الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج9.وج10.مرعاة المفاتيح

 

9. مرعاة المفاتيح

وهي عندنا صحاح قوية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ينزل ولم يقل كيف ينزل، فلا نقول كيف ينزل، نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى البيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن أبي محمد أحمد بن عبدالله المزني يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما يصدقه، وهو قوله. ?وجاء ربك والملك صفا صفا? [22:90] انتهى. وذكر البيهقي عنه مثل هذا في السنن الكبرى (ج3:ص3) أيضا. (وفي رواية لمسلم: ثم يبسط يديه) قال النووي: هو إشارة إلى نشر رحمته، وكثرة عطائه، وإجابته، وإسباغ نعمته. (ويقول) أي بذاته، أو على لسان ملك من خواص ملائكته. (من يقرض) بضم الياء من الإقراض. والمراد بالقرض عمل الطاعة، سواء فيه الصدقة والصلاة والصوم والذكر وغيرها من الطاعات، وسماه قرضا ملاطفة للعباد، وتحريضا لهم على المبادرة إلى الطاعة، فإن القرض إنما يكون ممن يعرفه المقترض، وبينه وبينه موانسة ومحبة، فحين يتعرض للقرض يبادر المطلوب منه بإجابته لفرحه بتأهيله للاقتراض منه، وإدلاله عليه، وذكره له. والمعنى من يعطي العبادة البدنية والمالية على سبيل القرض وأخذ العوض. (غير عدوم) أي ربا غنيا غير فقير عاجز عن العطاء. (ولا ظلوم) بعدم وفاء دينه أو بنقصه أو بتأخير أدائه عن وقته. وإنما خص نفي هاتين الصفتين، لأنهما المانعان غالبا عن الإقراض، فوصف الله تعالى ذاته بنفي هذا المانع. وحاصل المعنى من يعمل خيرا في الدنيا يجد جزاءه كاملا في العقبى، فشبه هذا المعنى بالإقراض. وفيه تحريض على عمل الطاعة، وإشارة إلى جزيل الثواب عليها. (حتى ينفجر الفجر) أي ينشق أو يطلع ويظهر الصبح وهي غاية للبسط والقول، أي لا يزال يقول ذلك حتى يضيء الفجر. وفيه دليل على امتداد وقت الرحمة واللطف التام إلى إضاءة الفجر. وزاد في رواية للدارقطني في آخر الحديث: ولذلك كانوا يفضلون صلاة آخر الليل على

(7/421)


أوله، وله من رواية ابن سمعان عن الزهري ما يشير إلى أن قائل ذلك هو الزهري. وبهذه الزيادة تظهر وتتضح مناسبة ذكر الحديث في باب التحريض على قيام الليل. وفي الحديث من الفوائد تفضيل صلاة آخر الليل على أوله، وتفضيل تأخير الوتر، لكن ذلك في حق من طمع أن ينتبه، وأن آخر الليل أفضل للدعاء والاستغفار. ويشهد له قوله تعالى، وإن الدعاء في ذلك الوقت مجاب. ولا يعترض على ذلك بتخلفه عن بعض الداعين، لأن سبب التخلف وقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء، كالاحتراز في المطعم والمشرب والملبس، أو لاستعجال الداعي أو بأن يكون الدعاء باثم أو قطعية رحم أو تحصل الإجابة، ويتأخر وجود المطلوب لمصلحة العبد أو لأمر يريده الله تعالى.
1231- قوله: (إن في الليل لساعة) بلام التأكيد، أي مبهمة كساعة الجمعة، وليلة القدر، وأبهمت
لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله فيها خيرا من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة)) رواه مسلم
1232-(7) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه،

(7/422)


لأجل أن يجتهد الشخص جميع الليل، ولا يقتصر على العبادة في وقت دون وقت، وسيأتي مزيد الكلام فيه. (لا يوافقها رجل مسلم) وكذا امرأة مسلمة. وهذه الجملة صفة لساعة أي ساعة من شأنها أن يترقب لها ويغتنم الفرصة لإدراكها؛ لأنها من نفحات رب رؤوف رحيم، وهي كالبرق الخاطف، فمن وافقها أي تعرض لها واستغرق أوقاته مترقبا للمعاتها فوافقها قضى وطره. (يسأل الله) أي فيها، والجملة صفة ثانية أو حال. (خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه) أي حقيقة أو حكما. (وذلك) أي المذكور من ساعة الإجابة. (كل ليلة) بالنصب على الظرفية، وهو خبر ذلك أي ثابت في كل ليلة، يعني وجود تلك الساعة، لا يتقيد بليلة مخصوصة، أي لا يختص ببعض الليالي دون بعض، فينبغي تحري تلك الساعة ما أمكن كل ليلة. قال النووي: فيه إثبات ساعة الإجابة في كل ليلة، ويتضمن الحث على الدعاء في جميع ساعات الليل رجاء مصادفتها-انتهى. وقال العزيزي: قال الشيخ: ظاهر الرواية التعميم في كل الليل، لكن من المعلوم أن الجوف أفضله، فعلى كل حال ساعة أول النصف الثاني والتي بعدها أفضل، نعم من لم يقم فيها فالأخيرة لرواية الحاكم: أنه لا يزال ينادي إلا إلا إلا، وفي أخرى: هل من تائب هل من مستغفر الخ. حتى يطلع الفجر-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد.

(7/423)


1232- قوله: (أحب الصلاة) أي أكثر ما يكون محبوبا من جهة شرف الوقت وزيادة المشقة على النفس. (إلى الله) أي من النوافل. (صلاة داود) عليه السلام. (وأحب الصيام) أي أكثر ما يكون محبوبا. (إلى الله صيام داود) وفي رواية: وأحب الصوم إلى الله صوم داود. واستعمال أحب بمعنى محبوب قليل؛ لأن الأكثر في أفعل التفضيل أن يكون بمعنى الفاعل. ونسبة المحبة فيهما إلى الله تعالى على معنى إرادة الخير لفاعلهما. (كان) استئناف مبين للجملتين السابقتين. وفي بعض النسخ: وكان بزيادة الواو. (ينام) أي داود. (نصف الليل) أي نصفه الأول، والظاهر أن المراد كان ينام من الوقت الذي يعتاد فيه النوم إلى نصف الليل، أو المراد بالليل ما سوى الوقت الذي لا يعتاد فيه النوم من أول. والقول بأنه ينام من أول الغروب لا يخلو عن بعد. (ويقوم) أي بعد ذلك، ففي رواية لمسلم: كان يرقد شطر الليل ثم يقوم ثلث الليل بعد شطره. (ثلثه) أي في الوقت الذي ينادي فيه الرب تعالى
وينام سدسه، ويصوم يوما، ويفطر يوما))

(7/424)


هل من سائل هل من مستغفر؟. (وينام سدسه) بضم الدال ويسكن أي سدسه الأخير، ثم يقوم عند الصبح، وكان ينام السدس الأخير ليستريح من نصب القيام في بقية الليل، وإنما صارت هذه الطريقة أحب إلى الله تعالى؛ لأنه أخذ بالرفق التي يخشى منها السآمة التي هي سبب ترك العبادة، والله تعالى يحب أن يديم فضله ويوالى إحسانه، قاله الكرماني. وإنما كان ذلك أرفق؛ لأن النوم بعد القيام يريح البدن ويذهب ضرر السهر وذبول الجسم، بخلاف السهر إلى الصباح. وفيه من المصلحة أيضا استقبال صلاة الصبح، وأذكار النهار بنشاط وإقبال، ولأنه أقرب إلى عدم الرياء؛ لأن من نام السدس الأخير أصبح ظاهر اللون سليم القوى، فهو أقرب إلى أن يخفى عمله الماضي على من يراه، أشار إليه ابن دقيق العيد. قال في اللمعات: قيل: الحديث يشكل بأنه لم يكن عمل نبينا - صلى الله عليه وسلم - دائما على هذا الوجه، فالجواب أن صيغة التفضيل إما بمعنى أصل الفعل أو الأحبية إضافية محمولة على بعض الوجوه، لكونه أقرب إلى الاعتدال وحفظ صحته، ولما قيل في نوم السدس الأخير من دفع الكلفة والملال- انتهى. وقال القاري: ولعله - صلى الله عليه وسلم - ما التزم هذا النوم، ليكون قيامه جامعا سائر الأنبياء، وليهون على أمته في القيام بوظيفة الإحياء. (ويصوم) أي داود. (يوما ويفطر يوما) قال ابن المنير: كان داود عليه السلام يقسم ليله ونهاره لحق ربه وحق نفسه، فأما الليل فاستقام له ذلك في كل ليلة، وأما النهار فلما تعذر عليه أن يجزئه بالصيام؛ لأنه لا يتبعض، جعل عوضا من ذلك أن يصوم يوما ويفطر يوما، فيتنزل ذلك منزلة التجزئه في شخص اليوم، قيل: وهو أشد الصيام على النفس، فإنه لا يعتاد الصوم ولا الإفطار، فيصعب عليه كل منهما. وظاهر قوله: أحب الصيام يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقا، ووقع في بعض الروايات أفضل الصيام صيام داود، ومقتضاه أن تكون الزيادة عليه كصوم يومين وإفطار يوم، وكصيام الدهر بلا

(7/425)


صيام أيام الكراهة مفضولة، وإنما كان ذلك أعدل الصيام وأحبه إلى الله؛ لأن فاعله يؤدي حق نفسه وأهله وزائر أيام فطره، بخلاف من يصوم الدهر أي يتابع الصوم ويسرده، فإنه قد يفوت بعض الحقوق وقد لا يشق باعتياده، فلا يحصل المقصود من قمع النفس، نظير ما قاله الأطباء: من أن المرض إذا تعود عليه البدن لم يحتج إلى دواء، ولم يلتزم النبي - صلى الله عليه وسلم - الوصف المذكور في صيامه لما قيل: إن فعله كان مختلفا يتضمن مصالح راجعة إلى أمته أقوياءهم وضعفاءهم، وكان يفعل العبادات بحسب ما يظهر له من الحكمة في أوقات الطاعات دون الحالات المألوفات والعادات. وقد روى البخاري وغيره عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل بالشيء، وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، زاد في رواية قالت: وكان يحب ما خف على الناس. قال الشوكاني: الحديث يدل على أن صوم يوم وإفطار يوم أحب إلى الله من غيره، وإن كان أكثر منه، وما كان أحب إلى الله عزوجل فهو أفضل، والاشتغال به أولى، وفي رواية لمسلم: أن عبد الله بن عمرو قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إني أطيق أفضل من ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم - :
متفق عليه.
1233-(8) وعن عائشة، قالت: ((كان - تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- ينام أول الليل، ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم نام، فإن كان عند النداء الأول جنبا، وثب فأفاض عليه الماء،
لا أفضل من ذلك. ويدل على أفضليته قيام ثلث الليل بعد نوم نصفه، وتعقيب قيام ذلك الثلث بنوم السدس الآخر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في قيام الليل، وفي كتاب الأنبياء، ومسلم في الصيام، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود في الصوم، والنسائي فيه وفي الصلاة، وابن ماجه في الصوم، والبيهقي. (ج3 ص3) وأخرج الترمذي فضل الصوم فقط.

(7/426)


1233- قوله: (تعني) تفسير لضمير كان. قال ابن الملك: أي تريد عائشة بذلك. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بالنصب وهو مفعول تعني في الظاهر، واسم كان في المعنى. (ينام أول الليل) أي إلى تمام نصفه الأول ومعلوم أنه كان لا ينام إلا بعد فعل العشاء"؛ لأنه يكره النوم قبلها. (ويحيي أخره) أي بالصلاة. قال السندي: من الإحياء، وإحياء الليل تعميره بالعبادة، وجعله من الحياة على تشبيه النوم بالموت، وضده بالحياة لا يخلو عن سوء أدب- انتهى. وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري: كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي. (أي في السدس الرابع والخامس)، ثم يرجع إلى فراشه. (أي لينام السدس السادس ليقوم لصلاة الصبح بنشاط). (ثم) أي بعد صلاته وفراغه من ورده. (إن كانت له حاجة إلى أهله) المراد مباشرة زوجته. (قضى حاجته) أي فعلها. وفي رواية النسائي: فإذا كان له حاجة ألم بأهله أي قرب من زوجته، وهو كناية عن الجماع. وكلمة ثم بابها، كما تقدمت الإشارة إليه، فيؤخذ منه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقدم التهجد ثم يقضي بعد إحياء الليل حاجته من نساءه، فإن الجدير به أداء العبادة قبل قضاء الشهوة. وقيل: يمكن أن ثم ههنا لتراخي الإخبار أخبرت أولا أن عادته - صلى الله عليه وسلم - كانت مستمرة بنوم أول الليل وإحياء أخره. ثم أن اتفق له احتياج إلى أهله يقضي حاجته، ثم ينام في كلتا الحالتين. قال ابن حجر: وتأخير الوطأ إلى آخر الليل أولى؛ لأن أول الليل قد يكون ممتلئا، والجماع على الامتلاء مضر بالإجماع. (ثم ينام) أي السدس الأخير ليستريح. (فإن كان عند النداء الأول) تعني الأذان المتعارف عند تبيين الصبح. (جنبا وثب) بواو ومثلثة وموحدة مفتوحات أي قام بنهجه وشدة وسرعة. (فأفاض عليه الماء) أي أسال على جميع بدنه الماء يعني اغتسل. هكذا في جميع النسخ للمشكاة، وكذا في المصابيح أي فإن عند النداء الأول جنبا وثب فأفاض عليه الماء. ولفظ مسلم: فإذا كانت عند

(7/427)


النداء الأول قالت وثب ولا والله ما قالت:
وإن لم يكن جنبا توضأ للصلاة، ثم صلى ركعتين)). متفق عليه.
((الفصل الثاني]
1234-(9) عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين
قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم)) .
قام فأفاض عليه الماء، ولا والله ما قالت اغتسل وأنا أعلم ما تريد، ولفظ البخاري: فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة. (أي أثر حاجة أو المراد بالحاجة هي الجنابة لكونها أثرا لها، أو المراد حاجة الاغتسال بقرينة الجزاء) اغتسل، وإلا توضأ وخرج. وهذا يدل على أن بعض الرواة ذكره بالمعنى، وحافظ بعضهم على اللفظ. ولفظ النسائي: فإذا سمع الأذان وثب، فإن كان جنبا أفاض عليه من الماء وإلا توضأ، ثم خرج إلى الصلاة أي بعد أن صلى ركعتي الفجر. (وإن لم يكن جنبا توضأ للصلاة) وفي مسلم: توضأ وضوء الرجل للصلاة أي إما للتجديد؛ لأن نومه - صلى الله عليه وسلم - لا ينقض الوضوء، أو لحصول ناقض آخر غير النوم. (ثم صلى ركعتين) وفي مسلم: ثم صلى الركعتين، أي سنة الصبح في بيته، ثم خرج إلى المسجد لصلاة الصبح. ويؤخذ من الحديث أنه ينبغي الاهتمام بالعبادة، وعدم التكاسل بالنوم والإقبال عليها بالنشاط. (متفق عليه) ولفظه لمسلم. وأخرجه أيضا النسائي والترمذي في الشمائل، وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه مختصرا بلفظ: كان ينام أول الليل ويحيي آخره.

(7/428)


1234- قوله: (عليكم بقيام الليل) أي التهجد فيه. (فإنه دأب الصالحين قبلكم) بسكون الهمزة ويحرك أي عادتهم. قال الطيبي: الدأب العادة والشأن، وقد يحرك، وأصله من دأب في العمل إذا جد وتعب، أي هي عادة قديمة واظب عليها الأنبياء والأولياء السابقون. (وهو) أي مع كونه إقتداء بسيرة الصالحين. (قربة لكم إلى ربكم) أي مما تتقربون به إلى الله تعالى. (ومكفرة) بفتح الميم وسكون القاف مصدر ميمي بمعنى اسم فاعل من الكفر وهو الستر. (للسيئات) أي خصلة ساترة ماحية لذنوبكم، والحسنات كلها تكفير للسيئات، كما قال تعالى:. ?إن الحسنات يذهبن السيئات? [11: 114]، وقيام الليل يزيد عليها لكونه (منهاة) بفتح الميم وسكون النون مصدر ميمي أيضا بمعنى اسم فاعل من النهي. (عن الإثم) كذا في جميع النسخ، وكذا في المصابيح، وهكذا عند البيهقي، وكذا نقله الجزري (ج10 ص266). ولفظ الترمذي في حديث أبي أمامة: للإثم أي بلام الجر بدل عن، نعم وقع في رواية بلال عند الترمذي: عن الإثم. والمعنى ناهية عن ارتكاب ما يوجب الإثم. قال تعالى:. ?إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر? [29: 45] وقال الجزري في النهاية: منهاة عن الإثم أي حالة من شأنها أن تنهى الإثم أو هي مكان مختص بذلك، وهي مفعلة من النهي،
رواه الترمذي.
1235-(10) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة يضحك الله إليهم:

(7/429)


والميم زائدة. زاد في رواية بلال عند الترمذي والبيهقي، وفي رواية سلمان الفارسي عند الطبراني في الكبير: ومطردة للداء عن الجسد أي طارد ومبعد للداء عن البدن، أو حالة من شأنها إبعاد الداء، أو مكان مختص به، ومعنى الحديث أن قيام الليل قربة تقربكم إلى ربكم، وخصلة تكفر سيئاتكم، وتنهاكم عن المحرمات، وتطرد الداء عن أجسادكم. (رواه الترمذي) في الدعوات، وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا في كتاب التهجد، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وابن عدي في الكامل، والطبراني في الكبير الأوسط والبيهقي في السنن (ج2 ص502) كلهم من رواية عبدالله بن صالح كاتب الليث. قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. قال الشوكاني: عبدالله بن صالح كاتب الليث مختلف فيه- انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزائد (ج2 ص251): قال عبدالملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون، وضعفه جماعة من الأئمة. وقال في التقريب في ترجمته: صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة- انتهى. وفي الباب عن بلال عند الترمذي وغيره بإسناد ضعيف، وعن سلمان الفارسي عند الطبراني وغيره. وفيه عبدالرحمن بن سليمان بن أبي الجون، وثقة دحيم وابن حبان وابن عدي، وضعفه أبوداود وأبوحاتم.

(7/430)


1235- قوله: (ثلاثة) أي ثلاث رجال، قاله الطيبي: والأولى أشخاص، ويراد بها الأنواع ليلائم القوم، ولذا قال ابن حجر: أصناف. وقيل: ثلاثة نفر. (يضحك الله) قيل الضحك من الله الرضا والإرادة الخير. وقيل: بسط الرحمة بالإقبال وبالإحسان، أو بمعنى يأمر الملائكة بالضحك ويأذن لهم فيه، كما يقال السلطان قتله، إذا أمر بقتله. قال ابن حبان في صحيحه: هو من نسبة الفعل إلى الآمر. وهو في كلام العرب كثير. وقيل: إن الضحك وأمثاله مما هو من قبيل الانفعال إذا نسب إلى الله يراد به غايته. وقيل: بل المراد إيجاد الانفعال في الغير، فالمراد ههنا الإضحاك. ومذهب أهل التحقيق أنه صفة سميعة يلزم إثباتها مع نفي التشبيه وكمال التنزيه، كما أشار إلى ذلك مالك، وقد سئل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم، والكيف غير معلوم، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. (إليهم) قبل عدي الضحك بإلى لتضمينه معنى الإقبال. وقال الطيبي: الضحك مستعار للرضى، وفي إلى معنى الدنو كأنه قيل إن الله يرضى عنهم ويدنو إليهم برحمته ورأفته، ويجوز أن يضمن الضحك معنى النظر، ويعدي بإلى. فالمعنى أنه تعالى ينظر إليهم ضاحكا أي راضيا عنهم مستعطفا عليهم؛ لأن الملك إذا نظر إلى رعيته بعين الرضى لا يدع شيئا من الأنعام إلا فعله، وفي عكسه قوله تعالى: ?ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة? [3: 77] - انتهى. قلت: قد تقدم أن مذهب أهل التحقيق إثبات الضحك لله
الرجل إذا قام بالليل يصلي، والقوم إذا صفوا في الصلاة، والقوم إذا صفوا في قتال العدو)) .
رواه في شرح السنة.
1236- وعن عمرو بن عبسة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل

(7/431)


تعالى من غير تأويل ولا تكييف ولا تشبيه، وهو الحق عندنا، فالتفويض والتسليم أسلم وأصوب (الرجل) خص ذكره نظر الغالب الأحوال. (إذا قام بالليل يصلي) نفلا وهو التهجد، ولعله لم يقل القوم إذا قاموا مع أنه المطابق لما بعده من المتعاطفين لئلا يوهم قيد الجماعة والاجتماع. قال الطيبي: إذا المجرد الظرفية، وهو بدل عن الرجل كقوله تعالى: ?واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت? [19: 16] أي ثلاثة رجال يضحك الله منهم وقت قيام الرجل بالليل. وفي إبدال الظرف مبالغة، كما في قوله: أخطب ما يكون الأمير قائما- انتهى. (والقوم إذا صفوا) يحتمل البناء للفاعل وللمفعول. (للصلاة) وسووا صفوفهم على سمت واحد، وتراصوا كما أمروا به. (والقوم) المسلمون (إذا صفوا في قتال العدو) أي لقتال الكفار بقصد إعلاء كلمة الله تعالى. (رواه) أي البغوي. (في شرح السنة) ونسبه السيوطي في الجامع الصغير إلى أحمد وأبي يعلى، وأخرجه ابن ماجه في باب ما أنكرت الجهمية من كتاب السنة بلفظ: إن الله ليضحك على الثلاثة: للصف في الصلاة. وللرجل يصلي في جوف الليل. وللرجل يقاتل أراه خلف الكتيبة. وفي سنده عبدالله بن إسماعيل عن مجالد بن سعيد، وعبدالله بن إسماعيل هذا قال فيه أبوحاتم والذهبي في الكاشف: مجهول، ومجالد قال في التقريب في ترجمته: ليس بالقوى، وقد تغير في آخر عمره- انتهى. وأخرج له مسلم في صحيحه، لكن مقرونا بغيره، وأخرجه البزار بغير هذين السياقين، وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام كثير لسوء حفظه لا لكذبه.

(7/432)


1236- قوله: (عن عمرو بن عبسة) بفتح العين المهملة والباء الموحدة. (أقرب ما يكون الرب من العبد) أي الإنسان حرا كان أو رقيقا. (في جوف الليل) خبر أقرب أي أقربيته تعالى من عباده كائنة في الليل. قال الطيبي: إما حال من الرب أي قائلا في جوف الليل من يدعوني فاستجيب له؟- الحديث، سدت مسد الخبر، أو من العبد أي قائما في جوف الليل داعيا مستغفرا، ويحتمل أن يكون خبر الأقرب، ومعناه سبق في باب السجود مستقصى. فإن قلت المذكور ههنا أقرب ما يكون الرب من العبد، وهناك أقرب ما يكون العبد من ربه، فما الفرق؟ أجيب بأنه قد علم مما سبق في حديث أبي هريرة من قوله. ينزل ربنا الخ أي رحمته سابقة، فقرب رحمة الله من المحسنين سابق على إحسانهم، فإذا سجدوا قربوا من ربهم بإحسانهم، كما قال تعالى: ?واسجد واقترب? [96: 19]
الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة، فكن)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب إسنادا.

(7/433)


وفيه أن لطف الله وتوفيقه سابق على عمل العبد وسبب له، ولولاه لم يصدر من العبد خير قط- انتهى. وقال ميرك: فإن قلت ما الفرق بين هذا القول، وقوله: فيما تقدم في باب السجود: أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد؟ قلت: المراد ههنا بيان وقت كون الرب أقرب من العبد، وهو جوف الليل، والمراد هناك بيان أقربية أحوال العبد من الرب، وهو حال السجود، تأمل- انتهى. يعني فإنه دقيق بالتأمل حقيق وتوضيحه أن هذا وقت تجل خاص بوقت، لا يتوقف على فعل من العبد لوجوده لا عن سبب، ثم كل من أدركه أدرك ثمرته، ومن لا فلا، غايته أنه مع العبادة أتم منفعة ونتيجة. وأما القرب الناشئ من السجود فمتوقف على فعل العبد وخاص به، فناسب كل محل ما ذكر فيه، كذا في المرقاة. (الآخر) صفة لجوف الليل على أنه ينصف الليل، ويجعل لكل نصف جوفا، والقرب يحصل في جوف النصف الثاني، فابتداؤه يكون من الثلث الأخير، وهو وقت القيام للتهجد، قاله الطيبي. وقال القاري: ولا يبعد أن يكون ابتداءه من أول النصف الأخير. (فإن استطعت) أي قدرت ووفقت. (أن تكون ممن يذكر الله) في ضمن صلاة أو غيرها. (في تلك الساعة) إشارة إلى لطفها. (فكن) أي اجتهد أن تكون من جملتهم. وهذا أبلغ مما لو قيل: إن استطعت أن تكون ذاكرا فكن؛ لأن الأولى فيها صفة عموم شامل للأنبياء والأولياء، فيكون داخلا في جملتهم ولأحقابهم، بخلاف الثانية. قال الطيبي: في قوله: فإن استطعت إشارة إلى تعظيم شأن الأمر وتفخيمه، وفوز من يستعد به، ومن ثمة قال أن تكون ممن يذكر الله، أي تنخرط في زمرة الذاكرين الله، ويكون لك مساهمة فيهم، وهو أبلغ من أن يقال: إن استطعت أن تكون ذاكرا- انتهى. (رواه الترمذي) في الدعوات. (وقال هذا حديث صحيح حسن غريب إسنادا) تمييز عن غريب سندا لا متنا. واعلم أن المراد بالحديث الغريب من حيث الإسناد فقط حديث يعرف متنه عن جماعة من الصحابة، وانفرد واحد برايته عن الصحابي آخر. قال السيوطي في

(7/434)


التدريب (ص192): وينقسم الغريب أيضا إلى غريب متنا وإسنادا، كما لو انفرد بمتنه راو واحد وإلى غريب إسنادا لا متنا كحديث معروف روى متنه جماعة من الصحابة انفرد واحد بروايته عن صحابي آخر، وفيه يقول الترمذي غريب من هذا الوجه- انتهى. وقال الزرقاني في شرح البيقونية (ص92): ثم الحديث قد يغرب متنا وإسنادا كحديث انفرد بروايته واحد، وقد يغرب إسنادا فقط كأن يكون معروفا برواية جماعة من الصحابة فينفرد به راو من حديث صحابي آخر، فهو من جهته غريب مع أن متنه غير غريب. قال ابن الصلاح: ومن ذلك غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة، قال: وهذا الذي يقول الترمذي في غريب من هذا الوجه، قال ولا أرى
1237-(12) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها

(7/435)


هذا النوع، يعني غريب الإسناد فقط، ينعكس، فلا يوجد أبدأ ما هو غريب متنا وليس غريبا إسنادا إلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن انفرد به، فرواه عنه عدد كثير، فإنه يصير غريبا مشهورا وغريبا متنا لا إسنادا، لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد، فإن إسناده غريب في طرفه الأول، مشهور في طرفه الآخر، كحديث: إنما الأعمال بالنيات، فإن الشهرة إنما طرأت له من عند يحيى بن سعيد، وما ذكره من أن غريب الإسناد لا ينعكس هو بالنظر إلى الوجود كما قال، وإلا فالقسمة العقلية تقتضي العكس، ومن ثم قال ابن سيد الناس، فيما شرحه من الترمذي الغريب أقسام: غريب سندا ومتنا، أو متنا لا سندا، أو سندا لا متنا، وغريب بعض السند، وغريب بعض المتن، فالأول واضح، والثاني هو الذي أطلقه، ولم يذكر له مثالا لعدم وجوده، ثم ذكر الزرقاني أمثلة الأقسام الثلاثة الباقية، ولا تنافي بين الغرابة والصحة، كما بين في علم الأصول. قال الزرقاني: الغرابة تجامع الصحة والضعف، فالغريب الصحيح كأفراد الصحيح وهي كثيرة، والغريب الذي ليس بصحيح هو الغالب على الغريب- انتهى مختصرا. وحديث عمرو بن عبسة هذا أخرجه ابن خزيمة في صحيحة والحاكم والبيهقي، وله حديث آخر مطول أخرجه أحمد (ج4 ص114) وفيه: فقلت هل من ساعة أقرب إلى الله تعالى؟ قال جوف الليل الآخر- الحديث.

(7/436)


1237- قوله: (رحم الله رجلا) خبر عن استحقاقه الرحمة واستجابة لها، أو دعاء له ومدح له بحسن ما فعل. وقال العلقمي: هو ماض بمعنى الطلب. (قام من الليل) أي بعضه. (فصلى) أي التهجد. (وأيقظ امرأته) وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة الآتي: إذا أيقظ الرجل أهله، وهو أعم لشموله الولد والأقارب. (فصلت) ما كتب الله لها ولو ركعتين. (فإن أبت) أن تستيقظ. وقيل: أي امتنعت عن القيام لغلبة النوم، وكثرة الكسل. (نضح) وفي رواية ابن ماجه: رش. (في وجهها الماء) ليزول عنها النوم. والمراد التلطف معها، والسعي في قيامها لطاعة ربها مهما أمكن. قال تعالى: ?وتعانوا على البر والتقوى? [5 :2]. وفيه أن أصاب خيرا ينبغي له أن يتحرى إصابة الغير، وأن يحب له ما يحب لنفسه، فيأخذ بالأقرب فالأقرب. وقوله: "رحم الله" تنبيه للأمة بمنزلة رش الماء على الوجه لاستيقاظ النائم، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نال بالتهجد ما نال من الكرامة والمقام المحمود أراد أن يحصل لأمته نصيب وافر، فحثهم على ذلك بألطف وجه. قيل: خص الوجه بالنصح؛ لأنه أفضل الأعضاء وأشرفها، وبه يذهب النوم والنعاس أكثر من بقية الأعضاء، وهو أول الأعضاء المفروضة غسلا، وفيه العينان وهما آلة النوم. (رحم الله امرأة قامت من الليل) أي وقفت بالسبق. (فصلت) صلاة التهجد. (وأيقظت زوجها)
فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء )). رواه أبوداود، والنسائي.
1238-(13) وعن أبي أمامة، قال: ((قيل: يا رسول الله ! أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل
الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات )). رواه الترمذي.
1239-(14) وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة غرفا

(7/437)


الواو لمطلق الجمع. وفي الترتيب الذكري إشارة لا تخفى، قاله القاري. (فصلى) أي بسببها. (فإن أبى) أن يقوم لغلبة النوم. (نضحت) أي رشت. (في وجهه الماء) ليزول عنه النوم وينتبه. وفي الحديث الدعاء بالرحمة للحي كما يدعى بها للميت، وفيه فضيلة صلاة الليل وفضيلة مشروعية إيقاظ النائم للتنفل كما يشرع للفرض، وهو من المعاونة على البر والتقوى. وفيه بيان حسن المعاشرة وكمال الملاطفة والموافقة. وفيه إشارة إلى أن الرجل أحق بأن يكون مسابقا بالقيام وإيقاظ امرأته، وإلى أن فضل الله لا يختص بأحد، فقد يكون المرأة سابقة على الرجل. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي (ج2 ص501) والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وسكت عنه أبوداود، وكذا المنذري في الترغيب، وصحح النووي سنده في رياض الصالحين (ص442). وقال المنذري في مختصر السنن: في سنده محمد بن عجلان، وقد ثقة أحمد وابن معين وأبوحاتم الرازي، واستشهد به البخاري، وأخرج له مسلم في المتابعة، وتكلم فيه بعضهم- انتهى. وفي الباب عن أبي مالك الأشعري، رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف، قاله الهيثمي.

(7/438)


1238- قوله: (أي الدعاء أسمع) أي أقرب إلى أن يسمعه الله أي يقبله. قال الطيبي: أي أرجى للإجابة؛ لأن المسموع على الحقيقة ما يقترن بالقبول ولا بد من مقدر، إما في السؤال أي، أي أوقات الدعاء أقرب إلى الإجابة؟ وإما في الجواب أي دعاءه في جوف الليل. (قال جوف الليل) بالرفع على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي دعاء جوف الليل. وروي بالنصب على الظرفية أي الدعاء في جوف الليل. (الآخر) صفة للجوف، فيتبعه في الإعراب. قال الخطابي: المراد ثلث الليل الآخر، وهو الخامس من أسداس الليل. (ودبر الصلوات المكتوبات) برفع دبر ونصبه. (رواه الترمذي) في الدعوات. وقد تقدم الحديث مع شرحه في الفصل الثاني من باب الذكر بعد الصلاة، أعاده هنا؛ لأنه من أدلة استحباب الدعاء في ضمن الصلاة وغيرها في ثلث الليل الآخر، ومن أدلة أنه وقت الإجابة.
1239- قوله: (إن في الجنة غرفا) بضم الغين المعجمة وفتح الراء المهملة، جمع غرفة بالضم، وهي العلية،
يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام،
وتابع الصيام، وصلي بالليل والناس نيام)). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
1240-(15) وروى الترمذي عن علي نحوه، وفي روايته: ((لمن أطاب الكلام.

(7/439)


أي البيت فوق البيت أي علالي في غاية من اللطافة ونهاية من الصفاء والنظافة. (يرى) بالبناء للمفعول. (ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها) لكونها شفافة لا تحجب ما وراءها. (أعدها الله) أي هيأها. (لمن ألان) أي أطاب كما في رواية. (الكلام) أي بمداراة الناس، واستعطافهم. قال الطيبي: جعل جزاء من تلطف في الكلام الغرفة، كما في قوله تعالى: ?أولئك يجزون الغرفة? [25: 75] بعد قوله: ?وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما? [25: 63]. وفيه تلويح على أن لين الكلام من صفات عباد الله الصالحين الذين خضعوا لبارئهم، وعاملوا الخلق بالرفق في القول والفعل، وكذا جعلت جزاء من أطعم، كما في قوله: ?والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا? [25: 67]، وكذا جعلت جزاء من صلى بالليل، كما في قوله: ?والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما? [25: 64]. ولم يذكر في التنزيل الصيام استغناء بقوله بما صبروا؛ لأن الصيام صبر كله. (وأطعم الطعام) للعيال والفقراء والأضياف ونحو ذلك، قاله المناوي. وقيل: يكفي في إطعام الطعام أهله ومن يمونه، وهذا إذا قصد الاحتساب. وقيل: المراد بالطعام الزائد على ما يحتاجه لنفسه وعياله. (وتابع الصيام) أي أكثر منه بعد الفريضة بحيث تابع بعضها بعضا، ولا يقطعها رأسا، قاله ابن الملك. وقيل: يكفي في متابعة الصوم مثل حال أبي هريرة وابن عمر وغيرهما من صوم ثلاثة أيام من كل شهر أوله، ومثلها من أوسطه وآخره، والاثنين، والخميس، ويوم عرفة وعاشوراء وعشر ذي الحجة. وفي رواية: أدام الصيام. والمراد به الكثرة، لا المواصلة، ولا صوم الدهر. (وصلى بالليل) أي تهجد لله تعالى. (والناس) أي غالبهم. (نيام) بكسر النون. جمع نائم أي لا يتهجدون. وإن لم يكونوا نائمين. والأوصاف الثلاثة أي لين الكلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل إشارة إلى استجماع صفة الجود والتواضع والعبادة المتعدية واللازمة. (رواه

(7/440)


البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان في صحيحة، والطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص254) بعد عزوه إلى الطبراني: رجاله ثقات.
1240- (وروى الترمذي عن علي) أي ابن أبي طالب. (نحوه) في باب قول المعروف من أبواب البر والصلة، وفي باب صفة غرف الجنة من أبواب صفة الجنة. ولفظه: إن في الجنة غرفا، ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله ؟ فقال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام،
?الفصل الثالث?
1241-(16) عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبدالله! لا تكن
مثل فلان، كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)). متفق عليه.
وأدام الصيام، وصلى بالليل، والناس نيام. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالرحمن بن إسحاق- انتهى. وعبدالرحمن بن إسحاق هذا. قال الحافظ في التقريب في ترجمته: ضعيف، ولكن له شاهد قوي من حديث عبدالله بن عمرو عند أحمد والطبراني في الكبير والحاكم. قال المنذري. والهيثمي: إسناده حسن. وقال الحاكم: صحيح على شرطهما.

(7/441)


1241- قوله: (لا تكن مثل فلان) أي في هذه الخصلة التي أذكرها لك وهي أنه (كان يقوم من الليل) أي فيه كإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة أي في يوم الجمعة. وقال الحافظ: أي بعض الليل وسقط لفظ "من" من رواية الأكثر، وهي مرادة- انتهى. وقال العيني: ليس في رواية الأكثرين لفظ من موجودا، بل اللفظ كان يقوم الليل أي في الليل، والمراد في جزء من أجزائه. وقال القسطلاني: يقوم الليل أي بعضه- انتهى. ونقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص46) بذكر لفظ "من". ووقع عند البيهقي بحذفه. (فترك قيام الليل) أي لا عن عذر، بل دعة ورفاهية، فلم يكن من الموفين بعهدهم إذا عاهدوا. قال ابن العربي: في هذا الحديث دليل على أن قيام الليل ليس بواجب، إذ لو واجبا لم يكتف لتاركه بهذا القدر، بل كان يذمه أبلغ الذم. وفيه استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير من غير تفريط. وفيه الإشارة إلى كراهة قطع العبادة وإن لم تكن واجبة. وقيل: معنى قوله "كان يقوم الليل" أي غالبه أو كله "فترك قيام الليل" أصلا حين ثقل عليه، أي فلا تزد أنت في القيام أيضا فإنه يؤدي إلى ترك رأسا. قال السندي: يريد أن الإكثار في قيام الليل قد يؤدي إلى تركه رأسا، كما فعل فعلان، فلا تفعل أنت ذاك، بل خذ فيه التوسط والقصد أي؛ لأن التشديد في العبادة قد يؤدي إلى تركها وهو مذموم. وقال في اللمعات: فيه تنبيه على منعه من كثرة قيام الليل والإفراط فيه، بحيث يورث الملالة والسآمة- انتهى. وقوله: مثل فلان قال الحافظ: لم أقف على تسميته في شيء من الطرق، وكان إبهام هذا لقصد الستر عليه كالذي تقدم قريبا في الذي نام حتى أصبح. قال ابن حبان: فيه جواز ذكر الشخص بما فيه من عيب إذا قصد بذلك التحذير من صنيعة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في قيام الليل، ومسلم في الصوم. وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه كلاهما في الصلاة والبيهقي (ج3 ص14) .

(7/442)


1242-(17) وعن عثمان بن أبي العاص، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كان لداود عليه
السلام من الليل ساعة يوقظ فيها أهله يقول: يا آل داود: قوموا فصلوا، فإن هذه ساعة
يستجيب الله عز وجل فيها الدعاء إلا لساحر أو عشار)) .
1242- قوله(كان لداود) نبي الله. (عليه السلام من الليل ساعة) بالرفع اسم كان و"من" بيانية متقدمة، قاله القاري، ويفسر هذه الساعة المبهمة ما تقدم في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: كان أي داود ينام نصف الليل ويقوم ثلثه- الحديث. فوقت إيقاظه لأهله هو وقت قيامه وهو وقت الإجابة، كما سبق. (يوقظ فيها أهله) لقوله تعالى: ?اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور? [34: 13] أي القائم بالليل. ويناسبه قوله تعالى: ?كانوا قليلا من الليل ما يهجعون? [51: 17]. (يقول) وفي المسند فيقول بزيادة الفاء. (فصلوا) أي من الليل ولو قليلا. (فإن هذه ساعة يستجيب الله فيها الدعاء) أي يقبله، والصلاة نفسها دعاء؛ لأن الثناء والقيام في خدمة المولى تعرض للعطاء، أو لاشتمالها على الدعاء المحفوف بالذكر والثناء. (إلا لساحر) أي لمخالفته الخالق. (أو عشار) بفتح العين المهملة وتشديد الشين المعجمة أي آخذ العشور من أموال الناس على عادة أهل الجاهلية، وذلك لكونه ترك فرض الله، وهو ربع العشر ولمضرته الخلق، يقال: عشرت المال عشرا وعشورا فإن عاشر من باب قتل وعشرته، فإن معشر وعشار إذا أخذت عشرة، وعشرت القوم عشرا عشورا، من باب قتل وعشرتهم إذا أخذت عشر أموالهم، وأما من يعشر الناس على ما فرض الله فحسن جميل محتسب ما لم يتعد فيأثم بالتعدي والظلم، وقد عشر جماعة من الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللخلفاء بعده، وسمي هذا عاشرا للإضافة ما يأخذه إلى العشر كربع العشر ونصفه، وهو يأخذ العشر جميعه فيما سقته الماء والعيون وعشر أموال أهل الذمة في التجارات. وقيل: المراد بالعشار في الحديث المكاس والماكس، وهو

(7/443)


الذي يأخذ من التجار إذا مروا به مكسا باسم العشر، والمكس الضربية أي دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في أسواق الجاهلية. وقيل: هو ما يأخذه أعوان الدولة عن أشياء معينة عند بيعها أو عند إدخالها في البلاد والمدن. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليس على المسلمين عشورا، أي ليس عليهم غير الزكاة من الضرائب والمكس ونحوهما. وقال القاري: قوله: أو عشار أي آخذ العشر، وهو المكاس وإن أقل من العشر؛ لأن ذلك باعتبار غالب أحوال المكاسين، وذلك لمضرته الخلق، وأو للتنويع لا للشك- انتهى. وبالجملة ليس المراد بالعشار المذكور في الحديث العاشر أي الساعي الذي يأخذ الصدقة من المسلمين على ما فرض الله من ربع العشر أو نصفه أو العشر جميعه، ولا من يأخذ العشر أو نصفه أو نحوه من أهل الذمة إذا مروا بأموال التجارة. وقيل: المكس النقصان والماكس من العمال من ينقص من حقوق المساكين
رواه أحمد.
1243-(18) وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة في جوف الليل)) .

(7/444)


ولا يعطيها بتمامها، قاله البيهقي. قال الطيبي: استثنى من جميع خلق الله تعالى الساحر والعشار تشديدا عليهم وتغليظا وأنهم كالآئسين من رحمة الله تعالى العامة للخلائق كلها، وتنبيها على استجابة دعاء الخلق كائنا من كان سواهما-انتهى. يعني فإنهم وإن قاموا ودعوا لم يستجب لهم لغلظ معصيتهم وصعوبة توبتهم، أو المعنى أنهم ما يوفقون لهذا الخير لما ابتلوا به من الشر الكثير، فالاستثناء على الأول متصل، وعلى الثاني منفصل. قاله القاري. (رواه أحمد) (ج4:ص22) من طريق علي بن زيد وهو ابن جدعان عن الحسن. (البصري) قال مر عثمان بن أبي العاص على كلاب بن أمية، وهو جالس على مجلس العاشر بالبصرة، فقال: ما يجلسك ههنا؟ قال: استعملني هذا على هذا، يعني زيادا، فقال عثمان: ألا أحدثك حديثا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بلى ، فقال عثمان: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كان لداود نبي الله-الحديث. وفي آخره: فركب كلاب بن أمية سفينته فأتى زيادا فاستضعفاه فأعفاه-انتهى. والحسن البصري كان يرسل كثيرا ويدلس، ولم يصرح ههنا بسماعه عن عثمان بن أبي العاص، بل المفهوم من كلام الحافظ أنه لم يسمع منه شيئا حيث قال في تهذيب التهذيب (ج2:ص223، 224): روى الحسن عن أبي بن كعب وسعد بن عبادة وعمر بن الخطاب ولم يدركهم، وعن ثوبان وعمار بن ياسر وأبي هريرة وعثمان بن أبي العاص ومعقل بن سنان ولم يسمع منهم-انتهى.

(7/445)


1243- قوله: (أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة في جوف الليل) أي سدسه الرابع والخامس. وهذه الأفضلية باعتبار الزمان، فالصلاة في البيت أفضل باعتبار المكان. وفي الحديث دليل لما اتفق عليه العلماء أن النفل المطلق في الليل أفضل منه في النهار، وذلك؛ لأن الخشوع فيه أوفر، وفيه حجة لأبي إسحاق المروزي ومن وافقه من الشافعية: أن صلاة الليل أفضل من السنن الرواتب. وقال أكثر العلماء: الرواتب أفضل؛ لأنها تشبه الفرائض. قال النووي: والأول أقوى وأوفق لنص هذا الحديث. قال الطيبي: ولعمري أن صلاة التهجد لو لم يكن فيها فضل سوى قوله تعالى: ?ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا? [17: 79] وقوله تعالى: ?تتجافى جنوبهم عن المضاجع? إلى قوله تعالى: ?فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين? [32: 16- 17] وغيرهما من الآيات لكفاه مزية-انتهى. قال ميرك: وقد يجاب عن هذا الحديث بأن معناه من أفضل الصلاة وهو خلاف سياق الحديث-انتهى. وقيل: يحمل الحديث على أن المراد بقوله "بعد المفروضة" أي بعد الفرائض وما يتبعها من السنن، وقد يقال التهجد أفضل من حيث زيادة مشقته على النفس، وبعده عن الرياء
رواه أحمد.
1244-(19) وعنه، قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن فلانا يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، فقال: إنه سينهاه ما تقول)). رواه أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان.
1245، 1246-(20، 21) وعن أبي سعيد، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أيقظ الرجل أهله من الليل،
والرواتب أفضل من حيث الآكدية في المتابعة للمفروضة فلا منافاة. (رواه أحمد) أصل هذا الحديث عند مسلم. والترمذي وأبي داود والنسائي وابن خزيمة في صحيحه بألفاظ متقاربة، وسيأتي في الفصل الأول من باب صيام التطوع.

(7/446)


1244- قوله: (جاء رجل) لم أقف على تسميته. (فقال: إن فلانا) أي رجلا معينا، ولم يدر من هو. (فإذا أصبح) أي قارب الصبح. (سرق) أو المراد سرق بالنهار. ولو بالتطفيف ونحوه، وهو بفتح الراء من باب ضرب. (فقال إنه) أي الشأن. (سينهاه) من النهي. (ما تقول) قال الطيبي: هو فافعل سينهاه يعني أن قولك يدل على أنه محافظ على الصلوات، فإن من لا يدع الصلاة بالليل لا يدعها بالنهار، فمثل تلك الصلاة سينهي عن الفحشاء والمنكر فيتوب عن السرقة. ومعنى السين التأكيد في الإثبات أي بالنسبة إلى عدمها، كما أن لن للتأكيد في النفي أي بالنسبة إلى لا. وقال ابن حجر: فمثل هذه الصلاة لا محالة تنهاه فيتوب عن السرقة قريبا، فالسين على أصلها من التنفيس، إذ لا بد مزاولة الصلاة زمنا حتى يجد منها حالة في قلبه تمنعه من الإثم- انتهى. وفي بعض النسخ: ستنهاه أي بالمثناة الفوقية، فالفاعل إما ضمير فيه عائد إلى الصلاة أي هي تنهاه عما تقول، أو ما في قوله ما تقول؛ لأنها عبارة عن الصلاة. ووقع في بعض النسخ "ما يقول" أي بالغيبة أي الرجل الأول، والصحيح ما تقول بالخطاب، قاله القاري: وفي الحديث إيماء إلى قوله تعالى: ?إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر? [29: 45] أي أن مواظبتها تحمل على ترك ذلك. (رواه أحمد الخ) وأخرجه أيضا البزار. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص258) بعد عزوه لأحمد والبزار: ورجاله رجال الصحيح. وأخرج البزار أيضا مثله عن جابر. قال الهيثمي: ورجاله ثقات- انتهى. قلت: قد وقع الاختلاف في سند هذا الحديث فرواه غير واحد، ومنهم وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، ورواه قيس عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر. وقال جرير بن عبدالحميد، وزياد بن عبدالله عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر، نقله ابن كثير في تفسيره (ج7 ص296) عن البزار.
1245، 1246- قوله: (إذا أيقظ الرجل أهله) أي امرأته. وقيل: نساءه وأولاده وأقاربه. (من الليل)

(7/447)


فصليا أو صلى ركعتين جميعا، كتبا في الذاكرين والذاكرات)). رواه أبوداود، وابن ماجه.
1247-(22) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أشراف أمتي حملة القرآن، وأصحاب
الليل)) .
أي في بعض أجزاء الليل. (فصليا) أي الرجل والمرأة، أو الرجل وأهله. (أو صلى) أي كل واحد منهما. وأو للشك من الراوي بين الإفراد والتثنية. (ركعتين جميعا) تأكيد لضمير صليا "أو صلى" لما تقرر أن المراد كل واحد منهما. وفي رواية لأبي داود: من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعا. (من غير شك). ولفظ ابن ماجه: إذا استيقظ الرجل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين. قال السندي: قوله إذا استيقظ الرجل أي مثلا، وكذا العكس فلا مفهوم لاسم الرجل، كما يدل عليه حديث أبي هريرة (السابق في الفصل الثاني) والمقصود إذا استيقظ أحدهما وأيقظ الآخر، والله أعلم، بل الظاهر أنه لا مفهوم للشرط أيضا. والمقصود أنهما إذا صليا من الليل ولو ركعتين كتبا الخ. وإنما خرج هذا الشرط مخرج العادة. وفيه تنبيه على أن شأن الرجل أن يستيقظ أولا ويأمر امرأته بالخير. وفيه أنه يجوز الإيقاظ للنوافل، كما يجوز للفرائض، ولا يخفى تقييده بما إذا علم من حال النائم أنه يفرح بذلك أو لم يثقل عليه ذلك. (كتبا) أي الصنفان من الرجال والنساء. (في الذاكرين والذاكرات) أي كتب الرجل في الذاكرين الله كثيرا والمرأة في الذاكرات كذلك، أي ومن كتب كذلك فله أجر عظيم، كما في قوله تعالى: ?والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما? [33: 35] ففي الحديث إشارة إلى تفسير القرآن. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم وألفاظهم متقاربة. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، كذا في الترغيب. وأخرجه أيضا البيهقي (ج2 ص501) وقال النووي في رياض الصالحين رواه أبوداود بإسناد صحيح. والحديث ذكر أبوداود والبيهقي. الاختلاف في

(7/448)


رفعه ووقفه. وقال المنذري في مختصر السنن: رواه النسائي، وابن ماجه مسندا أي مرفوعا، وهذا يشير إلى أنه لم ير هذا الاختلاف شيئا، وهذا؛ لأن الرفع زيادة الثقة فتقبل.
1247- قوله: (أشراف أمتي) جمع شريف. (حملة القرآن) جمع حامل أي حفظته، المداومون على تلاوته، العاملون بأحكامه فإنهم الحملة الحقيقة. (وأصحاب الليل) أي الملازمون لإحياء الليل بصلاة أو ذكر أو نحو ذلك. وإنما قلنا الملازمون؛ لأن صاحب الشيء، وابن الشيء الملازم له، كقولهم ابن السبيل أي الملازم له. قال الطيبي: المراد بقوله حملة القرآن من حفظه وعمل بمقتضاه وإلا كان في زمرة من قيل في حقهم: ?كمثل الحمار يحمل أسفارا?، وإضافة الأصحاب إلى الليل تنبيه على كثرة الصلاة فيه، كما يقال: ابن السبيل لمن يواظب على السلوك فيه- انتهى أي وكما يقال: ابن الوقت لمن يحافظ أوقاته ويراعي ساعاته ليرتب طاعاته. والحديث من أدلة فضل أهل صلاة
رواه البيهقي في شعب الإيمان.
1248-(23) وعن ابن عمر، أن أباه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ((كان يصلي من الليل ما
شاء الله، حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة، ثم يتلو هذه
الآية: ?وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك
الليل وفضل أهل القرآن. (رواه البيهقي) وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا. والطبراني في الكبير. والحديث سنده ضعيف؛ لأن المنذري صدره في الترغيب بلفظة: روي وأهمل الكلام في آخره. وهذه علامة الإسناد الضعيف، كما صرح بذلك في بدء الكتاب.

(7/449)


1248- قوله: (وعن ابن عمر أن أباه عمر بن الخطاب) كذا في جميع النسخ للمشكاة، وكذا وقع في جامع الأصول (ج7 ص45). والظاهر أنه وهم من الجزري، وتبعه المصنف في ذلك، فإن الحديث في جميع نسخ الموطأ من رواية زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب، وكذا حكاه السيوطي في الدر المنثور عن موطأ مالك. وهكذا أخرجه محمد في موطئه عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه، وكذا ذكر السيوطي في الدر المنثور عن البيهقي، وكذا روى ابن أبي حاتم بسنده عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب. (كان يصلي من الليل) وفي موطأ محمد: كان يصلي كل ليلة. (ما شاء الله) أي من عدد الركعات، أو من استيفاء الأوقات. وفي الموطأ محمد: ما شاء الله أن يصلي. (حتى إذا كان من آخر الليل) عند السحر. (أيقظ أهله للصلاة) أي لإدراك شيء من صلاة التهجد. وقيل: يحتمل أن يكون إيقاظه لصلاة الفجر، والأول أظهر بل هو المتعين يعني أنه لم يكلف أهله منه ما كان هو يفعله بل يوقظهم في آخر الوقت ليصلوا تخفيفا لهم. (يقول لهم) أي عند الاستيقاظ. (الصلاة) كذا وقعت في جميع النسخ مرة. وفي الموطأ وقعت مكررة، وهي منصوبة بتقدير أقيموا أو صلوا. ويجوز الرفع بمعنى حضرت الصلاة، قاله القاري. (ثم يتلو هذه الآية) التي في آخر سورة طه. (وأمر أهلك بالصلاة) وهي بعمومها تشمل صلاة الليل، والمعنى استنقذهم من عذاب الله بأمر إقامة الصلاة. (واصطبر عليها) أي اصبر أنت على محافظتها، كما قال تعالى: ?قوا أنفسكم وأهليكم نارا? [66: 6] وقيل: المعنى اصبر عليها فعلا فإن الوعظ بلسان الفعل أبلغ منه بلسان القول. وقال القاري: أي بالغ في الصبر على تحمل مشقاتها ومشاق أمر أهلك بها، فاقبل أنت معهم على عبادة الله تعالى ولا تهتم بأمر الرزق، وفرغ قلبك لأمر الآخرة؛ لأنا لعظمتنا وقدرتنا على رزق العباد. (لا نسألك) أي لا نكلفك. (رزقا) أي تحصيل رزق لنفسك ولا لغيرك بل نسألك العبادة. (نحن نرزقك) كما نرزق غيرك.

(7/450)


قال ابن كثير: يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما
والعاقبة للتقوى? . رواه مالك.
(34) باب القصد في العمل
قال تعالى: ?ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب? [65: 2، 3] وقال تعالى: ?وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق? [51: 56، 57] الآية. وقد أخرج أحمد والبيهقي وغيرهما عن ثابت قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله: يا أهلاه صلوا صلوا. قال ثابت وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة. (والعاقبة) أي المحمودة أو حسن العاقبة في الدنيا والآخرة وهي الجنة. (للتقوى) أي لأهل التقوى على حذف المضاف، روى ابن النجار وابن عساكر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجيء إلى باب على صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. قال الباجي: يحتمل أن عمر رضي الله عنه يوقظهم امتثالا لأمر الباري تعالى، فيتلو هذه الآية عند امتثالها ليتأكد قصده لذلك. ويحتمل أن يقرأ ذلك على سبيل الاعتذار من إيقاظهم- انتهى. (رواه مالك) في موطئه عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب الخ، لا عن ابن عمر عن عمر، كما وقع في المشكاة وجامع الأصول.

(7/451)


(باب القصد) بفتح القاف وسكون الصاد المهملة، هو سلوك الطريق المعتدلة والتوسط بين الإفراط والتفريط: والمراد باب استحباب ذلك، وأصل القصد الاستقامة في الطريق، كقوله تعالى: ?وعلى الله قصد السبيل? [16: 9] ?ومنها جائر? أي على الله بيان الطريق المستقيم، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف. والمعنى على الله بيان السبيل القصد وهو الإسلام، والقصد مصدر يوصف به فهو بمعنى قاصد، يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه، ثم استعير للتوسط في الأمور. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: القصد القصد. رواه البخاري في حديث طويل، والمعنى ألزموا الطريق الوسط المعتدل. ومنه قوله في حديث جابر عند ابن ماجه: أيها الناس عليكم القصد عليكم القصد، أي من الأمور في القول والفعل والتوسط بين طريق الإفراط والتفريط. ومنه قوله في حديث جابر عند مسلم: كانت خطبته قصدا، أي لا طويلة ولا قصيرة. ومنه قوله: عليكم هديا قاصدا الخ. أخرجه أحمد والحاكم من حديث بريدة، والمعنى طريقا معتدلا. ومنه قوله: ما عال من اقتصد. أخرجه أحمد عن ابن مسعود أي ما افتقر من لا يسرف في الإنفاق ولا يقتر. (في العمل) أي الصالح. وقال القاري: أي عمل النوافل.
?الفصل الأول?
1249-(1) عن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر من الشهر حتى يظن أن لا يصوم منه شيئا،
ويصوم حتى يظن أن لا يفطر منه شيئا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته،
ولا نائما إلا رأيته)). رواه البخاري.
1250-(2) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أحب الأعمال إلى الله أدومها

(7/452)


1249- قوله: (يفطر من الشهر) أي أياما كثيرة. وقيل: أي يكثر الفطر في الشهر. (حتى نظن) بنون الجمع التي للمتكلم وبالياء التحتانية على البناء للمجهول، ويجوز بالمثناة الفوقية التي للمخاطب مبنيا للفاعل، قال الحافظ: ويؤيده قوله بعد ذلك: إلا رأيته، فإنه روى بالضم والفتح معا. (أن لا يصوم) بفتح الهمزة، ويجوز في يصوم النصب على كون أن مصدرية، والرفع على كونها مخففة من الثقيلة، فيوافق ما في رواية أنه. (منه) أي من الشهر. (شيئا) يعني يكثر الفطر في الشهر حتى نظن أنه لا يريد أن يصوم منه شيئا ثم يصوم باقية. (ويصوم) أي ويكثر الصوم في الشهر. (حتى نظن) بالوجوه الثلاثة. (أن لا يفطر) بالإعرابين. (منه) أي من الشهر. (شيئا) أي ثم يفطر باقية. (وكان) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي الشمائل: كنت. (لا تشاء) قال المظهر: لا بمعنى ليس، أو بمعنى لم، أي لست تشاء، أو لم تكن تشاء، أو لا زمان تشاء، أو لا من زمان تشاء. (أن تراه) أي رؤيته فيه. (من الليل مصليا إلا رأيته) أي مصليا (ولا) تشاء أن تراه من الليل. (نائما إلا رأيته) أي نائما. قال الطيبي: هذا التركيب من باب الاستثناء على البدل، وتقديره على الإثبات أن يقال: إن تشاء رؤيته متهجدا رأيته متهجدا، وإن تشاء رؤيته نائما رأيته نائما، أي كان أمره قصدا لا إسراف فيه ولا تقصير، ينام في وقت النوم وهو أول الليل، ويتهجد في وقته وهو آخره. وعلى هذا حكاية الصوم ويشهد له حديث ثلاثة رهط على ما روى أنس قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال الآخر: أصوم النهار أبدا ولا أفطر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأصلي وأنام وأصوم وافطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني- انتهى. وفي رواية للبخاري: قال حميد: سألت أنسا عن صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما إلا رأيته ولا مفطرا إلا رأيته ولا من الليل قائما إلا

(7/453)


رأيته ولا نائما إلا رأيته– الحديث. يعني أنه كان يصوم ويفطر ولا يصوم الشهر كله، وكذا كان يصلي وينام ولا يصلي الليل كله، فكان عمله التوسط بين الإفراط والتفريط، وهذا هو المراد من القصد في العمل. (رواه البخاري) في قيام الليل، وفي الصوم. وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والترمذي في الشمائل والبيهقي (ج3 ص17).
1250- قوله: (أحب الأعمال إلى الله أدومها) خرج هذا جواب سؤال، ففي رواية للشيخين قالت،
وإن قل)). متفق عليه.
1251- (3) وعنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا من الأعمال

(7/454)


أي عائشة: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومه. قال ابن العربي: معنى المحبة من الله تعلق الإرادة بالثواب أي أكثر الأعمال ثوابا أدومها. (وإن قل) أي ولو قل العمل، والحاصل أن العمل القليل مع المداومة والمواظبة خير من العمل الكثير مع ترك المراعاة والمحافظة؛ لأن العمل القليل يصل إلى الأكثر من الكثير الذي يفعل مرة أو مرتين ثم يترك ويترك العزم على العمل الصالح مما يثاب عليه، وأيضا أن العمل الذي يداوم عليه هو المشروع، وأن ما توغل فيه بعنف ثم قطع فإنه غير مشروع، قاله الباجي. قال النووي: في الحديث الحث على المداومة على العمل، وإن قليلة الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان كذلك؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى، بخلاف الكثير المنقطع، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة. وقال ابن الجوزي: إنما أحب الدائم لمعنيين: أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، وهو متعرض للذم، ولذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه. والثاني: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتا ما كمن لازم يوما كاملا ثم انقطع- انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب القصد والمداومة على العمل من كتاب الرقاق. ومسلم في الصلاة. وأخرجه أيضا مالك والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص485) بألفاظ متقاربة. قال في الأزهار: هذا الحديث من إفراد مسلم. قال الأبهري: لعل المصنف جعله متفقا عليه، لما روى البخاري عن مسروق قال: سألت عائشة أي الأعمال أحب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟: قالت: الدائم- انتهى. فتكون رواية البخاري نحو رواية مسلم في المعنى، ويكون الحديث متفق عليه بتفاوت يسير في اللفظ، والمصنف قد لا يلتفت إليه. قلت الحديث بهذا السياق

(7/455)


موجود في البخاري، فقد روي من طريق أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سددوا وقاربوا- الحديث، وفيه: أن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل. وفي رواية: قالت: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومه وإن قل. وقال أكلفوا من الأعمال ما تطيقون.
1251- قوله: (خذوا من الأعمال) أي من أعمال البر صلاة وغيرها، وحمله الباجي وغيره على الصلاة خاصة؛ لأن الحديث ورد فيها. لما روى مسلم عن عائشة أن الحولاء بنت تويت مرت بها وعندها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل. وفي رواية: لا تنام تصلي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تنام الليل خذوا من العمل الخ. وحمله على جميع العبادات أولى؛ لأن العبرة لعموم اللفظ. وقال عياض: يحتمل أن يكون هذا خاصا بصلاة الليل، ويحتمل أن
ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا))

(7/456)


يكون عاما في الأعمال الشرعية. قال الحافظ: سبب وروده خاص بالصلاة، ولكن اللفظ عام، وهو المعتبر وعدل عن خطاب النساء إلى الرجال تعميما للحكم، فغلب الذكور على الإناث في الذكر. (ما تطيقون) أي الذي تطيقون المداومة عليه، وحذف العائد للعلم به. قال الحافظ: أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقة يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق. (فإن الله لا يمل حتى تملوا) بفتح الميم فيها. قال البيضاوي: الملال فتور يعرض للنفس من كثرة مزاولة شيء، فيوجب الكلال في الفعل والإعراض عنه، وأمثال ذلك على الحقيقة إنما تصدق في حق من يعتريه التغير والإنكسار، فأما من تنزه عن ذلك فيستحيل تصور هذا المعنى في حقه، فإذا أسند إليه أول بما هو منتهاه وغايته كإسناد الحياء وغيره إلى الله تعالى، فالمعنى والله أعلم، اعملوا حسب وسعكم وطاقتكم فإن الله لا يعرض عنكم إعراض الملول عن الشيء، ولا ينقص ثواب أعمالكم ما بقي لكم نشاط، فإذا فترتم فاقعدوا فإنكم إذا مللتم عن العبادة وأتيتم بها على وجه كلال وفتور، كان معاملة الله معكم حينئذ معاملة ملول عنكم. وقال التوربشتي: إسناد الملال إلى الله تعالى على طريقة المشاكلة والإزدواج، وهو أن تكون إحدى اللفظتين موافقة للأخرى وإن خالفتها معنى، والعرب تفعل ذلك إذا جعلو ما جوابا وجزاء لها، وإن كانت مخالفة في المعنى، فمعنى الحديث لا يقطع ثواب عملكم حتى تتركوا العمل ملالا وسأمة من كثرته وثقله فعبر عن ترك الإثابة وقطع الجزاء بالملال؛ لأنه بحذائه وجواب له فهو لفظ خرج على مثال لفظ كقول الله تعالى: ?وجزاء سيئة سيئة مثلها? [42: 40] ومنه قول عمرو بن أبي كلثوم التغلبي: ألا لا يجهلن أحد علينا- فنجهل فوق جهل الجاهلينا. ومن المستبعد أن يفتخر ذو عقل بجهل، وإنما فنجازية لجهله ونعاقبه على سوء صنيعة. والحاصل أنه أطلق لفظ الملال على الله

(7/457)


على جهة المقابلة اللفظية مجازا. قال القرطبي: وجه مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالا عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببة. وقال الهروي: معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله، فتزهدوا في الرغبة إليه. وقيل: معناه لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم، وهذا كله بناء على أن حتى على بابها في انتهاء الغاية وما يترتب عليها من المفهوم. وجنح بعضهم إلى تأويلها، فقيل: معناه لا يمل الله إذا مللتم أو لا يمل أبدا وإن مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب، ومنه قولهم في البليغ لا ينقطع حتى تنقطع خصومه، أي لا ينقطع بعد انقطاع خصومه، بل يكون على ما كان عليه قبل ذلك، فإنه لو انقطع حين ينقطعون لم يكن له عليهم مزية. وقيل: إن "حتى" بمعنى الواو فيكون التقدير لا يمل وأنتم تملون، فنفي عنه الملل وأثبته لهم. وقيل: حتى بمعنى حين لا يمل حين تملون. قال الحافظ: كونه على طريق المشاكلة والإزدواج أولى وأجرى على القواعد، وأنه من باب المقابلة اللفظية، ويؤيده ما وقع في بعض طرق حديث عائشة: فإن الله لا يمل من
متفق عليه.
1252-(4) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليصل أحدكم نشاطه، وإذا فتر فليقعد)).
متفق عليه.
1253-(5) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا نعس أحدكم
الثواب حتى تملوا من العمل، لكن في سنده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. وأخذ بظاهر الحديث جماعة من الأئمة فقالوا: يكره قيام جميع الليل، وبه قال مالك مرة ثم رجع عنه، وقال: لا بأس به ما لم يضر بالصلاة الصبح، فإن كان يأتي وهو ناعس فلا يفعل، وإن كان إنما يدركه كسل وفتور فلا بأس به. وكذا قال الشافعي: لا أكرهه إلا لمن خشي أن يضر بصلاة الصبح، قاله الزرقاني. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وآخره أيضا مالك وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص17).

(7/458)


1252- قوله: (ليصل) بكسر اللام. (نشاطه) بفتح النون أي قدر نشاطه أو مدة نشاطه وزمان انبساطه، فنصبه على الظرفية، أو صلاته التي ينشط لها. (فإذا فتر) بفتح التاء المثناة فوق، أي ضعف وكسل في أثناء القيام. (فليقعد) أي ويتم صلاته قاعدا، أو إذا فتر بعد فراغ بعض التسليمات فليقعد لإيقاع ما بقي من نوافله قاعدا، أو إذا فتر بعد انقضاء البعض فليترك بقية النوافل جملة إلى أن يحدث له نشاط، أو إذا فتر بعد الدخول فيها فليقطعها، خلافا للمالكية حيث منعوا من قطع النافلة بعد التلبس بها، ذكره القسطلاني. والحديث طرف من حديث طويل. أخرجه الشيخان وغيرهما، ذكر في أوله سبب هذا القول وهو أنه قال أنس: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فإذا حبل ممدود بين ساريتين أي من سواري المسجد فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا هذا حبل لزينب أي ابنة جحش أم المؤمنين، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأحلوه أحدكم الخ. قال الحافظ: والحديث فيه الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق فيها والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وفيه إزالة المنكر باليد واللسان، وجواز تنفل النساء في المسجد، واستدل به على كراهة التعلق في الحبل في الصلاة- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص18).
1253- قوله: (إذا نعس) بفتح العين من بابي فتح ونصر. (أحدكم) أي أخذته فترة في حواسه، فقارب النوم والنعاس بضم العين فترة في الحواس أو مقاربة النوم أو الوسن، وأول النوم وهي ريح لطيفة تأتي من قبل الدماغ تغطي العين ولا تصل إلى القلب، فإذا وصلته كان نوما، وفي العين والمحكم النعاس النوم. وقيل: مقاربته. قال الحافظ: المشهور التفرقة بينهم،ا وإن من قرت حواسه بحيث يسمع كلام جليسه ولا يفهم معناه، فهو ناعس، وإن زاد على
وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله
يستغفر فيسب نفسه)).

(7/459)


ذلك فهو نائم. ومن علامات النوم الرؤيا طالت أو قصرت. (وهو يصلي) جملة اسمية في موضع الحال. وفي رواية أبي داود: وهو في الصلاة. قيل المراد في صلاة الليل؛ لأنها محل النوم غالبا، وهذا عند مالك وجماعة. وقال النووي: الجمهور على عمومها الفرض والنفل ليلا أو نهارا لكن لا يخرج فريضة عن وقتها. (فليرقد) بضم القاف من باب نصر أي فلينم احتياطا؛ لأنه علل بأمر محتمل، كما سيأتي، والأمر للندب، قاله الزرقاني. وفي حديث أنس عند البخاري: فلينم. وعند محمد بن نصر في قيام الليل: فلينصرف فليرقد. وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره: إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول فليضطجع. وفي رواية عائشة عند النسائي: فلينصرف أي بعد أن يتم صلاته مع تخفيف، لا أنه يقطع الصلاة بمجرد النعاس، خلافا للمهلب حيث حمله على ظاهره، فقال إنما أمر بقطع الصلاة لغلبة النوم، فدل على أنه إذا كان نعاس أقل من ذلك عفي عنه- انتهى. وقد تقدم أن هذا الحديث حمله مالك وطائفة على نفل الليل خلافا للجمهور. قال المهلب: إنما هذا في صلاة الليل؛ لأن الفريضة ليست في أوقات النوم، ولا فيها من التطويل ما يوجب ذلك- انتهى. قال الحافظ: قد قدمنا أن الحديث جاء على سبب، لكن العبرة بعموم اللفظ، فيعمل به أيضا في الفرائض ما أمن بقاء الوقت- انتهى. قلت: أشار الحافظ بقوله قدمنا أنه جاء على سبب إلى ما روى محمد بن نصر في قيام الليل (ص77) عن عائشة قالت: مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحولاء بنت تويت فقيل له: يا رسول الله إنها تصلي بالليل صلاة كثيرة، فإذا غلبها النوم ارتبطت بحبل فتعلقت به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل تصلي ما قويت على الصلاة فإذا نعست فلتنم. (حتى يذهب عنه النوم) أي ثقله فالنعاس سبب للأمر بالنوم. (فإن أحدكم) علة للرقاد وترك الصلاة. (إذا صلى وهو ناعس) جملة حالية يريد أنه إذا صلى في حال غلبة

(7/460)


النوم. (لا يدري) أي ما يفعل فحذف المفعول للعلم به واستأنف بيانا قوله (لعله يستغفر) بالرفع يريد أن يدعو ويستغفر لنفسه. (فيسب نفسه) أي يدعو عليها، وقد صرح به النسائي في روايته: والمعنى يريد ويقصد أن يستغفر له فيسب نفسه، أي يدعو عليها من حيث لا يدري، مثلا يريد أن يقول اللهم اغفر لي فيقول اللهم اعفر لي، والعفر هو التراب فيكون دعاء عليه بالذل والهوان، وهو تمثيل وإلا فلا يشترط التصحيف. وقوله: فيسب بالنصب جوابا للعل، والرفع عطفا على يستغفر، وجعل ابن أبي جمرة علة النهي خشية أن يوافق ساعة للإجابة. قال القسطلاني: والترجي في لعل عائد إلى المصلي لا إلى المتكلم به، أي لا يدري أمستغفر أم ساب مترجيا للاستغفار، وهو في الواقع بضد ذلك، وغاير بين لفظي النعاس في الأول نعس بلفظ الماضي، وهنا بلفظ اسم الفاعل تنبيها على أنه لا يكفي تجدد أدنى نعاس وتقضيه في الحال، بل لا بد من ثبوته
متفق عليه.
1254-(6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد

(7/461)


بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول وعدم علمه بما يقرأ- انتهى. وقال الطيبي: الفاء في "فيسب" للسببية كاللام في قوله تعالى: ?فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا? [28: 8]. قال المالكي: يجوز في "فيسب" الرفع باعتبار عطف الفعل على الفعل، والنصب باعتبار جعل فيسب جوابا للعل، فإنها مثل ليت في اقتضائها جوابا منصوبا، ونظيره قوله تعالى: ?لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى? [80: 4] نصبه عاصم ورفعه الباقون- انتهى كلامه. قال الطيبي: النصب أولى لما مر، ولأن المعنى لعله يطلب من الله لذنبه الغفران ليصير مزكي فيتكلم بما يجلب الذنب فيزيد العصيان، فكأنه سب نفسه- انتهى. والحديث يدل على أن النعاس لا ينقض الوضوء، إذ لو كان ناقضا الوضوء لما منع الشارع عن الصلاة بخشية أن يدعو على نفسه، بل وجب أن يذكر الشارع أنه لا تصح صلاته مع النعاس، أو نحوه؛ لانتقاض وضوءه، وفيه الحث على الإقبال على الصلاة بخشوع وفراغ قلب ونشاط، وفيه أمر الناعس بالنوم أو نحوه مما يذهب عنه النعاس، وفيه اجتناب المكروهات في الطاعات، وجواز الدعاء في الصلاة من غير تقييد بشيء معين. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص16).

(7/462)


1254- قوله: (إن الدين) وفي رواية النسائي: إن هذا الدين أي دين الإسلام. (يسر) بضم الياء التحتية وسكون السين أي مبني على اليسر والسهولة، فلا تشددوا على أنفسكم على دأب الرهبانية، وقيل: يسر مصدر وضع موضع المفعول مبالغة، ذكره الطيبي. وقال القسطلاني: أي ذو يسر، وذلك لأن الإلتئام بين الموضوع والمحمول شرط، وفي مثل هذا لا يكون إلا بالتأويل، أو هو اليسر نفسه، كقول بعضهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه عين الرحمة مستدلا بقوله تعالى: ?وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين? [21: 107] كأنه لكثرة الرحمة المودعة فيه صار نفسها، والتأكيد بأن فيه رد على منكر يسر هذا الدين، فإما أن يكون المخاطب به منكرا أو على تقدير تنزيله منزلته أو على تقدير المنكرين غير المخاطبين، أو لكون القصة مما يهتم بها. قال تعالى: ?ما جعل عليكم في الدين من حرج? [22: 78]. وقال: ?يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر? [2: 185]. وسماه يسرا بالنسبة إلى ذاته أو بالنسبة إلى سائر الأديان؛ لأن الله تعالى رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم. ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم. (ولن يشاد الدين أحد) بضم الياء وتشديد الدال للمغالبة من الشدة، وهو منصوب بلن. والدين منصوب على المفعولية، وأصله لا يقاوم
إلا غلبة، فسددوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)).

(7/463)


الدين ولا يقابله أحد بالشدة ولا يجزى بين الدين وبينه معاملة بأن يشدد كل منهما على صاحبه (إلا غلبة) الدين ويعجزه عن العمل، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز. وانقطع عن عمله كله أو بعضه فيغلب. والمقصود أنه لا يفرط أحد فيه ولا يخرج عن حد الاعتدال. قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع أي منفرد ومتعمق في الدين ينقطع، وليس المراد منه منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلي طول الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس، فخرج وقت الفريضة. وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: لن تنالوا هذا الأمر بالمبالغة وخير دينكم اليسرة. وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع، كمن يترك التيم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر. (فسددوا) بالمهملة من السداد، وهو القصد والتوسط في العمل، أي ألزموا السداد أي الصواب من غير إفراط ولا تفريط. (وقاربوا) في العبادة وهو بالموحدة أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه. قال الطيبي: الفاء جواب شرط محذوف يعني إذا بينت لكم ما في المشادة من الوهن فسددوا أي أطلبوا السداد، وهو القصد المستقيم الذي لا ميل فيه وقاربوا تأكيد للتسديد من حيث المعنى. يقال: قارب فلان في أموره إذا اقتصد. (وأبشروا) بقطع الهمزة من الإبشار. وفي لغة: بضم الشين من البشرى بمعنى الإبشار أي أبشروا بالثواب الجزيل على العمل الدائم وإن قل. والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعة لا يستلزم نقص

(7/464)


أجره، وأبهم المبشر به تعظيما له وتفخيما. (واستعينوا) على المداومة العبادة من بين الأوقات. (بالغدوة) بفتح أوله وضمه وسكون الثانية سير أول النهار إلى الزوال، أو ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. وقال الطيبي: الغدوة بالضم ما بين صلاة الغدوة إلى طلوع الشمس، وبالفتح المرة من الغدو وهو سير أول النهار، نقيض الرواح. (والروحة) بالفتح اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل. وقيل: السير بعد الزوال. (وشيء) أي واستعينوا بشيء ولو قليل، وفي تنكير شيء الدال على القلة إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يترك القيام بالليل ولو يسيرا، فإن الإكثار فيه يتعب الجسد ويضر بالمزاج. (من الدلجة) بضم أوله وفتحه وإسكان اللام، سير آخر الليل. وقيل: سير الليل كله، ولهذا عبر فيه بالتبعيض، ولأن عمل الليل أشق من عمل النهار. وهذه الأوقات الثلاثة أطيب أوقات المسافر. والمعنى استيعنوا على مدوامة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة، وفيه تشبه للسفر إلى الله تعالى بالسفر الحسي،
رواه البخاري.
1255-(7) وعن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام عن حزبه أو عن شيء منه، فقرأه فيما
بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل)).

(7/465)


ومعلوم أن المسافر إذا استمر على السير انقطع وعجز وإذا أخذ الأوقات المنشطة نال المقصد بالمداومة. قال القسطلاني: في هذا استعارة الغدوة والروحة وشيء من الدلجة لأوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، فإن هذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - خاطب مسافرا إلى مقصده، فنبهه على أوقات نشاطه فإن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة، وحسن هذه الاستعارة إن الدنيا في الحقيقة دار نقله إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة. (رواه البخاري) في كتاب الإيمان. وأخرجه أيضا النسائي فيه وأحمد وابن حبان والبيهقي (ج3 ص18) كلهم من طريق عمر بن علي المقدمي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة وعمر بن علي، هذا بصري ثقة لكنه مدلس شديد التدليس، وصفه بذلك ابن سعد وغيره. وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، وصححه وإن كان من رواية مدلس بالعنعنة لتصريحة فيه بالسماع من طريق أخرى، فقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أحمد بن المقدام أحد شيوخ البخاري عن عمر بن علي المذكور قال: سمعت معن بن محمد، فذكره، وهو من أفراد معن بن محمد، وهو ثقة قليل الحديث، لكن تابعه على شقه الثاني ابن أبي ذئب عن سعيد. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق بمعناه، ولفظه: سددوا وقاربوا وزاد في آخره: والقصد القصد تبلغوا، ولم يذكر شقه الأول. ومن شواهد حديث عروة الفقيمي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن دين الله يسر. ومنها حديث بريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عليكم هديا قاصدا، فإنه من يشاد الدين يغلبه. رواهما أحمد وإسناد كل منهما حسن، كذا في الفتح.

(7/466)


1255- قوله: (من نام عن حزبه) بكسر الحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة وبالموحدة، هو ما يجعله الإنسان وظيفة له من صلاة أو قراءة أو غيرهما. وقال السيوطي: الحزب هو الجزء من القرآن يصلي به. وقال العراقي: هل المراد به صلاة الليل أو قراءة القرآن في صلاة أو غير صلاة، يحتمل كلا من الأمرين- انتهى. والمعنى من فاته ورده كله في الليل لغلبة النوم. والحمل على الليل بقرينة النوم ويشهد له آخر الحديث، وهو قوله: ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، ويؤيده قوله في رواية النسائي: من نام عن حزبه أو قال: عن جزءه من الليل. (أو عن شيء منه) أي من حزبه أي فاته بعض ورده. (كتب له) جواب الشرط. (كأنما قرأه من الليل) صفة
رواه مسلم.
1256-(8) وعن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صل

(7/467)


مصدر محذوف أي أثبت أجره في صحيفة عمله إثباتا مثل إثباته حين قرأه من الليل. وقوله: كتب له الخ. قال القرطبي: هذا تفضل من الله تعالى، وهذه الفضيلة إنما تحصل لمن غلبه نوم أو عذر منعه من القيام مع أن نيته القيام، وظاهره أن له أجره مكملا مضاعفا، وذلك لحسن نيته وصدق تلهفه وتأسفه، وهو قول بعض شيوخنا. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون غير مضاعف إذا التي يصليها أكمل وأفضل، والظاهر هو الأول، قلت: بل هو المتعين وإلا فأصل الأجر يكتب بالنية. قال الشوكاني: الحديث يدل على مشروعية اتخاذ ورد في الليل، وعلى مشروعية قضاءه إذا قات لنوم أو عذر من الأعذار، وأن من فعله ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر كان كمن فعله في الليل. وقد ثبت من حديث عائشة عند مسلم والترمذي وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا منعه من قيام الليل نوم أو وضع صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة، وفيه استحباب قضاء التهجد إذا فاته من الليل- انتهى. وفي الحديث إشارة إلى قوله تعالى: ?وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا? [25: 62] قال الفاضي: أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخر- انتهى. وهو منقول عن كثير من السلف كابن عباس وقتادة والحسن وسلمان، كما ذكره السيوطي في الدر، فتخصيصه بما قبل الزوال مع شمول الآية النهار بالكمال إشارة إلى المبادرة بقضاء الفوت قبل إتيان الموت، أو لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وأخرجه مالك موقوفا على عمر من قوله، والبيهقي مرفوعا وموقوفا (ج2 ص485). والحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم، وزعم أنه معلل بأن جماعة رووه هكذا مرفوعا وجماعة رووه موقوفا. قال النووي: وهذا التعليل فاسد. والحديث صحيح، وإسناده صحيح أيضا، لما بينا أن الصحيح، بل الصواب الذي

(7/468)


عليه الفقهاء والأصوليون ومحققوا المحدثين إذا روى الحديث مرفوعا وموقوفا أو موصولا ومرسلا حكم بالرفع والوصل؛ لأنها زيادة ثقة. وسواء كان الرافع والواصل أكثر أو أقل في الحفظ والعدد.
1256- قوله: (وعن عمران بن حصين) مصغرا (صل) أي الفرض، والحديث خرج جوابا عن سؤال، كما يدل عليه أوله قال عمران بن حصين: كانت بي بواسير فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فقال: صل قائما. والبواسير جمع باسور، يقال بالموحدة وبالنون، والذي بالموحدة ورم في باطن المقعدة. وقيل: علة في المقعدة يسببها تمدد عروق المقعدة، ويحدث فيها نزف دم. وقيل: هو في عرف الأطباء نفاطات تحدث على نفس المقعدة ينزل منها كل وقت مادة، والذي بالنون قرحة فاسدة في البدن لا تقبل البرأ ما دام فيها ذلك الفساد.
قائما، فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنب)).

(7/469)


والمراد بقوله عن الصلاة أي عن صلاة المريض بدليل قوله: كانت بي بواسير. وفي رواية الترمذي: سألت عن صلاة المريض. (قائما) هذا صريح في وجوب القيام في الفرض في حق المستطيع، إذ السؤال كان فيه دون النوافل، فراكب السفينة يجب له القيام إن استطاعه كما عليه الجمهور. ومن يجوز القعود له يجعل مظنة عدم الاستطاعة بمنزلة عدم الاستطاعة. (فإن لم تستطع) أي القيام. (فقاعدا) أي فصل حال كونك قاعدا، واستدل به من قال: لا ينتقل المريض إلى القعود إلا بعد عدم القدرة على القيام. وقد حكاه عياض عن الشافعي، وعن مالك وأحمد وإسحاق: لا يشترط العدم بل وجود المشقة، ويدل لذلك حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يصلي المريض قائما، فإن نالته مشقة صلى جالسا، فإن نالته مشقة صلى نائما يؤمئ برأسه. أخرجه الطبراني في الأوسط. وقال: لم يروه عن ابن جريج إلا حلس بن محمد الضبعي. قال الهيثمي: ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات- انتهى. قال الحافظ: والمعروف عند الشافعية أن المراد بنفي الاستطاعة وجود المشقة الشديدة بالقيام أو خوف زيادة المرض أو الهلاك، ولا يكتفي بأدنى مشقة، ومن المشقة الشديدة دوران الرأس في حق راكب السفينة، وخوف الغرق لو صلى قائما فيها. قلت: ويدل لذلك حديث جعفر بن أبي طالب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يصلي في السفينة قائما إلا أن يخشى الغرق. أخرجه البزار، وفيه رجل لم يسم، وبقية رجاله ثقات، وسنده متصل، قاله الهيثمي. قال الحافظ: ولم يبين كيفية القعود، فيؤخذ من إطلاق قوله: فقاعدا أنه يجوز أن يكون القعود على أي صفة شاء المصلي، وهو مقتضى كلام الشافعي في البويطي. وقد اختلف في الأفضل: فعن الأئمة الثلاثة: يصلي متربعا واضعا ليديه على ركبتيه. وقيل: يجلس مفترشا، وهو موافق لقول الشافعي في مختصر المزني. وصححه الرافعي ومن تبعه. وقيل: متوركا. في كل منها أحاديث- انتهى. (فإن لم تستطع) أي

(7/470)


القعود للمشقة. (فعلى جنب) أي فصل على جنبك. قال المجد بن تيمية في المنتقى: وزاد النسائي فإن لم تستطع فمستلقيا، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها- انتهى. والمراد الجنب الأيمن متوجها إلى القبلة، ففي حديث علي عند الدارقطني مرفوعا بإسناد ضعيف: يصلي المريض قائما إن استطاع، فإن لم يستطع صلى قاعدا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ برأسه، وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستقليا رجلاه مما يلي القبلة، وهو حجة للجمهور في الانتقال من القعود إلى الصلاة على الجنب الأيمن قالوا: ويكون كتوجه الميت في القبر. وعن الحنفية وبعض الشافعية يستلقي على ظهره، ويجعل رجليه إلى القبلة، وحديثا عمران وعلى يردان عليهم؛ لأن الشارع قدم فيهما الصلاة على الجنب على الاستلقاء، وصرح بأن حالة الاستلقاء تكون عند العجز عن حالة الاضطجاع. قال ابن الهمام: لا ينتهض حديث عمران حجة على العموم، فإنه خطاب له، وكان مرضه البواسير وهو يمنع الاستلقاء، فلا يكون خطابه خطابا للأمة- انتهى. قلت:
رواه البخاري.
1257-(9) وعنه، ((أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل قاعدا، قال: إن صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد)).

(7/471)


يرد عليه حديث على المذكور، فإنه خرج على وجه بيان الحكم لكل مريض من غير تخصيص برجل دون رجل ومرض دون مرض. واستدل بقوله: فإن لم تستطع فمستلقيا على أنه لا ينتقل المريض بعد عجزه عن الاستلقاء إلى حالة أخرى، كإشارة بالرأس ثم الإيماء بالطرف ثم إجراء القرآن والذكر على اللسان ثم على القلب؛ لكون جميع ذلك لم يذكر في الحديث، وهو قول الحنفية والمالكية وبعض الشافعية. وقال بعض الشافعية بالترتيب المذكور. لما كانت القدرة شرطا في الفرض وسقط بالضرر، ففي النفل أولى، ففيه تنبيه على نوع مناسبة للباب. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود وابن ماجه وغيرهم.

(7/472)


1257- قوله: (وعنه) أي عمران بن حصين وهذا حديث آخر لعمران غير الحديث المتقدم، لا أنهما روايتان في حديث واحد، كما توهم بعضهم، وهما حديثان صحيحان، وكل منها مشتمل على حكم غير الحكم الذي اشتمل عليه الآخر. (أنه سأل) أي عمران. (النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل) حال كونه. (قاعدا) سؤال عمران عن الرجل خرج مخرج الغالب. فلا مفهوم له، بل الرجل والمرأة في ذلك سواء، والنساء شقائق الرجال. (قال) وفي البخاري: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -. (إن صلى) حال كونه. (قائما فهو أفضل) قال الخطابي: إنما هو في التطوع دون الفرض؛ لأن الفرض لا جواز له قاعدا والمصلي يقدر على القيام، وإذا لم يكن له جواز لم يكن لشيء من الأجر ثبات- انتهى. وقال الحافظ: حكى ابن التين وغيره عن أبي عبيد وابن الماجشون وإسماعيل القاضي وابن شعبان والإسماعيلي والداودي وغيرهم: أنهم حملوا حديث عمران على المتنفل، وكذا نقله الترمذي عن الثوري، قال: وأما المعذور إذا صلى جالسا، فله مثل أجر القائم. وقد روي في بعض الحديث مثل قول سفيان الثوري يشير إلى ما أخرجه البخاري من حديث أبي موسى رفعه: إذا مرض العبد أو سافر كتب له صالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، ولهذا الحديث شواهد كثيرة. (ومن صلى) أي نفلا حال كونه. (قاعدا) أي بغير عذر. (فله نصف أجر القائم) قال النووي في الخلاصة: قال العلماء هذا صلاة في النافلة أي مع القدرة على القيام. وأما الفرض فلا يجوز القعود فيه مع القدرة على القيام بالإجماع، فإن عجز لم ينقص ثوابه- انتهى. (ومن صلى) حال كونه (نائما) أي مضطجعا على هيئة النائم مع القدرة على القيام والقعود. (فله نصف أجر القاعد) يستثني من عمومه النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن صلاته قاعدا لا ينقص أجرها عن صلاته قائما؛ لحديث عبدالله بن عمرو الآتي في الفصل

(7/473)


الثالث وقد عد الشافعية هذه المسألة من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. والحديث يدل على أن يتطوع مضطجعا على الجنب لغير عذر، أي مع القدرة على القيام والقعود. قال ابن حجر: فيه أبلغ حجة على من حرم الاضطجاع في صلاة النفل مع القدرة على القعود. وقال الطيبي: وهل يجوز أن يصلي التطوع نائما مع القدرة على القيام أو القعود، فذهب بعض إلى أنه لا يجوز، وذهب قوم إلى جوازه، وأجره نصف القاعد، وهو قول الحسن، وهو الأصح والأولى لثبوته في السنة- انتهى. قلت: اختلف شراح الحديث في هذا الحديث هل هو محمول على التطوع أو على الفرض في حق غير القادر؟ فحمله الجمهور على المتطوع القادر كما تقدم، وحمله آخرون، ومنهم: الخطابي على المفترض الذي يمكنه أن يتحامل، فيقوم مع مشقة وزيادة ألم فجعل أجره على النصف من أجر القائم ترغيبا له في القيام لزيادة الأجر وإن كان يجوز قاعدا، وكذا في الاضطجاع. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص225): أما قوله صلاته نائما على النصف من صلاته قاعدا فإني لا أعلم أني سمعته إلا في هذا الحديث، ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائما، كما رخصوا فيها قاعدا، فإن صحت هذه اللفظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن من كلام بعض الرواة أدرجه في الحديث وقاسه على صلاة القاعد أو اعتبره بصلاة المريض نائما إذا لم يقدر على القعود، فإن التطوع مضطجعا للقادر على القعود جائز، كما يجوز أيضا للمسافر إذا تطوع على راحلته، فأما من جهة القياس، فلا يجوز له أن يصلي مضطجعا، كما يجوز له أن يصلي قاعدا؛ لأن القعود شكل من أشكال الصلاة، وليس الاضطجاع في شيء من أشكال الصلاة- انتهى. وقد لخص الحافظ في الفتح كلام الخطابي، ثم نقل عنه أنه قال: وقد رأيت الآن أن المراد بحديث عمران المريض المفترض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم مع مشقة، فجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم ترغيبا له في القيام مع جوازه

(7/474)


قعوده- انتهى. قال الحافظ: وهو حمل متجه قال: فمن صلى فرضا قاعدا وكان يشق عليه القيام أجزأه، وكان هو ومن صلى قائما سواء. فلو تحامل هذا المعذور وتكلف القيام ولو شق عليه كان أفضل لمزيد أجر تكلف القيام، فلا يمتنع أن يكون أجره على ذلك نظير أجره على أصل الصلاة، فيصح أن أجر القاعد على النصف من أجر القائم. ومن صلى النفل قاعدا مع القدرة على القيام أجزأه، وكان أجره على النصف من أجر القائم بغير إشكال، قال: ولا يلزم من اقتصار العلماء في حمل الحديث على صلاة النافلة أن لا تراد الصورة التي ذكرها الخطابي. وقد ورد في الحديث ما يشهد لها، فعند أحمد من طريق ابن جريج عن ابن شهاب عن أنس قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهي محمة فحم الناس، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد والناس يصلون من قعود، فقال: صلاة القاعد نصف صلاة القائم، رجاله ثقات، وعند النسائي متابع له من وجه آخر، وهو وارد في المعذور، فيحمل على من تكلف القيام مع مشقته عليه، كما بحثه الخطابي- انتهى كلام الحافظ مختصرا. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص210) بعد نقل كلام الخطابي ما لفظه: وكل هذا تكلف وتمحل من الخطابي، بناء على زعمه أنه لم يرخص أحد من أهل العلم في
رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
1258-(10) عن أبي أمامة، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أوى إلى فراشه طاهرا، وذكر الله حتى يدركه النعاس، لم يتقلب ساعة من الليل يسأل الله فيها خيرا من خير الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه))

(7/475)


صلاة التطوع نائما، فحاول تأول الحديث ليخرجه عن معناه أو التشكيك في صحة اللفظ في النائم، والحديث حجة على أقوال العلماء، وليست أقوالهم حجة على الحديث، ومع ذلك فإن ما لم يعلمه الخطابي من أقوال العلماء في هذا علمه غيره، فقد نقل الشوكاني عن الحافظ العراقي قال: أما نفي الخطابي وابن بطال للخلاف في صحة التطوع مضطجعا للقادر فمردود، فإن في مذهب الشافعية وجهين: الأصح منهما الصحة. وعند المالكية فيه ثلاثة أوجه: حكاها القاضي عياض في الإكمال. أحدها الجواز مطلقا في الاضطرار، والاختيار للصحيح والمريض بظاهر الحديث، وهو الذي به صدر القاضي كلامه. وقد روى الترمذي بإسناده عن الحسن البصري جوازه، فكيف يدعي مع هذا الخلاف القديم والحديث الإتفاق-انتهى. قلت: الظاهر عندي هو قول الجمهور، فالحديث محمول على المتطوع القادر، والراجح أنه يجوز صلاة التطوع مضطجعا مع القدرة على القيام أو القعود لظاهر الحديث، والله أعلم. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2:ص308-491).

(7/476)


1258- قوله: (من أوى) بالقصر ويمد. (إلى فراشه) أي أتاه لينام، في النهاية. أوى وآوى بمعنى واحد يقال: أويت إلى المنزل وآويت إليه وأويت غيري وآويته. وأنكر بعضهم المقصور المتعدي. وقال الأزهري: هي لغة فصيحة.وقال النووي: إذا أوى إلى فراشه فمقصور. وأما آوانا فممدود. هذا هو الصحيح المشهور الفصيح. وحكى القصر فيهما وحكي المد فيهما، كذا في المرقاة. (طاهرا) أي متوضئا. (وذكر الله) بلسانه أي نوع من الأذكار.ولفظ الترمذي: يذكر الله، وهي جملة حالية. (حتى يدركه النعاس) بضم النون يعني حتى ينام. (لم يتقلب) من التقلب أي من جنب إلى جنب. وقال القاري: أي لم يتردد ذلك الرجل على فراشه، وفي عمل اليوم والليلة لم ينقلب أي من الانقلاب، قيل: المراد من الانقلاب هنا الاستيقاظ والانتباه من النوم. (ساعة) بالنصب أي في ساعة. (يسأل الله) حال من فاعل "يتقلب". (فيها) أي في تلك الساعة. (خيرا) الخير هنا ضد الشر. (من خير الدنيا والآخرة) المراد من الخير الثاني الجنس، والتنوين في الأول للتنكير. (إلا أعطاء إياه). قال الطيبي:
ذكره النووي في كتاب الأذكار برواية ابن سني.
1259- (11) وعن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته، فيقول

(7/477)


هو أيضا حال من يسأل، وجاز لأن الكلام في سياق النفي، يعني لا يكون للسائل حال من الأحوال في أي زمان من الليل إلا كونه معطي إياه، أي ما طلب فلا يخيب. (ذكره النووي) وفي بعض النسخ: النووي، بالألف. (في كتاب الأذكار) (ص75) في باب ما يقوله إذا أراد النوم واضطجع على فراشه. (برواية ابن السني) هو الإمام الحافظ الثقة أبوبكر أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الدينوري، مولى جعفر بن أبي طالب الهاشمي المعروف بابن السني، بضم السين المهملة.وتشديد النون المكسورة. قيل: نسبة إلى العمل بالنسبة، وهو صاحب كتاب عمل اليوم والليلة. وراوي سنن النسائي، سمع النسائي وأبا خليفة الجمعي وزكريا الساجي وغيرهم، وأكثر الترحال. روى عنه خلق كثير كان دينا خيرا صدوقا عاش بضعا وثمانين سنة. قال القاضي: أبوزرعة روح بن محمد سبط ابن السني سمعت عمي علي بن أحمد بن محمد يقول: كان أبي يكتب الحديث، فوضع القلم في أنبوبة المحبرة ورفع يديه يدعوا الله تعالى فمات، وذلك في آخر سنة أربع وستين وثلاث مائة. وروى ابن السني هذا الحديث في آخر عمل اليوم والليلة في باب ما يقول: إذا أخذ مضجعة (ص229) من طريق شهر بن حوشب عن أبي أمامة، ومن هذا الطريق أخرجه الترمذي في الدعوات، وقال: حديث حسن. وقد روي هذا أيضا عن شهر بن حوشب عن أبي ظبية عن عمرو بن عبسة عن النبي - صلى الله عليه وسلم --انتهى. قال المنذري في كتابه عمل اليوم والليلة: صنف العلماء في عمل اليوم والليلة والدعوات كتبا كثيرة، ومن أحسنها للإمام أبي عبدالرحمن النسائي، وأحسن منه لصاحبه الحافظ أحمد بن محمد المعروف بابن السني الدينوري، المتوفى سنة أربع وستين وثلاثمائة، وهو أجمع الكتب في هذا الفن لكنها مطولة قال: فحذفت الأسانيد لضعف همم الطالبين-انتهى. وقد ورد في الباب أحاديث، ذكرها ابن السني والمنذري والهيثمي.

(7/478)


1259- قوله: (عجب ربنا) قيل: العجب روعة تعترى الإنسان عند استعظام الشيء، والعجب لله بمعنى مجرد الاستعظام. قال الطيبي: أي عظم ذلك عنده وكبر لديه. وقيل: عجب ربنا أي رضي وأثاب، والأول أوجه لقوله: أنظروا إلى عبدي على وجه المباهاة-انتهى. (من رجلين) قال القاري: أي رضي واستحسن فعلهما. (رجل) بالجر، بدل، وجوز الرفع، فالتقدير أحدهما أو منهما أو هما رجل. (ثار) أي قام على سرعة بهمة ونشاط ورغبة. (عن وطائه) بكسر الواو أي فراشه اللين. (ولحافه) بكسر اللام أي ثوبه الذي فوقه. قيل: اللحاف كل ما يلتحف به أي يتغطى واللباس الذي فوق ما سواه. (من بين حبه) بكسر الحاء المهملة أي محبوبه. (فيقول
الله لملائكته: أنظروا إلى عبدي، ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته، رغبة فيما عندي، وشفقا مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم مع أصحابه، فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع، رجع حتى هريق دمه، فيقول الله لملائكته: أنظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي، وشفقا مما عندي حتى هريق دمه) رواه في شرح السنة.
?الفصل الثالث?
1260- (12) وعن عبدالله بن عمرو، قال: حدثت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة.

(7/479)


الله لملائكته) أي مباهاة لعبده. (انظروا إلى عبدي) أي نظر الرحمة المترتب عليه الاستغفار له والشفاعة، والإضافة للتشريف، وأي تشريف أو تفكروا في قيامه من مقام الراحة. (رغبة) أي لا رياء وسمعة بل ميلا (فيما عندي) من الجنة والثواب، أو من الرضاء واللقاء يوم المآب. (وشفقا) أي حذرا وخوفا. (مما عندي) من الجحيم وأنواع العذاب، أو من السخط والحجاب. (ورجل) بالوجهين. (غزا في سبيل الله) أي مخلصا لوجه الله. (فانهزم) أي غلب وهرب. (فعلم ما عليه) أي من الإثم أو من العذاب. (في الانهزام) إذا كان بغير عذر له في المقام. (وما له) أي وعلم ما له من الثواب والجزاء. (في الرجوع) أي في الإقبال على محاربة الكفار ولو كانوا أكثر منه في العدد وأقوى عنه في العدد. (فرجع) أي حسبة لله وجاهد. (حتى هريق) أي صب، والهاء يدل من الهمزة. (دمه) يعني قتل واستشهد. والحديث من أدلة استحباب قيام الليل وفضيلته. (رواه) صاحب المصابيح (في شرح السنة) أي بإسناده. وأخرجه أيضا أحمد وأبويعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه. قال العراقي: وإسناده جيد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص255) إسناده حسن، ونقل القاري عن الجزري أنه قال: رواه أحمد بإسناد صحيح، فيه عطاء بن السائب، وروى له الأربعة، والبخاري متابعة، ورواه الطبراني-انتهى.
1260- قوله: (حدثت) بصيغة المجهول أي حدثني ناس من الصحابة (صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة) أي قائما، والمعنى صلاة القاعد لغير عذر فيها نصف ثواب صلاة القائم، فيتضمن صحة صلاة القاعد ونقصان أجرها. قال النووي: هذا الحديث محمول على صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام، فهذا له نصف ثواب القائم. وأما إذا صلى النفل قاعدا لعجزه عن القيام فلا ينقص ثوابه بل يكون كثوابه قائما. وأما الفرض فإن صلاته قاعدا مع القدرة على القيام لم يصح، فلا يكون فيه ثواب بل يأثم وإن صلى الفرض قاعدا لعجزه عن

(7/480)


قال: فأتيته فوجدته يصلي جالسا، فوضعت يدي على رأسه. فقال: ما لك يا عبدالله بن عمرو؟ قلت: حدثت يا رسول الله ! أنك قلت: صلاة الرجل قاعدا على نصف الصلاة، وأنت تصلي قاعدا. قال: أجل، ولكني لست كأحد منكم)) رواه مسلم.
1261- (13) وعن سالم بن أبي الجعد، قال: قال رجل من خزاعة: ليتني صليت فاسترحت،
القيام أو مضطجعا لعجزه عن القيام والقعود فثوابه كثوابه قائما لا ينقص، فيتعين حمل الحديث في تنصيف الثواب على من صلى النفل قاعدا مع قدرته على القيام، هذا تفصيل مذهبنا، وبه قال الجمهور في تفسير هذا الحديث وحكاه عياض عن جماعة، منهم الثوري وابن الماجشون-انتهى مختصرا. (فوضعت يدي) الظاهر أنه فعل ذلك بعد فراغه صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة، إذا ما يظن به ذلك قبله. (على رأسه) أي ليتوجه إليه، وكأنه كان هناك مانع من أن يحضر بين يديه، ومثل هذا لا يسمى خلاف الأدب عند طائفة العرب لعدم تكلفهم وكمال تألفهم، قاله القاري. وقيل: هذا على عادة العرب فيما يعتنون به. وقيل: كان ذلك في عادتهم فيما يستغربونه ويتعجبون منه، كقول المستغرب للشيء المتعجب من وقوعه مع من استغرب منه. ونظيره أن بعض العرب كان ربما لمس لحيته الشريفة عند مفاوضته معه. وقيل: صدر ذلك عنه من غير قصد منه استغرابا وتعجبا. (فقال ما لك) أي ما شأنك وما عرض لك. (على نصف صلاة القائم) أي يقاس صلاة الرجل قاعدا على نصف صلاته قائما في الثواب. (وأنت تصلي قاعدا) أي فكيف اخترت نقصان الأجر مع شدة حرصك على تكثيره!. (قال أجل) أي نعم قد قلت ذلك. (ولكني لست كأحد منكم) أي ذلك الذي ذكرت من أن صلاة الرجل قاعدا على نصف صلاته قائما هو حكم غيري من الأمة فهو مختص بهم. وأما أنا فخارج عن هذا الحكم، ويقبل ربي مني صلاتي قاعدا مقدار صلاتي قائما، فصلاتي النافلة قاعدا مع القدرة على القيام في تمام الأجر وكمال الثواب كصلاتي قائما، أو ذلك من خصائصي لما اختص به من

(7/481)


غاية التوجه والحضور والمعرفة والقرب، فلا تقيسوني على أحد ولا تقيسوا أحدا علي. قال النووي: هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - فجعلت نافلته قاعدا مع القدرة على القيام كنافلته قائما تشريفا له، كما خص بأشياء معروفة وفي كتب أصحابنا وغيرهم وقد استقصيتها في أول كتاب تهذيب الأسماء واللغات. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي.
1261- قوله: (وعن سالم بن أبي الجعد) الغطفاني الأشجعي، مولاهم الكوفي، ثقة من أوساط التابعين، مات سنة سبع، أو ثمان وتسعين، وقيل: مائة أو بعد ذلك. (من خزاعة) بضم الخاء المعجمة وبالزاي، قبيلة، وهو صفة رجل. (ليتني صليت فاسترحت) أي بالاشتغال بالصلاة لكونها مناجاة مع الرب تعالى، أو بالفراغ
فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أقم الصلاة يا بلال! أرحنا بها)). رواه أبوداود.
(35) باب الوتر

(7/482)


منها لاشتغال الذمة بها قبل الفراغ عنها. (فكأنهم) أي بعض الحاضرين. (عابوا ذلك عليه)؛ لأن ظاهر كلامه يدل على أن الصلاة ثقيلة وشاقة عليه فيطلب الاستراحة بعد رفعها. قال في اللمعات: عابوا ذلك عليه لما تبادر إلى أفهامهم من طريان الكسل والثقل، كأنه قال يا ليتني صليت فاسترحت ونمت فإني لم أطق انتظارها، وقال الطيبي: أي عابوا تمنيه الاستراحة في الصلاة وهي شاقة على النفس وثقيلة عليها، ولعلهم نسوا قوله تعالى: ?وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين? [2: 45]. (فقال) أي الرجل الخزاعي. (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أقم الصلاة يا بلال أرحنا بها) أي ليست أريد ما فهمتم حاشا ذلك، بل أردت ما أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله يا بلال أرحنا بها فسكتوا، واعلم أنه ذكر في معنى قوله- صلى الله عليه وسلم -: أرحنا بها يا بلال وجهان: أحدهما أن أذن بالصلاة حتى نستريح بأدائها من شغل القلب فيها. وثانيهما أنه كان اشتغاله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة راحة له، فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعبا، فكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله تعالى، ولذا قال: وجعلت قرة عين لي في الصلاة. وما أقرب الراحة من قرة العين. وهذان المعنيان مذكوران في النهاية، والفرق بينهما أن الراحة في الأول بخلاص الذمة بالأداء عن تعب الاشتغال بالصلاة، وتعلق القلب بها. وفي الثاني الراحة بوجود الصلاة، ولذة المناجاة وشهود الحق الذي كان يحصل فيها، ولا شك أن الحمل على المعنى الثاني أنسب وأليق بمقامه - صلى الله عليه وسلم -. (رواه أبوداود) في كتاب الأدب، وسكت عليه هو والمنذري.

(7/483)


(باب الوتر) أي صلاة الوتر، وبيان وقته، وعدد ركعاته، وقراءته، وقضاءه، وقنوته. وكونه واجبا أو سنة وغير ذلك مما يشتمل عليه أحاديث الباب من الأمور المتعلقة بالوتر، كمشروعية الركعتين بعده جالسا، وما يقال بعد الفراغ منه من التسبيح، والوتر بكسر الواو الفرد أو ما لم يتشفع من العدد وبفتحها الثأر، وفي لغة مترادفان. قال ابن التين: أخلف في الوتر في سبعة أشياء: في وجوبه، وعدده ، واشتراط النية فيه، واختصاصه بقراءة، واشتراط شفع قبله، وفي آخره وقته، وصلاته في السفر على الدابة. قال الحافظ: وفي قضائه، والقنوت فيه، وفي محل القنوت منه، وفيما يقال فيه وفي فصله ووصله، وهل تسن ركعتان بعده، وفي صلاته من قعود، وفي أول وقته، وفي كونه أفضل صلاة التطوع أو الرواتب أفضل منه، أو خصوص ركعتي الفجر- انتهى. وقد ذكر المصنف من الأحاديث ما يجيء في شرحها بيان أكثر هذه الأشياء.
?الفصل الأول?
1262-(1) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الليل مثنى مثنى،
1262- قوله: (صلاة الليل) الحديث خرج جوابا لسؤال، ففي رواية للبخاري: أن رجلا جاء

(7/484)


إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب فقال: كيف صلاة الليل؟ فقال: مثنى مثنى. قال الحافظ: وقد تبين من الجواب أن السؤال وقع عن عددها أو عن الفصل الوصل. وفي رواية محمد بن نصر قال: قال رجل: يا رسول الله كيف تأمرنا أن نصلي من الليل. وقيل: جوابه بقوله "مثنى" يدل على أنه فهم من السائل طلب كيفية العدد لا مطلق الكيفية. قال الحافظ: فيه نظر، وأولى ما فسر به الحديث من الحديث. (مثنى) بلا تنوين؛ لأنه غير منصرف لتكرار العدل فيه، قاله صاحب الكشاف. وقال آخرون: ومنهم سيبوية: للعدل والوصف يفيد التكرار؛ لأنه بمعنى اثنتين اثنتين. وأما إعادة مثنى الثاني فللمبالغة في التأكيد، وإلا فالتكرار يكفي في إفادته مثنى الأول، وهو خبر لفظا، لكن معناه الأمر والندب. والمقصود أنه ينبغي للمصلي أن يصليها ركعتين ركعتين. قال الحافظ: وقد فسره ابن عمر راوي الحديث فعند مسلم من طريق عقبة بن حريث قال: قلت: لابن عمر ما معنى مثنى مثنى. قال تسلم من كل ركعتين. وفيه رد على من زعم من الحنفية أن معنى مثنى أن يتشهد بين كل ركعتين؛ لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسره به هو المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يقال في الرباعية مثلا أنها مثنى – انتهى. قلت: ويؤيد حمله على الفصل بالسلام بين كل ركعتين حديث المطلب بن ربيعة مرفوعا عند أحمد بلفظ: الصلاة مثنى مثنى وتشهد وتسلم في كل ركعتين الخ. ويؤيده أيضا ما تقدم من حديث عائشة في باب صلاة الليل: كان يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين. ويؤيده أيضا حديث ابن عباس عند ابن خزيمة في قصة مبيته في بيت خالته ميمونة حيث وقع فيه التصريح بالفصل، ولفظه: يسلم من كل ركعتين. وحديث أبي أيوب عند أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام يصلي من الليل صلى أربع ركعات لا يتكلم ولا يأمر بشيء ويسلم بين كل ركعتين. وأما حديث عائشة عند البخاري وغيره

(7/485)


يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسهن وطولهن، فليس فيه دليل على الوصل، وقد اعترف بذلك الشيخ محمد أنور حيث قال: لا دليل فيه للحنفية في مسألة أفضلية الأربع، فإن الإنصاف خير الأوصاف، وذلك لأن الأربع هذه لم تكن بسلام واحد، بل جمع الراوي بين الشفعين لتناسب بينهما نحو كونهما في سلسلة واحدة بدون جلسة في البين كالترويحة في التراويح، فإنها تكون بعد أربع ركعات، هكذا شرح به أبوعمر في التمهيد- انتهى. واستدل بالحديث على تعين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل. قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج2 ص83): أخذ به مالك في أنه لا يزاد في صلاة النفل على ركعتين، هو ظاهر هذا اللفظ في صلاة الليل، وقد

(7/486)


ورد حديث آخر صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، وإنما قلنا إنه ظاهر اللفظ؛ لأن المبتدأ محصور في الخبر، فيقتضي ذلك حصر صلاة الليل فيما هو مثنى، وذلك هو المقصود إذ هو ينافي الزيادة لما انحصرت صلاة الليل في المثنى- انتهى. وقال الأمير اليماني: قال مالك لا تجوز الزيادة على اثنين؛ لأن مفهوم الحديث الحصر؛ لأنه في قوة ما صلاة الليل إلا مثنى مثنى؛ لأن تعريف المبتدأ قد يفيد ذلك على الأغلب- انتهى. ويجوز الزيادة على الركعتين عند الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، لما صح وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى النافلة أكثر من ركعتين، ومحمل الحديث عند الشافعي وأحمد على أنه لبيان الأفضل، لما صح من فعله - صلى الله عليه وسلم - يخالف ذلك، ويحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف، إذ السلام بين كل ركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوقها لما فيه الراحة غالبا وقضاء ما يعرض من أمر مهم، ومحمله عند الحنفية الحصر في الإشفاع، يعني لا يجوز الجلوس على الأكثر أو الأقل من ركعتين. قال في الهداية: ومعنى ما رواه شفعا لا وترا، وقد تقدم الرد عليه في كلام الحافظ. واستدل به أيضا على عدم النقصان عن ركعتين في النافلة ما عدا الوتر، واختلفوا فيه أيضا فقال مالك وأبوحنيفة: التطوع بركعة واحدة باطل، إلا أنهما اختلفا في الوتر فقال مالك بالجواز، وأبوحنيفة بالمنع. وذهب الشافعي وأحمد إلى جواز التطوع بركعة فردة، واستدل بعض الشافعية للجواز بعموم قوله: الصلاة خير موضوع فمن شاء استكثر ومن شاء استقل، صححه ابن حبان وقد اختلف من رأى الزيادة على الركعتين في النافلة في الفصل والوصل أيهما أفضل، فذهب الشافعي وأحمد إلى أن الفصل في صلاة الليل والنهار أفضل، واستدل لهما بما رواه الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر مرفوعا: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وتعقب بأن أكثر أئمة الحديث أعلوا زيادة قوله والنهار وضعفوها؛ لأنها من طريق علي

(7/487)


الأزدي البارقي عن ابن عمر، وهو ضعيف عند ابن معين. روى محمد بن نصر في سؤالاته وابن عبدالبر في التمهيد عن يحيى بن معين أنه قال صلاة النهار أربع لا تفصل بينهن، فقيل له إن ابن حنبل يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، فقال: بأي حديث؟ فقيل له: بحديث الأذري عن ابن عمر، فقال: ومن على الأذري؟ حتى أقبل هذا منه وأدع يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن، لو كان حديث الأذري صحيحا لم يخالفه ابن عمر يعني مع شدة إتباعه. وقال الترمذي: وروى الثقات عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكروا فيه صلاة النهار وحكم النسائي على راويها بأنه أخطأ فيها. وقال الدارقطني في العلل: إنها وهم. وقال الحافظ: روى ابن وهب بإسناد قوي عن ابن عمر قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى موقوف. أخرجه ابن عبدالبر من طريقة فلعل الأذري اختلط عليه الموقوف بالمرفوع، فلا تكون هذه الزيادة صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذا- انتهى. قلت: قد صححها ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في المستدرك وقال: رواتها ثقات. وقال الخطابي: إن سبيل الزيادة
فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى)).

(7/488)


من الثقة أن تقبل. وقال البيهقي: هذا حديث صحيح، وقد صححه البخاري لما سئل عنه، ثم روى ذلك بسنده إليه قال: وقد روى عن محمد بن سيرين عن ابن عمر مرفوعا بإسناد كلهم ثقات- انتهى كلام البيهقي، وله طرق وشواهد، وقد ذكر بعض ذلك الحافظ في التلخيص. وذهب أبوحنيفة إلى أن الأفضل فيهما أربع أربع ولم أر حديثا صحيحا صريحا يدل على أفضلية ذلك في الليل والنهار. وذهب بعضهم إلى أن الأفضل في صلاة الليل مثنى مثنى، وأما في صلاة النهار فأربع أربع، وهو قول الثوري وابن المبارك وإسحاق وأبي يوسف ومحمد، واستدل لهم بمفهوم حديث ابن عمر: صلاة الليل مثنى مثنى، قالوا: إنه يدل بمفهومه على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعا وتعقب بأنه مفهوم لقب وليس بحجة على الراجح، وعلى تقدير الأخذ به فليس بمنحصر في أربع، وبأنه خرج جوابا للسؤال عن صلاة الليل فقيد الجواب بذلك مطابقة للسؤال، واستدلوا أيضا بما تقدم من حديث أبي أيوب مرفوعا: أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم، وقد أسلفنا الكلام فيه مع الجواب عن هذا الاستدلال، والأولى عندي أن تكون صلاة الليل مثنى مثنى، لكونه أجاب به السائل، ولكون أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقا، وأما صلاة النهار فإن شاء صلى أربعا بسلام واحد أو بسلامين لحديث على الأذري، ولحديث أبي أيوب وقد عرفت ما فيها من الكلام. (فإذا خشي أحدكم الصبح) أي فوت الوتر بطلوع الفجر وظهوره (صلى بركعة واحدة توتر) أي هذه الركعة الفردة. (له) أي لأحدكم. (ما قد صلى) أي تجعل تمام ما صلى وترا، فإن تلك الواحدة كما أنها بذاتها وتر، كذلك يصير بها جميع صلاة الليل وترا، قال ابن الملك: أي تجعل هذه الركعة الصلاة التي صلاها في الليل وترا بعد أن كانت شفعا، والحديث حجة للشافعي في قوله: الوتر ركعة واحدة، وتعقبه القاري بما نقله عن ابن الهمام أن نحو هذا كان قبل أن يستقر أمر الوتر، وفيه أنه لا دليل على أن هذا كان قبل استقرار أمر

(7/489)


الوتر، ولا على أن الوتر محصور في ثلاث ركعات، فهو مردود على ابن الهمام. قال السندي: في حاشية النسائي قوله: فإذا خشيت الصبح فواحدة، ظاهر الحديث مع أحاديث آخر يفيد جواز الوتر بركعة واحدة، كما هو مذهب الجمهور، والقول بأنه كان ثم نسخ إثباته مشكل- انتهى. ووقع في رواية للبخاري: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت. وفيه رد على من ادعى من الحنفية أن الوتر بواحدة مختص بمن خشي طلوع الفجر؛ لأنه علقه بإرادة الإنصراف، وهو أعم من أن يكون لخشية طلوع الفجر أو غير ذلك. واعلم أنه مذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى صحة الإيتار بركعة واحدة، إلا أن مالكا اشترط تقدم الشفع قبلها، فكان الوتر عنده ثلاث ركعات بتسليمتين وجوبا، فيفي المدونة قال مالك: لا ينبغي لأحد أن يوتر بواحدة ليس قبلاها شيء لا في حضر ولا سفر، لكن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يوتر بواحدة- انتهى. قال

(7/490)


الحافظ: واستدل بقوله: توتر له ما قد صلى على تعين الشفع قبل الوتر، وهو عن المالكية بناء على أن قوله: ما قد صلى أي من النفل، وحمله لا يشترط سبق الشفع على ما هو أعم من النفل والفرض، وقالوا: أن سبق الشفع شرط في الكمال لا في الصحة، ويؤيده حديث أبي أيوب مرفوعا: الوتر حق فمن شاء أوتر بخمس ومن شاء بثلاث ومن شاء بواحدة. أخرجه أبوداود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم، وصح عن جماعة من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة من غير تقدم نفل قبلها، ففي كتاب محمد بن نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد أن عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها، وسيأتي في الدعوات أي عند البخاري حديث عبدالله بن ثعلبة أن سعدا أوتر بركعة، وسيأتي في المناقب عن معاوية أنه أوتر بركعة، وأن ابن عباس استصوبه، وفي كل ذلك رد على ابن التين في قوله: إن الفقهاء لم يأخذوا بعمل معاوية في ذلك، وكأنه أراد فقهاءهم- انتهى كلام الحافظ. وقد ذكر محمد بن نصر في قيام الليل آثارا كثيرة عن السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم في الوتر بركعة من أحب الوقوف عليها رجع إليه. قال الشوكاني في النيل نقلا عن الحافظ العراقي: وممن كان يوتر بركعة من الصحابة الخلفاء الأربعة وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبوموسى الأشعري وأبوالدرداء وحذيفة وابن مسعود وابن عمر وابن عباس ومعاوية وتميم الداري وأبوأيوب الأنصاري وأبوهريرة وفضالة بن عبيد وعبدالله بن الزبير ومعاذ بن الحارث القاري، وهو مختلف في صحبته. وقد روي عن عمر وعلي وأبي وابن مسعود الإيتار بثلاث متصلة، وممن أوتر بركعة سالم بن عبدالله بن عمر وعبدالله بن عياش بن أبي ربيعة والحسن البصري ومحمد بن سيرين وعطاء بن أبي أرباح وعقبة بن عبدالغافر وسعيد بن جبير ونافع بن جبير بن مطعم وجابر بن زيد والزهري وربيعة بن أبي عبدالرحمن وغيرهم، ومن الأئمة مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وداود وابن

(7/491)


حزم- انتهى. واستدل لهم فيما قالوا من جواز الإيتار بركعة واحدة فردة، بحديث ابن عمر هذا، وبحديثه الآتي بعد ذلك، وبحديث عائشة السابق في باب صلاة الليل يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة، فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في موضع النزاع، وبحديث أبي أيوب الآتي في الفصل الثاني، وبحديث ابن عباس عند مسلم: الوتر ركعة من آخر الليل، وبحديث القاسم بن محمد عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر بركعة. رواه الدارقطني وإسناده صحيح، وبما روى الطحاوي من طريق سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله. قال الحافظ في الفتح: وإسناده قوي، ذ1كره في التلخيص (ص117) بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفصل بين الشفع والوتر، ثم قال رواه أحمد وابن حبان وابن السكن في صحيحهما، والطبراني من حديث إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر به، وقواه أحمد. قال في الفتح: ولم يعتذر الطحاوي عنه إلا باحتمال أن يكون المراد بقوله بتسليمة أي التسليمة

(7/492)


التي في التشهد، ولا يخفى بعد هذا التأويل- انتهى. وحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر بركعة، رواه ابن حبان من طريق كريب، ذكره في التلخيص، وفي هذه الأحاديث رد على ابن الصلاح فيما قال: لا نعلم في روايات الوتر مع كثرتها أنه عليه السلام أوتر بواحدة فحسب، وذهب أبوحنيفة إلى أن الوتر ثلاث ركعات موصولة بتشهدين وتسليمة واحدة لا أقل منها ولا أكثر، فالوتر عنده كصلاة المغرب يجلس في الثانية ثم يقوم دون تسليم ويأتي بالثالثة ثم يجلس ويتشهد ويسلم. واستدل له بالأحاديث التي تدل على الإيتار بثلاث ركعات، كحديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يسلم في ركعتي الوتر. أخرجه النسائي والحاكم (ج1 ص304) والدارقطني والبيهقي (ج3 ص31) بإسناد حسن، وكحديث أبي بن كعب عند النسائي بلفظ: يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، لا يسلم إلا في آخرهن. وقد بين في عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات، وكحديث ابن أبزى عند النسائي أيضا نحوه. وفيه أن هذه الأحاديث ليس فيها ما يدل على الحصر في الإيتار بالثلاث، وأنه لا يجوز أقل منها ولا أكثر، وليس فيها تصريح الجلوس في الركعة الثانية، بل في رواية عائشة عند الحاكم (ج1 ص304) على ما نقله الحافظ في الفتح والتلخيص، والزرقاني في شرح المواهب اللدنية، والذهبي في تلخيص المستدرك، وقد صوب ذكرها النيموني في تعليق التعليق، وذكرها أيضا البيهقي (ج3 ص31) نفي الجلوس في الثانية. ولفظها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن، وكذا ينفيه حديث النهي عن التشبه بصلاة المغرب، ولم أجد حديثا مرفوعا صحيحا صريحا في إثبات الجلوس في الركعة الثانية عند الإيتار بثلاث. واستدل له أيضا بحديث النهي عن البتيراء، وسيأتي الجواب عنه. قال الحافظ في الفتح: وحمل الطحاوي قول عائشة: يسلم من كل ركعتين ويوتر ركعتين ويوتر بواحدة

(7/493)


ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء. أخرجه ابن عبدالبر في التمهيد عن عبدالله بن محمد يوسف نا أحمد بن محمد بن إسماعيل بن الفرج نا أبي نا الحسن بن سليمان قبطية نا عثمان بن محمد بن ربيعة بن أبي عبدالرحمن نا عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البتيراء أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها. وأجيب عنه بوجوده: أحدها أنه حديث ضعيف، فإن في سنده عثمان ابن محمد. قال عبدالحق في أحكامه بعد ذكره من جهة ابن عبدالبر: الغالب على حديث عثمان بن محمد بن ربيعة الوهم. وقال ابن قطان في كتاب الوهم والإيهام: هذا حديث شاذ لا يعرج عليه ما لم يعرف العدالة رواته، وعثمان بن محمد بن ربيعة الغالب على حديثه الوهم. والثاني أن معارض بما رواه ابن ماجه والطحاوي ومحمد بن نصر من طريق الأوزاعي عن المطلب بن عبدالله المخزومي أن رجلا سأل ابن عمر عن الوتر، فأمره بثلاث يفصل بين شفعه ووتره
متفق عليه.
1263-(2) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوتر ركعة من آخر الليل)). رواه مسلم.
1264-(3) وعن عائشة، قالت ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من
ذلك بخمس،

(7/494)


بتسليمة، فقال الرجل: إني أخاف أن يقول الناس هي البتيراء، فقال ابن عمر: هذه سنة الله ورسوله، فهذا يدل على أن الوتر بركعة بعد ركعتين قد وجد من النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثالث أنه معارض بحديث أبي أيوب الآتي بلفظ: من أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل. والرابع أن البتيراء فسره ابن عمر بعدم إتمام الركوع والسجود، هكذا أخرجه البيهقي في المعرفة بسنده عن محمد بن إسحاق عن زيد بن أبي حبيب عن أبي منصور مولى سعد بن أبي وقاص قال: سألت عبدالله بن عمر عن وتر الليل فقال: يا بني هل تعرف وتر النهار؟ قلت: نعم، هو المغرب، قال: صدقت، ووتر الليل بواحدة، بذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا أبا عبدالرحمن، إن الناس يقولون هي البتيراء؟ قال: يا بني ليست تلك البتيراء، إنما البتيراء أن يصلي الرجل الركعة، يتم ركوعها وسجودها وقيامها، ثم يقوم في الأخرى ولا يتم لها ركوعا ولا سجودا ولا قياما فتلك البتيراء- انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج3 ص48): ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن البتيراء ولا في الحديث على سقوطه بيان ماهي البتيراء، وقد روينا من طريق عبدالرزاق عن سفيان بن عيينة عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: الثلاث بتيراء، يعني في الوتر، فعادت البتيراء على المحتج بالخبر الكاذب فيها- انتهى. وقال النووي في الخلاصة: حديث محمد بن كعب القرظي في النهي عن البتيراء ضعيف ومرسل- انتهى. والحق عندي أن الأمر في ذلك واسع، فيجوز الإيتار بركعة واحدة فردة، وبثلاث مفصولة وموصولة، لكن بقعدة واحدة، وبخمس وبسبع وبتسع، وكل ذلك ثابت بالأحاديث الصحيحة الثابتة، وارجع إلى المحلى (ج3 ص42- 48). (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص21، 22) وغيرهم.

(7/495)


1263- قوله: (الوتر ركعة) هذا نص في مشروعية الإيتار بركعة واحدة، وأن أقل الوتر ركعة. قال الطيبي: أي منشأة. (من آخر الليل) يعني آخر وقتها آخر الليل أو وقتها المختار بعض أجزاء آخر الليل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص22) وأخرجه ابن ماجه بلفظ: ركعة قبل الصبح.
1264- قوله: (يصلي من الليل) أي بعضه، كما قاله الطيبي. (ثلاث عشرة ركعة) ثمان ركعات منها بأربع تسليمات. (يوتر من ذلك) أي من مجموع ثلاث عشرة أو من ذلك العدد المذكور. (بخمس) أي يصلي خمس ركعات
لا يجلس في شيء إلا في آخرها)).

(7/496)


بنية الوتر. (لا يجلس في شيء) أي للتشهد. (إلا في آخرها) أي لا يجلس في ركعة من الركعات الخمس إلا في آخرهن، وفيه دليل على مشروعية الإيتار بخمس ركعات بقعدة واحدة، وهذا أحد أنواع إيتاره - صلى الله عليه وسلم -، كما أن الإيتار بواحدة أحدها كما أفاده حديثها السابق في باب صلاة الليل، وعلى أن القعود على آخر كل ركعتين غير واجب، ففيه رد على من قال بتعيين الثلاث، وبوجوب القعود بعد كل من الركعتين. قال الترمذي: وقد رأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم الوتر بخمس، وقالوا لا يجلس في شيء منهن إلا في آخرهن، وروى محمد بن نصر في قيام الليل عن إسماعيل بن زيد أن زيد بن ثابت كان يوتر بخمس ركعات لا ينصرف فيها. (أي لا يسلم). وقال الشيخ سراج أحمد السر هندي في شرح الترمذي: وهو مذهب سفيان الثوري، وبعض الأئمة- انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وهو الظاهر من كلام الشافعي ومذهبه، فقد حكى الربيع بن سليمان في (اختلاف مالك والشافعي) الملحق بكتاب الأم (ج7 ص189) أنه سأل الشافعي عن الوتر بواحدة ليس قبلها شيء فقال الشافعي/ نعم، والذي اختار أن أصلي عشر ركعات ثم أوتر بواحدة. ثم حكى الحجة عنه في ذلك، ثم قال قال الشافعي: وقد أخبرنا عبدالمجيد عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الآخرة منهن. فقلت للشافعي: فما معنى هذا؟ قال: هذه نافلة يسع أن يوتر بواحدة وأكثر، ونختار ما وصفت من غير أن نضيق غيره، وانظر المجموع للنووي (ج4 ص12، 13) فقد رجح جواز هذا لدلالة الأحاديث الصحيحة عليه- انتهى. والحديث مشكل على الحنفية جدا، فإنهم قالوا بوجوب القعود والتشهد بعد كل من الركعتين في الفرض والنفل جميعا، وأجابوا عنه بوجوه كلها مردودة باطلة، أحدها: أن المعنى لا يجلس في شيء للسلام بخلاف ما قبله من الركعات، ذكره

(7/497)


القاري. وقد رده صاحب البذل حيث قال: وفيه نظر؛ لأن الحنفية قائلون بأن الوتر ثلاث لا يجوز الزيادة عليها، فإذا صلى خمس ركعات، فإن نوى الوتر في أول التحريمة لا يجوز ذلك؛ لأن الزيادة على الثلاث ممنوعة، وإن نوى النفل في أول التحريمة لا يؤدي الوتر بنية النفل، وإن قيل: إنها كانت في ابتداء الإسلام ثم استقر الأمر على أن الوتر ثلاث ركعات فينافيه ما سيأتي من حديث زرارة بن أوفي عند داود: فلم تزل تلك صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدن، فنقص من التسع ثنتين، فجعلها إلى الست والسبع وركعتيه وهو قاعد حتى قبض على ذلك. وثانيها: أن المنفي جلسة الفراغ والاستراحة أي لا يجلس في شيء من الخمس جلسة الفراغ والاستراحة إلا في آخرها أي بعد الركعة الآخرة، يعني بعد الفراغ منها، وكانت الركعتان نافلتي الوضوء أو غيرها والثلاثة وترا. وفيه أن تخصيص الجلوس المنفي بجلوس الاستراحة
وفي نسخة "الأخيرة"
متفق عليه.
1265-(4) وعن سعد بن هشام،

(7/498)


والفراغ يحتاج إلى دليل، وإذ لا دليل على ذلك فهو مردود على قائله، على أن قوله: إلا في آخرهن يدل على وجود الجلوس في آخر الركعات الخمس، بناء على أن "في" للظرفية، وهي تقتضي تحقق الجلوس داخل الصلاة لا خارجها، وعلى أن الأصل في الاستثناء الاتصال، وهذا ينافي كون المراد بالجلوس المنفي جلسة الفراغ. وثالثها: أن المعنى لم يكن يصلي من تلك الخمس جالسا إذ قد ورد أنه كان يصلي قائما وقاعدا، وعلى هذا فالمنفي من الجلوس هو الجلوس مقام، والاستثناء في قوله: إلا في آخرهن منقطع، كما في الوجه الثاني والمعنى لا يصلي جالسا إلا بعد أن يفرغ من الخمس. وهذا أيضا مردود لما تقدم آنفا. ورابعها: أن المراد بقوله: آخرهن الركعتان الأخيرتان، فالثلاثة الأول من الخمس وتر والركعتان بعده هما اللتان كان يصليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا بعد الوتر، والمعنى لم يكن يصلي شيئا من تلك الخمس جالسا إلا الركعتين الأخيرتين منها، وعلى هذا فالاستثناء متصل. وفيه أن هذا يرده قوله: يوتر من ذلك بخمس؛ لأنه يدل على أن الركعات الخمس كلها ركعات الوتر، ويبطله أيضا رواية الشافعي بلفظ: كان يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الآخرة منها، ورواية أبي داود: يوتر منها بخمس لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة فيسلم، وهذا ظاهر. وخامسها: أن المراد بآخرهن الركعة الأخيرة والمنفي بالجلوس الجلوس الخاص وهو الذي فيه تشهد بلا تسليم، فالمعنى لا يجلس بهذه المثابة إلا في ابتداء الركعة الأخيرة. وأما الجلوس بعد الركعتين فهو على المعروف المتبادر يعني مع التسليم. وهذا أيضا مردود يرده رواية الشافعي وأبي داود، كما لا يخفي، وهذه الوجوه كلها تحريف للحديث الصحيح وإبطال لمؤاده، واستهزاء بالسنة الثابتة الظاهرة وتحيل لدفعها، وهي تدل على شدة تعصب أصحابها وغلوهم في تقليد غير المعصوم، بل على بغضهم للسنة، ذكرناها مع كونها أضاحيك ليعتبر بها

(7/499)


أولوا الألباب والبصائر. (متفق عليه) فيه نظر؛ لأن قوله: يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها، ليس عند البخاري، بل هو من أفراد مسلم، وكان المصنف قلد في ذلك الجزري وصاحب المنتقى والمنذري حيث نسبوا هذا السياق إلى الشيخين، والعجب من الحافظ أنه قال بعد ذكره في بلوغ المرام: متفق عليه مع أنه عزاه في التلخيص (ص116) لمسلم فقط، اللهم إلا أن يقال: إنهم أرادوا بذلك أن أصل الحديث متفق عليه لا السياق المذكور بتمامه، ولا يخفى ما فيه، والحديث أخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص27، 28) وغيرهم، وفي الإيتار بخمس أحاديث كثيرة، ذكرها الشوكاني في النيل.
1265- قوله: (وعن سعد) بسكون عين مهملة. (بن هشام) بن عامر الأنصاري المدني، ابن عم أنس
قال: انطلقت إلى عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن. قلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك، ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله، ويحمده، ويدعوه، ثم ينهض، ولا يسلم، فيصلي التاسعة، ثم يقعد، فيذكر الله، ويحمده، ويدعوه، ثم يسلم تسليما يسمعنا،

(7/500)


ثقة من أوساط التابعين. قال في التقريب: استشهد بأرض الهند. وفي تهذيب التهذيب ذكر البخاري: أنه قتل بأرض مكران على أحسن أحواله. قال أبوبكر الحازمي: مكران بضم الميم، بلدة بالهند. وذكره ابن حبان في الثقات: وقال قتل بأرض مكران غازيا. (أنبئيني) وقال في رواية: حدثيني، يعني أخبريني. (عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بضمتين، وقد يسكن الثاني أي أخلاقه وشمائله وعاداته. (فإن خلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن) أي كان متمسكا بآدابه وأوامره ونواهيه ومحاسنه، ويوضحه أن جميع ما فصل في كتاب الله من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب مما قصه عن نبي أو ولي أو حث عليه أو ندب إليه أو ذكر بالوصف الأتم والنعت الأكمل كان - صلى الله عليه وسلم - متحليا به ومتوليا له ومتخلقا به وبالغا فيه من المراتب أقصاها، حتى جمع له من ذلك ما تفرق في سائر الخلائق، وكل ما نهى الله تعالى عنه فيه ونزه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يحوم حوله، ويبين ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. قال النووي: معناه العمل بالقرآن والوقوف عند حدود والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته-انتهى. وفيه إشارة إلى قوله تعالى. ?إنك لعلى خلق عظيم? [4:68]. (عن وتر رسول الله) أي عن وقته وكيفيته وعدد ركعاته. (كنا نعد) من الإعداد أي نهيئ. (له سواكه وطهوره) بالفتح أي ماء وضوئه، وفيه استحباب ذلك والتأهب بأسباب العبادة قبل وقتها والاعتناء بها. (فيبعثه الله) أي يوقظه. (ما شاء أن يبعثه) أي في الوقت المقدر الذي شاء بعثه فيه. وفي رواية: فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل. (من الليل) أي من ساعات الليل وأوقاته، فمن تبعيضية، وقيل: بيانيه. (فيتسوك) أولا. (ويتوضأ) فيه استحباب السواك عند القيام من النوم. (ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة) الخ. فيه مشروعية الإيتار بتسع ركعات متصلة لا

(8/1)


يسلم إلا في آخرها، ويقعد في الثامنة ولا يسلم. (فيذكر الله) أي يقرأ التشهد. (ويحمده) أي يثني عليه. قال الطيبي: أي يتشهد، فالحمد إذا لمطلق الثناء، إذ ليس في التحيات لفظ الحمد. (ويدعوه) أي الدعاء المتعارف. (ثم ينهض) أي يقوم. (ثم يسلم تسليما يسمعنا) من الإسماع أي يرفع صوته بالتسليم بحيث نسمعه، وفيه دليل على
ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني! فلما أسن صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ اللحم، أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأولى، فتلك تسع يا بني! وكان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها،

(8/2)


عدم وجوب الجلسة عند الركعتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ثمانيا متصلا بلا تخلل جلسات بينها على الشفعات، وهذا مخالف للحنفية لما تقدم أنهم قالوا بوجوب الجلسة للتشهد عند كل ركعتين، وأجابوا بأن المراد بالجلسة المنفية الجلسة الخالية عن السلام، قالوا: فالوتر منها ثلاث ركعات ست قبله من النفل. قال العيني وهذا اقتصار منها على بيان جلوس الوتر وسلامه؛ لأن السائل إنما سأل عن حقيقة الوتر ولم يسأل عن غيره، فأجابت مبينة بما في الوتر من الجلوس على الثانية بدون سلام، والجلوس أيضا على الثالثة بسلام، وسكتت عن جلوس الركعات التي قبلها وعن السلام فيها، كما أن السؤال لم يقع عنها فجوابها قد طابق سؤال السائل-انتهى. ولا يخفى ما فيه فإنه لا دليل على حمل الجلوس المنفي على الجلسة الخالية عن السلام. فالحديث ظاهر بل هو كالنص في نفي الجلوس قبل الثامنة، ونفي السلام قبل التاسعة مطلقا، وأنها كانت كلها بجلستين وسلام واحد، وهذا أحد أنواع إيتاره صلى الله عليه وسلم. (ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد) فيه مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس، ويدل عليه أيضا حديث أم سلمة وحديث أبي أمامة الآتيان في الفصل الثالث. وقد ذهب إليه بعض أهل العلم: وجعل الأمر في قوله الآتي: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا. مختصا بمن أوتر آخر الليل. وحمله النووي على أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان جواز النفل بعد الوتر وجواز التنفل جالسا، يعني أن الأمر فيه أمر ندب لا إيجاب، فلا تعارض بينهما. وقال الشوكاني: لا يحتاج إلى الجمع بينهما باعتبار الأمة؛ لأن الأمر يجعل آخر صلاة الليل وترا مختص بهم، وأن فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يعارض القول الخاص بالأمة، لاختصاص فعله للركعتين بعد الوتر بذاته - صلى الله عليه وسلم -، وأما الجمع باعتباره - صلى الله عليه وسلم - فهو أن يقال: إنه كان يصلي الركعتين بعد الوتر تارة ويدعهما تارة-انتهى.

(8/3)


والراجح عندي ما ذهب إليه النووي أن الأمر في قوله اجعلوا الخ. للندب لا للإيجاب. (فلما أسن) أي كبر. (وأخذ اللحم) وفي بعض نسخ مسلم: أخذه اللحم. قيل: أي السمن. وقال ابن الملك: أي ضعف قال ابن حجر: إنما كان في آخر حياته قبل موته بنحو سنة. (أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنعيه في الأولى) يعني صلاهما قاعدا، كما كان يصنع قبل أن يسن. وفي رواية: فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة. (فتلك تسع) فنقص ركعتين من التسع لأجل الضعف. (وكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة) أي من النوافل. (أحب أن يداوم عليها)؛ لأن أحب الأعمال عنده صلى الله عليه وسلم
وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل، صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان)) رواه مسلم.
1266- (5) وعن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا))

(8/4)


أدومها. (وكان إذا غلبه نوم أو وجع) أي منعه مرض أو ألم. (عن قيام الليل صلى بالنهار) أي في أوله ما بين طلوع الشمس إلى الزوال. (ثنتي عشرة ركعة) قيل: ثمان منها صلاة الليل وأربع صلاة الضحى، وفيه استحباب المحافظة على الأوراد وإنها إذا فاتت تقضى. (ولا صلى ليلة) تامة من أولها إلى آخرها. (إلى الصبح) قيل: هذا محمول على علمها، وإلا فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أحيا ليلة كله صلى فيه حتى الفجر، فقد أخرج النسائي في باب إحياء الليل عن خباب بن الأرت أنه راقب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها حتى كان مع الفجر-الحديث. (ولا صام شهرا كاملا غير رمضان) لا ينافيه ما روى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم شعبان كله؛ لأن المراد أنه كان يصوم أكثره. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص30، ج2: ص500).

(8/5)


1266- قوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل) أي تهجدكم فيه. (وترا) أي اجعلوا صلاة الوتر في آخرها واستدل به على أنه لا صلاة بعد الوتر. وقد اختلف السلف في ذلك في موضعين: أحدهما في مشروعية ركعتين بعد الوتر جالسا، والثاني فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل في الليل، هل يكتفي بوتره الأول وليتنفل ما شاء، أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل ثم إذا فعل ذلك يحتاج إلى وتر آخر أولا، فأما الأول فقد تقدم الكلام فيه. وأما الثاني فذهب الأكثر وهم الأئمة الأربعة، والثوري وابن المبارك وغيرهم إلى أنه يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض وتره عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: لا وتران في ليلة، وهو حديث حسن. أخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان من حديث طلق بن علي، وجعل هؤلاء الأمر في حديث ابن عمر للندب، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز نقض الوتر، وقالوا: يضيف إليها أخرى ويصلي ما بدأ له، ثم يوتر في آخر صلاته، والأول هو الراجح عندي. قال الترمذي: واختلف أهل العلم في الذي يوتر من أول الليل ثم يقوم من آخره، فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم نقض الوتر، وقالوا يضيف إليها ركعة ويصلي ما بدا له ثم يوتر في آخر صلاته؛ لأنه لا وتران في ليلة، وهو الذي ذهب إليه إسحاق، وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم: إذا أوتر من أول الليل ثم نام ثم قام من
رواه مسلم.
1267- (6) وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((بادروا الصبح بالوتر))

(8/6)


آخره أنه يصلي ما بدا له ولا ينقض وتره، ويدع وتره على ما كان، وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد وابن المبارك، وهذا أصح؛ لأنه قد روي من غير وجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى بعد الوتر-انتهى. وقد بسط الشيخ الكلام في هذه المسألة في شرح الترمذي وقال: هذا أي عدم نقض الوتر هو المختار عندي، ولم أجد حديثا مرفوعا صحيحا يدل على ثبوت نقض الوتر-انتهى. واستدل بهذا الحديث لأبي حنيفة على وجوب الوتر بأن اجعلوا صيغة الأمر، وأصل الأمر للوجوب وأجيب عنه من ثلاثة وجوه. الوجه الأول: أن أصل الأمر وإن كان للوجوب. لكنه إذا وجدت قرينة صارفة عن الوجوب يحمل على غير الوجوب، وقد صرح علماء الحنفية بأن صيغة "اجعلوا" في هذا الحديث ليست للوجوب. قال القاري: في المرقاة. اجعلوا أمر ندب، وكذا قال صاحب البذل (ج2:ص332) ولو سلم أن "اجعلوا" في هذا الحديث للوجوب فهو إنما يدل على وجوب جعل الوتر آخر صلاة الليل، أي إذا صليتم بالليل فعليكم أن تصلوا الوتر في آخر صلاة الليل لا في أولها ولا في وسطها، والحاصل أنه يدل على وجوب جعل آخر الصلاة بالليل وترا، لا على وجوب نفس الوتر، والمطلوب هذا لا ذاك، فالاستدلال به على وجوب الوتر غير صحيح. الوجه الثاني: أن صلاة الليل ليست بواجبة، فكذا آخرها. قال الحافظ في الفتح: قد استدل به بعض من قال بوجوبه، وتعقب بأن صلاة الليل ليست واجبة، فكذا آخرها، وبأن الأصل عدم الوجوب حتى يقول دليله-انتهى. الوجه الثالث: أنه لو ثبت من هذا الحديث وجوب الوتر لقال به ابن عمر، وأفتى به من غير تأمل وتردد، لكنه لما استفتى عنه لم يزد في فتياه على أن يقول: أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوتر المسلمون، كما سيأتي. (رواه مسلم) الحديث ليس من أفراد مسلم بل هو متفق عليه، فقد أخرجه البخاري في باب ليجعل آخر صلاته وترا من أبواب الوتر. وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3:ص34).

(8/7)


1267- قوله: (بادروا الصبح بالوتر) أي عجلوا بأداء الوتر قبل طلوع الصبح. قال الطيبي: بادروا أي سارعوا كان الصبح مسافر يقدم إليك طالبا منك الوتر وأنت تستقبله مسرعا بمطلوبه وإيصاله إلى بغيته. وفي حديث أبي سعيد عند مسلم وغيره: أوتروا قبل أن تصبحوا أي تدخلوا في الصبح، وهو دليل على أن الوتر قبل الصبح وأنه إذا طلع الفجر خرج وقت الوتر، وسيأتي الكلام فيه، وقد استدل بهذا الحديث على وجوب الوتر. قال القاري في شرحه: أي أسرعوا بأداء الوتر قبل الصبح، والأمر للوجوب عندنا-انتهى. وأجيب عنه بأنه إنما
رواه مسلم.
1268- (7) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر
أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك
أفضل)) رواه مسلم.
1269- (8) وعن عائشة، قالت: ((من كل الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أول الليل، وأوسطه
وآخره،
يدل على وجوب الإيتار قبل طلوع الصبح لا على وجوب نفس الإيتار، والمطلوب هذا لا ذاك، فالاستدلال به على وجوب الوتر باطل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبودواد ومحمد بن نصر والحاكم (ج1: ص301) والبيهقي (ج1: ص478).

(8/8)


1268- قوله: (من خاف أن لا يقوم من آخر الليل) قال ابن الملك: "من" فيه للتبعيض أو بمعنى في. وفي رواية: من خشي منكم أن لا يستيقظ من آخر الليل. (فليوتر أوله) أن ليصل الوتر في أول الليل. (ومن طمع أن يقوم آخره) بالنصب على نزع الخافض، أي في آخره بأن يثق بالانتباه. وفي رواية: ومن وثق بقيام من آخر الليل. (فان صلاة آخر الليل مشهودة) أي محضورة تحضره ملائكة الرحمة. وقال الطيبي: أي يشهدها ملائكة الليل والنهار. (وذلك) أي الإيتار في آخر الليل. (أفضل) فثوابه أكمل. وفي رواية: فإن قراءة القرآن في آخر الليل محضورة وهي. (أي قراءة القرآن في آخر الليل) أفضل. وفي الحديث دلالة على أن تأخير الوتر أفضل، ولكن إن خاف أن لا يقوم قدمه لئلا يفوته فعلا، وقد ذهب جماعة من السلف إلى هذا وإلى هذا وفعل كل بالحالين، ويحمل الأحاديث المطلقة التي فيها الوصية بالوتر قبل النوم والأمر به على من خاف النوم عنه. قال النووي: فيه دليل صريح على أن تأخير الوتر إلى آخر الليل أفضل لمن وثق بالاستيقاظ آخر الليل، وأن من لا يثق بذلك فالتقديم له أفضل، وهذا هو الصواب، ويحمل باقي الأحاديث المطلقة على هذا التفصيل الصحيح الصريح-انتهى. وقد استدل بهذا الحديث على وجوب الوتر. قال القاري: أمره بالإتيان عند خوف الفوت يدل على وجوبه-انتهى. وأجيب بأنه يحتمل أن يكون أمره بالإتيان عند خوف الفوت لمزيد تأكده لا لوجوبه، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص35).
1269- قوله: (من كل الليل) قال الطيبي: "من" ابتدائية منصوبة بقوله: (أوتر) أي أوتر من كل أجزاء الليل. وقيل: "من" بمعنى في، أي في جميع أوقات الليل أوتر وقولها: (من أول الليل وأوسطه وآخره)
وانتهى وتره إلى السحر)) متفق عليه.

(8/9)


يدل أو بيان، والمراد أجزاء كل من الثلاثة الأقسام المستغرقة لليل فساوت ما قبلها، ثم المراد بأول الليل بعد صلاة العشاء، كما سيأتي. (وانتهى وتره) زاد أبوداود والترمذي حين مات أي قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم -. (إلى السحر) بفتح السين، وهو قبيل الصبح، وحكي الماوردي أنه السدس الأخير من الليل. وقيل: أوله الفجر الأول يعني اختار آخر العمر الوتر في آخر الليل، فهو أحب. قال النووي: معناه كان آخر أمره الإيتار في السحر، والمراد به آخر الليل كما قالت في الروايات الأخرى، ففيه استحباب الإيتار آخر الليل، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة عليه. قال: وفيه جواز الإيتار في جميع أوقات الليل بعد دخول وقته-انتهى. ويدل عليه أيضا حديث جابر وحديث ابن عمر السابقان وحديث علي عند ابن ماجه بنحو حديث عائشة، وحديث أبي مسعود عند أحمد والطبراني بلفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر من أول الليل وأوسطه وآخره. قال العراقي: إسناده صحيح. وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وحديث عبدالله بن قيس عند أبي داود، وحديث أبي موسى وعقبة بن عمرو عند الطبراني في الكبير، وحديث أبي قتادة عند أبي داود، وحديث أبي هريرة عند البزار والطبراني، وحديث عقبة بن عامر عند الطبراني أيضا، وهذه الأحاديث كلها بيان لوقت الوتر وأنه الليل كله لكن بعد مغيب الشفق من بعد صلاة العشاء إذ لم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أوتر في الوقت الذي قبل صلاة العشاء، وقد دل عليه صريحا حديث خارجة بن حذافة الآتي حيث قال: الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر. قال الشوكاني: أحاديث الباب تدل على أن جميع الليل وقت الوتر إلا الوقت الذي قبل صلاة العشاء، ولم يخالف في ذلك أحد لا أهل الظاهر ولا غيرهم، إلا ما ذكر في وجه لأصحاب الشافعي أنه يصح قبل العشاء، وهو وجه ضعيف صرح بذلك العراقي وغيره، وقد حكي صاحب المفهم الإجماع على أنه لا يدخل وقت الوتر إلا

(8/10)


بعد صلاة العشاء-انتهى. وقال الحافظ: أجمعوا على أن ابتداء وقت الوتر مغيب الشفق بعد صلاة العشاء، كذا نقله ابن المنذر لكن أطلق بعضهم (يعني أبا حنيفة فإن أول وقت الوتر عنده وقت العشاء إلا أنه لا يقدم عليه عند التذكر. وقال النووي: وفي وجه في مذهبنا أنه يدخل بدخول وقت العشاء) أنه يدخل بدخول العشاء قالوا ويظهر أثر الخلاث فيمن صلى العشاء، بأن أنه كان بغير طهارة ثم صلى الوتر متطهرا أوظن أنه صلى العشاء فصلى الوتر فإنه يجزئ على هذا القول دون الأول-انتهى. قلت: واختلفوا فيمن صلى العشاء قبل وقته في جمع التقديم هل يجوز له الوتر قبل مغيب الشفق أم لا؟ فقال الشافعية والحنابلية: يصح وتره، كما صرح به أصحاب فروعهم. وقالت المالكية: لا يصح بل يكون لغوا، كما صرح به في الشرح الكبير من فروع المالكية. وأما عند الحنفية فلا يصح العشاء بجمع التقديم فالوتر أولى أن لا يصح عندهم. وأما آخر وقت الوتر فهو إلى طلوع الفجر الثاني، وبعد طلوع الفجر يكون قضاء، وهو المشهور المرجح الصحيح عند الأئمة
1270- (9) وعن أبي هريرة، قال: ((أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام))

(8/11)


الثلاثة الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وعند المالكية للوتر وقتان: وقت اختيار، وهو إلى طلوع الفجر، ووقت ضرورة، وهو إلى تمام صلاة الصبح. ويكره تأخيره لوقت الضرورة بلا عذر، ويندب قطع صلاة الصبح للوتر لفذ لا لمؤتم، وفي الإمام روايتان. قال الحافظ: وحكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري، ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح، وحكاه القرطبي عن مالك والشافعي وأحمد، وإنما قاله الشافعي في القديم-انتهى. والقوال الراجح عندي أن ابتداء وقته مغيب الشفق بعد صلاة العشاء إلا في جمع التقديم، فيصح قبل الشفق بعد العشاء، وينتهي لطلوع الفجر الثاني، وبعد طلوع الفجر يكون قضاء لا أداء كما يدل الأحاديث التي أشرنا إليها. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، لكن عنده "قد أوتر" أي بزيادة قد قبل أوتر، وأيضا عنده "فانتهى" بدل وانتهى. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص35).

(8/12)


1270- قوله: (أوصاني) أي عهد إلي وأمرني أمرا مؤكدا. (خليلي) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخليل الصديق الخالص الذي تخللت محبته القلب فصارت في خلاله أي في باطنه. واختلف هل الخلة أرفع من المحبة أو بالعكس، وقول أبي هريرة هذا لا يعارضه قوله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذا خليلا غير بي لأتخذت أبابكر؛ لأن الممتنع هو أن يتخذ هو - صلى الله عليه وسلم - غيره تعالى خليلا، ولا يمتنع إتخاذ الصحابي وغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - خليلا. (بثلاث) أي خصال زاد في رواية: لا أدعهن حتى أموت. ولفظ أبي داود: لا أدعهن في فر ولا حضر (صيام ثلاثة أيام) أي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. (من كل شهر) يعني أيام البيض هذا هو الظاهر. وقيل: يوما من أوله، ويوما من وسطه، ويوما من آخره. وقيل: كل يوم أول كل عشر، وصيام بالجر يدل من ثلاث. (وركعتي الضحى) أي في كل يوم كما زاده أحمد وهما أقلها، ويجزئان عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كل يوم، وهي ثلاثمائة وستون مفصلا كما في حديث مسلم عن أبي ذر وقال فيه: ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى، وفيه استحباب الضحى، وأن أقلها ركعتان وعدم مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعلها لا ينافي استحبابها؛ لأن حاصل بدلالة القول وليس من شرط الحكم أن تتظافر عليه أدلة القول والفعل، لكن ما واظب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله مرجح على ما لم يواظب عليه. (وأن أوتر قبل أن أنام) وفي رواية: ونوم على وتر، أي يكون النوم عقب الوتر لا قبله، لا أنه لا بد من نوم بعده، ولعله أوصاه بذلك؛ لأنه خاف عليه الفوت بالنوم، ففيه أن من خاف فوات الوتر
متفق عليه.
?الفصل الثاني?

(8/13)


1271- (10) عن غضيف بن الحارث، قال. ((قلت لعائشة: أرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل من الجنابة في أول الليل أم في آخره؟ قالت: ربما اغتسل في أول الليل، وربما اغتسل في آخره، قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة،
فالأفضل له التقديم ومن لا فالتأخير في حقه أفضل. قال الحافظ: لا معارضة بين وصية أبي هريرة بالوتر قبل النوم وبين قول عائشة: وانتهى وتره إلى السحر؛ لأن الأول لإرادة الاحتياط والآخر لمن علم من نفسه قوة، كما ورد في حديث جابر عند مسلم-انتهى. قال القسطلاني: وقد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على التهجد، فأمره بالضحى بدلا عن قيام الليل، ولهذا عليه السلام أن لا ينام إلا على وتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر ولا عمر ولا غيرهما من الصحابة، لكن قد وردت وصيته عليه الصلاة والسلام بالثلاث أيضا لأبي الدرداء، كما عند مسلم ولأبي ذر، كما عند النسائي، فقيل: خصصهم بذلك لكونهم فقراء لا مال لهم، فوصاهم بما يليق بهم وهو الصوم والصلاة، وهما من أشرف العبادات البدنية. وقال الحافظ: والحكمة في الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام، ليدخل في الواجب منهما بانشراح، ولنجبر ما لعله يقع فيه من نقص، وليثاب ثواب صوم الدهر بانضمام ذلك لصوم رمضان، إذ الحسنة بعشر أمثالها. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص36) وأخرجه الترمذي مختصرا بلفظ: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أوتر قبل أن أنام.

(8/14)


1271- قوله: (عن غضيف) بضم الغين وفتح ضاد معجمتين وياء ساكنة وآخره فاء. (بن الحارث) بن زنيم الثمالي، يكن أبا أسماء الحمصي تقدم ترجمته. قال المؤلف: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اختلف في صحبته وسمع أباذر وعمر وعائشة. (أرأيت) بكسر التاء أي أخبرني. (كان يغتسل) بتقدير حرف الاستفهام أي هل كان يغتسل. وقيل: معنى أرأيت على الاستفهام سواء كانت الرؤية بصرية أو علمية أي هل رأيت. (من الجنابة في أول الليل) أي على الفور بعد الفراغ من الجنابة أي دائما. (أم في آخره) أي يغتسل في آخر الليل يعني يؤخر الغسل إلى آخر الليل. (قالت) أي عائشة كانت له حالات مختلفة. (وربما اغتسل في آخره) أي جامع أوله واغتسل آخره تيسيرا على الأمة ولبيان الجواز. (قلت الله أكبر) استعظاما لشفقته على الأمة وتعجبا. (الحمد لله الذي جعل في الأمر) أي في أمر الشرع أو في هذا الأمر. (سعة) بفتح السين المهملة يعني جعل في الاغتسال سعة، بأن يغتسل متى شاء من الليل ولم يضيق عليه فيه بأن يغتسل على الفور، بل أباح لنا الأمرين وبين لنا نبيه - صلى الله عليه وسلم - ذلك بتقديم الغسل مرة وتأخيره أخرى. قال الطبي: دل على أن السعة من الله تعالى في التكاليف نعمة يجب تلقيها بالشكر، والله أكبر دل على أن تلك
قلت: كان يوتر أول الليل أم في آخره؟ قالت: ربما أوتر في أول الليل، وربما أوتر في آخره.
قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قلت: كان يجهر بالقراءة أم يخفت؟ قالت:
ربما جهر به، وربما خفت. قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة)). رواه أبوداود.
وروى ابن ماجه الفصل الأخير.
1272-(11) وعن عبدالله بن أبي قيس، قال: ((سألت عائشة: بكم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان ثلاث، وعشر وثلاث،

(8/15)


النعمة عظيمة خطيرة لما فيه من معنى التعجب (قلت كان يوتر) أي أكان يوتر؟ وفي أبي داود: قلت أرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر. (أول الليل) أي في أوله. (ربما أوتر) أي صلى الوتر. (في أول الليل) وهو القليل الأسهل. (وربما أوتر في آخره) وهو الكثير الأفضل بحسب ما رأى فيه مصلحة الوقت، وتقدم قولها أنه انتهى وتره إلى السحر. (قلت كان) أي أكان. (يجهر بالقراءة) أي في صلاة الليل. وفي أبي داود: قلت: أرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالقرآن. (أم يخفت) أي يسر بها. (ربما جهر به، وربما خفت) أي في ليلتين أو في ليلة بحسب ما يناسب المقام والحال. وفيه دليل على أن المرء مخير في صلاة الليل، يجهر بالقراءة أو يسر. (رواه أبوداود) في باب الجنب يؤخر الغسل من كتاب الطهارة، وسكت عنه هو والمنذري. ورواه النسائي في الطهارة مقتصرا على الفصل الأول وكذا البيهقي (ج1 ص199). (وروى ابن ماجه الفصل الأخير) أي الفقرة الأخيرة من فقرات الحديث، وهو قوله: قلت أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهر بالقرآن؟ الخ. وأخرجه الترمذي وأبوداود والبيهقي أيضا عن عبدالله بن أبي قيس عن عائشة مطولا.

(8/16)


1272- قوله: (وعن عبدالله بن أبي قيس) ويقال ابن قيس، ويقال ابن موسى، والأول أصح، يكنى أبا الأسود النصري الحمصي مولى عطية بن عازب، ويقال ابن عفيف، روى عن مولاه وابن عمر وعائشة وغيرهم. قال في التقريب: ثقة مخضرم. وقال العجلي: تابعي ثقة. (بكم) أي ركعات. (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر) أي يصلي صلاة الليل مع الوتر. (كان يوتر بأربع) أي ركعات بتسليمة أو بتسليمتين. (وثلاث) أي بتسليمة، كما هو الظاهر، فيكون سبعا، أربع منها صلاة الليل، وثلاث الوتر. (وست) أي وبست ركعات بتسليمتين أو بثلاث. (وثلاث) فيكون تسعا، ست منها صلاة الليل، وثلاث الوتر. (وثمان وثلاث) فيكون إحدى عشرة ركعة. (وعشر وثلاث) فيكون ثلاث عشرة ركعة. واعلم أن عائشة أطلقت في هذه الرواية على جميع صلاته - صلى الله عليه وسلم -
ولم يكن يوتر بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة))، رواه أبوداود.
1273-(12) وعن أبي أيوب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوتر حق على كل مسلم،

(8/17)


في الليل التي كان فيها الوتر، وترا. وقد أطلقه غيرها أيضا. قال الترمذي بعد روايته حديث أم سلمة بلفظ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -يوتر بثلاث عشرة، فلما كبر وضعف أوتر بسبع، ما لفظه: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوتر بثلاث عشرة وإحدى عشرة وتسع وسبع وخمس وثلاث وواحدة. قال إسحاق بن إبراهيم. (يعني ابن راهوية): معنى ما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث عشرة، قال إنما معناه أنه كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، فنسبت صلاة الليل إلى الوتر. (أي أطلق على صلاة الليل مع الوتر لفظ الوتر فمعنى يوتر بثلاث عشرة أي يصلي صلاة الليل مع الوتر ثلاث عشرة ركعة) وروي في ذلك حديثا. (كأنه يشير إلى حديث عبدالله بن أبي قيس هذا) ، واحتج بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أوتروا يا أهل القرآن، قال إنما عنى به قيام الليل يقول إنما قيام الليل، على أصحاب القرآن- انتهى. قلت: في إتيان عائشة بثلاث في كل عدد دلالة ظاهرة بأن الوتر في هذه الرواية في الحقيقة هو الثلاث، وما وقع قبله من مقدماته المسمى بصلاة التهجد. فالمراد بالوتر هنا صلاة الليل كلها. ويؤيده ما تقدم من حديث ابن عمر: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا. (ولم يكن يوتر) أي يصلي صلاة الليل مع الوتر. (بأنقص من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة) أي غالبا، وإلا فقد ثبت أنه أوتر بخمس عشرة. وهذا الاختلاف بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت وضيقه وطول القراءة، كما جاء في حديث حذيفة وابن مسعود، أو من نوم، أو من مرض وغيرهما، أوفي بعض الأوقات عند كبر السن، كما قالت: فلما أسن صلى أربع ركعات. والحاصل أن ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز، وبهذا يجمع بين ما اختلف الروايات عن عائشة. (رواه أبوداود) ومن طريقة البيهقي (ج3 ص28) ، وسكت عنه أبوداود والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد والطحاوي (ج1 ص168) وإسناده

(8/18)


حسن.
1273- قوله: (الوتر حق) قال الطيبي: الحق يجيء بمعنى الثبوت والوجوب. فذهب أبوحنيفة إلى الثاني، والشافعي إلى الأول أي ثابت في الشرح والسنة. وفيه نوع تأكيد- انتهى. وقال السندي: قد يستدل به من يقول بوجوب الوتر بناء على أن الحق هو اللازم الثابت على الذمة. ويجيب من لا يرى الوجوب بأن معنى حق أنه مشروع ثابت-انتهى. وذكر المجد بن تيمية في المنتقى أن ابن منذر روى هذا الحديث بلفظ: الوتر حق، وليس بواجب. وهذا صريح في أن لفظ حق هنا بمعنى الثابت في الشرع لا الواجب، ولو سلم أنه بمعنى
فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة
فليفعل)).

(8/19)


واجب، بل ولو ورد لفظ واجب صريحا، لم يكن فيه حجة لمن يقول بوجوب الوتر؛ لأنه يكون مصروفا إلى معنى المسنون المؤكد للأدلة الصريحة على الدالة على عدم الوجوب. والواجب قد يطلق على المسنون تأكيدا، كما سلف تأويل الجمهور في غسل الجمعة. واعلم أنه ذهب الجمهور إلى أن الوتر غير واجب، وخالف الإمام أباحنيفة صاحباه الإمام يوسف والإمام محمد، فذهبا أيضا إلى ما ذهب إليه الجمهور، وقالا بعدم وجوب الوتر، ولم يوافق أباحنيفة إلا عدة من أهل العلم. قال الحافظ: قد بالغ الشيخ أبوحامد فادعى أن أباحنيفة قال بوجوب الوتر، ولم يوافقه صاحباه، مع أن ابن أبي شيبة أخرج عن سعيد بن المسيب وأبي عبيدة ابن عبدالله بن مسعود والضحاك ما يدل على وجوبه عندهم. وعنده عن مجاهد الوتر واجب، ولم يثبت. ونقله ابن العربي عن أصبغ من المالكية، ووافقه سحنون، وكأنه أخذه من قول مالك: من تركه ادب، وكان جرحة في شهادته- انتهى. قلت: والقول الراجح المنصور هو ما قال به لجمهور. قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (ج2 ص13): والحق أن الوتر سنة، هو أوكد السنن، بينه علي وابن عمر وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم. (فمن أحب أن يوتر بخمس فلفعل) بأن لا يجلس إلا في آخرهن كما تقدم من حديث عائشة. ويحتمل على بعد أن يصلي ركعتين، ثم يصلي ثلاثا، كما هو مذهب أبي حنيفة. (ومن أحب أن يوتر بثلاث) أي موصولة بتسليمة وبتشهد، فلا يجلس إلا في آخرها، هذا هو الظاهر. ويؤيده حديث عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث، لا يقعد إلا في آخرهن. أخرجه الحاكم والبيهقي. وقيل: مفصولة بتسليمتين، والكل واسع، والخلاف في الأفضل. (فليفعل) في دليل على الإيتار بثلاث موصولة. ولا يعارضه ما روي عن أبي هريرة مرفوعا: لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب، ولكن أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة أو أكثر من ذلك. أخرجه محمد بن نصر والبيهقي وغيرهما؛ لأنه يجمع

(8/20)


بينهما بأن النهي عن الثلاث إذا كان يقعد للتشهد الأوسط؛ لأنه يشبه المغرب. وأما إذا لم يقعد إلا في آخرها فلا يشبه المغرب. قال الأمير اليماني في السبل (ج2 ص9): وهو جمع حسن. وقال الحافظ في الفتح: وجه الجمع أن يحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف، يعني الإيتار بثلاث بتشهد واحد، فروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهض في الثانية من الوتر بالتكبير، ومن طريق المسور بن مخرمة أن عمر أوتر بثلاث، لم يسلم إلا في آخرهن، ومن طريق ابن طاووس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث، لا يقعد بينهن، ومن طريق قيس بن سعد عن عطاء وحماد بن زيد عن أيوب مثله. وروى محمد بن نصر عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاث
(1) وفي نسخة " بعض"
رواه أبوداود، والنسائي وابن ماجه.
1274- (13) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وتر
______________________________________________________________________________________________________________________

(8/21)


كالمغرب، وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور- انتهى كلام الحافظ. قلت: ويؤيد هذا الجمع ما قدمنا من حديث عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يوتر بثلاث، لا يقعد إلا في آخرهن، وهو حديث حسن أو صحيح. وقال: بعض الحنفية في تأويل قوله: "لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب" الخ. إن معنى أنه لا يترك تطوعا قبل الإيتار بثلاث، فرقا بينه وبين المغرب، فكره إفراد الوتر حتى تكون معه شفع، فمحط النهي هو جعل الوتر ثلاثا بحيث لم يتقدمهن شيء. فأما إذا قدم عليهن شفعا فلا يكره لعدم المشابهة بينه وبين المغرب حينئذ؛ لأنه لا يندب الصلاة قبل الفرض المغرب. وفيه أن هذا التأويل سخيف جدا بل هو باطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون التطوع قبل الإيتار بثلاث، وتقديم الشفع عليه واجبا، واللازم باطل، فالملزوم مثله، ولأن التطوع قبل فرض المغرب سنة ثابتة ندب إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا وفعلا وتقريرا، كما ذكرنا مفصلا، وحينئذ لا يرتفع المشابهة بينه والمغرب على هذا التأويل، فتفكر. ولبطلانه وجوه أخرى لا تخفى على المتأمل، وارجع إلى تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (ج1 ص339، 340). (ومن أحب أن يوتر بواحدة) ظاهره مقتصرا عليها. قال النووي: فيه دليل على أن أقل الوتر ركعة، وأن الركعة الواحدة صحيحة. وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وقال أبوحنيفة: لا يصح الإيتار بواحدة، ولا تكون الركعة الواحدة صلاة، والأحاديث الصحيحة ترد عليه. (رواه أبوداود والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص418) وابن حبان والدارمي والطحاوي (ص172) والطيالسي (ص81) والدارقطني (ص171) والحاكم (ج1 ص303) والبيهقي (ج3 ص23، 24، 27) وسكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: على شرطهما. وقال المنذري: وقد وقفه بعضهم ولم يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه أبوداود والنسائي وابن ماجه مرفوعا من رواية بكر بن وائل عن الزهري، وتابعه على رفعه الإمام أبوعمرو

(8/22)


الأوزاعي وسفيان بن حسين ومحمد بن أبي حفصة وغيرهم. ويحتمل أن يكون يرويه مرة فتياه ومرة من روايته- انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص116): وصحح أبوحاتم والذهلي والدارقطني في العلل، والبيهقي وغير واحد وقفه، وهو الصواب، وقال في بلوغ المرام: رجح النسائي وقفه. وقال الأمير اليماني: وله حكم الرفع، إذ لا مسرح للاجتهاد فيه أي في المقادير. وقال النووي: إسناده صحيح، ورجح ابن قطان الرفع، وقال: لا حفظ من لم يحفظه.
1274- قوله: (إن الله وتر) قال الجزري: الوتر الفرد وتكسر واؤه وتفتح، فالله واحد في ذاته لا يقبل الانقسام والتجزئة، واحد في صفاته فلا شبه له ولا مثل، واحد في أفعاله فلا شريك له ولا معين.
يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن)). رواه الترمذي، أبوداود، والنسائي.

(8/23)


(يحب الوتر) أي يثيب عليه ويقبله من عامله. قال القاضي: كل ما يناسب الشيء أدنى مناسبة كان أحب إليه مما لم يكن له تلك المناسبة. (فأوتروا) أمر بصلاة الوتر، وهو أن يصلي مثنى مثنى، ثم يصلي في آخرها ركعة مفردة أو يضيفها إلى ما قبلها من الركعات. كذا في النهاية. وقال الطيبي: يريد بالوتر في هذا الحديث قيام الليل، فإن الوتر يطلق عليه، كما يفهم من الأحاديث، فلذلك خص الخطاب بأهل القرآن- انتهى. قال ابن الملك: الفاء تؤذن بشرط مقدر، كأنه قال: إذا اهتديتم إلى أن الله يحب الوتر فأوتروا- انتهى. والأمر للندب. (يا أهل القرآن) يعني المؤمنين المصدقين به، أو المتولين بحفظه وتلاوته. وقال القاري: أي أيها المؤمنون به، فإن الأهلية عامة شاملة لمن آمن به سواء قرأ أو لم يقرأ وإن كان الأكمل منهم من قرأ وحفظ، وعلم وعمل ممن تولى قيام تلاوته ومراعاة حدود وأحكامه- انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص285) تخصيصه أهل القرآن بالأمر فيه يدل على أن الوتر غير واجب، ولو كان واجبا لكان عاما، وأهل القرآن في عرف الناس هم القراء والحفاظ دون العوام. ويدل على ذلك أيضا قوله للأعرابي: ليس لك ولأصحابك- انتهى. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا ابن ماجه كلهم من رواية عاصم بن ضمرة عن علي. وفي رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن علي رضي الله عنه قال: الوتر ليس بحتم، ولا كصلاتكم المكتوبة. وفي بعضها: ولكنه سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال إن الله تعالى وتر الخ. وهذا ظاهر، بل نص في عدم وجوب الوتر، كما عليه الجمهور، ويدل عليه أيضا ما روي عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى حديث علي زاد: فقال أعرابي: ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليس لك ولأصحابك. أخرجه أبوداود وابن ماجه والبيهقي من طريق أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود. وأبوعبيدة لم يسمع من أبيه ابن مسعود. قال

(8/24)


السندي: قوله: "ليس لك ولا لأصحابك" أي ممن ليس بأهل القرآن ظاهره الرفع لا الوقف. وهذا ينافي وجوب الوتر عموما أو استنانه، إذا قلنا المراد بالوتر في هذا الحديث صلاة الليل، نعم ينبغي أن تكون صلاة الليل مخصوصة بأهل القرآن، فيمكن أن يكون التأكيد في حقهم، ويكون في حق الغير ندبا بلا تأكيد- انتهى. ويدل عليه أيضا ما روي عن ابن عباس مرفوعا: ثلاث على الفرائض، وهي لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر. أخرجه أحمد والدارقطني والطبراني والبيهقي والحاكم، وقال البيهقي في روايته: ركعتا الضحى بدل ركعتي الفجر، وهو حديث ضعيف، كما بينه الحافظ في التلخيص. ويدل عليه أيضا ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن عبادة بن الصامت بلفظ: قال الوتر حسن جميل عمل به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده. وليس بواجب، ورواته ثقات، قاله البيهقي. ويدل أيضا عليه ما روي عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتر على بعيره. أخرجه الجماعة، فهو ظاهر في عدم الوجوب؛
1275-(14) وعن خارجة بن حذفة قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إن الله أمدكم بصلاة

(8/25)


لأن الفريضة لا تصلى على الراحلة. وأجاب الحنفية عنه بأن هذا كان قبل وجوب الوتر. وفيه أن لم يقم دليل على وجوبه حتى يحمل على أنه كان ذلك قبل الوجوب. وقد روى عبدالرزاق عن ابن عمر أنه كان يوتر على راحلته، وربما نزل فأوتر بالأرض. ويدل أيضا عليه ما علم من الدين بالضرورة أن الصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمس، فلو كان الوتر واجبا لصار المفروض ست صلوات في كل يوم وليلة، ولا فرق بين الواجب والفرض في لزوم الأداء عملا، مع أن حديث طلحة بن عبيد الله عند الشيخين يدل على أنه لا يلزم العبد صلاة في اليوم والليلة غير الصلوات الخمس إلا أن يتطوع، ففيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. وفي الباب أحاديث وآثار تدل على عدم وجوب الوتر، ذكرها محمد بن نصر في قيام الليل. وفي ما ذكرنا كفاية.

(8/26)


1275- قوله: (وعن خارجة بن حذافة) بحاء مهملة مضمومة وخفة ذال معجمة وفاء بعد الألف، ابن غانم القرشي العدوي. صحابي من مسلمة الفتح، وكان أحد فرسان قريش، يقال: كان يعدل بألف فارس، روي أن عمرو بن العاص استمد من عمر بثلاثة آلاف فارس، فأمده بخارجة بن حذافة هذا والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود. سكن خارجة مصر واختلط بها، وكان قاضيا لعمرو بن العاص بمصر. وقيل: كان على شرطته وعداده في أهل مصر؛ لأنه شهد فتح مصر، ولم يزل فيها إلى أن قتل بها، قتله أحد الخوارج الثلاثة الذين كانوا انتدبوا لقتل علي ومعاوية وعمرو، فأراد الخارجي قتل عمرو فقتل خارجة هذا، وهو يظنه عمرا. وذلك أنه كان استخلفه عمرو على صلاة الصبح ذلك اليوم، فلما قتله أخذ وأدخل على عمرو. فقال الخارجي: أردت عمرا وأراد الله خارجة، فذهبت مثلا. وكان قتله سنة أربعين ليلة قتل علي بن أبي طالب. وليس له غير هذا الحديث الواحد. (إن الله أمدكم بصلاة) أي زادكم كما في بعض الروايات، قاله الطيبي. وقال محمد طاهر الفتني في مجمع البحار: هو من أمد الجيش. إذا ألحق به ما يقويه، أي فرض عليكم الفرائض ليوجركم بها ولم يكتف به، فشرع صلاة التهجد والوتر ليزيدكم إحسانا على إحسان- انتهى. وقال القاري: أي جعلها زيادة لكم في أعمالكم من مد الجيش وأمده أي زاده. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص285): قوله "أمدكم بصلاة" يدل على أنها غير لازمة لهم، ولو كانت واجبة لخرج الكلام فيه على صيغة الإلزام، فيقول ألزمكم. أو فرض عليكم، أو نحو ذلك من الكلام. وقد روي أيضا في هذا الحديث: أن الله قد زادكم صلاة. ومعناه الزيادة في النوافل. وذلك أن نوافل الصلوات شفع لا وتر فيها، فقيل: أمدكم بصلاة وزادكم بصلاة لم تكونوا تصلونها قبل على تلك الهيئة
هي خير لكم من حمر النعم. الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر)).
رواه الترمذي، وأبوداود.

(8/27)


والصورة، وهي الوتر- انتهى. (هي خير لكم من حمر النعم) بضم الحاء وسكون الميم، جمع أحمر. والنعم هنا الإبل، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، وإنما قال ذلك ترغيبا للعرب فيها؛ لأن حمر النعم أعز أموال العرب عندهم، فكانت كناية عن أنها خير من الدنيا كلها؛ لأنها ذخيرة الآخرة التي هي خير وأبقى. وقيل: المراد إنها خير لكم من أن تتصدقوا بها، وهو اعتقادهم الخيرية فيها، وإلا فذرة من الآخرة خير من الدنيا وما فيها. (الوتر) بالجر بدل من صلاة بدل المعرفة من النكرة، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف بتقدير هي الوتر. وجوز النصب بتقدير أعني (جعله الله لكم) أي وقت الوتر. (فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر) فيه دليل على أن أول وقت الوتر يدخل بالفراغ من صلاة العشاء، ويمتد إلى طلوع الفجر، كما قالت عائشة: وانتهى وتره إلى السحر. قال المجد بن تيمية في المنتقى: فيه دليل على أنه لا يعتد به قبل العشاء بحال. واستدل الحنفية بهذا الحديث على وجوب الوتر. وذلك بوجوه: الأول أنه أضاف الزيادة إلى الله تعالى، والسنن إنما تضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: أن الزيادة إنما تتحقق في الواجبات؛ لأنها محصورة العدد، لا في النوافل؛ لأنها لا نهاية لها. والثالث: أن الزيادة على الشيء لا تتصور إلا إذا كان من جنس المزيد عليه. والرابع: أنه جعل له وقتا معينا، وهو من أمارات الوجوب. وقد رد عليهم ابن العربي في شرح الترمذي، حيث قال به احتج علماء أبي حنيفة، فقالوا: إن الزيادة لا تكون إلا من جنس المزيد عليه، وهذه دعوى، بل تكون الزيادة من غير جنس المزيد، كما لو ابتاع بدرهم، فلما قضاه زاده ثمنا أو ربحا إحسانا، كزيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لجابر في ثمن الجمل، فإنها زيادة، وليست بواجبة. وليس في هذا الباب حديث صحيح يتعللون به- انتهى. وقال الحافظ الدارية: ليس في قوله: "زادكم" دلالة على وجوب الوتر؛ لأنه لا يلزم أن يكون

(8/28)


المزاد من جنس المزيد، فقد روى محمد بن نصر المروزي في الصلاة من حديث أبي سعيد رفعه: أن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم، هي خير لكم من حمر النعم، ألا وهي الركعتان قبل الفجر، وأخرجه البيهقي (ج2 ص469) ونقل عن ابن خزيمة أنه قال: لو أمكنني لرحلت في هذا الحديث- انتهى. قلت: حديث أبي سعيد هذا يرد على جميع وجوه استدلالهم المتقدمة، ويقطع جميع ما ذكره صاحب البدائع من وجوه الاستدلال، وهو حديث مشكل على الحنفية جدا. وقد ذكر ابن الهمام في فتح القدير على الهداية هذا الإشكال، ثم قال: فالأولى التمسك بما في أبي داود عن بريدة مرفوعا: الوتر حق، فمن لم يوتر فليس مني الخ. قلت: يريد به ما سيأتي في الفصل الثالث من حديث بريدة بلفظ: الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا الخ. وسيأتي هناك الجواب عنه. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا الطحاوي (ج1 ص250)
1276-(15) وعن زيد بن أسلم، قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام عن وتره فليصل إذا أصبح)).

(8/29)


والحاكم (ج1 ص306) وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه لتفرد التابعي عن الصحابي، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن سعد في الطبقات (ج4 ق1 ص139) والبيهقي (ج2 ص469و 478) والدارقطني (ص274) والطبراني وابن عدي في الكامل وابن عبدالحكم في فتوح مصر (ص259،260) كلهم من طريق عبدالله بن راشد الزوفي أبي الضحاك عن عبدالله بن أبي مرة عن خارجه بن حذافة. وعبدالله بن راشد. قال الحافظ في التقريب: مستور. وقال الذهبي في الميزان في ترجمته: روى عن عبدالله بن أبي مرة الزوفي عن خارجة بحديث الوتر، رواه عنه يزيد بن أبي حبيب، وخالد بن يزيد قيل: لا يعرف سماعه من ابن أبي مرة. قلت: ولا هو بالمعروف. وذكره ابن حبان في الثقات- انتهى. قال الحافظ في التهذيب: وقال أي ابن حبان يروى عن عبدالله بن أبي مرة أن كان سمع منه، ومن اعتمده فقد اعتمده فقد اعتمد إسنادا مشوشا- انتهى. وأما عبدالله بن أبي مرة فقال الحافظ في التقريب: صدوق. أشار البخاري إلى أن روايته عن خارجة منقطعة. وقال في التهذيب: لا يعرف سماعه من ابن أبي مرة. قلت: نقل ابن عدي في الكامل عن البخاري أنه قال لا يعرف سماع بعض هؤلاء من بعض. وقال ابن حبان: إسناد منقطع ومتن باطل- انتهى. لكن الحديث له شواهد: منها حديث عمرو بن العاص وعقبة بن عامر، أخرجه ابن راهويه والطبراني في الكبير والأوسط. وفيه سويد بن عبدالعزيز، وهو متروك، قاله الهيثمي (ج2 ص340). ومنها حديث ابن عباس، أخرجه الدارقطني والطبراني، وفي سنده النضر أبوعمر الخزار، وهو ضعيف، ومنها حديث أبي بصرة أخرجه أحمد والحاكم والطبراني. وبعض أسانيده صحيح. ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أخرجه الدارقطني. وفي سنده محمد بن عبيدالله العزرمي، وهو متروك، وأخرجه أيضا أحمد. وفي سنده الحجاج ابن أرطاة، وهو غير ثقة. ومنها حديث ابن عمر أخرجه الدارقطني في غرائب مالك. وفيه حميد بن أبي الجون، وهو ضعيف. ومنها حديث أبي سعيد أخرجه

(8/30)


الطبراني في مسند الشاميين. قال الحافظ في الدراية (ص112): بإسناد حسن.
1276- قوله: (وعن زيد بن أسلم) من ثقات التابعين المشهورين، وهو مولى عمر. (من نام عن وتره) أي عن أدائه. (فليصل إذا أصبح) أي فليقض الوتر بعد الصبح متى اتفق، وكذا من نسي الوتر فليصله إذا ذكر. ففيه دليل على أن من نام عن وتره أو نسيه فحكمه حكم من نام عن الفريضة أو نسيها أنه يأتي بها عند الاستيقاظ أو الذكر. وهذا يدل على مشروعية قضاء الوتر. واختلف فيه العلماء: فذهب مالك إلى أن الوتر يصلي إلى تمام صلاة الصبح أداء، ولا قضاء له بعد ذلك، يعني أنه لا يقضي بعد صلاة الصبح. وذهب الشافعي وأحمد إلى سنية القضاء، وقالا: إنه يقضى أبدا ليلا ونهارا. وذهب أبوحنيفة وصاحباه إلى وجوب القضاء. واستشكل قول الصاحبين؛ لأن وجوب القضاء فرع لوجوب الأداء، وقد قالا بسنية الوتر لا بوجوبه. وأجيب بأنهما لما ثبت
رواه الترمذي مرسلا.
1277 -(16) وعن عبدالعزيز بن جريج، قال: سألنا عائشة: بأي شيء كان يوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟

(8/31)


عندهما دليل السنية ذهبا إليه، ولما ثبت دليل وجوب القضاء قالا به اتباعا للنص وإن خالف القياس. والراجح عندي ما ذهب إليه الشافعي وأحمد من أن الوتر يقضى أبدا ليلا ونهارا، لكن ندبا لا وجوبا، خلافا لمالك، فإنه قال بعدم مشروعية القضاء، وخلافا للأئمة الحنفية، فإنهم ذهبوا إلى وجوب القضاء. وذهب بعض العلماء إلى التفرقة بين أن يتركه نوما أو نسيانا، وبين أن يتركه عمدا، فيقضيه في الأول إذا استيقظ أو إذا ذكر في أي وقت كان ليلا أو نهارا. قال الشوكاني: وهو ظاهر الحديث. واختاره ابن حزم، واستدل بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، قال: وهذا عموم يدخل فيه كل صلاة فرض أو نافلة، وهو في الفرض أمر فرض، وفي النفل أمر ندب، قال: ومن تعمد تركه حتى دخل الفجر فلا يقدر على قضائه أبدا، قال فلو نسيه أحببنا له أن يقضيه أبدا متى ذكره ولو بعد أعوام. وقد استدل بالأمر بقضاء الوتر على وجوبه. وحمله الجمهور على الندب. ويكون المعنى أن المندوب يقضى كالواجب لكن ندبا لا وجوبا، وقد جاء قضاء المندوب. (رواه الترمذي مرسلا) من طريق عبدالله بن زيد بن أسلم عن أبيه زيد بن أسلم. وأخرجه أيضا هو وابن ماجه ومحمد بن نصر موصولا من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد، وسيأتي في الفصل الثالث. قال الترمذي: والمرسل أصح من الموصول أي؛ لأن عبدالرحمن ابن زيد ضعيف، وأخوه عبدالله ابن زيد أحسن حالا منه وأمثل وأثبت، وثقه أحمد ومعن بن عيسى القزاز. وقال أبوحاتم ليس به بأس. وقال الحافظ: صدوق فيه لين، ولكن الحديث صحيح من طريق أخرى فقد رواه أبوداود في السنن والدارقطني (ص171) والحاكم (ج1 ص302) والبيهقي (ج2 ص480) كلهم من طريق أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه أيضا

(8/32)


الحافظ العراقي. قال الشوكاني: وإسناد الطريق التي أخرجه منها أبوداود صحيح، كما قال العراقي.
1277- قوله: (وعن بد العزيز بن جريج) بضم الجيم الأولى وفتح الراء وسكون الياء، تابعي لين. قال العجلي: لم يسمع من عائشة، وأخطأ خصيف. (راوي هذا الحديث عنه) فصرح بسماعه، كذا في التقريب. وقال البخاري والعقيلي: لا يتابع في حديثه. وذكره ابن حبان في الثقات. (قال: سألنا عائشة) هذا لفظ الترمذي. وفي رواية أبي داود قال: سألت عائشة. (بأي شيء) أي من السور. (كان يوتر) أي يصلي الوتر وقال ابن حجر أي بأي
قالت: كان يقرأ في الأولى بـ?سبح اسم ربك الأعلى? وفي الثانية بـ?قل يأيها
الكافرون? وفي الثالثة بـ?قل هو الله أحد? والمعوذتين)) رواه الترمذي، وأبوداود.
____________________________________________

(8/33)


شيء من القرآن يقرأ في وتره؟ (كان يقرأ في الأولى) أي من الثلاث بـ?سبح اسم ربك الأعلى? أي بعد الفاتحة. (وفي الثالثة) فيه إشارة إلى أن الثلاث بسلام واحد. قال الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص119): ظاهر الحديث أن الثالثة متصلة غير منفصلة، وإلا لقال: وفي ركعة الوتر أو الركعة المفردة أو نحو ذلك. ولكن يعكر عليه في لفظه للدارقطني (ص172) والطحاوي (ص168) والحاكم (ج2:ص305) والبيهقي (ج3:ص37) عن عائشة أيضا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما بـ?سبح اسم ربك الأعلى? و ?قل يا أيها الكافرون? ويقرأ في الوتر بـ?قل هو الله أحد? و ?قل أعوذ برب الفلق? و ?قل أعوذ برب الناس? انتهى. وقال الحافظ في الدراية بعد ذكر هذه الرواية: وهو يرد استدلال الطحاوي بأنه لو كان مفصولا لقال: وركعة الوتر أو الركعة المفردة أو نحو ذلك-انتهى. وقال الحاكم في المستدرك بعد روايته. وسعيد بن عفير. (يعني الذي روى عن يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة) إمام أهل مصر بلا مدافعة، وقد أتى بالحديث مفسرا مصلحا دالا على أن الركعة التي هي الوتر ثانية غير الركعتين اللتين قبلهما-انتهى. أي فيحمل ما أجمله غيره كسعيد بن الحكم بن أبي مريم وغيره على هذا المفصل. (والمعوذتين) بكسر الواو، وتفتح. وفي الحديث دليل على مشروعية قراءة ثلاث سور الإخلاص والمعوذتين في الركعة الثالثة من الوتر، لكن اختار أكثر أهل العلم قراءة الإخلاص فقط.؛ لأن حديث عائشة فيه كلام، وحديث أبي بن كعب وابن عباس بإسقاط المعوذتين أصح. وقال ابن الجوزي: أنكر أحمد وابن معين زيادة المعوذتين. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص38)، وسكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، لكن قال شيخنا في شرح الترمذي: في كونه حسنا نظر، فإن عبدالعزيز بن جريج لم يسمع من عائشة. (كما قال العجلي وابن حبان والدارقطني) وأيضا فيه خصيف،

(8/34)


وهو قد خلط بآخره، ولا يدرى أن محمد بن سلمة رواه عنه قبل الاختلاط أو بعده، والله أعلم، نعم يعتضد برواية عمرة عن عائشة التي أشار إليها الترمذي يعني التي تقدم لفظها في كلام الزيلعي. وقال العلامة أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي متعقبا على كلام الشيخ ما لفظه: وليس هذا بشيء. أما خصيف فإنه ثقة. تكلم بعضهم في حفظه، كما سبق، وعبدالعزيز بن جريج قديم؛ لأن ابنه عبدالملك مات في أول عشر ذي الحجة سنة 150 عن 76 سنة فكأنه ولد سنة 74، بل قال بعضهم: إنه جاز المائة، فكأنه ولد حول سنة 50، وعائشة ماتت 58، فأبوه عبدالعزيز أدرك عائشة يقينا. ثم قد تأيد الحديث برواية عمرة عن عائشة التي أشار إليها الترمذي. وحديثها رواه الحاكم في المستدرك (ج1:ص305) من طريق سعيد بن عفير وسعيد بن أبي مريم عن يحيى بن أيوب عن عمرة، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. ويحيى بن
1278- (17) ورواه النسائي عن عبدالرحمن بن أبزى.
1279- (18) ورواه أحمد عن أبي بن كعب.
1280- (19) والدارمي عن ابن عباس،
___________________________________
أيوب الغافقي ثقه حافظ، ولا حجة لمن تكلم فيه، ورواه أيضا ابن حبان والدارقطني والطحاوي فيما حكاه الحافظ في التلخيص-انتهى. قلت: ويؤيده أيضا ما روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة بزيادة المعوذتين، وفيه المقدام بن داود، وهو ضعيف، وما روى ابن السكن من حديث عبدالله بن سرجس بإسناد غريب، كما في التلخيص. فالظاهر أن حديث عائشة حسن لشواهده. وأما من جهة سنده ففي كونه حسنا كلام لما تقدم أن فيه خصيفا وهو سيء الحفظ، وقد خلط بآخره. والله أعلم.

(8/35)


1278- (ورواه النسائي) وكذا أحمد (ج3:ص407، 406) قال الحافظ في التلخيص (ص118): وإسناده حسن. (عن عبدالرحمن بن أبزى) بفتح الهمزة وسكون الموحدة بعدها زاي مقصور، الخزاعي مولاهم، مختلف في صحبته، فذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال البخاري: له صحبة. وذكره غير واحد في الصحابة. وقال أبوحاتم: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى خلفه. وقال ابن عبدالبر: استعمله علي رضي الله عنه على خراسان. وذكره ابن سعد فيمن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أحداث الأسنان. وممن جزم بأن له صحبة: خليفة بن خياط والترمذي ويعقوب بن سفيان وأبوعروبة والدارقطني والبرقي وبقي بن مخلد وغيرهم، كذا في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: إنه صحابي صغير، وكان في عهد عمر رجلا، وكان على خراسان لعلي-انتهى. قلت: ويدل على كونه صحابيا أنه روى ابن سعد والطحاوي وأبوداود وأحمد من حديثه أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالراجح أنه صحابي. وقد اختلفوا هل هذا الحديث من روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من روايته عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال الترمذي: روي عن عبدالرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب، ويروي أيضا عن عبدالرحمن بن أبزى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، هكذا روى بعضهم فلم يذكر عن أبي، وذكر بعضهم عن عبدالرحمن ابن أبزى عن أبي-انتهى. والظاهر أن له في القراءة في الوتر روايتين: إحداهما روايته عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وثانيتهما روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير واسطة، وقد قال العراقي: كلاهما عند النسائي بإسناد صحيح، كما في النيل.
1279- (ورواه أحمد عن أبي بن كعب) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه والطحاوي وابن حبان والحاكم والبيهقي. وزاد النسائي في رواية: ولا يسلم إلا في آخرهن.

(8/36)


1280- (والدارمي عن ابن عباس) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والطحاوي
ولم يذكرا: والمعوذتين.
1281- (20) وعن الحسن بن علي، قال: ((علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر:
_________________________________
والبيهقي (ج3:ص38). (ولم يذكرا) أي أحمد والدارمي أو أبي بن كعب وابن عباس. (والمعوذتين) وتقدم حديث أبي وابن عباس بإسقاط المعوذتين أصح، ولذلك اختاره أكثر أهل العلم.

(8/37)


1281- قوله: (وعن الحسن بن علي) بن أبي طالب الهاشمي سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة أمير المؤمنين أبومحمد، ولد في النصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وهو أصح ما قيل في ولادته، ومات سنة 49، وهو ابن سبع وأربعين. وقيل: مات سنة 50. وقيل بعدها، ودفن بالبقيع، ويقال: إنه مات مسموما، وقد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحفظ عنه. قال الخرزجي: له ثلاثة عشر حديثا. وقال البرقي: جاء عنه نحو من عشرة أحاديث، روى عنه ابنه الحسن وأبوهريرة وعائشة أم المؤمنين وجماعة كثيرة. ولما قتل أبوه علي بن أبي طالب بالكوفة بايعه الناس على الموت أكثر من أربعين ألفا، ثم كره سفك الدماء، فسلم الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان وانخلع، وبايعه في النصف من جمادى الأولى سنة 41، فكانت ولايته سبعة أشهر وأحد عشر يوما، ويقال أربعة أشهر. ومناقبه وفضائله كثيرة جدا. (أقولهن) أي أدعو بهن. (في قنوت الوتر) وفي رواية: في الوتر. والقنوت يطلق على معان، والمراد به ههنا الدعاء في صلاة الوتر في محل مخصوص من القيام. قال السندي في حاشية النسائي: الظاهر أن المراد علمني أن أقولهن في الوتر بتقدير أن، أو باستعمال الفعل موضع المصدر مجازا، ثم جعله بدلا من كلمات، إذ يستبعد أنه علمه الكلمات مطلقا، ثم هو من نفسه وضعهن في الوتر. ويحتمل أن قوله أقولهن صفة كلمات، كما هو الظاهر، لكن يؤخذ منه أنه علمه أن يقول تلك الكلمات في الوتر، لا أنه علمه نفس تلك الكلمات مطلقا-انتهى. قلت: ويؤيد ذلك ما وقع في بعض روايات أحمد: وعلمه أن يقول في الوتر، وما في رواية للنسائي: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الكلمات في الوتر، وما في رواية ابن الجارود: علمه هذه الكلمات ليقول في قنوت الوتر. ثم ظاهر الحديث الإطلاق في جميع السنة، كما هو مذهب الحنفية والحنابلة وهو وجه للشافعية، والمشهور من مذهبهم تخصيص

(8/38)


القنوت في الوتر بالنصف الأخير من رمضان، وهو رواية عن مالك والمشهور المعتمد عند المالكية نفي القنوت في الوتر جملة، وهي رواية ابن القاسم، قال في المدونة: لا يقنت في رمضان لا في أوله ولا في آخره ولا في غير رمضان ولا في الوتر أصلا-انتهى. والراجح عندنا: هو أن القنوت في الوتر مستحب في جميع السنة؛ لأنه ذكر يشرع في الوتر فيشرع في جميع السنة كسائر الأذكار، ولإطلاق لفظ الوتر في هذا الحديث. وإليه ذهب ابن مسعود وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت))
____________________________________________________________

(8/39)


أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال السندي: ثم قد أطلق الوتر فيشمل الوتر طول السنة، فصار الحديث دليلا قويا لمن يقول بالقنوت في الوتر طول السنة-انتهى. (اللهم اهدني) أي ثبتني على الهداية، أو زدني من أسباب الهداية. (فيمن هديت) أي في جملة من هديتهم، أو هديته من الأنبياء والأولياء، كما قال سليمان: ?وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين?. وقال ابن الملك: أي اجعلني ممن هديتهم إلى الصراط المستقيم. وقال الطيبي: أي اجعل لي نصيبا وافرا من الاهتداء معدودا في زمره المهتدين من الأنبياء والأولياء وقيل: "في" فيه وفيما بعده بمعنى مع قال تعالى. ?فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم? [69:4]. (وعافني) أمر من المعافاة التي هي دفع السوء. (وتولني) أي تول أمري وأصلحه. (فيمن توليت) أمورهم ولا تكلني إلى نفسي. وقال المظهر: أمر مخاطب من تولى إذا أحب عبدا وقام بحفظه وحفظ أموره. (وبارك) أي أكثر الخير. (لي) أي لمنفعتي. (فيما أعطيت) أي فيما أعطيتني من العمر والمال والعلوم والأعمال. وقال الطيبي: أي أوقع البركة فيما أعطيتني من خير الدارين. (وقني) أي احفظني. (شر ما قضيت) أي شر ما قضيته أي قدرته لي، أو شر قضائك. قيل: سؤال الوقاية وطلب الحفظ عما قضاه الله وقدره للعبد مما يسوءه، إنما هو باعتبار ظاهر الأسباب والآلات التي يرتبط بها وقوع المقضيات، ويجري فيها المحو والإثبات فيما لا يزال. (فإنك) وفي رواية: إنك بغير فاء. (تقضي) أي تقدر أو تحكم بكل ما أردت. (ولا يقضى عليك) بصيغة المجهول، أي لا يقع حكم أحد عليك، فلا معقب لحكمك ولا يجب عليك شيء إلا ما أوجبته عليك بمقتضى وعدك. (إنه) أي الشأن. وفي بعض الروايات: وإنه بزيادة الواو. (لا يذل) بفتح فكسر، أي لا يصير ذليلا. (من واليت) الموالاة ضد المعاداة. وهذا في مقابلة لا يعز من عاديت، كما جاء في بعض الروايات. قال ابن حجر: أي لا يذل من واليت من عبادك في الآخرة أو مطلقا وإن

(8/40)


ابتلي بما ابتلي به، وسلط عليه من أهانه وأذله باعتبار الظاهر؛ لأن ذلك غاية الرفعة والعزة عند الله وعند أوليائه، ولا عبرة إلا بهم. ومن ثم وقع للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الامتحانات العجيبة ما هو مشهور. وزاد البيهقي، وكذا الطبراني من عدة طرق: ولا يعز من عاديت، أي لا يعز في الآخرة أو مطلقا وإن أعطي من نعيم الدنيا وملكها ما أعطي، لكونه لم يمتثل أوامرك، ولم يجتنب نواهيك. (تباركت) أي تكاثر خيرك في الدارين. (ربنا) بالنصب أي يا ربنا. (وتعاليت) أي ارتفع عظمتك وظهر قهرك وقدرتك على من في الكونين. وقال ابن الملك: أي ارتفعت عن مشابهة كل شيء. وزاد النسائي في رواية: وصلى الله على النبي. قال النووي في شرح المهذب: إنها
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي.

(8/41)


زيادة بسند صحيح أو حسن. وتعقبه الحافظ بأنه منقطع، فإن عبدالله بن علي، وهو ابن الحسين بن علي، لم يلحق الحسن بن علي- انتهى. ورواه ابن أبي عاصم وزاد: ونستغفرك ونتوب إليك. وقال القاري في شرح الحصن: وفي رواية ابن حبان زيادة: نستغفرك ونتوب إليك، وهو موجود في أصل الأصيل-انتهى. والظاهر أن هذه الزيادة قبل زيادة الصلاة على ما يفهم من الحصن. والحديث يدل على مشروعية القنوت بهذا الدعاء، وهو مختار الشافعية والحنابلة، واختار الحنفية القنوت في الوتر بسورة الخلع وسورة الحقد، أي اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونخضع لك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحقد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق. أخرجه أبوداود في المراسيل والبيهقي في السنن (ج2 ص210) عن خالد بن أبي عمران مرفوعا مرسلا، وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفا على ابن مسعود، وابن السني موقوفا على ابن عمر، وأخرجه محمد بن نصر والطحاوي والبيهقي في السنن عن عمر بن الخطاب. قال الحنفية: هما سورتان من القرآن في مصحف أبي، كما ذكر السيوطي في الدر المنثور، وابن قدامة في المغني (ج2 ص153) قلت: الأولى عندي أن يدعو في الوتر بالقنوت المروي في حديث الحسن ابن علي؛ لأنه حديث صحيح أو حسن مرفوع متصل، ولو قرأ ما هو مختار الحنفية جاز من غير شك، ومن لا يحسن شيئا من ذلك يدعو بما يحفظ من الدعاء المأثور، أو يستغفر من ذنوبه ويكرر ذلك. (رواه الترمذي) وحسنه، وقال: لا نعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت في الوتر شيئا أحسن من هذا. (وأبوداود) الخ وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص199 و200) وابن الجارود (ص142) ومحمد بن نصر المرزوي والحاكم في المستدرك (ج3 ص172) والبيهقي (ج2 ص209 و498) وإسحاق بن راهويه وأبوداود الطيالسي (ص163) وابن حبان وابن خزيمة والدارقطني وأبويعلى والطبراني في الكبير، وسعيد بن منصور في سننه. وقد

(8/42)


أطال الكلام عليه الحافظ في التلخيص (ص94 و95) وأخرجه ابن حزم في المحلى (ج4 ص147) من طريق أبي داود، وضعفه حيث قال بعد روايته: وهذا الأثر وإن لم يكن مما يحتج بمثله فلم نجد فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيره، وقد قال أحمد: ضعيف الحديث أحب إلينا من الرأي- انتهى. ونقل الحافظ في تهذيب التهذيب (ج3 ص256) كلام ابن حزم هذا، ولم يتعقبه بشيء، وضعفه أيضا ابن حبان، كما قال الشوكاني في النيل، وقال في تحفة الذاكرين (ص128): قد ضعفه بعض الحفاظ، وصححه آخرون. وأقل أحوله إذا لم يكن صحيحا أن يكون حسنا- انتهى. قلت: الحق أن هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن، بل هو صحيح، ولا حجة لمن ضعفه، وقد رجح صحته علامة أحمد شاكر في تعليقه على المحلى (ج4 ص147، 148). تنبيه حديث الحسن هذا رواه الحاكم

(8/43)


(ج3 ص172) والبيهقي (ج3 ص39) من طريق أبي بكر بن شيبة الحزامي عن ابن أبي فديك عن إسماعيل ابن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن الحسن بن علي، قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره. قال البيهقي: تفرد بهذا اللفظ أبوبكر بن شيبة الحزامي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين إلا أن إسماعيل بن إبراهيم خالفه، محمد بن جعفر بن أبي كثير في إسناده، ثم أخرجه عن محمد بن جعفر بن أبي كثير عن موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم به بسند السنن ومتنه وسكت عنه. قال الحافظ في الدراية: هو. (أي طريق محمد بن جعفر) الصواب- انتهى. وقال في التلخيص (ص94): ينبغي أن يتأمل قوله في هذا الطريق: إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، فقد رأيت في الجزء الثاني من فوائد أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني تخريج الحاكم له، قال: ثنا محمد بن يونس المقري، قال: ثنا الفضل بن محمد البيهقي، ثنا أبوبكر شيبة المدني الحزامي ثنا ابن أبي فديك عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة بسنده. ولفظه: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوال في الوتر قبل الركوع فذكره- انتهى. وهذا كله يدل على أن رواية الحاكم بلفظ: إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، ليست بمحفوظة عند الحافظ والبيهقي، ولذلك لم يعتمد عليها البيهقي في محل قنوت الوتر بعد الركوع، بل اعتمد على قياس قنوت الوتر على قنوت الصبح. ومال الشوكاني إلى تقويتها حيث قال بعد ذكر كلام البيهقي: وقد روى عنه أي عن أبي بكر بن شيبة الحزامي البخاري في صحيحة. وذكره ابن حبان في الثقات، فلا يضر تفرده. وقواها أيضا الشيخ أحمد محمد شاكر حيث قال في تعليقه على المحلى (ج4 ص148) بعد ذكر الاختلاف في السند على موسى بن عقبة: ويظهر أن موسى روى عن هؤلاء الثلاثة. (أي علي بن عبدالله عند

(8/44)


النسائي وهشام بن عروة عند الحاكم وأبي إسحاق عند الحاكم وغيره) وابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ثقة، روى له البخاري. وبهذه الطرق كلها ظهر أن الحديث صحيح- انتهى. وعندي في كون رواية الحاكم المذكورة محفوظة تأمل، ولا يطمئن قلبي بما ذكره الشوكاني والشيخ أحمد شاكر لتقويتها. وأبوبكر بن شيبة وإن روى عنه البخاري لكن لم يحتج به، كما صرح به الحافظ في مقدمة الفتح. واعلم أنه اختلف في أن القنوت في الوتر قبل الركوع أو بعده، فاختار الحنفية الأول، والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه الثاني، واستدل لهم بما روى محمد بن نصر عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت بعد الركعة وأبوبكر وعمر حتى كان عثمان، فقنت قبل الركعة ليدرك الناس. قال العراقي: إسناده جيد. وبما ذكرنا من حديث الحسن بن علي برواية الحاكم بلفظ: إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود، وقد عرفت حالها، واستدل لهم أيضا بآثار بعض الصحابة، وبالقياس على قنوت صلاة الصبح بعد الركوع، واستدل الحنفية بما روى البخاري (ج1 ص136) من طريق عاصم الأحول
1282-(21) وعن أبي بن كعب، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا سلم في الوتر قال: سبحان الملك
القدوس)). رواه أبوداود،

(8/45)


عن أنس أن القنوت قبل الركوع، ذكره الحافظ في التلخيص (ص94)، وبما روى النسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص39، 40) عن أبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر، فيقنت قبل الركوع. لفظ ابن ماجه. وللنسائي: كان يوتر بثلاث يقرأ في الأولى ?سبح اسم ربك الأعلى? ، وفي الثانية. ?قل يآيها الكافرون?، وفي الثالثة. ?قل هو الله أحد? ويقنت قبل الركوع. وذكره أبوداود معلقا مختصرا، وضعف ذكر القنوت فيه، وتبعه البيهقي حيث حكى كلامه ولم يتعقب عليه. وقد أجاب عنه ابن التركماني في الجوهر النقي، وحقق كون ذكر القنوت فيه محفوظا. وهذا هو الصواب عندي. فحديث أبي بذكر القنوت صحيح أو حسن حجة. قال الشوكاني: وضعف أبوداود ذكر القنوت فيه أي في حديث أبي، ولكنه ثابت عند النسائي وابن ماجه من حديثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت قبل الركوع. واستدل لهم أيضا بما روى ابن أبي شيبة والدارقطني (ص175) والبيهقي (ج3 ص41) عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في الوتر قبل الركوع. وفيه أبان بن عياش وهو متروك، قاله الدارقطني. وبما روى الخطيب في كتاب القنوت عن ابن مسعود أيضا بنحوه. قال الحافظ في الدراية: حديث ضعيف، وبما روى أبونعيم في الحلية عن عطاء بن مسلم عن العلاء ابن المسيب عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس. قال: أوتر النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث، فقنت فيها قبل الركوع. قال أبونعيم: غريب من حديث حبيب، والعلاء تفرد به عطاء بن مسلم. وقال البيهقي: تفرد به عطاء وهو ضعيف. وبما روى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث ركعات، ويجعل القنوت قبل الركوع. قال الحافظ في الدراية (ص115): إسناده ضعيف. وبما روى ابن أبي شيبة عن علقمة أن ابن مسعود وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع. قال الحافظ في الدراية (ص115): إسناده حسن. قلت:

(8/46)


يجوز القنوت في الوتر قبل الركوع وبعده. والأولى عندي أن يكون قبل الركوع لكثرة الأحاديث في ذلك، وبعضها جيد الإسناد، ولا حاجة إلى قياس قنوت الوتر على قنوت الصبح مع وجود الأحاديث المروية في الوتر من الطرق المصرحة بكون القنوت فيه قبل الركوع، وكيف يقاس الوتر على الصبح وليس بينهما معنى مؤثر يجمع به بينهما. وسيأتي شيء من الكلام فيه في باب القنوت.
1281- قوله: (إذا سلم في الوتر) أي في آخره. (قال سبحان الملك القدوس) أي البالغ أقصى النزاهة عن كل وصف، ليس فيه غاية الكمال المطلق. قال الطيبي: هو الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص، وفعول بالضم من أبنية المبالغة. فيه مشروعية هذا التسبيح بعد الفراغ من الوتر. (رواه أبوداود) ومن طريقة البيهقي
والنسائي، وزاد: ثلاث مرات يطيل.
1283-(22) وفي رواية للنسائي، عن عبدالرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: ((كان يقوم إذا سلم:
سبحان الملك القدوس ثلاثا، ويرفع صوته بالثالثة)).
(ج3 ص41، 42). (والنسائي) واللفظ لأبي داود، وهو حديث مختصر. ولفظ النسائي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث ركعات، كان يقرأ في الأولى بـ?سبح اسم ربك الأعلى? وفي الثانية بـ?قل يأيها الكافرون? وفي الثالثة بـ?قل هو الله أحد? ويقنت قبل الركوع، فإذا فرغ قال عند فراغه. سبحان الملك القوس ثلاث مرات، يطيل في آخرهن. والحديث أخرجه أيضا أحمد وابن أبي شيبة والدارقطني، وإسناده صحيح. (وزاد) أي النسائي في روايته. (ثلاث مرات يطيل) أي في آخرهن. والمعنى يمد في المرة الثالثة صوته. وزاد الدارقطني (ص174) والبيهقي (ج3 ص40) في روايتهما: رب الملائكة والروح.

(8/47)


1283- قوله: (وفي رواية للنسائي عن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه) هذا خطأ، والصواب عن ابن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه، هكذا وقع في مسند أحمد والنسائي؛ لأن أبزى الخزاعي والد عبدالرحمن لم يرو عنه إلا حديث واحد، وهو غير هذا الحديث. قال ابن السكن: ذكره البخاري في الواحدان، وروى عنه حديث واحد، إسناده صالح فذكره. وقال ابن مندة وأبونعيم وابن الأثير: لا تصح لأبزى رؤية ولا رواية. وقال الذهبي في التجريد: أبزى والد عبدالرحمن خزاعي، لا يصح صحبة إلا من طريق ضعيفة. وابنه أي عبدالرحمن صحابي- انتهى. وابن عبدالرحمن بن أبزى هو سعيد بن عبدالرحمن بن أبزى الخزاعي مولاهم الكوفي تابعي، وثقة النسائي وابن حبان. وقال أحمد: هو حسن الحديث، روى عن أبيه وابن عباس وواثلة. (قال كان) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ويرفع صوته بالثالثة) أي في المرتبة الثالثة. وأخرجه أيضا الطحاوي وأحمد (ج3 ص406، 407) وعبد بن حميد والبيهقي (ج3 ص41) وإسناده صحيح. قال العراقي: حديث أبي بن كعب وعبدالرحمن بن أبزى كلاهما عند النسائي بإسناد صحيح. والحديث فيه سنية الجهر بهذا الذكر في المرة الثالثة، هكذا في كل ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الجهر فيه، نعم الإسرار أفضل حيث لم ينقل عنه الجهر فيه. قال المظهر: هذا يدل على جواز الذكر برفع الصوت، بل على الاستحباب إذا اجتنب الرياء إظهار للجدين، وتعليما للسامعين، وإيقاظا لهم من رقدة الغفلة، وإيصالا لبركة الذكر إلى مقدار ما يبلغ الصوت إليه من الحيوان والشجر والحجر والمدر، وطلبا لاقتداء الغير بالخير، وليشهد له كل رطب ويابس سمع صوته.
1284-(23) وعن علي، قال: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من
سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت
على نفسك)). رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
?الفصل الثالث?

(8/48)


1285-(24) عن ابن عباس، قيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية
1284- قوله: (كان يقول في آخر وتره) أي بعد السلام منه، كما في رواية: ففي الحديث بيان الذكر المشروع بعد الفراغ من صلاة الوتر. قال ميرك: وفي إحدى روايات النسائي كان يقول ذلك إذا فرغ من صلاته وتبوأ مضجعه، ذكره القاري قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص89) والشوكاني في تحفة الذاكرين (ص129) وهذا يرد ما قال السندي في حاشية النسائي: يحتمل أنه كان يقول في آخر القيام، فصار هو من القنوت، كما هو مقتضى كلام المصنف. (النسائي) ويحتمل أنه كان يقول في قعود التشهد- انتهى. وكأنه لم يقف على رواية النسائي التي ذكرها ميرك وابن القيم والشوكاني، ولعلها في السنن الكبرى. وقد تقدم في باب السجود من حديث عائشة أنه قال ذلك في السجود. قال ابن القيم: فلعله قاله في الصلاة وبعدها. (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) وفي رواية النسائي التي ذكرها ميرك وغيره: لا أحصي ثناء عليك وهو لو حرصت، ولكن أنت كما أثنيت على نفسك. وقد قدمنا شرح ألفاظ الحديث في باب السجود. (رواه أبوداود) في باب القنوت في الوتر من الصلاة. (والترمذي) في باب الدعاء الوتر من أبواب الدعوات وحسنه. (والنسائي) في باب الدعاء في الوتر من الصلاة. (وابن ماجه) في باب ما جاء في القنوت في الوتر. وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج1 ص306) وصححه، والبيهقي (ج3 ص42) والطبراني في الأوسط وابن أبي شيبة مقيدا بالوتر. قال الشوكاني: وأخرجه الدارمي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان، وليس فيه ذكر الوتر.

(8/49)


1285- قوله: (عن ابن عباس قيل له) وفي البخاري عن ابن أبي ملكية قيل لابن عباس الخ. ولا أدري ما وجه تغيير هذا السياق مع كون ابن أبي ملكية قد شهد القصة، وهو الراوي لها، والقائل هو كريب مولى ابن عباس. وقيل: علي بن عبدالله بن عباس. (هل لك) أي جواب أو إفتاء. (في أمير المؤمنين معاوية) أي في فعله. وقال الطيبي: يقال: هلك لك في كذا، وهل لك إلى كذا؟ أي هل ترغب فيه، وهل ترغب إليه؟ فالاستفهام في
ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب إنه فقيه. وفي رواية: قال ابن أبي ملكية: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتي ابن عباس فأخبره. فقال: دعه فإنه قد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________________________________________________________

(8/50)


الحديث بمعنى الإنكار، أي هل لك رغبة في معاوية وهو مرتكب هذا المنكر. ومن ثم أجاب دعه، فإنه قد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يفعل إلا ما رآه منه، وهو فقيه أصاب في اجتهاده- انتهى. وقال الشيخ عبدالحق: أي هل لك رغبة وميل ومحبة لمعاوية مع صدور أمر غير مشروع منه؟. (ما أوتر) وفي رواية: فإنه ما أوتر. (إلا بواحدة) أي اكتفى بركعة واحدة فردة بعد صلاة العشاء من غير أن يقدم عليها شفعا. هذا هو الظاهر. قال الشيخ عبدالحق ظاهره أن هذا القائل لم يكن يعلم بمشروعية الإيتار بركعة واحدة. (قال) أي ابن عباس. (أصاب) أي فعل الحق وأتى بالصواب. (إنه فقيه) أي عالم بالشريعة مجتهد، فيمكن أن يكون الذي فعله قد استنبطه من موارد السنة. (وفي رواية قال ابن أبي ملكية) بضم الميم مصغرا، هو عبدالله بن عبيد الله بن عبدالله بن أبي ملكية بن عبدالله بن جدعان. يقال: اسم أبي ملكية زهير التيمي القرشي، من مشاهير ثقات التابعين وعلماءهم. قال الحافظ: أدرك ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثقة فقيه من أوساط التابعين. وقال ابن حبان في الثقات: رأى ثمانين من الصحابة روى عن العبادلة الأربعة وغيرهم، وكان قاضيا لابن الزبير على الطائف، مات سنة (117) ، وقيل: (118). (أوتر معاوية بعد) صلاة. (العشاء بركعة) واحدة. (وعنده مولى لابن عباس) هو كريب روى ذلك محمد بن نصر المرزوي في كتاب الوتر له من طريق ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن كريب، وأخرج من طريق علي بن عبدالله بن عباس، قال: بت مع أبي عند معاوية، فرأيته أوتر بركعة، فذكرت ذلك لأبي. فقال يا بني هو أعلم. (فأتى) أي مولاه كريب. (فأخبره) بذلك. (فقال) ابن عباس. (دعه) وفي البخاري: فأتى ابن عباس فقال دعه أي ليس عنده لفظ فأخبره. قال الحافظ: قوله: "دعه" فيه حذف يدل عليه السياق، تقديره فأتى ابن عباس، فحكى له ذلك، فقال له: دعه أي أترك القول في معاوية والإنكار عليه. ونقله

(8/51)


الجزري في جامع الأصول (ج7 ص35) عن البخاري بذكر لفظ: فأخبره، وكذا رواه البيهقي (ج3 ص27). (فإنه) عارف بالفقه عالم بالشريعة؛ لأنه (قد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -) وتعلم منه، أي فلم يفعل شيئا إلا بمستند. وقال الطيبي: أي فلا يفعل إلا ما رآه. وفي فعل معاوية واستصوب ابن عباس له دليل على مشروعية الإيتار بركعة واحدة، وأنه لا يحب تقدم نفل قبلها. وقد ورد فيه عدة أحاديث، كما سبق. وفعله أيضا كثير من الصحابة: منهم سعد بن أبي وقاص، أخرجه البخاري في الدعوات، والبيهقي في المعرفة والطحاوي. ومنهم عثمان بن عفان، أخرجه الطحاوي والدارقطني ومحمد بن نصر المروزي، ومنهم عمر بن الخطاب، أخرجه البيهقي في المعرفة وفي السنن، ومنهم أبوالدرداء وفضالة بن عبيد ومعاذ بن جبل، أخرجه الطحاوي، ومنهم أبوأمامة، أخرجه الدارقطني. وفي كل ذلك رد على من لم يقل بمشروعية
رواه البخاري.
1286-(25) وعن بريدة، قال: قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا)). رواه أبوداود.
___________________________________________________
الإيتار بركعة، أو قال بوجوب تقدم الشفع عليها. قال الحافظ: ولا التفات إلى قول ابن التين: إن الوتر بركعة لم به الفقهاء؛ لأن الذي نفاه قول الأكثر، وثبت فيه عدة أحاديث، نعم الأفضل أن يتقدمها شفع، وأقله ركعتان. واختلف أيهما الأفضل، وصلهما بها أو فصلهما. وذهب الكوفيون إلى شرطية وصلهما، وأن الوتر بركعة لا تجزيء- انتهى. وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا. (رواه البخاري) في ذكر معاوية من أبواب المناقب.

(8/52)


1286- قوله: (الوتر حق) أي ثابت في الشرع ومؤكد. (فمن لم يوتر فليس منا) أي ليس على سنتنا وطريقتنا. قال الطيبي: "من" فيه اتصالية، كما قوله تعالى: ?المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض? [9: 67] وقوله عليه السلام: فإني لست منك ولست مني. والمعنى فمن لم يوتر فليس بمتصل بنا وبهدينا وبطريقتنا، أي إنه ثابت في الشرع وسنة مؤكدة، والتكرير لمزيد تقرير حقيقته وإثباته- انتهى. واستدل به الحنفية على وجوب الوتر بناء على أن الحق هو الواجب الثابت على الذمة. ويؤيد ذلك كونه مقرونا بالوعيد على تاركه. وأجيب عنه بأن الحق بمعنى الثابت في الشرع كما تقدم في كلام الطيبي. ومعنى ليس منا، أي ليس من سنتنا وعلى طريقتنا، أو المراد من لم يوتر رغبة عن السنة فليس منا. فالحديث محمول على تأكيد السنية للوتر جمعا بينه وبين الأحاديث الدالة على عدم الوجوب. وقال الحافظ في الفتح: يحتاج من احتج به على الوجوب إلى أن يثبت أن لفظ حق بمعنى واجب في عرف الشارع، وأن لفظ واجب بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد- انتهى. (رواه أبوداود) قال الحافظ في الدراية وبلوغ المرام بسند لين، وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في الفتح: في سنده أبوالمنيب، وفيه ضعف وقال المنذري: في إسناده عبيدالله بن عبدالله أبوالمنيب العتكي المروزي، وقد وثقه ابن معين. وقال أبوحاتم الرازي: صالح الحديث. وتكلم فيه البخاري والنسائي وغيرهما- انتهى. قلت: أراد بغيرهما ابن حبان والعقيلي، فإنهما أيضا تكلما فيه. وأخرجه الحاكم (ج1 ص306) والبيهقي (ج2 ص470) ولم يكررا لفظه. قال الحاكم: حديث صحيح، وأبوالمنيب ثقة. وقال الذهبي في التلخيص: قلت: قال البخاري: عنده مناكير- انتهى. وقال الحاكم أبوأحمد ليس بالقوي عندهم. وقال البيهقي: لا يحتج به. وهذا كله يدل على أن فيه ضعفا، ولذلك لين الحافظ سند حديثه، وقد أصاب. وللحديث شاهد ضعيف أحمد (ج3 ص443) من طريق خليل بن مرة عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة

(8/53)


مرفوعا بلفظ: من لم يوتر فليس منا، وهو منقطع؛ لأن معاوية بن قرة لم يسمع من أبي هريرة شيئا ولا لقيه. قاله أحمد. والخليل بن مرة ضعفه يحيى والنسائي. وقال لبخاري: منكر الحديث.
1287-(26) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا ذكر وإذا استيقظ)). رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.
1288-(27) وعن مالك، بلغه ((أن رجلا سأل ابن عمر عن الوتر: أواجب هو؟ فقال عبدالله: قد
أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوتر المسلمون، فجعل الرجل يردد عليه، وعبدالله يقول: أوتر رسول
الله- صلى الله عليه وسلم -، وأوتر المسلمون)).
1287- قوله: (من نام عن الوتر) أي عن أدائه. (أو نسيه) فلم يصله. (فليصل) أي قضاء. (إذا ذكر) راجع إلى النسيان. (وإذا استيقظ) راجع إلى النوم، فالواو بمعنى أو، والترتيب مفوض إلى رأي السامع. وفيه دليل على مشروعية قضاء الوتر إذا فات. وأما ما روى ابن خزيمة في صحيحة، والحاكم (ج1 ص301، 302) والبيهقي (ج2 ص478) من طريق قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا: من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له، فمحمول على التعمد أو على أنه لا يقع أداء جمعا بين الحديثين، لا أنه لا يجوز له القضاء. وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا. (رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجه) واللفظ للترمذي. ولفظ ابن ماجه: فليصل إذا أصبح أو ذكره. وفي سندهما عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف. وأخرجه أبوداود من طريق أخرى صحيحة بلفظ: من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره، ولم يقل: إذا أصبح. قال العراقي: سنده صحيح. وأخرجه أيضا الحاكم وصححه الدارقطني والبيهقي كما سبق في تخريج حديث زيد بن أسلم.

(8/54)


1288- قوله: (وعن مالك) بن أنس، إمام دار الهجرة، صاحب المذهب المشهور. (بلغه) وفي الموطأ: أنه بلغه. وقد تقدم قول ابن عبدالبر أن جميع ما في الموطأ من قول مالك: بلغني، ومن قوله: عن الثقة عندي مما لم يسنده كله مسند من غير طريق مالك إلا أربعة أحاديث، فذكرها، وهذا البلاغ ليس منها، فيكون مسندا. وسيأتي ذكر من وصله وأسنده. (أواجب هو) أي أو هو سنة؟. (فقال عبدالله) بن عمر في جوابه. (قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوتر المسلمون) قال القاري: اكتفى ابن عمر بالدليل عن المدلول، فكأنه قال: إنه واجب بدليل مواظبته عليه الصلاة والسلام وإجماع أهل الإسلام- انتهى. قلت: المواظبة إنما يكون دليلا على الوجوب حيث لم يرو ما يصرفها إلى الندب، وههنا قد صح ما يدل على عدم وجوب الوتر. والظاهر أن ابن عمر نبه بهذا الجواب على أن الوتر سنة معمول بها وطريقة مسلوكة. ولو كان واجبا عنده لأفصح للرجل بوجوبه. (فجعل الرجل يردد عليه) أي يكرر السؤال، ويطلب الصريح. (وعبد الله) يردد عليه جوابه السابق. (ويقول) في كل مرة: (أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوتر المسلمون) قال الباجي: يحتمل أن عبدالله بن عمر
رواه في الموطأ.

(8/55)


قد علم أنه غير واجب، ولم ير الرجل لهذا المقدار من العلم، وكان يخبره بما هو يحتاج إليه من أنه - صلى الله عليه وسلم - أوتر، وأوتر المسلمون بعده، وطوى عنه ما لا يحتاج هو إليه. ويحتمل أن ابن عمر لم يتبين له حكم ما سأل عنه، فأجاب بما كان، وترك ما أشكل عليه- انتهى. وقال الطيبي: وتلخيص الجواب أن لا أقطع بالقول بوجوبه ولا بعدم وجوبه؛ لأني إذا نظرت إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم واظبوا عليه ذهبت إلى الوجوب، وإذا فتشت نصا دالا عليه نكصت عنه، أي رجعت وأحجمت. قلت: لا شك أنه لم يرو حديث صحيح صريح في وجوب الوتر، بل قد ثبت وصح ما يدل على استحبابه. وهو قرينة واضحة على أن الوتر سنة لا واجب، نعم هو سنة مؤكدة أوكد من سائر السنن، وعلى أن مواظبته - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بعده على الوتر كالمواظبة على بعض السنن المؤكدة الأخر. (رواه) أي مالك. (في الموطأ) بالهمزة وقيل بالألف. وسبق الاعتراض على هذا التعبير، فتذكر. وهذا الحديث أخرجه أحمد موصولا (ج2 ص29) قال: حدثنا معاذ حدثنا ابن عون عن مسلم مولى لعبد القيس- قال معاذ: كان شعبة يقول القرى- قال: قال رجل لابن عمر أرأيت الوتر أسنة هو؟ قال ما سنة أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوتر المسلمون بعده. قال: لا أسنة هو؟ قال: مه، أتعقل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوتر المسلمون. قال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج7 ص36): إسناده صحيح، مسلم مولى عبدالقيس هو مسلم بن مخراق القرى، وهو مولى بنى قرة حي من عبدالقيس، كما ذكره البخاري في الكبير. تابعي ثقة، وثقه النسائي والعجلي وغيرهما. وهذا الحديث رواه مالك في الموطأ بنحوه بلاغا غير متصل فذكره، ثم قال: والظاهر لي أن الحفاظ القدماء لم يجدوا وصل هذا البلاغ، فذكره ابن عبدالبر في التقصي رقم (808) ولم يذكر شيئا في وصله، وكذلك صنع السيوطي في شرح الموطأ، وكذلك الزرقاني

(8/56)


في شرحه (ج1 232) وها هو ذا موصول في المسند. وقد ذكره الحافظ المروزي في كتاب الوتر (ص114) ولكنه ذكره معلقا عن مسلم القرى كرواية المسند هنا، ولم يذكر إسناده إلى مسلم القرى- انتهى. وأخرجه أحمد في (ج2 ص58) مختصرا قال: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عمرو بن محمد عن نافع سأل رجل ابن عمر عن الوتر أواجب هو؟ فقال: أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون. قال الشارح: إسناده صحيح، سفيان هو الثوري عمر بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب المدني نزيل عسقلان، ثقه، وثقه أحمد وابن معين والعجلي وأبوداود وغيرهم، قال: وهذا الحديث مختصرا لحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغا عن ابن عمر، ولم يذكر المتقدمون ممن كتبوا على الموطأ طريق وصله. وقد مضى نحوه موصولا من طريق مسلم القرى عن ابن عمر، ولكن السؤال هناك "أسنة هو" وما هنا أواجب هو؟ وهذا اللفظ يوافق السؤال في رواية مالك، فقد وجدنا وصل هذا البلاغ من طريقتين صحيحين في المسند والحمد لله- انتهى.
1289-(28) وعن علي قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث، يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور آخرهن: ?قل هو الله أحد?)). رواه الترمذي.
1290-(29) وعن نافع، قال: كنت مع ابن عمر بمكة، والسماء مغيمة،
___________________________________________________

(8/57)


1289- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث) أي بثلاث ركعات. (يقرأ فيهن بتسع سور المفصل) أي من قصارة، كما سيأتي. (آخرهن) أي آخر السور. (قل هو الله أحد) الحديث أخرجه أيضا أحمد ولفظه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بتسع سور من المفصل يقرأ في الركعة الأولى: ?ألهاكم التكاثر? و?إنا أنزلناه في ليلة القدر? و?إذا زلزلت الأرض?، وفي الركعة الثانية: ?والعصر? و?إذا جاء نصر الله والفتح? و?إنا أعطيناك الكوثر?، وفي الركعة الثالثة: ?قل ياأيها الكافرون? و?تبت يدا أبي لهب? و?قل هو اله أحد?- انتهى. والحديث يدل على مشروعية قراءة هذه السور في الوتر، لكنه حديث ضعيف، كما ستعرف. وروى محمد بن نصر عن سعيد بن جبير قال: لما أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب أن يقوم الناس في رمضان كان يوتر بهم فيقرأ في الركعة الأولى: ?إنا أنزلناه في ليلة القدر?، وفي الثانية بـ?قل يآيها الكافرون?، وفي الثالثة بـ?قل هو الله أحد? قلت: والمختار عندي أن يقرأ في الوتر بـ?سبح اسم ربك الأعلى? و?قل يآيها الكافرون? و?قل هو الله أحد? لما صح ذلك عن أبي بن كعب، وابن عباس مرفوعا، وهو الذي اختاره أكثر أهل العلم، كما سبق، ولو زاد المعوذتين في الثالثة أو قرأ بما ورد في حديث علي أو بما روي عن عمر من فعله أحيانا لم يكن فيه بأس. (رواه الترمذي) من طريق أبي بكر ابن عياش عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وأخرجه أحمد (ج1 ص89) ومحمد بن نصر من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، وأخرجه أيضا أحمد بن إبراهيم الدورقي في مسند علي له، كما في التلخيص (ص118).

(8/58)


1290- قوله: (وعن نافع) مولى عبدالله بن عمر. (كنت مع ابن عمر) ذات ليلة (بمكة) وفي بعض نسخ الموطأ: بطريق مكة. (والسماء مغيمة) أي مغطاة بالغيم يعني محيط بها السحاب، كذا وقع في أكثر النسخ الموجودة عندنا بتقديم الياء على الميم الثانية من التغييم أو الإغامة، وكذا وقع في جامع الأصول (ج7 ص42)، وهكذا وقع في الموطأ. قال الشيخ سلام الله في المحلى شرح الموطأ: على زنة المفعول أو الفاعل من التغييم أو بكسر الغين وسكون الياء من الإغامة. قال عياض: كذا ضبطناه في الموطأ عن شيوخنا، وكله صحيح- انتهى. وفي أصل القاري الذي أخذه في شرح المشكاة: مغمية: بتقديم الميم الثانية على الياء، قال القاري: كذا في نسخ المصححة بضم الميم الأولى وكسر الثانية، وفي نسخة: مغيمة: بكسر الياء المشددة، وقيل بفتحها. وفي نسخة بضم
فخشي الصبح، فأوتر بواحدة، ثم انكشف، فرأى أن عليه ليلا، فشفع بواحدة، ثم صلى
ركعتين ركعتين، فلما خشي الصبح أوتر بواحدة)). رواه مالك.
___________________________________________________

(8/59)


الميم وكسر الياء مغيمة وقيل بكسر الغين أي مغيمة وفي نسخة مغماة مشددة ومخففة، وفي نسخة كمرضية، ومآل الكل إلى معنى واحد. قال الطيبي: أي مغطاة بالغيم. وقال الجزري في النهاية: يقال غامت السماء وأغامت وتغيمت كله بمعنى- انتهى. زاد في الصحاح والقاموس: وأغيمت وتغيمت تغيما، وقال ابن حجر: يقال غيمت الشيء إذا غطيته وأغمي وغمي، وغمي بتشديد الميم وتخفيفها الكل بمعنى- انتهى. وفي التاج: التغييم والإغامة الدخول في الغيم، والإغماء تستر الشيء على الشخص ويعدى بعلى، والتغمية التغطية. قال شجاع: فعلى هذه الأقوال يجوز لغة مغيمة بكسر الياء والتشديد من التفعيل من الأجوف ومغمية من الناقص الثلاثي على وزن مرمية، ومغماة اسم مفعول من التغمية أو الإغماء- انتهى. ووقع في الموطأ للإمام محمد متغيمة من التغيم. (فخشي) عبدالله بن عمر. (الصبح) أي طلوع الفجر فيفوت وتره. (فأوتر بواحدة) أي بركعة فردة من غير أن يضمها إلى شفع قبلها. (ثم انكشف) وفي الموطأ ثم انكشف الغيم أي ارتفع السحاب. (فرأى أن عليه ليلا) أي باق عليه الفجر لم يطلع بعد. (فشفع) وتره. (بواحدة) قال الباجي يحتمل أنه لم يسلم من الواحدة فشفعها بأخرى على رأي من قال: لا يحتاج في نية أول الصلاة إلى اعتبار عدد الركعات والاعتبار وتر وشفع، ويحتمل أنه سلم- انتهى. والثاني هو الظاهر بل هو المتعين؛ لأن ابن عمر قائل بنقض الوتر، فقد روى أحمد في مسنده عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن الوتر قال: أما أنا فلو أوترت قبل أن أنام ثم أردت أن أصلي بالليل شفعت بواحدة ما مضى من وتري ثم صليت مثنى، فإذا قضيت صلاتي أوترت بواحدة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نجعل آخر صلاة الليل الوتر. قلت: وما فعله ابن عمر من نقض الوتر هو من رأي منه واجتهاد، وليس عنده في هذه رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما روى ذلك محمد بن نصر عنه، ولا دليل على ذلك في الأمر

(8/60)


يجعل الوتر آخر صلاة الليل، فإنه ليس للإيجاب بل هو للندب، كما تقدم. وارجع إلى كتاب الوتر لمحمد بن نصر (ص127، 128). (ثم صلى) بعد ذلك. (ركعتين ركعتين) للتهجد. (فلما خشي الصبح) بعد ذلك (أوتر بواحدة). روي مثله عن علي وعثمان وابن مسعود وأسامة وعروة ومكحول وعمرو بن ميمون، وهذه مسألة يعرفها أهل العلم بنقض الوتر، وخالف في ذلك جماعة منهم أبوبكر كان يوتر قبل أن ينام ثم أن قام صلى ولم يعد الوتر، وروي مثله عن أبي هريرة وعمار وعائشة وكانت تقول: أوتر أن في ليلة إنكارا لذلك، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والأوزاعي وأبي ثور وغيرهم، وقد تقدم شيء من الكلام في هذه المسألة في شرح حديث: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا. (رواه مالك) لم أقف على من أخرجه من غيره.
1291-(30) وعن عائشة ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي جالسا، فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية، قام وقرأ وهو قائم، ثم ركع، ثم سجد، ثم يفعل في
الركعة الثانية مثل ذلك)).

(8/61)


1291- قوله: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان) أي في آخر حياته لما أسن وكبر، ففي رواية قالت: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في شيء من صلاة الليل جالسا حتى إذا كبر قرأ جالسا، فإذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية قام- الحديث. قال الحافظ: بينت حفصة أن ذلك كان قبل موته بعام. (يصلي) أي النوافل في الليل (جالسا) حال. (فيقرأ) فيها القرآن بقدر ما شاء. (فإذا بقي من قراءته) أي مما أراد من قراءته، وفيه إشارة إلى أن الذي كان يقرأه قبل أن يقوم أكثر؛ لأن البقية تطلق في الغالب على الأقل. (قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية) اكتفى بهذا التمييز عن تمييز الأول، وأو قيل للشك من الراوي، وقيل للتنويع باعتبار اختلاف الأوقات. (قام وقرأ) هذه الآيات. (وهو قائم ثم ركع) فيه دليل على أن من لم يطق أن يقوم في جميع صلاته جاز له أن يقوم فيما أمكنه منه. قال الباجي: ولا خلاف نعلمه في جواز ذلك في النافلة، وفيه أيضا دليل على أن الأفضل أن يقوم فيقرأ شيئا ثم يركع ليكون موافقا للسنة ولو لم يقرأ ولكنه استوى قائما ثم ركع جاز. (ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك) المذكور من قراءته أولا جالسا ثم قائما، والحديث يدل على جواز الركوع من قيام لمن قرأ قاعدا. وقد روي عن عائشة أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يصلي ليلا طويلا قائما وليلا طويلا قاعدا، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم وإذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد. أخرجه الجماعة إلا البخاري، وهذا بظاهره يخالف حديثها الأول؛ لأنه يدل على أن المشروع لمن قرأ قائما أن يركع ويسجد من قيام، ومن قرأ قاعدا أن يركع ويسجد من قعود. وفي بعض طرق هذا الحديث عند مسلم: فإذا افتتح الصلاة قائما ركع قائما وإذا افتتح الصلاة قاعدا ركع قاعدا وهذا يدل على أن من افتتح النافلة قاعدا يركع قاعدا أو قائما يركع قائما، ويجمع بين هذه

(8/62)


الروايات بأنه كان يفعل كلا من ذلك بحسب النشاط وعدمه. وقال العراقي: فيحمل على أنه كان يفعل مرة كذا، ومرة كذا، فكان مرة يفتتح قاعدا ويتم قراءته قاعدا ويركع قاعدا، وكان مرة يفتتح قاعدا ويقرأ بعض قراءته قاعدا وبعضها قائما ويركع قائما، فإن لفظ كان لا يقضي المداومة. قال الشوكاني والحديث يدل على أنه يجوز فعل بعض الصلاة من قعود، وبعضها من قيام وبعض الركعة من قعود، وبعضها من قيام . قال العراقي: وهو كذلك سواء قام ثم قعد أو قعد ثم قام، وهو قول جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وحكاه النووي عن عامة العلماء، وحكي عن بعض السلف منعه. قال: وهو غلط، وحكى القاضي عياض عن أبي يوسف
رواه مسلم.
1292-(31) وعن أم سلمة، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد الوتر ركعتين)). رواه الترمذي، وزاد ابن ماجه: خفيفتين وهو جالس.
1293-(32) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بواحدة، ثم يركع
ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع. قام فركع)). رواه ابن ماجه.
ومحمد في آخرين كراهة القعود بعد القيام، ومنع أشهب من المالكية الجلوس بعد أن ينوي القيام، وجوزه ابن القاسم والجمهور- انتهى. (رواه مسلم) بل أخرجه الجماعة، وله ألفاظ هذا أحدها، قال القاري: ولا يظهر وجه مناسبته للباب، اللهم إلا أن يقال: أن الحديث ساكت عن الركعة الثالثة، أو ذكر هذا الشفع؛ لأنه مقدمة الوتر، أو يحمل هذا الشفع على ما بعد الوتر، فكان حقه أن يذكره في آخر الباب- انتهى.

(8/63)


1292- قوله: (وعن أم سلمة) أم المؤمنين. (كان يصلي بعد الوتر ركعتين) أي جالسا كما سيأتي. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أحمد (ج6 ص298، 299) والدارقطني (ص177) ومحمد بن نصر والبيهقي (ج3 ص32) كلهم من حديث ميمون بن موسى المرئي عن الحسن عن أمه عن أم سلمة. (وزاد ابن ماجه خفيفتين وهو جالس) وزاده أيضا الدارقطني ومحمد بن نصر، والحديث لم يحكم الترمذي عليه بشيء، وصححه الدارقطني في سننه، ثبت ذلك في رواية محمد بن عبدالملك بن بشران عنه، وليس في رواية أبي طاهر محمد بن أحمد بن عبدالرحيم عن الدارقطني تصحيح له، قاله العراقي. قلت: في سنده ميمون بن موسى المرئي، وهو صدوق، لكنه مدلس، وروى عن الحسن بالعنعنة. قال أحمد كان يدلس لا يقول: حدثنا الحسن ما رأى به بأسا. وقال الفلاس: صدوق لكنه يدلس، وقال النسائي وأبوأحمد الحاكم: ليس بالقوى. وقال أبوداود: ليس به بأس. وقال البيهقي: ميمون هذا بصري، ولا بأس به، إلا أنه كان يدلس، قاله أحمد بن حنبل وغيره، وروي عن زكريا بن حكيم عن الحسن، وخالفهما هشام، فرواه عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة. قال البخاري: وهذا أصح.
1293- قوله: (يوتر بواحدة) أي بركعة واحدة فردة. (ثم يركع) أي يصلي (ركعتين هو جالس فإذا أراد أن يركع قام فركع) قال ابن حجر: لا ينافي ما قبله؛ لأنه كان تارة يصليهما في جلوس من غير قيام، وتارة يقوم عند إرادة الركوع- انتهى. (رواه ابن ماجه) وكذا البيهقي (ج3 ص32) كلاهما من طريق الأوزاعي
1294-(33) وعن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن هذا السهر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن لم قام من الليل، وإلا كانتا له)). رواه الدارمي.
___________________________________________________

(8/64)


عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة، قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات- انتهى. قلت: أصل الحديث عند مسلم من طريق هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة قالت: سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع- الحديث.
1294- قوله: (إن هذا السهر) أي الذي تسهرونه في طاعة الله. والسهر بفتحتين عدم النوم، وروى الدارقطني والبيهقي (ج3 ص33) بلفظ: أن هذا السفر أي بالفاء بدل الهاء، وكذا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص246) نقلا عن معجم الطبراني، وكتب على هامش سنن الدارمي، طبعه الهند هذه العبارة، وعليها علامة النسخة، ويقال هذا السفر وأنا أقول السهر، والظاهر أنها مقولة الدارمي، ويؤيد لفظ السفر كون القصة وقعت في حالة السفر، ففي رواية الدارقطني والبيهقي والطبراني عن ثوبان، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال: إن السفر جهد وثقل الخ. (جهد) بالفتح وبالضم أيضا المشقة. (وثقل) بكسر المثلثة وسكون القاف وفتحها أي شاق، وثقيل على النفوس البشرية بحكم العادة الطبيعة. (فإذا أوتر أحدكم) أي قبل النوم في أول الليل لعدم الوثوق بالاستيقاظ في آخر الليل. (فليركع) أي فليصل. (ركعتين) قال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد به ركعتان بعد الوتر، ويحتمل أن يكون أراد، فإذا أراد أن يوتر فليركع ركعتين قبل الوتر. (فإن قام من الليل) وصلى فيه فيها أي أتى بالخصلة الحميدة ويكون نورا على نور. (وإلا) أي وإن لم يقم أي من الليل لغلبة النوم له. (كانتا) أي الركعتان (له) أي كافيتين له من قيام الليل، والمعنى من قام بعد الركعتين وصلى التهجد. فهو الأفضل وإن لم يقم ولم يصل كانتا مجزئتين عن أصل ثواب التهجد في السفر؛ لأن الحديث كان في حالة السفر، كما تقدم. قال ابن حجر: هذا لا ينافي خبر:

(8/65)


اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا، أما لأن أوتر هنا بمعنى أراد أي إذا أراد أن يوتر فليركع ركعتين فليوتر أي بواحدة أو بثلاث فيكون الركعتان قبل الوتر نافلة قائمة مقام التهجد، أو لأن الأمر بالركعتين هنا لبيان الجواز نظير ما مر من تأويل فعله - صلى الله عليه وسلم - لهما بعد الوتر بذلك، وهذا الأخير هو الذي فهمه الدارمي والدارقطني حيث أورداه في باب الركعتين بعد الوتر. وقال القاري: والأخير غير صحيح إذا لم يعرف ورود الأمر لبيان الجواز فيتعين التأويل الأول- انتهى. (رواه الدارمي) بسند جيد، وأخرجه أيضا الطحاوي والدارقطني (ص177) والطبراني في الكبير الأوسط والبيهقي (ج3 ص33). وفي سند الثلاثة عبدالله بن صالح أبوصالح كاتب الليث بن سعد، وفيه كلام.
1295-(34) وعن أبي أمامة: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليهما بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما، . ?إذا زلزلت? و?قل يآيها الكافرون?)). رواه أحمد.
(36) باب القنوت
1295- قوله: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان) أي أحيانا. (يصليهما) أي الركعتين. (يقرأ فيهما) أي في الركعتين. ?إذا زلزلت? في الأولى و?قل يآيها الكافرون? في الثانية. (رواه أحمد) (ج5 ص260) قال الهيثمي: رجاله ثقات، وأخرجه أيضا الطحاوي والبيهقي (ج3 ص33) والطبراني في الكبير ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر، وروى الدارقطني والبيهقي نحوه من حديث أنس.
(باب القنوت) القنوت ورد في معان كثيرة، ذكر ابن العربي في شرح الترمذي: أن له عشرة معان، وقد نظمها في البيتين:
دعاء خشوع والعبادة طاعة ……إقامتها إقراره بالعبودية
سكوت صلاة والقيام وطوله ……كذاك دوام الطاعة الرابح النية

(8/66)


والمراد هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام واعلم أن ههنا عدة مسائل خلافية: إحداها أنه يقنت في الوتر أم لا. والثانية أنه إذا قنت في الوتر يقنت قبل الركوع أو بعده. والثالثة أن القنوت في الوتر في جميع السنة أو في النصف الأخير من رمضان. والرابعة ألفاظ قنوت الوتر، وقد سبق الكلام في هذه المسائل، وتعيين ما هو الراجح في ذلك، وسيأتي شيء من الكلام في الثانية والثالثة. وأما مسألة التكبير عند إرادة القنوت في الوتر ورفع اليدين عند تكبير القنوت فيه كرفعهما عند التحريمة، كما يفعله الحنفية فلم يصح فيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، نعم ورد فيهما آثار عن بعض الصحابة، فقد ذكر محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر عن عمر وعلي وابن مسعود والبراء أنهم كبروا عند القنوت في الوتر قبل الركوع. قال شيخنا في شرح الترمذي: لم أقف على حديث مرفوع في التكبير للقنوت، ولم أقف على أسانيد هذه الآثار. وأما رفع اليدين في قنوت الوتر أي كرفعهما عند التحريمة، فلم أقف على حديث مرفوع فيه أيضا، نعم جاء فيه عن ابن مسعود من فعله، فذكره نقلا عن جزء رفع اليدين للبخاري، وعن كتاب الوتر للمروزي، وذكر أيضا في ذلك آثارا عن عمر وأبي هريرة وأبي قلابة ومكحول عن كتابة المروزي، ثم قال: وفي الاستدلال بها على رفع اليدين في قنوت الوتر كرفعهما عند التحريمة نظر، إذ ليس فيها ما يدل على هذا، بل الظاهر منها ثبوت رفع اليدين كرفعهما في الدعاء، فإن القنوت دعاء- انتهى. قلت: الأمر كما قال الشيخ فليس في هذه الآثار دلالة على مطلوبهم، بل هي ظاهرة في رفع اليدين في القنوت حال الدعاء، كما يرفع الدعي فيجوز أن ترفع اليدان حال الدعاء في قنوت الوتر عملا بتلك الآثار كما

(8/67)


ترفعان في قنوت النازلة في غير الوتر لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما سيأتي. قال شيخ مشائخنا الشيخ حسين بن محسن الأنصاري في مجموعة فتاواه (ص160): قد ثبت الرفع من فعله - صلى الله عليه وسلم - في قنوت غير الوتر، فالوتر مثله لعدم الفارق بين القنوتين إذ هما دعاءان، ولهذا قال أبويوسف أنه يرفعهما في قنوت الوتر إلى صدره ويجعل بطونهما إلى السماء، واختاره الطحاوي والكرخي. قال الشامي: والظاهر أنه يبقيهما كذلك إلى تمام الدعاء على هذه الرواية- انتهى. قال: والحاصل أن رفع اليدين في قنوت الوتر. (كرفع الداعي) ثبت من فعل ابن مسعود وعمر وأنس وأبي هريرة، كما ذكره الحافظ في التلخيص، وكفى بهم أسوة وثبت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -في غير الوتر- انتهى. والمسألة الخامسة: هل يشرع القنوت في غير الوتر من غير سبب أو لا يشرع؟ فذهب جماعة، ومنهم أبوحنيفة وأحمد إلى عدم مشروعيته قالوا: لا يسن القنوت من غير سبب في صلاة الصبح، ولا في غيرها من الصلوات سوى الوتر، وذهب جماعة ومنهم مالك والشافعي إلى أنه يسن القنوت في صلاة الصبح في جميع الزمان، وهذا يدل على أنهم اتفقوا على ترك القنوت في أربع صلوات من غير سبب، وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، واختلفوا في صلاة الصبح فقال مالك والشافعي باستمرار شرعيته في الصبح، وذهب أحمد وأبوحنيفة إلى عدم شرعيته وأنه مختص بالنوازل، واحتج المثبتون بما روى الدارقطني (ص118) وعبدالرزاق وأحمد (ج3 ص162) وأبونعيم والطحاوي (ج1 ص143) والبيهقي في المعرفة وفي السنن (ج2 ص201) والحاكم وصححه من حديث أنس قال: ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا. وأجاب النافون بأنه لو صح لكان قاطعا للنزاع، ولكنه من طريق أبي جعفر الرازي، وثقه غير واحد، ولينه جماعة. قال: فيه عبدالله بن أحمد، عن أبيه والنسائي والعجلي: ليس بالقوي. وقال ابن المديني: أنه يخلط. وقال

(8/68)


أبوزرعة: يهم كثيرا. وقال ابن خراش والفلاس: صدوق سيء الحفظ. وقال ابن معين: ثقة لكنه يخطيء. وقال الدوري: ثقة ولكنه يغلط. وقال الساجي: صدوق ليس بمتقن. وقال ابن القيم: هو صاحب مناكير، لا يحتج بما انفرد به أحد من أهل الحديث البتة. وقال ابن حبان: كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير. وقال ابن الجوزي في التحقيق، وفي العلل المتناهية: هذا حديث لا يصح، ثم ذكر الكلام في أبي جعفر الرازي. وقال صاحب التنقيح: وإن صح فهو محمول على أنه ما زال يقنت في النوازل أو على أنه ما زال يطول في الصلاة، فإن القنوت لفظ مشترك بين الطاعة والقيام والخشوع والسكوت وغير ذلك. وقال ابن القيم: ولو صح لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة، فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء، فإن القنوت يطلق على القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخضوع، وحمل قول أنس على إطالة القيام بعد الركوع، وأجاب عن تخصيصه بالفجر بأنه وقع بحسب سؤال السائل، فإنه إنما سأل عن قنوت الفجر فأجابه

(8/69)


عما سأله عنه، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، قال: ومعلوم أنه كان يدعو ربه ويثني عليه ويمجده في هذه الاعتدال، وهذا قنوت منه بلا ريب، فنحن لا نشك ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، إلى آخر ما بسط الكلام فيه. قال الشوكاني: وهو على فرض صلاحية حديث أنس للاحتجاج وعدم اختلافه واضطرابه محمل حسن- انتهى. وأجابوا أيضا بمعارضته بما روى الخطيب من طريق قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان قلنا؛ لأنس أن قوما يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يقنت في الفجر فقال كذبوا إنما قنت شهرا واحدا يدعو على حي من أحياء المشركين، وقيس وإن كان ضعيفا، لكنه لم يتهم بكذب، وروى ابن خزيمة في صحيحة، والخطيب في كتاب القنوت من طريق سعيد عن قتادة عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم. قال الحافظ في الدارية: سنده صحيح، وكذا قال صاحب التنقيح، فاختلفت الروايات عن أنس واضطربت فلا يقوم بمثل هذا حجة، واحتج هؤلاء على عدم مشروعية القنوت في غير الوتر من غير سبب بحديث أبي مالك الأشجعي في الفصل الثاني، وسيأتي الكلام فيه هناك. واحتجوا أيضا بأحاديث مرفوعة صحيحة غير صريحة، أو صريحة غير صحيحة، وبآثار الصحابة، ذكرها النيموي في آثار السنن وغيره في غيره. والراجح عندي ما ذهب إليه أبوحنيفة وأحمد أنه لا يسن القنوت في غير الوتر من غير سبب لا في صلاة الصبح ولا في غيرها من الصلوات، وأنه مختص بالنوازل؛ لأنه لم يرد في ثبوته في غير الوتر من غير سبب حديث مرفوع صحيح خال عن الكلام، صريح في الدلالة على ما ذهب إليه مالك والشافعي، بل قد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على خلاف ما قالا به كما ستقف عليه. والمسألة السادسة: أنه إذا حدث سبب أي نزل بالمسلمين نازلة أي شدة وبليه مثل الوباء والقحط والعدو ونحو ذلك، فهل يشرع القنوت في غير الوتر

(8/70)


أم لا؟ وإذا شرع فهل يختص بصلاة الفجر أو الجهرية أو يعم الصلوات الخمس؟ فذهب جمهور أهل الحديث والشافعي إلى أن ذلك مشروع ومطلوب في الصلوات الخمس، وذهب الحنابلة إلى تخصيصه بصلاة الفجر فقط، وهو مذهب الحنفية على القول المفتى به، وإلا فلهم في المسألة قولان، أحدهما أنه يختص بالصلوات الجهرية. قال في البناية شرح الهداية: وبه قال الأكثرون، والآخر أنه يختص بصلاة الفجر فقط. والراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي وجمهور أهل الحديث؛ لأن الأحاديث الصحيحة صريحة في طلب القنوت في الصلوات الخمس، ولم يجئ حديث مرفوع صحيح أو ضعيف في تخصيصه بالجهرية أو الصبح فقط. قال الشوكاني: الحق ما ذهب إليه من قال: أن القنوت مختص بالنوازل، وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به بصلاة دون صلاة. وقد ورد ما يدل على اختصاصه بالنازلة من حديث أنس عند ابن خزيمة في صحيحة، وقد تقدم، ومن حديث أبي هريرة عند ابن حبان بلفظ: كان لا يقنت إلا أن يدعو لقوم أو على
?الفصل الأول?
1296-(1) عن أبي هريرة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد،

(8/71)


قوم- انتهى. قال الحافظ في الدارية (ص117) وصاحب التنقيح: سند كل من حديث أنس عند ابن خزيمة، وحديث أبي هريرة عند ابن حبان صحيح. وقال ابن القيم ما معناه: الإنصاف الذي يرتضيه العالم المصنف أنه - صلى الله عليه وسلم - قنت وترك وكان تركه للقنوت أكثر من فعله فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم وللدعاء على آخرين ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وخلصوا من الأسر، وأسلم من دعى عليهم، وجاؤوا تائبين، وكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت- انتهى. والمسألة السابعة: أنه إذا قنت في النازلة هل يقنت قبل الركوع أو بعده؟ فذهب الشافعي وأحمد إلى أنه بعد الركوع، واختلفت الحنفية فيه، قال في رد المحتار (ج1 ص628): وهل القنوت هنا قبل الركوع أو بعده؟ لم أره، والذي يظهر لي أن المقتدي يتابع إمامه إلا إذا جهر فيؤمن، وأنه يقنت بعد الركوع لا قبله، بدليل أن ما استدل به الشافعي على قنوت الفجر، وفيه التصريح بالقنوت بعد الركوع حمله علماؤنا على القنوت للنازلة، ثم رأيت الشرنبلالي في مراقي الفلاح صرح بأنه بعده واستظهر الحموي أنه قبله، والأظهر ما قلنا- انتهى. وقال النيموي في تعليق التعليق (ج2 ص21): والذي يظهر لي أنه يقنت للنازلة قبل الركوع أو بعده كلاهما جائز، لما روى عن غير واحد من الصحابة أنهم قنتوا في صلاة الصبح قبل الركوع، ثم ذكر حديث أنس الآتي في آخر الباب، وقال: ورواه ابن المنذر عن حميد عن أنس بلفظ: أن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع وبعضهم بعد الركوع- انتهى. قال: ولكن الأفضل أن يقنت بعد الركوع؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قنت في النازلة بعد ما رفع رأسه من الركوع- انتهى كلام النيموي. قلت: والمختار عندي أن القنوت في النازلة بعد الركوع؛ لأنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - غير ذلك، لكن لو قنت قبل الركوع جاز لما جاء عن بعض الصحابة أنهم قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع. واعلم

(8/72)


أنه لم يثبت في الدعاء في قنوت النازلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن السلف والخلف دعاء مخصوص متعين كقنوت الوتر؛ لأنه من المعلوم أن الصحابة كانوا يقنتون في النوازل، وهذا يدل على أنهم ما كانوا يحافظون على قنوت راتب، ولذلك قال العلماء: أنه ينبغي الدعاء في ذلك بما يناسب الحال، كما صرح به فقهاء الشافعية والعلامة الأمير اليماني في شرح بلوغ المرام، فبأي دعاء وقع كفى وحصل به المقصود.
1296- قوله: (كان إذا أراد أن يدعو) أي في صلاته. (على أحد) أي لضرره. (أو يدعو لأحد) أي
قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة،
___________________________________________________

(8/73)


لنفعه (قنت بعد الركوع) قال القاري: هو يحتمل التخصيص بالصبح، أو تعميم الصلوات، وهو الأظهر- انتهى. قلت: بل هو المتعين؛ لأنه لا دليل على التخصيص، بل يبطله حديث ابن عباس الآتي وغيره، والحديث يدل بمفهومه على أن القنوت في المكتوبة إنما يكون عند إرادة الدعاء على قوم أو لقوم، ويؤيده ما قدمنا من حديث أنس عند ابن خزيمة، وحديث أبي هريرة عند ابن حبان، وأخذ منه الشافعي، وجمهور أهل الحديث أنه يسن القنوت في أخيرة سائر المكتوبات النازلة أي الشدة التي تنزل بالمسلمين عامة كوباء وقحط وخوف وعدو، أو خاصة ببعضهم كأسر العالم أو الشجاع ممن تعدى نفعه، وفيه رد على ما قال الطحاوي في شرح الآثار (ص149): فثبت بما ذكرنا أنه لا ينبغي القنوت في الفجر في حال الحرب وغيره قياسا ونظرا على ما ذكرنا من ذلك، ورد عليه أيضا فيما قال: "إن القنوت في الصلوات كلها للنوازل لم يقل به إلا الشافعي"، "فربما قال" أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (اللهم أنج) بفتح الهمزة أمر من الإنجاء أي أخلص. (الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة) هذا مثال الدعاء لأحد كما أن قوله: اللهم اشدد وطأتك الخ مثال للدعاء على أحد، وكان هؤلاء الصحابة الذين دعا لهم بالإنجاء أسراء في أيدي الكفار بمكة. أما الوليد بن الوليد فهو أخو خالد بن الوليد المخزومي القرشي، شهد بدرا مشركا فأسره عبدالله بن جحش فقدم في فداءه أخواه خالد وهشام وكان هشام أخا الوليد لأبيه وأمه فافتكاه بأربعة الآلف درهم، فلما اقتدى وذهبا به أسلم، فقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفتدي وأنت مع المسلمين؟ قال: كرهت أن تظنوا بي إني جزعت من الإسار، فحبسوه بمكة فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له في القنوت بالنجاة فيمن يدعو لهم من المستضعفين ثم أفلت من أسارهم، ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد معه عمرة القضية. وقال الحافظ في الفتح: كان ممن شهد بدرا مع المشركين

(8/74)


وأسر وفدى نفسه، ثم أسلم فحبس بمكة، ثم تواعد هو وسلمة وعياش المذكورون معه، وهربوا من المشركين، فعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخرجهم فدعا لهم حتى قدموا فترك الدعاء لهم. قال: ومات الوليد لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما سلمة فهو سلمة بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي كان من مهاجري الحبشة، وكان من خيار الصحابة وفضلائهم، وهو أخو أبي جهل بن هشام، وابن عم خالد بن الوليد، وكان قديم الإسلام حبس بمكة وعذب في الله عزوجل ومنع من الهجرة إلى المدينة ولم يشهد بدرا لذلك، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له في القنوت، فأفلت ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يزل بالمدينة حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف، يجهر بذلك.

(8/75)


فخرج إلى الشام مجاهدا حين بعث أبوبكر الجيوش إلى الشام، فقتل بمرج الصفر في المحرم سنة (14)، وقيل: بأجنادين. وأما عياش بتشديد التحتية بعد العين المهملة المفتوحة وآخره معجمة، فهو ابن أبي ربيعة عمرو بن المغيرة المخزومي، وهو أخو أبي جهل لأمه أسلم قديما قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر الهجرتين، ثم خدعه أبوجهل، فإنه لما قدم عياش إلى المدينة قدم عليه أبوجهل والحارث ابنا هشام فذكرا له أن أمه حلفت أن لا تدخل رأسها دهنا ولا تستظل حتى تراه، فرجع معهما فأوثقاه وحبساه بمكة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له، ثم تخلص وفر مع رفيقه المذكورين، وعاش على خلافة عمر، فمات سنة (15) وقيل: قبل ذلك. وزاد في رواية: اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، وهو تعميم بعد تخصيص. (اللهم اشدد وطأتك) بفتح الواو وسكون الطاء المهملة وهمزة مفتوحة، وأصلها الدوس بالقدم سمي بها الإهلاك؛ لأن من يطأ على شيء برجله فقد استقصى في إهلاكه، والمعنى خذهم أخذا شديدا، ذكره السيوطي. قال السندي: الأقرب أن المراد ههنا العقوبة والبأس، كما يدل عليه آخر الكلام لا الإهلاك كما يدل عليه أوله. (على مضر) بميم مضمومة وفتح ضاد معجمة، وترك صرف بن نزار بن معد بن عدنان، وهو شعب عظيم، فيه قبائل كثيرة كقريش وهذيل وأسد وتميم ومزينة وغيرهم، والمراد كفار أولاد مضر. (واجعلها) الضمير للوطأة أو السنين أو للأيام وإن لم يجر لها ذكر لما يدل عليه المفعول الثاني وهو (سنين) جمع سنة، وهو القحط. (كسني يوسف) أي كسني أيام يوسف عليه السلام من القحط العام في سبعة أعوام، فالمراد بسني يوسف ما وقع في السنين السبع، كما وقع في قوله تعالى: ?ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد? [12: 48] وقد بين ذلك في حديث ابن مسعود عند البخاري حيث قال: سبعا كسبع يوسف، وأضيفت إليه لكونه الذي أنذر بها أو لكونه الذي قام بأمور الناس فيها، وشبه بها لتشديد

(8/76)


القحط واستمراره زمانا. وإجراء سنين مجرى المذكر السالم في الإعرابي بالواو والياء وسقوط النون بالإضافة شائع. وقال القسطلاني: فيه شذوذان تغيير مفرده من الفتح إلى الكسر، وكونه جمعا لغير عاقل، وحكمه أيضا مخالف لجموع السلامة في جواز إعرابه كمسلمين، وبالحركات على النون وكونه منونا وغير منون منصرفا وغير منصرف- انتهى. (يجهر بذلك) أي بالدعاء المذكور. وفي حديث جواز الدعاء في قنوت غير الوتر لضعفة المسلمين بتلخيصهم من الأسر، ويقاس عليه جواز الدعاء لهم بالنجاة من كل ورطة يقعون فيها من غير فرق بين المستضعفين وغيرهم، وفيه جواز الدعاء على الكفار بالجدب والبلاء، وفيه مشروعية الجهر بالقنوت للنازلة، وفيه أن الدعاء لقوم بأسمائهم وأسماء آباءهم لا يقطع الصلاة، وأن الدعاء على الكفار والظلمة
وكان يقول في بعض صلاته: اللهم العن فلانا وفلانا، لأحياء من العرب، حتى أنزل الله
?ليس لك من الأمر شيء? الآية. متفق عليه.
1297-(2) وعن عاصم الأحول، قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة، كان قبل
الركوع أو بعده؟ قال

(8/77)


لا يفسدها (وكان يقول في بعض صلاته) زاد في رواية للبخاري: في صلاة الفجر، وهو بيان لقوله في بعض صلاته. قال الحافظ: فيه إشارة إلى أنه كان لا يداوم على ذلك. (اللهم العن فلانا فلانا لأحياء) أي لقبائل جمع حي بمعنى القبيلة. (من العرب) أي أبعدهم وأطردهم عن رحمتك، وهذا لا يستلزم الدعاء بالإماتة على الكفرة وسوء الخاتمة، وأراد بفلانا وفلانا القبائل نفسها لا إعلاما خاصة لما وقع تسميتهم في رواية يونس عن الزهري عند مسلم بلفظ: اللهم العن رعلا وذكوان وعصية، وكذا وقع تسميتهم بذلك في حديث ابن عباس الآتي، وسنذكره قصتهم في شرح حديث أنس. (حتى أنزل الله ليس لك من الأمر شيء) المعنى أن الله مالك أمرهم. فأما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم أن أسلموا أو يعذبهم أن أصروا على الكفر وماتوا عليه وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت مبعوث؛ لأنذارهم ومجاهدتهم، فليس لك من الأمر إلا التفويض والرضى بما قضى. (الآية) بتثليثها وتمامها أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون واستشكل هذا بأن قصة رعل وذكوان كانت بعد أحد ونزول ليس لك من الأمر من شيء في قصة أحد، كما بينه في حديث أنس عند مسلم وأحمد والترمذي وغيرهم، وفي حديث ابن عمر عند البخاري وغيره فكيف يتأخر السبب عن النزول وأجاب في الفتح بأن قوله: حتى أنزل الله. منقطع من رواية الزهري عمن بلغه، كما بين ذلك مسلم في رواية يونس المذكورة فقال هنا قال يعني الزهري ثم أنه ترك ذلك لما نزلت، قال: وهذا البلاغ لا يصح وقصة رعل وذكوان أجنبية عن قصة أحد ويحتمل أن كان محفوظا أن يقال إن قصتهم كانت عقب ذلك وتأخر نزول الآية عن سببها قليلا ثم نزلت في جميع ذلك. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وغيرهما واللفظ المذكور للبخاري في تفسير آل عمران.

(8/78)


1297- قوله: (وعن عاصم الأحول) هو عاصم بن سليمان الأحول أبوعبد الرحمن البصري، ثقة تابعي، لم يتكلم فيه إلا قطان، وكأنه بسبب دخوله في الولاية، مات سنة. (140) وقيل. (141) وقيل. (142) وقيل. (143) قال ابن سعد: كان من أهل البصرة، وكان يتولى الولايات، فكان بالكوفة على الحسبة في المكائيل والأوزان، وكان قاضيا بالمدائن لأبي جعفر. (سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة) أي في صلاة الوتر هذا، هو الظاهر عندي. وقيل: المراد في الصلاة المكتوبة عند النازلة. (كان) أي محله. (قبل الركوع أو بعده قال)
قبله، إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع شهرا، إنه كان بعث أناسا يقال لهم: القراء، سبعون رجلا، فأصيبوا، فقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع شهرا يدعو عليهم)). متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1298-(3) عن ابن عباس، قال: ((قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرا متتابعا في الظهر
___________________________________________________

(8/79)


أي أنس. (قبله) أي كان محل القنوت في الوتر قبل الركوع، والمتن وقع في اختصار من البغوي وسياقه عند البخاري قال أي عاصم: سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: كذب إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ. وقد وافق عاصما على روايته هذه عبدالعزيز بن صهيب عن أنس، كما وقع في المغازي للبخاري بلفظ: سأل رجل أنسا عن القنوت بعد الركوع أو عند الفراغ من القراءة، قال: لا بل عند الفراغ من القراءة. (إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع) أي في المكتوبة عند النازلة. (شهرا) فقط، وأما في غير المكتوبة أي في الوتر فقنت قبله، يعني فمن حكى أن القنوت دائما بعد الركوع فقد أخطأ فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قنت بعد الركوع شهرا فقط. (إنه) بالكسر استئناف مبين للتعليل للتحديد في الشهر. (كان بعث) أي أرسل. (أناس) أي جماعة من أهل الصفة. (يقال لهم القراء) لكثرة قراءتهم وحفظهم للقرآن وتعليمهم لغيرهم. (سبعون) أي هم سبعون (رجلا) وكانوا من أوزاع الناس ينزلون الصفة يتفقهون العلم ويتعلمون القرآن، وكانوا ردءا للمسلمين إذا نزلت بهم نازلة وكانوا حقا عمار المسجد وليوث الملاحم، بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجد من بني عامر ليدعوهم على الإسلام ويقرؤا عليهم القرآن، فلما نزلوا بئر معونة قصدهم عامر بن الطفيل في أحياء من بني سليم، وهو رعل وذكوان وعصية فقاتلوهم. (فأصيبوا) أي فقتلوا جميعا. قيل: ولم ينج منهم إلا كعب بن زيد الأنصاري، فإنه تخلص وبه رمق وظنوا أنه مات، فعاش حتى استشهد يوم الخندق وأسر عمرو بن أمية الصغرى، وكان ذلك في السنة الرابعة من الهجرة أي في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزنا شديدا، قال أنس: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد على أحد ما وجد عليهم. (فقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في الصلوات الخمس. (بعد

(8/80)


الركوع شهرا يدعو عليهم) أي على قاتليهم. والحديث يدل على مشروعية القنوت في النازلة، وعلى أن القنوت في النازلة بعد الركوع. وأن قنوته - صلى الله عليه وسلم - في المكتوبة لهذه النازلة كان محصورا على الشهر بعد الركوع، وأنه لم يقنت بعد ذلك الشهر لعدم وقوع نازلة تستدعي القنوت بعده، وأنه لم يقنت في المكتوبة لغير النازلة قط لا قبل الركوع ولا بعده، كما دل عليه حديث أنس عند ابن خزيمة وحديث أبي هريرة عند ابن حبان، وقد تقدما. (متفق عليه) للحديث ألفاظ في الصحيحين وغيرهما، وأخرجه البخاري في مواضع مطولا ومختصرا.
1298- قوله: (شهرا متتابعا) أي مواليا أيامه يعني قنت في كل يوم منه لم يتركه في وقت. (في الظهر
والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة، يدعو
على أحياء من بنى سليم: على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه)). رواه أبوداود.
1299-(4) وعن أنس، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت شهرا ثم تركه)). رواه أبوداود، والنسائي.
1300-(5) وعن أبي مالك الأشجعي،
___________________________________________________

(8/81)


(والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح) في أبي داود بعده في دبر كل صلاة، وفيه دليل على أن القنوت للنوازل لا يختص ببعض الصلوات، فهو يرد على من خصصه بالجهرية أو بصلاة الفجر عندها. (إذا قال سمع الله لمن حمده) أي وقال ربنا لك الحمد، كما ثبت ذلك في حديث ابن عمر عند البخاري وأحمد. وفيه أن القنوت للنازلة بعد الركوع. (من بني سليم) مصغر. (على رعل) بدل بإعادة الجار، وهو بكسر الراء وسكون المهملة، قبيلة من بني سليم. (وذكوان) بفتح الذال المعجمة، قبيلة من بني سليم أيضا. (وعصية) كسمية تصغير عصا، قبيلة أيضا من بني سليم فالأول هو رعل بن خالد بن عوف بن امرىء القيس بن بهثه بن سليم، والثاني هو ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم. والثالث عصية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم، فالثلاثة قبائل من سليم. (ويؤمن من خلفه) أي يقول آمين من خلفه من المأمومين. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج1 ص225 -226) والبيهقي (ج2 ص200، 212) من طريق الحاكم وأبي داود. وزاد الحاكم: أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام فقتلوهم. والحديث سكت عنه أبوداود، وصححه الحاكم، وذكره الحافظ في التلخيص من غير كلام فيه. وقال المنذري: في إسناده هلال بن خباب أبوالعلاء العبدي، وقد وثقه أحمد وابن معين وأبوحاتم الرازي. وقال أبوحاتم: وكان يقال تغير قبل موته من كبر السن. وقال العقيلي: في حديثه وهم تغير بآخرة. وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره فكان يحدث بالشيء على التوهم لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد- انتهى. وقال الحافظ: أنه صدوق تغير بأخرة.

(8/82)


1299- قوله: (قنت) أي في المكتوبة. (شهرا) أي بعد الركوع. (ثم تركه) أي القنوت في الفرض؛ لأنه قنت في نازلة. كما تقدم، فلما زالت وارتفعت تركه. وقال الشافعي ومن وافقه: معناه تركه في الصلوات الأربع ولم يتركه في الصبح أو ترك اللعن والدعاء على القبائل، ولا يخفى ما فيه. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد ومسلم ولفظه: قنت شهرا يدعو على أحياء العرب ثم تركه، وأخرج بهذا اللفظ أحمد والنسائي والبيهقي (ج2 ص201) أيضا.
1300- قوله: (وعن أبي مالك الأشجعي) اسمه سعد بن طارق الكوفي من ثقات التابعين، روى عن
قال: قلت لأبي: يا آبت! إنك قد صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان،
وعلي، ههنا بالكوفة نحوا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني! محدث )). رواه
الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.

(8/83)


أبيه وأنس وعبدالله بن أبي أوفي وغيرهم، مات في حدود الأربعين ومائة، ووالده طارق بن أشيم بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الياء التحتية على وزن أحمر ابن مسعود الكوفي، صحابي، قليل الحديث، لم يرو عنه إلا ابنه سعد أبومالك، وأحاديثه في مسند أحمد (ج3 ص472 وج6 ص394- 395). (يا أبت) بكسر التاء. (وأبي بكر وعمر وعثمان) أي بالمدينة. (وعلي) أي وصليت خلف علي. (ههنا بالكوفة) هما ظرفان متعلقان بصليت خلف علي المحذوف. (نحوا) أي قريبا. (من خمس سنين) هذا أيضا متعلق بصليت خلف علي المحذوف. (أكانوا يقنتون) بإثبات همزة الاستفهام. وفي نسخ المصابيح بإسقاطها. واختلفت نسخ الترمذي في ذلك، فبعضها بحذفها وبعضها بإثباتها. وفي رواية ابن ماجه: فكانوا يقنتون في الفجر، فالسؤال مقدر. (قال) أي أبي. (أي بني محدث) بفتح الدال أي القنوت في المكتوبة أو في الفجر بدعة، والمراد الدوام والاستمرار عليه لا القنوت مطلقا جمعا بين الأحاديث، فهذا يدل على أن القنوت في المكتوبة كان مخصوصا بأيام المهام والنوازل والوقائع. وقال البيهقي (ج2 ص213): لم يحفظ طارق بن أشيم القنوت عمن صلى خلفه فرآه محدثا وقد حفظه غيره، فالحكم لمن حفظ دون من لم يحفظه- انتهى. وقال غيره: ليس في هذا الحديث دليل على أنهم ما قنتوا قط، بل اتفق أن طارقا صلى خلف كل منهم وأخذ بما رأى. ومن المعلوم أنهم كانوا يقنتون في النوازل. وهذا الحديث يدل على أنهم ما كانوا يحافظون على قنوت راتب، كذا في نصب الراية (ج2 ص131). وقال الطيبي: لا يلزم من نفي هذا الصحابي نفي القنوت؛ لأنه شهادة بالنفي، وقد شهد جماعة بالإثبات مثل الحسن وأبي هريرة وابن عباس- انتهى. يعني أن المثبت مقدم على المنفي. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن صحيح. وقال في التلخيص (ص93): إسناده حسن. (والنسائي) ولفظه عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه

(8/84)


وسلم - فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف علي فلن يقنت، ثم قال يا بني إنها بدعة. (أي المداومة على القنوت بدعة، وتأنيث الضمير باعتبار الخبر). (وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص472 وج6 ص394) والبيهقي (ج2 ص213) والطحاوي (ج1 ص146).
?الفصل الثالث?
1301-(6) عن الحسن، أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بهم عشرين ليلة، ولا يقنت بهم إلا في النصف الباقي، فإذا كانت العشر الأواخر يتخلف فصلى
في بيته، فكانوا يقولون: أبق أبي. رواه أبوداود.

(8/85)


1301- قوله: (عن الحسن) أي البصري. (أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب) أي كان الناس قبل ذلك يصلون في المسجد في رمضان أوزعا متفرقين، كما سيأتي في الفصل الثالث، من الباب الذي يلي هذا الفصل. فجمعهم عمر على أبي. (فكان) أي أبي. (يصلي بهم) أي صلاة التراويح. (عشرين ليلة) يعني من رمضان. (ولا يقنت بهم) أي في الوتر. (إلا في النصف الباقي) أي الأخير، وذكره الزيلعي عن أبي داود بلفظ الثاني، وهو الظاهر. (يتخلف) أي أبي عن المسجد. وفي بعض النسخ: تخلف بالماضي، موافقا لما في أبي داود والبيهقي وجامع الأصول (ج6 ص262). (فكانوا يقولون أبق) بفتح الباء من باب ضرب ونصر. (أبي) أي هرب عنا، يعني لم يدخل المسجد ليصلي بهم التراويح. قال الطيبي: في قولهم أبق إظهار كراهة تخلفه، فشبهوه بالعبد الآبق، كما في قوله تعالى: ?إذا أبق إلى الفلك المشحون? [37: 140] سمي هرب يونس بغير إذن ربه إباقا مجازا، ولعل تخلف أبي كان تأسيا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث صلاها بالقوم ثم تخلف، كما سيأتي، والأولى أن يحمل تخلفه على عذر من الأعذار. قال ابن حجر: وكان عذره أنه كان يؤثر التخلي في هذا العشر الذي لا أفضل منه، ليعود عليه من الكمال في خلوته فيه ما لا يعود عليه في جلوته عندهم. والحديث استدل به للشافعية على تخصيص القنوت في الوتر بالنصف الأخير من رمضان، لكنه حديث ضعيف؛ لأنه منقطع، فإن الحسن لم يدرك عمر؛ لأنه ولد لسنتين بقيتا من خلافته، ويضعفه أيضا أن الحسن كان يقنت في جميع السنة، كما ذكره محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر (ص32)، ثم هو فعل الصحابي مع أن القنوت في حديث الباب يحتمل كونه طول القيام، فإنه يقال عليه تخصيصا للنصف الأخير بزيادة الاجتهاد، ولم يرو حديث مرفوع صحيح أو حسن في تخصيص قنوت الوتر برمضان، وقد تقدم في باب الوتر ما يدل على مشروعيته في جميع السنة، فهو الراجح المعول عليه. (رواه أبوداود) ومن

(8/86)


طريقة البيهقي (ج2 ص498) وهو منقطع، كما تقدم، وأخرجه أيضا محمد بن نصر بمعناه، وأصل جمع عمر الناس على أبي في صحيح البخاري دون القنوت، كما سيأتي. وأخرج أيضا أبوداود والبيهقي من طريقه عن هشام عن محمد بن سيرين عن بعض أصحابه أن أبي بن كعب أمهم يعني في رمضان وكان يقنت في النصف الأخير من رمضان، وفيه مجهول. وقال النووي في الخلاصة: الطريقان ضعيفان. قال أبوداود: وهذان الحديثان يدلان على ضعف
1302-(7) وسئل أنس بن مالك عن القنوت: فقال: ((قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع)). وفي رواية: ((قبل الركوع وبعده)). رواه ابن ماجه.
(37) باب قيام شهر رمضان
حديث أبي بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في الوتر- انتهى. يشير إلى ما قدمنا من حديث أبي بن كعب نقلا عن النسائي وابن ماجه في إثبات قنوت الوتر قبل الركوع. قلت: ولا دلالة في هذين الحديثين على ضعف حديث أبي؛ لأنهما ضعيفان، كما تقدم.

(8/87)


1302- قوله: (وسئل) بصيغة المجهول. (أنس بن مالك) والسائل هو محمد بن سيرين، كما ستعرف. (عن القنوت) أي عن محله في المكتوبة، أو في الصبح عند النازلة. (فقال: قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع) أي شهرا فقط، يعني في المكتوبة، أو في الصبح حين دعاء على رعل وذكوان وعصية كما تقدم من حديث عاصم الأحول عن أنس. وأصل هذا الحديث عند الشيخين أخرجاه من طريق أيوب عن محمد بن سيرين قال: سئل أنس بن مالك: أقنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصبح؟ قال: نعم. فقيل: أو قنت قبل الركوع. (أو بعد الركوع) ؟ قال: بعد الركوع يسيرا. لفظ البخاري ولمسلم عن أيوب عن محمد قال: قلت؛ لأنس هل قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح؟ قال نعم بعد الركوع يسيرا. (وفي رواية) هذا حديث آخر، أخرجه ابن ماجه من طريق حميد عن أنس قال: سئل عن القنوت في صلاة الصبح فقال: كنا نقنت قبل الركوع وبعده، والرواية الأولى أخرجها من طريق أيوب عن محمد. (ابن سيرين) قال: سألت أنس بن مالك عن قنوت فقال: قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع، وبهذا ظهر أن الرواية الثانية موقوفة. (قبل الركوع وبعده) أي في الصبح وقت قنوت النازلة. ورواه ابن المنذر عن حميد عن أنس بلفظ: إن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قنتوا في صلاة الفجر قبل الركوع، وبعضهم بعد الركوع، وهذا كله يدل على اختلاف عمل الصحابة في محل القنوت المكتوبة فقنت بعضهم قبل الركوع وبعضهم بعده، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يثبت عنه القنوت في المكتوبة إلا عند النازلة، ولم يقنت في النازلة إلا بعد الركوع، هذا ما تحقق لي، والله أعلم. (رواه ابن ماجه). الرواية الثانية صححها أبوموسى المديني، كما في التلخيص (ص94). وقال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.

(8/88)


(باب قيام شهر رمضان) أي قيام لياليه وإحياءها بالعبادة من صلاة التراويح وتلاوة القرآن وغيرهما، وذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح. قال الحافظ: يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام، لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها. وقال الكرماني: اتفقوا على أن المراد بقيامه صلاة التراويح، وبه جزم النووي
?الفصل الأول?
1303-(1) وعن زيد بن ثابت، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة في المسجد
وغيره، وذكر في الباب قيام ليلة النصف من شعبان تبعا. والتراويح جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة، كتسليمة من السلام، سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح؛ لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، كذا في الفتح. وقال المجد في القاموس: ترويحة شهر رمضان سميت بها لاستراحة بعد كل أربع ركعات- انتهى. وروى البيهقي في السنن (ج2 ص497) عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي أربع ركعات في الليل ثم يتروح فأطال حتى رحمته فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: أفلا أكون عبدا شكورا. قال البيهقي: قوله ثم يتروح إن ثبت فهو أصل في تروح الإمام في صلاة التراويح، وفي سنده المغيرة بن زياد الموصلى. قال البيهقي: قد تفرد به، وهو ليس بالقوي صاحب مناكير. وقال أحمد: مضطرب الحديث منكر الحديث أحاديثه مناكير. وقال أبوحاتم وأبوزرعة: لا يحتج به. وقال النسائي والدارقطني: ليس بالقوي، ووثقه ابن معين والعجلي وابن عمار ويعقوب بن سفيان. وقال أبوداود: صالح. وقال الحافظ: صدوق له أوهام. واعلم أن التراويح وقيام رمضان وصلاة الليل وصلاة التهجد في رمضان عبارة عن شيء واحد واسم لصلاة واحدة، وليس التهجد في رمضان غير التراويح؛ لأنه لم يثبت من رواية صحيحة ولا ضعيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في ليالي رمضان صلاتين إحداهما التراويح، والأخرى

(8/89)


التهجد، فالتهجد في غير رمضان هو التراويح في رمضان، كما يدل عليه حديث أبي ذر وغيره، وإليه ذهب صاحب فيض الباري من الحنفية حيث قال: المختار عندي أن التراويح وصلاة الليل واحد وإن اختلفت صفتاهما، كعدم المواظبة على التراويح، وأدائها بالجماعة، وأدائها في أول الليل تارة، وإيصالها إلى السحر أخرى بخلاف التهجد، فإنه كان في آخر الليل، ولم تكن فيه الجماعة، وجعل اختلاف الصفات دليلا على اختلاف نوعيهما ليس بجيد عندي، بل كانت تلك صلاة واحدة، إذا تقدمت سميت باسم التراويح، وإذا تأخرت سميت باسم التهجد، ولا بدع في تسميتها باسمين عند تغاير الوصفين، فإنه لا حجر في التغاير الاسمي إذا اجتمعت عليه الأمة، وإنما يثبت تغاير النوعين إذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى التهجد مع إقامته بالتراويح-انتهى. قلت: لا شك في أن التراويح والتهجد صلاة واحدة، لكن تخصيص التهجد بكونه في آخر الليل، فيه عندي كلام، نعم أكثر صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل كانت في آخره.
1303- قوله: (اتخذ) أي في رمضان. (حجرة) بالراء. قال الحافظ: كذا للأكثر بالراء، ولأبي ذر عن الكشمهيني: بالزاي أي شيئا حاجزا، يعني مانعا بينه وبين الناس. (في المسجد) أي في مسجد المدينة
من حصير، فصلى فيها ليالي، حتى اجتمع عليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلة، وظنوا أنه قد نام،
فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال:

(8/90)


(من حصير) أي موضعا من المسجد بحصيرة ليستره، يعني جعل الحصير كالحجرة ليصلي فيه التطوع، ولا يمر بين يديه مار ليتوفر خشوعه ويتفرغ قلبه، وفيه جواز مثل هذا إذا لم يكن فيه تضييق على المصلين ونحوهم ولم يتخذه دائما؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحتجره بالليل يصلي فيه، ويبسطه بالنهار فيجلس عليه، كما في رواية عائشة عند الشيخين. (فصلى فيها) أي في تلك الحجرة. (ليالي) أي من رمضان. (حتى اجتمع) قال القاري: أي فكان يخرج عليه الصلاة والسلام منها، ويصلي بالجماعة في الفرائض والتراويح حتى اجتمع. (عليه ناس) أي وكثروا، وقول ابن حجر ههنا: فأتموا به موهم أن الإقتداء وقع به، وهو في داخل الحجرة، وهو محل بحث، ويحتاج إلى نقل صحيح- انتهى كلام القاري. قلت: ظاهر الحديث أنهم اقتدوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في داخل الحجرة، ويؤيده رواية البخاري في الأدب بلفظ: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها قال: فتتبع إليه رجال. (أي طلبوا موضعه واجتمعوا عليه) وجاءوا يصلون بصلاته الخ. ويؤيده أيضا حديث عائشة عند البخاري قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل في حجرته. (أي التي اتخذها من حصير) وجدار الحجرة قصيرة فرأى الناس شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام أناس يصلون بصلاته- الحديث. وقيل: هذه قصة أخرى غير ما وقع في حديث زيد بن ثابت، والله أعلم. واستشكل صلاته - صلى الله عليه وسلم - في المسجد؛ لأنه يلزم منه أن يكون تاركا للأفضل الذي أمر به الناس به حيث قال: فصلوا في بيوتكم الخ. وأجيب عنه بوجوه: منها أن هذه الصلاة مما استثني عنه؛ لأن الأفضل عند الجمهور في صلاة التراويح المسجد، كما سيأتي. ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم -كان إذ ذاك معتكفا، ومن المعلوم أن المعتكف لا يصلي إلا في المسجد. ومنها أنه إذا احتجر صار كأنه بيت بخصوصية. ومنها أن السبب في كون صلاة التطوع في البيت

(8/91)


أفضل عدم شوبه بالرياء غالبا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن الرياء في بيته وفي غير بيته. (ثم فقدوا صوته) أي حسه. (ليلة) بأن دخل الحجرة بعد ما صلى بهم الفريضة ولم يخرج إليهم بعد ساعة للتراويح، قاله القاري، وفيه ما تقدم. (فجعل بعضهم يتنحنح) فيه دليل لما أعتيد في بعض النواحي من التنحنح إشارة إلى الاستئذان في دخوله، أو إلى الإعلام بوجود المتنحنح بالباب أو بطلبه خروج من قصده إليه. (ليخرج) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحجرة. (إليهم) لصلاة التراويح بعد أن دخل فيها، كما في الليالي الماضية، قاله القاري. (فقال) أي فخرج فقال، ففي رواية البخاري في الأدب: ثم جاءوا ليلة فحضروا وابطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضبا، وقوله: حصبوا الباب يدل بظاهره على أنه دخل بيتا من بيوت أزواجه بعد ما صلى بهم الفريضة
ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم، حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما
قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)).

(8/92)


فلم يخرج منه إلى الحجرة التي كان احتجرها في المسجد بالحصير، فحصبوا باب بيته ليخرج منه إلى حجرة الحصير فيصلوا بصلاته من ورائها. (ما زال بكم) أي متلبسا كم. (الذي رأيت) بكم خبر زال قدم على الاسم، وهو الموصول بصلته، أي أبدا ثبت بكم الذي رأيت. (من صنيعكم) قال الحافظ: كذا للأكثر، وللكشمهيني بضم الصاد وسكون النون، أي من شدة حرصكم على إقامة صلاة التراويح بالجماعة، حتى رفعتم أصواتكم وحصب بعضكم الباب وتنحنح بعضكم. (حتى خشيت أن يكتب) أي يفرض (عليكم) أي لو واظبت على إقامتها بالجماعة لفرضت عليكم. (ولو كتب عليكم) ذلك (ما قمتم به) ولم تطيقوه بالجماعة كلكم بعجزكم. قال القاري: فيه دليل على أن التراويح سنة جماعة وانفرادا، والأفضل في عهدنا الجماعة لكسل الناس. وقد استشكلت هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء من أن الله تعالى قال: هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي، فإذا أمن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟ وقد أجيب عنه بأجوبة ذكرها الحافظ في الفتح عن الشراح، وتكلم في كل واحد منها، ثم قال: وقد فتح الباري بثلاثة أجوبة أخرى: أحدها يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل بمعنى جعل التهجد في المسجد جماعة شرطا في صحة التنفل بالليل، ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فمنعهم من التجميع في المسجد إشفاقا عليهم من اشتراطه وأمن مع أذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم. ثانيها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون زائدا على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها. ثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع في حديث الباب. (أي حديث عائشة) إن ذلك كان في رمضان، وفي رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة عند أحمد: خشيت أن يفرض عليكم قيام

(8/93)


هذا الشهر، فعلى هذا يرتفع الإشكال؛ لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة، فلا يكون ذلك قدرا زائدا على الخمس، وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة في نظري الأول-انتهى كلام الحافظ. (فصلوا أيها الناس في بيوتكم) أي النوافل التي لم تشرع فيها الجماعة والتي لا تخص المسجد، والأمر للاستحباب. (فإن أفضل صلاة المرء) هذا عام لجميع النوافل والسنن إلا النوافل التي من شعار الإسلام كالعيد والكسوف والاستسقاء. قاله القاري. وقال بعض الأئمة الشافعية: هو محمول على ما لا يشرع فيه التجميع، وكذا ما لا يخص المسجد كركعتي التحية. (في بيته) خبر إن أي صلاته في بيته. (إلا الصلاة المكتوبة) أي المفروضة. قال النووي:
متفق عليه.
1304-(2) وعن أبي هريرة قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: من قام رمضان إيمانا واحتسابا،

(8/94)


إنما حث على النافلة في البيت، لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وليتبرك البيت بذلك فتنزل فيه الرحمة وينفر منه الشيطان. قلت: والحديث يدل على أن صلاة التراويح في البيت أفضل؛ لأنه ورد في صلاة رمضان في مسجده - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان صلاة رمضان في البيت أفضل منها في مسجده - صلى الله عليه وسلم - فكيف غيرها في مسجد آخر؟ وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن صلاة رمضان أي التراويح في المسجد أفضل، وهذا يخالف هذا الحديث؛ لأن مورده صلاة رمضان. وأجيب عنهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لخشية الافتراض، فإذا زالت الخشية بوفاته - صلى الله عليه وسلم - ارتفعت العلة المانعة، وصار أداءها في المسجد أفضل، كما أداها - صلى الله عليه وسلم - في المسجد عدة ليال، ثم أجراها عمر بن الخطاب واستمر عليها عمل المسلمين إلى يومنا هذا؛ لأنه من الشعائر الظاهرة للإسلام فأشبه صلاة العيد، وأجاب السندي بأنه يقال: صار أفضل حين صار أداءها في المسجد من شعار الإسلام، والله تعالى أعلم. وفي الحديث ندب قيام رمضان جماعة؛ لأن الخشية المذكورة أمنت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك جمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب، كما سيأتي. وفيه أن الكبير إذا فعل شيئا خلاف ما اعتاده أتباعه ينبغي أن يذكر لهم عذره وحكمه والحكمة فيه. وفيه ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه من الشفقة على أمته والرأفة بهم. وفيه ترك بعض المصالح لخوف المفسدة وتقديم أهم المصلحتين. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة والأدب والاعتصام، ومسلم في الصلاة، واللفظ للبخاري في الاعتصام. وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي والبيهقي (ج2 ص494).

(8/95)


1304- قوله: (يرغب) أي الناس، وهو بضم الياء وفتح الراء وكسر الغين المعجمة المشددة من الترغيب. (في قيام رمضان) أي يحضهم على قيام لياليه، مصليا أي صلاة التراويح، كما قاله النووي. (من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة) أي بعزم وقطع وبت، يعني بفريضة، وفيه التصريح بعدم وجوب القيام. قال النووي: معناه لا يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم بل أمر ندب وترغيب، ثم فسره بقوله فيقول الخ. وهذه الصيغة تقتضي الندب والترغيب دون الإيجاب، واجتمعت الأمة على أن قيام رمضان ليس بواجب بل هو مندوب. (من قام رمضان) أي قام لياليه مصليا يعني صلى التراويح، وقيل: المراد ما يحصل به مطلق القيام. (إيمانا أي تصديقا بوعد الله عليه بالثواب. (واحتسابا) أي طلبه للأجر والثواب من غير رياء وسمعة،
غفر له ما تقدم من ذنبه، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة
أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر على ذلك)).

(8/96)


فنصبهما على المفعول له. وقيل: على الحال مصدران بمعنى الوصف أي مؤمنا بالله ومصدقا بأن هذا القيام حق وتقرب إليه معتقدا فضيلته ومحتسيا بما فعله عند الله أجرا، مريدا به وجه الله، لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص. وقيل: منصوبان على التمييز، يقال: فلان يحتسب الإخبار أي يتطلبها، ويقال: احتسب بالشيء أي اعتد به. (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي من الصغائر من حقوق الله. وقال الحافظ: ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر. وقال النووي: المعروف عند الفقهاء أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين، وعزاه عياض لأهل السنة. قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة- انتهى. وزاد أحمد وغيره وما تأخر. وقال الحافظ: وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب عدة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد، وقد استشكلت هذه الزيادة من حيث أن المغفرة تستدعي سبق شيء يغفر، والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر، والجواب عنه أنه كناية عن عدم الوقوع يعني يحفظهم الله في المستقبل عن الكبائر فلا تقع منهم كبيرة، وقيل: معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة، وبهذا أجاب جماعة منهم الماوردي في الكلام على حديث صيام عرفة، وأنه يكفر سنتين سنة ماضية وسنة آتية. (فتوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كذا وقع مدرجا في نفس الخبر عند مسلم والترمذي وأبي داود، وهو قول الزهري صرح به مالك في الموطأ والبخاري في صحيحة ومحمد بن نصر في قيام الليل من رواية مالك. قال الباجي: وهذا مرسل أرسله الزهري وأدرجه معمر في نفس الحديث. أخرجه مسلم والترمذي وأبوداود من طريق معمر عن ابن شهاب. (والأمر على ذلك) أي على ترك اهتمام الجماعة الواحدة في صلاة التراويح، يعني كانوا يصلون أوزاعا متفرقين يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، ويصلي بعضهم في أول الليل، وبعضهم في آخره ويصلي بعضهم في بيته وبعضهم في المسجد، إما لكونهم

(8/97)


معتكفين أو؛ لأنهم من أهل الصفة أو لغير ذلك. (ثم كان الأمر) أي أمر صلاة التراويح. (على ذلك) أي على وفق ما كان زمانه - صلى الله عليه وسلم - في خلافة أبي بكر أي في جميع زمانها. (وصدرا) بالنصب عطفا على خبر كان. (من خلافة عمر) أي في أول خلافته، وصدر الشيء وجهه وأوله. (على ذلك) أي ما ذكر، ثم جمعهم عمر على قاري في المسجد واهتم بالجماعة الواحدة، قيل: المراد بصدر من خلافته السنة الأولى من خلافته؛ لأن بدء خلافته في أخرى الجمادين سنة ثلاث عشرة، واستقر أمر التراويح سنة أربع عشرة من الهجرة في السنة الثانية من خلافته، كما ذكره السيوطي وابن الأثير وابن سعد. قال الباجي: وإنما أمضاه أبوبكر على ما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد علم أن
رواه مسلم.
1305-(3) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا)).

(8/98)


الشرائع لا تفرض بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد وجهين: إما لأنه شغل بأمر أهل الردة وغير ذلك من مهمات الأمور، ولم يتفرغ للنظر في جميع أمور المسلمين مع قصر مدة خلافته، أو لأنه رأى من قيام الناس في آخر الليل وقوتهم عليه ما كان أفضل عنده من جمعهم على إمام واحد في أول الليل، ثم رأى عمر أن يجمعهم على إمام واحد-انتهى مختصرا. والحديث يدل على فضيلة قيام رمضان وتأكد استحبابه، واستدل به أيضا على استحباب صلاة التراويح؛ لأن القيام المذكور في الحديث المراد به صلاة التراويح، كما تقدم عن النووي والكرماني. قال النووي: واتفق العلماء على استحبابها، قال: واختلفوا في أن الأفضل صلاتها في بيته منفردا أم في جماعة في المسجد، فقال الشافعي: وجمهور أصحابه وأبوحنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم: أن الأفضل صلاتها جماعة في المسجد، كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم، واستمر عمل المسلمين عليه؛ لأنه من الشعائر الظاهرة فأشبه صلاة العيد، وبالغ الطحاوي فقال: إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية. وقال مالك وأبويوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل فرادى في البيت لحديث زيد بن ثابت المتقدم بلفظ: صلوا في بيوتكم الخ. وقد تقدم الجواب عنه. وقال الحافظ: عند الشافعية في أصل المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها: من كان يحفظ القرآن ولا يخاف من الكسل ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه فصلاته في الجماعة والبيت سواء، فمن فقد بعض ذلك فصلاته في الجماعة أفضل- انتهى. قلت: وهذا هو الراجح عندي، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد ومالك والبخاري والترمذي وأبوداود ومحمد بن نصر والبيهقي (ج2 ص492). لكن ليس عند البخاري قوله: كان يرغب في قيام رمضان إلى قوله بعزيمة وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصرا.

(8/99)


1305- قوله: (إذا قضى أحدكم الصلاة) أي أداها "وال" للعهد أي المكتوبة. (في مسجده) يعني أدى الفرض في محل الجماعة، ويحتمل أن المراد مطلق الصلاة التي يريد أن يصليها في المسجد. قال السندي: يحتمل أن المراد بالصلاة جميع ما يريد أن يصلي من الفرائض والنوافل، والمعنى إذا أراد أن يقضي ويؤدي تلك الصلاة. (فليجعل لبيته نصيبا من صلاته) أي فليصل شيئا منها في البيت، "فمن" تبعيضية، ويحتمل أن المراد بها الفرائض، والمعنى إذا فرغ من الفرائض في المسجد فليجعل نصيبا منه في البيت يجعل سنته ومتعلقاته فيه، ومن سببية. (فإن الله تعالى جاعل) أي خالق أو مصير. (في بيته من صلاته) أي من أجلها. (خيرا) يعود على أهله
رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1306-(4) عن أبي ذر، قال: ((صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا، حتى ذهب شطر الليل،
بتوفيقهم وهدايتهم ونزول البركة في أرزاقهم وأعمارهم. قال العلقمي: من سببية بمعنى من أجل، والخير الذي يجعل في البيت بسبب التنفل فيه هو عمارته بذكر الله تعالى وطاعته، وحضور الملائكة واستغفارهم ودعاؤهم، وما يحصل لأهله من الثواب والبركة، وتستثنى التراويح لما تقدم من فعله عليه السلام ولما تقرر عليه عمل الصحابة بعده، فيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب تبعا للبغوي موهم، كما لا يخفى. (رواه مسلم) وكذا أحمد (ج3 ص316) والبيهقي (ج2 ص189) كلهم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، وأخرجه ابن ماجه والبيهقي أيضا من حديث أبي سعيد كلاهما من طريق سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أبي سعيد الخدري. قال البوصيري في الزوائد: رجاله ثقات. وأخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحة من حديث أبي سعيد، كما في الترغيب، وأخرجه الدارقطني في الإفراد عن أنس.

(8/100)


1306- قوله: (صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في رمضان، كما في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. (فلم يقم بنا) أي في لياليه يعني لم يصل لنا التراويح. (شيئا من الشهر) بل كان إذا صلى الفرض دخل حجرته. (حتى بقي سبع) أي من الشهر، كما في الترمذي والنسائي أي ومضى اثنان وعشرون. قال الطيبي: أي سبع ليال نظرا إلى المتيقن، وهو أن الشهر تسع وعشرون، فيكون القيام في قوله: (فقام بنا) ليلة الثالثة والعشرين، وهو مصرح في بعض روايات أحمد، وصرح أيضا بذلك في حديث النعمان بن بشير عند النسائي. ولفظ ابن ماجه: فقام بنا ليلة السابعة. قال السندي: وهي الأولى من الباقية، ودأب العرب أنهم يحسبون الشهر من الآخر، وهذا القيام لم يعلم كيف كان، وفسره كثير من العلماء بالتراويح- انتهى. ورواه البيهقي بلفظ: فلم يقم بنا من الشهر شيئا حتى كانت ليلة ثلاث وعشرين قام بنا حتى ذهب نحو من ثلث الليل. (حتى ذهب ثلث الليل) قال شيخنا: المراد بالقيام صلاة الليل، والمعنى صلى بنا بالجماعة صلاة الليل إلى ثلث الليل، وفيه ثبوت صلاة التراويح بالجماعة في المسجد أول الليل- انتهى كلام الشيخ. وهذا يدل على أن المراد عنده بقيام ليالي رمضان صلاة التراويح، كما ذهب إليه كثير من العلماء، وادعى الكرماني الاتفاق عليه. (فلما كانت السادسة) أي مما بقي وهي الليلة الربعة والعشرون. (فلما كانت الخامسة) وهي الليلة الخامسة والعشرون. (حتى ذهب شطر الليل) أي نصفه
فقلت: يا رسول الله ! لو نفلتنا قيام هذه الليلة؟ فقال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى
ينصرف، حسب له قيام الليلة. فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتى بقي ثلث الليل،

(8/101)


(لو نفلتنا) بتشديد الفاء من التنفيل. (قيام هذه الليلة) وفي رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه بقية ليلتنا هذه، أي لو أعطيتنا قيام بقية الليل وزدتنا إياه كان أحسن وأولى، ويحتمل أن كلمة "لو" للتمني فلا جواب لها. وقال القاري: أي لو جعلت الليل زيادة لنا على قيام الشطر. وفي النهاية: لو زدتنا من الصلاة النافلة، سميت بها النوافل؛ لأنها زائدة على الفرض. قال المظهر: تقديره لو زدت قيام الليل على نصفه لكان خيرا لنا. (إن الرجل) أي جنسه. (إذا صلى) أي الفرض. (مع الإمام) أي وتابعه. (حتى ينصرف) أي الإمام. (حسب) على البناء للمفعول أي عد واعتبر (له) وفي رواية النسائي: كتب الله له. (قيام ليلة) قال القاري: أي حصل له ثواب قيام ليلة تامة، يعني الأجر حاصل بالفرض، وزيادة النوافل مبنية على قدر النشاط؛ لأن الله لا يمل حتى تملوا. والظاهر أن المراد بالفرض العشاء والصبح لحديث ورد بذلك يعني عثمان المتقدم في باب فضائل الصلاة بلفظ: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله. أخرجه مسلم وغيره. وقيل: المراد بالصلاة في قوله: إذا صلى مع الإمام صلاة التراويح، والمعنى: (إن الرجل إذا صلى) أي التراويح في أول الليل في رمضان. (مع الإمام حتى ينصرف) أي يفرغ الإمام من الصلاة ويرجع. (حسب له قيام ليلة) أي كاملة، وعلى هذا يكون دليلا للجمهور على أن صلاة التراويح مع الإمام أفضل من الانفراد، وأجاب من خالفهم بأنه يجوز أن يكتب له بالقيام مع الإمام بعض الليل قيام كله، وأن يكون قيامه في بيته أفضل من ذلك، ولا منافاة بين الأمرين. وأما حديث عثمان الذي أشار إليه القاري، فيقال في معناه: أن من صلى فريضة العشاء والصبح مع الإمام أي بالجماعة يكون له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة الفرض، ويقال ههنا أنه إذا صلى التراويح مع الإمام حتى ينصرف يحصل له ثواب ليلة كاملة ثواب صلاة النفل. قيل: ويؤيد ذلك

(8/102)


رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: "من قام مع الإمام" بدل "إذا صلى مع الإمام"، فإن لفظ القيام ظاهر في معنى صلاة الليل أي التراويح، ويؤيده أيضا أن أبا ذر سأله - صلى الله عليه وسلم - أن ينفل بقية الليلة، وهذا يقتضي أن يجيب بأنه لا يحتاج إلى قيام بقية الليلة؛ لأن ثواب الليلة التامة قد حصل بالقدر الذي قام بهم، ويؤيده أيضا أن قوله: "حتى ينصرف" فإنه يشير إلى أن الانصراف قبل أن ينصرف الإمام من جميع صلاته ممكن، ومن المعلوم أن الانصراف في الفرض في أثناء الصلاة غير ممكن؛ لأنه لا يحصل إلا بعد ما ينصرف الإمام، بخلاف التراويح فإن الانصراف فيها قبل انصراف الإمام ممكن؛ لأنها شفعات متعددة فيمكن أن ينصرف الرجل قبل أن يفرغ الإمام من جميع صلاة التراويح. (فلما كانت الرابعة) أي من الباقية، وهي السادسة والعشرون. (لم يقم بنا حتى بقي ثلث الليل)
فلما كانت الثالثة، جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. قلت: وما
الفلاح؟ قال: السحور. ثم لم يقم بنا بقية الشهر)). رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي.

(8/103)


كذا في جميع النسخ الموجودة، ولم يظهر لي معناه، ولفظ أبي داود ثم على قوله لم يقم أي ليس عنده "بنا حتى بقي ثلث الليل" ولفظ النسائي ثم لم يصل بنا ولم يقم بنا حتى بقي ثلث من الشهر. ولفظ الترمذي: ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلث من الشهر، وذكره الجزري في جامع الأصول (ج7 ص82) بلفظ: ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلث من الشهر. وذكره البغوي في المصابيح بلفظ: فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتى بقي ثلاث. والظاهر أن البغوي أخذ قوله "فلما كانت الرابعة لم يقم" من أبي داود، وأخذ قوله "بنا حتى بقي ثلاث" من الترمذي والنسائي وأسقط لفظ: من الشهر، فسياق البغوي مجموع ما في أبي داود والنسائي والترمذي. والمراد بقوله: ثلاث أي ثلاث من الشهر، كما هو مصرح عند الترمذي والنسائي. وأما ما وقع في المشكاة من قوله: ثلث الليل فهو خطأ بلا شبهة، والعجب أنه لم يتنبه لذلك أحد من الشراح. ولفظ ابن ماجه: ثم كانت الرابعة التي تليها فلم يقمها حتى كانت الثالثة التي تليها. (فلما كانت الثالثة) أي من الباقية وهي الليلة السابعة والعشرون (جمع أهله ونساءه) فيه استحباب ندب الأهل إلى فعل الطاعات وإن كانت غير واجبة، وفيه تأكد مشروعية القيام في الإفراد من ليالي العشر الآخرة من رمضان؛ لأنها مظنة الظفر بليلة القدر، واهتم - صلى الله عليه وسلم - في السابعة والعشرين بجمع أهله وغيرهم؛ لأنها أرجاها. (حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح) قال في القاموس: الفلاح الفوز والنجاة والبقاء في الخير والسحور. (قلت) قائله جبير بن نفير الراوي عن أبي ذر. (وما الفلاح قال) أي أبوذر. (السحور) أي المراد بالفلاح السحور، وهو بفتح السين ما يتسحر به من الطعام والشراب، أي ما يوكل وقت السحر، وهو بفتحتين آخر الليل قبيل الصبح، وبالضم المصدر والفعل نفسه. قال القاضي: الفلاح الفوز بالبغية، سمي السحور به؛ لأنه يعين على إتمام الصوم، وهو الفوز بما قصده ونواه والموجب للفلاح في الآخرة. وقال

(8/104)


الخطابي: أصل الفلاح البقاء، وسمي السحور فلاحا لكونه سببا لبقاء الصوم ومعينا عليه، ومن ذلك حي على الفلاح أي العمل الذي يخلدكم في الجنة، فهو من تسمية السبب باسم المسبب. وقيل: سمي به لأنه معين على إتمام الصوم المفضي إلى الفلاح، وهو الفوز بالزلفى والبقاء في العقبى. (ثم لم يقم بنا بقيه الشهر) أي في الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين، وحديث أبي ذر هذا يخالف ما روته عائشة من قيامه - صلى الله عليه وسلم - في ليالي رمضان بالجماعة في المسجد عند الشيخين وغيرهما، فإن ظاهره يدل على أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالجماعة كانت في الليالي الموصولة، وفي حديث أبي ذر تصريح بأن صلاته كانت في الليالي المفصولة، أي في الأوتار فقط، فأما أن يحمل على تعدد القصة أو يقال بأنه ليس في حديث عائشة ذكر الوصل صريحا، فيحمل على الفصل، كحديث أبي ذر. (رواه أبوداود ) واللفظ له إلا قوله: بنا حتى بقي ثلث الليل. (والترمذي والنسائي)
وروى ابن ماجه نحوه، إلا أن الترمذي لم يذكر: ثم لم يقم بنا بقية الشهر.

(8/105)


وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص159و 163و 172و 180) والحاكم ومحمد بن نصر (ص89) والبيهقي (ج2 ص494). والحديث صححه الترمذي والحاكم، وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (وروى ابن ماجه نحوه) أي بمعناه. (إلا أن الترمذي لم يذكر: ثم لم يقم بنا بقية الشهر) وكذا لم يذكره النسائي. تنبيه اعلم أنه لم يرو في حديث أبي ذر هذا بيان عدد الركعات التي صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليالي، لكن قد ورد بيانه في حديث جابر بن عبدالله قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر- الحديث. أخرجه الطبراني في الصغير، وأبويعلى ومحمد بن نصر في قيام الليل، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال الذهبي في الميزان (ج2 ص311) بعد ذكر هذا الحديث إسناده وسط- انتهى. وذكر الحافظ: هذا الحديث في الفتح في شرح عائشة الذي أشرنا إليه لبيان عدد الركعات التي صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان بالجماعة، فهو صحيح عنده أو حسن، لما ذكر في المقدمة أنه يسوق الباب وحديثه أولا، ثم يذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية، ثم يستخرج ثانيا ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات، وكشف غامض وتصريح مدلس بسماع ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرط الصحة أو الحسن فيما يورده من ذلك، وذكره أيضا في التلخيص لبيان عدد تلك الركعات، وسكت عنه ولم يتكلم فيه، وذكره أيضا العيني في شرح البخاري لبيان عدد ركعاته - صلى الله عليه وسلم - في قيامه بالناس في ليالي رمضان نقلا عن صحيحي ابن خزيمة وابن حبان، ولم يتكلم فيه. فإن قلت قال النيموني في آثار السنن بعد ذكر حديث جابر المذكور: في إسناده لين، وقال في تعليقه مداره على عيسى بن جارية، ثم ذكر جرح ابن معين وأبي داود والنسائي وتوثيق

(8/106)


أبي زرعة وابن حبان، ثم قال قول الذهبي: إسناده وسط ليس بصواب، بل اسناده دون وسط – انتهى. قلت: قال الحافظ في شرح النخبة: الذهبي من أهل الاستقرار التام في نقد الرجال- انتهى. فلما حكم الذهبي بأن إسناده وسط بعد ذكر الجرح والتعديل في عيسى بن جارية، وهو من أهل الاستقرار التام في نقد الرجال، فحكمه بأن إسناده وسط هو الصواب. ويؤيده إخراج ابن خزيمة وابن حبان هذا الحديث في صحيحيهما، فلا يلتفت إلى قول النيموني، ويشهد لحديث جابر هذا حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه سأل عائشة: كيف كان صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي

(8/107)


ثلاثا- الحديث. أخرجه الشيخان وغيرهما، فهذا الحديث نص في أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى التراويح في رمضان ثمان ركعات فقط، ولم يصل بأكثر منها. قال في العرف الشذى (ص201): هذه الرواية رواية الصحيحين، وفي الصحاح صلاة تراويحة عليه السلام ثمان ركعات. وفي السنن الكبرى وغيره بسند ضعيف من جانب أبي شيبة فإنه ضعيفة اتفاقا: عشرون ركعة، وقال في (ص329، 330): ثم أن حديث: يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، فيه تصريح أنه حال رمضان، فإن السائل سأل عن حال رمضان وغيره، كما عند الترمذي ومسلم، ولا مناص من تسليم أن تراويحه عليه السلام كانت ثمانية ركعات، ولم يثبت في رواية من الروايات أنه عليه السلام صلى التراويح والتهجد على حدة في رمضان، بل طول التراويح، وبين التراويح والتهجد في عهده عليه السلام لم يكن فرق في الركعات، بل في الوقت والصفة أي التراويح تكون بالجماعة في المسجد بخلاف التهجد، وأن الشروع في التراويح يكون في أول الليل، وفي التهجد في آخر الليل، ثم مأخوذ الأئمة الأربعة من عشرين ركعة هو عمل الفاروق الأعظم. وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فصح عنه ثمان ركعات، وأما عشرون ركعة، فهو عنه عليه السلام بسند ضعيف، وعلى ضعفه إتفاق- انتهى. فإن قلت قد ثبت في الصحيح من حديث عائشة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل العشر الأواخر يجتهد مالا يجتهد في غيره، وفي الصحيح أيضا من حديثها كان إذا دخل العشر أحيى الليل وأيقظ أخله وجد وشد ميزره، وهذا يدل على أنه كان يزيد في العشر الأواخر على عادته، وهو مخالف لحديث أبي سلمة عن عائشة المذكور. قلت: المراد بالاجتهاد تطويل الركعات لا الزيادة في العدد. قال العيني: إن الزيادة في العشر الأواخر يحمل على التطويل دون الزيادة في العدد- انتهى. وأما ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي (ج2 ص496) عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم

(8/108)


- كان يصلي في رمضان عشرين ركعة سوى الوتر، فهو ضعيف جدا لا يصلح للاستدلال ولا للاستشهاد ولا للاعتبار، فإن مداره على أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، وهو متروك الحديث، كما في التقريب. قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص153): هو معلول بأبي شيبة إبراهيم بن عثمان، وهو متفق على ضعفه، ولينه ابن عدي في الكامل، ثم إنه مخالف للحديث الصحيح عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة- الحديث. انتهى كلام الزيلعي. وقال ابن الهمام في فتح القدير بعد ذكر هذا الحديث: هو ضعيف بأبي شيبة إبراهيم بن عثمان متفق على ضعفه مع مخالفته للصحيح. وقال العيني في شرح البخاري (ج11 ص128) بعد ذكر هذا الحديث: وأبوشيبة هو إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي، قاضي واسط، جد أبي بكر أبي شيبة، كذبه

(8/109)


شعبة، وضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي وغيرهم، وأورد له ابن عدي هذا الحديث في الكامل في مناكيره- انتهى. وقال البيهقي (ج2 ص496) بعد روايته: تفرد به أبوشيبة إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي، وهو ضعيف- انتهى. وقال النيموني في تعليق آثار السنن (ج2 ص56): وقد أخرجه عبد بن حميد الكشي في مسنده، والبغوي في معجمه، والبيهقي في سننه، كلهم من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان وهو ضعيف، ثم نقل كلام البيهقي المذكور، وجروح أئمة الجرح والتعديل عن التهذيب والميزان والتقريب. وقال الزرقاني في شرح الموطأ: حديث ابن عباس في عشرين ركعة حديث ضعيف. وهذا كله يدل على أن حديث ابن عباس هذا ضعيف جدا عند جميع العلماء الحنفية والشافعية والمالكية وغيرهم، ومع ذلك قد تفوه بعض الحنفية في هذا العصر بأن رواية ابن عباس إذ هي مؤيدة بآثار الصحابة أولى من رواية جابر. (المتقدمة) وإن كان فيها بعض الضعف، فإن جمهور الصحابة متفقة على صلاة التراويح بعشرين ركعة- انتهى. قلت: قد تقدم أن حديث ابن عباس ضعيف جدا، قد أطبق الأئمة على ضعفه، ومع هذا فهو مخالف لحديث عائشة المتفق عليه بخلاف حديث جابر فإنه صحيح أو حسن، ولم يضعفه أحد ممن يعتمد عليه، وله شاهد صحيح، وهو حديث عائشة، فهو أولى بالقبول وأحق بالعمل. وأما دعوى تأيد حديث ابن عباس بعمل جمهور الصحابة فهي مردودة بما سيأتي من حديث السائب بن يزيد قال: أمر عمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وبما روى سعيد بن منصور في سننه عن السائب بن يزيد قال: كنا نقوم في زمن عمر بن الخطاب بإحدى عشرة ركعة. قال السيوطي: هذا الأثر إسناده في غاية الصحة، هذا وقد حاول بعضهم إثبات صحة حديث ابن عباس حيث قال في تعليقه على المشكاة: حديث ابن عباس في عشرين ركعة الذي ضعفه أئمة الحديث هو صحيح عندي، لما ذكر السيوطي في التدريب. قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول

(8/110)


وإن لم يكن له إسناد صحيح، يعني فحديث ابن عباس هذا حقيق بأن يصحح، لما تلقاه الخلفاء الراشدون والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذي استقر عليه الأمر في سائر البلدان والأمصار- انتهى كلامه مخلصا مختصرا. قلت: التصدي لإثبات صحة حديث ابن عباس المتفق على ضعفه بمثل هذا الكلام الواهي عصبية باردة، لا يفعل هذا إلا صاحب التقليد الأجوف والعصبية العمياء؛ لأن الصحيح الثابت عن عمر، هو جمعه الناس على إحدى عشرة ركعة لا عشرين، كما تقدم، وسيأتي أيضا، ولو سلمنا أن طائفة من الصحابة والتابعين كانوا يصلون عشرين ركعة فليس ههنا أثر للتلقي الذي جعله بعض العلماء موجبا لقبول الخبر الغير الصحيح؛ لأنه لا دليل على أن حديث ابن عباس هذا قد بلغ هؤلاء الصحابة ولا على أنهم
1307-(5) عن عائشة، قالت: ((فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة، فإذا هو بالبقيع، فقال: أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسول؟ قلت: يا رسول الله ! إني ظننت إنك أتيت بعض نسائك،

(8/111)


تعرضوا للاحتجاج به واستشهدوا به عند العمل أو استأنسوا به، وما لم يثبت ذلك لا تصح دعوى وجود التلقي المصطلح الذي يكون فيه غني من الإسناد، على أنه قال السيوطي في التدريب (ص115): مما يدل على صحة الحديث أيضا كما ذكره أهل الأصول موافقة الإجماع له على الأصح لجواز أن يكون المستند غيره. وقيل يدل- انتهى. والحاصل أن الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قيام رمضان في الجماعة هو إحدى عشرة ركعة مع الوتر لا غير، فهي السنة لا العشرون، ولله در ابن الهمام حيث اعترف بضعف حديث ابن عباس ومخالفته لحديث عائشة الصحيح، ولم يتحمل لتصحيح حديث ابن عباس، وصرح بأن العشرين ليست سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - . قلت: ويدل أيضا على كون التراويح ثمان ركعات ما روي عن جابر بن عبدالله قال: جاء أبي بن كعب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله! أنه كان منى الليلة شيء، يعني في رمضان قال: وما ذاك يا أبي؟ قال: نسوة في داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك، قال: فصليت بهن ثمان ركعات وأوترت، فكانت سنة الرضا ولم يقل شيئا. رواه أبويعلى والطبراني بنحوه في الأوسط. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص74): إسناده حسن- انتهى. قلت: وأخرجه أيضا محمد بن نصر المروزي في قيام الليل وعبدالله بن أحمد في المسند (ج5 ص115)، وفي إسناده من لم يسم، وسيأتي مزيد الكلام في هذه المسألة.

(8/112)


1307- قوله: (فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي غاب عني. قال في النهاية: فقدت الشيء أفقده إذا غاب عنك. (ليلة) من ليالي تعني الليلة التي كان فيها عندي. (فإذا هو بالبقيع) أي فخرجت أطلبه فإذا هو واقف بالبقيع، والمراد بالبقيع بقيع الغرقد، وهو موضع بظاهر المدينة، فيه قبور أهلها، كان به شجر الغرقد، فذهب وبقي اسمه، كذا في النهاية. (أن يحيف) الحيف الظلم والجور، أي أظننت أن قد ظلمتك يجعل نوبتك لغيرك، وذلك مناف لمنصب الرسالة وذكر الله تعظيما لرسوله ودلالة على أن فعل الرسول عادة لا يكون إلا بإذنه وأمره. وقال الطيبي: أو تزيينا للكلام وتحسينا، أو حكاية لما وقع في الآية أم تخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله، وإشارة إلى التلازم بينهما كالإطاعة والمحبة. قال العيني: يعني ظننت أني ظلمتك بأن جعلت من نوبتك لغيرك، وذلك مناف لمن تصدي بمنصب الرسالة، وهذا معنى العدول عما هو مقتضى ظاهر العبارة، وهو ظننت أني أحيف عليك، فوضع رسوله موضع الضمير للاشعاء بأن لحيف ليس من شيم الرسل، وفيه أن القسم كان واجبا عليه، إذ لا يكون تركه جورا إلا إذا كان واجبا. (قلت يا رسول الله إني ظننت أنك أتيت بعض نسائك) أي زوجاتك لبعض مهماتك فأردت تحقيقها، وحملني على
فقال: إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وزاد رزين: ممن استحق النار. وقال الترمذي: سمعت محمدا ـ يعني ـ يضعف هذا الحديث.

(8/113)


هذا الغيرة الحاصلة للنساء التي تخرجهن عن دائرة العقل وحائزة التدبر للعاقبة من المعاتبة أو المعاقبة. والحاصل إني ما ظننت أن يحيف الله ورسوله علي أو على غيري، بل ظننت أنك بأمر من الله أو باجتهاد منك خرجت من عندي لبعض نسائك؛ لأن عادتك أن تصلي النوافل في بيتك، كذا في المرقاة. ولفظ ابن ماجه قالت. (أي عائشة): قد قلت. (أي في جوابه - صلى الله عليه وسلم - ) وما بي ذلك. (أي الخوف والظن السوء بالله ورسوله) ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك. قال السندي: أي لكني ظننت أنك فعلت ما أحل الله لك من الإتيان لبعض نسائك، تريد أنها ما جوزت ذلك ولا زعمته من جهة كونه حيفا وجورا، ولكونه جوزته من جهة أنه في ذاته إتيان بعض النساء، وهو حلال، والمقصود أنها ما لاحظت ذلك من جهة كونه ظلما، ولكن لاحظت من جهة كونه حلالا، فلذلك جوزته فانظر إلى كمال عقلها، فإنها قد زعمت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك جورا، وقال: أتخافين من الله تعالى ورسوله؟ فإن قالت في الجواب نعم خفت ذلك يكون قبيحا، وإن قالت ما خفته يكون كذبا فتفطن- انتهى. (فقال: إن الله تعالى ينزل) استئناف لبيان موجب خروجه من عندها، يعني خرجت للدعاء لأهل البقيع لما رأيت من كثرة الرحمة في هذه الليلة. (فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب) أي قبيلة بني كلب وخصمهم؛ لأنهم أكثر غنما من سائر العرب نقل الأبهري عن الأزهار: أن المراد بغفران أكثر عدد الذنوب المغفورة لا عدد أصحابها، وهكذا رواه البيهقي- انتهى. وأما الحديث الآتي فيغفر لجميع خلقه فالمراد أصحابها، كذا في المرقاة. (رواه الترمذي) في الصيام. (وابن ماجه) في أواخر الصلاة كلاهما من رواية حجاج بن أرطاة عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والحديث منقطع، كما ستعرف. (وزاد رزين ممن استحق النار) قال ابن حجر: أي من المؤمنين، كما صرح به قوله تعالى: ?إن الله لا يغفر أن يشرك

(8/114)


به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء? [4: 48]. وقيد ذلك في روايات بينتها ثم بغير المشاحن وقاطع الرحم ومدمن الخمر ومسبل الإزار وعاق لوالديه. (وقال الترمذي: سمعت محمدا يعني البخاري) هو تفسير من المصنف. (يضعف) يعني البخاري. (هذا الحديث) ويقول يحيى بن أبي كثير: لم يسمع من عروة والحجاج لم يسمع من يحيى بن أبي كثير- انتهى. فالحديث منقطع في موضعين أحدهما ما بين الحجاج ويحيى، والآخر ما بين يحيى وعروة. والحديث المنقطع من أقسام
(1) كذا في الأصل، ولعله وسمي ذلك جورا.
1308-(6) وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة)). رواه أبوداود، والترمذي.
?الفصل الثالث?
1309-(7) عن عبدالرحمن بن عبد القاري،
الضعيف، لكنه ورد في فضيلة ليلة النصف من شعبان أحاديث أخرى، وقد ذكر المصنف بعضها في الفصل الثالث، وسنذكر بقيتها هناك إن شاء الله تعالى. وهي بمجموعها حجة على من زعم أنه لم يثبت في فضيلتها شيء. قيل في وجه مناسبة هذا الحديث بالباب: الإيذان بأن ليلة النصف من شعبان لما ورد في إحيائها من الثواب ما لا يحصى كانت كالمقدمة لقيام رمضان، فاستدعى ذكره: ذكرها قال القاري، أو لأن الكلام لما كان في القيام والمراد الأعظم منه إدراك ليلة القدر فذكر ليلة البراءة طرد الباب.

(8/115)


1308- قوله: (صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا)؛ لأنه أبعد من الرياء. والحديث يدل على استحباب فعل صلاة التطوع في البيوت. وأن فعلها فيها أفضل من فعلها في المساجد، ولو كانت المساجد فاضلة كالمسجد الحرام ومسجده - صلى الله عليه وسلم - ومسجد بيت المقدس، فلو صلى الرجل نافلة في مسجد المدينة كانت بألف صلاة على القول بدخول النوافل في عموم الحديث، وإذا صلاها في بيته كانت أفضل من ألف صلاة، وهكذا حكم المسجد الحرام ومسجد المقدس. وقد تقدم أنه استثنى من عموم حديث الباب ما تشرع فيه الجماعة من النوافل كالعيدين، والاستسقاء، والكسوف، والتراويح، وما يخص المسجد كصلاة القدوم من السفر، وتحية المسجد. (إلا المكتوبة) أي الصلوات المكتوبات، وهي الصلوات الخمس. وهذا في حق الرجال دون النساء، فيجب على الرجال أن يصلوا المكتوبات في المساجد بالجماعة. وأما النساء فصلاتهن في البيوت أفضل، مكتوبة كانت أو نافلة وإن أذن لهن في حضور المكتوبات في المساجد. (رواه أبوداود والترمذي) واللفظ لأبي داود، وقد سكت عنه هو، وحسنه الترمذي، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. والحديث ذكره المجد في المنتقى في باب إخفاء التطوع بلفظ: أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، وقال رواه الجماعة إلا ابن ماجه، لكن له معناه من رواية عبدالله بن سعد-انتهى.
1309- قوله: (عن عبدالرحمن بن عبد) بالتنوين أي بغير إضافة. (القاري) بخفة راء وشدة ياء بلا همزة، نسبة إلى القارة بن الديش قبيلة مشهور، يقال إنه ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس له منه سماع ولا رؤية، وقيل: أتي به إليه، وهو صغير. وذكره العجلي في ثقات التابعين. واختلف قول الواقدي فيه، قال تارة:
قال خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل
لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني لو جمعت هؤلاء على قاري

(8/116)


واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أبي بن كعب،
له صحبة، وتارة: تابعي. والمشهور أنه تابعي من أجلة تابعي المدينة، وكان عاملا لعمر على بيت المال. مات سنة. (88)، وهو ابن (78) سنة. (خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة) أي في رمضان كما في البخاري. (إلى المسجد) النبوي. (فإذا الناس) بعد صلاتهم العشاء جماعة واحدة. وكلمة "إذا" للمفاجأة. (أوزاع) بفتح الهمزة وسكون الواو بعدها زاي أي جماعات متفرقة، لا واحد له من لفظه. وقوله: (متفرقون) تأكيد لفظي. وقال الطيبي. كعطف البيان. (يصلي الرجل لنفسه) هذا وما بعده بيان لما أجمل أولا بقوله: أوزاع. (ويصلي الرجل) الآخر. (فيصلي) أي مقتديا (بصلاته الرهط) بسكون الهاء ويحرك، ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى الأربعين والحاصل أن بعضهم كان يصلي منفردا، وبعضهم يصلي جماعة. (فقال عمر: إني لو) قال ابن حجر: وفي نسخة: إني أرى لو قلت، وكذا وقع عند البخاري، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7:ص83) وفي الموطأ: إني لأراني لو (جمعت هؤلاء على قارئ واحد) يأتمون كلهم به، ويسمعون قراءته. (لكان أمثل) أي أفضل؛ لأنه أنشط لكثير من المصلين فيكون الثواب أكمل. يقال: هذا أمثل من كذا أي أفضل وأدنى إلى الخير، وأماثل الناس خيارهم. قال ابن التين وغيره: استنبط عمر ذلك من تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلى معه في تلك الليالي وإن كان كره ذلك لهم، فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم، فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - حصل الأمن من ذلك، ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين.وإلى قول عمر جنح الجمهور. (ثم عزم) أي على ذلك وصمم عليه عمر. (فجمعهم) أي الرجال منهم في سنة أربع عشرة. (على أبي بن كعب) أي جعله إماما لهم يصلي بهم التراويح. وكأنه اختاره عملا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وقال عمر: اقرؤنا أبي.

(8/117)


وقيل: اختاره لما قد علم أن أبيا كان يصلي بالناس التراويح في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخرج أبوداود، ومن طريقه البيهقي عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل هؤلاء الناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي وهم يصلون بصلاته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أصابوا، ونعم ما صنعوا، لكن قال الحافظ: فيه مسلم بن خالد، وهو ضعيف. والمحفوظ أن عمر هو الذي جمع الناس على أبي-انتهى. وأجيب عن هذا بأن مسلم بن خالد وإن ضعفه ابن المديني والبخاري وابن معين في رواية
قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه،

(8/118)


وأبوداود، فقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من فقهاء الحجاز، ومنه تعلم الشافعي الفقة قبل أن يلقى مالكا، وكان مسلم بن خالد يخطئ أحيانا. وقال ابن معين في رواية والدارقطني : ثقة، حكاه ابن القطان. وقال ابن عدي: حسن الحديث، وأرجو أنه لا بأس به. وقال الساجي: صدوق كثير الغلط. ولحديث أبي هريرة هذا شاهد مرسل عند البيهقي في المعرفة وفي السنن (ج2:ص495) من حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي. وكون عمر هو الذي جمع الناس على أبي لا ينافي كون أبي قد صلى بالناس في زمنه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن صلاة أبي بالناس في زمنه عليه السلام لم يكن من أمره ولا من اهتمامه. فالاجتماع على إمام واحد أي أبي، والاهتمام بجماعة واحدة إنما كان في زمان عمر، فهو الذي رفع التفرق والتوزع، وجمعهم على قاري واحد، واهتم بجماعة واحدة، ثم إنه لا ينافي هذا ما سيأتي من أن عمر جمعهم على تميم الداري، كما ستعرف. وروى سعيد بن منصور من طريق عروة أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بالرجال، وكان تميم الداري يصلي بالنساء. ورواه محمد بن نصر في قيام الليل من هذا الوجه، فقال: سليمان بن أبي حثمة بدل تميم الداري. قال الحافظ: ولعل ذلك كان في وقتين. (قال) أي عبدالرحمن. (ثم خرجت معه) أي مع عمر. (والناس يصلون) مقتدين. (بصلاة قارئهم) أي إمامهم المذكور، فالإضافة للعهد. وفيه دليل على أن عمر لم يكن يصلي معهم لشغله بأمور المسلمين، أو كان يصليها منفردا في بيته، أو كان يرى أن الصلاة في آخر الليل أفضل. (نعمت البدعة) وفي البخاري: نعم البدعة بغير تاء. قال الحافظ: في بعض الروايات: نعمت البدعة بزيادة تاء. (هذه) أي الجماعة الكبرى، لا أصل التراويح، ولا نفس الجماعة، فإنهما ثابتان من فعله - صلى الله عليه وسلم -. قال الإمام تقي الدين ابن تيمية في منهاج السنة: قد ثبت أن الناس كانوا يصلون بالليل جماعة في رمضان على العهد النبوي، وثبت أنه -

(8/119)


صلى الله عليه وسلم - صلى ليلتين أو ثلاثا-انتهى. وفي وصفها بـ"نعمت" إشارة إلى أن أصلها سنة، وليست ببدعة شرعية حتى تكون ضلالة، بل بدعة لغوية، وهي حسنة، وقد تعتريها الأحكام الخمسة. والبدعة الشرعية ما ليس لها أصل في الشرع، فلا تكون إلا سيئة، وفيه تصريح من عمر بأنه أول من جمع الناس في التراويح على إمام واحد بالجماعة الكبرى، واهتم بذلك؛ لأن البدعة لغة ما فعله أحد ابتداء من غير أن يتقدمه غيره فالمراد بالبدعة في قوله هي البدعة اللغوية، وهي ههنا اجتماعهم على إمام واحد، والاهتمام لذلك، والمواظبة عليه، لا أصل التراويح، أو نفس الجماعة، فإنهما قد ثبتا من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل الصحابة في عهده بحضرته. قال ابن تيمية: إنما سماها عمر بدعة؛ لأن ما فعل ابتداء بدعة لغة، وليس ذلك بدعة شرعية، فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة ما فعل بغير دليل شرعي، كاستحباب ما لم يحبه الله، وإيجاب ما لم يوجبه الله، وتحريم ما لم يحرمه الله. وبه يندفع ما يقال إن قول عمر: "نعمت البدعة" مخالف لحديث:
والتي تنامون عنها

(8/120)


كل بدعة ضلالة، بأن المراد بالبدعة في الكلية البدعة الشرعية، وتوصيف الحسن للبدعة اللغوية. وقال الشاطبي في الاعتصام: قد قام بصلاة التراويح في رمضان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، واجتمع الناس خلفه، فخرج أبوداود عن أبي ذر، قال: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع-الحديث، لكنه - صلى الله عليه وسلم - لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك، ففي الصحيح عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس-الحديث. ففي هذا الحديث ما يدل على كونها سنة، فإن قيامه أولا بهم دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان، وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقا؛ لأن زمانه كان وحي وتشريع، فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس بالإلزام، فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع الأمر إلى أصله، وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له، وإنما لم يقم ذلك أبوبكر رضي الله عنه لأحد أمرين: إما لأنه رأى أن قيام الناس في آخر الليل، وما هم به عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل، وإما لضيق زمانه عن النظر في هذه الفروع، مع شغله بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح، فلما تمهد الإسلام في زمن عمر، ورأى الناس في المسجد أوزاعا كما جاء في الخبر، قال: لو جمعت الناس على قاري واحد لكان أمثل، فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم في آخر الليل أفضل. ثم اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره، والأمة لا تجتمع على ضلالة. وقد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي، فإن قيل: فقد سماها عمر بدعة، وحسنها بقوله "نعمت البدعة هذه"، وإذا ثبت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع، فالجواب إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم

(8/121)


-، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه، لا أنها بدعة في المعنى، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي- انتهى كلام الشاطبي مختصرا. وقال ابن رجب في شرح الخمسين (ص191): أما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية. فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: "نعمت البدعة هذه" وروى عنه (من طريق نوفل بن إياس الهذلي عند ابن سعد وجعفر الفريابي في السنن، كما في كنز العمال (ج4 ص284) أنه قال: إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة، وروي عن أبي بن كعب. (أخرجه ابن منيع في مسنده) قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر: قد علمت، ولكنه حسن، ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصل في الشريعة يرجع إليها، فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث على قيام رمضان ويرغب فيه، وكان في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة الخ. (والتي تنامون) بالفوقية أي الصلاة أو الساعة التي تنامون. (عنها) والمراد الصلاة في آخر
أفضل من التي تقومون – يريد آخر الليل – وكان الناس يقومون أوله. رواه البخاري.
1310-(8) وعن السائب بن يزيد، قال: أمر عمر أبي بن كعب، وتميما الداري أن يقوما للناس
في رمضان بإحدى عشرة ركعة،

(8/122)


الليل. وعند أبي شيبة عن عبدالرحمن بن عبد القاري، قال عمر في الساعة التي تنامون عنها. أعجب إلى من الساعة التي يقومون فيها. (أفضل من) الصلاة أو الساعة (التي يقومون) بها. (يريد) أي عمر بن الخطاب بهذا الكلام بيان الفضل في الصلاة. (آخر الليل) وهو قول عبدالرحمن، وكذلك قوله: (وكان الناس) أي أكثرهم. (يقومون) إذ ذاك. (أوله) وبالضرورة ينامون آخره. قال الحافظ: هذا تصريح من عمر بأن الصلاة في آخر الليل أفضل من أوله، لكن ليس فيه أن الصلاة في قيام الليل فرادى أفضل من التجميع. وقال الطيبي: هذا تنبيه منه، على أن صلاة التراويح في آخر الليل أفضل. قال القاري: وفي كلامه رضي الله عنه إيماء إلى عذره في التخلف عنهم. وفي هامش المسوي: يعني آخر الليل أفضل، لكن الصلاة في أول جماعة أفضل كما أن صلاة العشاء في أول جماعة أفضل، والوقت المفضول قد يختص العمل فيه بما يوجب أن يكون أفضل منه في غيره، كما أن الجمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة أفضل من التفريق بسبب أوجب ذلك، وإن كان الأصل أن فعل الصلاة في وقتها أفضل، والإبراد بالظهر أفضل، لكن الصلاة يوم الجمعة عقيب الزوال أفضل. قاله ابن تيمية في المنهاج- انتهى. ولم يقع في هذه الرواية عدد الركعات التي كان يصلي بها أبي بن كعب. وقد اختلف في ذلك، والصحيح أنها كانت إحدى عشرة ركعة كما سيأتي. (رواه البخاري) في الصيام، وأخرجه أيضا مالك والبيهقي (ج2 ص493).

(8/123)


1310- قوله: (الداري) بتشديد الياء، نسبة إلى جده الأعلى الدار بن هانيء بن حبيب. (أن يقوما للناس) أي يؤماهم. قال الباجي: يصلي بهم أبي ما قدر ثم يخرج، فيصلي تميم. والصواب أن يقرأ الثاني من حيث انتهى الأول؛ لأن الثاني إنما هو بدل عن الأول ونائب عنه، وسنة قراءة القرآن على الترتيب- انتهى. وقال القاري: أي يكون هذا إماما تارة، والآخر أخرى. وهو يحتمل أن تكون المناوبة في الركعات أو الليالي. (بإحدى عشرة ركعة) هذا نص في أن الذي جمع عليه الناس عمر في قيام رمضان، وأمرهم بإقامته هو إحدى عشرة ركعة مع الوتر، وأن الصحابة والتابعين على عهده كانوا يصلون التراويح إحدى عشرة ركعة موافقا لما تقدم من حديث عائشة: ما كان يزيد في رمضان ولا في غير رمضان على إحدى عشرة ركعة، وموافقا لما تقدم من حديث جابر: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان ثمان ركعات. فإن قلت: قال الحافظ في الفتح بعد ذكر أثر عمر هذا: ورواه عبدالرزاق من وجه آخر. (أي من طريق داود بن قيس) عن محمد بن يوسف، فقال إحدى وعشرين- انتهى.

(8/124)


وقال ابن عبدالبر: روى غير مالك في هذا أحد وعشرون، وهو الصحيح، ولا أعلم أحدا قال فيه إحدى عشرة إلا مالكا. ويحتمل أن يكون ذلك أولا ثم خفف عنهم طول القيام، ونقلهم إلى أحد وعشرين إلا أن الأغلب عندي أن قوله: إحدى عشرة وهم- انتهى. قلت: قال شيخنا في شرح الترمذي: قول ابن عبدالبر: إن الأغلب عندي أن قوله إحدى عشرة وهو باطل جدا. قال الزرقاني في شرح الموطأ بعد ذكر قول ابن عبدالبر. هذا ما لفظه ولا وهم، وقوله: إن مالكا انفرد به، ليس كما قال، فقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن محمد بن يوسف، فقال إحدى عشرة، كما قال مالك- انتهى كلام الزرقاني. وقال النيموني في تعليق آثار السنن (ج2 ص52): ما قاله ابن عبدالبر من وهم مالك فغلط جدا؛ لأن مالكا قد تابعه عبدالعزيز بن محمد عند سعيد بن منصور في سننه، ويحيى بن سعيد القطان عند أبي بكر بن أبي شيبة في مصنفه كلاهما عن محمد بن يوسف، وقالا إحدى عشرة ركعة، كما رواه مالك عن محمد بن يوسف. وأخرج محمد بن نصر المروزي في قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد، قال: كنا نصلي في زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة ركعة- انتهى. قال النيموني: هذا قريب مما رواه مالك عن محمد بن يوسف أي مع الركعتين بعد العشاء- انتهى كلام النيموني. قال الشيخ: فلما ثبت أن الإمام مالكا لم ينفرد بقوله إحدى عشرة، بل تابعه عليه عبدالعزيز بن محمد، وهو ثقة، ويحيى بن سعيد القطان إمام الجرح والتعديل، وهو ثقة متقن حافظ إمام على ما قال الحافظ في التقريب، ظهر لك حق الظهور أن قول ابن عبدالبر: إن الأغلب أن قوله إحدى عشرة وهم، ليس بصحيح، بل لو تدبرت ظهر لك أن الأمر على خلاف ما قال ابن عبدالبر أن الأغلب أن قول غير مالك في هذا الأثر: إحدى وعشرون، كما في رواية عبدالرزاق، وهم، فانه قد انفرد هو بإخراج هذا الأثر بهذا لفظ، ولم يخرجه به أحد غيره فيما أعلم. وعبدالرزاق وإن كان

(8/125)


ثقة حافظا لكنه قد عمى في آخر عمره فتغير، كما صرح به الحافظ في التقريب. وأما الإمام مالك فقال الحافظ في التقريب: إمام دار الهجرة رأس المتقنين وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر- انتهى. ومع هذا لم ينفرد هو بإخراج هذا الأثر بلفظ: إحدى عشرة، بل أخرجه أيضا بهذا اللفظ سعيد بن منصور وابن أبي شيبة، كما عرفت. فالحاصل أن لفظ: إحدى عشرة في أثر عمر بن الخطاب المذكور صحيح ثابت محفوظ، ولفظ إحدى وعشرين في هذا الأثر غير محفوظ، والأغلب إنه وهم، والله تعالى أعلم- انتهى كلام الشيخ. فإن قلت: قال صاحب الأوجز: الظاهر عندي ما رجحه ابن عبدالبر؛ لأن جل الروايات نص في أنها كانت عشرين ركعة، لكن الوهم عندي فيه عن محمد بن يوسف؛ لأن نسبة الوهم إلى الإمام أبعد من النسبة إليه. ويؤيده رواية سعيد بن منصور، وقد روى يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد أنهم كانوا يقومون في عهد عمر بن الخطاب بعشرين ركعة- انتهى.
فكان القاري يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصا من طول القيام، فما كنا ننصرف إلا في
فروع الفجر. رواه مالك.

(8/126)


قلت: كلام صاحب الأوجز باطل جدا؛ لأنه لم يثبت الأمر بعشرين عن عمر بسند صحيح خال عن الكلام، والآثار التي تذكر في ذلك لا يخلو واحد منها عن مقال، فإنها إما مراسيل منقطعة أو موصولة ضعيفة، كما حققه شيخنا في شرح الترمذي، فكيف تكون هي دليلا على كون رواية إحدى عشرة الصحيحة وهما؟ وأما نسبة الوهم إلى محمد بن يوسف فهي كنسبة الوهم إلى الإمام مالك مما لا يلفت إليه، لكونها مجرد ادعاء، وأما رواية يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد فهي عند البيهقي من وجهين، في أحدهما أبوعثمان عمرو بن عبدالله البصري، وفي الآخر أبوعبد الله الحسين بن فنجويه الدنيوري، ولم أقف على ترجمتها، ولم يعرف حالهما، وإنهما ثقتان قابلان للاحتجاج أم لا. (فكان) وفي الموطأ قال. (أي السائب) وكان (القاري) أي الإمام. (يقرأ) في كل ركعة. (بالمئين) بكسر الميم جمع مائة، أي السور التي تلي السبع الطول، سميت بذلك لزيادة كل منها على مائة آية. قال ابن حجر: أي بالسور التي يزيد كل منها على مائة آية. قال القاري: وفيه أنه لا دلالة على الزيادة، ولا على أنها سورة مستقلة، قال: والظاهر أن المراد بقوله بالمئين التقريب لا التحديد- انتهى. والظاهر عندي ما ذكره ابن حجر. (حتى كنا نعتمد على العصا) وفي بعض النسخ: على العصي، كما في الموطأ، وهكذا نقله الجزري أي بكسر العين والصاد المهملتين وتشديد الياء، جمع عصا، فالأولى للجنس، والثانية من مقابلة الجمع بالجمع. (من طول القيام) أي من أجل طول القيام؛ لأن الاعتماد في النافلة لطول القيام على حائط أو عصا جائز وإن قدر على القيام بخلاف الفرض، قاله الزرقاني والباجي. قلت: ويدل على جواز الاعتماد على العصا عند العذر حديث أم قيس بنت محصن عند أبي داود. (فما) وفي الموطأ: وما (كنا ننصرف) عن التراويح. (إلا في فروع الفجر) أي أوائله وأعاليه، وفرع كل شيء أعلاه، ذكره الطيبي. وفي رواية سعيد بن منصور: ننقلب عند بزوغ الفجر. قال

(8/127)


في النهاية: البزوغ الطلوع، والمراد أوائل مقدماته، فلا ينافي ما سيأتي أنهم كانوا يتسحرون بعد انصرافهم. قال القاري: ولعل هذا التطويل كان في آخر الأمر، فلا ينافي ما تقدم من قوله: والتي تنامون عنها أفضل. (رواه مالك) عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد، وأخرجه أيضا سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي في السنن (ج2 ص496) والمعرفة. واعلم أنهم اختلفوا في المختار من عدد الركعات التي يقوم بها الناس. قال العيني في شرح البخاري (ج11 ص126): قد اختلف العلماء في العدد المستحب في قيام رمضان على أقوال كثيرة. فقيل: إحدى وأربعون. قال الترمذي: رأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، وهو قول أهل المدينة، والعمل على هذا عندهم بالمدينة. قال شيخنا. (يعني العراقي): وهو أكثر

(8/128)


ما قيل فيه. قال العيني: ذكر ابن عبدالبر في الاستذكار عن الأسود بن يزيد، كان يصلي أربعين ركعة، ويوتر بسبع، هكذا ذكره، ولم يقل إن الوتر من الأربعين. وقيل: ثمان وثلاثون، رواه محمد بن نصر من طريق ابن أيمن عن مالك، قال: يستحب أن يقوم الناس في رمضان بثمان وثلاثين ركعة، ثم يسلم الإمام والناس، ثم يوتر بهم بواحدة، قال وهذا العمل بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم. وقيل: ست وثلاثون، وهو الذي عليه عمل أهل المدينة. وروى ابن وهب، قال: سمعت عبدالله بن عمر يحدث عن نافع، قال: لم أدرك الناس إلا وهم يصلون، تسعا وثلاثين ركعة، ويوترون منها بثلاث. وقيل: أربع وثلاثون على ما حكى عن زرارة بن أوفي أنه كذلك كان يصلي بهم في العشر الأخير. وقيل: ثمان وعشرون وهو المروي عن زرارة بن أوفي في العشرين الأولين من الشهر، وكان سعيد بن جبير يفعله في العشر الأخير. وقيل: أربع وعشرون، وهو مروي عن سعيد بن جبير. وقيل: عشرون، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، فإنه مروي عن عمر وعلي وغيرهما من الصحابة، وهو قول أصحابنا الحنفية. وقيل: إحدى عشرة ركعة، وهو اختيار مالك لنفسه. واختاره ابن العربي- انتهى كلام العيني. وقال السيوطي في رسالته المصابيح في صلاة التراويح: قال ابن الجوزي: من أصحابنا عن مالك أنه قال: الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحب إلي، وهي إحدى عشرة ركعة، وهي صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل له: إحدى عشرة ركعة بالوتر؟ قال نعم، وثلاث عشرة قريب، قال: ولا أدري من أين أحدث هذا الركوع الكثير- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: القول الراجح المختار الأقوى من حيث الدليل هو هذا القول الأخير الذي اختاره مالك لنفسه، أعني إحدى عشرة ركعة، وهو الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسند الصحيح، وبها أمر عمر بن الخطاب. وأما الأقوال الباقية فلم يثبت واحد منها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسند

(8/129)


صحيح، ولا ثبت الأمر به عن أحد من الخلفاء الراشدين بسند صحيح خال عن كلام، ثم ذكر حديث عائشة المذكور: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، وحديث جابر قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان ثمان ركعات، وحديث جابر عن أبي في إمامته للنساء في داره بثمان ركعات، ثم ذكر أثر عمر الذي نحن بصدد شرحه. قلت: واستدل لمن ذهب إلى أن التراويح عشرون ركعة سوى الوتر بما تقدم من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في رمضان عشرين ركعة سوى الوتر، وقد تقدم أنه حديث ضعيف جدا، غير صالح للاستدلال، وبما روى عبدالرزاق عن داود بن قيس عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة، وقد تقدم أن قوله: "إحدى وعشرين في هذه الرواية" وهم، على

(8/130)


أنه مضر للحنفية من حيث أنه يستلزم أن يقولوا بكون التراويح ثماني عشرة ركعة، أو بكون الوتر ركعة واحدة فردة، فافهم، وبما روى البيهقي في المعرفة من طريق محمد بن جعفر عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد قال: "كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر". وصحح إسناده السبكي في شرح المنهاج، والقاري في شرح الموطأ. وأجيب عنه بأن في سنده أبا عثمان البصري واسمه عمرو بن عبدالله. قال النيموني في تعليق آثار السنن: لم أقف على من ترجم له. وقال شيخنا في شرح الترمذي: لم أقف أنا أيضا على ترجمته مع التفحص الكثير، فمن يدعي صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كونه ثقة قابلا للاحتجاج، ومع هذا فهو معارض بما روى سعيد بن منصور في سننه قال: حدثنا عبدالعزيز بن محمد بن يوسف سمعت السائب بن يزيد يقول: كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب بإحدى عشرة ركعة. قال السيوطي في رسالته المصابيح: إسناده في غاية الصحة- انتهى. وأيضا هو معارض بما روى أبوبكر بن أبي شيبة قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن محمد بن يوسف إن السائب أخبره إن عمر جمع الناس على أبي وتميم، فكانا يصليان إحدى عشرة ركعة، وإسناده صحيح. وأيضا هو معارض بما روى محمد بن نصر في قيام الليل من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال: كنا نصلى في زمن عمر ثلاث عشرة ركعة. وهو أيضا معارض بما ذكره المصنف من رواية مالك عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر أبي بن كعب وتميما الداري إن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. فأثر السائب بن يزيد الذي رواه البيهقي لا يصلح للاحتجاج، فان قلت: روى البيهقي هذا الأثر في السنن من طريق ابن أبي ذئب عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد بلفظ: كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة، وصحح إسناده النووي وغيره. قلت: قال شيخنا: في إسناده أبوعبدالله بن فنجوية الدنيوري. (شيخ البيهقي) ولم

(8/131)


أقف على ترجمته، فمن يدعي صحة هذا الأثر فعليه أن يثبت كونه ثقة قابلا للاحتجاج. وأما قول النيموني هو من كبار المحدثين في زمانه لا يسأل عن مثله فمما لا يلتفت إليه، فإن مجرد كونه من كبار المحدثين لا يستلزم كونه ثقة. تنبيهان: الأول قال صاحب الأوجز: قال في الفتح الحماني: قال العلامة العيني: احتج أصحاب الشافعي وأحمد بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد قال: كانوا يقومون على عهد عمر بعشرين ركعة وعلى عهد عثمان وعلي مثله، قلت: قال النيموني في تعليق آثار السنن: قوله: "وعلى عهد عثمان وعلي مثله" قول مدرج لا يوجد في تصانيف البيهقي- انتهى. الثاني: قد جمع البيهقي وغيره بين روايتي السائب المختلفتين المذكورتين بأنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، ثم كانوا يقومون بعشرين، ويوترون بثلاث. قال شيخنا: فيه أنه لقائل أن يقول بأنهم كانوا يقومون أولا

(8/132)


بعشرين ركعة، ثم كانوا يقومون بإحدى عشرة ركعة، وهذا هو الظاهر؛ لأن هذا كان موافقا لما هو الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذاك كان مخالفا له، فتفكر- انتهى. قال بعض الحنفية: ويمكن أن يجمع بينهما بوجه آخر وهو أن يقال: إن رواية إحدى عشرين باعتبار مجموع ما صلياه، وإحدى عشرة باعتبار كل واحد منهما، فكان يلي كل منهما عشرا عشرا، والواحد الوتر يصلي مرة هذا ومرة هذا، فيصح النسبة إليهما. وفيه أن هذا الجمع مضر للحنفية؛ لأنه يدل على أن عمر جمع الصحابة على الإيتار بركعة واحدة فردة، وهو مخالف لمذهب الحنفية إلا أن يقولوا بأن التراويح كانت ثماني عشرة ركعة، لكن ليس هذا مذهبهم، فتفكر. قلت: واستدل أيضا للحنفية ومن وافقهم بما روى مالك، ومن طريقه البيهقي عن يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في رمضان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. وفيه أن هذا الأثر منقطع غير صالح للاستدلال؛ لأن يزيد بن رومان لم يدرك عمر بن الخطاب كما صرح به الزيلعي والعيني وغيرهما، وبما روى ابن أبي شيبة عن وكيع عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب أمر رجلا يصلي بهم عشرين ركعة. وفيه أن يحيى بن سعيد الأنصاري لم يدرك عمر، كما اعترف به النيموني. وقال ابن المديني: لا أعلمه سمع من صحابي غير أنس، فهذا الأثر منقطع لا يصلح للاحتجاج، ومع هذا فهو مخالف لما ثبت بسند صحيح عن عمر أنه أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وأيضا هو مخالف لما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديث الصحيح، وبما روى أيضا ابن أبي شيبة عن عبدالعزيز بن رفيع قال: كان أبي بن كعب يصلي بالناس في رمضان بالمدينة عشرين ركعة، ويوتر بثلاث. وفيه أن هذا أيضا منقطع غير صالح للاستدلال؛ لأن عبدالعزيز بن رفيع لم يدرك أبي بن كعب، كما صرح به النيموني، ومع هذا فهو مخالف لما تقدم أن عمر أمر أبيا وتميما أن يقوما

(8/133)


للناس بإحدى عشرة ركعة، وهذا أيضا منقطع، فإن الأعمش لم يدرك ابن مسعود، وبما روى البيهقي في السنن (ج2 ص497) وابن أبي شيبة في المصنف عن أبي الحسناء أن علي بن أبي طالب أمر رجلا أن يصلي بالناس خمس ترويحات عشرين ركعة. وفيه أن مدار هذا الأثر على أبي الحسناء، وهو مجهول، كما قال الحافظ في التقريب: وقال الذهبي في الميزان: لا يعرف. ورواه أيضا البيهقي (ج2 ص496) من وجه آخر أي من طريق حماد بن شعيب عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي قال: دعا القراء في رمضان، فأمر منهم رجلا يصلي بالناس عشرين ركعة، قال: وكان علي يوتر بهم. وفيه أن هذا الأثر أيضا ضعيف غير صالح للاحتجاج بل ولا للاستشهاد ولا للاعتبار. قال النيموني في تعليق آثار السنن بعد ذكره: حماد بن شعيب ضعيف. قال الذهبي في
1311-(9) وعن الأعرج، قال: ما أدركنا الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان.

(8/134)


الميزان: ضعفه ابن معين وغيره. وقال يحيى مرة: لا يكتب حديثه. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: أكثر حديثه مما لا يتابع عليه- انتهى كلام النيموني. واستدل لهم أيضا بآثار أخرى ذكرها النيموني وغيره، لا يخلو واحد منها عن وهن. تنبيه: قد ادعى بعض الناس أنه وقع الإجماع على عشرين ركعة في عهد عمر، واستقر الأمر على ذلك في الأمصار. قال شيخنا: دعوى الإجماع على عشرين، واستقرار الأمر على ذلك في الأمصار باطلة جدا، كيف وقد عرفت في كلام العيني أن في هذا أقوالا كثيرة، وأن الإمام مالكا قال وهذا العمل يعني القيام في رمضان بثمان وثلاثين ركعة، والإيتار بركعة بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة إلى اليوم- انتهى. واختار هذا الإمام إمام دار الهجرة لنفسه إحدى عشرة ركعة، وكان الأسود بن يزيد النخعي الفقيه يصلي أربعين ركعة، ويوتر بسبع وتذكر باقي الأقوال التي ذكرها العيني، فأين الإجماع على عشرين ركعة، وأين الاستقرار على ذلك في الأمصار؟- انتهى كلام الشيخ. هذا، ولشيخ مشائخنا العلامة التقي الورع الزاهد الحافظ الشيخ عبدالله الغازيفوري رسالة بسيطة في مسألة التراويح بالأردية طبعت مرارا، وهي نفيسة جدا عديم النظير في هذه المسألة، وقد ألف أيضا بعض أفاضل علماءنا رسالة حافلة في تنقيد بعض رسائل الحنفية في هذه المسألة سماها تحقيق التراويح في جواب تنوير المصابيح، وهي أيضا نفيسة، فعليك أن تطالعهما.

(8/135)


1311- قوله: (وعن الأعرج) هو عبدالرحمن بن هرمز أبوداود المدني مولى ربيعة بن الحارث من مشاهير التابعين وثقاتهم، روى عن أبي هريرة وغيره، واشتهر بالرواية عن أبي هريرة. قال الحافظ: ثقة ثبت عالم من أوساط التابعين، مات بالإسكندرية سنة (117). (ما أدركنا) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا نقله الجزري (7ص83)، وفي الموطأ: ما أدركت الناس، وكذا وقع في رواية البيهقي من طريق مالك. (الناس) أي الصحابة والتابعين. (إلا وهم يلعنون الكفرة) بفتحات، جمع الكافر. (في رمضان) أي في قنوت الوتر. قد سبق أن الشافعية والمالكية ذهبوا إلى استحباب قنوت الصبح دائما، وخالفهم الحنفية والحنابلة، فقالوا بعدم مشروعيته في الصبح إلا عند النازلة، وسبق أيضا أن الشافعية ذهبوا إلى استحباب قنوت الوتر في النصف الآخر من رمضان فقط، أي لا في جميع السنة، وهي رواية عن مالك خلافا للحنفية والحنابلة، فإنهم قالوا باستحباب قنوت الوتر في جميع السنة، والرواية الثانية عن مالك، وهي المشهورة المعتمدة عند المالكية، نفي القنوت في الوتر جملة، كما سيأتي، وتقدم أيضا أن قنوت اللعن عند الحنفية والحنابلة مختص بالنازلة، سواء كانت في رمضان أو في غيره، والحديث بظاهرة موافق للشافعية. قال ابن حجر: لهذا الحديث استحسن أصحابنا للإمام أن يذكر في قنوت
قال: وكان القاري يقرأ سورة البقرة في ثماني ركعات، وإذا قام بها في ثنتي عشرة ركعة رأى
الناس أنه قد خفف. رواه مالك.

(8/136)


الوتر اللهم اهدنا فيمن هديت الخ، واللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك الخ، واللهم العن كفرة أهل الكتاب والمشركين الذين يصدون عن سبيلك. قال الطيبي: لعل المراد أنهم لما لم يعظموا ما عظمه الله تعالى من الشهر، ولم يهتدوا بما أنزل فيه من الفرقان، استوجبوا بأن يدعى عليهم، ويطردوا عن رحمة الله الواسعة- انتهى. وقال بعض الحنفية: لا ذكر للوتر في هذه الرواية، فيصدق على الصبح أيضا، قال: وقنوت اللعن المذكور فيها محمول على القنوت المخصوص الذي فيه لعن الكفرة المسمى بقنوت النوازل-انتهى. وحمله القاري على قنوت الوتر، وقال: لعل هذه الزيادة. (أي زيادة اللعن) مخصوصة بالنصف الأخير من رمضان. وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث، فلا ينافي ما صح عن عمر رضي الله عنه: السنة إذا انتصف رمضان أن يلعن الكفرة في آخر ركعة من الوتر بعد ما يقول القاري: سمع الله لمن حمده، ثم يقول اللهم العن الكفرة. وما رواه أبوداود أنه لما جمع الناس على أبي لم يقنت بهم إلا في النصف الثاني محمول على القنوت المخصوص الذي فيه لعن الكفرة على العموم- انتهى. قلت: أثر عمر في اللعن على الكفرة ذكره الحافظ في التلخيص (ص120)، وقال إسناده حسن. وأما رواية أبي داود فقد تقدم أنها ضعيفة. وقال في المدونة بعد ذكر حديث الأعرج هذا: ليس عليه العمل، ولا أرى أن يعمل به ولا يقنت في رمضان في لا أوله ولا في آخره ولا في غير رمضان ولا في الوتر أصلا انتهى. (قال) أي الأعرج. (في ثماني ركعات) بفتح الياء. قال القاري: وفي نسخة صحيحة بحذف الياء. قلت: وهكذا وقع في نسخ الموطأ، وفي جامع الأصول، وفي السنن للبيهقي أي بإسقاط الياء. قيل: وهذا كان بعد إن خففت الصلاة عن القراءة بالمئين في كل ركعة. (وإذا) وفي الموطأ: فإذا. (قام) القاري. (بها) أي بسورة البقرة. (في ثنتي) وفي الموطأ: في اثنتي. (عشرة ركعة) فيه دليل على أن جماعة من الصحابة ممن أدركهم الأعرج كانوا يصلون في ليالي

(8/137)


رمضان أكثر من ثماني ركعات، ولا بأس بذلك، فإنه تطوع وليس فيه ضيق ولا حد ينتهي إليه؛ لأنها نافلة، فيجوز له أن يكثر الركوع والسجود، وكان طائفة من السلف يقومون بإحدى وأربعين ركعة، كما روى محمد بن نصر عن محمد بن سيرين أن معاذا أبا حليمة القاري كان يصلي بالناس في رمضان إحدى وأربعين ركعة، وعن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال: أدركت الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون منها بخمس، لكن السنة النبوية الفعلية هي إحدى عشرة ركعة مع الوتر؛ لأنها هي الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا غير. (رأى الناس) بالرفع فاعل. (أنه قد خفف) أي الإمام في الإطالة. قيل: هذا يدل على أن تطويل القراءة في التراويح أفضل، وهو عندي على قدر نشاط القوم فيراعيهم في ذلك لئلا يملوا، فيتركوا التراويح بالجماعة أو جملة. (رواه مالك) عن داود بن الحصين أنه سمع
1312-(10) وعن عبدالله بن أبي بكر، قال: سمعت أبيا، يقول: كنا ننصرف في رمضان من القيام، فنستعجل الخدم بالطعام مخافة فوت السحور، وفي أخرى: مخافة الفجر. رواه مالك.
1313-(11) وعن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((هل تدرين ما هذه الليلة؟
الأعرج يقول: ما أدركت الناس الخ، وداود بن الصين ثقة إلا في عكرمة، ورمي برأي الخوارج، وأخرجه أيضا البيهقي (ص497) من طريق مالك.

(8/138)


1312- قوله: (وعن عبدالله بن أبي بكر) أي ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري. (قال سمعت أبيا) بضم الهمزة وفتح الموحدة تشديد الياء منصوبا منونا، كذا وقع في جميع النسخ للمشكاة. في الموطأ وقيام الليل للمروزي، وجامع الأصول، والبيهقي. سمعت أبي. أي بفتح الهمزة وكسر الباء وسكون التحتية، يعني والده أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهذا هو الصحيح. وأما ما وقع في المشكاة فهو غلط؛ لأن عبدالله بن أبي بكر المذكور من صغار التابعين الذين رأوا الواحدة والاثنين من الصحابة، ولم يثبت لبعضهم السماع منهم، ومات هو سنة (135)، وهو ابن (70) سنة، فيكون ولادته سنة (65) بعد وفاة أبي بن كعب بأكثر من ثلاثين سنة، فإن أبيا توفي سنة (32) في خلافة عثمان على ما قيل، والأكثر على أنه توفي سنة (22) في خلافة عمر. وأما والد عبدالله المذكور فهو أبوبكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي ثم النجاري بالنون والجيم المدني القاضي اسمه وكنيته واحد. وقيل إنه يكنى أبا محمد، ثقة عابد من صغار التابعين، مات سنة (120) ، وقيل غير ذلك. (كنا ننصرف في رمضان من القيام) أي من صلاة التراويح. قال القاري: سمي بذلك لأنهم كانوا يطيلون القيام فيها. (الخدم) بفتحتين جمع خادم. (بالطعام) أي بتهيئته وإحضاره لنتسحر به. (مخافة) بالنصب علة للاستعجال. (فوت السحور) بالضم والفتح. (وفي أخرى مخافة الفجر) أي طلوعه فيفوت السحور فمآل الروايتين واحد، لكن ليس في نسخ الموطأ الموجودة عندنا إلا رواية: مخافة الفجر، وهكذا عند البيهقي. وذكر الجزري الروايتين جميعا، ولعل الرواية الأولى عند غير يحيى المصمودي، والله أعلم. قال الباجي: هذا لمن كان يستديم القيام إلى آخر الليل أو لمن كان يخص آخره بالقيام. فأما من قال فيهم عمر: والتي ينامون عنها خير فلم يكن هذا حالهم، وهذا يدل على اختلاف أحوال الناس في ذلك- انتهى، فبعضهم يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم يستديم

(8/139)


القيام إلى آخره. (رواه مالك) عن عبدالله بن أبي بكر أنه قال: سمعت أبي الخ، ورواه البيهقي (ج2 ص497) من طريق مالك.
1313- قوله: (هل تدرين ما) أي ما يقع. (في هذه الليلة) قال ابن حجر: نبه عليه السلام بهذا
يعني ليلة النصف من شعبان- قالت: ما فيها يا رسول الله ؟ فقال: فيها أن يكتب كل مولود بني آدم في هذه السنة، وفيها أن يكتب كل هالك من بني آدم في هذه السنة، وفيها ترفع أعمالهم، وفيها تنزل أرزاقهم،
الاستفهام على عظم خطر هذه الليلة وما يقع فيها ليحمل ذلك الأمة بأبلغ وجه ،وأكده على إحيائها بالعبادة والدعاء والفكر والذكر (يعني) يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الليلة. (ليلة النصف من شعبان) وقائل يعني عائشة أو الراوي عنها. (قالت) نقل بالمعنى، وإلا فالظاهر قلت. (ما فيها) أي ما يقع فيها. (فيها أن يكتب) أي كتابة ثانية بعد الكتابة في اللوح المحفوظ. (كل مولود بني آدم) أي كل من يولد من بني آدم، وخصصهم تشريفا لهم. (في هذه السنة) أي الآتية إلى مثل هذه الليلة. (كل هالك) أي ميت. (وفيها ترفع أعمالهم) قال الطيبي: أي تكتب الأعمال الصالحة التي ترفع في هذه السنة يوما فيوما، ولهذا سألت عائشة: ما من أحد الخ أي كما سيأتي، فيكون رفع الأعمال في كل يوم. وأما كتابتها فتكون في هذه الليلة، كذا قال. وفيه بعد، فإن المذكور رفع الأعمال فيها لا كتابتها، ويمكن أن يكون المراد أن أعمال السنة التي ترفع وتكتب يوما فيوما ترفع أيضا في هذه الليلة، وتعرض جملة واحدة للمقابلة، كما يفعل أهل الحساب لتكريم هذه الليلة. قال الطيبي: والاستفهام على سبيل التقرير، يعني إذا كانت الأعمال الصالحة الكائنة في تلك السنة تكتب قبل وجودها يلزم من ذلك أن أحدا لا يدخل الجنة إلا برحمة الله، فقرره النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أجاب. قال ابن حجر: حذف في هذه السنة من هذا وما بعده للعلم به مما قبله. والمعنى ترفع أعمالهم إلى الملأ

(8/140)


الأعلى. ولا ينافيه رفعها كل يوم أعمال الليل بعد صلاة الصبح. وأعمال النهار بعد صلاة العصر، وكل يوم اثنين وخميس؛ لأن الأول رفع عام لجميع ما يقع في السنة، والثاني رفع خاص لكل يوم وليلة، والثالث رفع لجميع ما يقع في الأسبوع، وكان حكمة تكرير هذا الرفع مزيد من تشريف الطائعين وتقبيح العاصين، كذا في المرقاة. وقال السندي: قد ثبت في الصحيحين: يرفع إلى الله تعالى عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، فيتحمل أن أعمال العباد تعرض عليه كل يوم، ثم تعرض عليه أعمال الجمعة في كل اثنين وخميس، ثم تعرض عليه أعمال السنة في (ليلة النصف من) شعبان، فتعرض عرضا بعد عرض، ولكل عرض حكمة يطلع عليها من يشاء من خلقه، أو يستأثر بها عنده، مع أنه تعالى لا يخفى عليه من أعمالهم خافية، ويحتمل أن المراد إنها تعرض كل يوم تفصيلا، ثم في الجمعة إجمالا أو بالعكس- انتهى. (وفيها تنزل) بالبناء الفاعل أو للمفعول مخففا ومشددا. (أرزاقهم) أي أسباب أرزاقهم أو تقديرها قال ابن حجر: يحتمل أن المراد تنزيل علم مقاديرها للمؤكلين بها أو أسبابها كالمطر بأن ينزل إلى سماء الدنيا أو من سماء الدنيا إلى السحاب الذي بينها وبين الأرض. وقيل: المراد بإنزال الأرزاق كتابتها. قال الطيبي: هذا كله مأخوذ من قوله تعالى: ?فيها يفرق كل أمر حكيم? [44: 4]
فقالت يا رسول الله ! ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى؟ فقال: ما من أحد يدخل
الجنة إلا برحمة الله تعالى ثلاثا. قلت: ولا أنت يا رسول الله ؟!

(8/141)


من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى السنة الأخرى القابلة- انتهى. قال ابن حجر: وهو مبني على أن المراد في الآية هذه الليلة، وهو وإن قال به جماعة من السلف إلا أن ظاهر القرآن بل صريحة يرده لإفادته في آية أنه نزل في رمضان، وفي أخرى أنه نزل ليلة القدر، ولا تخالف بينهما؛ لأن ليلة القدر من جملة رمضان، والمراد بهذا النزول نزوله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل عليه عليه الصلاة والسلام متفرقا بحسب الحاجة والوقائع. وإذا ثبت أن هذا النزول ليلة القدر ثبت أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم في الآية هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان. ولا نزاع في أن ليلة نصف شعبان يقع فيها فرق، كما صرح به الحديث، وإنما النزاع في أنها المرادة من الآية. والصواب أنها ليست مرادة منها. وحينئذ يستفاد من الحديث والآية وقوع ذلك الفرق في كل من الليلتين إعلاما بمزيد شرفهما- انتهى. قال القاري: ويحتمل أن يقع الفرق في إحداهما إجمالا، وفي الأخرى تفصيلا، أو تخص إحداهما بالأمور الدنيوية، والأخرى بالأمور الأخروية وغير ذلك من الاحتمالات العقلية- انتهى. قلت: ذهب الجمهور إلى أن المراد من ليلة مباركة في قوله تعالى: ?إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم? [44: 3] هي ليلة القدر لا ليلة نصف من شعبان. وقولهم هو الحق والصواب. قال الحافظ ابن كثير: من قال إنها ليلة من النصف من شعبان فقد أبعد، فإن نص القرآن أنها رمضان- انتهى. وقال العلامة الشوكاني في فتح القدير (ج4 ص554): والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان؛ لأن الله سبحانه أجملها ههنا وبينها في سورة البقرة بقوله: ?شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن? [2: 185] ، وبقوله في سورة القدر: ?إنا أنزلناه في ليلة القدر? فلم يبق بعد هذا لبيان الواضح ما يوجب الخلاف، ولا ما يقتضي

(8/142)


الاشتباه- انتهى. (ما من أحد) من زائدة لتأكيد الاستغراق. (يدخل الجنة) أي أولا وآخرا بدلالة الإطلاق. (إلا برحمة الله تعالى) لا يعارضه قوله تعالى: ?وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون? [43: 72]؛ لأن العمل سبب صوري، وسببه الحقيقي هو رحمة الله لا غير، على أنه من جملة الرحمة بالعبد، فلم يدخل إلا بمحض الرحمة على كل تقدير. وقيل: دخولها بالرحمة، وتفاوت الدرجات بتفاوت الطاعات، والخلود بالنيات. وقد بسط الحافظ الكلام في توجيه الآية المذكورة والجواب عنها في الفتح في شرح حديث أبي هريرة: لن ينجي أحدا منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله !؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته. (ثلاثا) أي قال هذا القول ثلاث مرات للتأكيد. (قلت) هذا رجوع إلى الأصل في الكلام أن يكون باللفظ لا بالمعنى. (ولا أنت يا رسول الله ) أي ما تدخل الجنة إلا برحمته تعالى مع كمال
فوضع يده على هامته فقال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمته يقولها ثلاث مرات)).
رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
1314-(12) وعن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله تعلى ليطلع في ليلة
لنصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)). رواه ابن ماجه.

(8/143)


مرتبتك في العلم والعمل (فوضع يده على هامته) بتخفيف الميم أي رأسه. قال الطيبي: في وضع اليد على الرأس، والله أعلم، إشارة إلى افتقاره كل الافتقار إلى استنزال رحمة الله تعالى وشمول الستر من رأسه إلى قدمه. (ولا أنا) أي ولا أدخلها أنا في زمان من الأزمنة. (إلا أن يتغمدني الله) أي إلا وقت أن يسترني ويحيط بي من جميع جهاتي، مأخوذ من الغمد وهو غلاف السيف. (منه) أي من عنده وفضله وكرمه. (برحمته) لا بعلم وعمل مني، مع أنهما لا يتصوران من غير جهة عنايته. ( يقولها) أي هذه الجمل وهي ولا أنا الخ. (ثلاث مرات) طبق الأول في التأكيد. (رواه البيهقي في الدعوات الكبير) لم أقف على سنده ولا على من أخرجه غيره، فالله أعلم، كيف حاله، نعم ورد في رفع الأعمال في شعبان ما رواه النسائي وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد قال: قلت: لم أرك تصوم في شهر من الشهور ما تصوم من شعبان. قال: ذاك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ومضر، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي، وأنا صائم. وفي كتابة الموت في شعبان ما روى أبويعلى عن عائشة بسند حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم شعبان كله قالت: قلت: يا رسول الله! أحب الشهور إليك أن تصومه شعبان؟ قال: إن الله يكتب فيه على كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتيني أجلي، وأنا صائم. وفي عدم دخول أحد الجنة بدون رحمة الله وحديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه.

(8/144)


1314- قوله: (إن الله تعالى ليطلع) بتشديد الطاء، أي يتجلى على خلقه بمظهر الرحمة العامة والإكرام الواسع، قاله ابن حجر. وقال الطيبي: بمعنى ينزل وقد مر، وقيل: أي ينظر نظر الرحمة السابقة والمغفرة البالغة. (إلا لمشرك) أي كافر بأي نوع من الكفر، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. (أو) للتنويع. (مشاحن) أي مباغض ومعاد لمسلم من غير سبب ديني من الشحناء. وهي العداوة والبغضاء. قال الأوزاعي: أراد به صاحب البدعة المفارق لجماعة الأمة. وقال الطيبي: لعل المراد ذم البغضة التي تقع بين المسلمين من قبل النفس الأمارة بالسوء لا للدين، فلا يأمن أحدهم أذى صاحبه من يده ولسانه؛ لأن ذلك يؤدي إلى القتل، وربما ينتهي إلى الكفر إذ كثيرا ما يحمل على استباحة دم العدو وماله، ومن ثم قرن المشاحن في الرواية الأخرى بقاتل النفس. (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة من طريق الوليد عن ابن لهيعة عن الضحاك بن أيمن عن الضحاك بن عبدالرحمن بن عرزب عن

(8/145)


أبي موسى الأشعري. قال في الزوائد: إسناد ضعيف لضعف عبدالله بن لهيعة، وتدليس الوليد بن مسلم-انتهى. قلت: ولجهالة الضحاك بن أيمن الكلبي، وللانقطاع في الإسناد. قال في تهذيب التهذيب (ج4:ص443) في ترجمة الضحاك بن أيمن بعد ذكر الطريق المذكور: وهو حديث مختلف في إسناده. قال الحافظ: قرأت بخط الذهبي: لا يدرى من هو. وقال السندي: ابن عرزب لم يلق أبا موسى، قاله المنذري، كذا بخطه روى ابن ماجه أيضا نحوه من طريق النضر بن عبدالجبار ثنا ابن لهيعة عن الزبير بن سليم عن الضحاك بن عبدالرحمن بن عرزب عن أبيه عن أبي موسى. والزبير بن سليم وعبدالرحمن بن عرزب مجهولان، فالحديث ضعيف بطريقيه، لكن له شواهد روي بعضها بإسناد حسن. فمنها حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وقد أشار إليه المصنف. ومنها حديث معاذ بن جبل رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه والبيهقي. قال الزرقاني في شرح المواهب بعد عزوه إلى صحيح ابن حبان: فيه رد على قول ابن دحية: لم يصح في ليلة نصف شعبان شئ، إلا أن يريد نفي الصحة الاصطلاحية، فإن حديث معاذ هذا حسن لا صحيح-انتهى. وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج8:ص65) إلى الطبراني في الكبير والأوسط، وقال رجالهما ثقات. ومنها حديث أبي بكر الصديق رواه البزار والبيهقي. قال المنذري: بإسناد لا بأس به. وقال الهيثمي: فيه عبدالملك بن عبدالملك، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يضعفه، وبقية رجاله ثقات. قلت: ذكر عبدالملك هذا الذهبي في الميزان (ج2:ص151) قال: عبدالملك بن عبدالملك عن مصعب بن أبي ذئب عن القاسم قال البخاري في حديثه: نظر، يريد حديث عمرو بن الحارث عن عبدالملك أنه حدثه عن المصعب بن أبي ذئب عن القاسم بن محمد عن أبيه أو عمه عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ينزل الله ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا-الحديث. وقيل: إن مصعبا جده. وقال ابن حبان وغيره: لا يتابع على حديثه. قال الحافظ في

(8/146)


اللسان (ج4:ص67): قال ابن عدي: هو معروف بهذا الحديث، ولا يروي عنه غير عمرو بن الحارث، وهو حديث منكر بهذا الإسناد. ومنها حديث أبي هريرة، رواه البزار. قال الهيثمي: وفيه هشام بن عبدالرحمن، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. ومنها حديث عوف بن مالك، رواه البزار أيضا، وفيه عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وابن لهيعة. وقد تقدم الكلام فيهما، وبقية رجاله ثقات. ومنها حديث مكحول عن كثير بن مرة. (التابعي)، رواه البيهقي، وقال: هذا مرسل جيد. ومنها حديث مكحول عن أبي ثعلبة رواه الطبراني والبيهقي. قال البيهقي: وهو أيضا بين مكحول وأبي ثعلبة مرسل جيد، يعني لأنه لم يدرك مكحول أبا ثعلبة الخشني الصحابي، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني، وقال فيه الأحوض بن حكيم، وهو ضعيف. ومنها حديث العلاء بن الحارث عن عائشة، رواه البيهقي أيضا، وقال: هذا مرسل جيد. ويحتمل أن يكون العلا أخذه من مكحول كذا في الترغيب. وهذه الأحاديث كلها تدل على عظم خطر ليلة نصف شعبان وجلالة
1315- (13) ورواه أحمد، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، وفي روايته:

(8/147)


شأنها وقدرها، وأنها ليست كالليالي الأخر، فلا ينبغي أن يغفل عنها، بل يستحب إحياءها بالعبادة والدعاء والذكر والفكر. ويدل على ندب إحيائها حديث على الآتي لكنه ضعيف جدا، كما ستعرف، وحديث معاذ بن جبل مرفوعا: من أحياء الليالي الخمس وجبت له الجنة: ليلة التروية وليلة عرفة وليلة النحر وليلة الفطر وليلة النصف من شعبان، رواه الأصبهاني في ترغيبه، وهذا أيضا ضعيف؛ لأن المنذري صدره بلفظة "روي" وأهمل الكلام عليه في آخره، وجعل هذا علامة للإسناد الضعيف. وأما إحياء هذه الليلة خاصة والاهتمام لذلك مع ترك بعض الصلوات الخمس أو جمعها، ومع عدم المبالاة بالواجبات الأخرى، كما هو حال عامة المسلمين في عصرنا هذا، فلا شك أنه أمر قبيح، كيف والاشتغال بالمندوب مع إهمال الفرائض ليس من الدين والرأي في شيء. وكذا الاهتمام بزيارة القبور فيها مع تركها جميع السنة ليس بشئ من السنة. فإن قلت: قد ورد في ذهابه - صلى الله عليه وسلم - إلى البقيع في هذه الليلة حديثان: أحدهما حديث عائشة السابق في الفصل الثاني. والثاني حديثها الذي ذكره المنذري في باب الترهيب من التهاجر نقلا عن البيهقي. قلت: هذا الحديثان ضعيفان جدا. أما الأول فقد تقدم بيانه. وأما الثاني فقد صدره المنذري بلفظه "روي" وأهمل الكلام عليه في آخره، على أنه لا دليل فيهما على تخصيص زيارة القبور بهذه الليلة، بل كان ذهابه - صلى الله عليه وسلم - إلى البقيع على ما اعتاده في نوبة عائشة. كما يدل عليه ما روى مسلم عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين-الحديث. فهذا ظاهر في أن ذهابه إلى البقيع في نوبة عائشة كان عادة له مستمرة، وقد صادف ذلك في بعض الأعوام ليلة نصف شعبان، فذهب إليه على عادته من غير أن يهتم لذلك. وأما تقسيم أنواع الأطعمة على الفقراء

(8/148)


في هذه الليلة خاصة، فلم يرو فيه حديث مرفوع ولا موقوف لا صحيح ولا ضعيف. وأما اعتقاد حضور أرواح الأموات في هذه الليلة، وتنظيف البيوت، وتطيين جدرانها لتكريمها، وزيادة السرج والقناديل على الحاجة فيها فهي من البدع والضلالات بلا شك. قال القاري: أول حدوث الوقيد من البرمكة، وكانوا عبدة النار. فلما أسلموا أدخلوا في الإسلام ما يموهون أنه من سنن الدين، ومقصودهم عبادة النيران حيث ركعوا وسجدوا مع المسلمين إلى تلك النيران، ولم يأت في الشرع استحباب زيادة الوقيد على الحاجة في موضع، وقد أنكر الطرطوسي الاجتماع ليلة الختم في التراويح، ونصب المنابر وبين أنه بدعة منكرة. وأما صوم يوم ليلة نصف شعبان، فسيأتي الكلام فيه في شرح حديث علي الآتي.
1315- قوله: (ورواه أحمد) (ج2:ص176). (عن عبدالله بن عمرو بن العاص) قال المنذري: بإسناد لين. قلت: في سنده ابن لهيعة. قال الهيثمي (ج8:ص65): هو لين الحديث، وبقية رجاله وثقوا. (وفي روايته)
إلا اثنين: مشاحن وقاتل نفس.
1316- (14) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كانت ليلة النصف من الشعبان، فقوموا ليلها، وصوموا يومها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا مسترزق فأرزقه؟ ألا مبتلى فأعافيه؟ ألا كذا ألا كذا؟ حتى يطلع الفجر)).
أي رواية أحمد. (إلا اثنين مشاحن) بالرفع أي هما مشاحن. (وقاتل نفس) أي تعمدا بغير حق. ويجوز جرهما على البدلية.

(8/149)


1316- قوله: (فقوموا ليلها) أي الليلة التي هي تلك الليلة، فالإضافة بيانية، وليست هي كالتي في قوله: "وصوموا يومها". وقال الطيبي: الظاهر أن يقال: فقوموا فيها، وإذا ذهب إلى وضع الظاهر موضع المضمر أن يقال ليلة النصف، فأنت الضمير اعتبار للنصف؛ لأنها عين تلك الليلة-انتهى. قال القاري: وقد يقال: لعل المراد أن يقع القيام في جميع ما يطلق عليه إسم الليل من أجزاء تلك الليلة، وهو أبلغ من القيام فيها، وحسنه أيضا مقابلة قوله: (وصوموا يومها) أي في نهار تلك الليلة بكماله، ويعاضده قوله: (فإن الله تعالى ينزل فيها) أي في تلك الليلة. (لغروب الشمس) أي أول وقت غروبها. وقال السندي: أي في وقت غروبها أو مع غروبها متصلا به. (ألا) للتنبيه والعرض. (من) زائدة لتأكيد الاستغراق، وحذفت مما بعده للإكتفاء، قال القاري. (مستغفر) يستغفر (فأغفر له) قال الطيبي: بالنصب على جواب العرض و"من" في مستغفر زائدة بشهادة قرينه، والتقدير ألا مستغفر فأغفر له. (ألا مسترزق) بالرفع. (فأرزقه) بالنصب. (ألا مبتلى) أي مستعف يطلب العافية، وهو مقدر لظهوره. (فأعافيه). ولا يشكل وجود كثير من المبتلين يسألون العافية ولا يجابون لعدم استجماعهم لشروط الدعاء. (ألا كذا) من طالب عطاء فأعطيه. (ألا كذا) من طالب دفع بلاء فأدفعه. والحديث يدل على ندب صوم يوم ليلة النصف من شعبان، لكنه ضعيف جدا كما ستعرف، والإباحة والندب من الأحكام الخمسة الشرعية، ولا يعمل بالضعيف في الأحكام، كما تقرر في موضعه، وأما في الفضائل فيعمل به، لكن بشروط ثلاثة لا يوجد شيء منها ههنا، فإن هذا الحديث شديد الضعف، وليس هو بمندرج تحت أصل معمول به، ولا يعتقد الاحتياط أحد ممن يعمل به، بل يعتقد ثبوته، كما هو الظاهر من حال من يصوم ذلك اليوم. هذا، وقد استدل لذلك بالأحاديث التي فيها الندب إلى صيام أيام البيض. ولا يخفى بطلانه، فإن المطلوب هو استحباب صوم يوم واحد فقط أي الخامس عشر من

(8/150)


شعبان خاصة، وأين هذا من الندب إلى صيام ثلاثة أيام أي البيض من كل شهر.
رواه ابن ماجه.
(38) باب صلاة الضحى
وقد يستدل لذلك أيضا بما روى الشيخان عن عمران بن حصين مرفوعا في صيام سرر شعبان. وقد قيل في تفسير السرر: أنه وسط الشهر. وفيه أن الجمهور على أن المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سميت بذلك لاستمرار القمر فيها، وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين. وبه فسر أبوعبيد، واختاره البخاري حيث بوب عليه: باب الصوم من آخر الشهر، وهذا لمن كانت له عادة بصيام آخر كل شهر، فإنه مستثنى من النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، ومأمور بأن لا يترك ما كان اعتاده من ذلك. ولو سلمنا أن المراد به وسط الشهر لا آخره لا يثبت المطلوب؛ لأن الحديث يدل حينئذ على ندب صيام أيام البيض؛ لأنها وسط الشهر. ويؤيده الأحاديث التي فيها الحض على صيام البيض. والحاصل أنه ليس في صوم يوم ليلة النصف من شعبان حديث مرفوع صحيح أو حسن أو ضعيف خفيف الضعف ولا أثر قوي أو ضعيف. (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة، وسنده ضعيف جدا؛ لأن فيه أبا بكر بن عبدالله بن محمد بن أبي سبرة القرشي العامري المدني، وقد ينسب إلى جده. قال في التقريب: رموه بالوضع. قلت: ضعفه ابن معين وابن المديني والجوزجاني والبخاري. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال البخاري وابن المديني مرة: منكر الحديث. وقال عبدالله وصالح ابنا أحمد عن عن أبيهما قال كان أبوبكر بن أبي سبرة يضع الحديث، ويكذب. وقال ابن عدي: هو في جملة من يضع الحديث. وقال ابن حبان والحاكم أبوعبدالله: يروي الموضوعات عن الثقات، زاد ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. كذا في تهذيب التهذيب.

(8/151)


(باب صلاة الضحي) قال العيني في شرح البخاري: الضحى بالضم فوق الضحوة، وهي ارتفاع الشمس أول النهار. والضحاء بالفتح والمد هو إذا علت الشمس إلى ربع السماء فما بعده-انتهى. وقال المجد في القاموس: الضحو والضحوة. (كلاهما بفتح المعجمة وسكون المهملة) والضحية كعشية ارتفاع النهار. والضحى فويقه. والضحاء بالمد إذا كرب انتصاف النهار-انتهى مختصرا. قال القاري: قيل: التقدير صلاة وقت الضحى، والظاهر أن إضافة الصلاة إلى الضحى بمعنى في كصلاة الليل وصلاة النهار، فلا حاجة إلى القول بحذف المضاف. وقيل: من باب إضافة المسبب إلى السبب كصلاة الظهر-انتهى. قيل: وقت الضحى عند مضي ربع اليوم إلى قبيل الزوال. وقيل: هذا وقته المتعارف. وأما وقته فوقت صلاة الإشراق. وقيل: الإشراق أو الضحى. قال ابن العربي: هي كانت صلاة الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى مخبرا عن دواد عليه السلام:

(8/152)


?إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق? [18:38]. وروى ابن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه سئل عن صلاة الضحى. فقال: إنها في كتاب الله، ولا يغوص عليها الأغواص، ثم قرأ. ?في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له بالغدو والآصال? [36:24] وروى أيضا عنه قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت. ?إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق?. واختلف العلماء في حكمها، وقد جمع ابن القيم في زاد المعاد (ج1:ص92-97) الأقوال، فبلغت ستة: الأول أنها مستحبة، واختلف في عددها فقيل: أقلها ركعتان، وأكثرها وأفضلها ثمان، وهو مذهب الحنابلة والمالكية والشافعية في القول المعتمد عندهم، وقيل: أكثرها ثنتا عشرة ركعة وأوسطها ثمان، وهو أفضلها لثبوته بفعله عليه السلام وقوله. وأما أكثرها فبقوله فقط، وهو مذهب الحنفية والشافعية أيضا في قول. قال النووي في الروضة: أفضلها ثمان، وأكثرها ثنتا عشرة. قال الحافظ: فرق بين الأكثر والأفضل، ولا يتصور ذلك إلا فيمن صلى ثنتي عشر بتسليمة واحدة، فإنها تقع نفلا مطلقا عند من يقول إن أكثر سنة الضحى ثمان ركعات فأما من فصل فإنه يكون صلى الضحى، وما زاد على الثمان يكون له نفلا مطلقا، فتكون صلاة اثنتي عشرة في حقه أفضل من ثمان لكونه أتى بالأفضل وزاد. وقيل: أفضلها أربع ركعات لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك. وذهب قوم منهم أبوجعفر الطبري، وبه جزم الحليمي والروياني من الشافعية والباجي من المالكية أنه لا حد لأكثرها. الثاني لا تشرع إلا بسبب، واحتج له بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا بسب، واتفق وقوعها وقت الضحى. وتعددت الأسباب فحديث أم هاني، الآتي في صلاته يوم الفتح كان بسبب الفتح، وإن سنة الفتح أن يصلي ثمان ركعات، ونقله الطبري من فعل خالد بن الوليد لما فتح الحيرة، وفي حديث عبدالله بن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم صلى الضحى حين بشر برأس أبي جهل،

(8/153)


وهذه صلاة شكر كصلاة يوم الفتح، وصلاته في بيت عتبان إجابة لسؤاله أن يصلي في بيته مكانا يتخذه مصلى، فاتفق أنه جاءه وقت الضحى فاختصره الراوي فقال: صلى في بيت الضحى، وحديث عائشة لم يكن يصلي الضحى إلا أن يجيء من مغيبه؛ لأنه كان ينهى عن الطروق ليلا، فيقدم في أول النهار، فيبدأ بالمسجد، فيصلي وقت الضحى. الثالث لا تستحب أصلا، وصح عن عبدالرحمن بن عوف أنه لم يصلها، وكذلك ابن مسعود. الرابع يستحب فعلها تارة وتركها تارة بحيث لا يواظب عليها، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، والحجة فيه حديث أبي سعيد الآتي في الفصل الثالث. وعن عكرمة كان ابن عباس يصليها عشرا ويدعها عشرا. وقال الثوري عن منصور: كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة. الخامس: تستحب صلاتها، والمواظبة عليها في البيوت للأمن من خشية

(8/154)


أن ترى حتما. السادس أنها بدعة، صح ذلك عن ابن عمر. قلت: ورجح ابن القيم القول الثاني، وبسط الكلام على الأحاديث المثبتة لها. والراجح عندنا هو القول الأول أعني أنها مستحبة، وإليه ذهبت الأئمة الأربعة وأتباعهم؛ لأن الأحاديث الواردة بإثباتها قد بلغت مبلغا لا تقصر عن اقتضاء الاستحباب، وفيها الصحيح والحسن وما يقاربه، وقد جمع الحاكم الأحاديث في إثباتها في جزء مفرد عن نحو عشرين نفسا من الصحابة، وكذلك السيوطي صنف جزءا في الأحاديث الواردة في إثباتها، وروى فيه عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يصلونها. قال الزبيدي في شرح الإحياء: ورد فيها أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة، حتى قال ابن جرير الطبري: إنها بلغت حد التواتر-انتهى. وقال البيجوري في شرح الشمائل: وبالجملة فقد قام الإجماع على استحبابها وفي شأنها أحاديث كثيرة. وأما احتجاج القائلين بأنها لا تشرع إلا لسبب بما سلف فيرده ويبطله الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب، والعيني في شرح البخاري، والشوكاني في النيل، وابن عبدالبر في الاستذكار والتمهيد، والزبيدي في شرح الإحياء، والهيثمي في مجمع الزوائد. وأما ما روي عن ابن عمر أنه قال في الضحى إنها بدعة، فقد قال النووي: إنه محمول على أن صلاتها في المسجد والتظاهر بها، كما كانوا يفعلونها بدعة، لا أن أصلها في البيوت مذموم. قيل: وهذا الاختلاف إنما هو في الصلاة التي تصلي عند مضي ربع اليوم إلى قبيل الزوال لا في التي تؤدي بعد خروج وقت الكراهة أول النهار وتسمى صلاة الإشراق. ثم إن صلاة الضحى وصلاة الإشراق واحدة أو ثنتان؟ فقيل: إنهما واحدة، وقتها من بعد خروج وقت الكراهة إلى قبيل الزوال. وقيل صلاة الضحى غير صلاة الإشراق، فهما صلاتان، يؤدي الإشراق في الضحوة الصغرى، وصلاة الضحى في الضحوة الكبرى، ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الإشراق في الأحاديث التي رغب فيها في الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع

(8/155)


الشمس، فيصلي ركعتين. قال القاري في شرح حديث معاذ بن أنس الآتي: وهذه الصلاة تسمى صلاة الاشراق، وهي أول صلاة الضحى. قلت: ويدل عليه أيضا الأحاديث التي في الترغيب في أربع ركعات من أول النهار، فإنها أوفق بصلاة الإشراق. ويدل عليه أيضا حديث أبي ذر في الفصل الأول وما في معناه، فإن المناسب لأداء ما عليه من الحق أن يصليها أول النهار بعد خروج وقت الكراهة. قال القاري: التحقيق أن أول وقت الضحى إذا خرج وقت الكراهة، وآخره قبيل الزوال، وإن ما وقع في أوائله يسمى صلاة الاشراق أيضا، وما وقع بعد ذلك إلى آخره يختص باسم صلاة الضحى-انتهى بتصرف يسير: وقال في شرح الإحياء: أما وقتها أي الضحى فقد روى على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى ستا في وقتين: الأول إذا أشرقت الشمس وارتفعت قيد رمح قام، فصلى ركعتين، وهذه الصلاة المسماة بصلاة الإشراق عند مشائخنا. والثاني إذا انبسطت الشمس وكانت في ربع السماء، صلى أربعا. قال العراقي: أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث علي كان
?الفصل الأول?
1317- (1) عن أم هانئ، قالت: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بيتها يوم فتح مكة، فاغتسل، وصلى ثماني ركعات لم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود. وقالت في رواية أخرى: وذلك ضحى)).
النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس من مطلعها قيد رمح أو رمحين كقدر صلاة العصر من مغربها صلى ركعتين، ثم أمهل حتى إذا ارتفع الضحى صلى أربعا. لفظ النسائي. وقال الترمذي: حسن –انتهى. قلت: هذا الحديث ظاهر بل نص في التفريق بين صلاتي الإشراق والضحى. والله أعلم.

(8/156)


1317- قوله: (عن أم هانئ) بهمزة بعد النون. (دخل بيتها يوم فتح مكة) في رمضان سنة ثمان من الهجرة. (فاغتسل) أي بيتها، كما هو ظاهر التعبير بالفاء المقتضية للترتيب والتعقيب، لكن في مسلم كالموطأ من طريق أبي مرة عنها أنها قالت: ذهبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل. قال الحافظ: وجمع بينهما بأن ذلك تكرر منه. ويؤيده ما رواه ابن خزيمة من طريق مجاهد عن أم هانئ، وفيه أن أبا ذر ستره لما اغتسل. وفي رواية أبي مرة: أن فاطمة بنته هي التي سترته. ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة، وكانت هي في بيت آخر بمكة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل فيصح القولان. وأما الستر فيحتمل أم يكون أحدهما ستره في ابتداء الغسل، والآخر في أثنائه- انتهى. (وصلى ثماني) بالياء التحتية المفتوحة، وللأصيلي وأبي ذر ثمان بإسقاط الياء. قاله القسطلاني. (ركعات) زاد كريب عن أم هانئ يسلم من كل ركعتين. أخرجه أبوداود وابن خزيمة، وفيه رد على من تمسك به صلاتها موصولة سواء صلى ثمان ركعات أو أقل. (فلم أر صلاة) أي ما رأيته صلى صلاة. (قط) أي أبدا. (أخف منها) يعني من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: فما رأيته صلى صلاة قط أخف منها أي من هذه الثمان. وفي رواية لمسلم: لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركوعه أم سجوده كل ذلك متقارب. واستدل به على استحباب تخفيف صلاة الضحى. وفيه نظر لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى الضحى فطول فيها. أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة. (غير أنه) عليه الصلاة والسلام. (يتم) أي كان يتم (الركوع والسجود) قالته دفعا لتوهم من يفهم أنه نقص منهما حيث عبرت بأخف. وقال الطيبي: نصب غير على استثناء، وفيه إشعار بالاعتناء بشأن الطمأنينة في الركوع والسجود؛ لأنه عليه الصلاة والسلام خفف سائر الأركان من القيام والقراءة والتشهد،

(8/157)


ولم يخفف من الطمأنينة في الركوع والسجود- انتهى. (وقالت) أي أم هانئ. (وذلك ضحى) أي
متفق عليه.
1318- (2) وعن معاذة، قالت: سألت عائشة: ((كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الضحى؟
قالت: أربع ركعات ويزيد ما شاء الله))
ما فعله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ضحى أو ذلك الوقت وقت ضحى، ويؤيد الأول ما يأتي من رواية أبي داود وابن عبدالبر وغيرهما. والحديث استنبط منه سنية صلاة الضحى خلافا لمن قال ليس في حديث أم هانئ دلالة لذلك بل هو إخبار منها بوقت صلاته فقط وكانت سنة الفتح. قال السهيلي: هذه الصلاة تعرف عند العلماء بصلاة الفتح، وكان الأمراء يصلونها إذا فتحوا بلدا، صلاها خالد بن الوليد لما فتح الحيرة، وصلاها سعد بن أبي وقاس حين افتتح المدائن في إبوان كسرى، والأصل فيها صلاته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. وقيل: إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه فيها. وأجيب بأن الصواب صحة الاستدلال به لقولها في حديث أبي داود وغيره صلى سبحة الضحى. والسبحة بالضم الصلاة ومسلم في الطهارة ثم صلى ثمان ركعات سبحة الضحى، وفي التمهيد لابن عبدالبر قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فصلى ثمان ركعات، فقلت: ما هذه الصلاة، قالت: هذه صلاة الضحى، واستدل بحديث الباب على أن أفضلها ثمان ركعات وهي أكثر ما ورد من فعله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد ذلك من قوله أيضا وورد من فعله دون ذلك ركعتان وأربع وست، وورد الزيادة على الثمان من قوله فقط، ففي حديث أبي ذر مرفوعا قال: إن صليت الضحى عشرا لم يكتب لك ذلك اليوم ذنب، وإن صليتها اثنتي عشرة ركعة بنى الله لك بيتا في الجنة. رواه البيهقي، وقال: في إسناده نظر، وضعفه النووي في شرح المهذب، وفي ثنتي عشرة أحاديث أخرى يقوي بعضها بعضا، وهي أكثر ما ورد في صلاة الضحى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3:ص48).

(8/158)


1318- قوله: (وعن معاذة) بضم الميم بنت عبدالله العدوية. (كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي كم ركعة، وهو مفعول مطلق لقوله: (يصلي صلاة الضحى) وفي ورواية ابن ماجه: أ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى؟ قالت نعم. (قالت: أربع ركعات) روى الحاكم من طريق أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي الضحى بسور منها. ?والشمس وضحاها?. ?والضحى? ومناسبة ذلك ظاهرة جدا. (ويزيد) عطف على مقدر، وهو مقول للقول أي يصلي أربع ركعات ويزيد (ما شاء الله) قال المظهر: أي يزيد من غير حصر، ولكن لم ينقل أكثر من اثنتي عشرة ركعة. وقال الحافظ: قد ذهب قوم منهم أبوجعفر الطبري وبه جزم الحليمي والروياني من الشافعية إلى أنه لا حد لأكثرها، وروى من طريق إبراهيم النخعي قال: سأل رجل الأسود بن يزيد كم أصلي
رواه مسلم.

(8/159)


الضحى قال: كم شئت، ثم ذكر الحافظ حديث عائشة هذا وقال: وهذا الإطلاق قد يحمل على التقييد، فيؤكد أن أكثرها اثنتا عشرة ركعة-انتهى. واعلم أنه قد جاء عن عائشة في صلاة الضحى أشياء مختلفة، فروي عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها من غير تقييد، كما في حديث الباب، وروي عنها أنها سئلت هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى؟ قالت: لا إلا أن يجيء من مغيبه. أخرجه مسلم وروى عنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها. متفق عليه. ففي رواية الكتاب إثباتها مطلقا، وفي الثالثة النفي مطلقا، وفي الثانية الإثبات مقيدا، وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب ابن عبدالبر وجماعة إلى ترجيح الرواية الثالثة؛ لاتفاق الشيخين عليها فتقدم على ما انفرد به مسلم، وذهب بعضهم إلى ترجيح رواية الإثبات، وقالوا: إن عدم رؤيتها لذلك لا يستلزم عدم الوقوع، ويؤيد ذلك روايات من روى عنه من الصحابة الإثبات. وذهب بعضهم إلى الجمع، قال ابن حبان: قولها ما كان يصلي إلا أن يجيء من مغيبه مخصوص بالمسجد، وقولها: كان يصلي أربعا ويزيد محمول على البيت، وقولها: ما رأيته يصلي سبحة الضحى المنفي فيه صفة مخصوصة. وجمع عياض بين هذا وبين الثاني أي قولها: كان يصلي أربعا بأن المنفي في الثالث، أي في قولها ما رأيته يصلي الرؤية بنفسها، وفي الثاني إخبار الصلاة برواية غيرها، فأخبرت في الإنكار عن مشاهدتها، وفي الإثبات عن غيرها. وقال المنذري: يحتمل أنها أخبرت في الإنكار عن رؤيتها ومشاهدتها، وفي الآخر بغير المشاهدة، إما من خبره عليه السلام أو خبر غيره عنه. وجمع الباجي بأن النفي في قولها: ما رأيته يصلي مقيد بدون السبب، والإثبات في قولها كان يصلي أربعا مقيد بالسبب، وهو المجيء من السفر وإن لم يذكر فيهما، كما في بينه قولها: لا إلا أن يجيء من مغيبه. وقيل في الجمع أيضا: يحتمل أن يكون لفت صلاة الضحى

(8/160)


المعهودة حينئذ من هيئة مخصوصة بعدد مخصوص في وقت مخصوص، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها إذا قدم من سفر لا بعدد مخصوص ولا بغيره، كما قالت: يصلي أربعا ويزيد ما شاء الله. قال المنذري: وقد يكون. الإنكار إنما هو لصلاة الضحى المعهودة عند الناس على الذي اختاره جماعة من السلف من صلاتها ثمان ركعات وأنه كان يصليها أربعا. ويزيد ما شاء فيصليها مرة أربعا ومرة ستا ومرة ثمانية، وأقلها ركعتان. وقيل: النفي محمول على صلاة الاشراق، فإنها ما رأته - صلى الله عليه وسلم - يصليها قط؛ لأنه كان يصليها في المسجد إذا خرج وقت الكراهة، وقولها: لا إلا أن يجيء من مغيبه، وقولها: كان يصلي أربعا محمول على صلاة الضحى. والنفي المقيد بغير المجيء من مغيبه محمول على المسجد والإثبات مطلقا على البيت، والله أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص47) وأخرجه أبويعلى من طريق عمرة عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى أربع ركعات لا يفصل بينهن بكلام.
1319- (3) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة،
فكل تسبيحه صدقة، وكل تحميده صدقة، وكل تهليله صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر
بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى))

(8/161)


1319- قوله: (يصبح على كل سلامى) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم. قال النووي: أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في جميع عظام البدن ومفاصله، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم من حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خلق الإنسان على ستين وثلثمائة مفصل على كل مفصل صدقة-انتهى. وفي النهاية: السلامى جمع سلامية، وهي الأنملة من الأنامل الأصابع. وقيل: واحده وجمعه سواء ويجمع على سلاميات، وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان. (من أحدكم صدقة) قال الطيبي: اسم يصبح. أما صدقة أي كصبح الصدقة وأحبه على كل سلامي. وأما من أحدكم على تجويز زيادة من، والظرف خبره، وصدقة فاعل الطرف، أي يصبح أحدكم واجبا على كل مفصل منه صدقة. وأما ضمير الشأن والجملة الاسمية بعدها مفسرة له. قال عياض: يعني أن كل عظم من عظام ابن آدم وكل مفصل من مفاصله يصبح سليما عن الآفات باقيا على الهيئة التي تتم بها منافعه فعليه صدقة شكرا لمن صوره ووقاه عما يغيره ويؤذيه. (فكل تسبيحه صدقة) قال الطيبي: الفاء تفصيلية ترك تعديد كل واحد من المفاصل للاستغناء يذكر تعديد ما ذكر من التسبيح وغيره-انتهى. أو لأن تعديد المفاصل يجر إلى الإطالة، وفي تركه إيماء إلى قوله تعالى. ?وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها? [34:14]. والمقصود ما به القيام بشكرها على أن جعل له ما يكون به متمكنا من الحركات والسكنات، وليس الصدقة بالمال فقط بل كل خير صدقة. (وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة) وكذا سائر الأذكار وباقي العبادات صدقات على نفس الذاكر. (وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة)؛ لأن منفعتهما راجعة إليه وإلى غيره من المسلمين، وفي ترك ذكر الصدقة الحقيقية تسلية للفقراء والعاجزين عن الخيرات المالية. (ويجزئ) قال النووي: ضبطناه بالضم أي ضم الياء من الإجزاء، وبالفتح من جزى يجزي أي يكفي. (من ذلك) هي بمعنى عن أي يكفي عما ذكر

(8/162)


مما وجب على السلامي من الصدقات. (ركعتان) لأن الصلاة عمل بجميع أعضاء البدن فيقوم كل عضو بشكره، ولاشتمال الصلاة على الصدقات المذكورة وغيرها، فإن فيها أمرا للنفس بالخير ونهيا لها عن ترك الشكر، وإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. (يركعهما من الضحى) أي من صلاة الضحى، أو في وقت الضحى. والحديث يدل على عظم فضل صلاة الضحى وكبر موقعها وتأكيد مشروعيتها، وأن ركعتيها تجزئان عن ثلثمائة وستين صدقة، وما كان كذلك فهو حقيق بالمواظبة والمداومة، ويدل أيضا على مشروعية الاستكثار من التسبيح والتحميد والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر أنواع الطاعات والقربات؛ ليسقط بفعل ذلك ما على الإنسان من الصدقات اللازمة في كل يوم.
رواه مسلم.
1320- (4) وعن زيد بن أرقم أنه رأى قوما يصلون من الضحى، فقال: ((لقد علموا أن الصلاة
في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ))
(رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3:ص47).

(8/163)


1320- قوله: (رأى قوما يصلون) أي في مسجد قباء، كما في رواية البيهقي. (من الضحى) أي بعد طلوع الشمس وارتفاعها شيئا يسيرا. وفي رواية للبيهقي: رأى نأسا جلوسا إلى قاص، فلما طلعت الشمس ابتدروا السواري يصلون. قال الطيبي: "من" زائدة أي يصلون صلاة الضحى، ويجوز أن تكون تبعيضية، وعليه ينطبق قوله: (لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل) أنكر عليهم إيقاع صلاتهم في بعض وقت الضحى أي أوله ولم يصبروا إلى الوقت المختار، أي كيف يصلون مع علمهم بأن الصلاة في غير هذا الوقت أفضل، ويجوز أن تكون ابتدائية أي صلاة مبتدأة من أول الوقت، ويكون المعنى إنكار إنشاء الصلاة في أول وقت الضحى. (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بكسر الهمزة استئناف بيان، ويجوز فتحها للعله. (قال) وفي رواية: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل قباء، وهم يصلون فقال (صلاة الأوابين) بتشديد الواو جمع أواب، وهو الكثير الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة عن الذنوب وبالإخلاص وفعل الخيرات، من آب إذا رجع. (حين ترمض) بفتح التاء الفوقية والميم من باب فرح أي تحترق من الرمضاء، وهو شدة حرارة الأرض من وقوع الشمس على الرمل وغيره، وذلك يكون عند ارتفاع الشمس وتأثيرها الحر. (الفصال) بكسر الفاء جمع الفصيل، ولد الناقة إذا فصل عن أمه، يعني تحترق أخفافها من شدة حر النهار. وقيل: لأن هذا الوقت زمان الإستراحة فإذا تركها ورجع إلى الله تعالى بالاشتغال بالصلاة استحق الثناء الجميل. قال ابن الملك: إنما أضاف الصلاة في ذلك الوقت إلى الأوابين لميل النفس فيه إلى الدعة والاستراحة، فالاشتغال فيه بالصلاة أوب من مراد النفس إلى مرضات الرب. وقال التوربشتي: إنما قال - صلى الله عليه وسلم - هذا القول حين دخل مسجد قباء، ووجد أهل قباء يصلون في ذلك الوقت وإنما مدحهم بصلاتهم في الوقت الموصوف؛ لأنه وقت تركن فيه النفوس إلى الاستراحة ويتهيأ فيه أسباب الخلوة وصرف

(8/164)


العناية إلى العبادة، فيرد على قلوب الأوابين من الإنس بذكر الله وصفاء الوقت ولذاذة المناجاة ما يقطعهم عن كل مطلوب سواه-انتهى. والحديث يدل على أن المستحب فعل الضحى في ذلك الوقت، وقد توهم أن قول زيد بن أرقم أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل يدل على نفي صلاة الضحى، وليس الأمر كذلك بل مراده أن تأخير الضحى إلى ذلك الوقت أفضل. قلت: الأحاديث الواردة في الضحى تتضمن صلاتين: إحداهما ما يفعل بعد طلوع الشمس إذا خرج وقت
رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1321، 1322-(5، 6) عن أبي الدرداء، وأبي ذر قالا: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله تبارك وتعالى
أنه قال: يا ابن آدم! اركع لي أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره)) رواه الترمذي.
الكراهة، ويسمونها صلاة الاشراق وصلاة الضحوة الصغرى أيضا والأخرى قبيل نصف النهار عند شدة الحر، وتسمى صلاة الضحوة الكبرى، وهذه هي المرادة في هذا الحديث، وجاء في الأحاديث اسم الضحى شاملا لكل من الصلاتين. (رواه مسلم) في باب صلاة الليل. وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج3 ص39). وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعا قال: لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب. قال: وهي صلاة الأوابين. أخرجه الحاكم (ج1 ص344) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضا الطبراني وابن خزيمة في صحيحه.

(8/165)


1321، 1322- قوله: (عن الله) أي ناقلا أو قائلا عن الله (تبارك) أي كثر خيره وبركته. (وتعالى) أي علا مجده وعظمته. وفي بعض نسخ الترمذي عن الله عزوجل. (أنه) بفتح الهمزة. (يا ابن آدم) وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا ابن آدم بدون حرف النداء. (اركع) أي صل (لي) أي خالصا لوجهي. (أربع ركعات من أول النهار) قيل: المراد صلاة الضحى. وقيل: صلاة الإشراق. وقيل: سنة الصبح وفرضه؛ لأنه أول فرض النهار الشرعي. قلت: حمل الترمذي وأبوداود هذه الركعات على صلاة الضحى، ولذا أخرجا هذا الحديث في باب صلاة الضحى. قال العراقي: وهذا الاختلاف ينبني على أن النهار هل هو من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس؟ والمشهور الذي يدل عليه كلام جمهور أهل اللغة وعلماء الشريعة أنه من طلوع الفجر، قال: وعلى تقدير أن يكون النهار من طلوع الفجر فلا مانع من أن يراد بهذه الأربع ركعات بعد طلوع الشمس؛ لأن ذلك الوقت ما خرج عن كونه أول النهار، وهذا هو الظاهر من الحديث وعمل الناس، فيكون المراد بهذه الأربع ركعات الضحى- انتهى. وقال القاري: النهار في عرف الشرع من طلوع الصبح إلى المغرب، غايته أنه يطلق على الضحوة وما قبلها أنه أول النهار، فمن تبعيضية في قوله من أول النهار. (أكفك) أي مهماتك. (آخره) أي إلى آخر النهار. قال الطيبي: أي أكفك شغلك وحوائجك وارفع عنك ما تكرهه بعد صلاتك إلى آخر النهار. والمعنى فرغ بالك بعبادتي في أول النهار أفرغ بالك في آخره بقضاء حوائجك. (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن غريب. قال المنذري في تلخيص السنن: وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وفيه مقال، ومن الأئمة من يصحح حديثه عن الشاميين، وهذا الحديث شامي الإسناد، يعني أن إسماعيل بن عياش روى هذا الحديث
1323-(7) ورواه أبوداود، والدارمي، عن نعيم بن همار الغطفاني، وأحمد عنهم.

(8/166)


1324-(8) وعن بريدة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((في الإنسان ثلثمائة وستون مفصلا، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة،
عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان، وهما حمصيان شاميان. وقال في الترغيب بعد نقل تحسين الترمذي: في إسناده إسماعيل بن عياش، ولكنه إسناده شامي. ورواه أحمد (ج6 ص440- 451) عن أبي الدرداء وحده ورواته كلهم ثقات.
1323- قوله: (ورواه أبوداود والدارمي) وكذا أحمد (ج5 ص286، 287) والبيهقي (ج3 ص48). (عن نعيم) مصغرا، صحابي، له أحاديث. (بن همار) بفتح الهاء وتشديد الميم وبالراء المهملة. وقد اختلف في اسم والد نعيم هذا، فقيل: هكذا همار. وقيل: هبار بفتح الهاء وتشديد الباء الموحدة. وقيل: هدار بفتح الدال المهملة المشددة وآخره راء. وقيل: همام بميمين الأولى مشددة. وقيل: خمار بفتح الخاء المعجمة وشدة الميم وبالراء. وقيل: حمار بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم وآخره راء. وقيل: حمار بكسر الحاء المهملة وخفة الميم. قال الحافظ في التقريب: ورجح الأكثر أن اسم أبيه همار. وقال في التهذيب: وصحح الترمذي وابن أبي داود وأبوالقاسم البغوي وأبوحاتم بن حبان وأبوالحسن الدارقطني وغيرهم: أن اسم أبيه همار. وقال الغلابي عن ابن معين: أهل الشام يقولون نعيم بن همار، وهم أعلم به، يعني لأنه غطفاني شامي. (الغطفاني) منسوب إلى قبيلة غطفان بحركتين. ذكر ابن أبي داود أن نعيم بن همار من غطفان جذام. قال المنذري: حديث نعيم بن همار قد اختلف الرواة فيه اختلافا كثيرا، وقد جمعت طرقه في جزء مفرد- انتهى. (وأحمد عنهم) أي يروي أحمد عن الثلاثة المذكورين من الصحابة، وفيه نظر؛ لأني لم أجده في المسند من رواية أبي ذر، لا في مسند أبي الدرداء ولا في مسند أبي ذر، اللهم أن يكون ذكره في أثناء مسند صحابي آخر، لكن قول المنذري في الترغيب بعد نقل الحديث عن الترمذي من رواية أبي الدرداء وأبي ذر: "ورواه أحمد عن أبي الدرداء

(8/167)


وحده" يؤكد أن قول المصنف "وأحمد عنهم" وهم. والصواب أن يقول: وأحمد عنهما أي عن أبي الدرداء ونعيم بن همار، وفي الباب عن غير واحد من الصحابة، ذكرهم الشوكاني والهيثمي وغيرهما.
1324- قوله: (مفصلا) بفتح الميم وكسر الصاد، كمجلس أحد مفاصل الأعضاء. (فعليه) أي على الإنسان. (أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة) و"على" هنا لتأكيد ندب التصدق، لا بمعنى الوجوب الشرعي، إذ لم يقل أحد بوجوب ركعتي الضحى وسائر الصدقات المذكورة، وإن كان الشكر على نعم الله تعالى إجمالا
قالوا: ومن يطيق يا نبي الله؟ قال: النخاعة في المسجد تدفنها، والشيء تنحيه عن الطريق، فإن لم تجد، فركعتا الضحى تجزئك)). رواه أبوداود.
1325-(9) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له
قصرا من ذهب في الجنة)) رواه الترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا
نعرفه إلا من هذا الوجه.

(8/168)


وتفصيلا واجبا، قاله القاري: (ومن يطيق ذلك) أي أن يتصدق ثلاث مائة وستين صدقة، فكأنهم حملوا الصدقة على المتعارف من الخيرات المالية، أي لا يطيق كل أحد ذلك؛ لأن أكثر الناس فقراء. ( قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (النخاعة) بضم النون. قيل: هي النخامة. وقيل: النخاعة هي الخارجة من أسفل الحلق الخارجة من الصدر، كمخرج الحاء. والنخامة هي الخارجة من مخرج الخاء النازلة من الدماغ. (في المسجد) أي النخاعة التي تكون في المسجد. (تدفنها) أي أيها المخاطب خطابا عاما، عدل عن صيغة الجمع لئلا يتوهم الاختصاص بالصحابة أي دفنها صدقة. (والشيء) بالرفع أي المؤذي للمار من شوك أو حجر أو غيرهما. (تنحيه) بالتشديد أي تبعده. (عن الطريق) أي تنحيه ذلك صدقة، وكذا كل معروف صدقة. وقال الطيبي: الظاهر أن يقال من يدفن النخاعة في المسجد، فعدل عنه إلى الخطاب العام اهتماما بشأن هذه الخلال، وأن كل من شأنه أن يخاطب بخطاب ينبغي أن يهتم بها. (فإن لم تجد) أي شيئا مما يطلق عليه اسم الصدقة عرفا أو شرعا يبلغ عدد الثلاث مائة والستين. (فركعتا الضحى) أي صلاته. (تجزئك) أي تكفيك عن جميعها، وأفرد الخبر باعتبار المعنى أي فصلاة الضحى تجزئك. قال المناوي: وخصت الضحى بذلك لتمحضها للشكر؛ لأنها لم تشرع جابرة لغيرها بخلاف الرواتب. (رواه أبوداود) في أواخر الأدب، وسكت عنه وقال المنذري: في إسناده علي بن الحسين بن واقد، وفيه مقال- انتهى. قلت: هو من رجال مقدمة صحيح مسلم، أخرج من طريقه كلام سفيان الثوري في عباد بن كثير، وليس هو من رجال صحيحه. قال أبوحاتم: ضعيف الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، وكان إسحاق بن راهويه سيء الرأي فيه لعلة الإرجاء، كذا في التهذيب. وقال في التقريب: أنه صدوق يهم. وقال الذهبي: صدوق، فالظاهر أن حديثه حسن. والحديث أخرجه أيضا أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال المناوي: في

(8/169)


شرح الجامع الصغير: إسناده حسن.
1325- قوله: (من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة) هذا أكثر ما ورد من قوله في عدد صلاة الضحى. قال العيني وغيره: لم يرد في عدد صلاة الضحى أكثر من ذلك. (رواه الترمذي وابن ماجه) واستغربه الترمذي،
1326-(10) وعن معاذ بن أنس الجهني، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح، حتى يسبح ركعتي الضحى، لا يقول إلا خيرا، غفر له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر)). رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
1327-(11) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حافظ على شفعة الضحى، غفرت له
ذنوبه
كما نقله المصنف، وذكره النووي في الأحاديث الضعيفة، قاله ميرك. وقال الحافظ في الفتح: قال النووي: في شرح المهذب: فيه. (أي في فضل صلاة الضحى ثنتي عشرة ركعة) حديث ضعيف، كأنه يشير إلى حديث أنس. (يعني الذي نحن بصدد شرحه). لكن إذا ضم إليه حديث أبي ذر عند البزار، وحديث أبي الدرداء عند الطبراني. (وفي إسنادهما ضعف) قوى وصلح للاحتجاج به، وقال فيه أيضا: أن حديث أنس ليس في إسناده من أطلق عليه الضعف، وبه يندفع تضعيف النووي له، ولكنه تابعها الحافظ في التلخيص (ص118) حيث قال بعد ذكر الحديث: وإسناده ضعيف.

(8/170)


1326- قوله: (الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء، منسوب إلى قبيلة جهنية مصغرا. (من قعد) أي استمر (في مصلاه) من المسجد مشتغلا بذكر الله. (حين ينصرف) أي يفرغ. (حتى يسبح) أي إلى أن يصلي. (ركعتي الضحى) أي بعد طلوع الشمس وارتفاعها. (لا يقول) أي فيما بينهما. (إلا خيرا) يعني يستمر على الذكر في ذلك الوقت ولا يتكلم بسوء. وقال القاري: هو ما يترتب عليه الثواب. واكتفى بالقول عن الفعل. (غفر له خطاياه) أي الصغائر، ويحتمل الكبائر، قاله القاري. (وإن كانت أكثر من زبد البحر) الزبد بفتحتين ما يعلو الماء ونحوه من الرغوة. والحديث من أدلة فضل صلاة الإشراق؛ لأنها أقرب النوافل بعد صلاة الصبح. وقد تقدم أن الضحى يطلق على صلاة الإشراق أيضا. (رواه أبوداود) من طريق زبان بن فائد عن سهل بن معاذ، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: سهل بن معاذ ضعيف، والراوي عنه زبان بن فائد ضعيف أيضا. وقال العراقي: إسناده ضعيف. وأخرجه البيهقي من طريق أبي داود (ج3 ص49).
1327- قوله: (من حافظ على شفعة الضحى) أي داوم عليها أو أداها على وجهها ولو مرة، والمراد بشفعة الضحى ركعتا الضحى. قال الجزري في النهاية: من الشفع الزوج، ويروى بالفتح والضم، كالغرفة والغرفة،
وإن كانت مثل زبد البحر)). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
1328-(12) وعن عائشة: ((أنها كانت تصلي الضحى ثماني ركعات، ثم تقول: لو نشر لي أبواي ما تركتها))

(8/171)


وإنما سماها شفعة؛ لأنها أكثر من واحدة. قال القتيبي: الشفع الزوج، ولم أسمع به مؤنثا إلا ههنا، وأحسبه ذهب بتأنيثه إلى الفعلة الواحدة أو إلى الصلاة- انتهى. وقال العراقي: المشهور في الرواية ضم الشين. (وإن كانت مثل زبد البحر) ما يعلو على وجهه عند هيجانه، مبالغة في الكثرة. قيل: إنما خص الكثرة بزبد البحر لاشتهاره بالكثرة عند المخاطبين. وقال ابن حجر: عبر هنا بمثل وفيما سبق بأكثر؛ لأن عمل ذلك أشق فكانت الزيادة به أحق. قال القاري: وفيه نظر؛ لأنه لا شبهة أن المواظبة المذكورة أقوى من مجرد القعود المسطور، اللهم إلا أن تكون المداومة فيه أيضا معتبرة، أو يضم إليه أداء الصلاة الفريضة- انتهى. (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه) من طريق نهاس ابن قهم عن شداد أبي عمار عن أبي هريرة، ونهاس ضعيف، وشداد ثقة، وفي سماعه من أبي هريرة خلاف. قال صالح بن محمد: شداد أبوعمار صدوق، لم يسمع من أبي هريرة، ولا من عوف بن مالك، كذا في التهذيب.

(8/172)


1328- قوله: (كانت تصلي الضحى ثماني) بكسر النون وفتح الياء. (ركعات) قال الباجي: يحتمل أنها تفعل ذلك بخبر منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كخبر أم هانئ، ولذا اقتصرت على هذا العدد، ويحتمل أن هذا القدر هو الذي كان يمكنها المداومة عليه، قال: وليست صلاة الضحى من الصلوات المحصورة بالعدد، فلا يزاد عليها ولا ينقص منها، ولكنها من الرغائب التي يفعل الإنسان منها ما أمكنه- انتهى. قال الزرقاني: هذا مختار الباجي، وإلا فالمذهب عندنا أن أكثرها ثمان؛ لأن ذلك أكثر ما ورد من فعله - صلى الله عليه وسلم -- انتهى. وقال السيوطي: وهذا الذي قاله الباجي، هو الصواب المختار، فلم يرد في شيء من الأحاديث ما يدل على حصرها في عدد مخصوص. (ثم تقول) بيانا لشدة الاهتمام وحثا على المحافظة والمداومة. (لو نشر لي) بضم النون وكسر الشين المعجمة أي أحي. (أبواي) أبوبكر وأم رومان. (ما تركتها) أي ما تركت هذه اللذة بتلك اللذة. قال الطيبي: هم من باب التعليق على المحال العادي، ولذلك خصته بقولها: لي أي لو فرض إحياءهما لي لم أتركها فكيف وأن ذلك محال عادة، أي لا أدع هذه اللذة بتلك اللذة. وقال ابن حجر: معناه لو خصصت بإحياء أبوي الذي لا ألذ منه لذات الدنيا. وقيل: لي أتركي لذة فعلها في مقابلة تلك اللذة ما تركت ذلك الإيثار اللذة الأخروية وإن دعا الطبع الجبلي إلى تقديم تلك اللذة الدنيوية، أو المعنى ما تركت هذه الصلاة اشتغالا بالترحيب بهما والقيام بخدمتهما، فهو كناية عن نهاية المواظبة وغاية المحافظة بحيث لا يمنعها قاطع عنها- انتهى. قلت: وفي الموطأ: ما تركتهن أي بضمير الجمع يعني
رواه مالك.
1329-(13) وعن أبي سعيد، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها،
ويدعها حتى نقول: لايصليها)). رواه الترمذي.
1330-(14) وعن مورق العجلي قال: ((قلت لابن عمر: تصلى الضحى؟ قال: لا. قلت: فعمر؟

(8/173)


قال:لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فالنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا إخاله)).
هذه الركعات فإن لذتها أكثر من لذة إحيائهما. (رواه مالك) عن زيد بن أسلم عن عائشة أم المؤمنين.
1329- قوله: (حتى نقول) بالنون. (لا يدعها) أي لا يتركها أبدا. (ويدعها) أي أحيانا. (حتى نقول لا يصليها) وفي بعض نسخ الترمذي: لا يصلي بدون الضمير المنصوب وكان ذلك بحسب مقتضى الأوقات من العمل بالرخصة والعزيمة، كما يفعل في صوم النفل. والحديث من أدلة القائلين بأن صلاة الضحى يستحب فعلها تارة وتركها تارة، بحيث لا يواظب عليها بل يصلي أحيانا ويترك أحيانا، كما كان عادته - صلى الله عليه وسلم - من العمل بالرخصة والعزيمة، وسيأتي شيء من الكلام في ذلك في شرح الحديث الآتي. وأما ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه، فضعيف. قال الحافظ في الفتح: لم يثبت ذلك في خبر صحيح. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص21، 36) ونسبه الحافظ في الفتح للحاكم. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب- انتهى. وفي سنده عطية بن سعيد بن جنادة العوفي الكوفي، وهو صدوق، يخطىء كثيرا، وكان شيعيا مدلسا، قاله الحافظ.

(8/174)


1330- قوله: (وعن مورق) بضم الميم وفتح الواو وتشديد الراء المكسورة، ابن المشمرج بضم الميم وفتح الشين المعجمة وسكون الميم وفتح الراء وبكسرها وبالجيم، يكنى أبا المعتمر البصري، ثقة عابد، من كبار الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة (103) وقيل: (105) وقيل: (108). (العجلي) بكسر العين المهملة وسكون الجيم نسبة إلى عجل قبيلة. (تصلى الضحى) بحذف أداة الاستفهام. وفي البخاري: أتصلي بإثباتها. (قال) ابن عمر. (لا) أصليها قال. (قلت) له. (فعمر) كان يصليها. (قال لا) أي لم يصليها. (قلت فأبو بكر) كان يصليها. (قال: لا) أي لم يصليها، والفاء للترقي من الأدنى إلى الأعلى. (قلت فالنبي - صلى الله عليه وسلم -) كان يصليها. (قال: لا إخاله) برفع اللام وكسر الهمزة في الأشهر الأفصح. وقد تفتح والخاء معجمة أي لا أظنه عليه الصلاة والسلام صلاها، وكان سبب توقف ابن عمر في ذلك أنه بلغه عن غيره أنه صلاها، ولم يثق بذلك عمن ذكره، نعم جاء عنه الجزم بكونها محدثة من رواية سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن مجاهد عنه، وروى البخاري في أول
رواه البخاري.
(39) باب التطوع
?الفصل الأول?
1331-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال عند صلاة الفجر: ((يا بلال! حدثني
بأرجى عمل عملته

(8/175)


أبواب العمرة من وجه آخر عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبدالله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، وإذا ناس يصلون الضحى فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة، وروى سعيد بن منصور أن ابن عمر كان لا يصلي الضحى إلا أن يأتي قباء، وهذا يحتمل أن يريد به صلاة تحية المسجد في وقت الضحى لا صلاة الضحى، ويحتمل أن يكون ينويهما معا، كما قيل في ما روى عنه أنه قال: ما صليت الضحى منذ أسلمت إلا أن أطوف البيت، أي فأصلي في ذلك الوقت لا على نية صلاة الضحى بل على نية الطواف، ويحتمل أنه كان ينويهما معا. وفي الجملة ليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى؛ لأن نفيه محمول على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصة، كما تقدم نحوه في الكلام على حديث عائشة في الفصل الأول. قال عياض وغيره: إنما أنكر ابن عمر ملازمتها وإظهارها في المساجد وصلاتها جماعة، لا أنها مخالفة للسنة. وقيل: لم يبلغ ابن عمر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره بذلك. (رواه البخاري) الحديث من إفراد البخاري. قال الحافظ: وليس لمورق المذكور في البخاري عن ابن عمر سوى هذا الحديث- انتهى. وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص23).
(باب التطوع) أي سائر أنواع التطوع من الصلوات الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاة الوضوء وصلاة الاستخارة والتوبة والحاجة ومنها صلاة التسبيح، مأخوذ من الطوع والطاعة، وهو الانقياد، ويطلق التطوع على كل عبادة نافلة مما لم يفرض ولم يجب فعله على العبد، والمتطوع على كل متنفل بالخير أي الذي يأتي من الأعمال الصالحة زيادة على الفرائض والواجبات، وأكثر إطلاق التطوع في الصلاة على غير سنن الرواتب، وصيغة التفعل للمبالغة من حيث أن العبد يفعله من غير أن يكلفه الشارع بذلك، ويبالغ في الانقياد له بفعله.

(8/176)


1331- قوله: (لبلال) هو ابن رباح المؤذن. (عند صلاة الفجر) أي في الوقت الذي كان - صلى الله عليه وسلم - يقص فيه رؤياه ويعبر ما رآه غيره من أصحابه. قال الحافظ: في قوله عند صلاة الفجر إشارة إلى أن ذلك وقع المنام؛ لأن عادته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقص ما رآه ويعبر ما رآه أصحابه بعد صلاة الفجر، كما وردت بذلك الأحاديث. (حدثني) أي أخبرني (بأرجى عمل عملته) بلفظ أفعل التفضيل المبني من المفعول، وهو سماعي مثل أشغل وأعذر،
في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل ولا نهار،

(8/177)


أي أكثر مشغولية ومعذورية، والعمل ليس براج للثواب، وإنما هو مرجو الثواب، وأضيف إلى العمل؛ لأنه السبب الداعي إليه، والمعنى أخبرني بما أنت أرجى من نفسك به من أعمالك. قال التوربشتي: سأله عن أوثق أعماله وأحقها بالرجاء عنده وأضاف الرجاء إلى العمل؛ لأنه هو السبب الداعي إلى الرجاء، والمعنى أنبئني عن أعمالك بنا أنت أشد رجاء فيه أي يكون رجاءك بثوابه أكثر. (في الإسلام) زاد مسلم في روايته منفعة عندك. (فإني سمعت) أي الليلة، كما في مسلم، وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام، ويدل على ذلك أيضا أن الجنة لا يدخلها أحد أي من غير الأنبياء إلا بعد الموت وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلها يقظة كما وقع له في المعراج إلا أن بلالا لم يدخل. وقال التوربشتي: هذا شيء كوشف به - صلى الله عليه وسلم - من عالم الغيب في نومه أو يقظته. وقيل: هذا مبالغة في دخول الجنة، كأنه دخل في حال حياته، قلت: حديث بريدة الآتي في الفصل الثاني ظاهر في كونه رآه دخل الجنة، ويؤيد كونه وقع في المنام ما روى البخاري في أول مناقب عمر من حديث جابر مرفوعا: رأيتني دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقيل: هذا بلال ورأيت قصرا بفنائه جارية، فقيل: هذا لعمر- الحديث. وبعده من حديث أبي هريرة مرفوعا: بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب القصر، فقيل: هذا لعمر- الحديث. فعرف أن ذلك وقع في المنام ورؤيا الأنبياء وحي ولذلك جزم النبي - صلى الله عليه وسلم -له بذلك. (دف نعليك) بفتح الدال المهملة والفاء المشددة أي حسيسهما عند المشي فيهما. قال التوربشتي: أراد أخذ من دفيف الطائر إذا أراد النهوض قبل أن يستقل، وأصله ضربه بجناحيه، وفيه وهما جنباه فيسمع لهما حسيس. وقال الخليل: دف الطائر إذا حرك جناحيه، وهو قائم على رجليه. وقال الحميدي: الدف الحركة الخفيفة والسير اللين. والمراد هنا الصوت اللين الملائم الناشيء من السير، ووقع في رواية لمسلم

(8/178)


خشف نعليك بفتح الخاء وسكون الشين المعجمتين وتخفيف الفاء. قال أبوعبيدة وغيره: الخشف الحركة الخفيفة. (بين يدي في الجنة) ظرف للسماع، وتقدم بلال بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام في الجنة على عادته في اليقظة لا يستدعي أفضليته على العشرة المبشرة بالجنة فضلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل هو سبق خدمة، كما يسبق العبد سيده، وإنما أخبره عليه السلام بما رآه ليطيب قبله باستحقاقه الجنة ليداوم عليه ولإظهار رغبة السامعين. وفيه إشارة إلى بقاء بلال على ما هو عليه في حال حياته واستمراره على قرب منزلته وذلك منقبة عظيمة لبلال. (ما عملت عملا أرجى عندي أني) بفتح الهمزة. و"من مقدرة قبلها صلة لأفعل التفضيل، وثبتت في رواية مسلم وللكشمهيني أن بنون خفيفة بدل أني. (لم أتطهر طهورا) بضم الطاء زاد مسلم تاما أي لم أتوضأ وضوءا. (في ساعة من ليل ولا نهار) هذا لفظ مسلم، وفي رواية البخاري: في ساعة ليل أو نهار. قال
إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي)). متفق عليه.
1332-(2) وعن جابر، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور،

(8/179)


القسطلاني: بغير تنوين ساعة على الإضافة، كما في بعض الأصول المقابل على اليونينية، ورأيته بها كذلك، وفي بعضها ساعة بالتنوين، وجر ليل على البدل، وهو الذي ضبطه به الحافظ ابن حجر والعيني، ولم يتعرض لضبطه البرماوي، كالكرماني، ونكر ساعة لإفادة العموم، فيدل على جواز هذه الصلاة في الأوقات المكروهة، وتعقب بأن الأخذ بعموم هذا ليس بأولى من الأخذ بعموم النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة، وتعقبه ابن التين بأنه ليس فيه ما يقتضي الفورية فيحمل على تأخير الصلاة قليلا ليخرج وقت الكراهة، وأنه كان يؤخر الطهور إلى آخر وقت الكراهة لتقع صلاته في غير وقت الكراهة، ورد بأنه في حديث بريدة عند الترمذي وابن خزيمة في نحو هذه القصة: ما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها، ولأحمد من حديثه إلا توضأت وصليت ركعتين، فدل على أن يعقب الحدث بالوضوء والوضوء بالصلاة في أي وقت كان. (إلا صليت) زاد الإسماعيلي لربي. (بذلك الطهور) بضم الطاء. (ما كتب لي أن أصلي) أي ما قدر لي أعم من النوافل والفرائض، وكتب على صيغة المجهول. والجملة في موضع نصب، وأن أصلي في موضع رفع. قال ابن التين: إنما اعتقد بلال ذلك؛ لأنه علم من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة أفضل الأعمال، وأن عمل السر أفضل من عمل الجهر. قال الحافظ. والذي يظهر أن المراد بالأعمال التي سأله عن أرجاها الأعمال المتطوع بها وإلا فالمفروضة أفضل قطعا- انتهى. والحكمة في فضل الصلاة على هذا الوجه من وجهين: أحدهما أن الصلاة عقب الطهور أقرب إلى اليقين منها إذا تباعدت؛ لكثرة عوارض الحدث من حيث لا يشعر المكلف. ثانيهما: ظهور أثر الطهور باستعماله في استباحة الصلاة وإظهار آثار الأسباب مؤكد لها ومحقق. وفي الحديث فضيلة الصلاة عقب الوضوء، وإنها سنة، وسؤال الشيخ عن عمل تلميذه ليحضه عليه ويرغبه فيه إن كان حسنا وإلا فينهاه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب فضل الصلاة بعد الوضوء بالليل

(8/180)


والنهار قبل أبواب التطوع، ومسلم في الفضائل واللفظ للبخاري إلا قوله: في ساعة من ليل ولا نهار فإنه لمسلم، ولفظ البخاري: في ساعة ليل أو نهار، وسيأتي في حديث الترمذي أنه ذكر أمورا متعددة غير ذلك، فأما أن يكون ذكر الكل فحفظ بعض الرواة هذا وبعضهم ذاك أو تكون الواقعة مكررة فذكر هذا في مرة وذاك في أخرى.
1332- قوله: (يعلمنا الاستخارة) أي صلاتها ودعاءها، وهو استفعال من الخير ضد الشر، أو من الخيرة بكسر أوله وفتح ثانية بوزن العنبة، اسم من قولك: خار الله له، أي أعطاه ما هو خير له، واستخارا لله، طلب منه الخيرة، والمراد طلب خير الأمرين من الفعل والترك لمن احتاج إلى أحدهما. (في الأمور) أي التي نريد
كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة،

(8/181)


الإقدام عليها مما يعتني بشأنها مثل السفر والنكاح والعمارة ونحوها لا كأكل والشرب المعتاد. ولأبي ذر والأصيلي زيادة: كلها أي جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، فإن اللفظ يدل على العموم وأن المرء لا يحتقر أمرا لصغره وعدم الاهتمام به، فيترك الاستخارة فيه فرب أمر يستخف بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه. قال ابن أبي جمرة: هو عام أريد به الخصوص، فإن الواجب والمستحب لايستخار في فعلهما، والحرام والمكروه لايستخار في تركهما، فانحصرا الأمر في المباح وفي المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه. وقال الحافظ: وتدخل الاستخارة فيما عدا ذلك في الواجب والمستحب المخير، وفيما كان زمنه موسعا. (كما يعلمنا السورة من القرآن) أي يعتني بشأن تعليمنا الاستخارة لعظم نفعها وعمومه كما يعتني بتعليمنا السورة، ففيه دليل على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنه متأكد مرغب فيه. قال الطيبي: فيه إشارة إلى الاعتناء التام البالغ بهذا الدعاء وهذه الصلاة لجعلهما تلوين للفريضة والقرآن. (يقول) بيان لقوله: "يعلمنا الاستخارة". (إذا هم أحدكم بالأمر) أي أراده، كما في حديث ابن مسعود عند الطبراني والحاكم. والأمر يعم المباح، وما يكون عبادة إلا أن الاستخارة في العبادة بالنسبة إلى إيقاعها في وقت معين، وإلا فهي خير، ويستثنى ما يتعين إيقاعها في وقت معين، إذ لا يتصور فيه الترك. قال القسطلاني: أي قصد أمرا مما لا يعلم وجه الصواب فيه. أما ما هو معروف خيره كالعبادات وصنائع المعروف فلا، نعم قد يفعل ذلك لأجل وقتها المخصوص كالحج في هذه السنة لاحتمال عدو أو فتنة ونحوهما. (فليركع) أي ليصل في غير وقت الكراهة عند الأكثرين، وهو أمر ندب يدل عليه الأحاديث الدالة على عدم وجوب صلاة زائدة على الخمس من قوله: "هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع"، وغير ذلك. (ركعتين) بنية الاستخارة، وهما أقل ما يحصل به المقصود. وهل يجزيء في ذلك

(8/182)


إذا صلى أربعا بتسليمة؟ يتمل أن يقال يجزيء ذلك لحديث أبي أيوب الأنصاري المروي في صحيح ابن حبان وغيره: "ثم صل ما كتب الله لك"، فهو دال على أن الزيادة على الركعتين لا تضر. (من غير الفريضة) فيه دليل على أنه لا تحصل سنة صلاة الاستخارة بوقوع الدعاء بعد صلاة الفريضة لتقييد ذلك في النص بغير الفريضة. وأما السنن الراتبة وغيرها من النوافل المطلقة فقال العراقي: إن كان همه بالأمر قبل الشروع في الراتبة ونحوها، ثم صلى من غير نية الاستخارة، وبدا له بعد الصلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظاهر حصول ذلك- انتهى. والظاهر أنه لا يجزئ ذلك إلا إذا نوى تلك الصلاة بعينها، وصلاة الاستخارة معا. وأفاد النووي أنه يقرأ في الركعتين: ?الكافرون? و?الإخلاص? قال العراقي في شرح الترمذي: لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقهما بركعتي الفجر والركعتين بعد المغرب، قال: ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإخلاص والتوحيد، والمستخير محتاج لذلك، قال ومن المناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله: ?وربك يخلق ما يشاء
ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم،
فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم إن هذا
الأمر خير لي في ديني، ومعاشي،

(8/183)


ويختار?الآية [28: 68]، وقوله: ?وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة? الآية [33: 36]. (ثم ليقل) ندبا. وهذا ظاهر في تأخير الدعاء عن الصلاة، فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجزاء، كما يشير إليه رواية أبي داود بلفظ: وليقل. (اللهم إني أستخيرك) أي أطلب منك بيان ما هو خير لي. (بعلمك) أي أسألك أن ترشدني إلى الخير فيما أريد بسبب أنك عالما. (واستقدرك) أي أطلب منك أن تجعل لي قدرة عليه، أي تجعلني قادرا عليه إن كان فيه خير. ويحتمل أن يكون المعنى أطلب منك أن تقدره لي، والمراد بالتقدير التيسير. (بقدرتك) الباء فيه وفي قوله: "بعلمك" للتعليل، أي لأنك أعلم وأقدر، أو للاستعانة، كقوله: ?بسم الله مجريها ومرساها? [11: 41] أي أطلب منك الخير والقدرة مستعينا بعلمك وقدرتك، أو للاستعطاف كما في قوله: ?رب بما أنعمت علي? [28: 17] أي بحق علمك وقدرتك الشاملين. (وأسألك من فضلك العظيم) أي أسألك ذلك لأجل فضلك العظيم لا لاستحقاقي لذلك ولا لوجوبه عليك، إذ كل عطائك فضل، ليس لأحد عليك حق في نعمة ولا في شيء، فكل ما تهب فهو زيادة مبتدأة من عندك لم يقابلها منا عوض فيما مضى ولا يقابلها فيما يستقبل. (فإنك تقدر) بالقدرة الكاملة على كل شيء ممكن تعلقت به إرادتك. (ولا أقدر) على شيء إلا بقدرتك وحولك وقوتك. (وتعلم) بالعلم المحيط بجميع الأشياء خيرها وشرها كليها وجزئيها ممكنها وغيرها. (ولا أعلم) شيئا منها إلا بإعلامك. (وأنت علام الغيوب) بضم الغين أي أنت كثير العلم بجميع المغيبات؛ لأنك تعلم السر وأخفى فضلا عن الأمور الحاضرة والأشياء الظاهرة في الدنيا والآخرة. قال الحافظ في قوله: "فإنك تقدر"الخ. إشارة إلى أن العلم والقدرة لله وحده، وليس للعبد من ذلك إلا ما قدر الله له، وكأنه قال أنت يا رب تقدر قبل أن تخلق في القدرة، وعندما تخلقها فتى، وبعد ما تخلقها. (اللهم أن كنت تعلم) الترديد راجع إلى

(8/184)


عدم علم العبد بمتعلق علمه تعالى، إذ يستحيل أن يكون خيرا ولا يعلمه العليم الخبير، وهذا ظاهر. قال الكرماني: الشك في أن العلم متعلق بالخير أو الشر لا في أصل العلم. (إن هذا الأمر) زاد في رواية أبي داود. يسميه بعينه الذي يريد، وظاهرها أن ينطق به. ويحتمل أن يكتفي باستحضاره بقلبه عند الدعاء. وعلى الأول تكون التسمية في أثناء الدعاء عند ذكره بالكناية عنه في قوله: "إن هذا الأمر". (خير لي) أي أمر الذي أريده أصلح لي. (في ديني) أي فيما يتعلق بديني. (ومعاشي) أي حياتي. قال العيني: المعاش والمعيشة واحد يستعملان مصدرا
وعاقبة أمري ـ أو قال: في عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي
فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري ـ أو قال:
في عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه،

(8/185)


وأسماء، وفي المحكم: العيش الحياة عاش عيشا وعيشة ومعيشا ومعاشا، ثم قال المعيش والمعاش والعيشة ما يعاش به- انتهى. قال الحافظ: زاد أبوداود: ومعادي، وهو يؤيد أن المراد بالمعاش الحياة. ويحتمل أن يريد بالمعاش ما يعاش فيه، ولذلك وقع في حديث ابن مسعود، في بعض طرقه عند الطبراني في الأوسط: في ديني ودنياي، وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني: في دنياي وآخرتي. زاد ابن حبان في روايته: وديني. وفي حديث أبي سعيد عند ابن حبان وأبي يعلي: في ديني ومعيشتي- انتهى. (وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله) قال الحافظ: هو شك من الراوي، واقتصر في حديث أبي سعيد على عاقبة أمري وكذا في حديث ابن مسعود. وهو يؤيد أحد الاحتمالين في أن العاجل والآجل مذكوران بدل الألفاظ الثلاثة، أو بدل الأخيرين فقط. وعلى هذا فقول الكرماني: لا يكون الداعي جازما بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا إن دعا ثلاث مرات: يقول: مرة في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، ومرة في عاجل أمري وآجله، ومرة في ديني وعاجل أمري وآجله. قلت. (قائله الحافظ) ولم يقع ذلك أي الشك في حديث أبي أيوب وأبي هريرة أصلا- انتهى. وقال الطيبي: الظاهر أنه شك أي لا تخيير، كما توهم بعضهم في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في عاقبة أمري، أو قال عاجل أمري وآجله، وإليه ذهب القوم حيث قالوا: هي على أربعة أقسام: خير في دينه دون دنياه، وهو مقصود الأبدال، وخير في دنياه فقط، وهو حظ حقير ، وخير في العاجل دون الآجل، وبالعكس، وهو أولى، والجمع. (بين الأربعة) أفضل. ويحتمل أن يكون الشك في أنه عليه السلام قال: في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال بدل الألفاظ الثلاثة في عاجل أمري وآجله، ولفظ في المعادة في قوله: "في عاجل أمري" ربما يؤكد هذا. وعاجل الأمر يشمل الديني، والدنيوي، والآجل يشملهما، والعاقبة كذا في المرقاة. (فاقدره لي) بضم الدال وكسرها، أي اجعله مقدورا لي أي أدخله تحت

(8/186)


قدرتي. وقيل: اقض لي به، أو أنجزه لي وهيئه، أو قدره لي أي يسره، فهو مجاز عن التيسير، فلا ينافي كون التقدير أزليا، ويكون قوله: (ويسره لي) عطفا تفسيريا. (ثم بارك لي فيه) أي أدمه وضاعفه. (وإن كنت تعلم أن هذا الأمر) أي المذكور أو المضمر، فاللام للعهد. (شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري) أي معادي. قال السندي: ينبغي أن يجعل الواو ههنا بمعنى أو بخلاف قوله: "خير لي في كذا وكذا"، فإن هناك على بابها؛ لأن المطلوب حين تيسره أن تكون خيرا من جميع الوجوه. وأما حين الصرف فيكفي أن يكون شرا من بعض الوجوه- انتهى. (فاصرفه عني واصرفني عنه)
واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به، قال: ويسمى حاجته)).

(8/187)


فلا تعلق بالي بطلبه. وفي دعاء بعض العارفين: اللهم لا تتعب بدني في طلب ما لم تقدره لي، ولم يكتف بقوله اصرفه عني؛ لأنه قد يصرف الله عن المستخير ذلك الأمر، ولا يصرف قلبه عنه، بل يبقى متعلقا متطلبا متشوقا إلى حصوله، فلا يطيب له خاطره، فإذا صرف كل منهما عن الآخر كان ذلك أكمل، ولذا قال في آخره: (واقدر لي الخير) أي يسره علي واجعله مقدور الفعل. (حيث كان) أي الخير. وفي حديث أبي سعيد: أينما كان لا حول ولا قوة إلا بالله. (ثم أرضني به) بهمزة قطع أي اجعلني راضيا به؛ لأنه إذا قدر له الخير ولم يرض به، كان منكد العيش آثما بعدم رضاه بما قدره الله له مع كونه خيرا له. وفي رواية: ثم رضني به بالتشديد من الترضية، وهو جعل الشيء راضيا. وأرضيت ورضيت بالتشديد بمعنى. (قال: ويسمى حاجته) أي في أثناء الدعاء عند ذكرها بالكناية عنها في أوله: "إن كنت تعلم أن هذا الأمر". قال الطيبي: "يسمي حاجته" إما حال من فاعل "يقل" أي فليقل هذا مسميا حاجته، أو عطف على "ليقل" على التأويل؛ لأنه أي يسمي في معنى الأمر- انتهى. وفي الحديث دليل لأهل السنة أن الشر من تقدير الله على العبد؛ لأنه لو كان يقدر على اختراعه لقدر على صرفه ولم يحتج إلى طلب صرفه عنه. وفيه شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته وتعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. وفيه أن العبد لا يكون قادرا إلا مع الفعل لا قبله والله هو خالق العلم بالشيء للعبد وهمه به واقتداره عليه، فإنه يجب على العبد رد الأمور كلها إلى الله، والتوكل عليه، والتفويض إليه، والتبرئ من الحول والقوة إليه، وأن يسأل ربه وفيه أموره كلها. وفيه استحباب صلاة الاستخارة والدعاء المأثور عقيبها، وليس في ذلك خلاف. واختلف فيماذا يفعل المستخير بعد الاستخارة. فقيل: يفعل ما بدا له ويختار أي جانب شاء من الفعل والترك وإن لم ينشرح صدره لشيء منهما، فإن فيما يفعله يكون خيره ونفعه، فلا يوفق إلا

(8/188)


لجانب الخير، وهذا لأنه ليس في الحديث أن الله ينشئ في قلب المستخير بعد الاستخارة انشراحا لجانب أو ميلا إليه. كما أنه ليس فيه ذكر أن يرى المستخير رؤيا أو يسمع صوتا من هاتف أو يلقى في روعه شيء، بل ربما لا يجد المستخير في نفسه انشراحا بعد تكرار الاستخارة وهذا يقوي أن الأمر ليس موقوفا على الانشراح. وفي الجملة المذكور في الحديث أنما هو أمر للعبد بالدعاء بأن يصرف الله عنه الشر ويقدر له الخير أينما كان، وهذا اختاره ابن عبدالسلام حيث قال: يفعل المستخير ما اتفق، واستدل له بقوله في بعض طرق حديث ابن مسعود في آخره: ثم يعزم، وأول الحديث: إذا أراد أحدكم أمرا فليقل. وقال الشيخ كمال الدين الزملكاني: إذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمر فليفعل بعدها ما بدا له سواء انشرحت نفسه له أم لا، فإن فيه الخير وإن لم تنشرح له نفسه. وليس في الحديث اشتراط انشراح النفس. كذا في طبقات الشافعية (ج5 ص258). وقيل: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له حتى أنه يستحب له
رواه البخاري.

(8/189)


تكرار الصلاة والدعاء في الأمر الواحد إذا لم يظهر له وجه الصواب في الفعل أو الترك ما لم ينشرح صدره لما يفعل، واختاره النووي ومن وافقه، قال النووي في الأذكار (ص93): يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح به صدره، واستدل له بحديث أنس عند ابن السني (ص192): إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك، فإن الخير فيه. قال الحافظ: وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واه جدا- انتهى. وبسط العيني والشوكاني الكلام في بيان وجه ضعف الحديث وسقوطه، قال الشوكاني بعد ذكر كلام النووي: فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوى قبل الاستخارة، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأسا، وإلا فلا يكون مستخيرا لله، بل يكون مستخيرا لهواه، وقد يكون غير صادق في طلب الخيرة وفي التبرئ من العلم والقدرة وإثباتهما لله، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه- انتهى. قلت: والراجح عندي قول من ذهب إلى أنه يفعل المستخير بعد الاستخارة ما بدا له واتفق، فليس الأمر منوطا عندي على الانشراح أو الرؤيا؛ لأنه ليس في الحديث اشتراط انشراح النفس، ولا ذكر النوم بعد الاستخارة، وإطلاع ما هو خير له في رؤياه، والله أعلم. وارجع إلى زاد المعاد (ج1 ص286)، ومدارج السالكين (ج2 ص68). (رواه البخاري) في أبواب التطوع من الصلاة، وفي الدعوات، وفي التوحيد، وهو من أفراد البخاري. وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وصححه وأبوداود في أواخر الصلاة، والنسائي في النكاح، وابن ماجه في الصلاة، والبيهقي (ج3 ص52). والحديث مع كونه في صحيح البخاري وتصحيح الترمذي وابن حبان له، قد ضعفه أحمد بن حنبل، وقال: إن حديث عبدالرحمن بن أبي الموال يعني الذي أخرجه هؤلاء الجماعة من طريق منكر في الاستخارة، ليس يرويه غيره. وقال ابن عدي في الكامل: والذي أنكر عليه حديث الاستخارة، وقد رواه غير واحد من الصحابة كما رواه ابن أبي الموال- انتهى. قال

(8/190)


العراقي: كان ابن عدي أراد بذلك أن لحديثه هذا شاهدا من حديث غير واحد من الصحابة، فخرج بذلك أن يكون فردا مطلقا، وقد وثقه جمهور أهل العلم- انتهى. وقد جاء من رواية ابن مسعود عند الطبراني والحاكم، وعن أبي أيوب عند الطبراني وابن حبان والحاكم، وعن أبي سعيد عند أبي يعلى وابن حبان، وعن أبي هريرة عند ابن حبان، وعن ابن عباس وابن عمر عند الطبراني، وليس في شيء من هذه الأحاديث ذكر الصلاة سوى حديث جابر إلا أن لفظ أبي أيوب: أكتم الخطبة، وتوضأ فأحسن الوضوء ثم صل ما كتب الله لك- الحديث. فالتقييد بركعتين وبقوله: من غير الفريضة خاص بحديث جابر. وارجع للكلام في هذه الأحاديث إلى مجمع الزوائد (ج2 ص280، 281) والفتح والعيني والنيل.
?الفصل الثاني?
1333-(3) عن علي، قال: حدثني أبوبكر- وصدق أبوبكر- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من رجل يذنب ذنبا، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله، إلا غفر الله له، ثم قرأ: ?والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم?. رواه الترمذي، وابن ماجه،

(8/191)


1333- قوله: (وصدق أبوبكر) جملة معترضة بين بها علي رضي الله عنه جلالة أبي بكر رضي الله عنه، ومبالغة في الصدق حتى سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صديقا. (قال) أي أبوبكر. (ما من رجل) أي أو امرأة. و"من" زائدة لزيادة إفادة الاستغراق. (يذنب ذنبا) أي أي ذنب كان صغيرا أو كبيرا. (ثم يقوم) قال الطيبي: "ثم" للتراخي في الرتبة. قال القاري: والأظهر أنه للتراخي الزماني، يعني ولو تأخر القيام بالتوبة عن مباشرة المعصية؛ لأن تعقيب ليس بشرط، فالإتيان بـ"ثم" للرجاء. والمعنى ثم يستيقظ من نوم الغفلة، كقوله تعالى: ?أن تقوموا لله? [34: 46]. (فيتطهر) أي فيتوضأ، كما في رواية ابن السني. وفي رواية أبي داود: فيحسن الطهور. (ثم يصلي) أي ركعتين، كما في رواية ابن السني وابن حبان والبيهقي وأبي داود وابن ماجه. (ثم يستغفر الله) أي لذلك الذنب، كما في رواية ابن السني. والمراد بالاستغفار التوبة بالندامة والإقلاع والعزم على أن لا يعود إليه أبدا. وأن يتدارك الحقوق إن كانت هناك. و"ثم" في الموضعين لمجرد العطف التعقيبي. (ثم قرأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهادا وإعتضادا، أو قرأ أبوبكر تصديقا وتوفيقا. (والذين) مبتدأ خبره سيأتي ويحتمل وجهين آخرين. (إذا فعلوا فاحشة) أي ذنبا قبيحا كالزنا. (أو ظلموا أنفسهم) أي بما دونه كالقبلة واللمس. قال الطيبي: أي أي ذنب كان مما يؤاخذون به- انتهى. فيكون تعميما بعد تخصيص. (ذكروا الله) أي ذكروا عقابه، قاله الطيبي. وظاهر الحديث أن معناه صلوا، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالمعنى ذكروا الله بنوع من أنواع الذكر، قاله القاري. (فاستغفروا) أي طلبوا المغفرة مع وجود التوبة والندامة. (لذنوبهم) اللام معدية أو تعليلية. وفي الترمذي إلى آخر الآية بعد قوله ذكروا الله وتمامها: ?ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاءهم مغفرة من ربهم

(8/192)


وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العالمين? [3: 135: 136]. والحديث يدل على استحباب الصلاة عند التوبة من الذنب، وتسمى صلاة الاستغفار وصلاة التوبة. (رواه الترمذي) في الصلاة، وفي تفسير سورة آل عمران من طريق قتيبة عن أبي عوانة عن عثمان بن المغيرة عن علي بن ربيعة عن أسماء بن الحكم
إلا أن ابن ماجه لم يذكر الآية.
1334-(4) وعن حذيفة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر صلى)). رواه أبوداود.

(8/193)


الفزاري عن علي، وقال: حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عثمان بن المغيرة، وروى شعبة وغير واحد فرفعوه مثل أبي عوانة، ورواه سفيان الثوري ومسعر فأوقفاه ولم يرفعاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد روي عن مسعر هذا الحديث مرفوعا أيضا- انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وفيه أي في كلام الترمذي نظر فإنه جزم بأن الثوري رواه موقوفا وأن مسعرا رواه موقوفا ومرفوعا، ولكن الحديث رواه أيضا أحمد في مسنده (ج1 ص2). (وكذا ابن ماجه) عن وكيع عن مسعر وسفيان كلاهما عن عثمان بن المغيرة بهذا الإسناد مرفوعا. ورواية شعبة التي أشار إليها رواها عنه أبوداود الطيالسي في مسنده، وهو أول حديث فيه، . (ورواها أيضا ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص117). وهذا الحديث صحيح نسبه المنذري في الترغيب والسيوطي في الدر المنثور (ج2 ص77) لابن حبان والبيهقي، ونسبه السيوطي أيضا لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والدارقطني والبزار وغيرهم. وأطال الكلام عليه الحافظ ابن حجر في التهذيب في ترجمة أسماء بن الحكم، وقال: هذا الحديث جيد الإسناد، وذكر أن ابن حبان أخرجه في صحيحه- انتهى. ورواه أبوداود أيضا في سننه من طريق مسدد عن أبي عوانة عن عثمان بنحو ما رواه الترمذي. وكان صاحب المشكاة لم يقف على موضع إيراده في سننه، فترك ذكره في التخريج. (إلا أن ابن ماجه) وضع الظاهر موضع الضمير، وإلا فالظاهر أن يقول إلا أنه. (لم يذكر الآية) وكذا لم يذكرها أحمد في روايته. وعند ابن السني (ص117) وتلا هذه الآية: ?ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما? [4: 110].

(8/194)


1334- قوله: (إذا حزبه) بحاء مهملة وزاي فموحدة من باب نصر أي أصابه. (أمر) أي شديد. قال في النهاية: أي إذا نزل به أمر مهم أو أصابه غم. وفي بعض النسخ بالنون من الحزن أي أوقعه في الحزن (صلى) أي بادر إلى الصلاة امتثالا لقوله تعالى: ?واستعينوا بالصبر والصلاة? [2: 45] أي بالصبر على البلايا والالتجاء إلى الصلاة، وذلك؛ لأن الصلاة معينة على دفع النوائب. ومنه أخذ بعضهم ندب صلاة المصيبة، وهي ركعتان عقيبها. وكان ابن عباس يفعل ذلك، ويقول نفعل ما أمرنا الله به بقوله: ?واستعينوا بالصبر والصلاة? فينبغي لمن نزل به غم أن يشتغل بالصلاة، فإنه تعالى يفرجه عنه ببركة الصلاة. قال القاري: وهذه الصلاة ينبغي أن تسمى بصلاة الحاجات؛ لأنها غير مقيدة بكيفية من الكيفيات، ولا مختصة بوقت من الأوقات. (رواه أبوداود) في باب وقت قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: وذكر بعضهم أنه روي مرسلا- انتهى. وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص388) وإسناده صحيح أو حسن.
1335-(5) وعن بريدة، قال: ((أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بلالا، فقال: بما سبقتني إلى الجنة؟ ما
دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي. قال: يا رسول الله ! ما أذنت قط إلا صليت
ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عنده ورأيت أن لله علي ركعتين. فقال رسول
الله- صلى الله عليه وسلم -: بهما)).

(8/195)


1335- قوله: (أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ذات يوم. (فدعا بلالا) أي بعد صلاة الصبح كما مر. (بما) وفي المصابيح: بم بإسقاط الألف، وكذا وقع في الترمذي أي بأي شيء. (سبقتني إلى الجنة) قال التوربشتي نرى ذلك- والله أعلم- عبارة عن مسارعة بلال إلى العمل الموجب لتلك الفضيلة قبل ورود الأمر عليه، وقبل بلوغ الندب إليه، وذلك مثل قول القائل لعبده: تسبقني إلى العمل أي تعمل قبل ورود أمري عليك. ومن ذهب في معناه إلى ما يقتضيه ظاهر اللفظ فقد أحال فإن نبي الله- صلى الله عليه وسلم - جل قدرة أن يسبقه أحد من الأنبياء إلى الجنة فضلا عن بلال، وهو رجل من أمته، كذا قال. وقد قدمنا أن الواقعة واقعة منام، وأن حديث بريدة هذا ظاهر في كونه - صلى الله عليه وسلم - رأى بلالا دخل الجنة، وأن مشيه بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من عادته في اليقظة، فاتفق مثله في المنام. ولا يلزم من ذلك دخول بلال الجنة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه في مقام التابع والخادم، وكأنه أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى بقاء بلال على ما كان عليه في حال حياته واستمراره على قرب منزلته. (ما دخلت الجنة قط) يدل على دخوله - صلى الله عليه وسلم - إياها ورؤيته بلالا كذلك مرات. (إلا سمعت خشخشتك) بمعجمتين مكررتين، وهي حركة لها صوت كصوت السلاح خشخش السلاح أو الحلي خشخشة أي سمع له صوت عند اصطكاكه. (أمامي) أي قدامي. (ما أذنت قط إلا صليت ركعتين) أي قبل الإقامة يعني بين الأذان والإقامة. (وما أصابني حدث) بفتحتين. هو لغة الشيء الحادث نقل إلى ناقضات الوضوء. (إلا توضأت عنده) أي بعد حدوث ذلك الحدث. وفي الترمذي: عندها أي عند إصابة الحدث. (ورأيت) عطف على "توضأت". قال ابن الملك: أي ظننت. وقال ابن حجر: أي اعتقدت. وقال القاري: الأظهر أن يكون من الرأي أي اخترت. (أن لله علي ركعتين) أي شكرا لله تعالى على إزالة الأذية وتوفيق الطهارة.

(8/196)


قال الطيبي: كناية عن مواظبته عليهما. (بهما) أي بهما نلت ما نلت أو عليك بهما، قاله الطيبي. ثم الظاهر أن ضمير التثنية راجع إلى القريبين المذكورين، وهما دوام الطهارة وتمامها بأداء شكر الوضوء، فيوافق الحديث السابق أول الباب. ولا يبعد أن يرجع إلى الصلاة بين كل أذانين، والصلاة بعد كل طهارة، أو إلى الصلاة بين كل الأذانين ومجموع دوام الوضوء وشكره، قاله القاري. وفي الحديث استحباب إدامة الطهارة، ومناسبة المجازاة على ذلك بدخول الجنة؛ لأن من لازم دوام الطهارة أن يبيت المرء طاهرا، ومن بات طاهرا عرجت روحه، فسجدت
رواه الترمذي.
1336-(6) وعن عبدالله بن أبي أوفي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من كانت له حاجة إلى الله أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ فليحسن الوضوء ثم ليصل ركعتين، ثم ليثن على الله تعالى، وليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك،
تحت العرش، كما رواه البيهقي في الشعب من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، والعرش سقف الجنة. وظاهره أن هذا الثواب وقع بسبب ذلك العمل، ولا معارضة بينه وبين قوله- صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل أحدكم الجنة عمله؛ لأن أحد الأجوبة المشهورة بالجمع بينه وبين قوله تعالى: ?ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون? [16: 32] أن أصل الدخول إنما يقع برحمة الله، واقتسام الدرجات بحسب الأعمال، فيأتي مثله في هذا. وفيه أن الجنة موجودة الآن خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة. (رواه الترمذي) أي في مناقب عمر رضي الله عنه مطولا، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وذكره المصنف تبعا للبغوي مقتصرا على ما يناسب الباب، وهو إثبات تطوع تحية الوضوء، وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص354- 360) وابن خزيمة في صحيحه.

(8/197)


1336- قوله: (من كانت له حاجة) دينية أو دنيوية. (فليتوضأ) ظاهره أنه يجدد الوضوء إن كان على وضوء. ويحتمل أن المراد إن لم يكن له وضوء. (فليحسن الوضوء) باستعمال سننه وآدابه. وفي المستدرك: وليحسن وضوءه، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص164). (ثم ليصل ركعتين) وتسمى هذه الصلاة بصلاة الحاجة. (ثم ليثن) من الإثناء. (وليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -) الأصح الأفضل لفظ صلاة التشهد. (لا إله إلا الله الحليم) الذي لا يعجل بالعقوبة. (الكريم) الذي يعطي بغير استحقاق وبدون المنة. (رب العرش العظيم) اختلف في كون العظيم صفة للرب أو العرش، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: لا إله إلا الله رب العرش العظيم. نقل ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع العظيم. على أنه نعت للرب، والذي ثبت في رواية الجمهور الجر على أنه نعت للعرش. وكذلك قراءة الجمهور في قوله تعالى: ?رب العرش العظيم? [9: 129) و ?رب العرش الكريم? [23: 116] بالجر. والمعنى المراد في المقام أنه منزه عن العجز. فإن القادر على العرش العظيم. لا يعجز عن إعطاء مسؤل عبده المتوجه إلى ربه الكريم. (والحمد لله) وفي الترمذي وابن ماجه والمستدرك بدون العاطف، وهكذا في جامع الأصول. (موجبات رحمتك) بكسر الجيم أي أسبابها يعني أفعالا وخصالا أو كلمات تتسبب لرحمتك وتقتضيها بوعدك، فإنه لا يجوز التخلف فيه، وإلا فالحق سبحانه لا يجب عليه شيء. وقال الطيبي: جمع موجبة، وهي الكلمة
وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا
هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين)). رواه الترمذي وابن
ماجه وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

(8/198)


الموجبة لقائلها الجنة. (وعزائم مغفرتك) أي موجباتها جمع عزيمة، قاله السيوطي. وقال الطيبي: أي أعمالا وخصالا تتعزم وتتأكد بها مغفرتك. (والغنيمة من كل بر) بكسر الباء أي طاعة وعبادة، فإنهما غنيمة مأخوذة بغلبة دواعي عسكر الروح على جند النفس، فإن الحرب قائم بينهما على الدوام ولهذا يسمى الجهاد الأكبر؛ لأن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، قاله القاري. (والسلامة من كل إثم) وعند الحاكم: والعصمة من كل ذنب والسلامة من كل إثم، وأسقط قوله "غنيمة من كل بر". قال العراقي: فيه جواز سؤال العصمة من كل الذنوب، وقد أنكر بعضهم جواز ذلك إذ العصمة إنما هي للأنبياء والملائكة، قال: والجواب أنها في حق الأنبياء والملائكة واجبة، وفي حق غيرهم جائزة، وسؤال الجائز جائز إلا أن الأدب سؤال الحفظ في حقنا لا العصمة، وقد يكون هذا هو المراد هنا- انتهى. (لا تدع) بفتح الدال وسكون العين أي لا تترك. (إلا غفرته) أي إلا موصوفا بوصف الغفران، فالاستثناء فيه وفيما يليه مفرغ من أعم الأحوال. (ولا هما) أي غما. (فرجته) بالتشديد ويخفف أي أزلته وكشفته. (ولا حاجة هي لك رضا) أي مرضية لك. والحديث يدل على مشروعية الصلاة عند الحاجة أي حاجة كانت بشرط أن تكون مباحة. (رواه الترمذي وابن ماجه) كلاهما من رواية فائد بن عبدالرحمن بن أبي الورقاء، وزاد ابن ماجه بعد قوله "قضيتها" ثم يسأل الله من أمر الدنيا والآخرة ما شاء، فإنه يقدر. وأخرجه الحاكم في المستدرك (ج1 ص320) باختصاره، ثم قال: إنما أخرجته شاهدا، وفائد مستقيم الحديث. وتعقبه الذهبي بأنه متروك، فالحديث ضعيف. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص138): وأخرج ابن النجار في تاريخ بغداد عن غير فائد. قال ابن حجر (العسقلاني) في أمالية: والحديث له شاهد من حديث أنس، وسنده ضعيف. وأخرجه أيضا الأصبهاني من حديث أنس فذكر لفظه، قال: وأخرجه الطبراني، وفي إسناده أبومعمر عباد بن عبدالصمد ضعيف جدا،

(8/199)


وأخرج لهذا الحديث في مسند الفردوس طريقا أخرى من حديث أنس، وفي إسناده أبوهاشم، واسمه عبدالرحمن، وهو ضعيف، وأخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أبي الدرداء مختصرا قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين يتمهما أعطاه الله عزوجل ما سأل معجلا أو مؤخرا. قال الشوكاني: وذكرت ما قيل فيه أي في حديث ابن أبي أوفي الذي نحن بصدد شرحه بأطول من هذا في الفوائد المجموعة (ص16)، استدركت على من قال: إنه موضوع. والحاصل أن جميع طرق أحاديث هذه الصلاة لا تخلو عن ضعف إلا حديث أبي الدرداء، وبعده حديث ابن أبي أوفي.
(40) باب صلاة التسبيح
1337-(1) عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للعباس بن عبدالمطلب: ((يا عباس! يا عماه! ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟ ألا أفعل بك؟ عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك، غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه
(باب صلاة التسبيح) أي هذا بيانها وسميت بذلك لكثرة ما يقرأ فيها من التسبيحات.

(8/200)


1337- قوله: (يا عماه) بسكون الهاء إشارة إلى مزيد استحقاقه بالعطية الآتية، وهو منادى مضاف إلى ياء المتكلم قلبت ياءه الفاء، وألحقت بها هاء السكت كيا غلاماه. (ألا) الهمزة للاستفهام. (أعطيك) بضم همزة وكسر طاء من الإطاء أي عطية رفيعة. (ألا أمنحك) بفتح همزة ونون أي أعطيك منحة سنية، وأصل المنح أن يعطي الرجل الرجل شأة أو ناقة ليشرب لبنها ثم يردها إذا ذهب درها، هذا أصله ثم كثر استعماله حتى قيل في كل عطاء. (ألا أحبوك) بفتح همزة وسكون حاء مهملة وضم موحدة، من حباه كذا وبكذا إذا أعطاه والحباء العطية فهما تأكيد بعد تأكيد، وكذا أفعل بك فإنه بمعنى أعطيك أو أعلمك. (ألا أفعل بك) بالباء موافقا لما في أبي داود ووقع عند ابن ماجه باللام. (عشر خصال) منصوب تنازعت فيه الأفعال قبله. وقيل: بالرفع على تقدير هي. والمراد بعشر خصال الأنواع العشرة للذنوب المعدودة بقوله: أوله وآخره إلى قوله: سره وعلانيته، أي فهو على حذف المضاف أي ألا أعطيك مكفر عشرة أنواع ذنوبك، أو المراد التسبيحات، فإنهما فيما سوى القيام عشر عشر، وعلى هذا يراد الصلاة المشتملة على التسبيحات العشر بالنظر إلى غالب الأركان. وأما جملة: (إذا أنت فعلت ذلك) الخ فهي في محل النصب على أنها نعت للمضاف المقدر على الأول، أو لنفس عشر خصال على الثاني، وعلى الثاني لا يكون إلا نعتا مخصصا باعتبار أن المكفر يحتمل أن يكون علمه مكفرا، فبين بالنعت أن يكون عمله مكفرا لا علمه. (غفر الله لك ذنبك) أي ذنوبك بقرينة قوله أوله الخ على وجه الأبدال أو على وجه التفسير. (أوله وآخره) بالنصب قال التوربشتي: أي مبدأه ومنتهاه. وذلك أن من الذنب ما لا يواقعه الإنسان دفعة واحدة، وإنما يتأتى منه شيئا فشيئا، ويحتمل أن يكون معناه ما تقدم من ذنبه وما تأخر. (وحديثه) أي جديده. (وخطأه) بفتحتين وهمزة. قيل: يشكل بأن الخطأ لا إثم فيه لقوله عليه الصلاة والسلام: إن الله تجاوز عن أمتي

(8/201)


الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، فكيف يجعل من الذنب؟ وأجيب بأن المراد بالذنب ما فيه نقص وإن لم يكن فيه إثم. ويؤيده قوله تعالى: ?ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا? [2: 286] ويحتمل أن يراد مغفرة ما يترتب على الخطأ من نحو الإتلاف من ثبوت بدلها في
وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته: أن تصلي أربع ركعات، تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم. قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، خمس عشرة مرة،

(8/202)


الذمة ومعنى المغفرة حينئذ إرضاء الخصوم وفك النفس عن مقامها الكريم، المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: نفس المؤمن مرهونة حتى يقضي عنه دينه ، كذا في المرقاة (وعمده) بفتح أوله وسكون ثانيه ضد الخطأ (صغيره وكبيره) قيل: المراد بالكبير ما هو من أفراد الصغائر، فإن الصغائر متفاوتة بعضها أكبر من بعض، والكبائر لا تغفر إلا بالتوبة. (سره وعلانيته) بفتح الياء المخففة والضمير في هذه كلها عائد إلى قوله: "ذنبك" فإن قلت أوله وآخره يندرج تحته ما يليه، وكذا باقيه فما الحاجة إلى تعدد أنواع الذنوب؟ قلت ذكره قطعا لوهم أن ذلك الأول والآخر ربما يكون عمدا أو خطأ. وعلى هذا في أقرانه وأيضا في التنصيص على الأقسام حث للمخاطب على المحثوث عليه بأبلغ الوجوه، ذكره القاري نقلا عن الأزهار. وسقط من المشكاة كالمصابيح هنا لفظ "عشر خصال وهو موجود في الأصول. (أن تصلي) خبر مبتدأ محذوف، والمقدر عائد إلى ذلك أي هو يعني المأمور به أن تصلي. وقيل: التقدير هي، وهي راجعة إلى الخصال العشر. وأما على ما في الأصول من وجود لفظ عشر خصال قبل قوله: أن تصلي" فيقال إن قوله: "عشر خصال" على الأول. (أي على حذف المضاف، وهو المكفر من قوله عشر خصال في الموضع الأول) بالرفع بتقدير مبتدأ أي هي أي أنواع الذنوب عشر خصال أو بالنصب على أنه بدل من مجموع أوله وآخره الخ، وعلى الثاني. (أي على كون المراد من الخصال العشر الصلاة المشتملة على التسبيحات العشر) مبتدأ وما بعده خبره، أو خبر مقدم وما بعده مبتدأ لئلا يلزم تنكير المبتدأ مع تعريف الخبر. (أربع ركعات) قيل: أي بتسليمة واحدة على ما هو الظاهر من الإطلاق ليلا كان أو نهارا. وقيل: يصلي في النهار بتسليمة، وفي الليل بتسليمتين. وقيل: يصلي مرة بتسليمة وأخرى بتسليمتين. واعلم أن الأولى أن يصلي صلاة التسبيح بعد زوال الشمس قبل صلاة الظهر لما روى أبوداود في سننه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص

(8/203)


مرفوعا: إذ زال النهار فقم فصل أربع ركعات- الحديث. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. (وسورة) قيل يقرأ فيها تارة بـ?الزلزلة? و ?العاديات? و ?الفتح? و(الإخلاص)، وتارة بـ?ألهاكم التكاثر? و?العصر? و ?الكافرون? و (الإخلاص) وقيل: الأفضل أن يقرأ أربعا من المسبحات. ?الحديد? و?الحشر? و?الصف? و?التغابن? لمناسبة بينها وبين كل الصلاة، لكن لم أقف على ما يدل على شيء من ذلك من سنة ولا أثر. (في أول ركعة) أي قبل الركوع. (خمس عشرة مرة) فيه أن التسبيح بعد القراءة، وبه أخذ أكثر الأئمة. وأما ما كان يفعله عبدالله بن المبارك من جعله الخمس عشرة قبل
ثم تركع، فتقولها وأنت راكع عشرا، ثم ترفع رأسك من الركوع، فتقولها عشرا، ثم تهوي ساجدا، فتقولها وأنت ساجد عشرا، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا، ثم تسجد فتقولها عشرا، ثم ترفع رأسك فتقولها عشرا، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل، ففي كل جمة مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة)) رواه أبوداود، وابن ماجه، والبيهقي في الدعوات الكبير.

(8/204)


القراءة وبعد القراءة عشرا، ولا يسبح في الاعتدال فهو مخالف لهذا الحديث. قال المنذري: إن جمهور الرواة على الصفة المذكورة في حديث ابن عباس وأبي رافع والعمل بها أولى، إذ لا يصح رفع غيرها-انتهى. قال الشيخ: الأمر كما قال المنذري. (ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشرا) أي بعد تسبيح الركوع كذا في شرح السنة، وقد روى الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: يبدأ في الركوع بسبحان ربي العظيم، وفي السجود بسبحان ربي الأعلى ثلاثا، ثم يسبح التسبيحات. وقيل: له إن سها فيها أ يسبح في سجدتي السهو عشرا عشرا؟ قال لا، إنما هي ثلاثمائة تسبيحة. (ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرا) أي بعد التسميع والتحميد. (ثم تهوي) أي تنخفض وتنحط حال كونك. (ساجدا) أي مريدا للسجود من هوى بالفتح يهوي بالكسر الشيء إذا سقط من علو إلى سفل. (فتقولها وأنت ساجد عشرا) أي بعد تسبيح السجود. (ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا) أي بعد رب اغفرلي ونحوه. (ثم تسجد) ثانيا. (ثم ترفع رأسك) أي من السجدة الثانية. (فتقولها عشرا) أي قبل أن تقوم على ما في حديث أبي رافع عند الترمذي وابن ماجه. ففيه ثبوت جلسة الاستراحة في صلاة التسبيح، وهو المختار عند الشافعية وأهل الحديث خلافا للحنفية. (فذلك) أي مجموع ما ذكر من التسبيحات. (خمس وسبعون) أي مرة، كما في رواية البيهقي. (في كل ركعة) أي ثابتة فيها. (تفعل ذلك) أي ما ذكر في هذه الركعة. ( في أربع ركعات) أي في مجموعها بلا مخالفة بين الأولى والثلاث فتصير ثلاثمائة تسبيحة. (إن استطعت) استئناف أي إن قدرت. (أن تصليها) أي هذه الصلاة. (فإن لم تفعل) أي في كل يوم لعدم القدرة أو مع وجودها لعائق. (ففي كل جمعة) أي في كل أسبوع. (مرة) وفي التعبير بها إشارة إلى أنها أفضل أيام الأسبوع. (ففي عمرك) بضم الميم وتسكن. (رواه أبوداود وابن ماجه والبيهقي في الدعوات الكبير) أي عن ابن عباس، وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في

(8/205)


صحيحيهما، والحاكم في المستدرك (ج1:ص318-320) والبيهقي في السنن الكبرى (ج3:ص51-52)، والبخاري في جزء القراءة كلهم من طريق عكرمة عن ابن عباس، وإسناده حسن. وفي الباب عن جماعة من الصحابة: الفضل بن عباس، وأبيه العباس، وعبدالله بن عمرو، وعبدالله بن عمر، وعلي بن أبي طالب، وأخيه جعفر، وابنه عبدالله بن
جعفر، وأبي رافع، وأم سلمة، والأنصاري غير مسمى. وقد قيل: إنه جابر بن عبدالله. وقد ساق الحافظ في أمالي الأذكار تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة جميعا. ونقلها السيوطي في تعقباته على ابن الجوزي (ص16، 17) واللآتي المصنوعة (ج2:ص20-24) من أحب الوقوف عليها رجع إلى هذين الكتابين. واعلم أنه اختلف كلام العلماء في حديث صلاة التسبيح، فضعفه جماعة، منهم العقيلي وابن العربي والنووي في شرح المهذب، وابن تيمية وابن عبدالهادي والمزي والحافظ في التلخيص، وبالغ ابن الجوزي فأورده في الموضوعات، وقال: فيه موسى بن عبدالعزيز مجهول. وصححه أو حسنه جماعة منهم أبوبكر الآجري وأبومحمد عبدالرحيم المصري والحافظ أبوالحسن المقدسي وأبوداود صاحب السنن ومسلم صاحب الصحيح والحافظ صلاح الدين العلائي والخطيب وابن الصلاح والسبكي وسراج الدين البلقيني وابن مندة والحاكم والمنذري وأبوموسى المديني والزركشي والنووي في تهذيب الأسماء واللغات، وأبوسعد السمعاني والحافظ في الخصال المكفرة، وفي أمالي الأذكار، وأبومنصور الديلمي والبيهقي والدارقطني وآخرون. والحق عندي أن حديث ابن عباس ليس بضعيف فضلا عن أن يكون موضوعا أو كذبا، بل هو حسن لا شك في ذلك عندي، فسنده لا ينحط عن درجة الحسن، بل لا يبعد أن يقال إنه صحيح لغيره لما ورد من شواهده، وبعضها لا بأس بإسناده، كما ستعرف. وقد أكثر الحفاظ من الرد على ابن الجوزي بذكره حديث ابن عباس في الموضوع. وأما ما قال الحافظ في التلخيص: "والحق أن طرقه كلها ضعيفة وإن كان حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن إلا أنه شاذ

(8/206)


لشدة الفردية فيه وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر، ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات. وموسى بن عبدالعزيز وإن كان صادقا صالحا، فلا يحتمل منه هذا التفرد، فجوابه ظاهر من كلامه في الخصال المكفرة حيث قال: رجال إسناد حديث ابن عباس لا بأس بهم، عكرمة احتج به البخاري والحكم بن أبان صدوق، وموسى بن عبدالعزيز قال ابن معين: لا أرى فيه بأسا. وقال النسائي نحو ذلك. وقال ابن المديني: فهذا الإسناد من شرط الحسن، فإن له شواهد تقويه، وقد أساء ابن الجوزي بذكره في الموضوعات. وقوله: إن موسى مجهول، لم يصب فيه؛ لأن من يوثقه ابن معين والنسائي فلا يضره أن يجهل حاله من جاء بعدهما. وشاهده ما رواه الدارقطني من حديث العباس والترمذي وابن ماجه من حديث أبي رافع. ورواه أبوداود من حديث ابن عمرو بإسناد لا بأس به. ورواه الحاكم من طريق ابن عمرو له طرق أخرى-انتهى. وقال في أمالي الأذكار بعد ذكر من روى حديث صلاة التسبيح من الصحابة: أما حديث ابن عباس فأخرجه أبوداود وابن ماجه والحسن بن علي المعمري في كتاب اليوم والليلة عن عبدالرحمن بن بشر بن الحكم عن موسى بن عبدالعزيز عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، وهذا إسناد حسن، وقال بعد بسط الكلام في سند حديث الأنصاري الذي لم يسم عند أبي داود: فسند الحديث
1338- (2) وروى الترمذي عن أبي رافع نحوه.
1339- (3) وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم
القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح،

(8/207)


لا ينحط عن درجة الحسن، فكيف إذا ضم إلى رواية أبي الجوزاء عن عبدالله بن عمرو التي أخرجها أبوداود، وقد حسنها المنذري. ثم ذكر جماعة ممن صحح حديث ابن عباس أو حسنه، ومن شاء الإطلاع على تمام كلامه فليرجع إلى اللآلي المصنوعة. وأما مخالفة هيئة صلاة التسبيح لهيئة باقي الصلوات فلا يدل على ضعف الحديث وشذوذه بعد ما صح وثبت بطرق قوية، كذا أفاد شيخنا في شرح الترمذي.
1338- قوله: (وروى الترمذي) وكذا ابن ماجه والدارقطني. (عن أبي رافع نحوه) قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أبي رافع. قال السيوطي في قوت المغتذي: بالغ ابن الجوزي، فأورد هذا الحديث في الموضوعات، وأعله بموسى بن عبيدة الربذي، وليس كما قال، فإن الحديث وإن كان ضعيفا، لم ينته إلى درجة الوضع. وموسى ضعفوه، وقال فيه ابن سعد: ثقة وليس بحجة. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق ضعيف الحديث جدا. وشيخه سعيد بن أبي سعيد له عند المصنف أي الترمذي إلا هذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الذهبي في الميزان: ما روى عنه إلا موسى بن عبيدة-انتهى ما في قوت المغتذي. ونقل السيوطي في التعقبات عن الحافظ أنه قال: وقول ابن الجوزي: إن موسى بن عبيدة علة الحديث، مردود، فإنه ليس بكذاب مع ماله من الشواهد فذكرها.

(8/208)


1339- قوله: (إن أول ما يحاسب به العبد) بالرفع على نيابة الفاعل. (يوم القيامة من عمله صلاته) أي المفروضة. قال العراقي في شرح الترمذي: لا تعارض بينه وبين الحديث الصحيح إن أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء، فحديث الباب محمول على حق الله تعالى، وحديث الصحيح محمول على حقوق الآدميين فيما بينهم. فإن قيل: فأينما يقدم محاسبة العباد على حق الله تعالى، أو محاسبتهم على حقوقهم؟ فالجواب أن هذا أمر توقيفي، وظواهر الأحاديث دالة على أن الذي يقع أولا المحاسبة على حقوق الله تعالى قبل حقوق العباد-انتهى. وقيل: حديث الباب من ترك العبادات، وحديث الصحيح من فعل السيئات. وقيل: المحاسبة غير القضاء، فيكون المحاسبة أولا في الصلاة ويكون القضاء أولا في الدماء. وقيل: حديث الباب مضطرب الإسناد، كما يظهر من كلام الحافظ في ترجمة أنس بن حكيم الضبي من التهذيب، فلا يقاوم حديث الصحيح. (فإن صلحت) بضم اللام وفتحها. قال ابن الملك: صلاحها بأدائها صحيحة-انتهى. أو بوقوعها مقبولة. (فقد أفلح وأنجح) الفلاح الفوز
وإن فسدت وقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضة شيء، قال الرب تبارك وتعالى: أنظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك)). وفي رواية:

(8/209)


والظفر والإنجاح بتقديم الجيم على الحاء، يقال: أنجح فلان إذا أصاب مطلوبه. قال القاري: "فقد أفلح" أي فاز بمقصوده، "وأنجح" أي ظفر بمطلوبه، فيكون فيه تأكيدا وفاز بمعنى خلص من العقاب، وأنجح أي حصل له الثواب. (وإن فسدت) بأن لم تود أو أديت غير صحيحة أو غير مقبولة. (فقد خاب) بحرمان المثوبة. (وخسر) بوقوع العقوبة. وقيل: معنى "خاب" ندم وخسر أي صار محروما من الفوز والخلاص قبل العذاب. (فإن انتقص) بمعنى نقص اللازم. (من فريضته شيء) أي من الفرائض وفي بعض نسخ الترمذي: شيئا وفعلا نقص وانتقص بمعنى، ويستعملان لازمين ومتعديين. (انظروا) يا ملائكتي. (هل لعبدي من تطوع) أي في صحيفته سنة أو نافلة من صلاة على ما هو ظاهر من السياق قبل الفرض أو بعده أو مطلقا. (فيكمل) بالتشديد ويخفف على بناء الفاعل أو المفعول وهو الأظهر، وبالنصب، ويرفع على الاستئناف. (بها) قال ابن الملك: أي بالتطوع، وتأنيث الضمير باعتبار النافلة. قال الطيبي: الظاهر نصب "فيكمل" على أنه من كلام الله تعالى جوابا للاستفهام. ويؤيده رواية أحمد: فكملوا بها فريضته، وإنما أنث ضمير التطوع في "بها" نظرا إلى الصلاة. (ما انتقص من الفريضة) ضمير "انتقص" راجع إلى الموصول على أنه لازم، أو إلى العبد، فيكون متعديا أي ما نقصه العبد من الفريضة. وظاهر الحديث أن من فاتته الصلاة المفروضة، وصلى تطوعا يحسب عنه التطوع موضع الفريضة. وقيل: بل ما نقص من خشوع الفريضة ورواتها يجبر بالتطوع. ورد بأن قوله: "ثم يكون سائر عمله على ذلك" لا يناسبه، إذ ليس في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما تكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك في الصلاة، وفضل الله أوسع. قال العراقي في شرح الترمذي: يحتمل أن يراد به ما انتقصه من السنن والهيئات المشروعية فيها من الخشوع والأذكار والأدعية، وإنه يحصل له ثواب ذلك في الفريضة وإن لم يفعله فيها، وإنما فعله في التطوع. ويحتمل أن يراد به ما انتقص أيضا من

(8/210)


فروضها وشروطها. ويحتمل أن يراد ما ترك من الفرائض رأسا فلم يصله، فيعوض عنه من التطوع، والله تعالى يقبل من التطوعات الصحيحة عوضا عن الصلوات المفروضة-انتهى. وقال ابن العربي: الأظهر عندي أنه يكمل بفضل التطوع ما نقص من فرض الصلاة وإعدادها؛ لقوله ثم الزكاة كذلك وسائر الأعمال، وليس في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما يكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك الصلاة، وفضل الله أوسع، وكرمه أعم وأتم. (ثم يكون سائر عمله) من الصوم والزكاة وغيرهما. (على ذلك) أي إن انتقص فريضة من سائر الأعمال المفروضة تكمل بالتطوع. (وفي رواية) ظاهره أن الألفاظ الآتية في طريق من طرق حديث أبي هريرة، وليس كذلك، فإن هذه
ثم الزكاة مثل ذلك، ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك)) رواه أبوداود.
1340- (4) ورواه أحمد عن رجل.

(8/211)


الألفاظ إنما هي في حديث تميم الداري عند أبي داود (ثم الزكاة مثل ذلك) أي مثل ما في الصلاة. (ثم تؤخذ الأعمال) أي المفروضة، ففي حديث أبي هريرة عند ابن ماجه: ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك. (على حسب ذلك) أي على حسب ذلك المثال المذكور في الصلاة من تكميل الفريضة بالتطوع. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص290، 425) والترمذي وابن ماجه والحاكم (ج1 ص262) كلهم من حديث أبي هريرة. واللفظ المذكور للترمذي لا لأبي داود إلا قوله: "ثم الزكاة" الخ فإنه من حديث تميم الداري عند أبي داود. ففي قول المصنف: رواه أبوداود، تسامح ظاهر، إلا أن يقال إنه أراد أصل الحديث لا السياق المذكور بعينه. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري، وحسنه الترمذي وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وما ذكر من الاضطراب في سنده فيمكن أن يدفع بما قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: لعل الحسن البصري سمعه من ناس متعددين: حريث بن قتيبة (عند الترمذي) وأنس بن حكيم (عند أحمد وأبي داود والحاكم) ورجل من بني سليط (عند أحمد (ج4 ص103) وأبي داود وابن ماجه والحاكم) أو يكون هذا الرجل المبهم أحدهما، وليس هذا اضطرابا فيه يوجب ضعفه، بل هي طرق يؤيد بعضها بعضا. ورواه أحمد. (وابن ماجه أيضا) بإسناد آخر (ج2 ص290) عن يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين الواسطي عن علي بن زيد بن جدعان عن أنس بن حكيم الضبي قال: قال لي أبوهريرة، فذكر الحديث بتمامه، وقال: وهذا إسناد صحيح، وعلى زيد بن جدعان ثقة- انتهى. قلت: علي بن زيد هذا ضعفه الأكثرون، ولعله لسوء حفظه واختلاطه، قيل: وكان يتشيع. ووثقه يعقوب بن شيبة. وقال العجلي: كان يتشيع لا بأس به. وقال الساجي: كان من أهل الصدق. ويحتمل لرواية الجلة عنه، وليس يجري مجرى من أجمع على ثبته. وقال الترمذي: صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره، كذا في التهذيب، وحديث تميم الداري أخرجه أحمد (ج4 ص103) وأبوداود وابن

(8/212)


ماجه والحاكم (ج1 ص262، 263).
1340- قوله: (ورواه أحمد عن رجل) (ج4 ص103) قال: حدثنا الحسن بن موسى قال: حدثنا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن يحيى بن يعمر عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أول ما يحاسب به العبد الخ. وأخرجه أيضا الحاكم (ج1 ص263) من طريق الربيع بن يحيى عن حماد بن سلمة، وذكر الاختلاف فيه على حماد بن سلمة، وأشار إلى تقوية رواية حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن زرارة بن أوفي عن تميم الداري.
1341-(5) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من الركعتين يصليهما، وإن البر ليذر على رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه، يعني القرآن)). رواه أحمد والترمذي.

(8/213)


1341- قوله: (ما أذن الله) أي ما استمع، في القاموس: أذن له وإليه كفرح استمع معجبا أو عام. والمراد هنا الإقبال من الله بالرأفة والرحمة على العبد. وذلك أن العبد إذا كان في الصلاة، وقد فرغ من الشواغل متوجها إلى مولاه، مناجيا بقلبه ولسانه، فالله سبحانه أيضا يقبل عليه بلطفه وإحسانه إقبالا لا يقبل في غيره من العبادات. ولعله ذكر الاستماع، وإن كانت الصلاة من جملة الأفعال لكونها مشتملة على الكلام من القرآن والتسبيحات والتكبيرات. (لعبد في شيء) أي في شيء من العبادات. (أفضل من الركعتين) في مسند الإمام أحمد والجامع للترمذي والجامع الصغير للسيوطي والترغيب للمنذري من ركعتين. (يصليهما) يعني أفضل العبادات الصلاة، كما ورد في الصحيح: الصلاة خير موضوع، أي خير من كل ما وضعه الله لعباده ليتقربوا إليه، قاله القاري. (وإن البر) بكسر الباء بمعنى الخير والإحسان. (ليذر) بالذال المعجمة والراء المشددة على بناء المجهول، أي ينثر ويفرق من قولهم: ذررت الحب والملح أي فرقته. (على رأس العبد) أي ينزل الرحمة والثواب هو أثر البر على المصلي. (ما دام في صلاته) أي مدة دوام كونه مصليا. (وما تقرب العباد الله بمثل ما خرج منه) أي بأفضل من كلامه. قال في مجمع البحار: أي ما ظهر من الله ونزل على نبيه. (فضمير "منه" راجع إلى الله، و"خرج" بمعنى ظهر). وقيل: ما خرج من العبد بوجود على لسانه محفوظا في صدره، مكتوبا بيده. وقيل: ما ظهر من شرائعه وكلامه، أو خرج من كتابة المبين. (وهو اللوح المحفوظ). و"ما" استفهامية للإنكار. ويجوز كونه نافية، وهو أقرب أي ما تقرب بشيء مثل- انتهى ما في المجمع. (يعني القرآن) هذا تفسير من بعض الرواة لقوله: "ما خرج منه" وهو أبوالنضر هاشم بن القاسم الليثي شيخ أحمد وشيخ شيخ الترمذي. قال شيخنا: وهذا تفسير أولى عندي، يعني ضمير "منه" يرجع إلى الله. والمراد بما خرج منه ما أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه

(8/214)


وسلم - وهو القرآن. قال الطيبي: أطلق المصنف هذا التفسير، ولم يقيده بما يفهم منه أن المفسر من هو. والحديث نقله المؤلف من كتاب الترمذي. وفي روايته قال أبوالنضر يعني القرآن. ومثل لا يتسامح فيه أهل الحديث، فإنه يوهم أن التفسير من فعل الصحابي، فيجعل متن الحديث- انتهى. قلت: أطلق صاحب المشكاة هذا التفسير تبعا للبغوي في المصابيح. والحديث رواه أحمد، ولم يذكر في روايته ما يفهم منه أن المفسر من هو، ولعل المؤلف نقله من مسند الإمام أحمد، فهو معذور في الإطلاق وعدم بيان من فسره بذلك. (رواه أحمد) (ج5 ص268) عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن بكر بن خنيس عن ليث بن أبي سليم عن زيد بن أرطاة عن أبي أمامة. (والترمذي) في فضائل القرآن عن أحمد بن منيع عن
(41) باب صلاة السفر
أبي النضر هاشم بن القاسم، قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وبكر بن خنيس قد تكلم فيه ابن المبارك، وتركه في آخر أمره- انتهى. وقال الحافظ في التقريب في ترجمة بكر بن خنيس: إنه عابد صدوق له أغلاط أفرط فيه ابن حبان- انتهى. واختلف فيه قول ابن معين، فقال مرة: ليس بشيء، وقال مرة: ضعيف، وقال مرة: شيخ صالح لا بأس به. وقال أبوحاتم: صالح غزاء ليس بالقوى. وقال العجلي: كوفي ثقة. وضعفه غير واحد، كما في التهذيب. وليث بن أبي سليم صدوق اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه فترك، قاله في التقريب. فالحديث لا يخلو عن ضعف.

(8/215)


(باب صلاة السفر) قال في حجة الله (ج2 ص17): لما كان من تمام التشريع أن يبين لهم الرخص عند الأعذار ليأتي المكلفون من الطاعة بما يستطيعون، ويكون قدر ذلك مفوضا إلى الشارع ليراعي فيه التوسط لا إليهم فيفرطوا أو يفرطوا، اعتنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضبط الرخص والأعذار. ومن أصول الرخص أن ينظر إلى أصل الطاعة حسبما تأمر به حكمة البر، فيعض عليها بالنواجذ على كل حال، وينظر إلى حدود وضوابط شرعها الشارع ليتيسر لهم الأخذ بالبر، فيتصرف فيها إسقاطا وإبدالا حسبما تؤدي إليه الضرورة، فمن الأعذار السفر، وفيه من الحرج ما لا يحتاج إلى بيان، فشرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له رخصا: منها القصر، ومنها الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ومنها ترك السنن، ومنها الصلاة على الراحلة حيث توجهت به يومىء إيماء، وذلك في النوافل وسنة الفجر والوتر لا الفرائض- انتهى مختصرا. والسفر لغة: قطع المسافة، وليس كل قطع تتغير به الأحكام من جواز الإفطار وقصر الرباعية وغيرهما، فاختلف العلماء فيه شرعا، كما ستعرف. قال ابن رشد في البداية (ج1 ص130): السفر له تأثير في القصر باتفاق، فقد اتفق العلماء على جواز قصر الصلاة للمسافر إلا قول شاذ أن القصر لا يجوز إلا للخائف لقوله تعالى: ?إن خفتم? الآية [4: 101]. واختلفوا من ذلك في خمسة مواضع: أحدها في حكم القصر. والثاني في المسافة التي يجب فيها القصر. والثالث في السفر الذي يجب فيه القصر. والرابع في الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالتقصير. والخامس في مقدار الزمان الذي يجوز للمسافر فيه إذا قام في موضع أن يقصر الصلاة. فأما حكم القصر، فاختلفوا فيه على أقوال: فمنهم من رأى أن القصر هو فرض المسافر المتعين عليه. ومنهم من رأى أن القصر سنة. ومنهم من رأى أنه رخصة، والإتمام أفضل، بالقول الأول قال أبوحنيفة وأصحابه والكوفيون بأسرهم أعني أنه فرض متعين. وبالثاني أعنى سنة قال

(8/216)


مالك في أشهر الروايات عنه. وبالثالث أعنى رخصة. قال الشافعي في أشهر الروايات عنه، وهو المنصور عند أصحابه- انتهى باختصار يسير. ويكون القصر أولى وأفضل. قال أحمد. قال ابن قدامة: المشهور عن أحمد أن المسافر على الاختيار إن
شاء صلى ركعتين، وإن شاء أتم، والقصر عنده أفضل وأعجب- انتهى. والراجح عندي: أن لا يتم المسافر الصلاة، بل يلازم القصر كما لازمه - صلى الله عليه وسلم -، فالقصر في السفر كالعزيمة عندي، لكن لو خالف ذلك وأتم الصلاة أجزأ، سواء قعد القعدة الأولى أو نسيها ولم يقعد، فلا تلزم الإعادة، فيكون الإتمام مجزئا، والله أعلم. وأما المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها ساغ له القصر، ولا يسوغ له في أقل منها، فاختلف العلماء في مقدارها اختلافا كثيرا، فحكى ابن المنذر وغيره فيها نحوا من عشرين قولا. وأقل ما قيل في ذلك الميل كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري. واحتج له بإطلاق السفر في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يخص الله ولا رسوله سفرا دون سفر، واحتج على ترك القصر فيما دون الميل بأنه - صلى الله عليه وسلم - قد خرج إلى الفضاء للغائط فلم يقصر. وذهب الظاهرية – كما قال النووي- إلى أن أقل مسافة القصر ثلاثة أميال، وكأنهم احتجوا في ذلك بما رواه مسلم وأبوداود من حديث أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ قصر الصلاة. قال الحافظ: وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه. وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر. (يعني أنه أراد به إذا سافر سفرا طويلا قصر إذا بلغ ثلاثة أميال، كما قال في لفظه الآخر: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، صلى بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين). ولا يخفى بعد هذا الحمل مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد راويه

(8/217)


عن أنس قال: سألت أنسا عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع. فقال أنس، فذكر الحديث. فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدأ منه القصر، ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة، بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها. ورده القرطبي بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به، فإن كان المراد به أنه لا يحتج به في التحديد بثلاثة أميال فمسلم، لكن لا يمتنع أن يحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ، فإن الثلاثة أميال مندرجة فيها، فيؤخذ بالأكثر احتياطا. وقد روى ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن عبدالرحمن بن حرملة قال: قلت لسعيد بن المسيب: أ أقصر الصلاة وأفطر في بريد من المدينة؟ قال: نعم- انتهى. وقيل: مذهب الظاهرية القصر في كل سفر قريبا كان أو بعيدا. وقال مالك والشافعي وأحمد وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم: إنه لا تقصر الصلاة إلا في مسيرة اليوم التام بالسير الوسط، وهي أربعة برد وهو ستة عشر فرسخا أي ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمي؛ لأن البريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال. قال النووي: والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعا معترضة ومعتدلة، والإصبع ست شعيرات معترضة معتدلة.

(8/218)


قال الحافظ: وهذا الذي قاله هو الأشهر. ومنهم من عبر ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الإنسان. وقيل: هو أربعة آلاف ذراع. وقيل: بل ثلاثة آلاف ذراع. وقيل: وخمس مائة، صححه ابن عبدالبر. وقيل غير ذلك، وقد عقد البخاري في صحيحة ترجمة أورد فيها ما يدل على أن اختياره أن أقل مسافة القصر يوم وليلة، كما هو مختار الأئمة الثلاثة، واختاره أيضا الشاه ولي الله الدهلوي ، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر. وقال أبوحنيفة أقل مسافة القصر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، ولا يشترط السفر كل يوم، بل إلى الزوال؛ لأنهم جعلوا النهار للسير والليل للاستراحة، ولا اعتبار بالفراسخ على أصل مذهبه، لكن المتأخرين قدروا ذلك بالفراسخ تسهيلا، ففي البحر عن النهاية الفتوى على ثمانية عشر فرسخا. وفي المجتبى فتوى أكثر أئمة خوارزم على خمسة عشر فرسخا، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل عند القدماء منهم ثلاثة آلاف ذراع، وعند المتأخرين أربعة آلاف ذراع، والذراع عند الأولين اثنان وثلاثون إصبعا، وعند الآخرين أربع وعشرون إصبعا، والإصبع عند الكل ست شعيرات مضمومة البطون إلى الظهور، وكل شعيرة مقدار ست شعور من ذنب الفرس التركي. والراجح عندي ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أنه لا يقصر الصلاة في أقل من ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي. وذلك أربعة برد أي ستة عشر فرسخا، وهي مسيرة يوم وليلة بالسير الحثيث. وذهب أكثر علماء أهل الحديث في عصرنا إلى أن مسافة القصر ثلاثة فراسخ مستدلين لذلك بحديث أنس المتقدم في كلام الحافظ، ومال ابن قدامة إلى قول الظاهرية أنه يجوز القصر في كل سفر قصيرا كان أو طويلا، حيث قال بعد الرد على أقوال الأئمة الأربعة: والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلى أن ينعقد الإجماع على خلافه. وأما السفر الذي يجوز فيه القصر فاختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: الأول أنه تقصر في كل سفر من غير تفصيل طاعة أو معصية. مباح أو قربة، مكروه أو مندوب، قاله أبوحنيفة

(8/219)


وأصحابه اعتبار الإطلاق ظاهر لفظ السفر. والثاني لا يجوز إلا في سفر قربة اختاره أحمد في أحد قوليه. والثالث لا يجوز إلا في مباح، قاله مالك في المشهور من قوليه والشافعي قولا واحدا، وهو المنصوص عن أحمد، كما في المغني، وكره مالك القصر لمن خرج متصيدا للهو. وأما من كان معاشه فيقصر، والراجح عندي هو القول الثاني أنه لا يقصر المسافر إلا أن يكون سفره في طاعة وقربة أو فيما أباح الله له، قال ابن قدامة: لأن الترخص شرع للإعانة على تحصيل المقصد المباح توصلا إلى المصلحة، فلو شرع ههنا لشرع إعانة على المحرم تحصيلا للمفسدة، والشرع منزه عن هذا، والنصوص وردت في حق الصحابة، وكانت أسفارهم مباحة، فلا يثبت الحكم فيمن سفره مخالف لسفرهم، ويتعين حمله على ذلك جمعا بين النصين. وقياس المعصية على الطاعة بعيد لتضادهما. وأما الموضع الذي يبدأ منه المسافر بقصر الصلاة، فقال ابن قدامة:
?الفصل الأول?
1342-(1) عن أنس: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة أربعا، وصلى العصر بذي الحليفة
ركعتين)). متفق عليه.

(8/220)


ليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت مصره أو قريته ويخلفها وراء ظهره، قال: وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد والشافعي وأبوإسحاق وأبوثور. وعن عطاء أنه كان يبيح القصر في البلد لمن نوى السفر. وعن الحارث ابن أبي ربيعة أنه أراد سفرا، فصلى بالجماعة في منزله ركعتين وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبدالله، وعن عطاء أنه قال: إذا دخل وقت صلاة بعد خروجه من منزله قبل أن يفارق بيوت المصر يباح له القصر- انتهى مختصرا. وفي رواية عن مالك أنه قال: لا يقصر إذا كانت قرية جامعة حتى يكون منها بنحو ثلاثة أميال، وبقول الجمهور قال أبوحنيفة وأصحابه وهو الراجح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصر في سفره من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة، ولأن الرجل لا يكون ضاربا في الأرض حتى يخرج. وأما الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أن يقصر فاختلفوا فيه جدا، إلا أن الأشهر منها أربعة أقوال: أحدها مذهب مالك والشافعي: أنه إذا أزمع المسافر على إقامته أربعة أيام أتم، والثاني مذهب أبي حنيفة والثوري أنه إذا أزمع على إقامته خمسة عشر يوما أتم. والثالث مذهب أحمد وداود: أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم. والرابع مذهب إسحاق بن راهويه: إنه إذا أزمع على أكثر من تسعة عشر يوما أتم. فمدة القصر عند مالك والشافعي ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج، وعند أبي حنيفة أربعة عشر يوما، وعند أحمد أربعة أيام وعند إسحاق تسعة عشر يوما. والراجح عندي: ما ذهب إليه أحمد والله تعالى أعلم.

(8/221)


1342- قوله: (صلى الظهر بالمدينة) أي في يوم الذي أراد فيه الخروج إلى مكة للحج أو العمرة. (أربعا) أي أربع ركعات. (وصلى العصر بذي الحليفة) بضم المهملة وفتح اللام، تصغير حلفة. و"ذو حليفة" موضع على ثلاثة أميال من المدينة على الأصح، وهو ميقات أهل المدينة المشهور الآن ببئر علي. (ركعتين) قصرا؛ لأنه كان في السفر. والحديث دليل على أن من أراد السفر لا يقصر حتى يبرز من البلد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصر حتى خرج من المدينة. واستدل به على استباحة قصر الصلاة في السفر القصير؛ لأن بين المدينة وذي الحليفة ثلاثة أميال. وقيل: ستة أميال. وقيل: سبعة. وتعقب بأن ذا الحليفة لم تكن منتهى السفر وغايته، وإنما خرج إليها حيث كان قاصدا مكة فاتفق نزوله بها، وكانت أول صلاة حضرت بها العصر فقصرها، واستمر يقصر إلى أن رجع. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص145، 146).
1343- (2) وعن حارثة بن وهب الخزاعي، قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن أكثر ما كنا قط
وآمنه بمنى، ركعتين))

(8/222)


1343- قوله: (وعن حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة. (بن وهب) بفتح الواو وسكون الهاء. (الخزاعي) بضم الخاء المعجمة، نسبة إلى خزاعة، وحارثة هذا أخو عبيدالله بن عمر الخطاب لأمه، صحابي نزل الكوفة، وكان عمر زوج أمه أم كلثوم بنت جرول بن المسيب الخزاعية. (صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن أكثر من كنا) برفع "أكثر" على أنه خبر نحن، و"ما" مصدرية، ومعناه الجمع؛ لأن ما أضيف إليه أفعل التفضيل يكون جمعا. (قط) بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة في أفصح اللغات، ظرف بمعنى الدهر والزمان، متعلق بـ"كنا". ويختص بالماضي المنفي في الغالب الشائع، وربما استعمل بدون المنفي، كما في هذا الحديث وله نظائر. (وآمنه) بالرفع عطف على "أكثر" وقط مقدر ههنا، والضمير فيه راجع إلى "ما كنا". والواو في "ونحن" للحال المعترضة بين "صلى" ومعموله وهو. (بمنى) بكسر الميم والألف، منصرفا وفي بعض النسخ: بمنى بالياء غير منصرف، وهو يذكر ويؤنث، فإن قصد الموضع فمذكر، ويكتب بالألف وينصرف، وإن قصد البقعة فمؤنث، ولا ينصرف ويكتب بالياء، والمختار تذكيره، وسمي بذلك لكثرة ما يمنى فيه أي يراق من الدماء. (ركعتين) أي في حجة الوداع. والمعنى صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، والحال أنا في ذلك الوقت أكثر أكواننا في سائر الأوقات عددا، وأكثر أكواننا في سائر الأوقات أمنا. وإسناد الأمن إلى الأوقات مجاز، كذا قاله الطيبي. ويجوز أن تكون "ما" نافيه خبر المبتدأ الذي هو نحن و"أكثر" منصوبا على أنه خبر كان. ويجوز إعمال ما في ما قبلها إذا كانت بمعنى ليس، فكما يجوز تقديم خبر ليس عليه يجوز تقديم خبر ما في معناه عليه. والتقدير ونحن ما كنا قط أكثر منا في هذا الوقت ولا آمن منا فيه، وفي الحديث دليل على جواز القصر في السفر من غير خوف، ورد على من زعم أن القصر مختص بالخوف. وللحديث شاهد من حديث ابن عباس عند الترمذي وصححه، والنسائي

(8/223)


بلفظ: خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله يصلي ركعتين، والذي قال إن القصر مختص بالخوف تمسك بقوله تعالى: ?وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذي كفروا? [101:4]. ولم يأخذ الجمهور بهذا المفهوم. فقيل: لأن شرط مفهوم المخالفة أن لا يكون خرج مخرج الغالب، والشرط هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك الخوف في الأسفار. وقيل: هو من الأشياء التي شرع الحكم فيها بسبب، ثم زال السبب، وبقي الحكم كالرمل. وقيل: القصر مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - من القصر مع الأمن. قال

(8/224)


الخطابي في المعالم (ج2:ص211): ليس في قوله: صلى بنا، دليل على أن المكي يقصر الصلاة بمنى؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مسافرا بمنى، فصلى صلاة المسافر، ولعله لو سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاته لأمره بالإتمام، وقد يترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيان بعض المأمور في بعض المواطن اقتصادا على ما تقدم من البيان السابق خصوصا في مثل هذا الأمر الذي هو من العلم الظاهر العام، وكان عمر بن الخطاب يصلي بهم فيقتصر، فإذا سلم التفت إليهم، وقال أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر-انتهى. قلت: اتفق الأئمة على أن الحاج القادم مكة يقصر الصلاة بها وبمنى وسائر المشاهد؛ لأنه عندهم في سفر؛ لأن مكة ليست دار إقامة إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكذلك منى وعرفات والمزدلفة. واختلفوا في صلاة المكي بمنى وغيرها من المشاهد، فقال مالك: يتم بمكة ويقصر بمنى، وكذلك أهل منى يتمون بمنى ويقصرون بمكة وعرفات، قال: وهذه المواضع مخصوصة بذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قصر بعرفة لم يميز من وراءه، ولا قال لأهل مكة: أتموا، وهذا موضع بيان، وممن روى عنه أن المكي يقصر بمنى ابن عمر وسالم والقاسم وطاووس، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، وقالوا: إن القصر سنة الموضع، وإنما يتم بمنى وعرفات من كان مقيما فيها. وقال أكثر أهل العلم: منهم عطاء والزهري والثوري والكوفيون وأبوحنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وأبوثور: ولا يقصر الصلاة أهل مكة بمنى وعرفات؛ لانتفاء مسافة القصر.وحاصل مذهب مالك، كما يدل عليه كلامه في الموطأ، أن القصر عنده لأجل النسك بشرط السفر، لكن لا للسفر الشرعي، بل لمطلق السفر، ولذلك يتم عنده أهل مكة ومنى وعرفة والمزدلفة في أمكنتهم، ويقصرون في غيرها، وضابطه عنده أن أهل كل مكان يتمون به ويقصرون فيما سواه، خلافا للأئمة الثلاثة، فإن القصر عندهم للسفر الشرعي، فلا يقصر في هذه الأمكنة إلا من كان

(8/225)


مسافرا شرعيا. قال ابن المنير المالكي: السر في القصر في هذه المواضع المتقاربة إظهارا لله تعالى تفضله على عباده، حيث اعتد لهم بالحركة القريبة اعتداده في السفر البعيد، فجعل الوافدين من عرفة إلى مكة كأنهم سافروا إليها ثلاثة أسفار سفر إلى مزدلفة، ولهذا يقصر أهل مكة بمنى، فهي على قربها من عرفة معدودة بثلاث مسافات، كل مسافة منها سفر طويل. وسر ذلك-والله أعلم- أنهم كلهم وفد، وإن القرب كالبعيد في إسباغ الفضل، ذكره القسطلاني. وقال الباجي: إن أهل مكة إذا حجوا اقتضى ذلك بلوغا إلى عرفة، ورجوعا إلى مكة، ولو كان منتهى سفرهم عرفة لما قصروا الصلاة، واحتسب في هذا السفر بالذهاب والمجيء؛ لأن من خرج من مكة إلى عرفة محرما بالحج فلا بد له من الرجوع إلى مكة بحكم الإحرام الذي دخل فيه؛ لأنه لا يصح أن يتم عمله الذي دخل فيه إلا بالرجوع إلى مكة. وأما سائر الأسفار فإن نوى فيه المسير والمجيء فإنه لا يلزمه الرجوع، وله أن يقيم في منتهى سفره، أو يمضي منه إلى موضع سواه. فالواجب على أهل مكة إذا خرجوا للحج أن يصلوا ركعتين حتى ينصرفوا إلى مكة، وذلك يقتضي أن يصلوا
متفق عليه.
1344- (3) وعن يعلى بن أمية، قال. ((قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله تعالى: ?أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا? فقد أمن الناس. قال عمر:

(8/226)


ركعتين في البداءة والعودة، ويصلون كذلك بعرفة والمزدلفة وغيرهما- انتهى بتغير يسير. وقال بعض المالكية: لو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتموا، وليس بين مكة ومنى مسافة القصر، فدل على أنهم قصروا للنسك. وأجيب بأن الترمذي روى من حديث عمران بن حصين أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بمكة ركعتين، ويقول: يا أهل مكة! أتموا، فإنا قوم سفر، وكأنه ترك إعلامهم بذلك بمنى استغناء بما تقدم بمكة. قال الحافظ: وهذا ضعيف؛ لأن الحديث من رواية علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، ولو صح فالقصة كانت في الفتح، وقصة منى في حجة الوداع، وكان لا بد من بيان ذلك لبعد العهد-انتهى. قلت: روى البيهقي (ج3:ص135، 136) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة قال: سأل شاب عمران بن حصين عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر. فقال: إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر، فاحفظوهن عني، ما سافرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفرا قط إلا صلى ركعتين حتى يرجع، وشهدت معه حنين والطائف فكان يصلي ركعتين، ثم حجت معه واعتمرت فصلى ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة! أتموا الصلاة، فإنا قوم سفر-الحديث. وفيه نص على أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في الحج أيضا، ورد على ما قيل: إن القصة لم تكن إلا في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وأبودواد في الحج والنسائي في الصلاة والبيهقي (ج3:ص134، 135).

(8/227)


1344- قوله: (قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله تعالى: أن تقصروا) وفي صحيح مسلم: قلت لعمر بن الخطاب: ?ليس عليكم جناح أن تقصروا? [101:4] أي وإذا ضربتم في الأرض أي سافرتم فليس عليكم جناح، أي وزر وحرج أن تقصروا بضم الصاد أي في أن تقصروا أي في القصر، وهو خلاف المد، يقال: قصرت الشيء أي جعلته قصيرا يحذف بعض أجزاءه فمتعلق القصر جملة الشيء لا بعضه، فإن البعض متعلق الحذف دون القصر. فحينئذ قوله: (من الصلاة ) ينبغي أن يكون مفعولا لتقصروا على زيادة من حسب ما رآه الأخفش. وأما على رأي غيره من عدم زيادتها في الإثبات. فتجعل تبعيضية، ويراد بالصلاة الجنس، ليكون المقصور بعضا منها، وهو الرباعيات، قاله أبوالسعود. (إن خفتم أن يفتنكم) أي ينالكم بمكروه. (الذين كفروا، فقد أمن الناس) أي وذهب الخوف، فما بالهم يقصرون الصلاة، أو فما وجه القصر؟. (قال عمر) وفي صحيح
عجبت ما عجبت منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته))

(8/228)


مسلم: فقال بزيادة الفاء وحذف الفاعل. (عجبت مما عجبت) أنت. (فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي عن ذلك كما في مسلم. (فقال: صدقة) أي قصر الصلاة في السفر صدقة. (تصدق الله) أي تفضل. (بها عليكم) أي توسعة ورحمة. قال السندي: أي شرع لكم ذلك رحمة عليكم، وإزالة للمشقة نظرا إلى ضعفكم وفقركم. وهذا المعنى يقتضي أن ما ذكر فيه من القيد فهو اتفاق، ذكره على مقتضى ذلك الوقت، وإلا فالحكم عام، والقيد لا مفهوم له. ولا يخفى ما في الحديث من الدلالة على اعتبار المفهوم في الأدلة الشرعية، وأنهم كانوا يفهمون ذلك، ويرون أنه الأصل، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قررهم على ذلك، لكن بين أنه قد لا يكون معتبرا أيضا بسبب من الأسباب، فإن قلت: يمكن التعجب مع عدم اعتبار المفهوم أيضا بناء على أن الأصل هو الإتمام لا القصر، وإنما القصر رخصة جاءت مقيدة للضرورة، فعند انتفاء القيد مقتضى الأدلة هو الأخذ بالأصل، قلت: هذا الأصل إنما يعمل به عند انتفاء الأدلة. وأما مع وجود فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافه فلا عبرة به، ولا يتعجب من خلافه، فليتأمل- انتهى كلام السندي. (فاقبلوا صدقته) أي سواء حصل الخوف أم لا، وإنما قال في الآية. ?إن خفتم?؛ لأنه قد خرج مخرج الأغلب لكون أغلب أسفار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم تخل من خوف العدو لكثرة أهل الحرب إذ ذاك فحينئذ لا تدل الآية على عدم القصر إن لم يكن خوف؛ لأنه بيان للواقع إذ ذاك فلا مفهوم له. قال ابن القيم: قد أشكلت الآية على عمر وغيره، فسأل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله، وشرع شرعة للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف. وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له- انتهى. وقد احتج بالحديث لمن قال بأن القصر رخصة، والإتمام أفضل. قال الخطابي في المعالم (ج1

(8/229)


ص261): في هذا حجة لمن ذهب إلى أن الإتمام هو الأصل، ألا ترى أنهما (أي يعلى بن أمية وعمر) قد تعجبا من القصر مع عدم شرط الخوف، فلو كان أصل صلاة المسافر ركعتين لم يتعجبا من ذلك، فدل على أن القصر إنما هو عن أصل كامل قد تقدمه، فحذف بعضه، وأبقى بعضه. وفي قوله: "صدقة تصدق الله بها عليكم" دليل على أنه رخصة رخص لهم فيها، والرخصة إنما تكون إباحة لا عزيمة- انتهى. وأجيب عن ذلك بأن الأمر بقبولها يقتضي وجوب القبول، وأنه لا محيص عنها، فإن أصل الأمر للوجوب، فلا يبقى له خيار الرد شرعا، وجواز الإتمام رد لها لا قبول، على أن الصدقة من الله تعالى فيما لا يحتمل التمليك عبارة عن الإسقاط، فلا يحتمل اختيار القبول وعدمه. وأيضا العبد فقير فإعراضه عن صدقة ربه يكون قبيحا، ويكون من قبيل ?أن رآه استغنى?. وفي رد صدقة أحد عليه من التأذى عادة ما لا يخفى فهذه من أمارات الوجوب، ويوافقه حديث: أنها تمام غير قصر. واحتج لهم أيضا بقوله تعالى: ?ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة? [101:4]

(8/230)


فإن نفي الجناح لا يدل على العزيمة، بل على الرخصة، وعلى أن الأصل التمام، والقصر إنما يكون عن شيء أطول منه. وأجيب عنه بوجوه: منها أن الآية وردت في قصر صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء، وترك القيام إلى الركوب في الخوف. فالمراد بالقصر في الآية إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات في الخوف دون القصر في عدد الركعات في صلاة السفر. ومنها أن المراد بالقصر في الآية القصر في كمية الركعات وعددها، وبالصلاة صلاة الخوف لا صلاة المسافر. فالآية نزلت في قصر العدد في صلاة الخوف لا في صلاة السفر. ومنها أنه إنما أتى بهذه العبارة؛ لأن المسلمين لكمال ولعهم بالعبادة وتكثيرها وأدائها بالتمام كأنهم كانوا يتحرجون في القصر، وكانوا يعدونه جناحا فقال: ?ليس عليكم جناح أن تقصروا? ولا حرج، فإن الركعتين في حكم الأربعة كما قال الذين ذهبوا إلى وجوب السعي بين الصف والمروة في قوله تعالى: ?فلا جناح عليه أن يطوف بهما? [158:2] وقال ابن القيم في الهدي (ج1 ص131): وقد يقال: إن الآية اقتضت قصر يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين. وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض، والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصران، فيصلون صلاة الخوف، مقصورة عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران، فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفر والأمن قصر العدد، واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار تمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية. والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما. قالت عائشة: فرضت الصلاة ركعتين، فلما

(8/231)


هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر. فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. وقال عمر بن الخطاب: صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه، وهو الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بالنا نقصر؟ وقد أمنا؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته. ولا تناقض بين حديثيه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم، ودينه اليسر السمح، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد، كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر. وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
رواه مسلم.
1345- (4) وعن أنس، قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين
ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة، قيل له: أقمتم بمكة شيئا؟ قال: أقمنا بها عشرا))
يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك ونبين ما فيه- انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد والترمذي في تفسير وأبوداود والنسائي وابن ماجه في الصلاة والبيهقي (ج3 ص134-141) وغيرهم.

(8/232)


1345- قوله: (من المدينة) أي متوجهين (إلى مكة) أي للحج كما في رواية لمسلم. (فكان يصلي) أي الرباعية. (ركعتين ركعتين) أي كل رباعية ركعتين. (قيل له) أي لأنس. والقائل أي السائل هو يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي الراوي عن أنس كما صرح به في رواية للبخاري في الصلاة. (أقمتم) بحذف همزة الاستفهام وفي رواية أبي داود: هل أقمتم. (شيئا) أي من الأيام. (قال) أي أنس. (أقمنا بها) أي بمكة وبضواحيها. (عشرا) أي عشرة أيام، وإنما حذفت التاء من العشرة مع أن اليوم مذكر؛ لأن المميز إذا لم يذكر جاز في العدد التذكير والتأنيث. ولا يعارض هذا حديث ابن عباس المذكور بعده وحديث عمران الآتي في الفصل الثاني؛ لأنهما في فتح مكة، وهذا في حجة الوداع، قال الإمام أحمد: إنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له غير هذا. واحتج بحديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة. (يوم الأحد) فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح في اليوم الثامن. (يوم الخميس) ثم خرج إلى منى، وخرج من مكة متوجها إلى المدينة بعد أيام التشريق. ومثله حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج... الحديث. قال الحافظ: ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى. وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة؛ لأن هذه المواضع مواضع النسك، وهي في حكم التابع لمكة؛ لأنها المقصود بالإصالة، لا يتجه سوى ذلك، كما قال الإمام أحمد- انتهى. وقد أشكل الحديث على الشافعية؛ لأنه قد تقرر عندهم أنه لو نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع عينه انقطع سفره بوصوله ذلك الموضع بخلاف ما لو نوى دونها

(8/233)


وإن زاد عليه. ولا ريب أنه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع كان جازما بالإقامة بمكة المدة المذكورة، وأجاب البيهقي في السنن الكبرى (ج3 ص149) بما نصه: وإنما أراد أنس بقوله "فأقمنا بها عشرا" أي بمكة ومنى وعرفات، وذلك لأن الأخبار الثابتة تدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة في
حجته لأربع خلون من ذي الحجة فأقام بها ثلاثا يقصر، ولم يحسب اليوم الذي قدم فيه مكة؛ لأنه كان فيه سائرا، ولا يوم التروية؛ لأنه خارج فيه إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، فلما طلعت الشمس سار منها إلى عرفات، ثم دفع منها حيت غربت الشمس حتى أتى المزدلفة، فبات بها ليلتئذ حتى أصبح، ثم دفع منها حتى أتى منى فقضى بها نسكه، ثم أفاض إلى مكة فقضى بها طوافه، ثم رجع إلى منى فأقام بها، ثم خرج إلى المدينة، فلم يقم - صلى الله عليه وسلم - في موضع واحد أربعا يقصر- انتهى كلام البيهقي. وتعقبه ابن التركماني، وتعقبه متجه عندي، قال: أقام بمكة أربعة أيام يقصر، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قدم صبح رابعة من ذي الحجة، فأقام الرابع والخامس والسادس والسابع وبعض الثامن ناويا للإقامة بها بلا شك، ثم خرج إلى منى يوم التروية، وهو الثامن قبل الزوال. وهذا يبطل تقديرهم بأربعة أيام، ولهذا حكى ابن رشد عن أحمد وداود أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم، قال واحتجوا بمقامه عليه السلام في حجته بمكة مقصرا أربعة أيام. وذكر صاحب التمهيد عن الأثرم قال أحمد: أقام عليه السلام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح بالأبطح في الثامن. فهذه إحدى وعشرون صلاة قصر فيها، وقد أجمع على إقامتها وظهر بهذا بطلان قول البيهقي: "فلن يقم عليه السلام في موضع واحد أربعا يقصر". وكيف يقول كان سائرا في اليوم الرابع مع أنه قدم في صبيحته فأقام بمكة؟! أو كيف لا يحسب يوم الدخول مع أن الأحكام المتعلقة بالسفر لينقطع حكمها

(8/234)


يوم الدخول إذا نوى الإقامة، ويلحق بما بعده أصله رخصة المسح والإفطار؟! فلا معنى لإخراجه بعد نية الإقامة بغير دليل شرعي، وكذا يوم الخروج قبل خروجه. وفي اختلاف العلماء للطحاوي روي عن ابن عباس وجابر أنه عليه السلام قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فكان مقامه إلى وقت خروجه أكثر من أربع، وقد كان يقصر الصلاة، فدل على سقوط الاعتبار بالأربع- انتهى كلام ابن التركماني. وأجاب بعضهم عن هذا التعقب بأنه إنما يخالفنا إذا أقام أربع ليال مع أيامها التامة. ويمكن أنه صلى الله عليه وسلم خرج في اليوم الثامن من قبل الوقت الذي دخل فيه في اليوم الرابع، فما تمت له أيام الأربع، كذا أجاب، ولا يخفى ما فيه، قلت: واستدل الشافعية والمالكية على مذهبهم بنهيه صلى الله عليه وسلم للمهاجر عن إقامة فوق ثلاث بمكة فتكون الزيادة عليها لإقامة لا قدر الثلاث. قال القسطلاني: الترخيص في الثلاث يدل على بقاء حكم السفر بخلاف الأربعة فالأربع حد الإقامة، وما دونه حد السفر يقصر فيه. ورد ذلك بأن الثلاث قدر قضاء الحوائج لا لكونها غير إقامة. قال ابن حزم في المحلى (ج5ص24): ليس في هذا الخبر نص ولا إشارة إلى المدة التي إذا أقامها المسافر يتم صلاته، وإنما هو في حكم المهاجر لا يقيم أكثر من ثلاثة أيام ليجاز شغله وقضى حاجته في الثلاث، ولا حاجة إلى أكثر منها، ولا يدل على أنه يصير مقيما في الأربعة، ولو احتمل لا يثبت حكم شرعي بالاحتمال، قال وأيضا
متفق عليه.

(8/235)


فإن المسافر مباح له أن يقيم ثلاثا وأكثر من ثلاث لا كراهية في شيء من ذلك. وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث، فأي نسبة بين إقامة مكروهة وإقامة مباحة؟ وأيضا فإن ما زاد على الثلاثة الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافرا. لا مقيما وما زاد على الثلاثة فإقامة صحيحة. وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، وأيضا فإن إقامة قدر صلاة واحدة زيادة على الثلاثة مكروهة للمهاجر، فينبغي عندهم إذا قاسوا عليه المسافر أن يتم، وهو خلاف مذهبهم. وقد ظهر بهذا أنه ليس حديث مرفوع صريح في ما ذهب إليه المالكية والشافعية. وكذا فيما ذهب إليه الحنفية كما صرح به ابن رشد في البداية. وقال صاحب العرف الشذى: لا مرفوع لأحد ولكل واحد آثار. فاستدل الحنفية بما روى الطحاوي عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوما أكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها، ذكره الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في الدراية، والعيني في البناية وابن الهمام في فتح القدير. وروى نحوه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن ابن عمر وحده. قال الشوكاني: ورد بأنه من مسائل الاجتهاد، ولا حجة في أقوال في المسائل التي للاجتهاد فيها مسرح، قال: والحق أن من حط رحله ببلد ونوى الإقامة بها أيامها من دون تردد لا يقال له مسافر، فيتم الصلاة ولا يقصر إلا لدليل ولا دليل ههنا إلا في ما في حديث الباب من إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة، والاستدلال به متوقف على ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم عزم على إقامة أربعة أيام إلا أن يقال: إن تمام أعمال الحج في مكة لا يكون في دون الأربع، فكان كل من يحج عازما على ذلك فيقتصر على هذا المقدار، ويكون الظاهر والأصل في حق من نوى إقامة أكثر من أربع أيام هو التمام، وإلا لزم أن يقصر الصلاة من نوى إقامة سنين متعددة، ولا قائل به.

(8/236)


ولا يرد على هذا قوله في إقامته بمكة في الفتح: إنا قوم سفر؛ لأنه كان إذ ذاك مترددا، ولم يعزم على إقامة مدة معينة- انتهى. قلت: لا شك أنه صلى الله عليه وسلم كان جازما بالإقامة أربعة أيام بمكة في حجته؛ لأنه دخل بها صبيحة رابعة، وخرج منها إلى منى في بعض الثامن أي بعد صلاة الصبح، فكان ناويا لإقامة تلك المدة بلا شك، وقد قصر بها الصلاة. فهذا يدل على مذهب الإمام أحمد. ولم يثبت من حديث مرفوع قولي أو فعلي أنه صلى الله عليه وسلم أزمع على أكثر من أربعة أيام وقصر الصلاة. فالقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد، والله أعلم. وأما حديث ابن عباس فسيأتي الكلام فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص136و145و148و153) وغيرهم.
1346- (5) وعن ابن عباس، قال: ((سافر النبي - صلى الله عليه وسلم - سفرا، فأقام تسعة عشر يوما يصلي ركعتين
ركعتين، قال ابن عباس: فنحن نصلي فيما بيننا وبين مكة، تسعة عشر، ركعتين ركعتين،

(8/237)


1346- قوله: (سافر النبي - صلى الله عليه وسلم - سفرا) أي في فتح مكة، ففي رواية للبخاري في المغازي: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين. وذكره المجد بن تيمية في المنتقى بلفظ: لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أقام فيها تسع عشرة يصلي ركعتين. (فأقام) أي فلبث. (تسعة عشر) بتقديم الفوقية على السين. (يوما) بليلته. (يصلي) أي حال كونه يصلي. (ركعتين ركعتين) أي يقصر الصلاة الرباعية؛ لأنه كان مترددا متى تهيأ له فراغ حاجته وهو انجلاء حرب هوازن ارتحل، وأعلم أنه اختلفت الروايات في إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمكة عام الفتح، فروي تسعة عشر، كما ذكره المصنف. وروي عشرون، أخرجه عبد بن حميد في مسنده. وروي سبعة عشر بتقديم السين، أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي. وروي خمسة عشر، أخرجه أبوداود والنسائي كلها عن ابن عباس. وروي ثمانية عشر، كما في حديث عمران الآتي. قال البيهقي في السنن الكبرى (ج3 ص151): وأصح هذه الروايات في ذلك عندي رواية من روى تسع عشرة أي بتقديم التاء، وهي الرواية التي أودعها للبخاري في الجامع الصحيح، وجمع أيضا البيهقي بين روايات تسع عشرة وثمان عشرة وسبع عشرة بأن من رواها تسع عشرة عد يوم الدخول ويوم الخروج، ومن روى ثمان عشرة لم يعد أحد اليومين، ومن قال سبع عشرة لم يعدهما، قال الحافظ في التلخيص (ص129): وهو جمع متين، وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين، وهي صحيحة الإسناد إلا أنها شاذة أيضا، اللهم إلا أن يحمل على جبر الكسر، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد، أي لما في سنده علي زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وسيأتي الكلام فيه، وقال في الفتح بعد ذكر الجمع المذكور: وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك

(8/238)


عن عبيدالله كذلك. وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة. واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات. وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا إنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة، وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمس عشرة، لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقا- انتهى. (قال ابن عباس) استنباطا من هذا الحديث. (فنحن نصلي فيما بيننا وبين مكة تسعة عشر) أي يوما. ولفظ الترمذي: فنحن نصلي فيما بيننا وبين تسع عشرة. (ركعتين ركعتين) وفي رواية للبخاري: ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة. وفي رواية للبيهقي (ج3 ص150): فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسعة عشر صلينا ركعتين ركعتين، ولأبي يعلى: إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر.
فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا)) رواه البخاري.

(8/239)


(فإذا أقمنا) أي مكثنا (أكثر من ذلك صلينا أربعا) وقد أخذ به إسحاق بن راهويه أيضا، كما تقدم في كلام الحافظ، فمدة القصر عنده وعند ابن عباس تسعة عشر يوما، فإذا أجمع على أكثر من ذلك في موضع أتم. قال الترمذي: أما إسحاق فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس هذا، قال: لأن أبن عباس روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تأوله بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (يعني أخذ به وعمل عليه بعد وفاته- صلى الله عليه وسلم -)- انتهى. قلت: الاستدلال بهذا الحديث على أن من يقيم هذه المدة. (تسعة عشر أو خمسة عشر على اختلاف الروايتين والمذهبين) قصدا يقصر، لا يخلو عن إشكال؛ لأنه موقوف على ثبوت أنه - صلى الله عليه وسلم - أزمع في أول الأمر على إقامته بمكة هذه المدة، ولا دلالة في هذه القصة على ذلك أصلا، بلا الظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة هذه المدة اتفاقا، ولا يدري أول الأمر أن إقامته تمتد إلى متى؛ لأنه كان مترددا متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. ومن كان كذلك يقر أبدا؛ لأنه لم ينو الإقامة، والأصل بقاء السفر، ولذا قال الترمذي: أجمع أهل العلم على أن المسافر يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون، وكذا قال ابن المنذر. وأما الاستدلال بحديث ابن عباس على أن من يزيد على هذه المدة يتم، كما قال ابن عباس وإسحاق ففي غاية الخفاء، هذا وقد أجاب عن الأشكال المذكور الإمام ابن تيمية في أحكام السفر (ص81) بأنه معلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال إنه كان يقول اليوم أسافر، غدا أسافر، بل فتح مكة وأهلها وما حولها كفار محاربون له، وهي أعظم مدينة فتحها، وبفتحها ذلت الأعداء، وأسلمت العرب. ومثل هذه الأمور مما يعلم أنها لا ينقضي في أربعة أيام، فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها لا تنقضي في أربعة أيام، وكذلك تبوك إلى آخر ما قال. ولا يخفى ما فيه على المتأمل. (رواه)

(8/240)


أي أصل الحديث. (البخاري) وإلا فالسياق المذكور ليس للبخاري، فإن الحديث رواه البخاري في الصلاة بلفظ: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين، ومطولا بلفظ: أقمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة. وقال ابن عباس: ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة، فإذا أزدنا أتممنا. والسياق الذي ذكره المصنف إنما هو للترمذي والبيهقي بفرق يسير. والبغوي إنما ذكر في المصابيح سياق البخاري المختصر. ولعل المصنف أعرض عنه لاختصاره، وأورد سياق الترمذي والبيهقي، لكونه واضحا مطولا، لكن كان ينبغي له أن ينبه على تصرفه هذا، فإن صنيعه يدل على أن السياق المذكور للبخاري، والأمر ليس كذلك، كما عرفت، والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص149، 150، 151).
1347- (6) وعن حفص بن عاصم، قال: ((صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم جاء رحله، وجلس، فرأى ناسا قياما، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبحا أتممت صلاتي. صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كذلك))

(8/241)


1347- قوله: (وعن حفص بن عاصم) بن عمر بن الخطاب ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين (صحبت ابن عمر) أي رافقت عمي عبدالله بن عمر بن الخطاب. (فصلى لنا الظهر ركعتين) قصرا ثم أقبل وأقبلنا معه. (ثم جاء) وفي مسلم: حتى جاء. (رحله) أي منزله ومسكنه. (وجلس) وجلسنا معه، فحانت منه إلتفاتة نحو حيث صلى. (فرأى ناسا قياما) بكسر القاف جمع قائم أي قائمين للصلاة في المكان الذي صلوا الفرض فيه. (فقال) إنكارا: (ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون) أي يصلون النافلة، فالسبحة هنا صلاة النفل، (لو كنت مسبحا) أي مصليا النافلة في السفر. (أتممت صلاتي) أي المكتوبة. قال السندي: لعل المعنى لو كنت صليت النافلة على خلاف ما جاءت به السنة لأتممت الفرض على خلافها، أي لو تركت العمل بالسنة لكان تركها لإتمام الفرض أحب وأولى من تركها لإتيان النفل، وليس المعنى لو كانت النافلة مشروعة لكان الإتمام مشروعا حتى يرد عليه ما قيل: إن شرع الفرض تاما يفضي إلى الحرج، إذ يلزم حينئذ الإتمام. وأما شرع النفل فلا يفضي إلى حرج، لكونها إلى خيرة المصلي- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: مراد ابن عمر بقوله هذا يعني أنه لو كان مخيرا بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه، لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلي الراتبة ولا يتم. (فكان لا يزيد في السفر على ركعتين) أي في غير المغرب، إذ لا يصح ذلك في المغرب قطعا. والمعنى لا يزيد نفلا قبل الفريضة وبعدها. (وأبا بكر) أي وصحبت أبا بكر. (وعمر وعثمان كذلك) أي صحبتهم كما صحبته - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين. وفيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - واظب على القصر في السفر ولازمه، ولم يصل تماما. وذكر الموقوف بعد المرفوع مع أن الحجة قائمة بالمرفوع ليبين أن العمل استمر على ذلك، ولم يطرق إليه نسخ ولا معارض ولا راجح، لكن في ذكر عثمان إشكال؛ لأنه كان في آخر أمره

(8/242)


يتم الصلاة. وأجيب بما سيأتي في الفصل الثالث من حديث ابن عمر وعثمان صدرا من خلافته. قال في المصابيح: وهو الصواب، ذكره القسطلاني، أو المراد أنه إنما كان يتم إذا كان نازلا. وأما إذا كان سائرا فيقصر. فلذلك قيده في هذه الرواية بالسفر. وقال الزركشي: ولعل ابن عمر أراد في هذه الرواية أيام عثمان في سائر أسفاره في غير منى؛ لأن إتمامه كان بمنى، كما فسره عمران بن الحصين في روايته. والحديث فيه إشكال آخر، فإنه يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتنفل في السفر. وقد روى ابن عمر

(8/243)


نفسه، كما سيأتي في الفصل الثاني، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي النافلة بعد الظهر والمغرب. وورد في حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن صلاة الصبح في السفر: ثم صلى ركعتين قبل الصبح ثم صلى الصبح. وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى صلاة الضحى في السفر. كما تقدم، وصلاة الليل على الدابة، كما سيأتي من حديث ابن عمر، وصلاة الزوال أو الراتبة قبل الظهر، كما في حديث البراء عند الترمذي وأبي داود. وأيضا يشكل على إنكار ابن عمر على المتنفلين ما سيأتي في آخر الباب أن ابن عمر كان يرى ابنه عبيدالله يتنفل في السفر، فلا ينكر عليه، وما روي عن ابن عمر أنه كان يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به. قال العراقي: الجواب: أن النفل المطلق وصلاة الليل لم يمنعهما ابن عمر ولا غيره. فأما السنن الرواتب فيحمل حديث الباب على الغالب من أحواله في أنه لا يصلى الرواتب، وحديثه في فعل أنه فعله في بعض الأوقات لبيان استحبابها وإن لم يتأكد فعلها فيه كتأكده في الحضر، أو أنه كان نازلا في وقت الصلاة ولا شغل له يشتغل به عن ذلك، أو سائرا، وهو على راحلته. ولفظ "كان" في حديث الباب لا يقتضي الدوام ولا التكرار على الصحيح، فلا تعارض بين حديثيه. وقيل: مذهب ابن عمر الفرق بين الرواتب والنوافل المطلقة كالتهجد والوتر والضحى وغير ذلك، فيحمل الإنكار على الأول، والإثبات على الثاني، ولا يخفى ما فيه. وقيل: نفي التطوع في السفر محمول على ما بعد الصلاة خاصة أي الرواتب البعدية، فلا يتناول ما قبلها ولا ما لا تعلق له بها من النوافل المطلقة، وإليه مال البخاري، كما يظهر من تبويبة. قال الحافظ: وهو فيما يظهر أظهر. قلت: بل هو غاية الخفاء فضلا عن أن يكون ظاهرا فضلا عن أن يكون أظهر لما سيأتي من حديث ابن عمر نفسه في إثبات الرواتب البعدية. وقيل: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الرواتب في رحله فلا يراه ابن عمر.

(8/244)


وقيل: النفي محمول على الصلاة على الأرض، والإثبات على الدابة. قال الحافظ: وقد جمع ابن بطال بين ما اختلف عن ابن عمر في ذلك بأنه كان يمنع التنفل على الأرض، ويقول به على الدابة. وقيل: الأولى أن يحمل حديث الباب أي عدم الزيادة على ركعتي الفرض على حالة السير وحديث الثبوت على حالة النزول والقرار، وهو المختار من مذهب الحنفية، كما صرح به الدر المختار وفي الكبرى، هو أعدل الأقوال. قلت: قد اختلف العلماء في التنفل في السفر على ستة أقوال: أحدها المنع مطلقا. الثاني الجواز مطلقا. الثالث: الفرق بين الرواتب والمطلقة، وهو مذهب ابن عمر، كما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. الرابع: الفرق بين الليل والنهار في المطلقة. الخامس: الفرق بين الرواتب البعدية وغيرها، فيحمل النفي على الأولى، فلا يتناول ما قبلها ولا النوافل المطلقة. السادس: ما اختاره ابن القيم حيث قال في الهدي (ج1 ص134): كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى سنة الصلاة
متفق عليه.
1348-(7) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر،

(8/245)


قبلها ولا بعدها إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعهما حضرا ولا سفرا، قال: وأما ابن عمر فكان لا يتطوع قبل الفريضة ولا بعدها إلا من جوف الليل مع الوتر، وهذا هو الظاهر من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان لا يصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئا، ولم يكن يمنع من التطوع قبلها ولا بعدها، فهو كالتطوع المطلق لا أنه سنة راتبة للصلاة كسنة صلاة الإقامة. ويؤيد هذا أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين تخفيفا على المسافر، فكيف يجعل لها سنة راتبة يحافظ عليها، وقد خفف الفرض ركعتين، فلولا قصد التخفيف على المسافر وإلا كان الإتمام أولى به، وقال أيضا (ج1 ص83): وكان أي النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر يواظب على سنة الفجر، والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن، ولم ينقل في السفر أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى سنة راتبة غيرهما، ولذلك كان ابن عمر لا يزيد على ركعتين، وسئل عن سنة الظهر في السفر، فقال: لو كنت مسبحا لأتممت. وهذا من فقهه رضي الله عنه، فإن الله سبحانه وتعالى خفف عن المسافر في الرباعية شطرها، فلو شرع له الركعتان قبلها أو بعدها لكان الإتمام أولى به. وتعقب قوله: لم يتنفل في السفر أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى سنة راتبة غير سنة الفجر والوتر، بما سيأتي من حديث ابن عمر في إثبات الراتبة البعدية للظهر والمغرب. قال الترمذي: اختلف أهل العلم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأى بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتطوع الرجل في السفر، وبه يقول أحمد وإسحاق، ولم تر طائفة أن يصلي قبلها ولا بعدها، ومعنى من لم يتطوع في السفر قبول الرخصة، ومن تطوع فله في لك فضل كثير، وهو قول أكثر أهل العلم يختارون التطوع في السفر- انتهى. قلت: والراجح عندي أن لا يترك في السفر الوتر وسنة الفجر. وأما غيرهما من الرواتب القبلية والبعدية فهي إلى خيرته، إن شاء فعلها وحصل ثوابها، وإن

(8/246)


شاء تركها ولا شيء عليه، أعني أنها لا تبقى في حقه متأكدة كسنة صلاة الإقامة، والله أعلم. (متفق عليه) فيه أن السياق المذكور ليس لهما ولا لأحدهما، بل هو مجموع من مجموع ما فيهما، فأول الحديث إلى قوله "أتممت صلاتي" من إفراد مسلم، لم يروه البخاري أصلا. وقوله: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر الحديث" وهو سياق البخاري. وعند مسلم: يا ابن أخي! إني صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: ?لقد كان لكن في رسول الله أسوة حسنة? [21:33] وسياق المشكاة موافق لما في المصابيح. ولو نبه المصنف على تصرف البغوي في سياق الحديث لكان أحسن. والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص158).
1348- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر) أي جمع تأخير، وهو أن يؤخر
إذا كان على ظهر يسير، ويجمع بين المغرب والعشاء))

(8/247)


الظهر إلى أن يدخل وقت العصر، فيصلي الظهر والعصر جميعا في وقت العصر. (إذا كان على ظهر يسير) قال القسطلاني: بإضافة ظهر يسير. وللأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت وأبي ذر عن الكشمهيني: ظهر بالتنوين، يسير بلفظ المضارع بتحتانية مفتوحة في أوله أي حال كونه يسير، وعزا في الفتح الأولى للأصيلي، والثانية للكشمهيني. ولفظ ظهر في قوله: "ظهر يسير" مقحم للتأكيد كقوله: الصدقة عن ظهر غنى. وقد يزاد في مثل هذا اتساعا للكلام، كأن السير مستند إلى ظهر قوي من المطي مثلا. وقيل: جعل للسير ظهر؛ لأن الراكب ما دام سائرا فكأنه راكب ظهر، وفيه جناس التحريف بين الظهر والعصر. (ويجمع بين المغرب والعشاء) أي كذلك. واستدل به على جواز جمع التأخير في السفر. وأما جمع التقديم فسيأتي الكلام فيه في شرح حديث معاذ بن جبل الآتي. واحتج بحديث ابن عباس هذا من قال باختصاص الجمع بالسائر دون النازل. وفي مسألة الجمع بين الصلاتين في السفر سبعة أقوال: أحدها أنه يجوز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في السفر في وقت أحدها جمعا حقيقيا تقديما وتأخيرا مطلقا، أي سواء كان سائرا أم لا، وسواء كان سيرا مجدا أم لا. قال به كثير من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وابن المنذر وأشهب. وحكاه ابن قدامة عن مالك أيضا. وقال الزرقاني: وإليه ذهب مالك في رواية مشهورة. قلت: وهو مختار المالكية، كما في فروعهم، واختاره الشاه ولي الله الدهلوي، حيث قال في حجة الله (ج2 ص18): من رخص السفر الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، والأصل فيه ما أشرنا أن الأوقات الأصلية ثلاثة الفجر والظهر والمغرب، وإنما اشتق العصر من الظهر والمغرب من العشاء، ولئلا تكون المدة الطويلة فاصلة بين الذكرين، ولئلا يكون النوم على صفة الغفلة، فشرع لهم جمع التقديم والتأخير، لكنه لم يواظب عليه ولم يعزم عليه مثل ما فعل في القصر- انتهى. والثاني

(8/248)


أنه يختص الجمع بمن يجد في السير أي يسرع، قاله الليث، وهو قول مالك في المدونة. واستدل لهما بما روي في الصحيح عن ابن عمر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين المغرب والعشاء (جمع تأخير) إذا جد به السير، وسيأتي الجواب عنه. والثالث أنه يختص بما إذا كان سائرا لا نازلا، قاله ابن حبيب من المالكية. واستدل لذلك بقوله: إذا كان على ظهر سير في حديث الباب. وأجيب عن ذلك بما وقع من التصريح في حديث معاذ بن جبل في الموطأ بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر الصلاة (في غزوة تبوك) خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء جميعا. قال الشافعي في الأم قوله: "ثم دخل ثم خرج" لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلا ومسافرا. وقال ابن عبدالبر: هذا أوضح دليل في الرد على من قال لا يجمع إلا من جد به السير، وهو قاطع للالتباس. وقال الباجي: مقتضى قوله: "ثم دخل ثم خرج" أنه مقيم غير سائر؛ لأنه إنما يستعمل في الدخول في المنزل والخباء، والخروج منهما، وهو غالب الاستعمال إلا أن يريد

(8/249)


أنه خرج من الطريق إلى الصلاة، ثم دخله للسير، وفيه بعد. وكذا حكى عياض هذا التأويل عن بعضهم ثم استبعده ولا شك في بعده، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر عادته التفرقة في حال الجمع بين ما إذا كان سائرا أو نازلا، ومن ثم قال الشافعية ترك الجمع أفضل. والرابع أن الجمع مكروه، قال ابن العربي: إنها رواية المصريين عن مالك، والخامس أنه يختص بمن له عذر حكى عن الأوزاعي. والسادس أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم وهو اختيار ابن حزم، وسيأتي الكلام فيه. والسابع أنه لا يجوز الجمع مطلقا إلا بعرفة والمزدلفة، وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنفية وصاحبيه، ووقع عند النووي أن الصاحبين خالفا شيخهما، ورد عليه السروجي في شرح الهداية، وهو أعرف بمذهبه، وأجاب هؤلاء عما ورد من الأخبار في ذلك الذي وقع جمع صوري، وهو أنه أخر المغرب مثلا إلى آخر وقتها، وعجل العشاء في أول وقتها. وتعقبه الخطابي في المعالم (ج1 ص264) بما حاصله: أن الجمع من الرخص العامة لجميع الناس عامهم وخاصهم، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلا عن العامة. وأما أمره - صلى الله عليه وسلم - للمستحاضة بالجمع الصوري، فهو وارد في شيء يندر وجوده، على أنه - صلى الله عليه وسلم - قيد ذلك بقوله: إن قويت كما تقدم، فإن قدرت المستحاضة على معرفة أوائل الأوقات وأواخرها، وعلى الاغتسال ثلاث مرات جمعت بين الصلاتين فعلا وصورة. ومن الدليل على أن الجمع رخصة، قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته، أخرجه مسلم. وهذا يقدح في حمله على الجمع الصوري؛ لأن النزول للصلاتين والخروج إليهما مرة واحدة وإن كان أسهل من النزول مرتين، لكن لا يخلو ذلك عن حرج ومشقة بسبب عدم معرفة أكثر الناس أوائل أوقات الصلاة وأواخرها بخلاف الجمع الوقتي فهو أيسر وأخف من الجمع الفعلي، وهذا

(8/250)


ظاهر وأيضا فإن الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين، وهي نصوص صريحة لا تحتمل تأويلا، كما سيأتي. قال الشيخ عبدالحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص129): حمل أصحابنا يعني الحنفية الأحاديث الواردة في الجمع على الجمع الصوري. وقد بسط الطحاوي الكلام فيه في شرح معاني الآثار، لكن لا أدري ماذا يفعل بالروايات التي وردت صريحا بأن الجمع كان بعد ذهاب الوقت، وهي مروية في صحيح البخاري وسنن أبي داود وصحيح مسلم وغيرها من الكتب المعتمدة على ما لا يخفى على من نظر فيها، فإن حمل على أن الرواة لم يحصل التمييز لهم، فظنوا قرب خروج الوقت، خروج الوقت، فهذا بعيد عن الصحابة الناصين على ذلك، وأن أختير ترك تلك الروايات بأبداء الخلل في الإسناد فهو أبعد وأبعد مع إخراج الأئمة لها وشهادتهم بتصحيحها، وإن عورض بالأحاديث التي صرحت بأن الجمع كان بالتأخير إلى آخر الوقت والتقديم في أول الوقت فهو أعجب، فإن الجمع بينهما بحملها على اختلاف الأحوال ممكن
رواه البخاري.
1349-(8) وعن ابن عمر قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به

(8/251)


بل هو الظاهر- انتهى كلام الشيخ اللكنوي. وأيضا المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع هو الجمع الوقتي لا الفعلي. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص264): ظاهر اسم الجمع عرفا لا يقع على من أخر الظهر حتى صلاها في آخر وقتها، وعجل العصر فصلاها في أول وقتها؛ لأن هذا قد صلى كل صلاة منهما في وقتها الخاص بها، وإنما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معا في وقت إحداهما ألا ترى أن الجمع بينهما بعرفة والمزدلفة كذلك- انتهى. ولو سلم أن لفظ الجمع عام يشمل الوقتي والفعلي كليهما فالروايات الصريحة في جمع التقديم والتأخير معين للمراد من لفظ الجمع في الروايات المطلقة، وأن المقصود هو الجمع الوقتي أي الحقيقي لا الصوري أي الفعلي. ومما يرد الحمل على الجمع الصوري جمع التقديم الآتي ذكره في الفصل الثاني. قال الحافظ: وفي هذه الأحاديث أي أحاديث الجمع الحقيقي الصريحة المفسرة تخصيص لحديث الأوقات التي بينها جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي حيث قال في آخرها: الوقت ما بين هذين- انتهى. وبهذا يندفع ما قيل: إن هذه الصلوات عرفت مؤقتة بأوقاتها بالدلائل المقطوع بها من الكتاب والسنة والإجماع، فلا يجوز تغييرها عن أوقاتها بخبر الواحد؛ لأن خبر الواحد لا يقبل في معارضة الدليل المقطوع به؛ لأن أحاديث الأوقات عامة وأحاديث الجمع خاصة بالسفر، ولا تعارض بين العام والخاص، فتحمل أحاديث الأوقات على ما عدا حالة السفر. (رواه البخاري) من طريق عكرمة عن ابن عباس. قال ميرك: ورواه مسلم بمعناه. قلت: روى مسلم من طريق أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أرادا أن لا يحرج أمته. وأخرج البيهقي الرواية الأولى (ج3 ص164).

(8/252)


1349- قوله: (على راحلته) الراحلة من الإبل ما كان منها صالحا؛ لأن يرتحل أي يشد عليه الرحل والقوي منها على الأحمال والأسفار للذكر والأنثى، والتاء للمبالغة. (حيث توجهت به) أي ولو إلى غير القبلة. قيل الضمير عائد إلى حيث أو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والباء للتعدية، والعائد إلى حيث محذوف أي إليه. وقوله: "حيث توجهت به" متعلق بقوله: "يصلي". ففي حديث عامر بن ربيعة عند البخاري: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو على الراحلة، يسبح يومئ برأسه قبل أي وجه توجه. قيل: وهو قيد احتراز, فصوب أي جهة سفره قبلته، فلو صلى إلى غير ما توجهت به دابته لا يجوز. قال الحافظ: واستدل به على أن جهة الطريق تكون بدلا عن القبلة، حتى يجوز الانحراف عنها عامدا قاصدا لغير حاجة المسير إلا إن كان سائرا في غير جهة القبلة فانحرف إلى جهة
يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته))

(8/253)


القبلة فإن ذلك لا يضره على الصحيح. وقال ابن قدامة: وقبلة هذا المصلي حيث كانت وجهته، فإن عدل عنها نظرت فإن كان عدوله إلى جهة الكعبة جاز؛ لأنها الأصل، وإنما جاز تركها للعذر، فإذا عدل إليها أتى بالأصل، وإن عدل إلى غيرها عمدا فسدت صلاته؛ لأنه ترك قبلته عمدا. (يومئ) بياء مبدلة من همزة من أومأ. قال الطيبي: حال من فاعل يصلي، وكذا على راحلته. (إيماء) نصب على المصدرية أي يشير برأسه إلى الركوع والسجود من غير أن يضع جبهته على ظهر الراحلة، وكان يومئ للسجود أخفض من الركوع تمييزا بينهما، وليكون البدل على وفق الأصل، وقد وقع ذلك صريحا في حديث جابر الآتي في الفصل الثاني. (صلاة الليل) مفعول يصلي.وفيه أن المراد بقوله: ?وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره? [144:2] الفرائض. (إلا الفرائض) مستثنى من صلاة الليل أي لكن الفرائض. فلم يكن يصليها على الراحلة، فالاستثناء منقطع لا متصل؛ لأن المراد خروج الفرائض من الحكم ليلية أو نهارية. (ويوتر) بعد فراغه من صلاة الليل. (على راحلته) قال ابن الملك: يدل على عدم وجوب الوتر يعني؛ لأنه لو كان واجبا لما جازت صلاته على الدابة. قلت: الحديث نص في جواز الوتر على الدابة في السفر وهو من علامات عدم وجوب الوتر. واختلف فيه أهل العلم، فقال مالك والشافعي وأحمد بجوازه، وهو مروي عن على وابن عمر وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري. وقولهم هو الحق. وقال أبوحنيفة وصاحباه: لا يجوز الوتر إلا على الأرض، كما في الفرائض وهو خلاف السنة الثابتة. قال محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر بعد رواية الأحاديث والآثار الدالة على جواز الوتر على الدابة ما لفظه: وزعم النعمان يعني أبا حنيفة أن الوتر على الدابة لا يجوز خلافا لما روينا. واحتج له بعضهم بحديث رواه عن ابن عمر أنه نزل عن دابته فأوتر بالأرض. فيقال لمن احتج بذلك: هذا ضرب من الغفلة، هل قال أحد لا يحل للرجل أن يوتر بالأرض؟ إنما قال العلماء:

(8/254)


لا بأس أن يوتر على الدابة، وإن شاء أوتر بالأرض, وكذلك كان ابن عمر يفعل ربما أوتر على الدابة، وربما أوتر على الأرض. (أي طلبا للأفضل). وعن نافع أن ابن عمر كان ربما أوتر على راحلته، وربما نزل. وفي رواية: كان يوتر على راحلته، وكان ربما نزل- انتهى. وقال الشيخ عبدالحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص131): أخذ أصحابنا يعني الحنفية بالآثار الواردة بنزول ابن عمر للوتر، وشيدوه بالأحاديث المرفوعة في نزوله - صلى الله عليه وسلم - للوتر. وقال المجوزون لأدائه على الدابة: إنه لا تعارض ههنا إذ يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل الأمرين، فأحيانا أدى الوتر على الدابة وأحيانا على الأرض واقتدى به ابن عمر. ويؤيده ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار عن مجاهد عن محمد ابن إسحاق عن نافع قال: كان ابن عمر يوتر على الراحلة، وربما نزل فأوتر على الأرض. وذكر الطحاوي بعد ما أخرج آثار الطرفين الوجه في ذلك عندنا أنه قد يجوز أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على الراحلة قبل أن
متفق عليه.

(8/255)


يحكم بالوتر، ويغلظ أمره، ثم أحكم بعد ولم يرخص في تركه، ثم أخرج حديث: إن الله أمدكم بصلاة هي خر لكم من حمر النعم الخ من حديث خارجة وأبي بصرة، ثم قال: فيجوز أن يكون ما روى ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وتره على الراحلة كان منه قبل تأكيده إياه، ثم نسخ ذلك- انتهى. وفيه نظر لا يخفى إذ لا سبيل إلى إثبات النسخ بالاحتمال ما لم يعلم ذلك بنص وارد في ذلك- انتهى كلام الشيخ اللكنوي. وفي الحديث جواز التنفل على الراحلة في السفر، وهو مما أجمع عليه المسلمون. قال الشوكاني: جواز التطوع على الراحلة للمسافر قبل جهة مقصده إجماع كما قال النووي والعراقي والحافظ وغيرهم، وإنا الخلاف في جواز ذلك في الحضر، فجوزه أبويوسف وأبوسعيد الأصطخري من أصحاب الشافعي وأهل الظاهر. وقال ابن حزم: وقد روينا عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يصلون على رحالهم ودوابهم حيثما توجهت، قال: وهذه حكاية عن الصحابة والتابعين عموما في الحضر والسفر. قال النووي: وهو محكي عن أنس بن مالك. قال العراقي: استدل من ذهب إلى ذلك بعموم الأحاديث التي لم يصرح بذكر السفر، وهو ماش على قاعدتهم أنه لا يحمل المطلق على المقيد، بل يعمل على كل منهما. فأما من يحمل المطلق على المقيد، وهم الجمهور فحملوا الروايات المطلقة على المقيدة. وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين السفر الطويل والقصير. (لأن الروايات ليس فيها شيء من التحديد فوجب الامتثال بالعموم) وإليه ذهب الشافعي وجمهور العلماء. (أبوحنيفة وصاحباه وأحمد وداود وغيرهم) وذهب مالك إلى أنه لا يجوز إلا في سفر يقصر في مثله الصلاة. (لأن الروايات التي حكاها ابن عمر وغيره وردت فيما يقصر فيه الصلاة)، وهو محكي عن الشافعي لكنها حكاية غريبة- انتهى. وقال الحافظ: قد أخذ بمضمون هذه الأحاديث فقهاء الأمصار، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة. والحجة لذلك حديث الجارود بن

(8/256)


أبي سبرة عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث وجهت ركابه، أخرجه أبوداود وأحمد والدارقطني- انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج1 ص436): وإن كان يعجز عن استقبال القبلة في ابتداء الصلاة كراكب راحلته لا تطيعه أو كان في قطار أي جماعة الإبل التي تربط بعضها ببعض فليس عليه استقبال القبلة في شيء من الصلاة، وإن أمكنه افتتاحها إلى القبلة تخرج فيه روايتان: إحداهما يلزمه لرواية أنس عند أحمد وأبي داود أنه عليه السلام استقبل بناقته القبلة، فكبر، والثانية: لا يلزمه؛ لأنه جزء من أجزاء الصلاة أشبه سائر أجزائها والحديث يحمل على الفضيلة والندب- انتهى. وكان السر فيما ذكر من جواز التطوع على الدابة في السفر تحصيل النوافل على العباد وتكثيرها تعظيما لأجورهم رحمة من الله بهم. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب الوتر في السفر، وأخرجه أيضا مالك وأحمد وأبوداود والنسائي والطحاوي والبيهقي (ج2 ص5، 491).
?الفصل الثاني?
1350- (9) عن عائشة، قالت: ((كل ذلك قد فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قصر الصلاة وأتم))

(8/257)


1350- قوله: (كل ذلك) إشارة إلى ما ذكر بعده من القصر والإتمام "وكل" مفعول قوله. (قد فعل) أو مبتدأ على حذف العائد أي كل ذلك فعله. قال الطيبي: ذلك إشارة إلى أمر مبهم له شأن لا يدري إلا بتفسيره. وتفسيره قولها رضي الله عنها: (قصر الصلاة وأتم) ونظيره قوله تعالى: ?وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين? [ 15: 66]، تعني كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقصر الرباعية في السفر ويتمها. والحديث قد احتج به القائلون بعدم وجوب القصر في السفر، لكنه ضعيف جدا؛ لأن في سنده طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي المكي، وهو متروك ليس بشيء، واحتجوا أيضا بما روى الدارقطني (ص242) والبيهقي (ج3: ص141) من طريقه عن عائشة أن النبي الله- صلى الله عليه وسلم - كان يقصر ويتم ويفطر ويصوم. قال الدارقطني: إسناده صحيح. وأجيب عنه بأنه حديث فيه كلام لا يصح للاحتجاج. قال الحافظ في التلخيص (ص128): قد استنكره أحمد، وصحته بعيدة، فإن عائشة كانت تتم ،وذكر عروة أنها تأولت ما تأول عثمان، كما في الصحيح، فلو كان عندها من النبي - صلى الله عليه وسلم - رواية لم يقل عروة: إنها تأولت، وقد ثبت في الصحيحين خلاف ذلك- انتهى. وقال ابن القيم في الهدي (ج1: ص121) بعد ذكر هذا الحديث: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - انتهى. واحتجوا أيضا بما روى النسائي والدارقطني (ص242) والبيهقي (ج3 ص142) عن عائشة أيضا قالت: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة في رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقالت: - بأبي وأمي- أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت! فقال أحسنت يا عائشة! قال الدارقطني: إسناده حسن. وأجيب عنه بأنه أيضا لا يصلح للاحتجاج. قال في البدر المنير: إن في متن هذا الحديث نكارة، وهو كون عائشة خرجت معه في عمرة في رمضان، والمشهور أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر إلا أربع عمر ليس منهن شيء في

(8/258)


رمضان، بل كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته، فكان إحرامها في ذي القعدة، وفعلها في ذي الحجة، قال: هذا هو المعروف في الصحيحين وغيرهما. وقد تمحل بعض الحفاظ في الجواب عن هذا الإشكال، واعتراض عليه الحافظ أبوعبدالله بن محمد بن عبدالأحد المقدسي في كلام له على هذا الحديث، وقال: وهم في هذا غير موضع، وذكر أحاديث في الرد عليه. وقال ابن حزم: هذا حديث لا خير فيه، وطعن فيه. وقال ابن القيم في الهدي (ج1 ص133) بعد ذكر هذا الحديث: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة تصلي بخلاف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب. كيف وهي القائلة: فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في الصلاة الحضر،
رواه في شرح السنة.
1351-(10) وعن عمران بن حصين، قال: ((غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهدت معه الفتح، فقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، يقول: يا أهل البلد! صلوا أربعا، فإنا سفر)).

(8/259)


وأقرت صلاة السفر، فكيف يظن أنها تريد على ما فرض الله وتخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حسن فعلها وأقرها عليه فما للتأويل. (يعني ما تقدم ذكره في كلام الحافظ في التلخيص) حينئذ وجه، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبوبكر ولا عمر، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهم تراهم يقصرون؟ وأما بعد موته - صلى الله عليه وسلم - فإنها أتمت كما أتم عثمان، وكلاهما تأول تأويلا، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له- انتهى. وبالجملة فلم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أتم الرباعية في سفره البتة، بل لازم القصر في جميع أسفاره، فعلى المسلم أن يلازم القصر في السفر، كما لازمه - صلى الله عليه وسلم -. (رواه) أي صاحب المصابيح. (في شرح السنة") وأخرجه أيضا الشافعي والدارقطني (ص242) والبيهقي (ج3 ص142)، وفي سنده طلحة بن عمرو، وهو مترك، فالحديث ضعيف جدا.

(8/260)


1351- قوله: (غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي غزوات. (الفتح) أي فتح مكة. (فأقام) أي مكث. (ثماني عشرة ليله) أي مع أيامها، وما كان نوى الإقامة هذه المدة من أول الأمر بل كان مترددا متى تهيأ فراغ حاجته ارتحل كما تقدم، فامتد مكثه بمكة لذلك. (لا يصلي إلا ركعتين) في الرباعية. ( يقول) بعد تسليمة خطابا لمن اقتدى به من أهل مكة: (يا أهل البلد صلوا أربعا) أي لا تقصروا صلاتكم بل أتموها أربعا. (فإنا) قوم. (سفر) بفتح السين وسكون الفاء. جمع سافر، كركب وراكب وصحب وصاحب، أي إني وأصحابي مسافرون فنقصر الصلاة الرباعية من أجل السفر، وأنتم مقيمون فلا تقصروها بل أتموها. قال الطيبي: الفاء هي الفصيحة لدلالتها على محذوف هو سبب لما بعد الفاء، أي صلوا أربعا ولا تقتدوا بنا فإنا سفر، كقوله تعالى: ?فانفجرت? أي فضرب فانفجرت- انتهى. وفي الحديث دليل على أن المسافر إذا كان إماما للمقيمين وسلم على ركعتين في الرباعية يتم المقيمون صلاتهم كإتمام أهل مكة، وهذا إجماع، ويستحب له أن يقول بعد التسليم به أتموا صلاتكم إتباعا لفعله- صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عبدالبر: لا خلاف علمته فيما بينهم أن المسافر إذا صلى بمقيمين ركعتين وسلم فأتموا لأنفسهم. وقال الشوكاني: جواز ائتمام المقيمين بالمسافر مجمع عليه. واختلف في العكس، فذهب طاووس وداود والشعبي وغيرهم إلى عدم الصحة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تختلفوا على إمامكم، وقد خالف في العدد والنية، وذهب الحنفية والشافعية إلى الصحة إذ لم تفصل أدلة الجماعة، ويدل للجواز ما أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عباس أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا
رواه أبوداود.

(8/261)


1352-(11) وعن ابن عمر، قال: ((صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر في السفر ركعتين، وبعدها ركعتين. وفي رواية قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحضر والسفر، فصليت معه في الحضر الظهر أربعا، وبعدها ركعتين. وصليت معه في السفر الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين، ولم يصل بعدها شيئا، والمغرب في الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات، ولا ينقص في حضر ولا سفر،
إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة. وفي لفظ قال له موسى بن سلمة: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا، وإذا رجعنا صلينا ركعتين! فقال: تلك سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - . وقد أورد الحافظ هذا الحديث في التلخيص(ص130) ولم يتكلم عليه-انتهى. وقال ابن عبدالبر في الاستذكار: اختلفوا... في المسافر يصلي وراء مقيم، فقال مالك وأصحابه: إذا لم يدرك معه تامة صلى ركعتين، فإن أدرك معه ركعة بسجدتيها صلى أربعا. وذكر الطحاوي أن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا قالوا: يصلي صلاة المقيم وإن أدركه في التشهد وهو قول الثوري والشافعي-انتهى. قلت: وهو مذهب الإمام أحمد كما في المغني (ج1ص284) وغيره من كتب فروع الحنابلة. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج3ص157) من طريق أبي داود وأخرجه أيضا هو (ج3ص135، 136، 153) والترمذي بنحوه مطولا، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحافظ في التلخيص (ص129): إن الترمذي حسن هذا الحديث، ولكن نقل المنذري والزيلعي (ج2ص187) أنه قال: حسن صحيح. والحديث نسبه أيضا الزيلعي إلى الطبراني وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وأبي داود الطيالسي. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقال الحافظ: هو ضعيف، وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده، ولم يعتبر الاختلاف في المدة، كما عرف من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق-انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: علي بن زيد عند الترمذي صدوق، كما في

(8/262)


الميزان وغيره، فلأجل ذلك حسنه وصححه، على أن لهذا الحديث شواهد، وكم من حديث ضعيف قد حسنه الترمذي لشواهده-انتهى.
1352- قوله: (الظهر) أي صلاته. (في السفر ركعتين) أي فرضا. (وبعدها) أي بعد صلاة الظهر. (ركعتين) أي سنة الظهر. (وفي رواية) أي عن ابن عمر. (الظهر) أي فرضه. (أربعا) أي أربع ركعات. (ولم يصل بعدها) أي بعد صلاة العصر. (شيئا) لكراهة التطوع بعدها. (والمغرب في الحضر والسفر سواء) حال أي مستويا عددها فيهما وقوله. (ثلاث ركعات) بيان لها. (لا ينقص في حضر ولا سفر) على البناء للفاعل
وهي وتر النهار، وبعدها ركعتين))، رواه الترمذي.
1353-(12) وعن معاذ بن جبل، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل، جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، في المغرب مثل ذلك، إذا غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء، ثم يجمع بينهما))

(8/263)


أي شيء منها، يعني لا ينقص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب عن ثلاث ركعات في الحضر ولا في السفر؛ لأن القصر منحصر في الرباعية. (وهي وتر النهار) جملة حالية كالتعليل لعدم جواز النقصان، قاله الطيبي. (وبعدها) أي بعد صلاة المغرب. (ركعتين) أي سنة المغرب. والروايتان تدلان على جواز الإتيان بالرواتب في السفر، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا. (رواه الترمذي) الرواية الأولى من طريق حجاج بن أرطاة عن عطية عن ابن عمر. والثانية المطولة من طريق محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عطية ونافع عن ابن عمر، وقد حسن الترمذي الروايتين جميعا، وإنما حسن الرواية الأولى أي المختصرة مع أن في سندها حجاج بن أرطاة وعطية، وكلاهما مدلسان، وروياه بالعنعنة. وقال في الميزان: عطية تابعي شهير ضعيف؛ لأنه قد تابع حجاجا ابن أبي ليلى في طريق الرواية الثانية، وكذلك تابع عطية نافع فيها، ومحمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى صدوق فقيه تكلم فيه من قبل حفظه، وحديثه مما يحتج به إذا تابعه غيره.

(8/264)


1353- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك) غير منصرف على المشهور، وهو موضع قريب من الشام. (إذا زاغت الشمس) أي مالت عن وسط السماء إلى جانب المغرب أراد به الزوال. (قبل أن يرتحل) ظرف لما قبله أو ما بعده. (جمع بين الظهر والعصر) أي في المنزل جمع تقديم، بأن قدم العصر فصلاها في وقت الظهر. (قبل أن تزيغ الشمس) أي تزول. (آخر الظهر) أي إلى وقت العصر. (حتى ينزل للعصر) أي لوقته فجمع بينهما جمع تأخير بأن صلى الظهر في وقت العصر ثم صلى العصر. (وفي المغرب مثل ذلك) أي مثل ما فعل في الظهر والعصر. (إذا غابت) وفي المصابيح: إن غابت، كما في أبي داود، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6ص451) (جمع بين المغرب والعشاء) في المنزل جمع تقديم. (آخر المغرب حتى ينزل للعشاء) أي لوقته. (ثم يجمع) وفي المصابيح: ثم جمع موافقا، لما في أبي داود، ووقع في جامع الأصول، كما في المشكاة. (بينهما) أي جمع تأخير. وفي الحديث دليل لما ذهب إليه الشافعي وغيره من جواز الجمع الحقيقي تقديما وتأخيرا. قال ابن حجر
رواه أبوداود والترمذي

(8/265)


المكي: إنه حديث صحيح، وإنه جملة الأحاديث التي هي نص لا يحتمل تأويلا في جواز جمعي التقديم والتأخير-انتهى. قلت: وفي الباب أحاديث أخرى، وهي صريحة في الجمع الحقيقي، وسنذكرها. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا النسائي والدارقطني (ص150) والبيهقي (ج3ص162، 163) كلهم من طريق هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ. قال الحافظ في التلخيص (ص130): وهشام لين الحديث، وقد خالف أوثق الناس في أبي الزبير، وهو الليث بن سعد. وقال في الفتح (ج5ص588): وهشام مختلف فيه، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير، كمالك والثوري وقرة بن خالد وغيرهم-انتهى. قلت: هشام بن سعد المدني أبوعباد صاحب زيد بن أسلم، قد استشهد به مسلم في الصحيح، وعلق له البخاري في جامعه الصحيح، وضعفه ابن معين والنسائي وابن عدي. وقال الساجي: صدوق. وقال: أبوزرعة محله الصدق، وهو أحب إلي من ابن إسحاق. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين صالح، وليس بمتروك الحديث. وقال أبوداود: هشام بن سعد أثبت الناس في زيد بن أسلم. وقال الحاكم: أخرج له مسلم في الشواهد، كذا في التهذيب. وقال في البدر المنير: قال عبدالحق عن البزار: لم أر أحدا توقف عن حديثه- انتهى. فحديثه لا ينحط عن درجة الحسن، وعلى هذا فالحديث المذكور ليس بضعيف، كما تفوه النيموي، بل هو حسن بلا شك. وأما ما ذكر الحافظ من مخالفته لأصحاب أبي الزبير، وكأنه يشير إلى أن روايته بجمع التقديم شاذة، ففيه أنه ليس بين روايته وبين رواياتهم مخالفة ومعارضة أصلا، فإن رواياتهم مجملة ساكتة عن بيان كيفية الجمع، ورواية هشام هذه مفصلة مفسرة، والمفسرة قاض على المجمل، فيحمل هذا على ذاك، وللحديث طريق أخرى عن معاذ بن جبل أخرجها أحمد (ج5 ص241، 242) والترمذي وأبوداود وابن حبان والدارقطني (ص150) والبيهقي (ج3 ص163) والحاكم في علوم الحديث (ص119) بنحوه من رواية قتيبة عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن

(8/266)


معاذ بن جبل، وهذا الطريق قد اضطربت فيه أقوال العلماء، قال في البدر المنير: للحفاظ في هذا الحديث خمسة أقوال: أحدها أنه حسن غريب، قاله الترمذي. ثانيها: أنه محفوظ صحيح، قاله ابن حبان. ثالثها: أنه منكر، قاله أبوداود. (حكاه الحافظ في التلخيص ص130) والمنذري في مختصر السنن). رابعها: أنه منقطع، قاله ابن حزم. خامسها: أنه موضوع، قاله الحاكم. (في علوم الحديث ص120) وأصل حديث أبي الطفيل في صحيح مسلم، وأبوطفيل ثقة مأمون- انتهى. وقال الحافظ في الفتح (ج5 ص588): وقد أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرد قتيبة عن الليث. وقال في التلخيص (ص130) بعد ذكر هذا الحديث: قال الترمذي حسن غريب، تفرد به قتيبة، والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ،

(8/267)


وليس فيه جمع تقديم. يعني الذي أخرجه مسلم. وقال أبوداود: هذا حديث منكر، وليس في جمع التقديم حديث قائم. وقال أبوسعيد بن يونس: لم يحدث بهذا الحديث إلا قتيبة، ويقال: إنه غلط فيه فغير بعض الأسماء، وأن موضع يزيد بن أبي حبيب أبوالزبير. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا أعرفه من حديث يزيد، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث، وأطنب الحاكم في علوم الحديث في بيان علة هذا الخبر، فليراجع منه، وحاصله أن البخاري سأل مع من كتبته؟ فقال: مع خالد المدائني قال البخاري: كان خالد المدائني يدخل على الشيوخ، يعني يدخل في روايتهم ما ليس منها، وأعله ابن حزم بأنه معنعن ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ولا يعرف له عنه رواية- انتهى كلام الحافظ. قلت: الكلام الذي عزاه الحافظ لأبي داود ليس في سننه، بل الذي فيها "لم يرو هذا الحديث إلا قتيبة وحده، ولم يقم دليل على ما قيل من أن قتيبة أو غيره من الرواة غلط في هذا الحديث فغير بعض الأسماء، وقد راجعنا علوم الحديث للحاكم فوجدنا أنه قد أفرط في الكلام على هذا الحديث فحكم بكونه موضوعا، ولم يأت بشيء يؤيد قوله، والحق أن الحديث على شرط صحيح. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: وما أحسن ما قال، وقد أسرف الحاكم أبوعبدالله في علوم الحديث فزعم أنه موضوع، مع أنه اعترف بأن رواته أئمة ثقات وعلل ذلك بأنه "شاذ الإسناد والمتن، لا نعرف له علة نعلله بها" وأطال القول في ذلك بما لا طائل تحته، والحديث حديث صحيح ليست له علة، وقد صححه أيضا ابن حبان. (كما تقدم) وليس الشاذ ما انفرد به الثقة، إنما الشاذ أن يخالف الراوي غيره ممن هو أحفظ منه وأقوى- انتهى. ويؤيد ذلك ما روى الحاكم (ص119) عن الشافعي أنه قال: ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره، هذا ليس بشاذ إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف فيه الناس، هذا الشاذ من الحديث- انتهى. وقد رد أيضا على الحاكم ابن القيم

(8/268)


في الهدي (ج1 ص136) فقال: حكمه بالوضع على هذا الحديث غير مسلم، قال: وإسناده على شرط الصحيح وفي جمع التقديم أحاديث أخرى فمنها حديث ابن عباس، أخرجه أحمد (ج1 ص368، 369) والدارقطني (ص149) والبيهقي (ج3 ص163) من طريق حسين بن عبدالله عن عكرمة وكريب عن ابن عباس مرفوعا، وذكره أبوداود تعليقا، والترمذي في بعض الروايات عنه، وحسين بن عبدالله الهاشمي ضعفه جماعة. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ليس به بأس يكتب حديثه. وقال ابن عدي: أحاديثه يشبه بعضها بعضا، وهو ممن يكتب حديثه، فإني لم أجد في حديثه منكرا، قد جاوز المقدار. قال الحافظ في التلخيص (ص130): يقال إن الترمذي حسن هذا الحديث، وكأنه باعتبار المتابعة، وغفل ابن العربي فصحح إسناده‘ لكن له طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبدالحميد الحماني في مسنده عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وله طريق أخرى أيضا أخرجها إسماعيل القاضي في الأحكام

(8/269)


عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن كريب عن ابن عباس بنحوه، وله طريق أخرى أيضا أخرجها أحمد (ج1 ص242) من رواية حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس قال: لا أعلمه إلا قد رفعه، قال: كان إذا نزل منزلا- الحديث. ونسبه الحافظ في الفتح للبيهقي وقال: رجاله ثقات، إلا أنه مشكوك في رفعه. (حيث قال: ولا أعلمه مرفوعا) والمحفوظ أنه موقوف. وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر مجزوما بوقفه، ولا ابن عباس حديث آخر، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص160، 159) وعزاه للطبراني في الأوسط وقال: فيه أبومعشر نجيح، وفيه كلام كثير، وقد وثقه بعضهم- انتهى. ومنها حديث علي أخرجه الدارقطني (ص150) وفي إسناده، كما قال الحافظ: من لا يعرف، وفيه أيضا المنذر بن محمد القابوسي، وهو ضعيف. وقال الدارقطني: مجهول، وأخرج عبدالله بن أحمد في زيادات المسند (ج1 ص136) بإسناد آخر أن عليا كان يسير حتى إذا غربت الشمس وأظلم نزل فصلى المغرب ثم صلى العشاء على أثرها ثم يقول: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناده صحيح. ومنها حديث أنس أخرجه جعفر الفريابي والبيهقي في كتاب المعرفة، وفي السنن الكبرى (ج3 ص162) والإسماعيلي وأبونعيم في مستخرجه على مسلم كلهم من طريق إسحاق بن راهويه عن شبابة عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل، وأعل بتفرد إسحاق ابن راهويه، وليس ذلك بقادح فإنه إمام حافظ قاله الحافظ في الفتح، وقال في التلخيص (ص130) بعد ذكر الحديث: وإسناده صحيح، قاله النووي، وفي ذهني أن أبا داود أنكره على إسحاق ولكن له متابع، رواه الحاكم في الأربعين له عن أبي العباس محمد بن يعقوب عن محمد بن إسحاق الصغاني عن حسان بن عبدالله عن المفضل بن فضالة عن عقيل عن

(8/270)


ابن شهاب، وهو في الصحيحين من هذا الوجه، وليس فيه: والعصر، وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي، وتعجب من الحاكم كونه لم يورده في المستدرك- انتهى. وقال في الفتح: قال الحافظ صلاح الدين العلائي: هكذا وجدته بعد التتبع في نسخ كثيرة من الأربعين بزيادة العصر، وسند هذه الزيادة جيد- انتهى. قلت. (قائله الحافظ): وهي متابعة قوية لرواية إسحاق بن راهويه أن كانت ثابتة لكن في ثبوتها نظر؛ لأن البيهقي أخرج في السنن الكبرى (ج3 ص161) هذا الحديث عن الحاكم بهذا الإسناد مقرونا برواية أبي داود عن قتيبة. وقال: إن لفظهما سواء إلا أن في رواية قتيبة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية حسان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان، وله طريق أخرى رواها الطبراني في الأوسط، ذكرها الحافظ في التلخيص (ص130، 131) بسندها ومتنها ثم نقل عن الطبراني أنه قال: تفرد به يعقوب بن محمد. وقال
1354- (13) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر وأراد أن يتطوع، استقبل القبلة
بناقته، فكبر، ثم صلى حيث كان وجهه ركابه))

(8/271)


الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص160) بعد عزوه إلى الطبراني: ورجاله موثقون- انتهى. هذا وقد ظهر بما ذكرنا من أحاديث جمع التقديم ومتابعاتها، وهن ما حكي عن أبي داود أنه قال: ليس في جمع التقديم حديث قائم، وتحقق قوة وصحة ما قاله الشوكاني في النيل من أن بعضها صحيح وبعضها حسن، وذلك يرد قول أبي داود ليس في جمع التقديم حديث قائم- انتهى. وأما جمع التأخير فقد ورد فيه أحاديث كثيرة صحيحة صريحة مخرجة في الصحيحين وغيرهما. فمنها حديث أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل يجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. متفق عليه. وفي رواية لمسلم: حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما. ومنها حديث أنس أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق، رواه مسلم، ومنها ما روي عن نافع أن ابن عمر كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق، ويقول: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء. رواه مسلم. ومنها حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غابت له الشمس بمكة، فجمع بينهما بسرف. رواه أبوداود والنسائي. وهذه الروايات صريحة في الجمع في وقت إحدى الصلاتين، وفيها إبطال تأويل الحنفية في قولهم: إن المراد بالجمع الجمع الصوري، أي الفعلي يعني تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية إلى أول وقتها، وأما ما يذكر من الروايات المخرجة في غير الصحيحين الدالة على الجمع الصوري، فهي لا توازي روايات الصحيحين.

(8/272)


1354- قوله: (إذا سافر) سفرا قصيرا أو طويلا، وقيل: المراد السفر الشرعي. (وأراد) وفي أبي داود فأراد. (أن يتطوع) أي يتنفل راكبا والدابة تسير. (استقبل القبلة بناقته) وفي أبي داود: استقبل بناقته القبلة أي ليحصل استقبال القبلة وقت افتتاح الصلاة. (فكبر) أي للتحريمة عقب الاستقبال. (ثم صلى) أي ثم استمر في صلاته، قاله ابن حجر. وقال الطيبي: ثم ههنا للتراخي في الرتبة، ولما كان الاهتمام بالتكبير أشد لكونه مقارنا بالنية خص بالتوجه إلى القبلة. (حيث وجهه ركابه) أي ذهب به مركوبه. مستقبل القبلة أو غير مستقبلها، وفي دليل على مشروعية استقبال القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة، وقد تقدم الكلام فيه. قال ابن القيم بعد ذكر هذا الحديث: وفي هذا الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته أطلقوا أنها كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها كعامر
رواه أبوداود.
1355- (14) وعن جابر، قال: ((بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجته، فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، ويجعل السجود أخفض من الركوع)) رواه أبوداود.
ابن ربيعة وعبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله، وأحاديثهم أصح من حديث أنس هذا- انتهى. قلت: حديث أنس هذا ليس فيه دليل على وجوب استقبال القبلة بالتكبير وقت افتتاح صلاة التطوع على الراحلة، فيحمل على الندب والفضيلة، كما قال ابن قدامة، وحينئذ فلا مخالفة بينه وبين أحاديث غيره ممن ذكرهم ابن القيم. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والدارقطني (152) والبيهقي (ج2 ص5). والحديث قد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال في التعليق المغني: الحديث صحيح الإسناد. قلت: الأمر كما قال صاحب التعليق.

(8/273)


1355- قوله: (في حاجته) وفي المصابيح: في حاجة. وكذا في سنن أبي داود والترمذي، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص317) وللبيهقي: لحاجة. (فجئت) أي إليه بعد قضاء الحاجة. (وهو يصلي) حال. (نحو المشرق) ظرف، أي يصلي إلى جانب المشرق، أو حال أي متوجها نحو المشرق أو كانت متوجهة إلى جانب المشرق. قال الحافظ في الفتح: وبين في المغازي أن ذلك كان في غزوة أنمار، وكانت أراضهم قبل المشرق لمن يخرج من المدينة، فتكون القبلة على يسار القاصد إليهم. (ويجعل السجود) أي إيماء إليه، كذا وقع في المصابيح، ويجعل السجود. وفي سنن أبي داود وجامع الترمذي: والسجود أي بالرفع، وبدون لفظ يجعل، وكذا نقله الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص152) عنهما، وكذا حكاه المنذري في مختصر السنن، وكذا ذكره المجد بن تيمية في المنتقى، والجزري في جامع الأصول. (أخفض من الركوع) أي أسفل من إيماء إلى الركوع، وفيه مشروعية التطوع على الدابة في السفر، والإيماء للركوع والسجود على الدابة، وكون الإيماء للسجود أخفض من الركوع بحيث يفترق به السجود عن الركوع، وبهذا قال الجمهور. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن حبان والبيهقي (ج2 ص5) من طرق مختلفة بألفاظ بعضها مطول وبعضها مختصر. وقال المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه أتم منه. وفي حديث الترمذي وحده: والسجود أخفض من الركوع. وقال حسن صحيح. قلت: أصل الحديث عند البخاري، ولفظ ابن حبان: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي النوافل على راحلته في كل وجه يومئ إيماء، ولكنه يخفض السجدتين من الركعتين، وبنحوه أخرج أحمد في مسنده.
?الفصل الثالث?
1356- (15) عن ابن عمر، قال: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبوبكر
بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدرا من خلافته. ثم إن عثمان صلى بعد أربعا،

(8/274)


1356- قوله: (بمنى) أي في حجة الوداع. وزاد مسلم في رواية سالم عن أبيه بمنى وغيره. (ركعتين) أي في الفرائض الرباعية للسفر. (وأبو بكر بعده) أي كذلك. (وعمر بعد أبي بكر) كذلك. (وعثمان) كذلك (صدرا من خلافته) أي زمانا أولا منها نحو ست سنين. قال النووي: هذا هو المشهور أن عثمان أتم بعد ست سنين من خلافته. (ثم إن عثمان صلى بعد) أي بعد مضى الصدر الأول من خلافته. (أربعا) اعلم أنه اختلف في ذكر السبب لإتمام عثمان بمنى على أقوال: فقيل: لأنه تأهل بمكة على ما روى أحمد (ج1 ص62) من حديثه أنه صلى بمنى أربع ركعات، فأنكره الناس عليه، فقال: يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم، لكن إسناد هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده عكرمة بن إبراهيم الباهلي، وهو مجهول الحال. فقد نقل الحافظ في التعجيل (ص290) في ترجمته عن الحسيني أنه قال: "ليس بالمشهور". ونقل عن ابن شيخه أنه قال: "لا أعرف حاله". وقيل: رأى عثمان القصر والإتمام جائزين، فأخذ بأحد الجائزين، ورأى ترجيح طرف الإتمام لما فيه من المشقة. قال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدة- انتهى. وهذا رجحه جماعة من آخرهم القرطبي. وقيل: إن عثمان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا. وأما من كان قائما في مكان في أثناء السفر فله حكم المقيم. قال الحافظ: والمنقول أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا. وأما من أقام بمكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم، والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبدالله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجا صلى بنا الظهر ركعتين بمكة ثن انصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا: لقد عبت أمر

(8/275)


ابن عمك؛ لأنه كان قد أتم الصلاة، قال: وكان عثمان حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعا أربعا، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة، قال الحافظ: وهذا الوجه أولى. (أي من الوجه الثاني) لتصريح الراوي بالسبب وإن رجح الوجه الثاني جماعة. وقيل: إنما صلى عثمان بمنى أربعا؛ لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام، فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع، ذكره الطحاوي عن أيوب عن الزهري. وروى البيهقي من طريق عبدالرحمن بن حميد بن
فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعا، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين)) متفق عليه.
1357- (16) وعن عائشة، قالت: ((فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى،

(8/276)


عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى، ثم خطب، فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولكنه حدث طعام يعني بفتح الطاء والمعجمة، فخفت أن يستنوا. وعن ابن جريج: أن أعرابيا ناداه في منى يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين. قال الحافظ: وهذه طرق يقوي بعضها بعضا، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارض للوجه الذي اخترنه، بل يقويه من حيث أن حالة الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلقة عليها بخلاف السائر، وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان- انتهى. وههنا أقوال أخرى في بيان السبب في إتمام عثمان بمنى، لكنها لا دليل عليها، بل هي ظنون ممن قالها، فلا حاجة إلى ذكرها. (فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام) الظاهر أنه عثمان، ويحتمل أنه أراد إماما يتم (صلى أربعا)؛ لأنه يجب على المسافر المقتدي أن يتبع إمامه قصر أو أتم، كما تقدم. (وإذا صلاها وحده صلى ركعتين) أي قصر الرباعية؛ لأنه مسافر، والقصر أفضل وأحوط بلا خلاف. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، بل ما ذكر من فعل ابن عمر أي قوله فكان ابن عمر إذا صلى الخ لم يروه البخاري أصلا، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج2 ص55-58) والترمذي والنسائي كلهم من طريق عبيدالله بن عمر العمري عن نافع عن عبدالله بن عمر. وأخرجه مسلم أيضا من طريق سالم عن أبيه عبدالله بن عمر، وأخرجه البخاري والنسائي أيضا من طريق عبيدالله بن عبدالله بن عمر عن أبيه.

(8/277)


1357- قوله: (فرضت الصلاة) أي أولا بمكة ليلة الإسراء. (ركعتين) وفي رواية: ركعتين ركعتين بالتكرير لإرادة عموم التثنية لكل صلاة في الحضر والسفر. زاد أحمد في مسنده: إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا. (ثم هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي إلى المدينة. وفي البخاري: "النبي " يدل "رسول الله". (ففرضت أربعا) أربعا أي في الحضر إلا الصبح. (قال الدولابي: نزل إتمام صلاة المقيم في الظهر يوم الثلاثاء اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم بشهر، وأقرت صلاة السفر، ذكره العيني. وقال السهيلي: بعد الهجرة بعام أو نحوه، زيد في صلاة الحضر. (وتركت صلاة السفر) ركعتين ركعتين. (على الفريضة الأولى) ليس في البخاري لفظ: الفريضة، وإنما وقع ذلك في رواية مسلم من طريق يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ،ثم أتمها في الحضر، فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى.

(8/278)


قال القسطلاني: الأولى بضم الهمزة، لأبي ذر على الأول أي من عدم الزيادة بخلاف صلاة الحضر، فإنه زيد في ثلاث منها ركعتان. وفي رواية للبخاري: فرض الله الصلاة حين فرضها في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، أي لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وقد تمسك بظاهر الحديث الحنفية على أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة، فلا يجوز الإتمام إذ ظاهر قولها: أقرت يقتضيه. وأجيب عنه بوجوه: منها المعارضة بقوله تعالى: ?فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة? [101:4]؛ لأنه يدل على أن الأصل الإتمام؛ لأن القصر إنما يكون عن تمام سابق، ونفي الجناح يدل على جوازه دون وجوبه. وأجاب الحنفية عن هذه الآية بوجوه، كما تقدم في شرح حديث يعلى بن أمية في الفصل الأول من هذا الباب. وقال بعضهم: إن إطلاق القصر عليه باعتبار ما زيد في الصلاة لا باعتبار أصل الصلاة، فإنها تدل على أن إطلاق القصر عليه باعتبار ما زيد فيها في الحضر لا باعتبار مطلق الصلاة، فإنه كان زيد فيه بإطلاق اللفظ لا بخصوصية الحضر، وكان في علم الله مخصوصة بالحضر فأطلق القصر عليه باعتبار إطلاق ظاهر اللفظ- انتهى. وزاد بعضهم موضحا ومبينا لهذا الجواب يعني فإطلاق القصر مجاز باعتبار الزيادة- انتهى. ولا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف والتعسف. ومنها أن حديث عائشة من قولها غير مرفوع، وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة. وتعقب بأنه مما لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع، وعلى تقدير تسليم أنها لم تشهد فرض الصلاة يكون مرسل صحابي، وهو حجة؛ لأنه يحتمل أن تكون أخذته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو عن صحابي آخر أدرك ذلك. ومنها أن عائشة أتمت في السفر، والعبرة عند الحنفية برأي الصحابي لا بمرويه. قال الحافظ: الزموا الحنفية على قاعدتهم فيما إذا عارض رأي الصحابي روايته بأنهم يقولون العبرة بما رأى لا بما روى، وخالفوا ذلك هنا، فقد ثبت عن عائشة أنها

(8/279)


كانت تتم في السفر، فدل ذلك على أن المروي عنها غير ثابت. وأجيب بأن هذا الإلزام مدفوع بما في آخر هذا الحديث من قول عروة: تأولت أي عائشة، كما تأول عثمان، فإنه يدل على أن الأصل في السفر ركعتان عندها أيضا، ولكنها أتممت بالتأويل. كما أتم عثمان بالتأويل. قال الحافظ: والجواب عن الحنفية أن عروة الراوي عنها قد قال لما سئل عن إتمامها في السفر: أنها تأولت، كما تأول عثمان، فعلى هذا لا تعارض بين روايتها وبين رأيها، فروايتها صحيحة, ورأيها مبني على ما تأولت- انتهى. ومنها المعارضة بحديث ابن عباس الذي بعد هذا: فرض الله الصلاة في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وأجاب عنه الحافظ: بأنه يمكن الجمع بين حديث عائشة وابن عباس بأن يقال: إن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة عقب الهجرة إلا الصبح، كما روى ابن خزيمة
قال الزهري: قلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال تأولت كما تأول عثمان)) متفق عليه.
1358- (17) وعن ابن عباس، قال: ((فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعا،

(8/280)


وابن حبان والبيهقي من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار- انتهى. ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة، ويؤيده ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة، وهو مأخوذ مما ذكره غيره أن نزول آية الخوف كان فيها. وقيل: كان قصر الصلاة في السفر في الربيع الآخر من السنة الثانية. وقيل: بعد الهجرة بعام أو نحوه. وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما، فعلى هذا فالمراد بقول عائشة: فأقرت صلاة السفر أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، لا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة- انتهى. وقال السندي: قوله: فأقرت أي رجعت بعد نزول القصر في السفر إلى الحالة الأولى بحيث كأنها كانت مقررة على الحالة الأصلية، وما ظهرت الزيادة فيها أصلا- انتهى. (قال الزهري: قلت لعروة) بن الزبير. (تتم) بضم أوله الصلاة. (قال) عروة: (تأولت كما تأول عثمان) كذا في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: تأولت ما تأول عثمان. قال الحافظ: يمكن أن يكون مراد عروة التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل لا اتحاد تأويلهما، ويقويه أن الأسباب اختلفت في تأويل عثمان، فتكاثرت بخلاف تأويل عائشة- انتهى. وقد سبق الكلام في تأويل عثمان. وأما عائشة فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحا، وهو فيما أخرجه البيهقي (ج3 ص143) من طريق هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا، فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: با ابن أختي أنه لا يشق على، إسناده صحيح، وهو دال على أنها تأولت أن القصر رخصة وان الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل، ويدل على اختيار الجمهور ما رواه أبويعلى والطبراني بإسناد جيد عن أبي هريرة

(8/281)


أنه سافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر وعمر، فكلهم كان يصلي ركعتين من حين يخرج من المدينة إلى مكة حتى يرجع إلى المدينة في السير، وفي المقام بمكة، كذا في الفتح. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب التأريخ من كتاب الهجرة إلا لفظ الفريضة، فإنه ليس للبخاري، بل هو لمسلم وحده، كما تقدم، وإلا قوله قال الزهري الخ. فإن هذه الزيادة عند البخاري إنما هي في آخر حديث عائشة في أبواب تقصير الصلاة. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص135، 143) بألفاظ متقاربة.
1358- قوله: (فرض الله الصلاة) أي الرباعية. (على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ) قال الطيبي: هو مثل قوله تعالى: ?وما ينطق عن الهوى? [3:53]. (في الحضر أربعا) أي بعد ما كانت ركعتين، ثم قصرت في السفر، فكانت صلاة
وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة)) رواه مسلم.
1359- 1360- (18-19) وعنه، وعن ابن عمر، قالا: ((سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة السفر ركعتين، وهما تمام غير قصر، والوتر في السفر سنة))

(8/282)


السفر، كأنها ما زيد فيها، وهذا معنى قوله. (وفي السفر ركعتين) فلا يعارض هذا الحديث ما روى عن عائشة: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين في الحضر والسفر، وقد تقدم وجه الجمع مفصلا في كلام الحافظ. (وفي الخوف ركعة) فيه أن اللازم في الخوف ركعة ولو اقتصر عليها جاز. قال النووي: هذا الحديث قد عمل بظاهره طائفة من السلف، منهم الحسن البصري والضحاك وإسحاق بن راهويه. (وعطاء وطاووس ومجاهد والحكم بن عتيبة وقتادة والثوري من التابعين وابن عباس وأبوهريرة وأبوموسى الأشعري من الصحابة). وقال الشافعي ومالك والجمهور. (وفيهم أبوحنيفة وأحمد): إن صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات، فإن كانت في الحضر وجب أربع ركعات، وإن كانت في السفر وجب ركعتان. ولا يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في حال من الأحوال، وتأولوا حديث ابن عباس هذا على أن المراد ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها منفردا، كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الخوف، وهذا التأويل لا بد منه للجمع بين الأدلة-انتهى. قال السندي: لا منافاة بين وجوب واحد والعمل باثنتين حتى يحتاج إلى التأويل للتوفيق، لجواز أنهم عملوا بالأحب والأولى- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في صلاة الخوف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص237، 355) وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4 ص135) وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه أحمد.

(8/283)


1359- 1360- قوله: (سن) أي شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صلاة السفر ركعتين) أي ثبت على لسانه، وإلا فالقصر ثابت بالكتاب، أو المراد أنه بين بالقول والفعل ما في الكتاب، قاله القاري. وقال ابن حجر: أي بين أنها كذلك لمن أراد القصر. (وهما تمام غير قصر) أي في الثواب، أو المراد أنهما المشروع في السفر، كما نطق به حديث عائشة وإن أطلق القصر في كتاب الله تعالى، قاله في اللمعات. وقال القاري: وهما تمام أي تمام المفروض غير قصر أي غير نقصان عن أصل الفرض، فإطلاق القصر في الآية مجاز أو إضافي- انتهى. وقال السندي: تمام غير قصر، أي لا ينبغي الزيادة فيها فصارت كالتمام، فلا يرد أن قوله تعالى: ?فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة? [101:4] ظاهر في القصر فكيف يصح القول بأنها تمام غير قصر. وقال ابن حجر: أي تمام بالنسبة للثواب، فثواب القصر يقارب ثواب الإتمام. (والوتر في السفر سنة) أي مشروع بالسنة أو المراد بالسنة الطريقة المسلوكة في الدين أعم من السنة المصطلح عليها عند الفقهاء، كما يدل عليه السوق أي الوتر في السفر طريقة مسلوكة
رواه ابن ماجه.
1361- (20) وعن مالك، بلغه ((أن ابن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما يكون بين مكة والطائف، وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة، قال مالك: وذلك أربعة برد)).
مستمرة لا تترك في السفر، كما تترك النوافل والرواتب وإلا فالوتر إن كان واجبا فليس سنة، وإن كان سنة فهو سنة في الحضر والسفر كليهما، فما وجه التخصيص بالسفر. (رواه ابن ماجه) في باب الوتر في السفر. وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص241) وفي سنده عندهما جابر الجعفي، وهو ضعيف، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص155) وقال: "رواه البزار، وفيه جابر الجعفي، وثقه شعبة والثوري، وضعفه آخرون"، فنسي أن ينسبه إلى مسند الإمام أحمد، وأنه في سنن ابن ماجه.

(8/284)


1361- قوله: (وعن مالك) أنه. (بلغه أن ابن عباس) قال ابن عبدالبر: وما رواه مالك عن ابن عباس هذا معروف من نقل الثقات متصل الإسناد عنهم من وجوه، ثم رواها في الاستذكار عن عبدالرزاق وغيره. (كان يقصر الصلاة) الرباعية. (في مثل ما يكون بين مكة والطائف) وفي الموطأ في مثل ما بين مكة والطائف بالهمزة بعد الألف، وبينهما ثلاثة مراحل أو اثنان، قاله الزرقاني. وقال ياقوت في معجمه: هي مسيرة يوم للطالع من مكة ونصف يوم للهابط إلى مكة، وقال: أيضا الطائف هو وادي وج، وهو بلاد ثقيف بينها وبين مكة اثنا عشر فرسخا- انتهى. وقيل: بينهما من طريق السيل مائة وخمسة وثلاثون كيلو مترا، أي نحو خمسة وثمانين ميلا، ومن طريق عرفة تسعة وتسعون كيلو مترا، أي نحو اثنين وستين ميلا. (وفي مثل ما بين مكة وعسفان) بضم العين كعثمان، والنون زائدة. موضع على مرحلتين من مكة، قاله المجد. وقال الزرقاني: بين مكة وعسفان ثلاثة مراحل. وفي المعجم لياقوت الحموي: قال أبومنصور منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة. وقيل: قرية جامعة بها منبر ونخيل ومزارع على ستة وثلاثين ميلا من مكة، وهي حد تهامة. (وفي مثل ما بين مكة وجدة) بضم الجيم وتشديد الدال، بلد على الساحل بحر اليمن، وهي فرضة مكة، بينها وبين مكة ثلاث ليال. وقيل: بينهما يوم وليلة. وقيل: هي على مرحلتين شاقتين من مكة. وقيل: بينهما ثلاثة وسبعون كيلو مترا، أي نحو ستة وأربعين ميلا. (قال مالك وذلك) أي أقل ما بين ما ذكر من المواضع، أو كل واحد من هذه الأماكن. (أربعة برد) بضمتين جمع بريد، وكل بريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال، فهي ثمانية وأربعون ميلا. قال مالك: وذلك أحب ما يقصر فيه الصلاة إلي. وقد سبق بيان اختلاف العلماء في قدر المسافة التي يجوز فيها القصر وتعيين القول الراجح في ذلك. وقد روى مالك في الموطأ عن ابن عمر أنه ركب من المدينة إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك، قال مالك:

(8/285)


وذلك نحو من أربعة برد، وروى عنه أيضا أنه ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة، قال مالك:
رواه في الموطأ.
1362- (21) وعن البراء، قال: ((صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سفرا، فما رأيته ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر)) رواه أبوداود، والترمذي،
بين ذات النصب والمدينة أربعة برد، وروي عنه أيضا كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام. قال ابن عبدالبر في الاستذكار: مسيرة اليوم التام باليسير أربعة برد أو نحوها. قال الباجي: أكثر مالك من ذكر أفعال الصحابة لما لم يصح عنده في ذلك توقيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم --انتهى. قلت: وروى البيهقي (ج3ص137) عن عطاء بن أبي رباح أن عبدالله بن عمرو وعبدالله بن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك. قال ابن حجر: ومثل ذلك لا يكون إلا بتوقيف، وروى عبدالرزاق عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس قال: لا تقصروا الصلاة إلا في اليوم ولا تقصر فيما دون اليوم، ولابن أبي شيبة من وجه آخر صحيح عنه، قال: تقصر الصلاة في مسيرة يوم وليلة. (رواه) أي مالك (في الموطأ) أي عن مالك أنه بلغه، وهذا كما ترى غير ملائم، فكان على المؤلف أن يقول: وعن ابن عباس أنه كان يقصر الصلاة الخ. ثم يقول: رواه مالك في الموطأ بلاغا، ثم يقول: وقال وذلك الخ. على طبق سائر الأحاديث، حيث يبدأ بالصحابي ويختم بالمخرج، كذا في المرقاة، وقد تقدم أن هذا البلاغ رواه ابن عبدالبر في الاستذكار موصولا، ووصله الشافعي أيضا، قال: أنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس أنه سئل أنقصر الصلاة إلى عرفة؟ قال: لان ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف. قال الحافظ في التلخيص (ص129) وإسناده صحيح، وذكره مالك في الموطأ عن ابن عباس بلاغا-انتهى. وأخرج ابن أبي شيبة بسنده عن عطاء بن أبي رباح، قلت لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ قال لا، قلت: أقصر إلى الطائف وإلى عسفان؟ قال: نعم، وذلك ثمانية وأربعون

(8/286)


ميلا، وعقد بيده. وقد روي عن ابن عباس مرفوعا، أخرجه الدارقطني (ص148) والبيهقي (ج3ص137- 138)، وابن أبي شيبة والطبراني في الكبير من طريق عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه وعطاء عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان. قال الحافظ: وإسناده ضعيف من أجل عبدالوهاب فإنه متروك رواه عنه إسماعيل بن عياش، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، والصحيح عن ابن عباس من قوله، كما سبق ذكره.
1362- قوله: (وعن..... البراء) أي ابن عازب. (ثمانية عشر سفرا) بفتح السين المهملة والفاء. (فما رأيته ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر) ظرف لترك، الظاهر أن هاتين الركعتين هما سنة الظهر القبلية. فهذا الحديث دليل لمن قال بجواز الإتيان بالرواتب في السفر، وقد حمله من لم يقل بذلك على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر، وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا. (رواه أبوداود، والترمذي) كلاهما عن قتيبة عن
وقال: هذا حديث غريب.
1363-(22) وعن نافع، قال: إن عبدالله بن عمر كان يرى ابنه عبيدالله ينتفل في السفر فلا ينكر عليه. رواه مالك.
(42) باب الجمعة
الليث بن سعد عن صفوان بن سليم عن أبي بسرة الغفاري عن البراء بن عازب. (وقال) أي الترمذي. (هذا حديث غريب) وقال أيضا: سألت محمدا عنه فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد، ولم يعرف اسم أبي بسرة الغفاري ورآه حسنا-انتهى. وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره. وأخرجه البيهقي (ج3ص158) من طريق ابن وهب عن الليث بن سعد وأبي يحيى بن سليمان عن صفوان بن سليم عن أبي بسرة عن البراء.

(8/287)


1363- قوله: (كان يرى ابنه عبيد الله) بضم العين المهملة ابن عبدالله بن عمر بن الخطاب. (ينتفل في السفر فلا ينكر عليه) هذا بظاهره مشكل، لما سبق في حديث حفص بن عاصم من إنكاره على المسبحين، أي المنتفلين، فقيل: مذهب ابن عمر الفرق بين الرواتب والمطلقة كالتهجد والوتر والضحى وغير ذلك، فيحمل إنكاره على الأول وسكوته على الثاني، فلعله رأى ابنه عبيدالله ينتفل بغير الرواتب فسكت ولم ينكر عليه، وقيل غير ذلك، كما تقدم. (رواه مالك) في الموطأ قال: بلغني عن نافع أن عبدالله بن عمر كان يرى ابنه الخ، كذا وقع في نسخ الموطأ المطبوعة بالهند، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج6ص463). ووقع في النسخ المصرية، قال: بلغني أن عبدالله بن عمر كان يرى ابنه الخ أي بدون قوله: عن نافع. قال الزرقاني: زاد ابن وضاح: عن نافع-انتهى. وهذه الزيادة موجودة في جميع النسخ الهندية الموجودة عندنا، وقوله: بلغني عن نافع يدل على أن مالكا لم يأخذه عن نافع مباشرة، والله أعلم.
(باب الجمعة) بضم الميم على المشهور إتباعا لضمه الجيم، كعسر في عسر، اسم من الاجتماع، أضيف إليه اليوم والصلاة، ثم كثر الاستعمال حتى حذف منه الصلاة، وهي لغة الحجاز، وجوز إسكان الميم على الأصل لمفعول كهزأة، وهي لغة تميم أي اليوم المجموع فيه، وفتحها بمعنى فاعل أي اليوم الجامع، فهو كهزة، فتاءها للمبالغة كضحكة للمكثر من ذلك لا للتأنيث، وإلا لما وصف بها اليوم. والمراد هنا بيان فضل يوم الجمعة وشرفه. قال النووي: يقال بضم الجيم والميم وإسكانها وفتحها، حكاهن الفراء والواحدي وغيرهما، ووجهوا الفتح بأنها تجمع الناس ويكثرون فيها، كما يقال: همزة ولمزة لكثرة الهمز واللمز، ونحو ذلك، سميت بذلك
?الفصل الأول?
1364-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم

(8/288)


لاجتماع الناس فيها أي للصلاة، وكان يوم الجمعة في الجاهلية يسمى العروبة-انتهى. وبهذا جزم ابن حزم فقال: إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية، وإنما كان يسمى في الجاهلية العروبة، فسميت في الإسلام الجمعة للاجتماع إلى الصلاة، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن ابن سيرين بسند صحيح إليه في قصة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة فصلى بهم وذكرهم، فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه-انتهى. وقيل: سميت بذلك لأن كما الخلائق جمع فيها. وقيل: لأن خلق آدم جمع فبها، ورد ذلك من حديث سلمان. أخرجه أحمد وابن خزيمة وغيرهما في أثناء حديث، وله شاهد عن أبي هريرة، ذكره ابن أبي حاتم موقوفا بإسناد قوي، وأحمد مرفوعا بإسناد ضعيف. قال الحافظ: وهذا أصح الأقوال: وقيل: لأن كعب بن لؤي كان يجمع فيه قومه فيذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم. وقيل: إن قصيا هو الذي كان يجمع في دار الندوة. وذكر ابن القيم في الهدي (ج1ص102- 118) ليوم الجمعة ثلاثا وثلاثين خصوصية ذكر بعضها الحافظ في الفتح ملخصا من أحب الوقوف عليها رجع إليهما.

(8/289)


1364- قوله: (نحن) أي أنا وأمتي. (الآخرون) أي زمانا في الدنيا. (السابقون) أي أهل الكتاب وغيرهم منزلة وكرامة. (يوم القيامة) في الحشر والحساب والقضاء لهم قبل الخلائق وفي دخول الجنة. قال الحافظ: أي الآخرون زمانا الأولون منزلة يوم القيامة، والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة، وبأنهم أول من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة. وقيل: المراد بالسبق هنا إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل، وهو يوم الجمعة. ويوم الجمعة وإن كان مسبوقا بسبت قبله أو أحد لكن لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقا. وقيل: المراد بالسبق أي القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب فقالوا سمعنا وعصينا، والأول أقوى-انتهى. (بيد) بموحدة مفتوحة ثم تحتية ساكنة مثل غير وزنا ومعنى وإعرابا. وبه جزم الخليل والكسائي، ورجحه ابن سيدة. وروى عن الشافعي أن معنى بيد من أجل واستبعده عياض ولا بعد فيه، والمعنى إنا سبقنا بالفضل إذ هدينا للجمعة مع تأخرنا في الزمان بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم، ويشهد له ما في فوائد ابن المقري بلفظ: نحن الآخرون في الدنيا ونحن السابقون أول من يدخل الجنة؛ لأنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وفي موطأ سعيد بن عفير عن مالك
أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناهم من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم- يعني يوم الجمعة-

(8/290)


عن أبي الزناد بلفظ: ذلك بأنهم أوتوا الكتاب. وقيل: في معناه على أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. وقيل: مع أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. قال القرطبي: إن كانت بمعنى "غير" فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى "مع" فنصب على الظرف. وقال الطيبي: هي للاستثناء، وهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، فإنه يؤكد مدح السابقين بما عقب من قوله: وأوتيناه من بعدهم؛ لأنه أدمج فيه معنى النسخ لكتابهم، فالناسخ هو السابق في الفضل، وإن كان متأخرا في الوجود، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: نحن الآخرون مع كونه أمرا واضحا، والمعنى نحن السابقون في الفضل غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا الخ. فهو من باب: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب. وأرجع لمزيد التفصيل في تفسير لفظ: بيد، وضبطه إلى تعليق مسند الإمام أحمد (ج3ص34) للعلامة الشيخ أحمد شاكر. (أوتوا الكتاب) اللام للجنس، والمراد التوراة والإنجيل. والضمير في أوتيناه للقرآن، قاله الحافظ. وقال السندي: اللام للجنس، فيحمل بالنسبة إليهم على كتابهم، وبالنسبة إلينا على كتابنا، وهذا بيان زيادة شرف آخر لنا، أي فصار كتابنا ناسخا لكتابهم وشريعتنا ناسخة لشريعتهم، وللناسخ فضل على المنسوخ، أو المراد بيان أن هذا يرجع إلى مجرد تقدمهم علينا في الوجود، وتأخرنا عنهم فيه، ولا شرف لهم فيه، أو شرف لنا أيضا من حيث قلة انتظارنا أمواتا في البرزخ، ومن حيث حيازة المتأخر علوم المتقدم دون العكس، فقولهم الفضل للمتقدم ليس بكلي-انتهى. (ثم) أتى بها إشعارا بأن ما قبلها كالتوطئة والتأسيس لما بعدها. (هذا) أي هذا اليوم، وهو يوم الجمعة. (يومهم الذي فرض) بصيغة المجهول. قال الحافظ: كذا للأكثر، وللحموي: فرض الله. (عليهم) أي وعلينا تعظيمه بعينه أو الاجتماع فيه. قال الحافظ: المراد باليوم يوم الجمعة، والمراد بفرضه فرض تعظيمه. وأشير إليه بهذا لكونه ذكر في أول الكلام كما عند مسلم من طريق

(8/291)


آخر عن أبي هريرة، ومن حديث حذيفة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا-الحديث. (يعني يوم الجمعة) كذا في جميع النسخ من طبعات الهند. ووقع متن المرقاة يعني الجمعة أي بحذف بلفظ يوم. قال القاري: تفسير من الراوي لهذا يومهم. وفي نسخة صحيحة: يعني يوم الجمعة أي يريد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اليوم يوم الجمعة-انتهى. قلت: ليس هذا التفسير في الصحيحين ولا عند النسائي، فالله أعلم من أين أخذه البغوي أو هو الذي فسره بذلك. قال القسطلاني: روى ابن أبي حاتم عن السدي: أن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا يا موسى! إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا فجعل عليهم. وفي بعض الآثار مما نقله أبوعبدالله الآبي أن موسى عليه الصلاة والسلام عين لهم يوم الجمعة وأخبرهم بفضيلته، فناظروه
فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه

(8/292)


بأن السبت أفضل، فأوحى الله تعالى إليهم: دعهم وما اختاروا، والظاهر أنه عينه لهم؛ لأن السياق دل على ذمهم في العدول عنه، فيجب أن يكون قد عينه لهم؛ لأنه لو لم يعينه لهم ووكل التعيين إلى اجتهادهم لكان الواجب عليهم تعظيم يوم لا بعينه، فإذا أدى الاجتهاد إلى أنه السبت أو الأحد لزم المجتهد ما أدى الاجتهاد إليه ولا يأثم، ويشهد له قوله هذا: يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فإنه ظاهر أو نص في التعيين، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله تعالى: ?ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة? [58:2] وغير ذلك، وكيف لا وهم القائلون سمعنا وعصينا- انتهى. (فاختلفوا فيه) هل يلزم تعيينه أم يسوغ لهم أبدا له بغيره من الأيام وأبدلوه وغلطوا في إبداله، قاله النووي. وقال القسطلاني: اختلفوا فيه بعد أن عين لهم وأمروا بتعظيمه فتركوه وغلبوا القياس، فعظمت اليهود السبت للفراغ فيه من الخلق، وظنت ذلك فضيلة توجب عظم اليوم وقالت: نحن نستريح فيه من العمل ونشتغل بالعبادة والشكر، وعظمت النصارى الأحد؛ لأنه أول يوم بدأ الله فيه بخلق الخلق فاستحق التعظيم. (فهدانا الله له) أي لهذا اليوم بالوحي الوارد في تعظيمه بأن نص لنا ولم يكلنا إلى اجتهادنا ثم ثبتنا على قوله والقيام بحقوقه أو هدانا الله له بالاجتهاد الموافق للمراد، يعني وفقنا للإصابة حتى عينا الجمعة، ويشهد للثاني ما رواه عبدالرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة فقالت الأنصار: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى كذلك، فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله تعالى: بعد ذلك. ?إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة? [9:62] الآية، وهذا وإن كان مرسلا، فله شاهد بإسناد حسن. أخرجه أحمد وأبوداود

(8/293)


وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة وغير واحد من حديث كعب بن مالك قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أسعد بن زرارة- الحديث. فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد. ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي، وهو بمكة فلم يتمكن من إقامتها ثم، فقد ورد فيه حديث عن ابن عباس عند الدارقطني. ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة. كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق. وقيل: في الحكمة في اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإنسان إنما خلق للعبادة فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه، ولأن الله تعالى أكمل فيه الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة فيه، كذا في الفتح. (والناس) وفي الصحيحين فالناس أي أهل الكتابين. (لنا) متعلق بتبع. وقيل: متعلقة محذوف، واللام تعليلية مشيرة إلى النفع. (فيه) أي في
تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد)) متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قال: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم))، وذكر نحوه إلى آخره.
1365- (2) وفي أخرى له عنه، وعن حذيفة، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث:

(8/294)


اختيار هذا اليوم للعبادة. (تبع) فإنهم إنما اختاروا ما يعقبه؛ لأنه لما كان يوم الجمعة مبدأ خلق الإنسان وأول أيامه كان المتعبد فيه باعتبار العادة متبوعا، والمتعبد فيه في اليومين الذين بعده تابعا، ويحتمل أن يقال إن الأيام الثلاثة بتواليها، مع قطع النظر عن اعتبار الأسبوع لا شك في تقديم يوم الجمعة وجودا فضلا عن الرتبة، وتبع بفتح التاء المثناة والباء الموحدة جمع تابع. (اليهود غدا) أي يوم السبت. (والنصارى بعد غد) أي يوم الأحد. قيل: التقدير تعييد اليهود غدا، وتعييد النصارى بعد غد، كذا قدره ابن مالك ليسلم من الإخبار بظرف الزمان عن الجثة. وقال القرطبي: غدا هنا منصوب على الظرف، وهو متعلق بمحذوف، وتقديره اليهود يعظمون غدا، وكذا قوله بعد غد ولابد من هذا التقدير؛ لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة. وفي الحديث دليل على فريضة الجمعة، كما قاله النووي لقوله: فرض عليهم فهدانا الله له، فإن التقدير فرض عليهم فضلوا وهدينا. وفي رواية لمسلم: كتب علينا، وفيه أن القياس مع وجود النص ساقط، وذلك أن كلا منهما قال بالقياس مع وجود النص على قول التعيين فضلا وأن الجمعة أول الأسبوع شرعا، ويدل على ذلك تسمية الأسبوع كله جمعة، وكانوا يسمون الأسبوع سبتا، كما وقع في حديث أنس عند البخاري في الاستسقاء، وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود فتبعوهم في ذلك، وفيه بيان واضح لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السالفة. (متفق عليه) واللفظ لبخاري وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص243، 249، 274) والنسائي والبيهقي (ج3 ص170-171). (وفي رواية لمسلم نحن الآخرون) أي وجودا وخلقة في الدنيا. (الأولون) أي بعثا ومرتبة. (يوم القيامة) والعبرة بذلك اليوم ومواقفه. (ونحن أول من يدخل الجنة) يعني نبينا قبل سائر الأنبياء وأمته قبل سائر الأمم. (بيد أنهم) قال العيني: هو مثل غير وزنا ومعنى وإعرابا، ويقال ميد بالميم، وهو اسم ملازم للإضافة إلى أن

(8/295)


وصلتها، وله معنيان أحدهما غير إلا أنه لا يقع مرفوعا ولا مجرورا بل منصوبا ولا يقع صفة ولا استثناء متصلا، وغنما يستثنى به في الانقطاع خاصة. (وذكر) أي مسلم. (نحوه) أي معنى ما تقدم من المتفق عليه. (إلى آخره) يعني أن الخلاف إنما هو في صدر الحديث بوضع الأولون موضع السابقون ويكون أحدهما نقلا بالمعنى وبزيادة: ونحن أول من يدخل الجنة في رواية مسلم هذه.
1365- قوله: (وفي أخرى له عنه) أي وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة. (وعن حذيفة) عطف على
((نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق)).
1366- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها،
عنه أي عنهما جميعا. (نحن الآخرون) أي الذين تأخروا عنهم في حال كوننا وإياهم. (من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة) أي من أهل الآخرة في السبق لهم. قال الطيبي: اللام في "الآخرين" موصولة و"من أهل الدنيا" حال من الضمير في الصلة وقوله. (المقضي لهم قبل الخلائق) صفة "الآخرون"، أي الذين يقضى لهم قبل الناس ليدخلوا الجنة أولا كأنه قيل الآخرون السابقون- انتهى. وهذه الرواية أخرجها النسائي وابن ماجه أيضا.

(8/296)


1366- قوله: (خير يوم) قال صاحب المفهم: خير وشر يستعملان للمفاضلة ولغيرها، فإذا كانا للمفاضلة فأصلهما أخير وأشر على وزن أفعل، وأما إذا لم يكونا للمفاضلة، فهما من جملة الأسماء، كما قال تعالى: ?إن ترك خيرا?. (180:2)، ?ويجعل الله فيه خيرا كثيرا? [6:38] وهو في هذا الحديث للمفاضلة، ومعناه أن يوم الجمعة أفضل من كل يوم طلعت شمسه. (طلعت عليه) أي ما فيه. (الشمس) جملة "طلعت" صفة "يوم" للتنصيص على التعميم، كما قالوا في قوله تعالى: ?ولا طائر يطير بجناحيه? [6:38] فإن الشيء إذا وصف بصفة تعم جنسه يكون تنصيصا على اعتبار استغراقه إفراد الجنس. (يوم الجمعة) فيه أن أفضل الأيام يوم الجمعة، فيكون أفضل من يوم عرفة، وبه جزم ابن العربي، ويشكل على ذلك ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن جابر مرفوعا: ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة- الحديث. وقد جمع العراقي فقال: المراد بتفضيل الجمعة بالنسبة إلى أيام الجمعة أي أيام الأسبوع، وتفضيل يوم عرفة بالنسبة إلى أيام السنة، وصرح بأن حديث أفضلية الجمعة أصح، وفي حاشية الموطأ نقلا عن المحلى ظاهر الحديث أن الجمعة أفضل من عرفة، وبه قال أحمد، وهو وجه للشافعية، والأصح عندهم أن عرفة أفضل ويتأول الحديث بأنها أفضل أيام الأسبوع، ويظهر فائدة الاختلاف فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام مثلا قال لزوجته: أنت طالق في أفضل الأيام فتطلق يوم عرفة على أصح الوجهين عند الشافعية ويوم الجمعة على الوجه الثاني، وهذا إذا لم يكن له نية فأما إن أراد أفضل أيام السنة فتعيين يوم عرفة، وإن أراد أفضل أيام الأسبوع فتعيين الجمعة. (وفيه أدخل الجنة) فيه دليل على أن آدم لم يخلق في الجنة بل خلق خارجها ثم أدخل إليها. قيل: إن خلقه وإدخاله كانا في يوم واحد، ويحتمل أنه خلق يوم الجمعة ثم أمهل إلى يوم جمعة أخرى فأدخل فيه الجنة، وكذا الاحتمال في يوم الإخراج. (وفيه أخرج منها) قال ابن

(8/297)


كثير: إن كان يوم خلقه يوم إخراجه وقلنا الأيام الستة، كهذه الأيام فقد أقام في الجنة بعض يوم من أيام الدنيا، وفيه نظر وإن كان إخراجه في غير يوم الذي
ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)) رواه مسلم.
1367- (4) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه)) متفق عليه.
خلق فيه، وقلنا إن كل يوم بألف سنة، كما قال ابن عباس والضحاك واختاره ابن جرير فقد لبث هناك مدة طويلة- انتهى. وقيل: كان إخراجه في اليوم الذي خلق فيه، لكن المراد من اليوم الإطلاق الثاني أي ما مقداره كألف سنة فيكون مكثه فيها زمانا طويلا. (ولا تقوم الساعة) أي القيامة. (إلا في يوم الجمعة) قيل: هذه القضايا ليست لذكر فضيلته؛ لأن إخراج آدم وقيام الساعة لا يعد فضيلة، وإنما هو لبيان ما وقع فيه من الأمور العظام. وقيل: بل جميعها فضائل وخروج آدم سبب وجود الذرية من الرسل والأنبياء والأولياء، والساعة سبب تعجيل جزاء الصالحين، وموت آدم سبب لنيله إلى ما أعد له من الكرامات. قال ابن العربي في شرح الترمذي: أما إخراجه منها فلأفضل فيه ابتداء إلا أن يكون لما بعده من الخيرات والأنبياء والطاعات، وأن خروجه منها لم يكن طردا، كما كان خروج إبليس وإنما كان خروجه منها مسافرا لقضاء أوطار ويعود إلى تلك الدار، وقال أيضا: وذلك أي قيام أعظم لفضله لما يظهر الله رحمته وينجز من وعده. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي والبيهقي (ج3 ص251).

(8/298)


1367- قوله: (إن في الجمعة لساعة) كذا فيه مبهمة، وقد عينت في أحاديث أخر، كما سيأتي. وأصل الساعة وحقيقتها جزء مخصوص من الزمان، وقد يطلق على جزء من أربعة وعشرين جزء هي مجموع اليوم والليلة، ويطلق على جزء ما غير مقدر من الزمان، ويطلق على الوقت الحاضر أيضا. (لا يوافقها) أي لا يصادفها، وهو أعم من أن يقصد لها، أو يتفق له وقوع الدعاء فيها. (عبد مسلم) فيه تخصيص لدعاء المسلمين بالإجابة في تلك الساعة. (يسأل الله عليها) بلسان الحال باستحضاره بقلبه أو بلسان القال. (خيرا) أي يليق السؤال فيه. (إلا أعطاه) أي ذلك المسلم. (إياه) أي ذلك الخير، يعني إما يعجله له، وإما أن يدخره له، كما ورد في الحديث. وفي حديث أبي لبابة الآتي: ما لم يسأل حراما. وفي حديث سعد بن عبادة عند أحمد: ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم. وقطيعة الرحم من جملة الإثم، فهو من عطف الخاص على العام للاهتمام به. وفي الحديث بيان فضل يوم الجمعة لاختصاصه بساعة الإجابة، وسيأتي ذكر الاختلاف في تعيين هذه الساعة، وبيان القول الراجح فيه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجمعة والطلاق والدعوات، والسياق المذكور لمسلم إلا قوله: "عبد" فإنه ليس عنده في هذه الرواية. والحديث أخرجه أحمد ومالك والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص249، 250).
وزاد مسلم، قال: وهي ساعة خفيفة. وفي رواية لهما، قال: ((إن في الجمعة لساعة لا
يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه)).

(8/299)


(وزاد مسلم قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (وهي ساعة خفيفة) أي لطيفة. وفي رواية لهما: وأشار أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ليقللها. فإن قلت قد روى أبوداود والحاكم عن جابر مرفوعا: يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة لا يوجد عبدمسلم يسأل الله شيئا إلا أعطاه الله عزوجل فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر- انتهى. ومقتضاه أنها غير خفيفة، أجيب بأنه ليس المراد أنها مستغرقة للوقت المذكور، بل المراد أنها لا تخرج عنه؛ لأنها لحظة خفيفة. (وفي رواية لهما) أي للبخاري ومسلم. (قال) النبي - صلى الله عليه وسلم -. (إن في الجمعة لساعة) قال الجزري: هي أرجح أوقات الإجابة. (لا يوافقها) أي لا يجدها. (مسلم قائم) أي ثابت في مكانه أو ملازم مواظب على حد قوله: ?ما دمت عليه قائما?. (يصلي) أي ينتظر الصلاة أو يدعوا. وإنما أولنا بذلك ليتوافق جميع الروايات. (يسأل الله) فيها. (خيرا إلا أعطاه إياه) قال الطيبي قوله: قائم يصلي الخ. كلها صفات لمسلم. ويجوز أن يكون يصلي حالا لاتصافه بقائم، ويسأل إما حال مترادفة أو متداخلة. زاد النووي: إذ معنى يصلي يدعو، كذا في المرقاة، واعلم أنه اختلفت الأحاديث في تعيين ساعة الإجابة، وبحسب ذلك اختلف أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم. قال الحافظ في الفتح: قد اختلف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في هذه الساعة هل هي باقية أو رفعت؟ وعلى البقاء هل هي في كل جمعة أو في جمعة واحدة من كل سنة؟ وعلى الأول هل هي وقت من اليوم معين أو مبهم؟ وعلى التعيين هل تستوعب الوقت أو تبهم فيه؟ وعلى الإبهام ما ابتداءه وما انتهاءه؟ وعلى كل ذلك هل تستمر أو تتنقل؟ وعلى الانتقال هل تستغرق اليوم أو بعضه؟ ثم ذكر رحمه الله تلخيص ما اتصل إليه من الأقوال مع أدلتها وبيان حالها في الصحة والضعف والرفع والوقف والإشارة إلى مأخذ بعضها، وقد بلغت هذه الأقوال إلى أكثر من الأربعين قولا، وليست كلها

(8/300)


متغايرة من كل جهة، بل كثير منها يمكن اتحاده مع غيره. ورجح الحافظ منها قولين حيث قال بعد ذكرها: ولا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى. (يعني الذي ذكره المصنف بعد هذا أنها ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة) وحديث عبدالله بن سلام. (يريد به ما يأتي في حديث أبي هريرة الطويل في الفصل الثاني من قوله: إنها في آخر ساعة بعد العصر في يوم الجمعة) قال المحب الطبري: اصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى، وأشهر الأقوال فيها قول عبدالله بن سلام- انتهى. قال الحافظ وما عداها إما موافق لهما أو لأحدهما أو ضعيف الإسناد أو موقوف، استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف. ولا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه - صلى الله عليه وسلم - أنسيهما بعد أن علمها، لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسي، أشار إلى ذلك
1368- (5) وعن أبي بردة بن أبي موسى، قال: سمعت أبي يقول، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول،

(8/301)


البيهقي وغيره، وقد اختلف السلف في أيهما أرجح؟ فرجح مسلم فيما روى البيهقي حديث أبي موسى، وبه قال جماعة منهم البيهقي وابن العربي والقرطبي. قال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره. وقال النووي: هو الصحيح بل الصواب، وجزم في الروضة بأنه الصواب، ورجحه أيضا بكونه مرفوعا صريحا، وبأنه في أحد الصحيحين. وذهب آخرون إلى ترجيح قول عبدالله بن سلام، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الأحاديث على ذلك. وقال ابن عبدالبر: أنه أثبت شيء في هذا الباب، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح على أبي سلمة بن عبدالرحمن أن أناسا من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة، ورجحه كثير من الأئمة أيضا كأحمد وإسحاق ومن المالكية الطرطوشي، واختاره ابن الزملكاني شيخ الشافعية في وقته، وحكاه عن نص الشافعي وهو الذي اختاره ابن القيم ورجحه في زاد المعاد (ج1 ص107) في بحث نفيس يرجع إليه ويستفاد، واحتج فيه بما سنذكره من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عند أحمد، وقد استشكل هذا، فإنه ترجيح لغير ما في الصحيح على ما هو فيه، والمعروف من علوم الحديث وغيرها أن ما في الصحيحين أو ما في أحدهما مقدم على غيره. والجواب أن ذلك حيث لم يكن حديث الصحيحين أو أحدهما مما انتقده الحفاظ، كحديث أبي موسى هذا الذي في مسلم فإنه قد أعل بالانقطاع والاضطراب، وسيأتي ذكرهما في شرحه، وسلك بعضهم مسلكا آخر وهو الجمع بين الحديثين بأن ساعة الإجابة تنتقل فتكون في جمعة في ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة. وفي أخرى في آخر ساعة من اليوم. قال ابن عبدالبر: الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين، وسبق على ذلك الإمام أحمد. قال الحافظ: وهو أولى في طريق الجمع. واستشكل حصول الإجابة لكل داع بالشرط المتقدم مع اختلاف الزمان باختلاف البلاد والمصلي، فيتقدم بعض على بعض وساعة الإجابة

(8/302)


متعلقة بالوقت فكيف تتفق مع الاختلاف وأجيب باحتمال أن تكون ساعة الإجابة متعلقة بفعل كل مصل، كما قيل نظيره في ساعة الكراهة، ولعل هذا فائدة جعل الوقت الممتد مظنة لها، وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أن يكون عبر عن الوقت بالفعل فيكون التقدير وقت جواز الخطبة أو الصلاة أو نحو ذلك.
1368- قوله: (وعن أبي بردة) بضم الموحدة وسكون الراء ودال مهملة، اسمه عامر. وقيل: الحارث، ثقة من أوساط التابعين المشهورين، مات سنة أربع ومائة. وقيل: غير ذلك. وقد جاوز الثمانين. (بن أبي موسى)
في شأن ساعة الجمعة: ((هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة)) رواه مسلم.

(8/303)


الأشعري، عبدالله بن قيس الصحابي. (في شأن ساعة الجمعة) أي في بيان وقتها. (هي) أي ساعة الجمعة، يعني ساعة الإجابة في يوم الجمعة. (ما بين أن يجلس الإمام) أي جلوس الإمام للخطبة. (إلى أن تقضى الصلاة) أي إلى تمام الصلاة وانقضائها. قال أبوداود: يعني على المنبر، أي المراد بجلوس الإمام في الحديث جلوسه عقب صعوده على المنبر للخطبة. والحديث نص في أن ساعة الإجابة في ما بين جلوس الإمام على المنبر للخطبة إلى تمام الصلاة، وليس المراد أنها تستوعب جميع الوقت الذي عين، بل المعنى أنها تكون في أثنائه لقوله فيما مضى: يقللها وقوله: وهي ساعة خفيفة. وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيه فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة وانتهائها انتهاء الصلاة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والبيهقي (ج3ص350). والحديث مع كونه في صحيح مسلم قد أعل بالانقطاع والاضطراب. أما الانقطاع فلأن مخرمة بن بكير رواه عن أبيه بكير بن عبدالله بن الأشج، وهو لم يسمع من أبيه، قاله أحمد عن حماد بن خالد عن مخرمة نفسه، وكذا قال سعيد بن أبي مريم عن موسى بن سلمة عن مخرمة، وزاد: إنما هي كتب كانت عندنا. وقال علي بن المديني: لم أسمع أحدا من أهل المدينة يقول عن مخرمة أنه قال في شيء من حديثه سمعت أبي. ولا يقال مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة، وهو كذلك؛ لأنا نقول وجود التصريح عن مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع. وأجيب عن هذا بأنه اختلف في سماع مخرمة من أبيه: فقال أحمد وابن معين وابن حبان: لم يسمع من أبيه أي شيئا. وقال أبوداود: لم يسمع من أبيه إلا حديثا واحدا وهو حديث الوتر. وقال علي بن المديني: سمعت معن بن عيسى يقول: مخرمة سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار، قال علي: ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان لعله سمع الشيء اليسير، ولم أجد أحدا بالمدينة يخبرني عن مخرمة أنه كان يقول في شيء من حديثه:

(8/304)


سمعت أبي. وقال ابن أبي أويس: وجدت في ظهر كتاب مالك سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه فحلف لي، ورب هذه البنية سمعت من أبي، كذا في تهذيب التهذيب، فلعل مسلما ممن صح وثبت عندهم سماع مخرمة من أبيه، ويدل على ذلك ما رواه البيهقي من طريق أحمد بن سلمة أن مسلما قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه. ولو سلمنا أن مخرمة لم يسمع من أبيه لا يضر؛ لأنه يروي من كتب أبيه، والعمل بالوجادة جائز. قال النووي: أما العمل بالوجادة، فعن المعظم أنه لا يجوز. وعن الشافعي ونظار أصحابه جوازه. وقطع البعض بوجوب العمل بها عند حصول الثقة به، قال: وهذا هو الصحيح الذي لا يتجه في هذه الأزمان غيره-انتهى. وأما الاضطراب، فقال العراقي: إن أكثر الرواة
?الفصل الثاني?
1369-(6) عن أبي هريرة، قال: خرجت إلى الطور، فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه، فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن قلت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أهبط،

(8/305)


جعلوه من قول أبي بردة مقطوعا به وأنه لم يرفعه غير مخرمة عن أبيه. وقال الحافظ: رواه أبوإسحاق وواصل الأحدب ومعاوية بن قرة وغيرهم عن أبي بردة من قوله، وهؤلاء من أهل الكوفة، وأبوبردة كوفي، فهم أعلم بحديثه من بكير المدني، وهم عدد وهو واحد أيضا، فلو كان عند أبي بردة مرفوعا لم يقفوه عليه، ولهذا جزم الدارقطني فيما استدركه على مسلم بأن الموقوف هو الصواب. وأجاب النووي عن ذلك بقوله: وهذا الذي استدركه بناه على القاعدة المعروفة له، ولأكثر المحدثين أنه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع أو إرسال واتصال حكموا بالوقف والإرسال، وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة، والصحيح طريقة الأصوليين والفقهاء والبخاري ومسلم ومحققي المحدثين أنه يحكم بالرفع والاتصال؛ لأنها زيادة ثقة-انتهى. وأجاب بعضهم عن قول الدارقطني: والصواب أنه من قول أبي بردة، بأنه لا يكون إلا مرفوعا فإنه لا مسرح للاجتهاد في تعيين أوقات العبادة.

(8/306)


1369- قوله: (خرجت إلى الطور) أي حيث كلم الله موسى عليه السلام. قال القاري: الطور محل معروف المتبادر طور سيناء. وقال الباجي: الطور في كلام العرب واقع على كل جبل، إلا أنه في الشرع يطلق على جبل بعينه، وهو الذي كلم فيه موسى عليه السلام، وهو الذي عناه أبوهريرة-انتهى. وقال ياقوت في معجمه: وبالقرب من مصر عند موضع يسمى مدين، جبل يسمى الطور. وعليه كان الخطاب الثاني لموسى عليه السلام عند خروجه من مصر ببني إسرائيل-انتهى. (فلقيت كعب الأحبار) جمع حبر بالفتح والكسر والإضافة، كما في زيد الخيل، وهو كعب بن ماتع تقدم ترجمته. (فحدثني عن التوراة) يعني أخبرني بما في التوراة التي بأيديهم على وجه القصص والإخبار واعتبار ما يوافق منها ما عند أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الباجي. (حدثته) أي كعبا الأحاديث. (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته) خبر كان. (أن قلت) اسم كان ومقوله. (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا لفظ مالك، وسياق النسائي قال: أي أبوهريرة أتيت الطور فوجدت ثم كعبا فمكثت أنا وهو يوما أحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحدثني عن التوراة فقلت له: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (وفيه أهبط) قال القاري: الظاهر أن أهبط هنا بمعنى أخرج في الرواية السابقة. وقيل: كان
وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقا من الساعة، إلا الجن والإنس. وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي

(8/307)


الإخراج من الجنة إلى السماء، والإهباط أي إنزال منها إلى الأرض، فيفيد أن كلا منهما كان في يوم الجمعة: أما في يوم واحد: وإما في يومين، قيل: كان هبوط آدم على جبل بسرنديب في أرض الهند، يقال له نود. وقد أورد السيوطي في ذلك أحاديث في الدر المنثور. (وفيه تيب عليه) على بناء المفعول من التوبة أي وفق للتوبة وقبلت التوبة منه قال تعالى: ?ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى? [20: 122]. (وفيه) أي في نحوه من أيام الجمعة. (مات) وله ألف سنة، كما في حديث أبي هريرة وابن عباس مرفوعا. وقيل: إلا سبعين. وقيل: إلا ستين. وقيل: إلا الأربعين، قاله الزرقاني. واختلف أيضا في موضع موته ومحل دفنه على أقوال، وصحح ابن كثير أنه مات على جبل نود بسرنديب في الهند، ودفن فيه موضع الذي أهبط عليه، والله أعلم. (وما من دابة) زيادة "من" لإفادة الاستغراق في النفي. (إلا وهي مصيخة) بالصاد المهملة والخاء المعجمة، من أصاخ أي مصغية مستمعة تتوقع قيام الساعة. وروى بسين بدل الصاد، وهما لغتان بمعنى. قال الجزري: والأصل الصاد، قال القاري: وفي أكثر نسخ المصابيح بالسين. (يوم الجمعة) ظرف لمصيخة. (من حين تصبح) قال الطيبي: بني على الفتح لإضافته إلى الجملة، ويجوز إعرابه إلا أن الرواية بالفتح. (حتى تطلع الشمس)؛ لأن بطلوعها يتميز يوم الساعة عن غيره، فإنها تطلع في يوم الساعة من المغرب. (شفقا من الساعة) أي خوفا من قيامها فيه أن البهائم تعلم الأيام بعينها، وأنها تعلم أن القيام تقوم يوم الجمعة، ولا تعلم وقائع التي بين زمانها وبين القيامة، أو ما تعلم أن تلك الوقائع ما وجدت الآن. (إلا الجن والإنس) استثناء من الجنس؛ لأن اسم الدابة يقع على كل ما دب. قال الباجي: وجه عدم إشفاقهم أنهم علموا أن بين يدي الساعة شروطا ينتظرونها، وليس بالبين؛ لأنا نجد منهم من لا يصيخ وليس له علم بالشروط. وقال ابن عبدالبر: فيه أن الجن والإنس لا يعلمون من أمر الساعة ما

(8/308)


يعرفه غيرهم من الدواب، وهذا أمر يقصر عنه الفهم. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: وجه إساخة كل دابة يوم الجمعة، وهي مما لا تعقل أن نقول: إن الله تعالى يجعلها ملهمة بذلك مستشعرة منه وغير مستنكر أمثال ذلك وما هو فوقه في العجب من قدرة الله سبحانه، والحكمة في إخفاء ذلك من الجن والإنس أنهم مكلفون، ولا سيما بالإيمان بالغيب، فإذا كوشفوا بشيء من ذلك أخلت قاعدة الابتلاء وحق القول عليهم بالاعتداء، ثم أنهم لا يستطيعون به سمعا إن أظهر لهم، ويجوز أن يكون وجه إساخة كل دابة يوم الجمعة أن الله تعالى يظهر يوم الجمعة في أرضه من عظائم الأمور وجلائل الشيءون ما تكاد الأرض تميد بها، فتبقى كل دابة ذاهلة دهشة كأنها مسيخة للرعب الذي تداخلها وللحالة التي تشاهدها، حتى كأنها تشفق شفقتها من قيام الساعة. (وفيه ساعة) خفيفة. (لا يصادفها) أي لا يوافقها. (وهو يصلي)
يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه. قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبوهريرة: لقيت عبدالله بن سلام، فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة، فقلت له: قال كعب: ذلك في سنة يوم؟ قال عبدالله بن سلام: كذب كعب، فقلت له: ثم قرأ كعب التوراة، فقال: بل هي في كل جمعة، فقال عبدالله بن سلام: صدق كعب، ثم قال عبدالله بن سلام: قد علمت أي ساعة هي؟

(8/309)


حقيقة أو حكما بالانتظار، كما تقدم يدعو. ولفظ النسائي وفيه: ساعة لا يوافقها مؤمن، وهو في الصلاة. (يسأل الله) حال أو بدل. (شيئا) من أمر الدنيا والآخرة بشروطه. (إلا أعطاه إياه) ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم، كما تقدم. (ذلك) أي اليوم. (في كل سنة يوم) واحد. قال الطيبي: الإشارة إلى اليوم المذكور المشتمل على تلك الساعة الشريفة ويوم خبره. قال الباجي: يحتمل أن يكون ذلك على سبيل السهو في الإخبار عن التوراة أو التأويل للفظها. (بل في كل جمعة) أي هي في كل جمعة أو في كل أسبوع يوم، يعني ذلك اليوم المشتمل على ما ذكر كائن في كل أسبوع، وهذا أظهر مطابقة للجواب. (فقرأ كعب التوراة) بالحفظ أو بالنظر. (فقال) كعب (صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد النسائي هو في كل جمعة، وفي هذا معجزة عظيمة دالة على كمال علمه عليه السلام، حيث أخبر بما خفي على أعلم أهل الكتاب مع كونه أميا. (لقيت عبدالله بن سلام) بتخفيف اللام ابن الحارث. من بني قينقاع الإسرائيلي أبويوسف، حليف بني عوف بن الخزرج، أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، ونزل فيه: ?وشهد شاهد من بني إسرائيل? وقوله تعالى: ?ومن عنده علم الكتاب? [13: 43]، وشهد مع عمر فتح بيت المقدس والجابية، قيل: كان اسمه الحصين، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدالله، روى خمسة وعشرين حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بآخر، مات بالمدينة سنة. (43). (فحدثته بمجلسي) أي بجلوسي. (وما حدثته) أي وأخبرته بالحديث الذي حدثت به كعبا. (في يوم الجمعة) أي في شأنه أو فضله. (فقلت له) أي لعبد الله بن سلام. (كذب كعب) أي أخطأ وغلط: قال الباجي: والكذب إخبار بالشيء على غير ما هو به سواء تعمد ذلك أو لم يتعمد. (بل هي) أي ساعة الإجابة. (في كل جمعة) كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قد علمت) بصيغة المتكلم. (أية ساعة هي)

(8/310)


بنصب "أية" على أنها مفعول علمت، أي عرفت تلك الساعة. وفي بعض النسخ برفعها، كقوله تعالى: ?لنعلم أي الحزبين أحصى? [18: 12] قال ابن عبدالبر: وفيه إظهار العالم لعلمه بأن يقول أنا عالم
قال أبوهريرة: فقلت: أخبرني بها ولا تضن علي، فقال عبدالله بن سلام هي آخر ساعة في يوم الجمعة.
لكذا وكذا إذا لم يكن على وجه الفخر والرياء والسمعة. (قال أبوهريرة فقلت) أي لعبد الله بن سلام. (أخبرني بها) أي بتلك الساعة. (ولا تضن علي) بكسر الضاد وفتحها وبفتح النون المشددة من باب تعب وضرب، أي لا تبخل علي، قلت: وضبط في جامع الترمذي: لا تضنن بسكون الضاد وفتح النون الأولى، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10ص172) عن الترمذي، ونقل عن الموطأ والنسائي لا تضنن. قال العراقي: يجوز في ضبطه ستة أوجه: أحدها فتح الضاد وتشديد النونين وفتحهما، والثاني بكسر الضاد والباقي مثل الأول، والثالث فتح الضاد وتشديد النون الأولى وفتحها وتخفيف الثانية، والرابع كسر الضاد والباقي مثل الذي قبله، والخامس إسكان الضاد وفتح النون الأولى وإسكان الثانية، والسادس كسر النون الأولى والباقي مثل الذي قبله-انتهى. قال أبوالطيب المدني: حاصل جميع الوجوه أنه من باب التأكيد بالنون الثقيلة أو الخفيفة، أو من باب الفك، وعلى التقديرين فالباب يحتمل فتح العين في المضارع وكسرها فتصير الوجوه ستة-انتهى. (هي آخر ساعة في يوم الجمعة) ولفظ الترمذي: هي بعد العصر إلى أن تغرب الشمس، وسياق الحديث صريح في أن ذلك من قول عبدالله بن سلام حيث لم يصرح بسماعه منه صلى الله عليه وسلم، لكن قول الصحابي فيما لا مسرح للاجتهاد فيه مرفوع حكما، ويدل على كونه مرفوعا صريحا ما رواه ابن ماجه من طريق أبي النضر عن أبي سلمة عن عبدالله بن سلام قال: قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس: إنا لنجد في كتاب الله في يوم الجمعة ساعة-انتهى. وفيه قال عبدالله: فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه

(8/311)


وسلم أو بعض ساعة، فقلت: صدقت أو بعض ساعة، قلت: أية ساعة هي؟ قال: هي آخر ساعات النهار، قلت: انها ليست ساعة الصلاة، قال: بلى إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يحبسه إلا الصلاة فهو في الصلاة. قال الحافظ: وهذا يحتمل أن يكون قائل قلت: أية ساعة هي عبدالله بن سلام، فيكون مرفوعا، ويحتمل أن يكون أبا سلمة، فيكون موقوفا، وهو الأرجح لتصريحه في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بأن عبدالله بن سلام لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الجواب. أخرجه ابن أبي خيثمة، نعم رواه ابن جرير من طريق العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا أنها آخر ساعة بعد العصر يوم الجمعة، ولم يذكر عبدالله بن سلام قوله ولا القصة. وروى أبوداود والنسائي والحاكم بإسناد حسن عن جابر مرفوعا: يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله شيئا إلا آتاه الله عزوجل فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر، وروى أحمد (ج2ص272) عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعا: إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم-الحديث. وفيه وهي بعد العصر، وفي سنده محمد بن مسلمة الأنصاري روى عنه رجل اسمه عباس. قال الذهبي: لا يعرفان، وتعقبه الحافظ في اللسان (ج5ص318) فقال: عباس معروف، وهو عباس بن عبدالرحمن بن
قال أبوهريرة، فقلت: وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي فيها؟ فقال عبدالله بن سلام: ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من جلس مجلسا ينتظر الصلاة، فهو في صلاة حتى يصلي؟ قال أبوهريرة: فقلت بلى، قال: فهو كذلك)) رواه مالك، وأبوداود، والترمذي، والنسائي، وروى أحمد إلى قوله:صدق كعب==

10 مرعاة المفاتيح

ميناء. وقال في التقريب في ترجمته: أنه مقبول. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص165): وثقه ابن حبان، ولم يضعفه أحد-انتهى. ومحمد بن مسلمة المذكور تابعي، ذكره ابن حبان في الثقات. والحديث صحح إسناده الشيخ أحمد شاكر، لكن قال: إن العباس راوي هذا الحديث ليس هو ابن ميناء، بل هو رجل آخر، وهو عباس ابن عبدالرحمن بن حميد القرشي من بني أسد بن عبدالعزى المكي، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. قلت: ويؤيد حديث أبي هريرة هذا حديث أنس الآتي، والحديثان وإن كانا مطلقين غير مقيدين بآخر ساعة إلا أنهما يحملان على الأحاديث المقيدة بأنها آخر ساعة بعد العصر، فإن حمل المطلق على المقيد متعين، كما تقرر في الأصول. (قال أبوهريرة فقلت) لعبد الله بن سلام. (وكيف تكون) أي تلك الساعة. (وقد قال) الواو حالية. (رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي شأنها. (وهو يصلي فيها) قال القاري: وفي نسخة: وهو يصلي، وتلك الساعة لا يصلى فيها. قلت هكذا وقع في الموطأ وسنن أبي داود وجامع الترمذي، وكذا نقله الجزري (ج10ص172) ولفظ النسائي: وهو في الصلاة، وليست تلك الساعة صلاة. (فقال عبدالله بن سلام) في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم. (من جلس مجلسا) أي جلوسا أو مكان الجلوس. (ينتظر الصلاة) أي في هذا المجلس. (فهو في صلاة) أي حكما. (حتى يصلي) أي حقيقة يعني يفرغ من الصلاة، ولفظ النسائي: من صلى وجلس ينتظر الصلاة، فهو في صلاة حتى تأتيه الصلاة التي تليها. (فقلت: بلى) أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. (قال) أي عبدالله بن سلام. (فهو ذلك) أي هذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي. وقال القاري: فهو أي المراد بالصلاة ذلك أي الانتظار. ولفظ النسائي: فهو كذلك أي فالجالس في تلك الساعة منتظرا كذلك أي مصل. قال السيوطي في التنوير: هذا أي تأويل عبدالله بن سلام مجاز بعيد، ورد عليه الزرقاني بأنه بعد الثبوت وبعد قبول الصحابي إياه لا بعد

(8/313)


فيه ولا ريب أن الداعي آخر ساعة بعد العصر عازم على المغرب. (رواه مالك وأبوداود) وسكت عنه. (والترمذي) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ونقل المنذري كلامه هذا وأقره. (والنسائي الخ) وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1ص278) والبيهقي (ج3ص250، 251).
1370-(7) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس)). رواه الترمذي.
1371-(8) وعن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة،

(8/314)


1370- قوله: (التمسوا) أي أطلبوا، ورواه الطبراني بلفظ: ابتغوا. (الساعة التي ترجى) بصيغة المجهول أي تطمع إجابة الدعاء فيها. (بعد العصر إلى غيبوبة الشمس) هذا يؤيد قول عبدالله بن سلام، وهو محمول على أن المراد بها آخر ساعة بعد العصر، كما تقدم. وقد اقتصر المصنف على ذكر قولين في تعيين ساعة الجمعة، كالبغوي كأنهما رأيا هذين القولين أرجح وأقوى من غيرهما دليلا. (رواه الترمذي) أي من طريق محمد بن أبي حميد عن موسى بن وردان عن أنس، قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير هذا الوجه، ثم تكلم في محمد بن أبي حميد بأنه ضعف من قبل حفظه، وقال: هو منكر الحديث. قلت: ورواه الطبراني في الأوسط من طريق ابن لهيعة، كما في الترغيب (ج1ص216) ومجمع الزوائد (ج2ص166) وزاد في آخره: وهي قدر هذا يعني قبضة. قال المنذري: وإسناده أصلح من إسناد الترمذي-انتهى. ورواه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا، ومن طريق صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: فالتمسوها بعد العصر. وذكر ابن عبدالبر: إن قوله: "فالتمسوها" إلى آخره، مدرج في الخبر من قول أبي سلمة. ورواه ابن مندة من هذا الوجه وزاد: أغفل ما يكون الناس. ورواه أبونعيم في الحلية من طريق الشيباني عن عون بن عبدالله عن أخيه عبيدالله، كقول ابن عباس، كذا في الفتح.

(8/315)


1371- قوله: (وعن أوس بن أوس) الثقفي، صحابي، سكن دمشق، ومات بها، له حديثان أحدهما في الصيام والآخر في الجمعة. (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة) فيه إشارة إلى أن يوم عرفة أفضل أو مساو؛ لأن زيادة "من" تدل على أن يوم الجمعة من جملة الأفاضل من الأيام، وليس هو أفضل الأيام مطلقا. (فيه خلق آدم) أي طينته. (وفيه) أي في جنسه. (قبض) أي روحه. (وفيه النفخة) قال الطيبي: أي النفخة الأولى، فإنها مبدأ قيام الساعة، ومقدم النشأة الثانية. (وفيه الصعقة) أي الصيحة. والمراد بها الصوت الهائل الذي يموت الإنسان من هوله، وهي النفخة الأولى. قال تعالى: ?ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله? [39: 68] فالتكرار باعتبار تغاير الوصفين. وقال القاري: المراد بالنفخة الثانية، وبالصعقة النفخة الأولى، قال: وهذا أولى لما فيه من التغاير الحقيقي، وإنما سميت النفخة الأولى بالصعقة؛ لأنها تترتب عليها، وبهذا
فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا: يا رسول الله ! وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟

(8/316)


الوصف تتميز عن الثانية. وقيل: إشارة إلى صعقة موسى عليه السلام. (فأكثروا علي من الصلاة فيه) أي في يوم الجمعة، وهو تفريع على كون الجمعة من أفضل الأيام. (فإن صلاتكم معروضة علي) يعني على وجه القبول فيه وإلا فهي دائما تعرض عليه بواسطة الملائكة، قاله القاري. وقال السندي: هذا تعليل للتفريع أي هي معروضة علي كعرض الهدايا على من أهديت إليه، فهي من الأعمال الفاضلة ومقربة لكم إلي، كما يقرب الهدية المهدي إليه، وإذا كانت بهذه المثابة، فينبغي إكثار باقي الأوقات الفاضلة، فإن العمل الصالح يزيد فضلا بواسطة فضل الوقت، وعلى هذا لا حاجة إلى تقييد العرض بيوم الجمعة، كما قيل. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين بعد ذكر أحاديث إبلاغ السلام إليه - صلى الله عليه وسلم - وعرض الصلاة عليه ما لفظه: وظاهر الجميع أن كل صلاة وسلام تبلغه - صلى الله عليه وسلم -، وسواء كان ذلك في يوم الجمعة أو في غيره من الأيام والليالي، فلعل في العرض عليه زيادة على مجرد الإبلاغ إليه، ويكون ذلك من خصائص الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - في يوم الجمعة. (وقد أرمت) جملة حالية بفتح الراء وسكون الميم وفتح التاء المخففة على وزن ضربت، ويروى بكسر الراء أي بليت. وقيل: أرمت على البناء للمفعول من الأرم، وهو الأكل أي صرت مأكولا للأرض. وقيل: أرمت بالميم المشددة والتاء الساكنة أي أرمت العظام وصارت رميما من رم الميت وأرم إذا بلى، ويروي أرممت بالميمين أي صرت رميما، فعلى هذا يجوز أن يكون أرمت بحذف إحدى الميمين، كظلت ثم كسرت الراء لالتقاء الساكنين أو فتحت بالأخفية أو بالنقلية، وفي ضبطه أقوال أخر. قال السندي: لا بد ههنا أولا من تحقيق لفظ أرمت، ثم النظر في السؤال والجواب وبيان انطباقها، فأما أرمت بفتح الراء كضربت أصله أرممت من أرم بتشديد الميم إذا صار رميما، فحذفوا إحدى الميمين، كما في ظلت، ولفظه: إما على

(8/317)


الخطاب أو الغيبة على أنه مستند إلى العظام. وقيل: من أرم بتخفيف الميم أي فني، وكثيرا ما يروى بتشديد الميم والخطاب، فقيل هي لغة ناس من العرب. وقيل: بل خطأ والصواب سكون التاء لتأنيث العظام، أو أرممت بفك الإدغام. وأما تحقيق السؤال فوجهه أنهم فهموا عموم الخطاب في قوله: فإن صلاتكم معروضة للحاضرين ولمن يأتي بعده - صلى الله عليه وسلم -، ورأوا أن الموت في الظاهر مانع عن السماع والعرض، فسألوا عن كيفية عرض صلاة من يصلي بعد الموت، وعلى هذا فقولهم: وقد أرمت كناية عن الموت، والجواب بقوله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله حرم الخ. كناية عن كون الأنبياء أحياء في قبورهم، أو بيان لما هو خرق للعبادة المستمرة بطريق التمثيل أي ليجعلوه مقيسا عليه للعرض بعد الموت الذي هو خلاف العادة المستمرة، ويحتمل أن المانع من العرض عندهم فناء البدن لا مجرد الموت ومفارقة الروح، لجواز عود الروح إلى البدن ما دام سالما عن التغير الكثير، فأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى
قال: يقولون: بليت، قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)). رواه أبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، والبيهقي في الدعوات الكبير.

(8/318)


بقاء بدون الأنبياء عليهم السلام، وهذا هو ظاهر السؤال والجواب، بقي أن السؤال منهم على هذا الوجه يشعر بأنهم ما علموا أن العرض على الروح المجرد ممكن، فينبغي أن يبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يمكن العرض على الروح المجرد ليعلموا ذلك، ويمكن الجواب عن ذلك بأن سؤالهم يقتضي أمرين مساواة الأنبياء عليهم السلام وغيرهم بعد الموت، وأن العرض على الروح المجرد لا يمكن والاعتقاد الأول أسوء فأرشدهم - صلى الله عليه وسلم - بالجواب إلى ما يزيله وآخر ما يزيل الثاني إلى وقت يناسبه تدريجا في التعليم. والله أعلم. (قال) أي أوس. (يقولون) أي الصحابة أي يريدون بهذا القول. (بليت) بفتح الباء وكسر اللام أي صرت باليا. (قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء) أي منعها من أن تأكل أجسادهم، فإن الأنبياء أحياء في قبورهم، لكن بحياة برزخية ليست نظير الحياة المعهودة، وهي أقوى وأكمل من حياة الشهداء. والحديث يدل على مشروعية الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة، وأنها تعرض عليه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. (رواه أبوداود والنسائي) في الجمعة. (وابن ماجه) في الجنائز، وروى هو في الجمعة عن شداد بن أوس بمثل حديث أوس بن أوس وهو خطأ، والصواب ما وقع في الجنائز أي عن أوس بن أوس. (والدارمي والبيهقي في الدعوات الكبير) وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص8) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه (ج1ص278) وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وقال النووي: إسناده صحيح، وأخرجه البيهقي (ج3ص248) في السنن من طريق الحاكم، وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: له علة دقيقة، أشار إليها البخاري وغيره، وقد جمعت طرقه في جزء-انتهى. وقال الشوكاني في النيل: ذكره ابن أبي حاتم في العلل وحكى عن أبيه أنه حديث منكر؛ لأن في إسناده عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، وهو منكر الحديث.

(8/319)


وذكر البخاري في تأريخه: أنه عبدالرحمن بن يزيد بن تميم. وقال ابن العربي: إن الحديث لم يثبت-انتهى. قلت: هذا الحديث من رواية عبدالرحمن بن يزيد بن جابر لا من رواية عبدالرحمن بن يزيد بن تميم، والأول ثقة، وثقه أحمد وابن معين والعجلي وابن سعد والنسائي ويعقوب بن سفيان وأبوداود وابنه أبوبكر بن أبي داود وابن حبان وأبوحاتم والذهبي والحافظ. والثاني أي ابن تميم ضعيف منكر الحديث، فالحق أن الحديث صحيح، ومن قال أنه ضعيف أو منكر، فكأنه اشتبه الأمر عليه لظنه أن الحديث من رواية ابن تميم. وقال ابن دحية: أنه صحيح بنقل العدل عن العدل، ومن قال: إنه منكر أو غريب لعله خفية به، فقد استروح؛ لأن الدارقطني ردها.
1372-(9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة، وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعوا الله بخير إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذه منه)). رواه أحمد، والترمذي،

(8/320)


1372- قوله: (اليوم الموعود) أي الذي ذكره الله في سورة البروج. (يوم القيامة)؛ لأن الله وعد الناس بإتيانه، أو لأنه وعد المؤمنين بعد إتيانه بنعيم الجنة. (واليوم المشهود يوم عرفة)؛ لأن المؤمنين يشهدونه أي يحضرونه ويجتمعون فيه. (والشاهد يوم الجمعة)؛ لأنه يشهد لمن حضر صلاته، أو لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه. قال في اللمعات: إنما سمي يوم عرفة مشهودا ويوم الجمعة شاهدا؛ لأن الخلائق يذهبون إلى عرفة ويشهدون فيها فكان مشهودا، وفي يوم الجمعة هم على مكانهم فكان اليوم جاءهم وحضر فكان شاهدا. واعلم أنه وقع الإجماع على أن المراد باليوم الموعود المذكور في سورة البروج، هو يوم القيامة، واختلفوا في تفسير الشاهد والمشهود على أقوال، والراجح ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين. ومن بعدهم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة لحديث الباب، وهو وإن كان ضعيفا فله شاهد من حديث أبي مالك الأشعري عند ابن جرير والطبراني وابن مردويه، وفيه إسماعيل بن عياش روى عن ضمضم بن زرعة الحمصي، وإسماعيل صدوق في روايته عن أهل بلده، ومن حديث جبير بن مطعم عند ابن عساكر وابن مردويه، ومن مرسل سعيد بن المسيب عند سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه. (وما طلعت الشمس ولا غربت) في الثاني زيادة تأكيد للأول. (على يوم) أي في يوم أو على موجود يوم وساكنه. (أفضل منه) أي من يوم الجمعة. (عبد مؤمن) قال القاري: من باب التفنن في العبارة فبالحديثين علم أن المؤمن والمسلم واحد في الشريعة، كقوله تعالى: ?فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين? [51: 36]. (يدعو الله بخير) فيه تفسير لقوله: "يصلي" مع زيادة التقييد بالخير. (إلا استجاب الله له) أي بنوع من الإجابة. (ولا يستعيذ من شيء) أي من شر نفس أو شيطان أو إنسان أو معصية أو بلية أو عار أو نار. (إلا أعاذه منه) أي أجاره بنوع من الإعاذة. والحديث

(8/321)


من أدلة فضل يوم الجمعة. (رواه أحمد) (ج2ص298) مقتصرا على تفسير الآية موقوفا من طريق يونس بن عبيد عن عمار مولى بني هاشم عن أبي هريرة من قوله، ومرفوعا من طريق ابن جدعان عن عمار عن أبي هريرة، وكذا أخرجه البيهقي (ج3ص170). قال ابن كثير: والموقوف أشبه. (والترمذي) في التفسير من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد عن عبدالله بن رافع عن أبي هريرة، أخرجه أيضا من هذا الطريق ابن أبي حاتم
وقال: هذا حديث غريب لا يعرف إلا من حديث موسى بن عبيدة، وهو يضعف.
?الفصل الثالث?
1373-(10) عن أبي لبابة بن عبدالمنذر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئا

(8/322)


وابن خزيمة. (وقال هذا حديث غريب لا يعرف) وفي نسخ الترمذي الحاضرة عندنا: هذا حديث لا نعرفه. (إلا من حديث موسى بن عبيدة) بضم العين المهملة وفتح الموحدة. (وهو يضعف) بصيغة المجهول أي في الحديث. قال الترمذي: ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره من قبل حفظه-انتهى. قلت: ضعفه أيضا أحمد وابن معين والنسائي وابن المديني وابن حبان وغيرهم. وقال الساجي وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: ليس بقوي الأحاديث وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث وليس بحجة. وقال وكيع: كان ثقة وقد حدث عن عبدالله بن دينار أحاديث لم يتابع عليها. وقال أبوبكر البزار: موسى بن عبيدة رجل مفيد، وليس بالحافظ، إنما قصر به عن حفظ الحديث شغله بالعبادة. وقال الآجري عن أبي داود: أحاديثه مستوية إلا عن عبدالله بن دينار. وقال ابن معين: ليس بالكذوب، ولكنه روى عن ابن دينار أحاديث مناكير، كذا في تهذيب التهذيب. والظاهر أن موسى هذا ضعيف من قبل حفظه لا سيما في عبدالله بن دينار ومع ذلك فهو صدوق، وقد تأيد حديثه هذا بحديث أبي مالك الأشعري وجبير بن مطعم ومرسل ابن المسيب، وبالأحاديث التي رويت في فضل الجمعة وساعة الإجابة.

(8/323)


1373- قوله: (وعن أبي لبابة) بضم اللام وخفة موحدة أولى، الأوسي الأنصاري المدني، اسمه بشير، أو رفاعة بن عبدالمنذر، صحابي مشهور. قال أبوأحمد الحاكم: يقال شهد بدرا، ويقال رده النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى بدر من الروحاء، واستعمله على المدينة، وضرب له بسهمه وأجره، فكان كمن شهدها ثم شهد أحدا وما بعدها وكانت معه رواية بني عمرو بن عوف في الفتح، وكان أحد النقباء شهد العقبة، له خمسة عشر حديثا، اتفقا على حديث، مات في خلافة علي. وقيل: بعد الخمسين. (إن يوم الجمعة سيد الأيام) أي أفضل أيام الأسبوع، أو أريد بالسيد المتبوع، كما قال: والناس لنا تبع. (وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر) قيل: أي باعتبار كونه يوم عبادة صرف، وهما يوم فرح وسرور، وفيه إشارة إلى تساوي يومي الجمعة وعرفة أو أفضلية عرفة. (فيه) أي في نفس يوم الجمعة. (خمس خلال) بكسر الخاء المعجمة أي خصال مختصة به. (خلق الله فيه آدم) أي طينته. (وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض) أي أنزله من الجنة إلى الأرض. (لا يسأل العبد) اللام للعهد أي العبد المسلم. (فيها شيئا)
إلا أعطاه، ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا هو مشفق من يوم الجمعة). رواه ابن ماجه.
1374-(11) وروى أحمد عن سعد بن معاذ. ((أن رجلا من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:

(8/324)


أي مما يليق أن يدعو به المسلم، ويسأل فيه ربه تعالى. (إلا أعطاه) أي الله إياه. (ما لم يسأل حراما) أي ما لم يكن مسؤله ممنوعا. (ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر) أي ولا من دابة، كما تقدم. (إلا هو مشفق) أي خائف من الإشفاق بمعنى الخوف، ولفظ ابن ماجه وأحمد: إلا وهن يشفقن. (من يوم الجمعة) أي خوفا من فجأة الساعة، وفيه أن سائر المخلوقات تعلم الأيام بعينها، وأنها تعلم أن القيامة تقوم يوم الجمعة، ولا تعلم الوقائع التي بينها وبين القيامة، أو ما تعلم أن تلك الوقائع ما وجدت إلى الآن، لكن هذا بالنظر إلى الملك المقرب لا يخلو عن خفاء. والأقرب أن غلبة الخوف والخشية تنسيهم ذلك. (رواه ابن ماجه) وكذا أحمد (ج3ص430) بلفظ واحد. قال في الزوائد: إسناده حسن، وكذا قال العراقي، كما في النيل. وقال المنذري في الترغيب: في إسنادهما (أي أحمد وابن ماجه) عبدالله بن محمد بن عقيل، وهو ممن احتج به أحمد وغيره.

(8/325)


1374- قوله: (وروى أحمد عن سعد بن معاذ) كذا وقع في متن المرقاة وغيره، ووقع في بعض النسخ: سعيد بن معاذ، وكلاهما خطأ من النساخ؛ لأنه ليس في الرواة أحد اسمه سعيد بن معاذ، ولأن هذا الحديث من مرويات سعد بن معاذ، بل هو من مسانيد سعد بن عبادة، فالصواب سعد بن عبادة، كما وقع في مسند الإمام أحمد (ج5ص284) ومجمع الزوائد (ج2ص163) والترغيب للمنذري (ج1ص214) والفتح (ج4ص503) قال المنذري بعد ذكر حديث أبي لبابة عن المسند وسنن ابن ماجه: ورواه أحمد أيضا والبزار من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل أيضا من حديث سعد بن عبادة، وبقية رواته ثقات مشهورون-انتهى. وسعد بن عبادة بعين مضمومة وخفة موحدة، ابن دليم بن حارثة أبوثابت الأنصاري الساعدي الخزرجي، سيدهم، وصاحب رأية الأنصار في المشاهد كلها. اختلف في شهوده بدرا فوقع في صحيح مسلم أنه شهدها، وكذا قاله ابن عيينة والبخاري وأبوحاتم وأبوأحمد الحاكم وابن حبان، والمعروف عند أهل المغازي أنه تهيأ للخروج إلى بدر فنهش فأقام، وهو من نقباء العقبة الاثني عشر، وكان أحد الأجواد، يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي، وكان من أحسن ذلك يسمى الكامل، وكان كثير الصدقات جدا، حكايات جوده كثيرة مشهورة، تخلف عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه وخرج عن المدينة، ولم يرجع إليها حتى مات بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف من خلافة عمر سنة (15) وقيل: (14) وقيل: (11) ولم يختلفوا أنه وجد ميتا في مغتسلة، وقد أخضر جسده ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرونه:
أخبرنا عن يوم الجمعة ماذا فيه من الخير؟ قال: فيه خمس خلال)). وساق إلى آخر الحديث.
1375-(12) وعن أبي هريرة، قال: ((قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ قال: لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة وفيها البطشة، وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها استجيب له)).

(8/326)


نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة، ورمينا بسهمين فلم نخط فؤاده، فيقال: إن الجن قتلته. (أخبرنا عن يوم الجعة) أي عن خواصه. ( ماذا فيه من الخير قال: فيه خمس خلال) قال الطيبي: يدل على أن هذه الخلال خيرات توجب فضيلة اليوم. (وساق) أي ذكرها مرتبا. (إلى آخر الحديث) والظاهر أنه ليس المراد بخمس خلال الحصر لما تقدم أن ابن القيم ذكر في الهدي ثلاثا وثلاثين خصوصية للجمعة.
1375- قوله: (لأي شيء سمي) أي يوم الجمعة بالرفع. (يوم الجمعة) بالنصب على أنه مفعول ثان، وذكره المنذري في الترغيب، والهيثمي في الزوائد عن المسند بلفظ: أي شيء يوم الجمعة. (لأن فيها) أنثه نظرا للمضاف إليه. (طبعت) أي خمرت وجمعت. وقيل: جعلت صلصالا كالفخار. (طينة أبيك) الطين بالكسر معروف وبالهاء قطعة منه. (آدم) أي الذي هو مجموعة العالم، والخطاب للقائل السائل. (وفيها الصعقة) أي الصيحة الأولى التي يموت بها جميع أهل الدنيا. (والبعثة) بكسر الباء وتفتح أي النفخة الثانية التي بها تحيا جميع الأجساد الفانية. (وفيها البطشة) أي الأخذة الشديدة يوم القيامة الطامة التي للخلائق عامة، والمراد بها المؤاخذة بعد البعث والحشر. قال القاري: وما قيل إنها يوم القيامة، فهو ضعيف؛ لأن التأسيس أولى من التأكيد. قال الطيبي: سئل - صلى الله عليه وسلم - عن علة تسمية الجمعة، فأجاب بأنه إنما سمي بها لاجتماع الأمور العظام وجلائل الشؤون فيها-انتهى. ولا يخفى أن فيما قدمناه إشارة إلى أن معنى الجمعية موجودة في كل من الأمور المذكورة مع قطع النظر عن الهيئة المجموعية. (وفي آخر ثلاث ساعات منها) أي من يوم الجمعة. (ساعة) قال الطيبي: وفي هذه تجريدية، إذا الساعة هي نفس آخر ثلاث ساعات، كما في قولك: في البيضة عشرون منا من حديد والبيضة نفس الأرطال-انتهى. قال القاري: ولعل العدول عن أن يقول: وفي آخرها ساعة إشارة إلى المحافظة على الساعتين قبل تلك الساعة لقربها-انتهى. وعلى

(8/327)


هذا حديث أبي هريرة هذا يكون موافقا للأحاديث المصرحة بأنها آخر ساعة بعد العصر، وهو الظاهر عندي، ويظهر من كلام الحافظ أنه فهم أن المراد منه آخر الساعة الثالثة من أول النهار حيث قال: القول الحادي عشر أنها آخر الساعة الثالثة من النهار، حكاه صاحب المغني (ج2ص355)، وهو في مسند الإمام أحمد من طريق علي بن طلحة عن أبي هريرة مرفوعا، فذكر حديث الباب ثم نقل عن المحب الطبري أنه قال: قوله في آخر ثلاث ساعات
رواه أحمد.
1376-(13) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة، فإنه مشهود يشهده الملائكة، وإن أحدا لم يصل علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها. قال قلت: وبعد الموت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فنبي الله حي يرزق))
يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون المراد الساعة الأخيرة من الثلاثة الأول. ثانيهما أن يكون المراد أن في آخر كل من الثلاثة ساعة إجابة، فيكون فيه تجوز لإطلاق الساعة على بعض الساعة-انتهى. (رواه أحمد) من طريق علي بن أبي طلحة عن أبي هريرة، وفي إسناده فرج بن فضالة، وهو ضعيف، وعلي لم يسمع من أبي هريرة، قاله الحافظ، ووهم الهيثمي إذ قال: رجاله رجال الصحيح، ووهم المنذري أيضا حيث قال: رجاله محتج بهم في الصحيح.

(8/328)


1376- قوله: (فإنه) أي يوم الجمعة. (مشهود يشهده) قال القاري: بالياء والتاء. وفي ابن ماجه: تشهده بالتاء، وكذا نقله المجد بن تيمية والمنذري. (الملائكة) هذا لا ينافي ما تقدم من أن يوم الجمعة شاهد؛ لأن إطلاق المشهود عليه هنا باعتبار آخر، فهو شاهد ومشهود، كما قيل في حقه تعالى: هو الحامد، وهو المحمود، مع أنه يحتمل أن يكون ضمير فإنه في هذا الحديث راجعا إلى إكثار الصلاة المفهوم من "أكثروا"، ويؤيده السياق المكتنف بالسباق واللحاق. (إلا عرضت) بصيغة المجهول. (على صلاته) بواسطة الملائكة أي في كل وقت، فعرضها في يوم الجمعة الذي هو أفضل الأيام أولى، ويحتمل أن يكون ذلك العرض مخصوصا بيوم الجمعة أي وجوبا والبتة على وجه الكمال كذا في اللمعات. (حتى يفرغ منها) أي من الصلاة يعني الصلوات كلها معروضة على وإن طالت المدة من ابتداء شروعه فيها إلى الفراغ منها. (قلت وبعد الموت) أي أيضا، والاستفهام مقدر "أو" وبعد الموت ما الحكم فيه. (إن الله حرم على الأرض) أي منعها منعا كليا. (أن تأكل أجساد الأنبياء) فلا فرق لهم في الحالين. وفيه إشارة إلى أن العرض على مجموع الروح والجسد منهم بخلاف غيرهم. (فنبي الله) يحتمل الإضافة الاستغراق، ويحتمل أنها للعهد، والمراد نفسه، وهو الظاهر. وقال القاري: يحتمل الجنس والاختصاص بالفرد الأكمل، والظاهر هو الأول؛ لأنه رأى موسى قائما يصلي في قبره، وكذلك إبراهيم، كما في حديث مسلم. (حي يرزق) رزقا معنويا فإن الله تعالى قال في حق الشهداء من أمته: ?بل أحياء عند ربهم يرزقون? فكيف سيدهم بل رئيسهم؛ لأنه حصل له أيضا مرتبة الشهادة مع مزيد السعادة بأكل الشأة المسمومة وعود سمها، وإنما عصمة الله من الشهادة الحقيقية للبشاعة الصورية ولإظهار القدرة الكاملة بحفظ فرد من بين أعداءه من شر البرية، ولا ينافيه أن يكون هناك رزق حسي أيضا، وهو الظاهر المتبادر، قاله القاري. ثم هذه الجملة يحتمل أن

(8/329)


تكون من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -
رواه ابن ماجه.
1377-(14) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)). رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وليس إسناده بمتصل.
نتيجة للكلام، ويحتمل أن تكون من قول أبي الدرداء استفادة من كلامه وتفريعا عليه - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الظاهر. وفي الحديث مشروعية الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -يوم الجمعة، وأنها تعرض عليه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه حي في قبره. وقد ذهب جماعة من العلماء ومنهم البيهقي والسيوطي إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي بعد وفاته، وأنه يسير بطاعات أمته، وعندنا حياته هذه هي نوع حياة برزخية وليست نظير الحياة الدنيوية المعهودة، فإن روحه - صلى الله عليه وسلم - في مستقرها في عليين مع الرفيق الأعلى، ولها تعلق ببدنه الطيب قوي فوق تعلق روح الشهيد بجسده، فلا يثبت لها أحكام الحياة الدنيوية إلا ما وقع ذكره في الأحاديث الصحيحة، وارجع للبسط والتحقيق إلى الصارم المنكى (ص196- 204) واقتضاء الصراط المستقيم، وصيانة الإنسان. (رواه ابن ماجه) في آخر الجنائز. قال العراقي في شرح الترمذي، والحافظ في تهذيب التهذيب (ج3ص398): رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا؛ لأن في إسناده زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء. قال البخاري: زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي مرسل، ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد: هذا الحديث صحيح إلا أنه منقطع في موضعين؛ لأن عبادة روايته عن أبي الدرداء مرسلة، قاله العلاء وزيد بن أيمن عن عبادة مرسلة، قاله البخاري-انتهى.

(8/330)


1377- قوله: (ما من مسلم) قال القاري: زيادة "من" لإفادة العموم، فيشمل الفاسق إلا أن يقال إن التنوين للتعظيم. (يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة) الظاهر أن "أو" للتنويع لا للشك. (إلا وقاه الله) أي حفظه. (فتنة القبر) أي عذابه وسؤاله، وهو يحتمل الإطلاق والتقييد، والأول هو الأولى بالنسبة إلى فضل المولى، وهذا يدل على أن شرف الزمان له تأثير عظيم، كما أن فضل المكان له أثر جسيم. (رواه أحمد) (ج2ص169). (والترمذي) في الجنائز، كلاهما من طريق سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف عن عبدالله بن عمرو. (وقال) أي الترمذي. (هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل)؛ لأن ربيعة بن سيف إنما يروي عن أبي عبدالرحمن الحبلى عن عبدالله بن عمرو. قال الترمذي: ولا نعرف لربيعة بن سيف سماعا من عبدالله بن عمرو-انتهى. وذكر الحافظ كلام الترمذي هذا في التهذيب وأقره، قال شيخنا في شرح الترمذي: فالحديث ضعيف؛ لانقطاعه، لكن له شواهد. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: في إسناده ضعف. وأخرجه أبويعلى من حديث أنس نحوه،
1378-(15) وعن ابن عباس، أنه قرأ: ?اليوم أكملت لكم دينكم? الآية،

(8/331)


وإسناده أضعف-انتهى. وقال الهيثمي: في سند حديث أنس يزيد الرقاشى، وفيه كلام-انتهى. وقال القاري: ذكره السيوطي في باب من لا يسأل في القبر، وقال: أخرجه أحمد والترمذي وحسنه، وابن أبي الدنيا عن ابن عمرو، ثم قال: وأخرجه ابن وهب في جامعه والبيهقي أيضا من طريق آخر عنه بلفظ: إلا برئ من فتنة القبر. وأخرجه البيهقي أيضا من طريق ثالثة عنه موقوفا بلفظ: وقي الفتان-انتهى. قلت: لم أجد عند الترمذي تحسينه فلعله وهم وقع في النسخة التي كانت بيد السيوطي، لكن الحديث رواه أحمد من طريق آخر صحيح (ج2ص176، 219) وجاء نحوه أيضا من حديث جابر رواه أبونعيم في الحلية (ج3ص155، 156) بإسناد فيه ضعف. قال ابن القيم: حديث جابر تفرد به عمرو بن موسى الوجيهي، وهو مدني ضعيف-انتهى. قال السيوطي: قال القرطبي هذه الأحاديث أي التي تدل على نفي سؤال القبر لا تعارض أحاديث السؤال السابقة أي لا تعارضها بل تخصها وتبين من لا يسئل في قبره ولا يفتن فيه ممن يجري عليه السؤال ويقاسي تلك الأهوال، وهذا كله ليس فيه مدخل للقياس ولا مجال للنظر فيه، وإنما فيه التسليم والإنقياد لقول الصادق المصدوق. قال الحكيم الترمذي: ومن مات يوم الجمعة فقد انكشف له الغطاء عما له عند الله؛ لأن يوم الجمعة لا تسجر فيه جهنم وتغلق أبوابها، ولا يعمل سلطان النار فيه ما يعمل في سائر الأيام، فإذا قبض الله عبدا من عبيده فوافق قبضه يوم الجمعة كان ذلك دليلا لسعادته وحسن مآبه، وأنه لا يقبض في ذلك اليوم إلا من كتب له السعادة عنده، فلذلك يقيه فتنة القبر؛ لأن سببها إنما هو تمييز المنافق من المؤمن. قلت: ومن تتمة ذلك أن من مات يوم الجمعة له أجر شهيد، فكان على قاعدة الشهداء في عدم السؤال، كما أخرجه أبونعيم في الحلية عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة أجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء. وأخرج حميد في

(8/332)


ترغيبه عن إياس بن بكير: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من مات يوم الجمعة كتب له أجر شهيد ووقي فتنة القبر. وأخرج من طريق ابن جريج عن عطاء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من مسلم أو مسلمة يموت في يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقي عذاب القبر وفتنة القبر، ولقي الله ولا حساب عليه، وجاء يوم القيامة ومعه شهود يشهدون له أو طابع، وهذا الحديث لطيف صرح فيه بنفي الفتنة والعذاب معا-انتهى كلام السيوطي. قال ابن القيم في حديث جابر: تفرد بع عمر بن موسى الوجيهي، وهو مدني، ضعيف.
1378- قوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) أي ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام وقواعد العقائد وقوانين القياس وأصول الاجتهاد. وقيل: أي أحكامه وفرائضه وشرائعه، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام. (الآية) وهي قوله. ?وأتممت عليكم نعمتي? أي بالهداية والتوفيق، أو بإكمال الدين، أو بفتح مكة
وعنده يهودي، فقال: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذناها عيدا، فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين، في يوم جمعة، ويوم عرفة)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب.

(8/333)


ودخولها آمنين. وقيل: أي أمور دنياكم. ?ورضيت? أي اخترت. ?لكم الإسلام دينا? حال أي اخترته لكم من بين الأديان وآذنتكم بأنه هو الدين المرضى وحده. (وعنده) أي وعند ابن عباس. (يهودي) أي حاضر. وفي حديث عمر بن الخطاب عند البخاري في كتاب الإيمان: أن رجلا من اليهود قال له أي لعمر. قال الحافظ: هذا الرجل، هو كعب الأحبار، بين ذلك مسدد في مسنده، والطبري في تفسيره، والطبراني في الأوسط، وللبخاري في المغازى: أن ناسا من اليهود، وله في التفسير: قالت اليهود، فيحمل على أن أنهم كانوا حين سؤال كعب عن ذلك جماعة، وتكلم كعب على لسانهم وأطلق على كعب هذه الصفة إشارة إلى أن سؤاله عن ذلك وقع قبل إسلامه؛ لأن إسلامه كان في خلافة عمر على المشهور، وأطلق عليه ذلك باعتبار ما مضى. (فقال) أي اليهودي. (لاتخذناها) أي جعلنا يوم نزولها. (عيدا) نعظمه في كل سنة ونسر فيه لعظم ما حصل فيه من كمال الدين. (فإنها) أي الآية. (نزلت) أي علينا. (في يوم عيدين) أي وقت عيدين لنا. (في يوم جمعة ويوم عرفة) وفي بعض نسخ المشكاة وجامع الترمذي: في يوم الجمعة أي معرفا باللام، وهو بدل مما قبله بإعادة الجار، يعني أنزلها الله في يومي عيد لنا فضلا وإحسانا من غير أن نجعلهما عيدين بأنفسنا، أو قد تضاعف السرور لنا بإنزالها فإنا نعظم الوقت الذي نزلت فيه مرتين وإن كان نزولها في الوقت المشتمل على اليومين، فإنها نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة يوم الجمعة. وفي حديث عمر عند الطبري: نزلت يوم جمعة يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد. والطبراني: وهما لنا عيدان. قال الطيبي: في جواب ابن عباس لليهودي إشارة إلى الزيادة في الجواب، يعني ما اتخذنا عيدا واحدا، بل عيدين، وتكرير اليوم تقرير لاستقلال كل يوم بما سمي به وإضافة يوم إلى عيدين كإضافة اليوم إلى الجمعة أي يوم الفرح المجموع، والمعنى يوم الفرح الذي يعودون مرة بعد أخرى فيه إلى السرور.

(8/334)


قال الراغب: العيد ما يعاود مرة بعد أخرى، وخص في الشريعة بيوم الفطر ويوم النحر، ولما كان ذلك اليوم مجعولا للسرور في الشريعة، كما نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: أيام منى أيام أكل وشرب وبعال صار يستعمل العيد في كل يوم فيه مسرة. والحديث من أدلة فضل الجمعة؛ لأن فيه أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أنه قد أكمل لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة، وفي يوم وقع ذلك له فضل عظيم. (رواه الترمذي) في تفسير سورة المائدة وحسنه. وأخرجه أيضا ابن جرير في تفسيره، وأصل الحديث عند الشيخين وغيرهما عن عمر بن الخطاب أن رجلا من اليهود قال له الخ.
1379-(16) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل رجب قال: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان. قال: وكان يقول: ليلة الجمعة ليلة أغر، ويوم الجمعة أزهر)). رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
(43) باب وجوبها

(8/335)


1379- قوله: (إذا دخل رجب) أي الشهر الذي هو فرد من الأشهر الحرم منون. وقيل: غير منصرف. (اللهم بارك لنا) أي في طاعتنا وعبادتنا. (في رجب وشعبان) يعني وفقنا للإكثار من الأعمال الصالحة فيهما. (وبلغنا رمضان) أي إدراكه بتمامه والتوفيق لصيامه وقيامه. قيل: ولم يقل ورمضان لبعده عن أول رجب. (قال) أي أنس. (وكان يقول) - صلى الله عليه وسلم -. (ليلة الجمعة ليلة أغر) قال الطيبي: أي أنور من الغرة- انتهى. وكان الظاهر أن يقال غراء، وإنما قال: أغر بحذف الموصوف أي زمان أو وقت أغر. وقال القاري: نزل ليلته منزلة يومه فوصف بأغر على طريق المشاكلة، أو ذكره باعتبار أن ليلة بمعنى الليل، إذ التاء لوحدة الجنس لا للتأنيث. قلت: وذكره السيوطي في الجامع الصغير عن البيهقي وابن عساكر وابن السني في عمل اليوم والليلة والهيثمي في مجمع الزوائد عن البزار بلفظ: ليلة غراء. (ويوم الجمعة يوم أزهر) قال الطيبي: الأزهر الأبيض، ومنه أكثروا الصلاة علي في الليلة الغراء، واليوم الأزهر أي ليلة الجمعة ويومها- انتهى. والنورانية فيهما معنوية لذاتهما، فالنسبة حقيقية أو للعبادة الواقعة فيهما، فالنسبة مجازية، قاله القاري. (رواه البيهقي) وأخرجه أيضا ابن عساكر، وابن السني (ص165) قال العزيزي: وفيه ضعف، كما في الأذكار (ص143) ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص165) للبزار، وقال: فيه زائدة بن أبي الرقاد. قال البخاري: منكر الحديث، وجهله جماعة- انتهى. قلت: وقال البزار. لا بأس به، وإنما نكتب من حديثه ما لم نجد عند غيره، كذا في التهذيب، وفيه أيضا زيادة النميري، وهو ضعيف.

(8/336)


(باب وجوبها) أي الأحاديث الدالة على وجوبها وفرضيتها. قال في شرح السنة: الجمعة من فروض الأعيان عند أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم إلى أنها من فروض الكفايات. وقال ابن الهمام: الجمعة فريضة محكمة بالكتاب والسنة والإجماع، وقد صرح أصحابنا بأنه فرض آكد من الظهر وبإكفار جاحدها- انتهى. وفي كتاب الرحمة في اختلاف الأمة: اتفق العلماء على أن الجمعة فرض على الأعيان، وغلطوا من قال هي فرض كفاية. وقال العراقي: مذاهب الأئمة الأربعة متفقة، على أنها فرض عين، لكن بشروط يشترطها أهل كل مذهب. وحكى ابن
?الفصل الأول?
1380-1381. (1-2) عن أبي عمر، وأبي هريرة، أنهما قالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: ((لينتهين أقوام

(8/337)


المنذر الإجماع على أنها فرض عين. وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب فرض الجمعة لقوله تعالى: ?إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون? [9:62] ثم ذكر حديث أبي هريرة السابق في الفصل الأول من باب الجمعة بلفظ: هذا يومهم الذي فرض عليهم. قال الحافظ: استدلال البخاري بهذه الآية على فرضية الجمعة سبقه إليه الشافعي في الأم وكذا حديث أبي هريرة ثم قال: فالتزيل والسنة يدلان على إيجابها قال: وعلم بالإجماع أن يوم الجمعة، هو الذي بين الخميس والسبت. وقال الشيخ الموفق في المغني (ج2 ص295): الأمر بالسعي يدل على الوجوب إذ لا يجب السعي إلا إلى واجب. وقال الزين بن المنير وجه الدلالة من الآية مشروعية النداء لها إذ الأذان من خواص الفرائض، وكذا النهي عن البيع؛ لأنه لا ينهى عن المباح، يعني نهى التحريم إلا إذا أفضى إلى ترك واجب، ويضاف إلى ذلك التوبيخ على قطعها قال: وأما وجه الدلالة من الحديث، فهو من التعبير بالفرض لأنه للإلزام، وإن أطلق على غير الإلزام كالتقدير، لكنه متعين له لاشتماله على ذكر الصرف لأهل الكتاب عن اختياره وتعيينه لهذه الأمة، سواء كان ذلك وقع لهم بالتنصيص أم بالاجتهاد. وفي سياق القصة إشعار بأن فرضيتها على الأعيان لا على الكفاية، وهو من جهة إطلاق الفرضية ومن التعميم في قوله: فهدانا الله له والناس لنا فيه تبع. واختلف في وقت فرضيتها، فالأكثر أنها فرضت بالمدينة، وهو مقتضى ما تقدم أن فرضيتها بالآية المذكورة، وهي مدنية، ويدل عليه أيضا ما روى ابن ماجه بسند ضعيف من حديث جابر قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أيها الناس توبوا إلى ربكم- الحديث، وفيه: واعلموا أن الله كتب عليكم الجمعة في يومي هذا في مقامي هذا في شهري هذا إلى يوم القيامة. وقال الشيخ أبوحامد: فرضت بمكة، وهو غريب، واستدل بعضهم لذلك بما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس قال:

(8/338)


أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع أن يجمع بمكة، فكتب إلى مصعب بن عمير الخ. ذكره الحافظ في التلخيص: ولم يبين أن هذه الرواية أي كتاب للدار قطني، وكيف حالها من حيث الصحة والضعف.
1380-1381- قوله: (على أعواد منبره) أي على درجاته، وذكره للدلالة على كمال التذكير وللإشارة إلى اشتهار هذا الحديث. وقال الأمير اليماني: أي منبره الذي من عود لا على الذي كان من الطين ولا على الجذع الذي كان يستند إليه. (لينتهين أقوام) قيل: أيهم خوف كسر قلب من يعينه؛ لأن النصيحة في الملأ فضيحة.
عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)) رواه مسلم
?الفصل الثاني?
1382- (3) عن أبي الجعد الضمري،

(8/339)


(عن ودعهم) بفتح الواو وسكون الدال. (الجمعات) أي عن تركهم إياها والتخلف عنها تهاونا من غير عذر، من ودع الشيء يدعه إذا تركه. وقول النحاة: أن العرب أماتوا ماضي يدع ومصدره أعني، ودع ودعا استغناء يترك تركا معناه أن الغالب عدم استعمالها، أي يحمل على قلة استعمالها استغناء بما هو أخف منهما، لا أم معناه عدم استعمالهما أصلا، وإلا نافاه استعمال الودع في هذا الحديث الفصيح. فالحق ثبوت استعمالهما في فصيح الكلام، وحمل كلام النحاة على ما مر. وقيل: قولهم مردود، والحديث حجة عليهم قال التوربشتي: لا عبرة بما قال النحاة، فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الحجة القاضية على كل ذي فصاحة. وقال السيوطي: والظاهر أن استعماله ههنا من الرواة المولدين الذين لا يحسنون العربية، ورده السندي بأنه لا يخفى على من تتبع كتب العربية أن قواعد العربية مبنية على الاستقراء الناقص دون التام عادة، وهي مع ذلك أكثريات لا كليات فلا يناسب تغليط الرواة. (أو ليختمن الله على قلوبهم) أي يطبع عليها ويغطيها بالرين كناية عن إعدام اللطف وأسباب الخير، يعني لينعنهم لطفه وفضله. وقال القرطبي: الختم عبارة عما يخلقه الله تعالى في قلوبهم من الجهل والجفاء والقسوة. وقال العراقي: المراد بالطبع على قلبه أنه يصير قلبه قلب منافق، كما روى الطبراني من حديث عبدالله ابن أبي أوفى مرفوعا بإسناد جيد: من سمع النداء يوم الجمعة ولم يأتها ثم سمع النداء ولم يأتها ثلاثا طبع على قلبه، فجعله قلب منافق. قال الهيثمي: وفيه من لم يعرف. قيل: ومن ختم على قلبه بالرين قد يتيقظ للخير في بعض الأوقات بخلاف الغافل عن مولاه، فلا يتفطن للخير أصلا، فلهذا ترقى فقال (ثم ليكونن) بضم النون الأولى. (من الغافلين) أي ثم يترقى بهم في الشر إلى هذه المرتبة. قال الطيبي: ثم لتراخى الرتبة، فإن كونهم من جملة الغافلين المشهود عليهم بالغفلة ادعى لشقائهم وأنطق لخسرانهم من مطلق

(8/340)


كونهم مختوما عليهم. وقيل: المراد الدائمين في الغفلة. قال القاضي: والمعنى أن أحد الأمرين كائن لا محالة، أما الانتهاء عن ترك الجمعات أو ختم الله على قلوبهم فإن اعتياد ترك الجمعة يغلب الرين على القلب ويزهد النفوس في الطاعة، وذلك يؤدي بهم إلى أن يكونوا من الغافلين، أي عن اكتساب ما ينفعهم من الأعمال وعن ترك ما يضرهم منها. والحديث من أعظم الزواجر عن ترك الجمعة والتساهل فيها ومن أدلة أنها من فروض الأعيان. (رواه مسلم) وكذا البيهقي (ج3 ص171) وأخرجه أحمد والنسائي والبيهقي أيضا (ج3 ص171-172) من حديث ابن عمر، وابن عباس.
1382- قوله: (عن أبي الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة. (الضمرى) بفتح الضاد المعجمة وسكون
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك ثلاث جمع تهاونا بها، طبع الله على قلبه)) رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي.
1383- (4) ورواه مالك عن صفوان بن سليم.

(8/341)


الميم، نسبة إلى ضمرة بن بكر بن عبد مناة، قاله في جامع الأصول، وكذا في المغني لمحمد طاهر الفتني، ووقع في بعض نسخ المشكاة: الضميري، بضم الضاد وفتح الميم، وهو خطأ، وأبوالجعد الضمري، لا يعرف اسمه. قال الترمذي: سألت محمدا عن اسم أبي الجعد، فلم يعرف اسمه. وقيل: اسمه كنيته. وقيل: اسمه أدرع. وقيل: عمرو بن بكر. وقيل: جنادة، صحابي، قال الخزرجي: له أربعة أحاديث، وعند الأربعة حديث، قال ابن سعد: بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - بجيش قومه لغزوة الفتح، ولغزوة تبوك. ويقال: إن عثمان استقضاه، قتل مع عائشة يوم الجمل. (من ترك) أي ممن تجب عليه. (ثلاث جمع) بضم الجيم وفتح الميم. قال الباجي: وأما اعتبار العدد في الحديث فانتظار للفيئة وإمهال منه تعالى عبده للتوبة. قال الشوكاني: يحتمل أن يراد حصول الترك مطلقا سواء توالت الجمعات أو تفرقت، حتى لو ترك في كل سنة جمعة لطبع الله على قلبه بعد الثالثة، وهو ظاهر الحديث. ويحتمل أن يراد ثلاث جمع متوالية، كما في حديث أنس عند الديلمي في مسند الفردوس؛ لأن موالاة الذنب ومتابعته مشعرة بقلة المبالاة به-انتهى. قلت: الاحتمال الثاني هو المتعين لما تقرر في الأصول من حمل الروايات المطلقة على المقيدة، ويؤيد حديث أنس ما رواه أبويعلى برجال الصحيح عن ابن عباس: من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره. قال الشوكاني: هكذا ذكره موقوفا، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، كما قال العراقي. (تهاونا بها) قيل: المراد بالتهاون الترك من غير عذر، فيكون مفعولا مطلقا للنوع، وقيل: هو مفعول له. وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي متهاونا. قال في اللمعات: الظاهر أن المراد بالتهاون التكاسل وعدم الجد في أدائه وقلة الاهتمام به، لا الإهانة والاستخفاف، فإن الاستخفاف بفرائض الله كفر، وفيه أن الطبع المذكور إنما يكون على قلب من ترك ذلك تهاونا، فينبغي أن تحمل الأحاديث

(8/342)


المطلقة على هذا الحديث المقيد بالتهاون، وكذلك تحمل الأحاديث المطلقة على المقيدة بعدم العذر. (طبع الله على قلبه) أي ختم عليه وغشاه ومنعه الألطاف أو صير قلبه قلب منافق. (رواه أبوداود الخ) وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد (ج3ص424) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبغوي والدولابي في الكنى (ج1ص21- 22) والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (ج3ص172، 247) وفي رواية لابن خزيمة وابن حبان: من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر فهو منافق. والحديث قد حسنه الترمذي، وصححه وابن السكن، وسكت عنه أبوداود.
1383- قوله: (ورواه مالك) في الموطأ. (عن صفوان بن سليم) قال مالك: لا أدري أعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أم
1384-(5) وأحمد عن أبي قتادة.
1385-(6) وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ترك الجمعة من غير عذر فليصدق بدينار، فإن لم يجد فبنصف دينار)). رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه.
لا أنه قال: من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه. وصفوان بن سليم بضم السين وفتح اللام، المدني أبوعبدالله القرشي الزهري، مولاهم ثقة، فقيه، تابعي، عابد، زاهد، مات سنة. (132) وهو ابن (72) سنة، فالحديث مرسل ومع ذلك قد تردد الإمام مالك في رفعه. قال ابن عبدالبر: هذا يسند من وجوه أحسنها حديث أبي الجعد الضمري. أخرجه الشافعي وأصحاب السنن الأربعة-انتهى. ذكره السيوطي.
1384- (وأحمد) (ج5ص300). (وعن أبي قتادة) مرفوعا: من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع على قلبه، وإسناده حسن، كما قال المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص192) والدارقطني في العلل. وأخرجه أيضا الحاكم وقال: صحيح الإسناد. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكرهم الشوكاني في النيل والهيثمي في مجمع الزوائد.

(8/343)


1385- قوله: (من ترك الجمعة) أي صلاتها ممن تلزمه. (فليتصدق بدينار) قال في المفاتيح: الأمر للندب لدفع إثم الترك. (بدينار) أي كفارة. (فإن لم يجد) أي الدينار. (فبنصف دينار) أي فليتصدق بنصفه. قال ابن حجر: وهذا التصدق لا يرفع إثم الترك أي بالكلية حتى ينافي خبر من ترك الجمعة من غير عذر لم يكن لها كفارة دون يوم القيامة، وإنما يرجى بهذا التصدق تخفيف الإثم. وذكر الدينار ونصفه لبيان الأكمل، فلا ينافي ذكر الدرهم أو نصفه، وصاع حنطة أو نصفه في رواية لأبي داود؛ لأن هذا البيان أدنى ما يحصل به الندب، ذكره القاري. يعني أن الأمر بالتصدق بدينار للواجد وبنصفه لغير الواجد بيان للأكمل، وإلا فيحصل أصل السنة بالتصدق بالدرهم ونصفه الخ. وقيل: الأولى أن يقال إن التصدق بالدرهم أو نصفه لمن لم يجد الدينار ونصفه. قال السندي: والظاهر أن الأمر للاستحباب، ولا بد من التوبة بعد ذلك، فإنها الماحية للذنب. (رواه أحمد) (ج5ص8، 14). (وأبوداود وابن ماجه) والنسائي والبيهقي (ج3ص248) أيضا. أما أحمد وأبوداود فأخرجاه من طريق همام عن قتادة عن قدامة بن وبرة عن سمرة. وأما ابن ماجه فأخرجه من طريق نوح بن قيس عن أخيه عن قتادة عن الحسن عن سمرة. وأخرجه النسائي من الطريقين، وكذا البيهقي. وقدامة بن وبرة قال الحافظ: مجهول. وقال الذهبي: لا يعرف. وقال أبوحاتم عن أحمد: لا يعرف. وقال مسلم: قيل لأحمد: يصح حديث سمرة من ترك الجمعة؟ فقال قدامة يرويه لا نعرفه. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال
1386-(7) وعن عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الجمعة على من سمع النداء)) رواه أبوداود.

(8/344)


البخاري: لم يصح سماعه من سمرة. وقال ابن خزيمة في صحيحه: لا أقف على سماع قدامة من سمرة، ولست أعرف قدامة بن وبرة بعدالة ولا جرح، كذا في التهذيب. فطريق قدامة ضعيف لجهالته ولعدم سماعه من قتادة وأما طريق الحسن عن سمرة فقد تقدم ما فيه من الكلام.
1386- قوله: (الجمعة على من سمع النداء) وفي أبي داود: الجمعة على كل من سمع النداء. ورواه الدارقطني، ومن طريقه البيهقي بلفظ: إنما الجمعة على من سمع النداء أي حقيقة أو حكما. قال الشوكاني: ظاهر الحديث عدم وجوب الجمعة على من لم يسمع النداء، سواء كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة أو في خارجه، وقد ادعى في البحر الإجماع على عدم اعتبار سماع النداء في موضعها، واستدل لذلك بقوله: إذا لم تعتبره الآية، وأنت تعلم أن الآية قد قيد الأمر بالسعي فيها بالنداء لما تقرر عند أئمة البيان من أن الشرط قيد لحكم الجزاء والنداء المذكور فيها يستوي فيه من في المصر الذي تقام فيه الجمعة ومن خارجه، نعم إن صح الإجماع كان هو الدليل على عدم اعتبار سماع النداء لمن في موضع إقامة الجمعة عند من قال بحجية الإجماع. وقد حكى العراقي في شرح الترمذي عن الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل أنهم يوجبون الجمعة على أهل المصر وإن لم يسمعوا النداء. وقد اختلف أهل العلم فيمن كان خارجا عن البلد الذي تقام فيه الجمعة، ثم بسط الأقوال فيه مع العزو إلى قائليها، قال: والمراد بالنداء المذكور في الحديث هو النداء الواقع بين يدي الإمام في المسجد؛ لأنه الذي كان في زمن النبوة لا الواقع على المنارات، فانه محدث، كما سيأتي، وقال ابن الملك: المراد به الأذان أول الوقت كما هو الآن في زماننا ليعلم الناس وقت الجمعة ليحضروا ويسعوا إلى ذكر الله، وإنما زاده عثمان لينتهي الصوت إلى نواحي المدينة. والظاهر عندي ما قاله الشوكاني. (رواه أبوداود) والدارقطني والبيهقي أيضا من طريق قبيصة بن عقبة السوائي عن سفيان الثوري عن محمد بن

(8/345)


سعيد الطائفي عن أبي سلمة بن نبيه عن عبدالله بن هارون عن عبدالله بن عمرو. قال أبوداود: روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصورا. (أي موقوفا) على عبدالله بن عمرو، وإنما أسنده قبيصة –انتهى. وقد تفرد به محمد بن سعيد عن أبي سلمة، وتفرد به أبوسلمة عن عبدالله بن هارون. وأبوسلمة وعبدالله بن هارون كلاهما مجهولان، كما في التقريب. وقد ورد من وجه آخر أخرجه الدارقطني من رواية الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا. وزهير بن محمد روى عن أهل الشام مناكير. والوليد مدلس، وقد رواه بالعنعنة. وأخرجه الدارقطني من وجه آخر من رواية محمد بن الفضل عن حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا. ومحمد بن الفضل
187- (8) وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((الجمعة على من آواه الليل إلى أهله)) رواه الترمذي: وقال: هذا حديث إسناده ضعيف.
ضعيف جدا نسبوه إلى الكذب. والحجاج مدلس مختلف في الاحتجاج به. وقد ظهر بذلك أن جميع طرق هذا الحديث متكلم فيه، ففي الاستدلال به على اعتبار سماع النداء حقيقة أو حكما لمن في وضع إقامة الجمعة نظر لا يخفى على المتأمل. فالحق عدم اعتبار ذلك، والقول بوجوب شهود الجمعة على كل من في موضع إقامة الجمعة لإطلاق الآية وعمومها.والله أعلم.

(8/346)


1387- قوله: (الجمعة من آواه الليل إلى أهله) قال الجزري: يقال أويت إلى المنزل وآويت غيري، وأويئته. وفي الحديث من المتعدي. قال المظهر: أي للجمعة واجبة على من كان بين وطنه وبين الموضع الذي يصلي فيه الجمعة مسافة يمكنه الرجوع بعد أداء الجمعة إلى وطنه قبل الليل، ذكره القاري. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث ما نصه: والمعنى أنها تجب على من يمكنه الرجوع إلى أهله قبل دخول الليل. واستشكل بأنه يلزم منه أنه يجب السعي من أول النهار، وهو بخلاف الآية-انتهى. وقيل: معناه أن الجمعة على من كان آويا إلى أهله أي مقيما في وطنه غير مسافر. وحاصله أن الجمعة واجبة على المقيم لا على المسافر. قلت: الحديث قد استدل به من قال من السلف: أنها تجب على من يؤويه الليل إلى أهله، لكنه حديث ضعيف غير صالح للاحتجاج، كما ستعرف. (رواه الترمذي) من طريق الحجاج بن نصير عن معارك بن عباد عن عبدالله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة. وروى البيهقي (ج3:ص176) نحوه من طريق مسلم عن معارك. (وقال هذا حديث إسناده ضعيف) ونقل عن أحمد أنه لم يعده شيئا، وضعفه لحال إسناده، وقال لمن ذكره له: استغفر ربك. وهذا لأن في سنده ثلاثة ضعفاء، الأول الحجاج بن نصير قال الحافظ: ضعيف كان يقبل التلقين. ضعفه ابن معين والنسائي وابن سعد والدارقطني والأزدي وغيرهم. وقال أبوداود: تركوا حديثه. والثاني معارك بن عباد ضعفه الدارقطني. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: واهي الحديث. والثالث عبدالله بن سعيد المقبري، وهو متروك الحديث. واعلم أنهم اتفقوا على أنه يشترط للجمعة الجماعة والوقت والخطبة والعقل البلوغ والذكورة والحرية والسلامة من المرض والإقامة والاستيطان. واختلفوا في أنه هل يشترط العدد المخصوص المعين أم لا، وفيه أقوال كثيرة ذكرها الحافظ في الفتح (ج4ص507) وابن حزم في المحلى (ج5ص46- 49) والشوكاني في النيل (ج3ص108- 109) منها أنه اثنان

(8/347)


كالجماعة، وهو قول النخعي وأهل الظاهر. ومنها اثنان مع الإمام، وهو قول أبي يوسف ومحمد. ومنها أنه ثلاثة معه، وهو مذهب أبي حنيفة.
ومنها أنه اثنا عشر، ومنها أربعون بالإمام، وهو قول الشافعي، وإليه ذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه. ومنها خمسون في رواية عن أحمد. والراجح عندي ما ذهب إليه أهل الظاهر أنه تصح الجمعة باثنين؛ لأنه لم يقم دليل على اشتراط عدد مخصوص، وقد صحت الجماعة في سائر الصلوات باثنين، ولا فرق بينها وبين الجمعة في ذلك، ولم يأت نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا. قال الشوكاني: الجمعة يعتبر فيها الاجتماع، وهو لا يحصل بواحد. وأما الاثنان فبإنضمام أحدهما إلى الآخر يحصل الاجتماع. وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما، فقال: الاثنان فما فوقهما جماعة كما تقدم، وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع. والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل، ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها. وقد قال عبدالحق: إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث، وكذلك قال السيوطي: لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص-انتهى. واختلفوا أيضا في محل إقامة الجمعة، فقال أبوحنيفة وأصحابه: لا تصح إلا في مصر جامع، وذهب الأئمة الثلاثة إلى جوازها وصحتها في المدن والقرى جميعا. واستدل لأبي حنيفة بما روي عن علي مرفوعا: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع. وقد ضعف أحمد، وغيره رفعه، وصحح ابن حزم، وغيره وقفه، وللاجتهاد فيه مسرح، فلا ينتهض للاحتجاج به فضلا عن أن يخصص به عموم الآية أو يقيد به إطلاقها، مع أن الحنفية قد تخبطوا في تحديد المصر الجامع وضبطه على أقوال كثيرة متباينة متناقضة متخالفة جدا، كما لا يخفى على من طالع كتب فروعهم. وهذا يدل على أنه لم يتعين عندهم معنى الحديث. والراجح عندنا ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من عدم اشتراط المصر، وجوازها في القرى لعموم الآية وإطلاقها،

(8/348)


وعدم وجود ما يدل على تخصيصها، ولا بد لمن يقيد ذلك بالمصر الجامع أن يأتي بدليل قاطع من كتاب أو سنة متواترة أو خبر مشهور بالمعنى المصطلح عند المحدثين، وعلى التنزل بخبر واحد مرفوع صريح صحيح يدل على التخصيص بالمصر الجامع. ويدل أيضا على شرعيتها في القرى ما روى البخاري وغيره عن ابن عباس: أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبدالقيس بجواثي قرية من قرى البحرين. كذا في رواية وكيع عند أبي داود، وكذا للإسماعيلي. وهذا أولى من قول البكري وغيره: إنها مدينة؛ لأن ما ثبت في نفس الحديث أصح مع احتمال أن تكون في أول قرية ثم صارت مدينة. وأما ما حكى الجوهري والزمخشري والجزري أن جواثي اسم حصن بالبحرين فلا ينافي كونها قرية. والظاهر أن عبدالقيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي، ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن، كما استدل جابر وأبوسعيد على جواز العزل، فإنهم

(8/349)


فعلوه، والقرآن ينزل، فلم ينبهوا عنه، ولم يثبت برواية قوية أو ضعيفة أنه أسلم أهل قرية قبل عبدالقيس. ومن ادعى ذلك فعلية البيان. قال الحافظ في شرح حديث ابن عباس المذكور: فيه إشعار بتقدم إسلام عبدالقيس على غيرهم من أهل القرى وهو كذلك، كما قررته في أواخر كتاب الإيمان، وقال في شرح حديث عبدالقيس، ما لفظه: فيه دليل على تقدم إسلام عبدالقيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبدالقيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق. ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضا ما رواه المصنف (يعني البخاري) في الجمعة عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت الخ، قال: وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام-انتهى مختصرا. ويدل عليه أيضا ما روى البيهقي في المعرفة أن النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب من بني عمرو بن عوف في هجرته إلى المدينة مر على بني سالم، وهي قرية بين قباء والمدينة، فأدركته الجمعة فصلى فيهم الجمعة، وكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم، وما روى ابن أبي شيبة وابن حزم عن عمر أنه كتب إلى أهل البحرين أن جمعوا حيثما كنتم. قال الحافظ: وهذا يشمل المدن والقرى، وما روى عبدالرزاق عن ابن عمر أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعيب عليهم. وذكره ابن حزم بلفظ: فلا ينهاهم عن ذلك. وروى البيهقي (ج3ص178) من طريق الوليد بن مسلم سألت الليث بن سعد فقال: كل مدينة أو قرية فيها جماعة أمروا بالجمعة، فإن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر وعثمان بأمرهما، وفيهما رجال من الصحابة. واختلفوا أيضا أنه إذا وجبت الجمعة في موضع بشرائطها فعلى من يجب شهودها من أهل ذلك الموضع، وممن كان في حواليه، فقالت طائفة: تجب الجمعة على من آواه الليل إلى أهله، واستدلوا لذلك بحديث أبي هريرة، الذي فرغنا من شرحه، وقد عرفت أنه ضعيف جدا. وقالت

(8/350)


طائفة: إنها تجب على من سمع النداء حقيقة أو حكما. واستدلوا لذلك بحديث عبدالله بن عمرو بن العاص المتقدم، وقد تقدم أنه أيضا ضعيف. وقالت طائفة: تجب على من بينه وبين المنار ثلاثة أميال. أما من هو في البلد فتجب عليه ولو كان من المنار على ستة أميال. وقالت طائفة: تجب على أهل المصر، ولا تجب على من كان خارج المصر، سمع النداء أو لم يسمع. وقال أبوحنيفة: لا تجب إلا في مصر جامع أو فيما هو في حكمه كمصلى العيد. قال ابن الهمام: ومن كان من توابع المصر فحكمه حكم أهل المصر في وجوب الجمعة عليه. واختلفوا فيه، فعن أبي يوسف إن كان الموضع يسمع فيه النداء من المصر فهو من توابع المصر، وإلا فلا. وعنه أنها تجب في ثلاثة فراسخ. وقال بعضهم: قدر ميل. وقيل: قدر ميلين. وقيل: ستة أميال. وقيل: إن أمكنه أن يحضر الجمعة ويبيت بأهله من غير تكلف تجب عليه الجمعة، وإلا فلا. قال في البدائع: وهذا أحسن-انتهى. والراجح عندي: أنه لا يشترط سماع الأذان في المصر، وكذا في القرية
1388-(9) وعن طارق بن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا على أربعة: عبد مملوك
الكبيرة. وأما من كان خارج المصر والقرية الكبيرة من أهالي القرى الصغيرة القريبة أو البعيدة فلا يجب عليهم الشهود في المصر أو القرية الكبيرة للجمعة، بل لهم أن يقيموا الجمعة في مساكنهم لوجوب الجمعة عليهم لعموم قوله تعالى: ?إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله? [62: 9]، ولعدم ما يدل على وجوب الإتيان إلى المصر للجمعة على من كان في حواليه. وارجع لمزيد التفصيل إلى عون المعبود (ج1ص413- 416) وقد ألف علماؤنا رسائل عديدة في مسئلة إقامة الجمعة في القرى، وبسطوا الكلام فيها على الرد على الحنفية، فعليك أن تراجع هذه الرسائل.

(8/351)


1388-قوله: (وعن طارق بن شهاب) بن عبد شمس البجلي الأحمسى أبوعبدالله الكوفي أدرك الجاهلية، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئا. قال أبوحاتم: ليست له صحبة، والحديث الذي رواه مرسل. قال الحافظ في الإصابة: إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح. وقد أخرج له النسائي عدة أحاديث. وذلك مصير منه إلى إثبات صحبته. وأخرج له أبوداود حديثا واحدا، وقال: طارق رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئا-انتهى. وقال ابن الأثير في جامع الأصول: رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له سماع منه إلا شاذا، ذكره ابن التركماني في الجوهر النقي، والمصنف في رجال المشكاة. غزا طارق في خلافة أبي بكر وعمر ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين غزوة، ومات سنة (82 أو83أو 84). (الجمعة) أي صلاتها. (حق واجب) أي فرض مؤكد. (على كل مسلم) فيه دليل على أن صلاة الجمعة من فروض الأعيان، ورد على من قال بأنها فرض كفاية. (في جماعة)؛ لأنها لا تصح إلا بجماعة بالإجماع، وإنما اختلفوا في العدد المخصوص الذي تحصل به، كما تقدم. (إلا على أربعة عبد مملوك) بالجر على أنه عطف بيان للأربعة، قال القاري: وفي بعض النسخ برفع عبد، وما بعده على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو هم. و"أو" بمعنى الواو. قال الطيبي: "إلا" بمعنى غير، وما بعده مجرور صفة لمسلم أي على كل مسلم غير عبد مملوك الخ وقال ابن حجر: الأحسن جعله استثناء من واجب على كل مسلم. والتقدير إلا أنها لا تجب على أربعة. ولفظ أبي داود: إلا أربعة عبد مملوك أي بإسقاط لفظ "على". قال السيوطي: وقد يستشكل. (أي قوله عبد مملوك بصورة المرفوع) بأن المذكورات عطف بيان لأربعة، وهو منصوب؛ لأنه استثناء من موجب. والجواب أنها منصوبة لا مرفوعة، وكانت عادة المتقدمين أن يكتبوا المنصوب

(8/352)


أو امرأة، أو صبي، أو مريض)). رواه أبوداود.
بغير (ألف) ويكتبوا عليه تنوين النصب، ذكره النووي في شرح مسلم. قال السيوطي ورأيته أنا في كثير من كتب المتقدمين المعتمدة، ورأيته في خط الذهبي في مختصر المستدرك. وعلى تقدير أن تكون مرفوعة تعرب خبر مبتدأ-انتهى. وقوله: "عبد مملوك" فيه دليل على أن الحرية شرط لوجوب الجمعة، وأن الجمعة غير واجبة على العبد، وهو متفق عليه إلا عند داود، فقال بوجوبها عليه لدخوله تحت عموم الخطاب في قوله: ?يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة? [62: 9] الخ، وأجيب عنه بأنه خصصته الأحاديث وإن كان فيها مقال، فإنه يقوي بعضها بعضا. (أو امرأة) فيه أن الذكورة من شرائط وجوب الجمعة، وأن الجمعة لا تجب على المرأة، وهو مجمع عليه. وقال الشافعي: يستحب للعجائز حضورها بإذن الزوج. (أو صبي) فيه أن البلوغ شرط لوجوب الجمعة، وهو متفق على أن لا جمعة على الصبي، وفي معناه المجنون. (أو مريض) أي مرضا يشق معه الحضور عادة فيه أن المريض لا تجب عليه الجمعة إذا كان الحضور يجلب عليه مشقة، وهو يدل على أن صحة البدن من شرائط وجوب الجمعة. قال البيهقي في المعرفة: وعند الشافعي لا جمعة على المريض الذي لا يقدر على شهود الجمعة إلا بأن يزيد في مرضه...... أو يبلغ به مشقة غير محتملة، وكذلك من كان في معناه من أهل الأعذار-انتهى. وقال ابن الهمام: الشيخ الكبير الذي ضعف يلحق بالمريض، فلا يجب عليه-انتهى. وقد ألحق أبوحنيفة الأعمى بالمريض وإن وجد قائدا لما في ذلك من المشقة، ولأن القادر بقدرة الغير غير قادر عنده، وقال الشافعي وأبويوسف ومحمد: إنه غير معذور إن وجد قائدا، فيجب عليه عندهم عند تيسر القائد. (رواه أبوداود) وقال طارق: قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئا، قال ابن الهمام: وليس هذا قدحا في صحبته ولا في الحديث، بل بيان للواقع-انتهى. والحديث أخرجه أيضا البيهقي في السنن (ج3ص172، 183)

(8/353)


والدارقطني (ص164) وأخرجه الحاكم (ج1ص288) والبيهقي في المعرفة من حديث طارق المذكور عن أبي موسى. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في التلخيص: وصححه غير واحد. وقال الخطابي في المعالم (ج1ص244): ليس إسناد هذا الحديث بذلك، وطارق بن شهاب لا يصح له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم-انتهى. قال العراقي: فإذا قد ثبتت صحبته فالحديث صحيح. وغايته أن يكون مرسل صحابي، وهو حجة عند الجمهور، إنما خالف فيه أبوإسحاق الاسفرايني، بل ادعى بعض الحنفية الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة-انتهى. وبنحو هذا قال النووي في شرح المهذب (ج4ص483)، وفي الخلاصة، قلت: وقد اندفع الإعلال بالإرسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي موسى، على أن للحديث شواهد ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص170) والشوكاني في النيل (ج3ص103) والزيلعي في نصب الراية (ج2ص199)، فمنها حديث جابر عند الدارقطني (ص164)، والبيهقي (ج3ص184)
1389-(10) وفي شرح السنة بلفظ المصابيح عن رجل من بني وائل.
?الفصل الثالث?
1390-(11) عن ابن مسعود. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: ((لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم)).

(8/354)


وهو آخر حديث الباب، وسيأتي الكلام فيه. ومنها حديث تميم الداري عند العقيلي والحاكم أبي أحمد والبيهقي (ج3ص183) والطبراني وابن أبي حاتم في العلل (ج1ص212). قال ابن القطان: فيه أربعة ضعفاء على الولاء. قلت فيه الحكم بن عمرو، وقد ضعفه النسائي وغيره، وضرار بن عمرو المطلي، وهو متروك، وأبوعبدالله الشامي ضعفه الأزدي. ومنها حديث ابن عمر عند الطبراني في الأوسط والبيهقي (ج3ص184) وفيه أبوالبلاد، قال أبوحاتم: لا يحتج به. ومنها حديث أبي هريرة، أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ: خمسة لا جمعة عليهم: المرأة والمسافر والعبد والصبي وأهل البادية. وفيه إبراهيم بن حماد ضعفه الدارقطني. قال في النهاية: إن البادية تختص بأهل العمد والخيام دون أهل القرى والمدن. ومنها حديث مولى لآل الزبير، أخرجه البيهقي (ج3ص184). ومنها حديث أم عطية، أخرجه البيهقي وابن خزيمة بلفظ: نهينا عن إتباع الجنائز، ولا جمعة علينا.
1389- (وفي شرح السنة) أي للبغوي. (بلفظ المصابيح عن رجل) متعلق بلفظ المصابيح، قاله الطيبي. (من بني وائل) لفظ المصابيح هكذا: "تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبيا أو مملوكا أو مريضا". ولفظ شرح السنة على ما ذكره القاري: "عن محمد بن كعب أنه سمع رجلا من بني وائل يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم: تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبي أو مملوك" ورواه طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد: أو مريض-انتهى. والحديث أخرجه البيهقي في السنن (ج3ص173) قال: أخبرنا أبوبكر بن الحسن القاضي وأبوزكريا بن أبي إسحاق قالا: ثنا أبوالعباس الأصم أنبأ الربيع بن سليمان أنبأ الشافعي أنبأ إبراهيم بن محمد حدثني سلمة بنت عبدالله الخطمى عن محمد بن كعب أنه سمع رجلا من بني وائل يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم:.. فذكر بلفظ شرح السنة سواء. وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، وقد تقدم الكلام فيه.

(8/355)


1390- قوله: (قال لقوم) أي في شأنهم. (ثم أحرق) بالنصب من الإحراق أو من التحريق. (على رجال يتخلفون) أي من غير عذر. (عن الجمعة) أي عن إتيان صلاة الجمعة. (بيوتهم) مفعول "لأحرق". والمعنى لقد قصدت أن استخلف رجلا ليؤم الناس، ثم أذهب أنا إلى المتخلفين من غير علة، فأحرق بيوتهم أي ما في
رواه مسلم.
1391-(12) وعن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من ترك الجمعة من غير ضرورة، كتب منافقا في كتاب لا يمحى ولا يبدل)) -وفي بعض الروايات-ثلاثا. رواه الشافعي.
1392-(13) وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة، إلا مريض، أو مسافر، أو امرأة، أو صبي، أو مملوك. فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه،
بيوتهم من أنفسهم ومتاعهم عليهم. وفي هذا من الوعيد ما لا يوصف. فإن قلت: كيف يترك الفرض ويشتغل بهم؟ قلت: لا يلزم من الاستخلاف ترك فرض الجمعة مطلقا، فإنه يتصور تكرارها. قال ابن الهمام: قال السرخسي: الصحيح من مهذب أبي حنيفة جواز إقامتها في مصر واحد في مسجدين وأكثر. وبه نأخذ لإطلاق لا جمعة إلا في مصر، فإذا تحقق تحقق في كل واحد منها. قال ابن الهمام: وهو الأصح فارتفع الأشكال من أصله، كذا في المرقاة. والحديث دليل على أن الجمعة من فروض الأعيان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج3ص172) والحاكم (ج1ص292) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا إنما خرجا بذكر العتمة وسائر الصلوات-انتهى. وهذا وهم من الحاكم، فإن الحديث أخرجه مسلم بذكر الجمعة صريحا.

(8/356)


1391- قوله(من ترك الجمعة) أي صلاتها. (من غير ضرورة) بفتح الضاد أي من غير علة وعذر كالمطر والمرض والوحل ونحوها. (كتب منافقا) وعيد شديد. (في كتاب لا يمحى) أي ما فيه. (ولا يبدل) بالتشديد ويخفف، أي لا يغير بغيره ما لم يتب. وقيل: أو ما لم يتصدق. (وفي بعض الروايات ثلاثا) أي قال من ترك الجمعة ثلاثا. (رواه الشافعي) في كتاب الأم (ج184).
1392- قوله: (فعليه الجمعة) أي يجب عليه صلاة الجمعة. (يوم الجمعة) ظرف للجمعة. (أو مسافر) فلا يجب عليه حضورها، وهو يحتمل أن يراد به مباشر السفر أي السائر. وأما النازل فيجب عليه ولو نزل بمقدار الصلاة. وإليه ذهب جماعة، منهم الزهري والنخعي، وقيل: لا تجب عليه؛ لأنه داخل في لفظ المسافر. وإليه ذهب الجمهور، وهو الأقرب والأشبه؛ لأن أحكام السفر باقية له من القصر ونحوه. (أو امرأة أو صبي مملوك) قال الطيبي: رفع على الاستثناء من الكلام الموجب على التأويل، أي من كان يؤمن فلا يترك الجمعة إلا مريض، فهو بدل من الضمير المستكن في يترك الراجع إلى من. (فمن استغنى بلهو أو تجارة) أي عن طاعة الله. (استغنى الله عنه)
والله غني حميد)). رواه الدارقطني.
(44) باب التنظيف والتبكير
?الفصل الأول?
1393-(1) عن سلمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته،

(8/357)


أي فليعلم أن الله مستغن عنه وعن عبادته وعن جميع عباده، وإنما أمرهم بالعبادة ليتشرفوا بالطاعة. (والله غني) بذاته. (حميد) محمود في جميع صفاته، سواء حمد أو لم يحمد، أو غني عن العباد وطاعتهم. لا يعود نفعها إليه، حميد أي حامد لمن أطاعه يثنى عليه ويشكره بإعطاء الجزيل على العمل القليل. وفي الحديث إشارة إلى قوله تعالى: ?وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما, قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين? [62: 11). (رواه الدارقطني) (ص164) وأخرجه أيضا البيهقي (ج3ص184) وفيه ابن لهيعة، وهو متكلم فيه، ومعاذ بن محمد الأنصاري شيخ لابن لهيعة لا يعرف. كذا ذكر الذهبي، قاله في الجوهر النقي. وقال الحافظ في اللسان: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن عدي: منكر الحديث، ثم أخرج له من رواية ابن لهيعة عنه عن أبي الزبير عن جابر رفعه في الجمعة، وقال معاذ: غير معروف. وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري بمعناه. وفيه علي بن يزيد الألهاني.
(باب التنظيف) أي تطهير الثوب والبدن من الوسخ والدرن، ومن كماله التدهين والتطيب. (والتبكير) في النهاية: بكر بالتشديد، أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه.

(8/358)


1393- قوله: (لا يغتسل) بالرفع. (ويتطهر ما استطاع من طهر) بالتنكير للمبالغة في التنظيف، أو المراد به التنظيف بأخذ الشارب والظفر والعانة والإبط، أو المراد بالغسل غسل الجسد، وبالتطهير غسل الرأس وتنظيف الثياب. (ويدهن من دهنه) بتشديد الدال بعد المثناة التحتية من باب الافتعال أي يطلى بالدهن ليزيل شعث رأسه ولحيته به. وفيه إشارة إلى التزين يوم الجمعة. (أو يمس) بفتح الياء والميم. (من طيب بيته) أي إن لم يجد دهنا. أو "أو" بمعنى الواو، فلا ينافي الجمع بينهما. وأضاف الطيب إلى البيت إشارة إلى أن السنة أن يتخذ المرء لنفسه طيبا، ويجعل استعماله له عادة، فيدخره في البيت. كذا قال الطيبي بناء على أن المراد بالبيت حقيقته، لكن في
ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى))

(8/359)


حديث عبدالله بن عمرو عند أبي داود: أو يمس من طيب امرأته، فعلى هذا فالمعنى إن لم يتخذ لنفسه طيبا فليستعمل من طيب امرأته، وهو موافق لحديث أبي سعيد عند مسلم: ولو من طيب المرأة. وفيه أن بيت الرجل يطلق، ويراد به امرأته، ذكره الحافظ في الفتح. وقال القاري: المراد بقوله من طيب بيته حقيقة بيت الرجل، وهو أعم من أن يكون متزوجا أو عزبا، ولا ينافيه من طيب امرأته؛ لأن طيبها غالبا من عنده. ويطلق عليه..... أنه من طيب بيته، فإن الإضافة تصح لأدنى ملابسة. ولما كان طيبها غالبا متميزا عن طيب الرجل متعينا متبينا لها أشار عليه السلام أنه ينبغي أن يكون للرجل طيب مختص لاستعماله، وأكد في التطيب يوم الجمعة وبالغ حتى قال: ولو من طيب المرأة. (ثم يخرج) أي إلى المسجد، كما في حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة. ولأحمد من حديث أبي الدرداء: ثم يمشي وعليه السكينة. (فلا يفرق) بتشديد الراء المكسورة. (بين اثنين) بالتخطي أو بالجلوس بينهما، ففي حديث عبدالله بن عمرو المذكور: ثم لم يتخط رقاب الناس. وفي حديث أبي الدرداء: ولم يتخط أحدا ولم يؤذه، وهو كناية عن التبكير أي عليه أن يبكر، فلا يتخطى رقاب الناس ولا يزاحم رجلين فيدخل بينهما؛ لأنه ربما ضيق عليهما خصوصا في شدة الحر واجتماع الأنفاس. قال الزين بن المنير: التفرقة بين اثنين تتناول القعود بينهما، وإخراج أحدهما والقعود مكانه. وقد يطلق على مجرد التخطي، وفي التخطي زيادة رفع رجليه على رؤسهما أو أكتافهما، وربما تعلق بثيابهما شيء مما برجليه. وفي الحديث كراهة التفرقة بين الاثنين. والأكثر على أنها كراهة تنزيه، واختار ابن المنذر التحريم، وبه جزم النووي في زوائد الروضة. (ثم يصلي ما كتب له) أي قدر وقضي له من سنة الجمعة. فيه أن الصلاة قبل الجمعة لا حد لها، وأقله ركعتان تحية المسجد. (ثم ينصت) بضم أوله من أنصت إذا سكت سكوت مستمع. (إذا تكلم الإمام) أي شرع في الخطبة. فيه أن من

(8/360)


تكلم حال تكلم الإمام لم يحصل له من الأجر ما في الحديث. وفيه دليل على جواز الكلام قبل تكلم الإمام. (إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) وفي رواية: ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى. وفي رواية: حط عنه ذنوب ما بينه وبين الجمعة الأخرى. تأنيث الآخر بفتح الخاء لا بكسرها. والمراد بها الجمعة التي مضت لما في حديث أبي ذر عند ابن خزيمة: غفر له ما بينه وبين الجمعة التي قبلها، ولابن حبان من حديث أبي هريرة: غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام من التي بعدها، ولأبي داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة: كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها. والمراد غفران الصغائر لما زاده في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه: ما لم تغش الكبائر. وذلك أن معنى هذه الزيادة أي فإنها إذا غشيت لا تكفر، وليس المراد أن تكفير الصغائر شرطه اجتناب الكبائر، إذ اجتناب الكبائر بمجرده يكفر الصغائر كما
رواه البخاري.
1394-(2) وعن أبي هريرة: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اغتسل، ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له،

(8/361)


نطق به القرآن في قوله: ?إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم? [4: 31]، أي نمح عنكم صغائركم. ولا يلزم من ذلك أن لا يكفر الصغائر إلا اجتناب الكبائر، وإذا لم يكن للمرء صغائر تكفر رجي له أن يكفر عنه بمقدار ذلك من الكبائر، وإلا أعطي من الثواب بمقدار ذلك، وقد تبين بمجموع ما ذكر من الغسل والتنظيف إلى آخره أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميع ما تقدم من غسل وتنظف وتطيب أو دهن ولبس أحسن الثياب والمشي بالسكينة وترك التخطي والتفرقة بين الاثنين وترك الأذى والتنفل والإنصات وترك اللغو. وفي حديث عبدالله بن عمرو: فمن تخطى أو لغا كانت له ظهرا. وفي الحديث مشروعية النافلة قبل صلاة الجمعة لقوله: يصلي ما كتب له، ثم قال: ثم ينصت إذا تكلم الإمام. فدل على تقدم ذلك على الخطبة، وقد بينه أحمد من حديث نبيشة الهذلي بلفظ: فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له. واستدل به على أن التبكير ليس من ابتداء الزوال؛ لأن خروج الإمام يعقب الزوال، فلا يسع وقتا يتنفل فيه. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والدارمي والبيهقي (ج3ص242، 243) ولفظ النسائي: ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أمر، ثم يخرج من بيته حتى يأتي الجمعة، وينصت حتى يقضي صلاته إلا كان كفارة لما قبله من الجمعة. ورواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن نحو رواية النسائي. وقال في آخره: إلا كان كفارة لما بينه وبين الجمعة الأخرى ما اجتنبت المقتلة، وذلك الدهر كله.

(8/362)


1394- قوله: (من اغتسل) أي للجمعة لحديث: إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل، أو مطلقا. وفيه دلالة على أنه لا بد في إحرازه لما ذكر من الأجر من الاغتسال، إلا أن في الرواية الآتية بيان أن غسل الجمعة سنة وليس بواجب. وقيل: ليس فيها نفي الغسل، وقد ذكر الغسل في الرواية الأولى، فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء في الرواية الثانية لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء. (ثم أتى الجمعة) أي الموضع الذي تقام فيه الجمعة، كما يدل عليه قوله: (فصلى) أي من سنة الجمعة أو النوافل. (ما قدر له) بتشديد الدال. فيه دليل على مشروعية الصلاة قبل الجمعة، وأنه لا حد لها. وقد ورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة. ذكرها الحافظ في الفتح (ج4ص509)، والزيلعي في نصب الراية (ج2ص206، 207). قال الحافظ: وأقوى ما يتمسك به في مشروعية ركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبدالله بن الزبير مرفوعا:
ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام)). رواه مسلم.
1395-(3) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام.

(8/363)


ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان. ومثله حديث عبدالله بن مغفل: بين كل أذانين صلاة. (ثم أنصت حتى يفرغ) أي الإمام. (من خطبته) قال النووي: قوله: "حتى يفرغ من خطبته" هكذا هو في الأصول من غير ذكر الإمام، وعاد الضمير إليه للعلم به وإن لم يكن مذكورا. (ثم يصلي معه) بالرفع عطفا على "ثم أنصت". وفيه دليل على أن النهي عن الكلام إنما هو حال الخطبة لا بعد الفراغ منها ولو قبل الصلاة، فإنه لا نهي عنه، كما دلت عليه "حتى". (غفر له ما بينه) أي ذنوب ما بينه. (وبين الجمعة الأخرى) أي الماضية لا المستقبلة. (وفضل ثلاثة أيام) أي من التي تلي بعدها، و"فضل" مرفوع عطفا بالواو بمعنى مع على ما في ما بينه، أي بين يوم الجمعة الذي فعل فيه ما ذكر مع زيادة ثلاثة أيام على السبعة، أي وغفرت له ذنوب ثلاثة أيام مع السبع لتكون الحسنة بعشر أمثالها. وجوز الجر في "فضل" للعطف على الجمعة، والنصب على المفعول معه. قال النووي: معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشر أمثالها، وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الأفعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشر أمثالها. والمراد بما بين الجمعتين من صلاة الجمعة وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية حتى تكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقصان، ويضم إليها ثلاثة، فتصير عشرة. قال ابن حجر: لا ينافي ما قبله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان أخبر بأن المغفور ذنوب سبعة أيام ثم زيد له ثلاثة أيام، فأخبر به إعلاما بأن الحسنة بعشر أمثالها. (رواه مسلم) وأخرج البيهقي (ج3ص243) نحوه.

(8/364)


1395- قوله: (من توضأ) قد استدل به على أن غسل الجمعة سنة. قال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتبا عليه الثواب المقتضى للصحة، فدل على أن الوضوء كاف، وقد تقدم الجواب عنه آنفا. (فأحسن الوضوء) أي أتى بمكملاته من سننه ومستحباته. قال النووي: معنى إحسان الوضوء الإتيان به ثلاثا ثلاثا. وذلك الأعضاء وإطالة الغرة، والتحجيل، وتقديم الميامن، والإتيان بسننه المشهورة. (ثم أتى الجمعة) أي أتى المسجد لصلاة الجمعة. وقال القاري: أي حضر خطبتها وصلاتها. (فاستمع وأنصت) أي سكت للاستماع، قاله السندي. وقال الرازي في تفسيره: الإنصات سكوت مع استماع. ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات. وقال العيني في شرح البخاري: الإنصات هو السكوت مع الإصغاء-انتهى. (غفر له ما بينه وبين الجمعة) السابقة وهي سبعة أيام
ومن مس الحصا فقد لغا)). رواه مسلم.
1396-(4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم الجمعة، وقفت الملائكة على باب المسجد، يكتبون الأول، فالأول، ومثل المهجر
بناء على أن الحساب من وقت الصلاة إلى مثله من الثانية فبزيادة ثلاثة أيام تتم عشرة. (ومن مس الحصى) أي لتسويتها سواء مسها في الصلاة أو قبلها بطريق اللعب في حال الخطبة. (فقد لغا) أي ومن لغا فلا جمعة له، كما جاء والمراد أنه يصير محروما من الأجر الزائد. قال النووي: فيه النهي عن مس الحصى وغيره من العبث في حال الخطبة. وفيه إشارة إلى إقبال القلب والجوارح على الخطبة. والمراد باللغو ههنا الباطل المذموم المردود-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج3ص223).

(8/365)


1396- قوله: (إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة) هم غير الحفظة، كما يدل عليه الأحاديث الواردة في فضل التبكير. والمعنى أنهم يستمرون من طلوع الفجر وهو أول اليوم شرعا أو من طلوع الشمس، وهو أول النهار العرفي، أو من ارتفاع النهار، أو من حين الزوال. قال القاري: وهو أقرب، ورجحه أيضا الشاه ولي الله الدهلوي في المسوى شرح الموطأ (ج1ص150) وإليه مال الشوكاني، وبه قالت المالكية، وهو وجه للشافعية والأول هو ظاهر كلام الشافعي، وصححه النووي والرافعي وغيرهما. والثاني أيضا وجه للشافعية. والراجح عندي هو الثالث، وقد اختاره ابن رشد في البداية، وسيأتي بسط الكلام في ذلك. (على باب المسجد) وعند ابن خزيمة على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول. قال الحافظ: فكان المراد بقوله "على باب المسجد" ههنا جنس الباب، ويكون من مقابلة المجموع بالمجموع. قلت: وفي رواية للشيخين، إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة. وفي أخرى لمسلم: على كل باب من أبواب المسجد ملك يكتب. وفي رواية للنسائي: تقعد الملائكة على أبواب المسجد. وكذا في حديث أبي أمامة عند أحمد والطبراني، وحديث علي وأبي سعيد عند أحمد. (يكتبون الأول فالأول) قال الطيبي: أي الداخل الأول. والفاء فيه، و"ثم" في قوله: "ثم كالذي يهدي بقرة" كلتاهما لترتيب النزول من الأعلى إلى الأدنى، لكن في الثانية تراخ ليس في الأولى-انتهى. قال القسطلاني قال في المصابيح نصب. (أي الأول) على الحال، وجاءت معرفة، وهو قليل. (ومثل المهجر) بضم الميم وتشديد الجيم المكسورة، اسم فاعل من التهجير أي صفة المبكر إلى الجمعة. فالمراد بالتهجير التبكير أي المبادرة إلى الجمعة بعد الصبح. وقيل: المراد الذي يأتي في المهاجرة أي عند شدة الحر قرب نصف النهار، فيكون دليلا للمالكية في قولهم: إن الساعات من حين الزوال، وإن الذهاب إلى الجمعة بعد الزوال لا قبله؛ لأن التهجير هو

(8/366)


كمثل الذي يهدي بدنه، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشا، ثم دجاجة، ثم بيضة،
السير في الهاجرة أي نصف النهار. قال الحافظ: وأجيب بأن المراد بالتهجير هنا التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في المواقيت. وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من الهاجرة، وهو السير في وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حجة فيه لمالك. وقال التوربشتي: من ذهب في معناه إلى التبكير فإنه أصاب وسلك طريقا حسنا من طريق الاتساع، وذلك أنه جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة تغليبا، بخلاف ما بعد الزوال، فإن الحر يأخذ في الانحطاط، وهذا كما يسمى النصف الأول من النهار غدوة، والآخر عشية. ومما يدل على استعمالهم التهجير في أول النهار ما أنشد ابن الأعرابي في نوادره لبعض العرب: يهجرون تهجير الفجر. (كمثل الذي يهدي) بضم أوله وكسر ثالثه أي يقرب. (بدنة) بفتحتين أي بعيرا ذكرا كان أو أنثى. والتاء للوحدة لا للتأنيث، وهو خبر عن قوله: "مثل المهجر"، والكاف لتشبيه صفة بصفة. والمعنى صفة المبكر إلى الجمعة مثل صفة الذي يتصدق بإبل متقربا إلى الله تعالى. وقيل: المراد كالذي يهديها إلى مكة، ولا يناسبه الدجاجة والبيضة. قال الطيبي: سميت بدنة لعظم بدنها، وهي الإبل خاصة، وفي اختصاص ذكر الهدي، وهو مختص بما يهدى إلى الكعبة، إدماج لمعنى التعظيم في إنشاء الجمعات، وأن المبادر إليها كمن ساق الهدى، وأنه بمثابة الحضور في عرفات. (ثم) الثاني (كالذي يهدي بقرة) ذكرا أو أنثى. والتاء للوحدة لا للتأنيث. وفيه دليل على أن البدنة لا تشمل البقرة لتقابلها بها وإليه ذهب الشافعي، وقال أبوحنيفة: البدنة تطلق على البقر أيضا، وإنما أريد هنا البعير خاصة لقرينة المقابلة، وهذا لا ينفي عموم الإطلاق. (ثم) الثالث كالذي يهدي. (كبشا) بفتح الكاف وسكون الموحدة، وهو الفحل الذي يناطح، قاله في المجمع. وقال في القاموس: الكبش الحمل إذا أثنى أو

(8/367)


إذا خرجت رباعيته. وفي ذكر الكبش، وهو الذكر، إشارة إلى أنه أفضل من الأنثى. وفي رواية: كبشا أقرن. قال النووي: وصفه به؛ لأنه أكمل وأحسن صورة. ولأن قرنه ينتفع به. وفي رواية النسائي: ثم كالمهدي شاة، واستدل بالترتيب المذكور على أن التقرب بالإبل أفضل من التقرب بالبقر، والتقرب بالبقر أفضل من التقرب بالشاة، وهو متفق عليه في الهدي، مختلف فيه في الأضحية، والجمهور على أنها كذلك. وقال مالك: الأفضل في الضحايا الغنم ثم البقر ثم الإبل. ثم إنه وقع في رواية النسائي زيادة البطة بين الشاة والدجاجة، وهي زيادة شاذة، كما صرح به النووي في الخلاصة. (ثم) الرابع كالذي يهدي. (دجاجة) بفتح الدال في الأفصح ويجوز الكسر والضم، ودخلت الهاء فيها لأنه واحد من جنس مثل حمامة وبطة ونحوهما، ووقع في رواية أخرى للنسائي: زيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة، وهي العصفور وهي أيضا زيادة شاذة. (ثم) الخامس كالذي يهدي. (بيضة) هي واحدة من البيض، والجمع بيوض، وجاء في الشعر بيضات، وإنما
فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر.

(8/368)


قدرنا الثاني، لأنه-كما قال في المصابيح-لا يصح العطف على الخبر لئلا يقعا معا خبرا عن واحد، وهو مستحيل، وحينئذ فهو خبر مبتدأ محذوف مقدر بما مر. وكذا قوله: "ثم كبشا" لا يكون معطوفا على بقرة؛ لأن المعنى يأباه، بل هو معمول فعل محذوف دل عليه المتقدم. والتقدير-كما مر-، ثم الثالث كالذي يهدي كبشا وكذا ما بعده، واستشكل ذكر الدجاجة والبيضة؛ لأن الهدي لا يكون منهما. وأجيب بأنه من باب المشاكلة أي من تسمية الشيء باسم قرينه. والمراد بالإهداء هنا التصدق، كما دل عليه لفظ: قرب في رواية أخرى وهو يجوز بهما. (فإذا خرج الإمام) أي من الصف إلى المنبر يعني ظهر بطلوعه على المنبر. (طووا) أي الملائكة (صحفهم) التي كتبوا فيها درجات السابقين على من يليهم في الفضيلة، قال الحافظ: وقع في حديث عمر صفة الصحف المذكورة، أخرجه أبونعيم في الحلية مرفوعا بلفظ: إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور، وأقلام من نور-الحديث. وهو دال على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة، وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة خاصة. والمراد بطي الصحف طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة. وإدراك الصلاة والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعا. ووقع في آخر الحديث عند ابن ماجه فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة يعني فله أجر الصلاة، وليس له شيء من الزيادة في الأجر. فإن قلت: وقع في رواية للشيخين: فإذا جلس الإمام طووا الصحف فما الفرق بين الروايتين؟ قلت: بخروج الإمام يحضرون إلى المنبر من غير طي، فإذا جلس الإمام على المنبر طووها. ويقال: ابتداء طيهم الصحف عند ابتداء خروج الإمام، وانتهاؤه بجلوسه على المنبر، وهو أول سماعهم للذكر. (ويستمعون) أي الملائكة. (الذكر) أي الخطبة. قال العيني والحافظ: المراد بالذكر ما في الخطبة من المواعظ وغيرها-انتهى. وأتى بصيغة المضارع لاستحضار صورة الحال اعتناء

(8/369)


بهذه المرتبة، وحملا على الإقتداء بالملائكة. قال التيمي في استماع الملائكة حض على استماعها والإنصات إليها. وفي الحديث فوائد كثيرة لا تخفي على المتأمل. وقد رواه أيضا الشيخان بلفظ: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا أخرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. قال الحافظ: في هذا الحديث الحض على الإغتسال يوم الجمعة وفضله وفضل التبكير إليها، وأن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعهما، وعليه ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل. وفيه أن مراتب الناس في الفضل بحسب أعمالهم. وأن القليل من الصدقة غير محتقر في الشرع. واعلم أنه اختلف العلماء في الساعات المذكورة في هذه الرواية ما المراد منها؟ واختلفوا أيضا في أن ابتداء هذه الساعات من حين الزوال أو من قبله، فقال مالك والقاضي حسين وإمام الحرمين من الشافعية،

(8/370)


المراد بالساعات الخمس لحظات خفيفة لطيفة أولها زوال الشمس، وآخرها قعود الخطيب على المنبر، فالساعات الخمس المذكورة كلها في ساعة واحدة أي هي أجزاء من الساعة السادسة الزمانية بعد الزوال، ولم ير هؤلاء التبكير إلى الجمعة قبل الزوال لا من طلوع الفجر، ولا من طلوع الشمس، ولا من ارتفاع النهار. واختار هذا القول الشاه ولي الله في المسوي. ومال إليه الشوكاني في النيل. واستدل لهم بوجوه: منها لفظ: الرواح في الرواية المتقدمة، فإنه يدل على أن أول الذهاب إلى الجمعة من الزوال؛ لأن حقيقة الرواح من الزوال إلى آخر النهار، والغدو من أوله إلى الزوال. قال المازرى: تمسك مالك بحقيقة الرواح، وتجوز في الساعة، وعكس غيره. وأجيب بأن الرواح-كما قال الأزهري -: يطلق لغة على الذهاب سواء كان أول النهار أو آخره أو في الليل. قال الأزهري: وهي لغة أهل الحجاز. ونقل أبوعبيد في الغريبين نحوه. ثم إنه لم يقع التعبير بالرواح-كما قال الحافظ-إلا في رواية مالك عن سمي، ورواه ابن جريج عن سمي بلفظ: غدا. ورواه أبوسلمة عن أبي هريرة بلفظ: المتعجل إلى الجمعة. صححه ابن خزيمة، وفي حديث سمرة عند ابن ماجه: ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الجمعة في التبكير كناحر البدنة الخ. وفي حديث علي عند أبي داود: إذا كانت الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد، فتكتب الرجل من ساعة... الحديث، فدل مجموع هذه الأحاديث على أن المراد بالرواح الذهاب. وقيل: النكتة في التعبير بالرواح الإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزوال، فيسمى الذاهب إلى الجمعة رائحا وإن لم يجيء وقت الرواح، كما سمى القاصد إلى مكة حاجا. ومنها لفظ المهجر فإنه مشتق من التهجير، وهو السير في وقت الهاجرة، وهي نصف النهار عند اشتداد الحر، تقول منه هجر النهار، وقد ذكر المراتب الباقية بلفظ: "ثم" من غير ذكر الساعات. وقد تقدم الجواب عن

(8/371)


هذا. ومنها أن الساعة في اللغة الجزء من الزمان، وحملها-كما ذهب إليه الجمهور- على الزمانية التي يقسم النهار فيها إلى اثنا عشر جزء يبعد إحالة الشرع عليه لاحتياجه إلى حساب ومراجعة آلات تدل عليه. وأجيب بأن الساعة قد يطلق على جزء من أربعة وعشرين جزءا هي مجموع اليوم والليلة. ويدل على اعتبارها في عرف الشرع ما روى أبوداود والنسائي، وصححه الحاكم من حديث جابر مرفوعا: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة. وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد بالساعات. ومنها أن الساعة لو طلعت للزم تساوى الآتين فيها، والأدلة تقتضى رجحان السابق بخلاف ما إذا قيل: إنها لحظة خفيفة لطيفة. وأجيب بأن التساوي وقع مسمى البدنة، والتفاوت

(8/372)


صفاتها يعني أن بدنة الأول مثلا أكمل من بدنة الأخير، وبدنة المتوسط متوسطة، فمراتبهم متفاوتة، وإن اشتركوا في البدنة مثلا. ومنها عمل أهل المدينة، فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار، وأيضا لم يعرف أن أحدا من الصحابة كان يأتي المسجد لصلاة الجمعة عند طلوع الشمس وصفائها، ولا يمكن حمل حالهم على ترك هذه الفضيلة العظيمة. وهذا يدل على أن المراد من الساعات لحظات خفيفة بعد الزوال، لا الساعات الزمانية المعروفة عند أهل الفلك وعلم الميقات. وأجيب بأن عمل أهل المدينة ليس بحجة، كما تقرر في موضعه، وأيضا ليس في عمل أهل المدينة هذا إلا ترك الرواح إلى الجمعة من أول النهار، وهذا جائز بالضرورة. وقد يكون اشتغال الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار. وترك أهل المدينة وغيرهم ذلك لا يدل على أنه مكروه. وقال القاري: وقد كان السلف يمشون على السرج يوم الجمعة إلى الجامع. وفي الإحياء وأول بدعة حدثت في الإسلام ترك التبكير إلى المساجد-انتهى. وقد أنكر عمر على عثمان ترك التبكير بمحضر من الصحابة، وكبار التابعين من أهل المدينة. وهذا يرد على من ادعى إجماع أهل المدينة على ترك التبكير. ومنها أن حملها على الساعات الفلكية يستلزم صحة صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن تقسيم الساعات إلى خمس، ثم تعقيبها بخروج الإمام وخروجه عند أول الزوال يقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة، وهي قبل الزوال. وقد أجاب عنه الحافظ بأنه ليس في شيء من طرق هذا الحديث ذكر الإتيان من أول النهار، فلعل الساعة الأولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره، ويكون مبدأ المجيء من أول الثانية، فهي أولى بالنسبة إلى المجيء ثانية بالنسبة للنهار. وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال. وإلى هذا أشار الصيدلاني شارح المختصر حيث قال: إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة. ويؤيده

(8/373)


الحث على التهجير إلى الجمعة. وحمل الجمهور الساعات المذكورة في الحديث على الساعات الزمانية. كما في سائر الأيام. وقد تقدم حديث جابر مرفوعا: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة. والمراد بها الساعات الآفاقية التي لا يختلف عددها بطول النهار وقصره، فالنهار اثنتا عشرة ساعة، لكن يزيد كل منها وينقص، والليل كذلك. ثم اختلفوا فقالت طائفة منهم: ابتداء هذه الساعات من طلوع الشمس، والأفضل عندهم التبكير في ذلك الوقت إلى الجمعة، وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد. قال الماوردي: إنه الأصح ليكون قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب. وقال الروياني: إن ظاهر كلام الشافعي أن التبكير يكون من طلوع الفجر، وصححه الروياني، وكذلك صاحب المهذب قبله، ثم الرافعي والنووي. وحكى الصيدلاني أن أول التبكير من ارتفاع
متفق عليه.
1397-(5) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب،

(8/374)


النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة.قلت: وهذا القول هو الراجح عندي، وبه تجتمع الأحاديث، وبه يرتفع الإشكال الذي يرد على مذهب مالك. وسيأتي ذكره في كلام النووي. ويؤيد هذا القول الحث على التهجير إلى الجمعة، فقد تقدم في كلام القرطبي أن التهجير هنا من الهاجرة، وهو السير في وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده-انتهى. ومن المعلوم أن اشتداد الحر يكون من ربع النهار غالبا، فمن راح إلى الجمعة في هذا الوقت أي عند ارتفاع النهار يعني في أول الضحى وأول الهاجرة صدق عليه الألفاظ الواردة في الأحاديث التي أشرنا إليها، وهي المتعجل والتبكير والغدو والرواح والتهجير. قال النووي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الملائكة تكتب من جاء في الساعة الأولى، وهو كالمهدي بدنة، ثم من جاء في الساعة الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، فإذا خرج الإمام طووا الصحف، ولم يكتبوا بعد ذلك أحدا. ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إلى الجمعة متصلا بعد الزوال، فدل على أنه لا شيء من الهدي والفضيلة لمن جاء بعد الزوال، وكذا ذكر الساعات إنما كان للحث على التبكير إليها، والترغيب في فضيلة السبق، وتحصيل الصف الأول، وانتظارها بالاشتغال بالتنفل والذكر ونحوه. وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال، ولا فضيلة لمن أتى بعد الزوال؛ لأن النداء يكون حينئذ، ويحرم التخلف بعد النداء-انتهى. هذا. وقد بسط ابن القيم الكلام على ذلك في الهدي (ج1ص110- 112) ورجح قول من قال: إن ابتداء الساعات من أول النهار. من شاء البسط رجع إليه. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب الاستماع إلى الخطبة من كتاب الجمعة. وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي وغيرهم.

(8/375)


1397- قوله: (إذا قلت) بلفظ الخطاب. (لصاحبك) الذي تخاطبه إذ ذاك أو جليسك. وإنما ذكر الصاحب لكونه الغالب. (يوم الجمعة) فيه دلالة على أن الخطبة غير الجمعة ليست مثلها ينهى عن الكلام حالها. قال الحافظ: قوله. (يوم الجمعة) مفهومة أن غير يوم الجمعة بخلاف ذلك، وفيه بحث-انتهى. (أنصت) أي أسكت عن الكلام مطلقا واستمع للخطبة. وقال ابن خزيمة: المراد بالإنصات السكوت عن مكالمة الناس دون ذكر الله. قال الحافظ: وتعقب بأنه منه جواز القراءة والذكر حال الخطبة، فالظاهر أن المراد السكوت مطلقا، ومن فرق احتاج إلى دليل. ولا يلزم من تجويز التحية لدليلها الخاص جواز الذكر مطلقا. (والإمام يخطب) جملة
فقد لغوت)).

(8/376)


حالية مشعرة بأن ابتداء الإنصات من الشروع في الخطبة. ففيه دليل على أنه يختص النهي بحال الخطبة، ورد على من جعل وجوب الإنصات، والنهي عن الكلام من حال خروج الإمام. نعم الأولى والأحسن الإنصات. (فقد لغوت) أي ومن لغا فلا أجر له، فإذا كان هذا القدر مبطلا للأجر مع أنه أمر بالمعروف، فكيف ما فوقه، واختلفوا في معنى قوله: "لغوت" فقال الأخفش: اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه. وقال ابن عرفة: اللغو السقط من القول. وقيل: الميل عن الصواب. وقيل: اللغو الإثم، كقوله تعالى: ?وإذا مروا باللغو مروا كراما? [72:25]. وقال الباجي: اللغو رديء الكلام وما لا خير فيه. وقال المجد: اللغو واللغى، كالفتي، السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره. وقال الزين بن المنير: اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام. وقال النضر بن شميل: معنى لغوت خبت من الأجر. وقيل: بطلت فضيلة جمعتك. وقيل: صارت جمعتك ظهرا. قال الحافظ: أقوال أهل اللغة متقاربة المعنى. ويشهد للقول الأخير ما رواه أبوداود وابن خزيمة والبيهقي (ج3:ص231) من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعا: ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا. قال ابن وهب أحد رواته: أجزأت عنه الصلاة، وحرم فضيلة الجمعة. ولأحمد من حديث علي مرفوعا: من قال صه فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له. ولأبي داود ونحوه. ولأحمد والبزار من حديث ابن عباس مرفوعا: من تكلم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فهو كالحمار يحمل أسفارا. والذي يقول له أنصت ليست له جمعة. وله شاهد قوي في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفا. قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه-انتهى. واستدل بالحديث على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة؛ لأنه إذا جعل قوله: "أنصت" مع كونه أمرا بمعروف لغوا فغيره من الكلام أولى أن يسمى لغوا، ويؤيده حديثا علي وابن عباس المتقدمان في كلام الحافظ لإطلاق الكلام

(8/377)


فيهما، وعدم الفرق بين ما لا فائدة فيه وغيره. والمسألة مختلف فيها عند الأئمة، فقال الشافعية: يكره الكلام حال الخطبة من إبتدائها لقوله تعالى: ?وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا? [204:7]. وقد ذكر كثير من المفسرين أنه نزل في الخطبة، وسميت قرآنا لاشتمالها عليه، ولحديث أبي هريرة الذي نحن بصدد شرحه. ولا يحرم للأحاديث الدالة على ذلك كحديث أنس المروي في الصحيحين في قصة السائل في الاستسقاء، وكحديث أنس أيضا المروي بسند صحيح عند البيهقي في قصة السائل عن وقت الساعة. وجه الدلالة أنه لم ينكر عليهما الكلام، ولم يبين لهما وجه السكوت، والأمر في الآية للندب، ومعنى "لغوت" تركت الأدب جمعا بين الأدلة. قال العيني: وفي التوضيح والجديد الصحيح من مذهب الشافعي أنه لا يحرم الكلام، ويسن الإنصات، وبه قال الثوري وداود. والقديم أنه يحرم، وبه قال مالك والأوزاعي

(8/378)


وأبوحنيفة وأحمد-انتهى. وقال الحافظ: للشافعي في المسألة قولان مشهوران، وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف في أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ فعلى الأول يحرم لا على الثاني، والثاني هو الأصح. فمن ثم أطلق من أطلق إباحة الكلام. وعن أحمد أيضا روايتان. واختلفوا فيمن كان به صمم أو بعد عن الإمام بحيث لا يسمع، فقال المالكية: يحرم الكلام عليه أيضا لعموم وجوب الإنصات، وعن أحمد والشافعي التفرقة بين من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها، قال العيني: نقل ابن بطال: أن أكثر العلماء أن الإنصات واجب على من سمعها ومن لم يسمعها وأنه قول مالك، وكان عروة لا يرى بأسا بالكلام إذا لم يسمع الخطبة. وقال أحمد: لا بأس أن يذكر الله ويقرأ من لم يسمع الخطبة. قال العيني: واختلف المتأخرون. (أي من الحنفية) فيمن كان بعيد لا يسمع الخطبة، فقال محمد بن سلمة: المختار السكوت، وهو الأفضل. وقال نصر بن يحيى: يسبح ويقرأ القرآن، وهو قول الشافعي. وأجمعوا أنه لا يتكلم. وقيل: الاشتغال بالذكر وقراءة القرآن أفضل من السكوت-انتهى. قال الحافظ: ويدل على الوجوب في السامع أن في حديث علي المشار إليه: ومن دنا فلم ينصت كان عليه كفلان من الوزر، ولأن الوزر لا يترتب على من فعل مباحا ولو كان مكروها كراهة تنزيه. وأما ما استبدل به من أجاز مطلق من قصة السائل في الاستسقاء ونحو ففيه نظر؛ لأنه استدل بالأخص على الأعم، فيمكن أن يخص عموم الأمر بالإنصات بمثل ذلك كأمر عارض في مصلحة عامة كما خص بعضهم منه رد السلام بوجوبه. ونقل صاحب المغني الإتفاق على أن الكلام الذي يجوز في الصلاة يجوز في الخطبة كتحذير الضرير من البئر. وعبارة الشافعي: وإذا خاف على أحد لم أر بأسا إذا لم يفهم عنه بالإشارة أن يتكلم-انتهى. وأجيب أيضا عن حديث أنس في قصة الاستسقاء وما في معناه بأنه غير محل النزاع؛ لأن محل النزاع الإنصات والإمام يخطب. وأما سؤال الإمام وجوابه فهو قاطع لكلامه،

(8/379)


فيخرج عن ذلك. واختلف في رد السلام وتشميت العاطس، وتحميد العاطس، فرخص فيه أحمد والشافعي وإسحاق. قال الشافعي في الأم: ولو سلم رجل على رجل يوم الجمعة كرهت ذلك له، ورأيت أن يرد عليه بعضهم؛ لأن رد السلام فرض، وقال أيضا ولو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه؛ لأن التشميت سنة-انتهى. وقال ابن الهمام: يكره تشميت العاطس ورد السلام، وهل يحمد إذا عطس؟ الصحيح نعم في نفسه، وذكر العيني عن أبي حنيفة إذا سلم عليه يرده بقلبه، وعن أبي يوسف: يرد السلام، ويشمت العاطس فيها، وعن محمد: يرد ويشمت بعد الخطبة ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قلبه-انتهى. وفي المدونة قال مالك فيمن عطس والإمام يخطب. فقال: يحمد الله في نفسه سرا ولا يشمت أحد العاطس-انتهى. واختلفوا في وقت الإنصات، فقال أبوحنيفة: خروج الإمام يقطع الصلاة والكلام جميعا لما روى الطبراني
متفق عليه.
1398- (6) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف

(8/380)


في الكبير من حديث ابن عمر رفعه. إذا دخل أحدكم المسجد، والإمام على المنبر، فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام، وهو حديث ضعيف فيه أيوب بن نهيك، وهو منكر الحديث، قاله أبوزرعة وأبوحاتم، ذكره الحافظ. وقال الهيثمي: هو متروك ضعفه جماعة. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ. وقال طائفةك لا يجب الإنصات إلا عند إبتداء الخطبة، ولا بأس بالكلام قبلها، وهو قول مالك والثوري وأبي يوسف ومحمد والشافعي. قلت: والراجح عندي في المسائل المذكورة أن السكوت في حال الخطبة واجب والكلام حرام، هذا فيمن يدنو من الإمام ويسمع الخطبة. وأما من كان بعيدا عنه، ولا يسمع الخطبة، أو كان به صمم، فالسكوت في حقه أحوط، ويجوز تشميت العاطس ورد السلام سرا في النفس، وكذا الحمد عن العطسة، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يكره الإشارة بالرأس أو باليد أو بالعين لإزالة منكر أو جواب سائل. ووقت الإنصات هو ابتداء الخطبة والشروع فيها لا خروج الإمام. هذا ما عندي. والله تعالى أعلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص218، 219) وغيرهم في الباب عن جماعة من الصحابة ذكرهم العيني (ج6:ص240).

(8/381)


1398- قوله: (لا يقيمن أحدكم أخاه) قال الحافظ: هذا لا مفهوم له، بل ذكر لمزيد التنفير عن ذلك لقبحه؛ لأنه إن فعله من جهة الكبر كان قبيحا، فإن فعله من جهة الأشرة كان أقبح. (يوم الجمعة) فيه أن النهي المذكور مقيد بيوم الجمعة، وقد ورد ذلك بلفظ العموم، كما في حديث ابن عمر الآتي في الفصل الثالث من هذا الباب. قال الشوكاني: ذكر يوم الجمعة في حديث جابر من باب التنصيص على بعض أفراد العام، لا من باب التقييد للأحاديث المطلقة، ولا من باب التخصيص للمعلومات، فمن سبق إلى موضع مباح، سواء كان مسجدا أو غيره في يوم جمعة، أو غيرها، لصلاة أو لغيرها من الطاعات، فهو أحق به، ويحرم على غيره إقامته منه، والقعود فيه، إلا أنه يستثنى من ذلك الموضع الذي قد سبق لغيره فيه حق كان يقعد رجل في موضع، ثم يقوم منه لقضاء حاجة من الحاجات، ثم يعود إليه، فإنه أحق به ممن قعد فيه بعد قيامه؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد ومسلم مرفوعا بلفظ: إذا قام أحدكم من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحق به، ولحديث وهب بن حذيفة عند أحمد والترمذي رفعه: الرجل أحق بمجلسه وإن خرج لحاجته ثم عاد فهو أحق بمجلسه. قال الشوكاني: وظاهرهما عدم الفرق بين المسجد وغيره. ويجوز له إقامة من قعد فيه، وقد ذهب إلى ذلك الشافعية (ثم يخالف) قال القاري بالرفع.
إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا)) رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1399، 1400-(7، 8) عن أبي سعيد، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((من اغتسل يوم الجمعة، لبس من أحسن ثيابه،

(8/382)


وقيل بالجزم أي يقصد ويذهب. (إلى مقعده) أي إلى موضع قعوده. (فيقعد فيه) قال الزمخشري: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده، وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه، وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادرا عن الماء، فتسأله عن صاحبه، فيقول لك: خالفني إلى الماء، يريد أنه ذاهب إليه واردا، وأنا ذاهب عنه صادرا. ومنه قوله تعالى: ?وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه? [11: 88]، يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم-انتهى. وقال الطيبي: المخالفة أن يقيم صاحبه من مقامه فيخالف، فينتهي إلى مقعده فيقعد فيه. قال تعالى: ?ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه?. وفيه إدماج وزجر للمتكبرين، أي كيف تقيم أخاك المسلم، وهو مثلك في الدين لا مزية لك عليه. زاد ابن حجر: فيحرم ذلك بغير رضا الجالس رضا حقيقيا لا عن خوف أو أحياء، ذكره القاري. قال الشوكاني: وظاهر حديث جابر وحديث ابن عمر أنه يجوز للرجل أن يقعد في مكان غيره إذا أقعده برضاه، قال: ويكره الإيثار بمحل الفضيلة كالقيام من الصف الأول إلى الثاني؛ لأن الإيثار وسلوك طرائق الآداب لا يليق أن يكون في العبادات والفضائل، بل المعهود أنه في حظوظ النفس وأمور الدنيا، فمن آثر بحظه في أمر من أمور الآخرة فهو من الزاهدين في الثواب-انتهى. وقال ابن حجر: الإيثار بالقرب بلا عذر مكروه، وأما قوله تعالى: ?ويؤثرون على أنفسهم? [59: 9] فالمراد به الإيثار في حظوظ النفس، كما بينه قوله: ?ولو كان بهم خصاصة? [59: 9]-انتهى. (ولكن يقول) أي أحدكم للقاعدين. (افسحوا) أي وسعوا في المجلس. وفي حديث ابن عمر: تفسحوا وتوسعوا، يقال فسح له في المجلس أي وسع له وتفسحوا في المجلس وتفاسحوا أي توسعوا. فإن زاد ?يفسح الله لكم? كما أشارت إليه آيته فلا بأس. وفيه إشارة إلى قوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم? [58: 11] لكن هذا إن

(8/383)


كان المحل قابلا للتوسع، وإلا فلا يصيق على أحد، بل يصلي ولو على باب المسجد. (رواه مسلم) في كتاب الأدب والاستيذان. وأخرجه أحمد والبيهقي (ج3ص333) قال القاري: وجه مناسبته للترجمة أنه متضمن للحث على التبكير لئلا يقع فيما يجب عنه التحذير من قيام أخيه المسلم.
1399، 1400- قوله: (ولبس من أحسن ثيابه) قال الطيبي: يريد الثياب البيض-انتهى. يعني أفضلها
ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة، فلم يتخط أعناق الناس، ثم صلى ما كتب الله له، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته،

(8/384)


من حيث اللون البيض للخبر الصحيح: البسوا من ثيابكم البياض، فإنها خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم. وفي رواية صحيحة: فإنها أطهر وأطيب. وفيه مشروعية اللبس من أحسن الثياب، واستحباب التجمل والزينة يوم الجمعة الذي هو عيد للمسلمين، ولا خلاف في ذلك. (ومس الطيب إن كان) أي الطيب. (عنده) أي إن تيسر له تحصيله بأن يكون في بيته أو عند امرأته. وفيه مشروعية التطيب يوم الجمعة، ولا خلاف في استحباب ذلك. وروي عن أبي هريرة بإسناد صحيح، كما قال الحافظ في الفتح: إنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة، وبه قال بعض أهل الظاهر. (فلم يتخط أعناق الناس) أي لم يتجاوز رقاب الناس ولم يؤذهم، وهو كناية عن التبكير، أي عليه أن يبكر فلا يتخطى رقاب الناس. وفيه كراهية تخطي الرقاب. قال الشافعي: أكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بذلك-انتهى. قال الحافظ: وهذا يدخل فيه الإمام، ومن يريد وصل الصف المنقطع إن أبى السابق من ذلك، ومن يريد الرجوع إلى موضعه الذي قام منه لضرورة. وكان مالك يقول: لا يكره التخطي إلا إذا كان الإمام على المنبر. قال الشوكاني: ولا دليل على ذلك. ويأتي بقية الكلام على ذلك في شرح حديث معاذ بن أنس الآتي. (ثم صلى ما كتب الله له) فيه أنه ليس قبل الجمعة سنة مخصوصة مؤكدة كالسنة بعد الجمعة، فالمصلي إذا دخل المسجد يوم الجمعة فله أن يصلي ما شاء متنفلا. وأما ما رواه ابن ماجه عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يركع قبل الجمعة أربعا لا يفصل في شيء منهن، ففي إسناده بقية ومبشر بن عبيد والحجاج بن أرطاة وعطية العوفي، وكلهم متكلم فيه. كذا في عون المعبود. (ثم أنصت إذا خرج إمامه) أي ظهر بطلوعه على المنبر استدل به الحنفية على أن وقت الإنصات خروج الإمام، وأجيب عنه بأنه محمول على الأولوية لحديث أبي هريرة المتقدم، وهو خامس أحاديث الفصل الأول، ولحديث ابن عباس الآتي في الفصل الثالث، ولحديث أبي الدرداء

(8/385)


مرفوعا: إذا سمعت أمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ. أخرجه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال أحمد موثقون. قاله الهيثمي. (حتى يفرغ من صلاته) قال ابن حجر: كان حكمة ذكره طلب الإنصات بين الخطبة والصلاة وإن كانت كراهة الكلام عندنا وحرمته عند غيرنا تنتهي بفراغ الخطبة-انتهى. قلت: اختلفوا في الكلام بعد فراغ الخطيب من الخطبة، وقيل الشروع في الصلاة، فذهب أبوحنيفة إلى الكراهة، ومالك والشافعي وأحمد وأبويوسف ومحمد إلى أنه لا بأس بذلك، ورجح ابن العربي السكوت حيث قال: وأما التكلم يوم الجمعة بين النزول من المنبر والصلاة فقد جاءت فيه الروايتان، والأصح عندي أن لا يتكلم بعد الخطبة. قال الشوكاني: ومما يرجح ترك الكلام بين الخطبة والصلاة الأحاديث الواردة في الإنصات حتى تنقضي الصلاة كما عند النسائي من حديث سلمان بإسناد جيد
كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها)). رواه أبوداود.
1401-(9) وعن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من غسل يوم الجمعة واغتسل،

(8/386)


بلفظ: فينصت حتى يقضي صلاته، وأحمد بإسناد صحيح من حديث نبيشة بلفظ: فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه. ويجمع بين الأحاديث بأن الكلام الجائز بعد الخطبة، هو كلام الإمام لحاجة، أو كلام الرجل للرجل لحاجة-انتهى. (كانت) أي هذه الأفعال بجملتها. (كفارة لما بينها) أي لما وقع له من الذنوب بين ساعة صلاته هذه. (وبين جمعته) أي صلاة جمعته. (رواه أبوداود) في أواخر الطهارة، وزاد قال. (أي محمد بن سلمة أحد رواة الحديث أو أبوسلمة بن عبدالرحمن راوي الحديث عن أبي سعيد وأبي هريرة)، ويقول أبوهريرة: وزيادة ثلاثة أيام، ويقول. (أي أبوهريرة) إن الحسنة بعشر أمثالها. قال المنذري: وأخرجه مسلم مختصرا من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وأدرج زيادة ثلاثة أيام في الحديث-انتهى.وأخرجه أيضا الحاكم (ص283) والبيهقي (ج3ص243) قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

(8/387)


1401- قوله: (من غسل يوم الجمعة واغتسل) روى قوله: "غسل" مشددا ومخففا، فالمشدد معناه جامع امرأته أو أمته قبل خروجه إلى الصلاة ليكون أملك لنفسه وأحفظ في طريقه لبصره، من غسل امرأته إذا جامعها. ومن هذا قول العرب: فحل غسله إذا كان كثير الضراب، وقد فسر بذلك وكيع وعبدالرحمن بن الأسود وهلال بن يساف. ويؤيده حديث: أيعجز أحدكم أن يجامع أهله في كل يوم جمعة؟ فإن له أجرين اثنين: أجر غسله، وأجر امرأته. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة، ذكره السيوطي. وقيل: أراد غسل غيره أي حمله على الاغتسال، وأوجب الغسل عليه. وإذا وطىء امرأته فقد حملها على الاغتسال وأحوجها إليه. وقيل: معناه اغتسل بعد الجماع للجنابة، ثم اغتسل للجمعة، فكرر لهذا المعنى. وقيل: معناه بالغ في غسل الأعضاء إسباغا وتثليثا. وقيل: معناه بالغ في غسل الرأس، فالتشديد للمبالغة، كما في قطع وكسر؛ لأن العرب لهم لمم وشعور، وفي غسلها كلفة، فأفرد ذكر غسل الرأس لذلك. وقيل: هما بمعنى واحد، والتكرار التأكيد. وأما المخفف، وقد قال النووي: الأرجح عند المحققين التخفيف، فقيل في معناه كالمشدد أي وطىء صاحبته، وأصابها من غسل امرأته بالتخفيف والتشديد إذا جامعها، قاله الزمخشري، وحكاه صاحب النهاية وغيره أيضا. وقيل: معناه غسل الرأس واغتسل أي فضل سائر الجسد، وأفراد الرأس بالذكر لما فيه من المؤنة لأجل الشعر، أو لأنهم كانوا يجعلون فيه الخطمي ونحوه، وكانوا يغسلونه أولا ثم يغتسلون. ويؤيده ما في رواية لأحمد وأبي داود من هذا الحديث: من غسل رأسه يوم الجمعة واغتسل. ويؤيده أيضا ما روى البخاري
وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة: أجر صيامها وقيامها)).

(8/388)


وأحمد وابن خزيمة بإسناد صحيح إلى طاووس قال: قلت لابن عباس: زعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤسكم وإن لم تكونوا جنبا-الحديث. ويؤيده أيضا ما روى ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعا: إذا كان يوم الجمعة فاغتسل الرجل وغسل رأسه-الحديث. قال المنذري: في هذا الحديث دليل لمن فسر قوله غسل بغسل الرأس. وقيل: المراد غسل أعضائه للوضوء ثم اغتسل للجمعة. وقيل: المراد غسل ثيابه واغتسل في جسده. وقيل: هما بمعنى، والتكرار للتوكيد، والمختار أن المشدد بمعنى جامع امرأته، أو بمعنى غسل أي أحوجها إلى الغسل، وأوجبه عليها بالجماع، والمخفف بمعنى غسل رأسه. (وبكر) بالتشديد على المشهور، وجوز التخفيف أي راح في أول الوقت. (وابتكر) قيل: معناهما واحد كرره للتأكيد والمبالغة، وليس المخالفة بين اللفظين لاختلاف المعنيين، وبه جزم ابن العربي. وقيل: "بكر" بمعنى أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه. و"ابتكر" أي أدرك أول الخطبة وأول كل شيء باكورته، وابتكر الرجل إذا أكل بأكورة الفاكهة. وقيل: "بكر" بمعنى تصدق قبل خروجه، قاله ابن الأنباري، وتأول في ذلك ما روى في الحديث باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها. والراجح ـ كما صرح به العراقي ـ أن "بكر" بمعنى راح في أول الوقت، "وابتكر" بمعنى أدرك أول الخطبة. (ومشى) أي إلى الجمعة على قدميه. (ولم يركب) قيل: هما بمعنى جمع بينهما تأكيدا ودفعا لما يتوهم من حمل المشي على مجرد الذهاب ولو راكبا، أو حمله على تحقق المشي ولو في بعض الطريق. (ودنا من الإمام) أي قرب منه. (واستمع) أي أصغى. وفيه أنه لا بد من الأمرين جميعا، فلو استمع وهو بعيد، أو قرب ولم يستمع، لم يحصل له هذا الأجر. (ولم يلغ) أي لم يتكلم، فإن الكلام حال الخطبة لغو، قاله النووي. أو استمع الخطبة ولم يشتغل بغيرها، قاله الأزهري. (كان له بكل خطوة) بضم المعجمة وتفتح،

(8/389)


وبعد ما بين القدمين. قال السندي: أي ذهابا وإيابا أو ذهابا فقط أو بكل خطوة من خطوات ذلك اليوم. (عمل سنة) أي ثواب أعمالها. (أجر صيامها وقيامها) بدل من "عمل سنة". وقد ورد في المشي إلى مطلق الصلاة رفع درجة في كل خطوة، وكتابة حسنة، ومحو سيئة. أما ثبوت أجر عمل سنة، كما في هذا الحديث، فهو من خصائص الجمعة. قال السندي: والظاهر أن المراد أنه يحصل له أجر من استوعب السنة بالصيام والقيام لو كان، ولا يتوقف ذلك على أن يتحقق الاستيعاب من أحد. ثم الظاهر أن المراد في هذا وأمثاله ثبوت أصل أجر الأعمال لا مع المضاعفات المعلومة بالنصوص. ويحتمل أن يكون مع المضاعفات، وفي الحديث مشروعية الغسل يوم الجمعة،
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
1402-(10) وعن عبدالله بن سلام، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما على أحدكم إن وجد أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)).

(8/390)


ومشروعية التبكير والمشي على الأقدام، والدنو من الإمام والاستماع وترك اللغو، وأن الجمع بين هذه الأمور سبب لاستحقاق ذلك الثواب الجزيل. (رواه الترمذي) وحسنه. وقال النووي: إسناده جيد. ولم يذكر الترمذي "ومشى ولم يركب". (أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص8، 9، 10، 104) والطيالسي والدارمي وابن سعد في الطبقات (ج5ص375)، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم (ج1ص282) وصححه والبيهقي (ج3ص227- 229)، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس، قاله المنذري في الترغيب. وقال الشوكاني: وقد رواه الطبراني بإسناد، قال العراقي: حسن، عن أوس المذكور، ورواه أحمد في مسنده (ج2ص209)، والحاكم (ج1ص282) والبيهقي (ج3ص227) عنه عن عبدالله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم --انتهى. قلت: في سنده عثمان بن خالد الشامي. قال الحاكم: مجهول، ووافقه الذهبي. وأعل أيضا البيهقي رواية عثمان هذه بزيادة عبدالله بن عمرو في الإسناد، وبالاختلاف في المتن، وقد رد تعليل من أعله بذلك العلامة الشيخ أحمد شاكر في شرحه للمسند (ج11ص176)، والحافظ في لسان الميزان (ج4ص159)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص171)، والمنذري في الترغيب، وقالا: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.

(8/391)


1402- قوله: (ما على أحدكم) ما نافية أي ليس على أحدكم حرج من حيث الدنيا، يريد الترغيب فيه بأنه شيء ليس فيه حرج وتكليف على فاعله، وهو خير إذ لا يفوته الإنسان. وقال الزرقاني: استفهام يتضمن التنبيه والتوبيخ يقال لمن قصر في شيء، أو غفل عنه ما عليه لو فعل كذا، أي يلحقه من ضرر أو عار أو نحو ذلك-انتهى. وقال القاري: قيل "ما" موصولة. وقال الطيبي: ما، بمعنى ليس، واسمه محذوف، و"على أحدكم" خبره، وقوله: (إن وجد) أي سعة يقدر بها على تحصيل زائد على ملبوس مهنته وهذه شرطية معترضة وقوله: (أن يتخذ) متعلق بالاسم المحذوف، معمول له ويجوز أن يتعلق "على" بالمحذوف، والخبر "أن يتخذ" كقوله تعالى: ?ليس على الأعمى حرج? إلى قوله: ?أن تأكلوا من بيوتكم? [24: 61] والمعنى ليس على أحد حرج أي نقص يخل بزهده في أن يتخذ. (ثوبين) قميصا ورداء أو جبة أو إزارا ورداء. (ليوم الجمعة) أي يلبسهما فيه وفي أمثاله. من العيد وغيره. وفيه أن ذلك ليس من شيم المتقين لو لا تعظيم الجمعة، ومراعاة شعائر الإسلام. (سوى ثوبي مهنته) بفتح الميم أي بذلته وخدمته أي غير الثوبين الذين يلبسهما في أشغاله، وكسر الميم جائز
رواه ابن ماجه.

(8/392)


قياسا، كالجلسة والخدمة. فجوزه بعضهم نظرا على ذلك، ومنعه الآخرون وعدوه خطأ نظرا إلى السماع. قال الزمخشري في الفائق: روي بكسر الميم وفتحها، والكسر عند الإثبات خطأ. وقال الأصمعي: بالفتح الخدمة، ولا يقال بالكسر، وكان القياس، لو جيء بالكسر، أن يكون كالجلسة والخدمة إلا أنه جاء على فعلة. وقال ابن عبدالبر: المهنة بفتح الميم الخدمة. وأجاز غير الأصمعي كسر الميم، ذكره الزرقاني. وقال المجد في القاموس: المهنة بالكسر والفتح والتحريك وككلمة الحذق بالخدمة والعمل، مهنة كنصره ومنعه مهنا ومهنة ويكسر-انتهى. ويقال: هو في مهنة أهله أي في خدمتهم، وخرج في ثياب مهنته، أي في ثياب خدمته التي يلبسها في أشغاله. والحديث يدل على استحباب لبس الثياب الحسنة يوم الجمعة، وتخصيصه بملبوس غير ملبوس سائر الأيام، قال ابن عبدالبر: وفيه الندب لمن وجد سعة أن يتخذ الثياب الحسان للجمع والأعياد ويتجمل بها، وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ويعتم ويتطيب ويلبس أحسن ما يجد في الجمعة والعيد. وفيه الأسوة الحسنة، وكان يأمر بالطيب والسواك والدهن-انتهى. (رواه ابن ماجه) وكذا البيهقي (ج3ص242) كلاهما من طريق عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن موسى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبدالله بن سلام أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر في يوم الجمعة: ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته. قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات-انتهى. قلت: هو منقطع؛ لأن محمد بن يحيى بن حبان لم يدرك عبدالله بن سلام، فإن ابن حبان مات سنة إحدى وعشرين ومائة، وهو ابن أربع وسبعين سنة. وعلى هذا فكانت ولادته سنة سبع وأربعين. ومات عبدالله بن سلام قبل ولادته سنة ثلاث وأربعين. ثم أخرجه ابن ماجه من طريق آخر قال: حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة ثنا شيخ لنا عن عبدالحميد بن جعفر عن محمد بن يحيى بن حبان عن يوسف بن

(8/393)


عبدالله بن سلام عن أبيه قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك، وفيه رجل مجهول. قال المزي: هذا الشيخ هو محمد بن عمر الواقدي-انتهى. والواقدي متروك. وأخرجه أبوداود من ثلاثة وجوه: الأول طريق يحيى ابن سعيد الأنصاري عن محمد بن يحيى بن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما على أحدكم الخ، وهذا مرسل، لأن ابن حبان تابعي. والثاني طريق عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن موسى بن سعد عن ابن حبان عن ابن سلام أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الخ. وهذا يحتمل أن يكون المراد بابن سلام عبدالله بن سلام، وبه جزم الحافظ في التلخيص، وفي التهذيب في باب من نسب إلى أبيه أو جده أو أمه أو عمه أو نحو ذلك. ويحتمل أن يكون المراد به يوسف بن عبدالله بن سلام، كما يدل عليه الطريق الآتي، فيكون الحديث من مسند يوسف بن عبدالله بن سلام لا من مسند عبدالله بن سلام، والوجه الثالث طريق يحيى بن أيوب
1403-(11) رواه مالك عن يحيى بن سعيد.
1404-(12) وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احضروا الذكر وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها)).
عن ابن أبي حبيب عن موسى بن سعد عن يوسف بن عبدالله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا صريح في أن الحديث من مسند يوسف بن عبدالله بن سلام. وذكر البخاري أن يوسف له صحبة. فالحديث بهذا الطريق موصول، لكن قال المزي في الأطراف: هو أي كونه من مسند عبدالله بن سلام أشبه بالصواب.

(8/394)


1403- (ورواه مالك) في الموطأ، وكذا أبوداود والبيهقي وغيرهم. (عن يحيى بن سعيد) أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما على أحدكم الخ، قال الحافظ في الفتح (ج4ص483): وصله ابن عبدالبر في التمهيد من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة. وفي إسناده نظر، فقد رواه أبوداود من طريق عمرو بن الحارث وسعيد بن منصور عن ابن عيينة، وعبدالرزاق عن النوري ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن جبان مرسلا. ووصله أبوداود وابن ماجه من وجه آخر عن محمد بن يحيى عن عبدالله بن سلام. ولحديث عائشة طريق عند ابن خزيمة وابن ماجه-انتهى. قال الزرقاني: ويقال لا نظر. (أي في إسناد ابن عبدالبر)؛ لأن الأموي الراوي عن الأنصاري ثقة، فأي مانع من كون الأنصاري له فيه شيخان: عمرة عن عائشة موصولا، ومحمد بن يحيى بن حبان مرسلا-انتهى. ويحيى بن سعيد الأنصاري المذكور هو يحيى بن قيس الأنصاري المدني ثقة ثبت من صغار التابعين. وسيأتي البسط في ترجمته في أوائل الجنائز.

(8/395)


1404- قوله: (احضروا الذكر) أي الخطبة المشتملة على ذكر الله وتذكير الأنام. (وادنوا) أي اقربوا قدر ما أمكن. (من الإمام) يعني إذا لم يكن هناك مانع من القرب منه. وهذا إشارة إلى التبكير إلى الجمعة أي التعجيل في الرواح إليها. (فإن الرجل لا يزال يتباعد) أي يتأخر في الحضور إلى الجمعة فيتباعد من الإمام. وقيل: أي عن مواطن الخيرات بلا عذر. (حتى يؤخر) على صيغة المجهول. (في الجنة) أي في دخولها أو في درجاتها. (وإن دخلها) قال الطيبي: أي لا يزال الرجل يتباعد عن استماع الخطبة، وعن الصف الأول الذي هو مقام المقربين حتى يؤخر إلى آخر صف المتسفلين، وفيه توهين أمر المتأخرين وتسفيه رأيهم حيث وضعوا أنفسهم من أعالي الأمور إلى سفافها. وفي قوله: "وإن دخلها، تعريض بأن الداخل قنع من الجنة ومن المقامات العالية والدرجات الرفيعة بمجرد الدخول-انتهى. وقال الشوكاني: وفيه أن التأخر عن الإمام يوم الجمعة من أسباب
رواه أبوداود.
1405-(13) وعن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تخطى رقاب الناس

(8/396)


التأخر عن دخول الجنة - جعلنا الله تعالى من المتقدمين في دخولها-. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد كلاهما عن علي بن عبدالله المديني نا معاذ بن هشام الدستوائي قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده ولم أسمعه منه، ثنا قتادة عن يحيى بن مالك عن سمرة بن جندب. قال الشوكاني: قال المنذري: في إسناده انقطاع-انتهى. وسببه أن معاذا لم يسمع هذا الحديث من أبيه، بل أخذه منه على سبيل الوجادة، وهي من أنواع التحمل، وقد تقدم بيان حكمها، وأخرجه الحاكم (ج1ص289) من هذا الطريق. وصرح بسماع معاذ عن أبيه، وأخرجه البيهقي (ج3ص238) من رواية أبي داود، ثم ذكر رواية الحاكم واعترض عليها، فقال: لا أحسبه إلا واهما في ذكر سماع معاذ عن أبيه هو أو شيخه-انتهى. والحديث ذكره المنذري في الترغيب (ج1ص221)، قال: وروي عن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احضروا الجمعة، وادنوا من الإمام فإن الرجل ليكون من أهل الجنة فيتأخر عن الجمعة فيؤخر عن الجنة، وأنه لمن أهلها. رواه الطبراني والأصبهاني وغيرهما، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص177) إلى الطبراني في الصغير، وقال: وفيه الحكم بن عبدالملك، وهو ضعيف. قلت: وأخرجه من طريقه البيهقي أيضا.

(8/397)


1405- قوله: (وعن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه) كذا في جميع النسخ، وهو سهو؛ لأن أنسا والد معاذ ليس له صحبة ولا رواية، وإن ذكره ابن مندة في الصحابة كما يظهر من تجريد الذهبي (ج1ص33) وذكره خليفة فيمن نزل الشام من الصحابة. وما وقع في بعض الروايات مما يدل على كونه صحابيا له رواية فهو خطأ. وارجع إلى الإصابة (ج1ص74، 75). فالصواب حذف قوله: عن أبيه أو أن يقول عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه، كما في الترمذي وابن ماجه، وسهل بن معاذ بن أنس الجهني تابعي شامي نزل مصر. قال الحافظ: لا بأس به إلا في روايات زبان بن فائد عنه، وهذا الحديث من رواية زبان عنه. وقال ابن معين. ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: لا يعتبر بحديثه ما كان من رواية زبان بن فائد عنه، وذكره في الضعفاء، وقال: منكر الحديث جدا، فلست أدري أوقع التخليط في حديثه منه أو من زبان؟ فإن كان من أحدهما فالأخبار التي رواها ساقطة، وإنما اشتبه هذا لأن راويها عن سهل زبان إلا الشيء بعد الشيء، وزبان ليس بشيء. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. كذا ي التهذيب (ج4ص258، 259)، وأما والده معاذ بن أنس فقد تقدم ترجمته. (من تخطى) أي تجاوز. (رقاب الناس) قال القاضي: أي بالخطو عليها. وقال في القاموس: تخطى الناس واختطاهم ركبهم
يوم الجمعة، اتخذ جسرا إلى جهنم )).

(8/398)


وجاوزهم. (يوم الجمعة) ظاهر التقييد بيوم الجمعة أن الكراهة مختصة به. ويحتمل أن يكون التقييد خرج مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بكثرة الناس بخلاف سائر الصلوات فلا يختص ذلك بالجمعة، بل يكون حكم سائر الصلوات حكمها. ويؤيد ذلك التعليل بالأذية، كما في بعض الروايات. وظاهر هذا التعليل أن ذلك يجري في مجالس العلم وغيرها. ويؤيده أيضا ما أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي أمامة مرفوعا: من تخطى حلق قوم بغير إذنهم فهو عاص، لكن في إسناده جعفر بن الزبير، وقد كذبه شعبة وتركه الناس، وقال العيني: تقييد التخطي بيوم الجمعة هو المذكور في الأحاديث، وكذلك قيده الترمذي في حكايته عن أهل العلم، وكذلك قيده الشافعية في كتب فقههم في أبواب الجمعة، وكذلك هو عبارة الشافعي في الأم، إذ قال: وأكره تخطى رقاب الناس يوم الجمعة لما فيه من الأذى وسوء الأدب-انتهى. لكن هذا التعليل يشمل الجمعة وغيرها سائر الصلوات في المساجد وغيرها، وسائر المجامع من حلق العلم وسماع الحديث ومجالس الوعظ، فيحمل التقييد بالجمعة على أنه خرج مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بمكان الخطبة وكثرة الناس بخلاف غيره. ويؤيد ذلك ما رواه أبومنصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس فذكره. (اتخذ) على بناء المفعول أي يجعل يوم القيامة (جسرا) بفتح الجيم وسكون المهملة أي معبرا يمر عليه من يساق. (إلى جهنم) مجازاة له بمثل عمله. ويجوز بناءه للفاعل أي اتخذ لنفسه بصنيعه ذلك طريقا يؤديه إلى جهنم لما فيه من إيذاء الناس واحتقارهم. فكأنه جسرا اتخذه إلى جهنم، أو المعنى اتخذ نفسه جسرا الأهل جهنم، إلى جهنم بذلك العمل، والثالث أبعد الوجوه. وقال الطيبي: والشيخ التوربشتي ضعف المبني للمفعول رواية ودراية-انتهى. والحديث يدل على كراهة التخطي يوم الجمعة. واختلف في حكمه أنه للتحريم أو لا، فقال الترمذي حاكيا عن أهل العلم أنهم كرهوا ذلك وشددوا فيه. قال العيني: المتقدمون

(8/399)


يطلقون الكراهة. ويريدون التحريم. وحكى الشيخ أبوحامد في تعليقه عن نص الشافعي التصريح بتحريمه، وصرح النووي في شرح المهذب أنه مكروه بكراهة تنزيه. وقال في زوائد الروضة: إن المختار تحريمه للأحاديث الصحيحة، واقتصر أصحاب أحمد على الكراهة فقط-انتهى كلام العيني. ويكره عند المالكية لغير فرجة قبل جلوس الإمام على المنبر، ويحرم بعده ولو لفرجة، ثم اختلفوا في أنه هل يستثنى أحد من كراهة التخطي أو لا، فقال الحنفية: يجوز التخطي بشرطين: عدم الإيذاء وعدم خروج الإمام؛ لأن الإيذاء حرام والتخطي عمل، والعمل بعد خروج الإمام حرام، فلا يرتكبه لفضيلة الدنو من الإمام، بل يستقر في موضعه من المسجد، ذكره الطحطاوي على المراقى. وقد تقدم مذهب المالكية. وقال الشافعية إنه مكروه إلا أن يكون قدامه فرجة لا يصلها إلا بالتخطي، فلا يكره حينئذ. وقال ابن المنذر: بكراهته مطلقا، ونقل ذلك عن سلمان الفارسي وأبي هريرة وكعب وابن المسيب وعطاء وأحمد بن حنبل. وفي فقه الحنابلة أنه يستثنى الإمام والمؤذن
رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غريب.
1406-(14) وعن معاذ بن أنس، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة

(8/400)


والتخطي إلى الفرجة. وقال العراقي: وقد استثنى من التحريم أو الكراهة الإمام أو من كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي. وهكذا أطلق النووي في الروضة، وقيد ذلك في شرح المهذب، فقال: إذا لم يجد طريقا إلى المنبر والمحراب لا بالتخطي لم يكره؛ لأنه ضرورة. وروى نحو ذلك عن الشافعي، وحديث عقبة بن الحارث عند البخاري والنسائي قال: صليت وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة العصر، ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه-الحديث، يدل على جواز التخطي للحاجة في غير الجمعة. فمن خصص الكراهة بالجمعة فلا معارضة بينه وبين أحاديث الباب عنده. ومن عمم الكراهة لوجود العلة المذكورة سابقا في الجمعة وغيرها فهو محتاج إلى الإعتذار عنه. وقد خص الكراهة بعضهم بغير من يتبرك الناس بمروره، ويسرهم ذلك، ولا يتأذون لزوال علة الكراهة التي هي التأذي، كذا في النيل. قلت: والراجح عندي أنه يحرم التخطي مطلقا لإطلاق الأحاديث المقتضية للكراهة إلا لمن يتبرك الناس بمروره، ويسرهم ذلك، ولا يتأذون لحديث عقبة بن الحارث المذكور. (رواه الترمذي) وابن ماجه أيضا كلاهما من طريق رشدين بن سعد، وهو صالح عابد سيء الحفظ، عن زبان بن فائد، وهو ضعيف الحديث مع صلاحه وعبادته، ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا يتفرد عن سهل بن معاذ بنسخة كأنها موضوعة، لا يحتج به عن سهل بن معاذ. وقد تقدم أنه لا يعتبر بحديثه إذا كان من رواية زبان عنه. ورواه أحمد في مسنده (ج3ص437) وابن عبدالحكم في فتوح مصر. (298) كلاهما من طريق ابن لهيعة عن زبان. وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر أحاديثهم الشوكاني في النيل (ج3ص128) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص178- 179) مع الكلام عليها وفي أكثرها ضعف. وأقوى ما ورد في ذلك حديث عبدالله بن بسر قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال له رسول

(8/401)


الله - صلى الله عليه وسلم - : اجلس فقد آذيت. أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3ص231) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وصححه ابن خزيمة وغيرهم.
1406- قوله: (نهى عن الحبوة) مثلثة الحاء، اسم من الاحتباء. قال القاضي عياض في المشارق (ج1ص176- 177): الاحتباء هو أن ينصب الرجل ساقيه ويدير عليهما ثوبه، أو يعقد يديه على ركبتيه متعمدا على ذلك-انتهى. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: الحبوة بضم الحاء وكسرها الاسم من الاحتباء، وهو أن يجمع الرجل ظهره وساقيه بثوب وقد يحتبى بيديه. ووجدت الرواية بكسر الحاء، والحبوة بالفتح المرة من الاحتباء، ولا معنى لها ههنا ووجه النهي-والله اعلم- هو أنها مجلبة للنوم فيلهى عن الخطبة، ثم أنها هيئة
يوم الجمعة والإمام يخطب)).

(8/402)


لا يكون معها تمكن، فربما تفضي إلى انتفاض الطهارة فيمنعه الاشتغال بالطهارة عن استماع الخطبة وحضور الذكر إن لم تفته الصلاة، مع ما يتوقع منه من الافتتان في الصلاة لغلبة الحياء ممن يخلو عن علم يسوسه وورع يحجزه-انتهى. (يوم الجمعة، والإمام يخطب) قال القاري: هو قيد احترازي، والأول واقعي اتفاقي أو تأكيدي-انتهى. وقال الشوكاني: وقد ورد النهي عن الاحتباء مطلقا غير مقيد بحال الخطبة ولا بيوم الجمعة؛ لأنه مظنة؛ لأنكشاف عورة من كان عليه ثوب واحد. وقد اختلف أهل العلم في كراهة الاحتباء يوم الجمعة، فقال بالكراهة قوم من أهل العلم، كما قال الترمذي، منهم عبادة بن نسي التابعي. قال العراقي:وورد عن مكحول وعطاء والحسن أنهم كانوا يكرهون أن يحتبوا، والإمام يخطب يوم الجمعة. رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: ولكنه قد اختلف عن الثلاثة، فنقل عنهم القول بالكراهة، ونقل عنهم عدمها. واستدل من قال بالكراهة بحديث معاذ بن أنس، وبحديث عبدالله بن عمرو بن العاص عند ابن ماجه، وفي سنده بقية بن الوليد، وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة عن شيخه عبدالله بن واقد. قال العراقي: لعله من شيوخه المجهولين. وقال الحافظ في التقريب: عبدالله بن واقد شيخ لبقية مجهول، يحتمل أن يكون الهروي يعني عبدالله بن واقد بن الحارث الحنفي الهروي، وهو ثقة موصوف بخصال من الخير، وبحديث جابر عند ابن عدي في الكامل، وفي إسناده عبدالله بن ميمون القداح، وهو ذاهب الحديث كما قال البخاري. وقال الشوكاني: وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا. وذهب أكثر أهل العلم- كما قال العراقي-إلى عدم الكراهة، فروى أبوداود والطحاوي والبيهقي (ج3ص235) عن يعلى بن شداد قال: شهدت مع معاوية فتح بيت المقدس فجمع بنا، فإذا جل من في المسجد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأيتهم محتبين والإمام يخطب. روى الطحاوي وابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يحتبى يوم الجمعة والإمام يخطب. وذكر أبوداود

(8/403)


عن أنس بن مالك وشريح القاضي وصعصعة بن صوحان التابعي المخضرم وابن المسيب والنخعي ومكحول وإسماعيل بن محمد بن سعد ونعيم بن سلامة أنهم كانوا يحتبون والإمام يخطب، قال أبوداود ولم يبلغني أن أحدا كرهها إلا عبادة ابن نسي. وقال ابن عبدالبر: ولم يرو عن أحد من الصحابة خلافه، ولا روي عن أحد من التابعين كراهة الاحتباء إلا وقد روى عنه جوازه-انتهى. قلت: وإلى عدم الكراهة ذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، واعتذر هؤلاء عن أحاديث الباب بوجوه: منها أنها كلها ضعيفة. وفيه أن حديث معاذ قد حسنه الترمذي وسكت عليه أبوداود، وصححه الحاكم، وله شاهدان ضعيفان من حديث عبدالله بن عمرو وحديث جابر، كما تقدم. ومنها أنها منسوخة لعمل جل الصحابة بخلافها، وإليه يشير صنيع أبي داود حيث روى حديث يعلى المتقدم بعد حديث معاذ بن أنس، وذكر عن ابن عمر وغيره أنهم كانوا يحتبون يوم الجمعة، والإمام يخطب إلى آخر ما قال. وذكر
رواه الترمذي، وأبوداود.
1407-(15) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا نعس أحدكم يوم الجمعة، فليتحول

(8/404)


الطحاوي في مشكل الآثار: أن النهي محمول على إحداث الحبوة واستينافها في حالة الخطبة؛ لأنه عمل في الخطبة واشتغال بغير الخطبة وإقبال على ما سواها. وأما الحبوة التي كان الصحابة يفعلونها فكانت قبل الخطبة، أي ما كانوا يستأنفونها وإمامهم يخطب، بل كانوا يستعملونها قبل الخطبة. وقيل: النهي مختص بمن يجلب الاحتباء النوم له. وقال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر الجواب الأول: أحاديث الباب، وإن كان ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضا ولا شك في أن الحبوة جالبة لنوم، فالأولى أن يحترز عنها يوم الجمعة في حال الخطبة. هذا ما عندي والله أعلم بالصواب. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج1ص289) والبيهقي (ج3ص235) وابن عبدالحكم في فتوح مصر (ص297) كلهم من طريق أبي مرحوم عبدالرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس عن معاذ. والحديث قد حسنه الترمذي وسكت عليه أبوداود وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي: وسهل بن معاذ ضعفه يحيى بن معين وتكلم فيه غيره، وأبومرحوم ضعفه ابن معين. وقال أبوحاتم الرازي: لا يحتج به-انتهى. قلت: قد تقدم أن سهل بن معاذ لا بأس به إلا في روايات زبان عنه، وهذا ليس من رواية زبان عنه، وأبومرحوم قد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال النسائي: أرجو أنه لا بأس به. وقال ابن يونس: زاهد يعرف بالإجابة والفضل، فالظاهر أن الحديث لا ينحط عن درجة الحسن، لا سيما وقد تأيد بالشاهدين المذكورين.

(8/405)


1407- قوله: (إذا نعس) بفتح العين من باب نصر ومنع، والنعاس الوسن وأول النوم، وهي ريح لطيفة تأتي من قبل الدماغ تغطي على العين ولا تصل إلى القلب، فإذا وصله كان نوما. (أحدكم) في مجلسه. (يوم الجمعة) أي وهو في المسجد، كما في رواية أبي داود وأحمد (ج2ص32). قال الشوكاني: لم يرد بيوم الجمعة جميع اليوم، بل المراد به إذا كان في المسجد ينتظر صلاة الجمعة، كما في رواية أحمد في مسنده (ج2ص32) بلفظ: إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة، وسواء فيه حال الخطبة أو قبلها، لكن حال الخطبة أكثر-انتهى. وقد استثنى الحنفية حال الخطبة، فقالوا: التحول في حالة الخطبة ممنوع؛ لأن العمل في الخطبة منهي عنه. فلا يدخل وقت الخطبة في عموم الحديث. قلت: ظاهر الحديث الإطلاق، ولذلك بوب عليه أبوداود باب الرجل ينعس والإمام يخطب. (فليتحول) أي فليتنقل؛ لأنه إذا تحول حصل له من الحركة ما ينفي الفتور المقتضي للنوم. قيل: فإن لم يجد
من مجلسه ذلك)). رواه الترمذي.
?الفصل الثالث?
1408-(16) عن نافع، قال: سمعت ابن عمر يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل الرجل من مقعده ويجلس فيه.

(8/406)


في الصفوف مكانا يتحول إليه فليقم ثم يجلس. وقيل: يتحول إلى مكان صاحبه ويتحول صاحبه إلى مكانه. (من مجلسه ذلك) أي إلى غيره، كما في رواية أحمد وأبي داود. قال الشوكاني: والحكمة في الأمر بالتحول أن الحركة تذهب النعاس. ويحتمل أن الحكمة فيه انتقاله من المكان الذي أصابته فيه الغفلة بنومه وإن كان النائم لا حرج عليه، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة نومهم عن صلاة الصبح في الوادي بالانتقال منه، وأيضا من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، فربما كان الأمر بالتحول لإذهاب ما هو منسوب إلى الشيطان من حيث غفلة الجالس في المسجد عن الذكر أو سماع الخطبة أو ما فيه منفعة. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أحمد (ج2ص22، 32، 135) وأبوداود وابن حبان في صحيحه، والبيهقي (ج3ص237). وقد صححه الترمذي وسكت عليه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وفي إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلس، لكن قدر صرح بالتحدث في رواية أحمد (ج2ص135) وفي الباب عن سمرة عند البزار والطبراني في الكبير والبيهقي (ج3ص238) مرفوعا بلفظ: إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحول إلى مكان صاحبه، ويتحول صاحبه إلى مكانه. قيل لإسماعيل. (راوي الحديث عن الحسن عن سمرة) والإمام يخطب، قال: نعم-انتهى. قال الهيثمي: وفيه إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف. وقال البزار: إسماعيل لا يتابع على حديثه-انتهى. وفي سماع الحسن عن سمرة خلاف قد تقدم.

(8/407)


1408- قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم الرجل الرجل) أي نهى عن إقامة الرجل الرجل، فإن مصدرية. (من مقعده) بفتح الميم أي من موضع قعود الرجل الثاني. (ويجلس فيه) أي في مقعده النصب عطفا على يقيم، أي وأن يجلس. والمعنى أن كل واحد منهما منهي عنه. ولو صحت الرواية بالرفع لكان الكل المجموعي منهيا عنه. وظاهر النهي التحريم فلا يصرف عنه إلا بدليل، فلا يجوز أن يقيم أحدا من مكانه ويجلس فيه؛ لأن من سبق إلى مباح فهو أحق به. قال ابن حجر: قوله "يجلس" بالنصب عطف على يقيم، فكل منهي عنه على حدته، وروي بالرفع فالجملة حالية، والنهي عن الجمع حتى لو أقامه ولم يقعد هو في مكانه لم يرتكب النهي. والوجه هو الرواية الأولى وما أفادته، لأن العلة الإيذاء، وهو حاصل بكل على الإنفراد فحرم؛ لأن ما سبق إلى المباح فهو
قيل لنافع: في الجمعة؟ قال: في الجمعة وغيرها)). متفق عليه.
1409-(17) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحضر الجمعة ثلاثة نفر: فرجل حضرها بلغو، فذلك حظه

(8/408)


أحق به بنص الحديث الصحيح-انتهى. قلت: محط الإيذاء إنما هو الإقامة منه، وذكر الجلوس للسبب العادي، ولو قام الجالس باختياره وأجلس غيره فلا كراهة في جلوس غيره. وأما ما روى أحمد ومسلم من امتناع ابن عمر عن الجلوس في مجلس من قام له برضاه فهو محمول على أنه كان تورعا منه؛ لأنه ربما استحيا منه إنسان فقام له بدون طيبة من نفسه لكن الظاهر أن من فعل ذلك فقد أسقط حق نفسه، وتجويز عدم طيبة نفسه بذلك خلاف الظاهر. ولو بعث من يقعد له في مكان ليقوم عنه إذا جاء هو جاز أيضا من غير كراهة. ولو فرش له نحو سجادة فلغيره تنحيتها، والصلاة مكانها؛ لأنه لا حرمة لها، ولأن السبق بالأجسام لا بما يفرش. وقيل: لا يجوز لأنه سبق إليه فصار كحجر الموات. (قيل لنافع) هو مولى ابن عمر راوي الحديث عن ابن عمر، والقائل لنافع هو ابن جريج. (في الجمعة) أي هذا النهي في الجمعة خاصة أو مطلقا. (قال) أي نافع. (في الجمعة وغيرها) يعني النهي عام في حق سائر الأيام في مواضع الصلوات، وقد ورد التقييد بيوم الجمعة في حديث جابر آخر أحاديث الفصل الأول، وتقدم الكلام عليه هناك، وقد بوب البخاري على حديث ابن عمر المطلق "باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد في مكانه". قال الحافظ: وكأن البخاري اغتنى عنه. (أي عن حديث جابر المقيد بيوم الجمعة) بعموم حديث ابن عمر المذكور في الباب. وبالعموم المذكور احتج نافع حين نافع حين سأله ابن جريج عن الجمعة-انتهى. وبالنظر إلى عمومه أورده المصنف في الجمعة، واستدل به على التبكير، كما تقدم بيان وجه المناسبة في شرح حديث جابر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجمعة والاستيذان، ومسلم في الاستيذان، وأخرجه أيضا أحمد في مواضع من مسنده، والبيهقي (ج3ص232).

(8/409)


1409- قوله: (ثلاثة نفر) يعني ثلاثة أصناف من الرجال. (فرجل) الفاء تفصيلية؛ لأن التقسيم حاصر، فإن حاضري الجمعة ثلاثة: فمن رجل لاغ مؤز يتخطى رقاب الناس، فحظه من الحضور اللغو والأذى، ومن ثان طالب حظه غير مؤذ، فليس عليه ولا له إلا أن يتفضل الله بكرمه، فيسعف مطلوبة، ومن ثالث طالب رضا الله عنه. متحر احترام الخلق فهو هو، ذكره الطيبي. (حضرها بلغو) بباء الجر في أوله، أي حضورا متلبسا بكلام عبث أو فعل باطل حال الخطبة. وفي بعض النسخ: يلغو على المضارع، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10ص265) وهكذا وقع في رواية أحمد، وفي بعض النسخ من السنن الكبرى للبيهقي. وعلى هذا فيكون حالا من الفاعل، أي يعبث ويتكلم بما لا يعينه. (فذلك) أي للغو. وفي أبي داود: وهو. (حظه) أي
منها.ورجل حضرها بدعاء، فهو رجل دعا الله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه. ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدا، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله يقول: ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها? رواه أبوداود.
1410-(18) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار

(8/410)


حظ ذلك الرجل. (منها) أي من الجمعة، أي ليس له نصيب من صلاة الجمعة وخطبتها وإن سقطت الفريضة عنه. وقال ابن حجر: أي لا حظ له كامل؛ لأن اللغو يمنع كمال ثواب الجمعة. ويجوز أن يراد باللغو ما يشمل التخطي والإيذاء بدليل نفيه عن الثالث أي فذلك الأذى حظه. (ورجل حضرها بدعاء) أي مشتغلا به حال الخطبة حتى منعه ذلك من أصل سماعه أو كماله أخذا من قوله: "في الثالث" بإنصات وسكوت. وفي أبي داود: يدعو بلفظ المضارع. (إن شاء أعطاه) أي مدعاة لسعة حلمه وكرمه. (وإن شاء منعه) عقابا على ما أساء به من اشتغاله بالدعاء عن سماع الخطبة، فإنه مكروه عندنا حرام عند غيرنا، قاله ابن حجر. (ورجل حضرها بإنصات) أي مقترنا باستماع للخطبة. (وسكوت) عن اللغو. وقيل: هما بمعنى، وجمع بينهما للتأكيد ومحله إذا سمع الخطبة. (ولم يؤذ أحدا) أي بنوع آخر من الأذى كالإقامة من مكانه أو القعود على سجادته بغير رضاه. (فهي) أي جمعته الشاملة للخطبة والصلاة والأوصاف المذكورة. (كفارة) أي له، قاله الطيبي. يعني لذنوبه من حين انصرافه. (إلى الجمعة التي) أي إلى مثل تلك الساعة من الجمعة التي (تليها) أي تقربها. وهي التي قبلها على ما ورد منصوصا. (وزيادة ثلاثة أيام) بالجر عطف على الجمعة. (وذلك) أي ما ذكر من كفارة ما بين الجمعتين من السبعة وزيادة ثلاثة أيام. (رواه أبوداود) وسكت عليه. وقال العراقي: إسناده جيد. وأخرجه أيضا أحمد (ج2ص181، 214) وابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي (ج3ص219) وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(8/411)


1410- قوله: (من تكلم) ظاهره المنع من جميع أنواع الكلام من غير فرق بين ما لا فائدة فيه وغيره لإطلاق الكلام فيه. ويؤيده أنه إذا جعل قوله: أنصت مع كونه أمرا بمعروف لغوا، كما تقدم، ومحبطا لفضيلة الصلاة فغيره من الكلام أولى بأن يسمى لغوا. وقد ذهب إلى تحريم كل كلام الجمهور، ولكن قيد ذلك بعضهم بالسامع للخطبة، والأكثر لم يقيدوا. قالوا: وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة. (والإمام يخطب) أي والمتكلم يعلم كراهة الكلام أو حرمته، وهذا لأجل قوله. (فهو كمثل الحمار) أي صفته كصفة أو مثله
يحمل أسفارا، والذي يقول له: أنصت، ليس له جمعة)). رواه أحمد.
1411-(19) وعن عبيد بن السباق مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعة من الجمع: ((يا معشر المسلمين!

(8/412)


الغريب الشأن كمثل الحمار. (يحمل) صفة أو حال. (أسفارا) جمع سفر بالكسر أي كتبا كبارا من كتب العلم، كناية عن العلم بلا عمل، وعن عدم نفع علمه مع تحمل التعب والمشقة في تحصيله. وقيل: إنما شبه من لم يمسك عن الكلام في حال الخطبة بالحمار الحامل للأسفار؛ لأنه فاته الانتفاع بأبلغ نافع، وقد تكلف المشقة وأتعب نفسه في حضور الجمعة، والمشبه به كذلك فاته الانتفاع فأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه، والحاصل أنه شبهه بالحمار يجامع عدم الانتفاع. وقال الطيبي: شبه المتكلم العارف بأن التكلم حرام؛ لأن الخطبتين قائمة مقام الركعتين بالحمار الذي حمل أسفارا من الحكمة، وهو يمشي ولا يدري ما عليه. (والذي يقول) أي بالعبارة لا بالإشارة. (له) أي لهذا المشبه بالحمار. (أنصت) أي استمع. (ليس له جمعة) فيه دليل على أنه لا صلاة له، فإن المراد بالجمعة الصلاة، إلا أنها تجزئة إجماعا، فلا بد من تأويل هذا بأنه نفي للفضيلة التي يحوزها من أنصت، وهو كما في حديث عبدلله بن عمرو: من لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا. قال ابن وهب أحد رواته: معناه أجزأته الصلاة وحرم فضيلة الجمعة. قال النووي: لا تبطل الجمعة بالكلام بلا خلاف وإن قلنا بحرمته. وخبر "فلا جمعة له" أي كاملة، يعني ن المراد بنفيها نفي كمال ثوابها لا نفي أصله. وقد احتج بالحديث على حرمة الكلام حال الخطبة، فإن تشبيهه بالمشبه به المستنكر، وملاحظة وجه الشبه يدل على قبح ذلك، وكذلك نسبته إلى فوات الفضيلة الحاصلة بالجمعة، ما ذاك إلا لما يلحق المتكلم من الوزر الذي يقاوم الفضيلة فيصير محبطا لها. (رواه أحمد) (ج1ص230) وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة في المصنف، والبزار في مسنده، والطبراني في الكبير، وفي إسناده مجالد بن سعيد، وقد ضعفه الناس، ووثقه النسائي في رواية، كذا في مجمع الزوائد (ج2ص184). قلت: وقال محمد بن المثنى: يحتمل حديثه لصدقه. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال البخاري:

(8/413)


صدوق. وقال يعقوب بن سفيان: تكلم الناس فيه، وهو صدوق، ولذلك قال الحافظ في بلوغ المرام: لا بأس بإسناده، وله شاهد قوي في جامع حماد. وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده حسن.
1411- قوله: (وعن عبيد) بضم العين بلا إضافة. (بن السباق) بفتح السين المهملة وتشديد الباء الموحدة الثقفي المدني، يكنى أبا سعيد، من ثقات الطبقة الوسطى من التابعين، روى له الستة، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة. (مرسلا) أي بحذف الصحابي ورواه ابن ماجه موصولا، كما سيأتي. (من الجمع) بضم الجيم وفتح الميم، جمع جمعة، وقد تجمع على جمعات. (يا معشر المسلمين) وفي بعض نسخ الموطأ: يا معاشر المسلمين
إن هذا يوم جعله الله عيدا فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك)). رواه مالك.
1412-(20) ورواه ابن ماجه عنه، وهو عن ابن عباس متصلا.

(8/414)


وهكذا وقع في رواية البيهقي. قال النووي: المعشر الطائفة التي يشملهم وصف، فالشباب معشر، والشيوخ معشر، والنساء معشر، والأنبياء معشر، وما أشبهها. (إن هذا يوم جعله الله عيدا) أي للمسلمين خاصة، ففي رواية ابن ماجه: إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين. (فاغتسلوا) فإن التنظيف والتجمل في الأعياد مطلوب ومندوب. وظاهر لفظ الموطأ أن الاغتسال لا يختص بمن يشهد الجمعة. ولفظ ابن ماجه: فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل، يشير إلى أنه يختص بمن يحضرها. واختلف في أن الغسل لصلاة الجمعة أو ليومها، فذهب محمد وداود، وهي رواية عن أبي يوسف، أنه لليوم، فيشمل الصبيان والنساء والرجال والعبيد، ولا يختص بمن يشهد الصلاة. وذهب الجمهور إلى أنه للصلاة لا لليوم، فيختص بمن يحضر صلاة الجمعة. والظاهر أن ههنا اغتسالان: أحدهما لليوم، والثاني للصلاة. وقد ورد في كليهما الأحاديث، والأول مندوب، والثاني مؤكد بل واجب، فمن اغتسل قبل الجمعة حصل له فضل الغسلين، ومن اغتسل بعد الجمعة حصل له فضل غسل اليوم، ولم يحصل فضل غسل الصلاة الذي اختلف العلماء في أنه سنة مؤكدة أو واجب. (ومن كان عنده طيب) ولو من طيب امرأته. وقيل: أي من طيب الرجال، وهو ما ليس له لون وله رائحة. (فلا يضره أن يمس منه) قال الطيبي: فإن قيل: هذا إنما يقال فيما فيه مظنة ضرر وحرج، ومس الطيب، ولا سيما يوم الجمعة، سنة مؤكدة فما معناه؟ قلت: لعل رجالا من المسلمين توهموا أن مس الطيب من عادة النساء، فنفي الحرج عنهم، كما هو الوجه في قوله: ?فلا جناح عليه أن يطوف بهما? [2: 158) مع أن السعي واجب أو ركن-انتهى. قال الزرقاني: عبره على شأن معنى الندب والترغيب، فهو بمنزله التصريح بأنه غير واجب، وأوجبه أبوهريرة، فإن لم يحمل على إيجاب سنة وندب فالجمهور على خلافه-انتهى. ولفظ ابن ماجه: وإن كان طيب فليمس منه. (وعليكم بالسواك) أي الزموه لتأكد استحبابه يوم الجمعة، خصوصا عند الوضوء والغسل

(8/415)


تكميلا للطهارة والنظافة. (رواه مالك) عن ابن شهاب الزهري عن عبيد بن السباق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ.
1412- قوله: (ورواه ابن ماجه) بسنده. (عنه) أي عن ابن السباق. (وهو) أي عبيد. (عن ابن عباس متصلا) رواية ابن ماجه هذه تخالف لما روى البخاري في صحيحه من طريق شعيب عن الزهري، قال طاووس: قلت لابن عباس: ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤسكم وإن لم تكونوا جنبا، وأصيبوا من الطيب. قال ابن عباس: أما الغسل فنعم. وأما الطيب فلا أدري. وفي رواية: قال: لا أعلمه.
1413-(21) وعن البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حقا على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة، وليس أحدهم من طيب أهله، فإن لم يجد فالماء له طيب)). رواه أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث حسن.
(45) باب الخطبة والصلاة
وأجيب بأن في سنده عند ابن ماجه صالح بن أبي الأخضر الذي روى عن الزهري عن عبيد، وصالح ضعيف، وقد خالفه مالك فرواه عن الزهري عن عبيد مرسلا. قال الحافظ: فإن كان صالح حفظ فيه ابن عباس احتمل أن يكون ذكره بعد ما نسيه أو عكس ذلك-انتهى. ورواه البيهقي (ج3ص243) من طريق الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن ابن السباق مرسلا، ثم قال: هذا هو الصحيح مرسل، وقد روي موصولا ولا يصح وصله-انتهى. وروى نحوه الطبراني في الأوسط والصغير من حديث أبي هريرة مرفوعا، لكن ليس فيه ذكر الطيب. قال الهيثمي (ج2ص172- 173) رجاله ثقات.

(8/416)


1413- قوله: (حقا) بالنصب قال الطيبي: "حقا" مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه اختصارا. (أن يغتسلوا) فاعل حق المقدر. (يوم الجمعة) ظرف للاغتسال. (وليمس) بكسر اللام، ويسكن. قال الطيبي: عطف على ما سبق بحسب المعنى، إذ فيه سمة الأمر، أي ليغتسلوا أو ليمس. (من طيب أهله) أي بشرط أهله لقوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس أو من طيب له عند أهله. (فإن لم يجد) أي طيبا. (فالماء له طيب) قال العراقي: المشهور في الرواية بكسر الطاء وسكون المثناة من تحت، أي أنه يقوم مقام الطيب، قال الطيبي: أي عليه أن يجمع بين الماء والطيب، فإن تعذر الطيب فالماء كاف؛ لأن المقصود التنظيف وإزالة الرائحة الكريهة. وفيه تطيب لخاطر المساكين-انتهى. (رواه أحمد) (ج4ص282، 283). (والترمذي، وقال: هذا حديث حسن) قال شيخنا في شرح الترمذي في كونه حسنا كلام فإن مداره على يزيد بن أبي زياد الهاشمي الكوفي، وقد ضعفه جماعة. قال الذهبي في الميزان: قال يحيى: ليس بالقوي، وقال أيضا لا يحتج به. وقال ابن المبارك. ارم به. وقال شعبة: كان يزيد بن أبي زياد رفاعا. وقال أحمد: حديثه ليس بذلك، وخرج له مسلم مقرونا بآخر. وقال الحافظ في التقريب: إنه كبر فتغير، وصار يتلقن-انتهى.
(باب الخطبة والصلاة) أي خطبة الجمعة وصلاتها وما يتعلق بصفاتهما وكمالاتهما وبيان أوقاتهما. والخطبة بالضم مصدر خطب يخطب خطابه وخطبة أي وعظ. ويطلق على الكلام الذي يخطب به، وهو الكلام
?الفصل الأول?
1414-(1) عن أنس، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس)).

(8/417)


المنثور المسجع ونحوه، كذا في القاموس. وفي عرف الشرع عبارة عن كلام يشتمل على الذكر والتشهد والصلاة والوعظ. واختلف هل هي شرط صحة صلاة الجمعة، وركن من أركانها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنها شرط وركن. وقال أقوام: إنها ليست بفرض، وجمهور أصحاب مالك على أنها فرض إلا ابن الماجشون، ذكره ابن رشد. قلت: ذهب داود الظاهري وابن حزم والحسن البصري والجويني إلى أن خطبة الجمعة ليست فرضا، بل هي مندوبة، وهو الظاهر؛ لأنه لم ينتهض دليل على إيجابها لا من كتاب ولا من سنة. وأما قوله تعالى: ?فاسعوا إلى ذكر الله? [62: 9] فليس فيه حجة على ذلك؛ لأن المراد بالذكر المأمور بالسعي إليه هو الصلاة. غاية الأمر أنه متردد بينها وبين الخطبة، وقد وقع الاتفاق على وجوب الصلاة، والنزاع في وجوب الخطبة، فلا ينتهض هذا الدليل للوجوب. قال ابن حزم: قد أقدم بعضهم فقال إن قول الله تعالى: ?فاسعوا إلى ذكر الله? إنما مراده إلى الخطبة، وجعل هذا حجة في إيجاب فرضها. قال ابن حزم: من لهذا المقدم؟ إن الله تعالى أراد بالذكر المذكور فيها الخطبة، بل أول الآية وآخرها يكذبان ظنه الفاسد؛ لأن الله تعالى إنما قال: ?إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله?، ثم قال عزوجل: ?فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض، وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا? فصح أن الله تعالى إنما افترض السعي إلى الصلاة إذا نودي لها، وأمر إذا قضيت بالانتشار، وذكره كثيرا، فصح يقينا أن الذكر المأمور بالسعي له هو الصلاة، وذكر الله تعالى فيها بالتكبير والتسميع والتمجيد والقراءة والتشهد لا غير ذلك، فإن قالوا: لم يصلها عليه السلام قط إلا بخطبة. قلنا: ولا صلاها عليه السلام قط إلا بخطبتين قائما يجلس بينهما، فاجعلوا كل ذلك فرضا لا تصح الجمعة إلا به، ولا صلى عليه السلام قط إلا رفع يديه في التكبيرة الأولى، فأبطلوا الصلاة بترك ذلك-انتهى.

(8/418)


1414- قوله: (حين تميل الشمس) أي تزول عن كبد السماء وعن استوائها، يعني بعد تحقق الزوال. قال الحافظ: في التعبير بـ"كان" إشعار بمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس-انتهى. وفيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن أول وقت الجمعة إذا زالت الشمس كوقت الظهر، وأنها لا تصلى إلا بعد الزوال. ويدل له أيضا ما رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء. قال النووي: قال مالك وأبوحنيفة والشافعي وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم: لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس، ولم يخالف في هذا إلا أحمد بن حنبل وإسحاق، فجوزاها قبل الزوال.
رواه البخاري.
1415-(2) وعن سهل بن سعد، قال: ((ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة)).
وروي في هذا أشياء عن الصحابة لا يصح منها شيء إلا ما عليه الجمهور-انتهى. واستدل لأحمد ومن وافقه بحديث سهل بن سعد الآتي، وسنذكر وجه الاستدلال مع الجواب عنه، ثم إنه اختلف أصحاب أحمد، فقال بعضهم: وقتها وقت صلاة العيد، فتجوز في أول النهار. وقال الخرقي: وإن صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة أجزأتهم. وظاهره أنه لا يجوز صلاتها فيما قبل الساعة السادسة، وهو الذي صححه ورجحه ابن قدامة في المغني (ج2ص357). والأولى والأفضل عندهم أن لا تصلى إلا بعد الزوال ليخرج من الخلاف، ويفعلها في الوقت الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعلها فيه في أكثر أوقاته. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3ص190).

(8/419)


1415- قوله: (ما كنا نقيل) بفتح النون، من قال يقيل قيلولة فهو قائل. قال في النهاية: المقيل والقيلولة الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم. (ولا نتغدى) بالغين المعجمة والدال المهملة من الغداء، وهو الطعام الذي يوكل أول النهار. زاد في رواية أحمد ومسلم والترمذي: في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (إلا بعد الجمعة) أي بعد فراغ صلاتها. وفي رواية للبخاري: كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم تكون القائلة. واستدل به لأحمد على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن الغداء والقيلولة محلهما قبل الزوال، وحكي عن ابن قتيبة أنه قال لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال. وأجيب عنه بأنه لا دلالة فيه على أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال، بل فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء والقائلة بالتهيؤ للجمعة ثم بالصلاة، ثم ينصرفون فيقيلون ويتغدون، فيكون قائلتهم وغداءهم بعد الجمعة عوضا عما فاتهم في وقته من أجل بكورهم. والحاصل أن قائلتهم وغداءهم بعد الجمعة لما كانا قائمين مقام القيلولة والغداء، أطلق عليهما ذلك مجازا، وهذا كما أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السحور اسم الغداء فقال لعرباض ابن سارية: هلم إلى الغداء المبارك. أخرجه أبوداود والنسائي، فكما أنه لا يصح الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم - هذا على جواز السحور وقت الغداء أي بعد طلوع الفجر إلى الزوال، كذلك لا يصح الاستدلال بلفظ القيلولة والتغدي على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال. وبالجملة حمل الجمهور حديث سهل على التبكير، وأنهم كانوا يشتغلون أول النهار بآلة الجمعة، فيؤخرون الغداء والقيلولة عن وقتهما. والحاصل أن ما كان غداء في غير يوم الجمعة يكون بعد صلاة الجمعة، فلا يبقى فيه غداء، وكذا القيلولة. وقال الأمير اليماني: ليس في حديث سهل دليل على الصلاة قبل الزوال؛ لأنهم في المدينة ومكة لا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد صلاة الظهر، كما

(8/420)


قال تعالى: ?وحين تضعون ثيابكم
من الظهيرة? [24: 58] نعم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسارع بصلاة الجمعة في أول وقت الزوال بخلاف الظهر، فقد كان يؤخره بعده حتى يجتمع الناس-انتهى. واستدل لأحمد أيضا بحديث سلمة: كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به. وفي رواية: وما نجد فيئا نستظل به. وجه الاستدلال أنه قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب خطبتين، ويجلس بينهما، ويقرأ القرآن في الخطبة مثل سورة ?ق? و?تبارك?، ويذكر الناس، ويقرأ في صلاتها بسورة ?الجمعة? و?المنافقين?، ولو كانت خطبته وصلاته بعد الزوال لما انصرف منها إلا وقد صار للحيطان ظل يستظل به. وأجيب عنه بأن خطبته - صلى الله عليه وسلم - وصلاته كانتا قصدا، فلا يزيد شغله في الخطبة والصلاة على الساعة الواحدة العرفية، ومع مضى الساعة الواحدة لا يمكن أن يكون لجدران المدينة فيء يستظل به لقصر جدرانها، إذ ذاك قال الشوكاني: المراد نفي الظل الذي يستظل به لا نفي أصل الظل، كما هو الأكثر الأغلب من توجه النفي إلى القيود الزائدة. ويدل على ذلك قوله: "ثم نرجع نتبع الفيء" وإنما كان كذلك؛ لأن الجدران كانت في ذلك العصر قصيرة لا يستظل بظلها إلا بعد توسط الوقت، فلا دلالة في ذلك على أنهم كانوا يصلون قبل الزوال-انتهى. واستدل له أيضا بحديث أنس قال: كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة، أخرجه البخاري. قال الحافظ: ظاهره أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار، لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض، وقد تقرر فيما تقدم أن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره، وهو المراد هنا. والمعنى أنهم كانوا يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر، فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإبراد، واستدل له أيضا بحديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة

(8/421)


ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس، أخرجه أحمد ومسلم والنسائي. قيل: المتبادر منه أن صلاتهم كانت قبل الزوال؛ لأنه قد صرح بأن إراحتهم لنواضحهم بعد الجمعة كانت عند الزوال. وتعقب بأن قوله: "حين تزول الشمس" يحتمل أن يكون متعلقا بقوله: "يصلي" فلا يتم الاستدلال به. واستدل له أيضا بما روى عبدالله بن أحمد في زيادات المسند، والدارقطني وأبونعيم في كتاب لصلاة، وابن أبي شيبة من رواية عبدالله بن سيدان قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زال النهار، فما رأيت أحدا عاب ولا أنكره. وأجيب عنه بأن عبدالله بن سيدان بسين مهملة مكسورة بعدها تحتية ساكنة. قيل: سندان بالنون بعد السين المطرودي السلمي غير معروف العدالة. قال ابن عدي: شبه المجهول، وقال
متفق عليه.
1416- (3) وعن أنس، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا
اشتد الحر أبرد بالصلاة، يعني الجمعة))
البخاري: لا يتابع على حديثه. وقال اللالكائي: مجهول لا خير فيه. وقال النووي في الخلاصة: اتفقوا على ضعف ابن سندان- انتهى. بل قد عارضه ما هو أقوى منه، فروى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس. قال الحافظ: إسناده قوي. وقد ظهر بما ذكرنا أنه ليس في صلاة الجمعة قبل الزوال حديث صحيح صريح. فالقول الراجح هو ما قال به الجمهور. قال شيخنا في شرح الترمذي: والظاهر المعول عليه هو ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس. وأما ما ذهب إليه بعضهم من أنها تجوز قبل الزوال فليس فيه حديث صريح- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص241).

(8/422)


1416- قوله: (إذا اشتد البرد) فيه نوع من المشاكلة. والمراد عدم اشتداد الحر. (بكر) أي تعجل وأسرع. (بالصلاة) أي صلاها في أول وقتها. (أبرد بالصلاة) أي صلاها بعد أن وقع ظل الجدار في الطريق كيلا يتأذى الناس بالشمس. كذا قال بعض الشراح من الحنفية. (يعني الجمعة) يعني أنه ليس الحديث في صلاة الجمعة، وإنما هو في صلاة الظهر إلا أن أنسا لما استدل به على صلاة الجمعة قياسا على الظهر حمله بعض الرواة عليها فقال يعني الجمعة، فليس دليل الإبراد بصلاة الجمعة في شدة الحر إلا القياس لا الحديث. قال الشوكاني: يحتمل أن يكون قوله: "يعني الجمعة" من كلام التابعي أو من دون أخذه قائله مما فهمه من التسوية بين الظهر والجمعة عند أنس حيث استدل لما سئل عن الجمعة بقوله:"كان يصلي الظهر" ويؤيده ما عند الإسماعيلي عن أنس من طريق أخرى، وليس فيه قوله:"يعني الجمعة"- انتهى. والحاصل أن الروايات تدل على أن الإبراد بالجمعة عند أنس إنما هو بالقياس على الظهر لا النص، لكن أكثر الأحاديث تدل على التفرقة في الظهر، وعلى التبكير في الجمعة مطلقا من غير تفصيل. قال الكرماني. قال الفقهاء: ندب الإبراد إلا في الجمعة لشدة الخطر في فواتها، ولأن الناس يبكون إليها، فلا يأذون بالحر. وقال ابن قدامة في المغني (ج2 ص296): ولا فرق في استحباب إقامة الجمعة عقيب الزوال بين الشدة والحر وغيره، فإن الجمعة يجتمع لها الناس، فلو انتظروا الإبراد شق عليهم، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعلها إذا زالت الشمس في الشتاء والصيف على ميقات واحد، وقال في (ج1 ص390): فأما الجمعة فيسن تعجيلها في كل وقت بعد الزوال من غير إبراد؛ لأن سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
رواه البخاري.

(8/423)


1417- (4) وعن السائب بن يزيد، قال: ((كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبي بكر، وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس، زاد النداء الثالث
إذا زالت الشمس، متفق عليه. ولم يبلغنا أنه أخرها، بل كان يعجلها، حتى قال سهل بن سعد: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة، أخرجه البخاري، ولأن السنة التبكير بالسعي إليها ويجتمع الناس لها، فلو أخرها لتأذى الناس بتأخير الجمعة- انتهى. قلت: وقد نحا البخاري إلى مشروعية الإبراد بالجمعة، وإليه ميل الحنفية. والراجح عندنا التعجيل من غير فرق بين الحر والبرد لعدم النص في الإبراد بالجمعة. والله تعالى أعلم. (رواه البخاري) وللحديث قصة وحاصلها أن الحكم بن أبي عقيل الثقفي كان نائبا على البصرة عن ابن عمه الحجاج بن يوسف، وكان الحكم على طريقة ابن عمه في تطويل الخطبة يوم الجمعة حتى يكاد الوقت أن يخرج، فأنكر ذلك على الحكم بعضهم، وسأل الحكم من أنس كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر؟ فأجاب أنس بما ذكر من الحديث. والحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد أيضا، وأخرجه أبويعلى في مسنده مع القصة، والبيهقي (ج3 ص291، 192) معها وبدونها.

(8/424)


1417- قوله: (كان النداء) الذي ذكره الله في القرآن. (أوله) بالرفع بدل من اسم، كان وخبرها "إذا جلس الإمام". وفي رواية لابن خزيمة: كان ابتداء النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة. (إذا جلس الإمام على المنبر) أي قبل الخطبة، وثانيه وهو الإقامة، إذا فرغ من الخطبة ونزل. (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي في زمانه. (وأبي بكر وعمر) يعني في خلافتهما. وفي رواية لابن خزيمة: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة. قال ابن خزيمة: قوله: "أذانين" يريد الأذان والإقامة يعني تغليبا أو لاشتراكهما في الإعلام. (فلما كان عثمان) أي زمن خلافته. قال الطيبي: "كان" تامة أي حصل عهده. وقيل: يصح كونها ناقصة، والخبر محذوف أي خليفة. (وكثر الناس) أي المؤمنون بالمدينة عن أن يسمعوا الأذان عند باب المسجد. (زاد) أي عثمان بعد مضي مدة من خلافته. (النداء الثالث) أول الوقت عند الزوال قبل خروجه وصعوده على المنبر ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت، وإنما سماه ثالثا بالنسبة إلى إحدائه؛ لأنه زيد على النداءين الذين كانا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الشيخين، وهما الأذان بعد صعود الإمام على المنبر قبل قراءة الخطبة، وهو المراد بالنداء الأول والإقامة بعد فراغه من الخطبة عند نزوله، وهو المراد بالنداء الثاني. وفي بعض روايات الحديث: فأمر عثمان بالأذان الأول، وهو الموافق للواقع فعلا؛ لأنه
على الزوراء)).

(8/425)


يبدأ به قبل خروج الإمام. وفي بعض رواياته أيضا تسميته الثاني باعتبار أنه زيد على الأذان الذي كان قبل، وعدم اعتبار الإقامة في العدد؛ لأنها ليست أذانا وإن كانت من النداء للصلاة، والحاصل أنه باعتبار كونه مزيدا يسمى ثالثا، وباعتبار كونه جعل مقدما على الأذان والإقامة يسمى أولا، وبالنظر إلى الأذان الحقيقي دون الإقامة يسمى ثانيا، قال الطيبي: إنما زاد عثمان ذلك لكثرة الناس فرأى هو أن يؤذن المؤذن قبل الوقت. (يعني المعتاد، وهو صعوده على المنبر بعد الزوال) لينتهي الصوت إلى نواحي المدينة، ويجتمع الناس قبل خروج الإمام لئلا يفوت عنهم أوائل الخطبة. (على الزوراء) بفتح الزاي وسكون الواو بعدها راء ممددة موضع بالسوق بالمدينة، قاله البخاري في جامعه الصحيح. وفي رواية ابن خزيمة وابن ماجه: زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء، وزاد في رواية للبخاري وغيره: فثبت الأمر على ذلك. قال الحافظ: والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهاني: أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج، وبالبصرة زياد، وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة. وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار. ويحتمل أنه يريد لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما لم يمكن في زمنه يسمى بدعة لكن منها ما يكون حسنا، ومنها ما يكون بخلاف ذلك، وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب- انتهى كلام الحافظ. وقد ذكر الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص393) هنا كلاما حسنا أحببنا إيراده لعل الله ينفع بها الطالبين، قال: "فائدة" في رواية عند أبي داود في هذا الحديث: كان يؤذن

(8/426)


بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد، فظن العوام بل كثير من أهل العلم أن هذا الأذان يكون أمام الخطيب مواجهة، فجعلوا مقام المؤذن في مواجهة الخطيب. (قريبا من المنبر) على كرسي أو غيره، وصار هذا الأذان تقليدا صرفا لا فائدة له في دعوة الناس إلى الصلاة وإعلامهم حضورها، كما هو الأصل في الأذان والشأن فيه، وحرصوا على ذلك، حتى لينكرون على من يفعل غيره، وإتباع السنة أن يكون على المنارة عند باب المسجد ليكون إعلاما لمن لم يحضر، وحرصوا على إبقاء الأذان قبل خروج الإمام، وقد زالت الحاجة إليه؛ لأن المدينة لم يكن بها (مسجد جامع) إلا المسجد النبوي وكان الناس كلهم يجمعون فيه، وكثروا عن أن يسمعوا الأذان عند باب المسجد، فزاد عثمان الأذان الأول ليعلم من بالسوق ومن حوله حضور الصلاة، أما الآن وقد كثرت المساجد، وبنيت فيها المنارات، وصار الناس يعرفون وقت الصلاة بأذان المؤذن على المنارة فإنا نرى أن يكتفي بهذا الأذان، وأن يكون عند خروج الإمام إتباعا للسنة أو يؤمر المؤذنون
رواه البخاري.
1418- (5) وعن جابر بن سمرة، قال: ((كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان، يجلس بينهما

(8/427)


عند خروج الإمام أن يؤذنوا على أبواب المساجد- انتهى. قلت: إذا وقعت اليوم الحاجة إلى النداء العثماني في بلد كما وقعت بالمدينة في عهد عثمان رضي الله عنه فلا بأس بأن يؤذن على موضع مرتفع كالمنار أو سطح البيت خارج المسجد قبل خروج الإمام كما كان في زمن عثمان رضي الله عنه. وأما بغير الحاجة وعند عدم الضرورة فالاكتفاء بالأذان عند خروج الإمام هو المتعين عندي. وأما كون هذا الأذان أمام الخطيب مواجهة قريبا من المنبر فليس في شيء من السنة، فإن السنة أن يؤذن عند باب المسجد ليحصل فائدة الأذان لا داخل المسجد عند المنبر، والله تعالى أعلم. (رواه البخاري) بألفاظ وأسانيد. وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3ص192، 205).

(8/428)


1418- قوله: (كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان) فيه أن المشروع خطبتان، وقد ذهب إلى وجوبهما الشافعي وأحمد. قال ابن قدامة: يشترط للجمعة خطبتان، وهذا مذهب الشافعي. وقال مالك والأوزاعي وإسحاق وأبوثور وابن المنذر وأصحاب الرأي: يجزيه خطبة واحدة، وقد روى عن أحمد ما يدل عليه، فإنه قال لا تكون الخطبة إلا كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم أو خطبة تامة-انتهى. وقال الشوكاني: قد ذهب إلى وجوبهما العترة الشافعي. وحكى العراقي في شرح الترمذي عن مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المنذر وأحمد بن حنبل في رواية أن الواجب خطبة واحدة، قال: وإليه ذهب جمهور العلماء، ولم يستدل من قال بالوجوب إلا بمجرد الفعل مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"-الحديث. وقد عرفت ألا ذلك ينتهض لإثبات الوجوب، يعني لأن مجرد الفعل لا يفيد الوجوب. وأما قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فهو مع كونه غير صالح للاستدلال به على الوجوب ليس فيه إلا الأمر بإيقاع الصلاة على الصفة التي كان يوقعها عليها، والخطبة ليست بصلاة. (يجلس بينهما) أي بين الخطبتين. وفيه إشارة إلى أن خطبته كانت حالة القيام، وقد ورد ذلك مصرحا عن جابر نفسه، وعن ابن عمر وكعب بن عجرة، كما سيأتي، قال الشوكاني في شرح حديث ابن عمر وجابر: فيه أن القيام حال الخطبة المشروع. قال ابن المنذر: وهو الذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار. واختلف في وجوبه، فذهب مالك والشافعي إلى الوجوب، غير أن مالكا قال: إنه واجب لو تركه أساء، وصحت الجمعة. وقال الشافعي: إنه شرط في صحة الخطبة، وإنه متى خطب قاعدا لغير عذر لم تصح. قال ابن قدامة ويحتمله كلام أحمد. وذهب أبوحنيفة إلى أن القيام سنة وليس بواجب، قال ابن قدامة: قال القاضي: يجزيه الخطبة قاعدا، وقد نص عليه أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة. واستدل الأولون بحديث جابر وابن عمر وبغيرهما من الأحاديث الصحيحة: قال الشوكاني:

(8/429)


يقرأ القرآن، ويذكر الناس،
لاشك أن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين هو القيام حال الخطبة، ولكن الفعل بمجرده لا يفيد الوجوب. وفي الحديث مشروعية الجلوس بين الخطبتين. واختلف في وجوبه، فذهب الشافعي إلى أنه فرض، وشرط لصحة الخطبة. وذهب الجمهور مالك وأحمد وأبوحنيفة إلى أنه غير واجب. استدل من أوجب ذلك بفعله صلى الله عليه وسلم، وقوله: "صلوا كما رأيتموني"، وقد تقدم الجواب عن مثل هذا الاستدلال. قال ابن المنذر: لم أجد للشافعي دليلا، والفعل، وإن اقتضى الوجوب عند الشافعي، لا يدل على بطلان الجمعة بتركه، وأي فرق بين الجلوس قبلهما وبينهما، مع أن كلا منهما ثابت عنه عليه الصلاة والسلام. قال جمع من الشافعية وهو كما قال، والعجب إيجاب هذا دون الاستقبال، قاله القاري. (يقرأ القرآن) تفسير الخطبة. وقال القاضي: هو صفة ثانية للخطبتين. والراجح محذوف، والتقدير يقرأ فيهما. وقوله: (ويذكر الناس) عطف عليه داخل في حكمه-انتهى. والتذكير هو الوعظ والنصيحة، وذكر ما يوجب الخوف والرجاء من الترهيب والترغيب. واستدل به على مشروعية القراءة والوعظ في الخطبة، ولا خلاف فيه وإنما الخلاف في الوجوب، فذهب الشافعي إلى أنه يشترط في الخطبة الوعظ والقراءة، قال النووي: قال الشافعي: لا تصح الخطبتان إلا بحمد الله تعالى والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما والوعظ، وهذه الثلاثة واجبات في الخطبتين، وتجب قراءة آية من القرآن في إحداهما على الأصح، ويجب الدعاء للمؤمنين في الثانية على الأصح. وقال مالك وأبوحنيفة والجمهور: يكفي من الخطبة ما يقع عليه الاسم. وقال أبوحنيفة وأبويوسف ومالك في رواية عنه: يكفي تحميدة أو تسبيحة أو تهليلة، وهذا ضعيف؛ لأنه لا يسمى خطبة. ولا يحصل به مقصودها مع مخالفته ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم-انتهى. قلت: الراجح عندي أنه يجب في خطبة الجمعة شيء سوى حمد الله والموعظة؛ لأن ذلك يسمى خطبة

(8/430)


ويحصل به المقصود فأجزأ، وما عداه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة القرآن والدعاء لإنسان ليس على اشتراطه ووجوبه في الخطبة دليل، ولا يجب أن يخطب على صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق؛ لأنه قد روى أنه كان يقرأ آيات، ولا يجب قراءة آيات، ولكن يستحب أن يقرأ آيات كذلك، ولما روت أم هشام قالت: ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب بها في كل جمعة. وفي حديث الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة. وقوله: "يذكر الناس" دليل صريح على أن الخطبة وعظ وتذكير للناس، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه في خطبة الجمعة قواعد الإسلام وشرائعه ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي، وكان يأمرهم بمقتضى الحال، فلا بد للخطيب من أن يعظ الناس، ويذكرهم ويبين لهم ما يحتاجون إليه. فإن كان السامعون من غير العرب وعظهم بلغتهم، فإن التذكير
فكانت صلاته قصدا، وخطبته قصدا)). رواه مسلم.
1419-(6) وعن عمار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته، مئنة من فقهه،

(8/431)


والوعظ في بلاد العجم لا يفيد، ولا يحصل أثره إلا إذا كان بلغتهم. وحديث جابر هذا هو أول دليل على هذا. (فكانت صلاته قصدا) أي متوسطة بين الإفراط والتفريط من التقصير والتطويل بفتح القاف وسكون الصاد، وآخره دال، وهو الوسط بين الطرفين، وهو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد طرفي التفريط والإفراط. (وخطبته قصدا) قال الطيبي: أصل القصد الاستقامة في الطريق، استعير للتوسط في الأمور والتباعد عن الإفراط، ثم للتوسط بين الطرفين كالوسط، أي كانت صلاته - صلى الله عليه وسلم - متوسطة، لم تكن غاية الطول، ولا في غاية القصر، وكذلك الخطبة. وذلك لا يقتضى مساواة الخطبة للصلاة، إذ توسط كل يعتبر في بابه، فلا يخالف حديث عمار الآتي. (رواه مسلم) هما حديثان عند مسلم رواهما عن جابر بن سمرة، تم الأول على قوله "ويذكر الناس" وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3ص210) ولفظ الثاني: قال جابر: كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا. ونسب المجد هذا في المنتقى للجماعة إلا البخاري وأبا داود. قلت: وأخرجه البيهقي (ج3ص207) أيضا.

(8/432)


1419- قوله: (إن طول صلاة الرجل) أي إطالتها. (وقصر خطبته) بكسر القاف وفتح الصاد أي تقصيرها. (مئنة) بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة. (من فقهه) أي علامة يتحقق بها فقهه، مفعلة بنيت من، إن المكسورة المشددة وحقيقتها مظنة ومكان لقول القائل: إنه فقيه؛ لأن الصلاة مقصودة بالذات، والخطبة توطئة لها، فتصرف العناية إلى الأهم، كذا قيل، أو لأن حال الخطبة توجهه إلى الخلق وحال الصلاة مقصده الخالق. فمن فقاهة قلبه إطالة معراج ربه، أو لأن الصلاة هي الأصل، والخطبة هي الفرع، ومن القضايا الفقهية أن يؤثر الأصل على الفرع بزيادة. وقال الطيبي: قوله "من فقهه" صفة "مئنة" أي مئنة ناشئة من فقهه، في النهاية: أي ذلك مما يعرف به فقه الرجل، فكل شيء دل على شيء فهو مئنة له. وحقيقتها أنها مفعلة من معنى أن التي للتحقيق غير مشتقة من لفظها؛ لأن الحروف لا يشتق منها، وإنما ضمن حروفها دلالة على أن معناها فيها. قال النووي: قال الأزهري والأكثرون: الميم فيها زائدة، وهي مفعلة، قال الأزهري: غلط أبوعبيد في جعله الميم أصلية. وقال القاضي عياض: قال شيخنا ابن سراج: هي أصلية-انتهى. قال الشوكاني: وإنما كان اقتصار الخطبة علامة من فقه الرجل؛ لأن الفقيه هو المطلع على جوامع الألفاظ، فيتمكن بذلك من التعبير باللفظ المختصر عن
فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرا)). رواه مسلم.
1420-(7) وعن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه،

(8/433)


المعاني الكثيرة. (فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة) قال النووي: الهمزة في "أقصروا" همزة وصل، وليس هذا الحديث مخالفا للأحاديث المشهورة في الأمر بتخفيف الصلاة، ولقوله في الرواية المتقدمة: "كانت صلاته قصدا وخطبته قصدا"؛ لأن المراد بحديث عمار أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة لا تطويلا يشق على المأمومين، وهي حينئذ قصد أي معتدلة، والخطبة قصد بالنسبة إلى وضعها. وقال العراقي: أو حيث احتيج إلى التطويل لإدراك بعض من تخلف، قال: وعلى تقدير تعذر الجمع بين الحديثين يكون الأخذ في حقنا بقوله؛ لأنه أدل بفعله لاحتمال التخصيص. وقال القاري: لا تنافي بينهما، فإن الأول أي حديث جابر دل على الاقتصار فيهما، والثاني أي حديث عمار على اختيار المزية في الثانية منهما، ثم لا ينافي هذا ما ورد في مسلم من حديث أبي زيد، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان، وبما هو كائن-انتهى. لوردوه نادرا اقتضاه الوقت، ولكونه بيانا للجواز، وكأنه كان واعظا، والكلام في الخطب المتعارفة-انتهى. (وإن من البيان سحرا) أي من البيان ما يصرف قلوب المستمعين إلى قبول ما يستمعون فشبه الكلام العامل في القلوب الجاذب للعقول بالسحر لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة وتناسق الدلالة وإفادة المعاني الكثيرة. والظاهر أنه من عطف الجمل، ذكره استطرادا. وقال الطيبي: الجملة حال من "اقصروا" أي اقصروا الخطبة وأنتم تأتون بها معاني جمة في ألفاظ يسيرة، وهي من أعلى طبقات البيان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: أوتيت جوامع الكلم. قال النووي: قال القاضي: فيه تأويلان أحدهما أنه ذم؛ لأنه إمالة للقلوب، وصرفها بمقاطع الكلام إليه، حتى يكسب من الإثم به، كما يكتسب بالسحر، وأدخله مالك في الموطأ في

(8/434)


"باب ما يكره من الكلام" وهو مذهبه في تأويل الحديث. والثاني أنه مدح؛ لأن الله تعالى امتن على عباده بتعليمهم البيان. وشبه بالسحر لميل القلوب إليه. وأصل السحر الصرف، فالبيان يصرف القلب ويميله إلى ما يدعو إليه. قال النووي: وهذا التأويل الثاني هو الصحيح. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص263) والبيهقي (ج3ص208).
1420- قوله: (وعن جابر) أي ابن عبدالله. (إذا خطب) أي للجمعة كما في رواية لمسلم. (احمرت عيناه وعلا صوته) بالرفع أي ارتفع صوته. (واشتد غضبه) يفعل ذلك لإزالة الغفلة من قلوب الناس ليتمكن فيها
حتى كأنه منذر جيش، ويقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى)) . رواه مسلم.
1421-(8) وعن يعلى بن أمية، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر. ?ونادوا يا مالك

(8/435)


كلامه صلى الله عليه وسلم فضل تمكن، أو لأنه يتوجه فكره إلى الموعظة، فيظهر عليه آثار الهيبة الإلهية. واستدل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة، ويرفع صوته وكلامه، ليكون مطابقا للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب أو ترهيب. ولعل اشتداد غضبه صلى الله عليه وسلم كان عند إنذاره أمرا عظيما. (كأنه منذر جيش) هو الذي يجيء مخبرا للقوم بما قد دهمهم من عدو أو غيره، أي كمن ينذر قوما من قرب جيش عظيم قصدوا الإغارة عليهم. (يقول) ضميره عائد لمنذر، والجملة صفته (صبحكم) بتشديد الباء، وفاعله ضمير يعود إلى العدو المنذر منه، ومفعوله يعود إلى المنذرين، أي نزل بكم العدو صباحا. والمراد سينزل، وصيغة الماضي للتحقق مثل حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خطبته وإنذاره بمجيء القيامة، وقرب وقوعها، وتهالك الناس فيما يرديهم بحال من ينذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم، يقصد الإحاطة بهم بغتة من كل جانب. فكما أن المنذر يرفع صوته، وتحمر عيناه، ويشتد غضبه على تغافلهم، كذلك حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإلى قرب المجيء أشار بإصبعيه. ونظيره ما روى أنه لما نزل: ?وأنذر عشيرتك الأقربين? صعد الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي-الحديث. (مساكم) بتشديد السين مثل "صبحكم" ويحتمل أن ضمير يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والجملة حال. وضمير "صبحكم" للعذاب والمراد به قرب منكم إن لم تطيعوني. (ويقول) أي النبي صلى الله عليه وسلم عطف على احمرت. (بعثت أنا والساعة) روى برفعها ونصبها، والمشهور نصبها على المفعول معه، والرفع عطفا على الضمير، وأكد بالضمير المنفصل ليصح العطف، أي بعثني قريبا من القيامة. (ويقرن) بضم الراء على المشهور الفصيح، وحكر كسرها. (السبابة) بالجر على البدلية وجوز الرفع أي المسبحة. (رواه مسلم) في الجمعة، وكذا البيهقي (ج3ص206، 213) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه في السنة، وهذا طرف من حديث طويل

(8/436)


عندهم.
1421- قوله: (وعن يعلى بن أمية) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التحتية. (ونادوا) أي أهل النار الداخلون فيها، وهم الكفار. (يا مالك) بإثبات الكاف، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الأعمش "ونادوا يا مال" بالترخيم، ورويت عن علي، وهي قراءة ابن مسعود، وفيه إشعار بأنهم لضعفهم لا يستطيعون تأدية اللفظ بالتمام، فإن قلت: كيف قال ونادوا يا مالك بعد ما وصفهم بالابلاس؟ أجيب بأنها أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف
ليقض علينا ربك? متفق عليه.
1422-(9) وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان، قالت: ما أخذت ?ق والقرآن المجيد? إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس)).
بهم الأحوال، فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم، ويستغيثون أوقاتا لشدة ما بهم. (ليقض علينا ربك) أي بالموت قال الطيبي: من قضي عليه أماته. ومنه قوله: ?فوكزه موسى فقضى عليه? [28: 15] أي أماته. ومعنى الآية يقول الكفار لمالك خازن النار سل ربك أن يقضي علينا، يقولون هذا لشدة ما بهم، فيجابون بقوله: ?إنكم ماكثون? أي خالدون. وفيه نوع استهزاء بهم دل هذا الحديث وما قبله. وقوله تعالى: ?إن أنت إلا نذير? [35: 23]، وقوله تعالى: ?وإن من أمة إلا خلا فيها نذير? [35: 24]، وقوله تعالى: ?ليكون للعالمين نذيرا? [25: 1]، على أن الناس إلى الإنذار والتخويف أحوج منهم إلى التبشير لتماديهم في الغفلة وانهماكهم في الشهوات. (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر الملائكة وصفة النار من بدء الخلق، وفي تفسير سورة الزخرف، ومسلم في الصلاة وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص223) والترمذي في الصلاة وأبوداود في القراءات والنسائي في السنن الكبرى والبيهقي (ج3ص211).

(8/437)


1422- قوله: (وعن أم هشام بنت حارثة النعمان) هي أخت عمرة بنت عبدالرحمن لأمها، الأنصارية النجارية. قال أحمد بن زهير: سمعت أبي يقول: أم هشام بنت حارثة بايعت بيعة الرضوان، ذكره ابن عبدالبر في الاستيعاب، ولم يذكر اسمها. وذكرها الحافظ في الإصابة والتهذيب والتقريب "ولم يسمها" أيضا، وقال في التقريب صحابية مشهورة. (قالت: ما أخذت) أي ما حفظت (ق والقرآن المجيد) أي هذه السورة. (يقرأها) قال الطيبي: نقلا عن المظهر، وتبعه ابن الملك: إن المراد أول السورة لا جميعها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأها جميعها في الخطبة. وقال ابن حجر: أي كلها وحملها على أول السورة صرف للنص عن ظاهره-انتهى. وقال القاري: الظاهر أنه كان يقرأ في كل جمعة بعضها، فحفظت الكل في الكل. قلت: الظاهر عندي ما قاله ابن حجر. والله تعالى أعلم. (كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس) فيه دليل على مشروعية قراءة سورة ق في الخطبة كل جمعة. قال العلماء: وسبب اختياره صلى الله عليه وسلم هذه السورة لما اشتملت عليه من ذكر البعث والموت والمواعظ الشديدة والزواجر الأكيدة. وفيه دلالة لقراءة شيء من القرآن في الخطبة كما سبق، وقد قام الإجماع على عدم وجوب قراءة السورة المذكورة ولا بعضها في الخطبة، وكانت محافظته على هذه السورة اختيارا منه لما هو الأحسن في الوعظ والتذكير. وفيه دلالة على ترديد الوعظ، كذا في السبل. قال الشوكاني بعد ذكر أحاديث ورد فيها ذكر قراءة القرآن في الخطبة. وقد استدل بحديث الباب وما ذكرناه من الأحاديث على مشروعية قراءة شيء من القرآن
رواه مسلم.
1423-(10) وعن عمرو بن حريث، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه يوم الجمعة)). رواه مسلم.
1424-(11) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين،

(8/438)


في الخطبة، ولا خلاف في الاستحباب، وإنما الخلاف في الوجوب، كما تقدم، قال: والظاهر من أحاديث الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يلازم قراءة سورة أو آية مخصوصة في الخطبة، بل كان يقرأ مرة هذه السورة ومرة هذه، ومرة هذه الآية ومرة هذه-انتهى. وعلى هذا فالمراد بكل جمعة في حديث الباب جمعات حضرت أم هشام فيها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج6ص435- 436، 463) وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3ص211) والحاكم (ج1ص284).
1423- قوله: (وعن عمرو بن حريث) بالتصغير القرشي المخزومي، صحابي صغير مات سنة (85) وقيل: قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وله (12) سنة. (خطب) وفي رواية: خطاب الناس. (وعليه عمامة) بكسر العين. (سوداء) فيه لباس الثوب الأسود في الخطبة وإن كان الأبيض أفضل منه، كما ثبت في الحديث الصحيح: خير ثيابكم البياض. وأما لباس الخطباء السوداء في حال الخطبة فجائز، ولكن الأفضل البياض كما ذكرنا، وإنما لبس العمامة السوداء في هذا الحديث بيانا للجواز. (قد أرخى) أي سدل وأرسل. (طرفيها) بالتثنية أي طرفي عمامته. قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وغيرها طرفيها بالتثنية، وكذا هو في الجمع بين الصحيحين للحميدي. وذكر القاضي عياض أن الصواب المعروف طرفها بالإفراد. وإن بعضهم رواه طرفيها بالتثنية، والله أعلم-انتهى. (بين كتفيه يوم الجمعة) فيه أن إرسال طرفي العمامة بين الكتفين ولبس الزينة يوم الجمعة سنة. قال الأمير اليماني. من آداب العمامة إرسال العذبة بين الكتفين، ويجوز تركها بالأصالة. قلت: سيأتي بسط الكلام فيه في كتاب اللباس. ومن أحب التفصيل رجع إلى تحفة الأحوذى (ج3ص48- 50) وشرح الشمائل (ص66- 67) للبيجوري، والمرقاة (ج2ص232). (رواه مسلم) في الحج، وأخرجه أبوداود والنسائي في الزينة، والترمذي في الشمائل، وابن ماجه في الصلاة، والبيهقي (ج3ص246).

(8/439)


1424- قوله: (وهو يخطب) جملة حالية أي يوم الجمعة. (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب فليركع ركعتين) أي ندبا. وفيه دليل مشروعية تحية المسجد واستحبابها حال الخطبة للداخل بتلك الحالة.
وليتجوز فيهما))
وإلى ذلك ذهب الحسن وابن عيينة والشافعي وأحمد وإسحاق ومكحول وأبوثور وابن المنذر. وحكاه النووي عن فقهاء المحدثين. وحكى ابن العربي أن محمد بن الحسن حكاه عن مالك. (وليتجوز) بكسر اللام ويسكن أي ليخفف. فيه مشروعية التخفيف لتلك الصلاة ليتفرغ لسماع الخطبة، ولا خلاف في ذلك بين القائلين بأنها تشرع صلاة التحية حال الخطبة. والحديث حجة على مالك وأبي حنيفة في منع الداخل عن صلاة التحية في أثناء الخطبة، وقد أجاب من تبعهما عن هذا الحديث بأجوبة: منها المعارضة بقوله تعالى: ?وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا? [7: 204] وبقوله صلى الله عليه وسلم: إذا قلت لصاحبك أنصت، والإمام يخطب يوم الجمعة، فقد لغوت، قالوا فإذا امتنع الأمر بالمعروف، وهو أمر اللاغي بالإنصات مع قصر زمنه، فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى، وبقوله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب للذي دخل يتخطى رقاب الناس: اجلس، فقد آذيت. أخرجه أبوداود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث عبدالله بن بسر، قالوا: فأمره بالجلوس، ولم يأمره بالتحية. وروى الطبراني من حديث ابن عمر رفعه إذا دخل أحدكم، والإمام على المنبر، فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام. والجواب عن ذلك كله أن المعارضة التي تؤول إلى إسقاط أحد الدليلين إنما يعمل بها عند تعذر الجمع، والجمع ههنا ممكن. أما الآية فليست الخطبة كلها قرآنا. وأما ما فيها من القرآن فالجواب عنه كالجواب عن الحديث، وهو تخصيص عمومه بالداخل. وأيضا فمصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت لحديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ فأطلق على القول سرا السكوت. وأما حديث ابن بسر فهو

(8/440)


أيضا واقعة عين لا عموم فيها، فيحتمل أن يكون ترك أمره بالتحية قبل مشروعيتها. ويحتمل أن يجمع بينهما بأن يكون قوله: "اجلس" أي بشرطه، وقد عرف قوله للداخل. فلا تجلس حتى تصلي ركعتين. فمعنى قوله: "اجلس" أي لا تتخط، أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز فإنها ليست واجبة، أو لكون دخوله وقع في أواخر الخطبة بحيث ضاق الوقت عن التحية، وقد اتفقوا على استثناء هذه الصورة. ويحتمل أن يكون صلى التحية في مؤخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة فوقع منه التخطي فأنكر عليه. والجواب عن حديث ابن عمر بأنه ضعيف فيه أيوب بن نهيك، وهو منكر الحديث، قاله أبوزرعة وأبوحاتم. والأحاديث الصحيحة لا تعارض بمثله كذا في الفتح. قال بعض الحنفية. حديث جابر مبيح للصلاة، وحديث الإنصات محرم لها، فاجتمع المبيح والمحرم فترجح-انتهى. وفيه أن الترجيح للمحرم إنما يكون إذا لم يمكن الجمع، والجمع ههنا ممكن، كما تقدم. وقال الأمير اليماني: هذا أمر الشارع، وهذا أمر الشارع، فلا تعارض بين أمريه، بل القاعد ينصت، والداخل يركع التحية. وقال الشوكاني: حديث الإنصات وارد في

(8/441)


المنع من المكالمة للغير، ولا مكالمة في الصلاة، ولو سلم أنه يتناول كل كلام حتى الكلام في الصلاة لكان عموما مخصصا بأحاديث الباب. وقال السندي: لا دليل على المنع من الركعتين عند الحنفية إلا حديث: إذا قلت لصاحبك أنصت. الخ. وذلك؛ لأن الأمر بالمعروف أعلى من تحية المسجد، فإذا منع منه منها بالأولى. وفيه بحث أما أولا فلأنه استدلال بالدلالة أو القياس في مقابلة النص، فلا يسمع. وأما ثانيا فلأن المضي في الصلاة لمن شرع فيها قبل الخطبة جائز، بخلاف المضي في الأمر بالمعروف لمن شرع فيه قبل. فكما لا يصح قياس الصلاة على الأمر بالمعروف بقاء لا يصح ابتداء-انتهى. ومنها أن حديث جابر هذا أصله قصة سليك الغطفاني جعله الراوي قولا كليا وتشريعا عاما وضابطة من جانب نفسه، فهو إدراج من الراوي. وتوضيح ذلك أنه روي عن جابر في هذه المسألة حديثان: فعلي وقولي. أما الفعلي، وهي قصة سليك، فهو أنه قال: دخل رجل (وهو سليك الغطفاني) يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال صليت؟ قال لا، قال فصل ركعتين، رواه الجماعة. وأما الثاني أي القولي فهو قوله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة الخ. وكلاهما يدل على جواز صلاة التحية حال الخطبة للداخل بتلك الحالة خلافا لمالك وأبي حنيفة. وقد حمل المانعون قصة سليك على أعذار، وأجابوا عنها بأجوبة تزيد على عشرة كلها مردودة، سردها الحافظ في الفتح مع الرد عليها. وقد تعقب العيني على كلام الحافظ ههنا كعادته بما لا يلتفت إليه. ومن أحب الوقوف على ذلك رجع إلى الفتح والعمدة. وأما الحديث القولي فتصدوا للجواب عنه أيضا مع اعترافهم بأن التفصي عنه مشكل لكونه تشريعا عاما، فقال بعضهم قد تكلم الدارقطني في هذا المتن وأعله، فقال إن أصله واقعة جعله الراوي ضابطة، فالصواب أنه مدرج من الراوي. قلت: لم يقل الدارقطني بكون الحديث القولي مدرجا، بل أشار إلى شذوذه، ولو سلم فلا يثبت

(8/442)


الإدراج بالادعاء والوجدان، بل لا بد لذلك من وجود ما يدل على ذلك واضحة، كما ذكره أهل الأصول وليس ههنا شيء يدل على كونه مدرجا. وأما قول بعضهم: أن القرينة عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان قاله في تلك القصة، يعني أنه لو كان الفعل والقول منه عليه السلام مسلسلا، فلم أمسك عن الخطبة إذن. ولم أمهلها؟ فإن سنة التحية حينئذ أن تؤدى خلال الخطبة أيضا، فلا حاجة إلى الإمساك مع ثبوته قطعا. ففيه أنه لم يثبت الإمساك عن الخطبة أصلا، فإن ما روي في ذلك مرسل أو معضل، والمرسل ليس بحجة على القول الصحيح. ويرده أيضا حديث أبي سعيد عند الترمذي بلفظ: فأمره فصلى ركعتين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب. وقد أجاب الحافظ في مقدمة الفتح عن إعلال الدارقطني لهذا الحديث حيث قال: قال الدارقطني وأخرجا جميعا حديث شعبة عن عمرو عن جابر: إذا جاء أحدكم، والإمام يخطب، فليصل ركعتين، وقد رواه ابن جريج وابن عيينة وحماد بن زيد وأيوب وورقاء وحبيب بن يحيى كلهم عن عمرو: أن رجلا دخل المسجد، فقال له: صليت؟ قال الحافظ:

(8/443)


أراد الدارقطني أن شعبة خالف هؤلاء الجماعة في سياق المتن واختصروه، وهم إنما أوردوه على حكاية قصة الداخل، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالصلاة ركعتين، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وهي قصة محتملة للخصوص. وسياق شعبة يقتضي العموم في حق كل داخل. قال الحافظ: فهي مع اختصارها أزيد من روايتهم، وليست بشاذة، فقد تابعه على ذلك روح بن القاسم عن عمرو بن دينار، أخرجه الدارقطني في السنن، فهذا يدل على أن عمرو بن دينار حدث به على الوجهين-انتهى. قلت: وقد تابعه على ذلك أيضا ابن عيينة عن عمرو عند الدارقطني، وطلحة عن جابر عند أحمد وأبي داود، وأبوسفيان عن جابر عند أحمد ومسلم والدارقطني. فدعوى التفرد والشذوذ أو الإدراج باطلة مردودة. ومنها أن هذا الحديث مضطرب حيث ورد عند مسلم والنسائي في رواية شعبة عن عمرو بلفظ: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمام فليصل ركعتين، وهذا يدل على أن الأمر بالصلاة ركعتين عند خروج الإمام، وقبل الشروع في الخطبة. وورد في بعض الروايات: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب. وهذا يدل على أن الأمر بالتحية للداخل حال الخطبة. وورد عند البخاري والدارقطني في رواية شعبة عن عمرو: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج أي بالشك. فما دام لم ينفصل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم لا تبني عليه المسألة. قلت: أكثر الروايات الصحيحة وأشهرها بلفظ: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب، فيقدم على غيره على أنه لا اختلاف بين هذه الروايات، فإن حاصلها أنه يستحب صلاة التحية للداخل بعد خروج الإمام مطلقا سواء شرع في الخطبة أو لم يشرع. و"أو" في رواية البخاري والدارقطني للتنويع لا للشك من الراوي. ومنها أن معنى قوله "والإمام يخطب" أي يريد ويقرب أن يخطب، يدل عليه قوله في رواية مسلم: وقد خرج الإمام، ففيه أن الأمر فيما لم يخطب بعد، وهو بصدد أن يخطب. قلت: فيه ارتكاب المجاز من غير حاجة وضرورة، فإنه لا منافاة بين

(8/444)


اللفظين حتى يأول أحدهما إلى الآخر، فيشرع التحية لمن دخل حال كون الإمام قد خرج للخطبة شرع فيها أم لا. وفيه أيضا أنه يقتضي جواز التحية للداخل في ابتداء قعود الإمام على المنبر، وهو خلاف مذهبهم، فإنهم صرحوا بأن خروج الإمام يقطع الصلاة والكلام، فلا يمهل الإمام اليوم أحدا أن يصلي شيئا، ولا ينتظر له، ولا يمسك له عن الشروع في الخطبة. ومنها أن عمل أهل المدينة خلفا عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقا، وهذا الجواب للمالكية، وهو أقوى ما اعتمدوه في هذه المسألة، كما صرح به القرطبي وغيره. قال الحافظ: وتعقب بمنع اتفاق أهل المدينة على ذلك. فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد الخدري، روى ذلك عنه الترمذي وابن خزيمة وصححاه، وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة، وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة أيضا، ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحا ما يخالف ذلك. وأما ما نقله ابن بطال
رواه مسلم.
1425-(12) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة)).

(8/445)


عن عمر وعثمان واحد من الصحابة من المنع مطلقا، فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال كقول ثعلبية بن أبي مالك: أدركت عمر وعثمان، وكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة. وجه الاحتمال أن يكون ثعلبة عنى بذلك من كان داخل المسجد خاصة. قال شيخنا الحافظ العراقي في شرح الترمذي: كل من نقل عنه يعني من الصحابة منع الصلاة، والإمام يخطب محمول على من كان داخل المسجد؛ لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية، وقد ورد فيها حديث يخصها فلا تترك بالاحتمال-انتهى. وللمانعين أجوبة أخرى مستبشعة مستكرهة لا ينبغي الاشتغال بذكرها. والصحيح عندنا ما ذهب إليه الشافعي وأحمد من أنه يشرع صلاة التحية حال الخطبة للداخل بتلك الحالة لحديث الباب، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) من طريق أبي سفيان عن جابر قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فقال له: يا سليك! قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما، ثم قال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب الخ. وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والدارقطني والبيهقي (ج3ص194) وأخرج مسلم أيضا من طريق شعبة عن عمرو بن دينار عن جابر مختصرا بغير قصة سليك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب فقال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين، وأخرجه البخاري والدارقطني أيضا وقد ذكرنا لفظهما.

(8/446)


1425- قوله: (من أدرك ركعة من الصلاة) قال ابن الملك: يعني صلاة الجمعة. وقال الطيبي: هذا مختص بالجمعة، بينه حديث أبي هريرة في الفصل الثالث-انتهى. وإليه يشير صنيع البغوي حيث أورد هذا الحديث في باب صلاة الجمعة. والظاهر حمله على العموم. قال البيهقي بعد روايته (ج3ص203): قال الزهري. (راوي الحديث) والجمعة من الصلاة هذا هو الصحيح، وهو رواية الجماعة عن الزهري. وفي رواية معمر. (عن الزهري) دلالة على أن لفظ الحديث في الصلاة مطلق وأنها بعمومها تتناول الجمعة، كما تتناول غيرها من الصلوات-انتهى. قلت: ورواه الحاكم من حديث الأوزاعي وأسامة بن زيد الليثي ومالك بن أنس وصالح بن أبي الأخضر كلهم عن الزهري في الجمعة نصا، وهذا لا ينافي الروايات المطلقة؛ لأن ذكر فرد من أفراد العام لا يقتضى نفي ما عداه، على أن ما روى في خصوص الجمعة مخدوش كله. (مع الإمام) تفرد بهذا اللفظ مسلم. (فقد أدرك الصلاة) ليس على ظاهره بالإجماع؛ لأنه لا يكون بالركعة الواحدة مدركا لجميع الصلاة، بحيث تحصل براءة ذمته من الصلاة، فإذا فيه إضمار، تقديره

(8/447)


"فقد أدرك وقت الصلاة أو حكم الصلاة" ويلزمه إتمام بقيتها. وقيل: التقدير "فقد أدرك وجوب الصلاة" يعني من لم يكن أهلا للصلاة ثم صار أهلا، وقد بقي من وقت الصلاة قدر ركعة أو أقل وجبت عليه الصلاة ولزمته، فهو محمول على أن معنى إدراك الصبي البلوغ والحائض الطهارة والكافر الإسلام. وقيل: التقدير "فقد أدرك فضل الصلاة" أي يحصل له أجر صلاة الجماعة وثوابها. والراجح عندنا تقدير الوقت أو الحكم، يعني مدرك الركعة مدرك لحكم الصلاة كله من سهو الإمام ولزوم الإتمام وغير ذلك، ويؤيده قوله مع الإمام. والحديث عام لكنهم حملوه على صلاة الجمعة بقرينة الحديث الآتي في آخر الباب. قال الشافعي: فقد أدرك الصلاة أي لم تفته ومن لم تفته الجمعة صلاها ركعتين. قال ابن الملك: فيقوم بعد تسليم الإمام ويصلي ركعة أخرى-انتهى. والظاهر حمله على العموم، كما تقدم، وقد ظهر من إطلاق لفظ الصلاة حكم الجمعة أن مدرك ركعة من صلاة الجمعة مع الإمام مدرك الجمعة، فيلزمه إتمامها وهو قول أكثر أهل العلم، منهم ابن مسعود وابن عمر وأنس وابن المسيب والحسن والزهري والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي حنيفة وصاحبيه، وقال عطاء وطاووس ومجاهد ومكحول: من لم يدرك الخطبة صلى أربعا؛ لأن الخطبة شرط للجمعة، فلا تكون جمعة في حق من لم يوجد في حقه شرطها وهذا ليس بشيء؛ لأنه لم يقم دليل على اشتراط الخطبة، ولأن الحديث يرده، ولأن الأول قول من ذكرنا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم. بقي حكم من أدرك أقل من ركعة من صلاة الجمعة بأن دخل في السجدة أو التشهد قبل سلام الإمام. واختلف فيه أيضا فذهب الحكم وحماد وأبوحنيفة وأبويوسف وداود إلى أنه يكون مدركا للجمعة فيصلي ركعتين لا أربعا؛ لإطلاق حديث: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. قال ابن حزم في المحلى (ج5ص74): فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يصلي مع الإمام ما أدرك وعم عليه السلام

(8/448)


ولم يخص، وسماه مدركا لما أدرك من الصلاة، فمن وجد الإمام جالسا أو ساجدا فإن عليه أن يصير معه في تلك الحال ويلتزم إمامته ويكون بذلك بلا شك داخلا في صلاة الجماعة، فإنما يقضى ما فاته ويتم تلك الصلاة ولم تفته إلا ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان فلا يصلي إلا ركعتين-انتهى. وقال الشافعي وأحمد ومالك ومحمد: من لم يدرك ركعة مع الإمام بل أدركه في السجدة أو التشهد لا يكون مدركا للجمعة ويصلي ظهرا أربعا، ثم اختلفوا: فقال الشافعي، كما في كتب فروعه: يتم بعد سلامه ظهرا، وينوي وجوبا في إقتداءه جمعة موافقة مع الإمام. وقال مالك: إذا قام يكبر تكبيرة أخرى. وقال الثوري: إذا أدرك الإمام جالسا لم يسلم صلى أربعا، ينوي الظهر وأحب إلي أن يستفتح الصلاة. وقال عبدالعزيز بن أبي سلمة: قعد بغير تكبيرة فإذا سلم الإمام قام فكبر ودخل في صلاة نفسه، وإن قعد مع الإمام بتكبيرة سلم إذا فرغ الإمام ثم قام فكبر للظهر. وقال أحمد، كما في كتب فروعه: نوي ظهرا عند إحرامه إن كان دخل وقت الظهر، وإلا بأن لم يكن دخل وقت الظهر عند إحرامه، ونوي الجمعة فإنه يتم صلاته نفلا، واستدل هؤلاء بحديث الباب
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1426-(13) عن ابن عمر، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ أراه المؤذن،

(8/449)


فإنه بإطلاقه يشمل الجمعة، فيلزم أن مدرك ركعة من الجمعة مدرك لها، وبمفهومه يدل على أن من لم يدرك ركعة بل دونها، فهو غير مدرك، ومن لم يدرك الجمعة يصلي أربعا. وأجاب الحنفية بأن الحديث مطلق، فيفيد أن حكم جميع الصلوات واحد، وحكم سائر الصلوات أنه إذا أدرك شيئا منها مع الإمام، ولو في التشهد يصلي ما أدرك معه ويتم الباقي ولا يزيد على ذلك، فكيف يزيد في الجمعة بإطلاق الحديث، والمفهوم عندهم لا عبرة به ولو كان معتبرا لا يقدم على الصريح، واستدل الشافعي ومن وافقه أيضا بحديث أبي هريرة الآتي في آخر الباب، وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج، كما ستعرف. والراجح عندي ما ذهب إليه أبوحنيفة: من أن من أدرك مع الإمام شيئا من صلاة الجمعة ولو في التشهد يصلي ما أدرك معه ويتم الباقي بعد سلامة ولا يصلي ظهرا أربعا لإطلاق ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. وأما ما ذهب إليه الشافعي وغيره فلم أجد حديثا صحيحا صريحا يدل عليه. ويقوي قول أبي حنيفة: إن المسافر إذا أدرك المقيم في التشهد لزمه الإتمام وكان بمنزلة مدرك المقيم في التحريمة فوجب مثله في الجمعة إذ الدخول في كل واحدة منهما بغير الفرض. قيل: ويرد على مذهب الشافعي ومن وافقه مخالفة الأصول في إقتداء مصلى الظهر بمن يصلي الجمعة إن دخل بنية الظهر، فإنه يلزم الاختلاف على الإمام في النية. وقد قال عليه السلام: لا تختلفوا على الإمام، ولذا لا يجوز صلاة الظهر خلف من يصلي العصر أو بناء الظهر على الجمعة إن دخل بنية الجمعة وهما صلاتان مستقلتان، فكيف يبني الظهر على الجمعة، ولذا ترى القائلين ببناء الظهر اختلفوا فيما بينهم جدا، كما تقدم فتأمل. (متفق عليه) قد تقدم أن قوله مع الإمام مما تفرد به مسلم دون البخاري. والحديث أخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم.

(8/450)


1426- قوله: (يخطب خطبتين) أي يوم الجمعة، كما في رواية مسلم وغيره وهذا إجمال وتفصيله: (كان يجلس) أي على المنبر استئناف مبين. (إذا صعد المنبر) قال العلماء: يستحب الخطبة على المنبر. (حتى يفرغ أراه) بضم الهمزة. (المؤذن) بالنصب على المفعولية لأراه، وبالرفع على الفاعلية ليفرغ. وزاد لفظ: "أراه" لأنه لم يقل شيخه لفظ المؤذن، فيقول الراوي أظن أنه أراد بفاعل يفرغ المؤذن. وقال الطيبي: أي قال الراوي أظن
ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس ولا يتكلم، ثم يقوم فيخطب)). رواه أبوداود.
1427-(14) وعن عبدالله بن مسعود، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا.

(8/451)


أن ابن عمر أراد بإطلاق قوله: حتى يفرغ تقييده بالمؤذن. والمعنى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس على المنبر مقدار ما يفرغ المؤذن من أذانه-انتهى. وفيه مشروعية الجلوس على المنبر قبل الخطبة الأولى، واتفقوا على أنه سنة. (ثم) أي بعد ما يفرغ المؤذن من الأذان. (يقوم) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فيخطب) أي الخطبة الأولى. (ثم يجلس) أي جلسة خفيفة. قال شيخنا في شرح الترمذي: لم يرد تصريح مقدار الجلوس بين الخطبتين في حديث الباب، وما رأيته في حديث غيره، وذكر ابن التين أن مقداره كالجلسة بين السجدتين، وعزاه لابن القاسم، وجزم الرافعي وغيره أن يكون بقدر سورة (الإخلاص)-انتهى. (ولا يتكلم) وفي سنن أبي داود: فلا يتكلم، وكذا نقله الجزري أي في تلك الجلسة بغير الذكر أو الدعاء أو القراءة سرا، والأولى القراءة لرواية ابن حبان كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في جلوسه كتاب الله، والأولى قراءة (الإخلاص)، كذا في شرح الطيبي، ذكره القاري. وقال الحافظ في الفتح: واستفيد من قوله: فلا يتكلم أن حال الجلوس بين الخطبتين لا كلام فيه، لكن ليس فيه نفي أن يذكر الله أو يدعوه سرا-انتهى. قلت: لكن لم يثبت في ذلك دعاء مأثور أو ذكر مخصوص أو قراءة آية أو سورة معينة أو غير معينة. وأما رواية ابن حبان التي أشار إليها القاري نقلا عن شرح الطيبي، فلم أجدها. (ثم يقوم فيخطب) أي الخطبة الثانية. (رواه أبوداود) ومن طريق البيهقي (ج3ص205) وفي سنده العمري، وهو عبدالله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وفيه مقال. قلت: وأخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي من طريق عبيدالله بن عمر. (المصغر وهو ثقة) عن نافع عن عبدالله بن عمر بلفظ: كان يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم، كما تفعلون اليوم.

(8/452)


1427- قوله: (استقبلناه بوجوهنا) قال ابن الملك: أي توجهناه، فالسنة أن يتوجه القوم الخطيب والخطيب القوم-انتهى. قال أبوطيب المدني في شرح الترمذي: أي لا بالتحلق حول المنبر، لما ورد من المنع عنه يوم الجمعة، بل بالتوجه إليه في الصفوف، ويؤيده ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري في خطبة العيد ولفظه: فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم. وأما حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس يوما على المنبر وجلسنا حوله، رواه البخاري، فيمكن حمله على غير الجمعة والعيد. والحديث يدل على مشروعية استقبال الناس الخطيب. ويدل عليه أيضا ما رواه ابن ماجه عن
رواه الترمذي، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث محمد بن الفضل، وهو ضعيف، ذاهب الحديث.

(8/453)


عدي بن ثابت عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم. قال في الزوائد: رجال إسناده ثقات إلا أنه مرسل. وقال الحافظ في التلخيص: قال ابن ماجه أرجو أن يكون متصلا، كذا قال، ووالد عدي لا صحبة له إلا أن يراد بأبيه جده أبوأبيه فله صحبة على رأي بعض الحفاظ من المتأخرين-انتهى. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمة ثابت والد عدي بعد ذكر الاختلاف في اسم جد عدي بن ثابت ما لفظه: ولم يترجح لي في اسم جده إلى الآن شيء من هذه الأقوال كلها، إلا أن أقربها إلى الصواب أن جده هو جده لأمه عبدالله بن يزيد الخطمي، والله أعلم. بقي المصنف (صاحب تهذيب الكمال) أن ينبه على ما وقع عند ابن ماجه من رواية عدي بن ثابت عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم. قال ابن ماجه أرجو أن يكون متصلا. قلت. (قائلة الحافظ): لا شك ولا ارتياب في كونه مرسلا أو يكون سقط منه عن جده-انتهى. وفي الباب أيضا عن مطيع أبي يحيى المدني عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبلناه بوجوهنا. أخرجه الأثرم. ومطيع هذا قال ابن حبان في الثقات بعد ذكر الحديث من طريقة: لست أعرفه ولا أباه. وفي الباب أيضا عن البراء أخرجه ابن خزيمة ومن طريقة البيهقي (ج3ص198) وممن كان يستقبل الإمام ابن عمر. أخرجه البيهقي (ج3ص199) وأنس أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبونعيم والبيهقي. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، يستحبون استقبال الإمام إذا خطب، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. قال العراقي وغيرهم عطاء وشريح ومالك والأوزاعي وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: هذا كالإجماع. وقال في المحلى شرح الموطأ: قال الشمس الأئمة الحلواني من كان أمام الإمام يواجهه، ومن كان يمينا ويسارا انحرف إلى

(8/454)


الإمام، قال: والرسم في زماننا استقبال القبلة وترك استقبال الخطيب لما يلحقهم من الحرج بتسوية الصفوف بعد الخطبة لكثرة الزحام-انتهى. قال صاحب الأوجز: بل لشيوع الجهل، فإن كثرة الزحام كان في الزمن الأول أيضا-انتهى. قال القسطلاني: ومن لازم استقبال الإمام استدباره، هو القبلة واغتفر لئلا يصير مستدبر القوم الذين يعظهم، وهو قبيح خارج عن عرف المخاطبات، ومن حكمة استقبالهم للإمام التهيؤ لسماع كلامه وسلوك الأدب معه في استماع كلامه فإذا استقبله بوجهه وأقبل عليه بجسده وبقلبه وحضور ذهنه كان ادعى لتفهيم موعظته وموافقته فيما شرع له القيام لأجله. (هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث محمد بن فضل) أي ابن عطية الكوفي نزيل بخاري. (وهو ضعيف ذاهب الحديث) كناية عن سوء حفظه. قال الطيبي: أي ذاهب حديثه غير حافظ
?الفصل الثالث?
1428-(15) عن جابر بن سمرة، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب، فقد والله صليت معه، أكثر من ألفي صلاة)). رواه مسلم.
1429-(16) وعن كعب بن عجرة، أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا،
للحديث، وهو عطف بيان لقوله ضعيف-انتهى. قلت: محمد بن الفضل هذا رماه الأئمة بالكذب منهم أحمد وابن معين والنسائي وغيرهم. مات سنة (180). قال الحافظ في التلخيص (ص136) قد تفرد بهذا الحديث، وضعفه به الدارقطني وابن عدي وغيرهما. قال الترمذي: لا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء يعني صريحا. قلت: أحاديث الباب وإن كانت ضعيفة فقد شد عضدها عمل السلف والخلف على ذلك، كما تقدم.

(8/455)


1428- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب) يوم الجمعة. (قائما) على المنبر. (ثم يجلس) بعد الخطبة الأولى على المنبر جلسة خفيفة. قال في اللمعات: ثم ههنا للتراخي باعتبار المبدأ، والثاني للمشاكلة. (فمن نبأك) بتشديد الموحدة أي أخبرك. وفي رواية أبي داود: فمن حدثك. (فقد والله صليت) قال الطيبي: "والله" قسم اعترض بين "قد ومتعلقه" وهو دال على جواب القسم، والفاء في "فمن" جواب شرط محذوف، وفي "فقد كذب" جواب من وفي "فقد والله" سببية، والمعنى أنه كاذب ظاهر الكذب بسبب أني صليت. (معه أكثر من ألفي صلاة) أي من الجمعة وغيرها، أو أراد التكثير لا التحديد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقم بالمدينة إلا عشر سنين، وأول جمعة صلاها هي الجمعة التي تلي قدومه المدينة، فلم يصل ألفي جمعة بل نحو خمسمائة، قاله القاري. وقال السندي في فتح الودود: ظاهر المقام يفيد أنه أراد صلاة الجمعة، فالعدد مشكل إلا أن يراد به الكثرة والمبالغة، فإن حمل على المطلق الصلاة فالأمر سهل-انتهى. والحديث يدل على مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على القيام حال الخطبتين، واستدل به للشافعي ومالك ومن وافقهما على وجوب القيام في خطبة الجمعة، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على الشيء الفاضل مع جواز غيره ونحن نقول به. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والبيهقي (ج3ص197).
1429- قوله: (عن كعب بن عجرة) بضم العين وسكون الجيم. (أنه دخل المسجد) في الكوفة. (وعبد الرحمن بن أم الحكم) بفتحتين، هو عبدالرحمن بن عبدالله بن أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب من
فقال: أنظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا، وقد قال الله تعالى: ?وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما? رواه مسلم.
1430-(17) وعن عمارة بن رويبة:

(8/456)


بني أمية، استعمله معاوية أميرا على الكوفة. (فقال) أي كعب من غاية الغضب. (انظروا إلى هذا الخبيث) قال ابن حجر: فيه جواز التغليظ على من ارتكب حراما عند من قال به أو مكروها عند غيره؛ لأن إظهار خلاف ما داوم عليه الصلاة والسلام على رؤس الأشهاد ينبىء عن خبث أي خبث. (وقد قال الله تعالى) وفي بعض النسخ: وقال بغير لفظ "قد" كما في صحيح مسلم، وكذا نقله الجزري (ج6ص433). (إذا رأوا) أي أبصروا أو عرفوا. (تجارة) أي بيعا وشراء. (أو لهوا) أي طبلا. (انفضوا) أي تفرقوا. (إليها) أي إلى التجارة وما ذكر معها فيكون من باب الاكتفاء ومراعاة أقرب المذكورين، أو اختصت بالذكر لأنها المقصود الأعظم من الأمرين، فإن الطبل كان لإعلام مجيء أسباب التجارة. قال الطيبي: قوله: قد قال الله حال مقررة لجهة الإنكار أي كيف يخطب قاعدا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائما بدليل قوله تعالى: ?وتركوك قائما? [62: 11] وذلك أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء، فقدم تجارة من زيت الشام والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة قائما فتركوه قائما وما بقي معه إلا يسير-انتهى. وهم اثنا عشر منهم أبوبكر وعمر، كما في صحيح مسلم. قال النووي: كلام ابن عجرة يتضمن إنكار المنكر والإنكار على ولاة الأمور إذا خالفوا السنة. ووجه استدلاله بالآية إن الله تعالى أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائما. وقد قال تعالى: ?لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة? [ 33: 21] مع قوله تعالى: ?فاتبعوه? وقوله تعالى: ?وما آتاكم الرسول فخذوه? [59: 60] مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا كما رأيتموني أصلي-انتهى. قلت: استدل الشافعية بهذا الحديث على اشتراط القيام في الخطبة وفيه أن إنكار كعب على عبدالرحمن إنما هو لتركه السنة، ولو كان شرطا لما صلوا معه مع تركه له. قال ابن الهمام: لم يحكم هو أي كعب ولا غيره بفساد تلك الصلاة، فعلم أنه ليس

(8/457)


بشرط عندهم، فيكون كالإجماع وأجيب بأنه إنما صلى خلفه مع تركه القيام الذي هو شرط خوف الفتنة، أو أن الذي قعد إن لم يكن معذورا فقد يكون قعوده نشأ عن اجتهاد منه، كما قالوه في إتمام عثمان الصلاة في السفر، وقد أنكر ذلك ابن مسعود، ثم أنه صلى خلفه فأتم معه واعتذر بأن الخلاف شر ولا يخفى ما في هذا الجواب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا النسائي وابن خزيمة والبيهقي (ج3ص196- 197)، وفي رواية ابن خزيمة: ما رأيت كاليوم قط إماما يؤم المسلمين يخطب، وهو جالس، يقول ذلك مرتين.
1430- قوله: (وعن عمارة) بضم العين وتخفيف الميم. (بن رويبة) بضم الراء وفتح الواو وسكون التحتية
أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه، فقال: قبح الله هاتين اليدين،

(8/458)


وفتح الباء الموحدة. (أنه رأى بشر) بكسر الباء وسكون الشين المعجمة. (بن مروان) بن الحكم الأموي القرشي، أخو عبدالملك بن مروان، كان واليا على الكوفة من قبل أخيه. (رافعا يديه) زاد أحمد (ج4ص261) يشير بإصبعيه يدعو. وفي رواية له (4ص136) قال حصين: كنت إلى جنب عمارة وبشر يخطبنا فلما دعا رفع يديه، ولفظ الترمذي: فرفع يديه في الدعاء، وكذا رواه البيهقي. ولفظ أبي داود: رأى عمارة بن رويبة بشر بن مروان، وهو يدعو في يوم جمعة. واعلم أنه اختلف في المراد عن رفع اليدين المذكور، ففهم البيهقي والنووي والشوكاني أن المراد به الرفع الذي يكون عند الدعاء. قال النووي في شرحه: فيه أن السنة أن لا يرفع اليد في الخطبة، وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم. وحكى القاضي عن بعض السلف، وبعض المالكية إباحته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى، وأجاب الأولون بأن هذا الرفع كان لعارض-انتهى. وترجم البيهقي (ج3ص210) على حديث عمارة هذا، وحديث سهل بن سعد. (قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهرا يديه قط يدعو على منبره ولا على غيره، ولكن رأيته يقول هكذا، وأشار بالسبابة، وعقد الوسطى بالإبهام) باب ما يستدل به على أنه يدعو في خطبته، وقال بعد روايتهما: والقصد من الحديثين إثبات الدعاء في الخطبة، ثم فيه من السنة أن لا يرفع يديه في حال الدعاء في الخطبة ويقتصر على أن يشير بإصبعه، وثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مد يديه ودعا، وذلك حين استسقى في خطبة الجمعة، روينا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه، وروينا عن الزهري أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب يوم الجمعة دعا فأشار بإصبعه وأمن الناس-انتهى. وفهم النسائي وابن أبي شيبة والطيبي: أن المراد به الرفع الذي يكون عند التكلم وخطاب الناس، كما هو

(8/459)


عادة الخطباء والوعاظ أنهم يرفعون أيديهم يمينا وشمالا ينبهون الناس على الاستماع، وبوب الترمذي وأبوداود بما يحتمل المعنيين. والراجح عندي: هو المعنى الأول لرواية أحمد والترمذي والبيهقي، فإن فيها زيادة على رواية مسلم والنسائي، فيكره رفع اليدين والإشارة بالإصبعين عند الدعاء في خطبة الجمعة في غير الاستسقاء. والله تعالى أعلم. (فقال) عمارة. (قبح الله) قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: قبح ثلاثي من باب منع أي أبعده الله ونحاه عن الخير. قال أبوعمرو: قبحت له وجهه مخففة، والمعنى قلت قبحه الله، وهو من قوله تعالى: ?ويوم القيامة هم من المقبوحين? [28: 42] أي من المبعدين الملعونين، وهو من القبح وهو الإبعاد، هذا هو المعروف في كتب اللغة، والمشهور على ألسنة الناس تشديد الباء، وقد وجهه في المصابيح والمعيار بأنه للمبالغة-انتهى. (هاتين اليدين) زاد الترمذي القصيرتين. والظاهر أنه دعاء عليه بالقبح؛ لأن هذا
لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة)). رواه مسلم.
1431-(18) وعن جابر، قال: ((لما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر، قال: اجلسوا، فسمع ذلك ابن مسعود، فجلس على باب المسجد، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تعال يا عبدالله بن مسعود)). رواه أبوداود.

(8/460)


الرفع كان على خلاف السنة وما كان مخالفا للسنة فهو مردود مقبوح. وقيل إخبار عن قبح صنعه. (ما يزيد على أن يقول) أي يشير. (بيده هكذا وأشار) أي الراوي أو عمارة لأراءة الإشارة المذكورة. (بإصبعه المسبحة) بالجر، قال الطيبي: قوله يقول أي يشير عند التكلم في الخطبة بإصبعه يخاطب الناس وينبههم على الاستماع. والحديث يدل على كراهة رفع اليدين على المنبر في خطبة الجمعة للدعاء أو لتنبيه السامعين على الاستماع، كما هو دأب الخطباء والوعاظ على ما فهمه الطيبي. ويدل على جواز الإشارة بالإصبع أي السبابة للدعاء أو لتنبيه الناس. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3ص210).

(8/461)


1431- قوله: (لما استوى) أي استقر. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة على المنبر) أي ورأى بعض الحاضرين أنهم قاموا ليصلوا. (قال: اجلسوا) فيه دليل على جواز التكلم للخطيب على المنبر عند الحاجة، وقد بوب عليه أبوداود: الإمام يكلم الرجل في خطبته، وكذا البيهقي في سننه (ج3ص217)، ويؤيد ذلك قصة الرجل الداخل وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بصلاة التحية. قال ابن حجر: الظاهر أنه رأى أحدا من الحاضرين قام ليصلي فأمره بالجلوس لحرمة الصلاة على الجالس بجلوس الإمام على المنبر إجماعا. (فسمع ذلك) أي أمره - صلى الله عليه وسلم - بالجلوس. (ابن مسعود) وكان على باب المسجد. (فجلس على باب المسجد) مبادرة إلى امتثال أمره - صلى الله عليه وسلم -. (فرآه) أي ابن مسعود. (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (تعال) أي تقدم. وقال القاري: أي ارتفع عن صف النعال إلى مقام الرجال وهلم إلى المسجد. وقال الراغب: أصله أن يدعى الإنسان على مكان مرتفع ثم جعل للدعاء إلى كل مكان، وتعالى ذهب صاعدا يقال عليته فتعالى. (يا عبدالله بن مسعود) ولعله دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه كان من فقهاء الصحابة، وقد قال: ليليني منكم أولو الأرحام والنهى، ولا يلزم منه التخطي المنهي عنه فإنه لم يذكر أن الصفوف وصلت إلى باب المسجد حتى يلزم التخطي. وقد كان ابن مسعود على الباب يريد أن يتقدم فلما سمع أمره - صلى الله عليه وسلم - بالجلوس جلس من فوره امتثالا لأمره الشريف. (رواه أبوداود) من طريق مخلد بن يزيد، وهو من رجال الصحيحين عن ابن جريج
1432-(19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك من الجمعة
ركعة فليصل إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان، فليصل أربعا، أو قال: الظهر))

(8/462)


عن عطاء عن جابر بن عبدالله. وأخرجه البيهقي (ج3ص218) من طريق معاذ بن معاذ عن ابن جريج. قال أبوداود: هذا يعرف مرسلا، إنما رواه الناس عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي مرسلا. وقال البيهقي: ورواه عمرو بن دينار عن عطاء فأرسله، ثم ذكره. وأخرج المرسل ابن أبي شيبة أيضا، ولم يتفرد مخلد بروايته موصولا، بل تابعه على ذلك معاذ بن معاذ عند البيهقي، فلا يضر ذلك إرسال من أرسله.
1432- قوله: (فليصل إليها) أي إلى تلك الركعة. (أخرى) أي ركعة أخرى بعد سلام الإمام. قال السندي: الظاهر أنه بتخفيف اللام من الوصل، لكن قال السيوطي بتشديد اللام أي فليصل أخرى ويضمها إليها. وقال القاري: ضبطه ابن حجر بضم ففتح فتشديد، وهو غير صحيح لوجود إليها، فالصواب بفتح فكسر وسكون لام مخففة؛ لأن الوصول يتعدى بإلى. (ومن فاتته الركعتان) أي صلاتها. وقيل: أي الركوعان. قال ابن حجر: بأن يدرك الإمام بعد ركوع الركعة الثانية. والفرق بينهما وبين سائر الصلوات أن الجمعة صلاة الكاملين، والجماعة شرط في صحتها، فأحتيط لها ما لم يحتط لغيرها فلم تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة، كما صرح به في هذا الحديث. والحديث السابق-انتهى. قال القاري: وفيه أن هذا ليس من باب التصريح، بل من باب مفهوم المخالف المعتبر عندهم الممنوع عندنا على الصحيح-انتهى. (فليصل) بضم ففتح فتشديد. (أربعا) أي الظهر. (أو قال) أي بدل أربعا. قد استدل الشافعية ومن وافقهم بهذا الحديث على أن من فاته الركوع من الركعة الثانية من صلاة الجمعة ودخل في السجدة أو التشهد فهو يصلي الظهر وليس له أن يقتصر على ركعتي الجمعة، لكن الاستدلال به موقوف على أن المراد بالركعتين في الحديث الركوعان. وفيه نظر؛ لأن الركعة حقيقة لجميعها من القيام والركوع والسجود وغير ذلك وإطلاقها على الركوع، وما بعده مجاز لا يصار إليه إلا لقرينة، وههنا ليست قرينة تصرف عن حقيقة الركعة، بل قوله: ركعة في الجملة

(8/463)


السابقة يعين المعنى الحقيقي ويأبى إرادة المجاز، ومفهوم قوله: "من فاتته الركعتان" أن من أدركهم جلوسا. (في التشهد قبل فوت الركعتين بالسلام) صلى ثنتين. واستدل له أيضا بما رواه الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى فإن أدركهم جلوسا صلى أربعا، وفيه أن مداره على صالح بن أبي الأخضر البصري. وقد ضعفه ابن معين وأحمد والبخاري والنسائي ويحي القطان وأبوزرعة وأبوحاتم وابن عدي والعجلي. وفيه أيضا أن المراد بالجلوس فيه الجلوس الذي يكون بعد الفراغ من الصلاة، يدل عليه قوله: "ومن فاتته الركعتان" واستدل لهم أيضا بما رواه الدارقطني عن أبي هريرة أيضا مرفوعا، إذا أدرك أحدكم الركعتين من يوم الجمعة فقد أدرك الجمعة، وإذا أدرك ركعة فليركع إليها أخرى،
رواه الدارقطني.
وإن لم يدرك ركعة فليصل أربعا. وفيه أن مداره على ياسين بن معاذ الزيات، وهو متروك، قاله النسائي. وقال البخاري: منكر الحديث، وضعفه غير واحد، وبما رواه الدارقطني عن أبي هريرة أيضا مرفوعا: من أدرك الركوع من الركعة الآخرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى ومن لم يدرك الركوع من الركعة الأخرى فليصل الظهر أربعا. وفيه أن هذه الرواية أيضا ضعيفة، فإن فيها سليمان بن أبي داود الحراني، ضعفه أبوحاتم. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان: لا يحتج به. (رواه الدارقطني) من طريق ياسين بن معاذ عن ابن شهاب عن سعيد، أو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وياسين ضعيف متروك، ولهذا الحديث طرق كلها معلولة. قال الحافظ في التلخيص (ص127): بعد ذكرها. وقد قال ابن حبان في صحيحه: إنها كلها معلولة. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه لا أصل لهذا الحديث إنما المتن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في علله، وقال: الصحيح من أدرك من الصلاة ركعة، وكذا قال العقيلي. والله أعلم.

(8/464)


بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الرابع من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، ويليه الجزء الخامس إن شاء الله تعالى، وأوله "باب صلاة الخوف".

(8/465)


مشكاة المصابيح
للعلامة الشيخ ولي الدين أبي عبدالله محمد بن عبدالله الخطيب العمري التبريزي
مع شرحه
مرعاة المفاتيح
للشيخ أبي الحسن عبيدالله بن العلامة محمد عبدالسلام المباركفوري حفظه الله
(الجزء الخامس)
(46) باب صلاة الخوف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(باب صلاة الخوف) أي أحكام الصلاة عند الخوف من الكفار، ولما كان لصلاة الخوف أحكام وصفة تختص بها بخلاف الصلوات التي عم الناس معرفتها دعت الحاجة إلى بيان صفتها وأحكامها، وههنا عدة أبحاث نوردها مجملا؛ ليكون الطالب على بصيرة. الأول: أنهم اختلفوا في أي سنة نزل بيان صلاة الخوف؟ فقال الجمهور: إن أول ما صليت في غزوة ذات الرقاع، واختلف أهل السير في أي سنة كانت هي، فقال عامة أهل السير: ابن إسحاق وابن عبدالبر وغيرهما أنها كانت بعد بني النضير والخندق في جمادى الأولى سنة أربع، وقال ابن سعد وابن حبان: في عاشر المحرم سنة خمس. وقال أبومعشر: بعد بني قريظة في آخر السنة الخامسة وأول التي تليها، وقال البخاري: بعد خيبر في السنة السابعة، وهو الراجح عند ابن القيم والحافظ، وذهب ابن القيم إلى أن أول صلاة صليت للخوف بعسفان، وكانت في عمرة الحديبية، وهي بعد الخندق وقريظة سنة ست، وصليت بذات الرقاع أيضا فعلم أنها بعد الخندق وبعد عسفان، وقد بسط الكلام في الهدي في الاستدلال لذلك، وإليه جنح الحافظ في الفتح حيث قال بعد الاستدلال لهذا القول: وإذا تقرر أن أول ما صليت صلاة الخوف بعسفان وكانت في عمرة الحديبية، وهي بعد الخندق وقريظة وقد صليت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وهي بعد عسفان فتعين تأخرها عند الخندق وعن قريظة وعن الحديبية أيضا فيقوى القول بأنها بعد خيبر؛ لأن غزوة خيبر كانت عقب الرجوع من الحديبية - انتهى. الثاني: أنهم اتفقوا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل صلاة الخوف بغزوة الخندق، واختلفوا في سبب ذلك، فقيل: كانت تلك الغزوة بعد

(9/1)


نزول صلاة الخوف، وأنه أخر الصلاة يومئذ نسيانا، يدل عليه ما روى أحمد من حديث ابن لهيعة عن أبي جمعة حبيب بن سباع، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ قال هل علم أحد منكم إني صليت العصر؟ قالوا: لا يا رسول الله ! ما صليتها، فأمر المؤذن فأقام فصلى العصر، ثم أعاد المغرب، قال الحافظ: وفي صحته نظر؛ لأنه مخالف لما في الصحيحين من قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: ((والله ما صليتها))، ويمكن الجمع بينهما بتكلف، وقيل: أخرها عمدا؛ لأنه كان مشغولا بالقتال، والاشتغال بالقتال والمسايفة يمنع الصلاة، قاله صاحب الهداية والطحاوي وأبوبكر الجصاص الرازي، وقيل: لأنه لم يكن أمر
............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/2)


حينئذ أن يصلي صلاة الخوف راكبا، فقد روي عن أبي سعيد الخدري قال: كنا مع رسول الله يوم الخندق، فشغلنا...، الحديث، وفي آخره: وذلك قبل أن ينزل عليه ?فإن خفتم فرجالا أو ركبانا?، أخرجه أحمد والنسائي والطيالسي وعبدالرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبويعلى والبيهقي في السنن والطحاوي، وقيل: لتعذر الطهارة، وقيل: لأنه كان في حضر، وحكم صلاة الخوف أن تكون في السفر، قاله ابن الماجشون. وقيل: أخرها عمدا؛ لأنه كانت قبل نزول صلاة الخوف، ذهب إليه الجمهور، كما قال ابن رشد، وبه جزم ابن القيم في الهدي، والحافظ في الفتح، والقرطبي في شرح مسلم، وعياض في الشفاء، والزيلعي في نصب الراية، وابن القصار. وهذا هو الراجح عندنا. الثالث: أن جمهور العلماء متفقون على أن حكمها باق بعد النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وحكي عن المزني من الشافعية أنها منسوخة حيث لم يصلها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق فتأخيره في غزة الخندق دال على نسخ صلاة الخوف، قال ابن القصار: هذا قول من لا يعرف السنن؛ لأن صلاة الخوف نزلت بعد الخندق، وحكي عن أبي يوسف: أنها كانت تختص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: ?وإذا كنت فيهم...?الاية [4: 102]. جوزت بشرط كونه - صلى الله عليه وسلم - فيهم فإذا خرج من الدنيا انعدم الشرط؛ ولأنها لما فيها من كثرة ما ينافي الصلاة، كالذهاب والمجيء والأعمال الكثيرة شرعت لرغبة الناس إلى الصلاة خلفه - صلى الله عليه وسلم - وميل كل أحد إلى بركة الاقتداء به، وأما بعده - صلى الله عليه وسلم - ففيم يرغب، فصلاة الخوف بجماعة واحدة، وإمام واحد مقصورة على عهده - صلى الله عليه وسلم -، وأجيب عن الآية بأنها قيد واقعي نحو قوله تعالى: إن خفتم في صلاة المسافر وتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب لا يوجب تخصيصه بالحكم ما لم يقم دليل على اختصاصه به؛ ولأن الصحابة أنكروا على مانعي الزكاة قولهم إن الله

(9/3)


تعالى خص نبيه بأخذ الزكاة بقوله: ?خذ من أموالهم صدقة...? [9: 103]، وقال ابن العربي: شرط كونه فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده أي بين لهم بفعلك؛ لأنه أوضح من القول – انتهى. وأيضا ما ثبت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت في حقنا ما لم يقم دليل على اختصاصه به، فإن الله تعالى أمر باتباعه، وأيضا فإن الصحابة أجمعوا على صلاة الخوف، فروي أن عليا صلى صلاة الخوف ليلة الهرير، وصلاها أبوموسى الأشعري بأصبهان بأصحابه، وروي أن سعيد بن العاص كان أميرا على الجيش بطبرستان، فقال: أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فقدمه فصلى بهم، قال الزيلعي: دليل الجمهور وجوب الاتباع والتأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، والأفعال المنافية إنما هي لأجل الضرورة، وهي موجودة بعده - صلى الله عليه وسلم -، وقد وردت صلاة الخوف من قوله – عليه الصلاة والسلام -، كما رواه البخاري في صحيحه في تفسير سورة البقرة في باب قوله: ?فإن خفتم فرجالا أو ركبانا? [2: 239] بسنده عن نافع أن عبدالله بن عمر كان سئل عن صلاة الخوف قال:
.............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/4)


يتقدم الإمام وطائفة من الناس... الحديث، وفي آخره قال نافع: لا أرى عبدالله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الرابع: أن صلاة الخوف جائزة في الحضر إذا احتيج إلى ذلك بنزول العدو قريبا من البلد، قال به الجمهور: الشافعي وأحمد وأبوحنيفة ومالك في المشهور عنه، وحكي عنه أنها لا تجوز في الحضر، وبه قال ابن الماجشون، وقال أصحابه: يجوز، كما قال الجمهور، وهو الحق؛ لأن قوله تعالى: ?وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة...? الآية [4: 102] عام في كل حال. الخامس: أن الخوف لا يؤثر في عدد الركعات في حق الإمام والمأموم جميعا في قول أكثر أهل العلم، منهم ابن عمر والنخعي ومالك والشافعي وأحمد وأبوحنيفة وأصحابه وسائر أهل العلم من علماء الأمصار لا يجيزون ركعة. وقال ابن عباس والحسن البصري وعطاء وطاؤس ومجاهد والحكم بن عتيبة وقتادة وإسحاق والضحاك والثوري: أنها ركعة عند شدة القتال يومئ إيماء، واستدل لهم بما روي عن حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا. أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي والأثرم، وصححه ابن حبان، ومثله عند النسائي وابن خزيمة عن ابن عباس، وعند النسائي والأثرم عن زيد بن ثابت، وبما روي عن ابن عباس قال: ((فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة)) أخرجه أحمد ومسلم وغيرهما، قلت: وأول الجمهور بأن المراد به ركعة مع الإمام، وليس في نفي الثانية، وفيه أنه لا منافاة بين وجوب واحدة، والعمل باثنتين حتى يحتاج إلى التأويل للتوفيق لجواز أنهم عملوا بالأحب والأولى، وأيضا يرد هذا التأويل قوله: لم يقضوا، وأما تأويلهم لم يقضوا بأن المراد منه أنهم لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن فبعيد جدا. السادس: ذكر أبوداود في سننه لصلاة الخوف ثمانية أوجه، وكذا ابن حبان في صحيحه، وزاد تاسعا، وقال: ليس بينها تضاد، ولكنه - صلى

(9/5)


الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف مرارا، والمرء مباح له أن يصلي ما شاء عند الخوف من هذه الأنواع، وهي من الاختلاف المباح، وقال ابن حزم: صح فيها أربعة عشر وجها، وبينها في جزء مفرد، وقال ابن العربي في القبس: جاء فيها روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة ولم يبينها، وقال النووي في شرح مسلم نحوه ولم يبينها أيضا، وقد بينها العراقي في شرح الترمذي، وزاد وجها آخر فصارت سبعة عشر وجها، لكن قال يمكن أن تتداخل، وقال ابن القيم: أصولها ست صفات بلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجها من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من اختلاف الرواة، قال الحافظ: وهذا هو المعتمد، وإليه أشار شيخنا (العراقي) بقوله: يمكن أن تتداخل، وحكى ابن القصار المالكي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها عشر مرات، وقال ابن العربي: صلاها أربعا وعشرين مرة، وقال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص247) ذكر بعض الفقهاء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها في عشر مواضع والذي استقر عند أهل السير
.......................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/6)


والمغازي أربعة مواضع: ذات الرقاع وبطن نخل وعسفان وذي قرد، فحديث ذات الرقاع أخرجه البخاري وغيره عن سهل بن أبي حثمة، وفي لفظ للبخاري عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث بطن نخلة أخرجه النسائي عن جابر قال: ((كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ببطن نخل والعدو بيننا وبين القبلة...)) الحديث، وحديث عسفان أخرجه أبوداود والنسائي عن أبي عياش الزرق، وحديث ذي قرد أخرجه النسائي عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي قرد...الحديث. السابع: قال ابن قدامة: يجوز أن يصلى صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أحمد: كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز، وقال: ستة أوجه أو سبعة، يروى فيها كلها جائزة، وقال الأثرم: قلت لأبي عبدالله (الإمام أحمد) تقول بالأحاديث كلها، كل حديث في موضعه أو تختار واحدا منها؟ قال: أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل فأنا أختاره، ثم بين ابن قدامة هذه الوجوه الستة وقال بعد ذكر الوجه السادس: وهو أن يصلي بكل طائفة ركعة ولا تقضي شيئا ما لفظه فهذه الصلاة يقتضي عموم كلام أحمد جوازها؛ لأنه ذكر ستة أوجه ولا أعلم وجها سادسا سواها، وأصحابنا ينكرون ذلك – انتهى. قلت: الصفات الثابتة في الأحاديث الصحيحة كلها جائزة عند جميع العلماء، وإنما الاختلاف عندهم فيما هي أولى وأفضل إلا ثلاث صور، فإنه قد أولها من لا يقول بها على تقدير ثبوتها، كما سيأتي، قال السهيلي: اختلف العلماء في الترجيح، فقالت طائفة يعمل منها بما كان أشبه بظاهر القرآن، وقال طائفة: يجتهد في طلب الأخير منها فإنه الناسخ لما قبله، وقالت طائفة: يؤخذ بأصحها نقلا وأعلاها رواة، وقالت طائفة: يؤخذ بجميعها على حسب اختلاف أحوال الخوف، فإذا اشتد الخوف أخذ بأيسرها مؤنة – انتهى. قلت: ورجح أحمد والشافعي ما روي عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله -

(9/7)


صلى الله عليه وسلم -، وهو الحديث الثاني من هذا الباب لسلامة الصفة المذكورة فيه من كثرة المخالفة، ولكونها أحوط لأمر الحرب، واختار مالك ما روي عن ابن مسعود عند أبي داود بسند ضعيف، وما روي عن ابن عمر عند البخاري وغيره، وهو الحديث الأول من الباب، وفي دلالتهما على مذهب أبي حنيفة ومحمد خفاء، كما سيأتي، ولم يختر إسحاق شيئا على شيء، وبه قال الطبري وغير واحد منهم ابن المنذر وسرد ثمانية أوجه، وأما الصور الثلاث المختلف فيها فالأول منها أن يصلي الإمام بكل طائفة صلاة منفردة ويسلم بها، فيكون الإمام في الثانية متنفلا يؤم المفترضين، وأوله بعض الحنفية بما لا يلتفت إليه وأنكر بعضهم ثبوته، وهو مردود أيضا، والثاني أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ولا يسلم ثم تسلم الطائفة، وتنصرف ولا تقضي شيئا وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعتين ويسلم بها ولا تقضي شيئا فيكون له أربع ركعات
?الفصل الأول?
1433- (1) عن سالم بن عبدالله بن عمر، عن أبيه، قال: ((غزوت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصلي لنا، فقامت طائفة معه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/8)


بسلام واحد وللقوم ركعتان ركعتان فقط، وقد أوله الحنفية والمالكية والحنابلة بما هو غني عن الرد وارجع إلى المغني، والثالث: الاقتصار على ركعة، أنكره الشافعي ومالك وأبوحنيفة وأصحاب أحمد، وأولوه بما تقدم مع الجواب. والثامن: أن صلاة الخوف تجوز بشرائط، منها: أن يكون العدو مباح القتال، وأن لا يؤمن هجومه، ومنها: أن يكون هجوم من يريد صلاة الخوف مباحا، فلو كانوا عصاة كالبغاة مثلا لا يجوز لهم صلاة الخوف. ومنها: أن يكون في المصلين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين، كل طائفة ثلاثة فأكثر قاله أبوالخطاب، وقال القاضي: إن كانت كل فرقة أقل من ثلاثة كرهناه، وحكاه الحافظ عن الشافعي وعلل بأنه أعاد عليهم ضمير الجمع بقوله ?أسلحتهم?، قال ابن قدامة: والأولى أن لا يشترط هذا؛ لأن ما دون الثلاثة عدد تصح به الجماعة، فجاز أن يكون طائفة كالثلاثة، ومنها: أن لا يقاتل في الصلاة، وهذا عند الحنفية.

(9/9)


1433- قوله (قال) أي ابن عمر (غزوت) أي الكفار، في القاموس: غزا العدو سار إلى قتالهم وأصل الغزو القصد (مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -) حال (قبل نجد) بكسر القاف وفتح الموحدة، نصبا على الظرف أي جهة نجد، والنجد كل ما ارتفع من بلاد العرب من تهامة إلى العراق، وقال الأبهري: المراد هنا نجد الحجاز لا نجد اليمن، قال العيني والقسطلاني: وهذه الغزوة غزوة ذات الرقاع (فوازينا) بالزاي أي قابلنا بالموحدة وحاذينا من الموازاة، وهي المقابلة والمواجهة، وأصله من الإزاء بهمزة في أوله، قال الجوهري: يقال هو بإزائه أي بحذائه، وقد آزيته إذا حاذيته، ولا تقل: وازيته بالواو – انتهى. فعلى هذا أصل وازينا آزينا قلبت الهمزة واو. وقال القارئ بعد نقل كلام الجوهري: لكن رواية المحدثين مقدمة على نقل اللغويين مع أن المثبت مقدم على النافي، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، لا سيما ووافقهم صاحب النهاية، أو هما لغتان كالمواكلة والمؤاخذة – انتهى. (فصاففنا) أي قمنا صفين، كما سيأتي (لهم) أي لحربهم، أو جعلنا نفوسنا صفين في مقابلتهم (يصلي لنا) أي لأجلنا أو يصلي بنا بالموحدة، وقال القارئ: أي يصلي بالجماعة إماما لنا، والحديث من أقوى الحجج على وجوب الجماعة حيث ما ترك في تلك الحالة – انتهى. وكانت هذه الصلاة رباعية، قال الحافظ: وسيأتي في المغازي - من صحيح البخاري - ما يدل على أنها كانت صلاة العصر (فقامت طائفة معه) تصلي أي
وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمن معه، وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاؤا، فركع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد منهم، فركع لنفسه ركعة، وسجد سجدتين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/10)


حيث لا تبلغهم سهام العدو (وركع) وفي رواية فركع (رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمن معه) أي مع الذين قاموا معه (وسجد سجدتين) أي بمن معه ثم ثبت قائما (ثم انصرفوا) أي الطائفة التي صلت تلك الركعة (مكان الطائفة التي لم تصل) أي فقاموا في مكانهم في وجه العدو (فجاؤا) أي الطائفة الأخرى التي كانت تحرس، وهو – عليه الصلاة والسلام – قائم في الثانية منتظر لها (ثم سلم) أي النبي – صلى الله عليه وسلم – وحده (فقام كل واحد منهم) أي من المأمومين من الطائفتين (فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين) قال الحافظ: ظاهره أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب، وهو الراجح من حيث المعنى، وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة، وإفراد الإمام وحده، ويرجحه ما رواه أبوداود من حديث ابن مسعود، ولفظه: ((ثم سلم فقام هؤلاء أي الطائفة فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا، ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا)) – انتهى. وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها، ووقع في الرافعي تبعا لغيره من كتب الفقه أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا ولم نقف على ذلك في شيء من الطرق، وبهذه الكيفية أخذ الحنفية واختار الكيفية التي في حديث ابن مسعود أشهب من المالكية والأوزاعي، ورجح ابن عبدالبر الكيفية الواردة في حديث ابن عمر على غيرها لقوة الإسناد ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه – انتهى مختصرا. وقال القرطبي في شرح مسلم: والفرق بين حديث ابن عمر وحديث ابن مسعود أن في حديث ابن عمر كان قضاءهم في حالة واحدة ويبقى الإمام كالحارس وحده، وفي حديث ابن مسعود كان قضاءهم متفرقا على صفة صلاتهم، وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على ما في حديث ابن مسعود، وبه أخذ أبوحنيفة وأصحابه

(9/11)


غير أبي يوسف، وهو نص أشهب من أصحابنا خلاف ما تأوله ابن حبيب، والله أعلم – انتهى. قلت: حديث ابن مسعود ظاهر في أن الطائفة التي صلت مع الإمام آخرا هي بدأت بالقضاء قبل الطائفة الأولى، أي والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها، وليس هذا في قول أبي حنيفة، وقال القارئ في شرح قوله: ((فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين))، تفصيله أن الطائفة الثانية ذهبوا إلى وجه العدو وجاءت الأولى إلى مكانهم وأتموا صلاتهم منفردين وسلموا وذهبوا إلى وجه العدو، وجاءت الطائفة الثانية وأتموا منفردين وسلموا، كما ذكره بعض الشراح من علماءنا، قال ابن الملك: كذا قيل، وبهذا أخذ أبوحنيفة
وروى نافع نحوه، وزاد: فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/12)


لكن الحديث لم يشعر بذلك – انتهى. قال القاري: وهو كذلك، لكن قال ابن الهمام: ولا يخفى أن هذا الحديث إنما يدل على بعض ما ذهب إليه أبوحنيفة، وهو مشي الطائفة الأولى وإتمام الطائفة الثانية في مكانها من خلف الإمام، وهو أقل تغييرا، وقد دل على تمام ما ذهب إليه ما هو موقوف على ابن عباس من رواية أبي حنيفة، ذكره محمد في كتاب الآثار، وساق إسناد الإمام، ولا يخفى أن ذلك مما لا مجال للرأي فيه، فالموقوف فيه كالمرفوع – انتهى. قلت: ومذهب أبي حنيفة كما سيأتي أن الطائفة الأولى تتم الركعة التي بقيت عليها بلا قراءة كاللاحق، الطائفة الثانية تقضيها بالقراءة كالمسبوق، وهذا شيء لم يرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصلا ولا عن أحد من أصحابه، بل ولا يعرف عن أحد من الأمة قبل أبي حنيفة، وأما أثر ابن عباس فليس فيه أدنى إشارة إلى ذلك فضلا أن يكون نصا في ذلك، قال محمد في كتاب الآثار (ص35): أخبرنا أبوحنيفة عن حماد عن إبراهم في صلاة الخوف قال: إذا صلى الإمام بأصحابه فلتقم طائفة منهم مع الإمام، وطائفة بإزاء العدو، فيصلي الإمام بالطائفة الذين معه ركعة ثم تنصرف الطائفة الذين صلوا مع الإمام من غير أن يتكلموا حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلون مع الإمام الركعة الأخرى، ثم ينصرفون من غير أن يتكلموا حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتأتي الطائفة الأولى حتى يصلوا ركعة وحدانا ثم ينصرفون فيقومون مقام أصحابهم، وتأتي الطائفة الأخرى حتى يقضوا الركعة التي بقيت عليهم وحدانا، قال محمد: أخبرنا أبوحنيفة حدثنا الحارث بن عبدالرحمن عن عبدالله بن عباس – رضي الله عنهم – مثل ذلك قال: وبهذا كله نأخذ، وأما الطائفة الأولى فيقضون ركعتهم بغير قراءة؛ لأنهم أدركوا أول الصلاة مع الإمام فقراءة الإمام لهم قراءة، وأما الطائفة الأخرى فإنهم يقضون ركعتهم بقراءة؛ لأنهم فاتتهم مع الإمام، وهذا كله قول أبي حنيفة – انتهى.

(9/13)


(وروى نافع) أي عن ابن عمر أيضا (نحوه) أي معنى ما رواه سالم عنه، ولفظ حديث نافع عند البخاري في تفسير سورة البقرة من طريق مالك عن نافع: أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم الإمام ركعة، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو لم يصلوا، فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة، ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين، فيقوم كل واحد من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام، فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين فإن كان خوف....الخ (وزاد) أي نافع عن ابن عمر (فإن كان خوف) أي هناك أو وقع خوف شديد والتنوين للتعظيم (هو أشد من ذلك) الذي تقدم بأن لا يمكن معه الانقسام والاصطفاف وغير ذلك (صلوا) حينئذ بحسب الإمكان (رجالا) بكسر الراء وتخفيف الجيم جمع راجل.
قياما على أقدامهم، أو ركبانا مستقبلي القبلة، أو غير مستقبلها، قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/14)


قال الرازي في تفسيره: الراجل الكائن على رجله ماشيا كان أو واقفا – انتهى. (قياما) بكسر القاف جمع قائم، وقيل: إنه مصدر بمعنى اسم الفاعل أي قائمين، وهما حالان من فاعل صلوا، أي صلوا حال كونهم راجلين قائمين (على أقدامهم) زاد مسلم: ((يومئ إيماء))، وقوله ((قياما على أقدامهم)) تفسير لقوله رجالا، قال ابن حجر: فيه إشارة إلى ترك الركوع والسجود، والإيماء إليهما عند العجز عنهما لقوله ((قياما على أقدامهم))، ويكون المراد قيامهم على أقدامهم في كل حالاتهم من صلاتهم (أو ركبانا) أي راكبين على دوابهم بضم الراء جمع راكب، وأو للتخيير أو الإباحة أو التنويع (مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها) أي بحسب ما يتسهل لهم، والحاصل أنه إذا اشتد الخوف ركبانا إلى القبلة وإلى غيرها يومئون بالركوع والسجود على قدر الطاقة ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وبه قالت الحنابلة، فيجوز عندهم الصلاة في شدة الخوف وحالة المسايفة والتحام القتال ماشيا وراكبا وطالبا ومطلوبا، وكذا عند الشافعية إلا لطالب عدو لا يخشى كرهم عليه أو انقطاعا من رفقته، وكذا عند المالكية، لكنهم قالوا: لا يصنعون ذلك حتى يخشوا فوت الوقت، وأيضا اختلفوا في الطالب فقال ابن عبدالحكم: لا يصلي - أي الطالب - إلا بالأرض صلاة الأمن، وقال ابن حبيب: هو في سعة من ذلك وإن كان طالبا، وحكي ذلك عن مالك، وقال القسطلاني: قال مالك: يصلي - أي الطالب – راكبا حيث توجهت دابته إذا خاف فوت العدو إن نزل – انتهى. وقالت الحنفية: لا يجوز الصلاة في حالة المسايفة والقتال ولا في حالة المشي مطلقا أي لا طالبا ولا مطلوبا، ويجوز الصلاة راكبا للمطلوب، ولو كانت الدابة سائرة لا للطالب، وقيل: قول ابن عمر في هذا الحديث ((قياما على أقدامهم)) يؤيد الحنفية في نفي الصلاة في حالة المشي، وإليه يظهر ميل البخاري حيث قال: باب صلاة الخوف رجالا وركبانا راجل قائم، قال الحافظ: يريد به أن

(9/15)


المراد به ههنا القائم، ويطلق على الماشي أيضا، وهو المراد في سورة الحج: ?يأتوك رجالا...? الآية – انتهى. وفرق الحنفية بين المشي في الصلاة وبين الصلاة ماشيا، فجوزوا الأول قالوا: وهو المذكور في حديث ابن عمر دون الثاني، ولا يخفى ما فيه (قال نافع: لا أرى) بضم الهمزة أي لا أظن (ذكر ذلك) أي قوله (فإن كان خوف...) الخ (إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) هكذا أخرجه مالك عن نافع في موطئه بالشك، وكذا أخرجه البخاري في صحيحه من طريق مالك، قال ابن عبدالبر: رواه عن نافع جماعة لم يشكوا في رفعه، منهم ابن أبي ذئب وموسى بن عقبة وأيوب بن موسى، وكذا رواه الزهري عن سالم عن ابن عمر مرفوعا، ورواه خالد بن معدان عن ابن عمر مرفوعا – انتهى. وقال الحافظ: قد أخرج مسلم حديث ابن عمر من طريق الثوري
رواه البخاري.
1434- (2) وعن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/16)


عن موسى بن عقبة فذكر صلاة الخوف نحو سياق الزهري عن سالم، وقال في آخره: قال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك فليصل راكبا أو قائما يومئ إيماء، ورواه ابن المنذر من طريق داود بن عبدالرحمن عن موسى بن عقبة موقوفا كله، لكن قال في آخره: وأخبرنا نافع أن عبدالله بن عمر كان يخبر بهذا عن النبي- صلى الله عليه وسلم - فاقتضى ذلك رفعه كله، ثم ذكر الحافظ رواية الموطأ والبخاري ثم قال: ورواه عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا كله بغير شك. أخرجه ابن ماجه ولفظه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف أن يكون الإمام يصلي بطائفة، فذكر نحو سياق سالم عن أبيه، وقال في آخره: فإن كان خوف أشد من ذلك فرجالا أو ركبانا، وإسناده جيد، والحاصل أنه اختلف في قوله ((فإن كان خوف أشد من ذلك)) هل هو مرفوع أو موقوف على ابن عمر، والراجح وقفه، والله أعلم – انتهى. (رواه البخاري) حديث سالم عن أبيه أخرجه الجماعة والبيهقي (ج3 ص260)، وحديث نافع عن ابن عمر أخرجه مالك في موطئه والبخاري في تفسير قوله تعالى: ?فإن خفتم فرجالا أو ركبانا? [البقرة: 292 ]، والبيهقي (ج3 ص256، 260-261).

(9/17)


1434- قوله (وعن يزيد بن رومان) - بضم الراء المهملة - المدني، مولى آل الزبير بن العوام، ثقة من صغار التابعين، مات سنة (130)، (عن صالح بن خوات) بفتح المعجمة وتشديد الواو، وآخره تاء مثناة من فوق أي ابن جبير - بضم الجيم - ابن النعمان الأنصاري، المدني، تابعي مشهور، عزيز الحديث، ثقة، روى له الجماعة هذا الحديث، وأبوه خوات بن جبير، صحابي جليل، أول مشاهده أحد، وقيل: شهد بدرا، مات بالمدينة سنة (40) أو بعدها، وله (74) وقيل (71) سنة. (عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ولفظ البخاري (عمن شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، قيل: إن اسم هذا المبهم سهل بن أبي حثمة؛ لأن القاسم بن محمد روى حديث صلاة الخوف عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة، وهذا هو الظاهر من رواية البخاري، ولكن الراجح أنه أبوه خوات بن جبير؛ لأن أبا أويس رواه عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه فقال: عن صالح بن خوات عن أبيه، أخرجه ابن منده في معرفة الصحابة من طريقه، وكذلك أخرجه البيهقي من طريق عبيدالله بن عمر عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن أبيه، وجزم النووي في تهذيبه بأنه خوات بن جبير، وقال: إنه محقق من رواية مسلم وغيره، وسبقه لذلك الغزالي، ويؤيده أيضا تعيين كونها ذات الرقاع، فإنه إنما يصح ذلك في روايته عن أبيه، إذ ليس في رواية صالح عن سهل أنه صلاها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيده أيضا أن سهلا لم يكن في سن من يخرج تلك الغزوة لصغره، لكن لا يلزم منه أن سهلا لا يرويها، فيحتمل أن
يوم الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/18)


صالحا سمعه منهما، ورواية سهل تكون مرسل صحابي (يوم ذات الرقاع) بكسر الراء – جمع الرقعة بمعنى الخرقة، وهي القطعة من الثوب، وسميت هذه الغزوة ذات الرقاع لأن الظهر كان قليلا وأقدام المسلمين نقبت من الحفاء فلفوا عليها الخرق، وهي الرقاع، رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري، وهو الصحيح في تسميتها، وقيل: سميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، وقيل: بشجر ذلك الموضع، يقال له ذات الرقاع، وقيل: بل الأرض التي كانوا نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرقاع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض، قاله ابن حبان، وقال الواقدي: سميت بحبل هناك فيه بقع، وهذا لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحف جبل بخيل، وقد رجح السهيلي والنووي السبب الذي ذكره أبوموسى، ثم قال النووي: ويحتمل أن تكون سميت بالمجموع، وأغرب الداودي فقال: سميت ذات الرقاع لوقوع صلاة الخوف فيها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها، كذا في الفتح، وسبب وقوعها أن أعرابيا جاء بجلب إلى المدينة فقال: إني رأيت ناسا من بني ثعلبة وبني أنمار قد جمعوا لكم جموعا وأنتم في غفلة عنهم، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم واستعمل على المدينة أباذر الغفاري، وقيل: عثمان بن عفان، وخرج في أربعمائة، وقيل: في سبعمائة، فلقي جمعا من بني ثعلبة، فتوافقوا ولم يكن بينهم قتال، وقيل: لم يلق كيدا؛ لأن العدو تفرق في الجبال، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم صلاة الخوف؛ لأنه كان يخاف أن يجتمعوا فيحملوا على المسلمين، وقد تقدم اختلاف أهل العلم في تاريخ هذه الغزوة، وأن الراجح عند أهل السير أنها كانت في جمادى الأولى سنة أربع، وعند البخاري أنها بعد خيبر سنة سبع (صلاة الخوف) مفعول صلى (أن طائفة) قال الطيبي: متعلق بما يتعلق به عمن أي عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن طائفة (صفت معه) أي للصلاة (وطائفة) بالنصب للعطف، وقيل: بالرفع على الابتداء أي وطائفة أخرى (وجاه

(9/19)


العدو) بكسر الواو وبضم، أي محاذيهم ومواجههم، ونصبه على الظرفية بفعل مقدر (فصلى بالتي معه) أي بالطائفة التي معه - صلى الله عليه وسلم - (ثم) أي لما قام إلى الركعة الثانية (ثبت) حال كونه (قائما وأتموا) أي الطائفة التي صلى بها الركعة الأولى (لأنفسهم) الركعة الأخرى (ثم) أي بعد سلامهم (انصرفوا) إلى وجه العدو (فصفوا وجاه العدو) أي في غير حالة الصلاة (وجاءت الطائفة الأخرى) التي كانت وجاه العدو إلى مكان الطائفة الأولى فاقتدوا به (فصلى بهم الركعة) الثانية (التي بقيت من صلاته) - صلى الله عليه وسلم - (ثم ثبت جالسا) في التشهد ولم يخرج من صلاته بالسلام (وأتموا) أي الطائفة التي جاءت بعد (لأنفسهم) الركعة الأخرى، وجلسوا معه في التشهد (ثم سلم بهم) أي بالطائفة
متفق عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/20)


الأخيرة، أي معهم ليحصل لهم فضيلة التسليم معه - صلى الله عليه وسلم -، كما حصل للطائفة الأولى فضيلة التحريم معه - صلى الله عليه وسلم -، وقد صلى كل طائفة ركعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعة لأنفسهم وحدانا، وهذه الكيفية اختارها الشافعي وأحمد، وقال مالك: يتشهد الطائفة الثانية مع الإمام، فإذا سلم الإمام قاموا فقضوا ما فاتهم كالمسبوق، واستدل بحديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة، قال ابن قدامة: والأول أولى لقول الله تعالى: ?ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك? [النساء: 102]، وهذا يدل على أن صلاتهم كلها معه، ولأنه روي أنه - صلى الله عليه وسلم - سلم بالطائفة الثانية، ولأن الأولى أدركت معه فضيلة الإحرام، فينبغي أن يسلم بالثانية ليسوي بينهم، ثم ذكر مذهب أبي حنيفة، ثم قال: ولنا ما روى صالح بن خوات عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، فذكر الحديث وقال: العمل بهذا أولى؛ لأنه أشبه بكتاب الله تعالى وأحوط للصلاة والحرب، أما موافقة الكتاب فإن قول الله تعالى: ?ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك? يقتضي أن جميع صلاتها معه، وعند أبي حنيفة تصلى معه ركعة فقط، وعندنا جميع صلاتها معه، إحدى الركعتين توافقه في أفعاله وقيامه، والثانية تأتي بها قبل سلامه ثم تسلم معه ومن مفهوم قوله: لم يصلوا، أن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها، وعلى قولهم لم تصل إلا بعضها – انتهى. قلت: الظاهر أن الله تعالى ذكر في الآية صفة الركعة الأولى وسكت عن حال الركعة الثانية، وكانت هي موضع الفصل، وفعل ذلك للتوسع والمتبادر من تعبير صلاة الطائفة الأولى بالسجدة في قوله: ?فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم? أنهم بعد أداء الركعة ينصرفون إلى وجه العدو ولا يتمون لأنفسهم الركعة الأخرى، ولو أتموها لأطلق عليها الصلاة، فذكر لفظ السجدة يؤيد الحنفية في أن الطائفة الأولى تنصرف إلى وجه

(9/21)


العدو بعد الركعة؛ لأنه يدل على عدم تمام صلاتها، وعلى مذهب الشافعية ومن وافقهم كان الأولى أن يقال: فإذا صلوا، والمتبادر من ذكر لفظ الصلاة في ذكر الطائفة الثانية في قوله: ?ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك? أنهم يتمون لأنفسهم في ذلك المكان، وهذا أوفق للشافعية، فحملوا قوله: فإذا سجدوا، على معنى: فإذا فعلوا، بقرينة قوله: فليصلوا، وحملت الحنفية قوله: فليصلوا، على معنى فليسجدوا، لقوله: فإذا سجدوا، وقد ظهر من هذا أن الآية لا توافق واحدا من المذهبين بتمامه للإجمال في حال الركعة الثانية، نعم تنطبق على الصفة المذكورة في حديث ابن مسعود، فإن حاصلها أن الطائفة الأولى تذهب إلى وجه العدو بعد ركعة، وتجيء الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام ركعة ثم تتم لنفسها ركعة أخرى هناك ثم ترجع إلى وجه العدو، وهذه الصفة هي ظاهر الآية كذا ذكر بعد الحنفية، وقد بسط ابن قدامة الكلام في كون الصفة المختارة عند الأئمة الثلاثة أحوط للصلاة والحرب، فعليك أن ترجع إلى المغني. (متفق عليه) أخرجه البخاري في المغازي من طريق قتيبة عن مالك، ومسلم في الصلاة من طريق يحيى بن يحيى عن مالك عن يزيد بن رومان، وأخرجه أيضا مالك وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص252).
1435- (3) وأخرج البخاري بطريق آخر عن القاسم، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/22)


1435- قوله (وأخرج البخاري بطريق آخر) أي من طريق مسدد عن يحيى القطان عن شعبة عن عبدالرحمن بن القاسم (عن القاسم) أي ابن محمد بن أبي بكر الصديق (عن سهل بن أبي حثمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي نحوه، وهذه الرواية مرسل صحابي؛ لأن أهل العلم بالأخبار اتفقوا على أن سهلا كان صغيرا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، فلم يكن إذ ذاك في سن من يخرج في تلك الغزوة، وعلى هذا فتكون روايته لقصة صلاة الخوف مرسلة، ويتعين أن يكون مراد صالح بن خوات ممن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف غيره، والذي يظهر أنه أبوه كما تقدم، واعلم أن البخاري روى أولا حديث سهل بن أبي حثمة موقوفا عليه قوله من طريق مسدد عن يحيى القطان عن يحيى الأنصاري عن القاسم عن صالح عن سهل بن أبي حثمة قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة وطائفة منهم معه وطائفة من قبل العدو وجوههم إلى العدو فيصلي بالذين معه ركعة، ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين في مكانهم، ثم رواه مرفوعا قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، أي مثل المتن الموقوف من رواية يحيى عن يحيى، وقد أورده مسلم وأبوداود والنسائي من هذا الطريق بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في الخوف فصفهم خلفه صفين، فذكر الحديث، وهو مما يقوي أن سهل بن أبي حثمة لم يشهد ذلك، وأن المراد بقول صالح بن خوات ممن شهد أبوه لا سهل، والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي موقوفا ومرفوعا، وأخرجه مالك موقوفا، قال ابن عبدالبر: هذا الحديث موقوف عند رواة الموطأ، ومثله لا يقال بالرأي، وقد جاء مرفوعا مسندا – انتهى. قال الزرقاني: وتابع مالكا على وقفه يحيى القطان وعبدالعزيز بن أبي

(9/23)


حازم، كلاهما عن يحيى الأنصاري، ورفعه يحيى القطان في روايته عن شعبة عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح عن سهل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه صلاة الخوف...الحديث، قال ابن عبدالبر: وعبدالرحمن بن القاسم أسن من يحيى بن سعيد وأجل – انتهى. هذا ورواية البخاري والنسائي والترمذي وابن ماجه ساكتة عن بيان سلام الإمام، ورواية أحمد ومسلم وأبي داود صريحة في أنه يسلم الإمام بالطائفة الثانية بعد أدائهم الركعة الثانية، كما هو منطوق رواية يزيد بن رومان عن صالح، وهو مختار الشافعي وأحمد كما تقدم، ورواية مالك صريحة في أن الإمام يسلم منفردا قبل أن تأتي الطائفة الثانية بالركعة الأخرى، وقال الدارقطني بعد ما روى حديث
1436- (4) وعن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بذات الرقاع، قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلق بشجرة، فأخذ سيف نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترطه، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/24)


يزيد بن رومان: قال ابن وهب: قال مالك: أحب إلي هذا ثم رجع، وقال: قضاؤهم يكون بعد السلام أحب إلي – انتهى. وقال ابن عبدالبر: وهذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن رومان، وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات أن الإمام لا ينتظر المأموم، وأن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام – انتهى. والراجح عندي: مختار الشافعية والحنابلة للوجوه التي تقدمت في كلام ابن قدامة، ولم تفرق المالكية والحنفية بين أن يكون العدو في جهة القبلة أم لا، وفرق الشافعي والجمهور، فحملوا حديث سهل على أن العدو كان في غير جهة القبلة، فلذلك صلى بكل طائفة وحدها جميع الركعة، وأما إذا كان العدو في جهة القبلة فعلى ما في حديث ابن عباس أن الإمام يحرم بالجميع ويركع بهم، فإذا سجد سجد معه صف وحرس صف...إلى آخره، ويأتي حديث جابر: صفنا صفين والعدو بيننا وبين القبلة.

(9/25)


1436- قوله (حتى إذا كنا بذات الرقاع) أي بالمكان الذي كانت به غزوة ذات الرقاع، فسميت البقعة باسم الوقعة (قال) أي جابر (كنا) أي معشر الصحابة عند إرادة نزول المنزل (إذا أتينا) أي مررنا (على شجرة ظليلة) أي مظللة أي ذات ظل كثيف، يعني كثيرة الظل (تركناها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لينزل تحتها ويستظل بها، يعني فكذا فعلنا بذات الرقاع، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة للاستراحة، فيه تفريق الناس عن الإمام في الغزو عند القائلة والاستظلال بالشجر، وهذا محله إذا لم يكن هناك ما يخافون منه. (قال) أي جابر (فجاء رجل من المشركين) اسمه غورث – وزن جعفر – بن الحارث، وقيل: اسمه دعثور، وقيل: غويرث (وسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلق بشجرة) أي بشجرة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت ظلها. فيه تعليق السيف بالشجرة في السفر عند النوم وقت القائلة (فأخذ) أي المشرك (سيف نبي الله - صلى الله عليه وسلم -) لكونه نائما (فاخترطه) بالخاء المعجمة والمثناة الفوقية والراء آخره طاء مهملة – أي سله من غمده، وهو غلافه (قال) أي المشرك (فمن يمنعك مني) بضم العين، و"من" استفهام يتضمن معنى النفي، كأنه قال: لا مانع لك مني، وكرر ذلك في رواية للبخاري ثلاث مرات. (قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الله) أي هو الذي سلطك علي (يمنعني منك) أي يخلصني منك
قال: فتهدده أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فغمد السيف وعلقه، قال: فنودي بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات، وللقوم ركعتان)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/26)


إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، قال الطيبي: كان يكفي في الجواب أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله، فبسط اعتمادا على الله واعتضادا بحفظه وكلاءته، قال الله تعالى: ?والله يعصمك من الناس? [المائدة: 67] انتهى. وهذا من أعظم الخوارق للعادة، فإنه عدو متمكن بيده سيف مشهور فلم يحصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - روع ولا جزع، قال الحافظ: فيه فرط شجاعته - صلى الله عليه وسلم - وقوة يقينه وصبره على الأذى وحلمه عن الجهال (قال) أي جابر (فتهدده) أي هدده وخوفه (أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ظاهره يشعر بأنهم حضروا القصة، وأنه إنما رجع عما كان عزم عليه بالتهديد، وليس كذلك، فإنه وقع في رواية للبخاري بعد قوله (فعلق بها سيفه): قال جابر فنمنا نومة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: من يمنعك؟ قلت: الله، فها هو ذا جالس ثم لم يعاقبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -))، فقد بينت هذه الرواية أن هذا القدر لم يحضره الصحابة، وإنما سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن دعاهم واستيقظوا، ووقع في رواية أخرى للبخاري بعد قوله: قلت الله فشام السيف، والمراد أغمده وكان الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم وعرف أنه حيل بينه وبين تحقق صدقه وعلم أنه لا يصل إليه فألقى السلاح، وأمكن من نفسه (فغمد السيف) بفتح الميم المخففة وتشدد أي أدخله في غلافه، وفي صحيح مسلم: فأغمد أي من الإغماد (وعلقه) أي في مكانه، ووقع في رواية ابن إسحاق بعد قوله: قال الله فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يمنعك أنت مني؟ قال: لا أحد، قال: قم فاذهب لشأنك، فلما ولى قال: أنت خير مني، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أنا أحق بذلك، ثم أسلم بعد،

(9/27)


وفي لفظ: قال: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام، ويجمع بين قوله: ((فها هو ذا جالس ثم لم يعاقبه)) وبين رواية ابن إسحاق بأن قوله: ((فاذهب لشأنك)) كان بعد أن أخبر الصحابة بقصته، فمن عليه لشدة رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في استئلاف الكفار ليدخلوا في الإسلام ولم يؤاخذه بما صنع بل عفا عنه، وقد تقدم أنه أسلم بعد ذلك وأنه رجع إلى قومه واهتدى به خلق كثير. (قال) أي جابر (فنودي) أي أذن وأقيم للظهر (فصلى بطائفة ركعتين) ثم سلم وسلموا (ثم تأخروا) أي إلى جهة العدو (وصلى) وفي مسلم: فصلى أي النبي - صلى الله عليه وسلم - متنفلا (بالطائفة الأخرى) التي كانت في جهة العدو بعد مجيئها إليه – عليه الصلاة والسلام – (ركعتين) ثم سلم وسلموا (قال) أي جابر (فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات) أي بتسليمتين فرضا ونفلا (وللقوم ركعتان) فرضا، واستدل به على جواز صلاة المفترض
متفق عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/28)


خلف المتنفل، كذا قرره النووي في شرح مسلم جمعا بينه وبين حديث جابر الآتي في الفصل الثاني، وحديث أبي بكرة قال: ((صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو، فصلى ركعتين ثم سلم، وانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم...)) الحديث، أخرجه أبوداود والنسائي وابن حبان وغيرهم بإسناد صحيح، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص246) حديث أبي بكرة صريح في أنه – عليه الصلاة والسلام – سلم من الركعتين، وحديث جابر ليس صريحا، فلذلك حمله بعضهم على حديث أبي بكرة، ومنهم النووي، ومنهم من لم يحمله عليه، ومنهم القرطبي، وقال في (ج2 ص56) لفظ الصحيحين من حديث جابر قد يفهم منه أنه لم يسلم من الركعتين، وهو الأقرب، كما فهمه القرطبي في شرح مسلم. وقد يفهم منه أنه سلم من الركعتين ويفسره حديث أبي بكرة كما فهمه النووي، بل قد جاء مفسرا من رواية جابر أنه سلم من الركعتين، كما رواه البيهقي في المعرفة من طريق الشافعي. قلت: الأقرب عندي هو ما فهمه النووي، بل هو المتعين لحديث أبي بكرة، وهو حديث صحيح، ولرواية جابر المفسرة عند النسائي وابن خزيمة والدارقطني والبيهقي، والأحاديث يفسر بعضها بعضا، قال الزيلعي: وعلى كل حال فالاستدلال على الحنفية بحديث جابر صحيح وإن لم يسلم من الركعتين؛ لأن فرض المسافر عندهم ركعتان والقصر عزيمة، فإن صلى المسافر أربعا وقعد في الأولى صحت صلاته وكانت الأخريان له نافلة، وقد ذهل عن هذا جماعة من شراح الحديث، ومنهم النووي، وقالوا: لا يحسن الاستدلال عليهم إلا بحديث أبي بكرة أو بحديث جابر على تقدير أنه سلم في الركعتين – انتهى. وقد رد بمثل ذلك ابن حزم في المحلى (ج4 ص228)، فارجع إليه إن شئت، ويأتي بقية الكلام في شرح حديث جابر في الفصل الثاني، ثم الكيفية المذكورة في حديث جابر مخالفة للكيفية التي في حديث يزيد بن رومان،

(9/29)


مع أن الموضع واحد، وذلك لاختلاف الزمان، فيحمل على أنه – عليه الصلاة والسلام – صلى في هذا الموضع مرتين، مرة كما رواه يزيد بن رومان، ومرة كما رواه جابر، أو يحمل على تعدد غزوة ذات الرقاع، فقد قيل: إنها وقعت مرتين: مرة في السنة الخامسة، ومرة في السنة السابعة، والله أعلم. (متفق عليه) فيه نظر، فإن البخاري لم يسنده في صحيحه أصلا، بل ذكره معلقا في المغازي في غزوة ذات الرقاع، فقال: وقال أبان: حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال: ((أقبلنا...)) الحديث، ورواه أيضا متصلا بإسناده لكن لم يذكر فيه قصة الصلاة، ووهم مجد الدين ابن تيمية في المنتفى حيث قال بعد ذكره باللفظ المذكور: متفق عليه. قال الزيلعي (ج2 ص246): لم يصل البخاري سنده به، ووهم شيخنا علاء الدين مقلدا لغيره فقال: أخرجاه، وقد نص على ذلك الحميدي، وعبدالحق في كتابيهما الجمع بين الصحيحين، مع أن البخاري وصل سنده به في مواضع لكن ليس فيه قصة الصلاة، قال: ووهم
1437- (5) وعنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، فصففنا خلفه صفين، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع، ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النووي في الخلاصة، فذكره باللفظ المذكور وقال: متفق عليه – انتهى. والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج3 ص364)، والبيهقي (ج3 ص259).

(9/30)


1437- قوله (وعنه) أي عن جابر (قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف) في صحيح مسلم قال: شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف (فصففنا) وفي بعض النسخ من صحيح مسلم ((فصفنا)) (خلفه) أي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صفين والعدو بيننا وبين القبلة) قد ورد في رواية لمسلم عن جابر تعيين القوم الذين حاربوهم، ولفظها: ((غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوما من جهينة، فقاتلونا قتالا شديدا، فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليه ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وقالوا: إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد، فلما حضرت العصر قال: صفنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة...)) الحديث، وروى أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي وابن حبان وصححه من حديث أبي عياش الزرقي مثل حديث جابر، وزاد تعيين محل الصلاة أنها كانت بعسفان، فالظاهر أن جابرا روى القصتين معا، أي قصة صلاة الخوف بغزوة ذات الرقاع وكان العدو فيها في غير جهة القبلة، وقصة الخوف بغزوة عسفان، وكان العدو فيها وجاه القبلة، والله تعالى أعلم. (فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي للتحريم (وكبرنا جميعا) أراد به الصفين (ثم ركع) أي بعد القراءة (ثم انحدر بالسجود) أي انهبط إليه وانخفض له، وقال القاري: أي نزل متلبسا بالسجود أو بسببه (والصف الذي يليه) أي وانحدر الصف الذي يقرب منه، وهو عطف على الضمير المتصل من دون تأكيد؛ لأنه قد وقع الفصل، والإفراد باعتبار لفظ الصف المراد به القوم (وقام) أي بقي قائما (الصف المؤخر) أي الذين تأخروا للحراسة لمن أمامهم في سجودهم (في نحر العدو) أي في مقابلتهم، ونحر كل شيء أوله (فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود) أي أداه، والمعنى: فلما فرغ من السجدتين (وقام الصف الذي يليه)

(9/31)


يعني رفعوا رؤوسهم من السجود، وقاموا معه – عليه الصلاة والسلام – (انحدر الصف المؤخر بالسجود) أي سجد الآخرون الذين كانوا خلف الصف
ثم قاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر المقدم، ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود، والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعا)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/32)


الأول (ثم) أي لما فرغوا من سجدتهم (قاموا) وفي مسلم: وقاموا (ثم تقدم الصف المؤخر) ووقفوا مكان الصف الأول، أي بعد أن استووا مع الأولين في القيام خلفه - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الثانية (وتأخر المقدم) قيل: الحكمة في التقدم والتأخر حيازة فضيلة المعية في الركعة الثانية جبرا لما فاتهم من المعية في الركعة الأولى (ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي قام وقرأ الفاتحة والسورة ثم ركع، قاله الطيبي. (الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى) صفة ثانية للصف، وقدر ابن حجر لفظ "وهو" قبل هذا الموصول الثاني (وقام الصف المؤخر) هو الذي كان مقدما في الركعة الأولى (في نحر العدو) وفي بعض النسخ من صحيح مسلم: في نحور العدو أي بلفظ الجمع (انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعا) وفي رواية لمسلم: فلما سجد الصف الثاني، ثم جلسوا جميعا سلم عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحديث دليل على أنه إذا كان العدو في جهة القبلة فإنه يخالف ما إذا لم يكن كذلك، فإنها تمكن الحراسة مع دخولهم جميعا في الصلاة، وذلك أن الحاجة إلى الحراسة إنما تكون في حال السجود فقط؛ لأن حال الركوع لا يمتنع معه إدراك أحوال العدو، فيتابعون الإمام جميعا في القيام والركوع، ويحرس الصف المؤخر في حال السجدتين بأن يتركوا المتابعة للإمام، ثم يسجدون عند قيام الصف الأول، ويتقدم الصف المؤخر إلى محل الصف المقدم، ويتأخر المقدم ليتابع المؤخر الإمام في السجدتين الأخيرتين، فيصح مع كل من الطائفين المتابعة في سجدتين، قال النووي: وحديث ابن عباس – عند البخاري وغيره – نحو حديث جابر، لكن ليس فيه تقدم الصف وتأخر الآخر، وبهذا الحديث قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبويوسف إذا كان العدو في جهة القبلة، ويجوز عند الشافعي تقدم الصف الثاني وتأخر الأول كما في رواية جابر، ويجوز بقاءهما على حالهما، كما هو ظاهر حديث

(9/33)


ابن عباس – انتهى. والصفة المذكورة في حديث جابر لا توافق ظاهر الآية، ولا توافق الرواية الأولى عن ابن عمر، ولا رواية يزيد بن رومان، ولا رواية جابر في غزوة ذات الرقاع إلا أنه قد يقال: إنها تختلف الصفات باختلاف الأحوال، وقال الطحاوي: ليس هذا
رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1438- (6) عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل، فصلى بطائفة ركعتين، ثم سلم، ثم جاء طائفة أخرى، فصلى بهم ركعتين، ثم سلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بخلاف القرآن لجواز أن يكون قوله تعالى: ?ولتأت طائفة أخرى? [النساء: 102] إذا كان العدو في غير القبلة، وذلك ببيانه - صلى الله عليه وسلم - ثم بين كيفية الصلاة إذا كان العدو في جهة القبلة، والله أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص319)، والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص257).

(9/34)


1438- قوله (كان) قال القاري: ليس للاستمرار، بل لمجرد الربط والدلالة على المضي (يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف) أي في حالة الخوف (ببطن نخل) بفتح النون وسكون الخاء المعجمة، وهو موضع من المدينة على يومين، وهو بواد يقال له "شدخ" بالشين المعجمة والدال المهملة والخاء المعجمة، وفيه طوائف من قيس وبني فزارة وأشجع وأنمار، وقال ابن حجر: اسم موضع بين مكة والطائف، ذكره القاري، وغفل من قال إن المراد نخل بالمدينة، واستدل به على مشروعية صلاة الخوف في الحضر، وليس كما قال؛ لأنه لم يحفظ عنه – عليه السلام – أنه صلى صلاة خوف قط في حضر، ولم يكن له حرب قط في حضر إلا يوم الخندق، ولم يكن آية الخوف نزلت بعد، فالصحيح أن المراد به موضع من نجد من أراضي غطفان كما تقدم، (فصلى بطائفة ركعتين، ثم سلم) هذا صريح في أنه – عليه السلام – سلم من الركعتين، ومثله حديث أبي بكرة عند أبي داود والنسائي وغيرهما، وقد تقدم (ثم جاء طائفة أخرى، فصلى بهم ركعتين، ثم سلم) فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات بتسليمتين فرضا ونفلا، ولكل طائفة ركعتان ركعتان فرضا، وبهذا قال الحسن والشافعي وأحمد، قال القاري: لا إشكال في ظاهر الحديث على مقتضى مذهب الشافعي، فإنه محمول على حالة القصر، وقد صلى بالطائفة الثانية نفلا، وعلى قواعد مذهبنا مشكل جدا، فإنه لو حمل على السفر لزم اقتداء المفترض خلف المتنفل، وهو غير صحيح عندنا، فلا يحمل عليه فعله – عليه الصلاة والسلام -، وإن حمل على الحضر يأباه السلام على رأس كل ركعتين، اللهم إلا أن يقال: هذا من خصوصياته، وأما القوم فأتموا ركعتين أخريين بعد سلامه، واختار الطحاوي أنه كان في وقت كانت الفريضة تصلى مرتين – انتهى كلام القاري، قلت: لا شك أن الحديث مشكل على الحنفية جدا، وقد عجزوا عن جوابه، ولذلك قال السندي: فيه اقتداء المفترض بالمتنفل، ولم أر لهم عنه جوابا شافيا – انتهى. فأما

(9/35)


قولهم: إن هذا خاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفضيلة الصلاة خلفه، فإن في الائتمام به من البركة في
رواه في شرح السنة.
?الفصل الثالث?
1439- (7) عن أبي هريرة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل بين ضجنان وعسفان،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النافلة ما ليس في الائتمام بغيره في الفريضة، ففيه أنه لا يثبت الخصوص بالادعاء، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، وأمرنا باتباعه، فما ثبت في حقه ثبت فيه حقنا ما لم يقم دليل على اختصاصه به، وأما قول الطحاوي: إنه يجوز أن يكون ذلك كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والفريضة حينئذ تصلى مرتين، فيكون كل واحدة منهما فريضة، وقد كان ذلك يفعل في أول الإسلام ثم نسخ، ففيه أنه يرده ما قال ابن حزم في المحلى (ج4 ص227) فهذا آخر فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أبابكرة شهده، وإنما كان إسلامه يوم الطائف بعد فتح مكة وبعد حنين، ولم يغز – عليه السلام – بعد الطائف غير تبوك فقط، وأيضا قد روى ابن حزم بسنده (ج4 ص226) عن أبي بكرة أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، فصلى بالذين خلفه ركعتين، والذين جاءوا بعد ركعتين، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربعا ولهؤلاء ركعتين، وأجاب بعضهم بأن المراد بالسلام السلام الذي في التشهد، وهو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وهذا غني عن الرد لكونه ظاهر البطلان، فإن المتبادر منه سلام التحلل من الصلاة، وهو المعروف، وهو الذي يدل عليه سياق الروايات في ذلك فالحمل عليه متعين. (رواه) أي البغوي صاحب المصابيح (في شرح السنة) وأخرجه أيضا النسائي والشافعي في كتاب الأم (ج1 ص153)، والدارقطني (ص186-187)، وابن خزيمة والبيهقي في المعرفة وفي السنن (ج3 ص259) كلهم من طريق الحسن عن جابر، وقال البزار: روى الحسن عن جابر بن عبدالله أحاديث، ولم يسمع منه،

(9/36)


وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي سمع الحسن عن جابر؟ قال: ما أرى، ولكن هشام بن حسان يقول عن الحسن ثنا جابر، وأنا أنكر هذا، إنما الحسن عن جابر كتاب، مع أنه أدرك جابرا – انتهى. قلت: وذلك لا يقتضي الانقطاع، وأخرج ابن جرير وأحمد والطحاوي (ج1 ص187) من طريق قتادة عن سليمان اليشكري عن جابر مثله، وأشار إليه أبوداود في السنن، ونقل الحافظ عن البخاري وابن معين أن قتادة لم يسمع من اليشكري.
1439- قوله (نزل بين ضجنان) بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم وبنونين بينهما ألف، قال الجزري: هو موضع أو جبل بين مكة والمدينة (عسفان) بضم مهملة أولى وسكون ثانية، موضع على مرحلتين من مكة، قاله في القاموس، وقال الجزري: هي قرية جامعة بين مكة والمدينة – انتهى. وزاد النسائي: محاصرا
فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم، فتميلوا عليهم ميلة واحدة، وإن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يقسم أصحابه شطرين، فيصلي بهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتان))، رواه الترمذي والنسائي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/37)


المشركين (فقال المشركون) أي بعضهم لبعض (لهؤلاء) أي للمسلمين (من آبائهم وأبنائهم) وفي النسائي: من أبنائهم وأبكارهم (وهي العصر) لما وقع من تأكيد المحافظة على مراعاتها في قوله تعالى: ?حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى? [البقرة: 238]، (فأجمعوا) بفتح الهمزة وكسر الميم من الإجماع (أمركم) أي أمر القتال، والمعنى فأعزموا عليه (فتميلوا) بالنصب على جواب الأمر أي فتحملوا، ولفظ الترمذي: فميلوا، وعند النسائي: ثم ميلوا أي بصيغة الأمر (وإن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال الطيبي: حال من قوله ((فقال المشركون)) على نحو جاء زيد والشمس طالعة (شطرين) أي نصفين، كما في رواية النسائي، وفي بعض النسخ من سنن النسائي: بصفين (فيصلي) بالنصب (بهم) وفي رواية النسائي: فيصلي بطائفة منهم (وتقوم) بالنصب (طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) وفي رواية النسائي: وطائفة مقبلون على عدوهم قد أخذوا حذرهم وأسلحتهم، قال الطيبي: أي ما فيه الحذر، وفي الكشاف: جعل الحذر، وهو التحرز والتيقظ، آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ دلالة على التيقظ التام والحذر الكامل، ومن ثم قدمه على أخذ الأسلحة (فتكون لهم) أي لكل طائفة منهم (ركعة) وقع في الترمذي والنسائي لفظ "ركعة" مكررا أي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويصلي كل طائفة منهم ركعة أخرى لأنفسهم؛ لتكون لكل منهما ركعتان، وقال قوم: هو محمول على ظاهره، وعدوه من خصائص صلاة الخوف (ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتان) تابعه في الركعة الأولى الطائفة الأولى، وفي الثانية الطائفة الأخرى، ولا يخفى أن قوله "فتكون لهم ركعة، ولرسول الله ركعتان" لا يصح ترتبه على ما وقع في المشكاة قبله من لفظ الحديث، ووقع عند الترمذي قبل ذلك، ثم يأتي الآخرون ويصلون معه ركعة واحدة، ولفظ النسائي: ثم يتأخر هؤلاء، ويتقدم أولئك، فيصلي بهم ركعة، تكون لهم مع النبي -

(9/38)


صلى الله عليه وسلم - ركعة ركعة...الخ، والظاهر أن المصنف ذكر ذلك السياق تقليدا لما نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص473-474)، ولم يراجع جامع الترمذي والنسائي، ولم يتأمل في ما في السياق المذكور من الخلل، والله تعالى أعلم. (رواه الترمذي) في تفسير سورة النساء وصححه (والنسائي) في الصلاة، وأخرجه أيضا أحمد وابن جرير، كلهم من طريق عبدالله بن شقيق عن أبي هريرة،
(47) باب صلاة العيدين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/39)


وأشار إليه أبوداود في "باب من قال: يصلي بكل طائفة ركعة ولا يقضون"، فقال بعد رواية حديث حذيفة بلفظ: ((فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا))، وكذا رواه عبيدالله بن عبدالله ومجاهد عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعبدالله بن شقيق عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -...الخ. تنبيه: قال الحافظ: لم يقع في شيء من الأحاديث المروية في صلاة الخوف تعرض لكيفية صلاة المغرب، وقد أجمعوا على أنه لا يدخلها قصر، واختلفوا هل الأولى أن يصلي بالأولى ثنتين والثانية واحدة أو العكس – انتهى كلام الحافظ، قلت: روى الدارقطني (ص187)، والحاكم (ص337)، والبيهقي (ج3 ص260) من طريق عمرو بن خليفة البكراوي عن الأشعث بن عبدالملك عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالقوم في الخوف صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرف، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، قال الحاكم: سمعت أباعلي الحافظ يقول: هذا حديث غريب، قال الحاكم: وإنه صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، وقال أبوداود بعد رواية حديث أبي بكرة في صلاة الخوف في الظهر: وكذلك في المغرب، يكون للإمام ست ركعات، وللقوم ثلاثا ثلاثا، وهذا يدل على أنه ليس عنده في المغرب إلا القياس، قال الشوكاني: وهو قياس صحيح، وقال البيهقي بعد ذكر كلام أبي داود هذا: وقد رواه بعض الناس عن أشعث في المغرب مرفوعا، ولا أظنه إلا واهما في ذلك، ثم ذكر الحديث من الطريق المذكور، وقد تفرد بروايته عمرو بن خليفة البكراوي، وقال في اللسان في ترجمته: ربما كان في روايته بعض المناكير، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه، وارجع لاختلاف العلماء في كيفية صلاة المغرب في الخوف إلى المغني (ج2 ص410-411).

(9/40)


(باب صلاة العيدين) أي الفطر والأضحى، وأصل العيد عود؛ لأنه مشتق من عاد يعود عودا، هو الرجوع، قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، كما في الميزان والميقات، وجمعه أعياد للزوم الياء في الواحد أو للفرق بينه وبين أعواد الخشب، وسميا عيدين لكثرة عوائد الله تعالى فيهما، أو لأنهم يعودون إليهما مرة بعد أخرى، أو لتكرارهما وعودهما كل عام، أو لعود السرور بعودهما، قال في الأزهار: كل اجتماع للسرور فهو عند العرب عيد، يعود السرور بعوده، وقيل: لأن الله تعالى يعود على العباد بالمغفرة والرحمة، وقيل: تفاؤلا بعوده على من أدركه، كما سميت القافلة تفاؤلا برجوعها، وقيل: لعود بعض المباحات فيهما واجبا كالفطر، وقيل: لأنه يعاد فيهما التكبيرات مرات، والله تعالى أعلم. وارجع لحكمة مشروعيتهما إلى حجة الله البالغة (ج2 ص23) لمحدث الهند الشاه ولي الله الدهلوي، فإنه قد بسط الكلام فيها فأجاد وأحسن، واتفقوا على أن أول عيد صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الفطر في السنة الثانية من الهجرة، وهي التي فرض رمضان في شعبانها، ثم داوم عليه
?الفصل الأول?
1440-(1) عن أبي سعيد الخدري قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/41)


النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن توفاه الله عزوجل، وقيل: شرع عيد الأضحى أيضا في السنة الثانية من الهجرة، واختلفوا في حكم صلاة العيدين؛ قال المرتضى الزبيدي الحنفي في شرح الإحياء: قال أصحابنا: صلاة العيدين واجبة على من تجب عليه الجمعة نصا عن أبي حنيفة في روايته على الأصح، وبه قال الأكثرون، وهو المذهب، ونقل ابن هبيرة في الإفصاح رواية ثانية عن الإمام بأنها سنة، قال ابن عابدين: الأول قول الأكثرين، كما في المجتبى ونص على تصحيحه في الخانية والبدائع والهداية والمحيط والمختار والكافي وغيرهما – انتهى. ورجح السرخسي في المبسوط كونها سنة، وقال مالك والشافعي: سنة مؤكدة لرواية الأعرابي إلا أن تطوع، وقال أحمد: هي فرض على الكفاية كالجنائز إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين، وبه قال بعض أصحاب الشافعي، والراجح عندي ما ذهب إليه أبوحنيفة من أنها واجبة على الأعيان لقوله تعالى: ?فصل لربك وانحر? [الكوثر: 2]، والأمر يقتضي الوجوب، ولمداومة النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعلها من غير ترك، ولأنها من أعلام الدين الظاهرة، فكانت واجبة، ولا يخالف ذلك حديث الأعرابي؛ لأن المراد نفي وجوب ما عدا الصلوات الخمس في كل يوم وليلة، وصلاة العيد ليست مما تجب وتتكرر في كل يوم وليلة. واختلفوا في شروطها، فقال الحنفية: يشترط لها جميع ما يشترط للجمعة وجوبا وأداء إلا الخطبة، فإنها ليست بشرط لها، بل هي سنة بعدها، وأجاز مالك والشافعي أن يصليها منفردا من شاء من الرجال والنساء والعبيد والمسافرين، وعن أحمد روايتان كالقولين، كما في المغني (ج2 ص392-393)، والمرجح عند الحنابلة هو القول الأول، والراجح عندي هو ما ذهب إليه مالك والشافعي لعدم ما يدل على ما ذهب إليه الحنفية من كون شروط الجمعة شروطا للعيد، والله تعالى أعلم.

(9/42)


1440- قوله (يخرج يوم الفطر والأضحى) أي يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى (إلى المصلى) أي مصلى العيد، وهو موضع معروف خارج باب المدينة، بينه وبين باب المسجد ألف ذراع، قاله عمر بن شبة في أخبار المدينة عن أبي غسان الكتاني صاحب مالك، واستدل به على استحباب الخروج إلى الصحراء لأجل صلاة العيد، وأن ذلك أفضل من صلاتها في المسجد ولو كان واسعا، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة والمالكية، وقال الشافعية: فعلها في المسجد الحرام وبيت المقدس أفضل من الصحراء تبعا للسلف والخلف، ولشرفهما ولوسعهما وفعلها في سائر المساجد إن اتسعت أولى؛ لأنها خير البقاع وأطهرها، ولسهولة الحضور إليها، فلو صلى في الصحراء كان تاركا للأولى، قال الشافعي في الأم: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وكذا من بعده إلا من عذر مطر ونحوه، وكذلك عامة أهل البلدان إلا أهل مكة،
فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/43)


ثم أشار إلى أن سبب ذلك سعة المسجد وضيق أطراف مكة، قال: فلو عمر بلد فكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أر أن يخرجوا منه، فإن كان لا يسعهم كرهت الصلاة فيه ولا إعادة، قال الحافظ: ومقتضى هذا أن العلة تدور على السعة والضيق لا لذات الخروج إلى الصحراء؛ لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أفضليته كان أولى – انتهى. قال الشوكاني: وفيه أن كون العلة الضيق والسعة مجرد تخمين لا ينتهض للاعتذار عن التأسي به - صلى الله عليه وسلم - في الخرج إلى الجبنانة بعد الاعتراف بمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. وأما الاستدلال على أن ذلك هو العلة بفعل الصلاة في مسجد مكة فيجاب عنه باحتمال أن يكون ترك الخروج إلى الجبانة لضيق أطرف مكة لا للسعة في مسجدها – انتهى. والراجح عندي ما ذهب إليه الحنفية من أن الخروج إلى الصحراء أفضل ولو كان مسجد البلد واسعا؛ لأنه قد واظب النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخروج إلى الجبانة وترك المسجد، وكذلك الخلفاء بعده، ولا يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الأفضل مع قربه، ويتكلف فعل الناقص مع بعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل، ولأننا قد أمرنا باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به، ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى العيد بمسجده إلا من عذر كما سيأتي؛ ولأن هذا إجماع المسلمين، فإن الناس في كل عصر ومصر يخرجون إلى المصلى، فيصلون العيد في المصلى مع سعة المسجد وضيقه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في المصلى مع شرف مسجده، وصلاة النفل في البيت أفضل منها في المسجد مع شرفه. (فأول شيء يبدأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (به الصلاة) برفع "أول" على أنه مبتدأ، وقوله "الصلاة" خبره، ولفظ "أول" وإن كان نكرة فقد تخصص بالإضافة، والأولى جعل أول خبرا مقدما والصلاة مبتدأ؛ لأنه معرفة وإن تخصص أول، فلا

(9/44)


يخرج عن التنكير، وجملة "يبدأ به" في محل الجر صفة لشيء. وفيه أن السنة تقديم الصلاة على الخطبة، وسيأتي الكلام عليه مبسوطا (ثم ينصرف) أي من الصلاة (فيقوم مقابل الناس) بكسر الباء حال أي مواجها لهم، وفي رواية ابن حبان: فينصرف إلى الناس قائما في مصلاه، ولابن خزيمة في رواية مختصرة خطب يوم علي على رجليه، وهذا مشعر بأنه لم يكن إذ ذاك في المصلى منبر، وفيه أن السنة كون الخطبة على الأرض عن قيام في المصلى، والفرق بينه وبين المسجد أن المصلي يكون بمكان فيه فضاء فيتمكن من رؤيته كل من حضر بخلاف المسجد، فإنه يكون في مكان محصور فقد لا يراه بعضهم، ووقع في آخر الحديث ما يدل على أن أول من خطب الناس في المصلى على المنبر مروان، وسيأتي الكلام عليه في آخر الباب (والناس جلوس) جملة اسمية حالية، و"جلوس" جمع جالس (على صفوفهم) أي مستقبلين له على حالتهم التي كانوا في الصلاة عليها (فيعظهم) أي يخوفهم عواقب الأمور، وقيل: يذكرهم بالعواقب بشارة مرة، ونذارة
ويوصيهم ويأمرهم، وإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف)) متفق عليه.
1441- (2) وعن جابر بن سمرة قال: ((صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/45)


أخرى، وبالوعد في الثواب، وبالوعيد في العقاب لئلا يستلذهم فرط السرور في هذا اليوم، فيغفلون عن الطاعة ويقعون في المعصية، وقيل: ينذرهم ويخوفهم ليتقوا من عقاب الله (ويوصيهم) بسكون الواو، وقيل: من التوصية أي بالتقوى لقوله تعالى: ?ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله? [النساء: 131]، وقيل: أي بما تنبغي الوصية به، وقيل: أي في حق الغير لينصحوا له، وقيل: بإدامة الطاعات، والتحرز عن السيئات، وبرعاية حقوق الله وحقوق عباده، ومنها النصح التام لكل مسلم (ويأمرهم) أي وينهاهم يعني بما يظهر له من الأمر والنهي المناسب للمقام فيكون الاختصار على يأمرهم من باب الاكتفاء. وقيل: يأمرهم بالحلال وينهاهم عن الحرام (وإن كان يريد) أي في ذلك الوقت (أن يقطع) أي يرسل (بعثا) بفتح الباء وسكون العين مصدر بمعنى المبعوث يعني طائفة من الجيش إلى جهة من الجهات للغزو (قطعه) أي أرسله، وقيل: "قطعه" بمعنى وزعه على القبائل وقسمه بأن يقول يخرج من بني فلان كذا، ومن بني فلان كذا، وفي النهاية: أي لو أراد أن يفرد قوما من غيرهم يبعثهم إلى الغزو لأفردهم وبعثهم (أو يأمر) بالنصب (بشيء) أي وإن كان يريد أن يأمر بشيء مما يتعلق بالبعث وقطعه من الحرب والاستعداد لها، وليس هذا بتكرار؛ لأن معناه غير معنى الأول على ما لا يخفى (أمر به) أي لأمر بما أراد به الأمر (ثم ينصرف) أي ثم هو يرجع إلى بيته (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، وفي آخره: فقال أبوسعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان، وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله، فقال: يا أباسعيد ! قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد

(9/46)


الصلاة فجعلتها قبل الصلاة – انتهى. وأصل الحديث أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي (ج3 ص280) وغيرهم.
1441- قوله (صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيدين غير مرة ولا مرتين) قال الطيبي: حال أي كثيرا (بغير أذان ولا إقامة) فيه دليل على عدم شرعية الأذان والإقامة في صلاة العيدين، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن لا يؤذن لصلاة العيدين ولا لشيء من النوافل، وقال العراقي: وعليه
رواه مسلم.
1442- (3) وعن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/47)


عمل العلماء كافة، وقال ابن قدامة في المغني (ج2 ص378): ولا نعلم في هذا خلافا لمن يعتد بخلافه إلا أنه روي عن ابن الزبير أنه أذن وأقام، وقيل: أول من أذن في العيدين ابن زياد – انتهى. وروى ابن أبي شيبة في المصنف بإسناد صحيح قال: أول من أحدث الأذان في العيد معاوية، وقد زعم ابن العربي أنه رواه عن معاوية من لا يوثق به، قال ابن قدامة: وقال بعض أصحابنا: ينادى لها الصلاة جامعة، وهو قول الشافعي، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يتبع – انتهى. قلت: استدل الشافعي لذلك بما روى عن الثقة عن الزهري أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن في العيدين فيقول: الصلاة جامعة، قال الحافظ: وهذا مرسل يعضده القياس على صلاة الكسوف لثبوت ذلك فيها – انتهى. قال الأمير اليماني: وفيه تأمل، قلت: ويخالفه ما روى مسلم عن عطاء عن جابر قال: لا أذان للصلاة يوم العيد ولا إقامة ولا شيء، فإن هذا يدل على أنه لا يقال أمام صلاتها شيء من الكلام، قال الزبيدي: والاعتبار في ذلك أنه لما توفرت الدواعي على الخروج في هذا اليوم إلى المصلى من الصغير والكبير سقط حكم الأذان والإقامة؛ لأنهما للإعلام لتنبيه الغافل، والتهيؤ ههنا حاصل، فحضور القلب مع الله يغني عن إعلام الملك بلمته الذي هو بمنزلة الأذن والإقامة للإسماع، والذي أحدثه معاوية مراعاة للنادر، وهو تنبيه الغافل، فإنه ليس ببعيد أن يغفل عن الصلاة بما يراه من اللعب – انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والترمذي والبيهقي (ج3 ص284).

(9/48)


1442- قوله (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة) قال التوربشتي: ذكر الشيخين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يقرره من السنة إنما يكون على وجه البيان لتلك السنة بأنها ثابتة معمول بها قد عمل الشيخان بها بعده، ولم ينكر عليهما ولم يغير، وكان ذلك بمحضر من مشيخة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس ذكرهما على سبيل الاشتراك في التشريع معاذ الله أن يظن فيه ذلك – انتهى. قلت: روى الجماعة إلا الترمذي عن ابن عباس قال: شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة، وفي الحديثين دليل على أن تقديم صلاة العيد على الخطبة هو الأمر الذي داوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه، واستمروا على ذلك، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن صلاة العيدين قبل الخطبة، وقيل: إن أول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم، وقال ابن قدامة (ج2 ص384): لا نعلم فيه خلافا بين المسلمين إلا عن بني أمية، وروي عن عثمان وابن الزبير أنهما فعلاه، ولم يصح ذلك عنهما.
.......................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/49)


ولا يعتد بخلاف بني أمية؛ لأنه مسبوق بالإجماع الذي كان قبلهم، ومخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة، وقد أنكر عليهم فعلهم، وعد بدعة ومحالفا للسنة – انتهى. فلو خطب قبل الصلاة فهو كمن لم يخطب؛ لأنه خطب في غير محل الخطبة فيعيد الخطبة بعد الصلاة فإن لم يفعل صحت الصلاة، وقد أساء لترك السنة، وإليه ذهب المالكية والحنابلة، قال الباجي: وما روي عن أبي سعيد من إنكاره على مروان تقديم الخطبة إنما كان على وجه الكراهة، ولذلك شهد مع مروان العيد، ولو كان أمرا محرما أو شرطا في صحة الصلاة لما شهده، وحكى القاري عن ابن الهمام لو خطب قبل الصلاة خالف السنة، ولا يعيد الخطبة، وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنها بعد الصلاة، ولا يجزئ التقديم، وأما الصلاة فصحيحة اتفاقا – انتهى. وفي مختصر المزني عن الشافعي ما يدل على عدم الاعتداد بالصلاة مع تقديم الخطبة، وكذا قال النووي في شرح المهذب: إن ظاهر نص الشافعي أنه لا يعتد بها، وقال: وهو الصواب، وهذا يدل على أن تقديم الخطبة على صلاة العيد حرام عند الشافعي، وهو مذهب الشافعية، كما هو مصرح في كتب فروعهم، قيل: وجه الفرق بين الجمعة وغيرها في تقديم الخطبة وتأخيرها أن خطبة الجمعة فريضة، فلو قدمت الصلاة على الخطبة ربما يتفرق جماعة من الناس إذا صلوا الصلاة، ولا ينتظرون الخطبة فيأثمون، وأما خطبة العيد فسنة، فلو صلى بعض القوم فلم ينتظروا استماع الخطبة لا إثم عليهم، واختلف في أول من خطب قبل الصلاة، فروي عن عمر أنه فعل ذلك، قال عياض ومن تبعه كابن العربي والعراقي: لا يصح عنه، قال الحافظ: وفيما قالوه نظر؛ لأن عبدالرزاق وابن أبي شيبة روياه جميعا بإسناد صحيح، لكن يعارضه حديث ابن عباس وحديث ابن عمر المذكوران، فإن جمع بوقوع ذلك منه نادرا، وإلا فما في الصحيحين أصح، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان، صلى بالناس

(9/50)


ثم خطبهم يعني على العادة، فرأى ناسا لم يدركوا الصلاة، ففعل ذلك أي صار يخطب قبل الصلاة، قال الحافظ: يحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحيانا، وروى عبدالرزاق عن ابن جريج عن الزهري قال: أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية، وروى مسلم عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، وقد أخرج الشافعي عن عبدالله بن يزيد نحو حديث ابن عباس المذكور، وزاد: حتى قدم معاوية فقدم الخطبة، فهذا يشير إلى أن مروان إنما فعل ذلك تبعا لمعاوية؛ لأنه كان أمير المدينة من جهته، وروى ابن المنذر عن ابن سيرين أن أول من فعل ذلك زياد بالبصرة، قال عياض: ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان؛ لأن كلا من مروان وزياد كان عاملا لمعاوية، فيحمل على أنه ابتدأ ذلك وتبعه عماله، والله أعلم. وقد ظهر بما قدمنا أن العلة التي ذكرت لتقديم عثمان الخطبة على الصلاة غير التي اعتل بها مروان؛ لأن عثمان راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة، وأما مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة، لكن قيل: إنهم كانوا في زمن مروان يتعمدون
متفق عليه.
1443- (4) وسئل ابن عباس: أشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيد؟ قال: نعم، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى، ثم خطب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/51)


ترك سماع خطبته لما فيها من سب من لا يستحق السب والإفراط في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه، قال الحافظ: يحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحيانا بخلاف مروان، فواظب عليه، فلذلك نسب إليه – انتهى. وقال العراقي: الصواب أن أول فعله مروان بالمدينة في خلافة معاوية، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، قال: ولم يصح فعله عن أحد من الصحابة لا عن عمر ولا عثمان ولا معاوية ولا ابن الزبير – انتهى. وقد عرفت صحة بعض ذلك، فالمصير إلى الجمع أولى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص(296).

(9/52)


1443- قوله (وسئل) بصيغة المجهول (ابن عباس) وعند البخاري في آخر كتاب النكاح، عن عبدالرحمن بن عابس: سمعت ابن عباس سأله رجل (أشهدت) أي أحضرت؟ وفي المصابيح: بحذف حرف الاستفهام موافقا لما في رواية البخاري المذكورة، ووقع في بعض نسخ البخاري: هل شهدت، وفي بعض الروايات: أشهدت، بذكر همزة الاستفهام، وهكذا ذكر الجزري رواية عبدالرحمن بن عابس (ج7 ص91)، (العيد) أي صلاته (قال) أي ابن عباس (نعم) أي شهدته، وفي البخاري بعده: ولولا مكاني منه ما شهدته يعني من صغره، قال: خرج...الخ (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي إلى المصلى (فصلى) بالناس العيد (ثم خطب) فيه دليل على مشروعية خطبة العيد، وليس فيه أنها خطبتان كالجمعة، وأنه يقعد بينهما، ولم يثبت ذلك من فعله - صلى الله عليه وسلم - بسند معتبر، وإنما صنعه الناس قياسا على الجمعة واستدلالا بما روى ابن ماجه عن يحيى بن حكيم عن أبي بحر عن عبيدالله بن عمرو الرقي عن إسماعيل بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فطر أو أضحى فخطب قائما، ثم قعد قعدة ثم قام، قال البوصيري: رواه النسائي في الصغرى من حديث جابر إلا قوله: ((يوم فطر أو أضحى))، وإسناد ابن ماجه فيه إسماعيل بن مسلم، وقد أجمعوا على ضعفه، وأبوبحر ضعيف – انتهى. وبما روى البزار في مسنده عن سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العيد بغير أذان ولا إقامة، وكان يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص203): رواه البزار وجادة، وفي إسناده من لم أعرفه – انتهى. وقال النووي في الخلاصة: وروي عن ابن مسعود أنه قال: من السنة أن يخطب في العيدين خطبتين، فيفصل بينهما بجلوس، ضعيف غير متصل، ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء، ولكن المعتمد فيه القياس على الجمعة – انتهى.

(9/53)


ولم يذكر أذانا ولا إقامة، ثم أتى النساء فوعظهن، وذكرهن، وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن يدفعن إلى بلال، ثم ارتفع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ولم يذكر) أي ابن عباس في بيان كيفية صلاته - صلى الله عليه وسلم - (أذانا ولا إقامة) وهذه الجملة معترضة (ثم أتى النساء) أي بعد الخطبة، ومعه بلال، وهذا يشعر بأن النساء كن على حدة من الرجال غير مختلطات بهم (فوعظهن) أي أنذرهن العقاب أو نصحهن بالخصوص لبعدهن وعدم سماعهن الخطبة (وذكرهن) بتشديد الكاف من التذكير، تفسير لسابقه أو تأكيد له، وقيل: تأسيس والمعنى ذكرهن بالأوامر والنواهي المختصة بهن (وأمرهن بالصدقة) الظاهر أن المراد بها مطلق الصدقة، وقيل: المراد الزكاة خاصة وفيه استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام وتذكيرهن بما يجب عليهن ويستحب حثهن إلى الصدقة، وتخصيص بذلك في مجلس منفرد. ومحل ذلك كله إذا أمن الفتنة والمفسدة (يهوين) بفتح أوله وكسر الواو من الهوي وبضم أوله من الأهواء أي يقصدن (إلى آذانهن) بالمد جمع أذن، وقيل: المراد يهوين بأيديهن إلى آذانهن أي يمددن أيديهن إليها (وحلوقهن) جمع حلق بفتح الحاء وسكون اللام، وهو الحلقوم أي إلى ما فيها من القرط والقلادة (يدفعن) أي حال كونهن يدفعن ما أخذن من آذانهن وحلوقهن (إلى بلال) أي بإلقائه في ثوبه، وفي رواية: يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال، أي يمددن أيديهن بالصدقة حال كونهن يرمين المتصدق به في ثوب بلال، يقال: أهوى بيده إليه أي مدها نحوه وأمالها إليه، ويقال: أهوى بيده إلى الشيء ليأخذه، أي مد يده إليه، وقيل: الباء زائدة. وحقيقته أهوى يده إليه أي جعلها هاوية بمعنى ذاهبة قاصدة، ثم الأقرب أن الحلي كانت ملكا لهن، واستدل به على جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها، وعلى مقدار معين من مالها كالثلث خلافا لبعض المالكية، ووجه الدلالة من القصة ترك

(9/54)


الاستفصال عن ذلك كله، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسألهن هل استأذن أزواجهن في ذلك أم لا، وهل هو خارج من الثلث أم لا؟ ولو اختلف الحكم بذلك لسأل، لا يقال: إن الغالب حضور أزواجهن فتركهم الإنكار يكون رضا بفعلهن؛ لأنا نقول: إن النساء كن معتزلات لا يعلم الرجال من المتصدقة منهن من غيرها، ولا قدر ما يتصدق به، ولو علموا فسكوتهم ليس إذنا، وقال القرطبي: ليس فيه تسليم أزواجهن لهن ذلك؛ لأن من ثبت له الحق فالأصل بقاءه حتى يصرح بإسقاطه، ولم ينقل أن القوم صرحوا بذلك – انتهى. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها، فهو محمول على الأولى، وخص منه أمر المولى، أو محمول على العطية العرفية من الهبة للأجنبية بناء على المعاشرة الزوجية، أو على الصدقات التطوعية دون الواجبات والفرضية، وقيل: لا يقاوم هذا أحاديث الجواز فلا حاجة إلى الجمع والتوفيق (ثم ارتفع) أي ذهب وأسرع من ارتفع البعير في سيره أي أسرع
هو وبلال إليه بيته)). متفق عليه.
1444- (5) وعن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم الفطر ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال القسطلاني: أي رجع (هو) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (وبلال إلى بيته) أي إلى بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي الحديث خروج النساء والصبيان إلى المصلى في الأعياد وإن لم يصلوا. (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواضع بألفاظ متقاربة، واللفظ المذكور له في باب "والذين لم يبلغوا الحلم منكم" من كتاب النكاح، وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص307).

(9/55)


1444- قوله (صلى يوم الفطر) صلاة العيد (ركعتين) هو دليل على أن صلاة العيد ركعتان وهو إجماع فيمن صلى مع الإمام في الجبانة، وأما إذا فاتته صلاة الإمام فصلى وحده، فكذلك عند الأكثر، وذهب أحمد والثوري إلى أنه يصلي أربعا، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود من فاتته صلاة العيد مع الإمام فليصل أربعا، وهو إسناد صحيح، وقال إسحاق: إن صلاها في الجبانة فركعتين، وإلا فأربعا، وقال أبوحنيفة: إذا قضى صلاة العيد فهو مخير بين اثنين وأربع (لم يصل قبلهما) أي قبل الركعتين، وروي "قبلها وبعدها" بإفراد الضمير نظرا إلى الصلاة (ولا بعدهما) أي في المصلى؛ لحديث أبي سعيد الخدري أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي قبل العيد شيئا، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين، أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه، وحسنه الحافظ في الفتح، وفي بلوغ المرام. وأما "قبل الركعتين" فيحتمل الإطلاق والتقييد. قال السندي: لم يصل قبلها أن مطلقا أو في المصلى. وأما قوله: "ولا بعدها" فلابد من تقييده بالمصلى – انتهى. قلت: حديث أبي سعيد الخدري يشهد لكراهة الصلاة قبل الركعتين مطلقا أي في المصلى وفي غيره؛ لأنه نفي مطلق بخلاف حديث ابن عباس فإنه أخبر أنه شاهده في المصلى لم يصل شيئا، وقد يكون صلى في منزله، ففيه احتمال أن يكون مختصا بالمصلى دون البيت، ولذلك قلنا: إن قوله "لم يصل قبلهما" يحتمل الإطلاق والتقييد، واختلف العلماء في التطوع قبل صلاة العيد وبعدها، فذهب أحمد إلى أنه يكره التنفل قبلها وبعدها للإمام والمأموم في موضع الصلاة سواء كان في المصلى أو المسجد، وهو مذهب ابن عباس وابن عمر، وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة، وقال مالك: إن كانت الصلاة في المصلى فإنه لا يتنفل قبلها ولا بعدها، سواء كان إماما أو مأموما، وإن كانت في المسجد ففيه روايتان: إحداهما المنع كالمصلى، والأخرى يتنفل قبل الجلوس وبعد الصلاة، وقال الشافعي: يكره للإمام بعد

(9/56)


الحضور التنفل قبلها وبعدها لاشتغاله بغير الأهم، ولمخالفة فعله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه صلى عقب حضوره، وخطب عقب صلاته، وأما المأموم فلا يكره له ذلك قبلها مطلقا
متفق عليه.
1445- (6) وعن أم عطية قالت: ((أمرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في غير الوقت المنهي عنه ولا بعدها إن لم يسمع الخطبة؛ لأنه لم يشتغل بغير الأهم بخلاف من يسمعها، فإنه معرض عن الخطيب بالكلية، وقال الحنفية: لا يتنفل قبلها مطلقا وكذا بعدها في مصلاها، فإن تنفل بعدها في البيت جاز، قال ابن العربي: التنفل في المصلى لو فعل لنقل، ومن أجازه رأى أنه وقت مطلق للصلاة، ومن تركه رأى أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يفعله، ومن اقتدى فقد اهتدى – انتهى. قال الحافظ: والحاصل أن صلاة العيد لم يثبت لها سنة قبلها ولا بعدها خلافا لمن قاسها على الجمعة، وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام – انتهى. وكذا قال العراقي في شرح الترمذي , قال الشوكاني: وهو كلام صحيح جار على مقتضى الأدلة، فليس في الباب ما يدل على منع مطلق النفل ولا على منع ما ورد فيه دليل يخصه كتحية المسجد إذا أقيمت صلاة العيد في المسجد – انتهى. قلت: القول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد من كراهة التنفل للإمام والمأموم في موضع الصلاة قبلها وبعدها؛ لحديث ابن عباس، ولما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في صلاة العيد سبعا وخمسا، ويقول لا صلاة قبلها ولا بعدها، حكى ابن عقيل أن الإمام ابن بطة رواه بإسناده، ذكره ابن قدامة في المغني، وقال الحافظ في التلخيص: روى أحمد من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعا: لا صلاة يوم العيد لا قبلها ولا بعدها، فإن صح هذا كان دليلا على المنع مطلقا؛ لأنه نفي في قوة النهي، وقد سكت عليه الحافظ فينظر فيه.

(9/57)


(متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص295، 302) وغيرهم.
1445- قوله (وعن أم عطية) بفتح العين وكسر الطاء اسمها نسيبة – بضم النون وفتح السين المهملة وسكون الياء وفتح الباء الموحدة، وقيل: بفتح أولها مكبرا – بنت الحارث، وقيل: بنت كعب الأنصارية، بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت من كبار الصحابيات، وكانت تغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا، تداوي الجرحى، وتمرض المرضى، تعد في أهل البصرة، وكانت جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت؛ لأنها شهدت غسل بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحكت ذلك وأتقنت، فحديثها أصل في غسل الميت، ويأتي حديثها هذا في كتاب الجنائز (أمرنا) مبني للمجهول للعلم بالآمر، وإنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية للبخاري: أمرنا نبينا (أن نخرج) بضم النون وكسر الراء من الإخراج أي إلى المصلى (الحيض) بالنصب على المفعولية، وهو بضم الحاء وتشديد الياء المفتوحة – جمع حائض أي المباشرات بالحيض (يوم العيدين) قال المالكي: فيه إفراد اليوم، وهو المضاف إلى العيدين، وهو في المعنى مثنى، ونحو قوله: "ومسح أذنيه
وذوات الخدور، فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، وتعتزل الحيض عن مصلاهن، قالت امرأة: يا رسول الله ! إحدانا ليس لها جلباب؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/58)


ظاهرهما وباطنهما، يعني حيث أفرد الظاهر والباطن، قال ابن حجر: فلو روى الحديث بلفظ التثنية على الأصل لجاز أي جاز أن يقول يومي العيدين أو يومي العيد (وذوات الخدور) منصوب بالكسر كمسلمات عطفا على الحيض والخدور – بضم الخاء المعجمة والدال المهملة – جمع خدر بكسرها وسكون الدال، وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه. وقال الجزري: الخدر ناحية في البيت، يكون عليها ستر، فتكون فيها الجارية البكر، وهي المخدرة أي خدرت في الخدر، وفي رواية: نخرج العواتق وذوات الخدور والحيض، والعواتق جمع عاتق، وهي الشابة أول ما تدرك، وقيل: هي التي قاربت البلوغ، وقيل: هي الجارية التي قد أدركت وبلغت، فخدرت في بيت أهلها ولم تتزوج، سميت بذلك لأنها عتقت عن خدمة أبويها، ولم يملكها زوج بعد (فيشهدن) أي يحضرن (جماعة المسلمين ودعوتهم) أي دعائهم وفي رواية: يشهدن الخير ودعوة المسلمين، قيل: المراد بشهود الخير هو الدخول في فضيلة الصلاة لغير الحيض، وقوله: "دعوة المسلمين" يعم الجميع، واستدل بقوله: "دعوة المسلمين" على مشروعية الدعاء بعد صلاة العيد، كما يدعى دبر الصلوات الخمس، وفيه نظر؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء صلاة العيدين، ولم ينقل أحد الدعاء بعدها بل الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخطب بعد الصلاة من غير فصل بشيء آخر، فلا يصح التمسك بإطلاق قوله "دعوة المسلمين" والظاهر أن المراد بها الأذكار التي في الخطبة وكلمات الوعظ والنصح، فإن لفظ الدعوة عام والله تعالى أعلم. (وتعتزل الحيض عن مصلاهن) أي عن مكان صلاة النساء اللاتي لسن بحيض يعني تنفصل وتقف في موضع منفردات غير مختلطات بالمصليات خوف التنجيس والإخلال بتسوية الصفوف، وهو خبر بمعنى الأمر، قال في الفتح: حمله الجمهور على الندب؛ لأن المصلى ليس بمسجد فيمتنع الحيض من دخوله، وقال ابن المنير: الحكمة في اعتزالهن أي في وقوفهن وهن لا يصلين مع

(9/59)


المصليات إظهار استهانة بالحال، فاستحب لهن اجتناب ذلك – انتهى. وفي رواية: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها حتى نخرج الحيض، فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته، وفي رواية: فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهد الخير ودعوة المسلمين، وفيه أن الحائض لا تهجر ذكر الله ولا مواطن الخير كمجالس العلم والذكر سوى المساجد، قال الخطابي: أمر جميع النساء بحضور المصلى يوم العيد لتصلي من ليس لها عذر وتصل بركة الدعاء إلى من لها عذر، وفيه ترغيب الناس في حضور الصلوات ومجالس الذكر ومقاربة الصلحاء لينالهم بركتهم. (قالت امرأة) هي أم عطية نفسها، كما تدل عليه رواية الشيخين (إحدانا) أي ما حكم واحدة منا (ليس لها جلباب) وقال القسطلاني: قوله: "إحدانا" أي بعضنا مبتدأ
قال: لتلبسها صاحبتها من جلبابها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/60)


خبره "ليس لها جلباب" أي كيف تشهد ولا جلباب لها وذلك بعد نزول الحجاب، وفي رواية: أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لا تخرج؟ والجلباب بكسر الجيم وسكون اللام وبموحدتين بينهما ألف، كساء تستتر النساء به إذا خرجن من بيتهن، وقال في القاموس: الجلباب كسرداب وسنمار: القميص وثوب واسع للمرأة دون الملحفة، أو ما يغطى به ثيابها من فوق كالملحفة، أو هو الخمار – انتهى. (لتلبسها) بضم التاء وسكون اللام وكسر الموحدة وجزم المهملة، أمر من الإلباس على سبيل الندب (صاحبتها) بالرفع على الفاعلية (من جلبابها) قال الحافظ: يحتمل أن يكون للجنس، أي تعيرها من جنس ثيابها يعني تعيرها من ثيابها ما لا تحتاج إليه، ويؤيده رواية ابن خزيمة من جلابيبها، وللترمذي: فلتعرها أختها من جلابيبها، والمراد بالأخت الصاحبة، ويحتمل أن يكون المراد تشركها معها في ثوبها الذي عليها، ويؤيده رواية أبي داود: تلبسها صاحبتها طائفة من ثوبها، يعني إذا كان واسعا، ويحتمل أن يكون المراد بقوله "ثوبها" جنس الثياب، فيرجع للأول، ويؤخذ منه جواز اشتمال المرأتين في ثوب واحد عند التستر، وقيل: إنه ذكر على سبيل المبالغة أي يخرجن على كل حال ولو اثنتين في جلباب – انتهى. وفي الحديث من الفوائد أن من شأن العواتق المخدرات عدم البروز إلا فيما أذن لهن فيه، وفيه استحباب إعداد الجلباب للمرأة، ومشروعية عارية الثياب، وفيه امتناع خروج المرأة بغير جلباب، وفيه استحباب خروج النساء إلى شهود العيدين، سواء كن شواب أم لا، وذوات هيئات أم لا، قال الشوكاني: حديث أم عطية وما في معناه من الأحاديث قاضية بمشروعية خروج النساء في العيدين إلى المصلى من غير فرق بين البكر والثيب والشابة والعجوز والحائض وغيرها ما لم تكن معتدة أو كان في خروجها فتنة، أو كان لها عذر، وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال: أحدها أن ذلك مستحب، وحملوا الأمر فيه على الندب، ولم يفرقوا بين الشابة

(9/61)


والعجوز، وهذا قول أبي حامد من الحنابلة والجرجاني من الشافعية، وهو ظاهر إطلاق الشافعي. القول الثاني: التفرقة بين الشابة والعجوز، قال العراقي: وهو الذي عليه جمهور الشافعية تبعا لنص الشافعي في المختصر. والقول الثالث: أنه جائز غير مستحب لهن مطلقا، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد فيما نقله عنه ابن قدامة في المغني (ج2 ص375-376). والرابع: أنه مكروه، وقد حكاه الترمذي عن الثوري وابن المبارك، وهو قول مالك وأبي يوسف، وحكاه ابن قدامة عن النخعي ويحيى بن سعيد الأنصاري، وروى ابن أبي شيبة عن النخعي أنه كره للشابة أن تخرج إلى العيدين، والقول الخامس: أنه حق على النساء الخروج إلى العيد، حكاه القاضي عياض عن أبي بكر وعلي وابن عمر، وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي بكر وعلي أنهما قالا: حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين. قال الحافظ: وقد ورد هذا مرفوعا بإسناد لا بأس به، أخرجه أحمد وأبويعلى وابن المنذر من طريق امرأة من عبدالقيس عن أخت عبدالله بن
متفق عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/62)


رواحة والمرأة لم تسم، والأخت اسمها عمرة صحابية، وقوله "حق" يحتمل الوجوب، ويحتمل تأكد الاستحباب – انتهى. قال الشوكاني: والقول بكراهة الخروج على الإطلاق رد للأحاديث الصحيحة بالآراء الفاسدة، وتخصيص الشواب يأباه صريح الحديث المتفق عليه وغيره – انتهى. قلت: ذهب الحنفية إلى كراهة الخروج للعيدين للشواب دون العجائز، قال ابن الهمام: وتخرج العجائز للعيد لا الشواب – انتهى. قال القاري بعد نقل كلام ابن الهمام ما لفظه: وهو قول عدل، لكن لابد أن يقيد بأن تكون غير مشتهاة ي ثياب بذلة بإذن حليلها مع الأمن من المفسدة، بأن لا يختلطن مع الرجال، ويكن خاليات من الحلي والحلل البخور والشموم والتبختر والتكشف ونحوهما مما أحدثن في هذا الزمان من المفاسد، وقد قال أبوحنيفة: ملازمات البيوت لا يخرجن – انتهى. قلت: لا دليل على منع الخروج للعيد للشواب وذوات الهيئات مع الأمن من المفاسد مما أحدثن في هذا الزمان، بل هو مستحب لهن، وهو القول الراجح، وأما الاستدلال على كراهة خروج النساء إلى العيدين مطلقا بقول عائشة: لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء لمنعهن من الخروج كما منعت نساء بني إسرائيل، فمردود لوجوه ثمانية سردها ابن حزم في المحلى (ج4 ص200)، وقد أوردنا بعضها في باب فضل الجماعة نقلا عن الفتح، قال الحافظ: وقد ادعى بعضهم النسخ فيه، قال الطحاوي: وأمره – عليه السلام – بخروج الحيض وذوات الخدور إلى العيد يحتمل أن يكون في أول الإسلام، والمسلمون قليل، فاريد التكثير بحضورهن إرهابا للعدو، وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، قال الكرماني: تاريخ الوقت لا يعرف، قال الحافظ: بل هو معروف بدلالة حديث ابن عباس أنه شهد خروجهن، وهو صغير، وكان ذلك بعد فتح مكة، ولا حاجة إليهن لقوة الإسلام حينئذ، فلم يتم مراد الطحاوي، وقد صرح في حديث أم عطية بعلة الحكم، وهو شهودهن الخير ودعوة

(9/63)


المسلمين ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أم عطية بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمدة، ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك، وأما قول عائشة: لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء...الخ فلا يعارض ذلك لندوره إن سلمنا أن فيه دلالة على أنها أفتت بخلافه مع أن الدلالة منه بأن عائشة أفتت بالمنع ليست صريحة، وفي قوله: "إرهابا للعدو" نظر؛ لأن الاستنصار بالنساء والتكثر بهن في الحرب دال على الضعف، والأولى أن يخص ذلك بمن يؤمن عليها وبها الفتنة ولا يترتب على حضورها محذور ولا تزاحم الرجال في الطريق ولا في المجامع – انتهى. وقال ابن قدامة بعد ذكر قول عائشة المذكور: وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع، وقول عائشة مختص بمن أحدثت دون غيرها، ولا شك بأن ذلك يكره لها الخروج، وإنما يستحب لهن الخروج غير متطيبات ولا يلبسن ثوب شهرة ولا زينة ويخرجن في ثياب البذلة؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وليخرجن تفلات))، ولا يخالطن الرجال، بل يكن ناحية منهن – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواضع ومسلم في العيدين بألفاظ مختلفة، واللفظ الذي أتى به
1446- (7) وعن عائشة قالت: إن أبابكر دخل عليها وعند جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان، وفي رواية: تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصنف للبخاري في باب "وجوب الصلاة في الثياب" من أوائل الصلاة، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص305-306) وغيرهم.

(9/64)


1446- قوله (جاريتان) دون البلوغ من جوار الأنصار، إحداهما لحسان بن ثابت، كما في حديث أم سلمة عند الطبراني، أو كلاهما لعبدالله بن سلام، كما في الأربعين للسلمي، وفي العيدين لابن أبي الدنيا من طريق فليح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: دخل علي أبوبكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - متقنع، وحمامة وصاحبتها تغنيان عندي، قال الحافظ: إسناده صحيح، ولم أقف على تسمية الأخرى، ولم يذكر أحد من مصنفي أسماء الصحابة حمامة هذه، نعم ذكر الذهبي في التجريد حمامة أم بلال اشتراها أبوبكر وأعتقها (في أيام منى) بعدم الانصراف، وقيل: ينصرف يعني الثلاثة بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، والمراد أيام عيد الأضحى بالمدينة لا بمنى (تدففان) بفائين من التدفيف أي تضربان بالدف يعني مع الغناء، وفي رواية لمسلم: تلعبان بدف، وللنسائي: تصربان بدفين، والدف: بضم الدال وفتحها، والضم أفصح وأشهر، ويقال له أيضا: الكربال – بكسر الكاف -، وهو الذي لا جلاجل فيه، فإن كانت فيه فهو المزهر. (وتضربان) أي بالدف، فيكون عطفا تفسيريا، قال الطيبي: هذا تكرار لزيادة الشرح (وفي رواية) أي للشيخين (تغنيان) أي ترفعان أصواتهما بإنشاد الشعر، وهو قريب من الحداء (بما تقاولت الأنصار) أي قال بعضهم لبعض من فخر أو هجاء، وفي رواية: بما تعازفت – بعين مهملة وزاي وفاء – من العزف، وهو الصوت الذي له دوي، وفي رواية: بما تقاذفت بقاف بدل الغين وذال معجمة بدل الزاي من القذف، وهو هجاء بعضهم لبعض (يوم بعاث) بضم الباء الموحدة وتخفيف العين المهملة، وفي آخره ثاء مثلثة بالصرف وعدمه، وقال صاحب المطالع: الأشهر فيه ترك الصرف، قال البكري: هو موضع من المدينة على ليلتين، وقال صاحب النهاية: هو اسم حصن للأوس، وقيل: هو موضع في ديار بني قريظة فيه أموالهم، وكان موضع الوقعة في مزرعة لهم هناك، ولا منافة بين ا لقولين، قال الخطابي: يوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب، وكانت

(9/65)


فيه مقتلة عظيمة بين الأوس والخزرج، وكانت النصرة للأوس، واستمرت المقتلة مائة وعشرين سنة حتى جاء الإسلام فألف الله بينهم ببركة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكره ابن إسحاق وغيره، وتبعه على هذا جماعة من شراح الصحيحين، قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه يوهم أن الحرب التي وقعت يوم بعاث دامت هذه المدة، وليس كذلك، فسيأتي في أوائل الهجرة قول عائشة: كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله، فقدم المدينة، وقد افترق ملؤهم وقتلت سراتهم، وقد روى ابن سعد بأسانيده أن النفر الستة أو الثمانية الذين لقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى أول من
والنبي - صلى الله عليه وسلم - متغش بثوبه، فانتهرهما أبوبكر، فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجهه فقال: ((دعهما يا أبابكر، فإنها أيام عيد – وفي رواية -: يا أبابكر، إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/66)


لقيه من الأنصار وكانوا قد قدموا مكة ليحالفوا قريشا كان في جملة ما قالوا له لما دعاهم إلى الإسلام والنصر له وأعلم أنما كانت وقعة بعاث عام الأول، فموعدك الموسم القابل، فقدموا في السنة التي تليها، فبايعوه، وهي البيعة الأولى، ثم قدموا الثانية فبايعوه، وهم سبعون نفسا، وهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوائل التي تليها، فدل ذلك على أن وقعة بعاث كانت قبل الهجرة بثلاث سنين، وهو المعتمد، نعم دامت الحرب بين الحيين الأوس والخزرج المدة التي ذكرها في أيام كثيرة شهيرة – انتهى. وزاد في الرواية المذكورة: وليستا بمغنيتين، أي ليس الغناء عادة لهما، ولا هما معروفتان به، قال في شرح السنة: كان الشعر الذي تغنيان به في وصف الحرب والشجاعة، وفي ذكره معونة لأمر الدين، وأما الغناء بذكر الفواحش والمنكرات من القول فهو المحظور من الغناء، وحاشا أن يجري شيء من ذلك بحضرته – عليه الصلاة والسلام -. (متغش بثوبه) أي متغط وملتف به (فانتهرهما أبوبكر) أي زجر الجاريتين، وفي رواية: فانتهرني، ويجمع بأنه شرك بينهن في الانتهار والزجر، أما عائشة فلتقريرها لهما على الغناء وضرب الدف، وأما الجاريتان فلفعلهما ذلك في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزاد في رواية وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ بكسر الميم آخره هاء التأنيث، يعني الغناء أو الدف، وهي مشتقة من الزمير، وهو الصوت الذي له صفير، ويطلق على الصوت الحسن والغناء، وسميت به الآلة التي يزمر بها، وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها تلهي، فقد تشغل القلب عن ذكر الله تعالى، وهذا من الشيطان، وهذا من أبي بكر إنكار لما سمع معتمدا على ما تقرر عنده من منع الغناء واللهو مطلقا، ولم يعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - أقرهن على هذا التقرير اليسير لكونه دخل فوجده مضطجعا، فظنه نائما فتوجه له الإنكار (فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجهه) أي الثوب،

(9/67)


وفي رواية: فكشف رأسه (دعهما) أي أترك الجاريتين (فإنها) أي هذه الأيام (أيام عيد) أي أيام سرور وفرح شرعي لأهل الإسلام (وفي رواية) أي للشيخين (يا بابكر إن لكل قوم) أي إن لكل طائفة من الأمم المختلفة (عيدا) يسمونه باسم النيروز والمهرجان (وهذا) أي هذا الوقت أو هذا اليوم (عيدنا) أي يوم عيدنا معاشر الإسلام، وهو يوم سرور شرعي، فلا ينكر مثل هذا، قال الحافظ: قوله: ((إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا)) فيه تعليل الأمر بتركهما وإيضاح خلاف ما ظنه الصديق من أنهما فعلتا ذلك بغير علمه - صلى الله عليه وسلم -؛ لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه، فظنه نائما فتوجه له الإنكار على ابنته من هذه الأوجه مستصحبا لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو، فبادر إلى إنكار ذلك قياما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك مستندا إلى ما ظهر له، فأوضح له النبي - صلى الله عليه وسلم - الحال،
............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/68)


وعرفه الحكم مقرونا ببيان الحكمة بأنه يوم عيد، أي يوم سرور شرعي، فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس، وبهذا يرتفع الإشكال عمن قال: كيف ساغ للصديق إنكار شيء أقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكلف جوابا لا يخفى تعسفه – انتهى. وقال الطيبي: وهذا اعتذار منه – عليه الصلاة والسلام – بأن إظهار السرور في يوم العيدين شعار أهل الدين، وليس كسائر الأيام. قال النووي: اختلف العلماء في الغناء، فأباحه جماعة من أهل الحجاز، وهي رواية عن مالك، وحرمه أبوحنيفة وأهل العراق، ومذهب الشافعي كراهته، وهو المشهور من مذهب مالك، واحتج المجوزون بهذا الحديث، وأجاب الآخرون بأن هذا الغناء إنما كان في الشجاعة والقتل والحذق في القتال ونحو ذلك مما لا مفسدة فيه، بخلاف الغناء المشتمل على ما يهيج النفوس على الشر، ويحملها على البطالة والقبيح، قال القاضي: إنما كان غناهما بما هو من أشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة والظهور والغلبة، وهذا لا يهيج الجواري على شر، ولا إنشادهما كذلك من الغناء المختلف فيه، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد، ولهذا قالت: وليستا بمغنيتين، أي ليستا ممن يغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى، والتعريض بالفواحش، والتشبيب بأهل الجمال وما يحرك النفوس ويبعث الهوى، والغزل كما قيل: "الغناء رقية الزنا"، وليستا أيضا ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذي فيه تمطيط وتكسير، وعمل يحرك الساكن، ويبعث الكامن، ولا ممن اتخذ ذلك صنعة وكسبا، والعرب تسمى الإنشاد غناء، وليس هو من الغناء المختلف فيه، بل هو مباح، وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذي هو مجرد الإنشاد والترنم، وأجازوا الحداء وفعلوه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي كل هذا إباحة مثل هذا وما في معناه، وهذا أو مثله ليس بحرام – انتهى كلام النووي. وقال الحافظ في الفتح: استدل جماعة من الصوفية بحديث الباب على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة، ويكفي في

(9/69)


رد ذلك تصريح عائشة بقولها: "وليستا بمغنيتين" فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ؛ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب – بفتح النون وسكون المهملة – وعلى الحداء، ولا يسمى فاعله مغنيا، وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير، وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح. قال القرطبي: قولها "ليستا بمغنيتين" أي ليستا ممن يعرف الغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرك الساكن، ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، وإن ذلك يثمر سنتي الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرفة، والله المستعان – انتهى. قال الحافظ: وينبغي أن يعكس مرادهم ويقرأ سيء عوض النون
متفق عليه.
1447- (8) وعن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/70)


الخفيفة المكسورة بغير همز بمثناة تحتية ثقيلة مهموزا، وأما الآلات فقد حكى قوم الإجماع على تحريمها، وحكى بعضهم عكسه، وقد بسط الكلام في ذلك الشوكاني في النيل في آخر أبواب السبق، والعلامة البوفالي في دليل الطالب وهداية السائل، وسنذكر تفصيل المسألة في كتاب النكاح، وفي الموضع الذي يليق بذلك إن شاء الله تعالى، ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحوه إباحة غيره من الآلات كالعود ونحوه، كما سنبينه في كتاب النكاح، قال الحافظ: وأم التفافه - صلى الله عليه وسلم - بثوب ففيه إعراض عن ذلك لكون مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك، لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره، إذ لا يقرر على باطل، والأصل التنزه عن اللعب واللهو، فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتا وكيفية تقليلا لمخالفة الأصل. وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم به بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة، وأن الإعراض عن ذلك أولى، وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين، وفيه جواز دخول الرجل على ابنته وهي عند زوجها إذا كان له بذلك عادة، وتأديب الأب بحضرة الزوج وإن تركه الزوج، إذ التأديب وظيفة الآباء، والعطف مشروع من الأزواج للنساء. وفيه أن مواضع أهل الخير تنزه عن اللهو واللغو، وإن لم يكن فيه إثم إلا بإذنهم. وفيه أن التلميذ إذا رأى عند شيخه ما يستكره مثله بادر إلى إنكاره، ولا يكون في ذلك إفتيات على شيخه، بل هو أدب منه ورعاية لحرمته، وإجلال لمنصبه. وفيه فتوى التلميذ بحضرة شيخه بما يعرف من طريقته، ويحتمل أن يكون أبوبكر ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام فخشي أن يستيقظ، فيغضب على ابنته، فبادر إلى سدر هذه الذريعة، واستدل به على جواز سماع صوت الجارية بالغناء ولو لم تكن مملوكة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على أبي بكر سماعه، بل أنكر إنكاره واستمرتا

(9/71)


إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج، ولا يخفى أن محل الجواز ما إذا أمنت الفتنة بذلك، واستنبط من تسمية أيام منى بأنها أيام عيد مشروعية قضاء صلاة العيد فيها لمن فاتته – انتهى كلام الحافظ. (متفق عليه) واللفظ للخاري في باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين، والحديث أخرجه أيضا أحمد والنسائي.
1447- قوله (لا يغدو) أي لا يخرج إلى المصلى لصلاة العيد (يوم الفطر) أي يوم عيد الفطر (حتى يأكل تمرات) ولفظ الإسماعيلي وابن حبان والحاكم: ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثا أو خمسا أو سبعا، أو أقل من ذلك أو أكثر وترا، وهي أصرح في المداومة على ذلك، قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن
ويأكلهن وترا)) رواه البخاري.
1448- (9) وعن جابر قال: ((كان - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/72)


لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلى العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة، وقيل: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع، وسيأتي توجيه آخر لابن المنير في شرح حديث بريدة في الفصل الثاني. قال ابن قدامة لا نعلم في استحباب تعجيل الأكل يوم الفطر اختلافا – انتهى. والحكمة في استحباب التمر لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، ولأن الحلو مما يوافق الإيمان، ويعبر به المنام، ويرق به القلب، وهو أيسر من غيره، ومن ثم استحب بعض التابعين أنه يفطر على الحلو مطلقا كالعسل، رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما، وروى فيه معنى آخر عن ابن عون أنه سئل عن ذلك، فقال: إنه يحبس البول، وهذا كله في حق من يقدر على ذلك، وإلا فينبغي أن يفطر ولو على الماء ليحصل له شبه ما من الاتباع (ويأكلهن) بالرفع (وترا) ولفظ أحمد "ويأكلهن أفرادا" والحكمة في جعلهن وترا الإشارة إلى الوحدانية، وكذلك كان يفعل - صلى الله عليه وسلم - في جميع أموره تبركا بذلك (رواه البخاري)، وأخرجه أيضا أحمد والبخاري في تاريخه والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1 ص394)، والبيهقي (ج3 ص282-283)، وقول المصنف رواه البخاري فيه شيء؛ لأن جملة "ويأكلهن وترا" أوردها البخاري تعليقا ووصلها أحمد وغيره، وإيراد المصنف يقتضي أنه يرويها في صحيحه موصولا، وليس كذلك، فإنه أخرج الحديث موصولا مسندا من طريق هشيم عن عبيدالله بن أبي بكر بن أنس عن أنس إلى قوله: "حتى يأكل تمرات" ثم قال: وقال مرجى بن رجاء: حدثني عبيدالله بن أبي بكر قال: حدثني أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويأكلهن وترا، ويمكن أن يقال من قبل المصنف أنه لم يلتزم بيان التمييز بين الموصولات والمعلقات في ديباجة الكتاب، لكن مواقع استعمالاته في بيان

(9/73)


المخرج يشعر بالالتزام حيث قال في بعض المواضع: رواه البخاري، والأمر فيه هين، قاله ميرك. قلت: قوله رواه البخاري لا يخلو عن نظر، والأمر ليس بهين،كما لا يخفى على المتأمل الخبير، والظاهر أن المصنف قلد في ذلك الجزري حيث قال في جامع الأصول (ج7 ص97) بعد ذكر الحديث إلى قوله: "ويأكلهن وترا" رواه البخاري.
1448- قوله (إذا كان يوم عيد) بالرفع فاعل "كان" وهي تامة تكتفي بمرفوعها أي إذا وقع يوم عيد، وجواب إذا قوله (خالف الطريق) أي رجع من مصلاه في غير طريق الذهاب إليه يعني يخرج إليه من طريق، ويرجع من أخرى، ففي رواية الإسماعيلي: كان إذا خرج إلى العيد رجع من غير الطريق الذي ذهب فيه،
رواه البخاري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/74)


فيستحب الذهاب إلى صلاة العيد في طريق، والرجوع في طريق أخرى للإمام والمأموم جميعا تأسيا واقتداء به - صلى الله عليه وسلم -، وبه قال الحنفية والحنابلة وأكثر الشافعية. قال الحافظ في الفتح: وبه قال أكثر أهل العلم، وقد اختلف في الحكمة في مخالفته - صلى الله عليه وسلم - الطريق في الذهاب والرجوع يوم العيد على أقوال كثيرة. قال الحافظ: اجتمع لي منها أكثر من عشرين قولا، فقيل إنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان، وقيل: سكانهما من الجن والإنس، وقيل: ليسوي بينهما في مزية الفضل بمروره أو في التبرك به أو ليشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها؛ لأنه كان معروفا بذلك، وقيل: ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل: ليصل رحمه، وقيل: ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة والرضاء. وقيل: لاظهار شعار الإسلام فيهما، وقيل: لإظهار ذكر الله، وقيل: ليغيظ المنافقين أو اليهود. وقيل: ليرهبهم بكثرة من معه، وقيل: فعل ذلك ليعمهم في السرور به، أو التبرك بمروره وبرؤيته، والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء، أو التعلم والاقتداء والاسترشاد، أو الصدقة، أو السلام عليهم، أو غير ذلك. وقيل: لأن الملائكة تقف في الطرقات، فأراد أن يشهد له فريقان منهم. وقيل: لئلا يكثر الازدحام، وقيل: لأن عدم التكرار أنشط عند طباع الأنام، وقيل: غير ذلك، وأشار ابن القيم إلى أنه فعل ذلك لجميع ما ذكر من الأشياء المحتملة القريبة. قال القسطلاني: ثم من شاركه - صلى الله عليه وسلم - في المعنى ندب له ذلك، وكذا من لم يشاركه في الأظهر تأسيا به – عليه الصلاة والسلام – كالرمل والاضطباع سواء فيه الإمام والمأموم. وقال ابن قدامة: وفي الجملة الاقتداء به سنة لاحتمال بقاء المعنى الذي فعله من أجله، ولأنه قد يفعل الشيء لمعنى، ويبقى في حق غيره سنة مع زوال المعنى كالرمل والاضطباع في طواف القدوم، وفعله هو وأصحابه لإظهار الجلد للكفار، وبقي سنة بعد زوالهم، ولهذا روى عن

(9/75)


عمر – رضي الله عنه – أنه قال: يم الرملان الآن ولمن نبدي مناكبنا؟ وقد نفى الله المشركين، ثم قال مع ذلك: لا ندع شيئا فعلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (رواه البخاري) من طريق فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث عن جابر. واختلف الرواة في الرواية عن فليح، فبعضهم جعله عن جابر، كما في البخاري والبيهقي (ج3 ص308) وبعضهم جعله عن أبي هريرة، وهو عند أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم (ج1 ص296)، والبيهقي (ج3 ص308) أيضا، وقد رجح البخاري كونه عن جابر حيث قال: حديث جابر أصح، وكذا رجحه الترمذي تبعا لشيخه البخاري، وخالفه أبومسعود الدمشقي، فرجح أنه عن أبي هريرة. قال الحافظ: ولم يظهر لي في ذلك ترجيح، وقال الشيخ أحمد شاكر: وأنا أرجح صحتهما معا سمع سعيد بن الحارث الحديثين من جابر وأبي هريرة، فكان يروي مرة حديث هذا ومرة حديث ذاك، قال الحافظ: قد تفرد بهذا الحديث فليح، وهو مضعف عند ابن معين والنسائي وأبي داود، ووثقه آخرون، فحديثه من قبيل الحسن، لكن له شواهد من حديث ابن عمر وسعد
1449- (10) وعن البراء قال: خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقال: ((إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو شاة لحم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القرظ وأبي رافع وعثمان بن عبيدالله التيمي وغيرهم يعضد بعضها بعضا، فعلى هذا فهو من القسم الثاني من قسمي الصحيح – انتهى.

(9/76)


1449- قوله (خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي في المدينة (يوم النحر) أي يوم عيد الأضحى بعد أن صلى العيد (فقال) أي في خطبته (إن أول ما نبدأ به) بصيغة المتكلم والجمع بين الأول، و"ما نبدأ به" للتأكيد والمبالغة (في يومنا هذا) أي يوم عيد النحر (أن نصلي) صلاة العيد، قيل: المعنى أول ما يكون به الابتداء في هذا اليوم الصلاة التي بدأنا بها، وقدمنا فعلها، فعبر بالمستقل عن الماضي، وهو مثل قوله تعالى: ?وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا? [البروج: 8] أي الإيمان المتقدم منهم، وفي رواية للبخاري: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أضحى إلى البقيع فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: ((إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فننحر...))الحديث، وهذا ظاهر في أن ذلك الكلام وقع منه بعد الصلاة للإعلام بأن ما فعله من تقديم الصلاة ثم الخطبة، وأن تقديم كل من هذين على الذبح هو المشروع الذي لا ينبغي مخالفته (ثم نرجع) من المصلى إلى المنزل (فننحر) بالنصب فيهما عطفا على نصلى، ويرفعان أي نحن نرجع فننحر أي ما من شأنه، أي ينحر، ونذبح ما من شأنه أن يذبح من الأضحية، وقيل: المراد بالنحر هنا الذي هو في لبة الإبل ما يشمل الذبح، وهو ما في الحلق مطلقا، وقد يطلق النحر على الذبح بجامع إنهار الدم، ثم التعقيب بـ"ثم" لا يستلزم عدم تخلل أمر آخر بين الأمرين، فلا يدل ذلك على تقديم الخطبة على الصلاة (فمن فعل ذلك) أي ما ذكر من تقديم الصلاة على الذبح يعني أخر النحر عن الصلاة (فقد أصاب سنتنا) أي طريقتنا وصادف شريعتنا (ومن ذبح) أي أضحيته (قبل أن نصلي) العيد (فإنما هو) أي المذبوح المفهوم من ذبح (شاة لحم) أي ليست أضحية ولا ثواب فيها، بل هو مجرد لحم يؤكل ليس فيه معنى العبادة، قال الطيبي: هذه الإضافة بيانية كخاتم فضة أي شاة هي لحم؛ لأن الشاة شاتان: شاة يأكل لحمها الأهل، وشاة نسك، يتصدق بها لله تعالى، وقال

(9/77)


القسطلاني: استشكلت هذه الإضافة بأن الإضافة إما معنوية مقدرة بمن كخاتم حديد أو باللام كغلام زيد أو بفي كضرب اليوم أي ضرب في اليوم، وأما لفظية صفة مضافة إلى معمولها، كضارب زيد وحسن الوجه، ولا يصح شيء منها في شاة لحم. وأجيب بأن الإضافة بتقدير محذوف أي شاة طعام لحم، أي لإطعام نسك أو ما أشبه ذلك يعني شاة لحم غير
عجله لأهله، ليس من النسك في شيء)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نسك، فهي مضافة إلى محذوف أقيم المضاف إليه مقامه – انتهى. والتعبير بالشاة للغالب، إذ البقر والإبل كذلك (عجله لأهله) أي قدمه لهم ينتفعون به (ليس من النسك) بضمتين (في شيء) أي ليس من العبادة فلا ثواب فيها بل هي لحم ينتفع به أهله، قال الحافظ: النسك يطلق ويراد به الذبيحة، ويستعمل في نوع خاص من الدماء المراقة، ويستعمل بمعنى العبادة، وهو أعم، يقال: فلا ناسك أي عابد، وقد استعمل في حديث البراء بالمعنى الثالث – انتهى. والحديث يدل على أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة مع الإمام، ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام وأن من ذبح قبل الصلاة لم يجزئه عن الأضحية، واختلف العلماء في أول وقت التضحية. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنها لا يجوز قبل طلوع الفجر يوم النحر، واختلفوا فيما بعد ذلك. فقال الشافعي وداود وآخرون: يدخل وقتها إذا طلعت الشمس، ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين، فإن ذبح بعد هذا الوقت أجزأه سواء صلى الإمام أم لا، وسواء صلى المضحى أم لا، وسواء كان من أهل الأمصار أو من أهل القرى والبوادي والمسافرين، وسواء ذبح الإمام أضحيته أم لا. قال القرطبي: ظواهر الأحاديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة، لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها. قال الحافظ: وإنما شرط الشافعية فراغ الخطبة؛ لأن الخطبتين مقصودتان مع الصلاة في هذه العبادة، فيعتبر مقدار الصلاة والخطبتين على أخف ما يجزئ بعد طلوع

(9/78)


الشمس. وقال أبوحنيفة: يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني، ولا يدخل في حق أهل الأمصار حتى يصلي الإمام ويخطب، فإن ذبح قبل ذلك لم يجزئه. وقال مالك: لا يجوز ذبحها إلا بعد صلاة الإمام وخطبته وذبحه , واستدل له بحديث جابر قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نحر، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه أحمد ومسلم، وهو صريح في أن الاعتبار بنحر الإمام، وأنه لا يدخل وقت التضحية إلا بعد نحره، ومن فعل قبل ذلك أعاد. وقال أحمد: لا يجوز قبل صلاة الإمام ويجوز بعدها قبل ذبح الإمام، وسواء عنده أهل الأمصار والقرى، ونحوه عن الحسن والأوزاعي وإسحاق به راهويه. قال الحافظ: وهو وجه للشافعية قوي من حيث الدليل، وإن ضعفه بعضهم، ومثله قول الثوري: يجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته وفي أثنائها. وقال ربيعة فيمن لا إمام له: إن ذبح طلوع الشمس لا يجزئه، وبعد طلوعها يجزئه. قلت: الراجح عندي من هذه الأقوال هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه من أن وقت التضحية بعد صلاة الإمام، فالمؤثر في عدم الإجزاء هو الذبح قبل الصلاة، وسواء في ذلك أهل القرى والأمصار، وهذا لظواهر الأحاديث الواردة في
متفق عليه.
1450- (11) وعن جندب بن عبدالله البجلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح حتى صلينا، فليذبح على اسم الله)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/79)


الباب؛ لأنها متفقة على تعليق الذبح بالصلاة فقط من غير تفريق بين أهل القرى والأمصار، وأما حديث جابر الذي استدل به لمالك فتأوله الجمهور على أن المراد زجرهم عن التعجيل الذي قد يؤدي إلى فعلها قبل الوقت، ولهذا جاء في باقي الأحاديث التقييد بالصلاة، وإن من ضحى بعدها أجزأه، ومن لا فلا، ويؤيد ذلك من طريق النظر أن الإمام لو لم يذبح لم يكن ذلك مسقطا عن الناس مشروعية الذبح، ولو أن الإمام ذبح قبل أن يصلي لم يجزئه ذبحه، فدل على أنه هو والناس في وقت الأضحية سواء، وأما إذا لم يكن ثم إمام فالظاهر أنه يعتبر لكل مضح بصلاته، ولا يصلح للتمسك لمن جوز الذبح من طلوع الشمس وهو ربيعة، أو من طلوع الفجر وهو أبوحنيفة في حق غير أهل الأمصار، ما ورد من أن يوم النحر يوم ذبح؛ لأنه كالعام، وأحاديث الباب خاصة فيبنى العام على الخاص – والله تعالى أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العيدين والأضاحي والأيمان والنذور، ومسلم في الأضاحي بألفاظ مختلفة، واللفظ الذي أتى به المصنف للبخاري في باب التبكير للعيد إلا أن في هذه الرواية عنده "فإنما هو لحم" مكان قوله "فإنما هو شاة لحم"، والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص283-284، 311).

(9/80)


1450- قوله (وعن جندب) بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال وضمها (بن عبدالله) بن سفيان، وربما نسب إلى جده، فقيل: جندب بن سفيان (البجلي) بفتح الموحدة والجيم نسبة إلى بجيلة (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في خطبته بعد أن صلى العيد يوم النحر في المدينة (من ذبح) أضحيته (قبل الصلاة) أي قبل صلاة العيد (فليذبح مكانها أخرى) تأنيث آخر، وهي صفة لمحذوف أي ذبيحة أخرى أو شاة أخرى، فإن الأولى لا تحسب من النسك (ومن لم يذبح) ولفظ البخاري: ومن كان لم يذبح، وفي رواية لمسلم: ومن لم يكن ذبح (فليذبح على اسم الله)، وفي رواية لمسلم: فليذبح باسم الله، قال النووي: قوله: "فليذبح على اسم الله" هو بمعنى رواية فليذبح باسم الله، أي قائلا باسم الله، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، وهو حال من الضمير في قوله: "فليذبح"، وهذا أولى ما حمل عليه الحديث، وصححه النووي، ويؤيده ما ورد في حديث أنس عند البخاري: وسمى وكبر، وقال عياض: يحتمل أربعة أوجه: أحدها أن يكون معناه فليذبح لله، والباء تجيء بمعنى اللام، والثاني: معناه فليذبح بسنة الله، والثالث: بتسمية الله على ذبيحته إظهارا للإسلام، ومخالفة لمن يذبح لغيره،
متفق عليه.
1451- (12) وعن البراء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين)) متفق عليه.
1452- (13) وعن ابن عمر قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذبح وينحر بالمصلى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/81)


وقمعا للشيطان. والرابع: متبركا باسمه ومتيمنا بذكره، كما يقال: سر على بركة الله، وسر باسم الله. قال: وأما كراهة بعض العلماء أن يقال: افعل كذا على اسم الله؛ لأن اسمه سبحانه على كل شيء، فضعيف ليس بشيء، قال: وهذا الحديث يرد على هذا القائل. قال الحافظ: ويحتمل وجها خامسا أن يكون معنى قوله: "بسم الله" مطلق الإذن في الذبيحة؛ لأن السياق يقتضي المنع قبل ذلك والإذن بعد ذلك، كما يقال للمستأذن بسم الله أي أدخل، وقد استدل بهذا الأمر في قوله: "فليذبح مكانها أخرى" على وجوب الأضحية، ومن لا يقول به يحمله على أن المقصود بالبيان أن السنة لا تتأدى بالأولى، بل يحتاج إلى الثانية، فالمراد فليذبح مكانها أخرى لتحصيل سنة إن أرادها (متفق عليه) أخرجه البخاري في العيدين والذبائح والأضاحي والأيمان والنذور والتوحيد، ومسلم في الأضاحي، واللفظ للبخاري في الذبائح في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فليذبح على اسم الله، والحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص312، 262، ج9 ص277).
1451- قوله (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في خطبته بعد أن صلى العيد يوم النحر (من ذبح قبل الصلاة) أي صلاة العيد (فإنما يذبح) أضحيته (لنفسه) لحما يأكله، ليس بنسك أي أضحية يعني لا ثواب فيه (ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه) أي عبادته وصح أضحيته (وأصاب سنة المسلمين) أي وافق طريقتهم وصادف شريعتهم. وهذا الحديث والذي قبله صريح في مذهب أحمد ومن وافقه في تعليق الذحب بفعل الصلاة وأن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة، ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام (متفق عليه) واللفظ للبخاري في "باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة: ضح بالجذع من المعز" من كتاب الأضاحي، وأخرجه أيضا بعين هذا اللفظ من حديث أنس في أول الأضاحي.

(9/82)


1452- قوله (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يذبح) أي البقرة والشاة (وينحر) أي الإبل (بالمصلى) أي الجبانة بعد أن يصلي العيد ليرغب الناس فيه، وليقتدوا به، وليتعلموا منه صفة الذبح، فيه استحباب أن يكون الذبح والنحر بالمصلى، والحكمة في ذلك أن يكون بمرأى من الفقراء، فيصيبون من لحم الأضحية، وقيل: لأن الأضحية من
رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
1453- (14) عن أنس قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أبدلكم الله بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القرب العامة، فإظهارها أفضل؛ لأن فيه إحياء لسنتها، وقال ابن بطان: هو سنة للإمام خاصة عند مالك، قال مالك: إنما يفعل ذلك لئلا يذبح أحد قبله، وليذبحوا بعده على يقين مع ما فيه من تعليمهم صفة الذبح، وقال القسطلاني: قال مالك: لا يذبح أحد حتى يذبح الإمام، نعم أجمعوا على أن الإمام لو لم يذبح للناس إذا دخل وقت الذبح فالمدار على الوقت لا الفعل. قلت: قد تقدم أن الراجح أنه لا يشترط التأخير إلى نحر الإمام، وأنه هو والناس في وقت الأضحية سواء (رواه البخاري) في العيدين وفي الأضاحي، وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج9 ص277).

(9/83)


1453- قوله (قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة) أي من مكة مهاجرا (ولهم) أي لأهل المدينة (يومان يلعبون فيهما) وهما يوم النيروز ويوم المهرجان، كذا قال الشراح، وفي القاموس: النيروز أول يوم السنة، معرب نوروز – انتهى. والنوروز مشهور، وهو أول يوم تتحول الشمس فيه إلى برج الحمل، وهو أول السنة الشمسة، كما أن غرة شهر المحرم أول السنة القمرية، وأما المهرجان فالظاهر بحكم مقابلته بالنيروز أن يكون أول يوم الميزان، وهما يومان معتدلان في الهواء لا حر ولا برد، ويستوي فيه الليل والنهار، فكأن الحكماء المتقدمين المتعلقين بالهيئة اختاروهما للعيد في أيامهم، وقلدهم أهل زمانهم لاعتقادهم بكمال عقول حكمائهم، فجاء الأنبياء وأبطلوا ما بنى عليه الحكماء (في الجاهلية) أي في زمن الجاهلية قبل أيام الإسلام (قد أبدلكم الله) هذا لفظ النسائي، ولفظ أبي داود: إن الله قد أبدلكم (بهما) أي في مقابلتهما (خيرا منهما) يريد أن نسخ ذينك اليومين، وشرع في مقابلتهما هذين اليومين، وقال القاري: الباء هنا داخلة على المتروك، وهو الأفصح، أي جعل لكم بدلا عنهما خيرا منهما في الدنيا والأخرى. و "خيرا" ليست أفعل تفضيل، إذ لا خيرية في يوميهما (يوم الأضحى) بفتح الهمزة، جمع أضحاة شاة يضحي بها، وبه سمي يوم الأضحى، قال المظهر: في الحديث دليل على أن تعظيم النيروز والمهرجان وغيرهما من أعياد الكفار منهي عنه، وقال الحافظ في الفتح: استنبط منه كراهة الفرع في أعياد المشركين والتشبه بهم.
رواه أبوداود.
1454- (15) وعن بريدة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/84)


وبالغ الشيخ أبوحفص الكبير النسفي من الحنفية فقال: من أهدى فيه أي في النيروز بيضة إلى مشرك تعظيما لليوم فقد كفر بالله تعالى – انتهى. وقال القاضي أبوالمحاسن الحسن بن منصور الحنفي: من اشترى فيه شيئا لم يكن يشتريه في غيره أو أهدى فيه هدية إلى غيره، فإن أراد بذلك تعظيم اليوم كما يعظمه الكفرة فقد كفر، وإن أراد بالشراء التنعم والتنزه، وبالإهداء التحاب جريا على العادة فلم يكن كفرا، لكنه مكروه كراهة التشبه بالكفرة حينئذ فيحترز عنه – انتهى. قال ابن حجر: قد وقع في هذه الورطة أهل مصر ونحوهم، فإن كثيرا من أهلها يوافقون اليهود والنصارى في أعيادهم على صور تعظيماتهم كالتوسع في المأكل والزينة على طبق ما يفعله الكفار، ومن ثم أعلن النكير عليهم في ذلك ابن الحاج المالكي في مدخله، وبين تلك الصور، وكيفية موافقة المسلمين لهم فيها، كذا في المرقاة. قلت: وكذلك كثير من مسلمي الهند والباكستان يوافقون الكفار من الهنادك والسيخ والنصارى وعباد النار في أعيادهم، ويفعلون ما يفعلون فيها، فإلى الله المشتكى. (رواه أبوداود) في الصلاة، وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم (ج1 ص294)، والبيهقي (ج3 ص277)، قال الحافظ في الفتح وبلوغ المرام: إسناده صحيح، وسكت عنه أبوداود والمنذري، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(9/85)


1454- قوله (وعن بريدة) بالتصغير (حتى يطعم) بفتح العين أي يأكل (ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي) وفي رواية ابن ماجه والبيهقي: حتى يرجع، وزاد أحمد والدارقطني والبيهقي: فيأكل من أضحيته، ورواه الأثر بلفظ: حتى يضحي، وفي رواية للبيهقي: وكان إذا رجع أكل من كبد أضحيته، والحديث يدل على أن السنة أن يأكل في الفطر قبل الصلاة، ولا يأكل في الأضحى حتى يصلي، والحكمة في تأخير الأكل في يوم الأضحى أنه يوم تشرع فيه الأضحية والأكل منها، فاستحب أن يكون فطره على شيء منها، قال الأمير اليماني: لما كان إظهار كرامة الله تعالى للعباد بشرعية نحر الأضاحي كان الأهم الابتداء بأكلها شكرا لله على ما أنعم به من شرعية النسيكة الجامعة لخير الدنيا وثواب الآخرة، وقال الزين بن المنير: وقع أكله - صلى الله عليه وسلم - في كل من العيدين في الوقت المشروع لإخراج صدقتها الخاصة بهما، فإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها – انتهى. وقد خصص أحمد بن حنبل استحباب تأخير الأكل في عيد الأضحى بمن له ذبح، قال ابن قدامة: قال أحمد: والأضحى لا يأكل فيه حتى يرجع إذا كان له ذبح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من ذبيحته، وإذا لم يكن له ذبح
رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
1455- (16) وعن كثير بن عبدالله، عن أبيه، عن جده، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسا قبل القراءة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يبال أن يأكل (رواه الترمذي) في العيدين (وابن ماجه) في الصيام (والدارمي) في العيدين، وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان والأثرم والدارقطني والحاكم (ج1 ص294)، والبيهقي (ص3 ص283)، وصححه ابن القطان وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.

(9/86)


1455- قوله (عن جده) أن عن جد كثير، وهو عمرو بن عوف المزني أبوعبدالله الصحابي (كبر في العيدين في الأولى) أي في الركعة الأولى (سبعا) أي سبع تكبيرات، وهذا يحتمل أن السبع بتكبيرة الإحرام، وأنها من غيرها، والأظهر بل المتعين أنها من دونها، ففي حديث عائشة عند الدارقطني (ص180)، والحاكم (ج1 ص298) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في العيدين اثني عشر تكبيرة سوى تكبيرة الاستفتاح، وفيه ابن لهيعة، وفي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عند الدارقطني (ص181) سوى تكبيرة الإحرام. وفي رواية له وللبيهقي: سوى تكبيرة الصلاة (وفي الآخرة) في وفي الركعة الثانية (خمسا) أي خمس تكبيرات غير تكبيرة القيام، فيكون في الأولى ثمانية مع تكبيرة التحريم، وفي الثانية ست مع تكبيرة القيام، والحديث دليل على أنه يكبر في الأولى من ركعتي العيد سبعا قبل القراءة وفي الثانية خمسا قبل القراءة، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون، والتابعين والأئمة بعدهم، قال العراقي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة، قال: وهو مروي عن عمر وعلي وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وزيد بن ثابت وعائشة، وهو قول الفقهاء السبعة من أهل المدينة وعمر بن عبدالعزيز والزهري ومكحول، وبه يقول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق، إلا أنه قال الشافعي والأوزاعي وإسحاق وابن حزم: إن السبع في الأولى بعد تكبيرة الإحرام، وقال مالك وأحمد: السبع في الأولى مع تكبيرة الإحرام، واتفقوا على أن الخمس في الثانية غير تكبيرة النهوض، وذهب أبوحنيفة إلى أنه يكبر في الأولى ثلاثا بعد تكبيرة الإحرام أم قبل القراءة، وفي الثانية ثلاثا بعد القراءة غير تكبيرة الركوع، وهو مروي عن ابن مسعود وأبي موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان وأبي مسعود الأنصاري البدري وأنس بن مالك والمغيرة بن شعبة وابن المسيب، وهو قول سفيان الثوري،

(9/87)


وفي عدد التكبيرات، وفي مواضعها أقوال أخرى غير ما ذكرنا نحو من عشر ذكرها ابن المنذر والشوكاني، والمشهور منها ما أوردنا. واحتج لمن ذهب إلى أن التكبير سبع في الأولى، وخمس في الثانية، والقراءة بعدهما
........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلتيهما بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة: سبعا في الأولى، وخمسا في الآخرة. أخرجه أحمد (ج2 ص180)، وأبوداود وابن ماجه والدارقطني (ص181)، والبيهقي (ج3 ص285)، قال أحمد: أنا أذهب إلى هذا، وفي رواية قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((التكبير في العيد سبع في الأولى، وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيها)) أخرجه أبوداود والدارقطني والبيهقي، وهذا حديث صحيح أو حسن صالح للاحتجاج، قال الحافظ العراقي: إسناده صالح، ونقل الترمذي في العلل المفردة عن البخاري أنه قال: إنه حديث صحيح، كذا في النيل (ج3 ص282)، والسنن الكبرى (ج3 ص286)، والخلاصة للنووي. وقال الحافظ في التلخيص (ص144): صححه أحمد وعلي والبخاري فيما حكاه الترمذي – انتهى. وسكت عنه أبوداود، وسكوته تصحيح أو تحسين منه كما قال ابن الهمام وغيره، وقال صاحب العرف الشذى: أخرجه أبوداود بسند قوي صححه البخاري، كما نقل الترمذي في العلل الكبرى – انتهى. هذا وقد تكلم على هذا الحديث ابن القطان، كما في نصب الراية (ج2 ص217)، والطحاوي في شرح الآثار (ج2 ص398)، وابن التركماني في الجوهر النقي (ج3 ص285)، ولم يكن حاجة إلى ذكر كلامهم ثم الرد عليهم بعد ما صححه أئمة هذا الشأن الجهابذة النقاد: أحمد بن حنبل وعلي بن المديني والبخاري، واحتج به الأئمة المجتهدون، وهو تصحيح منهم للحديث على ما قال به صاحب الأوجز، لكن لما أخذ كلامهم صاحب البذل وصاحب آثار السنن، واعتمدا عليه وجب علينا أن نذكره مع الجواب عنه، ولما كان كلام صاحب الآثار

(9/88)


أخصر، واعتمد عليه صاحب البذل في نقد الحديث في مواضع أخرى اقتصرنا على إيراده واكتفينا بذكره ثم رده. قال النيموي في آثار السنن بعد ذكر حديث عبدالله بن عمر: وإسناده ليس بالقوي، وقال في تعليقه: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه كلام – انتهى. وقد أجاب عنه شيخنا في شرح الترمذي فقال: قول النيموي ليس مما يعول عليه، والتحقيق أن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيح أو حسن قابل للاحتجاج إذا كان السند إليه صحيحا، وقد قال الحافظ في الفتح: وترجمة عمرو قوية على المختار حيث لا تعارض – انتهى. ثم قال النيموي: ومع ذلك مداره على عبدالله بن عبدالرحمن الطائفي، قال الذهبي في الميزان: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن معين: صويلح، وقال مرة: ضعيف، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وكذا قال أبوحاتم – انتهى. قلت: وقال الذهبي في الميزان بعد هذه العبارة ما لفظه: وقال ابن عدي: أما سائر حديثه فعن عمرو بن شعيب، وهي مستقيمة – انتهى. وهو من رجال مسلم. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: له في مسلم حديث واحد كاد أمية أن يسلم، وفيه وقال العجلي: ثقة، وحكى ابن خلفون: أن ابن المديني وثقه، فإسناد هذا الحديث إلى عمرو حسن صالح،
...............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/89)


وترجمة عمرو قوية على المختار، فالحديث حسن قابل للاحتجاج، كيف وقد قال العراقي: إسناده صالح، وصححه أحمد وعلي بن المديني والبخاري؟ ثم قال النيموي: أما تصحيح الإمام أحمد فيعارضه ما قال ابن القطان في كتابه: وقد قال أحمد بن حنبل ليس في تكبير العيدين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح – انتهى. قلت: قد عرفت أن الإمام أحمد قال بما يدل عليه هذا الحديث، وذهب إليه، فقوله به يدل على أن تصحيحه متأخر من كلامه الذي ذكره ابن القطان. ثم قال النيموي: وأما تصحيح البخاري ففيه نظر؛ لأن قوله: وحديث عبدالله الطائفي...الخ يحتمل أن يكون من كلام الترمذي، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص217) بعد ما خرج حديث عمرو بن عوف المزني: قال الترمذي حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب – انتهى. وقال في علله الكبرى: سألت محمدا عن هذا، فقال: ليس شيء في هذا الباب أصح منه، وبه أقول، وحديث عبدالله بن عبدالرحمن الطائفي أيضا صحيح، والطائفي مقارب الحديث – انتهى. قال ابن القطان: هذا ليس بصريح في التصحيح، فقوله "هو أصح شيء في الباب" يعني أشبه ما في الباب وأقل ضعفا، وقوله: "وبه أقول" يحتمل أن يكون من كلام الترمذي، أي وأنا أقول إن هذا الحديث أشبه ما في الباب، وكذا قوله "وحديثه أيضا صحيح" يحتمل أن يكون من كلام الترمذي – انتهى. قلت: هذا الاحتمال بعيد جدا، بل الظاهر المتعين هو ما فهمه الحافظ ابن حجر وغيره من أن قوله: "وبه أقول" من كلام البخاري، والمعنى أن بهذا الحديث أقول، وإليه أذهب، والدليل عليه أن الترمذي ينقل عن شيخه الإمام البخاري مثل هذا الكلام كثيرا في الجرح والتعديل وبيان علل الحديث، ولا يقول بعد نقل كلامه: "وبه أقول البتة، وإن كنت في شك منه ففتش وتتبع المقامات التي تقل الترمذي فيها عن البخاري مثل هذا الكلام تجد ما قلت لك حقا صحيحا، فالحاصل أن حديث عبدالله بن عمرو حسن صالح للاحتجاج، ويؤيده الأحاديث

(9/90)


المرفوعة التي نذكرها، وهي وإن كانت ضعافا ولكن يشد بعضها بعضا، ويصلح كل واحد منها للاستشهاد والاعتضاد والمتابعة، ومجموعها للاحتجاج والاستدلال. فمنها حديث عمرو بن عوف المزني، وهو حديث الباب، وفيه كثير بن عبدالله وقد ضعفوه جدا، بل رماه بعضهم بالكذب، لكن حسن الترمذي حديثه، والظاهر أنه حسنه لشواهده، وقيل: تحسين الترمذي للحديث توثيق للراوي، وذهاب منه إلى أنه لم يرض الكلام فيه، والعجب من البغوي أنه ذكر حديث كثير بن عبدالله، وهو ضعيف، وترك حديث عبدالله بن عمرو، وهو حديث صحيح أو حسن، ولعله فعل ذلك تبعا للترمذي وموافقة له إذ اقتصر على رواية حديث كثير، وقال بعد تحسينه: هو أحسن شيء روي في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: حديث عائشة قالت:
............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/91)


كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر في الأولى بسبع تكبيرات، وفي الثانية بخمس قبل القراءة سوى تكبيرة الركوع، أخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم (ج1 ص298)، والطحاوي والدارقطني والبيهقي (ج3 ص286)، وفيه ابن لهيعة وقد تفرد به، وقد استشهد به مسلم في موضعين. ومنها: حديث سعد القرظ مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه ابن ماجه والحاكم (ج3 ص607)، وفيه عبدالرحمن بن سعد بن عمار، روى عن أبيه، وعبدالرحمن ضعيف، وأبوه سعد بن عمار مستور لا يعرف حاله، ورواه البيهقي (ج3 ص287) أيضا، وفي سنده بقية، وهو مدلس، وقد رواه عن الزبيدي بالعنعنة، نعم صرح بالتحديث في رواية الحاكم (ج3 ص608) لكن ليس فيها ذكر تكبيرات العيدين، ورواه الدارمي والبيهقي من طريق عبدالرحمن بن سعد عن عبدالله بن محمد بن عمار عن أبيه عن جده، وفيه أيضا عبدالرحمن بن سعد كما ترى. ومنها: حديث عبدالرحمن بن عوف قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخرج له العنزة في العيدين حتى يصلي إليها، وكان يكبر ثلاث عشرة تكبيرة، وكان أبوبكر وعمر يفعلان ذلك، أخرجه البزار، وفيه الحسن بن حماد البجلي، قال الهيثمي (ج2 ص204): لم يضعفه أحد ولم يوثقه، وقد ذكره المزي للتمييز، وبقية رجاله ثقات – انتهى. وقال الشوكاني في النيل: الحسن بن حماد لين الحديث، وقال الحافظ في التلخيص: صحح الدارقطني إرساله. ومنها: حديث ابن عمر مثل حديث عمرو بن شعيب، أخرج الدارقطني (ص181)، والطحاوي (ص399)، والبزار: قال البخاري فيما حكاه الترمذي: تفرد به فرج بن فضالة، وهو ضعيف. ومنها: حديث جابر قال: مضت السنة أن يكبر في العيدين سبعا وخمسا يذكر الله ما بين كل تكبيرتين، أخرجه البيهقي (ج3 ص292) وفي سنده من يحتاج إلى كشف حاله. ومنها حديث ابن عباس قال: سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلب رداءه، وصلى ركعتين، وكبر في الأولى سبع

(9/92)


تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات، أخرجه البيهقي (ج3 ص348)، والدارقطني (ص189)، والحاكم (ج1 ص326) كلهم من طريق محمد بن عبدالعزيز عن أبيه عن طلحة بن عبدالله عن ابن عباس، قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه – انتهى، وفي تصحيحه نظر؛ لأن محمد بن عبدالعزيز هذا قال البخاري فيه: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال أبوحاتم: ضعيف الحديث، وقال ابن القطان: أبوه عبدالعزيز مجهول الحال، فاعتل الحديث بهما، كذا في التعليق المغني، ولابن عباس حديث آخر عند الطبراني في الكبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة، في الأولى سبعا، وفي الآخرة خمسا، قال الهيثمي: في إسناده سليمان بن أرقم، وهو ضعيف.
...........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/93)


ومنها حديث أبي واقد الليثي وعائشة، أخرجه الطحاوي (ج2 ص399) والطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة، وقد اضطرب في إسناده، وقال أبوحاتم: إنه باطل. ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((التكبير في العيدين سبعا قبل القراءة، وخمسا بعد القراءة)) أخرجه أحمد (ج2 ص357)، وفيه أيضا ابن لهيعة، وقال الحافظ في التلخيص: صحح الدارقطني في العلل أنه موقوف، وقال البخاري: الصحيح ما أخرج مالك يعني في الموطأ وغيره من الحفاظ عن نافع عن أبي هريرة موقوفا يعني فعله. ومنها حديث عبدالله بن محمد بن عمار بن سعد عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في العيدين في الأولى سبع تكبيرات وفي الآخرة خمسا، أخرجه الدارقطني (ص181)، والدارمي والبيهقي (ج3 ص288)، وفيه أيضا عبدالرحمن بن سعد بن عمار المتقدم، وهو حديث مرسل على أن يعود الضمير في جده إلى عبدالله بن محمد أو هو الحديث الثالث من الأحاديث التي ذكرناها للاستشهاد على أن يعود الضمير إلى محمد والد عبدالله. ومنها حديث جابر بن محمد الآتي، وسيأتي الكلام فيه، وفي الباب آثار جمع من الصحابة تؤيد الأحاديث المرفوعة، وهي وإن كانت موقوفة لكنها مرفوعة حكما؛ فإنه لا مساغ فيها للاجتهاد، فلا تكون رأيا إلا توقيفا يجب التسليم لها. واحتج لأبي حنيفة بحديث سعيد بن العاص الآتي، وهو حديث موقوف لا مرفوع، كما ستعرف، وبما روى الطحاوي في شرح الآثار (ج2 ص400) من طريق عبدالله بن يوسف عن يحيى بن حمزة قال: حدثني الوضين بن عطاء أن القاسم أباعبدالرحمن حدثه قال: حدثني بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد فكبر أربعا أربعا، ثم أقبل علينا بوجهه حين انصرف، فقال: لا تنسوا كتكبير الجنازة، وأشار بأصبعه، وقبض إبهامه، قال الطحاوي: هذا حديث حسن الإسناد، وعبدالله بن يوسف ويحيى بن حمزة

(9/94)


والوضين والقاسم كلهم أهل رواية معروفون بصحة الرواية – انتهى. قلت: في كون هذا الحديث حسن الإسناد نظر، بل هو ضعيف، فإن الوضين بن عطاء الدمشقي واهي الحديث سيء الحفظ، وقد تفرد به، قال ابن التركماني في الجوهر النقي (ج1 ص29): هو واه، وقال ابن سعد: كان ضعيفا في الحديث، وقال الجوجاني: واهي الحديث، وقال ابن قانع: ضعيف، وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ، والقاسم بن عبدالرحمن أبوعبدالرحمن الشامي الدمشقي ذكر ابن التركماني في الجوهر النقي (ج2 ص20) عن ابن حبان أنه قال: يروي عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعضلات، ويأتي عن الثقات المقلوبات حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها- انتهى. ولا يغتر بتحسين الطحاوي، فإنه ليست عادته نقد الحديث كنقد أهل العلم، ولم يكن له معرفة بالإسناد كمعرفة أهل العلم به، وإن كان كثير الحديث فقيها عالما باختلاف المذاهب.
...........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/95)


قال ابن تيمية في منهاج السنة: ليست عادته نقد الحديث نقد أهل العلم، ولهذا روى في شرح معاني الآثار الأحاديث المختلفة، وإنما يرجح ما يرجحه منها في الغالب من جهة القياس الذي رآه حجة، ويكون أكثره مجروحا من جهة الإسناد ولا يثبت، فإنه لم يكن له معرفة بالإسناد كمعرفة أهل العلم به، وإن كان كثير الحديث فقيها عالما به – انتهى. واحتج له أيضا بما أخرج الطحاوي في الجنائز بسنده عن إبراهيم النخعي قال: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس مختلفون في التكبير على الجنازة...الحديث، وفي آخره: فتراجعوا الأمر بينهم (في خلافة عمر) فأجمعوا أمرهم على أن يجعلوا التكبير على الجنائز مثل التكبير في الأضحى والفطر، أربع تكبيرات، فأجمع أمرهم على ذلك، قال بعض الحنفية: فهذا كالنص في أن تكبيرهما أربعا كان مجمعا عليه، أرجعوا إليها تكبيرات الجنازة – انتهى. وقال صاحب العرف الشذى (ص240): وأعلى ما في الباب لنا ما هو من إجماعيات عمر، روه إبراهيم النخعي مرسلا في معاني الآثار (ص286). قلت: إبراهيم النخعي قال ابن المديني فيه: إنه لم يلق أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبوحاتم: لم يلق أحدا من الصحابة إلا عائشة، ولم يسمع منها، وأدرك أنسا ولم يسمع منه، فالحكاية منقطعة موقوفة لا يجوز الاحتجاج بها، لاسيما وقد عارضها الأحاديث المرفوعة الموصولة التي ذكرناها، والآثار المروية عن الصحابة التي أشرنا إليها. واحتج له أيضا بما روي عن ابن مسعود وغيره موقوفا عليهم من فعلهم ولا حجة فيه؛ لأنه رأي منهم للقياس مدخل فيه، فلعلهم قاسوا ذلك على تكبير الجنائز، كما يشير إليه قوله في رواية الطحاوي المرفوعة ((لا تنسوا كتكبير الجنازة)) وقوله في حديث سعيد بن العاص الآتي: كان يكبر أربعا تكبيره على الجنائز، بخلاف أقاويل الصحابة في السبع والخمس فإنه لا مدخل للقياس فيه، فهي كنقل عدد الركعات، ولو سلم أن أثر ابن

(9/96)


مسعود وغيره مرفوع حكما فهو لا يقاوم الأحاديث المرفوعة حقيقة، ولذلك قال البيهقي في السنن (ج3 ص291) بعد ذكر أثر ابن مسعود: هذا رأي من جهة عبدالله، والحديث المسند مع ما عليه من عمل المسلمين أولى أن يتبع، وقال أيضا (ج3 ص292): نخالف ابن مسعود في عدد التكبيرات وتقديمهن على القراءة في الركعتين جميعا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم فعل أهل الحرمين وعمل المسلمين إلى يومنا هذا – انتهى. تنبيه: قال في الهداية: وظهر عمل العامة اليوم بقول ابن عباس لأمر الخلفاء من بني العباس به، قال في الظهيرية: وهو تأويل ما روي عن أبي يوسف ومحمد، فإنهما فعلا ذلك، لأن هارون أمرهما أن يكبرا بتكبير جده ففعلا ذلك امتثالا له لا مذهبا واعتقادا – انتهى. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: وإنما كان عمل المسلمين بقول ابن عباس؛ لأن أولاده الخلفاء أمروهم بذلك، فتابعوهم خشية الفتنة لا رجوعا عن مذاهبهم واعتقادا لصحة رأي ابن عباس في ذلك -
.............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/97)


انتهى. قلت: ظاهر كلام هؤلاء يدل على أن الاختلاف بين الأئمة في ذلك اختلاف في الجواز والصحة، وأن عمل المسلمين بما ذهب إليه مالك ومن وافقه كان خشية الفتنة لا اعتقادا لصحته وجوازه، وفيه نظر ظاهر، لكونه دعوى مجردة من غير برهان، بل لحق أنهم عملوا بذلك اعتقادا لصحته؛ لكونه موافقا للسنة المرفوعة، ولسنة الخلفاء الراشدين، ولأن الحق أن اختلافهم في ذلك اختلاف في الأولوية والأفضلية لا في الجواز وعدمه. قال الإمام محمد في موطئه بعد ما روى عن مالك عن نافع قال: شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة، فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة بخمس تكبيرات قبل القراءة – قال صاحب التعليق الممجد: وهذا لا يكون رأيا إلا توقيفا يجب التسليم له – انتهى. والظاهر أن هذا كان في إمارة أبي هريرة على المدينة في أيام معاوية أو مروان، وهو يدل على إجماع المسلمين من الصحابة والتابعين وتبعهم في المدينة، إذ ذاك على كون تكبيرات الزوائد ثنتي عشرة قبل القراءة في الركعتين -. قد اختلف الناس ي التكبير في العيدين فما أخذت به فهو حسن، وأفضل ذلك عندنا ما روي عن ابن مسعود....الخ قال: وهو قول أبي حنيفة – انتهى. وقال الشامي في رد المحتار (ج1 ص780): ومنهم من جزم بأن ذلك رواية عنهما – أي عن أبي يوسف ومحمد – بل في المجتبى: وعن أبي يوسف أنه رجع إلى هذا ثم ذكر غير واحد من المشايخ أن المختار العمل برواية الزيادة، أي زيادة تكبيرة في عيد الفطر، وبرواية النقصان في عيد الأضحى عملا بالروايتين وتخفيفا في الأضحى لاشتغال الناس بالأضاحي، قال وذكر في البحر أن الخلاف في الأولوية، ونحوه في الحلية – انتهى. وقال في الدر المختار: ولو زاد أي الإمام التكبير على الثلاث تابعه، قال الشامي: لأنه تبع لإمامه فتعجب عليه متابعته، وترك رأيه برأي الإمام لقوله – عليه السلام -: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه))، فما لم يظهر خطؤه بيقين

(9/98)


كان اتباعه واجبا، ولا يظهر الخطأ في المجتهدات، فأما إذا خرج عن أقوال الصحابة فقد ظهر خطؤه بيقين، فلا يلزمه اتباعه، قال: وأشار بقوله ندبا – في قوله: ويوالي ندبا بين القراءتين – إلى أنه لو كبر في أول كل ركعة جاز؛ لأن الخلاف في الأولوية كما مر عن البحر – انتهى. وقال صاحب التعليق الممجد (ص138) بعد ذكر الأحاديث والآثار المختلفة: وهذا الاختلاف الوارد في المرفوع والآثار كلها اختلاف في المباح، كما أشار إليه محمد بقوله: فما أخذت به فهو حسن، فلا يجوز لأحد أن يعنف على خلاف ما يراه، واختلاف الأئمة في ذلك إنما هو اختلاف في الراجح، كما أشار إليه محمد بقوله: وأفضل ذلك...الخ، فإن اختار أحد غير ما روي عن ابن مسعود فلا بأس به أيضا – انتهى. وقال صاحب العرف الشذي (ص241) وأما ثنتا عشرة تكبيرة فجائزة عندنا، فإن في الهداية أن أبايوسف أتى بها حين أمره هارون الرشيد ولا يتوهم أنه كان من أولى الأمر فإنه لو كان غير جائز عنده كيف اتبعه، وإن كان والي الأمر فلابد من أن يقال: إنه قائل بجوازها، وأيضا في الهداية: لو زاد الإمام التكبيرات على الستة يتبعه إلى ثنتي عشرة تكبيرة، فدل على الجواز، ولقد صرح محمد
......................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/99)


في موطئه بجوازها، فإنه قال: "وما أخذت به فهو حسن"- انتهى. قلت: والأولى للعمل عندنا والأفضل هو أن يكبر في الأولى سبعا وفي الثانية خمسا والقراءة بعدهما كلتيهما؛ لوجهين: الأول: أنه قد جاء فيه أحاديث مرفوعة عديدة. وبعضها صحيح أو حسن، والباقية مؤيدة له، وأما ما ذهب إليه أبوحنيفة فلم يرد فيه حديث مرفوع غير حديث أبي موسى الأشعري الآتي، وستعرف أنه لا يصلح للاحتجاج، وغير حديث الوضين بن عطاء عند الطحاوي، وقد عرفت أنه حديث ضعيف، قال ابن عبدالبر: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق كثيرة حسان أنه كبر في العيدين سبعا في الأولى، وخمسا في الثانية، من حديث عبدالله بن عمرو وابن عمر وجابر وعائشة وأبي واقد وعمرو بن عوف المزني، ولم يرو من وجه قوي ولا ضعيف خلاف هذا، وهو أولى ما عمل به، ذكره ابن قدامة. والوجه الثاني: أنه قد عمل به أبوبكر وعمر وعثمان وعلي – رضي الله عنهم -، وقد قال الحافظ الحازمي في كتاب الاعتبار: الوجه الحادي والثلاثون أن يكون أحد الحديثين قد عمل به الخلفاء الراشدون دون الثاني فيكون آكد، ولذلك قدم رواية من روى في تكبيرات العيدين سبعا وخمسا على رواية من روى أربعا كأربع الجنائز؛ لأن الأول قد عمل به أبوبكر وعمر، فيكون إلى الصحة أقرب والأخذ به أصوب – انتهى. ثم ههنا مسائل من متعلقات التكبير، نذكرها مختصرا تتميما للفائدة: إحداها: حكم هذه التكبيرات، قال ابن قدامة: التكبيرات سنة وليست بواجبة،فإن نسي التكبير وشرع في القراءة لم يعد إليه، قاله ابن عقيل: لأنه سنة فلم يعد إليه بعد الشروع في القراءة كالاستفتاح. وقال القاضي: فيها وجه آخر أنه يعود إلى التكبير؛ لأنه ذكره في محله، وهو القيام فيأتي به كما قبل الشروع في القراءة – انتهى مختصرا. وذهب الحنفية إلى وجوبها، كما في البدائع وغيره. قال الحصفكي في الواجبات: وتكبيرات العيدين وكذا أحدها. قال ابن عابدين: أفاد أن كل تكبير واجب

(9/100)


مستقل – انتهى. وقالت الشافعية: إن كل تكبيرة سنة مؤكدة، فإذا ترك الإمام أو المنفرد تكبيرة منها سجد للسهو عنها، ولا شيء على المأموم في ترك السنن ولو عمدا إذا أتى بها الإمام. قال الشوكاني: والظاهر عدم الوجوب لعدم وجدان دليل يدل عليه. والثانية: محل دعاء الاستفتاح، قال ابن قدامة: يدعو بدعاء الاستفتاح عقيب التكبيرة الأولى، ثم يكبر تكبيرات العيد، ثم يتعوذ ثم يقرأ، وهذا مذهب الشافعي – وإليه ذهب الحنفية كما في فروعهم، وهو الراجح عندنا -، وعن أحمد رواية أخرى أن الاستفتاح بعد التكبيرات اختارها الخلال وصاحبه، وهو قول الأوزاعي؛ لأن الاستفتاح تليه الاستعاذة وهي قبل القراءة، ولنا أن الاستفتاح شرع ليستفتح به الصلاة، فكان في أولها كسائر الصلوات، والاستعاذة شرعت للقراءة فهي تابعة لها، فتكون عند الابتداء بها لقول الله تعالى: ?فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم? [النحل: 98 ] وقد روى أبوسعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ قبل القراءة، قال: وأيا ما فعل كان جائزا، والثالثة: رفع اليدين مع التكبيرات الزوائد، قال ابن قدامة:
...............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/101)


يستحب أن يرفع يديه في حال تكبيرة حسب رفعهما مع تكبرة الإحرام، وبه قال عطاء والأوزاعي وأبوحنيفة والشافعي، وقال مالك والثوري: لا يرفعهما فيما عدا تكبيرة الإحرام، لنا ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه مع التكبير. قال أحمد: أما أنا فأرى أن هذا الحديث يدخل فيه هذا كله. وروي عن عمر أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في الجنازة وفي العيد، رواه الأثرم. ولا يعرف له مخالف في الصحابة – انتهى. قلت: أثر عمر رواه البيهقي أيضا (ج3 ص293) وفيه ابن لهيعة. والحديث الذي استدل به أحمد على رفع اليدين مع التكبيرات الزائد قيل: هو محمول على الصلاة المكتوبة لما روى ابن ماجه بسند ضعيف عن عمير بن حبيب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة – انتهى. والحق أنه ليس في رفع اليدين مع تكبيرات العيدين حديث صريح مرفوع لا قوي ولا ضعيف، وأقوى ما استدل به القائلون بالرفع إنما هو عموم بعض الأحاديث وإطلاقه، فقد روى أبوداود والدارقطني (ص108)، والبيهقي (ج3 ص293) من طريق بقية – وقد تابعه في ذلك ابن أخي الزهري عند الدارقطني (ص108) – ثنا الزبيدي عن الزهري عن سالم عن عبدالله بن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه... الحديث، وفي آخره: ويرفعهما في كل تكبيرة يكبرها قبل الركوع حتى تنقضي صلاته، قال الحافظ في التلخيص (ص145): احتج به ابن المنذر والبيهقي، أي على رفع اليدين في تكبيرات العيدين بناء على أن المراد بقوله: "ويرفعهما في كل تكبيرة يكبرها قبل الركوع" العموم في كل تكبيرة تقع قبل الركوع، فيندرج في ذلك تكبيرات العيدين لا العموم في تكبيرات الركوع، كما توهم ابن التركماني. والأولى عندي ترك الرفع لعدم ورود نص صريح في ذلك، ولعدم ثبوته صريحا بحديث مرفوع صحيح، ومن رفع مستدلا بعموم حديث ابن عمر وإطلاقه، وبما روي عن عمر وابنه

(9/102)


عبدالله وزيد بن ثابت من فعلهم فلا بأس به، هذا ما عندي، والله تعالى أعلم. والرابعة: هل يشرع الموالاة بين التكبيرات أو يشرع الفصل بينها بشيء من التحميد والتسبيح ونحو ذلك؟ قال ابن قدامة: إذا فرغ من الاستفتاح حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم فعل هذا بين كل تكبيرتين، فإن قال: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا فحسن، وإن قال غيره نحو أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر أو ما شاء من الذكر فهو جائز، وبهذا قال الشافعي، وقال أبوحنيفة ومالك والأوزاعي: يكبر متواليا لا ذكر بينه؛ لأنه لو كان بينه ذكر مشروع نقل كما نقل التكبير – انتهى. وقال الرافعي: يقف بين كل تكبيرتين بقدر آية لا طويلة ولا قصيرة. هذا لفظ الشافعي، وقد روي مثل ذلك عن ابن مسعود قولا وفعلا. قلت: الراجح عندي ما ذهب إليه مالك وأبوحنيفة؛ لأنه لم يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر بين التكبيرات، ولم يرو ذلك في حديث مسند، ولا نقل عن أحد من السلف إلا ما جاء في حديث جابر المتقدم مع ما فيه من الكلام، وفي ما روي عن ابن مسعود موقوفا عند
رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
1456- (17) وعن جعفر بن محمد مرسلا ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبابكر وعمر كبروا في العيدين والاستسقاء سبعا وخمسا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/103)


البيهقي بسند فيه من يحتاج إلى كشف حاله، وعند الطبراني من طريق إبراهيم النخعي أن الوليد بن عقبة دخل المسجد، وابن مسعود وأبوحذيفة وأبوموسى في عرصة المسجد...الحديث، قال الهيثمي: وإبراهيم لم يدرك واحدا من هؤلاء الصحابة، وهو مرسل، ورجاله ثقات، وعند الأثرم ولم أقف على سنده. (رواه الترمذي) وحسنه قال: وهو أحسن شيء روى في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أنكر جماعة تحسينه على الترمذي؛ لأن في سنده كثير بن عبدالله، وقد عرفت حاله، وأجاب النووي في الخلاصة عن الترمذي في تحسينه، فقال: لعله اعتضد بشواهد وغيرها، وقال العراقي: والترمذي إنما تبع في ذلك البخاري، فقد قال في كتاب العلل المفردة: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح منه، وبه أقول – انتهى. وقيل: تحسين الترمذي وتصحيحه توثيق للراوي وذهاب منه إلى أنه لم يرض الكلام فيه، وأما قول البخاري: ليس في هذا الباب شيء أصح منه، ففيه أن الظاهر أن حديث عبدالله بن عمر أصح شيء الباب، والله تعالى أعلم. (وابن ماجه والدارمي) كذا في جميع النسخ الموجودة عندنا، والظاهر أن قوله "والدارمي" خطأ من الناسخ، والصحيح الدارقطني، فإني لم أجد هذا الحديث في سنن الدارمي، ولم يعزه أحد المخرجين إليه، والله تعالى أعلم، وأخرجه أيضا ابن خزيمة والبيهقي والطحاوي وابن عدي.

(9/104)


1456- قوله (وعن جعفر بن محمد) هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبوعبدالله المدني المعروف بالصادق، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأمها أسماء بنت أبي بكر، فلذلك كان يقول: ولدني أبوبكر مرتين، وروي عنه أنه قال: والله إني لأرجو أن ينفعني الله بقرابة أبي بكر، روى عن أبيه محمد الباقر وغيره، وروى عنه الأئمة الأعلام نحو يحيى بن سعيد الأنصاري، وشعبة، وسفيانان، ومالك، وأبوحنيفة. قال الحافظ: صدوق فقيه إمام، ووثقه الشافعي وابن معين وأبوحاتم وابن عدي والنسائي، قال مالك: اختلفت إليه زمانا، فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال، إما مصل وإما صائم وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدث إلا على طهارة، ولد سنة (80)، ومات سنة (148)، وهو ابن (68) سنة، ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمد الباقر وجده علي زين العابدين (مرسلا) أي منقطعا (كبروا في العيدين والاستسقاء) أي في صلاة عيد الفطر وصلاة الأضحى وصلاة الاستسقاء (سبعا) أي سبع تكبيرات، يعني في الركعة الأولى (خمسا)
وصلوا قبل الخطبة، وجهروا بالقراءة)). رواه الشافعي.
1457- (18) وعن سعيد بن العاص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/105)


في الثانية، وبه قال الشافعي، وسيأتي الكلام في التكبير في صلاة الاستسقاء في موضعه (وصلوا قبل الخطبة) أي في العيد والاستسقاء، وتقدم أن في صلاة العيد قبل الخطبة إجماع، وأنه لا عبرة بمن خالف فيه من بني أمية (وجهروا بالقراءة) أي فيهما، وهو اتفاق، بل حكي فيه الإجماع. قال ابن قدامة: لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أنه يسن الجهر بالقراءة في صلاة العيدين إلا أنه روي عن علي – رضي الله عنه – أنه كان إذا قرأ في العيدين أسمع من يليه ولم يجهر ذلك الجهر. وقال ابن المنذر: أكثر أهل العلم يرون الجهر بالقراءة، وفي أخبار من أخبر بقراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنه كان يجهر، ولأنها صلاة عيد فأشبهت الجمعة – انتهى. والحديث دليل لمن قال إن التكبيرات الزوائد في العيدين سبع في الركعة الأولى، وخمس في الثانية، لكنه منقطع وهو من أقسام الضعيف. (رواه الشافعي) في كتاب الأم (ج1 ص209) وفي مسنده (ج6 ص109) قال: أنا إبراهيم، قال: حدثني جعفر بن محمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -...الخ، فالحديث منقطع، بل معضل، فالمراد بالمرسل في قول المصنف المنقطع، وروى الشافعي أيضا في الأم (ج1 ص209) وفي المسند (ج6 ص109) عن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن علي – رضي الله عنه – أنه كبر في العيدين والاستسقاء سبعا وخمسا وجهر بالقراءة – انتهى. ورواه عبدالرزاق في مصنفه قال: أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان علي يكبر في الأضحى والفطر والاستسقاء سبعا في الأولى، وخمسا في الأخرى، ويصلي قبل الخطبة، ويجهر بالقراءة، قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك – انتهى. كذا في نصب الراية (ج2 ص219)، وذكره ابن حزم في المحلى (ج5 ص83)، وقال: إلا أن في الطريق إبراهيم بن أبي يحيى، وهو أيضا منقطع – انتهى. قلت: محمد الباقر والد جعفر لم ير هو ولا أبوه علي بن أبي طالب – رضي الله

(9/106)


عنه -.
1457- قوله (وعن سعيد بن العاص) كذا قال المصنف تبعا للجزري، والأولى أنه يقول: وعن أبي عائشة جليس أبي هريرة أنه حضر سعيد بن العاص سأل أباموسى الأشعري وحذيفة بن اليمان كيف كان...الخ، أو يقول: وعن أبي موسى وحذيفة أن سعيد بن العاص سألهما كيف كان...الخ، وسعيد هذا هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، ولد عام الهجرة، قتل أبوه يوم بدر كافرا، ومات جده أبوأحيحة قبل بدر مشركا، وكان سعيد من أشراف قريش وفصحائهم، ولذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن، وكان حليما وقورا، قال ابن سعد: قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ولسعيد تسع سنين، وذكر في الصحابة؛ لأن له رؤية، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وكان ممن اعتزل الجمل وصفين وولي إمرة الكوفة لعثمان، وإمرة المدينة لمعاوية، وغزا طبرستان ففتحها،
قال: سألت أباموسى وحذيفة، كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبوموسى: كان يكبر أربعا، تكبيره على الجنائز، فقال حذيفة: صدق)). رواه أبوداود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/107)


وغزا جرجان، وكان في عسكره حذيفة وغيره من كبار الصحابة، مات في قصره بالعرصة على ثلاثة أميال من المدينة، ودفن بالبقيع سنة (58)، وقيل غير ذلك (في الأضحى والفطر) أي في صلاتهما (كان يكبر) قال القاري: أي في كل ركعة (أربعا) أي مع تكبير الإحرام في الأولى ومع تكبير الركوع في الثانية، قاله القاري. (تكبيره) أي مثل عدد تكبيره، قاله القاري، وقال ابن حجر: أي مثل تكبيره على الجنائز. (فقال حذيفة) بن اليمان (صدق) أي أبوموسى، فقال أبوموسى: كذلك كنت أكبر في البصرة حيث كنت (أميرا) عليهم. وقد استدل به الحنفية لمذهبهم، لكن الحديث ضعيف، كما ستعرف (رواه أبوداود)، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص416)، والطحاوي (ص400)، والبيهقي من طريق أبي داود (ج3 ص289-290)، وسكت عنه أبوداود والمنذري. قلت: في سنده أبوعائشة الأموي مولاهم، جليس أبي هريرة، وهو مجهول الحال، قال الذهبي: أبوعائشة جليس لأبي هريرة غير معروف، وقال الزيلعي نقلا عن التنقيح: ولكن أبوعائشة قال ابن حزم فيه: مجهول. وقال ابن القطان: لا أعرف حاله – انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج5 ص84): أبوعائشة مجهول لا يدرى من هو، ولا يعرفه أحد، ولا تصح عنه رواية لأحد – انتهى. وقد تفرد أبوعائشة هذا برفع هذا الحديث، ورواه جماعة من الثقات وهم علقمة والأسود عند عبدالرزاق، كما في نصب الراية (ص213)، وعبدالله بن قيس عند الطحاوي في شرح الآثار، وكردوس عند ابن أبي شيبة، كما في الجوهر النقي، فوقفوه على ابن مسعود، وعلى هذا فزيادة الرفع منكرة، والموقوف هو المحفوظ، وزيادة الرفع إنما تقبل إذا كان راويها ثقة حافظا ثبتا، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الثقة، وبشرط أن لا تكون شاذة، والأمر ههنا ليس كذلك، كما لا يخفى على المنصف الغير المتعسف، وأيضا في سنده عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان الدمشقي الزاهد الصالح، وهو متكلم فيه، فكان علي بن المديني ودحيم وأبوداود حسن الرأي فيه، وقال أحمد:

(9/108)


لم يكن بالقوي في الحديث، وأحاديثه مناكير، وقال العجلي وأبوزرعة الرازي: لين، وقال النسائي: ضعيف، وقال مرة: ليس بالقوي، وقال مرة: ليس بثقة، وقال ابن معين: ضعيف، يكتب حديثه على ضعفه، وكذا قال ابن عدي: ومع هذا فقد تغير عقله في آخر عمره، كما قال أبوحاتم، ولم يتابعه أحد على رفع هذا الحديث. قال البيهقي في السنن الكبرى (ج 3 ص290): قد خولف راوي هذا الحديث في موضعين، أحدهما: في رفعه، والآخر في جواب أبي موسى، والمشهور في هذه القصة أنهم أسندوا أمرهم إلى ابن مسعود، فأفتاه ابن مسعود بذلك، ولم يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذلك رواه أبوإسحاق السبيعي عن عبدالله بن موسى أو ابن أبي موسى أن سعيد بن العاص أرسل...الخ.
1458- (19) وعن البراء، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نوول يوم العيد قوسا فخطب عليه. رواه أبوداود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعبدالرحمن بن ثوبان ضعفه ابن معين – انتهى. وقال في معرفة السنن بعد نقل تضعيف عبدالرحمن عن ابن معين، والمشهور في هذه القصة أنهم أسندوا أمرهم إلى ابن مسعود فأفتاه ابن مسعود في الأولى قبل القراءة وأربع في الثانية بعد القراءة، ويركع برابعة، ولم يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذلك رواه أبوإسحاق السبيعي وغيره عن شيوخهم، ولو كان عند أبي موسى فيه علم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يسأله عن ابن مسعود، وروي عن علقمة عن عبدالله أنه قال: خمس في الأولى، وأربع في الثانية، وهذا يخالف الرواية الأولى – انتهى. وقد ظهر بهذا أن هذا الحديث لا يصلح للاستدلال وإن سكت عنه أبوداود والمنذري، وقد تقدم الكلام في سكوتهما فتذكر، ولشيخنا رسالة مستقلة بالأردية في مسألة التكبيرات الزوائد وما يتعلق بها، سماها "القول السديد فيما يتعلق بتكبيرات العيد"، فعليك أن تطالعها.

(9/109)


1458- قوله (نوول) بووين على وزن نودي صيغة ماض مجهول من المناولة أي أعطي، كذا وقع في جميع نسخ المشكاة، وفي بعض نسخ أبي داود، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص95)، ووقع في أكثر نسخ أبي داود "نول" بواو واحد على بناء المجهول الماضي، من باب التفعيل، قال في القاموس: أنلته إياه ونولته ونولت عليه، وله: أعطيته. (يوم العيد) أي الأضحى، كما في رواية أحمد والبيهقي (قوسا فخطب) أي متوكئا (عليه) وفي رواية أحمد والبيهقي: أعطي قوسا أو عصا فاتكأ عليه، فحمد الله وأثنى عليه...الخ، وفي الحديث مشروعية الاعتماد على قوس أو عصا حال الخطبة، قيل: والحكمة في ذلك الاشتغال عن العبث، وقيل: إنه أربط للجأش (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضا أحمد وطوله، والبيهقي (ج3 ص300)، والطبراني، وصححه ابن السكن، وله شواهد من حديث الحكم بن حزن الكلفي عند أبي داود والبيهقي في حديث أوله: وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابع سبعة أو تاسع تسعة، فدخلنا عليه...الحديث، وفيه: شهدنا الجمعة معه، فقام متوكئا على عصا أو قوس، فحمد الله وأثنى عليه. قال الحافظ: إسناده حسن، فيه شهاب بن خراش، وقد اختلف فيه، والأكثر وثقوه، وقد صححه ابن السكن وابن خزيمة – انتهى. ومن حديث ابن الزبير عند الطبراني في الكبير والبزار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب بمخصره، وفيه ابن لهيعة، ومن حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطبهم في السفر متوكئا على قوس، وفيه أبوشيبة وهو ضعيف، ومن حديث سعد القرظ عند الطبراني أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب في الجمعة خطب على عصا، قال الهيثمي: ذكر هذا في أثناء حديث طويل، وإسناده ضعيف – انتهى. قلت: وروى البيهقي (ج3 ص206)

(9/110)


1459- (20) وعن عطاء مرسلا، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب يعتمد على عنزته اعتمادا. رواه الشافعي.
1460- (21) وعن جابر قال: شهدت الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم عيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان ولا إقامة، فلما قضى الصلاة قام متكئا على بلال، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ الناس،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من طريق عبدالرحمن بن سعد بن عمار بن سعد حدثني أبي عن آبائه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا، وقال الحافظ في التلخيص (ص137) بعد ذكر حديث الحكم والبراء: وفي الباب عن ابن عباس وابن الزبير رواهما أبوالشيخ بن حبان في كتاب أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - له – انتهى.
1459- قوله (وعن عطاء) أي ابن يسار، قاله القاري، وهو تابعي مشهور كان كثير الرواية عن ابن عباس، قاله المؤلف، والظاهر أن المراد به هنا عطاء بن أبي رباح (على عنزته) بفتح المهملة والنون بعدها زاي معجمة، رمح قصير في طرفها زج أي نصل. قال الحافظ في الفتح: العنزة – بفتح النون – عصى أقصر من الرمح لها سنان. وقيل: هي الحربة القصيرة، وقيل: عصا عليه زج أي سنان. (اعتمادا) مفعول مطلق أي اعتمادا كليا (رواه الشافعي) في كتاب الأم (ج1 ص211)، وفي مسنده (ج6 ص110) عن إبراهيم عن ليث بن أبي سليم عن عطاء مرسلا، وليث ضعيف، وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (ج3 ص206) من طريق جعفر بن عون عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم إذا خطب على عصا؟ قال: نعم، وكان يعتمد عليها اعتمادا.

(9/111)


1460- قوله (شهدت) أي حضرت (الصلاة) أي صلاة العيد (في يوم عيد) أي يوم عيد الفطر، كما هو مصرح في رواية للشيخين (فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة) فيه تقديم العيد على الخطبة، وترك الأذان والإقامة لصلاة العيد، وقد تقدم البسط في ذلك (قام متكئا) كذا في جميع النسخ الموجودة للمشكاة، من الإتكاء، والظاهر أنه خطأ من النساخ، والصحيح متوكئا أي من التوكأ، كما في المصابيح، وهكذا في مسلم والنسائي والبيهقي (ج3 ص296)، وهكذا ذكره المجد بن تيمية في المنتقى، وعزاه إلى مسلم والنسائي، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص89)، وعزاه للنسائي (على بلال) أي متحاملا عليه، ومنه التوكؤ على العصا، وهو التحامل عليها، والمراد أنه كان معتمدا على يد بلال، كما يفيده رواية الشيخين وأبي داود، وفيه أن الخطيب ينبغي أن يعتمد على شيء كالقوس والعصا والعنزة، أو يتكئ على إنسان (ووعظ الناس)
وذكرهم، وحثهم على طاعته، ومضى إلى النساء ومعه بلال، فأمرهن بتقوى الله، ووعظهن وذكرهن. رواه النسائي.
1461- (22) وعن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/112)


قال الراغب: الوعظ زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب، فقوله (وذكرهم) بالتشديد عطف تفسيري، قاله القاري، وقال ابن حجر: "ذكرهم" أي العواقب يدل مما قبله، وقيل: معنى وعظهم: نصحهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكرهم بأحوال القيامة والنار والجنة (وحثهم) أي رغبهم وحضهم (على طاعته) أي طاعة الله تعالى، ومنها طاعته – عليه السلام -، وهذا تعميم بعد تخصيص؛ لأنه يشمل مكارم الأخلاق، أو المراد عبادته النافلة، قاله القاري. قلت: ولفظ مسلم بعد قوله "على بلال": "ثم أمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكره". (ومضى إلى النساء) ولفظ النسائي: ثم مال إلى النساء، والمراد أنه أتاهن بعد فراغ خطبة الرجال، كما صرح بذلك في رواية الشيخين، وفيه إشعار بأن النساء كن على حدة من الرجال غير مختلطات بهم (فأمرهن) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (بتقوى الله) أي الجامعة لامتثال المأمورات واجتناب المنهيات (ووعظهن) بتخويف العقاب (وذكرهن) بتحصيل الثواب، وهو تفسير لـ"وعظهن" أو تأكيد له. ولفظ مسلم: ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن، واكتفى في رواية لمسلم بالتذكير، وكذا في رواية البخاري وأبي داود، فيه أنه يستحب للإمام إذا لم يسمع النساء الخطبة أن يأتيهن بعد فراغه ويعظهن ويذكرهن إذا لم يترتب عليه مفسدة، وفيه أيضا تمييز مجلس النساء إذا حضرن مجامع الرجال؛ لأن الاختلاط ربما كان سببا للفتنة الناشئة عن النظر أو غيره، وبعد ذلك في رواية النسائي ومسلم: وحمد الله وأثنى عليه، ثم حثهن على طاعته ، ثم قال: ((تصدقن، فإن أكثركن خطب جهنم))، فقالت امرأة من سفلة النساء، سفعاء الخدين: لم يا رسول الله؟ قال: ((تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير))، فجعلن ينزعن قلائدهن وأقرطهن وخواتيمهن يقذفنه في ثوب بلال يتصدقن به، لفظ النسائي. (رواه النسائي) وأخرجه أيضا مسلم والبيهقي (ج3 ص296)، فكان من حقه أن يذكر

(9/113)


في الصحاح أي الفصل الأول، وذهل المصنف فعزاه للنسائي، وترك مسلما، وأصل الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري في "باب المشي والركوب إلى العيد والصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة"، وفي باب "موعظة الإمام النساء يوم العيد"، وأخرجه أيضا أبوداود في باب الخطبة يوم العيد، وذهل المنذري في مختصره فعزاه للنسائي، وترك البخاري ومسلما.
1461- قوله (إذا خرج يوم العيد) ذاهبا (في طريق رجع في غيره) أي في طريق غيره
رواه الترمذي والدارمي.
1462- (23) وعنه، أنه أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيد في المسجد. رواه أبوداود، وابن ماجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(رواه الترمذي والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم (ج1 ص296)، والبيهقي (ج3 ص308)، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين، وأخرجه البخاري والبيهقي من حديث جابر، قال الترمذي تبعا للبخاري: وحديث جابر كأنه أصح، وتقدم الكلام في هذا.

(9/114)


1462- قوله (وعنه) أي عن أبي هريرة (أنه) أي الشأن (أصابهم) أي الصحابة (مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيد في المسجد) أي مسجد المدينة. قال ابن الملك: يعني كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة العيد في الصحراء إلا إذا أصابهم مطر فيصلي في المسجد، فالأفضل أداءها في الصحراء في سائر البلدان، وفي مكة خلاف – انتهى. قلت: الحديث يدل على أن ترك الخروج إلى الجبانة وفعل الصلاة في المسجد عند عروض عذر المطر غير مكروه، وقد اختلف هل الأفضل في صلاة العيد الخروج إلى الجبانة أي الصحراء أو الصلاة في مسجد البلد إذا كان واسعا؟ الثاني قول الشافعي، أنه إذا كان مسجد البلد واسعا صلوا فيه ولا يخرجون، فكلامه يقضي بأن العلة في الخروج طلب الاجتماع، ولذا أمر - صلى الله عليه وسلم - بإخراج العواتق وذوات الخدور، فإذا حصل ذلك في المسجد فهو أفضل، ولذلك فإن أهل مكة لا يخرجون لسعة مسجدها وضيق أطرافها، والقول الأول لمالك وأحمد وأبي حنيفة: إن الخروج إلى الجبانة أفضل ولو اتسع المسجد للناس، وحجتهم محافظته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولم يصل في المسجد إلا لعذر المطر، ولا يحافظ - صلى الله عليه وسلم - إلى على الأفضل، وتقدم أن هذا القول هو الراجح عندنا. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضا الحاكم (ج1 ص295) والبيهقي (ج3 ص310) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي على شرطهما. وقال الحافظ في التلخيص: إسناده ضعيف – انتهى. قلت: في سنده رجل مجهول، وهو عيسى بن عبدالأعلى بن أبي فروة الأموي مولاهم، قال فيه الحافظ في التقريب: مجهول. وقال الذهبي في الميزان: لا يكاد يعرف، وقال: هذا حديث منكر، قال ابن القطان: لا أعلم عيسى هذا مذكورا في شيء من كتب الرجال ولا في غير هذا الإسناد – انتهى. وروى البيهقي (ج3 ص310) من حديث عبدالله بن عامر بن ربيعة: إن الناس

(9/115)


مطروا على عهد عمر بن الخطاب فامتنع الناس من المصلى فجمع عمر الناس في المسجد فصلى بهم، ثم قام عمر على المنبر فقال: يا أيها الناس إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج بالناس إلى المصلى يصلي بهم؛ لأنه أرفق بهم وأوسع عليهم، وأن المسجد كان لا يسعهم، فإذا كان هذا المطر فالمسجد أرفق.
1463- (24) وعن أبي الحويرث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران: ((عجل الأضحى، وأخر الفطر، وذكر الناس)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/116)


1463- قوله (وعن أبي الحويرث) بالتصغير، اسمه عبدالرحمن بن معاوية بن الحويرث الأنصاري، الزرقي، المدني، مشهور بكنيتة. قال الحافظ في التقريب: صدوق سيء الحفظ من الطبقة السادسة، وهي طبقة لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة، فأبوالحويرث هذا من أتباع التابعين، والحديث مرسل كما قال الحافظ في التلخيص، والمجد ابن تيمية في المنتقى، والبيهقي في السنن الكبرى، واختلف فيه قول ابن معين، فقال الدوري عنه: ليس يحتج بحديثه، وقال عثمان الدارمي وغيره عنه: ثقة، وقال أبوحاتم: ليس بقوي يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال مالك والنسائي: ليس بثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، ولم يتكلم فيه البخاري بشيء. (كتب إلى عمرو بن حزم) الأنصاري، صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق، وله خمس عشرة سنة، استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على نجران سنة عشر، وقد تقدم ترجمته (وهو بنجران) بفتح النون وسكون الجيم، فراء، فألف، فنون على وزن سلمان، بلد باليمن، كان عمرو واليا فيه (عجل الأضحى) أي صلاته ليشتغل الناس بذبح الأضاحي (وأخر الفطر) أي صلاته لتوسع على الناس إخراج زكاة الفطر قبل الصلاة، قاله ابن الملك. (وذكر الناس) أي بالموعظة في خطبتي العيدين، قال الشوكاني: الحديث يدل على مشروعية تعجيل الأضحى وتأخير الفطر، ولعل الحكمة في ذلك ما تقدم من استحباب الإمساك في صلاة الأضحى حتى يفرغ من الصلاة، فإنه ربما كان ترك التعجيل لصلاة الأضحى مما يتأذى به منتظر الصلاة لذلك، وأيضا فإنه يعود إلى الاشتغال بالذبح لأضحيته بخلاف عيد الفطر فإنه لا إمساك ولا ذبيحة، وأحسن ما ورد من الأحاديث في تعيين وقت صلاة العيدين حديث جندب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد رمحين، والأضحى قيد رمح. أخرجه الحسن بن أحمد البناء في كتاب الأضاحي له من طريق وكيع عن المعلى بن هلال عن الأسود بن قيس عن جندب، ذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم

(9/117)


عليه، قلت: معلى بن هلال المذكور في سنده من رجال ابن ماجه، وقد اتفق النقاد على تكذيبه، فالحديث ضعيف جدا، قال الشوكاني: قال في البحر: وهي من بعد انبساط الشمس إلى الزوال، ولا أعرف فيه خلافا – انتهى. قلت: دعوى عدم الخلاف خطأ؛ فإنهم اختلفوا في أول وقت صلاة العيد وآخره، فعند الشافعية وقتها بين ابتداء طلوع الشمس ولو للبعض ولا يعتبر تمام الطلوع وزوالها ولا نظر لوقت الكراهة؛ لأن هذه صلاة لها سبب متقدم ويسن تأخيرها لترتفع الشمس قيد رمح خروجا من الخلاف، وعند المالكية والحنابلة والحنفية أول وقتها وقت حل النافلة، وهو من ارتفاع الشمس قدر رمح من رماح العرب إلى قبيل الزوال، وهذا هو الراجح عندنا، ويدل على مشروعية التعجيل لصلاة العيد وكراهة تأخيرها عن وقتها المجمع عليه - وهو انبساط الشمس وارتفاعها
رواه الشافعي.
1464- (25) وعن أبي عمير بن أنس، عن عمومة له من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/118)


قدر رمح أو رمحين، وهو وقت حل صلاة النافلة – ما روى أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن يزيد بن خمير قال: خرج عبدالله بن بسر – صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - - مع الناس في يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر ابطاء الإمام، فقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح. قال الحافظ: أي وقت صلاة السبحة، وذلك إذا مضى وقت الكراهة، وفي رواية صحيحة للطبراني: وذلك حين تسبيح الضحى، وقال الكرماني: حين التسبيح أي حين صلاة الضحى، أو حين صلاة العيد؛ لأن صلاة العيد سبحة ذلك اليوم – انتهى. وروى البيهقي من طريق الشافعي: انبأ الثقة أن الحسن كان يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغدو إلى الأضحى والفطر حين تطلع الشمس فيتتام طلوعها. قال البيهقي: هذا مرسل، وشاهده عمل المسلمين بذلك، أو بما يقرب منه مؤخرا عنه – انتهى. (رواه الشافعي) في كتاب الأم (ج1 ص205)، وفي مسنده (ج6 ص107) عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث به، وهو مرسل، وضعيف أيضا، وأخرجه أيضا البيهقي (ج3 ص282) من طريق الشافعي، وقال: هذا مرسل، وقد طلبته في سائر الروايات لكتابه إلى عمرو بن حزم، فلم أجده – انتهى. قال ابن حجر: وهو وإن كان ضعيفا إلا أنه يعمل به في مثل ذلك اتفاقا.

(9/119)


1464- قوله (وعن أبي عمير) بالتصغير (بن أنس) بن مالك الأنصاري، قال الحاكم أبوأحمد: اسمه عبدالله، وكان أكبر أولاد أنس، قلت: ذكر الباوردي حديثه هذا، وسماه في مسنده عبدالله، قال الحافظ: ثقة من الرابعة، وهي طبقة تلي الطبقة الوسطى من التابعين، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وصحح حديثه البيهقي والنووي في شرح المهذب والخلاصة وأبوبكر بن المنذر وابن السكن وابن حزم والخطابي، وتصحيحهم توثيق لرواته أبي عمير وغيره. وقال ابن عبدالبر: هو مجهول، قال الحافظ في التلخيص: كذا قال، وقد عرفه من صحح له – انتهى. قال المؤلف: عمر بعد أبيه أنس زمانا طويلا. (عن عمومة له) بضم العين جمع عم، كالبعولة جمع بعل، وفي رواية ابن ماجه والبيهقي: حدثني عمومتي من الأنصار (من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) صفة عمومة، قال النووي في الخلاصة: عمومة أبي عمير صحابة لا يضر جهالة أعيانهم؛ لأن الصحابة كلهم عدول، وقال البيهقي (ج3 ص316): عمومة أبي عمير من أصحابه – عليه السلام – لا يكونون إلا ثقات، وقال أيضا (ج4 ص249): الصحابة كلهم ثقات سموا أو لم يسموا – انتهى. وقال النووي في التقريب: الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به، فإذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك حجة وإن لم يسم ذلك الرجل، ولا يضر الجهالة لثبوت
أن ركبا جاؤا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهدون أنه رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم. رواه أبوداود والنسائي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/120)


عدالتهم على العموم (أن ركبا) جمع راكب، كصحب وصاحب (جاؤا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهدون أنه رأوا الهلال بالأمس) يعني لم يروا الهلال في المدينة ليلة الثلاثين من رمضان فصاموا يوم الثلاثين، فجاء قافلة في أثناء ذلك اليوم وشهدوا أنهم رأوا الهلال ليلة الثلاثين، وفي رواية أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي: أغمي علينا هلال شوال فأصبحنا صياما، فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم رأوا الهلال بالأمس. وفي رواية الطحاوي: أنهم شهدوا بعد الزوال، وبه أخذ أحمد وأبوحنيفة وغيرهما أن وقتها إلى زوالها إذ لو كانت صلاة العيد تؤدى بعد الزوال لما أخرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغد (فأمرهم) أي الناس (أن يفطروا) أي ذلك اليوم؛ لأنه ثبت أنه يوم عيد الفطر (وإذا أصبحوا) أي في اليوم الثاني من شوال (أن يغدوا) أي يذهبوا في الغدوة أي جميعا (إلى مصلاهم) لصلاة العيد، كما في رواية ابن ماجه وغيره، قال الشوكاني: الحديث دليل لمن قال: إن صلاة العيد تصلى في اليوم الثاني إن لم يتبين العيد إلا بعد خروج وقت صلاته، وإلى ذلك ذهب الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبوحنيفة وأبويوسف ومحمد، وهو قول للشافعي، وظاهر الحديث أن الصلاة في اليوم الثاني أداء لا قضاء – انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص252): وإلى هذا الحديث ذهب الأوزاعي وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق. وقال الشافعي: إن علموا بذلك قبل الزوال خرجوا وصلى الإمام بهم صلاة العيد، وإن لم يعلموا إلا بعد الزوال لم يصلوا يومهم ولا من الغد؛ لأنه عمل في وقت إذا جاز ذلك الوقت لم يعمل في غيره، وكذلك قال مالك وأبوثور، قال الخطابي: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى، وحديث أبي عمير صحيح، فالمصير إليه واجب – انتهى. قلت: وروى البيهقي عن الشافعي ما يدل على أنه علق القول به على صحة هذا الحديث، وقد تقدم أن الحديث

(9/121)


صحيح، صححه غير واحد من الأئمة، فالقول به واجب. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه في الصيام والدارقطني والبيهقي (ج3 ص316)، وابن حبان في صحيحه، وسكت عنه أبوداود والمنذري، وصححه الدارقطني والبيهقي والنووي وابن المنذر وابن السكن وابن حزم والخطابي والحافظ ابن حجر في بلوغ المرام. فائدة: اختلف العلماء فيمن لم يدرك صلاة العيد مع الإمام، فذهب المزني ومالك وأبوحنيفة إلى أنه لا يقضيها، وبه قال أحمد، قال ابن قدامة: من فاتته صلاة العيد أي مع الجماعة، فلا قضاء عليه – انتهى. وذهب الشافعي إلى أنه يقضيها، واختلفوا أيضا في أنه كيف يقضي، فقال أبوحنيفة: إن شاء صلى وإن شاء لم يصل، فإن شاء صلى أربعا وإن شاء صلى ركعتين، وإليه ذهب أحمد، قال ابن قدامة: من فاتته صلاة العيد فلا قضاء عليه، فإن أحب قضاءها فهو مخير إن شاء صلاها أربعا، روي هذا
?الفصل الثالث?
1465-1466- (26-27) عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء عن ابن عباس، وجابر بن عبدالله قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى، ثم سألته – يعني عطاء – بعد حين عن ذلك، فأخبرني قال: أخبرني جابر بن عبدالله أن لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام، ولا بعد ما يخرج،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/122)


عن ابن مسعود، وهو قول الثوري، قال ابن مسعود: من فاته العيد مع الإمام فليصل أربعا - أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح -، وإن شاء أن يصلي ركعتين، كصلاة التطوع، وهو قول الأوزاعي، وإن شاء صلاها على صفة صلاة العيد بتكبير وحده أو في جماعة، نقل ذلك عن أحمد إسماعيل بن سعد، واختاره الجوزجاني، وهذا قول النخعي ومالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر أنه يصليها كما يصلي مع الإمام إلا أن مالكا استحب له ذلك من غير إيجاب، وذلك لما روى البيهقي عن عبدالله بن أبي بكر بن أنس قال: كان أنس إذا فاته العيد مع الإمام جمع أهله فصلى بهم مثل صلاة الإمام في العيد، وروى ابن أبي شيبة عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال: من فاته العيد يصلي ركعتين ويكبر؛ ولأنه قضاء صلاة فكان على صفتها كسائر الصلوات. قلت: وإليه ذهب البخاري، كما يدل عليه تبويبه، وهو قول الراجح عندنا.

(9/123)


1465-1466- قوله (عن ابن جريج) بضم الجيم الأولى مصغرا، وهو عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي، أصله رومي، ثقة، فقيه، فاضل، وكان يدلس ويرسل، مات سنة (150) أو بعدها، وقد جاوز السبعين. قال ابن جريج: لزمت عطاء بن أبي رباح سبع عشرة سنة، وقال ابن عيينة: سمعت أبي عبدالرزاق بن همام عن ابن جريج ما دون العلم تدويني أحد، وقال أحمد: أول من صنف الكتب ابن جريج وابن أبي عروبة (أخبرن عطاء) أي ابن أبي رباح (لم يكن) أي الشأن (يؤذن) أن بالصلاة بفتح الذال المشددة مبنيا للمفعول خبر كان واسمها ضمير الشأن (يوم) عيد (الفطر ولا يوم) عيد (الأضحى) أي في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، واليوم منصوب على الظرفية، قال ابن جريج (ثم سألته يعني عطاء) تفسير للضمير المنصوب من المصنف (بعد حين عن ذلك) أي عن تفصيله أو الإعادة لتأكيد الإفادة احتياطا (فأخبرني) أي عطاء بالتفصيل الآتي (قال) أي عطاء (أخبرني جابر بن عبدالله) الأنصاري (أن) بالتخفيف (لا أذان) أي مشروع (للصلاة) أي لصلاة العيد (يوم الفطر) ترك يوم عيد الأضحى للاكتفاء (حين يخرج الإمام) أي للصلاة (ولا بعد ما يخرج) أي
ولا إقامة ولا نداء ولا شيء، لا نداء يومئذ ولا إقامة. رواه مسلم.
1467- (28) وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر، فيبدأ بالصلاة، فإذا صلى صلاته، قام فأقبل على الناس، وهم جلوس في مصلاهم، فإن كانت له حاجة ببعث ذكره للناس، أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها، وكان يقول: تصدقوا، تصدقوا، تصدقوا، وكان أكثر من يتصدق النساء، ثم ينصرف، فلم يزل كذلك حتى كان مروان ابن الحكم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/124)


للخطبة، وقال القاري: حين يخرج الإمام أي أول الوقت ولا بعد ما يخرج أي عند إرادته الصلاة (ولا إقامة ولا نداء) تأكيد (ولا شيء) من ذلك قط، وهو تأكيد للنفي (لا نداء) بلا واو (يومئذ ولا إقامة) قال الطيبي: تأكيد على تأكيد أن كان من كلام جابر وأن كان من كلام عطاء. ذكره تفريعا لابن جريج، يعني حدثت لك أنه لم يؤذن ثم سألتني عن ذلك بعد حين – انتهى. واستدل بقوله: ولا إقامة ولا نداء ولا شيء أنه لا يقال إمام صلاة العيد شيء من الكلام، وقد سبق الكلام فيه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا البيهقي (ج3 ص284)، وأخرجه البخاري مختصرا عن عطاء عن ابن عباس وجابر قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى.

(9/125)


1467- (كان يخرج) أي لصلاة العيد (يوم) عيد (الأضحى ويوم) عيد (الفطر، فيبدأ بالصلاة) أي قبل الخطبة (فإذا صلى صلاته) أي فرغ منها، ووقع في مسلم بعد صلاته لفظ "وسلم" (قام) أي للخطبة (وهم جلوس في مصلاهم) أي مستقبلي القبلة، وهي جملة اسمية حالية (فإن كانت له) أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - (حاجة ببعث) أي ببعث عسكر لموضع (ذكره) أي البعث بتفصيله أو المبعوث ممن يريد بعثه (أو كانت له) أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - (حاجة بغير ذلك) أي بغير البعث من مصالح المسلمين العامة أو الخاصة (وكان يقول) في أثناء خطبته (تصدقوا، تصدقوا، تصدقوا) التثليث للتأكيد اعتناء بأمر الصدقة؛ لعموم نفعها وشح النفوس بها أو باعتبار من بحذائه ويمينه وشماله (وكان أكثر من يتصدق النساء) قال القاري: أكثر النسخ على رفع أكثر، ونصب النساء، وذلك لأنه – عليه الصلاة والسلام – كان يبالغ في حثهن على الصدقة أكثر، ويعلل ذلك بأنه رآهن أكثر أهل النار لكفرانهن العشير وإكثارهن اللعن والشكاة (ثم ينصرف) أي يرجع إلى بيته (فلم يزل) أي الأمر (كذلك) أي مثل ذلك، على ذلك النوال من تقديم الصلاة على الخطبة، والخطبة بالقيام على الأرض دون المنبر (حتى كان مروان ابن الحكم) قال الطيبي: كان تامة، والمضاف محذوف
فخرجت مخاصرا مروان حتى أتينا المصلى، فإذا كثير بن الصلت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/126)


أي حدوث عهده، أو أمارته يعني على المدينة من قبل معاوية، وهو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي أبوعبدالملك الأموي، وهو ابن عم عثمان بن عفان، ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة اثنتين من الهجرة، وقيل: عام الخندق سنة أربع أو خمس، وقيل: ولد يوم أحد، يعني سنة ثلاث، وقيل غير ذلك. وقال ابن شاهين: مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، فيكون مولده بعد الهجرة بسنتين، يقال له رؤية، والصحيح أنه لاي ثبت له صحبة، جزم به جماعة منهم البخاري، قال ابن عبدالبر: لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد نفى أباه الحكم الذي أسلم يوم الفتح إليها فلم يزل بها حتى ولي عثمان بن عفان فرده عثمان فقدم المدينة هو وولده في خلافة عثمان، وتوفي أبوه فاستكتبه عثمان وضمه إليه، فاستولى إليه إلى أن قتل عثمان، وكان هو من أسباب قتله، ثم شهد الجمل مع عائشة، ثم صفين مع معاوية، ثم ولى إمرة المدينة لمعاوية ثم لم يزل بها إلى أن أخرجهم ابن الزبير في أوائل إمرة يزيد بن معاوية، فكان ذلك من أسباب وقعة الحرة، وبقي بالشام إلى أن مات معاوية بن يزيد بن معاوية، فبايعه بعض أهل الشام سنة (64) في قصة طويلة ثم كانت الوقعة بينه وبين الضحاك بن قيس، وكان أميرا لابن الزبير فانتصر مروان وقتل الضحاك واستوثق له ملك الشام، ثم توجه إلى مصر فاستولى عليها ثم بغته الموت، فعهد إلى ولده عبدالملك فكانت خلافته تسعة أشهر، ومات في صدر رمضان سنة (65) وله (63) أو (61) سنة، وهو أول من ضرب الدنانير الشامية التي يباع الدينار منها بخمسين، وكتب عليها قل هو الله أحد، وكان يعد في الفقهاء، قال عروة بن الزبير: كان مروان لا يتهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتمادا على صدقه، وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم

(9/127)


فقلته، ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى. قال الحافظ: فأما قتل طلحة فكان متأولا فيه، كما قرره الإسماعيل وغيره، وأما بعد ذلك فإنما حمل عنه سهل بن سعد وعروة وعلي بن الحسين وأبوبكر بن عبدالرحمن بن الحارث، وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميرا عندهم في المدينة قبل أن يبدو منه في الخلافة على ابن الزبير ما بدا. والله تعالى أعلم، وقد اعتمد مالك على حديثه ورأيه والباقون سوى مسلم – انتهى. (فخرجت) لصلاة العيد (مخاصرا) حال من الفاعل (مروان) مفعوله، والمخاصرة أن يأخذ رجل بيد رجل يتماشيان فيقع يد كل واحد منهما عند خاصرة صاحبه عبارة عن شدة التصاقهما في المشي (فإذا) للمفاجأة (كثير بن الصلت) كثير ضد القليل، والصلت – بفتح الصاد المهملة وسكون اللام ثم مثناة فوقية -، وهو كثير بن الصلت بن معدي كرب الكندي المدني، ثقة من كبار التابعين، ووهم من جعله صحابيا، قاله الحافظ في التقريب، وقال في الفتح: تابعي كبير، ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، جزم به البخاري وأبوحاتم
قد بنى منبرا من طين ولبن،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/128)


والعسكري وابن حبان وابن منده وابن عبدالبر وغيرهم. وقدم المدينة هو وإخوته بعده فسكنها وحالف بني جمح، وروى ابن سعد بإسناد صحيح إلى نافع قال: كان اسم كثير بن الصلت قليلا فسماه عمر كثيرا، ورواه أبوعوانة فوصله بذكر ابن عمر، ورفعه بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأول أصح، وقد صح سماه كثير من عمر فمن بعده وكان له شرف وذكر، وهو ابن أخي جمد أحد ملوك بني كندة الذين قتلوا في الردة، وقد ذكر أبوه الصلت في الصحابة لابن منده، وفي صحة ذلك نظر – انتهى. وقال الذهبي في التجريد: الصلت الكندي مختلف في صحبته – انتهى. قلت: وذكر الحافظ كثيرا هذا في الإصابة في القسم الثاني من حرب الكاف فيمن له رؤية اعتمادا على رواية أبي عوانة وشاهدها الذي ذكره الفاكهي، قال: ولهذا ساغ ذكره في هذا القسم، فكأنه كان ولد قبل أن يهاجر أبوه وهاجر به معه ثم رجع إلى بلده ثم هاجر كثير – انتهى. (قد بنى منبرا من طين ولبن) بكسر الباء الآجر قبل الطبخ لتكون الخطبة عليه، واختص كثير ببناء المنبر بالمصلى لأن داره كانت مجاورة للمصلى، كما في حديث ابن عباس عند البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى في يوم العيد إلى ا لعلم الذي عند دار كثير بن الصلت. قال ابن سعد: كانت دار كثير بن الصلت قبلة المصلى في العيدين، وهي تطل على بطن بطحان الوادي الذي في وسط المدينة – انتهى. قال السمهودي: وليس المراد أنها متصلة بوادي بطحان، بل بينهما بعد، ودار كثير هذه كانت قبله للوليد بن عتبة ثم اشتهرت بكثير بن الصلت، وهو من التابعين، ولد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقع التعريف بداره ليقرب إلى ذهن السامع فهم ذلك، وليس كثير بن الصلت هو الذي اختطها خلافا لما وقع في كلام الحافظ ابن حجر، حيث قال: وإنما بنى كثير بن الصلت داره بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمدة، لكنها لما صارت شهيرة في تلك البقعة وصف المصلى بمجاورتها، فتعريفه بكونه عند دار

(9/129)


كثير بن الصلت على سبيل التقريب للسامع، وإلا فداره محدثة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دليل على أنه لم يكن في المصلى في زمانه - صلى الله عليه وسلم - منبر، وأن أول من اتخذه مروان، وقد وقع في المدونة لمالك ورواه عمر بن شبة عن أبي غسان عنه قال: أول من خطب الناس في المصلى على المنبر عثمان بن عفان كلمهم على منبر من طين بناه كثير بن الصلت، وهذا معضل وما في الصحيحين أصح، فقد رواه البخاري نحو رواية مسلم، وقد ذكرنا لفظه في شرح أول حديث الباب، ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى أعاده مروان ولم يطلع على ذلك أبوسعيد، كذا في الفتح، ولا يخالف هذا ما روى أحمد وأبوداود وابن ماجه عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال: أخرج مروان المنبر يوم عيد وبدأ بالخطبة قبل الصلاة فقام إليه رجل فقال: يا مروان خالفت السنة...الحديث؛ لأنه يمكن الجمع بينهما فلعل مروان لما أنكروا عليه إخراج المنبر ترك إخراجه بعد وأمر ببنائه من لبن وطين بالمصلى، ولا بعد في أن ينكر عليه تقديم
فإذا مروان ينازعني يده، كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجره نحو الصلاة، فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ فقال: لا يا أباسعيد! قد ترك ما تعلم، قلت: كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم – ثلاث مرار – ثم انصرف. رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/130)


الخطبة على الصلاة مرة بعد أخرى (فإذا مروان) هي كالتي قبلها للمفاجأة، أي فاجأنا مكان المنبر زمان الإتيان والمنازعة (ينازعني) أي يجازبني (يده) بالرفع بدل بعض من ضمير الفاعل وينصب على أنه مفعول ثان (فلما رأيت ذلك) أي عزمه المنجر إلى الإصرار وعدم الانقياد بالانجرار (منه) أي من مروان (قلت) له (أين الابتداء بالصلاة) أي تقديم الصلاة على الخطبة (فقال: لا) أي لا يبتدأ بالصلاة أو لا يعتقد أن تقديم الصلاة هو السنة (يا أباسعيد قد ترك ما تعلم) أي من تقديم الصلاة على الخطبة، وقد أتينا بما هو خير من ذلك، ولذلك أجابه بقوله: لا تأتون بخير مما أعلم، لأني أعلم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين بعده (كلا) كلمة ردع (ثلاث مرار) راءين أي قال أبوسعيد ذلك ثلاث مرات، وإنما كرره لينزجر عن إحداثه (ثم انصرف) أي أبوسعيد من جهة المنبر إلى جهة الصلاة؛ لما في رواية البخاري أنه صلى معه وكلمه في ذلك بعد ذلك، ولفظه: فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه، فجبذني فارتفع، فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله، فقال: أباسعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة – انتهى. فيه أن الخطبة على الأرض عن قيام أولى من القيام على المنبر، وفيه إنكار العلماء على الأمراء إذا صنعوا ما يخالف السنة، وفيه حلف العالم على صدق ما يخبر به والمباحثة في الأحكام وجواز عمل العالم بخلاف الأولى إذا لم يوافقه الحاكم على الأولى؛ لأن أباسعيد حضر الخطبة ولم ينصرف، فيستدل به على أن البداءة بالصلاة فيها ليس بشرط في صحتها، والله أعلم. (رواه مسلم) أي بهذا السياق، ورواه البخاري بمعناه بزيادة، وأخرجه أيضا البيهقي (ج3 ص280، 297). هذا وقد بقيت مسائل من باب العيدين لم يذكر المصنف أحاديثها، وهي مما لا غنى عنه للطالب، ولنذكر طائفة

(9/131)


من هذه المسائل مع الإشارة إلى أحاديثها وآثارها، ومن أحب البسط والتفصيل رجع إلى مظانها من كتب الفقة الجامع وشروح الحديث كالمغني لابن قدامة والروضة الندية والنيل، فمنها أنه يستحب الاغتسال للعيدين بالإجماع، وقد ورد فيه حديثان ضعيفان، حديث ابن عباس عند ابن ماجه، وحديث الفاكه بن سعد عند البزار والبغوي وابن قانع وعبدالله بن أحمد في زيادات المسند، ورواه البزار من حديث أبي رافع، وسنده ضعيف أيضا، وفي الباب من الموقوف عن علي رواه الشافعي، وعن ابن عمر رواه مالك، ووقت الغسل بعد طلوع الفجر، وقيل: قبل
...........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/132)


الفجر وبعده، وهو لليوم فيستوي فيه الذاهب إلى الصلاة والقاعد، ويندب لبس أحسن الثياب والتطيب بأجود الأطياب، لما روي فيه من حديث الحسن بن علي عند الطبراني في الكبير والحاكم، ولحديث جابر عند ابن خزيمة وحديث ابن عباس عند الطبراني في الأوسط، ومنها أنه يستحب أن يخرج إلى العيدين ماشيا وعليه السكينة والوقار؛ لعموم قوله: ((إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون))، ولحديث علي عند الترمذي وابن ماجه وحديث عمر وسعد القرظ عند ابن ماجه وحديث سعد بن أبي وقاص عند البزار، وهذه الأحاديث الأربعة ضعيفة، وإن كان له عذر أو كان مكانه بعيدا فركب فلا بأس، ومال البخاري إلى التسوية بين المشي والركوب، كما يدل عليه تبويبه؛ لما رأى من عدم صحة الأحاديث في المشي فرجع إلى الأصل في التوسعة، ومنها أنه يشرع التكبير في العيدين عند الجماهير، وهو واجب فيهما عند بعض العلماء، والأكثر على أنه سنة، وهو الراجح لعدم ما يدل على الوجوب فيبقى على الأصل، ومنها أنه يستحب أن يكبر في طريق العيدين ويجهر بالتكبير إلى أن يصلي؛ لحديث ابن عمر عند الدارقطني والحاكم والبيهقي مرفوعا وموقوفا وصحح البيهقي وقفه. قال الحاكم: هذه سنة تدولها أئمة الحديث، وقد صحت به الرواية عن ابن عمر وغيره من الصحابة، وفي الصغير والأوسط للطبراني عن أبي هريرة مرفوعا: ((زينوا أعيادكم بالتكبير))، قال الحافظ: إسناده غريب، وقال الهيثمي: فيه عمر بن راشد، ضعفه أحمد وابن معين والنسائي، وقال العجلي: لا بأس به، وفي الباب عن الزهري مرسلا عند أبي بكر النجاد وابن أبي شيبة. قال ابن الهمام: الخلاف في الجهر بالتكبير في الفطر لا في أصله؛ لأنه داخل في عموم ذكر الله تعالى، فعندهما يجهر به كالأضحى وعنده لا يجهر، وعن أبي حنيفة كقولهما – انتهى. ومنها أنه يستحب عند كثير من أهل العلم أن يفتتح الخطبة بتسع تكبيرات تترى، والثانية بسبع تكبيرات تترى، أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة من

(9/133)


طريق عبيدالله بن عبدالله بن عتبة قال: السنة أن تفتتح...الخ، وهو من فقهاء التابعين، وليس قول التابعي من السنة ظاهرا في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن القيم: وأما قول كثير من الفقهاء أنه تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيدين بالتكبير فليس معهم فيها سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - البتة، والسنة تقتضي خلافه، وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد – انتهى. ويستحب أن يكثر التكبير في أثناء الخطبة، لما روى ابن ماجه بسند ضعيف عن سعد بن قرظ المؤذن قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر بين أضعاف الخطبة يكثر التكبير في خطبة العيدين، وصفة التكبير أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا. أخرجه عبدالرزاق بسند صحيح عن سلمان، وقيل: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. أخرجه الدارقطني عن جابر مرفوعا، وقيل غير ذلك، وهو يدل على التوسعة في الأمر، وإطلاق الآية يقتضي ذلك. ومنها أنه إذا أدرك الإمام في التشهد جلس معه فإذا سلم الإمام قام فصلى ركعتين يأتي فيهما بالتكبير؛ لأنه أدرك بعض الصلاة فقضاها على صفتها كسائر الصلوات.
(48) باب في الأضحية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنها أن خطبتي العيدين سنة لا يجب حضورها ولا استماعها، لما روى عبدالله بن السائب قال: شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيد فلما قضى الصلاة قال: ((إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب)). أخرجه النسائي وابن ماجه، ورواه أبوداود وقال: مرسل، وقال النسائي: هذا خطأ، والصواب مرسل، قال المجد بن تيمية: فيه بيان أن الخطبة سنة، إذ لو وجبت وجب الجلوس لها، قال الشوكاني: قد اتفق الموجبون لصلاة العيد وغيرهم على عدم وجوب خطبته، ولا أعرف قائلا يقول بوجوبها – انتهى.

(9/134)


(باب في الأضحية) بضم الهمزة وكسرها، وهي اسم للمذبوح يوم النحر، قال الأصمعي: فيها أربع لغات: الأولى والثانية: أضحية وإضحية – بضم الهمزة وكسرها – وجمعها أضاحي بتشديد الياء وتخفيفها. والثالثة: ضحية – بفتح الضاد بعد حذف الهمزة – وجمعها ضحايا، كهدية وهدايا، والرابعة: أضحاة – بفتح الهمزة – والجمع أضحى كأرطاة وأرطى، وبها سمي يوم الأضحى. قال القاضي: وقيل: سميت بذلك لأنها تفعل في وقت الضحى، وهو ارتفاع النهار. قال النووي: وفي الأضحى لغتان: التذكير لغة قيس، والتأنيث لغة تميم، وهو منصرف. وقال الطيبي: الأضحية ما يذبح يوم النحر على وجه القربة، وبه سمي يوم الأضحى، ويقال: ضحى بكبش أو غيره إذا ذبحه وقت الضحى من أيام الأضحى، ثم كثر حتى قيل ذلك ولو ذبح آخر النهار – انتهى. والأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: ?فصل لربك وانحر? [الكوثر: 2] أي صل صلاة العيد وانحر النسك أي الأضحية، كما قاله جمع من المفسرين، وأما السنة فما روي في ذلك من أحاديث الباب، وهي متواترة من جهة المعنى؛ لأنها مشتركة في أمر واحد، وهو مشروعية الأضحية، وأما الإجماع فهو ظاهر لا خلاف في كونها من شرائع الدين، وقد تواتر عمل المسلمين بذلك من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، وهي من سنة إبراهيم – عليه السلام – لقوله تعالى: ?وفديناه بذبح عظيم? [الصافات: 107]، واختلف هل هي سنة أو واجبة؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى أنها سنة مؤكدة غير واجبة، روي ذلك عن أبي بكر وعمر وبلال وأبي مسعود البدري، وبه قال ابن المسيب وعلقمة والأسود وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وابن المنذر وأبويوسف ومحمد وداود والبخاري وغيرهم. قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين. وقال ربيعة ومالك والثوري والأوزاعي والليث وأبوحنيفة: هي واجبة على

(9/135)


الموسر، والمشهور عن أبي حنيفة أنه قال: إنما نوجبها على مقيم يملك نصابا. قال الحافظ في الفتح: هي عند الشافعية والجمهور سنة مؤكدة على الكفاية، وفي وجه للشافعية من فروض الكفاية، وعن أبي حنيفة: تجب على المقيم الموسر، وعن مالك مثله في رواية، لكن لم يقيد بالمقيم، ونقل عن الأوزاعي وربيعة والليث مثله، وخالف أبويوسف من الحنفية، وأشهب من المالكية،
.............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/136)


فوافقا الجمهور. وقال أحمد: يكره تركها مع القدرة، وعنه: واجبة، وعن محمد بن الحسن: هي سنة غير مرخص في تركها، قال الطحاوي: وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدل على وجوبها – انتهى. واستدل من قال بالوجوب بقوله تعالى: ?فصل لربك وانحر? والأمر للوجوب، وأجيب بأن المراد تخصيص الرب بالنحر لا للأصنام، فالأمر متوجه إلى ذلك؛ لأنه القيد الذي يتوجه إليه الكلام ولا شك في وجوب تخصيص لله بالصلاة والنحر، واستدلوا أيضا بحديث: ((من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا))، أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي وابن أبي شيبة وأبويعلى والدارقطني والحاكم من حديث أبي هريرة. قال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره ومع ذلك فليس صريحا في الإيجاب – انتهى. وقال ابن الجوزي في التحقيق: هذا الحديث لا يدل على الوجوب، كما في حديث ((من أكل الثوم فلا يقربن مصلانا))، واستدلوا أيضا بحديث مخنف بن سليم الآتي في باب العتيرة، ولا حجة فيه؛ لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق، وقد ذكر معها العتيرة وليس بواجبة عند من قال بوجوب الأضحية. وقال البيهقي في المعرفة: إن صح هذا فالمراد به على طريق الاستحباب، بدليل أنه قرن بين الأضحية والعتيرة، والعتيرة غير واجبة بالإجماع – انتهى. وقال ابن قدامة في المغني: حديث أبي هريرة وحديث مخنف بن سليم محمولان على تأكيد الاستحباب، كما قال: ((غسل الجمعة واجب على كل محتلم))، وقال: ((من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا))، واستدلوا أيضا بحديث ابن عمر قال: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين يضحي، أخرجه الترمذي، وفي سنده حجاج بن أرطاة، وهو كثير الخطأ والتدليس، ورواه عن نافع بالعنعنة، قال القاري: مواظبته دليل الوجوب، وفيه أن مجرد مواظبته – عليه السلام – على فعل ليس دليل الوجوب، كما لا يخفى، واستدلوا أيضا بما روي في حديث البراء وأنس

(9/137)


عند الشيخين، وحديث جابر عند أحمد ومسلم من الأمر بإعادة الذبح لمن ذبح قبل الصلاة، قالوا: الأمر ظاهر في الوجوب، وأجيب بأن المقصود بيان شرط الأضحية المشروعة، فهو كما قال لمن صلى راتبة الضحى قبل طلوع الشمس: إذا طلعت الشمس فأعد صلاتك، واستدل من قال بعدم الوجوب بحديث أم سلمة الآتي. قال البيهقي في المعرفة: قال الشافعي في هذا الحديث دليل على عدم وجوب الأضحية؛ لأنه علقه بالإرادة، والإرادة تنافي الوجوب، وقال الشوكاني في حديث أم سلمة: ربما كان صالحا لصرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب لقوله: ((وأراد أحدكم أن يضحي))؛ لأن التفويض إلى الإرادة يشعر بعدم الوجوب، واستدلوا أيضا بحديث ابن عباس رفعه: ((ثلاث هن علي فرائض ولكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الضحى)) أخرجه البزار وابن عدي والحاكم والبيهقي وغيرهم. وأجيب بأن هذا الحديث ضعيف غير صالح للاحتجاج، وقد صرح الحافظ بأن الحديث ضعيف من جمع طرقه، واستدلوا أيضا بما أخرجه البيهقي عن أبي بكر وعمر أنهما كانا لا يضحيان كراهة أن يظن من رآهما
?الفصل الأول?
1468- (1) عن أنس قال: ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/138)


أنها واجبة، وكذلك أخرج عن ابن عباس وبلال وأبي مسعود وابن عمر، وقد ظهر بما ذكرنا رجحان قول من ذهب إلى أن الأضحية سنة مؤكدة غير واجبة، يكره تركها لمن يقدر عليها، ووهن قول من ذهب إلى وجوبها، وذهب الشوكاني إلى وجوبها إذ قال في السيل الجرار بعد ذكر دلائل الوجوب: وبهذا تعرف أن الحق ما قاله الأقلون من كونها واجبة، ولكن هذا الوجوب مقيد بالسعة، فمن لا سعة له لا أضحية عليه – انتهى. واعلم أنه يتعين عندنا التضحية وإراقة الدم سواء كانت الأضحية سنة أو واجبة، ولا يكفي الصدقة بقيمتها؛ لأنه لم ينقل ولو بسند ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده آثروا الصدقة على الأضحية قط، ولأن الصدقة بقيمتها تفضي إلى ترك شعار عظيم من شعائر الإسلام، فإراقة الدم والذبح متعين لمن يقدر عليه، والله تعالى أعلم.

(9/139)


1468- قوله (ضحى) من التضحية، وفي رواية: كان يضحي، وفيها إشعار بالمداومة على ذلك، فتمسك به من قال الضأن في الأضحية أفضل ضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يداوم إلا على ما هو الأفضل، وسيأتي الكلام في ذلك (بكبشين) الكبش – بفتح فسكون – فحل الضأن في أي سن كان، واختلف في ابتدائه، فقيل: إذا أثنى، وقيل: إذا أربع – أي خرجت رباعيته -، واستدل به على اختيار العدد في الأضحية، ومن ثم قال الشافعية: إن الأضحية بسبع شياه أفضل من البعير؛ لأن الدم المراق فيها أكثر والثواب يزيد بحسبه، وأن من أراد أن يضحي بأكثر من واحد يعجله، وحكى الروياني من الشافعية: التفريق على أيام النحر، قال النووي: هذا أرفق بالمساكين، لكنه خلاف السنة، كذا قال. والحديث دال على اختيار التثنية، ولا يلزم منه أن من أراد أن يضحي بعدد فضحى أول يوم باثنين ثم فرق البقية على أيام النحر أن يكون مخالفا للسنة، قاله الحافظ، وفيه أن الذكر في الأضحية أفضل من الأنثى؛ لأن لحمه أطيب (أملحين) بالحاء المهملة تثنية أملح من الملحة، وهي بياض يخالطه سواد كالملح محركة، كذا في القاموس، وفي معنى الأملح أقوال؛ قال العراقي: أصحها أنه الذي فيه بياض وسواد، والبياض أكثر، وقيل: هو الأبيض الخالص، وبه تمسك الشافعية في تفضيل الأبيض في الأضحية، وقيل: هو الأغبر أي الأبيض المشوب بشيء من السواد، وقيل: هو الأسود الذي يعلوه حمرة، وقيل: هو الذي يخالط بياضه حمرة، وقيل: هو الأبيض الذي في خلال صوفه الأبيض طبقات سود، واختار هذه الصفة لحسن منظره. وقيل: لشحمه وطيب لحمه (أقرنين) أي لكل منهما قرنان معتدلان، قاله الحافظ. وقال النووي: الأقرن الذي له قرنان حسنان، وقيل: طويل القرنين أو عظيمهما، وقيل: سالم القرنين، وفيه استحباب التضحية بالأقرن،
ذبحهما بيده وسمى وكبر، قال: رأيته واضعا قدمه على صفاحهما، ويقول: بسم الله والله أكبر.

(9/140)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأنه أفضل من الأجم مع الاتفاق على جواز التضحية بالأجم، وهو الذي لم يخلق له قرن، واستدل به على مشروعية استحسان الأضحية صفة ولونا، قال الماوردي: إن اجتمع حسن المنظر مع طيب المخبر في اللحم فهو أفضل، وإن انفردا فطيب المخبر أولى من حسن المنظر. وقال أكثر الشافعية: أفضلها البيضاء ثم الصفراء ثم الغبراء ثم البلقاء ثم السوداء (ذبحهما بيده) وهو المستحب لمن يعرف آداب الذبح ويقدر عليه، وإلا فليحضر عند الذبح؛ لما روى الحاكم والبيهقي بسند ضعيف عن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة: ((قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه...)) الحديث، وروي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الحاكم، وفيه عطية، وقد قال أبوحاتم: إنه حديث منكر، ورواه الحاكم أيضا، والبيهقي من حديث علي، وفيه عمرو بن خالد الواسطي، وهو متروك، قال المظهر: في الحديث أن السنة أن يذبح كل واحد أضحيته بيده؛ لأن الذبح عبادة والعبادة أفضلها أن يباشر كل بنفسه، ولو وكل غيره جاز، أي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استناب من نحر باقي بدنه بعد ثلاث وستين، وهذا لا شك فيه، قال الحافظ: وقد اتفقوا على جواز التوكيل فيها للقادر، لكن عند المالكية رواية بعدم الإجزاء مع القدرة، وعند أكثرهم يكره، لكن يستحب أن يشهدها، ومذهب الشافعية أن الأولى للمرأة أن توكل في ذبح أضحيتها ولا تباشر الذبح بنفسها (وسمى وكبر) أي قال: بسم الله والله أكبر. والواو الأولى لمطلق الجمع، فإن التسمية قبل الذبح، وفيه مشروعية التسمية عند الذبح، وهي شرط في صفة الذبح مع الذكر، وتسقط بالسهو والنسيان عند مالك والثوري وأبي حنيفة، وهو المشهور من مذهب أحمد، وهو المروي عن ابن عباس، وعن أحمد: أنها مستحبة غير واجبة في عمد ولا سهو، وبه قال الشافعي. والقول الراجح عندنا هو ما ذهب إليه

(9/141)


الجمهور. وأما التكبير فهو مستحب عند الجميع، قال ابن قدامة: لا نعلم في استحباب التكبير مع التسمية خلافا، ولا في أن التسمية مجزئة – انتهى. ثم الجمهور على أنه تكره الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الذبح، وخالفهم الشافعي وقال: إنه يستحب، والراجح عندنا قول الجمهور. (قال) أي أنس (رأيته) - صلى الله عليه وسلم - (واضعا) حال (قدمه) بالنصب على صفاحهما – بكسر الصاد المهملة وتخفيف الفاء وآخره حاء مهملة – جمع صفح – بفتح فسكون -، وهو الجنب. وقيل: جمع صفحة وهو عرض الوجه، وقيل: صفحة كل شيء جانبه، وجمع وإن كان وضعه - صلى الله عليه وسلم - قدمه إنما كان على صفحتيهما إما باعتبار أن الصفحتين من كل واحد في الحقيقة موضوع عليهما القدم المبارك؛ لأن إحداهما مما يلي الأخرى مما يلي الرجل أو هو من باب قطعت رؤس الكبشين. قال العيني: لعله على مذهب من قال: إن أقل الجمع اثنان، كقوله تعالى: ?فقد صغت قلوبكما? [التحريم: 4 ]، فكأنه قال: صفحتيهما، وإضافة المثنى إلى المثنى تفيد التوزيع، فكان معناه وضع رجله على صفحة كل منهما، وقال الحافظ: الصفاح الجوانب، والمراد الجانب الواحد
متفق عليه.
1469- (2) وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبشين أقرن، يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتي به ليضحي به، قال: ((يا عائشة ! هلمي المدية، ثم قال: اشحذيها بحجر))،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/142)


من وجه الأضحية وإنما ثنى إشارة إلى أنه فعل ذلك في كل منهما فهو من إضافة الجمع إلى المثنى بإرادة التوزيع، وفعل ذلك ليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعه من إكمال الذبح أو تؤذيه أو تنجسه، قال الحافظ: وفيه استحباب وضع الرجل على صفحة عنق الأضحية الأيمن، واتفقوا على أن إضجاعها يكون على الجانب الأيسر، فيضع رجله على الجانب الأيمن ليكون أسهل على الذبح في أخذ السكين باليمين وإمساك رأسها بيده اليسار – انتهى. وقال ابن القاسم: الصواب أن يضجعها على شقها الأيسر وعلى ذلك عمل المسلمين، فإن جهل فأضجعها على الشق الآخر لم يحرم أكلها. (متفق عليه) فيه أن قوله: ويقول بسم الله والله أكبر، من أفراد مسلم دون البخاري، والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج9 ص259 و283) وغيرهم.

(9/143)


1469- قوله (أمر بكبش) أي بأن يؤتى به إليه (يطأ) الأرض ويمشي (في سواد) أي في قوائمه سواد (ويبرك) أي يتنوخ (في سواد) أي في بطنه وصدره سواد (وينظر في سواد) أي مكحول في عينيه سواد وباقيه أبيض، وهو أجمل، وقيل: ينظر في سواد أي حوالي عينيه سواد، قال النووي: قوله: ((يطأ في سواد...)) الخ معناه أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه سود، وقال الخطابي: يريد أن أظلافه ومواضع البروك منه وما أحاط بملاحظ عينيه من وجهه أسود، وسائر بدنه أبيض – انتهى. وفيه دليل على أنها تستحب التضحية بما كان على هذه الصفة. وأخرج أحمد والترمذي وصححه وأبوداود والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبش أقرن فحيل يأكل في سواد ويمشي في سواد وينظر في سواد، ولا اختلاف بينهما وبين حديث أنس المتقدم لحملهما على حالين، فكان ما في حديث عائشة وأبي سعيد في مرة أخرى. (فأتي به) أي فجيء بالكبش (ليضحي به) علة لأمره – عليه السلام – (هلمي المدية) أي هاتيها، قال الطيبي: بنو تميم تثني وتجمع وتؤنث، وأهل الحجاز يقولون هلم في الكل – انتهى. ومنه قوله تعالى: ?قل هلم شهداءكم? [الأنعام: 150] أي أحضروهم، والمدية – بضم الميم وكسرها وفتحها – وهي السكين، قيل: بضم الميم أصح من الكسر والفتح (أشحذيها) بفتح الحاء المهملة وبالذال المعجمة، أي حدديها (بحجر) من الأحجار، يقال: شحذت السيف والسكين، إذا حددته بالمسن
ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش، فأضجعه ثم ذبحه، ثم قال: ((بسم الله، الله تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد))، ثم ضحى به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/144)


وغيره مما يستخرج به حدها، وكذلك شحثتها – بالثاء -؛ لأن الثاء والذال متقاربان، وهذا موافق لحديث شداد بن أوس عند مسلم في الأمر بإحسان الذبح وإحداد الشفرة، ففيه استحباب إحسان الذبح وكراهة التعذيب كأن يذبح بما في حده ضعف. (وأخذ الكبش فأضجعه) على جنبه الأيسر (ثم ذبحه) أي أراد ذبحه (ثم ضحى به) أي فعل الأضحية بذلك الكبش، قاله القاري. وقال الطيبي: ثم في قوله: "ثم قال: بسم الله" للتراخي في الرتبة وأنها هي المقصودة الأولية، وإلا فالتسمية مقدمة على الذبح، ومن ثم كنى بها عن الذبح في قوله تعالى: ?والبدن جعلناها لكم من شعائر الله فاذكروا اسم الله عليها? [الحج: 36] قال: وقوله: "ثم ضحى به" أي غدى، كما في الأساس يعني غدى الناس به، أي جعله طعام غداء لهم، وقال النووي: هذا الكلام فيه تقديم وتأخير، وتقديره: فأضجعه ثم أخذ في ذبحه قائلا: بسم الله...الخ مضحيا به ولفظة " "ثم" ههنا متأولة على ما ذكرته بلا شك، وفيه استحباب إضجاع الغنم في الذبح، وأنها لا تذبح قائمة ولا باركة بل مضجعة؛ لأنه أرفق بها، وبهذا جاءت الأحاديث وأجمع المسلمون عليه، قال: وفي قوله: ((اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد)) دليل لاستحباب قول المضحي حال الذبح مع التسمية والتكبير: اللهم تقبل مني، قال أصحابنا: ويستحب معه: اللهم منك وإليك تقبل مني، فهذا مستحب عندنا وعند الحسن وجماعة، وكرهه أبوحنيفة وكره مالك: اللهم منك وإليك، وقال: هي بدعة – انتهى. وقال ابن قدامة: إن زاد أي على التسمية والتكبير فقال: اللهم هذا منك ولك اللهم تقبل مني أو من فلان فحسن، وبه قال أكثر أهل العلم. وقال أبوحنيفة: يكره أن يذكر اسم غير الله لقول الله تعالى: ?وما أهل لغير الله به? [المائدة: 3]، ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بكبش ليضحي به فأضجعه ثم قال: اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محمد ثم ضحى به. رواه مسلم. وفي حديث جابر – عند أبي داود وابن

(9/145)


ماجه والبيهقي – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اللهم منك ولك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر)) ثم ذبح، وهذا نص لا يعرج على خلافه – انتهى. قال الخرقي: وليس عليه أن يقول عند الذبح عمن؛ لأن النية تجزئ. قال ابن قدامة: لا أعلم خلافا في أن النية تجزئ، وإن ذكر من يضحى عنه فحسن، لما روينا من الحديث. قال الحسن: يقول بسم الله والله أكبر، هذا منك ولك، تقبل من فلان، وكره أهل الرأي هذا، كما ذكرنا – انتهى. وفيه دليل على أنه إذا ذبح واحد عن أهل بيته بشاة تأدت السنة لجميعهم. وبهذا قال أحمد والليث والأوزاعي وإسحاق، وروى ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة، وقال الثوري وأبوحنيفة: لا تجزئ الشاة إلا عن نفس واحدة، والحديث يرد عليهما، وتأويله بإشراك الآل في الثواب خلاف الظاهر، والقول بالنسخ أو التخصيص مردود؛ لأه مجرد دعوى. قال الخطابي في المعالم: قوله ((تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد)) دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وعن أهله وإن كثروا.
رواه مسلم.
1470- (3) وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تذبحوا إلا مسنة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يفعلان ذلك، وأجاز مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه – انتهى. وفي الباب أحاديث ذكرها شيخنا في شرح الترمذي (ج2 ص357، 358)، وبسط الكلام فيه فارجع إليه (رواه مسلم) في الأضاحي، وأخرجه أيضا أبوداود والبيهقي (ج3 ص267، 272، 286).

(9/146)


1470- قوله (لا تذبحوا إلا مسنة) – بضم الميم وكسر السين وبالنون المشددة – اسم فاعل من أسنت إذا طلع سنها لا من أسن الرجل إذا كبر، قاله السندي في حاشية النسائي، وقال ابن عابدين في رد المحتار (ج2 ص24) – في شرح قوله: وفي أربعين مسن ذو سنتين – قوله "مسن" – بضم الميم وكسر السين – مأخوذ من الأسنان، وهو طلوع السن في هذه السنة لا الكبر، قهستاني عن ابن الأثير – انتهى. وقال في (ج2 ص31): سميت بذلك لأن عمرها يعرف بالسن واحدة الأسنان بخلاف الآدمي – انتهى. وفي القاموس وشرحه (ج9 ص243) يقال: أسن البعير إذا نبت سنه الذي يصير به مسنا من الدواب وفيهما أيضا. وفي لسان العرب (ج17 ص86) والبقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن إذا أثنيا فإذا سقطت ثنيتهما بعد طلوعها فقد أسنت، وليس في معنى أسنانها كبرها كالرجل، ولكن معناه طلوع ثنيتها – انتهى. وقال الجزري في النهاية (ج2 ص118) قال الأزهري: البقرة والشاة يقع عليها اسم المسنة إذا أثنيا يثنيان في السنة الثالثة، وليس معنى أسنانها كبرها كالرجل، ولكن معناه طلوع سنها في السنة الثالثة – انتهى. وقال الفيومي في المصباح (ج1 ص140): أسن الإنسان وغيره أسنانا إذا كبر فهو مسن، والجمع مسان، قال الأزهري: ليس معنى أسنان الإبل والشاة كبرها كالرجل، ولكن معناه طلوع الثنية – انتهى. وقال الحافظ في الفتح (ج23 ص328): حكى ابن التين عن الداودي أن المسنة التي سقطت أسنانها للبدل، وقال أهل اللغة: المسن الثني الذي يلقي سنه...الخ، وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي في أشعة اللمعات (ج1 ص649): وجه تسميه بمسنة - آن است كه وي مي اندازد دو دندان بيش راكه آن راثنايا كويند درين عمر – وقال الشيخ سلام الله الدهلوي في شرح الموطأ في شرح قول نافع أن عبدالله بن عمر كان يتقي من الضحايا والبدن التي لم تسن ما لفظه – بضم التاء وكسر السين وفتح النون المشدددة – أي يتقي التي لم تكن مسنة، وهي الثنية – انتهى.

(9/147)


وحكى الجزري في النهاية (ج2 ص118) عن ابن قتيبة أنه قال في معناه: هي التي لم تنبت أسنانها كأنها لم تعط أسنانا، كما يقال: لم يلبن فلان أي لم يعط لبنا، وأراد ابن عمر أنه لا يضحي بأضحية لم تسن أي لم تصر ثنية، فإذا أثنت فقد أسنت، وكذا ذكر في تاج العروس (ج9 ص243)، وفي لسان
..................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العرب (ج17 ص86): وقال ابن عبدالبر في التمهيد: والزرقاني في شرحه (ج3 ص70-71) قوله: "لم تسن" روي بكسر السين من السن، وروي بفتح السين أي التي لم تنبت أسنانها، كأنها لم تعط أسنانها، كما تقول: لم يلبن ولم يسمن ولم يعسل، أي لم يعط ذلك، وقال غيره: معناه لم تبدل أسنانها، وهذ أشبه بمذهب ابن عمر؛ لأنه يقول في الأضاحي والبدن الثني فما فوقه ولا يجوز عنده الجذع من الضأن – انتهى. وقال الزمخشري في الفائق (ج1 ص306) لم تستن أي لم تثن وإذا أثنت فقد أسنت؛ لأن أول الأسنان الإثناء، وهو أن تنبت ثنيتاها وأقصاه في الإبل البزول، وفي البقر والغنم الصلوع، ورواه القتبي بفتح النون في لم تسن، وقال: أي لم ينبت أسنانها كأنها لم تعط أسنانا كقولهم لبن وسمن وعسل إذا أعطي شيئا منها، والأول أي كسر النون هو الرواية عن الأثبات – انتهى. وقال المطرزي الحنفي في المغرب (ج1 ص266): والسن هي المعروفة ثم سمى بها صاحبها كالناب – للمسنة – من النوق ثم استعيرت لغيره كابن المخاض وابن اللبون، ومن المشتق منها الأسنان وهو في الدواب أن تنبت السن التي يصير بها صاحبها مسنا أي كبيرا وأدناه في الشاة والبقر الثني...الخ، ومنه حديث ابن عمر: يتقى من الضحايا التي لم تسنن أي لم تثن – انتهى. وقال النووي: قال العلماء: المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم فما فوقها – انتهى. وقال الإمام محمد في كتاب الآثار: المسنة الثنية فصاعدا – انتهى. وقال الشيخ

(9/148)


عبدالحق الدهلوي: يجوز من جميع هذه الأقسام الثني، وهو المراد من المسنة، وقال السندي: الثني هو المسن، وروى أبوعبيد في الأموال (ص384) عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: المسن الثني فما زاد – انتهى. وقال في لسان العرب (ج18 ص133): والثني من الإبل الي يلقي ثنيته، وذلك في السادسة، وإنما سمي البعير ثنيا لأنه ألقى ثنيته وأثنى البعير صار ثنيا، وقيل: كل ما سقطت ثنيته من غير الإنسان، ثنى وأثنى أي ألقى ثنيته، وقال الجوهري في الصحاح (ج2 ص454) الثني الذي يلقي ثنيته، ويكون ذلك في الظلف والحافر في السنة الثالثة وفي الخف في السنة السادسة، وقال ابن سيده في المحكم: الثني من الإبل الذي يلقي ثنيته، وذلك في السادسة، وإنما سمي البعير ثنيا لأنه ألقى ثنيته، وقال الأزهري في التهذيب: إنما سمي البعير ثنيا لأنه ألقى ثنيته، وقال الفيومي في المصباح (ج1 ص43) والثني الذي يلقي ثنيته يكون من ذوات الظلف والحافر في السنة الثالثة، ومن ذوات الخف في السنة السادسة، وهو بعد الجذع، وأثنى إذا ألقى ثنيته فهو ثني، فعيل بمعنى الفاعل، وقال في مختار الصحاح: الثني الذي يلقي ثنيته. وقال الثعالبي في فقه اللغة (ص104) فإذا كان في السادسة وألقى ثنيته فهو ثني. وقال المطرزي في المغرب (ج1 ص69-70): الثنايا هي الأسنان المقدمة اثنتان فوق واثنتان أسفل قال: ومنها الثني من الإبل الذي أثنى أي ألقى ثنيته، وهو ما استكمل السنة الخامسة ودخل في السادسة ومن الظلف ما استكمل الثانية ودخل في الثالثة ومن الحافر ما استكمل الثالثة ودخل في الرابعة وهو في كلها بعد
إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/149)


الجذع، وقيل: الرباعي والجمع ثنيان وثناء – انتهى. وقال الدميري في حياة الحيوان (ج1 ص266) الثني الذي يلقي ثنيته أو قال في الصراح (ج2 ص433) ثنى على فعيل دندان بيش افنكنده، ويكون ذلك في الظلف والحافر في السنة الثالثة وفي الخف في السنة السادسة، وقال أبوداود في السنن في باب تفسير أسنان الإبل نقلا عن أهل اللغة: فإذا دخل في السادسة وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني حتى يستكمل ستا – انتهى. وقال الحافظ في الفتح: قال أهل اللغة: المسن الثني الذي يلقي سنه، ويكون في ذات الخف في السنة السادسة وفي ذات الظلف والحافر في السنة الثالثة، وقال في الكفاية (ج1 ص124) شرح الهداية أما تفسير كتب اللغة كالصحاح والديوان والمغرب وغيرها الثني الذي يلقي ثنيته ويكون ذلك في الظلف والحافر في السنة الثالثة. وفي الخف في السنة السادسة. وقال السقاقي في النهاية شرح الهداية: الثني من الإبل الذي أثنى أي ألقى سنه، وهو ما استكمل السنة الخامسة ودخل في السادسة، ومن الظلف ما استكمل الثانية ودخل في الثالثة – انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج8 ص623): قال الأصمعي وأبوزيد الكلابي وأبوزيد الأنصاري: إذا مضت السنة الخامسة على البعير ودخل في السادسة وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني، ونرى إنما سمي ثنيا لأنه ألقى ثنيه – انتهى. وقال أبوعبيدة: إذا أتت عليه أي على الإبل الخامسة فهو حذع، فإذا ألقى ثنيته في السادسة فهو ثني، كذا في المنتقى (ج3 ص86) لأبي الوليد الباجي، هذا وقد تحصل بما ذكرنا من أقوال أهل اللغة - وهم العمدة في ذلك - وأصحاب شروح الحديث والفقه: أن المسنة والمسن من الأسنان بمعنى طلوع السن واحدة والأسنان لا بمعنى الكبير؛ لأن عمر الدواب يعرف بالسن التي هي عظم نابت في فم الحيوان بخلاف الآدمي فإن عمره يعرف بالسنة والحول، وأن المسن والثني والمسنة والثنية شيء واحد، وأن المسن والثني من البعير والبقر والغنم ما ألقى ثنيته، وهي أسنان

(9/150)


مقدم الفم، وأن العبرة في معنى المسن والثني وفي سن الأضحية لإلقاء الثنية ونبات السن وطلوعها لا للعمر والكبر والسنة فلا يلتفت إلى عمرها، ولا يجوز التضحية من البعير والبقر والمعز إلا بما ألقى ثنيته، ولا يجزئ في الأضحية من هذه الأقسام إلا الذي أنبت أسنانه، وأما الضأن فسيأتي حكمه (إلا أن يعسر) أي يصعب (عليكم) أي ذبحها بأن لا تجدوها، أو لا تجدوا ثمنها (فتذبحوا جذعة) بفتحتين، قال في القاموس: الجذع محركة قبل الثني، وهي بهاء اسم له في زمن وليس بسن تنبت أو تسقط والشاب الحدث جمع جذاع وجذعان، ومثل ذلك في عامة كتب اللغة كلسان العرب وتاج العروس والصحاح والمصباح المنير وغيره (من الضأن) قال في القاموس: الضائن خلاف الماعز من الغنم جمع ضأن، ويحرك وكأمير وهي ضائنة جمع ضوائن. وقال في المصباح: الضأن ذوات الصوف من الغنم، والمعز اسم جنس لا واحد له من لفظه: هي ذوات الشعر من الغنم الواحدة شاة وهي مؤنثة، والغنم اسم جنس يطلق على
...........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/151)


الضأن والمعز – انتهى. وقال في الصراح: ضائن ميش نر خلاف معز، والجمع ضأن مثل راكب وركب، وضأن بالتحريك أيضا مثل حارس وحرس – انتهى. وقال الجزري في النهاية: أصل الجذع من أسنان الدواب، وهو ما كان منها شابا فتيا، فهو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز ما دخل في السنة الثانية، وقيل: البقر في الثالثة، ومن الضأن ما تمت له سنة، وقيل: أقل منها، ومنهم من يخالف بعض هذا في التقدير – انتهى. وقال الحافظ في الفتح (ج23 ص324): جذعة – بفتح الجيم والذال المعجمة – هو وصف لسن معين من بهيمة الأنعام، فمن الضأن ما أكمل السنة، وهو قول الجمهور، وقيل: دونها، ثم اختلف في تقديره، فقيل: ابن ستة أشهر، وقيل: ثمانية، وقيل: عشرة، وحكى الترمذي عن وكيع أنه ابن ستة أشهرو أو سبعة أشهر، وعن ابن الأعرابي أن ابن الشابين يجذع لستة أشهر إلى سبعة، وابن الهرمين يجذع لثمانية إلى عشرة، قال: والضأن أسرع أجذعا من المعز، وأما الجذع من المعز فهو ما دخل في السنة الثانية، ومن البقر ما أكمل الثالثة، ومن الإبل ما دخل في الخامسة – انتهى. قال في الأزهار: النهي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تذبحوا)) للحرمة في الإجزاء والتنزيه في العدول إلى الأدنى، وهو المقصود في الحديث بدليل ((إن أن يعسر عليكم)) والعسر قد يكون لغلاء ثمنها، وقد يكون لفقدها وعزتها، ومعنى الحديث الحمل والحث على الأكمل والأفضل، وهو الإبل ثم البقر ثم الضأن، وليس المراد الترتيب والشرط – انتهى. قلت: الحديث دليل على أنه لا يجوز التضحية بما عدا المسنة مما دونها، ونص في أنه لا يجزئ الجذع من الضأن إلا إذا عسر على المضحي المسنة فذبح الجذعة مقيد بتعسر المسنة، فلا يجوز مع عدم التعسر، وفيه أيضا أنه لا يجزئ الجذع من غير الضأن، لكن ذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي وغيرهم إلى أنه يجوز الجذع من الضأن سواء وجد غيره أم لا، وقال ابن عمر والزهري:

(9/152)


إن الجذع لا يجزئ مطلقا لا من الضأن ولا من غيره، وبه قال ابن حزم، وعزاه لجماعة من السلف، وأطنب في الرد على من أجازه، وقال عطاء والأوزاعي: يجزئ الجذع من جميع الأجناس مطلقا، والجمهور حملوا الحديث – كما قال النووي – على الاستحباب والأفضل، وتقديره: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فاذبحوا جذعة من الضأن، قال النووي: وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزئ بحال، قال: وقد أجمعت الأمة على أن الحديث ليس على ظاهره؛ لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فيتعين تأويله على ما ذكرنا من الاستحباب. قلت: ويدل للجمهور على الإجزاء جذع الضأن مع وجود غيره وعدمه حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني بلفظ: ((نعمت الأضحية الجذع من الضأن))، وحديث عقبة بن عامر: ضحينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجذاع من الضأن. أخرجه النسائي بسند قوي، وحديث أم هلال بنت بلال عن أبيها رفعه: ((يجوز الجذع من الضأن أضحية))، أخرجه أحمد وابن ماجه
.........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/153)


وابن جرير الطبري والطبراني في الكبير والبيهقي. قال الشوكاني: رجال إسناده بعضهم ثقة وبعضهم صدوق وبعضهم مقبول. وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وحديث مجاشع الآتي وغير ذلك من الأحاديث الدالة على مذهب الجمهور المقتضية للتأويل المذكور، وهي ترد على ما ذهب إليه ابن عمر والزهري وعطاء وصاحبه الأوزاعي، فالحق هو ما ذهب إليه الجمهور من إجزاء الجذع من الضأن سواء وجد غيره أم لا، وعدم إجزاء غيره من جذع الإبل والبقر والمعز مطلقا، والله تعالى أعلم. قال إبراهيم الحربي: إنما يجزئ الجذع من الضأن؛ لأنه ينزو فيلقح، فإذا كان من المعز لم يلقح حتى يكون ثنيا. واختلف الجمهور القائلون بإجزاء جذع الضأن في سنه على آراء؛ أحدها: أنه ما أكمل سنة ودخل في الثانية، وهو الأصح عند الشافعية، وهو الأشهر عند أهل اللغة. ثانيها: نصف سنة، وهو قول الحنفية والحنابلة. ثالثها: سبعة أشهر، وحكاه صاحب الهداية عن الزعفراني. رابعها: سنة أو سبعة، حكاه الترمذي عن وكيع. خامسها: التفرقة بين ما تولد بين شابين فيكون له نصف سنة أو بين هرمين فيكون ابن ثمانية. سادسها: ابن عشر. سابعها: لا يجزئ حتى يكون عظيما. قال صاحب الهداية: إنه إذا كانت عظيمة بحيث لو اختلطت بالثنيات اشتبهت على الناظر من بعيد أجزأت، كذا في الفتح (ج23 ص329)، واعلم أنه لا يجزئ في الأضحية غير بهيمة الأنعام لقوله تعالى: ?ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام? [الحج: 34]، وهي الإبل والبقر والغنم الأهلية، وأما الجاموس فمذهب الحنفية وغيرهم جواز التضحية به، قالوا: لأن الجاموس نوع من البقر، ويؤيد ذلك أن الجاموس في الزكاة كالبقرة، فيكون في الأضحية أيضا مثلها، ويذكرون في ذلك حديثا صريحا أورده المناوي في كنوز الحقائق بلفظ: الجاموس في الأضحية عن سبعة، وعزاه الديلمي في مسند الفردوس، والأمر عندي ليس واضحا كما زعموا، فإنهم قد اعترفوا بأن الجاموس في ما يتعارف الناس نوع آخر

(9/154)


غير البقر لما بينهما من الاختلاف العظيم في الظاهر والمخبر، ولذلك صرحوا بأن من حلف أن لا يأكل لحم البقر فأكل لحم الجاموس لا يكون حانثا، وإن حلف بالطلاق لم تطلق زوجته بأكل لحم الجاموس. وأما ما ينسب إلى بعض أهل اللغة أنه قال: إن الجاموس نوع أو ضرب من البقر، فالظاهر أنه وقع منه التساهل في ذلك، والأصل فيه أن يقال: الجاموس كالبقرة أو بمنزلة البقرة كما روى ابن أبي شيبة عن الحسن أنه قال: الجاموس بمنزلة البقر، وعلى هذا فليس الجاموس من البقر، ولعله لما رأى الفقهاء مالكا والحسن وعمر بن عبدالعزيز وأبايوسف وابن مهدي ونحوهم أنهم جعلوا الجاموس في الزكاة كالبقر فهم من ذلك أن الجاموس ضرب من البقر، فعبر عن ذلك بأنه نوع منه، ولا يلزم من كون الجاموس في الزكاة كالبقر أن يكون في الأضحية مثلها، كما لا يخفى. وأما الحديث المذكور فليس مما يعرج عليه لما لا يعرف حاله،
رواه مسلم.
1471- (4) وعن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا، فبقي عتود، فذكره لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ضح به أنت – وفي رواية – قلت: يا رسول الله ‍‍! أصابني جذع، قال: ضح به)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأحوط عندي أن يقتصر الرجل في الأضحية على ما ثبت بالسنة الصحيحة عملا وقولا وتقريرا، ولا يلتفت إلى ما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم -، ومن اطمأن قلبه بما ذكره القائلون باستنان التضحية بالجاموس ذهب مذهبهم ولا لوم عليه في ذلك، هذا ما عندي والله أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج9 ص269، 279)، وكان مقتضى عادة المصنف أن يجمع بينه وبين الحديث الأول ويقول: رواهما مسلم.

(9/155)


1471- قوله (غنما) يشمل الضأن والمعز (على صحابته) ويروى على أصحابه، قيل: الضمير فيه يحتمل أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن يكون لعقبة. قلت: الظاهر أنه عائد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم إنه قيل: يحتمل أن يكون الغنم ملكا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بقسمتها بينهم تبرعا، ويحتمل أن يكون من الفيء، وإليه مال القرطبي حيث قال في الحديث: إن الإمام ينبغي له أن يفرق الضحايا على من لم يقدر عليها من بيت مال المسلمين. وقال ابن بطال: إن كان قسمها بين الأغنياء فهي من الفيء، وإن كان خص بها الفقراء فهي من الزكاة. (ضحايا) حال من الضمير في يقسمها (فبقي) أي بعد قسمتها (عتود) بفتح العين المهملة وضم المثناة الفوقية الخفيفة، وهو من أولاد المعز خاصة، وهو ما قوي ورعى وأتى عليه حول، كذا في النهاية وغيرها من كتب اللغة، وجمعه أعتدة وعتدان، وتدغم التاء في الدال، فيقال: عدان. وقال ابن بطال: العتود الجذع من المعز ابن خمسة أشهر، وهذا يبين المراد بقوله في الرواية الأخرى: ((جذعة وأنها كانت من المعز))، وزعم ابن حزم أن العتود لا يقال إلا للجذع من المعز، وتعقب بما وقع في كلام صاحب المحكم أن العتود الجدي – بفتح الجيم وسكون الدال المهملة ذكر ولد المعز – الذي استكرش – أي عظم بطنه وأخذ في الأكل -، وقيل: الذي بلغ السفاد، وقيل: هو الذي أجذع – انتهى. (فذكره) أي عقبة بقاء العتود (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ضح به أنت) قال القاري: فيه دليل على جواز التضحية بالمعز إذا كان له سنة، وهو مذهبنا، وقال صاحب اللمعات: العتود إن كان ما تم عليه الحول فهو جائز عندنا مطلقا، وإن كان ما تم عليه أكثر الحول فأجزأه عنه خصوصية له، كما جاء في حديث أبي بردة في جذع المعز: ((اذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك)) – انتهى.
متفق عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/156)


قلت: روى البيهقي (ج9 ص270) حديث عقبة من طريق عبدالله البوشجي – أحد الأئمة الكبار في الحفظ والفقه وسائر فنون العلم – رواها عن يحيى بن بكير عن الليث بالسند الذي ساقه البخاري، وزاد فيها: ((ولا رخصة فيها لأحد بعدك))، وهذه الزيادة صريحة في أن إجزاء العتود عنه خصوصية له سواء كان المراد من العتود والجذع في حديث عقبة ما تم عليه الحول كما عليه عامة أهل اللغة أو كان المراد ما تم عليه أكثر الحول، وفيه دليل لقول الجمهور إن الجذع من المعز لا يجزئ، ورد على الحنفية على تفسير أهل اللغة في قولهم بجواز التضحية بالمعز إذا كانت له سنة، والحق أنه لا يجوز الجذع من المعز، وإنما يجوز منها الثني، وهو الذي ألقى ثنيته كما تقدم. واعلم أن بين قوله - صلى الله عليه وسلم - لعقبة: ((ولا رخصة فيها لأحد بعدك)) وبين قوله لأبي بردة بن نيار: ((ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك)) منافاة ظاهرة، فإن في كل منهما صيغة عموم، فأيهما يقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني، فقيل: يحتمل أن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع من ذلك؛ لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحا، وذكر بعضهم أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة لكن ليس التصريح بالنفي إلا في قصة أبي بردة في الصحيحين وفي قصة عقبة بن عامر في البيهقي، ولم يشاركهما أحد في ذلك، نعم وقعت المشاركة في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير لزيد بن خالد، رواه أبوداود وأحمد، وصححه ابن حبان، ولسعد بن أبي وقاص رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس، وأخرجه الحاكم من حديث عائشة، ولأبي يعلى والحاكم من حديث أبي هريرة: أن رجلا قال: يا رسول الله ! هذا جذع من الضأن مهزول، وهذا جذع من المعز سمين، وهو خيرهما أفأضحي به؟ قال: ((ضح به فإن لله الخير))، وفي سنده ضعف، قال الحافظ: لا منافاة بين هذه الأحاديث وبين حديثي أبي بردة

(9/157)


وعقبة لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزئ، واختص أبوبردة وعقبة بالرخصة في ذلك، قال: والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير، قال: وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي زيد الأنصاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من الأنصار: ((اذبحها ولن تجزئ جذعة عن أحد بعدك)) فهذا يحمل على أنه أبوبردة بن نيار فإنه من الأنصار، وكذا ما أخرجه أبويعلى والطبراني: أن رجلا ذبح قبل الصلاة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجزئ عنك، قال: إن عندي جذعة، فقال: تجزئ عنك ولا تجزئ بعد)) فلم يثبت الإجزاء لأحد، ونفيه عن الغير إلا لأبي بردة وعقبة وإن تعذر الجمع الذي تقدم، فحديث أبي بردة أصح مخرجا، والله أعلم – انتهى كلام الحافظ (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج9 ص269-270).
1472- (5) وعن ابن عمر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذبح وينحر بالمصلى. رواه البخاري.
1473- (6) وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((البقرة عن سبعة والجزور عن سبعة)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/158)


1472- قوله (يذبح) أي الشاة أو البقرة (وينحر) أي الإبل (بالمصلى) أي بعد أن يصلي العيد، فيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بالإبل والبقر؛ لأن النحر لا يجوز في الغنم، وإنما هو في الإبل وعلى تكره في البقر، فيكون ذلك قرينة واضحة على أن قول أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبشين – ليس للدوام، ويؤيد ذلك ما وقع في بعض الروايات قول أنس بلفظ: ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا فليس فيه دليل على كون الضأن أفضل في الأضحية، وحديث ابن عمر هذا قد تقدم في آخر الفصل الأول من باب صلاة العيد، ذكره هنا لبيان مكان الذبح، إذ الذبح في المصلى مستحب لإظهار الشعار، وذكره ثمه لبيان وقت الذبح؛ لأنه إذا ذبح بالمصلى علم أن الذبح بعد الصلاة لا قبلها (رواه البخاري) تقدم ذكر من أخرجه غيره.

(9/159)


1473- قوله (البقرة عن سبعة) أي تجزئ عن سبعة أشخاص (والجزرو) بفتح الجيم، وهو ما يجزر أي ينحر من الإبل خاصة ذكرا كان أو أنثى (عن سبعة) أي يجزئ عن سبعة أنفس أو يضحى عن سبعة أشخاص، والحديث رواه مسلم وغيره بألفاظ، ففي رواية لمسلم: نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، وفي رواية قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة، وفي رواية قال: اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة، فقال رجل لجابر: أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن، وفي لفظ رواه البرقاني على شرط الشيخين: ((اشتركوا في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة))، وفي هذه الروايات دلالة على أن الحديث الذي ذكره البغوي إنما هو في الهدي لا في الأضحية، وظاهر هذه الروايات جواز الاشتراك في الهدي، وهو قول الشافعي وأحمد، وبهذا قال أكثر أهل العلم من غير فرق بين أن يكون المشتركون مفترضين أو متطوعين أو بعضهم مفترضا وبعضهم متنفلا أو مريدا للحم. وقال أبوحنيفة: يشترط في الاشتراك أن يكونوا كلهم متقربين، وعن داود وبعض المالكية يجوز الاشتراك في هدي التطوع دون الواجب، وقال مالك: لا يجوز مطلقا، وروي عن ابن عمر نحو ذلك، ولكنه روى عنه أحمد ما يدل على الرجوع، واتفق من قال بالاشتراك على أنه لا يكون في أكثر من سبعة إلا إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب فقال: يجزئ الجزور عن عشرة، وبه قال إسحاق بن راهويه، وإليه ذهب ابن خزيمة، واحتج له في صحيحه وقواه، واحتج له بحديث رافع بن خديج
رواه مسلم، وأبوداود، واللفظ له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/160)


أنه - صلى الله عليه وسلم - قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير، وفيه أن هذا قياس فاسد؛ لأن هذا التعديل كان في القسمة وهي غير محل النزاع، ويؤيد كون الجزور عن سبعة فقط ما روي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل فقال: إن علي بدنة وأنا موسر ولا أجدها فأشتريها، فأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن، أخرجه أحمد وابن ماجه، فإنه لو كانت البدنة تعدل عشرا لأمره بإخراج عشر شياه؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وأما الأضحية فقال الجمهور بجواز الاشتراك فيها كالهدي، سواء كان المشتركون من البيت الواحد أو من أبيات شتى أقارب كانوا أو أباعد، واشترط أبوحنيفة أن يكون المشتركون كلهم متقربين، وقال مالك: لا يجوز الاشتراك فيها في الذات بأن يحصل الاشتراك في الثمن، نعم يجوز الاشتراك لأهل البيت الواحد في الأجر بأن ينحر الرجل عنه وعن أهل بيته وإن كانوا أكثر من السبع البدنة، ويذبح البقرة هو يملكها ويذبحها عنهم ويشركهم فيها، فإما أن يشتري البدنة أو البقرة ويشتركون فيها فيخرج كل إنسان منهم حصته من ثمنها، ويكون له حصته من لحمها، فإن ذلك يكره عنده، قال ابن حزم: قال مالك: يجزئ الرأس الواحد من الإبل أو البقر أو الغنم عن واحد وعن أهل البيت وإن كثر عددهم وكانوا أكثر من سبعة إذا أشركهم فيها تطوعا، ولا تجزئ إذا اشتروها بينهم شركة ولا عن أجنبيين فصاعدا، واختلف القائلون بالاشتراك في البدنة، فقال الشافعي وأحمد وأبوحنيفة: إنها تجزئ عن سبعة كالهدي، وقال إسحاق وابن خزيمة وابن المسيب: إنها تجزئ عن عشرة. قال الشوكاني: وهذا هو الحق هنا، أي في الأضحية؛ لحديث ابن عباس يعني الذي يأتي في الفصل الثاني، والأول هو الحق في الهدي للأحاديث المتقدمة، يعني بها الروايات التي ذكرناها من حديث جابر. وأما البقرة فتجزئ عن سبعة فقط في الهدي والأضحية – انتهى. وأورد البغوي حديث جابر في باب الأضحية مع

(9/161)


أنه في الهدي لا في الأضحية كما تدل عليه الروايات الأخر إما نظرا إلى إطلاق اللفظ أو ليثبت الاشتراك في الأضحية. وأن البدنة والبقرة كليهما عن سبعة بالقياس على الهدي، ولا حاجة إلى القياس مع وجود النص في الأضحية وهو حديث ابن عباس الآتي. (رواه مسلم وأبوداود) وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وابن ماجه والبيهقي (ج9 ص279، 294). (واللفظ له) أي لفظ الحديث لأبي داود ولمسلم معناه، وهذا هو الداعي للمصنف إلى ذكر أبي داود مع أن ما في الفصل الأول لا يسنده لغير الصحيحين، لكن البغوي لما أخذ لفظ أبي داود الثابت معناه في صحيح مسلم وجعله في الفصل الأول أوهم أن اللفظ لأحد الصحيحين، فبين المصنف أن الذي في مسلم هو المعنى، ولأبي داود اللفظ، قاله القاري. وقيل: فيه تعريض بالاعتراض على البغوي حيث أورده في الفصل الأول اعتبارا بمعناه، وكان الأولى أن يورده في الفصل الثاني، وأخرجه الدارقطني (ص265) بلفظ: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البقرة والجزور عن سبعة، وأخرجه الطبراني في الثلاثة من حديث عبدالله بن
1474- (7) وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل العشر وأراد بعضكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا – وفي رواية – فلا يأخذن شعرا، ولا يقلمن ظفرا -، وفي رواية: من رأى هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره -)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مسعود مرفوعا: البقرة عن سبعة، والجزور عن سبعة في الأضاحي، قال الهيمثي (ج4 ص20): وفيه حفص بن جميع، وهو ضعيف – انتهى.

(9/162)


1474- قوله (إذا دخل) وفي مسلم: ((إذا دخلت)) (العشر) أي أول عشر ذي الحجة (وأراد بعضكم أن يضحي) قال في شرح السنة: في الحديث دلالة على أن الأضحية غير واجبة؛ لأنه فوض إلى إرادته حيث قال: ((وأراد)) ولو كانت واجبة لم يفوض – انتهى. وقيل: لا حجة فيه؛ لأن الواجب قد يفوض إلى الإرادة ويعلق عليها، فالوصية قد علقت على الإرادة في قوله – عليه السلام -: ((ما حق امرئ له شيء يريد أن يوصي فيه...)) الحديث، وليس هذا اللفظ دليلا على عدم وجوب الوصية عند الظاهرية القائلين بافتراض الوصية. وأجاب عن هذا ابن حزم بأن الوصية عندنا فرض؛ لأنه قد جاء نص آخر بإيجاب الوصية في القرآن والسنة، قال تعالى: ?كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية? الآية [البقرة: 180]، فأخذنا بهذا ولم يأت نص بإيجاب الأضحية، ولو جاء لأخذنا به – انتهى. وأجاب السندي عن الحديث بأن هذا لو قلنا بالوجوب على الكل، وأما إذا قلنا بالوجوب على من يملك النصاب وبالندب في حق غيره فلا دلالة (فلا يمس) بفتح السين المهملة أي بالقطع والإزالة (من شعره) بفتح العين وتسكن (وبشره) بفتحتين (شيئا – وفي رواية فلا يأخذن) بنون التأكيد، أي لا يزيلن (ولا يقلمن) بكسر اللام مع فتح الياء، وقيل: بالتثقيل أي لا يقطعن، قال السندي: يقال: قلم الظفر كضرب وقلم بالتشديد أي قطعه، والتشديد للمبالغة، فالتخفيف ههنا أولى فافهم (ظفرا) بضمتين (وفي رواية) هذه الرواية عند النسائي والترمذي، وليست عند مسلم (من رأى هلال ذي الحجة) أي أبصره أو علمه (وأراد أن يضحي فلا يأخذ) كذا في رواية للنسائي بغير نون التأكيد، وعند الترمذي: ((فلا يأخذن)) أي بنون التأكيد (من شعره ولا من أظفاره) زاد النسائي ((حتى يضحي))، قال أصحاب الشافعي: المراد بالنهي عن أخذ الظفر والشعر النهي عن إزالة الظفر بقلم أو كسر أو غيره، والمنع من إزالة الشعر بحلق أو تقصير أو نتف أو إحراق أو أخذه بنورة أو غير ذلك

(9/163)


من شعور بدنه، قال إبراهيم المروزي وغيره من أصحاب الشافعي: حكم أجزاء البدن كلها حكم الشعر والظفر، ودليله الرواية السابقة ((فلا يمس من شعره وبشره شيئا))، وفي الحديث دليل على مشروعية ترك أخذ الشعر والأظفار بعد دخول عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب سعيد بن المسيب
.......................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية، واحتج هؤلاء بحديث أم سلمة؛ لأن النهي ظاهر في التحريم، وقال الشافعي وأصحابه: هو مكروه كراهة تنزيه، ليس بحرام، وحكي عنه أن ترك الحلق والتقصير والقلم لمن أراد التضحية مستحب، وقال أبوحنيفة: هو مباح لا يكره ولا يستحب، والحديث يرد عليه، وقال مالك في رواية: لا يكره، وفي رواية: يكره، وفي رواية: يحرم في التطوع دون الواجب، واحتج الشافعي بحديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث بهديه ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر هديه، أخرجه الشيخان، قال الشافعي: البعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية، فدل على أنه لا يحرم ذلك – انتهى. فجعل هذا الحديث مقتضيا لحمل حديث الباب على كراهة التنزيه، قال الشوكاني: ولا يخفى أن حديث أم سلمة أخص منه مطلقا، فيبنى العام على الخاص، ويكون الظاهر مع من قال بالتحريم، ولكن على من أراد التضحية – انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج8 ص619): حديث عائشة عام، وحديث أم سلمة خاص يجب تقديمه بتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص، ولأنه يجب حمل حديث عائشة على غير محل النزاع لوجوه فذكرها، ثم قال: ولأن عائشة تخبر عن فعله، وأم سلمة عن قوله، والقول يقدم على الفعل لاحتمال أن يكون فعله خاصا له – انتهى. وأجاب الطحاوي عن حديث أم سلمة بأنه موقوف، وقد أعله الدارقطني أيضا بالوقف، قال الطحاوي في

(9/164)


شرح الآثار بعد رواية حديث أم سلمة موقوفا ما لفظه: فهذا هو أصل الحديث عن أم سلمة – رضي الله عنها – انتهى. وتعقب بأنه لا شك في أن بعض الرواة روى حديث أم سلمة موقوفا، لكن أكثرهم رووه بأسانيد صحيحة مرفوعا، وقد بسط هذه الأسانيد مسلم والنسائي، وتلك الطرق المرفوعة كلها صحيحة، فكيف يصح القول بأن حديث أم سلمة الموقوف هو أصل الحديث، بل الظاهر أن المرفوع هو أصل الحديث، وأفتت أم سلمة على وفق حديثها المرفوع، فروى بعضهم موقوفا عليها من قولها. والحاصل أن حديث أم سلمة مرفوعا صحيح، وهو حديث قولي ولم يجئ ما يعارضه، فالأخذ به متعين، ومقتضى النهي التحريم، فالراجح عندنا ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه، والله تعالى أعلم. واختلفوا في بيان حكمة النهي، فقيل: للتشبه بالمحرم، قال التوربشتي: وهذا قول إذا أطلق لم يستقم؛ لأن هذا الحكم لو شرع للتشبه بهم لشاع ذلك في سائر محظورات الإحرام، ولما خص بما يؤخذ من أجزاء البدن كالشعر والظفر والبشر، وقال النووي: قال أصحابنا: هذا الوجه غلط؛ لأنه لا يعتزل النساء، ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم، وتعقب بأن التشبه لا يلزم من جميع الوجوه، وقيل: الحكمة أن يبقى كامل الأجزاء للعتق من النار، قال التوربشتي: إن المضحي يجعل أضحيته فدية يفتدي بها نفسه من عذاب يوم القيامة ويرتاد بها القربة لوجه الله الكريم، فكأنه لما اكتسب عن السيئات وأتى به من التقصير في حقوق الله رأى نفسه مستوجبة أن يعاقبه
رواه مسلم.
1475- (8) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/165)


بأعظم العقوبات وهو القتل، غير أنه أحجم عن الإقدام عليه إذ لم يؤذن له فيه، فجعل قربانه فداء لنفسه فصار كل جزء منه فداء كل جزء منها، وعمت ببركته أجزاء البدن، فلم تخل منها ذرة ولم تحرم عنها شعرة، وإذا كانت هذه الفضيلة ملحقة بالأجزاء المتصلة بالمتقرب دون المنفصلة عنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يمس شيئا من شعره وبشره لئلا يفقد من ذلك قسط ما عند تنزل الرحمة وفيضان النور الإلهي ليتم له الفضائل ويتنزه عن النقائص – انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والطحاوي والبيهقي (ج9 ص266) وغيرهم، واستدركه الحاكم فوهم.

(9/166)


1475- قوله (ما من أيام العمل الصالح) بالرفع مبتدأ يشمل أنواع العبادات كالصلاة والتكبير والذكر والصوم وغيرها (فيهن) متعلق بالعمل (أحب) بالرفع (إلى الله من هذه الأيام العشر) أي الأول من ذي الحجة، ففي رواية أبي داود الطيالسي في مسنده: ((ما العمل في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة))، وكذا في رواية الدارمي. ووقع في رواية أخرى له ((ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى))، وفي حديث جابر في صحيحي أبي عوانة وابن حبان: ((ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة))، قال السندي: كلمة "من" في قوله ((ما من أيام)) زائدة لاستغراق النفي، وجملة ((العمل الصالح...))الخ صفة أيام، والخبر محذوف أي موجودة أو خير، وهو الأوجه، وقوله: ((من هذه الأيام)) متعلقة بأحب، والمعنى على حذف المضاف أي من عمل هذه الأيام ليكون المفضل والمفضل عليه من جنس واحد – انتهى. وقال الطيبي: العمل مبتدأ وفيهن متعلق به والخبر أحب، والجملة خبر ما أي واسمها أيام ومن الأولى زائدة والثانية متعلقة بأفعل وفيه حذف، كأنه قيل: ليس العمل في أيام سوى العشر أحب إلى الله من العمل في هذه العشر – انتهى. وإذا كان العمل في أيام العشر أفضل من العمل في أيام غيره من السنة لزم منه أن تكون أيام العشر أفضل من غيرها من أيام السنة حتى يوم الجمعة منه أفضل منه في غيره لجمعه الفضيلتين. قال السندي: المتبادر من هذا الكلام عرفا أن كل عمل صالح إذا وقع فيها فهو أحب إلى الله تعالى من نفسه إذا وقع في غيرها، وهذا من باب تفضيل الشيء على نفسه باعتبارين وهو شائع، وأصل اللغة في مثل هذا الكلام لا يفيد الأحبية، بل يكفي فيه المساواة؛ لأن نفي الأحبية يصدق بالمساواة، وهذا واضح وعلى الوجهين لا يظهر لاستبعادهم المذكور بلفظ: ((ولا الجهاد)) معنى إذ لا يستبعد أن يكون الجهاد في هذه
..........................

(9/167)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأيام أحب منه في غيرها أو مساويا للجهاد في غيرها، نعم لو كان المراد أن العمل الصالح في هذه الأيام مطلقا أي عمل كان أحب من العمل في غيرها مطلقا أي عمل كان حتى أن أدنى الأعمال في هذه الأيام أحب من أعظم الأعمال في غيرها لكان الاستبعاد موجها، لكن كون ذلك مرادا بعيد لفظا ومعنى، فلعل وجه استبعادهم أن الجهاد في هذه الأيام يخل بالحج، فينبغي أن يكون في غيرها أحب منه فيها، وحينئذ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا رجل)) أي جهاد رجل بيان لفخامة جهاده وتعظيم له بأنه قد بلغ مبلغا لا يكاد يتفاوت بشرف الزمان وعدمه – انتهى كلام السندي. وذكر السيد: أنه اختلف العلماء في أن هذه العشرة أفضل أم عشرة رمضان؟ فقال بعضهم: هذا العشر أفضل لهذا الحديث. وقال بعضهم: عشر رمضان أفضل للصوم ولليلة القدر، والمختار أن أيام هذا العشر أفضل لوجود يوم عرفة فيها، وليالي عشر رمضان أفضل لوجود ليلة القدر فيها؛ لأن يوم عرفة أفضل أيام السنة، وليلة القدر أفضل ليالي السنة، ولذا قال: ((ما من أيام)) ولم يقل: من ليال، كذا في الأزهار، ذكره القاري. وقال القسطلاني: الأيام إذا أطلقت دخلت فيها الليالي تبعا، وقد أقسم الله تعالى بها، فقال: ?والفجر. وليال عشر? [الفجر: 1 ] وقد زعم بعضهم أن ليالي عشر رمضان أفضل من لياليه لاشتمالها على ليلة القدر. قال الحافظ ابن رجب: وهذا بعيد جدا، ولو صح حديث أبي هريرة المروي في الترمذي – يعني الذي يأتي في آخر الفصل الثاني -: ((قيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر)) لكان صريحا في تفضيل لياليه على ليالي عشر رمضان، فإن عشر رمضان فضل بليلة واحدة، وهذا جميع لياليه متساوية، والتحقيق ما قاله بعض أعيان المتأخرين من العلماء أن مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها – انتهى. واستدل به على فضل صيام عشر ذي

(9/168)


الحجة لاندراج الصوم في العمل، وعورض بتحريم صوم يوم العيد، وأجيب بأنه محمول على الغالب. ولا ريب أن صيام رمضان أفضل من صوم العشر؛ لأن فعل الفرض أفضل من النفل من غير تردد، وعلى هذا فكل ما فعل من فرض في العشر فهو أفضل من فرض فعل في غيره، وكذا النفل، ولا يرد على ما ذكرنا من كون الحديث دليلا على فضل صيام عشر ذي الحجة ما يأتي في الصيام من حديث عائشة قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائما في العشر قط. لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته، كما رواه الشيخان من حديث عائشة أيضا، وقيل: قولها: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام العشر قط – لا ينافي صوم بعضها، قيل: الحكمة في تخصيص عشر ذي الحجة بهذه المزية اجتماع أمهات العبادة فيها: الحج والصدقة والصيام والصلاة، ولا يتأتى ذلك في غيرها، وعلى هذا هل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال، وقيل: المراد بالعمل الذكر، ويؤيد ذلك ما روى الطبراني في الكبير، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، عن ابن عباس مرفوعا: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيها من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح
قالوا: يا رسول الله ! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/169)


والتهليل والتحميد والتكبير))، وروى أحمد عن ابن عمر مرفوعا نحوه، ويؤيد التعميم ما وقع من الزيادة بعد الأمر بالإكثار من التحميد والتكبير في حديث ابن عباس عند البيهقي: ((وإن صيام يوم منها يعدل صيان سنة، والعمل بسبعمائة ضعف))، وما سيأتي من حديث أبي هريرة في آخر الفصل الثاني، لكن إسناده ضعيف، وكذا إسناد حديث ابن عباس، وحديث ابن عمر عند أحمد وحديث ابن عباس عند الطبراني والبيهقي يدلان على مشروعية التكبير من أول ذي الحجة، واختلف العلماء في حكم تكبير عيد الأضحى، أي تكبير التشريق، فأوجبه بعض العلماء لقوله تعالى: ?واذكروا الله في أيام معدودات? [البقرة: 203]، ولقوله تعالى: ?كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم? [الحج: 37]. وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة للرجال والنساء، ومنهم من خصه بالرجال. وأما وقته فظاهر الآية والآثار عن الصحابة أنه لا يختص بوقت دون وقت، إلا أنه اختلف العلماء، فمنهم من خصه بعقب الصلاة مطلقا، ومنهم من خصه بعقيب الفرائض دون النوافل، ومنهم من خصه بالجماعة دون الفرادى، وبالمؤداة دون المقضية، وبالمقيم دون المسافر، وبالأمصار دون القرى، وأما ابتداؤه وانتهاؤه ففيه خلاف أيضا، فقيل في الأول من صبح يوم عرفة، وقيل: من ظهره، وقيل: من عصره، وفي الثاني إلى ظهر ثالثه، وقيل: إلى آخر أيام التشريق، وقيل: إلى ظهره، وقيل: إلى عصره، ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في شيء من ذلك حديث. وأصح ما ورد فيه عن الصحابة عن أبي هريرة وابن عمر تعليقا أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما، وذكر البغوي والبيهقي ذلك. قال الطحاوي: كان مشايخنا يقولون بذلك التكبير أيام العشر جميعها، ذكره العلامة الأمير اليماني في سبل السلام، قلت: الظاهر أن التكبير مشروع ومستحب من أول ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق، ولا يختص استحبابه بعقب الصلوات ولا بالرجال ولا بالفرائض ولا

(9/170)


بالمؤداة ولا بالجماعة والمقيم والأمصار، بل هو مستحب في كل وقت من تلك الأيام ولكل أحد من المسلمين، كما يدل على ذلك حديث ابن عمر وحديث ابن عباس وآثار ابن عمر وأبي هريرة، والله تعالى أعلم. (قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد) بالرفع (في سبيل الله) أي ولا الجهاد في أيام أخر أحب إلى الله من العمل في هذه الأيام (قال) عليه الصلاة والسلام (ولا الجهاد في سبيل الله) أي أحب من ذلك (إلا رجل) أي إلا جهاد رجل (فلم يرجع من ذلك) أي مما ذكر من نفسه وماله (بشيء) أي صرف ماله ونفسه في سبيل الله، فيكون أفضل من العامل في أيام
رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
1476- (9) عن جابر قال: ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجوئين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العشر أو مساويا له، قال القسطلاني: في هذا الحديث أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره (رواه البخاري) في العيدين، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه في الصيام، واللفظ المذكور للترمذي، ولفظ البخاري في رواية أبي ذر عن الكشمهيني: ((ما العمل في أيام أفضل منها في هذا العشر، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)).

(9/171)


1476- قوله (ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي أراد أن يذبح، بدليل قوله: "فلما..."الخ (يوم الذبح) أي يوم الأضحى، ويسمى يوم النحر أيضا، وفي رواية أحمد (ج3 ص375): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح يوم العيد، وكذا في رواية ابن ماجه والدارمي (موجوئين) بفتح ميم وسكون واو فضم جيم وسكون واو فهمز مفتوح، تثنية موجوء، اسم مفعول من وجأ – مهموز اللام، وروي بالإثبات للهمزة وقلبها ياء ثم قلب الواو ياء وإدغامها فيها كمرمى أي منزوعي الأنثيين، قاله أبوموسى الأصفهاني. وقال الجوهري وغيره: الوجاء - بالكسر والمد – رض عرق الأنثيين. قال الهروي: والأنثيان بحالهما، وقال الجزري في النهاية: الوجاء أن ترض أي تدق أنثيا الفحل رضا شديدا يذهب شهوة الجماع. وقيل: هو أن يوجأ العروق والخصيتان بحالهما، قال: ومنه الحديث "أنه ضحى بكبشين موجوئين" أي خصيين. ومنهم من يرويه موجئين بوزن مكرمين، وهو خطأ، ومنهم من يرويه موجيين بغير همز على التخفيف، ويكون من وجيته وجيا فهو موجي – انتهى. وقال في جامع الأصول (ج4 ص393): الوجاء نحو الخصاء، وهو أن يؤخذ الكبش فترض خصيتاه ولا تقطعا، وقيل: هو أن يقطع عروقهما وتتركا بحالهما. وفي القاموس وجيء هو بالضم فهو موجوء ووجئ دق عروق خصيتيه بين حجرين ولم يخرجهما أو هو رضاضهما حتى ينفضخا أي ينكسرا. قال الخطابي: في هذا دليل على أن الخصي في الضحايا غير مكروه، وقد كرهه بعض أهل العلم لنقص العضو، وهذا نقص ليس بعيب؛ لأن الخصاء يزيد اللحم طيبا وينفي فيه الزهومة وسوء الرائحة – انتهى. وقال ابن قدامة: يجزئ الخصي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين موجوئين؛ ولأن الخصاء ذهاب عضو غير مستطاب يطيب اللحم بذهابه ويكثر ويسمن، قال الشعبي: ما زاد في لحمه وشحمه أكثر مما ذهب منه، وبهذا قال

(9/172)


فلما وجههما قال: ((إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك، عن محمد وأمته، بسم الله، والله أكبر))، ثم ذبح، رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي، وفي رواية لأحمد:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحسن وعطاء والشعبي والنخعي ومالك والشافعي وأبوثور وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفا – انتهى. (فلما وجههما) أي جعل وجه كل واحد منهما نحو القبلة (إني وجهت وجهي) أي جعلت ذاتي متوجها (للذي فطر السماوات والأرض) أي إلى خالقهما ومبدعهما (على ملة إبراهيم) حال من ضمير المتكلم في وجهت، أي أنا على ملة إبراهيم، يعني في الأصول وبعض الفروع (حنيفا) حال من إبراهيم، أي مائلا عن الأديان الباطلة إلى الملة القويمة التي هي التوحيد الحقيقي، وقيل: حال من ضمير المتكلم في وجهت متداخلة أو مترادفة (إن صلاتي ونسكي) أي سائر عباداتي أو تقربي بالذبح. قال الطيبي: أي وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح – انتهى. (لله) أي خالصة لوجهه (وأنا من المسلمين) هذا لفظ أبي داود، وعند أحمد وابن ماجه والدارمي: ((وأنا أول المسلمين)) أي أول مسلمي هذه الأمة، وفي الحديث استحباب تلاوة هذه الآية عند توجيه الأضحية للذبح، وقد تقدم ذكرها في دعاء الاستفتاح في الصلاة (اللهم منك) أي هذه الأضحية عطية ومنحة واصلة إلي منك (ولك) أي مذبوحة وخالصة لك، وفي المصابيح "إليك" مكان "لك" أي واصلة وراجعة إليك، أو أتقرب به إليك (عن محمد) أي صادرة عنه (وأمته) أي قال في أحدهما عن محمد، وفي الآخر عن أمته، كما في حديث أبي سلمة عن عائشة وأبي هريرة عند ابن ماجه في أوائل الأضاحي (بسم الله، والله أكبر) بالواو، وعند أحمد (ج3 ص375) ((بسم الله الله أكبر)) بغير الواو. (رواه أحمد)

(9/173)


(ج3 ص375)، (وأبوداود) وسكت عنه (وابن ماجه والدارمي)، وأخرجه أيضا البيهقي (ج9 ص268، 287)، وفي إسناده عندهم محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث في روايته عن يزيد بن أبي حبيب عند أحمد، وفيه أيضا أبوعياش المعافري المصري، قال الحافظ في التقريب: مقبول، وفي التضحية بالخصي أحاديث عن جماعة من الصحابة عائشة وأبي هريرة وأبي رافع وأبي الدرداء ذكرها الزيلعي في نصب الراية (ج4 ص215-216)، والحافظ في الدراية (ص326)، والتلخيص (ص385)، والشوكاني في النيل، ولجابر حديث آخر رواه أبويعلى، قال الهيثمي بعد ذكره: إسناده حسن. (وفي رواية لأحمد)
وأبي داود، والترمذي ذبح بيده وقال: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)).
1477- (10) وعن حنش قال: رأيت عليا يضحي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/174)


(ج3 ص356، 362) (وأبي داود والترمذي ذبح بيده) أول الحديث قال جابر: شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل عن منبره فأتي بكبش فذبحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده...الخ. (اللهم هذا) أي الكبش (عني) أي اجعله أضحية عني (وعمن لم يضح من أمتي) قد استدل بهذا الحديث على عدم وجوب الأضحية؛ لأن الظاهر أن تضحيته - صلى الله عليه وسلم - عن أمته تجزئ كل من لم يضح سواء كان متمكنا من الأضحية أو غير متمكن، وهذه الرواية عند أحمد وأبي داود والترمذي من طريق المطلب بن عبدالله بن حنطب عن جابر بن عبدالله، وقد سكت عليه أبوداود، وقال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه، وقال المطلب بن عبدالله بن حنطب يقال إنه لم يسمع من جابر – انتهى. قال المنذري: وقال أبوحاتم الرازي: يشبه أن يكون أدركه – انتهى. وقال في التهذيب (ج10 ص179): قال ابن أبي حاتم في المراسيل عن أبيه: لم يسمع من جابر...الخ.

(9/175)


1477- قوله (وعن حنش) بفتح الحاء المهملة وبالنون الخفيفة المفتوحة بعدها معجمة، هو حنش بن المعتمر، ويقال: ابن ربيعة الكناني أبوالمعتمر الكوفي، من أوساط التابعين، قال الحافظ في التهذيب (ج3 ص58-59): قال أبوداود والعجلي: ثقة، وقال البخاري: يتكلمون في حديثه، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن حبان: كان كثير الوهم في الأخبار ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات حتى صار ممن لا يحتج بحديثه، وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود وأبوالعرب الصقلي في الضعفاء، وقال ابن حزم في المحلى: ساقط مطرح – انتهى. وقال في التقريب: صدوق له أوهام. (يضحي بكبشين) أحدهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر عن نفسه، كما في رواية الترمذي وأحمد والحاكم (ج4 ص229-230). (ما هذا) أي ما الذي بعثك على فعلك هذا؟ (أوصاني) أي عهد إلي وأمرني (أن أضحي عنه) بعد موته بكبشين؛ كبش عنه وكبش عن نفسي (فأنا أضحي عنه) وفي رواية الترمذي، فقال: أمرني به يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا أدعه أبدا، والحديث يدل على أن التضحية تجوز عمن مات، قال الترمذي: قد رخص بعض أهل العلم أن يضحى عن الميت ولم ير بعضهم أن يضحى عنه، وقال عبدالله بن المبارك: أحب إلي أن يتصدق عنه ولا يضحى، وإن ضحى فلا يأكل منها شيئا ويتصدق بها كلها – انتهى. قال في غنية الألمعي ما محصله: إن قول من رخص في التضحية عن الميت مطابق للأدلة، ولا دليل لمن منعها، وقد
رواه أبوداود، وروى الترمذي نحوه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/176)


ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين؛ أحدهما عن نفسه وأهل بيته والآخر عن أمته ممن شهد له بالتوحيد وشهد له البلاغ، ومعلوم أن كثيرا من أمته قد كانوا ماتوا في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فدخل في أضحيته - صلى الله عليه وسلم - الأحياء والأموات كلهم، ولكبش الواحد الذي يضحي به عن أمته كما كان للأحياء من أمته كذلك كان للأموات من أمته بلا تفرقة، ولم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتصدق بذلك الكبش كله، ولا يأكل منه شيئا، أو كان يتصدق بجزء معين بقدر حصة الأموات، بل قال أبورافع: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطعمهما جميعا المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، رواه أحمد، وكان دأبه - صلى الله عليه وسلم - أنه يأكل من الأضحية هو وأهله، ويطعم منها المساكين، وأمر بذلك أمته، ولم يحفظ عنه خلافه، فإذا ضحى الرجل عن نفسه وعن بعض أمواته، أو عن نفسه وعن أهله وعن بعض أمواته فيجوز أن يأكل هو وأهله من تلك الأضحية، وليس عليه أن يتصدق بها كلها، نعم إن تخص الأضحية للأموات من دون شركة الأحياء فيها فهي حق للمساكين كما قال عبدالله بن المبارك – انتهى ما في غنية الألمعي محصلا. قال شيخنا في شرح الترمذي: لم أجد في التضحية عن الميت منفردا حديثا مرفوعا صحيحا. وأما حديث علي هذا فضعيف، فإذا ضحى الرجل عن الميت منفردا فالاحتياط أن يتصدق بها كلها – انتهى. (رواه أبوداود، وروى الترمذي نحوه) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص107، 149)، والحاكم (ج4 ص229-230)، والبيهقي (ج9 ص288) كلهم من طريق شريك بن عبدالله النخعي عن أبي الحسناء عن الحكم عن حنش، وقد سكت عليه أبوداود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك، وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي: وحنش قد تكلم فيه غير واحد، ثم نقل كلام ابن حبان، ثم قال: وشريك بن عبدالله فيه مقال، وقد أخرج له

(9/177)


مسلم في المتابعات – انتهى. قال شيخنا: وأبوالحسناء شيخ شريك به عبدالله مجهول كما قال الحافظ في التقريب، فالحديث ضعيف – انتهى. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (ج2 ص152): إسناده صحيح، وقال بعد نقل كلام الترمذي: وفي طبعة بولاق (ج1 ص282-283) زيادة نصها "قال محمد: قال علي بن المديني: وقد رواه غير شريك. قلت له: أبوالحسناء ما اسمه فلم يعرفه. قال مسلم: اسمه الحسن"، وهذه الزيادة ثابتة في مخطوطتنا الصحيحة من الترمذي، وأبوالحسناء هذا مترجم له في التهذيب، فلم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وقال: اسمه الحسن، ويقال: الحسين، وترجمه الذهبي في الميزان فقال: لا يعرف، ولكن الحديث رواه الحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبوالحسناء هذا هو الحسن بن الحكم النخعي، ووافقه الذهبي، والراجح عندي ما قاله الحاكم، والحسن بن الحكم النخعي الكوفي يكنى أباالحسن. ورجح الحافظ في التهذيب (ج2 ص271) أنه يكنى أباالحكم، فقد اختلف في كنيته، فالظاهر أن بعضهم كناه أيضا أباالحسناء، وهو من شيوخ شريك
1478- (11) وعن علي قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة، ولا شرقاء ولا خرقاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أيضا، وقد وثقه أحمد وابن معين، وترجمه البخاري في الكبير فلم يذكر فيه جرحا – انتهى. قلت: في كون هذا الحديث صحيحا عندي نظر قوي، وهذا لا يخفى على من تأمل في ترجمة شريك وأبي الحسناء وحنش.

(9/178)


1478- قوله (أن نستشرف العين والأذن) أي نبحث عنهما ونتأمل في حالهما لئلا يكون فيهما عيب ونقصان يمنع عن جواز التضحية بها , قيل: والاستشراف إمعان النظر، والأصل فيه وضع يدك على حاجبك كيلا تمنعك الشمس من النظر، مأخوذ من الشرف، وهو المكان المرتفع، فإن من أراد أن يطلع على شيء أشرف عليه – أي اطلع عليه من فوق -. وقال ابن الملك: الاستشراف الاستكشاف. قال الطيبي: وقيل: هو من الشرفة – بضم الشين وسكون الراء -، وهي خيار المال، أي أمرنا أن نتخيرهما أن نختار ذات الأذن والعين الكاملتين، كذا في المرقاة. وقال السيوطي في حاشية الترمذي: اختلف في المراد به، هل هو من التأمل والنظر من قولهم: استشرف إذا نظر من مكان مرتفع، فإنه أمكن في النظر والتأمل، أو هو تحري الإشراف بأن لا يكون في عينه أو أذنه نقص؟ وقيل: المراد به كبر العضوين المذكورين؛ لأنه يدل على كونه أصيلا في جنسه، قال الشافعي: معناه أن نضحي بواسع العينين، طويل الأذنين، وقال الجوهري: أذن شرفاء أي طويلة، والقول الأول هو المشهور، ذكره السندي. وقال الجزري في جامع الأصول (ج4 ص389) الاستشراف هو أن تضع يدك على حاجبك كالذي يستظل من الشمس حتى يستبين الشيء، والمعنى في الحديث: أمرنا أن نختبر العين والأذن، فتأمل سلامتهما من آفة تكون بهما (وأن لا نضحي) بتشديد الحاء (بمقابلة) بفتح الباء هي التي قطع من قبل أذنها شيء ثم ترك معلقا من مقدمها، قال في القاموس: هي شاة قطعت أذنها من قدام وتركت معلقة، ومثله في النهاية إلا أنه لم يقيد بقدام، وقال في جامع الأصول: شاة مقابلة إذا قطع من مقدم أذنها قطعة وتركت معلقة كأنها زئمة. (ولا مدابرة) بفتح الباء أيضا، وهي التي قطع من دبر أذنها وترك معلقا من مؤخرها، قال في النهاية: المدابرة أن يقطع من مؤخر أذن الشاة شيء ثم يترك معلقا كأنه زئمة. (ولا شرقا) بالمد، أي مشقوقة الأذن بإثنين أي نصفين، شرق أذنها يشرق شرقا

(9/179)


إذا شقها، كذا في النهاية. وقال في القاموس: شرق الشاة شرقا: شق أذنها، وشرقت الشاة كفرح: انشقت أذنها طولا فهي شرقا – انتهى. (ولا خرقا) بالمد أي مثقوبة الأذن ثقبا مستديرا، وقيل: الشرقاء ما قطع أذنها طولا والخرقاء ما قطع أذنها عرضا، زاد في رواية لأحمد والنسائي وابن ماجه "جدعاء" من الجدع، وهو قطع الأنف أو الأذن أو الشفة، وهو بالأنف أخص، فإذا أطلق غلب عليه، والحديث يدل على النهي عن التضحية بالتي قطع بعض أذنها من قبلها أو دبرها وترك معلقا، وبمشقوقة
رواه الترمذي، وأبوداو، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه، وانتهت روايته إلى قوله "والأذن".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/180)


الأذن طولا بنصفين، وبمثقوبة الأذن ثقبا مستديرا، وحمله الجمهور على الكراهة والتنزيه، قال ابن قدامة في المغني (ج8 ص626): هذا نهي تنزيه، ويحصل الإجزاء بها، ولا نعلم يه خلافا، ولأن اشتراط السلامة من ذلك يشق، إذ لا يكاد يوجد سالم من هذا كله – انتهى. وقال القاري: يجوز التي شقت أذنها طولا أو من قبل وجهها، وهي متدلية أو من خلفها، فالحديث محمول على التنزيه، وقال ابن جماعة: ذهب الأربعة إلى أن تجزئ الشرقاء وهي التي شقت أذنها، والخرقاء وهي المثقوبة الأذن من كي أو غيره – انتهى. قلت: وإليه يشير تبويب الترمذي حيث بوب على حديث البراء الآتي "باب ما لا يجوز من الأضاحي"، ثم بوب على حديث علي هذا "باب ما يكره من الأضاحي"، ولم أقف على دليل قوي يصرف النهي عن معناه الحقيقي، وهو التحريم المستلزم لعدم الإجزاء، ومن يدعي أنها تجزئ مع الكراهة يحتاج إلى إقامة دليل قوي على ذلك، ولا مخالفة بينه وبين حديث علي في النهي عن عضباء الأذن حتى يحتاج إلى الجمع بينهما، فيحمل الحديث الذي نحن بصدد شرحه على التنزيه، كما زعم الطحاوي، فإنه مبني على اتحاد مفهوم عضباء الأذن ومفهوم ما ذكر في هذا الحديث من المقابلة وغيرها، والظاهر أنهما مختلفان، فالراجح أنه لا تجوز التضحية بشاة قطع بعض أذنها أو شقت طولا أو ثقبت كما لا يجوز أعضب الأذن، والله تعالى أعلم. (رواه الترمذي)الخ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص128، 148)، والبزار وابن حبان والحاكم (ج4 ص224)، والبيهقي (ج9 ص275)، وسكت عنه أبوداود، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره، وصححه ابن حبان والحاكم، ووافق الذهبي الحاكم، وسكت عليه الحافظ في الدراية (ص325)، وقال في التلخيص: وأعله الدارقطني – انتهى. ولم يذكر وجه التعليل، ولعله أعله بالوقف، وهذا ليس بشيء فإنه في حكم المرفوع؛ لأن مثل هذا لا يقال بالرأي (وانتهت روايته) أي رواية ابن ماجه (إلى قوله: والأذن)

(9/181)


بالنصب على الحكاية، وهي الأولى، واعلم أن لحديث علي هذا طريقين: طريق أبي إسحاق السبيعي عن شريح بن النعمان الصائدي عن علي، وطريق سلمة بن كهيل عن حجية بن عدي عن علي، فرواه أحمد (ج1 ص128، 149)، والترمذي وأبوداود والنسائي والدارمي والحاكم والبيهقي من الطريق الأول مطولا بكلا الجزئين، وروى أحمد (ج1 ص80)، والنسائي والحاكم أيضا وابن ماجه من هذا الطريق مختصرا أي الجزء الثاني فقط، يعني النهي عن التضحية بمقابلة...الخ، وروى أحمد (ج1 ص95، 105، 152) والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي والدارمي من الطريق الثاني الجزء الأول فقط، أي الأمر باستشراف العين والأذن، فالحديث رواه ابن ماجه بكلا الجزئين لكن من طريقين، وقد روى أحمد (ج1 ص132) الجزء الأول من طريق أخرى أيضا، وهي طريق أبي إسحاق عن هبيرة بن يريم عن علي، وهذه الطرق كلها صحيحة.
1479- (12) وعنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نضحي بأعضب القرن والأذن. رواه ابن ماجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/182)


1479- قوله (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نضحي) كذا في جميع نسخ المشكاة الموجودة عندنا أي بصيغة جمع المتكلم، وفي المصابيح "يضحي" بالياء، وكذا في ابن ماجه، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (بأعضب القرن والأذن) أي مكسور القرن ومقطوع الأذن، قاله ابن الملك، فيكون من باب علفتها تبنا وماء باردا، وقيل: مقطوع القرن والأذن، والعضب القطع، كذا في المرقاة. وذكر في رواية غير ابن ماجه قال قتادة – راوي هذا الحديث -: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب – يعني قلت له ما الأعضب؟ - فقال: العضب ما بلغ النصف فما فوق ذلك، قال الشوكاني في النيل: في الحديث دليل على أنها لا تجزئ التضحية بأعضب القرن والأذن، وهو ما ذهب نصب قرنه أو أذنه، وذهب أبوحنيفة والشافعي والجمهور إلى أنها تجوز التضحية بمكسورة القرن مطلقا، وكرهه مالك إذا كان يدمي وجعله عيبا، وقال في القاموس: إن العضباء الشاة المكسورة القرن الداخل، فالظاهر أن مكسورة القرن لا تجوز التضحية بها إلا أن يكون الذاهب من القرن مقدارا يسيرا بحيث لا يقال لها عضباء لأجله، أو يكون دون النصف إن صح أن التقدير بالنصف المروي عن سعيد بن المسيب لغوي أو شرعي، وكذلك لا تجزي التضحية بأعضب الأذن، وهو ما صدق عليه اسم العضب لغة أو شرعا – انتهى. قال شيخنا: قال في الفائق: العضب في القرن داخل الانكسار، ويقال: للانكسار في الخارج القصم، وكذلك في القاموس كما عرفت، وقال فيه: القصماء المعز المكسورة القرن الخارج – انتهى. فالظاهر عندي أن المكسورة القرن الخارج تجوز التضحية بها، وأما المكسورة القرن الداخل فكما قال الشوكاني من أنها لا تجوز التضحية بها إلا أن يكون الذاهب من القرن الداخل مقدارا يسيرا...الخ، والله تعالى أعلم. (رواه ابن ماجه) وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والحاكم والبيهقي، وصححه الترمذي، وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي

(9/183)


وأقره كما يظهر مما نقله صاحب العون، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقيل: في تصحيح هذا الحديث نظر، فإن جري بن كليب السدوسي البصري هو الذي روى هذا الحديث عن علي، وقد سئل عنه أبوحاتم الرازي فقال: شيخ لا يحتج بحديثه، وقال ابن المديني: مجهول لا أعلم أحدا روى عنه غير قتادة، قلت: وكان قتادة يثني عليه خيرا، وقال العجلي: تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في ثقات، وقال في التقريب: مقبول، فالحديث لا ينحط عن درجة الحسن، والعبرة برواية الراوي لا برأيه.
1480- (13) وعن البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل ماذا يتقى من الضحايا؟ فأشار بيده فقال: ((أربعا: العرجاء البين ظلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/184)


1480- قوله (ماذا يتقى) بصيغة المجهول من الاتقاء أي يحترز ويجتنب، وهذا لفظ مالك وأحمد والدارمي في رواية، ولفظ أبي داود وأحمد في رواية: ((أربع لا تجوز))، ولفظ ابن ماجه: ((أربع لا تجزئ))، ونحوه رواية النسائي، وكذا وقع عند الدارمي في رواية، وللترمذي: ((لا يضحى بالعرجاء...))الخ. (من الضحايا) من بيانية لما (فأشار بيده) أي بأصابعه كما في رواية للنسائي (فقال: أربعا) كذا في جميع النسخ، وهكذا في المصابيح، أي اتقوا أربعا، وفي الموطأ: وقال: ((أربع)) بالرفع، وكذا عند أحمد (ج4 ص301) نعم وقع في رواية للبيهقي (ج9 ص274) فقال: ((أربعا)) بالنصب، والظاهر أن ما في المشكاة خطأ من الناسخ، والله تعالى أعلم. (العرجاء) بالنصب بدلا من أربعا، ويجوز الرفع على أنه خبر، كذا في الأزهار (البين) بالوجهين أي الظاهر (ظلعها) بفتح الظاء وسكون اللام وبفتح، أي عرجها، وهو أن يمنعها المشي، قال السندي: المشهور على ألسنة أهل الحديث فتح الظاء واللام، وضبطه أهل اللغة بفتح الظاء وسكون اللام، هو العرج، قال: كأن أهل الحديث راعوا مشاكلة العور والمرض – انتهى. قال ابن قدامة: العرجاء البين عرجها هي التي بها عرج فاحش، وذلك يمنعها من اللحاق بالغنم، فتسبقها إلى الكلأ فيرعينه ولا تدركهن فينقص لحمها، فإن كان عرجا يسيرا لا يفضي بها إلى ذلك أجزأت (والعوراء) بالمد تأنيث الأعور، عطف على العرجاء (البين عورها) بفتح العين والواو، وهو ذهاب بصر إحدى العينين، أي العوراء يكون عورها ظاهرا بينا، وفيه أن العور إذا كان خفيفا لا يظهر وإنما يتوهمه فلا حاجة إلى أن تعرفه بجد وتكلف (والمريضة البين مرضها) هي التي لا تعتلف، قاله القاري، وقال ابن قدامة: هي التي يبين أثر المرض عليها؛ لأن ذلك ينقص لحمها ويفسده، وهذا أصح. وقال القاضي: إن المراد بالمريضة الجرباء؛ لأن الجرب يفسد اللحم ويهزل إذا كثر، وهذا قول أصحاب الشافعي، وهذا تقييد للمطلق وتخصيص

(9/185)


للعموم بلا دليل، فالمعنى يقتضي العموم كما يقتضيه اللفظ، فإن كان المرض يفسد اللحم وينقصه فلا معنى للتخصيص مع عموم اللفظ والمعنى – انتهى. والحديث يدل على أن العيب الخفي في الضحايا معفو عنه، قاله ابن الملك، وقال الشوكاني: فيه دليل على أن متبينة العور والعرج والمرض لا يجوز التضحية بها إلا ما كان من ذلك يسيرا غير بين (والعجفاء) أي المهزولة، وهذا لفظ مالك والترمذي، وكذا عند أحمد والنسائي والدارمي في رواية، وفي رواية أخرى لهم: الكسيرة بدل العجفاء، وكذا عند أبي داود، وفسر بالمنكسر أي
التي لا تنقي)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/186)


الرجل التي لا تقدر على المشي، فعيل بمعنى مفعول، ورواية العجفاء أظهر معنى (التي لا تنقي) بضم التاء الفوقية وإسكان النون وكسر القاف، من أنقى إذا صار ذا نقى – بكسر النون وإسكان القاف – أي ذا مخ، فالمعنى: التي ما بقي لها مخ من غاية العجف أي الهزال، قال التوربشتي: هي المهزولة التي لا نقى لعظامها، يعني لا مخ لها من العجف، يقال: أنقت الناقة أي صار فيها نقى، أي سمنت ووقع في عظامها المخ، قال الترمذي: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، قال النووي: وأجمعوا على أن العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء لا تجزئ التضحية بها، وكذا ما كان في معناها أو أقبح منها كالعمى وقطع الرجل وشبهه – انتهى. وروى أحمد والبخاري في تاريخه وأبوداود والحاكم (ج1 ص469) والبيهقي (ج9 ص275) عن عتبة بن عبد السلمي: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المصفرة – أي ذاهبة جميع الأذن – والمستأصلة – هي التي أخذ قرنها من أصله – والبخقاء – من البخق وهو أن يذهب البصر وتبقى العين قائمة -، قاله الجزري، وقال المجد: البخق – محركة – أقبح العور وأكثره غمصا أو أن لا يلتقي شفر عينه على حدقته، وقال الخطابي: بخق العين فقؤها -، المشيعة – بفتح الياء، أي التي تحتاج إلى من يشيعها أي يتبعها الغم لضعفها، وبالكسر وهي التي تشيع الغنم أي تتبعها لعجفها، قاله المجد.وقال الجزري: هي التي لا تزال تتبع الغنم عجفا أي لا تلحقها فهي أبدا تشيعها أي تمشي وراءها، هذا إن كسرت الياء، وإن فتحتها فلأنها يحتاج إلى من يشيعها، أي يسوقها لتأخرها عن الغنم -، والكسراء – أي التي لا تقوم من الهزال، وقيل: المنكسر الرجل التي لا تقدر على المشي -. فالمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها، والمستأصلة التي ذهب قرنها من أصله، والبخقاء التي تبخق عينها، والمشيعة التي لا تتبع الغنم عجفا وضعفا، والكسراء التي لا تنقي – انتهى. قلت: ولا تجزئ أيضا ما

(9/187)


قطع منها عضو كالإلية والأطباء – وهي حلمات الضرع -. وقد روى الطبراني في الأوسط والحاكم في النهي عن المصطلمة الأطباء حديثا مرفوعا، لكنه ضعيف، فيه علي بن عاصم، وقد ضعفوه، وأما العيب الحادث بعد تعيين الأضحية فلا يضر لما روى أحمد وابن ماجه والبيهقي عن أبي سعيد قال: اشتريت كبشا أضحي به، فعدا الذئب فأخذ الإلية، قال: فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ضح به)) انتهى. فهذا دليل على أن من اشترى أضحية صحيحة تامة ثم عرض لها عنده نقص لا يضر ذلك، فيذبحها وتكون أضحية، وإليه ذهب أحمد ومالك والشافعي وإسحاق والثوري والزهري والنخعي والحسن وعطاء، لكن الحديث ضعيف في إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف جدا، وفيه أيضا محمد بن قرظة وهو مجهول، وقد قيل: إنه وثقه ابن حبان، ويقال: إنه لم يسمع من أبي سعيد، وتجزئ الجماء وهي التي لم يخلق لها قرن؛ لأنه لا ينقص اللحم ولا يخل بالمقصود ولم يرد به النهي، ولأنه ليس بمرض ولا عيب، والصمعاء وهي الصغيرة الأذن، والبتراء وهي التي لا ذنب لها خلقة، وأما الثرماء أي التي ذهب بعض أسنانها فنقل القاضي حسين عن الشافعي أنه قال: لا نحفظ
رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي.
1481- (14) وعن أبي سعيد قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبش أقرن فحيل، ينظر في سواد، ويأكل في سواد، ويمشي في سواد، رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
1482- (15) وعن مجاشع من بني سليم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((إن الجذع يوفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نقص الأسنان شيئا، يعني في النهي، والله تعالى أعلم. (رواه مالك...)الخ وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم (ج1 ص468)، و(ج4 ص223)، والبيهقي (ج9 ص274)، وصححه الترمذي والحاكم، وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره.

(9/188)


1481- قوله (أقرن) أي ذي قرنين (فحيل) بفتح الفاء وكسر الحاء المهملة، أي كامل الخلقة لم تقطع أنثياه، ولا اختلاف بين هذه الرواية وبين رواية الموجوئين لحملهما على وقتين، وكل منهما فيه صفة مرغوبة، فإن الموجوء يكون أسمن وأطيب لحما، والفحيل أتم خلقة، قال الشوكاني: فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بالفحيل كما ضحى بالخصي، وقيل: الفحيل المنجب في ضرابه، قال في القاموس: فحل فحيل كريم منجب في ضرابه، وكذا في النهاية. وقال الخطابي: هو الكريم المختار للفحلة، وأما الفحل فهو عام في الذكورة منها – أي يطلق على الذكر من كل حيوان -، وقالوا: في ذكورة النخل فحال فرقا بينه وبين سائر الفحول من الحيوان – انتهى. (ينظر في سواد) أي حول عنينه سواد (ويأكل في سواد) أي فمه أسود (ويمشي في سواد) أي قوائمه سود مع بياض سائره، زاد في رواية البيهقي: ويبطن في سواد، أي يبرك في سواد يعني في بطنه سواد، وفيه أنها تستحب التضحية بما كان على هذه الصفة. رواه (الترمذي) وصححه (وأبوداود) وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره (والنسائي وابن ماجه)، وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج4 ص228) والبيهقي (ج9 ص273) وصححه ابن حبان وهو على شرط مسلم، قاله صاحب الاقتراح، وصححه أيضا الحاكم، وقال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم.
1482- قوله (وعن مجاشع) بضم الميم وتخفيف الجيم وبشين معجمة مكسورة (من بني سليم) بالتصغير، وهو مجاشع بن مسعود بن ثعلبة بن وهب السلمي، صحابي، قتل يوم الجمل قبل الوقعة سنة (36)، قال العسكري: كان مع عائشة، وقال عمر بن شبة: استخلفه المغيرة بن شعبة على البصرة في خلافة عمر (أن الجذع) أي من الضأن، كما في رواية للبيهقي، وهو ما تمت له سنة (يوفى) بصيغة المعلوم من التوفية أو الإيفاء، يقال: أوفاه
مما يوفى منه الثني، رواه أبوداود، والنسائي، وابن ماجه.

(9/189)


1483- (16) وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((نعمت الأضحية الجذع من الضان)) رواه الترمذي.
1481- (17) وعن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حقه ووفاه إذا أعطاه وافيا أي تاما، والمراد يجزئ ويكفي (مما يوفى منه الثني) أي من المعز، والثني هو المسن يعني أن الجذع من الضأن يجزئ في الأضحية كما يجزئ الثني من المعز. ففي رواية النسائي والبيهقي: أن الجذعة تجزئ مما تجزئ منه التثنية. وفيه دليل على أنها تجوز التضحية بالجذع من الضأن كما ذهب إليه الجمهور فيرد به على ابن عمر والزهري حيث قالا: إنه لا يجزئ، وقد تقدم الكلام على ذلك. (رواه أبوداود والنسائي وابن ماجه) لكن لم يسم النسائي الصحابي، بل وقع عنده أنه رجل من مزينة، وأن ذلك كان في سفر فيستدل به على أن المسافر يضحي كالمقيم. والحديث أخرجه أيضا الحاكم (ج4 ص226) والبيهقي (ج9 ص270-271) وقد سكت عنه أبوداود وصححه الحاكم. وقال المنذري: في إسناده عاصم بن كليب. قال ابن المديني: لا يحتج به إذا انفرد، وقال أحمد: لا بأس بحديثه، وقال أبوحاتم الرازي: صالح، وأخرج له مسلم – انتهى.

(9/190)


1483- قوله (نعمت الأضحية) بكسر الهمزة وضمها أشهر (الجذع من الضأن) مدحه - صلى الله عليه وسلم - ليعلم الناس أنه جائز في الأضحية بخلاف الجذع من المعز فإنها لا تجزئ. (رواه الترمذي) وقال: غريب، وقد روي هذا عن أبي هريرة موقوفا، وقال في علله الكبير: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: رواه عثمان بن واقد، فرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه غيره فوقفه على أبي هريرة، وسألته عن اسم أبي كباش – راوي الحديث عن أبي هريرة – فلم يعرفه – انتهى. كذا في نصب الراية (ج4 ص217). وقال الحافظ في الدراية (ص326): استغربه الترمذي، ونقل عن البخاري أنه أشار إلى أن الراجح وقفه – انتهى. قلت: أبوكباش – بكسر الكاف وآخره معجمة بصيغة الجمع – العيشي، وقيل: السلمي، مجهول، قاله في التقريب واللسان، وقال الذهبي: لا يعرف، ولذلك قال الحافظ في الفتح (ج23 ص329): في سنده ضعف، والحديث أخرجه أيضا البيهقي (ج9 ص271).
1484- قوله (فحضر الأضحى) أي يوم عيده (فاشتركنا في البقرة سبعة) أي سبعة أشخاص بالنصب على تقدير أعني بيانا لضمير الجمع، قاله الطيبي. وقيل: نصب على الحال، وقيل: مرفوع بدلا من ضمير "اشتركنا".
وفي البعير عشرة. رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
1485- (18) وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما عمل ابن آدم من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/191)


والظاهر أنه منصوب على الحال (وفي البعير عشرة) فيه دليل على أنه يجوز اشتراك عشرة أشخاص في البعير في الأضحية، وبه قال إسحاق بن راهويه وابن خزيمة، وهو الحق خلافا للجمهور، قالوا: إنه منسوخ، ولا يخفى ما فيه. (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص275) وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج4 ص230) وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. ويشهد له ما روي عن عبدالله بن مسعود مرفوعا: الجزور في الأضحى عن عشرة. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط، ويشهد له أيضا ما روى الطبراني في الكبير، والحاكم (ج4 ص230-231) من طريق عبدالله بن صالح كاتب الليث بن سعد عن الليث عن إسحاق بن بزرج عن زيد بن الحسن بن علي عن أبيه عن الحسن بن علي قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد، البقرة عن سبعة والجزور عن عشرة....الحديث، قال الهيثمي: عبدالله بن صالح قال عبدالملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون، وضعفه أحمد وجماعة – انتهى. وقال الحاكم: لو لا جهالة إسحاق بن بزرج لحكمت للحديث بالصحة – انتهى. قلت: ليس بمجهول، فقد ضعفه الأزدي، ووثقه ابن حبان، ذكره في التلخيص (ص143) وذكره ابن أبي حاتم بروايته عن الحسن ورواية الليث عنه فلم يذكر فيه جرحا، كذا في اللسان (ج1 ص353).

(9/192)


1485- قوله (ما عمل ابن آدم) وفي رواية الترمذي: ((ما عمل آدمي)) (من عمل) من زائدة لتأكيد الاستغراق، أي عملا (يوم النحر) بالنصب على الظرفية (أحب) بالنصب صفة عمل، وقيل: بالرفع، وتقديره: هو أحب. وفي رواية الحاكم: ما تقرب إلى الله تعالى يوم النحر بشيء هو أحب (من إهراق الدم) أي صبه، قال ابن العربي: لأن قربة كل وقت أخص به من غيرها وأولى، ولأجل ذلك أضيف إليه، أي فيقال يوم النحر وهو محمول على غير فرض الأعيان كالصلاة. (وإنه) أي الشأن، وقال الطيبي: الضمير راجع إلى ما دل عليه إهراق الدم يعني المهراق دمه، وقال ابن الملك: إنه أي المضحى به (بقرونها) جمع قرن (وأشعارها) جمع شعر (وأظلافها) جمع ظلف، وضمير التأنيث باعتبار أن المهراق دمه أضحية، قال زين العرب: يعني أفضل العبادات يوم النحر إراقة دم القربان وإنه يأتي يوم القيامة كما كان في الدنيا من غير نقصان شيء منه؛ ليكون بكل عضو منه أجر، ويصير
وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض، فطيبوا بها نفسا))، رواه الترمذي وابن ماجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/193)


مركبه على الصراط، ذكره القاري. وقال ابن العربي: يريد أنها تأتي بذلك فتوضع في ميزانه كما صرح به في حديث علي – رضي الله عنه – انتهى. ولعله أراد بذلك ما رواه أبوالقاسم الأصبهاني عن علي بلفظ: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا فاطمة ! قومي فاشهدي أضحيتك، فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها مغفرة لكل ذنب، أما إنه يجاء بدمها ولحمها فيوضع في ميزانك سبعين ضعفا...)) الحديث. قال المنذري في الترغيب: قد حسن بعض مشايخنا حديث علي هذا، والله أعلم. (وإن الدم ليقع من الله) أي من رضاه (بمكان) أي بموضع قبول (قبل أن يقع بالأرض) في رواية الترمذي ((من الأرض))، وفي ابن ماجه والحاكم ((على الأرض))، وفي البيهقي ((في الأرض))، يعني يقبله تعالى عند قصد الذبح قبل أن يقع دمه على الأرض، وقال العراقي في شرح الترمذي: أراد أن الدم وإن شاهده الحاضرون يقع على الأرض فيذهب ولا ينتفع به، فإنه محفوظ عند الله لا يضيع، كما في حديث عائشة: ((إن الدم وإن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله برمته، يوافيه صاحبه يوم القيامة)) رواه أبوالشيخ ابن حبان في كتاب الصحابة – انتهى. قلت: ويؤيد ذلك أيضا ما روى الطبراني في الأوسط عن علي مرفوعا ((إن الدم وإن وقع في الأرض فإنه يقع في حرز الله عزوجل))، ذكره المنذري في الترغيب، وصدره بلفظه "روى" وأهمل الكلام عليه في آخره. وقال الهيثمي (ج3 ص17): فيه عمرو بن الحصين العقيلي، وهو متروك الحديث. (فطيبوا بها) أي بالأضحية (نفسا) منصوب على التمييز وجعله من طيب، ونصب نفسا على المفعول بعيد، قال ابن الملك: الفاء جواب شرط مقدر أي إذا علمتم أنه تعالى يقبله يجزيكم بها ثوابا كثيرا، فلتكن أنفسكم بالتضحية طيبة غير كارهة لها – انتهى. قال العراقي: الظاهر أن هذه الجملة مدرجة من قول عائشة، وليست مرفوعة لما في رواية أبي الشيخ عن عائشة أنها قالت: يا أيها الناس ! ضحوا وطيبوا بها نفسا، فإني سمعت

(9/194)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من عبد يوجه أضحيته...)) الحديث – انتهى. والحديث دليل على أن التضحية أحب الأعمال إلى الله يوم النحر. (رواه الترمذي وابن ماجه) وأخرجه أيضا الحاكم (ج4 ص221-222) والبيهقي (ج9 ص261) كلهم من طريق أبي المثنى، واسمه سليمان بن يزيد عن هشام بن عروة عن أبيه عنها، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، قلت: قال الذهبي: سليمان واه وبعضهم تركه، وقال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم: سليمان واه وقد وثق، وقال البيهقي: قال البخاري فيما حكى أبوعيسى عنه: هو حديث مرسل لم يسمع أبوالمثنى من هشام بن عروة. قال الشيخ: أحمد رواه ابن خزيمة عن يونس بن عبدالأعلى عن ابن وهب عن أبي المثنى عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن هشام عن أبيه عن عائشة أو عن عمه موسى بن عقبة هكذا بالشك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال...الخ – انتهى. فلعل الترمذي حسنه لشواهده، وقد ذكرها المنذري في الترغيب والهيثمي في مجمع الزوائد، لكن لا يخلوا واحد منها عن كلام ويشد بعضها بعضا، ويبلغ
1486- (19) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر))، رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: إسناده ضعيف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بمجموعها إلى درجة الحسن، ولا شك أنه يقبل مثلها في فضائل الأعمال، قال ابن العربي في شرح الترمذي: ليس في فضل الأضحية حديث صحيح – انتهى. قلت: الأمر كما قال ابن العربي، والله تعالى أعلم.

(9/195)


1486- قوله (ما من أيام) من زائدة وما بمعنى ليس وأيام اسمها (أحب إلى الله) بالنصب على أنه خبرها، وبالفتح صفتها وخبرها ثابتة، وقيل: بالرفع على أنه صفة أيام على المحل، والفتح على أنها صفتها على اللفظ، وقوله (أن يتعبد) في محل رفع بتأويل المصدر على أنه فاعل أحب، وقيل: التقدير لأن يتعبد أي يفعل العبادة (له) أي لله (فيها) أي في الأيام (من عشر ذي الحجة) قال الطيبي: قيل: لو قيل أن يتعبد مبتدأ وأحب خبره ومن متعلق بأحب يلزم الفصل بين أحب ومعموله بأجنبي، فالوجه أن يقرأ أحب بالفتح ليكون صفة أيام وأن يتعبد فاعله ومن متعلق بأحب، والفصل ليس بأجنبي، وهو كقوله: ما رأيت رجلا احسن في عينه الكحل من عين زيد، وخبر ما محذوف، أقول: لو جعل أحب خبر ما وأن يتعبد متعلقا بأحب بحذف الجار أي ما من أيام أحب إلى الله لأن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة لكان أقرب لفظا ومعنى، أما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فلأن سوق الكلام لتعظيم الأيام، والعبادة تابعة لها لا عكسه، وعلى ما ذهب إليه القائل يلزم العكس مع ارتكاب ذلك التعسف (يعدل) بالمعلوم، وقيل: بالمجهول أي يسوى (صيام كل يوم منها) أي ما عدا العاشر. وقال ابن الملك: أي من أول ذي الحجة إلى يوم عرفة (بصيام سنة) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج4 ص167) عن الترمذي، ولكن في نسخ الترمذي وابن ماجه صيام سنة أي بدون حرف الجر، يعني لم يكن فيها عشر ذي الحجة، كذا قيل، والمراد صيام التطوع فلا يحتاج إلى أن يقال لم يكن فيها أيام رمضان (رواه الترمذي وابن ماجه) كلاهما في الصوم (وقال الترمذي: إسناده ضعيف، وفي نسخ الترمذي الحاضرة عندنا قال أبوعيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مسعود بن واصل عن النهاس بن قهم، وسألت محمدا عن هذا الحديث، فلم يعرفه من غير هذا الوجه مثل هذا، وقال: قد روي عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل

(9/196)


شيء من هذا – انتهى. قلت: مسعود بن واصل لين الحديث، قال أبوداود: مسعود ليس بذاك ونهاس بن قهم ضعيف، كما في التقريب، ضعفه ابن معين والنسائي وغيرهما، فالحديث ضعيف.
?الفصل الثالث?
1487- (20) عن جندب بن عبدالله قال: شهدت الأضحى يوم النحر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يعد أن صلى وفرغ من صلاته وسلم، فإذا هو يرى لحم أضاحي قد ذبحت قبل أن يفرغ من صلاته، فقال: ((من كان ذبح قبل أن يصلي – أن نصلي – فليذبح مكانها أخرى))، وفي رواية قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح وقال: ((من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)) متفق عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/197)


1487- قوله (شهدت) أي حضرت (الأضحى) أي عيده، وقيل: أي مصلاه (فلم يعد) بفتح الياء وسكون العين وضم الدال من عدا يعدو أي لم يتجاوز (وسلم) عطف تفسيري (فإذا هو يرى لحم أضاحي) بتشديد الياء ويخفف أي لم يتجاوز عن الصلاة إلى الخطبة ففاجأ لحم الأضاحي (فقال) أي في خطبته (من كان ذبح قبل أن يصلي) بكسر اللام أي هو (أو نصلي) أي نحن، شك من الراوي، والمآل واحد، إلا لم يكن هناك مصلى متعدد، قاله القاري، وقال الشوكاني: الأولى بالياء التحتية، والثانية بالنون، وهو شك من الراوي، ورواية النون موافقة لقوله في أول الحديث: "ذبحت قبل أن يصلى" فإن المراد صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وموافقة أيضا لقوله في آخر الحديث: ((ومن لم يكن ذبح حتى صلينا))، - وقد تقدمت هذه الرواية في آخر الفصل الأول من صلاة العيدين -، وهذا يدل على أن وقت الأضحية بعد صلاة الإمام لا بعد صلاة غيره، فيكون المراد بقوله في حديث أنس – المتقدم، وكذا في رواية جندب السابقة – من كان ذبح قبل الصلاة: الصلاة المعهودة، وهي صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصلاة الأئمة بعد انقضاء عصر النبوة، ويؤيد هذا ما أخرجه الطحاوي من حديث جابر، وصححه ابن حبان أن رجلا ذبح قبل أن يصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنهى أن يذبح أحد قبل الصلاة – انتهى. وقد تقدم البسط في ذلك وبيان ما هو الراجح فيه (فليذبح مكانها) أي بدل تلك الذبيحة (أخرى) أي أضحية أخرى أو ذبيحة أخرى، (وفي رواية قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر) صلاة العيد (وقال) أي في خطبته (من كان ذبح) وفي بعض النسخ: من ذبح، وهكذا نقله الجزري (ج4 ص145)، قال الحافظ: قوله "وقال: من ذبح" هو من جملة الخطبة، وليس معطوفا على قوله "ثم ذبح" لئلا يلزم تخلل بين الخطبة، وهذا القول (قبل أن يصلي) العيد (فليذبح) ذبيحة (أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، قال النووي: قال الكتاب من أهل

(9/198)


العربية: إذا قيل باسم الله تعين كتبه بالألف، وإنما تحذف الألف إذا كتب بسم الله الرحمن الرحيم بكمالها (متفق عليه) أي على أصل الحديث، ولفظ الرواية الأولى لمسلم في
1488- (21) وعن نافع أن ابن عمر قال: الأضحى يومان بعد يوم الأضحى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأضاحي، والثانية للبخاري في باب كلام الإمام والناس في خطبة العيدين من كتاب العيدين، وللحديث ألفاظ منها ما ذكره المؤلف في العيدين، وقد تقدم هناك تخريجه.

(9/199)


1488- قوله (الأضحى) قال الطيبي: هذا جمع أضحاة، وهي الأضحية كأرطى وارطاة، أي وقت الأضاحي (يومان بعد يوم الأضحى) وهو اليوم الأول من أيام النحر، وبه أخذ أبوحنيفة ومالك وأحمد والثوري، وقالوا: ينتهي وقت الذبح بغروب ثاني أيام التشريق فآخر وقت الذبح عندهم آخر اليوم الثاني من أيام التشريق، فتكون أيام النحر ثلاثة أيام فقط يوم العيد ويومان بعده، وروي هذا عن علي وعمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس،كما في المحلى (ج7 ص377). وحكى ابن القيم وابن قدامة عن أحمد أنه قال: هو قول غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكره الأثرم عن ابن عباس، واستدل لذلك بما روي من النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث. قال ابن قدامة: ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه، ونسخ تحريم الادخار لا يستلزم نسخ وقت الذبح. وقال الشافعي: يمتد وقت الأضحية إلى غروب الشمس آخر أيام التشريق، فالأضحى عنده ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وإليه ذهب عطاء والحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز وسليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام، ومكحول، وهو قول ابن عباس، روى ذلك عنهم البيهقي في السنن (ج9 ص296-297)، وابن حزم في المحلى (ج7 ص377-378)، وذكر ابن القيم في الهدي عن علي أنه قال: أيام النحر يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده، وكذا حكاه النووي عنه في شرح مسلم، وحكاه أيضا عن جبير بن مطعم وابن عباس وغيرهما، وحكاه ابن القيم عن الأوزاعي وابن المنذر، وبهذا يظهر خطأ من زعم تفرد الشافعي به، واستدل له بما روى جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كل أيام التشريق ذبح))، أخرجه ابن حبان في صحيحه والبيهقي (ج9 ص296) من رواية عبدالرحمن بن حسين عنه، وأخرجه البزار من هذا الوجه، وقال: ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم، فهو منقطع، وأخرجه البيهقي في المعرفة وفي السنن، ولم يذكر فيه انقطاعا. قلت: عبدالرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم،

(9/200)


هكذا وقع في صحيح ابن حبان، كما في موارد الظمآن والسنن للبيهقي، وكذا نقله الزيلعي (ج3 ص61، وج4 ص212)، وقال الحافظ في التلخيص (ص216) بعد عزوه إلى ابن حبان والطبراني والبيهقي والبزار ما لفظه: "وفي سنده انقطاع، فإنه من رواية عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم، ولم يلقه، قاله البزار"، قيل: هو الصواب كما في تهذيب التهذيب (ج12 ص290)، وعبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين هذا هو ابن الحارث بن عامر بن نوفل المكي القرشي النوفلي من رجال الستة، ثقة عالم بالمناسك، روى عن نافع بن جبير وغيره، وروى عنه: مالك والسفيانان وغيرهم، من الخامسة، أي من صغار التابعين، وهم الذي رأوا
..............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/201)


الواحد والاثنين من الصحابة، ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة كالأعمش، وأما عبدالرحمن بن أبي حسين فذكره ابن حبان في الثقات في التابعين (ص160)، قال: عبدالرحمن بن أبي حسين يروي عن جبير بن مطعم، روى عنه سليمان بن موسى، أحسبه والد عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين المدني – انتهى. قلت: وصنيع ابن حبان وشرطه في صحيحه ومسلكه في كتاب الثقات على ما صرح به في آخره (ص308) يدل على أن حديث جبير بن مطعم من طريق سليمان بن يسار عن عبدالرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم صحيح متصل غير منقطع خلافا لما قاله البزار. قلت: حديث جبير بن مطعم هذا أخرجه الدارقطني (ص544) والبيهقي (ج9 ص296) أيضا من وجهين آخرين موصولين فيهما ضعف، أخرج أحدهما البزار، وأخرجه أحمد (ج4 ص82)، والبيهقي (ج9 ص295) من طريق سليمان بن موسى عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي أيضا منقطعة، قال البيهقي: سليمان لم يدرك جبير بن مطعم، وكذا قال ابن كثير كما في نصب الراية (ج3 ص61)، وأخرجه ابن عدي في الكامل، والبيهقي في السنن (ج9 ص296) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وضعفاه بمعاوية بن يحيى الصدفي. قال ابن عدي: هذا جميعا غير محفوظين لا يرويهما غير الصدفي، والصدفي ضعيف لا يحتج به، وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أنه موضوع بهذا الإسناد، قال ابن القيم: روي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخرين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كل أيام التشريق ذبح))، وروي من حديث جبير مطعم، وفيه انقطاع، ومن حديث أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر، قال يعقوب بن سفيان: أسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون – انتهى. وقال ابن حجر الهيثمي: والحاصل أن للحديث طرقا يقوي بعضها بعضا فهو حسن يحتج به، وبذلك قال ابن عباس وجبير بن مطعم، ونقل عن علي أيضا، وبه قال كثير من التابعين، فمن زعم تفرد الشافعي به فقد أخطأ – انتهى. وقال ابن سيرين وحميد بن عبدالرحمن: لا

(9/202)


تجوز الأضحية إلا في يوم النحر خاصة، وهو قول داود الظاهري؛ لأنها وظيفة عيد فلا تجوز إلا في يوم واحد كأداء الفطرة يوم الفطر، ولأن هذا اليوم اختص بهذه التسمية، فدل على اختصاص حكمها به، ولو جاز في الثلاثة لقيل لها أيام النحر كما قيل لها أيام الرمي وأيام منى وأيام التشريق، وأجيب عنه بأن المراد النحر الكامل، واللام يستعمل كثيرا للكمال، وقال القرطبي: التمسك بإضافة اليوم إلى النحر ضعيف مع قوله تعالى: ?ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام? [الحج: 28]، وقال ابن بطال: ليس استدلال بقوله – عليه السلام – بشيء؛ لأن النحر في أيام منى فعل الخلف والسلف، وجرى عليه العمل في جميع الأمصار – انتهى. وقال سعيد بن جبير وجابر بن زيد: إن وقته يوم النحر فقط لأهل الأمصار، وثلاثة أيام في منى؛ لأنها هناك من أيام أعمال المناسك من الرمي والطواف والحلق، فكانت
رواه مالك. وقال: بلغني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/203)


أياما للذبح بخلاف أهل الأمصار. وقال أبوسلمة بن عبدالرحمن بن عوف وسليمان بن يسار: الأضحى إلى هلال المحرم لمن استأنى بذلك، وبه قال ابن حزم. روى البيهقي (ج9 ص297) وابن حزم في المحلى (ج7 ص378-379) وابن أبي شيبة والدارقطني وأبوداود في المراسيل عن أبي سلمة وسليمان بن يسار قالا جميعا: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الأضحى إلى هلال المحرم لمن أراد أن يستأني بذلك)) وهذا مرسل ضعيف، وروى أحمد وأبونعيم في مستخرجه من طريقه، والبيهقي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف يقول: إن كان المسلمون ليشتري أحدهم الأضحية فيسمنها فيذبحها بعد الأضحى آخر ذي الحجة. قال أحمد: هذا الحديث عجيب، يشير إلى أن زيادة قوله فيذبحها بعد الأضحى آخر ذي الحجة مستنكرة. قال البيهقي: حديث أبي سلمة وسليمان مرسل، وحديث أبي أمامة حكاية عمن لم يسم – انتهى. قلت: حديث أبي أمامة ليس من قسم الحديث المرفوع ولا الموقوف، بل هو من قسم المقطوع الذي ليس بحجة بالاتفاق. والقول الراجح من هذه الأقوال الخمسة عندي هو ما ذهب إليه الشافعي للأحاديث التي ذكرناها، وهي يقوي بعضها بعضا، وقد أجاب عنه بعض من اختار القول الأول بجواب هو في غاية السقوط، وهو أنه لم يعمل بحديث جبير بن مطعم أحد من الصحابة، وقد عرفت أنه قول جماعة من الصحابة على أن مجرد ترك الصحابة من غير تصريح منهم بعدم الجواز لا يعد قادحا، أما النهي عن ادخار لحوم لأضاحي فوق ثلاث فلا يدل على أن أيام الذبح ثلاثة فقط. قال ابن القيم: لأن الحديث دليل على نهي الذابح أن يدخر شيئا فوق ثلاثة أيام من يوم ذبحه، فلو أخر الذبح إلى اليوم الثالث لجاز له الادخار ما بينه وبين ثلاثة أيام، والذين حددوه بالثلاث فهموا من نهيه عن الادخار فوق ثلاث أن أولها من يوم النحر، قالوا: وغير جائز أن يكون الذبح مشروعا في وقت يحرم فيه الأكل، قالوا: ثم نسخ تحريم الأكل فبقي وقت الذبح بحاله، فيقال لهم: إن

(9/204)


النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه إلا عن الادخار فوق ثلاث لم ينه عن التضحية بعد ثلاث، فأين أحدهما من الآخر، ولا تلازم بين ما نهي عنه وبين اختصاص الذبح بثلاث لوجهين: أحدهما أنه يسوغ الذبح في اليوم الثاني والثالث فيجوز له الادخار إلى تمام الثلاث من يوم الذبح، ولا يتم لكم الاستدلال حتى يثبت النهي عن الذبح بعد يوم النحر، ولا سبيل لكم إلى هذا الثاني، لو ذبح في آخر جزء من يوم النحر لساغ له حينئذ الادخار ثلاثة أيام بعده بمقتضى الحديث – انتهى كلام ابن القيم. هذا، وقد ذهب بعض علمائنا إلى جواز التضحية إلى آخر ذي الحجة معتمدا على أثر أبي سلمة وسليمان بن يسار وأثر أبي أمامة المذكورين في معرض الاستدلال للقول الخامس، وقد رد عليه شيخ مشايخنا الشيخ الإمام الرحلة حسين بن محسن الأنصاري رادا مشبعا في رسالة مستقلة سماها: إقامة الحجة في الرد على من ادعى جواز التضحية إلى آخر ذي الحجة، وهي ملحقة بفتاواه المطبوعة فعليك أن تطالعها. (رواه مالك) وأخرجه أيضا البيهقي وابن حزم (وقال) أي مالك (وبلغني) وفي بعض النسخ بلغني أي بغير
عن علي بن أبي طالب مثله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/205)


الواو، ولفظ الموطأ أنه بلغه (عن علي بن أبي طالب مثله) بالرفع، أي مثل مروي ابن عمر، ولم أقف على من روى أثر علي موصولا، نعم قال ابن حزم في المحلى (ج3 ص377) روينا من طريق ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمر وعن زر عن علي قال: النحر ثلاثة أيام، أفضلها أولها، قال ابن حزم: ابن أبي ليلى سيء الحفظ، والمنهال متكلم فيه – انتهى. وعزاه علي المتقي في الكنز (ج3 ص46) إلى ابن أبي الدنيا، وأخرج ابن عبدالبر في التمهيد، وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا عن علي قال: الأيام المعدودات ثلاثة أيام: يوم النحر ويومان بعده، اذبح في أيها شئت، وأفضلها أولها. واعلم أنه وقع الخلاف في جواز التضحية في ليالي أيام الذبح. فقال أبوحنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبوثور والجمهور: إنه يجوز مع كراهة. قال ابن قدامة: وهو اختيار أصحابنا المتأخرين، وقال مالك في المشهور عنه، وعامة أصحابه، ورواية عن أحمد – واختارها الخرقي -: أنه لا يجزئ، بل يكون شاة لحم. قال الشوكاني: ولا يخفى أن القول بعدم الإجزاء وبالكراهة يحتاج إلى دليل، ومجرد ذكر الأيام في حديث جبير بن مطعم وإن دل على إخراج الليالي بمفهوم اللقب لكن التعبير بالأيام عن مجموع الأيام والليالي والعكس مشهور متداول بين أهل اللغة، لايكاد يتبادر غيره عند الإطلاق – انتهى. وأما ما أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يضحى ليلا، ففي إسناده سليمان بن سلمة الخبايري، وهو متروك، كذا في مجمع الزوائد (ج4 ص23)، واستدل بعضهم لذلك بقوله تعالى: ?ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام? قالوا: فلم يذكر الليل، قال ابن حزم في الرد عليه: إن الله تعالى لم يذكر في هذه ذبحا ولا تضحية ولا نحرا، لا في نهار ولا في ليل، وإنما أمر الله تعالى بذكره في تلك الأيام المعلومات، أفترى يحرم ذكره في لياليهن؟ إن هذا لعجب، وليس هذا النص بمانع من ذكره تعالى

(9/206)


وحمده على ما رزقنا من بهيمة الأنعام في ليل أو نهار في العام كله، ولا يختلفون فيمن حلف أن لا يكلم زيدا ثلاثة أيام أن الليل يدخل في ذلك مع النهار، قال: وذكروا حديثا لا يصح، رويناه من طريق بقية بن الوليد عن مبشر بن عبيد الحلبي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الذبح بالليل. قال ابن حزم: بقية ليس بالقوي، ومبشر بن عبيد مذكور بوضع الحديث عمدا، ثم هو مرسل، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة؛ لأنهم يجيزن الذبح بالليل فيخالفونه فيما فيه ويحتجون به فيما ليس فيه، وقال قائل منهم: لما كانت ليلة النحر لا تجوز التضحية فيها، وكان يومه تجوز التضحية فيه كانت ليالي سائر أيام التضحية كذلك. قال ابن حزم: هذا القياس باطل؛ لأن يوم النحر هو مبدأ دخول وقت التضحية، وما قبله ليس وقتا للتضحية، ولا يختلفون معنا في أن من طلوع الشمس إلى أن يمضي بعد أبيضاضها وارتفاع وقت واسع من يوم النحر لا تجوز فيه التضحية، فيلزمهم أن يقيسوا على ذلك اليوم ما بعده من أيام التضحية، فلا يجيزون التضحية فيها إلا بعد مضي مثل ذلك الوقت وإلا فقد تناقضوا وظهر فساد قولهم -
1489- (22) وعن ابن عمر قال: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة عشر سنين يضحي. رواه الترمذي.
1490- (23) وعن زيد بن أرقم قال: قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله ! ما هذه الأضاحي؟ قال: ((سنة أبيكم إبراهيم – عليه السلام))، قالوا: فما لنا يا رسول الله؟ قال: ((بكل شعرة حسنة))، قالوا: فالصوف يا رسول الله؟، قال: ((بكل شعرة من الصوف حسنة))، رواه أحمد، وابن ماجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/207)


انتهى. وروى البيهقي (ج9 ص290) عن الحسن البصري قال: نهى عن جداد الليل وحصاد الليل والأضحى بالليل، وهو وإن كانت الصيغة مقتضية للرفع مرسل وأيضا في آخره "وإنما كان ذلك من شدة حال الناس، كان الرجل يفعله ليلا فنهى عنه ثم رخص في ذلك"، وهذا خلاف ما ذهب إليه مالك وأصحابه.
1489- قوله (أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة عشر سنين يضحي) أي كل سنة، واستدل به على وجوب الأضحية. قال القاري: مواظبته دليل الوجوب، وتعقب بأن مجرد مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على فعل ليس دليل الوجوب، كما لا يخفى (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص38) قال الترمذي: حديث حسن، قلت: في إسناده حجاج بن أرطاة، وهو كثير الخطأ والتدليس، ورواه عن نافع بالعنعنة.

(9/208)


1490- قوله (ما هذه الأضاحي) أي من خصائص شريعتنا أو سبقتنا بها بعض الشرائع (قال: سنة أبيكم) أي طريقته التي أمرنا باتباعها فهي من الشرائع القديمة التي قررتها شريعتنا (إبراهيم – عليه السلام) وفي بعض النسخ "صلى الله عليه وسلم" وليس في مسند الإمام أحمد والسنن لابن ماجه جملة الدعاء (فما لنا) وفي المسند "ما لنا" أي بغير الفاء (فيها) أي في الأضاحي من الثواب يا رسول الله (بكل شعرة) بالسكون والفتح (حسنة) أي فضلا عن اللحم والشحم والجلد، والباء للبدلية أو للسببية، قال الطيبي: الباء في "بكل شعرة" بمعنى في ليطابق السؤال أي أي شيء لنا من الثواب في الأضاحي؟ فأجاب: في كل شعرة منها حسنة، ولما كان الشعر كناية عن المعز كنوا عن الضأن بالصوف (قالوا: فالصوف يا رسول الله) أي فالضأن ما لنا فيه؟ فإن الشعر مختص بالمعز، كما أن الوبر مختص بالإبل. قال تعالى: ?ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين? [النحل: 80] ولكن قد يتوسع بالشعر فيعم، قال (بكل شعرة) أي طافة (من الصوف حسنة) فكذا بكل وبرة حسنة. (رواه أحمد) (ج4 ص386) (وابن ماجه) وأخرجه أيضا البيهقي (ج9 ص261)، وذكره المنذري في الترغيب، وقال: رواه ابن ماجه والحاكم
(49) باب العتيرة
?الفصل الأول?
1491- (1) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا فرع ولا عتيرة)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/209)


وغيرهما كلهم عن عائذ الله عن أبي داود عن زيد بن أرقم. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، قال المنذري: بل واهية، عائذ الله هو المجاشعي، وأبوداود هو نفيع بن الحارث الأعمى، وكلاهما ساقط – انتهى. وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده أبوداود نفيع بن الحارث، وهو متروك واتهم بوضع الحديث، وحكى البيهقي عن البخاري أنه قال: عائذ الله المجاشعي عن أبي داود لا يصح حديثه، وقال ابن التركماني: أبوداود نفيع متروك، ذكره الذهبي في كتابيه الكاشف والضعفاء.

(9/210)


(باب العتيرة) بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وسكون التحتية بعدها راء فهاء تأنيث، بوزن عظيمة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي النسيكة أي الذبيحة التي تعتر أي تذبح، وكانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب ويسمونها الرجبية، كما في حديث محنف الآتي، ونقل النووي اتفاق العلماء على تفسير العتيرة بهذا. وفيه نظر فقد قال أبوعبيد: العتيرة ذبيحة كانوا يذبحونها في الجاهلية في رجب يتقربون بها لأصنامهم. وقال غيره: العتيرة نذر كانوا ينذرونه من بلغ ماله كذا أن يذبح من كل عشرة منها رأسا في رجب. وذكر ابن سيدة: أن العتيرة إن الرجل كان يقول في الجاهلية: إن بلغ إبلي مائة عترت منها عتيرة، زاد في الصحاح في رجب. وقال الترمذي: العتيرة ذبيحة كانوا يذبحونها في رجب يعظمون شهر رجب؛ لأنه أول شهر من أشهر الحرم. وأما الفرع المذكور في الحديث، وهو بفتح الفاء والراء بعدها عين مهملة. ويقال فيه الفرعة – بالهاء – فاختلف في تفسيره أيضا. فقيل: هو أول نتاج البهيمة الناقة أو الشاة، كان أهل الجاهلية يذبحونه يطلبون به البركة في أموالهم ولا يملكونه رجاء البركة فيما يأتي بعده أي في كثرة نسلها، هكذا فسره كثيرون من أهل اللغة وجماعة من أهل العلم. منهم الشافعي كما في السنن الكبرى (ج9 ص313) للبيهقي. وقيل: هو أول النتاج كانوا يذبحونه لآلهتهم، وهي طواغيتهم، هكذا جاء تفسيره في آخر حديث أبي هريرة الآتي. وقيل: هو أول النتاج لمن بلغت إبله مائة يذبحونه، قال شمر: قال مالك: كان الرجل إذا بلغت إبله مائة قدم بكرا فنحره لصمنه ويسمونه الفرع.
1491- قوله (لا فرع ولا عتيرة) هكذا جاء بلفظ النفي، والمراد به النهي، وقد ورد بصيغة النهي في
قال: والفرع: أول نتاج كان ينتج لهم، كانوا يذبحونه لطواغيتهم، والعتيرة: في رجب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/211)


رواية للنسائي، وللإسماعيلي بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووقع في رواية لأحمد: لا فرع ولا عتيرة في الإسلام، كذا في الفتح، وقيل: لعل صيغة النهي في رواية النسائي والإسماعيلي من بعض الرواة لزعمه أن المراد بالنفي النهي على أنه من قبيل قوله: ?فلا رفث ولا فسوق?، فعبر بالنهي لقصد النقل بالمعنى، والله تعالى أعلم. (قال: والفرع) قيل: هذا التفسير من سعيد بن المسيب، ففي سنن أبي داود من رواية عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: الفرع أو النتاج... الحديث، جعله موقوفا على سعيد بن المسيب، وقال الخطابي: أحسب التفسير فيه من قول الزهري. قال الحافظ: قد صرح عبدالمجيد بن أبي رواد عن معمر فيما أخرجه أبوقرة موسى بن طارق في السنن له بأن تفسير الفرع والعتيرة من قول الزهري. (أول نتاج) بكسر النون بعدها مثناة خفيفة وآخره جيم. (كان ينتج لهم) بضم أوله وفتح ثالثه، يقال: نتجب الناقة – بضم النون وكسر التاء الفوقية -، ولا يستعمل هذا الفعل إلا هكذا وإن كان مبنيا للفاعل. (كانوا) في الجاهلية (يذبحونه لطواغيتهم) أي لأصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، جمع طاغوت. وقيل: جمع طاغية ما كانوا يعبدونه من الأصنام وغيرها، زاد أبوداود عن بعضهم: ثم يأكلونه ويلقى جلده على الشجر، وفيه إشارة إلى علة النهي، واستنبط منه الجواز إذا كان الذبح لله جمعا بينه وبين أحاديث جواز الفرع (والعتيرة) بالرفع (في رجب) أي شاة كانت تذبح في رجب، واعلم أنه اختلفت الأحاديث في حكم الفرع والعتيرة، فبعضها يدل على المنع، وهو حديث أبي هريرة هذا، وحديث ابن عمر عند ابن ماجه، وبعضها يدل على تأكد أمرهما، وهو حديث محنف الآتي، وحديث نبيشة الهذلي عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه والحاكم (ج4 ص236) والبيهقي (ج9 ص312)، وحديث عائشة عند أبي داود والحاكم والبيهقي وعبدالرزاق، وحديث أنس وابن عمر عند الطبراني في الأوسط، وحديث

(9/212)


عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود والنسائي والحاكم والبيهقي. وبعضها يدل على مجرد الجواز والإباحة من غير تأكد، وهو حديث الحارث بن عمرو عند أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي، وحديث أبي رزين العقيلي عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن حبان، وحديث يزيد بن عبدالله المزني عن أبيه عند الطبراني في الكبير والأوسط، وحديث سمرة عند الطبراني في الكبير، وحديث ابن عباس عند الطبراني أيضا، ذكر أكثر هذه الأحاديث الشوكاني في النيل، والعيني والحافظ في شرحيهما للبخاري، والنووي في شرح مسلم، واختلف العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث والروايات القاضية بالمنع. فقيل: إنه يجمع بينها بحمل أحاديث الجواز على الندب، وأحاديث المنع على نفي الوجوب، قال الشافعي بعد تفسير الفرع بما حكينا عنه فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عما كانوا يصنعون في الجاهلية خوفا أن يكره في الإسلام فأعلمهم أنه لا كراهة عليهم فيه، وأمرهم اختيارا واستحبابا أن يتركوه حتى يحمل عليه في سبيل الله، وقوله: ((الفرع
..............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/213)


حق)) في حديث عبدالله بن عمرو، أي ليس بباطل، وهو كلام عربي خرج على جواب السائل ولا مخالفة بينه وبين حديث: ((لا فرع ولا عتيرة))، فإن معناه لا فرع واجب ولا عتيرة واجبة. وقيل: النهي موجه إلى ما كانوا يذبحونه لأصنامهم، فيكون المنع غير متناول لما ذبح من الفرع والعتيرة لغير ذلك مما فيه وجه قربة. وقيل: المراد بالنفي المذكور أنهما ليسا كالأضحية في تأكد الاستحباب أو في ثواب إراقة الدم، فأما تفرقة اللحم على المساكين فبر وصدقة، والجمع الأول أولى. وقال النووي: نص الشافعي في حرملة على أن الفرع والعتيرة مستحبان، ويؤيده حديث نبيشة قال: نادى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ قال: ((اذبحوا لله في أي شهر كان))، قال: إنا نفرع في الجاهلية. قال: ((في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه فإن ذلك خير))، وفي رواية: ((السائمة مائة))، ففي هذا الحديث أنه – عليه السلام – لم يبطل الفرع والعتيرة من أصلهما وإنما أبطل صفة من كل منهما، فمن الفرع كونه يذبح أول ما يولد ومن العتيرة خصوص الذبح في شهر رجب. وقال ابن قدامة: المراد بحديث أبي هريرة نفي كونها سنة لا تحريم فعلها ولا كراهته فلو ذبح إنسان ذبيحة في رجب أو ذبح ولد الناقة لحاجته إلى ذلك أو للصدقة به وإطعامه لم يكن ذلك مكروها. وذهب جماعة إلى أن أحاديث الجواز منسوخة بأحاديث المنع. قال ابن المنذر: النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل، وما قال أحمد أنه كان ينهى عنهما ثم أذن في فعلهما. وقال ابن قدامة: حديث أبي هريرة في النهي متأخر عن الأمر بها فيكون ناسخا، ودليل تأخره أمران: أحدهما أن راويه أبوهريرة، وهو متأخر الإسلام فإنه أسلم عند فتح خيبر سنة سبع من الهجرة. والثاني أن فعل الفرع والعتيرة كان أمرا متقدما على الإسلام، فالظاهر بقاؤهم إلى حين نسخه واستمرار النسخ من غير رفع له، ولو

(9/214)


قدرنا تقدم النهي على الأمر بها لكانت قد نسخت ثم نسخ ناسخها، وهذا خلاف الظاهر – انتهى. هكذا قرر النسخ ولا يخفى ما فيه، وادعى عياض أن جماهير العلماء على النسخ، وبه جزم الحازمي، وما تقدم نقله عن الشافعي يرد عليهم، وقد كان ابن سيرين يذبح العتيرة في رجب، وقال وكيع بن عدس – راوي حديث أبي رزين -: لا أدعه، وجزم أبوعبيد بأن العتيرة تستحب، ونقل الطحاوي عن ابن عون أنه كان يفعله، وفي هذا تعقب على من قال إن ابن سيرين تفرد بذلك، وقال في شرح السنة: كانوا يذبحون الفرع لآلهتهم في الجاهلية، وقد كان المسلمون يفعلونه في بدء الإسلام، أي لله سبحانه ثم نسخ ونهي عنه أي للتشبه. وقال القاري: الظاهر أن حديث نبيشة كان في صدر الإسلام ثم وقع النهي العام للتشبه بأهل الأصنام – انتهى. قلت: أعدل الأقوال عندي هو الجمع بين الأحاديث بما ذكره الشافعي ومن وافقه،
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1492- (2) عن مخنف بن سليم قال: كنا وقوفا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، فسمعته يقول: ((يا أيها الناس ! إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن الجزم بالنسخ لا يجوز إلا بعد ثبوت أن أحاديث المنع متأخرة، ولم يثبت هذا العدم العلم بالتاريخ، ولأن المصير إلى الترجيح مع إمكان الجمع لا يجوز، وقد تأيد ما ذكره الشافعي من وجه الجمع بأحاديث نبيشة وعائشة وعبدالله بن عمرو وغيرهم، والله تعالى أعلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج9 ص313) وغيرهم.

(9/215)


1492- قوله (عن مخنف) بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح النون كمنبر (بن سليم) بالتصغير – ابن الحارث بن عوف الأزدي الغامدي، أسلم وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل الكوفة بعد ذلك، واستعمله علي بن أبي طالب على أصبهان وكان معه راية الأزد يوم صفين، وكان ممن خرج مع سليمان بن صرد في وقعة عين الوردة، وقتل بها سنة (64). (كنا وقوفا) بضم الواو أي وافقين (بعرفة) يعني في حجة الوداع، كذا في جميع النسخ بعرفة، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج4 ص121)، وفي الترمذي وأبي داود "بعرفات". (إن علي كل أهل بيت) قال السندي في حاشية النسائي: ظاهره الوجوب لكنهم حملوه على الندب المؤكد – انتهى. قلت: هذا الحديث من جملة الأدلة التي تمسك بها من قال بوجوب الأضحية، وقد تقدم الكلام على ذلك. وقال ابن الجوزي: هذا الحديث متروك الظاهر، إذ لا يسن العتيرة أصلا، ولو قلنا بوجوب الأضحية كانت على الشخص الواحد لا على جميع أهل البيت – انتهى. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: ((إن على كل أهل بيت)) مقتضاه أن الأضحية الواحدة تكفي عن تمام أهل البيت، ويوافقه ما رواه الترمذي عن أبي أيوب: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس، فصارت كما ترى، وقال: هذا حديث حسن صحيح، قال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: لا تجزئ الشاة الواحدة إلا عن نفس واحدة، وهو قول عبدالله بن المبارك وغيره من أهل العلم. وقال ابن العربي في شرحه في قوله الثاني: الآثار الصحاح ترد عليه – انتهى. (وعتيرة) قال القاري: وهي شاة تذبح في رجب يتقرب بها أهل الجاهلية (لأصنامهم) والمسلمون في صدر الإسلام (لله سبحانه)، قال الخطابي: وهذا هو الذي يشبه معنى الحديث، ويليق بحكم الدين، وأما العتيرة التي يعترها أهل الجاهلية فهي

(9/216)


هي التي تسمونها الرجبية)). رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب ضعيف الإسناد، وقال أبوداود: والعتيرة منسوخة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذبيحة التي كانت تذبح للأصنام، ويصب دمها على رأسها، في النهاية: كانت العتيرة بالمعنى الأول في صدر الإسلام ثم نسخ - أي للتشبه بأهل الأصنام -، (هي التي تسمونها الرجبية) أي الذبيحة المنسوبة إلى رجب لوقوعها فيه. (رواه الترمذي...)الخ، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص215) و(ج5 ص76)، وابن أبي شيبة وأبويعلى والبزار والبيهقي والطبراني كلهم من طريق ابن عون عن عامر أبي رملة عن مخنف. (وقال الترمذي: هذا حديث غريب ضعيف الإسناد) فيه نظر؛ لأن عبارة الترمذي هكذا "هذا حديث حسن غريب، لا نعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه من حديث ابن عون"- انتهى. وهذا كما ترى ليس فيه الحكم بضعف إسناد هذا الحديث، وهكذا وقع هذا الكلام في جميع النسخ الحاضرة للترمذي، وكذا نقله الزيلعي في نصب الراية (ج4 ص211) والمنذري في مختصر السنن (ج3 ص92) والمجد ابن تيمية في المنتقى. قال ميرك: وكذا نقله عنه صاحب التخريج – انتهى. وقال الحافظ في بحث الفرع والعتيرة من الفتح (ج22 ص283): ضعفه الخطابي، لكن حسنه الترمذي، وجاء من وجه آخر عند عبدالرزاق عن مخنف بن سليم – انتهى. قلت: وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في بحث حكم الأضحية من الفتح (ج23 ص323): أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي – انتهى. وقال أبوبكر المعافري: حديث مخنف بن سلم ضعيف لا يحتج به، وقال الزيلعي (ج4 ص211): قال عبدالحق: إسناده ضعيف، قال ابن القطان: وعلته الجهل بحال أبي رملة، واسمه عامر، فإنه لا يعرف إلا بهذا، يرويه عنه ابن عون، وقدر رواه عنه – أي عن مخنف – أيضا ابنه حبيب، وهو مجهول أيضا، قال الزيلعي: رواه من هذه الطريق عبدالرزاق في مصنفه: أخبرنا ابن جريج أخبرني عبدالكريم عن حبيب بن مخنف بن سليم عن

(9/217)


أبيه، ومن طريق عبدالرزاق رواه الطبراني في معجمه – انتهى. قلت: وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص76) من طريق عبدالرزاق، لكن وقع فيه التصريح بكون حبيب بن مخنف صحابيا، وهو وهم، وفي الإسناد عبدالكريم بن أبي المخارق، وهو متروك، وإنما هو عن حبيب بن مخنف عن أبيه، قال أبونعيم: وهو الصواب، قال: وكان عبدالرزاق يرويه مرة مجردا ومرة لا يقول عن أبيه، وقال ابن عبدالبر في ترجمة حبيب هذا بعد ذكر حديثه من طريق عبدالرزاق وأبي عاصم لا يصح حديثه قال: إلا أن عبدالرزاق قال: لا أدري أعن أبيه أم لا – انتهى. وهذا وجه ثالث عن عبدالرزاق، والرواية المشهورة إنما هي طريق ابن عون عن أبي رملة عن مخنف، وأبورملة مجهول، فالظاهر أن الترمذي إنما حسن هذا الحديث لشواهدة. (وقال أبوداود والعتيرة منسوخة) وفي بعض النسخ: العتيرة
?الفصل الثالث?
1493- (3) عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت بيوم الأضحى عيدا جعله الله لهذه الأمة، قال له رجل: يا رسول الله ! أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى، أفأضحي بها؟ قال: لا، ولكن خذ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بلا واو، وكذا في أبي داود، وقد تقدم أن جماعة من أهل العلم ذهبت إلى أن الأمر بالعتيرة منسوخ بأحاديث المنع، وأن القاضي عياضا ادعى أن جماهير العلماء على ذلك، وقد تقدم بيان ما هو الحق في ذلك.

(9/218)


1493- قوله (عن عبدالله بن عمرو) بالواو (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي لرجل كما في رواية النسائي، وللحاكم والبيهقي: إن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت بيوم الأضحى) أي بجعله (عيدا جعله الله) أي يوم الأضحى (لهذه الأمة) أي عيدا، قال السندي: ظاهر السوق أن قوله ((أمرت)) على بناء المفعول للخطاب أو بناء الفاعل للمتكلم، أي أمرتك أو أمرت الناس، ويحتمل أنه على بناء المفعول للمتكلم، والمعنى: أمرت بالتضحية في يوم الأضحى حال كونه عيدا أو يوم الأضحى أن أتخذه عيدا، والمعنى الأول أقرب إلى قول الرجل – انتهى. وقال الطيبي: قوله "عيدا" منصوب بفعل يفسره ما بعده، أي بأن أجعله عيدا، وقوله "جعله الله لهذه الأمة" حكم ذكر بعد ما يشعر بالوصف المناسب، وهو قوله يوم الأضحى؛ لأن فيه معنى التضحية، كأنه قيل: حكم الله على هذه الأمة بالتضحية يوم العيد، ومن ثم حسن قول الصحابي: أرأيت...الخ – انتهى. قال القاري: وهو تكلف مستغنى عنه، فإن الشيء بالشيء يذكر، فلما ذكر – عليه الصلاة والسلام – إنه مأمور بجعل ذلك اليوم عيدا وكان من أحكام ذلك اليوم حكم التضحية والأضاحي (قال له رجل) وفي أبي داود: قال الرجل، وكذا عند النسائي والحاكم والبيهقي (أرأيت) أي أخبرني (إن لم أجد إلا منيحة) في النهاية: المنيحة أن يعطي الرجل الرجل ناقة أو شاة ينتفع بلبنها ثم يعيدها، وكذا إذا أعطى لينتفع بصوفها ووبرها زمانا ثم يردها، والمعنى: لي ناقة أو شاة ذات لبن أنتفع به وأعطيه غيري. وقال السندي: أصل المنيحة ما يعطيه الرجل غيره ليشرب لبنها ثم يردها عليه ثم يقع على كل شاة أو ناقة؛ لأن من شأنها أن تمنح بها وهو المراد ههنا. (أنثى) قيل: وصف منيحة بأنثى يدل على أن المنيحة قد تكون ذكرا وإن كان فيها علامة التأنيث، كما يقال: حمامة ذكر وحمامة أنثى، وزاد في رواية الحاكم: أو شاة أهلي

(9/219)


ومنيحتهم. (أفاضحي بها؟ قال: لا) قال الطيبي: إنما منعه لأنه لم يكن عنده شيء سواها ينتفع به. قال السندي: ويحتمل أن المراد بالمنيحة ههنا ما أعطاه غيره ليشرب اللبن ومنعه؛ لأنه ملك الغير وقول الرجل لزعمه أن المنحة لا ترد ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - المنحة مردودة، والله تعالى أعلم. (ولكن خذ) كذا في جميع النسخ بصيغة
من شعرك وأظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله)) رواه أبوداود، والنسائي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/220)


الأمر، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج4 ص123)، وفي أبي داود والنسائي: "تأخذ" بصيغة المضارع، قال السندي: كأنه أرشده إلى أن يشارك المسلمين في العيد والسرور وإزالة الوسخ، فذاك يكفيه إذا لم يجد الأضحية (من شعرك) قال القاري: المراد به الجنس أي من أشعارك (وأظفارك) وفي رواية النسائي: وتقلم أظفارك (وتقص شاربك) قال القاري: خبر بمعنى الأمر ليكون عطفا على ما قبله، وكذا الحكم فيما بعده من قوله: ((وتحلق عانتك)) – انتهى. قلت: قد تقدم أن لفظ أبي داود والنسائي: تأخذ من شعرك، وهذا يدل على أن ما وقع في نسخ المشكاة تبعا للجزري خطأ، وعلى هذا فلا حاجة إلى التأويل المذكور، ولفظ الحاكم والبيهقي: ولكن قلم أظفارك وقص شاربك واحلق عانتك. (فذلك) أي ما ذكر من الأفعال، ولفظ أبي داود: فتلك، أي الأفعال المذكورة (تمام أضحيتك عند الله) أي أضحيتك تامة بنيتك الخالصة ولك بذلك مثل ثواب الأضحية، قاله القاري، وقال السندي: أي هو ما يتم به أضحيتك بمعنى أنه يكت لك به أضحية تامة لا بمعنى أن لك أضحية ناقصة إن لم تفعل ذلك وإن فعلته تصير تامة، والله تعالى أعلم. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا الحاكم (ج4 ص223) والبيهقي (ج9 ص264) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، والحديث غير مطابق للباب، فإنه ليس فيه ذكر العتيرة، وكان حقه أن يذكر في باب الأضحية، ثم إنه ههنا مسائل تتعلق بالأضحية ينبغي لنا أن نذكرها مختصرا تكميلا للفائدة. أحدها: متى تصير الأضحية أضحية؟ فقال مالك: إذا اشترى شاة أو غيرها بنية الأضحية صارت أضحية. وقال الحنفية: أضحية الفقير تتعين بالشراء له، فليس له أن يستبدلها بغيرها ولا ينتفع بدرها وصوفها بعد ذلك ولو فعل لزمه قيمته، وأما أضحية الغني فلا تتعين بنفس الشراء له، وله أن يستبدلها بغيرها وينتفع بها وبدرها ويربح فيها إن شاء، إلا أنه إذا عينها بعد ذلك ليس له الانتفاع

(9/221)


بها. وقال أحمد والشافعي: لا تتعين الأضحية بمجرد الشراء بنيتها حتى يقول: هذه أضحية، فالذي تتعين به الأضحية عندهما هو القول دون النية؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة فلا تؤثر فيه النية المقارنة للشراء كالعتق والوقف. وقال الشوكاني في السيل الجرار: ليس في مصير الأضحية أضحية بمجرد الشراء بالنية دليل يقوم به الحجة، ويجب المصير إليه والعمل به، قال: والظاهر أنه إذا ذبحه بنية الأضحية وفى بما عليه وصار فاعلا لما شرعه الله تعالى لعباده من الضحايا – انتهى. الثانية: ما يفعل بولد الأضحية إذا ولدته بعد التعيين؟ فقال ابن قدامة: ولدها تابع لها حكمه حكمها سواء كان حملا حين التعيين أو حدث بعده، وبهذا قال الشافعي، وعن أبي حنيفة: لا يذبحه ويدفعه إلى المساكين حيا، وإن ذبحه دفعه إليهم مذبوحا، وأرش ما نقصه الذبح؛ لأنه من نمائها فلزمه دفعه إليهم
............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/222)


على صفته كصوفها وشعرها، قال: ولنا أن استحقاق ولدها حكم يثبت للولد بطريق السراية من الأم، فيثبت له ما يثبت لها كولد أم الولد والمدبرة إذا ثبت هذا فإنه يذبحه كما يذبحها؛ لأنه صار أضحية على وجه التبع لأمه ولا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ولا تأخيره عن أيامه كأمه. وقد روي عن علي – رضي الله عنه – أن رجلا سأله فقال: يا أمير المؤمنين إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها، وإنها وضعت هذا العجل، فقال علي: لا تحلبها إلا فضل عن تيسير ولدها، فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعة. رواه سعيد بن منصور عن أبي الأحوص العبسي عن المغيرة بن حذف عن علي. الثالثة: حكم لبنها وصوفها وشعرها، قال ابن قدامة: لا يشرب من لبنها إلا الفاضل عن ولدها، فإن لم يفضل عنه شيء أو كان الحلب يضر بها أو ينقص لحمها لم يكن له أخذه، وإن لم يكن كذلك فله أخذه والانتفاع به، وبهذا قال الشافعي. وقال أبوحنيفة: لا يحلبها ويرش على الضرع الماء حتى ينقطع اللبن، فإن احتلبها تصدق به؛ لأن اللبن متولد من الأضحية الواجبة فلم يجز للمضحي الانتفاع به كالولد. قال ابن قدامة: ولنا قول علي المذكور، ولأنه انتفاع لا يضرها فأشبه الركوب ويفارق الولد فإنه يمكن إيصاله إلى محله، أما اللبن فإن حلبه وتركه فسد وإن لم يحلبه تعقد الضرع وأضر بها فيجوز له شربه وإن تصدق به كان أفضل، وإن احتلب ما يضر بها أو بولدها لم يجز، وعليه أن يتصدق به، فإن قيل: فصوفها وشعرها ووبرها إذا جزه تصدق به ولم ينتفع به، فلم أجزتم له الانتفاع باللبن؟ قلنا: الفرق بينهما بوجهين: أحدهما أن لبنها يتولد من غذائها وعلفها، وهو القائم به، فجاز صرفه إليه، كما أن المرتهن إذا علف الرهن كان له أن يحلب ويركب وليس له أن يأخذ الصوف ولا الشعر. الثاني: أن الشعر والصوف ينتفع به على الدوام فجرى مجرى جلدها وأجزائها، واللبن يشرب ويؤكل شيئا فشيئا فجرى مجرى منافعها وركوبها، ولأن اللبن يتجدد كل يوم،

(9/223)


والصوف والشعر عين موجودة دائمة في جميع الحول. الرابعة: حكم إبدال الأضحية وبيعها، فقال أحمد: يجوز أن تبدل بخير منها، وبه قال عطاء ومجاهد وعكرمة ومالك وأبوحنيفة ومحمد بن الحسن. وقال أبويوسف والشافعي وأبوثور: لا يجوز بيعها ولا إبدالها؛ لأنه قد جعلها لله تعالى فلم يملك التصرف فيها بالبيع، والإبدال كالوقف، وقال القاضي: يجوز أن يبيعها ويشتري خيرا منها، وهو قول عطاء ومجاهد وأبي حنيفة، واستدلوا بإشراكه - صلى الله عليه وسلم - عليا – رضي الله عنه – في هديه، قالوا: هذا نوع من الهبة أو بيع، وهذا الاستدلال خارج عن محل النزاع كما بينه في النيل (ج4 ص330)، ويؤيد من قال بجواز بيع الأضحية ما روي عن ابن عباس في الرجل يشتري البدنة أو الأضحية فيبيعها ويشتري أسمن منها فذكر رخصة، رواه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: رجاله ثقات، ويؤيدهم أيضا ما رواه الترمذي وأبوداود عن حكيم بن حزام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه يشتري له أضحية بدينار فاشترى أضحية فأربح فيها دينارا فاشترى أخرى مكانها فجاء بالأضحية والدينار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/224)


فقال: ((ضح بالشاة وتصدق بالدينار))، لكن في سنده عند الترمذي انقطاع، وعند أبي داود شيخ مجهول، وقال الحنفية: يجوز للغني بيع الأضحية ما لم يعين، وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الغني لكون الأضحية واجبة عليه، والفرق بين الفقير والغني في الأحكام منوط على وجوبها في الذمة وعدم وجوبها، فلم يكن بأس في بيع حكيم أول المشتراتين لعدم تعينها للتضحية، وطاب الفضل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه أمر بتصدقه؛ لكونه حصل بربح دينار نوى صرفه في سبيل الله بطريق الأضحية يعني أنه قد خرج عنه للقربة لله تعالى في الأضحية، فكره أكل ثمنها. وقال الشوكاني في السيل الجرار: ليس في ثبوت هذه الأحكام التي ذكرها المصنف – صاحب حدائق الأزهار – من أنه لا ينتفع بالأضحية... إلى آخر ما ذكره من ذلك دليل يقوم به الحجة، ويجب المصير إليه والعمل به، فإن كان قياسا للأضحية على الهدي وإن كان الباب مختلفا فلا بأس بذلك، فإنه قد ورد في الهدي إن المهدي إذا خشي عليه موتا فلينحره، ولا يطعمه هو ولا أحد من رفقته، كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي قبيصة، وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث ناجية الخزاعي، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم في هدي التطوع...إلى آخر كلامه في سننه، وورد في منع بيع الهدي ما أخرجه أحمد وأبوداود، والبخاري في تاريخه، وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما عن ابن عمر قال: أهدى عمر نجيبا فأعطي بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيبا فأعطيت بها ثلاثمائة دينار فأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال: ((لا، انحرها إياها))، فالحاصل أنه إن صح قياس الأضحية على الهدي فذاك وإلا فالأصل عدم ثبوت شيء من هذه الأحكام، ومما يدل على اختلاف البابين أنه قال في الضحايا: كلوا وادخروا وايتجروا – انتهى. ولا يجوز إبدالها بدونها ولا خلاف في هذا،

(9/225)


ولا يجوز بمثلها أيضا لعدم الفائدة في هذا. الخامسة: إذا تلفت الأضحية أو ضلت أو سرقت بغير تفريط منه: قال ابن قدامة: لا ضمان عليه؛ لأنها أمانة في يده فإن عادت إليه – في صورة الضلال أو السرقة – ذبحها سواء كان في زمن الذبح أو فيما بعده – انتهى. وقال الشوكاني في السيل الجرار في شرح قول صاحب حدائق الأزهار "فإن فاتت أو تعيبت بلا تفريط لم يلزم البدل" ما لفظه: "قد قدمنا أن الأدلة تدل على وجوب الأضحية، فهذه التي اشتراها إذا تلفت أو تعيبت بنى الخطاب عليه في الوفاء بما هو واجب عليه إن كان قائلا بالوجوب، وإنما هو سنة إن كان يرى أنها سنة، فكون مجرد التلف مسقطا للأضحية مسوغا لعدم إبدال ما تلف محتاج إلى دليل، وكيف يصح والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإعادة الذبح لمن كان ذبحها قبل الصلاة، فلينظر ما وجه كلام المصنف، فإن هذا مع كونه خلاف الدليل يخالف حكم الهدي، فيكون قادحا في القياس مع أنه لا وجه لثبوت ما ذكره من أحكام الأضحية إلا مجرد القياس على الهدي كما قدمنا، وأيضا مما يقدح في ذلك القياس تجويز المصنف للبيع ولإبدال مثل وأفضل مع ما تقدم في الهدي من نهيه - صلى الله عليه وسلم - لعمر عن
.................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/226)


البيع وأمره بأن يذبح النجيبة – انتهى. السادسة: ما يفعل بالأضحية إذا فات وقت الذبح. فقال أبوحنيفة: يسلمها إلى الفقراء ولا يذبحها، فإن ذبحها فرق لحمها وعليه أرش ما نقصها الذبح؛ لأن الذبح قد سقط بفوات وقته. وقال ابن قدامة: يذبح الواجب قضاء ويصنع ما يصنع بالمذبوح في وقته، وهو مخير في التطوع، فإن فرق لحمها كانت القربة بذلك دون الذبح لأنها شاة لحم وليست أضحية، وبهذا قال الشافعي: قال ابن قدامة: إن الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كتفرقة اللحم وذلك أنه لو ذبحها في الأيام ثم خرجت قبل تفريقها فرقها بعد ذلك ويفارق الوقوف والرمي؛ لأن الأضحية لا تسقط بفواتها بخلاف ذلك – انتهى. السابعة: ما يفعل بالأضحية إذا مات صاحبها وعليه دين لا وفاء له. فقال ابن قدامة: لم يجز بيعها وبهذا قال أبوثور ويشبه مذهب الشافعي وقال الأوزاعي: إن ترك دينا لا وفاء له إلا منها بيعت فيه. وقال مالك: إن تشاجر الورثة فيها باعوها. قال ابن قدامة: ولنا أنه تعين ذبحها فلم يصح بيعها في دينه كما لو كان حيا، إذا ثبت هذا فإن ورثته يقومون مقامه في الأكل والصدقة والهدية؛ لأنهم يقومون مقام مورثهم فيما له وعليه. قلت: الظاهر عندي هو ما ذهب إليه الأوزاعي ثم ما ذهب إليه مالك؛ لأن الدين حق العبد وهو أوجب وألزم من الأضحية إن كانت واجبة. الثامنة: حكم لحم الأضحية: فالمستحب عند الحنابلة تثليثه. قال أحمد: نحن نذهب إلى حديث عبدالله – ابن مسعود – يأكل هو الثلث ويطعم من أراد الثلث، ويتصدق على المساكين بالثلث، وعن ابن عمر قال: الضحايا والهدايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين، وروي عن ابن عباس في صفة أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلث ويتصدق على السؤال بالثلث، رواه الحافظ أبوموسى الأصفهاني في الوظائف، وقال: حديث حسن. وقال تعالى: ?فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر? [الحج: 36]،

(9/227)


والقانع: السائل، والمعتر: الذي يعتريك أي يعترض لك لتطعمه فلا يسأل، فذكر ثلاثة أصناف، فينبغي أن يقسم بينهم أثلاثا، وبهذا قال إسحاق بن راهويه، وهو أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر: يجعلها نصفين، يأكل نصفا ويتصدق بنصف لقوله تعالى: ?فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير? [الحج: 28]، وقال أصحاب الرأي: ما كثر من الصدقة فهو أفضل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى مائة بدنة وأمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل هو وعلي من لحمها وحسيا من مرقها، ونحر خمس أو ست بدنات، وقال: من شاء فيقتطع ولم يأكل منهن شيئا. قال ابن قدامة: الأمر في هذا واسع، فلو تصدق بها كلها أو بأكثرها جاز، وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز، وقال أصحاب الشافعي: يجوز أكلها كلها. قال ابن قدامة: ولنا أن الله تعالى قال: ?فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر?، وقال: ?وأطعموا البائس الفقير?، والأمر يقتضي الوجوب. وقال بعض أهل العلم: يجب الأكل منها ولا يجوز الصدقة بجميعها للأمر بالأكل منها، ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر خمس بدنات ولم يأكل منهن شيئا، وقال: من شاء فليقطع، ولأنها ذبيحة يتقرب بها إلى الله تعالى
(50) باب صلاة الخسوف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/228)


فلم يجب الأكل منها كالعقيقة، والأمر للاستحباب أو للإباحة كالأمر بالأكل من الثمار والزرع والنظر إليها – انتهى. التاسعة: حكم جلد الأضحية: فقال أحمد: لا يجوز أن يبيعه ولا شيئا منها، واجبة كانت أو تطوعا، له أن ينتفع بجلدها من غير بيع، وهو مذهب الشافعي، ورخص الحسن والنخعي في الجلد أن يبيعه ويشتري به الغربال والمنخل أو آلة البيت، وروي نحو هذا عن الأوزاعي؛ لأنه ينتفع به هو وغيره، فجرى مجرى تفريق اللحم، وقال أبوحنيفة: يبيع ما شاء منها ويتصدق بثمنه، وروي عن ابن عمر أنه يبيع الجلد ويتصدق بثمنه، والراجح هو ما ذهب إليه الشافعي وأحمد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي وكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها، وإن أطعمتم من لحومها شيئا فكلوه إن شئتم)) أخرجه أحمد، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج4 ص26): هو مرسل صحيح الإسناد، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من باع جلد أضحيته فلا أضحية له)) أخرجه الحاكم (ج4 ص389)، والبيهقي من حديث أبي هريرة، قال الحاكم: صحيح الإسناد. قلت: فيه عبدالله بن عياش، وقد ضعفه أبوداود والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له مسلم في الشواهد، وقال أبوحاتم: صدوق ليس بالمتين يكتب حديثه، هو قريب من ابن لهيعة، ولقول علي – رضي الله عنه -: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه وأقسم جلودها وجلالها، وأمرني أن لا أعطي الجزار منها شيئا، وقال: ((نحن نعطيه من عندنا))، أخرجه الجماعة إلا الترمذي، قال الزيلعي في نصب الراية والمصنف يعني صاحب الهداية: احتج بحديث أبي هريرة وعلي – رضي الله عنه – على كراهة بيع جلد الأضحية مع جوازه، وهو خلاف ظاهر اللفظ، وقد احتج ابن الجوزي بظاهر حديث علي – رضي الله عنه – على التحريم – انتهى.

(9/229)


(باب صلاة الخسوف) أي للشمس والقمر، قال أهل اللغة: خسوف العين ذهابها وغيبوبتها وغورها، أي دخولها في الرأس، وخسوف المكان ذهابه في الأرض، وخسوف الشيء نقصانه، وخسوف القمر ذهاب ضوئه، والخسف أيضا الذل، والكسوف التغير إلى السواد، ومنه كسف وجهه إذا تغير، وكسفت الشمس أي اسودت وذهب شعاعها، والمشهور على ألسنة الفقهاء استعمال الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، واختاره ثعلب أيضا، قال في الفصيح: إن كسفت الشمس وخسف القمر أجود الكلامين، وذكر الجوهري في الصحاح: إنه أفصح، وعلى هذا فكان الأولى للمؤلف أن يقول: الكسوف، بدل الخسوف، فإن أحاديث الباب كلها وردت في كسوف الشمس، أو يقول: الكسوف والخسوف؛ لأن حكمهما واحد في أكثر المسائل عند الفقهاء، وقيل: أتى بلفظ الخسوف تنبيها على أن الخسوف يستعمل في الشمس والقمر كما يستعمل الكسوف فيهما، واختيارا لما دلت عليه الأحاديث أنه يقال بهما في كل منهما، قال القسطلاني: الأصح أن الكسوف والخسوف يضافان للشمس والقمر بمعنى يقال: كسفت الشمس والقمر وخسفا – بفتح القاف والخاء مبنيا للفاعل -، وكسفا وخسفا – بضمهما مبنيا للمفعول -، وانكسفا
?الفصل الأول?
1494- (1) عن عائشة قالت: إن الشمس خسفت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/230)


وانخسفا بصيغة انفعل، ومعنى المادتين واحد أو يختص ما بالكاف بالشمس وما بالخاء بالقمر، وهو المشهور على ألسنة الفقهاء، واختاره ثعلب، وادعى الجوهري أفصحيته، ونقل عياض عن بعضهم عكسه، وعورض بقوله تعالى: ?وخسف القمر? [القيامة: 8]، ويدل للقول الأول إطلاق اللفظين في المحل الواحد في الأحاديث، قال المنذري، وقبله ابن العربي: حديث الكسوف رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعة عشر نفسا، رواه جماعة منهم بلفظ الكاف وجماعة بالخاء وجماعة باللفظين جميعا – انتهى. لكن لم يرد في الأحاديث نسبة الكسوف إلى القمر على جهة الانفراد. قال القسطلاني نقلا عن الحافظ وغيره: ولا ريب أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف؛ لأن الكسوف لغة تغير إلى سواد، والخسوف النقص والذل كما مر، فإذا قيل في الشمس: كسفت أو خسفت؛ لأنها تتغير ويلحقها النقص ساغ ذلك، كذلك القمر. ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف مترادفان، وقيل: بالكاف في الابتداء، وبالخاء في الانتهاء، وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء، بالخاء لبعضه، وقيل: بالخاء لذهاب كل اللون، وبالكاف لتغيره، واعلم أنه لا خلاف في مشروعية صلاة الكسوف والخسوف، وأصل مشروعيتها بالسنة وإجماع الأمة لكن اختلفوا في حكمها وصفتها، فقال الشافعي وأحمد: صلاة كسوف الشمس سنة مؤكدة لفعله - صلى الله عليه وسلم - لها وجمعه الناس مظهرا لذلك، وهذه أمارة الاعتناء والتأكيد وللأمر بها، والصارف عن الوجوب ما سبق من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا إلا أن تطوع))، وعند أبي حنيفة سنة غير مؤكدة، وصرح أبوعوانة في صحيحه بوجوبها، وإليه ذهب بعض الحنفية واختاره أبوزيد الدبوسي صاحب الأسرار، قال ابن الهمام: للأمر بها، والظاهر أن الأمر للندب؛ لأن المصلحة دفع الأمر المخوف فهي مصلحة تعود إلينا دنيوية إلى آخر ما قال. وعن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة، وفي الشرح الكبر للمالكية: أنها سنة عين، وأما صلاة خسوف القمر فهي

(9/231)


سنة مؤكدة عند الشافعي وأحمد ككسوف الشمس، ومستحبة عند أبي حنيفة ومالك، لكن قالا: يصلون فرادى من غير جماعة، وقال ابن دقيق العيد: تردد في صلاة الخسوف مذهب مالك وأصحابه ولم يلحقها بكسوف الشمس في قول. وقال ابن قدامة: قال مالك: ليس في كسوف القمر سنة، وحكى ابن عبدالبر عنه وعن أبي حنيفة أنهما قالا: يصلي الناس لخسوف القمر وحدانا ركعتين ركعتين ولا يصلون جماعة، قال العيني: أبوحنيفة لم ينف الجماعة بل قال: الجماعة فيها غير سنة بل هي جائزة – انتهى. والراجح: ما ذهب إليه الشافعي وأحمد، وأما الصفة فسيأتي الكلام عليها قريبا.
1494- قوله (إن الشمس خسفت) بفتح الخاء والسين، وفي إسناد الخسوف إلى الشمس رد على من
على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث مناديا: الصلاة جامعة، فتقدم فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. قالت عائشة: ما ركعت ركوعا قط ولا سجدت سجودا قط كان أطول منه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/232)


قال: إنه يتعين الخسوف للقمر، وعلى من قال: إن استعمال الخسوف للشمس خلاف الأفصح. (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في زمانه يوم مات ابنه إبراهيم كما سيأتي. (فبعث مناديا) يقول (الصلاة جامعة) يعني ينادي بهذه الجملة، قال الطيبي: الصلاة مبتدأ وجامعة خبره، أي الصلاة تجمع الناس، ويجوز أن يكون التقدير الصلاة ذات جماعة، أي تصلى جماعة لا منفردا كالسنن الرواتب، فالإسناد مجازي كطريق سائر – انتهى. ويجوز نصب الصلاة على الإغراء، وجامعة على الحال، أي احضروا الصلاة حال كونها جامعة للجماعات أو للناس، وهو من الأحوال المقدرة، وفيه تقادير أخرى، وهو يدل على أنه يسن أن ينادى لصلاة الكسوف: الصلاة جماعة، قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث حجة لمن استحب ذلك، وقد اتفقوا على أنه لا يؤذن لها ولا يقام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها بغير أذان ولا إقامة، وقاس بعضهم صلاة العيدين على الكسوف في مشروعية النداء بالصلاة جامعة، وهو محل نظر؛ لأنه لم يرد الأمر بهذا اللفظ عنه - صلى الله عليه وسلم - إلا في هذه الصلاة مع الحاجة إلى ذلك في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فالاقتصار عليه هو المشروع (فتقدم) أي هو - صلى الله عليه وسلم - (فصلى) وفي رواية مسلم: فاجتمعوا وتقدم وكبر وصلى، وفي رواية للنسائي: فاجتمعوا واصطفوا فصلى. (أربع ركعات) أي ركوعات (وأربع سجدات) قال العيني والقسطلاني: بنصب أربع عطفا على أربع ركعات. قال القاري: فائدة ذكره أن الزيادة منحصرة في الركوع دون السجود (قالت عائشة) اعلم أن هذا الحديث إلى قوله: وأربع سجدات، رواه الشيخان والنسائي أيضا من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة أن الشمس خسفت...الخ، وأما قوله: قالت عائشة: ما ركعت...الخ فليس في هذا الحديث ولا هو مروي من هذا الطريق، بل هو تتمة حديث عبدالله بن عمر، وأخرجه هؤلاء الثلاثة من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي

(9/233)


سلمة عن عبدالله بن عمر، وبنحو حديث عائشة المذكور، وفي آخره فقالت عائشة: ما ركعت...الخ، فالراوي لذلك عنها هو غير الراوي حديث عائشة المتقدم المرفوع وهو أبوسلمة، ويحتمل أن يكون عبدالله بن عمرو، فيكون من رواية صحابي عن صحابية، قال الحافظ: ووهم من زعم أنه معلق، فقد أخرجه مسلم وابن خزيمة وغيرهما من رواية أبي سلمة عن عبدالله بن عمرو، وفيه قول عائشة – انتهى. (ما ركعت ركوعا قط ولا سجدت سجودا قط كان أطول منه) أي كان ذلك الركوع والسجود أطول من ركوع الخسوف وسجوده، وهذا لفظ مسلم، واقتصر البخاري على ذكر السجود، ولفظه: قالت عائشة: ما سجدت سجودا قط كان أطول منها، أي من سجدة الكسوف، أو هو على حذف مضاف أي من سجود صلاة الكسوف، وقد ثبت طول الركوع والسجود في الكسوف في أحاديث كثيرة، منها أحاديث ابن عباس وعائشة وأبي موسى المذكورة
.........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/234)


في الباب، ومنها حديث أبي هريرة عند النسائي، ومنها حديث سمرة عند أبي داود والنسائي، ومنها حديث جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود، ومنها حديث أسماء عند أحمد والبخاري وأبي داود وابن ماجه، وإلى مشرعية التطويل في الركوع والسجود في صلاة الكسوف كما يطول القيام ذهب أحمد وأبوحنيفة ومالك في المشهور عنه، والشافعي في أحد قوليه، وبه جزم أهل العلم بالحديث من أصحابه. والحديث يدل على مشروعية الجماعة لصلاة الكسوف، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء. وقال ابن حبيب: الجماعة فيها شرط. وقيل: لا تقام إلا في جماعة واحدة. قال الترمذي: ويرى أصحابنا يعني أصحاب الحديث أن يصلي صلاة الكسوف في جماعة في كسوف الشمس والقمر. وبوب البخاري باب صلاة الكسوف جماعة. قال الحافظ: أي إن لم يحضر الإمام الراتب فيؤم لهم بعضهم. وبه قال الجمهور. وعن الثوري إن لم يحضر الإمام صلوا فرادى – انتهى. قلت: وقال الحنفية أيضا بأنه إن لم يحضر إمام الجمعة والعيدين صلوا فرادى، وقالوا: لا جماعة في صلاة خسوف القمر، ففي شرح الوقاية: عند الكسوف يصلي إمام الجمعة بالناس ركعتين، وإن لم يحضر – أي إمام الجمعة – صلوا فرادى كالخسوف – انتهى مختصرا. وقال في الدر المختار: يصلي بالناس من يملك إقامة الجمعة ركعتين. قال ابن عابدين: بيان للمستحب، يعني فعلها بالجماعة إذا وجد إمام الجمعة وإلا فلا تستحب الجماعة بل تصلى فرادى، هذا ظاهر الرواية، وعن الإمام في غير رواية الأصول لكل إمام مسجد أن يصلي بجماعة في مسجده – انتهى. قال في البدائع: والصحيح ظاهر الرواية. قلت: والراجح عندي أنه يجوز الأمر إن الانفراد والتجميع فيهما؛ لأنه لم يرد ما يقتضي اشتراط التجميع؛ لأن فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب فضلا عن الشرطية، لكن لا شك أن التجميع أفضل بل أوكد، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر المنادي بالإعلام بالصلاة جامعة ليجتمع الناس وصلاها جماعة، وقد

(9/235)


أمر بالصلاة للكسوف والخسوف أمرا واحدا، فيسن الجماعة للخسوف كما تسن للكسوف، وعن ابن عباس أنه صلى بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين وقال: إنما صليت لأني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، ولأن خسوف القمر أحد الكسوفين فأشبه كسوف الشمس، وسيأتي مزيد الكلام في صلاة خسوف القمر قريبا، وأما إذا لم يحضر الإمام الراتب للجمعة والعيدين أو إمام الحي فيؤم لهم بعضهم ولا يكون احتمال الفتنة والخلل إذا اتفقوا على أحد للإمامة وتراضوا به. وفي الحديث أيضا دليل على أن المشروع في صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان، والأحاديث الواردة في وصفها مختلفة جدا. فمنها هذا المذكور أي ركعتان في كل ركعة ركوعان، روي هذا من حديث عائشة وابن عباس وعبدالله بن عمرو متفق عليهم، وأسماء بنت أبي بكر عند أحمد، والبخاري والنسائي وابن ماجه وجابر عند أحمد، ومسلم وأبي داود وأبي هريرة عند النسائي، وابن عمر عند البزار وابن جرير، قال الهيثمي: في سنده مسلم بن خالد، وهو ضعيف، وقد وثق – انتهى. وله حديث آخر عند البيهقي (ج3 ص324) من طريق الشافعي
.............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/236)


عن يحيى بن سليم عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، قال البيهقي: تفرد به يحيى بن سليم عن عبيدالله بن عمر، وروي ذلك أيضا من حديث أم سفيان عند الطبراني كما في الفتح، وأبي موسى الأشعري، وسمرة بن جندب كما في التلخيص، وأبي شريح الخزاعي عن عثمان من فعله بالمدينة وبها عبدالله بن مسعود، أخرجه أحمد والبيهقي (ج3 ص324) وأبويعلى والطبراني في الكبير والبزار. قال الهيثمي: رجاله موثقون، واختار هذه الكيفية مالك والشافعي وأحمد والجمهور. ومنها في كل ركعة ثلاث ركوعات، روي هذا من حديث عائشة عند أحمد ومسلم والنسائي، وابن عباس عند الترمذي وصححه، وفيه حبيب بن أبي ثابت، وهو مدلس، وصفه بذلك ابن خزيمة والدارقطني وابن حبان، ولم يبين سماعه من طاوس، وروي ذلك أيضا من حديث جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي والبيهقي، وقد أعله البيهقي (ج3 ص326)، وروي ذلك أيضا من فعل ابن عباس وحذيفة كما في المحلى (ج5 ص99). ومنها في كل ركعة أربع ركوعات، روي هذا من حديث ابن عباس عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي والبيهقي، وقد أعله البيهقي (ج3 ص327)، ومن حديث حذيفة عند البزار واليهقي (ج3 ص329) من طريق محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن حبيب بن أبي ثابت عن صلة بن زفر عن حذيفة، قال البيهقي: محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى لا يحتج به، ومن حديث علي عند أحمد (ج1 ص143) والبيهقي (ج3 330)، وروي أيضا من فعل علي وابن عباس، واختاره حبيب بن أبي ثابت كما في المحلى (ج5 ص100). ومنها في كل ركعة خمس ركوعات، روي هذا من حديث أبي بن كعب عند أبي داود، والحاكم والبيهقي وعبدالله بن أحمد، وهو حديث معلول كما ستعرف، ومن حديث علي عند البزار كما في الفتح ومجمع الزوائد، وذكر البيهقي في المعرفة وفي السنن (ج3 ص329) وابن حزم في المحلى (ج5 ص100) عن الحسن أن علي بن أبي طالب صلى في كسوف عشر ركعات في أربع سجدات. قال البيهقي: رواية الحسن عن علي لم تثبت، ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.كتاب المزهر في معرفة اللغة للسيوطي الجزء الثالث والاخير{من النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي الي الخاتمة}

  النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي  أول ما يلزمه الإخلاص وتصحيح النية لقوله ﷺ: « الأعمال بالنيات » ثم التحري في الأخذ عن الثقات لق...