيام
بقية الليلة؛ لأن ثواب الليلة التامة قد حصل بالقدر الذي قام بهم، ويؤيده أيضا أن
قوله: "حتى ينصرف" فإنه يشير إلى أن الانصراف قبل أن ينصرف الإمام من
جميع صلاته ممكن، ومن المعلوم أن الانصراف في الفرض في أثناء الصلاة غير ممكن؛
لأنه لا يحصل إلا بعد ما ينصرف الإمام، بخلاف التراويح فإن الانصراف فيها قبل
انصراف الإمام ممكن؛ لأنها شفعات متعددة فيمكن أن ينصرف الرجل قبل أن يفرغ الإمام
من جميع صلاة التراويح. (فلما كانت الرابعة) أي من الباقية، وهي السادسة والعشرون.
(لم يقم بنا حتى بقي ثلث الليل)
فلما كانت الثالثة، جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح.
قلت: وما
الفلاح؟ قال: السحور. ثم لم يقم بنا بقية الشهر)). رواه أبوداود، والترمذي،
والنسائي.
(8/103)
كذا في جميع النسخ الموجودة، ولم يظهر لي معناه، ولفظ أبي داود ثم على قوله لم يقم أي ليس عنده "بنا حتى بقي ثلث الليل" ولفظ النسائي ثم لم يصل بنا ولم يقم بنا حتى بقي ثلث من الشهر. ولفظ الترمذي: ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلث من الشهر، وذكره الجزري في جامع الأصول (ج7 ص82) بلفظ: ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلث من الشهر. وذكره البغوي في المصابيح بلفظ: فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتى بقي ثلاث. والظاهر أن البغوي أخذ قوله "فلما كانت الرابعة لم يقم" من أبي داود، وأخذ قوله "بنا حتى بقي ثلاث" من الترمذي والنسائي وأسقط لفظ: من الشهر، فسياق البغوي مجموع ما في أبي داود والنسائي والترمذي. والمراد بقوله: ثلاث أي ثلاث من الشهر، كما هو مصرح عند الترمذي والنسائي. وأما ما وقع في المشكاة من قوله: ثلث الليل فهو خطأ بلا شبهة، والعجب أنه لم يتنبه لذلك أحد من الشراح. ولفظ ابن ماجه: ثم كانت الرابعة التي تليها فلم يقمها حتى كانت الثالثة التي تليها. (فلما كانت الثالثة) أي من الباقية وهي الليلة السابعة والعشرون (جمع أهله ونساءه) فيه استحباب ندب الأهل إلى فعل الطاعات وإن كانت غير واجبة، وفيه تأكد مشروعية القيام في الإفراد من ليالي العشر الآخرة من رمضان؛ لأنها مظنة الظفر بليلة القدر، واهتم - صلى الله عليه وسلم - في السابعة والعشرين بجمع أهله وغيرهم؛ لأنها أرجاها. (حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح) قال في القاموس: الفلاح الفوز والنجاة والبقاء في الخير والسحور. (قلت) قائله جبير بن نفير الراوي عن أبي ذر. (وما الفلاح قال) أي أبوذر. (السحور) أي المراد بالفلاح السحور، وهو بفتح السين ما يتسحر به من الطعام والشراب، أي ما يوكل وقت السحر، وهو بفتحتين آخر الليل قبيل الصبح، وبالضم المصدر والفعل نفسه. قال القاضي: الفلاح الفوز بالبغية، سمي السحور به؛ لأنه يعين على إتمام الصوم، وهو الفوز بما قصده ونواه والموجب للفلاح في الآخرة. وقال
(8/104)
الخطابي: أصل الفلاح البقاء،
وسمي السحور فلاحا لكونه سببا لبقاء الصوم ومعينا عليه، ومن ذلك حي على الفلاح أي
العمل الذي يخلدكم في الجنة، فهو من تسمية السبب باسم المسبب. وقيل: سمي به لأنه
معين على إتمام الصوم المفضي إلى الفلاح، وهو الفوز بالزلفى والبقاء في العقبى.
(ثم لم يقم بنا بقيه الشهر) أي في الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين، وحديث أبي
ذر هذا يخالف ما روته عائشة من قيامه - صلى الله عليه وسلم - في ليالي رمضان
بالجماعة في المسجد عند الشيخين وغيرهما، فإن ظاهره يدل على أن صلاته - صلى الله
عليه وسلم - بالجماعة كانت في الليالي الموصولة، وفي حديث أبي ذر تصريح بأن صلاته
كانت في الليالي المفصولة، أي في الأوتار فقط، فأما أن يحمل على تعدد القصة أو
يقال بأنه ليس في حديث عائشة ذكر الوصل صريحا، فيحمل على الفصل، كحديث أبي ذر.
(رواه أبوداود ) واللفظ له إلا قوله: بنا حتى بقي ثلث الليل. (والترمذي والنسائي)
وروى ابن ماجه نحوه، إلا أن الترمذي لم يذكر: ثم لم يقم بنا بقية الشهر.
(8/105)
وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص159و 163و 172و 180) والحاكم ومحمد بن نصر (ص89) والبيهقي (ج2 ص494). والحديث صححه الترمذي والحاكم، وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (وروى ابن ماجه نحوه) أي بمعناه. (إلا أن الترمذي لم يذكر: ثم لم يقم بنا بقية الشهر) وكذا لم يذكره النسائي. تنبيه اعلم أنه لم يرو في حديث أبي ذر هذا بيان عدد الركعات التي صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليالي، لكن قد ورد بيانه في حديث جابر بن عبدالله قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر- الحديث. أخرجه الطبراني في الصغير، وأبويعلى ومحمد بن نصر في قيام الليل، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال الذهبي في الميزان (ج2 ص311) بعد ذكر هذا الحديث إسناده وسط- انتهى. وذكر الحافظ: هذا الحديث في الفتح في شرح عائشة الذي أشرنا إليه لبيان عدد الركعات التي صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان بالجماعة، فهو صحيح عنده أو حسن، لما ذكر في المقدمة أنه يسوق الباب وحديثه أولا، ثم يذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية، ثم يستخرج ثانيا ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات، وكشف غامض وتصريح مدلس بسماع ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرط الصحة أو الحسن فيما يورده من ذلك، وذكره أيضا في التلخيص لبيان عدد تلك الركعات، وسكت عنه ولم يتكلم فيه، وذكره أيضا العيني في شرح البخاري لبيان عدد ركعاته - صلى الله عليه وسلم - في قيامه بالناس في ليالي رمضان نقلا عن صحيحي ابن خزيمة وابن حبان، ولم يتكلم فيه. فإن قلت قال النيموني في آثار السنن بعد ذكر حديث جابر المذكور: في إسناده لين، وقال في تعليقه مداره على عيسى بن جارية، ثم ذكر جرح ابن معين وأبي داود والنسائي وتوثيق
(8/106)
أبي زرعة وابن حبان، ثم قال قول الذهبي: إسناده وسط ليس بصواب، بل اسناده دون وسط – انتهى. قلت: قال الحافظ في شرح النخبة: الذهبي من أهل الاستقرار التام في نقد الرجال- انتهى. فلما حكم الذهبي بأن إسناده وسط بعد ذكر الجرح والتعديل في عيسى بن جارية، وهو من أهل الاستقرار التام في نقد الرجال، فحكمه بأن إسناده وسط هو الصواب. ويؤيده إخراج ابن خزيمة وابن حبان هذا الحديث في صحيحيهما، فلا يلتفت إلى قول النيموني، ويشهد لحديث جابر هذا حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه سأل عائشة: كيف كان صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي
(8/107)
ثلاثا- الحديث. أخرجه الشيخان وغيرهما، فهذا الحديث نص في أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى التراويح في رمضان ثمان ركعات فقط، ولم يصل بأكثر منها. قال في العرف الشذى (ص201): هذه الرواية رواية الصحيحين، وفي الصحاح صلاة تراويحة عليه السلام ثمان ركعات. وفي السنن الكبرى وغيره بسند ضعيف من جانب أبي شيبة فإنه ضعيفة اتفاقا: عشرون ركعة، وقال في (ص329، 330): ثم أن حديث: يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، فيه تصريح أنه حال رمضان، فإن السائل سأل عن حال رمضان وغيره، كما عند الترمذي ومسلم، ولا مناص من تسليم أن تراويحه عليه السلام كانت ثمانية ركعات، ولم يثبت في رواية من الروايات أنه عليه السلام صلى التراويح والتهجد على حدة في رمضان، بل طول التراويح، وبين التراويح والتهجد في عهده عليه السلام لم يكن فرق في الركعات، بل في الوقت والصفة أي التراويح تكون بالجماعة في المسجد بخلاف التهجد، وأن الشروع في التراويح يكون في أول الليل، وفي التهجد في آخر الليل، ثم مأخوذ الأئمة الأربعة من عشرين ركعة هو عمل الفاروق الأعظم. وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فصح عنه ثمان ركعات، وأما عشرون ركعة، فهو عنه عليه السلام بسند ضعيف، وعلى ضعفه إتفاق- انتهى. فإن قلت قد ثبت في الصحيح من حديث عائشة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل العشر الأواخر يجتهد مالا يجتهد في غيره، وفي الصحيح أيضا من حديثها كان إذا دخل العشر أحيى الليل وأيقظ أخله وجد وشد ميزره، وهذا يدل على أنه كان يزيد في العشر الأواخر على عادته، وهو مخالف لحديث أبي سلمة عن عائشة المذكور. قلت: المراد بالاجتهاد تطويل الركعات لا الزيادة في العدد. قال العيني: إن الزيادة في العشر الأواخر يحمل على التطويل دون الزيادة في العدد- انتهى. وأما ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي (ج2 ص496) عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم
(8/108)
- كان يصلي في رمضان عشرين ركعة سوى الوتر، فهو ضعيف جدا لا يصلح للاستدلال ولا للاستشهاد ولا للاعتبار، فإن مداره على أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، وهو متروك الحديث، كما في التقريب. قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص153): هو معلول بأبي شيبة إبراهيم بن عثمان، وهو متفق على ضعفه، ولينه ابن عدي في الكامل، ثم إنه مخالف للحديث الصحيح عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة- الحديث. انتهى كلام الزيلعي. وقال ابن الهمام في فتح القدير بعد ذكر هذا الحديث: هو ضعيف بأبي شيبة إبراهيم بن عثمان متفق على ضعفه مع مخالفته للصحيح. وقال العيني في شرح البخاري (ج11 ص128) بعد ذكر هذا الحديث: وأبوشيبة هو إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي، قاضي واسط، جد أبي بكر أبي شيبة، كذبه
(8/109)
شعبة، وضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي وغيرهم، وأورد له ابن عدي هذا الحديث في الكامل في مناكيره- انتهى. وقال البيهقي (ج2 ص496) بعد روايته: تفرد به أبوشيبة إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي، وهو ضعيف- انتهى. وقال النيموني في تعليق آثار السنن (ج2 ص56): وقد أخرجه عبد بن حميد الكشي في مسنده، والبغوي في معجمه، والبيهقي في سننه، كلهم من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان وهو ضعيف، ثم نقل كلام البيهقي المذكور، وجروح أئمة الجرح والتعديل عن التهذيب والميزان والتقريب. وقال الزرقاني في شرح الموطأ: حديث ابن عباس في عشرين ركعة حديث ضعيف. وهذا كله يدل على أن حديث ابن عباس هذا ضعيف جدا عند جميع العلماء الحنفية والشافعية والمالكية وغيرهم، ومع ذلك قد تفوه بعض الحنفية في هذا العصر بأن رواية ابن عباس إذ هي مؤيدة بآثار الصحابة أولى من رواية جابر. (المتقدمة) وإن كان فيها بعض الضعف، فإن جمهور الصحابة متفقة على صلاة التراويح بعشرين ركعة- انتهى. قلت: قد تقدم أن حديث ابن عباس ضعيف جدا، قد أطبق الأئمة على ضعفه، ومع هذا فهو مخالف لحديث عائشة المتفق عليه بخلاف حديث جابر فإنه صحيح أو حسن، ولم يضعفه أحد ممن يعتمد عليه، وله شاهد صحيح، وهو حديث عائشة، فهو أولى بالقبول وأحق بالعمل. وأما دعوى تأيد حديث ابن عباس بعمل جمهور الصحابة فهي مردودة بما سيأتي من حديث السائب بن يزيد قال: أمر عمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وبما روى سعيد بن منصور في سننه عن السائب بن يزيد قال: كنا نقوم في زمن عمر بن الخطاب بإحدى عشرة ركعة. قال السيوطي: هذا الأثر إسناده في غاية الصحة، هذا وقد حاول بعضهم إثبات صحة حديث ابن عباس حيث قال في تعليقه على المشكاة: حديث ابن عباس في عشرين ركعة الذي ضعفه أئمة الحديث هو صحيح عندي، لما ذكر السيوطي في التدريب. قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول
(8/110)
وإن لم يكن له إسناد صحيح،
يعني فحديث ابن عباس هذا حقيق بأن يصحح، لما تلقاه الخلفاء الراشدون والسابقون
الأولون من المهاجرين والأنصار، والذي استقر عليه الأمر في سائر البلدان والأمصار-
انتهى كلامه مخلصا مختصرا. قلت: التصدي لإثبات صحة حديث ابن عباس المتفق على ضعفه
بمثل هذا الكلام الواهي عصبية باردة، لا يفعل هذا إلا صاحب التقليد الأجوف
والعصبية العمياء؛ لأن الصحيح الثابت عن عمر، هو جمعه الناس على إحدى عشرة ركعة لا
عشرين، كما تقدم، وسيأتي أيضا، ولو سلمنا أن طائفة من الصحابة والتابعين كانوا
يصلون عشرين ركعة فليس ههنا أثر للتلقي الذي جعله بعض العلماء موجبا لقبول الخبر
الغير الصحيح؛ لأنه لا دليل على أن حديث ابن عباس هذا قد بلغ هؤلاء الصحابة ولا
على أنهم
1307-(5) عن عائشة، قالت: ((فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة، فإذا هو
بالبقيع، فقال: أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسول؟ قلت: يا رسول الله ! إني
ظننت إنك أتيت بعض نسائك،
(8/111)
تعرضوا للاحتجاج به واستشهدوا به عند العمل أو استأنسوا به، وما لم يثبت ذلك لا تصح دعوى وجود التلقي المصطلح الذي يكون فيه غني من الإسناد، على أنه قال السيوطي في التدريب (ص115): مما يدل على صحة الحديث أيضا كما ذكره أهل الأصول موافقة الإجماع له على الأصح لجواز أن يكون المستند غيره. وقيل يدل- انتهى. والحاصل أن الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قيام رمضان في الجماعة هو إحدى عشرة ركعة مع الوتر لا غير، فهي السنة لا العشرون، ولله در ابن الهمام حيث اعترف بضعف حديث ابن عباس ومخالفته لحديث عائشة الصحيح، ولم يتحمل لتصحيح حديث ابن عباس، وصرح بأن العشرين ليست سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - . قلت: ويدل أيضا على كون التراويح ثمان ركعات ما روي عن جابر بن عبدالله قال: جاء أبي بن كعب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله! أنه كان منى الليلة شيء، يعني في رمضان قال: وما ذاك يا أبي؟ قال: نسوة في داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك، قال: فصليت بهن ثمان ركعات وأوترت، فكانت سنة الرضا ولم يقل شيئا. رواه أبويعلى والطبراني بنحوه في الأوسط. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص74): إسناده حسن- انتهى. قلت: وأخرجه أيضا محمد بن نصر المروزي في قيام الليل وعبدالله بن أحمد في المسند (ج5 ص115)، وفي إسناده من لم يسم، وسيأتي مزيد الكلام في هذه المسألة.
(8/112)
1307- قوله: (فقدت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ) أي غاب عني. قال في النهاية: فقدت الشيء أفقده إذا غاب
عنك. (ليلة) من ليالي تعني الليلة التي كان فيها عندي. (فإذا هو بالبقيع) أي فخرجت
أطلبه فإذا هو واقف بالبقيع، والمراد بالبقيع بقيع الغرقد، وهو موضع بظاهر المدينة،
فيه قبور أهلها، كان به شجر الغرقد، فذهب وبقي اسمه، كذا في النهاية. (أن يحيف)
الحيف الظلم والجور، أي أظننت أن قد ظلمتك يجعل نوبتك لغيرك، وذلك مناف لمنصب
الرسالة وذكر الله تعظيما لرسوله ودلالة على أن فعل الرسول عادة لا يكون إلا بإذنه
وأمره. وقال الطيبي: أو تزيينا للكلام وتحسينا، أو حكاية لما وقع في الآية أم
تخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله، وإشارة إلى التلازم بينهما كالإطاعة والمحبة.
قال العيني: يعني ظننت أني ظلمتك بأن جعلت من نوبتك لغيرك، وذلك مناف لمن تصدي
بمنصب الرسالة، وهذا معنى العدول عما هو مقتضى ظاهر العبارة، وهو ظننت أني أحيف
عليك، فوضع رسوله موضع الضمير للاشعاء بأن لحيف ليس من شيم الرسل، وفيه أن القسم
كان واجبا عليه، إذ لا يكون تركه جورا إلا إذا كان واجبا. (قلت يا رسول الله إني
ظننت أنك أتيت بعض نسائك) أي زوجاتك لبعض مهماتك فأردت تحقيقها، وحملني على
فقال: إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من
عدد شعر غنم كلب)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وزاد رزين: ممن استحق النار. وقال
الترمذي: سمعت محمدا ـ يعني ـ يضعف هذا الحديث.
(8/113)
هذا الغيرة الحاصلة للنساء التي تخرجهن عن دائرة العقل وحائزة التدبر للعاقبة من المعاتبة أو المعاقبة. والحاصل إني ما ظننت أن يحيف الله ورسوله علي أو على غيري، بل ظننت أنك بأمر من الله أو باجتهاد منك خرجت من عندي لبعض نسائك؛ لأن عادتك أن تصلي النوافل في بيتك، كذا في المرقاة. ولفظ ابن ماجه قالت. (أي عائشة): قد قلت. (أي في جوابه - صلى الله عليه وسلم - ) وما بي ذلك. (أي الخوف والظن السوء بالله ورسوله) ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك. قال السندي: أي لكني ظننت أنك فعلت ما أحل الله لك من الإتيان لبعض نسائك، تريد أنها ما جوزت ذلك ولا زعمته من جهة كونه حيفا وجورا، ولكونه جوزته من جهة أنه في ذاته إتيان بعض النساء، وهو حلال، والمقصود أنها ما لاحظت ذلك من جهة كونه ظلما، ولكن لاحظت من جهة كونه حلالا، فلذلك جوزته فانظر إلى كمال عقلها، فإنها قد زعمت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك جورا، وقال: أتخافين من الله تعالى ورسوله؟ فإن قالت في الجواب نعم خفت ذلك يكون قبيحا، وإن قالت ما خفته يكون كذبا فتفطن- انتهى. (فقال: إن الله تعالى ينزل) استئناف لبيان موجب خروجه من عندها، يعني خرجت للدعاء لأهل البقيع لما رأيت من كثرة الرحمة في هذه الليلة. (فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب) أي قبيلة بني كلب وخصمهم؛ لأنهم أكثر غنما من سائر العرب نقل الأبهري عن الأزهار: أن المراد بغفران أكثر عدد الذنوب المغفورة لا عدد أصحابها، وهكذا رواه البيهقي- انتهى. وأما الحديث الآتي فيغفر لجميع خلقه فالمراد أصحابها، كذا في المرقاة. (رواه الترمذي) في الصيام. (وابن ماجه) في أواخر الصلاة كلاهما من رواية حجاج بن أرطاة عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والحديث منقطع، كما ستعرف. (وزاد رزين ممن استحق النار) قال ابن حجر: أي من المؤمنين، كما صرح به قوله تعالى: ?إن الله لا يغفر أن يشرك
(8/114)
به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء?
[4: 48]. وقيد ذلك في روايات بينتها ثم بغير المشاحن وقاطع الرحم ومدمن الخمر
ومسبل الإزار وعاق لوالديه. (وقال الترمذي: سمعت محمدا يعني البخاري) هو تفسير من
المصنف. (يضعف) يعني البخاري. (هذا الحديث) ويقول يحيى بن أبي كثير: لم يسمع من
عروة والحجاج لم يسمع من يحيى بن أبي كثير- انتهى. فالحديث منقطع في موضعين أحدهما
ما بين الحجاج ويحيى، والآخر ما بين يحيى وعروة. والحديث المنقطع من أقسام
(1) كذا في الأصل، ولعله وسمي ذلك جورا.
1308-(6) وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة
المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة)). رواه أبوداود،
والترمذي.
?الفصل الثالث?
1309-(7) عن عبدالرحمن بن عبد القاري،
الضعيف، لكنه ورد في فضيلة ليلة النصف من شعبان أحاديث أخرى، وقد ذكر المصنف بعضها
في الفصل الثالث، وسنذكر بقيتها هناك إن شاء الله تعالى. وهي بمجموعها حجة على من
زعم أنه لم يثبت في فضيلتها شيء. قيل في وجه مناسبة هذا الحديث بالباب: الإيذان
بأن ليلة النصف من شعبان لما ورد في إحيائها من الثواب ما لا يحصى كانت كالمقدمة
لقيام رمضان، فاستدعى ذكره: ذكرها قال القاري، أو لأن الكلام لما كان في القيام
والمراد الأعظم منه إدراك ليلة القدر فذكر ليلة البراءة طرد الباب.
(8/115)
1308- قوله: (صلاة المرء في
بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا)؛ لأنه أبعد من الرياء. والحديث يدل على استحباب
فعل صلاة التطوع في البيوت. وأن فعلها فيها أفضل من فعلها في المساجد، ولو كانت
المساجد فاضلة كالمسجد الحرام ومسجده - صلى الله عليه وسلم - ومسجد بيت المقدس،
فلو صلى الرجل نافلة في مسجد المدينة كانت بألف صلاة على القول بدخول النوافل في
عموم الحديث، وإذا صلاها في بيته كانت أفضل من ألف صلاة، وهكذا حكم المسجد الحرام
ومسجد المقدس. وقد تقدم أنه استثنى من عموم حديث الباب ما تشرع فيه الجماعة من
النوافل كالعيدين، والاستسقاء، والكسوف، والتراويح، وما يخص المسجد كصلاة القدوم
من السفر، وتحية المسجد. (إلا المكتوبة) أي الصلوات المكتوبات، وهي الصلوات الخمس.
وهذا في حق الرجال دون النساء، فيجب على الرجال أن يصلوا المكتوبات في المساجد
بالجماعة. وأما النساء فصلاتهن في البيوت أفضل، مكتوبة كانت أو نافلة وإن أذن لهن
في حضور المكتوبات في المساجد. (رواه أبوداود والترمذي) واللفظ لأبي داود، وقد سكت
عنه هو، وحسنه الترمذي، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. والحديث ذكره المجد في
المنتقى في باب إخفاء التطوع بلفظ: أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة،
وقال رواه الجماعة إلا ابن ماجه، لكن له معناه من رواية عبدالله بن سعد-انتهى.
1309- قوله: (عن عبدالرحمن بن عبد) بالتنوين أي بغير إضافة. (القاري) بخفة راء
وشدة ياء بلا همزة، نسبة إلى القارة بن الديش قبيلة مشهور، يقال إنه ولد على عهد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس له منه سماع ولا رؤية، وقيل: أتي به إليه،
وهو صغير. وذكره العجلي في ثقات التابعين. واختلف قول الواقدي فيه، قال تارة:
قال خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل
لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني لو جمعت هؤلاء على قاري
(8/116)
واحد لكان أمثل، ثم عزم،
فجمعهم على أبي بن كعب،
له صحبة، وتارة: تابعي. والمشهور أنه تابعي من أجلة تابعي المدينة، وكان عاملا
لعمر على بيت المال. مات سنة. (88)، وهو ابن (78) سنة. (خرجت مع عمر بن الخطاب
ليلة) أي في رمضان كما في البخاري. (إلى المسجد) النبوي. (فإذا الناس) بعد صلاتهم
العشاء جماعة واحدة. وكلمة "إذا" للمفاجأة. (أوزاع) بفتح الهمزة وسكون
الواو بعدها زاي أي جماعات متفرقة، لا واحد له من لفظه. وقوله: (متفرقون) تأكيد
لفظي. وقال الطيبي. كعطف البيان. (يصلي الرجل لنفسه) هذا وما بعده بيان لما أجمل
أولا بقوله: أوزاع. (ويصلي الرجل) الآخر. (فيصلي) أي مقتديا (بصلاته الرهط) بسكون
الهاء ويحرك، ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى الأربعين والحاصل أن بعضهم كان
يصلي منفردا، وبعضهم يصلي جماعة. (فقال عمر: إني لو) قال ابن حجر: وفي نسخة: إني
أرى لو قلت، وكذا وقع عند البخاري، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7:ص83) وفي
الموطأ: إني لأراني لو (جمعت هؤلاء على قارئ واحد) يأتمون كلهم به، ويسمعون
قراءته. (لكان أمثل) أي أفضل؛ لأنه أنشط لكثير من المصلين فيكون الثواب أكمل.
يقال: هذا أمثل من كذا أي أفضل وأدنى إلى الخير، وأماثل الناس خيارهم. قال ابن
التين وغيره: استنبط عمر ذلك من تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلى معه في
تلك الليالي وإن كان كره ذلك لهم، فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم، فلما مات النبي
- صلى الله عليه وسلم - حصل الأمن من ذلك، ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من
افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين.وإلى قول عمر جنح
الجمهور. (ثم عزم) أي على ذلك وصمم عليه عمر. (فجمعهم) أي الرجال منهم في سنة أربع
عشرة. (على أبي بن كعب) أي جعله إماما لهم يصلي بهم التراويح. وكأنه اختاره عملا
بقوله - صلى الله عليه وسلم -: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وقال عمر: اقرؤنا
أبي.
(8/117)
وقيل: اختاره لما قد علم أن
أبيا كان يصلي بالناس التراويح في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخرج
أبوداود، ومن طريقه البيهقي عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-، فإذا أناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل هؤلاء الناس
ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي وهم يصلون بصلاته، فقال النبي - صلى الله عليه
وسلم -: أصابوا، ونعم ما صنعوا، لكن قال الحافظ: فيه مسلم بن خالد، وهو ضعيف.
والمحفوظ أن عمر هو الذي جمع الناس على أبي-انتهى. وأجيب عن هذا بأن مسلم بن خالد
وإن ضعفه ابن المديني والبخاري وابن معين في رواية
قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة
هذه،
(8/118)
وأبوداود، فقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من فقهاء الحجاز، ومنه تعلم الشافعي الفقة قبل أن يلقى مالكا، وكان مسلم بن خالد يخطئ أحيانا. وقال ابن معين في رواية والدارقطني : ثقة، حكاه ابن القطان. وقال ابن عدي: حسن الحديث، وأرجو أنه لا بأس به. وقال الساجي: صدوق كثير الغلط. ولحديث أبي هريرة هذا شاهد مرسل عند البيهقي في المعرفة وفي السنن (ج2:ص495) من حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي. وكون عمر هو الذي جمع الناس على أبي لا ينافي كون أبي قد صلى بالناس في زمنه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن صلاة أبي بالناس في زمنه عليه السلام لم يكن من أمره ولا من اهتمامه. فالاجتماع على إمام واحد أي أبي، والاهتمام بجماعة واحدة إنما كان في زمان عمر، فهو الذي رفع التفرق والتوزع، وجمعهم على قاري واحد، واهتم بجماعة واحدة، ثم إنه لا ينافي هذا ما سيأتي من أن عمر جمعهم على تميم الداري، كما ستعرف. وروى سعيد بن منصور من طريق عروة أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بالرجال، وكان تميم الداري يصلي بالنساء. ورواه محمد بن نصر في قيام الليل من هذا الوجه، فقال: سليمان بن أبي حثمة بدل تميم الداري. قال الحافظ: ولعل ذلك كان في وقتين. (قال) أي عبدالرحمن. (ثم خرجت معه) أي مع عمر. (والناس يصلون) مقتدين. (بصلاة قارئهم) أي إمامهم المذكور، فالإضافة للعهد. وفيه دليل على أن عمر لم يكن يصلي معهم لشغله بأمور المسلمين، أو كان يصليها منفردا في بيته، أو كان يرى أن الصلاة في آخر الليل أفضل. (نعمت البدعة) وفي البخاري: نعم البدعة بغير تاء. قال الحافظ: في بعض الروايات: نعمت البدعة بزيادة تاء. (هذه) أي الجماعة الكبرى، لا أصل التراويح، ولا نفس الجماعة، فإنهما ثابتان من فعله - صلى الله عليه وسلم -. قال الإمام تقي الدين ابن تيمية في منهاج السنة: قد ثبت أن الناس كانوا يصلون بالليل جماعة في رمضان على العهد النبوي، وثبت أنه -
(8/119)
صلى الله عليه وسلم - صلى
ليلتين أو ثلاثا-انتهى. وفي وصفها بـ"نعمت" إشارة إلى أن أصلها سنة،
وليست ببدعة شرعية حتى تكون ضلالة، بل بدعة لغوية، وهي حسنة، وقد تعتريها الأحكام
الخمسة. والبدعة الشرعية ما ليس لها أصل في الشرع، فلا تكون إلا سيئة، وفيه تصريح
من عمر بأنه أول من جمع الناس في التراويح على إمام واحد بالجماعة الكبرى، واهتم
بذلك؛ لأن البدعة لغة ما فعله أحد ابتداء من غير أن يتقدمه غيره فالمراد بالبدعة
في قوله هي البدعة اللغوية، وهي ههنا اجتماعهم على إمام واحد، والاهتمام لذلك،
والمواظبة عليه، لا أصل التراويح، أو نفس الجماعة، فإنهما قد ثبتا من فعل النبي -
صلى الله عليه وسلم - وفعل الصحابة في عهده بحضرته. قال ابن تيمية: إنما سماها عمر
بدعة؛ لأن ما فعل ابتداء بدعة لغة، وليس ذلك بدعة شرعية، فإن البدعة الشرعية التي
هي ضلالة ما فعل بغير دليل شرعي، كاستحباب ما لم يحبه الله، وإيجاب ما لم يوجبه
الله، وتحريم ما لم يحرمه الله. وبه يندفع ما يقال إن قول عمر: "نعمت
البدعة" مخالف لحديث:
والتي تنامون عنها
(8/120)
كل بدعة ضلالة، بأن المراد بالبدعة في الكلية البدعة الشرعية، وتوصيف الحسن للبدعة اللغوية. وقال الشاطبي في الاعتصام: قد قام بصلاة التراويح في رمضان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، واجتمع الناس خلفه، فخرج أبوداود عن أبي ذر، قال: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع-الحديث، لكنه - صلى الله عليه وسلم - لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك، ففي الصحيح عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس-الحديث. ففي هذا الحديث ما يدل على كونها سنة، فإن قيامه أولا بهم دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان، وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقا؛ لأن زمانه كان وحي وتشريع، فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس بالإلزام، فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع الأمر إلى أصله، وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له، وإنما لم يقم ذلك أبوبكر رضي الله عنه لأحد أمرين: إما لأنه رأى أن قيام الناس في آخر الليل، وما هم به عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل، وإما لضيق زمانه عن النظر في هذه الفروع، مع شغله بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح، فلما تمهد الإسلام في زمن عمر، ورأى الناس في المسجد أوزاعا كما جاء في الخبر، قال: لو جمعت الناس على قاري واحد لكان أمثل، فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم في آخر الليل أفضل. ثم اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره، والأمة لا تجتمع على ضلالة. وقد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي، فإن قيل: فقد سماها عمر بدعة، وحسنها بقوله "نعمت البدعة هذه"، وإذا ثبت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع، فالجواب إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم
(8/121)
-، واتفق أن لم تقع في زمان
أبي بكر رضي الله عنه، لا أنها بدعة في المعنى، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا
مشاحة في الأسامي- انتهى كلام الشاطبي مختصرا. وقال ابن رجب في شرح الخمسين
(ص191): أما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع
اللغوية لا الشرعية. فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان
على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: "نعمت البدعة
هذه" وروى عنه (من طريق نوفل بن إياس الهذلي عند ابن سعد وجعفر الفريابي في
السنن، كما في كنز العمال (ج4 ص284) أنه قال: إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة، وروي
عن أبي بن كعب. (أخرجه ابن منيع في مسنده) قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر: قد
علمت، ولكنه حسن، ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن
له أصل في الشريعة يرجع إليها، فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث على
قيام رمضان ويرغب فيه، وكان في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا، وهو
- صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة الخ. (والتي تنامون)
بالفوقية أي الصلاة أو الساعة التي تنامون. (عنها) والمراد الصلاة في آخر
أفضل من التي تقومون – يريد آخر الليل – وكان الناس يقومون أوله. رواه البخاري.
1310-(8) وعن السائب بن يزيد، قال: أمر عمر أبي بن كعب، وتميما الداري أن يقوما
للناس
في رمضان بإحدى عشرة ركعة،
(8/122)
الليل. وعند أبي شيبة عن عبدالرحمن بن عبد القاري، قال عمر في الساعة التي تنامون عنها. أعجب إلى من الساعة التي يقومون فيها. (أفضل من) الصلاة أو الساعة (التي يقومون) بها. (يريد) أي عمر بن الخطاب بهذا الكلام بيان الفضل في الصلاة. (آخر الليل) وهو قول عبدالرحمن، وكذلك قوله: (وكان الناس) أي أكثرهم. (يقومون) إذ ذاك. (أوله) وبالضرورة ينامون آخره. قال الحافظ: هذا تصريح من عمر بأن الصلاة في آخر الليل أفضل من أوله، لكن ليس فيه أن الصلاة في قيام الليل فرادى أفضل من التجميع. وقال الطيبي: هذا تنبيه منه، على أن صلاة التراويح في آخر الليل أفضل. قال القاري: وفي كلامه رضي الله عنه إيماء إلى عذره في التخلف عنهم. وفي هامش المسوي: يعني آخر الليل أفضل، لكن الصلاة في أول جماعة أفضل كما أن صلاة العشاء في أول جماعة أفضل، والوقت المفضول قد يختص العمل فيه بما يوجب أن يكون أفضل منه في غيره، كما أن الجمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة أفضل من التفريق بسبب أوجب ذلك، وإن كان الأصل أن فعل الصلاة في وقتها أفضل، والإبراد بالظهر أفضل، لكن الصلاة يوم الجمعة عقيب الزوال أفضل. قاله ابن تيمية في المنهاج- انتهى. ولم يقع في هذه الرواية عدد الركعات التي كان يصلي بها أبي بن كعب. وقد اختلف في ذلك، والصحيح أنها كانت إحدى عشرة ركعة كما سيأتي. (رواه البخاري) في الصيام، وأخرجه أيضا مالك والبيهقي (ج2 ص493).
(8/123)
1310- قوله: (الداري) بتشديد الياء، نسبة إلى جده الأعلى الدار بن هانيء بن حبيب. (أن يقوما للناس) أي يؤماهم. قال الباجي: يصلي بهم أبي ما قدر ثم يخرج، فيصلي تميم. والصواب أن يقرأ الثاني من حيث انتهى الأول؛ لأن الثاني إنما هو بدل عن الأول ونائب عنه، وسنة قراءة القرآن على الترتيب- انتهى. وقال القاري: أي يكون هذا إماما تارة، والآخر أخرى. وهو يحتمل أن تكون المناوبة في الركعات أو الليالي. (بإحدى عشرة ركعة) هذا نص في أن الذي جمع عليه الناس عمر في قيام رمضان، وأمرهم بإقامته هو إحدى عشرة ركعة مع الوتر، وأن الصحابة والتابعين على عهده كانوا يصلون التراويح إحدى عشرة ركعة موافقا لما تقدم من حديث عائشة: ما كان يزيد في رمضان ولا في غير رمضان على إحدى عشرة ركعة، وموافقا لما تقدم من حديث جابر: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان ثمان ركعات. فإن قلت: قال الحافظ في الفتح بعد ذكر أثر عمر هذا: ورواه عبدالرزاق من وجه آخر. (أي من طريق داود بن قيس) عن محمد بن يوسف، فقال إحدى وعشرين- انتهى.
(8/124)
وقال ابن عبدالبر: روى غير مالك في هذا أحد وعشرون، وهو الصحيح، ولا أعلم أحدا قال فيه إحدى عشرة إلا مالكا. ويحتمل أن يكون ذلك أولا ثم خفف عنهم طول القيام، ونقلهم إلى أحد وعشرين إلا أن الأغلب عندي أن قوله: إحدى عشرة وهم- انتهى. قلت: قال شيخنا في شرح الترمذي: قول ابن عبدالبر: إن الأغلب عندي أن قوله إحدى عشرة وهو باطل جدا. قال الزرقاني في شرح الموطأ بعد ذكر قول ابن عبدالبر. هذا ما لفظه ولا وهم، وقوله: إن مالكا انفرد به، ليس كما قال، فقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن محمد بن يوسف، فقال إحدى عشرة، كما قال مالك- انتهى كلام الزرقاني. وقال النيموني في تعليق آثار السنن (ج2 ص52): ما قاله ابن عبدالبر من وهم مالك فغلط جدا؛ لأن مالكا قد تابعه عبدالعزيز بن محمد عند سعيد بن منصور في سننه، ويحيى بن سعيد القطان عند أبي بكر بن أبي شيبة في مصنفه كلاهما عن محمد بن يوسف، وقالا إحدى عشرة ركعة، كما رواه مالك عن محمد بن يوسف. وأخرج محمد بن نصر المروزي في قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد، قال: كنا نصلي في زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة ركعة- انتهى. قال النيموني: هذا قريب مما رواه مالك عن محمد بن يوسف أي مع الركعتين بعد العشاء- انتهى كلام النيموني. قال الشيخ: فلما ثبت أن الإمام مالكا لم ينفرد بقوله إحدى عشرة، بل تابعه عليه عبدالعزيز بن محمد، وهو ثقة، ويحيى بن سعيد القطان إمام الجرح والتعديل، وهو ثقة متقن حافظ إمام على ما قال الحافظ في التقريب، ظهر لك حق الظهور أن قول ابن عبدالبر: إن الأغلب أن قوله إحدى عشرة وهم، ليس بصحيح، بل لو تدبرت ظهر لك أن الأمر على خلاف ما قال ابن عبدالبر أن الأغلب أن قول غير مالك في هذا الأثر: إحدى وعشرون، كما في رواية عبدالرزاق، وهم، فانه قد انفرد هو بإخراج هذا الأثر بهذا لفظ، ولم يخرجه به أحد غيره فيما أعلم. وعبدالرزاق وإن كان
(8/125)
ثقة حافظا لكنه قد عمى في آخر
عمره فتغير، كما صرح به الحافظ في التقريب. وأما الإمام مالك فقال الحافظ في
التقريب: إمام دار الهجرة رأس المتقنين وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري: أصح
الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر- انتهى. ومع هذا لم ينفرد هو بإخراج هذا
الأثر بلفظ: إحدى عشرة، بل أخرجه أيضا بهذا اللفظ سعيد بن منصور وابن أبي شيبة، كما
عرفت. فالحاصل أن لفظ: إحدى عشرة في أثر عمر بن الخطاب المذكور صحيح ثابت محفوظ،
ولفظ إحدى وعشرين في هذا الأثر غير محفوظ، والأغلب إنه وهم، والله تعالى أعلم-
انتهى كلام الشيخ. فإن قلت: قال صاحب الأوجز: الظاهر عندي ما رجحه ابن عبدالبر؛
لأن جل الروايات نص في أنها كانت عشرين ركعة، لكن الوهم عندي فيه عن محمد بن يوسف؛
لأن نسبة الوهم إلى الإمام أبعد من النسبة إليه. ويؤيده رواية سعيد بن منصور، وقد
روى يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد أنهم كانوا يقومون في عهد عمر بن الخطاب
بعشرين ركعة- انتهى.
فكان القاري يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصا من طول القيام، فما كنا ننصرف
إلا في
فروع الفجر. رواه مالك.
(8/126)
قلت: كلام صاحب الأوجز باطل جدا؛ لأنه لم يثبت الأمر بعشرين عن عمر بسند صحيح خال عن الكلام، والآثار التي تذكر في ذلك لا يخلو واحد منها عن مقال، فإنها إما مراسيل منقطعة أو موصولة ضعيفة، كما حققه شيخنا في شرح الترمذي، فكيف تكون هي دليلا على كون رواية إحدى عشرة الصحيحة وهما؟ وأما نسبة الوهم إلى محمد بن يوسف فهي كنسبة الوهم إلى الإمام مالك مما لا يلفت إليه، لكونها مجرد ادعاء، وأما رواية يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد فهي عند البيهقي من وجهين، في أحدهما أبوعثمان عمرو بن عبدالله البصري، وفي الآخر أبوعبد الله الحسين بن فنجويه الدنيوري، ولم أقف على ترجمتها، ولم يعرف حالهما، وإنهما ثقتان قابلان للاحتجاج أم لا. (فكان) وفي الموطأ قال. (أي السائب) وكان (القاري) أي الإمام. (يقرأ) في كل ركعة. (بالمئين) بكسر الميم جمع مائة، أي السور التي تلي السبع الطول، سميت بذلك لزيادة كل منها على مائة آية. قال ابن حجر: أي بالسور التي يزيد كل منها على مائة آية. قال القاري: وفيه أنه لا دلالة على الزيادة، ولا على أنها سورة مستقلة، قال: والظاهر أن المراد بقوله بالمئين التقريب لا التحديد- انتهى. والظاهر عندي ما ذكره ابن حجر. (حتى كنا نعتمد على العصا) وفي بعض النسخ: على العصي، كما في الموطأ، وهكذا نقله الجزري أي بكسر العين والصاد المهملتين وتشديد الياء، جمع عصا، فالأولى للجنس، والثانية من مقابلة الجمع بالجمع. (من طول القيام) أي من أجل طول القيام؛ لأن الاعتماد في النافلة لطول القيام على حائط أو عصا جائز وإن قدر على القيام بخلاف الفرض، قاله الزرقاني والباجي. قلت: ويدل على جواز الاعتماد على العصا عند العذر حديث أم قيس بنت محصن عند أبي داود. (فما) وفي الموطأ: وما (كنا ننصرف) عن التراويح. (إلا في فروع الفجر) أي أوائله وأعاليه، وفرع كل شيء أعلاه، ذكره الطيبي. وفي رواية سعيد بن منصور: ننقلب عند بزوغ الفجر. قال
(8/127)
في النهاية: البزوغ الطلوع، والمراد أوائل مقدماته، فلا ينافي ما سيأتي أنهم كانوا يتسحرون بعد انصرافهم. قال القاري: ولعل هذا التطويل كان في آخر الأمر، فلا ينافي ما تقدم من قوله: والتي تنامون عنها أفضل. (رواه مالك) عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد، وأخرجه أيضا سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي في السنن (ج2 ص496) والمعرفة. واعلم أنهم اختلفوا في المختار من عدد الركعات التي يقوم بها الناس. قال العيني في شرح البخاري (ج11 ص126): قد اختلف العلماء في العدد المستحب في قيام رمضان على أقوال كثيرة. فقيل: إحدى وأربعون. قال الترمذي: رأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، وهو قول أهل المدينة، والعمل على هذا عندهم بالمدينة. قال شيخنا. (يعني العراقي): وهو أكثر
(8/128)
ما قيل فيه. قال العيني: ذكر ابن عبدالبر في الاستذكار عن الأسود بن يزيد، كان يصلي أربعين ركعة، ويوتر بسبع، هكذا ذكره، ولم يقل إن الوتر من الأربعين. وقيل: ثمان وثلاثون، رواه محمد بن نصر من طريق ابن أيمن عن مالك، قال: يستحب أن يقوم الناس في رمضان بثمان وثلاثين ركعة، ثم يسلم الإمام والناس، ثم يوتر بهم بواحدة، قال وهذا العمل بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم. وقيل: ست وثلاثون، وهو الذي عليه عمل أهل المدينة. وروى ابن وهب، قال: سمعت عبدالله بن عمر يحدث عن نافع، قال: لم أدرك الناس إلا وهم يصلون، تسعا وثلاثين ركعة، ويوترون منها بثلاث. وقيل: أربع وثلاثون على ما حكى عن زرارة بن أوفي أنه كذلك كان يصلي بهم في العشر الأخير. وقيل: ثمان وعشرون وهو المروي عن زرارة بن أوفي في العشرين الأولين من الشهر، وكان سعيد بن جبير يفعله في العشر الأخير. وقيل: أربع وعشرون، وهو مروي عن سعيد بن جبير. وقيل: عشرون، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، فإنه مروي عن عمر وعلي وغيرهما من الصحابة، وهو قول أصحابنا الحنفية. وقيل: إحدى عشرة ركعة، وهو اختيار مالك لنفسه. واختاره ابن العربي- انتهى كلام العيني. وقال السيوطي في رسالته المصابيح في صلاة التراويح: قال ابن الجوزي: من أصحابنا عن مالك أنه قال: الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحب إلي، وهي إحدى عشرة ركعة، وهي صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل له: إحدى عشرة ركعة بالوتر؟ قال نعم، وثلاث عشرة قريب، قال: ولا أدري من أين أحدث هذا الركوع الكثير- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: القول الراجح المختار الأقوى من حيث الدليل هو هذا القول الأخير الذي اختاره مالك لنفسه، أعني إحدى عشرة ركعة، وهو الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسند الصحيح، وبها أمر عمر بن الخطاب. وأما الأقوال الباقية فلم يثبت واحد منها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسند
(8/129)
صحيح، ولا ثبت الأمر به عن أحد من الخلفاء الراشدين بسند صحيح خال عن كلام، ثم ذكر حديث عائشة المذكور: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، وحديث جابر قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان ثمان ركعات، وحديث جابر عن أبي في إمامته للنساء في داره بثمان ركعات، ثم ذكر أثر عمر الذي نحن بصدد شرحه. قلت: واستدل لمن ذهب إلى أن التراويح عشرون ركعة سوى الوتر بما تقدم من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في رمضان عشرين ركعة سوى الوتر، وقد تقدم أنه حديث ضعيف جدا، غير صالح للاستدلال، وبما روى عبدالرزاق عن داود بن قيس عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة، وقد تقدم أن قوله: "إحدى وعشرين في هذه الرواية" وهم، على
(8/130)
أنه مضر للحنفية من حيث أنه يستلزم أن يقولوا بكون التراويح ثماني عشرة ركعة، أو بكون الوتر ركعة واحدة فردة، فافهم، وبما روى البيهقي في المعرفة من طريق محمد بن جعفر عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد قال: "كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر". وصحح إسناده السبكي في شرح المنهاج، والقاري في شرح الموطأ. وأجيب عنه بأن في سنده أبا عثمان البصري واسمه عمرو بن عبدالله. قال النيموني في تعليق آثار السنن: لم أقف على من ترجم له. وقال شيخنا في شرح الترمذي: لم أقف أنا أيضا على ترجمته مع التفحص الكثير، فمن يدعي صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كونه ثقة قابلا للاحتجاج، ومع هذا فهو معارض بما روى سعيد بن منصور في سننه قال: حدثنا عبدالعزيز بن محمد بن يوسف سمعت السائب بن يزيد يقول: كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب بإحدى عشرة ركعة. قال السيوطي في رسالته المصابيح: إسناده في غاية الصحة- انتهى. وأيضا هو معارض بما روى أبوبكر بن أبي شيبة قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن محمد بن يوسف إن السائب أخبره إن عمر جمع الناس على أبي وتميم، فكانا يصليان إحدى عشرة ركعة، وإسناده صحيح. وأيضا هو معارض بما روى محمد بن نصر في قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال: كنا نصلى في زمن عمر ثلاث عشرة ركعة. وهو أيضا معارض بما ذكره المصنف من رواية مالك عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر أبي بن كعب وتميما الداري إن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. فأثر السائب بن يزيد الذي رواه البيهقي لا يصلح للاحتجاج، فان قلت: روى البيهقي هذا الأثر في السنن من طريق ابن أبي ذئب عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد بلفظ: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة، وصحح إسناده النووي وغيره. قلت: قال شيخنا: في إسناده أبوعبدالله بن فنجوية الدنيوري. (شيخ البيهقي) ولم
(8/131)
أقف على ترجمته، فمن يدعي صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كونه ثقة قابلا للاحتجاج. وأما قول النيموني هو من كبار المحدثين في زمانه لا يسأل عن مثله فمما لا يلتفت إليه، فإن مجرد كونه من كبار المحدثين لا يستلزم كونه ثقة. تنبيهان: الأول قال صاحب الأوجز: قال في الفتح الحماني: قال العلامة العيني: احتج أصحاب الشافعي وأحمد بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد قال: كانوا يقومون على عهد عمر بعشرين ركعة وعلى عهد عثمان وعلي مثله، قلت: قال النيموني في تعليق آثار السنن: قوله: "وعلى عهد عثمان وعلي مثله" قول مدرج لا يوجد في تصانيف البيهقي- انتهى. الثاني: قد جمع البيهقي وغيره بين روايتي السائب المختلفتين المذكورتين بأنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، ثم كانوا يقومون بعشرين، ويوترون بثلاث. قال شيخنا: فيه أنه لقائل أن يقول بأنهم كانوا يقومون أولا
(8/132)
بعشرين ركعة، ثم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، وهذا هو الظاهر؛ لأن هذا كان موافقا لما هو الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذاك كان مخالفا له، فتفكر- انتهى. قال بعض الحنفية: ويمكن أن يجمع بينهما بوجه آخر وهو أن يقال: إن رواية إحدى عشرين باعتبار مجموع ما صلياه، وإحدى عشرة باعتبار كل واحد منهما، فكان يلي كل منهما عشرا عشرا، والواحد الوتر يصلي مرة هذا ومرة هذا، فيصح النسبة إليهما. وفيه أن هذا الجمع مضر للحنفية؛ لأنه يدل على أن عمر جمع الصحابة على الإيتار بركعة واحدة فردة، وهو مخالف لمذهب الحنفية إلا أن يقولوا بأن التراويح كانت ثماني عشرة ركعة، لكن ليس هذا مذهبهم، فتفكر. قلت: واستدل أيضا للحنفية ومن وافقهم بما روى مالك، ومن طريقه البيهقي عن يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في رمضان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. وفيه أن هذا الأثر منقطع غير صالح للاستدلال؛ لأن يزيد بن رومان لم يدرك عمر بن الخطاب كما صرح به الزيلعي والعيني وغيرهما، وبما روى ابن أبي شيبة عن وكيع عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب أمر رجلا يصلي بهم عشرين ركعة. وفيه أن يحيى بن سعيد الأنصاري لم يدرك عمر، كما اعترف به النيموني. وقال ابن المديني: لا أعلمه سمع من صحابي غير أنس، فهذا الأثر منقطع لا يصلح للاحتجاج، ومع هذا فهو مخالف لما ثبت بسند صحيح عن عمر أنه أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وأيضا هو مخالف لما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديث الصحيح، وبما روى أيضا ابن أبي شيبة عن عبدالعزيز بن رفيع قال: كان أبي بن كعب يصلي بالناس في رمضان بالمدينة عشرين ركعة، ويوتر بثلاث. وفيه أن هذا أيضا منقطع غير صالح للاستدلال؛ لأن عبدالعزيز بن رفيع لم يدرك أبي بن كعب، كما صرح به النيموني، ومع هذا فهو مخالف لما تقدم أن عمر أمر أبيا وتميما أن يقوما
(8/133)
للناس بإحدى عشرة ركعة، وهذا
أيضا منقطع، فإن الأعمش لم يدرك ابن مسعود، وبما روى البيهقي في السنن (ج2 ص497)
وابن أبي شيبة في المصنف عن أبي الحسناء أن علي بن أبي طالب أمر رجلا أن يصلي
بالناس خمس ترويحات عشرين ركعة. وفيه أن مدار هذا الأثر على أبي الحسناء، وهو
مجهول، كما قال الحافظ في التقريب: وقال الذهبي في الميزان: لا يعرف. ورواه أيضا
البيهقي (ج2 ص496) من وجه آخر أي من طريق حماد بن شعيب عن عطاء بن السائب عن أبي
عبدالرحمن السلمي عن علي قال: دعا القراء في رمضان، فأمر منهم رجلا يصلي بالناس
عشرين ركعة، قال: وكان علي يوتر بهم. وفيه أن هذا الأثر أيضا ضعيف غير صالح
للاحتجاج بل ولا للاستشهاد ولا للاعتبار. قال النيموني في تعليق آثار السنن بعد
ذكره: حماد بن شعيب ضعيف. قال الذهبي في
1311-(9) وعن الأعرج، قال: ما أدركنا الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان.
(8/134)
الميزان: ضعفه ابن معين وغيره. وقال يحيى مرة: لا يكتب حديثه. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: أكثر حديثه مما لا يتابع عليه- انتهى كلام النيموني. واستدل لهم أيضا بآثار أخرى ذكرها النيموني وغيره، لا يخلو واحد منها عن وهن. تنبيه: قد ادعى بعض الناس أنه وقع الإجماع على عشرين ركعة في عهد عمر، واستقر الأمر على ذلك في الأمصار. قال شيخنا: دعوى الإجماع على عشرين، واستقرار الأمر على ذلك في الأمصار باطلة جدا، كيف وقد عرفت في كلام العيني أن في هذا أقوالا كثيرة، وأن الإمام مالكا قال وهذا العمل يعني القيام في رمضان بثمان وثلاثين ركعة، والإيتار بركعة بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم- انتهى. واختار هذا الإمام إمام دار الهجرة لنفسه إحدى عشرة ركعة، وكان الأسود بن يزيد النخعي الفقيه يصلي أربعين ركعة، ويوتر بسبع وتذكر باقي الأقوال التي ذكرها العيني، فأين الإجماع على عشرين ركعة، وأين الاستقرار على ذلك في الأمصار؟- انتهى كلام الشيخ. هذا، ولشيخ مشائخنا العلامة التقي الورع الزاهد الحافظ الشيخ عبدالله الغازيفوري رسالة بسيطة في مسألة التراويح بالأردية طبعت مرارا، وهي نفيسة جدا عديم النظير في هذه المسألة، وقد ألف أيضا بعض أفاضل علماءنا رسالة حافلة في تنقيد بعض رسائل الحنفية في هذه المسألة سماها تحقيق التراويح في جواب تنوير المصابيح، وهي أيضا نفيسة، فعليك أن تطالعهما.
(8/135)
1311- قوله: (وعن الأعرج) هو
عبدالرحمن بن هرمز أبوداود المدني مولى ربيعة بن الحارث من مشاهير التابعين وثقاتهم،
روى عن أبي هريرة وغيره، واشتهر بالرواية عن أبي هريرة. قال الحافظ: ثقة ثبت عالم
من أوساط التابعين، مات بالإسكندرية سنة (117). (ما أدركنا) كذا في جميع النسخ
الحاضرة، وهكذا نقله الجزري (7ص83)، وفي الموطأ: ما أدركت الناس، وكذا وقع في
رواية البيهقي من طريق مالك. (الناس) أي الصحابة والتابعين. (إلا وهم يلعنون
الكفرة) بفتحات، جمع الكافر. (في رمضان) أي في قنوت الوتر. قد سبق أن الشافعية
والمالكية ذهبوا إلى استحباب قنوت الصبح دائما، وخالفهم الحنفية والحنابلة، فقالوا
بعدم مشروعيته في الصبح إلا عند النازلة، وسبق أيضا أن الشافعية ذهبوا إلى استحباب
قنوت الوتر في النصف الآخر من رمضان فقط، أي لا في جميع السنة، وهي رواية عن مالك
خلافا للحنفية والحنابلة، فإنهم قالوا باستحباب قنوت الوتر في جميع السنة،
والرواية الثانية عن مالك، وهي المشهورة المعتمدة عند المالكية، نفي القنوت في
الوتر جملة، كما سيأتي، وتقدم أيضا أن قنوت اللعن عند الحنفية والحنابلة مختص
بالنازلة، سواء كانت في رمضان أو في غيره، والحديث بظاهرة موافق للشافعية. قال ابن
حجر: لهذا الحديث استحسن أصحابنا للإمام أن يذكر في قنوت
قال: وكان القاري يقرأ سورة البقرة في ثماني ركعات، وإذا قام بها في ثنتي عشرة
ركعة رأى
الناس أنه قد خفف. رواه مالك.
(8/136)
الوتر اللهم اهدنا فيمن هديت الخ، واللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك الخ، واللهم العن كفرة أهل الكتاب والمشركين الذين يصدون عن سبيلك. قال الطيبي: لعل المراد أنهم لما لم يعظموا ما عظمه الله تعالى من الشهر، ولم يهتدوا بما أنزل فيه من الفرقان، استوجبوا بأن يدعى عليهم، ويطردوا عن رحمة الله الواسعة- انتهى. وقال بعض الحنفية: لا ذكر للوتر في هذه الرواية، فيصدق على الصبح أيضا، قال: وقنوت اللعن المذكور فيها محمول على القنوت المخصوص الذي فيه لعن الكفرة المسمى بقنوت النوازل-انتهى. وحمله القاري على قنوت الوتر، وقال: لعل هذه الزيادة. (أي زيادة اللعن) مخصوصة بالنصف الأخير من رمضان. وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث، فلا ينافي ما صح عن عمر رضي الله عنه: السنة إذا انتصف رمضان أن يلعن الكفرة في آخر ركعة من الوتر بعد ما يقول القاري: سمع الله لمن حمده، ثم يقول اللهم العن الكفرة. وما رواه أبوداود أنه لما جمع الناس على أبي لم يقنت بهم إلا في النصف الثاني محمول على القنوت المخصوص الذي فيه لعن الكفرة على العموم- انتهى. قلت: أثر عمر في اللعن على الكفرة ذكره الحافظ في التلخيص (ص120)، وقال إسناده حسن. وأما رواية أبي داود فقد تقدم أنها ضعيفة. وقال في المدونة بعد ذكر حديث الأعرج هذا: ليس عليه العمل، ولا أرى أن يعمل به ولا يقنت في رمضان في لا أوله ولا في آخره ولا في غير رمضان ولا في الوتر أصلا انتهى. (قال) أي الأعرج. (في ثماني ركعات) بفتح الياء. قال القاري: وفي نسخة صحيحة بحذف الياء. قلت: وهكذا وقع في نسخ الموطأ، وفي جامع الأصول، وفي السنن للبيهقي أي بإسقاط الياء. قيل: وهذا كان بعد إن خففت الصلاة عن القراءة بالمئين في كل ركعة. (وإذا) وفي الموطأ: فإذا. (قام) القاري. (بها) أي بسورة البقرة. (في ثنتي) وفي الموطأ: في اثنتي. (عشرة ركعة) فيه دليل على أن جماعة من الصحابة ممن أدركهم الأعرج كانوا يصلون في ليالي
(8/137)
رمضان أكثر من ثماني ركعات،
ولا بأس بذلك، فإنه تطوع وليس فيه ضيق ولا حد ينتهي إليه؛ لأنها نافلة، فيجوز له
أن يكثر الركوع والسجود، وكان طائفة من السلف يقومون بإحدى وأربعين ركعة، كما روى
محمد بن نصر عن محمد بن سيرين أن معاذا أبا حليمة القاري كان يصلي بالناس في رمضان
إحدى وأربعين ركعة، وعن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال: أدركت الناس قبل
الحرة يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون منها بخمس، لكن السنة النبوية الفعلية هي
إحدى عشرة ركعة مع الوتر؛ لأنها هي الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا
غير. (رأى الناس) بالرفع فاعل. (أنه قد خفف) أي الإمام في الإطالة. قيل: هذا يدل
على أن تطويل القراءة في التراويح أفضل، وهو عندي على قدر نشاط القوم فيراعيهم في
ذلك لئلا يملوا، فيتركوا التراويح بالجماعة أو جملة. (رواه مالك) عن داود بن
الحصين أنه سمع
1312-(10) وعن عبدالله بن أبي بكر، قال: سمعت أبيا، يقول: كنا ننصرف في رمضان من
القيام، فنستعجل الخدم بالطعام مخافة فوت السحور، وفي أخرى: مخافة الفجر. رواه
مالك.
1313-(11) وعن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((هل تدرين ما هذه
الليلة؟
الأعرج يقول: ما أدركت الناس الخ، وداود بن الصين ثقة إلا في عكرمة، ورمي برأي
الخوارج، وأخرجه أيضا البيهقي (ص497) من طريق مالك.
(8/138)
1312- قوله: (وعن عبدالله بن أبي بكر) أي ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري. (قال سمعت أبيا) بضم الهمزة وفتح الموحدة تشديد الياء منصوبا منونا، كذا وقع في جميع النسخ للمشكاة. في الموطأ وقيام الليل للمروزي، وجامع الأصول، والبيهقي. سمعت أبي. أي بفتح الهمزة وكسر الباء وسكون التحتية، يعني والده أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهذا هو الصحيح. وأما ما وقع في المشكاة فهو غلط؛ لأن عبدالله بن أبي بكر المذكور من صغار التابعين الذين رأوا الواحدة والاثنين من الصحابة، ولم يثبت لبعضهم السماع منهم، ومات هو سنة (135)، وهو ابن (70) سنة، فيكون ولادته سنة (65) بعد وفاة أبي بن كعب بأكثر من ثلاثين سنة، فإن أبيا توفي سنة (32) في خلافة عثمان على ما قيل، والأكثر على أنه توفي سنة (22) في خلافة عمر. وأما والد عبدالله المذكور فهو أبوبكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي ثم النجاري بالنون والجيم المدني القاضي اسمه وكنيته واحد. وقيل إنه يكنى أبا محمد، ثقة عابد من صغار التابعين، مات سنة (120) ، وقيل غير ذلك. (كنا ننصرف في رمضان من القيام) أي من صلاة التراويح. قال القاري: سمي بذلك لأنهم كانوا يطيلون القيام فيها. (الخدم) بفتحتين جمع خادم. (بالطعام) أي بتهيئته وإحضاره لنتسحر به. (مخافة) بالنصب علة للاستعجال. (فوت السحور) بالضم والفتح. (وفي أخرى مخافة الفجر) أي طلوعه فيفوت السحور فمآل الروايتين واحد، لكن ليس في نسخ الموطأ الموجودة عندنا إلا رواية: مخافة الفجر، وهكذا عند البيهقي. وذكر الجزري الروايتين جميعا، ولعل الرواية الأولى عند غير يحيى المصمودي، والله أعلم. قال الباجي: هذا لمن كان يستديم القيام إلى آخر الليل أو لمن كان يخص آخره بالقيام. فأما من قال فيهم عمر: والتي ينامون عنها خير فلم يكن هذا حالهم، وهذا يدل على اختلاف أحوال الناس في ذلك- انتهى، فبعضهم يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم يستديم
(8/139)
القيام إلى آخره. (رواه مالك)
عن عبدالله بن أبي بكر أنه قال: سمعت أبي الخ، ورواه البيهقي (ج2 ص497) من طريق
مالك.
1313- قوله: (هل تدرين ما) أي ما يقع. (في هذه الليلة) قال ابن حجر: نبه عليه السلام
بهذا
يعني ليلة النصف من شعبان- قالت: ما فيها يا رسول الله ؟ فقال: فيها أن يكتب كل
مولود بني آدم في هذه السنة، وفيها أن يكتب كل هالك من بني آدم في هذه السنة،
وفيها ترفع أعمالهم، وفيها تنزل أرزاقهم،
الاستفهام على عظم خطر هذه الليلة وما يقع فيها ليحمل ذلك الأمة بأبلغ وجه ،وأكده
على إحيائها بالعبادة والدعاء والفكر والذكر (يعني) يريد النبي - صلى الله عليه
وسلم - بهذه الليلة. (ليلة النصف من شعبان) وقائل يعني عائشة أو الراوي عنها.
(قالت) نقل بالمعنى، وإلا فالظاهر قلت. (ما فيها) أي ما يقع فيها. (فيها أن يكتب)
أي كتابة ثانية بعد الكتابة في اللوح المحفوظ. (كل مولود بني آدم) أي كل من يولد
من بني آدم، وخصصهم تشريفا لهم. (في هذه السنة) أي الآتية إلى مثل هذه الليلة. (كل
هالك) أي ميت. (وفيها ترفع أعمالهم) قال الطيبي: أي تكتب الأعمال الصالحة التي
ترفع في هذه السنة يوما فيوما، ولهذا سألت عائشة: ما من أحد الخ أي كما سيأتي،
فيكون رفع الأعمال في كل يوم. وأما كتابتها فتكون في هذه الليلة، كذا قال. وفيه
بعد، فإن المذكور رفع الأعمال فيها لا كتابتها، ويمكن أن يكون المراد أن أعمال
السنة التي ترفع وتكتب يوما فيوما ترفع أيضا في هذه الليلة، وتعرض جملة واحدة
للمقابلة، كما يفعل أهل الحساب لتكريم هذه الليلة. قال الطيبي: والاستفهام على
سبيل التقرير، يعني إذا كانت الأعمال الصالحة الكائنة في تلك السنة تكتب قبل
وجودها يلزم من ذلك أن أحدا لا يدخل الجنة إلا برحمة الله، فقرره النبي - صلى الله
عليه وسلم - بما أجاب. قال ابن حجر: حذف في هذه السنة من هذا وما بعده للعلم به
مما قبله. والمعنى ترفع أعمالهم إلى الملأ
(8/140)
الأعلى. ولا ينافيه رفعها كل
يوم أعمال الليل بعد صلاة الصبح. وأعمال النهار بعد صلاة العصر، وكل يوم اثنين
وخميس؛ لأن الأول رفع عام لجميع ما يقع في السنة، والثاني رفع خاص لكل يوم وليلة،
والثالث رفع لجميع ما يقع في الأسبوع، وكان حكمة تكرير هذا الرفع مزيد من تشريف
الطائعين وتقبيح العاصين، كذا في المرقاة. وقال السندي: قد ثبت في الصحيحين: يرفع
إلى الله تعالى عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، فيتحمل أن
أعمال العباد تعرض عليه كل يوم، ثم تعرض عليه أعمال الجمعة في كل اثنين وخميس، ثم
تعرض عليه أعمال السنة في (ليلة النصف من) شعبان، فتعرض عرضا بعد عرض، ولكل عرض
حكمة يطلع عليها من يشاء من خلقه، أو يستأثر بها عنده، مع أنه تعالى لا يخفى عليه
من أعمالهم خافية، ويحتمل أن المراد إنها تعرض كل يوم تفصيلا، ثم في الجمعة إجمالا
أو بالعكس- انتهى. (وفيها تنزل) بالبناء الفاعل أو للمفعول مخففا ومشددا.
(أرزاقهم) أي أسباب أرزاقهم أو تقديرها قال ابن حجر: يحتمل أن المراد تنزيل علم
مقاديرها للمؤكلين بها أو أسبابها كالمطر بأن ينزل إلى سماء الدنيا أو من سماء
الدنيا إلى السحاب الذي بينها وبين الأرض. وقيل: المراد بإنزال الأرزاق كتابتها.
قال الطيبي: هذا كله مأخوذ من قوله تعالى: ?فيها يفرق كل أمر حكيم? [44: 4]
فقالت يا رسول الله ! ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى؟ فقال: ما من أحد
يدخل
الجنة إلا برحمة الله تعالى ثلاثا. قلت: ولا أنت يا رسول الله ؟!
(8/141)
من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى السنة الأخرى القابلة- انتهى. قال ابن حجر: وهو مبني على أن المراد في الآية هذه الليلة، وهو وإن قال به جماعة من السلف إلا أن ظاهر القرآن بل صريحة يرده لإفادته في آية أنه نزل في رمضان، وفي أخرى أنه نزل ليلة القدر، ولا تخالف بينهما؛ لأن ليلة القدر من جملة رمضان، والمراد بهذا النزول نزوله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل عليه عليه الصلاة والسلام متفرقا بحسب الحاجة والوقائع. وإذا ثبت أن هذا النزول ليلة القدر ثبت أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم في الآية هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان. ولا نزاع في أن ليلة نصف شعبان يقع فيها فرق، كما صرح به الحديث، وإنما النزاع في أنها المرادة من الآية. والصواب أنها ليست مرادة منها. وحينئذ يستفاد من الحديث والآية وقوع ذلك الفرق في كل من الليلتين إعلاما بمزيد شرفهما- انتهى. قال القاري: ويحتمل أن يقع الفرق في إحداهما إجمالا، وفي الأخرى تفصيلا، أو تخص إحداهما بالأمور الدنيوية، والأخرى بالأمور الأخروية وغير ذلك من الاحتمالات العقلية- انتهى. قلت: ذهب الجمهور إلى أن المراد من ليلة مباركة في قوله تعالى: ?إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم? [44: 3] هي ليلة القدر لا ليلة نصف من شعبان. وقولهم هو الحق والصواب. قال الحافظ ابن كثير: من قال إنها ليلة من النصف من شعبان فقد أبعد، فإن نص القرآن أنها رمضان- انتهى. وقال العلامة الشوكاني في فتح القدير (ج4 ص554): والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان؛ لأن الله سبحانه أجملها ههنا وبينها في سورة البقرة بقوله: ?شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن? [2: 185] ، وبقوله في سورة القدر: ?إنا أنزلناه في ليلة القدر? فلم يبق بعد هذا لبيان الواضح ما يوجب الخلاف، ولا ما يقتضي
(8/142)
الاشتباه- انتهى. (ما من أحد)
من زائدة لتأكيد الاستغراق. (يدخل الجنة) أي أولا وآخرا بدلالة الإطلاق. (إلا
برحمة الله تعالى) لا يعارضه قوله تعالى: ?وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم
تعملون? [43: 72]؛ لأن العمل سبب صوري، وسببه الحقيقي هو رحمة الله لا غير، على
أنه من جملة الرحمة بالعبد، فلم يدخل إلا بمحض الرحمة على كل تقدير. وقيل: دخولها
بالرحمة، وتفاوت الدرجات بتفاوت الطاعات، والخلود بالنيات. وقد بسط الحافظ الكلام
في توجيه الآية المذكورة والجواب عنها في الفتح في شرح حديث أبي هريرة: لن ينجي
أحدا منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله !؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله
برحمته. (ثلاثا) أي قال هذا القول ثلاث مرات للتأكيد. (قلت) هذا رجوع إلى الأصل في
الكلام أن يكون باللفظ لا بالمعنى. (ولا أنت يا رسول الله ) أي ما تدخل الجنة إلا
برحمته تعالى مع كمال
فوضع يده على هامته فقال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمته يقولها ثلاث
مرات)).
رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
1314-(12) وعن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن
الله تعلى ليطلع في ليلة
لنصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)). رواه ابن ماجه.
(8/143)
مرتبتك في العلم والعمل (فوضع يده على هامته) بتخفيف الميم أي رأسه. قال الطيبي: في وضع اليد على الرأس، والله أعلم، إشارة إلى افتقاره كل الافتقار إلى استنزال رحمة الله تعالى وشمول الستر من رأسه إلى قدمه. (ولا أنا) أي ولا أدخلها أنا في زمان من الأزمنة. (إلا أن يتغمدني الله) أي إلا وقت أن يسترني ويحيط بي من جميع جهاتي، مأخوذ من الغمد وهو غلاف السيف. (منه) أي من عنده وفضله وكرمه. (برحمته) لا بعلم وعمل مني، مع أنهما لا يتصوران من غير جهة عنايته. ( يقولها) أي هذه الجمل وهي ولا أنا الخ. (ثلاث مرات) طبق الأول في التأكيد. (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) لم أقف على سنده ولا على من أخرجه غيره، فالله أعلم، كيف حاله، نعم ورد في رفع الأعمال في شعبان ما رواه النسائي وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: قلت: لم أرك تصوم في شهر من الشهور ما تصوم من شعبان. قال: ذاك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ومضر، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي، وأنا صائم. وفي كتابة الموت في شعبان ما روى أبويعلى عن عائشة بسند حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم شعبان كله قالت: قلت: يا رسول الله! أحب الشهور إليك أن تصومه شعبان؟ قال: إن الله يكتب فيه على كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتيني أجلي، وأنا صائم. وفي عدم دخول أحد الجنة بدون رحمة الله وحديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه.
(8/144)
1314- قوله: (إن الله تعالى ليطلع) بتشديد الطاء، أي يتجلى على خلقه بمظهر الرحمة العامة والإكرام الواسع، قاله ابن حجر. وقال الطيبي: بمعنى ينزل وقد مر، وقيل: أي ينظر نظر الرحمة السابقة والمغفرة البالغة. (إلا لمشرك) أي كافر بأي نوع من الكفر، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. (أو) للتنويع. (مشاحن) أي مباغض ومعاد لمسلم من غير سبب ديني من الشحناء. وهي العداوة والبغضاء. قال الأوزاعي: أراد به صاحب البدعة المفارق لجماعة الأمة. وقال الطيبي: لعل المراد ذم البغضة التي تقع بين المسلمين من قبل النفس الأمارة بالسوء لا للدين، فلا يأمن أحدهم أذى صاحبه من يده ولسانه؛ لأن ذلك يؤدي إلى القتل، وربما ينتهي إلى الكفر إذ كثيرا ما يحمل على استباحة دم العدو وماله، ومن ثم قرن المشاحن في الرواية الأخرى بقاتل النفس. (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة من طريق الوليد عن ابن لهيعة عن الضحاك بن أيمن عن الضحاك بن عبدالرحمن بن عرزب عن
(8/145)
أبي موسى الأشعري. قال في الزوائد: إسناد ضعيف لضعف عبدالله بن لهيعة، وتدليس الوليد بن مسلم-انتهى. قلت: ولجهالة الضحاك بن أيمن الكلبي، وللانقطاع في الإسناد. قال في تهذيب التهذيب (ج4:ص443) في ترجمة الضحاك بن أيمن بعد ذكر الطريق المذكور: وهو حديث مختلف في إسناده. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: لا يدرى من هو. وقال السندي: ابن عرزب لم يلق أبا موسى، قاله المنذري، كذا بخطه روى ابن ماجه أيضا نحوه من طريق النضر بن عبدالجبار ثنا ابن لهيعة عن الزبير بن سليم عن الضحاك بن عبدالرحمن بن عرزب عن أبيه عن أبي موسى. والزبير بن سليم وعبدالرحمن بن عرزب مجهولان، فالحديث ضعيف بطريقيه، لكن له شواهد روي بعضها بإسناد حسن. فمنها حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وقد أشار إليه المصنف. ومنها حديث معاذ بن جبل رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه والبيهقي. قال الزرقاني في شرح المواهب بعد عزوه إلى صحيح ابن حبان: فيه رد على قول ابن دحية: لم يصح في ليلة نصف شعبان شئ، إلا أن يريد نفي الصحة الاصطلاحية، فإن حديث معاذ هذا حسن لا صحيح-انتهى. وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج8:ص65) إلى الطبراني في الكبير والأوسط، وقال رجالهما ثقات. ومنها حديث أبي بكر الصديق رواه البزار والبيهقي. قال المنذري: بإسناد لا بأس به. وقال الهيثمي: فيه عبدالملك بن عبدالملك، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يضعفه، وبقية رجاله ثقات. قلت: ذكر عبدالملك هذا الذهبي في الميزان (ج2:ص151) قال: عبدالملك بن عبدالملك عن مصعب بن أبي ذئب عن القاسم قال البخاري في حديثه: نظر، يريد حديث عمرو بن الحارث عن عبدالملك أنه حدثه عن المصعب بن أبي ذئب عن القاسم بن محمد عن أبيه أو عمه عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ينزل الله ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا-الحديث. وقيل: إن مصعبا جده. وقال ابن حبان وغيره: لا يتابع على حديثه. قال الحافظ في
(8/146)
اللسان (ج4:ص67): قال ابن عدي:
هو معروف بهذا الحديث، ولا يروي عنه غير عمرو بن الحارث، وهو حديث منكر بهذا
الإسناد. ومنها حديث أبي هريرة، رواه البزار. قال الهيثمي: وفيه هشام بن
عبدالرحمن، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. ومنها حديث عوف بن مالك، رواه البزار
أيضا، وفيه عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وابن لهيعة. وقد تقدم الكلام
فيهما، وبقية رجاله ثقات. ومنها حديث مكحول عن كثير بن مرة. (التابعي)، رواه
البيهقي، وقال: هذا مرسل جيد. ومنها حديث مكحول عن أبي ثعلبة رواه الطبراني
والبيهقي. قال البيهقي: وهو أيضا بين مكحول وأبي ثعلبة مرسل جيد، يعني لأنه لم
يدرك مكحول أبا ثعلبة الخشني الصحابي، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني، وقال فيه
الأحوض بن حكيم، وهو ضعيف. ومنها حديث العلاء بن الحارث عن عائشة، رواه البيهقي
أيضا، وقال: هذا مرسل جيد. ويحتمل أن يكون العلا أخذه من مكحول كذا في الترغيب.
وهذه الأحاديث كلها تدل على عظم خطر ليلة نصف شعبان وجلالة
1315- (13) ورواه أحمد، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، وفي روايته:
(8/147)
شأنها وقدرها، وأنها ليست كالليالي الأخر، فلا ينبغي أن يغفل عنها، بل يستحب إحياءها بالعبادة والدعاء والذكر والفكر. ويدل على ندب إحيائها حديث على الآتي لكنه ضعيف جدا، كما ستعرف، وحديث معاذ بن جبل مرفوعا: من أحياء الليالي الخمس وجبت له الجنة: ليلة التروية وليلة عرفة وليلة النحر وليلة الفطر وليلة النصف من شعبان، رواه الأصبهاني في ترغيبه، وهذا أيضا ضعيف؛ لأن المنذري صدره بلفظة "روي" وأهمل الكلام عليه في آخره، وجعل هذا علامة للإسناد الضعيف. وأما إحياء هذه الليلة خاصة والاهتمام لذلك مع ترك بعض الصلوات الخمس أو جمعها، ومع عدم المبالاة بالواجبات الأخرى، كما هو حال عامة المسلمين في عصرنا هذا، فلا شك أنه أمر قبيح، كيف والاشتغال بالمندوب مع إهمال الفرائض ليس من الدين والرأي في شيء. وكذا الاهتمام بزيارة القبور فيها مع تركها جميع السنة ليس بشئ من السنة. فإن قلت: قد ورد في ذهابه - صلى الله عليه وسلم - إلى البقيع في هذه الليلة حديثان: أحدهما حديث عائشة السابق في الفصل الثاني. والثاني حديثها الذي ذكره المنذري في باب الترهيب من التهاجر نقلا عن البيهقي. قلت: هذا الحديثان ضعيفان جدا. أما الأول فقد تقدم بيانه. وأما الثاني فقد صدره المنذري بلفظه "روي" وأهمل الكلام عليه في آخره، على أنه لا دليل فيهما على تخصيص زيارة القبور بهذه الليلة، بل كان ذهابه - صلى الله عليه وسلم - إلى البقيع على ما اعتاده في نوبة عائشة. كما يدل عليه ما روى مسلم عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين-الحديث. فهذا ظاهر في أن ذهابه إلى البقيع في نوبة عائشة كان عادة له مستمرة، وقد صادف ذلك في بعض الأعوام ليلة نصف شعبان، فذهب إليه على عادته من غير أن يهتم لذلك. وأما تقسيم أنواع الأطعمة على الفقراء
(8/148)
في هذه الليلة خاصة، فلم يرو
فيه حديث مرفوع ولا موقوف لا صحيح ولا ضعيف. وأما اعتقاد حضور أرواح الأموات في
هذه الليلة، وتنظيف البيوت، وتطيين جدرانها لتكريمها، وزيادة السرج والقناديل على
الحاجة فيها فهي من البدع والضلالات بلا شك. قال القاري: أول حدوث الوقيد من
البرمكة، وكانوا عبدة النار. فلما أسلموا أدخلوا في الإسلام ما يموهون أنه من سنن
الدين، ومقصودهم عبادة النيران حيث ركعوا وسجدوا مع المسلمين إلى تلك النيران، ولم
يأت في الشرع استحباب زيادة الوقيد على الحاجة في موضع، وقد أنكر الطرطوسي
الاجتماع ليلة الختم في التراويح، ونصب المنابر وبين أنه بدعة منكرة. وأما صوم يوم
ليلة نصف شعبان، فسيأتي الكلام فيه في شرح حديث علي الآتي.
1315- قوله: (ورواه أحمد) (ج2:ص176). (عن عبدالله بن عمرو بن العاص) قال المنذري:
بإسناد لين. قلت: في سنده ابن لهيعة. قال الهيثمي (ج8:ص65): هو لين الحديث، وبقية
رجاله وثقوا. (وفي روايته)
إلا اثنين: مشاحن وقاتل نفس.
1316- (14) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كانت ليلة
النصف من الشعبان، فقوموا ليلها، وصوموا يومها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب
الشمس إلى السماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا مسترزق فأرزقه؟ ألا
مبتلى فأعافيه؟ ألا كذا ألا كذا؟ حتى يطلع الفجر)).
أي رواية أحمد. (إلا اثنين مشاحن) بالرفع أي هما مشاحن. (وقاتل نفس) أي تعمدا بغير
حق. ويجوز جرهما على البدلية.
(8/149)
1316- قوله: (فقوموا ليلها) أي الليلة التي هي تلك الليلة، فالإضافة بيانية، وليست هي كالتي في قوله: "وصوموا يومها". وقال الطيبي: الظاهر أن يقال: فقوموا فيها، وإذا ذهب إلى وضع الظاهر موضع المضمر أن يقال ليلة النصف، فأنت الضمير اعتبار للنصف؛ لأنها عين تلك الليلة-انتهى. قال القاري: وقد يقال: لعل المراد أن يقع القيام في جميع ما يطلق عليه إسم الليل من أجزاء تلك الليلة، وهو أبلغ من القيام فيها، وحسنه أيضا مقابلة قوله: (وصوموا يومها) أي في نهار تلك الليلة بكماله، ويعاضده قوله: (فإن الله تعالى ينزل فيها) أي في تلك الليلة. (لغروب الشمس) أي أول وقت غروبها. وقال السندي: أي في وقت غروبها أو مع غروبها متصلا به. (ألا) للتنبيه والعرض. (من) زائدة لتأكيد الاستغراق، وحذفت مما بعده للإكتفاء، قال القاري. (مستغفر) يستغفر (فأغفر له) قال الطيبي: بالنصب على جواب العرض و"من" في مستغفر زائدة بشهادة قرينه، والتقدير ألا مستغفر فأغفر له. (ألا مسترزق) بالرفع. (فأرزقه) بالنصب. (ألا مبتلى) أي مستعف يطلب العافية، وهو مقدر لظهوره. (فأعافيه). ولا يشكل وجود كثير من المبتلين يسألون العافية ولا يجابون لعدم استجماعهم لشروط الدعاء. (ألا كذا) من طالب عطاء فأعطيه. (ألا كذا) من طالب دفع بلاء فأدفعه. والحديث يدل على ندب صوم يوم ليلة النصف من شعبان، لكنه ضعيف جدا كما ستعرف، والإباحة والندب من الأحكام الخمسة الشرعية، ولا يعمل بالضعيف في الأحكام، كما تقرر في موضعه، وأما في الفضائل فيعمل به، لكن بشروط ثلاثة لا يوجد شيء منها ههنا، فإن هذا الحديث شديد الضعف، وليس هو بمندرج تحت أصل معمول به، ولا يعتقد الاحتياط أحد ممن يعمل به، بل يعتقد ثبوته، كما هو الظاهر من حال من يصوم ذلك اليوم. هذا، وقد استدل لذلك بالأحاديث التي فيها الندب إلى صيام أيام البيض. ولا يخفى بطلانه، فإن المطلوب هو استحباب صوم يوم واحد فقط أي الخامس عشر من
(8/150)
شعبان خاصة، وأين هذا من الندب
إلى صيام ثلاثة أيام أي البيض من كل شهر.
رواه ابن ماجه.
(38) باب صلاة الضحى
وقد يستدل لذلك أيضا بما روى الشيخان عن عمران بن حصين مرفوعا في صيام سرر شعبان.
وقد قيل في تفسير السرر: أنه وسط الشهر. وفيه أن الجمهور على أن المراد بالسرر هنا
آخر الشهر، سميت بذلك لاستمرار القمر فيها، وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين
وثلاثين. وبه فسر أبوعبيد، واختاره البخاري حيث بوب عليه: باب الصوم من آخر الشهر،
وهذا لمن كانت له عادة بصيام آخر كل شهر، فإنه مستثنى من النهي عن تقدم رمضان بيوم
أو يومين، ومأمور بأن لا يترك ما كان اعتاده من ذلك. ولو سلمنا أن المراد به وسط
الشهر لا آخره لا يثبت المطلوب؛ لأن الحديث يدل حينئذ على ندب صيام أيام البيض؛
لأنها وسط الشهر. ويؤيده الأحاديث التي فيها الحض على صيام البيض. والحاصل أنه ليس
في صوم يوم ليلة النصف من شعبان حديث مرفوع صحيح أو حسن أو ضعيف خفيف الضعف ولا
أثر قوي أو ضعيف. (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة، وسنده ضعيف جدا؛ لأن فيه أبا
بكر بن عبدالله بن محمد بن أبي سبرة القرشي العامري المدني، وقد ينسب إلى جده. قال
في التقريب: رموه بالوضع. قلت: ضعفه ابن معين وابن المديني والجوزجاني والبخاري.
وقال النسائي: متروك الحديث. وقال البخاري وابن المديني مرة: منكر الحديث. وقال
عبدالله وصالح ابنا أحمد عن عن أبيهما قال كان أبوبكر بن أبي سبرة يضع الحديث،
ويكذب. وقال ابن عدي: هو في جملة من يضع الحديث. وقال ابن حبان والحاكم
أبوعبدالله: يروي الموضوعات عن الثقات، زاد ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. كذا في
تهذيب التهذيب.
(8/151)
(باب صلاة الضحي) قال العيني في شرح البخاري: الضحى بالضم فوق الضحوة، وهي ارتفاع الشمس أول النهار. والضحاء بالفتح والمد هو إذا علت الشمس إلى ربع السماء فما بعده-انتهى. وقال المجد في القاموس: الضحو والضحوة. (كلاهما بفتح المعجمة وسكون المهملة) والضحية كعشية ارتفاع النهار. والضحى فويقه. والضحاء بالمد إذا كرب انتصاف النهار-انتهى مختصرا. قال القاري: قيل: التقدير صلاة وقت الضحى، والظاهر أن إضافة الصلاة إلى الضحى بمعنى في كصلاة الليل وصلاة النهار، فلا حاجة إلى القول بحذف المضاف. وقيل: من باب إضافة المسبب إلى السبب كصلاة الظهر-انتهى. قيل: وقت الضحى عند مضي ربع اليوم إلى قبيل الزوال. وقيل: هذا وقته المتعارف. وأما وقته فوقت صلاة الإشراق. وقيل: الإشراق أو الضحى. قال ابن العربي: هي كانت صلاة الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى مخبرا عن دواد عليه السلام:
(8/152)
?إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق? [18:38]. وروى ابن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه سئل عن صلاة الضحى. فقال: إنها في كتاب الله، ولا يغوص عليها الأغواص، ثم قرأ. ?في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له بالغدو والآصال? [36:24] وروى أيضا عنه قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت. ?إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق?. واختلف العلماء في حكمها، وقد جمع ابن القيم في زاد المعاد (ج1:ص92-97) الأقوال، فبلغت ستة: الأول أنها مستحبة، واختلف في عددها فقيل: أقلها ركعتان، وأكثرها وأفضلها ثمان، وهو مذهب الحنابلة والمالكية والشافعية في القول المعتمد عندهم، وقيل: أكثرها ثنتا عشرة ركعة وأوسطها ثمان، وهو أفضلها لثبوته بفعله عليه السلام وقوله. وأما أكثرها فبقوله فقط، وهو مذهب الحنفية والشافعية أيضا في قول. قال النووي في الروضة: أفضلها ثمان، وأكثرها ثنتا عشرة. قال الحافظ: فرق بين الأكثر والأفضل، ولا يتصور ذلك إلا فيمن صلى ثنتي عشر بتسليمة واحدة، فإنها تقع نفلا مطلقا عند من يقول إن أكثر سنة الضحى ثمان ركعات فأما من فصل فإنه يكون صلى الضحى، وما زاد على الثمان يكون له نفلا مطلقا، فتكون صلاة اثنتي عشرة في حقه أفضل من ثمان لكونه أتى بالأفضل وزاد. وقيل: أفضلها أربع ركعات لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك. وذهب قوم منهم أبوجعفر الطبري، وبه جزم الحليمي والروياني من الشافعية والباجي من المالكية أنه لا حد لأكثرها. الثاني لا تشرع إلا بسبب، واحتج له بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا بسب، واتفق وقوعها وقت الضحى. وتعددت الأسباب فحديث أم هاني، الآتي في صلاته يوم الفتح كان بسبب الفتح، وإن سنة الفتح أن يصلي ثمان ركعات، ونقله الطبري من فعل خالد بن الوليد لما فتح الحيرة، وفي حديث عبدالله بن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم صلى الضحى حين بشر برأس أبي جهل،
(8/153)
وهذه صلاة شكر كصلاة يوم الفتح، وصلاته في بيت عتبان إجابة لسؤاله أن يصلي في بيته مكانا يتخذه مصلى، فاتفق أنه جاءه وقت الضحى فاختصره الراوي فقال: صلى في بيت الضحى، وحديث عائشة لم يكن يصلي الضحى إلا أن يجيء من مغيبه؛ لأنه كان ينهى عن الطروق ليلا، فيقدم في أول النهار، فيبدأ بالمسجد، فيصلي وقت الضحى. الثالث لا تستحب أصلا، وصح عن عبدالرحمن بن عوف أنه لم يصلها، وكذلك ابن مسعود. الرابع يستحب فعلها تارة وتركها تارة بحيث لا يواظب عليها، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، والحجة فيه حديث أبي سعيد الآتي في الفصل الثالث. وعن عكرمة كان ابن عباس يصليها عشرا ويدعها عشرا. وقال الثوري عن منصور: كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة. الخامس: تستحب صلاتها، والمواظبة عليها في البيوت للأمن من خشية
(8/154)
أن ترى حتما. السادس أنها بدعة، صح ذلك عن ابن عمر. قلت: ورجح ابن القيم القول الثاني، وبسط الكلام على الأحاديث المثبتة لها. والراجح عندنا هو القول الأول أعني أنها مستحبة، وإليه ذهبت الأئمة الأربعة وأتباعهم؛ لأن الأحاديث الواردة بإثباتها قد بلغت مبلغا لا تقصر عن اقتضاء الاستحباب، وفيها الصحيح والحسن وما يقاربه، وقد جمع الحاكم الأحاديث في إثباتها في جزء مفرد عن نحو عشرين نفسا من الصحابة، وكذلك السيوطي صنف جزءا في الأحاديث الواردة في إثباتها، وروى فيه عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يصلونها. قال الزبيدي في شرح الإحياء: ورد فيها أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة، حتى قال ابن جرير الطبري: إنها بلغت حد التواتر-انتهى. وقال البيجوري في شرح الشمائل: وبالجملة فقد قام الإجماع على استحبابها وفي شأنها أحاديث كثيرة. وأما احتجاج القائلين بأنها لا تشرع إلا لسبب بما سلف فيرده ويبطله الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب، والعيني في شرح البخاري، والشوكاني في النيل، وابن عبدالبر في الاستذكار والتمهيد، والزبيدي في شرح الإحياء، والهيثمي في مجمع الزوائد. وأما ما روي عن ابن عمر أنه قال في الضحى إنها بدعة، فقد قال النووي: إنه محمول على أن صلاتها في المسجد والتظاهر بها، كما كانوا يفعلونها بدعة، لا أن أصلها في البيوت مذموم. قيل: وهذا الاختلاف إنما هو في الصلاة التي تصلي عند مضي ربع اليوم إلى قبيل الزوال لا في التي تؤدي بعد خروج وقت الكراهة أول النهار وتسمى صلاة الإشراق. ثم إن صلاة الضحى وصلاة الإشراق واحدة أو ثنتان؟ فقيل: إنهما واحدة، وقتها من بعد خروج وقت الكراهة إلى قبيل الزوال. وقيل صلاة الضحى غير صلاة الإشراق، فهما صلاتان، يؤدي الإشراق في الضحوة الصغرى، وصلاة الضحى في الضحوة الكبرى، ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الإشراق في الأحاديث التي رغب فيها في الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع
(8/155)
الشمس، فيصلي ركعتين. قال
القاري في شرح حديث معاذ بن أنس الآتي: وهذه الصلاة تسمى صلاة الاشراق، وهي أول
صلاة الضحى. قلت: ويدل عليه أيضا الأحاديث التي في الترغيب في أربع ركعات من أول
النهار، فإنها أوفق بصلاة الإشراق. ويدل عليه أيضا حديث أبي ذر في الفصل الأول وما
في معناه، فإن المناسب لأداء ما عليه من الحق أن يصليها أول النهار بعد خروج وقت
الكراهة. قال القاري: التحقيق أن أول وقت الضحى إذا خرج وقت الكراهة، وآخره قبيل
الزوال، وإن ما وقع في أوائله يسمى صلاة الاشراق أيضا، وما وقع بعد ذلك إلى آخره
يختص باسم صلاة الضحى-انتهى بتصرف يسير: وقال في شرح الإحياء: أما وقتها أي الضحى
فقد روى على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى ستا في وقتين: الأول إذا أشرقت
الشمس وارتفعت قيد رمح قام، فصلى ركعتين، وهذه الصلاة المسماة بصلاة الإشراق عند
مشائخنا. والثاني إذا انبسطت الشمس وكانت في ربع السماء، صلى أربعا. قال العراقي:
أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث علي كان
?الفصل الأول?
1317- (1) عن أم هانئ، قالت: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بيتها يوم فتح
مكة، فاغتسل، وصلى ثماني ركعات لم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع
والسجود. وقالت في رواية أخرى: وذلك ضحى)).
النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس من مطلعها قيد رمح أو رمحين كقدر صلاة
العصر من مغربها صلى ركعتين، ثم أمهل حتى إذا ارتفع الضحى صلى أربعا. لفظ النسائي.
وقال الترمذي: حسن –انتهى. قلت: هذا الحديث ظاهر بل نص في التفريق بين صلاتي
الإشراق والضحى. والله أعلم.
(8/156)
1317- قوله: (عن أم هانئ) بهمزة بعد النون. (دخل بيتها يوم فتح مكة) في رمضان سنة ثمان من الهجرة. (فاغتسل) أي بيتها، كما هو ظاهر التعبير بالفاء المقتضية للترتيب والتعقيب، لكن في مسلم كالموطأ من طريق أبي مرة عنها أنها قالت: ذهبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل. قال الحافظ: وجمع بينهما بأن ذلك تكرر منه. ويؤيده ما رواه ابن خزيمة من طريق مجاهد عن أم هانئ، وفيه أن أبا ذر ستره لما اغتسل. وفي رواية أبي مرة: أن فاطمة بنته هي التي سترته. ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة، وكانت هي في بيت آخر بمكة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل فيصح القولان. وأما الستر فيحتمل أم يكون أحدهما ستره في ابتداء الغسل، والآخر في أثنائه- انتهى. (وصلى ثماني) بالياء التحتية المفتوحة، وللأصيلي وأبي ذر ثمان بإسقاط الياء. قاله القسطلاني. (ركعات) زاد كريب عن أم هانئ يسلم من كل ركعتين. أخرجه أبوداود وابن خزيمة، وفيه رد على من تمسك به صلاتها موصولة سواء صلى ثمان ركعات أو أقل. (فلم أر صلاة) أي ما رأيته صلى صلاة. (قط) أي أبدا. (أخف منها) يعني من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: فما رأيته صلى صلاة قط أخف منها أي من هذه الثمان. وفي رواية لمسلم: لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركوعه أم سجوده كل ذلك متقارب. واستدل به على استحباب تخفيف صلاة الضحى. وفيه نظر لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى الضحى فطول فيها. أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة. (غير أنه) عليه الصلاة والسلام. (يتم) أي كان يتم (الركوع والسجود) قالته دفعا لتوهم من يفهم أنه نقص منهما حيث عبرت بأخف. وقال الطيبي: نصب غير على استثناء، وفيه إشعار بالاعتناء بشأن الطمأنينة في الركوع والسجود؛ لأنه عليه الصلاة والسلام خفف سائر الأركان من القيام والقراءة والتشهد،
(8/157)
ولم يخفف من الطمأنينة في الركوع
والسجود- انتهى. (وقالت) أي أم هانئ. (وذلك ضحى) أي
متفق عليه.
1318- (2) وعن معاذة، قالت: سألت عائشة: ((كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يصلي صلاة الضحى؟
قالت: أربع ركعات ويزيد ما شاء الله))
ما فعله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ضحى أو ذلك الوقت وقت ضحى، ويؤيد الأول ما
يأتي من رواية أبي داود وابن عبدالبر وغيرهما. والحديث استنبط منه سنية صلاة الضحى
خلافا لمن قال ليس في حديث أم هانئ دلالة لذلك بل هو إخبار منها بوقت صلاته فقط
وكانت سنة الفتح. قال السهيلي: هذه الصلاة تعرف عند العلماء بصلاة الفتح، وكان
الأمراء يصلونها إذا فتحوا بلدا، صلاها خالد بن الوليد لما فتح الحيرة، وصلاها سعد
بن أبي وقاس حين افتتح المدائن في إبوان كسرى، والأصل فيها صلاته صلى الله عليه
وسلم يوم الفتح. وقيل: إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه فيها. وأجيب
بأن الصواب صحة الاستدلال به لقولها في حديث أبي داود وغيره صلى سبحة الضحى.
والسبحة بالضم الصلاة ومسلم في الطهارة ثم صلى ثمان ركعات سبحة الضحى، وفي التمهيد
لابن عبدالبر قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فصلى ثمان ركعات،
فقلت: ما هذه الصلاة، قالت: هذه صلاة الضحى، واستدل بحديث الباب على أن أفضلها
ثمان ركعات وهي أكثر ما ورد من فعله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد ذلك من قوله أيضا
وورد من فعله دون ذلك ركعتان وأربع وست، وورد الزيادة على الثمان من قوله فقط، ففي
حديث أبي ذر مرفوعا قال: إن صليت الضحى عشرا لم يكتب لك ذلك اليوم ذنب، وإن صليتها
اثنتي عشرة ركعة بنى الله لك بيتا في الجنة. رواه البيهقي، وقال: في إسناده نظر،
وضعفه النووي في شرح المهذب، وفي ثنتي عشرة أحاديث أخرى يقوي بعضها بعضا، وهي أكثر
ما ورد في صلاة الضحى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3:ص48).
(8/158)
1318- قوله: (وعن معاذة) بضم
الميم بنت عبدالله العدوية. (كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي كم
ركعة، وهو مفعول مطلق لقوله: (يصلي صلاة الضحى) وفي ورواية ابن ماجه: أ كان النبي
- صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى؟ قالت نعم. (قالت: أربع ركعات) روى الحاكم من
طريق أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن
نصلي الضحى بسور منها. ?والشمس وضحاها?. ?والضحى? ومناسبة ذلك ظاهرة جدا. (ويزيد)
عطف على مقدر، وهو مقول للقول أي يصلي أربع ركعات ويزيد (ما شاء الله) قال المظهر:
أي يزيد من غير حصر، ولكن لم ينقل أكثر من اثنتي عشرة ركعة. وقال الحافظ: قد ذهب
قوم منهم أبوجعفر الطبري وبه جزم الحليمي والروياني من الشافعية إلى أنه لا حد
لأكثرها، وروى من طريق إبراهيم النخعي قال: سأل رجل الأسود بن يزيد كم أصلي
رواه مسلم.
(8/159)
الضحى قال: كم شئت، ثم ذكر الحافظ حديث عائشة هذا وقال: وهذا الإطلاق قد يحمل على التقييد، فيؤكد أن أكثرها اثنتا عشرة ركعة-انتهى. واعلم أنه قد جاء عن عائشة في صلاة الضحى أشياء مختلفة، فروي عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها من غير تقييد، كما في حديث الباب، وروي عنها أنها سئلت هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى؟ قالت: لا إلا أن يجيء من مغيبه. أخرجه مسلم وروى عنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها. متفق عليه. ففي رواية الكتاب إثباتها مطلقا، وفي الثالثة النفي مطلقا، وفي الثانية الإثبات مقيدا، وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب ابن عبدالبر وجماعة إلى ترجيح الرواية الثالثة؛ لاتفاق الشيخين عليها فتقدم على ما انفرد به مسلم، وذهب بعضهم إلى ترجيح رواية الإثبات، وقالوا: إن عدم رؤيتها لذلك لا يستلزم عدم الوقوع، ويؤيد ذلك روايات من روى عنه من الصحابة الإثبات. وذهب بعضهم إلى الجمع، قال ابن حبان: قولها ما كان يصلي إلا أن يجيء من مغيبه مخصوص بالمسجد، وقولها: كان يصلي أربعا ويزيد محمول على البيت، وقولها: ما رأيته يصلي سبحة الضحى المنفي فيه صفة مخصوصة. وجمع عياض بين هذا وبين الثاني أي قولها: كان يصلي أربعا بأن المنفي في الثالث، أي في قولها ما رأيته يصلي الرؤية بنفسها، وفي الثاني إخبار الصلاة برواية غيرها، فأخبرت في الإنكار عن مشاهدتها، وفي الإثبات عن غيرها. وقال المنذري: يحتمل أنها أخبرت في الإنكار عن رؤيتها ومشاهدتها، وفي الآخر بغير المشاهدة، إما من خبره عليه السلام أو خبر غيره عنه. وجمع الباجي بأن النفي في قولها: ما رأيته يصلي مقيد بدون السبب، والإثبات في قولها كان يصلي أربعا مقيد بالسبب، وهو المجيء من السفر وإن لم يذكر فيهما، كما في بينه قولها: لا إلا أن يجيء من مغيبه. وقيل في الجمع أيضا: يحتمل أن يكون لفت صلاة الضحى
(8/160)
المعهودة حينئذ من هيئة مخصوصة
بعدد مخصوص في وقت مخصوص، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها إذا قدم من سفر
لا بعدد مخصوص ولا بغيره، كما قالت: يصلي أربعا ويزيد ما شاء الله. قال المنذري:
وقد يكون. الإنكار إنما هو لصلاة الضحى المعهودة عند الناس على الذي اختاره جماعة
من السلف من صلاتها ثمان ركعات وأنه كان يصليها أربعا. ويزيد ما شاء فيصليها مرة
أربعا ومرة ستا ومرة ثمانية، وأقلها ركعتان. وقيل: النفي محمول على صلاة الاشراق،
فإنها ما رأته - صلى الله عليه وسلم - يصليها قط؛ لأنه كان يصليها في المسجد إذا
خرج وقت الكراهة، وقولها: لا إلا أن يجيء من مغيبه، وقولها: كان يصلي أربعا محمول
على صلاة الضحى. والنفي المقيد بغير المجيء من مغيبه محمول على المسجد والإثبات
مطلقا على البيت، والله أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والبيهقي
(ج3:ص47) وأخرجه أبويعلى من طريق عمرة عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يصلي الضحى أربع ركعات لا يفصل بينهن بكلام.
1319- (3) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يصبح على كل
سلامى من أحدكم صدقة،
فكل تسبيحه صدقة، وكل تحميده صدقة، وكل تهليله صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر
بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى))
(8/161)
1319- قوله: (يصبح على كل سلامى) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم. قال النووي: أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في جميع عظام البدن ومفاصله، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم من حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خلق الإنسان على ستين وثلثمائة مفصل على كل مفصل صدقة-انتهى. وفي النهاية: السلامى جمع سلامية، وهي الأنملة من الأنامل الأصابع. وقيل: واحده وجمعه سواء ويجمع على سلاميات، وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان. (من أحدكم صدقة) قال الطيبي: اسم يصبح. أما صدقة أي كصبح الصدقة وأحبه على كل سلامي. وأما من أحدكم على تجويز زيادة من، والظرف خبره، وصدقة فاعل الطرف، أي يصبح أحدكم واجبا على كل مفصل منه صدقة. وأما ضمير الشأن والجملة الاسمية بعدها مفسرة له. قال عياض: يعني أن كل عظم من عظام ابن آدم وكل مفصل من مفاصله يصبح سليما عن الآفات باقيا على الهيئة التي تتم بها منافعه فعليه صدقة شكرا لمن صوره ووقاه عما يغيره ويؤذيه. (فكل تسبيحه صدقة) قال الطيبي: الفاء تفصيلية ترك تعديد كل واحد من المفاصل للاستغناء يذكر تعديد ما ذكر من التسبيح وغيره-انتهى. أو لأن تعديد المفاصل يجر إلى الإطالة، وفي تركه إيماء إلى قوله تعالى. ?وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها? [34:14]. والمقصود ما به القيام بشكرها على أن جعل له ما يكون به متمكنا من الحركات والسكنات، وليس الصدقة بالمال فقط بل كل خير صدقة. (وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة) وكذا سائر الأذكار وباقي العبادات صدقات على نفس الذاكر. (وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة)؛ لأن منفعتهما راجعة إليه وإلى غيره من المسلمين، وفي ترك ذكر الصدقة الحقيقية تسلية للفقراء والعاجزين عن الخيرات المالية. (ويجزئ) قال النووي: ضبطناه بالضم أي ضم الياء من الإجزاء، وبالفتح من جزى يجزي أي يكفي. (من ذلك) هي بمعنى عن أي يكفي عما ذكر
(8/162)
مما وجب على السلامي من
الصدقات. (ركعتان) لأن الصلاة عمل بجميع أعضاء البدن فيقوم كل عضو بشكره، ولاشتمال
الصلاة على الصدقات المذكورة وغيرها، فإن فيها أمرا للنفس بالخير ونهيا لها عن ترك
الشكر، وإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. (يركعهما من الضحى) أي من صلاة الضحى،
أو في وقت الضحى. والحديث يدل على عظم فضل صلاة الضحى وكبر موقعها وتأكيد
مشروعيتها، وأن ركعتيها تجزئان عن ثلثمائة وستين صدقة، وما كان كذلك فهو حقيق
بالمواظبة والمداومة، ويدل أيضا على مشروعية الاستكثار من التسبيح والتحميد
والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر أنواع الطاعات والقربات؛ ليسقط
بفعل ذلك ما على الإنسان من الصدقات اللازمة في كل يوم.
رواه مسلم.
1320- (4) وعن زيد بن أرقم أنه رأى قوما يصلون من الضحى، فقال: ((لقد علموا أن
الصلاة
في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة الأوابين
حين ترمض الفصال ))
(رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3:ص47).
(8/163)
1320- قوله: (رأى قوما يصلون) أي في مسجد قباء، كما في رواية البيهقي. (من الضحى) أي بعد طلوع الشمس وارتفاعها شيئا يسيرا. وفي رواية للبيهقي: رأى نأسا جلوسا إلى قاص، فلما طلعت الشمس ابتدروا السواري يصلون. قال الطيبي: "من" زائدة أي يصلون صلاة الضحى، ويجوز أن تكون تبعيضية، وعليه ينطبق قوله: (لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل) أنكر عليهم إيقاع صلاتهم في بعض وقت الضحى أي أوله ولم يصبروا إلى الوقت المختار، أي كيف يصلون مع علمهم بأن الصلاة في غير هذا الوقت أفضل، ويجوز أن تكون ابتدائية أي صلاة مبتدأة من أول الوقت، ويكون المعنى إنكار إنشاء الصلاة في أول وقت الضحى. (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بكسر الهمزة استئناف بيان، ويجوز فتحها للعله. (قال) وفي رواية: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل قباء، وهم يصلون فقال (صلاة الأوابين) بتشديد الواو جمع أواب، وهو الكثير الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة عن الذنوب وبالإخلاص وفعل الخيرات، من آب إذا رجع. (حين ترمض) بفتح التاء الفوقية والميم من باب فرح أي تحترق من الرمضاء، وهو شدة حرارة الأرض من وقوع الشمس على الرمل وغيره، وذلك يكون عند ارتفاع الشمس وتأثيرها الحر. (الفصال) بكسر الفاء جمع الفصيل، ولد الناقة إذا فصل عن أمه، يعني تحترق أخفافها من شدة حر النهار. وقيل: لأن هذا الوقت زمان الإستراحة فإذا تركها ورجع إلى الله تعالى بالاشتغال بالصلاة استحق الثناء الجميل. قال ابن الملك: إنما أضاف الصلاة في ذلك الوقت إلى الأوابين لميل النفس فيه إلى الدعة والاستراحة، فالاشتغال فيه بالصلاة أوب من مراد النفس إلى مرضات الرب. وقال التوربشتي: إنما قال - صلى الله عليه وسلم - هذا القول حين دخل مسجد قباء، ووجد أهل قباء يصلون في ذلك الوقت وإنما مدحهم بصلاتهم في الوقت الموصوف؛ لأنه وقت تركن فيه النفوس إلى الاستراحة ويتهيأ فيه أسباب الخلوة وصرف
(8/164)
العناية إلى العبادة، فيرد على
قلوب الأوابين من الإنس بذكر الله وصفاء الوقت ولذاذة المناجاة ما يقطعهم عن كل
مطلوب سواه-انتهى. والحديث يدل على أن المستحب فعل الضحى في ذلك الوقت، وقد توهم
أن قول زيد بن أرقم أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل يدل على نفي صلاة الضحى،
وليس الأمر كذلك بل مراده أن تأخير الضحى إلى ذلك الوقت أفضل. قلت: الأحاديث
الواردة في الضحى تتضمن صلاتين: إحداهما ما يفعل بعد طلوع الشمس إذا خرج وقت
رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1321، 1322-(5، 6) عن أبي الدرداء، وأبي ذر قالا: ((قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - عن الله تبارك وتعالى
أنه قال: يا ابن آدم! اركع لي أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره)) رواه
الترمذي.
الكراهة، ويسمونها صلاة الاشراق وصلاة الضحوة الصغرى أيضا والأخرى قبيل نصف النهار
عند شدة الحر، وتسمى صلاة الضحوة الكبرى، وهذه هي المرادة في هذا الحديث، وجاء في
الأحاديث اسم الضحى شاملا لكل من الصلاتين. (رواه مسلم) في باب صلاة الليل. وأخرجه
أيضا أحمد والبيهقي (ج3 ص39). وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعا قال: لا يحافظ على
صلاة الضحى إلا أواب. قال: وهي صلاة الأوابين. أخرجه الحاكم (ج1 ص344) وصححه على
شرط مسلم ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضا الطبراني وابن خزيمة في صحيحه.
(8/165)
1321، 1322- قوله: (عن الله)
أي ناقلا أو قائلا عن الله (تبارك) أي كثر خيره وبركته. (وتعالى) أي علا مجده
وعظمته. وفي بعض نسخ الترمذي عن الله عزوجل. (أنه) بفتح الهمزة. (يا ابن آدم) وفي
نسخ الترمذي الموجودة عندنا ابن آدم بدون حرف النداء. (اركع) أي صل (لي) أي خالصا
لوجهي. (أربع ركعات من أول النهار) قيل: المراد صلاة الضحى. وقيل: صلاة الإشراق.
وقيل: سنة الصبح وفرضه؛ لأنه أول فرض النهار الشرعي. قلت: حمل الترمذي وأبوداود
هذه الركعات على صلاة الضحى، ولذا أخرجا هذا الحديث في باب صلاة الضحى. قال
العراقي: وهذا الاختلاف ينبني على أن النهار هل هو من طلوع الفجر أو من طلوع
الشمس؟ والمشهور الذي يدل عليه كلام جمهور أهل اللغة وعلماء الشريعة أنه من طلوع
الفجر، قال: وعلى تقدير أن يكون النهار من طلوع الفجر فلا مانع من أن يراد بهذه
الأربع ركعات بعد طلوع الشمس؛ لأن ذلك الوقت ما خرج عن كونه أول النهار، وهذا هو
الظاهر من الحديث وعمل الناس، فيكون المراد بهذه الأربع ركعات الضحى- انتهى. وقال
القاري: النهار في عرف الشرع من طلوع الصبح إلى المغرب، غايته أنه يطلق على الضحوة
وما قبلها أنه أول النهار، فمن تبعيضية في قوله من أول النهار. (أكفك) أي مهماتك.
(آخره) أي إلى آخر النهار. قال الطيبي: أي أكفك شغلك وحوائجك وارفع عنك ما تكرهه
بعد صلاتك إلى آخر النهار. والمعنى فرغ بالك بعبادتي في أول النهار أفرغ بالك في
آخره بقضاء حوائجك. (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن غريب. قال المنذري في تلخيص
السنن: وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وفيه مقال، ومن الأئمة من يصحح حديثه عن
الشاميين، وهذا الحديث شامي الإسناد، يعني أن إسماعيل بن عياش روى هذا الحديث
1323-(7) ورواه أبوداود، والدارمي، عن نعيم بن همار الغطفاني، وأحمد عنهم.
(8/166)
1324-(8) وعن بريدة، قال: سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((في الإنسان ثلثمائة وستون مفصلا، فعليه
أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة،
عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان، وهما حمصيان شاميان. وقال في الترغيب بعد نقل
تحسين الترمذي: في إسناده إسماعيل بن عياش، ولكنه إسناده شامي. ورواه أحمد (ج6
ص440- 451) عن أبي الدرداء وحده ورواته كلهم ثقات.
1323- قوله: (ورواه أبوداود والدارمي) وكذا أحمد (ج5 ص286، 287) والبيهقي (ج3
ص48). (عن نعيم) مصغرا، صحابي، له أحاديث. (بن همار) بفتح الهاء وتشديد الميم
وبالراء المهملة. وقد اختلف في اسم والد نعيم هذا، فقيل: هكذا همار. وقيل: هبار
بفتح الهاء وتشديد الباء الموحدة. وقيل: هدار بفتح الدال المهملة المشددة وآخره
راء. وقيل: همام بميمين الأولى مشددة. وقيل: خمار بفتح الخاء المعجمة وشدة الميم
وبالراء. وقيل: حمار بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم وآخره راء. وقيل: حمار بكسر
الحاء المهملة وخفة الميم. قال الحافظ في التقريب: ورجح الأكثر أن اسم أبيه همار.
وقال في التهذيب: وصحح الترمذي وابن أبي داود وأبوالقاسم البغوي وأبوحاتم بن حبان
وأبوالحسن الدارقطني وغيرهم: أن اسم أبيه همار. وقال الغلابي عن ابن معين: أهل
الشام يقولون نعيم بن همار، وهم أعلم به، يعني لأنه غطفاني شامي. (الغطفاني) منسوب
إلى قبيلة غطفان بحركتين. ذكر ابن أبي داود أن نعيم بن همار من غطفان جذام. قال
المنذري: حديث نعيم بن همار قد اختلف الرواة فيه اختلافا كثيرا، وقد جمعت طرقه في
جزء مفرد- انتهى. (وأحمد عنهم) أي يروي أحمد عن الثلاثة المذكورين من الصحابة،
وفيه نظر؛ لأني لم أجده في المسند من رواية أبي ذر، لا في مسند أبي الدرداء ولا في
مسند أبي ذر، اللهم أن يكون ذكره في أثناء مسند صحابي آخر، لكن قول المنذري في
الترغيب بعد نقل الحديث عن الترمذي من رواية أبي الدرداء وأبي ذر: "ورواه
أحمد عن أبي الدرداء
(8/167)
وحده" يؤكد أن قول المصنف
"وأحمد عنهم" وهم. والصواب أن يقول: وأحمد عنهما أي عن أبي الدرداء
ونعيم بن همار، وفي الباب عن غير واحد من الصحابة، ذكرهم الشوكاني والهيثمي
وغيرهما.
1324- قوله: (مفصلا) بفتح الميم وكسر الصاد، كمجلس أحد مفاصل الأعضاء. (فعليه) أي
على الإنسان. (أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة) و"على" هنا لتأكيد ندب
التصدق، لا بمعنى الوجوب الشرعي، إذ لم يقل أحد بوجوب ركعتي الضحى وسائر الصدقات
المذكورة، وإن كان الشكر على نعم الله تعالى إجمالا
قالوا: ومن يطيق يا نبي الله؟ قال: النخاعة في المسجد تدفنها، والشيء تنحيه عن
الطريق، فإن لم تجد، فركعتا الضحى تجزئك)). رواه أبوداود.
1325-(9) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى الضحى
ثنتي عشرة ركعة بنى الله له
قصرا من ذهب في الجنة)) رواه الترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا
نعرفه إلا من هذا الوجه.
(8/168)
وتفصيلا واجبا، قاله القاري: (ومن يطيق ذلك) أي أن يتصدق ثلاث مائة وستين صدقة، فكأنهم حملوا الصدقة على المتعارف من الخيرات المالية، أي لا يطيق كل أحد ذلك؛ لأن أكثر الناس فقراء. ( قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (النخاعة) بضم النون. قيل: هي النخامة. وقيل: النخاعة هي الخارجة من أسفل الحلق الخارجة من الصدر، كمخرج الحاء. والنخامة هي الخارجة من مخرج الخاء النازلة من الدماغ. (في المسجد) أي النخاعة التي تكون في المسجد. (تدفنها) أي أيها المخاطب خطابا عاما، عدل عن صيغة الجمع لئلا يتوهم الاختصاص بالصحابة أي دفنها صدقة. (والشيء) بالرفع أي المؤذي للمار من شوك أو حجر أو غيرهما. (تنحيه) بالتشديد أي تبعده. (عن الطريق) أي تنحيه ذلك صدقة، وكذا كل معروف صدقة. وقال الطيبي: الظاهر أن يقال من يدفن النخاعة في المسجد، فعدل عنه إلى الخطاب العام اهتماما بشأن هذه الخلال، وأن كل من شأنه أن يخاطب بخطاب ينبغي أن يهتم بها. (فإن لم تجد) أي شيئا مما يطلق عليه اسم الصدقة عرفا أو شرعا يبلغ عدد الثلاث مائة والستين. (فركعتا الضحى) أي صلاته. (تجزئك) أي تكفيك عن جميعها، وأفرد الخبر باعتبار المعنى أي فصلاة الضحى تجزئك. قال المناوي: وخصت الضحى بذلك لتمحضها للشكر؛ لأنها لم تشرع جابرة لغيرها بخلاف الرواتب. (رواه أبوداود) في أواخر الأدب، وسكت عنه وقال المنذري: في إسناده علي بن الحسين بن واقد، وفيه مقال- انتهى. قلت: هو من رجال مقدمة صحيح مسلم، أخرج من طريقه كلام سفيان الثوري في عباد بن كثير، وليس هو من رجال صحيحه. قال أبوحاتم: ضعيف الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وكان إسحاق بن راهويه سيء الرأي فيه لعلة الإرجاء، كذا في التهذيب. وقال في التقريب: أنه صدوق يهم. وقال الذهبي: صدوق، فالظاهر أن حديثه حسن. والحديث أخرجه أيضا أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال المناوي: في
(8/169)
شرح الجامع الصغير: إسناده
حسن.
1325- قوله: (من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة) هذا أكثر ما ورد من قوله في عدد صلاة
الضحى. قال العيني وغيره: لم يرد في عدد صلاة الضحى أكثر من ذلك. (رواه الترمذي وابن
ماجه) واستغربه الترمذي،
1326-(10) وعن معاذ بن أنس الجهني، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح، حتى يسبح ركعتي الضحى، لا يقول إلا
خيرا، غفر له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر)). رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
1327-(11) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حافظ
على شفعة الضحى، غفرت له
ذنوبه
كما نقله المصنف، وذكره النووي في الأحاديث الضعيفة، قاله ميرك. وقال الحافظ في
الفتح: قال النووي: في شرح المهذب: فيه. (أي في فضل صلاة الضحى ثنتي عشرة ركعة)
حديث ضعيف، كأنه يشير إلى حديث أنس. (يعني الذي نحن بصدد شرحه). لكن إذا ضم إليه
حديث أبي ذر عند البزار، وحديث أبي الدرداء عند الطبراني. (وفي إسنادهما ضعف) قوى
وصلح للاحتجاج به، وقال فيه أيضا: أن حديث أنس ليس في إسناده من أطلق عليه الضعف،
وبه يندفع تضعيف النووي له، ولكنه تابعها الحافظ في التلخيص (ص118) حيث قال بعد
ذكر الحديث: وإسناده ضعيف.
(8/170)
1326- قوله: (الجهني) بضم
الجيم وفتح الهاء، منسوب إلى قبيلة جهنية مصغرا. (من قعد) أي استمر (في مصلاه) من
المسجد مشتغلا بذكر الله. (حين ينصرف) أي يفرغ. (حتى يسبح) أي إلى أن يصلي. (ركعتي
الضحى) أي بعد طلوع الشمس وارتفاعها. (لا يقول) أي فيما بينهما. (إلا خيرا) يعني
يستمر على الذكر في ذلك الوقت ولا يتكلم بسوء. وقال القاري: هو ما يترتب عليه
الثواب. واكتفى بالقول عن الفعل. (غفر له خطاياه) أي الصغائر، ويحتمل الكبائر،
قاله القاري. (وإن كانت أكثر من زبد البحر) الزبد بفتحتين ما يعلو الماء ونحوه من
الرغوة. والحديث من أدلة فضل صلاة الإشراق؛ لأنها أقرب النوافل بعد صلاة الصبح.
وقد تقدم أن الضحى يطلق على صلاة الإشراق أيضا. (رواه أبوداود) من طريق زبان بن
فائد عن سهل بن معاذ، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: سهل بن معاذ ضعيف،
والراوي عنه زبان بن فائد ضعيف أيضا. وقال العراقي: إسناده ضعيف. وأخرجه البيهقي
من طريق أبي داود (ج3 ص49).
1327- قوله: (من حافظ على شفعة الضحى) أي داوم عليها أو أداها على وجهها ولو مرة،
والمراد بشفعة الضحى ركعتا الضحى. قال الجزري في النهاية: من الشفع الزوج، ويروى
بالفتح والضم، كالغرفة والغرفة،
وإن كانت مثل زبد البحر)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
1328-(12) وعن عائشة: ((أنها كانت تصلي الضحى ثماني ركعات، ثم تقول: لو نشر لي
أبواي ما تركتها))
(8/171)
وإنما سماها شفعة؛ لأنها أكثر من واحدة. قال القتيبي: الشفع الزوج، ولم أسمع به مؤنثا إلا ههنا، وأحسبه ذهب بتأنيثه إلى الفعلة الواحدة أو إلى الصلاة- انتهى. وقال العراقي: المشهور في الرواية ضم الشين. (وإن كانت مثل زبد البحر) ما يعلو على وجهه عند هيجانه، مبالغة في الكثرة. قيل: إنما خص الكثرة بزبد البحر لاشتهاره بالكثرة عند المخاطبين. وقال ابن حجر: عبر هنا بمثل وفيما سبق بأكثر؛ لأن عمل ذلك أشق فكانت الزيادة به أحق. قال القاري: وفيه نظر؛ لأنه لا شبهة أن المواظبة المذكورة أقوى من مجرد القعود المسطور، اللهم إلا أن تكون المداومة فيه أيضا معتبرة، أو يضم إليه أداء الصلاة الفريضة- انتهى. (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه) من طريق نهاس ابن قهم عن شداد أبي عمار عن أبي هريرة، ونهاس ضعيف، وشداد ثقة، وفي سماعه من أبي هريرة خلاف. قال صالح بن محمد: شداد أبوعمار صدوق، لم يسمع من أبي هريرة، ولا من عوف بن مالك، كذا في التهذيب.
(8/172)
1328- قوله: (كانت تصلي الضحى
ثماني) بكسر النون وفتح الياء. (ركعات) قال الباجي: يحتمل أنها تفعل ذلك بخبر
منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كخبر أم هانئ، ولذا اقتصرت على هذا العدد،
ويحتمل أن هذا القدر هو الذي كان يمكنها المداومة عليه، قال: وليست صلاة الضحى من
الصلوات المحصورة بالعدد، فلا يزاد عليها ولا ينقص منها، ولكنها من الرغائب التي
يفعل الإنسان منها ما أمكنه- انتهى. قال الزرقاني: هذا مختار الباجي، وإلا فالمذهب
عندنا أن أكثرها ثمان؛ لأن ذلك أكثر ما ورد من فعله - صلى الله عليه وسلم --
انتهى. وقال السيوطي: وهذا الذي قاله الباجي، هو الصواب المختار، فلم يرد في شيء
من الأحاديث ما يدل على حصرها في عدد مخصوص. (ثم تقول) بيانا لشدة الاهتمام وحثا
على المحافظة والمداومة. (لو نشر لي) بضم النون وكسر الشين المعجمة أي أحي.
(أبواي) أبوبكر وأم رومان. (ما تركتها) أي ما تركت هذه اللذة بتلك اللذة. قال
الطيبي: هم من باب التعليق على المحال العادي، ولذلك خصته بقولها: لي أي لو فرض
إحياءهما لي لم أتركها فكيف وأن ذلك محال عادة، أي لا أدع هذه اللذة بتلك اللذة.
وقال ابن حجر: معناه لو خصصت بإحياء أبوي الذي لا ألذ منه لذات الدنيا. وقيل: لي
أتركي لذة فعلها في مقابلة تلك اللذة ما تركت ذلك الإيثار اللذة الأخروية وإن دعا
الطبع الجبلي إلى تقديم تلك اللذة الدنيوية، أو المعنى ما تركت هذه الصلاة اشتغالا
بالترحيب بهما والقيام بخدمتهما، فهو كناية عن نهاية المواظبة وغاية المحافظة بحيث
لا يمنعها قاطع عنها- انتهى. قلت: وفي الموطأ: ما تركتهن أي بضمير الجمع يعني
رواه مالك.
1329-(13) وعن أبي سعيد، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى
حتى نقول: لا يدعها،
ويدعها حتى نقول: لايصليها)). رواه الترمذي.
1330-(14) وعن مورق العجلي قال: ((قلت لابن عمر: تصلى الضحى؟ قال: لا. قلت: فعمر؟
(8/173)
قال:لا. قلت: فأبو بكر؟ قال:
لا. قلت: فالنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا إخاله)).
هذه الركعات فإن لذتها أكثر من لذة إحيائهما. (رواه مالك) عن زيد بن أسلم عن عائشة
أم المؤمنين.
1329- قوله: (حتى نقول) بالنون. (لا يدعها) أي لا يتركها أبدا. (ويدعها) أي
أحيانا. (حتى نقول لا يصليها) وفي بعض نسخ الترمذي: لا يصلي بدون الضمير المنصوب
وكان ذلك بحسب مقتضى الأوقات من العمل بالرخصة والعزيمة، كما يفعل في صوم النفل.
والحديث من أدلة القائلين بأن صلاة الضحى يستحب فعلها تارة وتركها تارة، بحيث لا
يواظب عليها بل يصلي أحيانا ويترك أحيانا، كما كان عادته - صلى الله عليه وسلم -
من العمل بالرخصة والعزيمة، وسيأتي شيء من الكلام في ذلك في شرح الحديث الآتي.
وأما ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه، فضعيف.
قال الحافظ في الفتح: لم يثبت ذلك في خبر صحيح. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أحمد
(ج3 ص21، 36) ونسبه الحافظ في الفتح للحاكم. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب-
انتهى. وفي سنده عطية بن سعيد بن جنادة العوفي الكوفي، وهو صدوق، يخطىء كثيرا،
وكان شيعيا مدلسا، قاله الحافظ.
(8/174)
1330- قوله: (وعن مورق) بضم
الميم وفتح الواو وتشديد الراء المكسورة، ابن المشمرج بضم الميم وفتح الشين
المعجمة وسكون الميم وفتح الراء وبكسرها وبالجيم، يكنى أبا المعتمر البصري، ثقة
عابد، من كبار الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة (103) وقيل: (105) وقيل: (108).
(العجلي) بكسر العين المهملة وسكون الجيم نسبة إلى عجل قبيلة. (تصلى الضحى) بحذف
أداة الاستفهام. وفي البخاري: أتصلي بإثباتها. (قال) ابن عمر. (لا) أصليها قال.
(قلت) له. (فعمر) كان يصليها. (قال لا) أي لم يصليها. (قلت فأبو بكر) كان يصليها.
(قال: لا) أي لم يصليها، والفاء للترقي من الأدنى إلى الأعلى. (قلت فالنبي - صلى
الله عليه وسلم -) كان يصليها. (قال: لا إخاله) برفع اللام وكسر الهمزة في الأشهر
الأفصح. وقد تفتح والخاء معجمة أي لا أظنه عليه الصلاة والسلام صلاها، وكان سبب
توقف ابن عمر في ذلك أنه بلغه عن غيره أنه صلاها، ولم يثق بذلك عمن ذكره، نعم جاء
عنه الجزم بكونها محدثة من رواية سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن مجاهد عنه، وروى
البخاري في أول
رواه البخاري.
(39) باب التطوع
?الفصل الأول?
1331-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال عند صلاة
الفجر: ((يا بلال! حدثني
بأرجى عمل عملته
(8/175)
أبواب العمرة من وجه آخر عن
مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبدالله بن عمر جالس إلى حجرة
عائشة، وإذا ناس يصلون الضحى فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة، وروى سعيد بن منصور
أن ابن عمر كان لا يصلي الضحى إلا أن يأتي قباء، وهذا يحتمل أن يريد به صلاة تحية
المسجد في وقت الضحى لا صلاة الضحى، ويحتمل أن يكون ينويهما معا، كما قيل في ما
روى عنه أنه قال: ما صليت الضحى منذ أسلمت إلا أن أطوف البيت، أي فأصلي في ذلك
الوقت لا على نية صلاة الضحى بل على نية الطواف، ويحتمل أنه كان ينويهما معا. وفي
الجملة ليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى؛ لأن نفيه محمول على
عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصة، كما تقدم
نحوه في الكلام على حديث عائشة في الفصل الأول. قال عياض وغيره: إنما أنكر ابن عمر
ملازمتها وإظهارها في المساجد وصلاتها جماعة، لا أنها مخالفة للسنة. وقيل: لم يبلغ
ابن عمر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره بذلك. (رواه البخاري) الحديث من
إفراد البخاري. قال الحافظ: وليس لمورق المذكور في البخاري عن ابن عمر سوى هذا
الحديث- انتهى. وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص23).
(باب التطوع) أي سائر أنواع التطوع من الصلوات الثابتة عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - من صلاة الوضوء وصلاة الاستخارة والتوبة والحاجة ومنها صلاة التسبيح، مأخوذ
من الطوع والطاعة، وهو الانقياد، ويطلق التطوع على كل عبادة نافلة مما لم يفرض ولم
يجب فعله على العبد، والمتطوع على كل متنفل بالخير أي الذي يأتي من الأعمال
الصالحة زيادة على الفرائض والواجبات، وأكثر إطلاق التطوع في الصلاة على غير سنن
الرواتب، وصيغة التفعل للمبالغة من حيث أن العبد يفعله من غير أن يكلفه الشارع
بذلك، ويبالغ في الانقياد له بفعله.
(8/176)
1331- قوله: (لبلال) هو ابن
رباح المؤذن. (عند صلاة الفجر) أي في الوقت الذي كان - صلى الله عليه وسلم - يقص
فيه رؤياه ويعبر ما رآه غيره من أصحابه. قال الحافظ: في قوله عند صلاة الفجر إشارة
إلى أن ذلك وقع المنام؛ لأن عادته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقص ما رآه
ويعبر ما رآه أصحابه بعد صلاة الفجر، كما وردت بذلك الأحاديث. (حدثني) أي أخبرني
(بأرجى عمل عملته) بلفظ أفعل التفضيل المبني من المفعول، وهو سماعي مثل أشغل
وأعذر،
في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملا أرجى عندي
أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل ولا نهار،
(8/177)
أي أكثر مشغولية ومعذورية، والعمل ليس براج للثواب، وإنما هو مرجو الثواب، وأضيف إلى العمل؛ لأنه السبب الداعي إليه، والمعنى أخبرني بما أنت أرجى من نفسك به من أعمالك. قال التوربشتي: سأله عن أوثق أعماله وأحقها بالرجاء عنده وأضاف الرجاء إلى العمل؛ لأنه هو السبب الداعي إلى الرجاء، والمعنى أنبئني عن أعمالك بنا أنت أشد رجاء فيه أي يكون رجاءك بثوابه أكثر. (في الإسلام) زاد مسلم في روايته منفعة عندك. (فإني سمعت) أي الليلة، كما في مسلم، وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام، ويدل على ذلك أيضا أن الجنة لا يدخلها أحد أي من غير الأنبياء إلا بعد الموت وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلها يقظة كما وقع له في المعراج إلا أن بلالا لم يدخل. وقال التوربشتي: هذا شيء كوشف به - صلى الله عليه وسلم - من عالم الغيب في نومه أو يقظته. وقيل: هذا مبالغة في دخول الجنة، كأنه دخل في حال حياته، قلت: حديث بريدة الآتي في الفصل الثاني ظاهر في كونه رآه دخل الجنة، ويؤيد كونه وقع في المنام ما روى البخاري في أول مناقب عمر من حديث جابر مرفوعا: رأيتني دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقيل: هذا بلال ورأيت قصرا بفنائه جارية، فقيل: هذا لعمر- الحديث. وبعده من حديث أبي هريرة مرفوعا: بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب القصر، فقيل: هذا لعمر- الحديث. فعرف أن ذلك وقع في المنام ورؤيا الأنبياء وحي ولذلك جزم النبي - صلى الله عليه وسلم -له بذلك. (دف نعليك) بفتح الدال المهملة والفاء المشددة أي حسيسهما عند المشي فيهما. قال التوربشتي: أراد أخذ من دفيف الطائر إذا أراد النهوض قبل أن يستقل، وأصله ضربه بجناحيه، وفيه وهما جنباه فيسمع لهما حسيس. وقال الخليل: دف الطائر إذا حرك جناحيه، وهو قائم على رجليه. وقال الحميدي: الدف الحركة الخفيفة والسير اللين. والمراد هنا الصوت اللين الملائم الناشيء من السير، ووقع في رواية لمسلم
(8/178)
خشف نعليك بفتح الخاء وسكون
الشين المعجمتين وتخفيف الفاء. قال أبوعبيدة وغيره: الخشف الحركة الخفيفة. (بين
يدي في الجنة) ظرف للسماع، وتقدم بلال بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام في
الجنة على عادته في اليقظة لا يستدعي أفضليته على العشرة المبشرة بالجنة فضلا عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل هو سبق خدمة، كما يسبق العبد سيده، وإنما
أخبره عليه السلام بما رآه ليطيب قبله باستحقاقه الجنة ليداوم عليه ولإظهار رغبة
السامعين. وفيه إشارة إلى بقاء بلال على ما هو عليه في حال حياته واستمراره على
قرب منزلته وذلك منقبة عظيمة لبلال. (ما عملت عملا أرجى عندي أني) بفتح الهمزة. و"من
مقدرة قبلها صلة لأفعل التفضيل، وثبتت في رواية مسلم وللكشمهيني أن بنون خفيفة بدل
أني. (لم أتطهر طهورا) بضم الطاء زاد مسلم تاما أي لم أتوضأ وضوءا. (في ساعة من
ليل ولا نهار) هذا لفظ مسلم، وفي رواية البخاري: في ساعة ليل أو نهار. قال
إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي)). متفق عليه.
1332-(2) وعن جابر، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة
في الأمور،
(8/179)
القسطلاني: بغير تنوين ساعة على الإضافة، كما في بعض الأصول المقابل على اليونينية، ورأيته بها كذلك، وفي بعضها ساعة بالتنوين، وجر ليل على البدل، وهو الذي ضبطه به الحافظ ابن حجر والعيني، ولم يتعرض لضبطه البرماوي، كالكرماني، ونكر ساعة لإفادة العموم، فيدل على جواز هذه الصلاة في الأوقات المكروهة، وتعقب بأن الأخذ بعموم هذا ليس بأولى من الأخذ بعموم النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة، وتعقبه ابن التين بأنه ليس فيه ما يقتضي الفورية فيحمل على تأخير الصلاة قليلا ليخرج وقت الكراهة، وأنه كان يؤخر الطهور إلى آخر وقت الكراهة لتقع صلاته في غير وقت الكراهة، ورد بأنه في حديث بريدة عند الترمذي وابن خزيمة في نحو هذه القصة: ما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها، ولأحمد من حديثه إلا توضأت وصليت ركعتين، فدل على أن يعقب الحدث بالوضوء والوضوء بالصلاة في أي وقت كان. (إلا صليت) زاد الإسماعيلي لربي. (بذلك الطهور) بضم الطاء. (ما كتب لي أن أصلي) أي ما قدر لي أعم من النوافل والفرائض، وكتب على صيغة المجهول. والجملة في موضع نصب، وأن أصلي في موضع رفع. قال ابن التين: إنما اعتقد بلال ذلك؛ لأنه علم من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة أفضل الأعمال، وأن عمل السر أفضل من عمل الجهر. قال الحافظ. والذي يظهر أن المراد بالأعمال التي سأله عن أرجاها الأعمال المتطوع بها وإلا فالمفروضة أفضل قطعا- انتهى. والحكمة في فضل الصلاة على هذا الوجه من وجهين: أحدهما أن الصلاة عقب الطهور أقرب إلى اليقين منها إذا تباعدت؛ لكثرة عوارض الحدث من حيث لا يشعر المكلف. ثانيهما: ظهور أثر الطهور باستعماله في استباحة الصلاة وإظهار آثار الأسباب مؤكد لها ومحقق. وفي الحديث فضيلة الصلاة عقب الوضوء، وإنها سنة، وسؤال الشيخ عن عمل تلميذه ليحضه عليه ويرغبه فيه إن كان حسنا وإلا فينهاه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب فضل الصلاة بعد الوضوء بالليل
(8/180)
والنهار قبل أبواب التطوع،
ومسلم في الفضائل واللفظ للبخاري إلا قوله: في ساعة من ليل ولا نهار فإنه لمسلم،
ولفظ البخاري: في ساعة ليل أو نهار، وسيأتي في حديث الترمذي أنه ذكر أمورا متعددة
غير ذلك، فأما أن يكون ذكر الكل فحفظ بعض الرواة هذا وبعضهم ذاك أو تكون الواقعة
مكررة فذكر هذا في مرة وذاك في أخرى.
1332- قوله: (يعلمنا الاستخارة) أي صلاتها ودعاءها، وهو استفعال من الخير ضد الشر،
أو من الخيرة بكسر أوله وفتح ثانية بوزن العنبة، اسم من قولك: خار الله له، أي
أعطاه ما هو خير له، واستخارا لله، طلب منه الخيرة، والمراد طلب خير الأمرين من
الفعل والترك لمن احتاج إلى أحدهما. (في الأمور) أي التي نريد
كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير
الفريضة،
(8/181)
الإقدام عليها مما يعتني بشأنها مثل السفر والنكاح والعمارة ونحوها لا كأكل والشرب المعتاد. ولأبي ذر والأصيلي زيادة: كلها أي جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، فإن اللفظ يدل على العموم وأن المرء لا يحتقر أمرا لصغره وعدم الاهتمام به، فيترك الاستخارة فيه فرب أمر يستخف بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه. قال ابن أبي جمرة: هو عام أريد به الخصوص، فإن الواجب والمستحب لايستخار في فعلهما، والحرام والمكروه لايستخار في تركهما، فانحصرا الأمر في المباح وفي المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه. وقال الحافظ: وتدخل الاستخارة فيما عدا ذلك في الواجب والمستحب المخير، وفيما كان زمنه موسعا. (كما يعلمنا السورة من القرآن) أي يعتني بشأن تعليمنا الاستخارة لعظم نفعها وعمومه كما يعتني بتعليمنا السورة، ففيه دليل على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنه متأكد مرغب فيه. قال الطيبي: فيه إشارة إلى الاعتناء التام البالغ بهذا الدعاء وهذه الصلاة لجعلهما تلوين للفريضة والقرآن. (يقول) بيان لقوله: "يعلمنا الاستخارة". (إذا هم أحدكم بالأمر) أي أراده، كما في حديث ابن مسعود عند الطبراني والحاكم. والأمر يعم المباح، وما يكون عبادة إلا أن الاستخارة في العبادة بالنسبة إلى إيقاعها في وقت معين، وإلا فهي خير، ويستثنى ما يتعين إيقاعها في وقت معين، إذ لا يتصور فيه الترك. قال القسطلاني: أي قصد أمرا مما لا يعلم وجه الصواب فيه. أما ما هو معروف خيره كالعبادات وصنائع المعروف فلا، نعم قد يفعل ذلك لأجل وقتها المخصوص كالحج في هذه السنة لاحتمال عدو أو فتنة ونحوهما. (فليركع) أي ليصل في غير وقت الكراهة عند الأكثرين، وهو أمر ندب يدل عليه الأحاديث الدالة على عدم وجوب صلاة زائدة على الخمس من قوله: "هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع"، وغير ذلك. (ركعتين) بنية الاستخارة، وهما أقل ما يحصل به المقصود. وهل يجزيء في ذلك
(8/182)
إذا صلى أربعا بتسليمة؟ يتمل
أن يقال يجزيء ذلك لحديث أبي أيوب الأنصاري المروي في صحيح ابن حبان وغيره:
"ثم صل ما كتب الله لك"، فهو دال على أن الزيادة على الركعتين لا تضر.
(من غير الفريضة) فيه دليل على أنه لا تحصل سنة صلاة الاستخارة بوقوع الدعاء بعد
صلاة الفريضة لتقييد ذلك في النص بغير الفريضة. وأما السنن الراتبة وغيرها من
النوافل المطلقة فقال العراقي: إن كان همه بالأمر قبل الشروع في الراتبة ونحوها،
ثم صلى من غير نية الاستخارة، وبدا له بعد الصلاة الإتيان بدعاء الاستخارة،
فالظاهر حصول ذلك- انتهى. والظاهر أنه لا يجزئ ذلك إلا إذا نوى تلك الصلاة بعينها،
وصلاة الاستخارة معا. وأفاد النووي أنه يقرأ في الركعتين: ?الكافرون? و?الإخلاص?
قال العراقي في شرح الترمذي: لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقهما بركعتي الفجر
والركعتين بعد المغرب، قال: ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإخلاص والتوحيد،
والمستخير محتاج لذلك، قال ومن المناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله: ?وربك يخلق ما
يشاء
ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم،
فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم إن هذا
الأمر خير لي في ديني، ومعاشي،
(8/183)
ويختار?الآية [28: 68]، وقوله: ?وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة? الآية [33: 36]. (ثم ليقل) ندبا. وهذا ظاهر في تأخير الدعاء عن الصلاة، فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجزاء، كما يشير إليه رواية أبي داود بلفظ: وليقل. (اللهم إني أستخيرك) أي أطلب منك بيان ما هو خير لي. (بعلمك) أي أسألك أن ترشدني إلى الخير فيما أريد بسبب أنك عالما. (واستقدرك) أي أطلب منك أن تجعل لي قدرة عليه، أي تجعلني قادرا عليه إن كان فيه خير. ويحتمل أن يكون المعنى أطلب منك أن تقدره لي، والمراد بالتقدير التيسير. (بقدرتك) الباء فيه وفي قوله: "بعلمك" للتعليل، أي لأنك أعلم وأقدر، أو للاستعانة، كقوله: ?بسم الله مجريها ومرساها? [11: 41] أي أطلب منك الخير والقدرة مستعينا بعلمك وقدرتك، أو للاستعطاف كما في قوله: ?رب بما أنعمت علي? [28: 17] أي بحق علمك وقدرتك الشاملين. (وأسألك من فضلك العظيم) أي أسألك ذلك لأجل فضلك العظيم لا لاستحقاقي لذلك ولا لوجوبه عليك، إذ كل عطائك فضل، ليس لأحد عليك حق في نعمة ولا في شيء، فكل ما تهب فهو زيادة مبتدأة من عندك لم يقابلها منا عوض فيما مضى ولا يقابلها فيما يستقبل. (فإنك تقدر) بالقدرة الكاملة على كل شيء ممكن تعلقت به إرادتك. (ولا أقدر) على شيء إلا بقدرتك وحولك وقوتك. (وتعلم) بالعلم المحيط بجميع الأشياء خيرها وشرها كليها وجزئيها ممكنها وغيرها. (ولا أعلم) شيئا منها إلا بإعلامك. (وأنت علام الغيوب) بضم الغين أي أنت كثير العلم بجميع المغيبات؛ لأنك تعلم السر وأخفى فضلا عن الأمور الحاضرة والأشياء الظاهرة في الدنيا والآخرة. قال الحافظ في قوله: "فإنك تقدر"الخ. إشارة إلى أن العلم والقدرة لله وحده، وليس للعبد من ذلك إلا ما قدر الله له، وكأنه قال أنت يا رب تقدر قبل أن تخلق في القدرة، وعندما تخلقها فتى، وبعد ما تخلقها. (اللهم أن كنت تعلم) الترديد راجع إلى
(8/184)
عدم علم العبد بمتعلق علمه
تعالى، إذ يستحيل أن يكون خيرا ولا يعلمه العليم الخبير، وهذا ظاهر. قال الكرماني:
الشك في أن العلم متعلق بالخير أو الشر لا في أصل العلم. (إن هذا الأمر) زاد في
رواية أبي داود. يسميه بعينه الذي يريد، وظاهرها أن ينطق به. ويحتمل أن يكتفي
باستحضاره بقلبه عند الدعاء. وعلى الأول تكون التسمية في أثناء الدعاء عند ذكره
بالكناية عنه في قوله: "إن هذا الأمر". (خير لي) أي أمر الذي أريده أصلح
لي. (في ديني) أي فيما يتعلق بديني. (ومعاشي) أي حياتي. قال العيني: المعاش والمعيشة
واحد يستعملان مصدرا
وعاقبة أمري ـ أو قال: في عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي
فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري ـ أو قال:
في عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه،
(8/185)
وأسماء، وفي المحكم: العيش الحياة عاش عيشا وعيشة ومعيشا ومعاشا، ثم قال المعيش والمعاش والعيشة ما يعاش به- انتهى. قال الحافظ: زاد أبوداود: ومعادي، وهو يؤيد أن المراد بالمعاش الحياة. ويحتمل أن يريد بالمعاش ما يعاش فيه، ولذلك وقع في حديث ابن مسعود، في بعض طرقه عند الطبراني في الأوسط: في ديني ودنياي، وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني: في دنياي وآخرتي. زاد ابن حبان في روايته: وديني. وفي حديث أبي سعيد عند ابن حبان وأبي يعلي: في ديني ومعيشتي- انتهى. (وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله) قال الحافظ: هو شك من الراوي، واقتصر في حديث أبي سعيد على عاقبة أمري وكذا في حديث ابن مسعود. وهو يؤيد أحد الاحتمالين في أن العاجل والآجل مذكوران بدل الألفاظ الثلاثة، أو بدل الأخيرين فقط. وعلى هذا فقول الكرماني: لا يكون الداعي جازما بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا إن دعا ثلاث مرات: يقول: مرة في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، ومرة في عاجل أمري وآجله، ومرة في ديني وعاجل أمري وآجله. قلت. (قائله الحافظ) ولم يقع ذلك أي الشك في حديث أبي أيوب وأبي هريرة أصلا- انتهى. وقال الطيبي: الظاهر أنه شك أي لا تخيير، كما توهم بعضهم في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في عاقبة أمري، أو قال عاجل أمري وآجله، وإليه ذهب القوم حيث قالوا: هي على أربعة أقسام: خير في دينه دون دنياه، وهو مقصود الأبدال، وخير في دنياه فقط، وهو حظ حقير ، وخير في العاجل دون الآجل، وبالعكس، وهو أولى، والجمع. (بين الأربعة) أفضل. ويحتمل أن يكون الشك في أنه عليه السلام قال: في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال بدل الألفاظ الثلاثة في عاجل أمري وآجله، ولفظ في المعادة في قوله: "في عاجل أمري" ربما يؤكد هذا. وعاجل الأمر يشمل الديني، والدنيوي، والآجل يشملهما، والعاقبة كذا في المرقاة. (فاقدره لي) بضم الدال وكسرها، أي اجعله مقدورا لي أي أدخله تحت
(8/186)
قدرتي. وقيل: اقض لي به، أو
أنجزه لي وهيئه، أو قدره لي أي يسره، فهو مجاز عن التيسير، فلا ينافي كون التقدير
أزليا، ويكون قوله: (ويسره لي) عطفا تفسيريا. (ثم بارك لي فيه) أي أدمه وضاعفه.
(وإن كنت تعلم أن هذا الأمر) أي المذكور أو المضمر، فاللام للعهد. (شر لي في ديني
ومعاشي وعاقبة أمري) أي معادي. قال السندي: ينبغي أن يجعل الواو ههنا بمعنى أو
بخلاف قوله: "خير لي في كذا وكذا"، فإن هناك على بابها؛ لأن المطلوب حين
تيسره أن تكون خيرا من جميع الوجوه. وأما حين الصرف فيكفي أن يكون شرا من بعض
الوجوه- انتهى. (فاصرفه عني واصرفني عنه)
واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به، قال: ويسمى حاجته)).
(8/187)
فلا تعلق بالي بطلبه. وفي دعاء بعض العارفين: اللهم لا تتعب بدني في طلب ما لم تقدره لي، ولم يكتف بقوله اصرفه عني؛ لأنه قد يصرف الله عن المستخير ذلك الأمر، ولا يصرف قلبه عنه، بل يبقى متعلقا متطلبا متشوقا إلى حصوله، فلا يطيب له خاطره، فإذا صرف كل منهما عن الآخر كان ذلك أكمل، ولذا قال في آخره: (واقدر لي الخير) أي يسره علي واجعله مقدور الفعل. (حيث كان) أي الخير. وفي حديث أبي سعيد: أينما كان لا حول ولا قوة إلا بالله. (ثم أرضني به) بهمزة قطع أي اجعلني راضيا به؛ لأنه إذا قدر له الخير ولم يرض به، كان منكد العيش آثما بعدم رضاه بما قدره الله له مع كونه خيرا له. وفي رواية: ثم رضني به بالتشديد من الترضية، وهو جعل الشيء راضيا. وأرضيت ورضيت بالتشديد بمعنى. (قال: ويسمى حاجته) أي في أثناء الدعاء عند ذكرها بالكناية عنها في أوله: "إن كنت تعلم أن هذا الأمر". قال الطيبي: "يسمي حاجته" إما حال من فاعل "يقل" أي فليقل هذا مسميا حاجته، أو عطف على "ليقل" على التأويل؛ لأنه أي يسمي في معنى الأمر- انتهى. وفي الحديث دليل لأهل السنة أن الشر من تقدير الله على العبد؛ لأنه لو كان يقدر على اختراعه لقدر على صرفه ولم يحتج إلى طلب صرفه عنه. وفيه شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته وتعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. وفيه أن العبد لا يكون قادرا إلا مع الفعل لا قبله والله هو خالق العلم بالشيء للعبد وهمه به واقتداره عليه، فإنه يجب على العبد رد الأمور كلها إلى الله، والتوكل عليه، والتفويض إليه، والتبرئ من الحول والقوة إليه، وأن يسأل ربه وفيه أموره كلها. وفيه استحباب صلاة الاستخارة والدعاء المأثور عقيبها، وليس في ذلك خلاف. واختلف فيماذا يفعل المستخير بعد الاستخارة. فقيل: يفعل ما بدا له ويختار أي جانب شاء من الفعل والترك وإن لم ينشرح صدره لشيء منهما، فإن فيما يفعله يكون خيره ونفعه، فلا يوفق إلا
(8/188)
لجانب الخير، وهذا لأنه ليس في
الحديث أن الله ينشئ في قلب المستخير بعد الاستخارة انشراحا لجانب أو ميلا إليه.
كما أنه ليس فيه ذكر أن يرى المستخير رؤيا أو يسمع صوتا من هاتف أو يلقى في روعه
شيء، بل ربما لا يجد المستخير في نفسه انشراحا بعد تكرار الاستخارة وهذا يقوي أن
الأمر ليس موقوفا على الانشراح. وفي الجملة المذكور في الحديث أنما هو أمر للعبد
بالدعاء بأن يصرف الله عنه الشر ويقدر له الخير أينما كان، وهذا اختاره ابن
عبدالسلام حيث قال: يفعل المستخير ما اتفق، واستدل له بقوله في بعض طرق حديث ابن
مسعود في آخره: ثم يعزم، وأول الحديث: إذا أراد أحدكم أمرا فليقل. وقال الشيخ كمال
الدين الزملكاني: إذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمر فليفعل بعدها ما بدا له
سواء انشرحت نفسه له أم لا، فإن فيه الخير وإن لم تنشرح له نفسه. وليس في الحديث
اشتراط انشراح النفس. كذا في طبقات الشافعية (ج5 ص258). وقيل: ينبغي أن يفعل بعد
الاستخارة ما ينشرح له حتى أنه يستحب له
رواه البخاري.
(8/189)
تكرار الصلاة والدعاء في الأمر الواحد إذا لم يظهر له وجه الصواب في الفعل أو الترك ما لم ينشرح صدره لما يفعل، واختاره النووي ومن وافقه، قال النووي في الأذكار (ص93): يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح به صدره، واستدل له بحديث أنس عند ابن السني (ص192): إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك، فإن الخير فيه. قال الحافظ: وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واه جدا- انتهى. وبسط العيني والشوكاني الكلام في بيان وجه ضعف الحديث وسقوطه، قال الشوكاني بعد ذكر كلام النووي: فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوى قبل الاستخارة، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأسا، وإلا فلا يكون مستخيرا لله، بل يكون مستخيرا لهواه، وقد يكون غير صادق في طلب الخيرة وفي التبرئ من العلم والقدرة وإثباتهما لله، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه- انتهى. قلت: والراجح عندي قول من ذهب إلى أنه يفعل المستخير بعد الاستخارة ما بدا له واتفق، فليس الأمر منوطا عندي على الانشراح أو الرؤيا؛ لأنه ليس في الحديث اشتراط انشراح النفس، ولا ذكر النوم بعد الاستخارة، وإطلاع ما هو خير له في رؤياه، والله أعلم. وارجع إلى زاد المعاد (ج1 ص286)، ومدارج السالكين (ج2 ص68). (رواه البخاري) في أبواب التطوع من الصلاة، وفي الدعوات، وفي التوحيد، وهو من أفراد البخاري. وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وصححه وأبوداود في أواخر الصلاة، والنسائي في النكاح، وابن ماجه في الصلاة، والبيهقي (ج3 ص52). والحديث مع كونه في صحيح البخاري وتصحيح الترمذي وابن حبان له، قد ضعفه أحمد بن حنبل، وقال: إن حديث عبدالرحمن بن أبي الموال يعني الذي أخرجه هؤلاء الجماعة من طريق منكر في الاستخارة، ليس يرويه غيره. وقال ابن عدي في الكامل: والذي أنكر عليه حديث الاستخارة، وقد رواه غير واحد من الصحابة كما رواه ابن أبي الموال- انتهى. قال
(8/190)
العراقي: كان ابن عدي أراد
بذلك أن لحديثه هذا شاهدا من حديث غير واحد من الصحابة، فخرج بذلك أن يكون فردا
مطلقا، وقد وثقه جمهور أهل العلم- انتهى. وقد جاء من رواية ابن مسعود عند الطبراني
والحاكم، وعن أبي أيوب عند الطبراني وابن حبان والحاكم، وعن أبي سعيد عند أبي يعلى
وابن حبان، وعن أبي هريرة عند ابن حبان، وعن ابن عباس وابن عمر عند الطبراني، وليس
في شيء من هذه الأحاديث ذكر الصلاة سوى حديث جابر إلا أن لفظ أبي أيوب: أكتم الخطبة،
وتوضأ فأحسن الوضوء ثم صل ما كتب الله لك- الحديث. فالتقييد بركعتين وبقوله: من
غير الفريضة خاص بحديث جابر. وارجع للكلام في هذه الأحاديث إلى مجمع الزوائد (ج2
ص280، 281) والفتح والعيني والنيل.
?الفصل الثاني?
1333-(3) عن علي، قال: حدثني أبوبكر- وصدق أبوبكر- قال: سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يقول: ((ما من رجل يذنب ذنبا، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر
الله، إلا غفر الله له، ثم قرأ: ?والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا
الله فاستغفروا لذنوبهم?. رواه الترمذي، وابن ماجه،
(8/191)
1333- قوله: (وصدق أبوبكر) جملة معترضة بين بها علي رضي الله عنه جلالة أبي بكر رضي الله عنه، ومبالغة في الصدق حتى سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صديقا. (قال) أي أبوبكر. (ما من رجل) أي أو امرأة. و"من" زائدة لزيادة إفادة الاستغراق. (يذنب ذنبا) أي أي ذنب كان صغيرا أو كبيرا. (ثم يقوم) قال الطيبي: "ثم" للتراخي في الرتبة. قال القاري: والأظهر أنه للتراخي الزماني، يعني ولو تأخر القيام بالتوبة عن مباشرة المعصية؛ لأن تعقيب ليس بشرط، فالإتيان بـ"ثم" للرجاء. والمعنى ثم يستيقظ من نوم الغفلة، كقوله تعالى: ?أن تقوموا لله? [34: 46]. (فيتطهر) أي فيتوضأ، كما في رواية ابن السني. وفي رواية أبي داود: فيحسن الطهور. (ثم يصلي) أي ركعتين، كما في رواية ابن السني وابن حبان والبيهقي وأبي داود وابن ماجه. (ثم يستغفر الله) أي لذلك الذنب، كما في رواية ابن السني. والمراد بالاستغفار التوبة بالندامة والإقلاع والعزم على أن لا يعود إليه أبدا. وأن يتدارك الحقوق إن كانت هناك. و"ثم" في الموضعين لمجرد العطف التعقيبي. (ثم قرأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهادا وإعتضادا، أو قرأ أبوبكر تصديقا وتوفيقا. (والذين) مبتدأ خبره سيأتي ويحتمل وجهين آخرين. (إذا فعلوا فاحشة) أي ذنبا قبيحا كالزنا. (أو ظلموا أنفسهم) أي بما دونه كالقبلة واللمس. قال الطيبي: أي أي ذنب كان مما يؤاخذون به- انتهى. فيكون تعميما بعد تخصيص. (ذكروا الله) أي ذكروا عقابه، قاله الطيبي. وظاهر الحديث أن معناه صلوا، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالمعنى ذكروا الله بنوع من أنواع الذكر، قاله القاري. (فاستغفروا) أي طلبوا المغفرة مع وجود التوبة والندامة. (لذنوبهم) اللام معدية أو تعليلية. وفي الترمذي إلى آخر الآية بعد قوله ذكروا الله وتمامها: ?ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاءهم مغفرة من ربهم
(8/192)
وجنات تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها ونعم أجر العالمين? [3: 135: 136]. والحديث يدل على استحباب الصلاة
عند التوبة من الذنب، وتسمى صلاة الاستغفار وصلاة التوبة. (رواه الترمذي) في
الصلاة، وفي تفسير سورة آل عمران من طريق قتيبة عن أبي عوانة عن عثمان بن المغيرة
عن علي بن ربيعة عن أسماء بن الحكم
إلا أن ابن ماجه لم يذكر الآية.
1334-(4) وعن حذيفة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر صلى)).
رواه أبوداود.
(8/193)
الفزاري عن علي، وقال: حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عثمان بن المغيرة، وروى شعبة وغير واحد فرفعوه مثل أبي عوانة، ورواه سفيان الثوري ومسعر فأوقفاه ولم يرفعاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد روي عن مسعر هذا الحديث مرفوعا أيضا- انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وفيه أي في كلام الترمذي نظر فإنه جزم بأن الثوري رواه موقوفا وأن مسعرا رواه موقوفا ومرفوعا، ولكن الحديث رواه أيضا أحمد في مسنده (ج1 ص2). (وكذا ابن ماجه) عن وكيع عن مسعر وسفيان كلاهما عن عثمان بن المغيرة بهذا الإسناد مرفوعا. ورواية شعبة التي أشار إليها رواها عنه أبوداود الطيالسي في مسنده، وهو أول حديث فيه، . (ورواها أيضا ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص117). وهذا الحديث صحيح نسبه المنذري في الترغيب والسيوطي في الدر المنثور (ج2 ص77) لابن حبان والبيهقي، ونسبه السيوطي أيضا لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والدارقطني والبزار وغيرهم. وأطال الكلام عليه الحافظ ابن حجر في التهذيب في ترجمة أسماء بن الحكم، وقال: هذا الحديث جيد الإسناد، وذكر أن ابن حبان أخرجه في صحيحه- انتهى. ورواه أبوداود أيضا في سننه من طريق مسدد عن أبي عوانة عن عثمان بنحو ما رواه الترمذي. وكان صاحب المشكاة لم يقف على موضع إيراده في سننه، فترك ذكره في التخريج. (إلا أن ابن ماجه) وضع الظاهر موضع الضمير، وإلا فالظاهر أن يقول إلا أنه. (لم يذكر الآية) وكذا لم يذكرها أحمد في روايته. وعند ابن السني (ص117) وتلا هذه الآية: ?ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما? [4: 110].
(8/194)
1334- قوله: (إذا حزبه) بحاء
مهملة وزاي فموحدة من باب نصر أي أصابه. (أمر) أي شديد. قال في النهاية: أي إذا
نزل به أمر مهم أو أصابه غم. وفي بعض النسخ بالنون من الحزن أي أوقعه في الحزن
(صلى) أي بادر إلى الصلاة امتثالا لقوله تعالى: ?واستعينوا بالصبر والصلاة? [2:
45] أي بالصبر على البلايا والالتجاء إلى الصلاة، وذلك؛ لأن الصلاة معينة على دفع
النوائب. ومنه أخذ بعضهم ندب صلاة المصيبة، وهي ركعتان عقيبها. وكان ابن عباس يفعل
ذلك، ويقول نفعل ما أمرنا الله به بقوله: ?واستعينوا بالصبر والصلاة? فينبغي لمن
نزل به غم أن يشتغل بالصلاة، فإنه تعالى يفرجه عنه ببركة الصلاة. قال القاري: وهذه
الصلاة ينبغي أن تسمى بصلاة الحاجات؛ لأنها غير مقيدة بكيفية من الكيفيات، ولا
مختصة بوقت من الأوقات. (رواه أبوداود) في باب وقت قيام النبي - صلى الله عليه وسلم
- من الليل، وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: وذكر بعضهم أنه روي مرسلا- انتهى.
وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص388) وإسناده صحيح أو حسن.
1335-(5) وعن بريدة، قال: ((أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بلالا،
فقال: بما سبقتني إلى الجنة؟ ما
دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي. قال: يا رسول الله ! ما أذنت قط إلا صليت
ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عنده ورأيت أن لله علي ركعتين. فقال رسول
الله- صلى الله عليه وسلم -: بهما)).
(8/195)
1335- قوله: (أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ذات يوم. (فدعا بلالا) أي بعد صلاة الصبح كما مر. (بما) وفي المصابيح: بم بإسقاط الألف، وكذا وقع في الترمذي أي بأي شيء. (سبقتني إلى الجنة) قال التوربشتي نرى ذلك- والله أعلم- عبارة عن مسارعة بلال إلى العمل الموجب لتلك الفضيلة قبل ورود الأمر عليه، وقبل بلوغ الندب إليه، وذلك مثل قول القائل لعبده: تسبقني إلى العمل أي تعمل قبل ورود أمري عليك. ومن ذهب في معناه إلى ما يقتضيه ظاهر اللفظ فقد أحال فإن نبي الله- صلى الله عليه وسلم - جل قدرة أن يسبقه أحد من الأنبياء إلى الجنة فضلا عن بلال، وهو رجل من أمته، كذا قال. وقد قدمنا أن الواقعة واقعة منام، وأن حديث بريدة هذا ظاهر في كونه - صلى الله عليه وسلم - رأى بلالا دخل الجنة، وأن مشيه بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من عادته في اليقظة، فاتفق مثله في المنام. ولا يلزم من ذلك دخول بلال الجنة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه في مقام التابع والخادم، وكأنه أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى بقاء بلال على ما كان عليه في حال حياته واستمراره على قرب منزلته. (ما دخلت الجنة قط) يدل على دخوله - صلى الله عليه وسلم - إياها ورؤيته بلالا كذلك مرات. (إلا سمعت خشخشتك) بمعجمتين مكررتين، وهي حركة لها صوت كصوت السلاح خشخش السلاح أو الحلي خشخشة أي سمع له صوت عند اصطكاكه. (أمامي) أي قدامي. (ما أذنت قط إلا صليت ركعتين) أي قبل الإقامة يعني بين الأذان والإقامة. (وما أصابني حدث) بفتحتين. هو لغة الشيء الحادث نقل إلى ناقضات الوضوء. (إلا توضأت عنده) أي بعد حدوث ذلك الحدث. وفي الترمذي: عندها أي عند إصابة الحدث. (ورأيت) عطف على "توضأت". قال ابن الملك: أي ظننت. وقال ابن حجر: أي اعتقدت. وقال القاري: الأظهر أن يكون من الرأي أي اخترت. (أن لله علي ركعتين) أي شكرا لله تعالى على إزالة الأذية وتوفيق الطهارة.
(8/196)
قال الطيبي: كناية عن مواظبته
عليهما. (بهما) أي بهما نلت ما نلت أو عليك بهما، قاله الطيبي. ثم الظاهر أن ضمير
التثنية راجع إلى القريبين المذكورين، وهما دوام الطهارة وتمامها بأداء شكر
الوضوء، فيوافق الحديث السابق أول الباب. ولا يبعد أن يرجع إلى الصلاة بين كل أذانين،
والصلاة بعد كل طهارة، أو إلى الصلاة بين كل الأذانين ومجموع دوام الوضوء وشكره،
قاله القاري. وفي الحديث استحباب إدامة الطهارة، ومناسبة المجازاة على ذلك بدخول
الجنة؛ لأن من لازم دوام الطهارة أن يبيت المرء طاهرا، ومن بات طاهرا عرجت روحه،
فسجدت
رواه الترمذي.
1336-(6) وعن عبدالله بن أبي أوفي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
((من كانت له حاجة إلى الله أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ فليحسن الوضوء ثم ليصل
ركعتين، ثم ليثن على الله تعالى، وليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم
ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان رب العرش العظيم، والحمد لله رب
العالمين، أسألك موجبات رحمتك،
تحت العرش، كما رواه البيهقي في الشعب من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، والعرش
سقف الجنة. وظاهره أن هذا الثواب وقع بسبب ذلك العمل، ولا معارضة بينه وبين قوله-
صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل أحدكم الجنة عمله؛ لأن أحد الأجوبة المشهورة بالجمع
بينه وبين قوله تعالى: ?ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون? [16: 32] أن أصل الدخول
إنما يقع برحمة الله، واقتسام الدرجات بحسب الأعمال، فيأتي مثله في هذا. وفيه أن
الجنة موجودة الآن خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة. (رواه الترمذي) أي في مناقب
عمر رضي الله عنه مطولا، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وذكره المصنف تبعا للبغوي
مقتصرا على ما يناسب الباب، وهو إثبات تطوع تحية الوضوء، وأخرجه أيضا أحمد (ج5
ص354- 360) وابن خزيمة في صحيحه.
(8/197)
1336- قوله: (من كانت له حاجة)
دينية أو دنيوية. (فليتوضأ) ظاهره أنه يجدد الوضوء إن كان على وضوء. ويحتمل أن
المراد إن لم يكن له وضوء. (فليحسن الوضوء) باستعمال سننه وآدابه. وفي المستدرك:
وليحسن وضوءه، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص164). (ثم ليصل ركعتين) وتسمى
هذه الصلاة بصلاة الحاجة. (ثم ليثن) من الإثناء. (وليصل على النبي - صلى الله عليه
وسلم -) الأصح الأفضل لفظ صلاة التشهد. (لا إله إلا الله الحليم) الذي لا يعجل
بالعقوبة. (الكريم) الذي يعطي بغير استحقاق وبدون المنة. (رب العرش العظيم) اختلف
في كون العظيم صفة للرب أو العرش، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: لا إله إلا
الله رب العرش العظيم. نقل ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع العظيم. على أنه
نعت للرب، والذي ثبت في رواية الجمهور الجر على أنه نعت للعرش. وكذلك قراءة
الجمهور في قوله تعالى: ?رب العرش العظيم? [9: 129) و ?رب العرش الكريم? [23: 116]
بالجر. والمعنى المراد في المقام أنه منزه عن العجز. فإن القادر على العرش العظيم.
لا يعجز عن إعطاء مسؤل عبده المتوجه إلى ربه الكريم. (والحمد لله) وفي الترمذي
وابن ماجه والمستدرك بدون العاطف، وهكذا في جامع الأصول. (موجبات رحمتك) بكسر
الجيم أي أسبابها يعني أفعالا وخصالا أو كلمات تتسبب لرحمتك وتقتضيها بوعدك، فإنه
لا يجوز التخلف فيه، وإلا فالحق سبحانه لا يجب عليه شيء. وقال الطيبي: جمع موجبة،
وهي الكلمة
وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته،
ولا
هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين)). رواه الترمذي
وابن
ماجه وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
(8/198)
الموجبة لقائلها الجنة. (وعزائم مغفرتك) أي موجباتها جمع عزيمة، قاله السيوطي. وقال الطيبي: أي أعمالا وخصالا تتعزم وتتأكد بها مغفرتك. (والغنيمة من كل بر) بكسر الباء أي طاعة وعبادة، فإنهما غنيمة مأخوذة بغلبة دواعي عسكر الروح على جند النفس، فإن الحرب قائم بينهما على الدوام ولهذا يسمى الجهاد الأكبر؛ لأن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، قاله القاري. (والسلامة من كل إثم) وعند الحاكم: والعصمة من كل ذنب والسلامة من كل إثم، وأسقط قوله "غنيمة من كل بر". قال العراقي: فيه جواز سؤال العصمة من كل الذنوب، وقد أنكر بعضهم جواز ذلك إذ العصمة إنما هي للأنبياء والملائكة، قال: والجواب أنها في حق الأنبياء والملائكة واجبة، وفي حق غيرهم جائزة، وسؤال الجائز جائز إلا أن الأدب سؤال الحفظ في حقنا لا العصمة، وقد يكون هذا هو المراد هنا- انتهى. (لا تدع) بفتح الدال وسكون العين أي لا تترك. (إلا غفرته) أي إلا موصوفا بوصف الغفران، فالاستثناء فيه وفيما يليه مفرغ من أعم الأحوال. (ولا هما) أي غما. (فرجته) بالتشديد ويخفف أي أزلته وكشفته. (ولا حاجة هي لك رضا) أي مرضية لك. والحديث يدل على مشروعية الصلاة عند الحاجة أي حاجة كانت بشرط أن تكون مباحة. (رواه الترمذي وابن ماجه) كلاهما من رواية فائد بن عبدالرحمن بن أبي الورقاء، وزاد ابن ماجه بعد قوله "قضيتها" ثم يسأل الله من أمر الدنيا والآخرة ما شاء، فإنه يقدر. وأخرجه الحاكم في المستدرك (ج1 ص320) باختصاره، ثم قال: إنما أخرجته شاهدا، وفائد مستقيم الحديث. وتعقبه الذهبي بأنه متروك، فالحديث ضعيف. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص138): وأخرج ابن النجار في تاريخ بغداد عن غير فائد. قال ابن حجر (العسقلاني) في أمالية: والحديث له شاهد من حديث أنس، وسنده ضعيف. وأخرجه أيضا الأصبهاني من حديث أنس فذكر لفظه، قال: وأخرجه الطبراني، وفي إسناده أبومعمر عباد بن عبدالصمد ضعيف جدا،
(8/199)
وأخرج لهذا الحديث في مسند
الفردوس طريقا أخرى من حديث أنس، وفي إسناده أبوهاشم، واسمه عبدالرحمن، وهو ضعيف،
وأخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أبي الدرداء مختصرا قال: سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يقول من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين يتمهما أعطاه الله عزوجل ما
سأل معجلا أو مؤخرا. قال الشوكاني: وذكرت ما قيل فيه أي في حديث ابن أبي أوفي الذي
نحن بصدد شرحه بأطول من هذا في الفوائد المجموعة (ص16)، استدركت على من قال: إنه
موضوع. والحاصل أن جميع طرق أحاديث هذه الصلاة لا تخلو عن ضعف إلا حديث أبي
الدرداء، وبعده حديث ابن أبي أوفي.
(40) باب صلاة التسبيح
1337-(1) عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للعباس بن عبدالمطلب:
((يا عباس! يا عماه! ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟ ألا أفعل بك؟ عشر خصال إذا
أنت فعلت ذلك، غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه
(باب صلاة التسبيح) أي هذا بيانها وسميت بذلك لكثرة ما يقرأ فيها من التسبيحات.
(8/200)
1337- قوله: (يا عماه) بسكون الهاء إشارة إلى مزيد استحقاقه بالعطية الآتية، وهو منادى مضاف إلى ياء المتكلم قلبت ياءه الفاء، وألحقت بها هاء السكت كيا غلاماه. (ألا) الهمزة للاستفهام. (أعطيك) بضم همزة وكسر طاء من الإطاء أي عطية رفيعة. (ألا أمنحك) بفتح همزة ونون أي أعطيك منحة سنية، وأصل المنح أن يعطي الرجل الرجل شأة أو ناقة ليشرب لبنها ثم يردها إذا ذهب درها، هذا أصله ثم كثر استعماله حتى قيل في كل عطاء. (ألا أحبوك) بفتح همزة وسكون حاء مهملة وضم موحدة، من حباه كذا وبكذا إذا أعطاه والحباء العطية فهما تأكيد بعد تأكيد، وكذا أفعل بك فإنه بمعنى أعطيك أو أعلمك. (ألا أفعل بك) بالباء موافقا لما في أبي داود ووقع عند ابن ماجه باللام. (عشر خصال) منصوب تنازعت فيه الأفعال قبله. وقيل: بالرفع على تقدير هي. والمراد بعشر خصال الأنواع العشرة للذنوب المعدودة بقوله: أوله وآخره إلى قوله: سره وعلانيته، أي فهو على حذف المضاف أي ألا أعطيك مكفر عشرة أنواع ذنوبك، أو المراد التسبيحات، فإنهما فيما سوى القيام عشر عشر، وعلى هذا يراد الصلاة المشتملة على التسبيحات العشر بالنظر إلى غالب الأركان. وأما جملة: (إذا أنت فعلت ذلك) الخ فهي في محل النصب على أنها نعت للمضاف المقدر على الأول، أو لنفس عشر خصال على الثاني، وعلى الثاني لا يكون إلا نعتا مخصصا باعتبار أن المكفر يحتمل أن يكون علمه مكفرا، فبين بالنعت أن يكون عمله مكفرا لا علمه. (غفر الله لك ذنبك) أي ذنوبك بقرينة قوله أوله الخ على وجه الأبدال أو على وجه التفسير. (أوله وآخره) بالنصب قال التوربشتي: أي مبدأه ومنتهاه. وذلك أن من الذنب ما لا يواقعه الإنسان دفعة واحدة، وإنما يتأتى منه شيئا فشيئا، ويحتمل أن يكون معناه ما تقدم من ذنبه وما تأخر. (وحديثه) أي جديده. (وخطأه) بفتحتين وهمزة. قيل: يشكل بأن الخطأ لا إثم فيه لقوله عليه الصلاة والسلام: إن الله تجاوز عن أمتي
(8/201)
الخطأ والنسيان، وما استكرهوا
عليه، فكيف يجعل من الذنب؟ وأجيب بأن المراد بالذنب ما فيه نقص وإن لم يكن فيه
إثم. ويؤيده قوله تعالى: ?ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا? [2: 286] ويحتمل أن
يراد مغفرة ما يترتب على الخطأ من نحو الإتلاف من ثبوت بدلها في
وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته: أن تصلي أربع ركعات، تقرأ في كل ركعة فاتحة
الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم. قلت: سبحان الله،
والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، خمس عشرة مرة،
(8/202)
الذمة ومعنى المغفرة حينئذ إرضاء الخصوم وفك النفس عن مقامها الكريم، المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: نفس المؤمن مرهونة حتى يقضي عنه دينه ، كذا في المرقاة (وعمده) بفتح أوله وسكون ثانيه ضد الخطأ (صغيره وكبيره) قيل: المراد بالكبير ما هو من أفراد الصغائر، فإن الصغائر متفاوتة بعضها أكبر من بعض، والكبائر لا تغفر إلا بالتوبة. (سره وعلانيته) بفتح الياء المخففة والضمير في هذه كلها عائد إلى قوله: "ذنبك" فإن قلت أوله وآخره يندرج تحته ما يليه، وكذا باقيه فما الحاجة إلى تعدد أنواع الذنوب؟ قلت ذكره قطعا لوهم أن ذلك الأول والآخر ربما يكون عمدا أو خطأ. وعلى هذا في أقرانه وأيضا في التنصيص على الأقسام حث للمخاطب على المحثوث عليه بأبلغ الوجوه، ذكره القاري نقلا عن الأزهار. وسقط من المشكاة كالمصابيح هنا لفظ "عشر خصال وهو موجود في الأصول. (أن تصلي) خبر مبتدأ محذوف، والمقدر عائد إلى ذلك أي هو يعني المأمور به أن تصلي. وقيل: التقدير هي، وهي راجعة إلى الخصال العشر. وأما على ما في الأصول من وجود لفظ عشر خصال قبل قوله: أن تصلي" فيقال إن قوله: "عشر خصال" على الأول. (أي على حذف المضاف، وهو المكفر من قوله عشر خصال في الموضع الأول) بالرفع بتقدير مبتدأ أي هي أي أنواع الذنوب عشر خصال أو بالنصب على أنه بدل من مجموع أوله وآخره الخ، وعلى الثاني. (أي على كون المراد من الخصال العشر الصلاة المشتملة على التسبيحات العشر) مبتدأ وما بعده خبره، أو خبر مقدم وما بعده مبتدأ لئلا يلزم تنكير المبتدأ مع تعريف الخبر. (أربع ركعات) قيل: أي بتسليمة واحدة على ما هو الظاهر من الإطلاق ليلا كان أو نهارا. وقيل: يصلي في النهار بتسليمة، وفي الليل بتسليمتين. وقيل: يصلي مرة بتسليمة وأخرى بتسليمتين. واعلم أن الأولى أن يصلي صلاة التسبيح بعد زوال الشمس قبل صلاة الظهر لما روى أبوداود في سننه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص
(8/203)
مرفوعا: إذ زال النهار فقم فصل
أربع ركعات- الحديث. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. (وسورة) قيل يقرأ فيها تارة
بـ?الزلزلة? و ?العاديات? و ?الفتح? و(الإخلاص)، وتارة بـ?ألهاكم التكاثر?
و?العصر? و ?الكافرون? و (الإخلاص) وقيل: الأفضل أن يقرأ أربعا من المسبحات.
?الحديد? و?الحشر? و?الصف? و?التغابن? لمناسبة بينها وبين كل الصلاة، لكن لم أقف
على ما يدل على شيء من ذلك من سنة ولا أثر. (في أول ركعة) أي قبل الركوع. (خمس
عشرة مرة) فيه أن التسبيح بعد القراءة، وبه أخذ أكثر الأئمة. وأما ما كان يفعله
عبدالله بن المبارك من جعله الخمس عشرة قبل
ثم تركع، فتقولها وأنت راكع عشرا، ثم ترفع رأسك من الركوع، فتقولها عشرا، ثم تهوي
ساجدا، فتقولها وأنت ساجد عشرا، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا، ثم تسجد فتقولها
عشرا، ثم ترفع رأسك فتقولها عشرا، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع
ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل، ففي كل جمة مرة،
فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة)) رواه أبوداود، وابن ماجه،
والبيهقي في الدعوات الكبير.
(8/204)
القراءة وبعد القراءة عشرا، ولا يسبح في الاعتدال فهو مخالف لهذا الحديث. قال المنذري: إن جمهور الرواة على الصفة المذكورة في حديث ابن عباس وأبي رافع والعمل بها أولى، إذ لا يصح رفع غيرها-انتهى. قال الشيخ: الأمر كما قال المنذري. (ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشرا) أي بعد تسبيح الركوع كذا في شرح السنة، وقد روى الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: يبدأ في الركوع بسبحان ربي العظيم، وفي السجود بسبحان ربي الأعلى ثلاثا، ثم يسبح التسبيحات. وقيل: له إن سها فيها أ يسبح في سجدتي السهو عشرا عشرا؟ قال لا، إنما هي ثلاثمائة تسبيحة. (ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرا) أي بعد التسميع والتحميد. (ثم تهوي) أي تنخفض وتنحط حال كونك. (ساجدا) أي مريدا للسجود من هوى بالفتح يهوي بالكسر الشيء إذا سقط من علو إلى سفل. (فتقولها وأنت ساجد عشرا) أي بعد تسبيح السجود. (ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا) أي بعد رب اغفرلي ونحوه. (ثم تسجد) ثانيا. (ثم ترفع رأسك) أي من السجدة الثانية. (فتقولها عشرا) أي قبل أن تقوم على ما في حديث أبي رافع عند الترمذي وابن ماجه. ففيه ثبوت جلسة الاستراحة في صلاة التسبيح، وهو المختار عند الشافعية وأهل الحديث خلافا للحنفية. (فذلك) أي مجموع ما ذكر من التسبيحات. (خمس وسبعون) أي مرة، كما في رواية البيهقي. (في كل ركعة) أي ثابتة فيها. (تفعل ذلك) أي ما ذكر في هذه الركعة. ( في أربع ركعات) أي في مجموعها بلا مخالفة بين الأولى والثلاث فتصير ثلاثمائة تسبيحة. (إن استطعت) استئناف أي إن قدرت. (أن تصليها) أي هذه الصلاة. (فإن لم تفعل) أي في كل يوم لعدم القدرة أو مع وجودها لعائق. (ففي كل جمعة) أي في كل أسبوع. (مرة) وفي التعبير بها إشارة إلى أنها أفضل أيام الأسبوع. (ففي عمرك) بضم الميم وتسكن. (رواه أبوداود وابن ماجه والبيهقي في الدعوات الكبير) أي عن ابن عباس، وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في
(8/205)
صحيحيهما، والحاكم في المستدرك
(ج1:ص318-320) والبيهقي في السنن الكبرى (ج3:ص51-52)، والبخاري في جزء القراءة
كلهم من طريق عكرمة عن ابن عباس، وإسناده حسن. وفي الباب عن جماعة من الصحابة:
الفضل بن عباس، وأبيه العباس، وعبدالله بن عمرو، وعبدالله بن عمر، وعلي بن أبي
طالب، وأخيه جعفر، وابنه عبدالله بن
جعفر، وأبي رافع، وأم سلمة، والأنصاري غير مسمى. وقد قيل: إنه جابر بن عبدالله.
وقد ساق الحافظ في أمالي الأذكار تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة جميعا. ونقلها
السيوطي في تعقباته على ابن الجوزي (ص16، 17) واللآتي المصنوعة (ج2:ص20-24) من أحب
الوقوف عليها رجع إلى هذين الكتابين. واعلم أنه اختلف كلام العلماء في حديث صلاة
التسبيح، فضعفه جماعة، منهم العقيلي وابن العربي والنووي في شرح المهذب، وابن
تيمية وابن عبدالهادي والمزي والحافظ في التلخيص، وبالغ ابن الجوزي فأورده في
الموضوعات، وقال: فيه موسى بن عبدالعزيز مجهول. وصححه أو حسنه جماعة منهم أبوبكر
الآجري وأبومحمد عبدالرحيم المصري والحافظ أبوالحسن المقدسي وأبوداود صاحب السنن
ومسلم صاحب الصحيح والحافظ صلاح الدين العلائي والخطيب وابن الصلاح والسبكي وسراج
الدين البلقيني وابن مندة والحاكم والمنذري وأبوموسى المديني والزركشي والنووي في
تهذيب الأسماء واللغات، وأبوسعد السمعاني والحافظ في الخصال المكفرة، وفي أمالي
الأذكار، وأبومنصور الديلمي والبيهقي والدارقطني وآخرون. والحق عندي أن حديث ابن
عباس ليس بضعيف فضلا عن أن يكون موضوعا أو كذبا، بل هو حسن لا شك في ذلك عندي،
فسنده لا ينحط عن درجة الحسن، بل لا يبعد أن يقال إنه صحيح لغيره لما ورد من
شواهده، وبعضها لا بأس بإسناده، كما ستعرف. وقد أكثر الحفاظ من الرد على ابن
الجوزي بذكره حديث ابن عباس في الموضوع. وأما ما قال الحافظ في التلخيص:
"والحق أن طرقه كلها ضعيفة وإن كان حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن إلا أنه
شاذ
(8/206)
لشدة الفردية فيه وعدم المتابع
والشاهد من وجه معتبر، ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات. وموسى بن عبدالعزيز وإن
كان صادقا صالحا، فلا يحتمل منه هذا التفرد، فجوابه ظاهر من كلامه في الخصال
المكفرة حيث قال: رجال إسناد حديث ابن عباس لا بأس بهم، عكرمة احتج به البخاري
والحكم بن أبان صدوق، وموسى بن عبدالعزيز قال ابن معين: لا أرى فيه بأسا. وقال
النسائي نحو ذلك. وقال ابن المديني: فهذا الإسناد من شرط الحسن، فإن له شواهد
تقويه، وقد أساء ابن الجوزي بذكره في الموضوعات. وقوله: إن موسى مجهول، لم يصب
فيه؛ لأن من يوثقه ابن معين والنسائي فلا يضره أن يجهل حاله من جاء بعدهما. وشاهده
ما رواه الدارقطني من حديث العباس والترمذي وابن ماجه من حديث أبي رافع. ورواه
أبوداود من حديث ابن عمرو بإسناد لا بأس به. ورواه الحاكم من طريق ابن عمرو له طرق
أخرى-انتهى. وقال في أمالي الأذكار بعد ذكر من روى حديث صلاة التسبيح من الصحابة:
أما حديث ابن عباس فأخرجه أبوداود وابن ماجه والحسن بن علي المعمري في كتاب اليوم
والليلة عن عبدالرحمن بن بشر بن الحكم عن موسى بن عبدالعزيز عن الحكم بن أبان عن
عكرمة عن ابن عباس، وهذا إسناد حسن، وقال بعد بسط الكلام في سند حديث الأنصاري
الذي لم يسم عند أبي داود: فسند الحديث
1338- (2) وروى الترمذي عن أبي رافع نحوه.
1339- (3) وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن
أول ما يحاسب به العبد يوم
القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح،
(8/207)
لا ينحط عن درجة الحسن، فكيف
إذا ضم إلى رواية أبي الجوزاء عن عبدالله بن عمرو التي أخرجها أبوداود، وقد حسنها
المنذري. ثم ذكر جماعة ممن صحح حديث ابن عباس أو حسنه، ومن شاء الإطلاع على تمام
كلامه فليرجع إلى اللآلي المصنوعة. وأما مخالفة هيئة صلاة التسبيح لهيئة باقي
الصلوات فلا يدل على ضعف الحديث وشذوذه بعد ما صح وثبت بطرق قوية، كذا أفاد شيخنا
في شرح الترمذي.
1338- قوله: (وروى الترمذي) وكذا ابن ماجه والدارقطني. (عن أبي رافع نحوه) قال
الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أبي رافع. قال السيوطي في قوت المغتذي: بالغ ابن
الجوزي، فأورد هذا الحديث في الموضوعات، وأعله بموسى بن عبيدة الربذي، وليس كما
قال، فإن الحديث وإن كان ضعيفا، لم ينته إلى درجة الوضع. وموسى ضعفوه، وقال فيه
ابن سعد: ثقة وليس بحجة. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق ضعيف الحديث جدا. وشيخه سعيد بن
أبي سعيد له عند المصنف أي الترمذي إلا هذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات.
وقال الذهبي في الميزان: ما روى عنه إلا موسى بن عبيدة-انتهى ما في قوت المغتذي.
ونقل السيوطي في التعقبات عن الحافظ أنه قال: وقول ابن الجوزي: إن موسى بن عبيدة
علة الحديث، مردود، فإنه ليس بكذاب مع ماله من الشواهد فذكرها.
(8/208)
1339- قوله: (إن أول ما يحاسب
به العبد) بالرفع على نيابة الفاعل. (يوم القيامة من عمله صلاته) أي المفروضة. قال
العراقي في شرح الترمذي: لا تعارض بينه وبين الحديث الصحيح إن أول ما يقضى بين
الناس يوم القيامة في الدماء، فحديث الباب محمول على حق الله تعالى، وحديث الصحيح
محمول على حقوق الآدميين فيما بينهم. فإن قيل: فأينما يقدم محاسبة العباد على حق الله
تعالى، أو محاسبتهم على حقوقهم؟ فالجواب أن هذا أمر توقيفي، وظواهر الأحاديث دالة
على أن الذي يقع أولا المحاسبة على حقوق الله تعالى قبل حقوق العباد-انتهى. وقيل:
حديث الباب من ترك العبادات، وحديث الصحيح من فعل السيئات. وقيل: المحاسبة غير
القضاء، فيكون المحاسبة أولا في الصلاة ويكون القضاء أولا في الدماء. وقيل: حديث
الباب مضطرب الإسناد، كما يظهر من كلام الحافظ في ترجمة أنس بن حكيم الضبي من
التهذيب، فلا يقاوم حديث الصحيح. (فإن صلحت) بضم اللام وفتحها. قال ابن الملك:
صلاحها بأدائها صحيحة-انتهى. أو بوقوعها مقبولة. (فقد أفلح وأنجح) الفلاح الفوز
وإن فسدت وقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضة شيء، قال الرب تبارك وتعالى: أنظروا هل
لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك)). وفي
رواية:
(8/209)
والظفر والإنجاح بتقديم الجيم على الحاء، يقال: أنجح فلان إذا أصاب مطلوبه. قال القاري: "فقد أفلح" أي فاز بمقصوده، "وأنجح" أي ظفر بمطلوبه، فيكون فيه تأكيدا وفاز بمعنى خلص من العقاب، وأنجح أي حصل له الثواب. (وإن فسدت) بأن لم تود أو أديت غير صحيحة أو غير مقبولة. (فقد خاب) بحرمان المثوبة. (وخسر) بوقوع العقوبة. وقيل: معنى "خاب" ندم وخسر أي صار محروما من الفوز والخلاص قبل العذاب. (فإن انتقص) بمعنى نقص اللازم. (من فريضته شيء) أي من الفرائض وفي بعض نسخ الترمذي: شيئا وفعلا نقص وانتقص بمعنى، ويستعملان لازمين ومتعديين. (انظروا) يا ملائكتي. (هل لعبدي من تطوع) أي في صحيفته سنة أو نافلة من صلاة على ما هو ظاهر من السياق قبل الفرض أو بعده أو مطلقا. (فيكمل) بالتشديد ويخفف على بناء الفاعل أو المفعول وهو الأظهر، وبالنصب، ويرفع على الاستئناف. (بها) قال ابن الملك: أي بالتطوع، وتأنيث الضمير باعتبار النافلة. قال الطيبي: الظاهر نصب "فيكمل" على أنه من كلام الله تعالى جوابا للاستفهام. ويؤيده رواية أحمد: فكملوا بها فريضته، وإنما أنث ضمير التطوع في "بها" نظرا إلى الصلاة. (ما انتقص من الفريضة) ضمير "انتقص" راجع إلى الموصول على أنه لازم، أو إلى العبد، فيكون متعديا أي ما نقصه العبد من الفريضة. وظاهر الحديث أن من فاتته الصلاة المفروضة، وصلى تطوعا يحسب عنه التطوع موضع الفريضة. وقيل: بل ما نقص من خشوع الفريضة ورواتها يجبر بالتطوع. ورد بأن قوله: "ثم يكون سائر عمله على ذلك" لا يناسبه، إذ ليس في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما تكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك في الصلاة، وفضل الله أوسع. قال العراقي في شرح الترمذي: يحتمل أن يراد به ما انتقصه من السنن والهيئات المشروعية فيها من الخشوع والأذكار والأدعية، وإنه يحصل له ثواب ذلك في الفريضة وإن لم يفعله فيها، وإنما فعله في التطوع. ويحتمل أن يراد به ما انتقص أيضا من
(8/210)
فروضها وشروطها. ويحتمل أن
يراد ما ترك من الفرائض رأسا فلم يصله، فيعوض عنه من التطوع، والله تعالى يقبل من
التطوعات الصحيحة عوضا عن الصلوات المفروضة-انتهى. وقال ابن العربي: الأظهر عندي
أنه يكمل بفضل التطوع ما نقص من فرض الصلاة وإعدادها؛ لقوله ثم الزكاة كذلك وسائر
الأعمال، وليس في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما يكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك
الصلاة، وفضل الله أوسع، وكرمه أعم وأتم. (ثم يكون سائر عمله) من الصوم والزكاة
وغيرهما. (على ذلك) أي إن انتقص فريضة من سائر الأعمال المفروضة تكمل بالتطوع.
(وفي رواية) ظاهره أن الألفاظ الآتية في طريق من طرق حديث أبي هريرة، وليس كذلك،
فإن هذه
ثم الزكاة مثل ذلك، ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك)) رواه
أبوداود.
1340- (4) ورواه أحمد عن رجل.
(8/211)
الألفاظ إنما هي في حديث تميم الداري عند أبي داود (ثم الزكاة مثل ذلك) أي مثل ما في الصلاة. (ثم تؤخذ الأعمال) أي المفروضة، ففي حديث أبي هريرة عند ابن ماجه: ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك. (على حسب ذلك) أي على حسب ذلك المثال المذكور في الصلاة من تكميل الفريضة بالتطوع. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص290، 425) والترمذي وابن ماجه والحاكم (ج1 ص262) كلهم من حديث أبي هريرة. واللفظ المذكور للترمذي لا لأبي داود إلا قوله: "ثم الزكاة" الخ فإنه من حديث تميم الداري عند أبي داود. ففي قول المصنف: رواه أبوداود، تسامح ظاهر، إلا أن يقال إنه أراد أصل الحديث لا السياق المذكور بعينه. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري، وحسنه الترمذي وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وما ذكر من الاضطراب في سنده فيمكن أن يدفع بما قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: لعل الحسن البصري سمعه من ناس متعددين: حريث بن قتيبة (عند الترمذي) وأنس بن حكيم (عند أحمد وأبي داود والحاكم) ورجل من بني سليط (عند أحمد (ج4 ص103) وأبي داود وابن ماجه والحاكم) أو يكون هذا الرجل المبهم أحدهما، وليس هذا اضطرابا فيه يوجب ضعفه، بل هي طرق يؤيد بعضها بعضا. ورواه أحمد. (وابن ماجه أيضا) بإسناد آخر (ج2 ص290) عن يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين الواسطي عن علي بن زيد بن جدعان عن أنس بن حكيم الضبي قال: قال لي أبوهريرة، فذكر الحديث بتمامه، وقال: وهذا إسناد صحيح، وعلى زيد بن جدعان ثقة- انتهى. قلت: علي بن زيد هذا ضعفه الأكثرون، ولعله لسوء حفظه واختلاطه، قيل: وكان يتشيع. ووثقه يعقوب بن شيبة. وقال العجلي: كان يتشيع لا بأس به. وقال الساجي: كان من أهل الصدق. ويحتمل لرواية الجلة عنه، وليس يجري مجرى من أجمع على ثبته. وقال الترمذي: صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره، كذا في التهذيب، وحديث تميم الداري أخرجه أحمد (ج4 ص103) وأبوداود وابن
(8/212)
ماجه والحاكم (ج1 ص262، 263).
1340- قوله: (ورواه أحمد عن رجل) (ج4 ص103) قال: حدثنا الحسن بن موسى قال: حدثنا
حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن يحيى بن يعمر عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله
عليه وسلم - ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أول ما يحاسب به العبد
الخ. وأخرجه أيضا الحاكم (ج1 ص263) من طريق الربيع بن يحيى عن حماد بن سلمة، وذكر
الاختلاف فيه على حماد بن سلمة، وأشار إلى تقوية رواية حماد بن سلمة عن داود بن
أبي هند عن زرارة بن أوفي عن تميم الداري.
1341-(5) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أذن
الله لعبد في شيء أفضل من الركعتين يصليهما، وإن البر ليذر على رأس العبد ما دام
في صلاته، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه، يعني القرآن)). رواه أحمد
والترمذي.
(8/213)
1341- قوله: (ما أذن الله) أي ما استمع، في القاموس: أذن له وإليه كفرح استمع معجبا أو عام. والمراد هنا الإقبال من الله بالرأفة والرحمة على العبد. وذلك أن العبد إذا كان في الصلاة، وقد فرغ من الشواغل متوجها إلى مولاه، مناجيا بقلبه ولسانه، فالله سبحانه أيضا يقبل عليه بلطفه وإحسانه إقبالا لا يقبل في غيره من العبادات. ولعله ذكر الاستماع، وإن كانت الصلاة من جملة الأفعال لكونها مشتملة على الكلام من القرآن والتسبيحات والتكبيرات. (لعبد في شيء) أي في شيء من العبادات. (أفضل من الركعتين) في مسند الإمام أحمد والجامع للترمذي والجامع الصغير للسيوطي والترغيب للمنذري من ركعتين. (يصليهما) يعني أفضل العبادات الصلاة، كما ورد في الصحيح: الصلاة خير موضوع، أي خير من كل ما وضعه الله لعباده ليتقربوا إليه، قاله القاري. (وإن البر) بكسر الباء بمعنى الخير والإحسان. (ليذر) بالذال المعجمة والراء المشددة على بناء المجهول، أي ينثر ويفرق من قولهم: ذررت الحب والملح أي فرقته. (على رأس العبد) أي ينزل الرحمة والثواب هو أثر البر على المصلي. (ما دام في صلاته) أي مدة دوام كونه مصليا. (وما تقرب العباد الله بمثل ما خرج منه) أي بأفضل من كلامه. قال