13.مرعاة المفاتيح
وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال محاباة المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ. وقال ابن المنير: يؤخذ من قوله هلا جلس في بيت أبيه وأمه جواز قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل ذلك كذا قال: ولا يخفى أن محل ذلك إذا لم يزد على العادة. وفيه أن من رأى متأولا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به أن يشهر القول للناس، ويبين خطأه ليحذر من الاغترار به. وفيه جواز توبيخ المخطيء واستعمال المفضول في الإمارة وللإمامة والأمانة مع وجود من هو أفضل منه- انتهى كلام الحافظ (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والهبة والإيمان والنذور والحيل والأحكام، ومسلم في المغازي وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص523) وأبوداود في الخراج، وأبوعوانة والبيهقي وغيرهم. وفي الباب عن عائشة عند البزار، وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير ذكرهما الهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 ص85- 86) مع الكلام فيهما (قال الخطابي) صاحب معالم السنن (وفي قوله هلا جلس في بيت أمه أو أبيه) كذا في رواية أبي داود بتقديم الأم. قيل: هي رواية بالمعنى، والأصل ما وقع عند الآخرين بتقديم الأب وهو أيضا مقتضي المقام، فإنه مشعر بزيادة الإكرام، فقوله في الحديث "أو بيت أمه" محمول على التنزل (فينظر أيهدي إليه أم لا) كذا في بعض نسخ أبي داود بلفظ: إليه مكان له, وهكذا وقع في بعض الروايات البخاري (دليل على أن كل أمر يتذرع) بالذال المعجمة على بناء المفعول من التذرع أي يتوسل (به إلى محظور فهو محظور) أي ممنوع ومحرم. ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة، والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا أجرة، وكراء والدابة المرهونة يركبها أو يرتفق بها من غير عوض، قاله القاري. وقال الشاه عبدالعزيز الدهلوي في فتاواه: معنى قول الخطابي: أن المباح إذا جعله وسيلة إلى أمر محرم صار حراما كقبول الهدية في قصة ابن اللتبية، فإنه في الأصل مباح، لكن لما جعل وسيلة إلى أخذ الزكاة بالمحاباة والمسامحة، وهو حرام صار حراما،
(11/63)
لأن للوسائل حكم المقاصد في
الحرمة - انتهى. (وكل دخل) بفتحتين. هكذا وقع في بعض النسخ. وفي أكثرها دخيل على
وزن كريم، وهكذا في معالم السنن "وكل" بالرفع. وقيل بالنصب أي كل عقد
يدخل (في العقود) ويضم إلى بعضها كعقد البيع والبهة والإجارة والقرض والنكاح والرهن
(ينظر) أي فيه (هل يكون حكمه عند الانفراد) أي قبل دخوله في ذلك العقد وانضمامه
إليه (كحكمه عند الاقتران) والاجتماع والدخول (أم لا) فعلى الأول يصح وعلى الثاني
لا يصح، كما إذا باع من أحد متاعا يساوي عشرة بمائة ليقرضه ألفا مثلا يدفع ربحه
إلى ذلك الثمن، ومن رهن دارا بمبلغ كثير
هكذا في شرح السنة.
(11/64)
وآجره بشيء قليل، فقد ارتكب محظورا. ولما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بعض أمته يرتكبون هذا المحظور بالغ حيث قال: اللهم هل بلغت مرتين، كذا في المرقاة. وقال الشاه عبدالعزيز الدهلوي: معنى قول الخطابي: أن من أدخل عقد في عقد آخر، كمن أدخل إعارة في رهن أو إجارة في رهن أو قرضا في بيع ينظر هل يكون حكم ذلك العقد الداخل عند الانفراد عن العقد الذي أدخل فيه كحكمه في تعليق رضاء المتعاقدين به عند اقترانه به أم لا، فعلى الأول يصح، وعلى الثاني لا يصح، كما إذا باع متاعا بثمن يسير ليقرضه ألفا، فلو لم يتوقع البائع منفعة القرض لما باع بهذا القدر ولم يرض به، وكذا لو لم يكن رهن الدار بمبلغ كثير لم يرض الراهن بإجارتها بشيء يسير، ولم يرض بإعارتها فلا تصح هذه العقود، لأنها لم يتعلق بها الرضاء عند الانفراد بل عند الاقتران فقط، ولو كان بين الراهن والمرتهن صداقة تصح الإعارة أو الإجارة بشيء يسير، ولو لم ينعقد بينهما عقد الرهن صح الإعارة أو الإجارة، لأنهما مما يتعلق به الرضاء عند الانفراد لأجل الصدقة مثلا فقط- انتهى. (هكذا) أي نقله البغوي عنه (في شرح السنة) وكلام الخطابي هذا معالم السنن (ج3 ص8) هكذا وفي قوله "ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدي إليه أم لا، دليل على أن كل أمر يتذرع به إلى محظور فهو محظور، ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا كراء، والدابة المرهونة يركبها ويرتفق بها من غير عوض. وفي معناه باع درهما ورغيفا بدرهمين، لأن معلوما أنه إنما جعل الرغيف ذريعة إلى أن يربح فضل الدرهم الزائد، وكذلك كل تلجئة وكل دخيل في العقود يجري مجرى ما ذكرناه على معنى قوله هلا قعد في بيت أمه حتى ينظر أيهدي إليه أم لا، فينظر في الشيء وقرينه إذا أفرد أحدهما عن الآخر، وفرق بين إقرانهما، هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران والله أعلم" قلت: وإليه ذهب الإمام
(11/65)
مالك، وقد بسط ذلك في المؤطا وذكر لذلك نظائر وأمثله في باب المراطلة من كتاب البيوع: منها أن الرجل يعطي صاحبه الذهب الجيد ويجعل معد ردئيا، ويأخذ منه ذهبا متوسطا مثلا بمثل. فقال: هذا لا يصلح، لأنه أخذ فضل جيده من الردي، ولو لاه لم يبايعه - انتهى. ملخصا. وقد ذكره ابن رشد في البداية (ج2 ص164- 165) مع بيان اختلاف العلماء في ذلك فارجع إليه. ومنها أن رجلا أراد أن يبتاع ثلاثة آصع من تمر عجوة بصاعين ومدين من تمر كبيس. فقيل له: هذا لا يصلح، فجعل صاعين من كبيس، وصاعا من حشف، يريد أن يجيز بذلك بيعه، فذلك لا يصلح، لأنه لم يكن صاحب العجوة ليعطيه صاعا من العجوة بصاع من حشف، ولكنه إنما أعطاه ذلك لفضل الكبيس. ومنها أن يقول الرجل للرجل: يعني ثلاثة آصع من البيضاء بصاعين ونصف من حنطة شامية، فيقول: هذا لا يصلح إلا مثلا بمثل، فيجعل صاعين من
(11/66)
حنطة شامية وصاعا من شعير (الشعير والحنطة عند مالك صنف واحد) يريد أن يجيز بذلك البيع، فهذا لا يصلح لأنه لم يكن ليعطيه بصاع من شعير صاعا من حنطة بيضاء لو كان ذلك الصاع مفردا، وإنما أعطاه إياه لفضل الشامية فهذا لا يصلح إلى آخر ما قال، وعليك أن ترجع لشرح هذه الأمثلة إلى شروح المؤطا للزرقاني والباجي وغيرهما وما قاله الخطابي في الكلية الأولى، فهو موافق لمذهب الحنفية ومذهب الشافعي وغيره، لأن من القواعد المقررة أن للوسائل حكم المقاصد، فوسيلة الطاعة طاعة ووسيلة المعصية معصية. وأما ما قاله من الكلية الثانية، فإنما يليق بمذهب من منع الحيل للتوسل بها إلى الخروج من الربا أو غيره، كمالك وأحمد. وأما أبوحنيفة والشافعي فهما يريان إباحة الحيل فلا ينظران إلى هذا الدخيل. واستدل لهما بما سيأتي في باب الربوا من حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال لا والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا- انتهى. ونحوه حديث أبي سعيد في قصة بلال، وسيأتي أيضا في ذلك الباب. قال القاري: أفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كل عقد توسط في معاملة أخرجها عن المعاملة المؤدية إلى الربوا جائز؟ وقال أيضا هذا الحديث (يعني حديث أبي سعيد في قصة بلال) كالذي قبله صريح في جواز الحيلة في الربوا الذي قال به أبو حنيفة والشافعي. وبيانه أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يبيع الردى بالدراهم ثم يشتري بها الجيد من غير أن يفصل في أمره بين كون الاشتراء من ذلك المشتري أو من غيره، بل ظاهر السياق أنه بما في ذمته، وإلا لبينه له- انتهى. وأجيب عن هذا الاستدلال بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - بع الجمع مطلق لا عام، والمطلق لا
(11/67)
يشمل، ولكن يشيع، فإذا عمل به
في صورة سقط الاحتجاج به فيما عداها، ولا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن
باعه تلك السلعة بعينها، هذا ملخص ما ذكره الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين في
الجواب عن هذا الاستدلال، وقد أطال فيه جدا وبسط الكلام أيضا على سد الذرائع
وإبطال الحيل، فعليك أن ترجع إليه وإلى إرشاد الفحول (ص17- 18) للشوكاني. والفروق
للقرافي (ج2 ص39، 41) وقال القرطبي: استدل بهذا الحديث من لم يقل بسد الذرائع، لأن
بعض صور هذا البيع يؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلا، ويكون الثمن لغوا، قال: ولا
حجة في هذا الحديث، لأنه لم ينص على جواز شراء التمر الثاني ممن باعه التمر الأول
ولا يتناوله ظاهر السياق بعمومه، بل بإطلاقه، والمطلق يحتمل التقييد إجمالا، فوجب
الاستفسار، وإذا كان كذلك فتقييده بأن دليل كاف، وقد دل الدليل على سد الذرائع،
فلتكن هذه الصورة ممنوعة- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في هذا في الباب الربوا إنشاء
الله تعالى.
1795- (9) وعن عدي بن عميرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من
استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة)).
رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1796- (10) عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية ?والذين يكنزون الذهب والفضة?
(11/68)
1795- قوله: (وعن عدي بن عميرة) بفتح المهملة وكسر الميم بعدها تحتية ثم راء هو عدي بن عميرة فروة بن زرارة بن الأرقم الكندي صحابي معروف، يكنى أبا زرارة وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه شيئا يسيرا، وروى عنه أخوه العرس وله صحبة وغير واحد. قال أبوعروبة الحراني: كان عدي بن عميرة قد نزل الكوفة ثم خرج عنها بعد قتل عثمان، فصار إلى الجزيرة فمات بها، وله عقب بحران، وقال ابن سعد: لما قدم علي الكوفة جعل بعض أصحابه يتناول عثمان، فقال بنوالأرقم لا نقيم ببلد يشتم فيها عثمان. فتحولوا إلى الشام، فأنزل معاوية الجزيرة، وقيل: أسكنهم الرها وأقطعهم بها ومات بها عدي بن عميرة في خلافة معاوية (من استعملناه) أي جعلناه عاملا (منكم) أيها المؤمنون، إذا الكافر لا يصح توليته. قال المناوي: فخرج الكافر، فلا يجوز استعماله على شيء من أموال بيت المال (فكتمنا) بفتح الميم أي أخفى عنا (مخيطا) بكسر الميم وسكون المعجمة، وفتح أي إبرة (فلما فوقه) أي فشيئا يكون فوق المخيط في الصغر أو الكبر. قال الطيبي: الفاء في قوله: فما فوقه، للتعقيب على التوالي وما فوقه يحتمل أن يكون المراد به الأعلى أو الأدنى، كما في قوله تعالى: ?بعوضة فما فوقها?- [البقرة: 26] (كان) أي ذلك الكتمان (غلولا) بضم المعجمة أي خيانة في الغنيمة. قال النووي: أصل الغلول الخيانة مطلقا ثم غلب اختصاصه في الاستعمال بالخيانة في الغنيمة (به) أي بماغل (يوم القيامة) تفضيحا له وتعذيبا. والحديث مسوق لحث العمال على الأمانة وتحذيرهم عن الخيانة ولو في تافه وقد أجمع المسلمون على تحريم الغلول وأنه من الكبار وأن عليه رد ما غله، وذكر هذا الحديث في باب الزكاة استطرادا لمناسبته للحديث السابق في ذكر العمل والخيانة (رواه مسلم) في المغازي وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص192) وأبوداود في القضايا.
(11/69)
1796- قوله: (والذين يكنزون
الذهب والفضة) أي يجمعونها يقال كنزت المال كنزا من باب ضرب جمعته وادخرته، وكنزت
التمر في وعائه كنزا أيضا فأصل الكنز في اللغة الضم والجمع ولا يختص ذلك بالذهب
والفضة. قال ابن جرير: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على
ظهرها- انتهى. ومنه
كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبي الله! إنه
كبر على أصحابك هذه الآية، فقال: إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من
أموالكم، وإنما فرض المواريث، وذكر كلمة لتكون لمن بعدكم، فقال: فكبر عمر، ثم قال
له: ألا أخبرك بخير ما يكنز المرأ؟
(11/70)
ناقة كناز مكتنزة اللحم. وقيل: الكنز المال المدفون معروف تسمية بالمصدر والجمع كنوز وأكتنز الشيء اجتمع وامتلأ ومال مكنوز أي مجموع (كبر) بضم الباء أي شق وأشكل (ذلك) أي نزول الآية أو ظاهر الآية من العموم (على المسلمين) لأنهم حسبوا أنه يمنع جمع المال مطلقا وأن كل من تأثل مالا جل أو قل فالوعيد لاحق به (أنا أفرج عنكم) بتشديد الراء أي أزيل هذه الشدة عنكم وآتى بالفرج لكم فإنه ليس عليكم في الدين من حرج (فانطلق) أي فذهب عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال) وفي بعض نسخ أبي داود: فانطلقوا فقالوا (يا نبي الله إنه) أي الشأن (كبر) أي عظم وصعب (على أصحابك هذه الآية) أي حكمها والعمل بها لما فيها من عموم منع الجمع (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إلا ليطيب) من التفعيل أي ليحل الله بأداء الزكاة لكم (ما بقي من أموالكم) قال تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها?-[التوبة: 103] ومعنى التطييب إن أداء الزكاة إما أم يحل ما بقي من ماله المخلوط بحق الفقراء، وإما أن يزكيه من تبعه ما لحق به من إثم منع حق الله تعالى، وحاصل الجواب أن المراد بالكنز منع الزكاة لا الجمع مطلقا، ولعل في الآية في قوله تعالى: ?ولا ينفقونها في سبيل الله?-[التوبة: 34] إشارة إليه بأن المراد بالإنفاق إعطاء الزكاة لا إنفاق المال كله. قال الحافظ: المراد بسبيل الله في الآية المعنى الأعم لا خصوص أحد السهام الثمانية التي هي مصارف الزكاة وإلا لاختص بالصرف إليه بمقتضي هذه الآية (وإنما فرض المواريث) عطف على قوله: " إن الله لم يفرض الزكاة" قال الطيبي: كأنه قيل إن الله لم يفرض الزكاة إلا لكذا ولم يفرض المواريث إلا ليكون طيبا لمن يكون بعدكم، والمعنى لو كان الجمع محظورا مطلقا لما افترض الله الزكاة ولا الميراث (وذكر كلمة) من كلام الراوي أي أن ابن عباس أي وذكر - صلى الله عليه وسلم -: كلمة أخرى بعد المواريث لم
(11/71)
أحفظها، والجملة معترضة بين
الفعل وعلته وهو قوله (لتكون) أي وإنما فرض المواريث لتكون الأموال بالميراث طيبة
(لمن بعدكم) وفي النسخ التي بأيدينا من سنن أبي داود وإنما فرض المواريث لتكون لمن
بعدكم أي بدون قوله: "وذكر كلمة" ورواه البيهقي بلفظ: وإنما فرض
المواريث في أموال تبقى بعدكم (فقال) أي ابن عباس (فكبر عمر) أي فرحا على كشف
المعضلة (ثم قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (له) أي لعمر (ألا أخبرك)
يحتمل أن تكون للتنبيه وأن تكون الهمزة الاستفهامية ولا نافية (بخير ما يكنز
المرأ) أي بأفضل ما يقتنيه ويتخذه لعاقبته ولما بين أن لا وزر في جمع المال بعد
أداء
المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته)).
(11/72)
الزكاة ورأى فرحهم بذلك ورغبهم عن ذلك إلى ما هو خير وأبقى وهو التقلل والاكتفاء بالبلغة (المرأة الصالحة) أي الجميلة ظاهرا وباطنا. قال الطيبي: المرأة مبتدأ والجملة الشرطية خبره، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف. والجملة الشرطية بيان (إذا نظر) أي الرجل (سرته) أي جعلته مسرورا بجمال صورتها وحسن سيرتها وحصول حفظ الدين بها (وإذا أمرها) بأمر شرعي أو عرفي (أطاعته) وخدمته (حفظته) أي حقوقه في نفسها وماله وولده وبيته. قال القاضي: لما بين لهم - صلى الله عليه وسلم - أنه لا حرج عليهم في جمع المال وكنزه ما داموا يؤدون الزكاة ورأى استبشارهم به ورغبهم عنه إلى ما هو خير وأبقى وهي المرأة الصالحة الجميلة فإن الذهب لا ينفعك إلا بعد الذهاب عنك وهي ما دامت معك تكون رفيقك تنظر إليها فتسرك وتقضي عند الحاجة إليها وطرك وتشاورها فيما يعن لك فتحفظ عليك سرك وتستمد منها في حوائجك فتطيع أمرك وإذا غبت عنها تحامى مالك وتراعي عيالك ولو لم يكن لها إلا أنها تحفظ بذرك وتربي زرعك فيحصل لك بسببها ولد يكون لك وزيرا في حياتك وخليفة بعد وفاتك لكان بذلك فضل كثير- انتهى. وأعلم أنه ذهب أكثر العلماء إلى أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته وإن لم تدفن فإن أديت فليس بكنز مذموم وإن دفن ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من أهل الزهد كأبي ذر. قال ابن عبدالبر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله وأن آية الوعيد نزلت في ذلك وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي حيث قال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع- انتهى. والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما سيأتي عن ابن عمر, وقد استدل له ابن بطال بقوله تعالى: ?ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو?-[البقرة: 219] أي ما فضل عن الكفاية فكان ذلك واجبا في أول الأمر
(11/73)
ثم نسخ والله أعلم، وفي المسند
من طريق يعلي بن شداد بن أوس عن أبيه قال كان أبوذر يسمع الحديث من رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فيه الشدة ثم يخرج إلى قومه ثم يرخص فيه النبي - صلى الله
عليه وسلم - فلا يسمع الرخصة ويتعلق بالأمر الأول. قال الحافظ: والصحيح أن إنكار
أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه، وتعقبه
النووي بالإبطال لأن السلاطين حينئذ كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان وهؤلاء لم
يخونوا. قلت: لقوله محمل وهو أنه أراد من يفعل ذلك وإن لم يوجد حينئذ من يفعله-
انتهى كلام الحافظ. قلت: ويشهد لما ذهب إليه الجمهور ما رواه أحمد في الزهد
والبخاري وابن مردوية والبيهقي عن ابن عمر قال إنما هذا كان قبل أن تنزل الزكاة
فلما نزلت الزكاة جعلها الله طهرة للأموال- الحديث. وفي الباب عن جابر أخرجه
الحاكم بلفظ: إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره ورجح أبوزرعة والبيهقي وقفه
رواه أبوداود.
1797- (11) وعن جابر بن عتيك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيأتيكم
ركيب مبغضون، فإذا جاؤكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون،
كما عند البزار، وعن أبي هريرة أخرجه الترمذي بلفظ: إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت
ما عليك. وقال حسن غريب وصححه الحاكم وهو على شرط ابن حبان، وعن أم سلمة عند
الحاكم وصححه ابن القطان أيضا، وأخرجه أبوداود. وقال ابن عبدالبر: في سنده مقال،
وذكر العراقي في شرح الترمذي أن سنده جيد، وعن ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا
بلفظ: ما أدى زكاته فليس بكنز وارجع لمزيد الكلام في ذلك إلى طرح التثريب (ج4 ص7-
8) (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا الحاكم وصححه وابن أبي حاتم
وابن مردوية والبيهقي وأبويعلى وغيرهم.
(11/74)
1797- قوله: (وعن جابر بن عتيك) بفتح العين وكسر التاء الفوقية (سيأتيكم ركيب) تصغير ركب وهو اسم جمع للراكب، وقال الجزري والخطابي: جمع راكب، كما قيل صحب في صاحب وتجر في تاجر أراد بهم السعاة في الصدقة، وفي بعض نسخ أبي داود سيأتيكم ركب، وكذا عند البيهقي والبزار أي سعاة وعمال للزكاة (مغضون) بفتح الغين المشددة والمبغض الذي جعل بغيضا في قلوب الناس والبغيض من كرهه الناس وهو ضد الحبيب، ويجوز بسكون الباء من أبغض الرجل أحدا إذا كرهه أراد أنهم يبغضون طبعا لا شرعا لأنهم يأخذون محبوب قلوبهم. قال الخطابي: إنما جعلهم مبغضين لأن الغالب في نفوس أرباب الأموال التكره للسعاة لما جبلت عليه القلوب من حب المال وشدة حلاوته في الصدر إلا من عصمه الله ممن أخلص النية واحتسب فيها الأجر والمثوبة- انتهى. وقيل: معناه أنه قد يكون بعض العمال سيء الخلق متكبرا يكرههم الناس لسوء خلقهم. قال الطيبي: والأول أوجه لقوله - صلى الله عليه وسلم - سيأتيكم ركيب الخ لأن فيه إشعارا بأنهم عمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينصره شكوى القوم عنهم في الحديث الذي يليه وهو قولهم أن ناسا من المصدقين يأتونا فيظلمونا ولا ارتياب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستعمل ظالما، فالمعنى أنه سيأتي عمالي يطالبون منكم زكاة أموالكم، والنفس مجبولة على حب المال، فتبغضونهم وتزعمون أنهم ظالمون، وليسوا بذلك وقوله: فإن عدلوا وإن ظلموا مبني على هذا الزعم، ولو كانوا ظالمين في الحقيقة كيف يأمرهم بالدعاء لهم بقوله وليدعوا لكم (فرحبوا بهم) أي قولوا لهم مرحبا وأهلا وسهلا، وأظهروا الفرح بقدومهم وعظموهم (وخلوا) أي أتركوا بينهم (بين ما يبتغون ) أي ما يطلبون من الزكاة. قال ابن الملك: يعني كيف ما يأخذوا الزكاة لا تمنعوهم وإن ظلموكم لأن مخالفتهم مخالفة السلطان، لأنهم مأمورون من جهته ومخالفة
(11/75)
فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا
فعليهم، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم، وليدعوا لكم)). رواه أبوداود.
1798- (12) وعن جرير بن عبد الله، قال: جاء ناس ـ يعني من الأعراب ـ إلى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ((إن ناس من المصدقين
السلطان تؤدي إلى الفتنة وثورانها - انتهى. وهو كلام المظهر بناء على أنه عمم
الحكم في جميع الأزمنة. قال الطيبي: وفيه بحث لأن العلة لو كانت هي المخالفة لجاز
الكتمان لكنه لم يجز لقوله في الحديث الآتي أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون قال
لا (فإن عدلوا) في أخذ الزكاة وتركوا الظلم (فلأنفسهم) أي فلهم الثواب (وإن ظلموا)
بأخذ الزكاة أكثر مما وجب عليكم أو أفضل أي على الفرض والتقدير أو على زعمكم
(فعليهم) كذا في جميع النسخ وهكذا في جامع الأصول (ج5 ص359) والترغيب. وفي
المصابيح فعليها كما في سنن أبي داود، والبيهقي والبزار أي فعلى أنفسهم إثم ذلك
الظلم ولكم الثواب بتحمل ظلمهم (وأرضوهم) أي اجتهدوا في إرضائهم ما أمكن بأن
تعطوهم الواجب من غير مطل ولا غش ولا خيانة (فإن تمام زكاتكم) أي كمالها (رضاهم)
أي حصول رضاهم (وليدعوا) بسكون اللام وكسرها (لكم) وهو أمر ندب لقابض الزكاة ساعيا
أو مستحقا أن يدعوا للمزكي (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج4 ص114) وقد سكت
عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده أبوالغصن، وهو ثابت بن قيس المدني الغفاري
مولاهم، وقيل: مولى عثمان بن عفان قال الإمام أحمد ثقة وقال ابن معين ضعيف. وقال
مرة ليس بذلك صالح، وقال مرة ليس به بأس، وقال ابن حبان كان قليل الحديث كثير
الوهم فيما يرويه، ولا يحتج بخبره إذا لم يتابعه عليه غيره قال المنذري: وفي
الرواة خمسة كل منهم اسمه ثابت بن قيس لا يعرف من تكلم فيه غيره انتهى. قلت: وقال
النسائي ليس به بأس. وقال ابن سعد شيخ قليل الحديث. وقال ابن أبي عدي هو ممن يكتب
حديثه. وقال الآجري عن أبي داود ليس حديثه بذاك. وقال
(11/76)
الحافظ في التقريب: صدوق بهم،
والحديث ذكره الهيثمي في باب رضا المصدق (ج3 ص79- 80) عن جابر من غير أن ينسبه
بهذا اللفظ وعزاه إلى البزار. وقال ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف لا يضر.
1798- قوله: (جاء ناس يعني من الأعراب) تفسير من الراوي عن جرير قاله القاري. وفي
رواية مسلم: جاء ناس من الأعراب، وفي رواية النسائي: أتى النبي - صلى الله عليه
وسلم - ناس من الأعراب، وفي رواية للبيهقي: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أعراب. فالظاهر أن التفسير المذكور في رواية أبي داود. ممن دون الراوي عن جرير (إن
ناسا من المصدقين) بتخفيف الصاد وكسر الدال المشددة أي السعاة العاملين على الصدقة
يأتونا، فيظلمونا. فقال: أرضوا مصدقيكم، قالوا يا رسول الله! وإن ظلمونا؟! قال:
أرضوا مصدقيكم وإن ظلمتم)). رواه أبوداود.
1799- (13) وعن بشير بن الخصاصية،
(11/77)
(يأتونا فيظلمونا) بتخفيف النون وتشديد فيهما (أرضوا) بقطع الهمزة (وإن ظلمونا) أي نرضيهم ولو كانوا ظالمين علينا (وإن ظلمتم) على بناء المجهول أي وإن اعتقدتم أنكم مظلمون بسبب حبكم أموالكم ولم يرد أنهم وإن كانوا مظلومين حقيقة يجب إرضاءهم. بل المراد أنه يستحب إرضاءهم وإن كانوا مظلومين حقيقة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - فإن تمام زكاتكم رضاهم. قال الطيبي: لأن لفظة "إن" الشرطية هنا تدل على الفرض، والتقدير. لا على الحقيقة، ونحوه قوله عليه الصلاة والسلام اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد الحبشي- انتهى. وقال السندي: علم - صلى الله عليه وسلم - إن عامليهم لا يظلمون ولكن أرباب الأموال لمحبتهم بالأموال يعدون الأخذ ظلما، فقال لهم ما قال. فليس فيه تقرير للعاملين على الظلم ولا تقرير للناس على الصبر عليه، وعلى أعطاء الزيادة على ما حده الله تعالى في الزكاة- انتهى والحديث رواه مسلم لكن ليس عنده قوله وإن ظلمتم. قال النووي: قوله أرضوا مصدقيكم معناه ببذل الواجب وملاطفتهم وترك مشاقتهم، وهذا محمول على ظلم لا يفسق به الساعي إذ لو فسق لا نعزل ولم يجب الدفع إليه بل لا يجزي، والظلم قد يكون بغير معصية. فإنه مجاوزة الحد ويدخل في ذلك المكروهات- انتهى. (رواه أبوداود) عن أبي كامل عن عبدالواحد بن زياد، وعن عثمان بن أبي شيبة عن عبدالرحيم بن سليمان كلاهما عن محمد بن إسماعيل واللفظ المذكور لأبي كامل إلا قوله وإن ظلمتم فإنه زاده عثمان وأخرجه مسلم عن أبي كامل عن عبدالواحد. وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبدالرحيم بن سليمان. وعن محمد بن بشار عن يحيى بن سعيد. وعن إسحاق عن أبي أسامة كلهم عن محمد بن إسماعيل بدون هذه الزيادة. وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص362) عن يحيى، والنسائي عن محمد بن المثنى، وابن بشار عن يحيى بدون الزيادة المذكورة، وكذا البيهقي من طريق أبي أسامة (ج4 ص114) وأخرجه البيهقي أيضا من أبي داود (ج4 ص137).
(11/78)
1799- قوله: (وعن بشير) بفتح
الباء الموحدة وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة فراء مهملة (بن الخصاصية) بفتح
الخاء المعجمة وخفة الصاد المهملة الأولى المفتوحة وكسر الثانية بعدها تحتانية
مشددة مفتوحة وتاء تأنيث. هو بشير بن معبد وقيل ابن زيد بن معبد السدوسي المعروف
بابن الخصاصية، وكان اسمه في الجاهلية، زحما بالزاي المفتوحة، والحاء المهملة
الساكنة. فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيرا. صحابي جليل روى عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - وعنه بشير بن نهيك، وجرى بن كليب وديسم، رجل من بني سدوس وامرأته
ليلى المعروف بالجهدمة ولها صحبة أيضا، وجزم ابن عبدالبر وغيره، إن الخصاصية أم
بشير. قال الحافظ: وليس كذلك بل هي إحدى جداته
قال: قلنا: إن أهل الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون؟ قال:
لا)). رواه أبوداود.
1800- (14) وعن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - :
((العامل على الصدقة بالحق
(11/79)
وهي والدة جده الأعلى، ضباري بن سدوس حرر ذلك الدمياطي عن ابن الكلي وحزم به الرامهر مزي. وقال اسمها كبشة. وقيل: مارية بنت عمرو الغطريفية (قال قلنا إن الصدقة) هذا لفظ الحديث الموقوف رواه أبوداود من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن رجل يقال له ديسم عن بشير بن الخصاصية، قال قلنا إن أهل الصدقة الخ. فضمير قال للرجل الذي يقال له ديسم. وقوله "قلنا" أي لبشير بن الخصاصية ثم رواه أبوداود مرفوعا: قال حدثنا الحسن بن علي ويحيى بن موسى، قالانا عبدالرزاق عن معمر عن أيوب بإسناده ومعناه إلا أنه قال: قلنا يا رسول الله! إن أصحاب الصدقة، قال أبوداود: رفعه عبدالرزاق عن معمر، وقال البيهقي بعد رواية الحديث المرفوع من طريق أبي بكر بن داسة عن أبي داود، ورواه حماد ابن زيد عن أيوب فلم يرفعه. وعلى هذا فكان حق البغوي أن يورد في المصابيح الطريق المرفوع لا الموقوف، والعجب أنه لم يتنبه لذلك المصنف فوقع فيما وقع فيه البغوي مع أن الجزري قد أورد في جامع الأصول (ج5 ص358) لفظ المرفوع لا الموقوف. والمراد بأهل الصدقة أهل أخذ الصدقة من العمال والسعاة (يعتدون علينا) الاعتداء: مجاوزة الحد، يعني يظلموننا ويأخذون أكثر مما يجب علينا (أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون) يعني إذا علمنا أنهم يأخذون عن الخمس من الإبل، شاتين، مع أن واجبها شاة، فإن كان لنا عشر من الإبل، فهل يجوز أن نكتم خمسا. ونقول ليس لنا إلا خمس حتى إذا أخذوا شاتين عن خمس، لا يكون عليهم ظلم (قال لا) قال ابن الملك: وإنما يرخص لهم في ذلك كتمان بعض المال خيانة. والخيانة كذب ومكر، ولأنه لو رخص لربما كتم بعضهم على عامل، غير ظالم. وفي الحديث دليل على أنه لا يجوز كتم شيء عن المصدقين، وإن تعدوا، قيل كأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنهم لحبهم المال. يرون أخذ الحق اعتداء وإلا فلا يصح صدور الاعتداء من عماله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك سماهم مبغضين، وإلا فلا يجب إعطاء
(11/80)
الزيادة لقوله - صلى الله عليه
وسلم -، ومن سئل فوقه فلا يعطيه (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج4 ص104) وعبدالرزاق،
وسكت عنه أبوداود والمنذري، وفي إسناده ديسم السدوسي، ذكره ابن حبان في الثقات.
وقال في التقريب مقبول.
1800- قوله: (العامل على الصدقة) أي الزكاة (بالحق) متعلق بالعامل ويشهد له رواية
أحمد.
كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)). رواه أبوداود، والترمذي.
1801- (15) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: ((لا جلب ولا جنب،
(11/81)
(ص143) بلفظ العامل بالحق على الصدقة أي عملا بالصدق والصواب، أو بالإخلاص والاحتساب. قاله القاري: وزاد في رواية لأحمد: لوجه الله عزوجل. وقيل العامل بالحق أي بأن لم يخن في الصدقة، ولم يظلم أرباب الأموال فلم يأخذ منهم أكثر مما يجب عليهم ولا أقل (كالغازي في سبيل الله) أي في حصول الآجر، ويستمر ذلك (حتى يرجع) أي العامل (إلى بيته) أي محل أقامته، يعني يكون له الثواب ذهابا وإيابا إلى حين الرجوع، كما ثبت في الغازي. وقال القاري: قوله "كالغازي" أي في تحصيل بيت المال واستحقاق الثواب في تمشية أمر الدارين. قال ابن العربي: في شرح الترمذي، وذلك إن الله ذو الفضل العظيم قال من جهز فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا. والعامل على الصدقة خليفة الغازي لأنه يجمع مال سبيل الله فهو غاز بعمله وهو غاز بنيته. وقال عليه السلام: أن بالمدينة قوما ما سلكتم واديا، ولا قطعتم شعبا إلا وهو معكم حبسهم العذر فكيف بمن حسبه العمل للغازي وخلافته وجمع ماله الذي ينفقه في سبيل الله، وكما لا بد من الغزو، فلا بد من جمع المال الذي يغزى به فهما شريكان في النية شريكان في العمل، فوجب أن يشتركا في الأجر- انتهى. وقيل: في الحديث إلحاق الناقص بالكامل، ترغيبا. والله تعالى أعلم (رواه أبوداود) في الخراج (والترمذي) في الزكاة، وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص465 ج4 ص143) وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحة والحاكم (ج1 ص406) وغيرهم. وقد سكت عنه أبوداود، وحسنه الترمذي، وأقره المنذري. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وفي سنده عندهم محمد بن إسحاق، وقد عنعن، والحديث عزاه الهيثمي لأحمد. وقال وفيه محمد بن إسحاق وهو ثقة. ولكنه مدلس وبقية رجاله رجال الصحيح. وفي الباب عن عبدالرحمن بن عوف عند الطبراني في الكبير بلفظ "العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته" قال الهيثمي: وفيه دويب ابن عمامة قال
(11/82)
الذهبي ضعفه الدارقطني: وغيره
ولم يهدر.
1801- قوله: (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) أي جد شعيب عبدالله بن عمرو بن
العاص ففي رواية أحمد (ج2 ص180) "عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن
عمرو" وفي رواية (ج2 ص185) له أيضا "عن عمرو بن شعيب عن أبيه عبدالله بن
عمرو" وقد سمع شعيب من جده عبدالله فالحديث موصول ليس بمنقطع، ولا مرسل وقد
تقدم تحقيقة (لا جلب) بفتح الجيم واللام (ولا جنب) بفتح
ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم)).
(11/83)
الجيم والنون وكل منهما يكون في الزكاة، والرهان، أي سباق الفرس. فأما الجلب في الزكاة فهو أن ينزل الساعي محلا بعيدا من مواضع أرباب الأموال، ولا يأتي أماكنهم لأخذ الصدقات. ولكن يرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها أو يأمر أرباب الأموال أن يجمعوا أموالهم عنده ويجلبوها إليه ليأخذ زكاتها فنهى عن ذلك وأمر بأخذ صدقاتهم على أماكنهم ودورهم ومنازلهم ومياههم، لسهولة الأخذ. حينئذ لأن في إتيانهم وسوق مواشيهم وغيرها من الأموال من مواضعهم إلى الموضع، الذي نزل فيه العامل مشقة، والجنب في الزكاة أن يجنب أي يبعد أرباب الأموال من مواضعهم المعهودة إلى مواضع بعيدة حتى يحتاج العامل إلى الأبعاد في طلبهم فنهى عن ذلك لما في إيتأنه إليهم من المشقة، والحاصل أن الجلب أن يقرب العامل أموال الناس إليه والجنب أن يبعد صاحب المال بماله عن العامل، وقيل الجنب في الزكاة أن ينزل الساعي بأقصى محال أرباب الأموال، ثم يأمر بالأموال بأن تجنب إليه أي تحضر فنهى عن ذلك لما في من شدة المشقة على أرباب الأموال، والفرق بين التفسرين أن حكم النهي على الأول: يكون متعلقا بالمعطى، وعلى الثاني: بالساعي والتفسير الأول أولى وأدخل في الفرق بينه وبين الجلب بخلاف الثاني فإنه لا فرق كثير بينهما عليه، وأما الجلب في سباق الخيل فهو أن يتبع الفارس رجلا فرسه ليزجره ويجلب عليه ويصيح به حثا له على قوة الجري، فنهى عنه، لما يترتب إليه من أضرار الفرس، وفسره مالك بأن تجلب الفرس في السباق فيحرك وراءه شيء يستحث فيسبق والجنب في السباق أن يجنب فرسا إلى فرسه الذي يسابق عليه فإذا افتر المركوب يتحول إلى المجنوب فيسبق صاحبه، فنهى عنه. قيل: وكان وجه النهي عنه، أن السباق إنما هو لبيان إختباره قوة الفرس وبهذا الفعل لا يعرف قوة واحد من الفرسين، فرب فرس توانى أولا. أو في الأثناء ثم سبق. قال الخطابي: في المعالم (ج2 ص40- 41) الجلب، يفسر تفسيرين يقال:
(11/84)
إنه في رهان الخيل، وهو أن
يجلب عليها عند الركض (ليحتد في الجري) ويقال: هو في الماشية. يقول لا ينبغي
للمصدق أن يقيم بموضع، ثم يرسل إلى أهل المياه فيجلبوا إليه مواشيهم فيصدقها ولكن
ليأتيهم على مياهم حتى يصدقهم هناك وأما الجنب فتفسيره أيضا على وجهين، أحدهما أن
يكون في الصدقة وهو أن أصحاب الأموال لا يجنبون عن مواضعهم أي لا يبعدون عنها حتى
يحتاج المصدق إلى أن يتبعهم ويمعن في طلبهم. وقيل: أن الجنب في الرهان، وهو أن
يركب فرسا فيركضه وقد أجنب معه فرسا آخر فإذا قارب الغاية ركبه وهو جام فيسبق
صاحبه- انتهى. وكذا فسرهما الجزري في جامع الأصول (ج5 ص479) قال الطيبي: كلا
اللغطين مشترك في معنى السباق، والزكاة والقرينة الموضحة لأداء المعنى الثانية
قوله : (ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم) أي منازلهم وأماكنهم ومياههم وقبائلهم على
سبيل الحصر لأنه كنى بها عنه فإن أخذ الصدقة في دورهم لازم لعدم بعد الساعي عنها
فيجلب إليه ولعدم بعد المزكي فإنه إذا بعد عنها لم يؤخذ فيها- انتهى. وحاصله أن
رواه أبوداود.
1802- (16) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((من استفاد
مالا فلا زكاة فيه، حتى يحول عليه الحول)).
(11/85)
آخر الحديث مؤكد لأوله. أو إجمال لتفصيله. ولا يخفى ما فيه على المتأمل (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص180، 215- 216) والبيهقي (ج4 ص110) قال الشوكاني: الحديث سكت عنه أبوداود والمنذري والحافظ في التلخيص وفي إسناده محمد بن إسحاق وقد عنعن - انتهى. قلت: قد صرح بالتحديث عند أحمد (ج2 ص216) فزال شبهة التدليس، وفي الباب عن عمران بن حصين عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي وابن حبان: وصححاه بمثل حديث الباب. وهو متوقف على صحة سماع الحسن من عمران. وقد أختلف في ذلك: وزاد أبوداود، بعد قوله لا جلب ولا جنب في الرهان: وعن أنس عند أحمد والبزار وابن حبان وعبدالرزاق وأعله البخاري، والترمذي والنسائي، وأبوحاتم، وأخرجه النسائي عنه من وجه آخر: وقال المنذري (ج2 ص206) وقد أخرجه أبوداود في الجهاد: من حديث الحسن البصري عن عمران بن حصين، وليس فيه ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم، وأخرجه أيضا من هذا الوجه الترمذي والنسائي. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقد ذكر علي بن المديني وأبوحاتم الرازي وغيرهما من الأئمة، أن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين- انتهى.
(11/86)
1802- قوله: (من استفاد مالا فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول) قال ابن الملك: يعني من وجدها مالا، وعنده نصاب من ذلك الجنس، مثل أن يكون له ثمانون شاة ومضى عليها ستة أشهر ثم حصل له أحد وأربعون شاة بالشراء أو بالإرث أو غير ذلك، لا يجب عليه للأحد والأربعين حتى يتم حولها من وقت الشراء أو الإرث لأن المستفاد لا يكون تبعا للمال الموجود. وبه قال الشافعي وأحمد: وعند أبي حنيفة ومالك يكون المستفاد تبعا له فإذا تم الحول على الثمانين وجب الشأتان، يعني في الكل كما أن النتائج تبع للأمهات- انتهى. وقال ابن قدامة: في المغني (ج2 ص626) أن استفاد مالا مما يعتبر له الحول ولا مال له سواه، وكان نصابا، أو كان له مال من جنسه لا يبلغ نصابا، فبلغ بالمستفاد نصابا انعقد عليه حول الزكاة من حينئذ فإذا تم حول وجبت الزكاة فيه، وإن كان عنده نصاب لم يخل المستفاد من ثلاثة أقسام: أحدها أم يكون المستفاد من نمائة كربح مال التجارة ونتاج السائمة فهذا يجب ضمه إلى ما عنده من أصله فيعتبر حوله بحوله لا نعلم فيه خلافا لأنه تبع له من جنسه فأشبه النماء المتصل وهو زيادة قيمة عروض التجارة. الثاني
(11/87)
أن يكون المستفاد من غير جنس ما عنده فهذا له حكم نفسه لا يضم إلى ما عنده في حول ولا نصاب، بل أن كان نصابا استقبل به حولا وزكاه وإلا فلا شيء فيه، وهذا قول جمهور العلماء منهم أبوبكر، وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. الثالث أن يستفيد مالا من جنس نصاب عنده قد انعقد عليه حول الزكاة بسبب مستقل مثل أن يكون عنده أربعون من الغنم مضى عليها بعض الحول، فيشتري أو يتهب مائة، فهذا لا تجب فيه الزكاة حتى يمضي عليه حول أيضا وبهذا قال الشافعي: وقال أبوحنيفة يضمه إلى ما عنده في الحول فيزكيهما جميعا عند تمام حول المال الذي كان عنده، لأنه يضم إلى جنسه في النصاب فوجب ضمه إليه في الحول كالنتاج ولأنه إذا ضم في النصاب وهو سبب فضمه إليه في الحول الذي هو شرط أولى، وبيان ذلك أنه لو كان عنده مائتا درهم مضى عليها نصف الحول فوجب له مائة أخرى فإن الزكاة تجب فيها إذا تم حولها بغير خلاف، ولو لا المأتان ما وجب فيها شيء فإذا ضمت إلى المائتين في أصل الوجوب فكذلك في وقته، ولأن إفراده بالحول يفضي إلى تشقيص الواجب في السائمة واختلاف أوقات الواجب، والحاجة إلى ضبط مواقيت التملك ومعرفة قدر الواجب في كل جزء ملكه ووجوب القدر اليسير الذي لا يتمكن من إخراجه ثم يتكرر ذلك في كل حول ووقت وهذا حرج مدفوع بقوله تعالى: ?وما جعل عليكم في الدين من حرج? [الحج: 78] وقد اعتبر الشرع ذلك بإيجاب غير الجنس فيما دون خمس وعشرين من الإبل وجعل الأوقاص في السائمة وضم الأرباح والنتاج إلى حول أصلها مقرونا بدفع هذه المفسدة فيدل على أنه علة لذلك فوجب تعدية الحكم إلى محل النزاع وقال مالك: كقوله في السائمة دفعا لتشقيص الواجب وكقولنا في الإثمان لعدم ذلك فيها. ولنا حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول (أخرجه ابن ماجه وغيره بسند ضعيف) ثم ذكرت حديث ابن عمر قال وقد روى عن أبي بكر الصديق وعلي وابن عمر
(11/88)
وعائشة وعطاء وعمر بن عبدالعزيز وسالم والنخعي إنه لا زكاة في المستفاد حتى يحول عليه الحول. ولأنه مملوك أصلا فيعتبر فيه الحول شرطأ كالمستفاد من غير الجنس. قال: وأما الأرباح والنتاج فإنما ضمت إلى أصلها، لأنها تبع له ومتولدة منه، ولا يوجد ذلك في مسألتنا، وإن سلمنا أن علة ضمنها ما ذكروه من الحرج. فلا يوجد ذلك في مسألتنا، لأن الأرباح تكثر وتتكرر في الأيام والساعات ويعسر ضبطها، وكذلك النتاج وقد يوجد ولا يشعر به فالمشقة فيه أتم لكثرة تكرره بخلاف هذه الأسباب المستقلة. فإن الميراث والاغتنام والاتهاب ونحو ذلك يندر ولا يتكرر فلا يشق ذلك فيه، فإن شق فهو درن المشقة في الأرباح والنتاج فيمتنع قياسه عليه، واليسر فيما ذكرنا أكثر. لأن الإنسان يتخير بين التأخير والتعجيل وما ذكروه يتعين عليه التعجيل.ولا شك إن التخيير بين شيئين أيسر من تعيين أحدهما، وأما ضمه إليه في النصاب فلأن النصاب معتبر لحصول الغني وقد حصل الغني بالنصاب الأول والحول معتبر ليحصل أداء الزكاة من الربح
(11/89)
ولا يحصل ذلك بمرور الحول على أصله فوجب أن يعتبر الحول له- انتهى. وأعلم أن نماء العين على الثلاثة أنواع: ربح، وغلة، وفائدة، ونماء الماشية على نوعين: فائدة، ونسل. والربح زائد ثمن مبيع تجر على ثمنه الأول ذهبا أو فضة، والغلة ما تجدد من سلع التجارة قبل بيع رقابها كغلة العبد ونجوم الكتابة. والفائدة ما تجدد لا عن مال أو عن مال غير مزكي كهبة وميراث واشتراء وثمن عرض مقتنى من عقار أو حيوان باعه بعين، والنسل هو نتاج الماشية وأولادها واختلف العلماء في ضم هذه الأنواع إلى الأصل واعتبار حولها. فأما الربح فقال ابن رشد: في البداية (ج1 ص244) اختلفوا في اعتبار حول ربح المال على ثلاثة أقوال: فرأى الشافعي أن حوله يعتبر من يوم استفيد سواء كان الأصل نصابا أو لم يكن. وهو مروي عن عمر بن عبدالعزيز (كما في كتاب الأموال (ص417) إنه كتب أن لا يعرض لإرباح التجار حتى يحول عليها الحول. وقال مالك: حول الربح هو حول الأصل أي إذا كمل للأصل حول، زكى الربح معه سواء كان الأصل نصابا أو أقل من نصاب إذا بلغ الأصل مع ربحه نصابا، قال أبوعبيد (ص414) ولم يتابعه عليه أحد من الفقهاء إلا أصحابه، وفرق قوم بين أن يكون رأس المال الحائل عليه الحول نصابا أو لا يكون؟ فقالوا: إن كان نصابا زكى الربح مع رأس ماله وإن لم يك نصابا لم يزك، وممن قال بهذا القول الأوزاعي وأبوثور وأبوحنيفة، وسبب اختلافهم تردد الربح بين أن يكون حكمه حكم المال المستفاد، أو حكم الأصل، فمن شبهه بالمال المستفاد ابتداء. قال: يستقبل به الحول ومن شبهه بالأصل وهو رأس المال. قال: حكمه حكم رأس المال. إلا أن من شروط هذا التشبيه أن يكون رأس المال قد وجبت فيه الزكاة، وذلك لا يكون إلا إذا كان نصابا ولذلك يضعف قياس الربح على الأصل، في مذهب مالك. ويشبه أن يكون الذي اعتمده مالك في ذلك هو تشبيه ربح المال بنسل الغنم، لكن نسل الغنم مختلف فيه أيضا. وقد روى عن مالك مثل
(11/90)
قول الجمهور- انتهى. قال الزرقاني: هذا مذهب مالك، إن حول الربح حول أصله وإن لم يكن أصله نصابا قياسا على نسل الماشية ولم يتابعه غير أصحابه، وقاسه على ما لا يشبهه في أصله ولا في فرعه وهما أصلان، والأصول لا يرد بعضها إلى بعض، وإنما يرد الفرع إلى أصله - انتهى. قلت والحنابلة موافقون للحنفية في مسألة الربح كما قال الخرقي (ج3 ص37) إذا كان في ملكه نصاب للزكاة فاتجر فيه فنمى أدى زكاة الأصل مع النماء إذا حال الحول. وقال في الروض المربع حصول الربح حول أصله إذا كان الأصل نصابا فحول الجميع من كمال نصابه وإن لم يكن الأصل نصابا- انتهى. وفي مسلك الشافعية تفصيل خلافا لما حكى شراح الحديث من مذهب الشافعي قال ابن قدامة (ج3 ص37) قال الشافعي: إن نضت الفائدة قبل الحول لم يبين حولها على حول النصاب، وأستأنف بها حولا لقوله عليه السلام؟: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" ولأنها فائدة
(11/91)
تامة لم تتولد مما عنده فلم يبين على حوله كما لو استفاد من غير الربح وإن اشترى سلعة بنصاب فزادت قيمتها عند رأس الحول. فإنه يضم الفائدة ويزكي عن الجميع بخلاف ما إذا باع السلعة قبل الحول بأكثر من نصاب فإنه يزكى عند رأس الحول عن النصاب ويستأنف للزيادة حولا، وقال في شرح الإقناع يضم ربح حاصل في أثناء الحول، لأصل في الحول إن لم ينض بما يقوم به، فلو اشترى عرضا بمائتي درهم فصارت قيمته في الحول ثلاث مائة زكاها، أما إذا نض دراهم أو دنانير بما يقوم به، وامسكه إلى آخر الحول فلا يضم إلى الأصل. بل يزكي الأصل بحوله ويفرد الربح بحول - انتهى. وقد استدل ابن قدامة لمذهب الحنابلة، بأن الربح نماء جار في الحول، تابع لأصله في الملك، فكان مضموما إليه في الحول كالنتاج. وكما لو لم ينض ولأنه ثمن عرض تجب زكاة بعضه، ويضم إلى ذلك البعض قبل البيع فيضم إليه بعده كبعض النصاب. ولأنه لو بقي عرضا زكى جميع القيمة فإذا نض كان أولى، لأنه يصير متحققا، ولأن هذا الربح كان تابعا للأصل في الحول، كما لو لم ينض فبنضه لا يتغير حوله. والحديث فيه مقال، وهو مخصوص بالنتاج، وبما لم ينض فنقيس عليه- انتهى. وأما الفائدة فقال ابن رشد: (ج1 ص244) أجمعوا على أن المال إذا كان أقل من نصاب، وأستفيد إليه مال من غير ربحه يكمل من مجموعها نصاب، إنه يستقبل به الحول من يوم كمل. واختلفوا إذا استفاد مالا، وعنده نصاب مال آخر قد حال عليه الحول. فقال مالك: يزكي المستفاد إن كان نصابا لحوله، ولا يضم إلى المال الذي وجبت فيه الزكاة. وبهذا القول في الفوائد. قال الشافعي: (وهو قول أحمد أيضا) وقال أبوحنيفة وأصحابه والثوري الفوائد كلها تزكي بحول الأصل، إذا كان الأصل نصابا، وكذلك الربح عنده، ذكر ابن رشد سبب اختلافهم في ذلك وهذا الاختلاف في حكم فائدة العين. وأما الفائدة الماشية فإن مذهب مالك فيها بخلاف مذهبه في فائدة العين، وذلك أنه يبني فائدة
(11/92)
الماشية على الأصل، إذا كان
الأصل نصابا، كما يفعل أبوحنيفة في فائدة الدراهم. وفي فائدة الماشية فأبوحنيفة
مذهبه في الفوائد حكم واحد، أعنى أنها تبني على الأصل إذا كانت نصابا كانت فائدة
غنم، أو فائدة ناض، والأرباح عنده والنسل كالفوائد. وأما مالك فالربح والنسل عنده
حكمهما واحد ويفرق بين فوائد الناض أي العين، وفوائد الماشية. وأما الشافعي فالربح
وفائدة العين، وفائدة الماشية عنده حكمه مع واحد، فاعتبار حولهما بأنفسها. ونسل
الماشية حكمه أن يعتبر حوله بالأصل، إذا كان نصابا. وأما أحمد فالأرباح والنسل
عنده حكمهما واحد، باعتبار حولهما بالأصل إذا كان نصابا وفائدة العين وفائدة
الماشية واحد أيضا باعتبار حولهما بأنفسهما، وكأنه إنما فرق مالك بين الماشية
والعين إتباعا لعمر وإلا فالقياس فيهما واحد أعني أن الربح شبيه بالنسل، والفائدة
بالفائدة. وحديث عمر هذا هو أنه أمر أن يعد عليهم بالسخال ولا يأخذ منهما شيئا.
قال
رواه الترمذي، وذكر جماعة أنهم
(11/93)
الزرقاني (ج2 ص117) حاصل مذهب مالك في فائدة الماشية. أنهما إنما تضم إلى نصاب، وإلا أي إن لم تكن عنده نصابها قبل ذلك استؤنف بالجميع حولا. وإن كان له نصاب من نوع، ما أفاد زكى الفائدة على حول النصاب ولو استفادها قبل الحول بيوم. وبه قال أبوحنيفة، وقال الشافعي وأبوثور لا تضم الفوائد. ويزكي كل على حوله الإنتاج الماشية فتزكى مع أمهاتها إن كانت نصابا- انتهى. وقال في شرح الكبير وضمت الفائدة من النعم للنصاب من جنسه، وإن حصلت قبل تمام حول النصاب بلحظة: لا لأقل من نصاب، بل تضم الأولى للثانية وهذا بخلاف فائدة العين، فإنها لا تضم لنصاب قبلها، بل يستقبل بها ويبقى كل مال على حوله - انتهى. وأما نسل الماشية أي نتاجها. فقال مالك: حول النسل هو حول الأمهات كانت الأمهات نصابا، أو لم تكن. كما قال في ربح الناض. وقال الشافعي وأبوحنيفة وأحمد وأبوثور. لا يكون حول النسل حول الأمهات، إلا أن تكون الأمهات نصابا، وسبب اختلافهم هو بعينه سبب اختلافهم في ربح المال. والراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد. إن الربح والنسل حكمهما واحد، باعتبار حولهما باعتبار حولهما بالأصل. وفائدة العين والماشية حكمهما أيضا واحد، باعتبار حولهما بأنفسهما والله تعالى أعلم. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا البيهقي (ج4 ص95، 104) والدارقطني في السنن (ص198) كلهم من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر وعبدالرحمن ضعيف. قال الترمذي: والصحيح عن ابن عمر موقوف، وكذا قال البيهقي، وابن الجوزي والدارقطني وغيرهم. وأخرجه الدارقطني أيضا وابن عبدالبر في التمهيد مرفوعا، من طريق بقية بن وليد عن إسماعيل بن عياش عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. وهذا أيضا ضعيف بقية مدلس، وقد عنعن وإسماعيل ضعيف، في روايته عن غير الشاميين. وأخرجه الدارقطني أيضا، في غرائب مالك عن إسحاق بن إبراهيم الحنيني عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا نحوه. قال
(11/94)
الدارقطني: الحنيني ضعيف
والصحيح عن مالك موقوف في الباب عن أنس أخرجه الدارقطني في السنن (ص199) وابن عدي
في الكامل. وأعله بحسان بن سياه، وعن عائشة، أخرجه ابن ماجه والبيهقي (ج4 ص95،
103) وأبوعبيد في الأموال (ص413) وهو ضعيف أيضا وعن أم سعد الأنصارية، امرأة زيد
بن ثابت بنحو حديث الباب ذكره الهيثمي (ج3 ص79) وعزاه للطبراني قال. وفيه عنبسة بن
عبدالرحمن وهو ضعيف، وروى البيهقي عن أبي بكر وعلي وعائشة موقوفا عليهم، مثل ما
روى عن ابن عمر، قال: والاعتماد في ذلك على الآثار الصحيحة، فيه عن أبي بكر وعثمان
بن عفان وعبدالله بن عمر وغيرهم، وقال أبوعبيد (ص413) بعد ذكر حديث عائشة مرفوعا،
فإن كان لهذا أصل، فهو السنة. وإلا ففي من سمينا من الصحابة قدوة ومتبع- انتهى.
وقال الحافظ: في التلخيص بعد ذكر قول البيهقي، قلت حديث علي (عند أبي داود وغيره)
لا بأس بإسناده، والآثار تعضده فيصلح للحجة - انتهى. (وذكر) أي وسمي
وقفوه على ابن عمر.
1803- (17) وعن علي: ((أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته
قبل أن تحل، فرخص له ذلك)).
الترمذي (جماعة) أي بأسماءهم، منهم أيوب وعبيدالله (أنهم) بدل اشتمال، أي ذكر أن
جماعة عددهم (وقفوه) أي هذا الحديث (على ابن عمر) أي جعلوه من ابن عمر، ولم يرفعوه
إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الترمذي: والموقوف أصح، وقال الحافظ في
البلوغ. بعد ذكر حديث ابن عمر، المرفوع ما لفظه. والراجح وقفه، قال الأمير
اليماني: له حكم الرفع، لأنه لا مسرح للاجتهاد فيه- انتهى. وقد بسط الزيلعي في نصب
الراية (ج2 ص328- 329- 330) طرق هذا الحديث، من أحب الوقوف عليها رجع إليه.
(11/95)
1803- قوله: (قبل أن تحل) بكسر الحاء أي قبل أن تجب، ومنه قوله تعالى: ?أم أردتم أن يحل عليكم غضب?- [طه: 86] أي يجب على قراءة الكسر. ومن حل الدين حلولا، وأما الذي بمعنى النزول، فبضم الحاء. ومنه قوله تعالى: ?أو تحل قريبا من دارهم?- [الرعد: 31] قاله السندي: وقيل: أي قبل أن تسير حالا بمضيء الحول. وقيل: أي قبل أن يجيء وقتها من حلول الأجل بمعنى مجيئه، وقال ابن حجر: أي قبل أن يتم حولها وهو حاصل المعنى (فرخص له) أي للعباس (في ذلك) أي في تعجيل الصدقة. قال ابن الملك: هذا يدل على جواز تعجيل الزكاة بعد حصول النصاب قبل تمام الحول- انتهى. واختلف العلماء فيه، فذهب الشافعي وأحمد وأبوحنيفة وسعيد بن جبير والأوزاعي وإسحاق وأبوعبيد إلى جواز ذلك، وقال ربيعة ومالك وداود إنه لا يجوز، واستدل لذلك بما روى أنه لا زكاة حتى يحول الحول. وأجيب عنه بأن الوجوب متعلق بالحلول، فلا وجوب حتى يحول عليه الحول، وهذا لا ينفي جواز التعجيل. واحتج أيضا لمالك ومن وافقه، بأن الحول أحد شرطي الزكاة فلم يجز تقديم الزكاة عليه كالنصاب. وأجيب عن هذا، بأن تقديم الزكاة على النصاب تقديم لها على سببها، فأشبه تقديم الكفارة على اليمين، وكفارة القتل على الجرح، فلم يجز بخلاف تقديم الزكاة على الحول، فإنه تعجيل لمال وجد سبب وجوبه، فجاز كتعجيل قضاء الدين قبل حلول أجله، وأداء كفارة اليمين بعد الحلف وقبل الحنث، وقد سلم مالك تعجيل الكفارة، وبأنه إذا قدم على النصاب قدمها على الشرطين، وإذا قدمها على الحول قدمها على أحدهما. ومن قواعدهم إن ماله سببان، يقدم على أحدهما لا عليهما، فجاز تقديمها على الحول لا النصاب. واستدل له أيضا بأن للزكاة وقتا، فلم يجز تقديمها عليه كالصلاة. وأجيب عنه بأن الوقت إذا دخل في الشيء رفقا بالإنسان، كان له أن يعجله ويترك الإرفاق بنفسه كالدين المؤجل. وأم الصلاة والصيام فتعبد محض،
(11/96)
رواه أبوداود، والترمذي، وابن
ماجه، والدارمي.
1804- (18) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -،
خطب الناس فقال: ((ألا
من ولى يتيما له فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)).
والتوقيت فيهما غير معلول، فيجب إن يقتصر عليه. قاله ابن قدامة في المغنى. (ج2
ص630) وقال ابن الهمام: فيه خلاف، لمالك، وهو يقول الزكاة إسقاط الواجب، ولا إسقاط
قبل الوجوب، وصار كالصلاة قبل الوقت بجامع أنه أداء قبل السبب إذا السبب هو النصاب
الحولي، ولم يوجد. قلنا لا نسلم اعتبار الزائد على مجرد النصاب جزاء من السبب بل
هو النصاب فقط، والحول تأجيل في الأداء بعد أصل الوجوب فهو كالدين المؤجل وتعجيل
المؤجل صحيح، فالأداء بعد النصاب كالصلاة في أول الوقت لا قبله. وكصوم المسافر رمضان،
لأنه بعد السبب. ويدل على صحة هذا الاعتبار ما في أبي داود والترمذي من حديث علي
إن العباس سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل زكاته الحديث. (رواه أبوداود
الخ) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص104) والحاكم (ج3 ص332) والدارقطني (ص213) والبيهقي
(ج4 ص111) وغيرهم، وفيه اختلاف ذكره الدارقطني والبيهقي، من شاء الوقوف عليه رجع
إليهما. وقد رجحا إرساله، وكذا رجحه أبوداود. وفي الباب عن أبي رافع عند أبي داود
الطيالسي والدارقطني والطبراني وإسناده ضعيف وعن ابن مسعود عند البزار والطبراني،
وهو أيضا ضعيف. وعن طلحة بن عبيدالله عند أبي يعلى والبزار وابن عدي والدارقطني،
وفيه الحسن بن عمارة وهو متروك، وعن ابن عباس عند الدارقطني، وهو ضعيف أيضا. من
أحب الإطلاع على ألفاظها رجع إلى مجمع الزائد (ج3 ص79) والفتح: قال الحافظ: بعد
ذكر هذه الروايات، وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر
بمجموع هذه الطرق - انتهى. وقال الأمير اليماني: قد ورد هذا من طرق بألفاظ
مجموعها، يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - تقدم من العباس زكاة
(11/97)
عامين. وإختلفت الروايات هل هو
استلف ذلك أو تقدمه ولعلهما واقعان معا- انتهى.
1804- قوله: (ألا) للتنبيه (من ولى يتيما) بفتح الواو وكسر اللام، قال القاري: وفي
نسخة بضم الواو وتشديد اللام المكسورة أي صار ولى يتيم (له مال) صفة
"ليتيما" أي من صار وليا ليتيم ذي مال (فليتجر) بتشديد الفوقية أي
بالبيع والشراء (فيه) أي في مال اليتيم وفي رواية أبي عبيد فليتجر له فيه (ولا
يتركه) بالنهي وقيل بالنفي (حتى تأكله الصدقة) أي تنقصه وتفنيه لأن الأكل سبب
الإفناء. قال ابن الملك: أي بأخذ الزكاة منها فينقص شيئا فشيئا: وهذا يدل على وجوب
الزكاة في مال الصبي، وبه قال: الشافعي ومالك
(11/98)
وأحمد, وعند أبي حنيفة لا زكاة فيه - انتهى. وقال ابن قدامة: الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون لوجود الشرائط الثلاث. (أي الحرية والإسلام وتمام الملك) فيهما روى ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وعائشة والحسن بن علي وجابر رضي الله عنهم. وبه قال جابر بن زيد، وابن سيرين وعطاء ومجاهد وربيعة ومالك وابن أبي ليلى والشافعي وابن عيينة وإسحاق وأبوعبيد وأبوثور. ويحكي عن ابن مسعود والثوري والأوزاعي، أنهم قالوا: تجب الزكاة ولا تخرج، حتى يبلغ الصبي ويفيق المعتوة قال ابن مسعود: أحصى ما يجب في مال اليتيم من الزكاة, فإذا بلغ، أعلمه فإن شاء زكى وإن لم يشأ لم يزك. وروى نحو هذا عن إبراهيم. وقال الحسن البصري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وأبووائل النخعي وأبوحنيفة: لا تجب الزكاة في أموالها. وقال أبوحنيفة: يجب العشر في زروعهما وثمرتهما وتجب صدقة الفطر عليهما. واحتج في نفي الزكاة بقوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي يبلغ وعن المجنون حتى يفيق، وبأنها عبادة محضة فلا تجب عليهما كالصلاة والحج ولنا ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال من ولى يتيما له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكلة الصدقة. أخرجه الدارقطني، وفي رواية المثنى بن الصباح، وفيه مقال وروى موقوفا على عمرو إنما تأكله الصدقة بإخراجها، وإنما يجوز إخراجها إذا كانت واجبة لأنه ليس له أن يتبرع بمال اليتيم، ولأن من وجب العشر في زرعه وجب ربع العشر في ورقه كالبالغ العاقل، ويخالف الصلاة والصوم فإنها مختصة بالبدن وبنية الصبي ضعيفة عنها والمجنون لا يتحقق منه نيتها والزكاة حق يتعلق بالمال فأشبه نفقة الأقارب والزوجات واروش الجنايات وقيم المتلفات، والحديث أريد به رفع الإثم والعبادات البدنية بدليل وجوب العشر وصدقة الفطر والحقوق المالية، ثم هو مخصوص بما ذكرنا. والزكاة في المال في معناه فنقيسها عليه إذا تقرر هذا فإن الولي يخرجها عنهما من مالهما لأنها
(11/99)
زكاة واجبة فوجب إخراجها كزكاة
العاقل البالغ والولي يقوم مقامه في أداء ما عليه، ولأنها حق واجب على الصبي
والمجنون فكان على الولي أداءه عنهما كنفقة أقاربه وتعتبر نية الولي في الإخراج
كما تعتبر النية من رب المال - انتهى. كلام ابن قدامة قلت: واستدل للأئمة الثلاثة
أيضا بما روى الطبراني في الأوسط عن أنس مرفوعا اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها
الزكاة ذكره الحافظ في التلخيص (ص176) وفي الدراية (ص154) والزيلعي في نصب الراية
(ج2 ص332) وسكتا عنه، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 ص67) وقال أخبرني سيدي وشيخي
يعني الحافظ العراقي أن إسناده صحيح، والسيوطي في الجامع الصغير قال المناوي وسنده
كما قال الحافظ العراقي صحيح وبعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقا، وبما
روى في ذلك من آثار الصحابة عمر وعلي وابن عمر وعائشة وجابر رواها أبوعبيد والبيهقي
والدارقطني وغيرهم وذكرها الزيلعي
رواه الترمذي، وقال: في اسناده مقال، لأن المثنى
(11/100)
والحافظ في التلخيص وأجاب الحنفية عن حديث الباب بأن المراد بالصدقة النفقة على اليتيم نفسه، لأن الزكاة لا تفني جميع المال فعلم أن المراد به النفقة التي تستغرق جميع المال. قال السرخسي: ألا ترى أنه أضاف الأكل إلى جميع المال والنفقة هي التي تأتي على جميع المال دون الزكاة، ولأن اسم الصدقة قد ينطلق على النفقة لقوله عليه السلام: أن المسلم إذا أنفق على أهله كانت له صدقة وتعقب هذا بأن اسم الزكاة لا يطلق على النفقة لغة ولا شرعا ولا يقاس على لفظ صدقة، لأن اللغة لا تؤخذ بالقياس، والقول بأن رواية من روى بلفظ الزكاة رواية بالمعنى باطل مردود لأنه مجرد دعوى لا دليل عليها، ويرده أيضا أثر ابن مسعود المذكور في كلام ابن قدامة وغير ذلك من الآثار. وأجيب عن الأول بأن المراد بالأكل النقص كما قال القاري وابن الملك وأجاب ابن الهمام عن آثار الصحابة التي تدل على وجوب الزكاة في مال الصبي بأنها لا تستلزم كونها عن سماع إذ يمكن الرأي فيه فيجوز كونه بناء عليه، فحاصله قول الصحابي عن اجتهاد عارضه رأى صحابي آخر. قال محمد بن الحسن في كتاب الآثار أنا أبوحنيفة حدثنا ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن مسعود ليس في مال اليتيم زكاة. وليث كان أحد العلماء العباد، وقيل اختلط في آخر عمره، ومعلوم أن أباحنيفة لم يكن ليذهب فيأخذ عنه حال اختلاطه ويرويه وهو الذي شدد أمر الرواية ما لم يشدده غيره وروى مثل قول ابن مسعود عن ابن عباس تفرد به ابن لهيعة- انتهى. وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأنه لم يثبت عن أحد من الصحابة بسند صحيح عدم القول بوجوب الزكاة في مال الصبي، وأما أثر ابن مسعود فهو ضعيف من وجهين: الأول أنه منقطع والثاني أن في إسناده ليث بن أبي سليم، قال الحافظ: صدوق اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه. وقال البيهقي (ج4 ص108) هذا أثر ضعيف لأنه منقطع فإن مجاهدا لم يدرك ابن مسعود، وليث بن أبي سليم ضعيف عند أهل الحديث، ذكره الزيلعي (ج2
(11/101)
ص334) وسكت عليه، وأجاب ابن
الهمام عن الوجه الثاني ولم يجب عن الوجه الأول وفيما أجاب به عن الوجه الثاني
كلام فتفكر وأما أثر ابن عباس فقد تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف عند أهل الحديث،
وأما حديث رفع القلم عن ثلاثة ففي الاستدلال به على عدم وجوب الزكاة في مال الصبي
نظر كيف وقد رواه عائشة وعلي وهما قائلان بوجوب الزكاة في مال الصبي، وقال
الزيلعي: قال ابن الجوزي والجواب أن المراد قلم الإثم أو قلم الأذى - انتهى. وقد
بسط في الرد على من قاس الزكاة على الصلاة أبوعبيد في الأموال (ص454- 456) فأرجع
إليه (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أبوعبيد في الأموال (ص448) والدارقطني (ص206)
والبيهقي (ج4 ص107) (وقال) أي الترمذي (في اسناده مقال لأن المثنى) بضم الميم وفتح
المثلثة وتشديد النون مقصورا
ابن الصباح ضعيف.
?الفصل الثالث?
1805- (19) عن أبي هريرة، قال: لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستخلف
أبوبكر بعده، وكفر من كفر من العرب،
(11/102)
(ابن الصباح) بالمهملة المفتوحة والموحدة المشددة اليماني الأبناوي نزيل مكة (ضعيف) أي في الحديث والذي في الترمذي "يضعف في الحديث" قلت: ضعفه أبوحاتم وابن سعد وابن حبان وابن أبي عمار والساجي وسحنون الفقيه والدارقطني وغيرهم. وقال ابن حبان: كان ممن اختلط في آخر عمره. وقال أحمد: لا يساوي حديثه شيئا مضطرب الحديث، وذكره العقيلي في الضعفاء وأورد عن علي بن المديني سمعت يحيى القطان وذكر عنده المثنى فقال لم نتركه من أجل حديث عمرو بن شعيب ولكن كان اختلاط منه، ذكره الحافظ في تهذيبه (ج10 ص36- 37) وقال في التقريب: ضعيف اختلط بآخره وكان عابدا- انتهى. وقال الترمذي: إنما روى هذا الحديث من هذا الوجه ورواه بعضهم عن عمرو بن شعيب عن عمر بن الخطاب موقوفا عليه - انتهى. وقال ههنا سألت أحمد عن هذا الحديث فقال ليس بصحيح، ورواد الدارقطني من حديث أبي إسحاق الشيباني أيضا عن عمرو بن شعيب لكن راوية عند مندل بن علي وهو ضعيف ومن حديث العزرمي عن عمرو، والعزرمي ضعيف متروك، ورواه ابن عدى من طريق عبدالله بن علي وهو الأفريقي وهو ضعيف. قال الحافظ في بلوغ المرام: ولحديث عمرو شاهد مرسل عند الشافعي- انتهى. يعني ما رواه عن عبدالمجيد بن رواد عن ابن جريج عن يوسف بن ماهك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة. قال البيهقي بعد روايته من طريق الشافعي: وهذا مرسل، إلا أن الشافعي أكده بالاستدلال بالخبر الأول أي حديث أبي سعيد عند الشيخين ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة - الحديث. يعني لأنه يدل بعمومه على إيجاب الزكاة في مال كل حر مسلم وبما روى عن الصحابة في ذلك. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا المرسل: ولكن أكده الشافعي بعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقا.
(11/103)
1805- قوله: (لما توفي) بصيغة
المجهول (واستخلف) بصيغة المجهول أيضا أي جعل خليفة (بعده) أي بعد وفاته - صلى
الله عليه وسلم - (وكفر من كفر من العرب) بعض بعبادة الأوثان، وبعض بالرجوع إلى
إتباع مسيلمة وهم أهل اليمامة وغيرهم. واستمر بعض على الإيمان إلا أنه منع الزكاة،
وتأول أنها خاصة بالزمن النبوي. قال الحافظ
في الفتح قال القاضي عياض وغيره كان أهل الردة ثلاث أصناف: صنف عادوا إلى عبادة
الأوثان. وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكان كل منهما ادعى النبوة قبل موت
النبي - صلى الله عليه وسلم - فصدق مسيلمة أهل اليمامة وجماعة غيرهم، وصدق الأسود
أهل صنعاء وجماعة غيرهم، فقتل الأسود قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل،
وبقي بعض من آمن به فقاتلهم عمال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلافة أبي بكر،
وأما مسيلمة فجهز إليه أبوبكر الجيش، وعليهم خالد بن وليد فقتلوه. وصنف الثالث
استمروا على الإسلام لكنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي - صلى الله
عليه وسلم - وهم الذين ناظر عمر أبابكر في قتالهم كما وقع في حديث الباب. قال
الخطابي في المعالم (ج2 ص4): وهؤلاء أي الصنف الثالث في الحقيقة أهل بغي وإنما لم
يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصا لدخولهم في غمار أهل الردة فأضيف الاسم في
الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما وأرخ مبدأ قتال أهل البغي بأيام
علي بن أبي طالب إذ كانوا متفردين في زمانه لم يختلطوا بأهل شرك وقد كان في ضمن
هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن
ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن
يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة عن ذلك وفرقها فيهم- انتهى. وقال
أبومحمد بن حزم في الملل والنحل (ج2 ص79- 80): انقسمت العرب بعد موت النبي - صلى
الله عليه وسلم -. أربعة أقسام: طائفة ثبتت على ما
(11/104)
كانت عليه في حياته من الإسلام ولم تبدل شيئا ولزمت طاعة أبي بكر وهم الجمهور والأكثر. وطائفة بقيت على الإسلام أيضا إلا أنهم قالوا نقيم الصلاة وشرائع الإسلام إلا إنا لا نؤدي الزكاة إلى أبي بكر ولا نعطي طاعة لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان هؤلاء كثيرا إلا أنهم دون من ثبت على الطاعة أي قليل بالنسبة إلى الطائفة الأولى وطائفة ثالثة أعلنت بالكفر والردة كأصحاب طليحة وسجاح وسائر من ارتدوهم قليل بالإضافة إلى من قبلهم إلا أنه كان في كل قبيلة من المؤمنين من يقاوم المرتدين. وطائفة رابعة توقفت فلم تدخل في أحد من الطوائف المذكورة ولم تطعهم وبقوا يتربصون لمن تكون الغلبة فأخرج إليهم أبوبكر البعوث وكان فيروز ومن معه غلبوا على بلاد الأسود وقتلوه وقتل مسيلمة باليمامة وعاد طليحة إلى الإسلام وكذا سجاح ورجع غالب من كان ارتد إلى الإسلام فلم يمض عام واحد حتى راجع الجميع الإسلام أولهم عن آخرهم وإنما كانت نزعة من الشيطان كنار اشتعلت فأطفأ الله للوقت- انتهى. قال الحافظ وإنما أطلق الكفر ليشمل الصنفين فهو في حق من جحد الزكاة حقيقة وفي حق الآخرين أي الذين منعوا الزكاة مع الاعتراف مجاز تغليبا وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل؛ لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع فلما أصروا قاتلهم - انتهى. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص5) زعم زاعمون من الروافض أن أبابكر أول من سمي المسلمين
(11/105)
كفارا وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم?[التوبة: 103] خطاب خاص في مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومثل هذه الشبهة إذا وجد كان مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم فكان ما جرى من أبي بكر عليهم عسفا وسوء سيرة. قلت: (قائله الخطابي) وهؤلاء قوم لا خلاق لهم في الدين وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقيعة في السلف وقد بينا أن الذين نسبوا إلى الردة كانوا أصنافا منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسليمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها. وهؤلاء الذين سماهم الصحابة كفارا ولذلك رأى أبوبكر سبى ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة، واستولد علي بن أبي طالب جارية من سبى بني حنيفة فولدت له محمد بن علي الذي يدعى ابن الحنفية ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبي. فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد عنهم كفارا، وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين. وذلك أن الردة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلا إليه فقد ارتد عنه، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق فانقطع عنهم اسم الثناة والمدح بالدين. وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقا، وفي أمر هؤلاء المانعين للزكاة عرض الخلاف، ووقعت الشبهة لعمر لا في الصنفين الأولين أي الذين ارتدوا حقيقة. قال الخطابي: وأما قوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم?[التوبة: 103] وما أدعوا من وقوع الخطاب فيه خاصا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم
(11/106)
- فإن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه: خطاب عام، كقوله: ?يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة?[المائدة: 6] الآية. وكقوله: ?يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام?[البقرة: 183] وخطاب خاص للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشركه في ذلك غيره وهو ما ابين عن غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى: ?ومن الليل فتهجد به نافلة لك?[الإسراء: 79] وكقوله: ?خالصة لك من دون المؤمنين?[الأحزاب: 50] وخطاب مواجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو وجميع أمته في المراد به سواه كقوله تعالى: ?أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل?[الإسراء: 78] وقوله: ?فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم?[النحل: 98] وكقوله: ?وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة?[النساء: 102] ونحو ذلك من خطاب المواجهة فكله عام للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته غير مختص به - صلى الله عليه وسلم - بل تشركه الأمة في جميع ذلك، ومن هذا النوع قوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة? وإنما الفائدة في مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه هو الداعي إلى الله سبحانه والمبين عنه معنى ما أراده فقدم اسمه في
(11/107)
الخطاب ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم، قال: وأما تطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة فإن الفاعل لها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيها وكل ثواب موعود على عمل من الطاعات كان في زمانه حياته - صلى الله عليه وسلم - فإنه باق غير منقطع بوفاته، وقد يستحب للإمام ولعامل الصدقة أن يدعو للمتصدق بالنماء والبركة في ماله ويرجى أن الله يستجيب له ذلك ولا يخيب مسألته فيه. قال الخطابي: ومن أنكر فرض الزكاة في هذا الزمان وامتنع من أدائها إلى الإمام لم يكن حكمه حكم أهل البغي، بل كان كافرا بإجماع المسلمين. لأنه قد شاع اليوم دين الإسلام واستفاض علم وجوب الزكاة حتى عرفه الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل في من أنكر شيئا مما أجمعت عليه الأمة من أمور الدين إذا كان علمه منتشرا كالصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الخمر، والزنا ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام إلا أن يكون رجل حديث عهد بالإسلام لا يعرف حدوده فإذا أنكر شيئا منه جهلا به لم يكفر وكان سبيله سبيل أولئك القوم في تبقية اسم الدين عليه، فإما ما كان الإجماع فيه معلوما من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وإن قاتل العمد لا يرث وإن للجدة السدس، وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة وتفرد الخاصة بها. قال الخطابي: وإنما عرض الوهم في تأويل هذا الحديث من رواية أبي هريرة: ووقعت الشبهة فيه لمن تأوله على الوجه الذي حكيناه عنهم لكثرة ما دخله من الحذف والاختصار وذلك؛ لأن القصد لم يكن به سياق الحديث على وجهه، وذكر القصة في كيفية الردة منهم وإنما قصد به حكاية ما جرى بين أبي بكر وعمر وما تنازعاه من الحجاج في استباحة قتالهم
(11/108)
ويشبه أن يكون أبوهريرة إنما
لم يعن بذكر القصة وسوقها على وجهها كلها اعتمادا على معرفة المخاطبين بها إذ
كانوا قد علموا وجه الأمر وكيفية القصة في ذلك فلم يضر ترك إشباع البيان مع حصول
العلم عندهم به انتهى كلام الخطابي. وحاصله أن عمر إنما أراد بقوله الآتي تقاتل
الناس، الصنف الأخير فقط. أي الذين منعوا الزكاة وتأولوا قوله تعالى: ?خذ من
أموالهم صدقة? [التوبة: 103] لأنه لا يتردد في جواز قتال الذين رجعوا إلى عبادة
الأوثان، كما أنه لا يتردد في قتال غيرهم من المرتدين وكأنه لم يستحضر من الحديث
إلا القدر الذي ذكره وقد حفظ غيرهم (كابن عمر عند الشيخين وأنس عند أبي داود
والنسائي) في الصلاة والزكاة معا، وقد رواه عبدالرحمن بن يعقوب عن أبي هريرة عند
مسلم بلفظ: يعم الشريعة حيث قال فيها: ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإن مقتضى ذلك أن
من جحد شيئا مما جاء به - صلى الله عليه وسلم - ودعي إليه فامتنع ونصب القتال أنه
يجب قتاله وقتله إذا أصر وإنما عرضت الشبهة لما دخله من الاختصار وكان راويه لم
يقصد سياق الحديث على وجهه وإنما أراد سياق مناظرة أبي بكر وعمر واعتمد على معرفة
السامعين بأصل الحديث.
قال عمر بن الخطاب: لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد، قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا
الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله؟
(11/109)
قال الحافظ: وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه لو كان عند عمر في الحديث حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ما استشكل قتالهم للتسوية في كون غاية القتال كل من التلفظ بالشهادتين وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قال عياض: حديث ابن عمر نص في قتال من لم يصل ولم يزك كمن لم يقر بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر، وجواب أبي بكر دل على أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة الزكاة إذ لو سمعه عمر لم يحتج على أبي بكر ولو سمعه أبوبكر لرد به على عمر، ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله إلا بحقه- انتهى. قلت: في كلام عياض الأخير نظر، وسيأتي التنبيه عليه (كيف تقاتل الناس) أي الذين منعوا الزكاة مع الإقامة على أصل الدين (أمرت) بضم الهمزة مبنيا للمفعول أي أمرني الله (حتى يقولوا لا إله إلا الله) كناية عن الإسلام. قال الخطابي وغيره: المراد بقوله حتى يقولوا لا إله إلا الله: إنما هم أهل الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون لا إله إلا الله ثم إنهم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف حتى يقروا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أويعطوا الجزية (فمن قال لا إله إلا الله) يعني كلمة الإيمان وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله للإجماع على أنه لا يعتد في الإسلام بتلك وحدها (عصم) بفتح الصاد أي منع وحفظ (مني) أي من تعرضي أنا ومن اتبعني (ماله ونفسه) فلا يجوز هدر دمه واستباحة ماله بسبب من الأسباب (إلا بحقه) أي بحق الإسلام من نحو قصاص أو حد أو غرامة متلف ونحو ذلك. قال الطيبي: أي لا يحل لأحد أن يتعرض لماله ونفسه بوجه من الوجوه إلا بحقه، أي بحق هذا القول، أو بحق أحد المذكورين. وقال الحافظ: إن كان الضمير في قوله بحقه للإسلام فمهما ثبت أنه من حق الإسلام تناوله ولذلك اتفق الصحابة على قتال من جحد الزكاة- انتهى. قلت: ورد حديث ابن عمر المتقدم في كتاب الإيمان بلفظ: إلا بحق الإسلام فالظاهر أن ضمير بحقه في حديث الباب للقول المذكور الذي هو كناية عن الإسلام
(11/110)
(وحسابه على الله) أي فيما
يستسر به دون ما يخل به من الأحكام الواجبة عليه في الظاهر. قال الطيبي: يعني من
قال لا إله إلا الله، وأظهر الإسلام نترك مقاتلته ولا نفتش باطنه، هو مخلص أم لا؟
فإن ذلك إلى الله تعالى وحسابه عليه. قال الخطابي: فيه دليل على أن الكافر المستسر
بكفره لا يتعرض له إذا كان ظاهره الإسلام ويقبل توبته إذا أظهر الإنابة من كفر علم
بإقراره أنه كان يستسر به وهو قول أكثر العلماء، وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا
تقبل، ويحكى ذلك أيضا عن أحمد بن حنبل - انتهى. وقال العيني في هذا الحديث: قبول
توبة الزنديق ولأصحاب الشافعي في الزنديق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويعلم ذلك
بأن يطلع الشهود على كفر كان يخفيه أو علم بإقراره خمسة
فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال،
(11/111)
أوجه: أحدها: قبول توبته مطلقا وهو الصحيح المنصوص عن الشافعي والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: أفلا شققت عن قلبه. والثاني: وبه قال مالك لا تقبل توبته ويتحتم قتله لكنه إن كان صادقا في توبته نفعه ذلك عندالله تعالى، وعن أبي حنيفة روايتان كالوجهين. والثالث. إن كان من الدعاة إلى الضلال لم تقبل توبتهم وتقبل توبة عوامهم. والرابع. إن أخذ ليقتل فتاب لم تقبل وإن جاء تائبا ابتداء وظهرت مخايل الصدق عليه قبلت، وحكى هذا القول عن مالك. والخامس: إن تاب مرة قبلت منه وإن تكررت منه التوبة لم تقبل، وقال صاحب التقريب: روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في الزنديق الذي يظهر الإسلام، قال استيتب كالمرتد، وقال أبويوسف مثل ذلك زمانا فلما رأى ما يصنع الزنادقة من إظهار الإسلام ثم يعودون قال: إن أتيت بزنديق أمرت بقتله ولم استتب فإن تاب قبل أن أقتله خليته، وروى سليمان بن شعيب عن أبيه عن يوسف عن أبي حنيفة في نوادر له قال قال أبوحنيفة: اقتلوا الزنديق المستتر فإن توبته لا تعرف- انتهى. (والله لأقاتلن من فرق) بتشديد الراء وقد تخفف (بين الصلاة والزكاة) بأن أقر بالصلاة وأنكر الزكاة جاحدا أو مانعا مع الاعتراف، وإنما أطلق في أول القصة الكفر ليشمل الصنفين فهو في حق من جحد حقيقة وفي حق الآخرين مجاز تغليبا وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل؛ لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع فلما أصروا قاتلهم، قال المازري: ظاهر السياق إن عمر كان موافقا على قتال من جحد الصلاة فالزمه الصديق بمثله في الزكاة لورودهما في الكتاب والسنة موردا واحدا، كذا في الفتح. (فإن الزكاة حق المال) قال القسطلاني: احتج عمر في هذه القصة بظاهر ما استحضره مما رواه من قبل أن ينظر إلى قوله إلا بحقه ويتأمل شرائطه، فقال له أبوبكر: إن الزكاة حق المال كما أن الصلاة حق البدن أي فدخلت في قوله إلا بحقه فقد تضمنت القضية
(11/112)
عصمة دم ومال معلقة باستيفاء
شرائطها والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والأخر معدوم فكما لا تتناول العصمة
من لم يؤد حق البدن أي الصلاة، كذلك لا تتناول العصمة من لم يؤد حق المال أي
الزكاة. وإذا لم تتناولهم العصمة بقوا في عموم قوله: أمرت أن أقاتل الناس فوجب
قتالهم حينئذ، وهذا من لطيف النظر أن يقلب المعترض على المستدل دليله فيكون أحق
به. وكذلك فعل أبوبكر فسلم له عمر ثم قاسه على الممتنع من الصلاة؛ لأنها كانت
بالإجماع من رأى الصحابة فرد المختلف فيه إلى المتفق عليه وفيه دلالة على أن
العمرين لم يسمعا من الحديث الصلاة والزكاة كما سمعه غيرهما أو لم يستحضراه إذ لو
كان ذلك لم يحتج عمر على أبي بكر ولو سمعه أبوبكر لرد به على عمر ولم يحتج إلى
الاحتجاج بعموم قوله: إلا بحقه لكن يحتمل أنه سمعه واستظهر بهذا الدليل النظري.
وقال الطيبي: كان عمر حمل قوله: بحقه على غير الزكاة فلذلك صح استدلالة بالحديث
فأجاب أبوبكر بأنه شامل للزكاة أيضا أو ظن عمر أن القتال إنما كان لكفرهم لا
لمنعهم الزكاة فاستشهد بالحديث فأجابه الصديق بأني ما أقاتلهم لكفرهم بل لمنعهم
الزكاة- انتهى. وقال الحافظ: قوله فإن الزكاة حق
والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(11/113)
المال يشير إلى دليل منع التفرقة التي ذكرها أن حق النفس الصلاة، وحق المال الزكاة فمن صلى عصم نفسه ومن زكى عصم ماله فإن لم يصل قوتل على ترك الصلاة ومن لم يزك أخذت الزكاة من ماله قهرا وإن نصب الحرب لذلك قوتل. وهذا يوضح أنه لو كان سمع الحديث ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة لما احتاج إلى هذا الاستنباط لكنه يحتمل أن يكون سمعه واستظهر بهذا الدليل النظري - انتهى. قلت: هذا الاحتمال الأخير هو الراجح عندي لما روى النسائي والحاكم والبيهقي من حديث أنس قال لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدت العرب، فقال عمر يا أبابكر كيف تقاتل العرب: فقال أبوبكر: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة- الحديث. ورجاله رجال الصحيح إلا عمران أبوالعوام وهو صدوق بهم كما في التقريب، وقال النسائي عمران القطان ليس بالقوى في الحديث، وهذا الحديث خطأ والذي قبله الصواب حديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن أبي هريرة، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد غير أن الشيخين لم يخرجا عن عمران القطان وليس لهما حجة في تركه فإنه مستقيم الحديث، وكذا قال الذهبي في تلخيصه: وقد ظهر بهذا وبما تقدم قبله أن أبابكر الصديق احتج على عمر بالنص الصريح وبعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بحقه وبمقايسة الزكاة بالصلاة وبكونهما فقرينتين في كتاب الله تعالى (والله لو منعوني عناقا) بفتح العين وتخفيف النون وهي الأنثى من الأولاد المعز دون السنة (كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الخطابي: فيه دليل على وجوب الصدقة في السخال والفصلان والعجاجيل وإن واحدة منها تجزيء عن الواجب في الأربعين، ومنها إذا كانت كلها صغارا ولا يكلف صاحبها مسنة، وفيه دليل على أن حول النتاج حول الأمهات، ولو كان يستأنف بها الحول لم يوجد السبيل
(11/114)
إلى أخذ العناق. وقال عياض: احتج بذلك من يجيز أخذ العناق في زكاة الغنم إذا كانت كلها سخالا، وهو أحد الأقوال. قال النووي: هو محمول على ما إذا كانت الغنم صغارا كلها بأن ماتت أمهاتها في بعض الحول، فإذا حال حول الأمات زكى السخال الصغار بحول الأمهات سواء بقي من الأمهات شيء أم لا، هذا هو الصحيح المشهور، ويتصور ذلك أيضا فيما إذا مات معظم الكبار وحدثت صغار فحال حول الكبار على بقيتها وعلى الصغار- انتهى. قلت: اختلف العلماء فيما إذا كانت الغنم سخالا كلها أو كانت الإبل فصلانا والبقر عجاجيل. فقال مالك: عليه في الغنم جذعة أو ثنية، وعليه في الإبل والبقر ما في الكبار منها، وهو قول زفر وأبي ثور وأبي عبيد. وقال أبويوسف: والأوزاعي والشافعي يؤخذ منها إذا كانت صغارا من كل صنف واحد منها، وهو مذهب البخاري في الغنم حيث ترجم لحديث الباب بقوله: "باب أخذ العناق في الصدقة. وقال أبوحنيفة ومحمد: لا شيء في الفصلان ولا في العجاجيل ولا في صغار الغنم لا منها ولا من غيرها، وهذا آخر
(11/115)
أقوال أبي حنيفة، وكان يقول أولا بما ذهب إليه مالك، ثم رجع وقال بما ذهب إليه أبويوسف والشافعي، ثم رجع وقال ليس في الفصلان والعجاجيل والسخال صدقة. قال الخطابي: وهذا أظهر أقاويله، وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل، وحكى ذلك عن سفيان الثوري. قلت: الحنابلة موافقون في ذلك للشافعي. قال الموفق في المغنى: السخلة لا تؤخذ في الزكاة لقول عمر لساعيه: اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي على يديه ولا تأخذها منهم ولا نعلم فيه خلافا إلا أن يكون النصاب كله صغارا فيجوز أخذ الصغيرة في الصحيح من المذهب، وإنما يتصور ذلك بأن يبدل كبارا بصغار في أثناء الحول أو يكون عنده نصاب من الكبار فتوالد نصاب من الصغار ثم تموت الأمهات وتحول الحول على الصغار. وقال أبوبكر: لا يؤخذ أيضا إلا كبيرة تجزيء في الأضحية، وهو قول مالك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما حقنا في الجذعة والثنية" ولنا قول الصديق رضي الله عنه"والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليها "فدل على أنهم كانوا يؤدون العناق، ولأنه مال تجب فيه الزكاة من غير اعتبار قيمته، فيجب أن يأخذ من عينه كسائر الأموال. والحديث محمول على ما فيه كبار- انتهى. واستدل لأبي حنيفة ومحمد بأن النصاب إنما يعرف بالنص، والنص ورد بإسم الإبل والبقر والغنم، وهذه الاسامي لا تتناول الفصلان والعجاجيل والحملان أي السخال، فلم يثبت كونها نصابا وأجاب المانعون عن قول أبي بكر الصديق بأنه خرج على طريق التمثيل لا التحقيق أي لو وجبت هذه ومنعوها لقاتلتهم أو على المبالغة دون التحقيق بدليل ما في الرواية الأخرى "عقالا" مكان "عناقا" فإن العقال ليس من الصدقة، كما أن العناق ليس من سن الزكاة، وبأن المراد بالعناق فيه الجذعة والثنية مجازا، فلا يستلزم أخذ الصغار ولو سلم جاز أخذها بطريق القيمة لا أنها هي نفس الواجب، وبأن معناه كانوا يؤدون عنها ما
(11/116)
يجوز أداءه ويشهد له قول عمر
اعدد عليهم السخلة ولا تأخذها. والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي
وأبويوسف لظاهر قول أبي بكر الصديق قال ابن رشد وهو الأقيس- انتهى. وما ذكره
المانعون للجواب عن قول الصديق تكلف كله لا يخفى ذلك على من تأمل وانصف، هذا
وقوله: "عناقا" إنما هو للبخاري ولفظ مسلم "عقالا" بكسر العين
بدل العناق وكذا عند الترمذي والبخاري في رواية. ووقع عند أبي داود والنسائي كلا
اللفظين، واختلف في رواية العقال فقيل هي وهم، وإلى ذلك أشار البخاري في "باب
الإقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من كتاب الاعتصام، وقيل:
الرواية محفوظة، ولها معنى متجه وجرى النووي على طريقته. فقال: هو محول على أن
أبابكر قالها مرتين. مرة عناقا ومرة عقالا، فروى عنه اللفظان. قال الحافظ: هو بعيد
مع اتحاد المخرج والقصة، واختلف في المراد بالعقال، قال في النهاية أراد بالعقال:
الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في الصدقة، لأن على صاحبها التسليم وإنما
يقع القبض بالرباط. وقيل: أراد ما يساوي عقالا من حقوق الصدقة. وقيل: إذا أخذ
المصدق أعيان الإبل،
لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا رأيت، إن الله شرح صدر أبي بكر
للقتال،
قيل أخذ عقالا، وإذا أخذ أثمانها قيل أخذ نقدا. (كما أنشد أبوالعباس النحوي)
لبعضهم:
أتانا أبوالخطاب يضرب طبله فرد ولم يأخذ عقال ولا نقدا
(11/117)
وقيل أراد بالعقال صدقة العام، يقال أخذ المصدق عقال هذا العام أي أخذ منهم صدقته، وبعث فلان على عقال بني فلان إذا بعث على صدقاتهم، واختاره أبوعبيد. وقال: هي أشبه عندي بالمعنى: وقال الخطابي: إنما يضرب المثل في مثل هذا بالأقل لا بالأكثر وليس بسائر في لسانهم إن العقال صدقة عام وفي أكثر الروايات عناق وفي أخرى جدي. وقيل: إذا كان من عرض التجارة فبلغ مع غيره قيمة النصاب يجب فيه، وجاء في الحديث على القولين فمن الأول. حديث عمر أنه قال: يأخذ مع كل فريضة عقالا ورداء، وحديث محمد بن مسلمة إنه كان يعمل على الصدقة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يأمر الرجل إذا جاء بفريضتين أن يأتي بعقاليهما وقرانيهما، ومن الثاني. حديث عمر أنه آخر الصدقة عام الرمادة فلما أحيا الناس بعث عامله فقال: اعقل عنهم عقالين فاقسم فيهم عقالا وأتى بالأخر يريد صدقة عامين- انتهى. وقد بسط الحافظ والنووي الكلام في تفسير العقال. وقال النووي: ذهب كثيرون من المحققين إلى أن المراد بالعقال، الحبل الذي يعقل به البعير، وهذا القول يحكي عن مالك وابن أبي ذئب وغيرهما، وهو اختيار صاحب التحرير وجماعة من حذاق المتأخرين، قال: وهذا الذي اختاره وهو الصحيح الذي لا ينبغي غيره. قيل: ولم يزد عينه، وإنما أراد قدر قيمته. قال النووي: وهذا ظاهر متصور في زكاة النقد وفي المعدن والركاز والمعشرات وزكاة الفطر، وفيما لو وجبت سن فأخذ الساعي دونه، وفيما إذا كانت الغنم سخالا فمنع واحدة وقيمتها عقال (لقاتلهم على منعها) أي لأجل منعها أو على ترك أدانها إلى الأمام وهذا ظاهر في أنه قاتلهم على ترك أداءهم الزكاة إلى الإمام لا على إنكار فرضيتها وجحدها. وقال الخطابي: فيه دليل على أن الردة لا تسقط عن المرتد الزكاة الواجبة في أمواله، وتعقبه الحافظ: بأن المرتد كافر والكافر لا يطالب بالزكاة وإنما يطالب بالإيمان، وليس في فعل الصديق حجة لما ذكر، وإنما فيه
(11/118)
قتال من منع الزكاة والذين
تمسكوا بأصل الإسلام ومنعوا الزكاة بالشبهة التي ذكروها لم يحكم عليهم بالكفر قبل
إقامة الحجة. وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم هل تغنم أموالهم وتسبي
ذراريهم كالكفار أو لا كالبغاة، فرأى أبوبكر الأول، وعمل به، وناظره عمر في ذلك،
وذهب إلى الثاني، ووافقه غيره في خلافته على ذلك واستقر الإجماع عليه في حق من جحد
شيئا من الفرائض بشبهه فيطالب بالرجوع، فإن نصب القتال قوتل وأقيمت عليه الحجة فإن
رجع وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ- انتهى. (فوالله ما هو) أي الشأن (إلا رأيت) أي
علمت (إن الله شرح صدر أبي بكر للقتال) أي فتح ووسع له، قال النووي: معناه علمت
أنه جازم بالقتال لما ألقي الله سبحانه وتعالى في قلبه من الطمأنينة
فعرفت أنه الحق)). متفق عليه.
1806- (20) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يكون كنز أحدكم
يوم القيامة شجاعا أقرع، يفر منه صاحبه، وهو يطلبه حتى يلقمه أصابعه)). رواه أحمد.
(11/119)
لذلك واستصوا به ذلك. قال
الطيبي: المستثنى منه غير مذكور أي ليس الأمر شيئا من الأشياء إلا علمي بأن أبابكر
محق، فهذا الضمير يفسره ما بعده نحو قوله تعالى: ?إن هي إلا حياتنا
الدنيا?[الأنعام: 29] (فعرفت أنه الحق) أي ظهر له من صحة احتياجه لا أنه قلده في
ذلك، وهذا انصاف منه رضي الله عنه ورجوع إلى الحق عند ظهوره. وفي هذا الحديث فوائد
كثيرة غير ما تقدم، ذكرها الحافظ والنووي من شاء الوقوف عليها رجع إلى الفتح وشرح
مسلم للنووي (متفق عليه) واللفظ للبخاري، فقد تقدم إن مسلما رواه بلفظ
"عقالا" مكان "عناقا" والحديث أخرجه البخاري في الزكاة وفي
استنابة المرتدين وفي الاعتصام، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في
الإيمان، وأبوداود في الزكاة والنسائي فيه وفي الجهاد وفي المحاربة والبيهقي وابن
حبان وغيرهم، وأخرج مالك في الموطأ طرفا من قول أبي بكر قال مالك: بلغه أن أبابكر
الصديق. قال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه لم يزد على هذا.
1806- قوله: (يكون كنز أحدكم) أي المال المكنوز أي المجموع أو المدفون من غير
إخراج الزكاة (شجاعا) أي يصير حية وينقلب ويتصور (يفر منه صاحبه) أي صاحب الكنز أو
صاحب الشجاع، والإضافة لأدنى ملابسة (وهو) أي الشجاع (يطلبه) ولا يتركه (حتى
يلقمه) من الألقام (أصابعه) لأن المانع الكانز يكتسب المال بيديه. قال السيد جمال
الدين: وهو يحتمل احتمالين. أحدهما: أن يلقم الشجاع أصابع صاحب المال على أن يكون
أصابعه بدلا من الضمير، وثانيهما: أن يلقم صاحب المال الشجاع أصابع نفسه أي يجعل
أصابع نفسه لقمة الشجاع تأمل - انتهى. قال الطيبي: ذكر فيما تقدم أن الشجاع يأخذ
بلهزمتيه أي شدقيه، وخص هنا بألقام الأصابع، ولعل السر فيه إن المانع يكتسب المال
بيديه ويفتخر بشدقيه فخصا بالذكر, أو أن البخيل قد يوصف بقبض اليد، قالوا: يد فلان
مقبوضة وأصابعه مكفوفة، كما أن الجواد يوصف ببسطها. قال الشاعر:
(11/120)
تعود بسط الكف لو أنه ثناها
بقبض لم تطعه أنامله
انتهى. قال القاري: والأظهر أن يقال كل يعذب بما هو الغالب عليه، ويحتمل أن مانع
الزكاة يعذب بجميع ما مر في الأحاديث، فيكون ماله تارة يجعل صفائح وتارة يتصور
شجاعا أقرع يطوقه، وتارة يتبعه ويفر منه حتى يلقمه أصابعه (رواه أحمد) وأخرجه أيضا
الحاكم (ج1 ص389). وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
1807- (21) وعن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما من رجل لا
يؤدي زكاة ماله، إلا جعل الله يوم القيامة في عنقه شجاعا، ثم قرأ علينا مصداقة من
كتاب الله، ?ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله? الآية. رواه الترمذي،
والنسائي، وابن ماجه.
1808- (22) وعن عائشة، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما
خالطت الزكاة مالا قط إلا أهلكته)).
(11/121)
1807- قوله: (ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل الله يوم القيامة في عنقه شجاعا) هذا لفظ الترمذي وللنسائي: ما من رجل له مال لا يؤدي حق ماله إلا جعل له طوقا في عنقه، شجاع أقرع وهو يفر منه وهو يتبعه، ولفظ ابن ماجه، من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع حتى يطوق به عنقه، وأخرجه أحمد بلفظ: "لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه يفر منه وهو يتبعه فيقول أنا كنزك" (ثم قرأ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في رواية ابن ماجه (علينا مصداقة) أي ما يصدقه ويوافقه (من كتاب الله) الظاهر أنه حال من مصداقة أو من بيان له وما بعده بدل بعض من الكل ?ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله? الآية في الترمذي بعده، وقال مرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقة: ?سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة?[آل عمران: 180] (رواه الترمذي) في التفسير واللفظ له (والنسائي وابن ماجه) في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص377) والبيهقي (ج4 ص81) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال المنذري في الترغيب: بعد إيراده رواه ابن ماجه والنسائي بإسناد صحيح وابن خزيمة في صحيحه- انتهى. وأخرجه الحاكم في التفسير (ج2 ص298- 299) وابن جرير عن ابن مسعود موقوفا.
(11/122)
1808- قوله: (ما خالطت الزكاة
مالا قط) بأن يكون صاحب مال من النصاب فيأخذ الزكاة أو بأن لم يخرج من ماله
الزكاة. قال المنذري: هذا الحديث يحتمل معنيين، أحدهما: أن الصدقة ما تركت في مال
ولم تخرج منه إلا أهلكته، ويشهد لهذا حديث عمر مرفوعا: ما تلف مال في بر ولا بحر
إلا بحبس الزكاة (أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه عمر ابن هارون وهو ضعيف) والثاني:
إن الرجل يأخذ الزكاة وهو غني عنها فيضعها مع ماله فيهلكه، وبهذا فسره الإمام أحمد
(كما سيأتي) (إلا أهلكته) أي نقصته أو أفنته أو قطعت بركته أي إذا لم تخرج الزكاة
من مال وجبت فيه أهلكته أي محقته بأن سلطت عليه الآفات كسرقة وغصب وحرق، أو المراد
قلت بركته حتى لا ينتفع به وإن كان موجودا فهو حينئذ كالهالك المعدوم. وقال
الطيبي: يحتمل محقته واستصالته لأن الزكاة كانت حصنا له
رواه الشافعي والبخاري في تاريخه، والحميدي، وزاد. قال يكون قد وجب عليك صدقة، فلا
تخرجها، فيهلك الحرام الحلال، وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين.
(11/123)
أو أخرجته من كونه منتفعا به لأن الحرام غير منتفع شرعا (رواه الشافعي) في باب الهدية للوالي بسبب الولاية (ج2 ص50) من كتاب الأم بلفظ: لا تخالطه الصدقة مالا إلا أهلكته (والبخاري في تاريخه) الكبير في ترجمة محمد بن عثمان بن صفوان بن أمية الجحمي القرشي (ج1 180) بلفظ: "ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته" (والحميدي) كلهم من طريق محمد بن عثمان بن صفوان الجحمي المكي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ومحمد بن عثمان هذا لم يذكر البخاري فيه جرحا ولا تعديلا وهو من رجال ابن ماجه. قال الحافظ في تهذيبه (ج9 ص337): روى عن هشام بن عروة والحكم بن اربان وغيرهما، وروى عنه الشافعي والحميدي وأحمد ابن حنبل وإبراهيم بن حمزة الزبيري (وعنه البخاري) وغيرهم. قال أبوحاتم: منكر الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: ليس بقوى. وقال في التقريب: ضعيف. والحديث أخرجه أيضا ابن عدي، والبزار، والبيهقي، وأشار المنذري إلى ضعفه حيث صدره بلفظة روى. وقال الهيثمي (ج3 ص64): بعد عزوه إلى البزار. وفيه عثمان بن عبدالرحمن الجحمي. قال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به - انتهى. قلت: إن كان ما وقع في نسخة مجمع الزوائد المطبوعة صحيحا فعثمان هذا من رجال الترمذي وابن ماجه. قال البخاري: فيه أنه مجهول، وقال الساجي: يحدث عن محمد بن زياد بأحاديث لا يتابع عليها وهو صدوق، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه مناكير، كذا في تهذيب التهذيب (ج7 ص136) وقال الحافظ في التقريب: ليس بالقوى (وزاد) أي الحميدي (قال) أي البخاري في تفسير الحديث (يكون قد وجب عليك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال) فكأنها تعينت واختلطت (وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين) أي لا بالذمة، قال الشوكاني: احتجاج من احتج به على تعلق الزكاة بالعين صحيح، لأنها لو كانت متعلقة بالذمة لم يستقم هذا الحديث، لأنها لا تكون في جزء من أجزاء المال فلا يستقيم اختلاطها بغيرها،
(11/124)
ولا كونها سببا لإهلاك ما
خالطته - انتهى. وقال الطيبي: فإن قلت: هذا الحديث ظاهر في معنى المخالطة فإنها
معنى ومبني تستدعي شيئين متمايزين يختلط أحدهما بالآخر، فأين هذا المعنى من قول من
فسرها بإهلاك الحرام الحلال. قلت: لما جعلت الزكاة متعلقة بعين المال لا بالذمة،
جعل قدر الزكاة المخرج من النصاب معينا ومشخصا، فيستقيم الخلط بنا بقي من النصاب -
انتهى. قال في اللمعات: وإلى تعلق الزكاة بالعين ذهب الأئمة الثلاثة، ومن تبعهم،
ولهذا لا يجوزون دفع القيم في الزكاة؛ لأنها قربة تعلقت بمحل، فلا تتأدى بغيره
كالهدايا والضحايا. وتعلق الزكاة بالمال عندهم تعلق شركة، لأن المنصوص عليه هو
الشأة، فالشارع أوجب
هكذا في المنتقى، وروى البيهقي، في شعب الإيمان، عن أحمد بن حنبل، بإسناده إلى
عائشة، وقال أحمد في خالطت تفسيره إن الرجل يأخذ الزكاة، وهو موسر، أو غنى، وإنما
هي للفقراء.
(11/125)
المنصوص عليه عينا، والواجب لا يسع تركه - انتهى. قلت: ذهب الحنيفة إلى أنها متعلقة بعين المال، صرح به الدر المختار وغيره، وهو مذهب المالكية كما صرح به الزرقاني، وأشار إليه الباجي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وأحد قولي الشافعي، وذهب ابن حزم إلى أنها واجبة في ذمة صاحب المال لا في عين المال، وهو القول الثاني للشافعي، والرواية الثانية عن أحمد. قال ابن قدامة (ج2 ص679): الزكاة تجب في الذمة في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو أحد قولي الشافعي، لأن إخراجها من غير النصاب جائز، فلم تكن الواجبة فيه كزكاة الفطر، ولأنها لو وجبت فيه لامتنع تصرف صاحب المال فيه، ولتمكن المستحقون من إلزامه أداء الزكاة من عينه، واسقطت الزكاة بتلف النصاب من غير تفريط كسقوط ارش الجنابة بتلف الجاني، والرواية الثانية أنها تجب في العين، وهذا قول الثاني للشافعي، وهذه الرواية هي الظاهرة عند بعض أصحابنا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : في أربعين شاة شأة، وقوله: فيما سقت السماء العشر، وغير ذلك من الألفاظ الواردة بحرف"في" وهي للظرفية. وإنما جاز الإخراج من غير النصاب رخصة. وفائدة الخلاف أنها إذا كانت في الذمة فحال على ماله حولان لم يؤد زكاتهما وجب عليه أداءها لما مضى، ولا تنقص عنه الزكاة في الحول الثاني، وكذلك إن كان أكثر من نصاب لم تنقص الزكاة. وإن مضى عليه أحوال، فلو كان عنده أربعون شاة مضى عليها ثلاثة أحوال لم يؤد زكاتها وجب عليه ثلاث شياه، لأن الزكاة وجبت في ذمته، فلم يؤثر في تنقيص النصاب، وإن قلنا الزكاة تنعلق بالعين. وكان النصاب مما تجب الزكاة في عينه فحالت عليه أحوال لم تؤد زكاتها تعلقت الزكاة في الحول الأول من النصاب بقدرها، فإن كان فيه نصابا لا زيادة عليه فلا زكاة فيه فيما بعد الحول الأول، لأن النصاب نقص فيه- انتهى. (هكذا) أي الحديث مع تخريجه وما ذكر من زيادة الحميدي إلى قوله: وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة
(11/126)
بالعين (في المنتقى) من أخبار
المصطفى لمجد الدين أبي البركات ابن تيمية (وروى البيهقي في شعب الإيمان) أي هذا
الحديث (وقال أحمد في خالطت) أي في لفظ"خالطت" الواقع في صدر الحديث
(تفسيره) أي معناه أو تأويله وهو مقبول قول أحمد (إن الرجل يأخذ الزكاة وهو موسر
أو غنى) شك من الراوي (وإنما هي) أي الزكاة (للفقراء) أي ولأمثالهم وغلبوا؛ لأنهم
أكثر من البقية. وقال الشافعي: يعني أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله
أعلم أي بمراد كلام رسوله إن خيانة الصدقة تتلف المال المخلوط بالخيانة من الصدقة
- انتهى.
(1) باب ما يجب فيه الزكاة
?الفصل الأول?
1809- (1) عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس
فيما دون خمسة أوسق من التمر
(11/127)
(باب ما يجب فيه الزكاة) قال مالك: لا تكون الصدقة إلا في ثلاثة أشياء، الحرث والعين والماشية. قال ابن عبدالبر: لا خلاف في جملة ذلك، ويختلف في تفصيله. وقال في المسوي: وعليه أهل العلم إن صدقة الأموال على ثلاثة أقسام: وزكاة التجارة إنما تؤخذ بحساب القيمة وأما الصدقة الفطر فهي صدقة الرؤس. وقال الإمام ابن القيم في الهدى: (ج1 ص151) جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في أربعة أصناف من المال وهي أكثر الأموال دورا بين الخلق وحاجتهم إليها ضرورية. أحدها: الزرع والثمار. الثانية: بهيمة الأنعام، الإبل والبقر والغنم. الثالث: الجوهران اللذان بهما قوام العالم، وهما الذهب والفضة. الرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها، وقال ابن رشد في البداية (ج1 ص227): وأما ما تجب فيه الزكاة من الأموال فإنهم اتفقوا منها على أشياء واختلفوا في أشياء أما ما اتفقوا عليه فصنفان من المعدن الذهب والفضة اللتين ليستا بحلي. وثلاثة أصناف من الحيوان، الإبل والبقر والغنم، وصنفان من الحبوب، الحنطة والشعير وصنفان من الثمر التمر والزبيب وفي الزيت خلاف شاذ- انتهى. ثم فصل ابن رشد الأشياء التي اختلفوا في وجوب الزكاة فيها كالحلي من الذهب والفضة والخيل من الحيوان، وغير السائمة من الإبل والبقر والغنم، وغير الأصناف الأربعة المذكورة من النبات.
(11/128)
1809- قوله: (ليس فيما دون
خمسة أوسق) جمع وسق بفتح الواو، ويجوز كسرها كما حكاه صاحب المحكم وجمعه حينئذ
أوساق كحمل وأحمال، وقد وقع كذلك في رواية لمسلم، وهو ستون صاعا بالاتفاق، ووقع في
رواية ابن ماجه نحو هذا الحديث، وفيه والوسق ستون صاعا وأخرجها أحمد وأبوعبيد
وأبوداود أيضا، لكن قال ستون مختوما قال أبوعبيد في الأموال (ص518) والمختوم ههنا
الصاع بعينه، وإنما سمي مختوما؛ لأن الأمراء جعلت على أعلاه خاتما مطبوعا لئلا
يزاد فيه ولا ينتقص منه- انتهى. والصاع أربعة أمداد والمد رطل وثلث رطل، فالصاع
خمسة أرطال وثلث رطل وذلك بالرطل الذي وزنه مائة درهم وثمانية وعشرون درهما
بالدراهم التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل (من التمر) وفي رواية لمسلم: ليس فيما
دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة، وفي رواية له: ليس في حب ولا تمر صدقة حتى
يبلغ خمسة أوسق، وفي رواية له أيضا
صدقة،
(11/129)
من ثمر بالثاء ذات النقط الثلاث (صدقة) أي زكاة والمراد بها العشر، أو نصف العشر. قال الحافظ: لفظ"دون" في مواضع الثلاثة من الحديث بمعنى أقل لا أنه نفي عن غير الخمس الصدقة كما زعم بعض من لا يعتد بقوله، والمعنى إذا خرج من الأرض أقل من ذلك في المكيل فلا زكاة عليه فيه وبه أخذ الجمهور وخالفهم أبوحنيفة. قلت: هذا الحديث صريح في أن النصاب شرط لوجوب العشر أو نصف العشر، فلا تجب الزكاة في شيء من الزروع والثمار حتى تبلغ خمسة أوسق، وهذا مذهب أكثر أهل العلم. وبه قال صاحبا أبي حنيفة محمد وأبويوسف رحمهم الله تعالى، وهو الحق والصواب، وذهب أبوحنيفة إلى أنه لا يشترط النصاب لوجوب الزكاة في ما يخرج من الأرض، فيجب عنده العشر أو نصف العشر في كثير الخارج وقليله، وهو قول إبراهيم النخعي ومجاهد وعمر بن عبدالعزيز. أخرج عبدالرزاق في مصنفه عن معمر، عن سماك بن الفضل، عن عمر بن عبدالعزيز، قال: فيما أنبتت الأرض من قليل أو كثير العشر، وأخرج نحوه عن مجاهد، وإبراهيم النخعي. وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن هؤلاء نحوه. واستدل لهم بقوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض?[البقرة: 268] وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: فيما سقت السماء والعيون: أكان عثريا العشر. وما سقي بالنضح نصف العشر، أخرجه البخاري من حديث ابن عمر وسيأتي. قالوا: إن الآية والحديث عام، فإن كلمة "ما" من ألفاظ العموم فتشمل ما يكون قدر خمسة أوسق أو أقل أو أكثر. وتعقب بأن الآية مبهمة، وكذا حديث ابن عمر مبهم، وحديث أبي سعيد مفسر، والزيادة من الثقة مقبولة،؟ فيجب حمل المبهم على المفسر والمبين يعنى أن الآية وحديث ابن عمر عام يشمل النصاب ودونه وحديث أبي سعيد خاص بقدر النصاب فيقضي الخاص على العام أي يبني العام على الخاص. وأجاب بعض الحنفية عن هذا التعقب بأن محل ذلك إذا كان البيان وفق المبين لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه،
(11/130)
أما إذا بقي شيء من أفراد العام فإنه يتمسك به كحديث أبي سعيد هذا، فإنه دل على النصاب فيما يقبل التوسيق وسكت عما لا يقبله، فيتمسك بعموم قوله عليه السلام: فيما سقت السماء العشر. وأجاب القائلون بالنصاب عن هذا الجواب بما روى مرفوعا "لا زكاة في الخضروات" رواه الدارقطني من طريق علي وطلحة ومعاذ مرفوعا. قال الترمذي: لا يصح فيه شيء إلا مرسل موسى بن طلحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو دال على أن الزكاة إنما هي فيما يكال مما يدخر للإقتيات في حال الاختيار، وهذا قول مالك والشافعي. وعن أحمد يخرج من جميع ذلك ولو كان لا يقتات، وهو قول محمد وأبي يوسف. وأجاب الحنفية عن التعقب المذكور بوجوه غير ما تقدم. منها. أن حديث الأوساق من أخبار الآحاد فلا يقبل في معارضه الكتاب والخبر المشهور. وفيه أنه ليس فيه شائبة المعارضة بل هو بيان المقدار ما يجب فيه العشر،
(11/131)
والبيان بخبر الواحد جائز كبيان المجمل والمتشابه قال الأمير اليماني: حديث الأوساق حديث صحيح، ورد لبيان القدر الذي تجب فيه الزكاة كما ورد حديث مائتي الدرهم لبيان ذلك مع ورود في الرقة ربع العشر، ولم يقل أحد أنه يجب في قليل الفضة وكثيرها الزكاة، وذلك؛ لأنه لم يرد حديث في الرقة ربع العشر إلا لبيان أن هذا الجنس تجب فيه الزكاة وأما قدر ما يجب فيه فموكول إلى حديث التبيين له بمائتي درهم فكذا هنا قوله: فيما سقت السماء العشر، أي في هذا الجنس يجب العشر وأما بيان ما يجب فيه فموكول إلى حديث الأوساق وكأنه ما ورد إلا لدفع ما يتوهم من عموم "فيما سقت السماء العشر" كما ورد ذلك في قوله "وليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة". ثم إذا تعارض العام والخاص كان العمل بالخاص عند جهل التاريخ، كما هنا فإنه أظهر الأقوال في الأصول، وقال الإمام ابن القيم في الأعلام (ج1 ص283): لا تعارض بين الحديثين بوجه من الوجوه فإن قوله"فيما سقت السماء العشر، إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وبين ما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث وبينه نصا في الحديث الآخر فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما دل عليه البتة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم لم يقصد، وبيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصها من النصوص- انتهى. قلت: ذهب جمهور الأصوليين، وعامتهم إلى جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد الصحيح وهو الحق، واحتج لذلك في المحصول بأن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان وخبر الواحد أخص من العموم، فوجب تقديمه على العموم. قال الشوكاني: وأيضا يدل على جواز التخصيص دلالة بينه واضحة ما وقع من أوامر الله عزوجل بإتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم - من غير تقييد، فإذا جاء عنه الدليل كان إتباعه واجبا، وإذا
(11/132)
عارضه عموم قرآني كان سلوك طريقة الجمع ببناء العام على الخاص متحتما، ودلالة العام على إفراده ظنية لا قطيعة فلا وجه لمنع تخصيصه بالإخبار الصحيحة الآحادية- انتهى. ثم قال ابن القيم: ويا الله العجب: كيف يخصون عموم القرآن والسنة بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون مختلفا في الاحتجاج به وهو محل اشتباه واضطرب إذ ما من قياس إلا وتمكن معارضته بقياس مثله أو دونه أو أقوى منه بخلاف السنة الصحيحة الصريحة؛ فإنها لا يعارضها إلا سنة ناسخة معلومة التأخر والمخالفة، ثم يقال إذا خصصتم عموم قوله "فيما سقت السماء العشر" بالقصب والحشيش، ولا ذكر لهما في النص فهلا خصصتموه بقوله: " لا زكاة في حب ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق" وإذا كنتم تخصون العموم بالقياس فهلا خصصتم هذا العام بالقياس الجلي الذي هو من أجلي القياس وأصحه على سائر أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة فإن الزكاة الخاصة لم يشرعها الله ورسوله في مال إلا وجعل له نصابا كالمواشي والذهب والفضة، ويقال أيضا هلا أوجبتم الزكاة في قليل كل مال وكثيره عملا بقوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة?[التوبة: 103] وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من صاحب إبل
(11/133)
ولا بقر لا يؤدي زكاتها إلا بطح له بقاع قرقر" وبقوله: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة صفائح من نار" وهلا كان هذا العموم عندكم مقدما على أحاديث النصب الخاصة وهلا قلتم هناك تعارض مسقط وموجب، فقدمنا الموجب احتياطا وهذا في غاية الوضوح - انتهى. وقد اتضخ بهذا كله كل الاتضاح أنه يعجب تخصيص عموم قوله تعالى: ?ومما أخرجنا لكم من الأرض?[البقرة: 267] وحديث ابن عمر بحديث الأوساق كم اخصص قوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة] بالأخبار التي دلت على كون الزكاة منحصرة في أشياء مخصوصة وقوله تعالى: ?والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله?[التوبة: 34] بأحاديث النصب الخاصة وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في سائمة الإبل الزكاة" بقوله: ليس فيما دون خمس ذود صدقة" وقوله: "في الرقة ربع العشر" بقوله: "ليس في ما دون خمس أواق صدقة، على أن حديث الأوساق حديث مشهور، روى عن غير واحد من الصحابة منهم أبوسعيد عند الجماعة، ومنهم أبوهريرة عند أحمد والدارقطني والطحاوي، ومنهم ابن عمر عند أحمد والدارقطني ويحيى بن آدم (ص136) والبيهقي، ومنهم جابر عند أحمد ومسلم والبيهقي والطحاوي والحاكم وابن ماجه، ومنهم عائشة عند الطبراني في الأوسط، ومنهم أبورافع عند الطبراني في الكبير، ومنهم عمرو بن حزم عند الحاكم والطحاوي والطبراني والبيهقي، ومنهم أبوأمامة بن سهل ابن حنيف عند البيهقي، ومنهم عبدالله بن عمر، وعند يحيى بن آدم (ص137) والدارقطني (ص199) وبه قال الصحابة: منهم عمر وأبوسعيد وابن عمر وجابر وأبوأمامة بن سهيل بن حنيف. ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة فهو إجماع منهم، وقد جرى به التعامل وتلقاه الأمة بقبولها. قال أبوعبيد في الأموال (ص408): حدثنا يزيد عن حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن محمد بن عبدالرحمن أن في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي كتاب عمر في الصدقة أن لا تؤخذ من شيء حتى
(11/134)
يبلغ خمسة أوسق. وروى الطحاوي والحاكم والبيهقي والطبراني عن عمرو بن حزم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كتب إلى أهل اليمن بكتاب فذكر فيه ما سقت السماء أو كان سيحا أو كان بعلا ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق وما سقي بالرشاد والدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق. ومنها أن حديث الأوساق منسوخ قال الزيلعي (ج2 ص385) ومن الأصحاب من جعله أي حديث الأوساق منسوخا ولهم في تقريره قاعدة ذكرها السغناقي نقلا عن الفوائد الظهيرية، قال: إدا ورد حديثان متعارضان أحدهما عام والآخر خاص، فإن علم تقديم العام على الخاص خص العام به وإن علم تأخير العام ناسخا للخاص. قال محمد بن شجاع الثلجي هذا إذا علم التاريخ، أما إذا لم يعلم فإن العام يجعل آخرا لما فيه من الاحتياط وهنا لم يعلم التاريخ فيجعل العام آخرا لما فيه من الاحتياط- انتهى. وذكر العيني وابن الهمام نحو هذا. وفيه أن الحق في صورة تأخر العام عن الخاص هو بناء العام على الخاص أي تقديم الخاص وتخصيص العام به؛ لأن ما تناوله الخاص
(11/135)
متيقن وما تناوله العام ظاهر مظنون والمتيقن أولى، وكذا في صورة جهل التاريخ الحق هو البناء. قال ابن قدامة في روضة الناظر (ج1 ص161) الدليل الرابع من أدلة التخصيص التسع النص الخاص يخصص اللفظ العام فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع إلا في ربع دينار" خصص عموم قوله: ?والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما?[المائدة: 38] وقوله عليه السلام: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق خصص عموم قوله: "فيما سقت السماء العشر" ولا فرق بين أن يكون العام كتابا أو سنة أو متقدما أو متأخرا- انتهى. أي فإن الخاص يخصص العام ويقدم عليه لقوة دلالة الخاص على مدلوله فإنها قاطعة، ودلالة العام على أفراده ظاهرة، والقاطع مقدم على الظاهر، مثاله لو قال كلما سرق السارق فاقطعوه، وهو معنى الآية، فدلالته على من سرق دون ربع دينار ظاهرة، ودلالة قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا قطع إلا في ربع دينار على عدم القطع فيما دونه قاطعة فيقدم. وقال الشوكاني في إرشاد الفحول: (ص144) الحق الذي لا ينبغي العدول عنه في صورة الجهل البناء وليس عنه مانع يصلح للتشبث به، والجمع بين الأدلة ما أمكن هو الواجب، ولا يمكن الجمع مع الجهل إلا بالبناء، قال: وقد تقرر أن الخاص أقوى دلالة من العام والأقوى أرجح وأيضا إجراء العام على عمومه إهمال للخاص وإعمال الخاص لا يوجب إهمال العام، وأيضا قد نقل أبوالحسين الإجماع على البناء مع جهل التأريخ. والحاصل أن البناء هو الراجح على جميع التقادير (إلى آخر ما قال). ومنها ما قال صاحب الهداية إن حديث أبي سعيد وما في معناه ورد في زكاة التجارة دون العشر، وذلك لأنهم كانوا يتبايعون بالأوساق، وقيمة الوسق يومئذ كانت أربعين درهما فيكون قيمة خمسة أوسق مائتى درهم وهو نصاب زكاة الفضة. وحاصله أن الجمهور نقلوا حديث زكاة التجارة إلى باب آخر، فوقع التعارض مع أن الحديث العام أي حديث ابن عمر وما في معناه كان في العشر، وحديث
(11/136)
الأوساق في زكاة مال التجارة، فلا تعارض أصلا. وقال الجصاص في أحكام القرآن: قد روى ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة، فجائز أن يريد به زكاة التجارة بأن يكون سأل سائل عن أقل من خمسة أوسق طعام أو تمر للتجارة، فأخبر أن لا زكاة فيه، فنقل الراوي كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك ذكر السبب. وفيه ما قال الشيخ رشيد أحمد الكنكوكي بعد ذكر هذا الجواب. ولكن الأنصاف خلاف ذلك فإن تفاوت أسعار الثمار والشعير والحنطة غير قليل فكيف يعلم ماذا أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك حتى يعلم حكمه، كذا في الكوكب الدري (ج1 ص236) قلت: ويرد هذا التأويل أيضا حديث عمرو بن جزم الذي ذكرنا لفظه وسيأتي أيضا. ومنها ما قال الجصاص: قد ذكرنا أن الله حقوقا واجبة في المال غير الزكاة ثم نسخت بالزكاة كما روى عن أبي جعفر محمد بن علي، والضحاك قالا: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن فجائز أن يكون هذا التقدير معتبرا في الحقوق التي كانت واجبة فنسخت، نحو قوله تعالى: ?وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى?[ النساء: 8] الآية ونحو ما روى عن مجاهد، إذا حصدت طرحت للمساكين الخ. وهذا الحقوق غير واجبة
(11/137)
اليوم فجائز أن يكون ما روى من تقدير الخمسة الأوسق كان معتبر في تلك الحقوق وإذا احتمل ذلك لم يجز تخصيص الآية والأثر المتفق عليه على نقله به- انتهى. وقال العيني (ج9 ص75) نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصدقة ولم ينف العشر وقد كان في المال صدقات نسختها آية الزكاة والعشر ليس بصدقة مطلقة، إذ فيه معنى المؤنة وفيه أن النسخ لا يثبت بالاحتمال والتجويز والإدعاء وفيه أيضا ما قال الشيخ محمد أنور بعد ذكر الوجوه الثلاثة الأخيرة)، ويرد على هذه الأجوبة كلها ما عند الطحاوي (ج1 ص315) ما سقت السماء أو كان سيحا أو بعلا ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق- الحديث. وإسناده قوى، فإنه يدل على أن الحديث (أي حديث أبي سعيد وما في معناه) في العشر لا في الصدقات المتفرقة كما ذهب إليه العيني (والجصاص) ولا من باب التجارة كما اختاره صاحب الهداية كذا في فيض الباري (ج3 ص46) قلت: رواية الطحاوي هذه أخرجها الحاكم (ج1 ص395) والطبراني والبيهقي (ج4 ص89، 180) أيضا كلهم من حديث عمرو ابن حزم مطولا وقد ذكرنا طرفا منه. قال البيهقي: حديث مجود الإسناد ورأه أبوزرعة الرازي وأبوحاتم الرازي وعثمان بن سعيد الدارمي وجماعة من الحفاظ موصول الإسناد حسنا وروى البيهقي عن أحمد بن حنبل أنه قال: أرجو أن يكون صحيحا- انتهى. وبسط الحافظ الكلام في إسناده هذا الحديث في ترجمة سليمان بن داود الخولاني الدمشقي من تهذيبه من أحب الوقوف عليه رجع إليه، وسيأتي أيضا شيء من الكلام فيه في بيان نصاب الذهب، وقد جمع كما ترى حديث عمرو من حزم معنى حديث ابن عمر وحديث أبي سعيد، فدل على أنه لا تعارض بينهما خلافا لما زعمت الحنفية وبطل به ما ذهبوا إليه من تقديم حديث ابن عمر وجعله متأخرا احتياطا ولبطلان هذه الأجوبة. وجوه أخرى لا تخفى على المصنف. ومنها ما قال صاحب العرف الشذى: أن حديث الأوساق محمول على العرية، والعرية تكون فيما دون خمسة أوسق فلما أعطى
(11/138)
رجل ما خرج من أرضه بطريق العرية فلا زكاة عليه فيما أعرى، لأنه مثل من وهب بجميع ماله أو بعضه أنه لا زكاة عليه فيما وهب فصح أنه لا عشر فيما دون خمسة أوسق؛ لأنها عرية، قال وعلي أن المذكور في الحديث حكم العرية قرائن. منها، أن في الصحيحين أن العرية إنما تكون إلى خمسة أوسق فالمتبادر أن في حديث أبي سعيد أيضا حكم العرية، والمراد أن ما دون خمسة أوسق يؤدنه ديانة فيما بينهم وبين الله ولا يجب رفعه إلى بيت المال فإنه يؤدي إلى المعرى له ثم لما أداه بجميعه فتأدى زكاته أيضا، فمراد الحديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، أي لا يجب رفعه إلى بيت المال، وحاصله أن النفي في حديث أبي سعيد ليس لثبوت النصاب في الثمار والزرع وأن ما دون خمسة أوسق يبقى في بيته لا تجب فيه فريضة الله أي للعشر، بل لأنه يتصدق فيها بنفسه فلا تؤخذ منه صدقة ترفع إلى بيت المال، فالنفي باعتبار رفعها إلى بيت المال لا لعدم وجوبها، وما حديث ابن عمر فبيان للواجب في نفس الأمر سواء رفع إلى بيت المال أو أمر باداءه بنفسه فلا تعارض أصلا. قال ومنها رواية الطحاوي (ص315) عن مكحول بإسناد جيد مرسلا، خففوا في الصدقات فإن في المال
(11/139)
العرية والوصية. وفي السنن الكبرى للبيهقي أن أبا بكر وعمر كانا يأمران سعاتهما أن لا يخرصوا في العرايا قلت: حاصل هذا الجواب أن حديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، محمول على العشر لكنه مصروف إلى العرايا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص في العرايا في هذا القدر فلم يوجب فيها صدقة لأن العرية نفسها صدقة، وإنما فائدة الخبر أنما تصدق به صاحب العشر يحتسب له ولا تجب فيها صدقة ترفع إلى بيت المال ولا يضمنها، كما قاله الجصاص في شرح ما روى عن أبي سعيد مرفوعا أنه قال: ليس في العرايا صدقة وهذا تأويل أيضا باطل مردود لأنه - صلى الله عليه وسلم - نفى الصدقة فيما دون الخمسة أوسق مطلقا كما أنه نفاها فيما دون خمس أواق من الرقة وفيما دون خمس ذود من الابل وهذا يدل دلالة بينة على أنه لا تجب الزكاة رأسا في الخارج من الأرض إذا كان دون هذا المقدار كما لا تجب أصلا في الرقة إذا كانت دون خمس أواق، وفي الابل إذا كانت دون خمس، وحمل النفي في الخارج من الأرض خاصة على عدم أخذ لساعي ونفي رفعه إلى بيت المال مما لا دليل عليه. ولأن الظاهر أن المقصود من ذكر الفصول الثلاثة على نسق بيان نصب المعشرات والرقة من العين والابل من الماشية، فالفرق بينها يحمل الاثنين منها على بيان نصاب الصدقة، والأول على معنى آخر مع كون الثلاثة على نسق واحد وشاكلة واحدة غير صحيح؛ ولأنه وقع في هذا الحديث عند البيهقي (ج4:ص125) من طريق مرسلة بعد ذكر الأواق، والأوساق، والاذواد من زيادة قوله "وليس في العرايا صدقة" وروى الدارقطني من حديث علي مرفوعا بسند فيه ضعف ليس في الخضروات صدقة، ولا في العرايا صدقة، ولا في أقل من خمسة أوسق صدقة، ولا في العوامل صدقة، الحديث وسيأتي في الفصل الثالث، وكأنه أشار إليه أبوعبيد في الأموال (ص489) بقوله "لأن سنته أن لا صدقة في أقل من خمسة أوسق، وأن لا صدقة في العرايا" وذكر نفى الصدقة في العرايا وفيما دون خمسة
(11/140)
أوسق معا يبعد حمل حديث الأوساق على العرايا. ويدل على أن المقصود من قوله: ولا في أقل من خمسة أوسق في حديث الأوساق بيان نصاب صدقة المعشرات، ومن نفي الصدقة في العرايا عدم وجوب الزكاة فيها رأسا، لأنها تكون دون النصاب وهو الذي فهمه جميع أهل العلم، وأما رواية مكحول فرواها أبوعبيد في الأموال (ص 487) بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص. قال: خففوا فإن في المال العرية والوطية، ورواها ابن أبي شيبة بلفظ: "خفف على الناس فإن المال العارية والوصية" وروى البيهقي (ج4:ص124) وأبوعبيد أيضا عن الأوزاعي. قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: خففوا على الناس في الخرص فإن في المال العرية والواطئة والأكلة- انتهى. وليس في هذه الروايات أدنى دلالة على كون حديث الأوساق محمولا على حديث العرية، وغاية ما فيها أنها تدل على التخفيف في الخرص على رب النخل في قدر ما يأكله هو وأهله وزواره والمارة والسابلة رطبا وفيما يعرى أهل الحاجة منها، ولذا عفى وأسقط الصدقة أي العشر عن ذلك رأسا لا أنه أوجبها فيها ورخص في عدم رفعها إلى بيت المال بل فوض صرفها في مصارفها إلى رب
(11/141)
الحائط واحتسب ذلك له أي أسقطه من الحساب؛ ولأنه يأباه كما قال صاحب فتح الملهم: ما وقع في رواية لمسلم في حديث أبي سعيد، ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق وما في بعض روايات جابر، لا صدقة في شيء من الزرع أو الكرم حتى يكون خمسة أوسق، ولأحمد من حديث أبي هريرة ولا يحل في البر والتمر زكاة حتى يبلغ خمسة أوسق فإن العرية تعرف في التمر أو الثمار لا في سائر الحبوب والزروع، فكيف يستقيم حمل الحديث المشتمل على جميع المعشرات على العرايا. وقد روى البيهقي بإسناده عن الزهري، قال سمعت أباأمامة بن سهل بن حنيف يحدث في مجلس سعيد بن المسيب إن السنة مضت أن لا تؤخذ صدقة من نخل حتى يبلغ خرصها خمسة أوسق، وهذا ظاهر في أن المقصود بيان نصاب الصدقة كما في قرينتيه من الدود والأواقي لا بيان ما أسقط من الحساب، هذا وقد اتضح بما ذكرنا أن كل ما تأول به الحنفية حديث الأوساق باطل، وقد ظهر بذلك أيضا سخافة استدلالهم بحديث العموم. ولذلك أورد صاحب العرف الشذي حديثا آخر للاحتجاج لمذهب الحنفية، وزعم أنه خاص صريح في مذهبهم حيث قال: أن الصحيح الاحتجاج بالرواية الخاصة في مقابلة الخاص فنحتج بما رواه الطحاوي (ج2:ص213) في باب العرايا عن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرية في الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة، وقال: في كل عشرة أقناء قنو يوضع في المسجد للمساكين، قال وما تمسك به أحد منا، والحديث قوي. ومراده عندي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أجاز بالعرية إلى أربعة أوسق. وأما المسألة فيما زاد فهي كما ذكرها فيما بعد أعنى إيجاب العشر حتى أوجب في عشرة أقناء قنوا، وحينئذ صار الحديث صريحا فيما رامه الحنفية. قلت: حديث جابر هذا ذكره الحافظ في الفتح في باب بيع الثمر على رؤس النخل بالذهب والفضة ونسبه إلى الشافعي وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، قال أخرجوه كلهم من طريق ابن إسحاق حدثني محمد بن
(11/142)
يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة، لفظ أحمد- انتهى. قلت: وأخرج أحمد الجزء الثاني (ج3:ص360) في رواية أخرى بلفظ: أمر من كل جاد بعشرة أوسق من تمر بقنو يعلق في المسجد. ولفظ الحاكم (ج1:ص417): رخص في العرايا الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة، وقال: في جاذ كل عشرة أوسق قنو يوضع للمساكين في المسجد. وأخرج أبوداود الجزء الثاني فقط بلفظ: أمر من كل جاد عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين. قال الخطابي في المعالم (ج2:ص75): قال إبراهيم الحربي: يريد قدرا من النخل يجذ منه عشرة أوسق، وتقديره مجذوذ فاعل بمعنى مفعول، وأراد بالقنوا العذق بما عليه من الرطب والبسر يعلق للمساكين يأكلونه، وهذا من صدقة المعروف دون الصدقة التي هي فرض واجب- انتهى. والعمدة هي رواية هؤلاء الحفاظ التي خالية عن زيادة قوله في كل عشرة أقناء قنو لا رواية الطحاوي المشتمل على تلك الزيادة، وذلك
(11/143)
لوجهين: الأول: أنه رواه ابن إسحاق عندهم بصيغة التحديث، ووقع في طريق الطحاوي روايته بعن. والثاني: أنه وقع عند بعض هؤلاء الحفاظ مكان الزيادة المذكورة قوله: أمر في كل جاذ عشرة أوسق بقنو يعلق في المسجد وهذا كما ترى مخالف لزيادة قوله: في كل عشرة أقناء قنو الواقعة في طريق الطحاوي، وهذا كله يورث التردد في قبول تلك الزيادة، كما قال صاحب فتح الملهم، بل يوجب ردها والله تعالى أعلم. ولو تنزلنا فرواية الطحاوي أيضا محمولة على البر والإحسان والتطوع دون بيان الصدقة المفروضة أي العشر والزكاة، وعلى هذا حمل الحديث الشراح قاطبة من أصحاب الغريب وغيرهم، ونسبة الغلط والخطأ إليهم في فهم معنى الحديث جرأة شنيعة بل كبر ومكابرة، ويؤيد كون الحديث من قبيل المعروف وصدقة التطوع ما روى الحاكم (ج1 ص417) والطبراني في الأوسط عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من كل حائط بقناء للمسجد، قال الحاكم: صحيح. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. واحتج بعضهم لمذهب الحنفية بأنه لا يعتبر للخارج من الأرض حول فلا يعتبر له نصاب فإنه لما سقط له وقت ينبغي أن يسقط له المقدار، وأجاب عنه ابن قدامة بأنه إنما لم يعتبر الحول له؛ لأنه يكمل نماءه باستحصاده لا ببقاءه واعتبر الحول في غيره؛ لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال والنصاب، اعتبر ليبلغ حدا يحتمل المواساة منه فلهذا اعتبر فيه يحققه أن الصدقة إنما تجب على الأغنياء بما قد ذكرنا فيما تقدم، ولا يحصل الغني بدون النصاب كسائر الأموال الزكاتيه- انتهى. قال في حجة الله: إنما قدر من الحب والترخمسة أوسق؛ لأنها تكفي أقل أهل البيت إلى السنة وذلك؛ لأن أقل أهل البيت الزوج والزوجة وثالث خادم أو ولد بينهما وما يضاهى ذلك من البيوت، وغالب قوت الإنسان رطل أو مد من الطعام فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار كفاهم لسنة وبقيت بقية لنوائبهم أو أدامهم- انتهى. إعلم أن الاعتبار في نصاب
(11/144)
المعشرات وصدقة الفطر وغيرها إنما هو للكيل لا الوزن، فلا يخرج العشر وزكاة الفطر وغيرها إلا بالصاع والمد إلا إذا لم يتيسر ذلك فحينئذ يرجع إلى الوزن، والمراد بالصاع الصاع النبوي وهو صاع أهل الحجاز المحرمين وغيرهما لا الصاع الحجاجي الذي هو صاع أهل العراق وارجع لتحقيق ذلك إلى المحلى (ج5 ص240، 246) لابن حزم وكتاب الأموال (ص514، 525) لأبي عبيد والمجموع (ج1 ص122) و (ج5 ص458) و (ج6 ص128، 129) للنووي فإنهم قد بسطوا الكلام في تحقيق الصاع والمد وبيان مقدارهما من الوزن، وذكر مذاهب العلماء في ذلك، قال ابن قدامة: النصاب معتبر بالكيل فإن الأوساق مكيلة وإنما نقلت إلى الوزن لتضبط وتحفظ وتنقل، والمكيلات تختلف في الوزن فمنها الثقيل كالحنطة والعدس ومنها الخفيف كالشعير والذرة ومنها المتوسط، وقد نص أحمد على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة، وروى جماعة عنه أنه قال: الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثي رطل حنطة، وقال حنبل: قال أحمد: أخذت الصاع من أبي النضر وقال أبوالنضر
(11/145)
أخذته من ابن أبي ذئب، وقال: هذا صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يعرف بالمدينة، قال أبوعبدالله: فأخذنا العدس فعيرنا به وهو أصح ما يكال به؛ لأنه لا يتجافى عن مواضعه فكلنا به ووزناه فإذا هو خمسة أرطال وثلث وهذا أصح ما وقفنا عليه وما بين لنا من صاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعض أهل العلم: أجمع أهل الحرمين على أن مد النبي - صلى الله عليه وسلم - رطل وثلاث قمحا من أوسط القمح فمتى بلغ القمح ألفا وستمائة رطل ففيه الزكاة وهذا يدل على أنهم قدروا الصاع بالثقيل، فأما التخفيف فتجب الزكاة فيه إذا قارب هذا وإن لم يبلغه- انتهى. واعلم أيضا أنه اختلف في هذا النصاب هل هو تحديد أو تقريب، وبالأول جزم أحمد وهو أصح الوجهين للشافعية إلا أن كان نقصا يسيرا جدا مما لا ينضبط فلا يضر، قاله ابن دقيق العيد: وصحح النووي في شرح مسلم أنه تقريب، كذا في الفتح. وقال ابن قدامة، قال القاضي: وهذا النصاب معتبر تحديدا فمتى نقص شيئا لم تجب الزكاة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة والناقص عنها لم يبلغها إلا أن يكون نقصا يسيرا يدخل في المكاييل كالأوقية ونحوها فلا عبرة به؛ لأن مثل ذلك يجوز أن يدخل في المكاييل فلا ينضبط فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين انتهى. هذا ولم يتعرض في الحديث للقدر الزائد على النصاب المذكور وقد أجمع العلماء على أنه لا وقص في نصاب المعشرات، قال ابن قدامة: لا وقص في نصاب الحبوب والثمار بل مهما زاد على النصاب أخرج منه بالحساب فيخرج عشر جميع ما عنده فإنه لا ضرر في تبعيضه بخلاف الماشية فإن فيها ضرر ثم ههنا مسائل، ينبغي ذكرها تكميلا للفائدة. الأولى: الخمسة الأوسق تعتبر بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار، فلو كان له عشرة أوسق عنبا لا يجيء منه خمسة أوسق زبيبا لم يجب عليه شيء، لأنه حال وجوب الإخراج منه فاعتبر النصاب بحاله. الثانية: إذا وجب
(11/146)
عليه عشر مرة لم يجب عليه عشر آخر وإن حال عنده أحوالا؛ لأن هذه الأموال غير مرصدة للنماء في المستقبل بل هي إلى النقص أقرب، والزكاة إنما تجب في الأشياء النامية ليخرج من النماء فيكون أسهل. الثالثة: وقت وجوب الزكاة في الحب إذا اشتد وفي الثمرة إذا بد إصلاحها قال ابن العربي في تفسيره: اختلف العلماء في وجوب الزكاة في هذه الأموال النباتية على ثلاثة أقوال. الأول: أنها تجب وقت الجذاذ. الثاني: أنها تجب يوم الطيب؛ لأن ما قبل الطيب علفا لا قوتا وطعاما، فإذا طابت وكان الأكل الذي أنعم الله به وجب الحق الذي أمر الله به. الثالث: أن يكون بعد تمام الخرص؛ لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطا لوجوبها، ولكل قول وجه كما ترون لكن الصحيح وجوب الزكاة بالطيب لما بينا من الدليل، وإنما خرص عليهم ليعلم قدر الواجب في ثمارهم- انتهى. الرابعة: يجب العشر أو نصفه إذا بلغ الخارج النصاب سواء زرعه في أرض له أو في أرض لغيره أرض خراج كانت أو أرض عشر، سقى بماء العشر أو بماء الخراج، وهذا قول جمهور الناس وبه قال مالك
(11/147)
والشافعي وأحمد وداود الظاهري، فيجتمع عندهم العشر والخراج في أرض واحدة. وقال أبوحنيفة: لا عشر فيما أصيب في أرض خراج فاشتراط الوجوب العشر أن تكون الأرض عشرية فلا يجتمع عنده العشر والخراج في أرض واحدة واستدل الجمهور بقوله تعالى: ?ومما أخرجنا لكم من الأرض?[البقرة: 267] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "فيما سقت السماء العشر" وغيره من عمومات الأخبار. قال ابن الجوزي في التحقيق بعد ذكر هذا الخبر هذا عام في الأرض الخراجية وغيرها، وقال ابن المبارك: يقول الله تعالى: ?ومما أخرجنا لكم من الأرض? ثم يقول نترك القرآن لقول أبي حنيفة. واستدل الشيخ تقي الدين في الإمام للجمهور بما روى يحيى بن آدم في الخراج (ص165) والبيهقي من طريقه (ج4 ص131) عن سفيان بن سعيد،عن عمرو بن ميمون بن مهران. قال: سألت عمر بن عبدالعزيز، عن مسلم يكون في يده أرض خراج فيسأل الزكاة فيقول إن علي الخراج قال فقال: الخراج على الأرض وفي الحب الزكاة، قال ثم سألته مرة أخرى فقال مثل ذلك، قال شيخنا في شرح الترمذي إسناده صحيح. قلت ما ورواه أبوعبيد الطبراني في الأموال (ص88) عن قبيصة عن سفيان قال الحافظ في الدراية (ص268) وصح عن عمر بن عبدالعزيز أنه قال لمن قال: إنما علي الخراج الخراج على الأرض والعشر على الحب، أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن آدم في الخراج له، وأخرج أيضا عن يحيى ثنا ابن المبارك عن يونس (وفي الخراج ليحى (ص166) عن معمر مكان عن يونس) قال: سألت الزهري عن زكاة الأرض التي عليها الجزية فقال: لم يزل المسلمون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده يعاملون على الأرض ويستكرونها ويؤدون الزكاة مما خرج منها فترى هذه الأرض على نحو ذلك- انتهى. وهذا فيه إرسال عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى يحيى بن آدم في الخراج (ص165) وأبوعبيد في الأموال (ص88) عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عبدالله بن أبي عوف
(11/148)
عامله على فلسطين فيمن كانت في يده أرض يحرثها من المسلمين أن يقبض منها جزيتها، ثم يأخذ منها زكاة ما بقي بعد الجزية قال ابن أبي عبلة: أنا ابتليت بذلك ومنى أخذوا الجزية يعنى الخراج الأرض. واستدل الحنفية بما رواه ابن عدي في الكامل والبيهقي من طريقه (ج4 ص132) عن يحيى بن عنبسة ثنا أبوحنفية عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم وبأن أحدا من أئمة العدل وولاة الجور لم يأخذ من أرض السواد عشر إلى يومنا هذا فالقول بوجوب العشر فيها يخالف الإجماع فيكون باطلاص. قال صاحب الهداية: لم يجمع أحد من أئمة العدل والجور بينهما يعني بين الخراج والعشر وكفى بإجماعهم حجة وأجيب عن الحديث بأنه باطل لا أصل له، قال البيهقي: هذا حديث باطل وصله ورفعه. ويحيى بن عنبسة متهم بالوضع، وقال ابن عدي: يحيى بن
(11/149)
عنبسة منكر الحديث، وإنما يروي هذا من قول إبراهيم، وقد رواه أبوحنيفة عن حماد عن إبراهيم قوله: فجاء يحيى بن عنبسة فأبطل فيه ووصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويحيى بن عنبسة مكشوف الأمر في ضعفه لروايته عن الثقات الموضوعات- انتهى. وقال ابن حبان: ليس هذا من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحيى بن عنبسة دجال يضع الحديث لا تحل الرواية عنه، وقال الدارقطني: يحيى هذا دجال يضع الحديث هو كذب على أبي حنيفة ومن بعده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، كذا في نصب الراية (ج3:ص442) وأجيب عن دعوى الإجماع بأنها باطلة جدا، قال الحافظ في الدراية: (ص268) رادا على صاحب الهداية ولا إجماع مع خلاف عمر بن عبدالعزيز والزهري، بل لم يثبت عن غيرهما التصريح بخلافهما - انتهى. وقال أبوعبيد في الأموال (ص90) لا نعلم أحدا من الصحابة، قال: لا يجتمع عليه العشر والخراج ولا نعلمه من التابعين إلا شيء يروي عن عكرمة، رواه عنه رجل من أهل خراسان يكنى أباالمنيب سمعه يقول ذلك- انتهى. واحتج لهم أيضا بما روى أن عتبة بن فرقد قال لعمر رضي الله عنه حين اشترى أرض خراج ضع عن أرضي الصدقة فقال: أدعنها ما كانت تؤدي أو أرددها إلى أهلها وإن رجلا قال لعمر رضي الله عنه: أسلمت فضع عن أرضى الخراج فقال: إن أرضك أخذت عنوة، وقول عمر: في المرأة التي أسلمت من أهل نهر الملك (كورة واسعة ببغداد بعد نهر عيسى) فقال إن أدت ما على أرضها وإلا فخلوا بين المسلمين وبين أرضهم، وقول علي رضي الله عنه فيمن أسلم من أهل السواد: إن أقمت بأرضك تؤدي ما كانت تؤدي وإلا قبضناها منك وإن الرفيل أسلم فأعطاه عمر أرضه بخراجها. خرج هذه الآثار يحيى بن آدم والبيهقي في المعرفة وغيرهما، قال يحيى: (ص168) وليس في شيء من هذه الأحاديث إلا الخراج وحده ثم أجاب عنها قال: وذلك عندنا؛ لأنهم طلبوا طرح الخراج حتى يصير عليها العشر وحده فلم
(11/150)
يفعل عمر رضي الله عنه لم يطرح الخراج ولم يذكر العشر بطرح ولا غيره؛ لأن العشر زكاة على كل مسلم، أي فهو واجب عليه في كل حال لا يحتاج إلى تصريحه وقال أبوعبيد: (ص87) ليس في ترك ذكر عمر وعلي رضي الله عنهما العشر دليل على سقوطه عنهم، لأن العشر حق واجب على المسلمين في أراضيهم لأهل الصدقة لا يحتاج إلى اشتراطها عليهم عند دخولهم في الأرضين، قال: وذلك أن حكم الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على كل مسلم في أرضه أن ذكر ذلك أو ترك. وإنما أرض الخراج كالأرض يكتريها الرجل المسلم من ربها الذي يملكها بيضاء فيزدرعها أفلست ترى أن عليه كراءها لربها وعليه عشر ما تخرج إذا بلغ ما يجب فيه الزكاة. ومما يفرق بين العشر والخراج ويوضح لك أنهما حقان إثنان أن موضع الخراج الذي يوضع فيه سوى موضع العشر إنما ذلك في أعطية المقاتلة والأرزاق الذربة وهذا صدقة يعطاها الأصناف الثمانية فليس واحد من الحقين قاضيا عن
(11/151)
الآخر - انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أنه لم يقم دليل صحيح أو سقيم على أن الخراج والعشر لا يجتمعان على مسلم، بل الآية المذكورة وحديث "فيما سقت السماء العشر" وما في معناه يدلان بعمومهما على الجمع بينهما، وأثر عمر بن عبدالعزيز الخليفة الراشد العدل، وأثر الزهري يدلان على أن العمل كان ذلك في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده، فالحق والصواب في ذلك هو ما ذهب إليه الجمهور. تنبيه: إختلف أصحاب الفتوى من الحنفية في أراضي المسلمين في بلاد الهند في زمن الانكليز وتخبطوا في ذلك فقال بعضهم: لا عشر فيها لأنها أراضي دار الحرب، وقال بعضهم إن أراضي الهند ليست بعشرية ولا خراجة بل أراضي الحوز أي أراضي بيت المال وأرض المملكة. (أرجع لتعريفها إلى رد المختار (ج3:ص353-354) وقال بعضهم: إن الرجل الذي لا يعلم إن أرضه انتقلت إليه من أيدي الكفار والأرض الآن في ملكه فعليه فيها العشر وجعل بعضهم أراضيها على عدة أنواع، وقال الأحوط أداء العشر من جميع هذه الأنواع. والحق عندنا وجوب العشر في أراضي الهند مطلقا أي على أي صفة كانت، فيجب والعشر أو نصفه على المسلم فيما يحصل له من الأرض، إذا بلغ النصاب سواء كانت الأرض ملكا له أو لغيره زرع فيها على سبيل الإجارة أو العارية أو المزارعة. لأن العشر في الحب والزرع والعيرة لمن يملكه، فيجب الزكاة فيه على مالكه المسلم وليس من مؤنة الأرض فلا يبحث عن صفتها والضريبة التي تأخذها المملكة من أصحاب المزارع في الهند ليست خراجها شرعيا ولا مما يسقط فرضة العشر كما لا يخفى وارجع إلى المغني (ج2:ص728) فائدة في حد أرض العشر من أرض الخراج. قال أبوعبيد في كتاب الأموال (ص512) لا تكون الأرض عشرية إلا من أربعة أنواع. أحدها كل أرض أسلم عليها أهلها فهم مالكون لرقابها كالمدينة والطائف واليمن. والنوع الثاني: كل أرض أخذت عنوة ثم أن الإمام لم ير أن يجعلها فيئا موقوفا ولكنه رأى أن يجعلها غنيمة
(11/152)
فخمسها وقسم أربعة أخماسها بين الذين إفتتحوها خاصة كفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرض خيبر، فهذه أيضا ملك إيمانهم ليس فيها غير العشر وكذلك الثغور كلها إذا قسمت بين الذين إفتتحوها خاصة. والنوع الثالث: كل أرض عادية لا رب لها ولا عامر أقطعها الإمام رجلا من جزيرة العرب أو غيرها. والنوع الرابع: كل أرض ميتة استخرجها رجل من المسلمين فأحياها بالماء والنبات فهذه الأرضون التي جاءت فيها السنة بالعشر أو نصف العشر وكلها موجودة في الأحاديث- انتهى مختصرا. وقال أبويوسف في كتاب الخراج: (ص82) كل أرض أسلم عليها أهلها وهي من أرض العرب أو أرض العجم فهي لهم. و هي أرض عشر بمنزلة المدينة حين أسلم عليها أهلها وبمنزلة اليمن، وكذلك كل من لا تقبل منه الجزية ولا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل فأرضهم أرض عشر وإن ظهر عليها الإمام، قال: وأيما دار من دور الأعاجم قد ظهر عليها الإمام وتركها في أيدي أهلها فهي أرض خراج، وإن قسمها
(11/153)
بين الذين غنموها فيه أرض عشر. ألا ترى أن عمر رضي الله عنه ظهر على أرض الأعاجم وتركها في أيديهم فهي أرض خراج وكل أرض من أراضي الأعاجم صالح عليها أهلها وصاروا ذمة فهي أرض خراج- انتهى. باختصار يسير. وقال ابن قدامة: (ج2:ص716) الأرض قسمان. صلح، وعنوة فأما الصلح: فكل أرض صالح أهلها عليها لتكون لهم ويؤدون خراجها معلوما وهذا الخراج في حكم الجزية وأما الثاني: وهو ما فتح عنوة فهي ما أجلى عنها بالسيف ولم يقسم بين الغانمين فهذه تصير وقفاص للمسلمين يضرب عليا خراج معلوم يؤخذ منها في كل عام وتقر في أيدي أربابها ماداموا يؤدون خراجها وسواء كانوا مسلمين أو من أهل الذمة ولا يسقط خراجها بإسلام أربابها ولا بانتقالها إلى مسلم- انتهى مختصرا. الخامسة: يجب الزكاة عند أحمد فيما جمع هذه الأوصاف الكيل والبقاء واليبس من الحبوب والثمار مما ينبته الآدميون سواء كان قوتا كالحنطة والشعير والسلت والارزة والذرة والدخن. أو من القطنيات كالفول والعدس والماش والحمص، أو من الأبازير أي التوابل كالكمون والكراويا أو البزور كبزر القثاء والخيار، أو حب البقول كحب الفجل والسمسم وسائر الحبوب، وتجب أيضا فيما جمع هذه الأوصاف من الثمار كالتمر والزبيب واللوز والفستق والبندق إذا بلغ خمسة أوسق. ولا زكاة في سائر الفواكه كالخوخ والإجاص والكمثري والتفاح والتين ولا في الخضر كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر. ونحوه قول أبي يوسف ومحمد فإنهما قالا: لا شيء فيما تخرجه الأرض إلا ما كانت له ثمرة باقية يبلغ مكيلها خمسة أوسق، واختلفت أقوالهم في ما لا يكال كالزعفران والقطن واستدل ابن قدامة لما ذهب إليه أحمد ومن وافقه بأن عموم قوله "فيما سقت السماء العشر". وقوله لمعاذ "خذ الحب من الحب" يقتضي وجوب الزكاة في جميع ما تناوله خرج منه مالا يكال وما ليس بحب بمفهوم قوله. ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق. رواه مسلم والنسائي، فدل
(11/154)
هذا الحديث على انتفاء الزكاة مما لا توسيق فيه وهو مكيال ففيما هو مكيل يبقى على العموم والدليل على انتفاء الزكاة مما سوى ذلك ما ذكر من اعتبار التوسيق وروى عن علي وعائشة وطلحة وأنس مرفوعا: ليس في الخضروات صدقة، رواهن الدارقطني. وذهب مالك والشافعي إلى أنه لا زكاة في ثمر إلا التمر والزبيب ولا في حب إلا ما كان قوتا في حال الاختيار لذلك إلا في الزيتون على اختلاف. وقال أبوحنيفة: تجب الزكاة في كل ما يقصد بزراعته نماء الأرض إلا الحطب والقصب الفارسي والحشيش، وهو قول عمر بن عبدالعزيز وأبي بردة بن أبي موسى وحماد وإبراهيم وإليه ذهب داود الظاهري إلا أنه قال: إن كل ما يدخل فيه الكيل يراعى فيه النصاب وما لا يدخل فيه الكيل ففي قليلة وكثيرة الزكاة، قال الحافظ: وهذا نوع من الجمع بين الحديثين.واستدل لقول أبي حنيفة بقوله تعالى: ?ومما أخرجنا لكم من الأرض?[البقرة: 267] وبقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" وهذان عامان؛ ولأن هذا يقصد بزراعته نماء الأرض فأشبه الحب
(11/155)
وخص الجمهور هذا العموم بحديث الخضروات. وحكى عن أحمد لا زكاة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب وهو قول موسى بن طلحة والحسن البصري وابن سيرين والشعبي والحسن بن صالح وابن أبي ليلى وابن المبارك وأبي عبيد، ورجح هذا المذهب الأمير اليماني والشوكاني والعلامة الأمير القنوجي البوفالي واستدل لهذا القول بأن ما عدا هذه الأربعة لا نص فيها ولا إجماع ولا هو في معناها في غلبة الإقتيات بها وكثرة نفعها ووجودها فلم يصح قياسه عليها ولا إلحاقه بها فيبقى على النفي الأصلي، وأما عموم الآية والحديث فهو مخصوص بأحاديث الخضروات وبالأحاديث الواردة بصيغة الحصر في الأقوات الأربعة قالوا: وهي مروية بطرق متعددة يقوى بعضها بعضا فتنتهض لتخصيص هذه العمومات. فمنها ما روى الدارقطني (ص201) والحاكم (ج1:ص401) والبيهقي (ج4:ص125) والطبراني من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن فأمرهما أن يعلما الناس أمر دينهم، وقال لا تأخذوا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر، قال الحاكم: إسناده صحيح ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح،ونقل الحافظ في التلخيص (ص178) عن البيقهي، أنه قال رواته ثقات وهو متصل. وقال في الدراية (ص164) في الإسناد طلحة بن يحيى مختلف فيه وهو أمثل مما في الباب- انتهى. قلت: وفيه أيضا اختلف في رفعه ووقفه وانظر الخراج ليحيى بن آدم (ص153) رقم (537-538) والسنن الكبرى للبيهقي (ج4:ص125) ونصب الراية للزيلعي (ج2:ص389) والمحلي (ج5:ص221) ومنها ما روى ابن شيبة وأبوعبيد في الأموال (ص468) ويحيى بن آدم في الخراج (ص148) عن موسى بن طلحة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ الصدقة من الحنطة والشعير والنخل والعنب وهذا منقطع؛ لأن موسى بن طلحة لم يدرك معاذا بعقله قاله ابن حزم
(11/156)
(ج5:ص222) وقال الحافظ في التلخيص (ص179): فيه انقطاع، وقال أبوزرعة موسى بن طلحة عبيدالله عن عمر مرسلة ومعاذ، توفي في خلافة عمر فرواية موسى بن طلحة عنه أولى بالإرسال، وقال تقي الدين في الإمام وفي الاتصال بين موسى بن طلحة ومعاذ نظر، فقد ذكروا أن وفاة موسى سنة ثلاث ومائة، وقيل: سنة أربع ومائة. ذكره الزيلعي (ج2:ص387). وقال ابن عبدالبر: لم يلق موسى معاذا ولا أدركه- انتهى. والمشهور في ذلك ما روى عن عمرو بن عثمان عن موسى بن طلحة قال: عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والزبيب والتمر أخرجه أحمد (ج5:ص228) والدارقطني (ص201) والبيهقي (ج4:ص129) وابن حزم في المحلي (ج5:ص222) وأبويوسف في الخراج (ص64) ومنها ما روى الدارقطني (ص201) والحاكم
(11/157)
(ج1:ص401) والبيهقي (ج4:ص129) والطبراني من طريق إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر وفيما سقى بالنضح نصف العشر وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب فأما، القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. قلت في تصحيحهما لهذا الحديث نظر، فإنه حديث ضعيف، إسحاق بن يحيى بن طلحة ضعيف، متروك. وموسى بن طلحة عن معاذ منقطع، كما تقدم. ومنها ما روى الدارقطني (ص201) وأبويوسف في الخراج (ص65) من طريق محمد بن عبيدالله العزرمي عن الحكم عن موسى بن طلحة عن عمر بن الخطاب. قال: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة الحنطة، والشعير، والزبيب، والتمر، وفيه أن العزرمي متروك، وموسى بن طلحة عن عمر منقطع كما تقدم. ومنها ما روى ابن ماجه والدارقطني (ص200) من طريق العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الخمسة الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب،والذرة، ورواه يحيى بن آدم في الخراج (ص150) من طريق يحيى بن أبي أنيسة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ: أربع ليس فيما سواها شيء الحنطة، والشعير، والتمر والزبيب، وهذا أيضا ضعيف، العزرمي متروك ويحيى بن أبي أنيسة ضعيف جدا. ومنها ما روى الدارقطني (ص203) من حديث جابر. قال: لم تكن المقاثي فيما جاء به معاذ إنما أخذ الصدقة من البر، والشعير، والتمر، والزبيب، وليس في المقاثي شيء وفي سنده عدي بن الفضل وهو متروك الحديث. ومنها ما روى يحيى بن آدم في الخراج (ص150) عن أبي حماد الحنفي عن إبان عن أنس. قال: لم يفرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصدقة إلا من الحنطة، والشعير، والتمر والأعناب،وهذا أيضا ضعيف، لضعف أبي حماد مفضل
(11/158)
بن صدقة الحنفي الكوفي، قال:
ابن معين ليس بشيء، وقال النسائي متروك، وقال أبوحاتم ليس بقوى يكتب حديثه. ومنها
ما روى يحيى بن آدم في الخراج (ص149-150) والبيهقي من طريقه (ج4:ص129) عن عتاب بن
بشير عن خصيف عن مجاهد قال: لم تكن الصدقة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا في خمسة أشياء الحنطة، والشعير، والتمر والزبيب،و الذرة وهذا مرسل، وفيه خصيف
وهو صدوق سيئ الحفظ خلط بآخره أنكروا عليه أحاديث رواها عنه عتاب بن بشير.ومنها ما
روى أيضا يحيى بن آدم (ص149) والبيهقي من طريقه (ج4:ص129) عن ابن عيينة عن عمرو بن
عبيد عن الحسن البصري.قال: لم يفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة إلا في
عشر أشياء الإبل، والبقر والغنم. والذهب، والفضة، والحنطة، والشعير،والتمر،
والزبيب، قال ابن عيينة أراه قال والذرة، وذكر في رواية للبيهقي السلت
وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقه،
(11/159)
مكان الذرة وهذا أيضا مرسل، وقال العراقي: مراسيل الحسن شبه الريح، وقال أحمد: ليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن، وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن عبيد متكلم فيه كان يكذب على الحسن في الحديث. ومنها ما روى أيضا يحيى بن آدم (ص149) والبيهقي من طريقه (ج4 ص129) عن أبي بكر بن عياش عن الأجلح عن الشعبي. قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن: إنما الصدقة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، وهذا أيضا مرسل، وأبوبكر بن عياش ثقة إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابة صحيح. وأجاب الحنفية عن هذه الأحاديث بأنها ضعيفة لا يخلو واحد منها عن الكلام على أنها أخبار آحاد، ولا يجوز تخصيص عموم القرآن، والخبر المشهور بالأخبار الآحادية لو كانت صحيحة فكيف بالضعاف. وأجاب عنها الشافعية ومن وافقهم في عدم حصر العشر في الأشياء الأربعة بأن الحصر فيها ليس حصرا حقيقا بل إضافي أي بالنسبة إلى الخضروات يدل على هذا قوله، في الحديث الثالث إنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية القصب والخضر فعفو عفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترجم البيهقي في السنن الكبرى (ج4 ص128) لهذه الأحاديث، باب الصدقة فيما يزرعه الآدميون وييبس ويدخر ويقتات دون ما تنتبه الأرض من الخضر- انتهى. وفي المسألة أقوال آخر، ذكرها العيني في شرح البخاري وأبوعبيد في الأموال، وأرجح هذه الأقوال، وأقواها عندي قول داود الظاهري، ثم قول من ذهب إلى الحصر العشر في الأربعة الحنطة، والشعير، من الحبوب، والتمر، والزبيب، من الثمار والله تعالى أعلم. (وليس فيما دون خمس أواق) قال الحافظ: بالتنوين وبإثبات التحتانية مشددا ومخففا جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد التحتانية وحكى الجياني وقيه بحذف الألف وفتح الواو ومقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهما بالإتفاق،
(11/160)
والمراد بالدراهم الخالص من الفضة سواء كان مضروبا أو غير مضروب (من الورق) بفتح الواو وكسر الراء وسكونها والمراد به ههنا الفضة مطلقا أي مضروبة كانت أو غيرها، واختلف أهل اللغة في أصله، فقيل يطلق في الأصل على جميع الفضة، وقيل: هو حقيقة للمضروب دراهم، ولا يطلق على غير الدراهم إلا مجازا، هذا قول كثيرين من أهل اللغة، وبالأول قال ابن قتيبة وغيره قاله النووي (صدقة) قال الحافظ: لم يخالف في أن نصاب الزكاة مائتا درهم يبلغ مائة وأربعين مثقالا من الفضة الخالصة إلا ابن حبيب الأندلسي فإنه انفرد إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهم، وذكر ابن عبدالبر اختلافا في الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلاد، وكذا خرق المريسي الإجماع فاعتبر النصاب بالعدد لا الوزن، وانفرد السرخسي من الشافعية بحكاية وجه في المذهب أن الدراهم المغشوشة إذا بلغت قدر الوضم إليه قيمة الغش من نحاس مثلا لبلغ نصابا فإن الزكاة تجب
(11/161)
فيه كما نقل عن أبي حنيفة - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص1): نصاب الفضة مائتا درهم لا نعلم في ذلك خلافا بين علماء الإسلام وقد بينته السنة يعني بها هذا الحديث وحديث أنس الآتي، ففيه وفي الرقة ربه العشر فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها قال ابن قدامة، والدراهم التي يعتبر بها النصاب هي الدراهم التي كل عشر منها وزن سبعة مثاقيل بمثقال الذهب وكل درهم نصف مثقال وخمسة وهي الدراهم الإسلامية التي تقدر بها نصف الزكاة ومقدار الجزية والديات ونصاب القطع في السرقة وغير ذلك، وكانت الدراهم في صدر الإسلام صنفين سودا وطبرية، وكانت السود ثمانية دوانيق والطبرية أربعة دوانيق فجمعا في الإسلام وجعلا درهمين متساويين في كل درهم ستة دوانيق فعل ذلك بنوا أمية- انتهى. قلت: روى ابن سعد في الطبقات (ج5 ص170) عن الواقدي، عن عبدالرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه. قال: ضرب عبدالملك بن مروان الدنانير والدراهم سنة خمس وسبعين وهو أول من أحدث ضربها ونقش عليها، وقال الواقدي: عن خالد بن ربيعة ابن أبي هلال عن أبيه قال: كانت مثاقيلا الجاهلية التي ضرب عليها عبدالملك بن مروان اثنتين وعشرين قيراطا إلا حبة بالشامي وكانت العشرة (دراهم) وزن سبعة (مثاقيل) وقال أبوعبيد في الأموال (ص524) كانت الدراهم قبل الإسلام كبارا وصغارا، فلما جاء الإسلام وأرادو ضرب الدراهم وكانوا يزكونها من النوعين فنظروا إلى الدراهم الكبير فإذا هو ثمانية دوانيق وإلى الدرهم الصغير فإذا هو أربعة دوانيق فوضعوا زيادة الكبير على نقصان الصغير فجعلوها درهمين سواء كل واحد ستة دوانيق، ثم اعتبروها بالمثاقيل ولم يزل المثقال في آباد الدهر محدود إلا يزيد ولا ينقص فوجدوا عشرة من هذه الدراهم التي واحدها ستة دوانيق يكون وزن سبعة مثاقيل سواء فاجتمعت فيه وجوه الثلاثة، أن العشرة منها وزن سبعة مثاقيل وأنه عدل بين الصغار والكبار وأنه موافق لسنة رسول
(11/162)
الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة فمضت سنة الدراهم على هذا واجتمعت عليه الأمة، فلم يختلف أن الدرهم التام ستة دوانيق فما زاد أو نقص قيل: "فيه" زائد أو ناقص، والناس في زكاتهم بحمد الله تعالى على الأصل الذي هو السنة لم يزيغوا عنه وكذلك في المبعايعات والديات على أهل الورق انتهى كلامه ملخصا محررا. قال العيني (ج8 ص258): وفي كتاب المكائيل عن الواقدي عن معبد بن مسلم عن عبدالرحمن ابن سابطة. قال: كان لقريش أوزان في الجاهلية فلما جاء الإسلام أقرت على ما كانت عليه الأوقية أربعون درهما والرطل اثنا عشر أوقية فذلك أربع مائة وثمانون درهما وكان لهم النش وهو عشرون درهما والنواة وهي خمسة دراهم وكان المثقال اثنين وعشرين قيراطا إلا حبة وكانت العشرة دراهم وزنها سبعة مثاقيل والدرهم خمسة عشر قيراطا (إلى ما آخر قال) وأما مقدار نصاب الفضة بحسب أوزان بلادنا الهندية، فهو اثنان
(11/163)
وخمسون تولجة ونصف تولجة. قال القاضي ثناء الله الفاني فتى صاحب التفسير المظهري وتلميذ الشاة ولي الله الدهلوي: في رسالته الفارسية "ما لا بد منه" نصاب زر بيست مثقال ست كه هفت ونيم تولة باشد، ونصاب سيم دوصد درم ست. كه بنجاه وشش روبيه سكه دهلي وزن آن مى شود- انتهى. قال في حاشيتها: جون دوصد نزم محققين مساوى بنجاه ودونيم تولة است، جناجنة صاحب فتاوى جواهر اخلاطي مى أرد. فيكون مائتا درهم اثنين وخمسين تولجة ونصف تولجة من الفضة - انتهى. بس هر روبيه كه بوزن يازدة ماشه وباؤ ماشه بالا باشد بنجاه وشش روبيه خواهد بود، جناجة مصنف رحمة الله عليه فرموده است. وهمين روبيه در عهد مصنف رحمة الله علية رواج ميداشت وهر روبيه كه بوزن يازدة ماشا باشد از سيم مذكور بنجاه وجهار روبيه وسه ماشه خواهد بود - انتهى. وقال شيخ مشائخنا العلامة الشيخ عبدالله الغازيفوري في رسالته ما معربه نصاب الفضة مائتا درهم أي خمسون واثنتان تولجة ونصف تولجة، وهي تساوي ستين روبية من الروبية الإنكليزية (النافقة في الهند في زمن الإنكليز) التي تكون بقدر عشر ماهجة ونصف ماهجة. وقال الشيخ بحر العلوم اللكنوى الحنفي: في رسائل الأركان الأربعة (ص178) وزن مائتي درهم وزن خمس وخمسين روبية، وكل روبية أحد عشر ما شج واستدل بهذا الحديث على عدم الوجوب فيما إذا نقص من النصاب ولو حبة واحدة. قال ابن قدامة: نصاب الفضة مائتا درهم ولا فرق في ذلك بين التبر والمضروب، ومتى نقص النصاب عن ذلك فلا زكاة فيه، سواء كان كثيرا أو يسيرا هذا ظاهر كلام الخرقي. ومذهب الشافعي وإسحاق وابن المنذر لظاهر قوله عليه السلام: ليس فيما دون خمس أواق صدقة، والأوقية أربعون درهما بغير خلاف فيكون ذلك مائتي درهم. وقال غير الخرقي من أصحابنا: إن كان النقص يسيرا كالحبة والحبتين وجبت الزكاة، لأنه لا يضبط غالبا فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين، وإن كان نقصا بينا كالدانق والدانقين
(11/164)
فلا زكاة فيه. وقال مالك: إذا نقصت نقصا يسيرا يجوز جواز الوازنة وجبت الزكاة، لأنها تجوز الوازنة فأشبهت الوازنة. والأول ظاهر الخبر فينبغي أن لا يعدل عنه- انتهى. قلت: وإليه ذهبت الحنفية والشافعية وهو الحق عندنا. واختلفوا في الفضة هل فيها وقص أم لا، وسيأتي الكلام عليه في الفصل الثاني في شرح حديث على هذا، واقتصر في حديث أبي سعيد وحديث أنس الآتي على ذكر نصاب الفضة؛ لأنها الأغلب. وأما الذهب فقال النووي في شرح مسلم: لم يأت في الصحيح بيان نصاب الذهب، وقد جاءت فيه أحاديث تحديد نصاب بعشرين مثقالا، وهي ضعاف ولكن أجمع من يعتد به الإجماع على ذلك. وقال ابن عبدالبر: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نصاب الذهب شيء إلا ما روى عن الحسن بن عمارة عن علي وابن عمارة أجمعوا على ترك حديثه لسوء حفظه وكثرة خطأه. ورواه الحفاظ موقوفا على على لكن عليه الجمهور الأئمة الأربعة
(11/165)
وغيرهم. وقال المهلب: لم ينقل عن الشارع زكاة الذهب من طريق الخبر كما تنقل عنه زكاة الفضة. وقال عياض نصاب الفضة خمس أوراق وهي مائتا درهم بنص الحديث، وأما الذهب فعشرون مثقالا والمعول فيه على الإجماع. قال: وقد حكى فيه خلاف شاذ وروى فيه أيضا حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الشافعي: في كتاب الرسالة (ص52) في باب الزكاة وفرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الورق صدقة، وأخذ المسلمون في الذهب صدقة بعده، إما بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغنا، وإما قياسا على أن الذهب والورق فقد الناس الذي اكتنزوه وأجازوه إثمانا على ما يتابعون به في البلدان قبل الإسلام وبعده. وقال في الأم (ج2 ص34): لا أعلم اختلافا في أن ليس في الذهب صدقة، حتى تبلغ عشرين مثقالا فإذا بلغت عشرين مثقالا ففيها الزكاة. وقال مالك: في الموطأ السنة التي لا اختلاف فيها عندنا إن الزكاة تجب في عشرين دينارا عينا كما تجب في مائتي درهم. قال الباجي: وهذا كما قال إن نصاب الذهب عشرون دينارا من الدنانير الشرعية، وهو كل عشرة دراهم سبعة دنانير ولا خلاف في ذلك بين فقهاء الأمصار، إلا ما روى عن الحسن البصري أنه قال: لا زكاة في الذهب حتى يبلغ أربعين دينارا فيكون فيه دينار. والدليل على صحة ما ذهب إليه الجمهور أن الإجماع أنعقد بعد الحسن على خلافه، وهذا من أقوى الأدلة على أن الحق في خلافه، ودليلنا من جهة السنة ما روى عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: وليس عليك شيء يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، وهذا الحديث ليس اسناده هناك غير إن اتفاق العلماء على الأخذ به دليل على صحة حكمه، ودليلنا من جهة المعنى أن المأتى الدرهم نصاب الورق ولا خلاف في ذلك. والدينار كان صرفه في وقت فرض الزكاة عشرة دراهم فوزن المأتى درهم عشرون مثقالا، فكان
(11/166)
ذلك نصاب الذهب - انتهى. وقال أبوعبيد في الأموال (ص409): بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في نصاب الذهب عشرين مثقالا. ما لفظه فهذا، لا اختلاف فيه بين المسلمين، إذا كان الرجل قد ملك في أول السنة من المال ما تجب في مثله الصدقة وذلك مائتا درهم أو عشرون دينارا أو خمس من الإبل أو ثلاثون من البقر أو أربعون من الغنم، فإذا ملك واحدة من هذه الأصناف من أول الحول إلى آخره فالصدقة واجبة عليه في قول الناس جميعا - انتهى. وقال في شرح الأحياء نصاب الذهب عشرون دينارا خالصة بالإجماع، ووقع في المنهاج مثقالا بدل دينارا ومآلهما واحد. لأن كل دينار زنة مثقال - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص4): قال ابن منذر أجمع العلم على أن الذهب إذا كان عشرين مثقالا قيمتها مائتا درهم، إن الزكاة تجب فيها، إلا ما حكى عن الحسن أنه لا زكاة
(11/167)
فيها حتى تبلغ أربعين وأجمعوا على أنه إذا كان أقل من عشرين مثقالا ولا يبلغ مائتي درهم فلا زكاة فيه. وقال عامة الفقهاء: نصاب الذهب عشرون مثقالا من غير اعتبار قيمتها. إلا ما حكى عن عطاء طاووس والزهري وسليمان بن حرب الواشحي وأيوب السختياني أنهم قالوا: هو معتبر بالفضة فما كانت قيمته مائتى درهم ففيه الزكاة (كان وزن ذلك من الذهب عشرين دينارا أو أقل أو أكثر، هذا فيما كان منها دون الأربعين دينارا، فإذا بلغت أربعين دينارا كان الاعتبار بها نفسها لا بالدراهم لا صرفا ور قيمة) واستدل للحسن بما روى ابن حبان والحاكم (ج1 ص395) والبيهقي (ج4 ص89) وابن حزم في المحلى (ج6 ص93) والطبراني من حديث يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عمرو بن حزم مطولا. وفيه بعد ذكر نصاب الفضة وفي كل أربعين دينارا دينار، قال الحاكم: صحيح ووافقه الذهبي وقال أحمد كتاب عمرو بن حزم في الصدقات صحيح، وقال بعضهم في نسخة كتاب عمرو بن حزم تلقاها الأمة بالقبول. وهي متوارثة كنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهي دائرة على سليمان بن أرقم وسليمان بن داود الخولاني عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده وكلاهما ضعيف، بلى المرجح في روايتهما سليمان بن أرقم وهو متروك، لكن الشافعي في الرسالة (ص113): لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال أحمد: أرجو أن يكون هذا الحديث صحيحا، وقال يعقوب بن سفيان الفسوي لا أعلم في جميع الكتب المنقولة أصح منه، كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم، وقال البيهقي (ج4 ص90): حديث سليمان بن داود مجود الإسناد قد اثنى على سليمان بن داود الخولاني. هذا أبوزرعة الرازي وأبوحاتم الرازي وعثمان بن سعيد الدارمي وجماعة من الحفاظ ورأوه هذا الحديث الذي رواه في الصدقة موصول
(11/168)
الإسناد حسنا - انتهى. واستدل للحسن أيضا بما روى الدارقطني (ص200) من حديث محمد بن عبدالله بن جحش عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن، أن يأخذ من كل أربعين دينارا دينارا - الحديث. وفيه عبدالله بن شيب قال ابن حبان في الضعفاء يقلب الأخبار ويسرقها ولا يجوز الاحتجاج به بحال - انتهى. وأجاب من وافق الحسن عن أحاديث العشرين مثقالا بأنها لم تصح، فيكون الاعتماد في نصاب الذهب على الإجماع المتيقن المقطوع به وهو اتفاقهم على وجوبها في الأربعين واستدل للذين جعلوا الزكاة فيما دون الأربعين تبعا للدراهم بأنه لما كانا من جنس واحد جعل الفضة هي الأصل، إذ كان النص قد ثبت فيها وجعل الذهب تابعا لها في القيمة لا في الوزن وذلك فيما دون موضع الإجماع. قلت: واحتج بضعهم لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس الآتي، وفي الرقة ربع العشر الخ بناء على ما قيل إن الرقة يطلق على الذهب
(11/169)
والفضة بخلاف الورق، فعلى هذا فقيل إن الأصل في زكاة النقدين نصاب الفضة فإذا بلغ الذهب ما قيمته مائتا درهم وجبت فيه الزكاة وهو ربع العشر كذا في الفتح وقد ورد في ذلك حديث صريح، رواه ابن حزم في المحلى (ج6 ص13) من طريق أبي أويس عن عبدالله ومحمد ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيهما عن جدهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم حين أمره على اليمن، وفيه بعد ذكر نصاب الفضة فإذا بلغت الذهب قيمة مائتى درهم ففي قيمة كل أربعين درهما درهم حتى تبلغ أربعين دينارا فإذا بلغت أربعين دينارا ففيها دينار - انتهى. ورواه الحاكم (ج1 ص395) مختصرا بلفظ: "فإذا بلغ قيمة الذهب مائتى درهم ففي كل أربعين درهما درهم:" وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي وفي تصحيحيهما له نظر، فإن أباأويس هذا هو عبدالله بن أويس ابن عم مالك بن أنس وزوج أخته وهو صالح صدوق بهم. قال ابن عبدالبر: لم يحك أحد عنه جرحة في دينه وأمانته، وإنما عابوه بسوء حفظه وأنه يخالف في بعض حديثه - انتهى. وأخرج له مسلم فسي الشواهد والمتابعات دون الأصول، ولم يحتج به، وقد تفرد أبوأويس بهذا اللفظ، ورواه الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وليس فيه ما ذكره أبوأويس كما تقدم. ومع ذلك فحديثه هذا مرسل لأنه عن محمد بن عمرو بن حزم جد عبدالله ومحمد ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم فلا يصح الاحتجاج برواية أبي أويس هذه ولا الاستشهاد والاعتبار. واستدل للجمهور بأحاديث منها حديث علي رواه أبوداود من طريق ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم وسمي آخر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء، يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون دينارا، فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك قال فلا
(11/170)
أدري أعلي يقول فبحساب ذلك أو
رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال وراه شعبة وسفيان وغيرهما عن أبي
إسحاق عن عاصم عن علي ولم يرفعوه - انتهى. قال الزيلعي (ج2 ص328): وفيه عاصم
والحارث فعاصم وثقة المديني وابن معين والنسائي، وتكلم فيه ابن حبان وابن عدي
فالحديث حسن. قال النووي في الخلاصة: وهو حديث صحيح أو حسن- انتهى. ولا يقدح فيه
ضعف الحارث لمتابعة عاصم له- انتهى كلام الزيلعي. وضعفه ابن حزم أولا (ج6 ص70) ثم
رجع عن ذلك حيث قال (ج6 ص74) ثم استدركنا فرأينا إن حديث جرير بن حازم مسند صحيح
لا يجوز خلافه، وإن الاعتلاال فيه بأن عاصم بن ضمرة أو أن أباإسحاق أو جريرا أخلط
إسناد الحارث بإرسال عاصم. هو الظن الباطل الذي لا يجوز وما علينا من مشاركة
الحارث لعاصم، ولا لإرسال من أرسله ولا لشك زهير فيه شيء، وجرير ثقة فالأخذ بما
أسنده لازم - انتهى. وقال الحافظ في بلوغ المرام: وهو حسن وقد اختلف في رفعه وقال
في التلخيص (ص182) حديث علي هذا
وليس فيما دون خمس ذود
(11/171)
معلول، فإنه قال أبوداود حدثنا سليمان بن داود المهري ثنا ابن وهب ثنا جرير بن حازم وسمي آخر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة، والحارث عن علي ونبه ابن المواق على علة خفية فيه وهي إن جرير بن حازم لم يسمعه من أبي إسحاق. فقد رواه حفاظ أصحاب ابن وهب سحنون وحرملة ويونس وبحر بن نصر، وغيرهم عن ابن وهب عن جرير بن حازم والحارث بن نبهان عن الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق، فذكره قال ابن المواق: الحمل فيه على سليمان شيخ أبي داود فإنه وهم في إسقاط رجل - انتهى. فلعل من حسن هذا الحديث إنما حسنه لشواهده والله تعالى أعلم ومنها حديث ابن عمر وعائشة أخرجه ابن ماجه والدارقطني من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن عبدالله بن واقد عن ابن عمر وعائشة، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار - انتهى. وابن مجمع قال فيه ابن معين لا شئ وقال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به فإنه كثير الوهم ومنها حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أخرجه الدارقطني (ص199) من طريق ابن أبي ليلى عن عبدالكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب ولا في أقل من مائتي درهم صدقة، وذكره أبوعبيد في الأموال (ص409-445) وابن حزم في المحلى (ج6:ص69) معلقا. قال الحافظ في التلخيص (ص182): إسناده ضعيف. ورواه أبوأحمد بن زنجوية في الأموال كما في نصب الراية (ج2:ص369) من طريق العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفط:"ليس فيما دون مائتي درهم شئ ولا فيما دون عشرين مثقالا من الذهب شئ وفي المائتين خمسة دراهم وفي عشرين مثقالا ذهبا نصف مثقال" قال الحافظ في الدراية (ص161): بإسناد ضعيف أي لأن العزرمي متروك ومنها حديث محمد بن عبدالرحمن الأنصاري أخرجه أبوعبيد (ص408) عن يزيد بن هارون عن حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن محمد ابن عبدالرحمن الأنصاري، إن في
(11/172)
كتاب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وفي كتاب عمر في الصدقة. إن الذهب لا يؤخذ منه شئ حتى يبلغ عشرين
دينارا فإذا بلغ عشرين دينارا ففيه نصف دينار- الحديث. وذكره ابن حزم في المحلي
(ج6:ص69) وقال هو حديث مرسل ومنها حديث ابن مسعود رواه الدارقطني (ص206) من طريق
يحيى بن أبي أنيسة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله بن مسعود قال: قلت
للنبي صلى الله عليه وسلم إن لإمرأتي حليا من عشرين مثقالا، قال فأد زكاته نصف
مثقال. قال الدارقطني: يحيى بن أبي أنيسة متروك وهذا وهم، والصواب مرسل موقوف-
انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا إن أحاديث تحديد نصاب الذهب ضعيفة إلا حديث علي، واختلف
فيه أيضا فحسنه النووي والحافظ في البلوغ والزيلعي، وصححه ابن حزم وأعله الحافظ في
التلخيص. وقد تقدم إن المعول في ذلك إجماع المسلمين على تحديده بعشرين مثقالا فهو
المعتمد ومقداره من أوزان بلادنا سبع تولجات ونصف تولجة كما تقدم والله تعالى أعلم
(وليس فيما دون خمس ذود) بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها دال
من الإبل صدقة)). متفق عليه.
1810- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس على
المسلم صدقة في عبده
(11/173)
مهملة والرواية المشهورة بإضافة خمس إلى ذود وروى بتنوين خمس على أن ذود بدل منه، وقوله: "من الإبل صفة مؤكدة لذود لأنه إسم الإبل خاصة، والأكثر على أن الذود من الثلاثة إلى العشرة وإنه لا واحد له من لفظه. وإنما يقال في الواحد بعير. وقيل: بل ناقة، فإن الذود في الإناث دون الذكور، لكن حملوه في الحديث على ما يعم الذكر والأنثى فمن ملك خمسا من الإبل ذكورا يجب عليه فيها الصدقة. وقيل الذود ما بين الثنتين إلى التسع. وقيل: من الثلاثة إلى العشرة.و قيل: إلى خمس عشرة. وقيل: إلى عشرين. وقيل: إلى الثلثين، قال القسطلاني: القياس في تمييز ثلاثة إلى عشر أن يكون جمع تكسير جمع قلة فمجيئة اسم جمع كما في هذا الحديث قليل، والذود يقع على المذكر والمؤنث والجمع والمفرد فلذا أضاف خمس إليه - انتهى. قال القرطبي: أصله زاد يذود إذا دفع شيئا فهو مصدر، وكان من كان عنده دفع عن نفسه معرة الفقر وشدة الفاقة والحاجة (من الإبل) بيان للذود (صدقة) أي إذا كان الإبل أقل من خمس فلا صدقة فيها، قال ابن قدامة: وجوب زكاة الإبل مما أجمع عليه علماء الإسلام وصحت فيه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وأجمع المسلمون على أن ما دون خمس من الإبل لا زكاة فيه لحديث أبي سعيد هذا، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس الآتي، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها (متفق عليه) وأخرجه أحمد ومالك والشافعي والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
(11/174)
1810- قوله: (ليس على المسلم)
قال القسطلاني: خص المسلم وإن كان الصحيح عند الأصوليين والفقهاء تكليف الكافر
بالفروع، لأنه مادام كافرا فلا يجب عليه الإخراج حتى يسلم، فإذا أسلم سقطت، لأن
الإسلام يجب ما قبله. وقال ابن حجر: يؤخذ منه إن شرط وجوب زكاة المال بأنواعها
الإسلام، ويوافقه قول الصديق في كتابه الآتي على المسلمين، قال القاري: هذا حجة
على من يقول إن الكفار مخاطبون بالشرائع في الدنيا بخلاف من يقول إن الكافر مخاطب
بفروع الشريعة بالنسبة للعقاب عليها في الآخرة كما أفهمه قوله تعالى: ?وويل
المشركين الذين لا يؤتون الزكاة?[فصلت:7] وقالوا ?ولم نك نطعم المسكين?[مدثر:44]
وعليه جمع من أصحابنا وهو الأصح عند الشافعية - انتهى. وقد سبق الكلام على هذا من
أوائل الزكاة (صدقة) أي زكاة (في عبده) أي رقيقه ذكرا كان أو أنثى ونفي الصدقة في
العبد مطلقا، لكنه مقيد بما ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ليس في العبد
ولا في فرسه
(11/175)
صدقة إلا صدقة الفطر، ولأبي داود ليس في الخيل والرقيق زكاة الفطر. (ولا في فرسه) الشامل للذكر ولأنثى وجمعه الخيل من غير لفظه وهذا إذا لم يكونا للتجارة فإنه إذا اشتراهما للتجارة تجب الزكاة في قيمتهما كسائر أموال التجارة. واستدل بهذا الحديث من قال من أهل الظاهر بعدم وجوب الزكاة فيهما مطلقا ولو كانا للتجارة، وأجيبوا بأن زكاة التجارة ثابتة بالإجماع، كما نقله ابن المنذر وغيره فيخص به عموم هذا الحديث. وتعقب هذا بأنه كف الإجماع مع خلاف الظاهرية، وأجيبوا أيضا بأن زكاة التجارة متعلقها القيمة لا العين، فالحديث يدل على عدم التعلق بالعين فإنه لو تعلقت الزكاة بالعين من العبيد والخيل لثبتت ما بقيت العين وليس كذلك. فإنه لو نوى القنية لسقطت الزكاة والعين باقية وإنما الزكاة متعلقة بالقيمة بشرط نية التجارة. قال النووي هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها وإنه لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة، وبهذا قال العلماء كافة من السلف والخلف، إلا أباحنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان وزفر أوجبوا في الخيل، إذا كانت إناثا أو ذكورا وإناثا في كل فرس دينارا وإن شاء قومها وأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم وليس لهم حجة في ذلك. وهذا الحديث صريح في الرد عليهم - انتهى. قلت: مذهب أبي حنيفة كما في البدائع أنه إذا كانت الخيل تسام للدر والنسل وهي ذكور وإناث يجب فيها الزكاة، وفي الذكور المنفردة والإناث المنفردة روايتان، وفي المحيط المشهور عدم الوجوب فيهما أي لعدم تحقق النماء في الذكور والإناث منفردة بالتوالد والتناسل. و قال ابن الهمام في الفتح: الراجح في الذكور عدمه وفي الإناث الوجوب أي لأنها تناسل بالفجل المستعار، واختلف متأخروا الحنفية في أن الفتوى على قول أبي حنيفة أو صاحبيه أبي يوسف ومحمد الذين وافقا الجمهور، ففي فتاوى (قاضي خان (ج1:ص119) قالوا: الفتوى على قولهما وأجمعوا على أن الإمام لا
(11/176)
يأخذ منه صدقة الخيل جبرا- انتهى. وقال ابن عابدين (ج2:ص26) قال الطحاوي: هذا أي قول الصاحبين أحب القولين الينا، ورجحه القاضي أبوزيد في الأسرار وفي الينابيع وعليه الفتوى، "وفي الجواهر" والفتوى على قولهما "وفي الكافي" هو المختار للفتوى، وتبعه الزيلعي والبزازي تبعا للخلاصة "وفي الخانية" قالوا: الفتوى على قولهما تصحيح العلامة قاسم. قال ابن عابدين وبه جزم "في الكنز" لكن رجح قول الإمام (أبي حنيفة) في الفتح (أي فتح القدير) "وفي التحفة" الصحيح قوله ورجحه الإمام السرخسي في المبسوط، والقدوري في التجريد وصاحب البدائع وصاحب الهداية. وهذا القول أقوى حجة على ما شهد به التجريد والمبسوط وشرح شيخنا- انتهى كلام ابن عابدين. قلت: والقول الراجح المعول عليه عندنا هو ما قال به جمهور أهل العلم لحديث أبي هريرة هذا، ولحديث علي الآتي في الفصل الثاني، ولحديث عمرو بن حزم عند ابن حبان والحاكم والبيهقي والطبراني، ولحديث عمر وحذيفة عند أحمد (ج1:ص118) وسنده ضعيف لانقطاعه. فإن راشد بن سعد لم يدرك عمر ولأن أبابكر بن عبدالله بن أبي مريم
(11/177)
ضعيف لاختلاطه وسوء حفظه ولحديث ابن عباس عند الطبراني في "الصغير والأوسط" وفيه محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى وفيه كلام. قال أبوعبيد: في "كتاب الأموال" (ص465) إيجاب الصدقة في سائمة الخيل التي يبتغي منها النسل ليس على إتباع السنة ولا على طريق النظر، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عفا عن صدقتها ولم يستثن سائمة ولا غيرها، وبه عملت الأئمة والعلماء بعده فهذه السنة. وأما في النظر فكان يلزمه إذا رأى فيها صدقة أن يجعلها كالماشية تشبيها بها لأنها سائمة مثلها ولم يصر إلى واحد من الأمرين على أن تسمية سائمتها قد جاءت عن غير واحد من التابعين بإسقاط الزكاة منها. ثم روى ذلك عن إبراهيم والحسن وعمر بن عبدالعزيز. قلت: وأجاب الحنفية عن حديث أبي هريرة بأنه محمول على فرس الركوب والحمل والجهاد في سبيل الله، قال صاحب الهداية: وتأويله فرس الغازي هو المنقول عن زيد بن ثابت- انتهى. قلت: نقله عنه زيد الديوسي في "كتاب الأسرار" فقال إن زيد بن ثابت لما بلغه حديث أبي هريرة قال: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما أراد فرس الغازي قال ومثل هذا لا يعرف بالرأي فثبت أنه مرفوع- انتهى. قال الحافظ: "في الدراية" (ص158) تبع أي صاحب الهداية في ذلك أبازيد الدبوسي فإنه نقله عن زيد بن ثابت بلا إسناد - انتهى. فما لم يعرف إسناده وأنه قوي صالح للإعتماد عليه لا يصح الاستناد إليه على أنه قول صحابي، وفيه مسرح للإجتهاد وحمل الحديث على فرس الغازي مخالف لظاهره، وأما ما روى ابن أبي شيبة وأبوعبيد "في الأموال" (ص464) وأبوأحمد بن زنجوية بإسناد صحيح عن طاووس قال: سألت ابن عباس عن الخيل أفيها صدقة فقال: "ليس على فرس الغازي في سبيل الله صدقة" فليس فيه إن ابن عباس فسر بذلك حديث أبي هريرة، وبين المراد من الفرس المذكور فيه وغاية ما فيه أنه نفي الصدقة عن فرس الغازي وهذا مما لا ينكره أحد والمفهوم ليس بحجة عند الحنفية مع أن
(11/178)
مفهومه يعارض عموم حديث أبي هريرة فلا يلتفت إليه على أنه يقتضي أن يجب الصدقة في فرس غير الغازي، وإن كان يعلف للركوب والحمل ولم يقل به أحد. قال ابن الهمام: لا شك إن هذه الإضافة للفرس المفرد لصاحبها في قولنا فرسه وفرس زيد كذا وكذا يتبادر منه الفرس الملابس للإنسان ركوبا ذهابا ومجيئا عرفا وإن كان لغة أعم والعرف املك ويؤيد هذه القرينة قوله "في عبده" ولا شك أن العبد للتجارة تجب فيه الزكاة، فعلم أنه لم يرد النفي عن عموم العبد بل عبد الخدمة. وقد روى ما يوجب حمله على هذا المحمل لو لم تكن هاتان القرينتان العرفية واللفظية، وهو ما في الصحيحين من حديث مانعي الزكاة وفيه الخيل لثلاثة الحديث- انتهى. قلت: المراد بالفرس والعبد في الحديث الجنس كما يدل عليه رواية أبي داود الآتية، ولا نسلم أن المتبادر من الإضافة المذكورة الفرس الملابس للإنسان ركوبا عرفا، ولو سلمنا فكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب حمله على مقتضي صرف اللغة لا على العرف فإن العرف يختلف على أنه ورد هذا الحديث في رواية ضعيفة لأبي داود بلفظ. "ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق" أي بلفظ الجمع وبغير الإضافة وفي لفظ في "مسند
(11/179)
عبدالله بن وهب" لا صدقة على الرجل في خيله ولا في رقيقه، ولا يتمشى فيه تأويل ابن الهمام ويرد تأويله أيضا ما رواه مالك في "الموطأ" عن الزهري عن سليمان بن يسار إن أهل الشام قالوا: لأبي عبيدة بن الجراح خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة فأبى ثم كتب إلى عمر بن الخطاب فأبى عمر - الحديث. فافهم. وأما ما ذكر لتأييد ذلك من القرينة اللفظية ففيه أن الأصل أن يبقى اللفظ المطلق على إطلاقه والعام على عمومه ولا يقيد ولا يخص إلا بدليل شرعي، وقد قام الدليل من السنة والإجماع على وجوب الزكاة في عبد التجارة. فلم يكن بد من حمل العبد في الحديث على عبد الخدمة بخلاف الفرس، فإنه لم يقم دليل شرعي على استثناء غير فرس التجارة ولم يرد في السنة ما يدل على وجوب الزكاة في شي من الفرس إلا ما كان للتجارة فلا يصح حمل لفظ الفرس في الحديث على فرس الركوب خاصة وإستثناء السائمة منه وأما ما أشار إليه من حديث مانعي الزكاة في الصحيحين فليس فيه ما يوجب حمله على فرس الركوب كما ستعرف. وأجاب عن الحديث في "المحيط البرهاني" بأن المنفي ولاية أخذ الساعي فإن الفرس مطمع كل طامع، فالظاهر أنه إذا علموا به لا يتركوه لصاحبه- انتهى. وحاصله: أنه لم يرد نفي الزكاة عن الفرس رأسا بل أراد عدم وجوب أداءها إلى بيت المال على شاكلة الأموال الباطنة. قلت: لا دليل على هذا الحمل وظاهر الحديث يرده فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نفى الصدقة عن الفرس والعبد معا بكلام واحد، فكما أن الزكاة معفوة ومنفية عن عبد غير التجارة رأسا كذلك منفية وساقطة عن الفرس الذي لم يكن للتجارة، وفي الفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة عندي كلام. قال ابن الهمام: معتذرا عن عدم أخذه - صلى الله عليه وسلم - الزكاة عن الفرس ما نصه وعدم أخذه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن في زمانه أصحاب الخيل السائمة من المسلمين، بل أهل الإبل وما تقدم. إذ أصحاب هذه إنما هم أهل المدائن والدشت
(11/180)
والتراكمة وإنما فتحت بلادهم في زمن عمر وعثمان- انتهى. قلت: هذا الاعتذار إنما يحتاج إليه لو ثبت وجوب الزكاة في الفرس السائمة بحديث مرفوع صحيح صريح فإنه حينئذ يسوغ أن يقال. بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما لم يأخذ الزكاة عن الفرس مع الوجوب لعزة أصحاب الخيل السائمة من المسلمين في ذلك الوقت لكن لم يثبت الوجوب بحديث مرفوع صحيح أصلا وإنما لم يأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة عن الفرس كما لم يأخذ عن الرقيق. لأنه لا زكاة فيهما أصلا، لا لكون الخيل قليلة إذ ذاك ولا أنه ترك زكاتها إلى المالكين بأن يؤدوها فيما بينهم وبين الله لمعنى يعلمه على أن أهل اليمن قد كانت عندهم الخيل كما يدل عليه رواية عبدالرزاق الآتية، وهم قد أسلموا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقل أنه أخذ زكاتها منهم ولا أنه أمرهم بأدائها فيما بينهم وبين الله تعالى. قلت: واحتج الحنفية على أصل الوجوب بما تقدم من حديث أبي هريرة وهو أقوى ما احتجوا به، وفيه الخيل ثلاثة هي لرجل وزر وهي لرجل ستر وهي لرجل أجر قال: وأما التي هي له ستر فرجل ربطها
(11/181)
في سبيل الله (وفي رواية ربطها تغنيا وتعففا) ثم ليس ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر الحديث. قالوا: إن الحق الثابت لله تعالى على رقاب الحيوانات ليس إلا الزكاة، فدل ذلك على وجوبها لأنه رتب على الخروج منه كونها له حينئذ سترا يعني من النار. وأجاب عنه الطحاوي في شرح معاني الآثار: بأنه يجوز إن ذلك الحق سوى الزكاة فإنه قد روى لنا عن فاطمة بن قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: في المال حق سوى الزكاة. وحجة أخرى إنا رأينا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الإبل السائمة فقال: فيها حق فسئل ما هو فقال: إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنحة سمنها فاحتمل أن يكون هو في الخيل - انتهى ملخصا. وقال ابن الجوزي: في التحقيق بعد ذكر الدليل هنا للحنفية وجوابه من وجهين، أحدهما. إن حقها إعارتها وحمل المنقطعين عليها فيكون ذلك على وجه الندب. والثاني: أن يكون واجبا ثم نسخ بدليل قوله "قد عفوت لكم عن صدقة الخيل" إذ العفو لا يكون إلا عن شئ لازم - انتهى. وأجاب العيني عن الوجه الأول بأن الذي يكون على وجه الندب لا يطلق عليه حق، وعن الثاني بأن النسخ لو كان اشتهر زمن الصحابة لما قرر عمر الصدقة في الخيل وإن عثمان ما كان يصدقها- انتهى. وتعقب بأن الحق لغة بمعنى الشيء الثابت سواء كان لازما أو غير لازم. وأيضا قد روى البخاري مرفوعا ومن حقها أي حق الإبل أن تحلب على الماء، وفي رواية أبي داود قلنا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما حقها؟ قال: إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله- انتهى ومن المعلوم أن هذه الأمور من الحقوق المندوبة لا الواجبة، وأما ما ذكر من أن عمر وعثمان أخذ الصدقة عن الخيل ففيه أنه كان ذلك على سبيل الندب والأختيار لا الإيجاب كما سيأتي. وقال الشيخ عبدالعلي الحنفي المعروف ببحر العلوم اللكنوي صاحب فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: في "رسائل
(11/182)
الأركان الأربعة" (ص172) بعد ذكر استدلال الحنفية بحديث أبي هريرة ما لفظه هذا إنما يتم لو أريد بحق الله الحق الواجب وإن عمم، كما يدل عليه عطف "ولا ظهورها" لأنه ليس في الظهور حق واجب. وقد حمل ابن الهمام الحق في الظهور على حمل منقطعي الحاج ففيه أن هذا ليس حقا واجبا بل الغاية الاستحباب، ثم الحديث إن دل على وجوب الزكاة فهو غير فارق بين الذكور والإناث والسائمة وغير السائمة وهو خلاف المذهب- انتهى. واحتج الحنفية لكمية الواجب في الفرس بما روى الدارقطني (ص214) والبيهقي (ج4:ص119) والطبراني من طريق الليث بن حماد الأصطخري عن أبي يوسف عن غورك بن الخضرم أبي عبدالله السعدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الخيل السائمة في كل فرس دينار ورد هذا بوجهين أحدهما إن سنده ضعيف جدا، قال الدارقطني: تفرد به غورك وهو ضعيف جدا ومن دونه ضعفاء، وقال الهيثمي: فيه ليث بن حماد وغورك وكلاهما ضعيف. قال البيهقي: لو كان هذا الحديث صحيحا
(11/183)
عند أبي يوسف لم يخالفه ذكره الزيلعي. والثاني أنه ليس في هذا الحديث ذكر للفرق بين الذكور المنفردة والإناث المنفردة والمختلط منهما ولا للتخيير بين الدينار والقيمة الذي قال به أبوحنيفة، وأجاب ابن الهمام عن الوجه الأول بما يقضي منه العجب حيث قال: ولعل ملحظهم في تقدير الواجب ما روى عن جابر من قوله عليه السلام في كل فرس دينار بناء على أنه صحيح في نفس الأمر، ولو لم يكن صحيحا على طريقة المحدثين إذ لا يلزم من عدم الصحة على طريقتهم إلا عدمها ظاهرا دون نفس الأمر على أن الفحص عن مأخذهم لا يلزمنا إذ يكفي العلم بما اتفقوا عليه من ذلك- انتهى. وفي ذكر هذا غنى عن الرد ولعله حمله على ذلك غلوه في حماية مذهبه وشدة التعصب عليه وقد يحمل الإنسان عصبيته العمياء على اقبح من ذلك. واحتج الحنفية أيضا بما روى الدارقطني في غرائب مالك بإسناد صحيح عنه عن الزهري إن السائب بن يزيد أخبره قال. رأيت أبي يقيم الخيل ثم يدفع صدقتها إلى عمر، وأخرجه عبدالرزاق عن ابن جريج أخبرني ابن أبي حسين إن ابن شهاب أخبره إن عثمان كان يصدق الخيل، وإن سائب بن يزيد أخبره إنه كان يأتي عمر بصدقة الخيل. قال ابن عبدالبر: الخبر في صدقة الخيل عن عمر صحيح من حديث الزهري عن السائب بن يزيد. وأجاب عنه الطحاوي بأنه لم يأخذه عمر على أنه حق واجب عليهم بل بسبب آخر، ثم أخرج بسنده عن حارثة قال حججت مع عمر فأتاه أشراف الشام قالوا: إنا أصبنا خيلا وأموالا فخذ من أموالنا صدقة، فقال هذا شي لم يفعله اللذان كانا قبلي لكن إنتظروا حتى أسأل المسلمين. فسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم علي فقالوا حسن وعلي ساكت فقال عمر مالك يا أباالحسن فقالوا قد أشاروا عليك ولا باس بما قالوا إن لم يكن واجبا وجزية راتبة يؤخذون بها بعدك. فدل ذلك على أنه إنما أخذ على سبيل التطوع بعد ابتغاءهم ذلك لا على سبيل إنه شي واجب وقد أخبر إنه لم يأخذه رسول الله - صلى
(11/184)
الله عليه وسلم - ولا أبوبكر -
انتهى. وقال ابن قدامة: في المغني (ج2:ص621) وأما عمر فإنما أخذ منهم شيئا تبرعوا
به وسألوه أخذه وعوضهم عنه برزق عبيدهم ثم ذكر هذا الحديث من رواية أحمد وقال:
فصار حديث عمر حجة عليهم من وجوه، أحدها قوله ما فعله صاحباي قبلي يعني النبي صلى
الله عليه وسلم وأبا بكر ولو كان واجبا لما تركا فعله، الثاني إن عمر امتنع من
أخذها ولا يجوز أن يمتنع من الواجب، الثالث قول علي حسن إن لم يكن جزية يؤخذون بها
بعدك فسمى جزية إن أخذوا بها وجعل مشروطا بعدم أخذهم به فيدل على أن أخذهم بذلك
غير جائز. الرابع استشارة عمر أصحابه في أخذه ولو كان واجبا لما احتاج إلى
الاستشارة. الخامس إن عمر عوضهم عنه رزق عندهم (وكذا رزق فرسهم كما في رواية
الدارقطني ص214) والزكاة لا يؤخذ عنها عوض- انتهى. وأجاب الحنفية عن هذا الجواب
بأن رواية الدارقطني (ص219) "فوضع على فرس دينارا" في قصة أهل الشام
المذكور. ورواية عبدالرزاق من طريق يعلى بن أمية إن عمر قال له إن الخيل لتبلغ في
بلادكم هذا وقد كان اشترى
وفي رواية، قال: ليس في عبده صدقة إلا صدقة الفطر)) متفق عليه.
(11/185)
من رجل من أهل اليمن فرسا بمائة قلوص قال: فنأخذ من كل أربعين شاة شأة ولا نأخذ من الخيل شيئا خذ من كل فرس دينارا فقرر على الخيل دينارا، وفي رواية ابن حزم والبيهقي فضرب على الخيل دينارا دينار توجب خلاف ما قلتم من أن أخذه كان على سبيل إنه تطوع وتبرع لا للإيجاب، قلت: رواية الطحاوي في قصة أهل الشام صريحة في نفي الوجوب ورواها مالك بلفظ إن أهل الشام قالوا لأبي عبيدة: خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة فأبى ثم كتب إلى عمر بن الخطاب فأبى عمر ثم كلموه أيضا فكتب إلى عمر فكتب إليه عمر إن أحبوا فخذها منهم (يعني إنهم إذا تطوعوا بذلك فيقبل عنهم تطوعا) وأردد عليهم (أي على فقراءهم) وارزق رقيقهم - انتهى. وهذه الرواية ظاهرة في أن عمر لم يقل بإيجاب الزكاة في الخيل لأنه إنما أمر بذلك حين أحبه أربابها وتبرعوا وتطوعوا بها، وأما ما ذكروه من رواية الدارقطني وعبدالرزاق وما شاكلها فهو محمول على هذه لتتافق الروايات ولا تختلف، قال بعض من كتب علي الموطأ من أهل عصرنا من الحنفية: والظاهر إن ذلك أي عدم الإيجاب كان عن عمر أولا ثم قال: بالزكاة فيها أي إن الآخر من أمرى عمر أخذ الزكاة من الخيل كما يدل عليه رواية الدارقطني ورواية عبدالرزاق. قلت: ليس في شي من روايات قصة أهل الشام ما يدل أن ذاك كان أولا وهذا كان آخرا والجمع بما قلنا واضح فالقول به متعين، ولو سلمنا فهو اجتهاد من عمر ومن وافقه كما اعترف به ابن الهمام وحديث أبي هريرة الذي نحن في شرحه يخالفه ويقطع بنفي الصدقة عنها فلا يلتفت إلى ما سواه لأنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم. هذا وقد استدل ابن الهمام برواية الدارقطني في قصة أهل الشام على وجوب الزكاة في الفرس، وادعى وقوع إجماع الصحابة على ذلك، وقد رد عليه بحر العلوم اللكنوي الحنفي في رسائل "الأركان الأربعة" (ص173) ردا حسنا فعليك أن تراجعه (وفي رواية قال) أي النبي -
(11/186)
صلى الله عليه وسلم - (ليس في
عبده) في مسلم ليس في العبد (صدقة إلا صدقة الفطر) بالرفع على البدلية وبالنصب على
الاستثنائية قال النووي: هذا صريح في وجوب صدقة الفطر على السيد عن عبده سواء كان
للقنية أم للتجارة وهو مذهب مالك والشافعي والجمهور، وقال أهل الكوفة لا تجب في
عبيد التجارة وحكى عن داود قال: لا تجب على السيد بل تجب على العبد ويلزم السيد
تمكينه من الكسب ليؤديها- انتهى. وقال ابن حبان: فيه دليل على أن العبد لا يملك إذ
لو ملك لوجب عليه صدقة الفطر (متفق عليه) إلا قوله "إلا صدقة الفطر"
فإنه من إفراد مسلم وهذه الزيادة عند ابن حبان أيضا ورواه الدارقطني بلفظ: لا صدقة
على الرجل في فرسه ولا في عبده إلا زكاة الفطر وفي لفظ لأبي داود ليس: في الخيل
والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق، والرواية الأولى أخرجها أيضا أحمد ومالك
والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم.
1811- (3) وعن أنس، أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين، بسم الله
الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على
المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها،
(11/187)
1811- قوله: (إن أبابكر) الصديق (كتب له) أي لأنس، لما استخلف (هذا الكتاب) أي المكتوب الآتي (لما وجهه) أي حين أرسله أبوبكر (إلى البحرين) أي عاملا عليها وهو تثنية بحر خلاف البر موضع معروف بين بحري فارس والهند ومقارب جزيرة العرب، ويقال هو إسم لاقليم مشهور يشتمل على مدن معروفة قاعدتها هجر وهكذا ينطق به بلفظ التثنية والنسبة إليه بحراني (بسم الله الرحمن الرحيم) بدل من الكتاب بمعنى إسم المفعول وهو واضح، لأن المراد كتب له هذه النقوش التي هي بسم الله الخ. قال الماوردي: يستدل به على إثبات البسملة في إبتداء الكتب وعلى أن الابتداء بالحمد ليس بشرط. وقال الحافظ: لم تجر العادة الشرعية ولا العرفية بابتداء المراسلات بالحمد وقد جمعت كتبه - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك وغيرهم، فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد بل بالبسملة (هذه) أي المعاني الذهنية الدالة عليها النقوش اللفظية الآتية (فريضة الصدقة) أي نسخة فريضة الصدقة فحذف المضاف للعلم به والفريضة بمعنى المفروضة (التي فرض رسول الله على المسلمين) هذا ظاهر في رفع الخبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه ليس موقوفا على أبي بكر وقد صرح برفعه في رواية إسحاق بن راهوية في مسنده ومعنى "فرض" هنا أوجب يعني بأمر الله تعالى قال الخطابي: معنى الفرض الإيجاب وذلك أن يكون الله تعالى قد أوجبها وأحكم فرضها في كتابه ثم أمر رسوله بالتبليغ فأضيف الفرض إليه بمعنى الدعاء اليه وحمل الناس عليه، وقد فرض الله طاعته على الخلق فجاز أن يسمى أمره وتبليغه عن الله عزوجل فرضا على هذا المعنى.وقيل: معناه قد رأى بين وفصل لأن إيجابها ثابت بنص القرآن على سبيل الإجمال وبين - صلى الله عليه وسلم - مجملة بتقدير الأنواع والأجناس ففرض النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بيانه للمجمل من الكتاب، ومن هذا فرض نفقة الأزواج وفرض أرزاق الجند. وقيل: معنى الفرض هنا السنة ومنه ما روى أنه -
(11/188)
صلى الله عليه وسلم - فرض كذا
أي سنة يعني شرعه بأمر الله تعالى (والتي) عطف على "التي" عطف تفسير أي
الصدقة التي. ولأحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه "التي" بدون العطف
على أنها صفة بعد صفة أو يدل من الجملة الأولى (أمر الله بها) أي بتلك الصدقة أي
أمر بتبلغيها أو بتقدير أنواعها وأجناسها والقدر المخرج منها (فمن سألها) بضم
السين على بناء المفعول أي من سأل الزكاة (من المسلمين) بيان لمن (على وجهها) حال
من المفعول الثاني في سئلها أي حال كونها على حسب ما بين رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - من فرض مقاديرها يعني على هذه الكيفية المبينة في هذا الكتاب
(فليعطها) أي على الكيفية المذكورة في هذا الحديث. وفيه دلالة على دفع صدقة
الأموال
ومن سأل فوقها فلا يعط في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاة،
(11/189)
الظاهرة إلى الإمام (ومن سئل فوقها) أي فوق حقها يعني زائدا على الفريضة المعينة في السن أو العدد، وقال الطيبي: أي أزيد من واجبها كمية أو كيفية، وتكون المسألة إجماعية إجمالا، لا اجتهادية فإنها حينئذ يقدم الساعي (فلا يعط) أي فله المنع يعني لا يعطي الزائد على الواجب.وقيل: لا يعطي شيئا من الزكاة لهذا الساعي، لأنه يصير خائنا بطلبه فوق الواجب فتسقط طاعته بظهور خيانته، لأن شرطه أن يكون أمينا وحينئذ يتولى هو إخراجه بنفسه أو يعطيه لساع آخر. قال الحافظ: لكن محل هذه إذا طلب الزيادة بغير تأويل - انتهى. وكأنه يشير بهذا إلى الجمع بين هذا الحديث وحديثي جرير وجابر بن عتيك المتقدمين في أوائل الزكاة، فيكون هذان الحديثان محمولين على أن للعامل تأويلا في طلب الزائد على الواجب. قال القاري: هذا أي حديث أبي بكر يدل على أن المصدق إذا أراد أن يظلم المزكي فله أن يأباه ولا يتحرى رضاه، ودل حديث جرير وقوله: "أرضوا مصدقيكم وإن ظلمتم" على خلاف ذلك. وأجاب الطيبي بأن أولئك المصدقين من الصحابة وهم لم يكونوا ظالمين، وكان نسبة الظلم إليهم على زعم المزكي أو جريان على سبيل المبالغة وهذا عام فلا منافاة بينهما- انتهى. وقد يجاب بأن الأول محمول على الاستحباب وهذا على الرخصة والجواز، أو الأول إذا كان يخشى التهمة والفتنة وهذا عند عدمهما. قال في شرح السنة: فيه دليل على إباحة الدفع عن ماله إذا طولب بغير حقه- انتهى. (في أربع وعشرين) قال الطيبي: استئناف بيان لقوله "هذا فريضة الصدقة" وكأنه أشار بهذه إلى ما في الذهن ثم آتى به بيانا له. قال ابن الملك: "في أربع" خبر مبتدأ محذوف أي الواجب أو المفروض أو المعطى في أربع وعشرين (من الإبل) كلمة "من" بيانية وبدأ بزكاة الإبل لأنها كانت جل أموالهم وأنفسها (فما دونها) أي فما دون أربع وعشرين إلى الخمس (من الغنم) بيان للام الواجب المقدر، لأنه بمعنى الذي (من كل خمس شأة) أي الواجب
(11/190)
من الغنم في أربع وعشرين إبلا من كل خمس إبل شأة. وقال الطيبي: "من" الأولى ظرف مستقر، لأنه بيان لشأة توكيدا كما في قوله: "خمس ذود من الإبل" والثانية لغو إبتدائية متصلة بالفعل المحذوف، أي ليعط في أربع وعشرين من الإبل شأن كائنة من الغنم لأجل كل خمس من الإبل. وقيل: "من الغنم" خبر لمبتدأ محذوف أي الصدقة في أربع وعشرين من الإبل من الغنم. وقوله:"من كل خمس شأة" مبتدأ وخبر بيان للجملة المتقدمة. وقال الحافظ: قوله من الغنم كذا للأكثر وفي رواية ابن السكن بإسقاط "من" وصوبها بعضهم وقال عياض: كل صواب فمن أثبتها فمعناها زكاتها أي الإبل من الغنم و"من" للبيان لا للتبعيض، ومن حذفها فالغنم مبتدأ والخبر مضمر في قوله في أربع وعشرين. وإنما قدم الخبر لأن الغرض بيان المقادير التي تجب فيها الزكاة، والزكاة إنما تجب بعد وجود النصاب فحسن تقديمه. وههنا مسألتان خلافيتان، الأولى أنه ذهب الشافعي في قوله الجديد أي في غير البويطي ومالك في
(11/191)
رواية. وأحمد وأبوحنيفة وأبويوسف إلى أن الزكاة في النصاب فقط دون العفو والوقص (بفتح الواو والقاف ويجوز إسكانها وبالصاد المهملة وهو ما بين الفرضين عند الجمهور) وقال الشافعي: في القديم أي في البويطي ومالك في رواية ومحمد وزفر، إلى أنها في النصاب والعفو جميعا. قال الحافظ: ويظهر أثر الخلاف فيمن له مثلا تسع من الإبل فتلف منها أربعة بعد الحول وقبل التمكن من الأداء، حيث قلنا إنه شرط في الوجوب وجبت عليه شاة بلا خلاف. وكذا إن قلنا التمكن شرط في الضمان وقلنا الوقص عفو، وإن قلنا يتعلق به الفرض وجب خمس اتساع شاة – انتهى واستدل للقول الأول بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الإبل في خمس شاة وفي عشر شاتان وفي الغنم إذا زادت على ثلاث مائة ففي كل مائة شأة، قال القاري في النقاية: هذا ظاهر في أن الزكاة في النصاب فقط- انتهى. وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن حزم في خمس من الإبل شاة وليس في الزيادة شيء حتى تبلغ عشرا قال في البدائع: هذا نص على أن الواجب في النصاب دون الوقص- انتهى. لكن قد تكلم العيني في البناية في هذه الرواية. وقال الحافظ في الدراية (ص159): لم أجده وذكره أبوإسحاق الشيرازي في المهذب وأبويعلى الفراء في كتابة وقد يستأنس له بحديث محمد بن عبدالرحمن الأنصاري أن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات إن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة فليس فيما دون العشر شيء أخرجه أبوعبيد (ص363) – انتهى. واستدل للقول الثاني بقول النبي صلى الله عليه وسلم في خمس من الإبل شاة إلى تسع ذكره في البدائع. وروى البيهقي (ج4 ص87) معناه من كتاب عمر قال الكاساني: وأخبر أي النبي صلى الله عليه وسلم إن الواجب يتعلق بالكل- انتهى. وقد يستدل لهذا القول أيضا بظاهر قوله في كتاب أبي بكر في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم من كل خمس شأة، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض- الحديث. وفي
(11/192)
صدقة الغنم في سائمتها إذا
كانت أربعين إلى عشرين ومائة شأة، قال الزيلعي (ج2 ص362): وجه الدليل أنه غير
الوجوب إلى النصاب الآخر فدل على أن الوجوب الأول منسحب إلى الوجوب الثاني وما
بينهما هو العفو- انتهى. وقد رجح ابن الهمام هذا القول الثاني إذ قال ولا يخفى إن
هذا الحديث (أي حديث عمرو بن حزم الذي استدل به للقول الأول، وفيه ليس في الزيادة
حتى تبلغ عشرا) لا يقوي قوة حديثهما (أي الحديثين اللذين استدل بهما لمحمد وزفر)
في الثبوت إن ثبت والله أعلم. وإنما نسبة ابن الجوزي في التحقيق، إلى رواية أبي
يعلى القاضي وأبي إسحاق الشيرازي في كتابيهما، فقول محمد أطهر من جهة الدليل-
انتهى. قال صاحب بذل المجهود: فمدار الحنيفة في الاستلال في استيناف الصدقة أيضا
على حديث عمرو بن حزم فلو كان الحديث عندهم ضعيفا لا يصح الاستدلال به على
الاستيناف، ومع هذا فقد ورد في حديث أبي داود (في كتاب عمر في الصدقة) وليس فيها
شيء حتى تبلغ المائة فثبت بطريقين إن الأوقاص لا يجب فيها الزكاة- انتهى. المسألة
الثانية قال الحافظ: استدل بقوله في أربع وعشرين من الإبل
فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى،
(11/193)
فما دونها من الغنم على تعين من الغنم إخراج الغنم في مثل ذلك، وهو قول مالك وأحمد فلو أخرج بعيرا عن الأربع والعشرين لم يجزه، وقال الشافعي والجمهور: يجزئه لأنه يجزيء عن خمس وعشرين فما دونها أولى، ولأن الأصل أن يجب من جنس المال. وإنما عدل عنه رفقا بالمالك فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه قال الزرقاني: ورد بأنه قياس في معرض النص فإن كانت قيمة البعير مثلا دون قيمة أربع شياه ففيه خلاف عند الشافعية وغيرهم، قال الحافظ: والأقيس أنه لا يجزيء - انتهى. ويجوز عند الحنفية إذا ساوى قيمة المؤدى قيمة الواجب كما بسط في فروعهم. وقوله من كل خمس شاة يقتضي إن الشأة هي الواجبة فيها، فلو أخرج عن خمس من الإبل واحدا منها لم يجزه وإنما يجزئه أن يخرج ما وجب عليه وهي شأة، وإليه ذهبت الحنابلة كما في المغنى (ج4 ص578) وبه قال ابن العربي والباجي من المالكية، وذهبت الشافعية والمالكية إلى الجواز، وبه قالت الحنفية لكن باعتبار القيمة (فإذا بلغت) أي الإبل (خمسا وعشرين) قال الحافظ: فيه إن في هذا القدر بنت مخاض وهو قول الجمهور إلا ما جاء عن علي إن في خمس وعشرين خمس شياه، فإذا صارت ستا وعشرين كان فيها بنت مخاض. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه موقوفا ومرفوعا وإسناده المرفوع ضعيف - انتهى. قال الأمير اليماني: والموقوف ليس بحجة فلذا لم يقل به الجمهور (إلى خمس وثلاثين ففيها) أي ففي الإبل التي بلغت خمسا وعشرين (بنت مخاض) بفتح الميم وبالخاء المعجمة الخفيفة وفي آخره ضاد معجمة. قال الجزري في جامع الأصول (ج5 ص472): بنت المخاض من الإبل وابن المخاض ما استكمل السنة الأولى. ودخل في الثانية ثم هو ابن مخاض وبنت مخاض إلى آخر الثانية سمي بذلك، لأن أمه من المخاض أي الحوامل والمخاض الحوامل لا واحد له من لفظه- انتهى. وقال الحافظ: هي التي أتى عليها حول ودخلت في الثانية وحملت أمها، والماخض الحامل أي دخل وقت حملها وإن لم تحمل -
(11/194)
انتهى. وقال ابن قدامة: سميت
بذلك لأن أمها قد حملت غيرها والماخض الحامل وليس كون أمها ماخضا شرطا فيها وإنما
ذكر تعريفا لها بغالب حالها وقال في المجمع (ج2 ص285): الماخض اسم للنوق الحوامل
واحدتها خلفة وابن مخاض وبنته ما دخل في السنة الثانية. لأن أمه لحقت بالمخاض أي الحوامل،
وإن لم تكن حاملا وقيل: هو الذي حملت أنه أو حملت الإبل التي فيها أمه، وإن لم
تحمل هي، وهذا معنى ابن مخاض لأن الواحد لا يكون ابن نوق وإنما يكون ابن ناقة
واحدة. والمراد أن يكون وضعتها أمها في وقت ما وقد حملت النوق التي وضعت مع أمها،
وإن لم تكن أمها حاملة فنسبتها إلى الجماعة بحكم مجاورتها أمها، وسمي ابن مخاض في
السنة الثانية لأن العرب إنما كانت تحمل الفحول على الإناث بعد وضعها لسنة ليشتد
ولدها فهي تحمل في السنة الثانية وتمخض - انتهى. (أنثى) قيد بالأنثى للتأكيد كما
يقال رأيت بعيني وسمعت بأذني، وقال الطيبي: ذكره تأكيدا، كما قال تعالى: ?نفخة
واحدة?[الحاقة: 13] ولئلا يتوهم إن البنت ههنا والابن في ابن لبون كالبنت والابن
في بنت طبق،
فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستا
وأربعين إلى ستين، ففيها حقة طروقه الجمل. فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين
ففيها جذعة. فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون. فإذا بلغت إحدى
وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتان الجمل.
(11/195)
وابن آوى يشترك فيهما الذكر والأنثى. وحاصله إن وصف البنت بالأنثى لئلا يتوهم إن المراد منه الجنس الشامل للذكر والأنثى كالولد، إذ في غير الآدمي قد يطلق البنت والابن ويراد بهما الجنس كما في ابن عرس وبنت طبق وهي السلحفاة وزاد في رواية حماد بن سلمة عن ثمامة عن أنس عند أحمد (ج1 ص11) وأبي داود والنسائي والدارقطني والبيهقي، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر وهو الذي استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة وهو كذلك إلى تمامها، سمي بذلك لأن أمه صارت لبونا أي ذاب لبن بوضع الحمل. (فإذا بلغت) الإبل (ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين) الغاية داخلة في المغيا بدليل قوله بعد ذلك فإذا بلغت ستا وأربعين فعلم أن حكمها حكم ما قبلها (ففيها بنت لبون) هي التي تمت لها سنتان ودخلت في الثالثة إلى تمامها (أنثى) زاده تأكيدا كما عرفت (حقة) بكسر الحاء المهملة وفتح القاف المشددة والجمع حقاق بالكسر والتخفيف وهي من الإبل ما استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة وهي كذلك إلى تمامها، ويقال للذكر الحق سميت بذلك لاستحقاقها أن تركب ويحمل عليها ويركبها الفحل ولذلك قال في صفتها (طروقة الجمل) بفتح أوله أي مطروقته فعولة بمعنى مفعولة كحلوبة بمعنى محلوبة صفة لحقة، والمراد من شأنها أن تقبل ذلك وإن لم يطرقها الفحل يعني إنها بلغت وصلحت أن يغشاها الجمل ويطأها من الطرق بمعنى الضرب (جذعة) بفتح الجيم والذال المعجمة قال الجزري: الجذعة والجذع من الإبل ما استكمل الرابعة ودخل في الخامسة إلى آخرها. قال القسطلاني: سميت بذلك لأنها جذعت مقدم أسنانها أي أسقطته وهي غاية أسنان الزكاة. وقال ابن قدامة: قيل لها ذلك لأنها تجذع إذا سقطت سنها وهي أعلى سن تجب في الزكاة. وقال القاري: سميت بذلك لأنها سقطت أسنانها والجذع السقوط. وقيل: لتكامل أسنانها. وقال التوربشتي يقال للإبل في السنة الخامس أجذع وجذع اسم له في زمن ليس سن ينبت ولا يسقط والأنثى جذعة -
(11/196)
انتهى. (فإذا بلغت إحدى وتسعين
إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل) أجمع العلماء على المذكور من أول
الحديث إلى هذا إلا ما تقدم عن علي إنه قال: في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه، وفي
ست وعشرين بنت مخاض، حكى هذا الإجماع العيني وابن قدامة وأبوعبيد والسرخسي. قال
ابن قدامة: هذا كله مجمع عليه إلى أن يبلغ عشرين ومائة، ذكره ابن المنذر. وقال
أبوعبيد (ص363): هذا ما جاء في فرائض الإبل إلى أن تبلغ
فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
(11/197)
عشرين ومائة لم يختلفوا إلا في هذا الحروف الواحد وحده، فإذا جاوزت عشرين ومائة فهناك الاختلاف، ثم ذكره كما سيأتي بيانه. وقال السرخسي: على هذا اتفقت الآثار وأجمع العلماء إلا ما روى شاذا عن علي. وقال العيني: لا خلاف فيه بين الأئمة وعليها اتفقت الأخبار عن كتب الصدقات التي كتبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلاف فيما إذا زادت على مائة وعشرين. (فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة) أي إذا زاد يجعل الكل على عدد الأربعينات والخمسينات، مثلا إذا زاد واحد على العدد المذكور يعتبر الكل ثلاث أربعينات وواحد والواحد لا شيء فيه، وثلاث أربعينات فيها ثلاث لبونات إلى ثلاثين ومائة، وفي ثلاثين ومائة حقة لخمسين وبنتا لبون لأربعينين. وهكذا، ولا يظهر التغيير إلا عند زيادة عشر قاله السندي. وقال الشوكاني: المراد أنه يجب بعد مجاوزة المائة والعشرين بواحدة في كل أربعين بنت لبون، فيكون الواجب في مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، وإلى هذا ذهب الجمهور. ولا اعتبار بالمجاوزة بدون واحد كنصف أو ثلث أو ربع خلافا للأصطخري من الشافعية، فقال: يجب ثلاث بنات لبون بزيادة بعض واحدة لصدق الزيادة ويرد عليه ما عند الدارقطني في آخر هذا الحديث وما في كتاب عمر، فإذا كانت أحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة ومثله في كتاب عمرو بن حزم - انتهى. إعلم أنهم اختلفوا فيما زادت على عشرين ومائة، فذهب الشافعي الأوزاعي وإسحاق بن راهوية إلى أنها إذا زادت على العشرين والمائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون إلى أن تصير مائة وثلاثين فيجب فيها حقة وبنتا لبون. ثم كلما زادت عشرة كان في خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، والمختار عند الحنابلة، وهو قول عمر بن عبدالعزيز وابن حزم وأبي سليمان داود والزهري وأبي ثور وابن القاسم صاحب مالك. قال الباجي: قول ابن
(11/198)
القاسم رواية لمالك أيضا واحتج لهذا القول بقوله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، فإنه علق النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم بنفس الزيادة والواحدة زيادة فعندها يجب في كل أربعين بنت لبون. وقد جاء مصرحا بذلك كما تقدم في كلام الشوكاني. وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص20) فيه دليل على أن الإبل إذا زادت على العشرين ومائة لم يستأنف لها الفريضة لأنه علق تغير الفرض بوجود الزيادة، وقد يحصل وجود الزيادة بالواحدة كحصولها بأكثر منها، وعلى هذا وجد الأمر في أكثر الفرائض فإن زيادة الواحد بعد منتهى الوقص توجب تغير الفريضة كالواحدة بعد الخامسة والثلاثين وبعد الخامسة والأربعين وبعد كمال الستين. وذهب أبوعبيد ومحمد بن إسحاق وأحمد في رواية إلى أنها لا يجب فيما زاد على العشرين والمائة شيء، حتى تكون مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون، فلا يتغير الفرض عندهم ولا يتعدى إلى ثلاثين ومائة وهو رواية عن مالك، رواها عنه عبدالملك وأشهب وابن نافع. واستدل بأن لهم بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا زادت على عشرين ومائة -
(11/199)
الحديث. يقتضي أن يكون تغير الفرض في عدد يجب السنان معا، أي المراد بالزيادة هي التي يمكن اعتبار المنصوص عليه فيها وذلك لا يكون فيما دون العشر، وأجيب عنه بأن هذا غير لازم وذلك أنه إنما علق تغير الفرض بوجود الزيادة على المائة والعشرين، وجعل بعدها في أربعين ابنة لبون، وفي خمسين حقة، وقد وجدت الأربعونات الثلث في هذا النصاب، فلا يجوز أن يسقط الفرض ويتعطل الحكم. وإنما اشترط وجود السنين في محلين مختلفين لا في محل واحد فاشتراطهم وجودهما معا في واحد غلط، واستدل لهم أيضا بأن الفرض لا يتغير بزيادة الواحد كسائر الفروض، وأجيب عنه بأنه ما تغير بالواحدة وحدها، وإنما تغير بها مع ما قبلها فأشبهت الواحدة الزائدة عن التسعين والستين وغيرهما. واستدل لهم أيضا بما روى أبوعبيد (ص363) عن يزيد عن حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن محمد بن عبدالرحمن، إن في كتاب صدقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي كتاب عمر في الصدقة، إن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة فليس فيما دون العشر شيء حتى تبلغ ثلاثين ومائة، وأجيب بأن هذا مرسل ولا حجة فيه. وأيضا قد رواه الدارقطني (ص210) والحاكم (ج1 394- 395) والبيهقي (ج4 ص92) مطولا، وفيه فإذا زادت على العشرين ومائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون، حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك فليس فيما لا يبلغ العشر منها شيء حتى يبلغ العشر- انتهى. وهذا كما ترى نص في القول الأول وصريح في الرد على القول الثاني. وذهب مطرف وابن أبي حازم وابن دينار وأصبغ إلى أن الساعي بالخيار بين أن يأخذ في إحدى وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون، أو حقتين أي الصفتين أدى أجزأه إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة، فيجب فيها حقة وبنتا لبون وهو رواية عن مالك أيضا وهو مختار فروع المالكية. قال ابن حزم (ج5 ص31): قول مالك في التخيير بين إخراج حقتين أو ثلاث بنات لبون خطأ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(11/200)
فرق بين حكم العشرين ومائة, فجعل حقتين بنص كلامه وبين حكم ما زاد على ذلك فلم يجز أن يسوى بين حكمين، فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ولا نعلم أحدا قبل مالك قال بهذا التخيير- انتهى. وقد ظهر بما قدمنا أن فيما زاد على عشرين ومائة إلى تسع وعشرين ومائة لمالك ثلاث روايات التخيير، وعدم التغيير، ووجوب ثلاث بنات لبون من غير أن يخير الساعي. ومختار فروع المالكية الرواية الأولى ومذهب الشافعي وأحمد وجوب ثلاث بنات لبون من غير تخيير. وهو القول الراجح عندنا ثم إن هؤلاء الأئمة الثلاثة اتفقوا على أنه يدور الحكم بعد العشرين والمائة على الأربعينات والخمسينات أبدا من غير أن يستأنف الفريضة فتتغير الفريضة عندهم بعد العدد المذكور إلى بنت لبون في كل أربعين، وإلى حقة في كل خمسين. ولا تعود إلى الأول. واستدلوا لذلك بما روى في كتاب أبي بكر الصديق وفي كتاب عمر وفي كتاب عمرو بن حزم وفي كتاب زياد بن لبيد زياد بن لبيد إلى حضر الموت، من قوله - صلى الله عليه وسلم - زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت
(11/201)
لبون، وفي كل خمسين حقة، بسط طرق هذه الكتب الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص335، 345) وأخرج الثلاثة الأول منها الدارقطني (ص208، 210) والحاكم (ج1 ص390، 397) والبيهقي (ج4 ص85 و92). وأما ما وقع في بعض الطرق من الاقتصار على قوله "في كل خمسين حقة" فهو من اختصار الراوي لا أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك ذكر الأربعين قصدا. وذهب أبوحنيفة وأصحابه والثوري والنخعي إلى أنه يستأنف الفريضة بعد العشرين ومائة، كما في الأول وخمسين، إلا أنه لا تجب في هذا الاستيناف بنت لبون وجذعة فليس عندهم فيما بعد العشرين ومائة إلا حقتان فقط. حتى تتم خمسا وعشرين ومائة فيجب فيها حقتان وشأة إلى ثلاثين ومائة، فإذا بلغتها ففيها حقتان وشأتان إلى خمس وثلاثين ومائة، ففيها حقتان وثلاث شياه إلى الأربعين ومائة، ففيها حقتان وأربع شياه إلى خمس وأربعين ومائة، فإذا بلغتها ففيها حقتان وبنت مخاض إلى خمسين ومائة، فإذا بلغتها ففيها ثلاث حقاق. هذا هو الاستيناف الأول ثم تستأنف الفريضة وتجب فيها بنت لبون أيضا على خلاف الاستيناف الأول، فيجب في مائة وخمس وخمسين ثلاث حقاق وشأة. ثم كما ذكرنا في كل خمس شاة مع الثلاث حقاق إلى أن تصير خمسا وسبعين ومائة، فيجب فيها بنت مخاض وثلث حقاق إلى ست وثمانين ومائة، فإذا بلغتها كانت فيها بنت لبون وثلث حقاق إلى ست وتسعين ومائة، فإذا بلغتها ففيها أربع حقاق إلى مائتين ثم تستأنف الفريضة كما بعد مائة وخمسين، فتجب في كل خمس شأة. فإذا صارت مائتين وخمسا وعشرين ففيها أربع حقاق وبنت مخاض، وفي ست وثلاثين ومائتين أربع حقاق وبنت لبون إلى ست وأربعين ومائتين، فإذا بلغتها كانت فيها خمس حقاق إلى خمسين ومائتين، وهكذا إلى ما لا نهاية له كلما بلغت الزيادة خمسين زاد حقة ثم استأنف تزكيتها بالغنم ثم بنت المخاض ثم ببنت اللبون ثم بالحقة. ولا يخفى أن هذا المذهب لا يصدق عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا زادت على عشرين
(11/202)
ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، فإنه يدل على أن مدار الحكم والحساب بعد العشرين ومائة هو الأربعون والخمسون، وعلى أنه يجعل الكل على عدد الأربعينات والخمسينات، وقد عرفت أنهم لم يجعلوا الأربعين والخمسين مدارا للحكم، بل قالوا بالعود إلى أول الفريضة والاستيناف، وتقدم أنه ليس في الاستئناف الأول بنت لبون أصلا. ثم إنها وإن كانت في الاستيناف الثاني لكن الفريضة لا تدور على الأربعين عندهم، فإنه تجب بنت لبون من ست وثلاثين إلى ست وأربعين والأربعون واقع في البين، فلم يكن مدار الحكم ولا يكون لتخصيصه بالذكر على مذهبهم، معنى لكون بنت لبون واجبة فيما دونه وفيما فوقه أيضا، وكذا الحقة تجب من ست وأربعين إلى خمسين فلا يكون الخمسون فلا يكون الخمسون مدارا، ولا يظهر لتخصيصه في قوله وفي كل خمسين حقة معنى أيضا. قال صاحب العرف الشذى: الحق إن حديث الباب أقرب بمذهب الحجازيين لأنه عليه السلام قد أجمل بعد مائة وعشرين،
(11/203)
ومذهب الحجازيين مستقيم على هذا الحديث بعد مائة وعشرين إلى الأبد. وأما مذهبنا الحنفية فاستقامته إنما هو بعد خمسين ومائة - انتهى. قلت: الحديث الذي استدل به أهل الحجاز لا يصدق على مذهب أهل العراق أصلا، فإن مذهبهم كما لا يستقيم قبل خمسين ومائة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس عند الدارقطني (ص209) فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، كذلك لا يستقيم بعده أيضا فإن مدار بنت اللبون هو ست وثلاثون لا أربعون، ومدار الحقة ست وأربعون لا خمسون، فإن هذين العددين يكونان في البين. والحديث نص في كون الأربعينات والخمسينات مدارا بعد العشرين، ومائة مطردا دائما. هذا وقد تصدى الحنفية كالطحاوي في شرح الآثار والسرخسي في المبسوط وأبي بكر الرازي في أحكام القرآن وابن الهمام في فتح القدير، والزيلعي في شرح الكنز والعيني في شرح البخاري للجواب عن حديث الباب. والتخلص من مخالفته ولولا أنه يطول البحث جدا لذكرنا كلاهم أجمعين، وبينا ما في أجوبتهم من التكلف والتمحل والتلبيس والتخليط والفساد، وقد ذكر تقرير ابن الهمام وجوابه الشيخ عبدالعلي بحر العلوم اللكنوي الحنفي في رسائل الأركان الأربعة (ص170- 171). ثم رد عليه ورجح مذهب الجمهور وقال في آخر كلامه فالأشبهة ما عليه الإمام الشافعي والإمام أحمد. واحتج الحنفية لمذهبهم بما روى أبوداود في المراسيل وإسحاق بن راهوية في مسنده، والطحاوي في مشكله عن حماد بن سلمة قال: قلت لقيس بن سعد خذ لي كتاب محمد بن عمرو بن حزم فأعطاني كتابا أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه لجده فقرأته فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل فقص الحديث إلى أن يبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من عشرين ومائة فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل، وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم في كل خمس ذود شاة كذا في نصب الراية.
(11/204)
وأجيب عنه بما قال ابن الجوزي في التحقيق: إن هذا حديث مرسل. وقال هبة الله الطبري: هذا الكتاب صحيفة ليس بسماع ولا يعرف أهل المدينة كلهم عن كتاب عمرو بن حزم إلا مثل روايتنا، رواها الزهري وابن المبارك وأبوأويس كلهم عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده مثل قولنا. ثم لو تعارضت الروايتين عن عمرو بن حزم بقيت روايتنا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهي في الصحيح وبها عمل الخلفاء الأربعة. وقال البيهقي في السنن (ج4 ص94) هذا منقطع بين أبي بكر بن حزم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيس بن سعد أخذه عن كتاب لا عن سماع، وكذلك حماد بن سلمة أخذه عن كتاب لا سماع، وقيس بن سعد وحماد بن سلمة. وإن كانا من الثقات فروايتهما هذه بخلاف رواية الحفاظ عن كتاب عمرو بن حزم وغيره، وحماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره، فالحفاظ لا يحتجون بما يخالف فيه ويتجنبون ما ينفرد به عن قيس بن سعد خاصة وأمثاله، وهذا الحديث قد جمع الأمرين
(11/205)
مع ما فيه من الانقطاع. وقال في معرفة السنن: الحفاظ مثل يحيى القطان وغيره يضعفون رواية حماد عن قيس ابن سعد، ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال: ضاع كتاب حماد بن سلمة عن قيس بن سعد فكان يحدثهم من حفظه ثم أسند عن ابن المديني نحو ذلك. قال البيهقي: ويدل على خطأ هذه الرواية إن عبدالله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم رواه عن أبيه عن جده بخلافه، وأبوالرجال محمد بن عبدالرحمن الأنصاري رواه بخلافه، والزهري مع فضل حفظه رواه بخلافه في رواية سليمان بن داود الخولاني عنه موصولا، في رواية غيره مرسلا وإذا كان حديث حماد عن قيس مرسلا ومنقطعا وقد خالفه عدد، وفيهم ولد الرجل والكتاب بالمدينة بأيديهم يتوارثونه بينهم، وأمر به عمر بن عبدالعزيز فنسخ له فوجد مخالفا لما رواه حماد عن قيس وموافقا لما في كتاب أبي بكر وما في كتاب عمر وكتاب أبي بكر في الصحيح، وكتاب عمر أسنده سفيان بن حسين وسليمان بن كثير عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكتبه عمر عن رأية إذ لا مدخل للرأي فيه وعمل به وأمر عماله، فعملوا به. وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وأقرأ ابنه عبدالله بن عمر وأقرأه عبدالله ابنه سالما ومولاه نافعا. وكان عندهم حتى قرأه مالك بن أنس أفما يدلك ذلك كله على خطأ هذه الرواية - انتهى. وقال ابن قدامة في المغنى: (ج2 ص584) بعد الإشارة إلى كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الذي استدل به الحنفية، ولنا أن في حديثي الصدقات الذي كتبه أبوبكر لأنس, والذي كان عند آل عمر بن الخطاب مثل مذهبنا وهما صحيحان، وقد رواه أبوبكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما كتاب عمرو بن حزم فقد اختلف في صفته فرواه الأثوم في سنته مثل مذهبنا والأخذ بذلك أولى لموافقته الأحاديث الصحاح وموافقته القياس، فإن المال إذا وجب فيه من جنسه لم يجب من غير جنسه، كسائر بهيمة الأنعام، ولأنه مال احتمل المواساة من جنسه
(11/206)
فلم يجب من غير جنسه كالبقر والغنم. وإنما وجب في الابتداء من غير جنسه، لأنه ما احتمل المواساة من جنسه فعدلنا إلى غير الجنس ضرورة. وقد زال ذلك بزيادة المال وكثرته ولأنه عندهم ينقل من بنت مخاض إلى حقة بزيادة خمس من الإبل وهي زيادة يسيرة لا تقتضي الانتقال إلى حقة، فإنا لم ننقل في محل الوفاق من بنت مخاض إلى حقة إلا بزيادة إحدى وعشرين - انتهى. وقال ابن حزم: (ج6 ص41) والعجب أنهم يدعون أنهم أصحاب قياس وقد خالفوا في هذا المكان النصوص والقياس. فهل وجدوا فريضة تعود بعد سقوطها؟ وهل وجدوا في أوقاص الإبل وقصا من ثلاثة وثلاثين من الإبل إذ لم يجعلوا بعد الإحدى والتسعين حكما زائدا إلى خمسة وعشرين ومائة، وهل وجدوا في شيء من الإبل حكمين مختلفين في إبل واحدة؟ بعضها يزكي بالإبل وبعضها يزكي بالغنم، وهلا إذ ردوا الغنم وبنت المخاض بعد إسقاطهما ردوا أيضا في ست وثلاثين زائدا على العشرين والمائة بنت اللبون، فإن قالوا منعنا عن ذلك قوله عليه السلام في كل خمسين حقة قيل لهم فهلا منعكم من رد الغنم قوله عليه السلام؟ وفي كل أربعين بنت لبون - انتهى.
(11/207)
واحتج الحنفية أيضا بما روى ابن أبي شيبة (ج3 ص11) عن يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة يستقبل بها الفريضة - انتهى. ورواه البيهقي (ج4 ص92) بلفظ: إذا زادت على عشرين ومائة فبحساب ذلك ليستأنف بها الفرائض. قال الحافظ في الدراية: إسناده حسن إلا أنه اختلف على أبي إسحاق - انتهى. ورواه أبوعبيد (ص363) بلفظ استؤنف بها الفريضة بالحساب الأول. وأجيب عنه بما قال البيهقي (ج4 ص92) قد أنكر أهل العلم هذا على عاصم بن ضمرة لأن رواية عاصم بن ضمرة عن علي خلاف كتاب آل عمرو بن حزم، وخلاف كتاب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال: في (ص93) واستدلوا على خطأه بما فيه من الخلاف للروايات المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الصدقات. وقال: في (ص94) بعد ما روى من طريق عاصم بن ضمرة، والحارث عن علي في خمس وعشرين خمس من الغنم، فإذا زادت واحدة ففيها بنت مخاض ما لفظه وفيه وفي كثير من الروايات عنه في خمس وعشرين خمس شياه. وقد أجمعوا على ترك القول به لمخالفة عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي الروايات المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر في الصدقات في ذلك، كذلك رواية من روى عنه الاستئناف مخالفة لتلك الروايات المشهورة مع ما في نفسها من الاختلاف والغلط وطعن أئمة أهل النقل فيها، فوجب تركها والمصير إلى ما هو أقوى منها - انتهى. ونقل الخطابي في المعالم عن ابن المنذر أنه قال ليس هذا القول بثابت عن علي. قلت: وروى البيهقي (ج4 ص93) من طريق شريك وشعبة وابن حزم (ج6 ص38) من طريق معمر كلهم عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال: إذا زادت على عشرين ومائة ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين ابنة لبون موافقا للروايات المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحازمي في كتاب الاعتبار: (ص10) الوجه
(11/208)
الثامن عشر من الترجيحات أن
يكون أحد الحديثين قد اختلفت الرواية فيه والثاني لم يختلف فيه فيقدم الذي لم
يختلف فيه، وذلك نحو ما رواه أنس في زكاة الإبل إذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل
أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة. وهو حديث مخرج في الصحيح من رواية ثمامة عن
أنس، ورواه عن ثمامة ابنه عبدالله وحماد بن سلمة ورواه عنهما جماعة كلهم، قد
اتفقوا عليه من غير اختلاف بينهم، ثم ذكر الاختلاف في رواية أبي إسحاق عن عاصم عن
علي ثم قال: فحديث أنس لم تختلف الرواية فيه وحديث علي اختلفت الرواية فيه كما
ترى، فالمصير إلى حديث أنس أولى للمعنى الذي ذكرناه على أن كثيرا من الحفاظ أحالوا
الغلط في حديث علي على عاصم وإذا تقابلت حجتان فما سلم منهما من المعارض كان أولى
كالبينات إذا تقابلت فإن الحكم فيها كذلك - انتهى. وقال الشافعي: بعد ذكر رواية
شريك عن أبي إسحاق موافقا لحديث أنس كما قدمنا وبهذا نقول، وهو موافق للسنة وهم
يعني بعض العراقيين لا يأخذون بهذا فيخالفون ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم
-
ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها فإذا بلغت
خمسا ففيها شأة. ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة،
فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها
(11/209)
وأبي بكر وعمر والثابت عن علي عندهم إلى قول إبراهيم (النخعي) وشيء يغلط به عن علي رضي الله عنه - انتهى. وقد تصدى الحنفية وتمحلوا الإثبات إن رواية سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي مسنده مرفوعة، وقد رد عليهم ابن حزم فأجاد من أحب الوقوف عليه رجع إلى المحلى (ج6 ص37- 38). واحتجوا أيضا بما روى الطحاوي عن خصيف عن أبي عبيدة وزيادة بن أبي مريم عن ابن مسعود قال: فإذا بلغت العشرين ومائة استقبلت الفريضة بالغنم في كل خمسين شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين ففرائض الإبل. قال الزيلعي: واعترضه البيهقي بأنه موقوف ومنقطع بين أبي عبيدة وزيادة وبين ابن مسعود قال وخصيف غير محتج به - انتهى. وأخرج عن إبراهيم النخعي نحوه انتهى، كلام الزيلعي. وقد ظهر بما حررنا فساد قول الحنفية وخلافهم للروايات المرفوعة المشهورة ولأبي بكر وعمر وعلي وأنس وابن عمر وسائر الصحابة والتابعين دون أن يتعقلوا برواية صريحة صحيحة عن أحد منهم بمثل قولهم إلا عن إبراهيم النخعي وحده هذا. وقد ذهب ابن جرير إلى أنه يتخير بين الاستيناف وعدمه. قال الخطابي في المعالم: (ج2 ص21) وقال محمد بن جرير الطبري: هو مخير إن شاء إستأنف الفريضة إذا زادت الإبل على مائة وعشرين، وإن شاء أخرج الفرائض لأن الخبرين جميعا قد رويا - انتهى. ثم رد عليه الخطابي (ومن لم يكن معه) أي في ملكه (إلا أربع من الإبل فليس) عليه (فيها) أي في إبله الأربع (صدقة إلا أن يشاء ربها) أي مالكها وصاحبها أن يتبرع ويتطوع بها يعني يخرج عنها نفلا منه وإلا فلا واجب عليه فهو استثناء منقطع ذكر لدفع توهم نشأ من قوله فليس فيها صدقة، إن المنفي مطلق الصدقة لاحتمال اللفظ له وإن كان غير مقصود، وفيه دليل على أن ما دون خمس من الإبل لا زكاة فيه وهذا بالإجماع. (ومن بلغت عنده من الإبل) قال القاري: يتعين أن "من" زائدة على مذهب الأخفش داخلة على الفاعل أي ومن بلغت إبله (صدقة الجذعة) بالنصب
(11/210)
والإضافة قال الطيبي: أي بلغت
الإبل نصابا يجب فيه الجذعة - انتهى. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة برفع
"صدقة" بتنوينها ونصب "الجذعة" وفي نسخة بالإضافة. وقال
العيني: قوله "صدقة الجذعة" كلام إضافي مرفوع، لأنه فاعل بلغت (وليست
عنده جذعة) أي والحال إن الجذعة ليست موجودة عنده (وعنده حقة) أي والحال إن
الموجودة عنده حقة (فإنها) أي القصة أو الحقة أو ضمير مبهم (تقبل منه الحقة)
تفسير، أي تقبل الحقة من المالك من الزكاة، وقوله فإنها" الخ خبر المبتدأ
الذي هو من بلغت (ويجعل) ضميره راجع إلى من (معها) أي مع الحقة
شأتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما.
(11/211)
(شأتين) بصفة الشأة المخرجة عن خمس من الإبل. قال ابن حجر: ذكرين أو أنثيين أو أنثى، وذكر من الضأن مالها السنة، ومن المعز مالها سنتان. وقال ابن قدامة (ج2 ص578) ولا يجزيء في الغنم المخرجة في الزكاة إلا الجذع من الضأن والثني من المعز، وكذلك شاة الجبران وأيهما أخرج أجزأه، ولا يعتبر كونها من جنس غنمه ولا جنس غنم البلد، لأن الشأة مطلقة في الخبر الذي ثبت به وجوبها وليس غنمه ولا غنم الولد سببا لوجوبها، فلم بتقييد بذلك كالشأة الواجبة في الفدية وتكون أنثى، فإن أخرج ذكرا لم يجزئه. لأن الغنم الواجبة في نصبها إناث، ويحتمل أن يجزئه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أطلق لفظ الشأة فدخل فيه الذكر والأنثى، ولأن الشأة إذا تعلقت بالذمة دون العين أجزأ فيها الذكر كالأضحية (إن استيسرتا له) أي وجدتا في ماشيته، يقال تيسر واستيسر بمعنى (أو عشرين درهما) أو يجعل عشرين درهما فضة من النقرة. قال الخطابي: فيه من الفقه إن كل واحدة من الشأتين والعشرين الدرهم أصل في نفسه ليست ببدل، وذلك لأنه قد خيره بينهما بحرف أو. وقد اختلف الناس في ذلك فذهب إلى الظاهر الحديث إبراهيم النخعي والشافعي وأحمد وأصحاب الحديث والظاهرية وذهب سفيان الثوري إلى ما روى عن علي أنه يرد عشرة دراهم أو شاتين. قال ابن حزم (ج6 ص23) وروى أيضا عن عمر رضي الله عنه وإليه ذهب أبوعبيد (ص368). وقال مالك: لا يعطي إلا ما وجب عليه بأن يبتاع للساعي والسن الذي يجب له، ولا يعطي سنا مكان سن برد شاتين أو عشرين درهما. وقال أبوحنيفة: يأخذ قيمة السن الذي وجب عليه، وإن شاء أخذ الفضل منها ورد عليه فيه دراهم، وإن شاء أخذ دونها وأخذ الفضل دراهم، ولم يعين عشرين درهما ولا غيرها فجبران ما بين السنين غير مقدر عنده ولكنه بحسب الغلاء والرخص. وحمل هذا الحديث على أن تفاوت ما بين السنين كان ذلك القدر في تلك الأيام لا أنه تقدير شرعي، بدليل ما روى عن علي رضي الله عنه
(11/212)
أنه قدر جبران ما بين السنين
بشأتين أو عشرة دراهم. وفيه أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ولأنه لو قدر تفاوت ما بين السنين بشيء، أدى إلى الأضرار بالفقراء أو
الإجحاف بأرباب الأموال فالواجب هو تفاوت القيمة لا تعيين ذلك. واستدل به على جواز
أداء القيم من العروض وغيرها بدل الزكاة الواجبة وإن كان المأمور بأخذ ممكنا وأجاب
الجمهور الذين لم يقولوا بجواز أداء القيم في الزكاة عن ذلك، بأنه لو كان كذلك
لكان ينظر إلى ما بين السنين في القيمة، فكان العرض يزيد تارة وينقص أخرى لاختلاف
ذلك في الأمكنة والأزمنة، فلما قدر الشارع التفاوت بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص
كان ذلك هو الواجب في الأصل في مثل ذلك. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص22): وأصح
هذه الأقاويل قول من ذهب إلى أن كل واحد من الشأتين والعشرين الدرهم أصل في نفسه،
وإنه ليس له أن يعدل عنهما إلى القيمة،
ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة،
ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت
لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطي شاتين أو عشرين درهما. ومن بلغت صدقته بنت
لبون وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. ومن
بلغت صدقته بنت صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت
مخاض، ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين.
(11/213)
ولو كان للقيمة، فيها مدخل لم يكن لنقله الفريضة إلى سن فوقها وأسفل منها ولا لجبران النقصان فيهما بالعشرين أو بالشأتين معنى قال: ويشبه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل الشاتين أو العشرين الدرهم تقديرا في جبران النقصان والزيادة بين السنين ولم يكل الأمر في ذلك إلى اجتهاد الساعي وإلى تقديره. لأن الساعي إنما يحضر الأموال على المياه، وليس بحضرته حاكم ولا مقوم يحمله، ورب المال عند اختلافها على قيمة يرتفع بها الخلاف وتنقطع معها مادة النزاع، فجعلت فيها قيمة شرعية كالقيمة في المصراة والجنين حسما لمادة الخلاف مع تعذر الوصول إلى حقيقة العلم بما يجب فيها عند التعديل، يعني فضبطه بشيء يرفع التنازع كالصاع في المصراة والغرة في الجنين (ومن بلغت عنده صدقة الحقة) أي وجبت الحقه عليه من أجل إن كانت الإبل ستا وأربعين (وليست عنده) أي في ملكه (الحقة وعنده الجذعة) الواو للحال (فإنها تقبل منه الجذعة) عوضا عن الحقة، وإن كانت الجذعة زائدة على ما لم يلزمه فلا يكلف تحصيل ما ليس عنده، وقوله "الجذعة" بدل من الضمير الذي هو اسم "إن" أو فاعل "تقبل" فالضمير للقصة (ويعطيه المصدق) بضم الميم وتخفيف الصاد وكسر الدال كمحدث، أخذ الصدقة وهو الساعي الذي يأخذ الزكاة (عشرين درهما أو شاتين) كما سلف في عكسه. قال في التوضيح: وعندنا إن الخيار في الشأتين والدراهم لدافعها سواء كان المالك أو الساعي، وفي قول إن الخيرة إلى الساعي مطلقا، فعلى هذا إن كان هو المعطى راعي المصلحة للمساكين (فإنها تقبل منه بنت لبون) إعرابه كما سبق (ويعطي) أي رب المال (شأتين أو عشرين درهما) قال الطيبي: فيه دليل على أن الخيرة في الصعود والنزول من السن الواجب إلى المالك - انتهى. وعلل بأنهما شرعا تخفيفا له ففوض الأمر إلى اختباره (ومن بلغت صدقته بنت لبون) بنصب "بنت" على المفعولية (ويعطيه) أي رب المال (المصدق) أي العامل (عشرين درهما أو
(11/214)
شاتين) مقابل ما زاد عنده
(وليست عنده) أي والحال إن بنت اللبون ليست موجودة عنده (ويعطي) أي رب المال (معها)
أي مع بنت المخاض ومعها حال مما بعده لأنه صفة له تقدم عليه (عشرين درهما) قال
الطيبي: أي عشرين درهما
ومن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت لبون، فانها تقبل منه، ويعطيه
المصدق عشرين درهما أو شاتين. فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون،
فإنه يقبل منه وليس معه شيء.
كائنا مع بنت المخاض، فلما قدم صار حالا (ومن بلغت صدقته) بالرفع (بنت مخاض)
بالنصب على المفعولية (وليست) أي بنت مخاض (عنده وعند بنت لبون فإنها تقبل منه) أي
من مالك (ويعطيه المصدق) أي الساعي (عشرين درهما أو شاتين) فيه دليل على أن جبر كل
مرتبة بشأتين أو عشرين درهما. وجواز النزول والصعود من الواجب عند فقده إلى سن آخر
يليه، والخيار في الشأتين والدراهم لدافعها، سواء كان مالكا أو ساعيا وفي الصعود
والنزول للمالك في الأصح (فإن لم يكن) بالتذكير وفي بعض النسخ بالتأنيث (عنده) أي
المالك (بنت مخاض على وجهها) بأن فقدها حسا أو شرعا قاله القاري: قيل: أي على
وجهها المفروض (فأنه يقبل منه) أي بدلا من بنت مخاض وإن كان أقل قيمة منها ولا
يكلف تحصيلها (وليس معه شئ) أي لا يلزمه مع ابن لبون شئ آخر من الجبران. قال ابن
الملك تبعا للطيبي: وهذا يدل على أن فضيلة الأنوثة تجبر بفضل السن. وقال الخطابي:
هذا دليل على أنه ابنة المخاض مادامت موجودة، فان ابن اللبون لا يجزيء عنها وموجب
هذا الظاهر أنه يقبل منه سواء كانت قيمته قيمة ابنة المخاض أو لم يكن، ولو كانت
القيمة مقبولة لكان الأشبه أن يجعل بدل ابنة مخاض قيمتها دون أن يؤخذ الذكران من
الإبل فان سنة الزكاة قد جرت بأن لا يؤخذ فيها إلا الإناث إلا ما جاء في البقر من
التبيع - انتهى. وفيه دليل على أن ابن اللبون يجزىء عن بنت المخاض عند عدمها. وهو
أمر متفق عليه لا خلاف في
(11/215)
ذلك عند الأئمة، حكى هذا
الإجماع جمع من الشراح كالباجي والحافظ والزرقاني وابن قدامة وابن رشد، لكن المدار
عند الحنفية على القيمة وعليه حملوا الحديث بأن ابن اللبون كانت قيمته مساوية
لقيمة بنت المخاض في ذلك الزمان، فعند الحنفية لا يتعين أخذ ابن اللبون خلافا لمن
عداهم من أهل العلم فانه يتعين عندهم أخذه وهو الحق والصواب. ولو لم يجد واحدا
منهما لا بنت مخاض ولا ابن لبون يتعين شراء بنت مخاض، وهو قول مالك وأحمد. والأصح
عند الشافعية إن له أن يشتري أيهما شاء. قال ابن قدامة (ج2:ص580) في شرح قول
الخرقي: "فان لم يكن فيها ابنة مخاض فابن لبون" أراد إن لم يكن في إبله
ابنة مخاض أجزأه ابن لبون ولا يجزئه مع وجود ابنة مخاض، لأنه صلى الله عليه وسلم
شرط في إخراجه عدمها فان اشتراها وأخرجها جاز وإن أراد إخراج ابن لبون بعد شراءها
لم يجز، لأنه صار في إبله بنت مخاض. فان لم يكن في إبله ابن لبون وأراد الشراء
لزمه شراء بنت مخاض، وهذا قول مالك. وقال الشافعي: يجزئه شراء ابن لبون لظاهر
الخبر وعمومه، ولنا أنهما استويا في
وفي صدقة الغنم
(11/216)
العدم فلزمته بنت مخاض كما لو استويا في الوجود. والحديث محمول على وجوده لأن ذلك للرفق به أغناء له عن الشراء، ومع عدمه لا يستغنى عن الشراء فكان شراء الأصل أولى على أن في بعض ألفاظ الحديث. "فمن لم يكن عنده ابنة مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شئ" فشرط في قبوله وجوده وعدمها وهذا في حديث أبي بكر وإن لم يجد إلا ابنة مخاض معيبة فله الانتقال إلى ابن لبون لقوله في الخبر "فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها" ولأن وجودها كعدمها لكونها لا يجوز إخراجها، فأشبه الذي لا يجد إلا ما لا يجوز الوضوء به في انتقاله إلى التيمم. وإن وجد ابنة مخاض أعلى من صفة الواجب لم يجزه ابن لبون لوجود بنت مخاض على وجهها، ويخير بين إخراجها وبين شراء بنت مخاض على صفة الواجب. ولا يخير بعض الذكورية بزيادة سن في غير هذا الموضع ولا يجزيه أن يخرج عن ابن لبون حقا، ولا عن الحقة جذعا لعدمهما ولا وجودهما. وقال القاضي وابن عقيل: يجوز ذلك مع عدمهما لأنهما أعلى وأفضل فيثبت الحكم فيهما بطريق التنبيه، ولنا أنه لا نص فيهما ولا يصح قياسهما على ابن لبون مكان بنت مخاض، لأن زيادة سن ابن لبون على بنت مخاض يمتنع بها من صغار السباع ويرعى الشجر بنفسه ويرد الماء، ولا يوجد هذا في الحق مع بنت لبون لأنهما يشتركان في هذا، فلم يبق إلا مجرد السن فلم يقابل إلا بتوجيه. وإن أخرج عن الواجب سنا أعلى من جنسه مثل أن يخرج بنت لبون عن بنت مخاض وحقه عن بنت لبون، أو بنت مخاض، أو أخرج عن الجذعة ابنتي لبون، أو حقتين جاز. لا نعلم فيه خلافا، لأنه زاد على الواجب عن جنسه ما يجزى عنه مع غيره فكان مجزئا عنه على انفراده كما لو كانت الزيادة في العدد. ثم ذكر حديث أبي ابن كعب في قبوله صلى الله عليه وسلم: ناقة فتية سمينة عظيمة عن ابنة مخاض حين تطوع بها صاحبها، وقوله صلى الله عليه وسلم: ذاك الذي وجب عليك فان تطوعت بخير اجزل الله فيه وقبلناه
(11/217)
منك، أخرجه أحمد وأبوداود. ثم
قال ابن قدامة: وهكذا الحكم إذا أخرج أعلى من الواجب في الصفة. وإن عدم السن
الواجبة والتي تليها كمن وجبت عليه جذعة فعدمها وعدم الحقة أو وجبت عليه حقة
فعدمها وعدم ابنة اللبون فقال القاضي: يجوز أن ينتقل إلى السن الثالث مع الجبران
فيخرج ابنة اللبون في الصورة الأولى، ويخرج معها أربعة شياه أو أربعين درهما،
ويخرج ابنة مخاض في الثانية ويخرج معها مثل ذلك وذكر إن أحمد أومأ إليه وهذا قول
الشافعي. وقال أبوالخطاب: لا ينتقل إلا إلى سن تلي الواجب فأما إن انتقل من حقه
إلى بنت مخاض، أو من جذعة إلى بنت لبون لم يجز، لأن النص ورد بالعدول إلى سن واحد
فيجب الاقتصار عليها كما اقتصرنا في أخذ الشياه عن الإبل على الموضع الذي ورد به
النص، هذا قول ابن المنذر (وابن حزم) ثم ذكر ابن قدامة وجه القول الأول (وفي صدقة
الغنم) خبر مقدم والغنم بفتحتين الشاء لا واحد لها من لفظها،
في سائمتها
(11/218)
وإنما يقول للواحد شاة وهو اسم جنس يقع على الذكور والإناث ويعم الضان والمعز. قال ابن الهمام: سمي به لأنه ليس له آلة الدفاع فكانت غنيمة لكل طالب والشأة تذكر وتؤنث وأصلها شاهة، لأن تصغيرها شويهة، والجمع شياه بالهاء إلى العشر يقال ثلث شياه فإذا جاوزت العشر فبالتاء (في سائمتها) أي راعيتها لا المعلوفة في الأهل، قال القسطلاني: وفي سائمتها كما قاله في شرح المشكاة بدل على من الغنم بإعادة الجار والمبدل في حكم الطرح فلا يجب في مطلق الغنم شئ، وهذا أقوى في الدلالة من أن لو قيل ابتداء في سائمة الغنم أو في الغنم السائمة، لأن دلالة البدل على المقصود بالمنطوق ودلالة غيره عليه بالمفهوم، وفي تكرار الجار أشار إلى أن للسوم في هذا الجنس مدخلا قويا وأصلا يقاس عليه بخلاف جنسي الإبل والبقر- انتهى. والسائمة هي التي ترعى ولا تعلف في الأهل، والمراد السوم، لقصد الدر والنسل فلو اسيمت الابل أو البقر أو الغنم للحمل أو الركوب أو اللحم فلا زكاة فيها وإن اسيمت للتجارة ففيها زكاة التجارة، وإن كانت أقل من النصاب إذا سادت مائتي درهم. والمعتبر عند أحمد وأبي حنيفة السوم في أكثر الحول لأن اسم السوم لا يزول بالعلف اليسير. ولأن العلف اليسير لا يمكن التحرز عنه فاعتباره في جميع السنة يسقط الزكاة بالكلية سيما عند من يسوغ له الفرار من الزكاة، فإنه إذا أراد إسقاط الزكاة يوما فأسقطها بالإسامة، ولأن الضرورة تدعو إليه في بعض الأحيان. ولأن هذا وصف معتبر في رفع الكلفة في الزرع والثمار، واعتبر الشافعي السوم في جميع الحول فلا تجب الزكاة فيها إذا لم تكن سائمة في جميع السنة. وفي الحديث دليل على أن الزكاة إنما تجب في الغنم إذا كانت سائمة، فأما المعلوفة فلا زكاة فيها، ولذلك لا تجب الزكاة في عوامل البقر والابل عند عامة أهل العلم، وإن كانت سائمة، وأوجبها مالك في عوامل البقر والابل. قال الزرقاني: لا خلاف في وجوب زكاة السائمة،
(11/219)
واختلف في المعلوفة فقال مالك
والليث: فيها الزكاة رعت أم لا، لأنها سائمة في صفتها والماشية كلها سائمة ومنعها
من الرعي لا يمنع تسميتها سائمة، والحجة عموم أقواله صلى الله عليه وسلم: في
الزكاة لم يخص سائمة من غيرها وقال سائر فقهاء الأمصار: لا زكاة في غير السائمة
منها، وروى عن جمع من الصحابة. وقال ابن قدامة (ج2:ص576) وفي ذكر السائمة احتراز
من العلوفة والعوامل فإنه لا زكاة فيها عند أكثر أهل العلم، وحكى عن مالك في الإبل
النواضح والعلوفة الزكاة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في كل خمس شأة، قال أحمد:
ليس في العوامل زكاة وأهل المدينة يرون فيها الزكاة، وليس عندهم في هذا أصل. ولنا
قول النبي صلى الله عليه وسلم في كل سائمة في كل أربعين بنت لبون في حديث بهز بن
حكيم فقيده بالسائمة، فدل على أنه لا زكاة في غيرها وحديثهم مطلق فيحمل على
المقيد، ولأن وصف النماء معتبر في الزكاة والمعلوفة يستغرق علفها نماءها، إلا أن
يعدها للتجارة فيكون فيها زكاة التجارة - انتهى. وقال العيني (ج9:ص22) وحجة من
اشتراط السوم كتاب الصديق وحديث عمرو بن حزم مثله وشرطه في الإبل حديث بهز بن حكيم
عن أبيه عن جده مرفوعا، في كل سائمة
إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شأة. فإذا زادت عشرين ومائة إلى مائتين ففيها
شاتان. فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة، ففيها ثلاث شياه. فإذا زادت على ثلاث
مائة ففي كل مائة شأة.
(11/220)
من كل أربعين من الإبل بنت لبون رواه أبوداود والنسائي والحاكم، وقال صحيح الإسناد. وقد ورد تقييد السوم وهو مفهوم الصفة والمطلق يحمل على المقيد إذا كانا في حادثة واحدة، والصفة إذا قرنت بالاسم العلم تنزل منزل العلة لا يجاب الحكم، ثم ذكر العيني أحاديث نفي الصدقة عن العوامل. وقال الخطابي في المعالم (ج2:ص25) فيه دليل على أن لا زكاة في المعلوفة من الغنم، لأن الشيء إذا كان يعتوره وصفان لازمان فعلق الحكم بأحد وصفيه كان ما عداه بخلافه وكذلك هذا في عوامل البقر والإبل قال الأمير اليماني: البقر لم يأت فيها ذكر السوم وإنما قاسوها على الإبل والغنم (إذا كانت) أي غنم الرجل، وفي رواية إذا بلغت (شأة) مبتدأ مؤخر "وفي صدقة الغنم" خبره وقيل: قوله"في صدقة الغنم" يتعلق بفرض أو كتب مقدرا أي فرض في صدقتها شاة أو كتب في شأن صدقة الغنم هذا، وهو إذا كانت أربعين إلى آخره، وحينئذ يكون "شأة" خبر مبتدأ محذوف أي فزكاتها شاة، أو بالعكس أي ففيها شاة (فإذا زادت) غنمه (على عشرين ومائة) واحدة فصاعدا ففي كتاب عمر، فإذا كانت أحدى وعشرين حتى تبلغ مائتين ففيها شاتان، وقد تقدم قول الاصطخري في ذلك والتعقب عليه (إلى مائتين ففيها شاتان) كذا في جميع النسخ للمشكاة وفي المصابيح،وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول والمجد في المنتقي والحافظ في البلوغ وكذا وقع عند أبي داود والنسائي وغيرهما والذي في البخاري "إلى مائتين شاتان" أي بإسقاط لفظه "ففيها" وهكذا نقله الزيلعي في نصب الراية عن البخاري، وعلى هذا فقوله "شاتان" مرفوع على الخبرية أي فزكاتها شاتان أو الإبتدائية أي فيها شاتان (فإذا زادت) غنمه (على مائتين) ولو واحدة (إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه فإذا زادت ) غنمه (على ثلاث مائة) مائة أخرى لا دونها (ففي كل مائة شاة) ففي أربع مائة أربع شياه وفي خمس مائة خمس وفي ست مائة ست. وهكذا قال الخطابي: قوله "فإذا زادت على ثلاث مائة" الخ.
(11/221)
إنما معناه أن يزيد مائة أخرى
فيصير أربع مائة، وذلك لأن المائتين لما توالت إعدادها حتى بلغت ثلاث مائة وعلقت
الصدقة الواجبة فيها بمائة مائة. ثم قيل: فإذا زادت عقل إن هذه الزيادة اللاحقة
بها إنما هي مائة لا ما دونها وهو قول عامة الفقهاء الثوري وأصحاب الرأي وقول
الحجازيين مالك والشافعي وغيرهم. وقال الحافظ: وهو قول الجمهور قالوا وفائدة ذكر
الثلاث مائة لبيان النصاب الذي بعده لكون ما قبله مختلفا، وعن بعض الكوفيين كالحسن
بن صالح بن حي ورواية عن أحمد إذا زادت على الثلاث مائة واحدة وجبت الأربع -
انتهى. واعلم إن مسألة نصاب الغنم من أوله إلى ثلاث مائة إجماعية حكى الإجماع
عليها ابن المنذر وابن رشد وابن قدامة والعيني وغيرهم. قال ابن قدامة (ج2:ص597)
إذا ملك أربعين من الغنم فأسامها أكثر السنة ففيها
فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء
ربها. ولا تخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار
(11/222)
شأة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه وهذا كله مجمع عليه قاله ابن المنذر - انتهى. واختلفوا فيما زاد على ثلاث مائة قال ابن قدامة تحت قول الخرقي:"فإذا زادت ففي كل مائة شاة شأة" ظاهر هذا القول إن الفرض لا يتغير بعد المائتين وواحدة حتى يبلغ أربع مائة فيجب في كل مائة شاة ويكون الوقص ما بين المائتين وواحدة إلى أربع مائة وذلك مائة وتسعة وتسعون وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وقول أكثر الفقهاء. وعن أحمد رواية أخرى، إنها إذا زادت على ثلاث مائة واحدة ففيها أربع شياه ثم لا يتغير الفرض حتى تبلغ خمس مائة فيكون في كل مائة شاة، ويكون الوقص الكبير بين ثلاث مائة وواحدة إلى خمس مائة وهو أيضا مائة وتسعة وتسعون وهذا إختيار أبي بكر. وحكى عن النخعي والحسن بن صالح لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلاث مائة حدا للوقص وغاية له، فيجب أن يتعقبه تغير النصاب كالمائتين، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم "فإذا زادت ففي كل مائة شأة" وهذا يقتضي أن لا يجب في دون المائة شئ وفي كتاب الصدقات الذي كان عند آل عمر بن الخطاب، فإذا زادت على ثلاث مائة واحدة فليس أخرج معناه أبوعبيد (ص386) وابن أبي شيبة فيها شئ حتى تبلغ أربع مائة شاة ففيها أربع شياه، وهذا نص لا يجوز خلافه إلا بمثله أو أقوى منه وتحديد النصاب لاستقرار الفريضة لا للغاية - انتهى. (فإذا كانت سائمة الرجل) وكذا المرأة (ناقصة) خبر"كانت" (من أربعين شأة) تمييز (واحدة) بالنصب على نزع الخافض أي بواحدة، أو على أنه مفعول ناقصة أي إذا كان عند الرجل سائمة تنقص واحدة من أربعين فلا زكاة عليه فيها وبطريق الأولى إذا نقصت زائدا على ذلك ويحتمل أن يكون شاة مفعول ناقصة وواحدة وصف لها والتمييز محذوف للدلالة عليه وروى بشأة واحدة بالجر (فليس فيها) أي في الناقصة عن الأربعين (صدقة) واجبة (إلا أن يشاء ربها) أن يتطوع ويخرج
(11/223)
الصدقة نفلا كما سلف (ولا
تخرج) على بناء المجهول وفي رواية لا يؤخذ (في الصدقة) المفروضة أي الزكاة (هرمة)
بفتح الهاء وكسر الراء أي كبيرة سقطت أسنانها. وقال الجزري: الكبيرة، الطاعنة في
السن، وقال التوربشتي: أراد التي نال منها كبر السن وأضربها (ولا ذات عوار) بفتح
العين المهملة وبضمها أي معيبة وقيل: بالفتح العيب، وبالضم العور في العين، واختلف
في ضبطها فالأكثر على أنه ما يثبت به الرد في البيع. وقيل: ما يمنع الأجزاء في
الأضحية ويدخل في المعيب المريض والذكورة بالنسبة إلى الأنوثة والصغير سنا بالنسبة
إلى سن أكبر منه كذا في الفتح.وقال الجزري: بفتح العين وبضم أي صاحبة عيب ونقص.
قال ابن حجر: فهو من عطف العام على الخاص إذا العيب يشمل المرض والهرم وغيرهما.
قال ابن الملك: هذا إذا كان كل ماله أو بعضه سليما فإن كان
ولا تيس، إلا ما شاء المصدق.
(11/224)
كله معيبا فإنه يأخذ واحدا من وسطه (ولا تيس) وفي رواية ولا تيس الغنم وهو بفتح التاء الفوقية وسكون التحتية بعدها سين مهملة أي فحل الغنم المعد لضرابها قال في القاموس: هو الذكر من الظباء والمعز والوعول أو إذا أتى عليه سنة. وقال الباجي: التيس الذكر من المعز وهو الذي لم يبلغ حد الفحولة فلا منفعة فيه لضراب ولا لدر ولا نسل وبنحوه فسره الإمام مالك كما في المدونة قال العيني: معناه إذا كانت ماشيته كلها أو بعضها إناثا لا يؤخذ منه الذكر إنما تؤخذ الأنثى إلا في موضعين وردت بهما السنة. أحدهما: أخذ التبيع من ثلاثين من البقر. والآخر: أخذ ابن اللبون من خمس وعشرين من الإبل بدل بنت مخاض عند عدمها، وأما إذا كانت ماشيته كلها ذكورا فيؤخذ الذكر. وقال الخطابي: إنما لا يؤخذ التيس لأنه مرغوب عنه لنتنه وفساد لحمه. وقيل: لأنه ربما يقصد به المالك منه الفحولة فيتضرر بإخراجه (إلا أن يشاء المصدق) اختلف في ضبطه ومصداقه، فقيل: المراد به رب الماشية لا الساعي، وعلى هذا هو إما بتخفيف الصاد وفتح الدال المشددة، وهذا اختيار أبي عبيد أي الذي أخذت صدقة ماله، أو بتشديد الصاد والدال معا وكسر الدال، وأصله المتصدق فأدغمت التاء بعد قلبها في الصاد. قال تعالى: ?إن المصدقين والمصدقات?[ الحديد:18] أو بتخفيف الصاد وكسر الدال المشددة اسم فاعل من قوله تعالى: ?فلا صدق ولا صلى?[القيامة: 31] قال الراغب: يقال صدق وتصدق وتقدير الحديث لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب أصلا ولا يؤخذ التيس إلا برضاك المالك لكونه يحتاج إليه ففي أخذه بغير اختياره أضرار به وعلى هذا فالاستثناء مختص بالثالث وهو التيس. وقيل: المراد به الساعي وعلى هذا هو بتخفيف الصاد وكسر الدال المشددة لا غير، وهذا هو المشهور في ضبطها وهو قول جمهور المحدثين وعامة الرواة كما قال الخطابي: أي العامل الذي يستوفي الزكاة من أربابها. قال في القاموس: المصدق كمحدث آخذ الصدقات – انتهى.
(11/225)
والاستثناء متعلق بالأقسام
الثلاث ففيه إشارة إلى التفويض إلى إجتهاد العامل لكونه كالوكيل للفقراء فيفعل ما
يرى فيه المصلحة، والمعنى لا تخرج كبيرة السن ولا المعيبة ولا التيس، إلا أن يرى
العامل إن ذلك أفضل للمساكين فيأخذه نظرا لهم. قال الحافظ: وهذا أشبه بقاعدة
الشافعي في تناول الاستثناء جميع ما ذكر قبله فلو كانت الغنم كلها معيبة أو تيوسا
أجزأه أن يخرج منها، وعن المالكية، يلزم المالك أن يشتري شاة مجزئة تمسكا بظاهر
هذه الحديث، وفي رواية أخرى عندهم كالأول - انتهى. وقيل: الاستثناء مخصوص بما إذا
كانت المواشي كلها معيبة أو تيوسا. قال ابن قدامة: ج2:ص598) وعلى هذا أي ضبط
المصدق بكسر الدال بمعنى العامل لا يأخذ المصدق وهو الساعي أحد هذه الثلاثة إلا أن
يرى ذلك بأن يكون جميع النصاب من جنسه، فيكون له أن يأخذ من جنس المال فيأخذ هرمة
من الهرمات، وذات عوار من أمثالها وتيسا من التيوس- انتهى. وهذا كله إذا كان
الاستثناء متصلا. قال الطيبي: ويحتمل أن يكون منقطعا، والمعنى لا يخرج المزكي
الناقص
ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة
(11/226)
والمعيب لكن يخرج ما شاء المصدق من السليم والكامل (لا يجمع) بضم أوله وفتح ثالثه، أي لا يجمع المالك والمصدق (بين متفرق) بتقديم التاء على الفاء من التفرق وفي رواية مفترق بتقديم الفاء على التاء من الافتراق (ولا يفرق) بضم أوله وفتح ثالثه مشدد، أو يخفف أي لا يفرق المالك والمصدق (بين مجتمع) بكسر الميم الثانية (خشية) منصوب على أنه مفعول لأجله متعلق بالفعلين على التنازع. ويحتمل أن يتعلق بفعل مقدر يعم الفعلين أي لا يفعل شيئا من ذلك خشية الصدقة، فيحصل المراد من غير تنازع (الصدقة) أي خشية وجوب الصدقة أو كثرتها هذا إن رجع إلى المالك وخشية سقوط الصدقة، أو قلتها إن رجع إلى المصدق فالنهى للمالك والساعي كليهما. والخشية خشيتان: خشية المالك أن يجب الصدقة أو تكثر، وخشية الساعي أن تسقط الصدقة أو تقل، وهذا إنما يقع في زكاة الخلطاء. قال الخطابي: قال الشافعي: الخطاب في هذا للمصدق ولرب المال معا، وقال ابن رشد في مقدماته: ذهب الشافعي إلى أن النهى فيه إنما هو للسعاة، وذهب مالك إلى أن النهى إنما هو لأرباب المواشي والصواب على عمومه لهما جميعا لا يجوز للساعي أن يجمع غنم رجلين أن لم يكونا خليطين على الخلطة ليأخذ أكثر من الواجب له، ولا أن يفرق غنم الخليطين فيزكيهما على الانفراد ليأخذ أكثر من الواجب له. وكذلك أرباب الماشية لا يجوز لهم إذا لم يكونوا خلطاء أن يقولوا نحن خلطاء ليؤدوا على الخلطة أقل مما يجب عليهم في الانفراد، ولا يجوز لهم إذا كانوا خلطاء أن ينكروا الخلطة ليؤدوا على الانفراد أقل مما يجب عليهم على الخلطة. وأما أبوحنيفة الذي لا يقول بالخلطة له (أي بخلطة الجوار) فيقول: المعنى في ذلك أنه لا يجوز للساعي أن يجمع ملك الرجلين فيزكيهما على ملك واحد مثل أن يكون للرجلين أربعون شاة فيما بينهما، ولا أن يفرق بملك الرجل الواحد فيزكيه على إملاك متفرقة مثل أن يكون له مائة وعشرون فلا يجوز له أن يجعلها ثلاثة
(11/227)
أجزاء - انتهى. قلت: ومثال جمع
المالك بين المتفرق خشية كثرة الصدقة أي لتقليلها رجل ملك أربعين شاة فجمعها
وخلطها بأربعين لغيره عنده حضور المصدق فرارا عن لزوم الشاة إلى نصفها، إذ عند
الجمع والخلط يؤخذ من كل المال شاة واحدة فنهى عن ذلك. ومثال تفريق المالك خشية
وجوب الصدقة، أي لإسقاطها رجل كان له عشرون شاة مخلوطة بمثلها لغيره ففرقها لئلا
يكون نصابا فلا يجب شيء ومثال تفريقه أيضا خشية كثرتها رجل يكون له مائة شاة وشاة
مخلوطة بمثلها لغيره فيكون عليهما عند الاجتماع والخلط ثلاثة شياه، ففرقا ما لهما
لتقل الصدقة ويكون على كل واحد شاة فقط. ومثال جمع المصدق خشية سقوط الصدقة أي
لايجابها أو خشية قلتها أي لتكثيرها، رجلان كان لهما أربعون شاة متفرقة، فجمعها
وخلطها المصدق ليجب فيها الزكاة ويأخذ شأة، أو كان لكل واحد منهما مائة وعشرون،
فجمع بينهما ليصير الواجب ثلاثة شياه. ومثال تفريق المصدق خشية قلة الصدقة، أي
لتكثيرها ثلاثة خلطاء في مائة وعشرين شاة وواجبها عليهم شأة، ففرقها الساعي أربعين
أربعين ليكون فيها، ثلاث شياه. والحاصل: إن الخلط في الجوار عند الجمهور
وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينما بالسوية،
(11/228)
مؤثر في زيادة الصدقة ونقصانها كخلطة الشيوع، لكن لا ينبغي لأرباب الأموال أن يفعلوا ذلك فرارا عن زيادة الصدقة ولا للسعاة أن يفعلوا ذلك لوجوب الصدقة أو زيادتها، وأما عند أبي حنيفة لا أثر للخلطة، فمعنى الحديث عنده على ظاهر النفي على أن النفي راجع إلى القيد. وحاصله نفي الخلط لنفي الأثر أي لا أثر للخلطة والتفريق في تقليل الزكاة وتكثيرها، أي لا يفعل شيء من ذلك خشية الصدقة إذ لا أثر له في الصدقة فيكون ذلك لغوا عبثا لا فائدة فيه كذا قرره السندي. ولا يخفى ما فيه من التكلف بل من إهمال الحديث، وحمله عامة الحنفية كالكاساني في البدائع وابن الهمام في فتح القدير وغيرهما على خلطة الشيوع كما حملوا عليها قوله "وما كان من خلطين الخ. قالوا: والمراد الجمع والتفريق في الملك لا في المكان، والخشية خشيتان: خشية الساعي، وخشية المالك، وكذا النهي نهيان النهي للساعي. عن جمع المتفرق، وعن تفريق المجتمع، والنهي للمالك عن جمع المتفرق، وعن تفريق المجتمع، مثال الأول: كخمس من الإبل بين اثنين أو ثلاثين من البقر أو أربعين من الغنم حال عليها الحول، وأراد الساعي أن يأخذ منها الصدقة ويجمع بين الملكين، ويجعلهما كملك واحد خشية فوت الصدقة، أي يعدهما كملك رجل واحد لأخذ الصدقة فليس له ذلك. ومثال الثاني: كرجل له ثمانون من الغنم في مرعتين مختلفتين أنه يجب عليه شاة واحدة ولو أراد الساعي أن يفرق المجتمع خشية قلة الصدقة كأنها لرجلين، فيأخذ منها شاتين ليس له ذلك، لأن الملك مجتمع فلا يملك الساعي تفريقة لتكثير الصدقد ومثال الثالث: كثمانين من الغنم بين اثنين حال عليها الحول، أنه يجب فيها شاتان على كل واحد منهما شأة، ولو أراد أن يجمعا بين الملكين فيجعلاهما ملكا واحدا خشية كثرة الصدقة، أي لتقليها، فيعطي الساعي شاة واحدة ليس لهما ذلك لتفرق ملكيهما فلا يملكان الجمع في الملك لأجل تقليل الزكاة. ومثال الرابع: كرجل، له أربعون من
(11/229)
الغنم في مرعتين مختلفتين تجب عليه الزكاة لأن الملك مجتمع فلا يجعلها كالمتفرقين في الملك، أي كأنها في ملك رجلين خشية وجوب الصدقة أي لإسقاطها. قلت: حمله على خلطة الشيوع وعلى الجمع والتفريق في الملك بعيدا جدا، فإن المتبادر من لفظ الجمع والتفريق هو ما كان في المكان أي بالمخالطة لا في الملك، فإنه لا يعبر عن جعل الملكين كملك واحد أو جعل الملك الواحد كملكين بالجمع بين المتفرق أو بالتفريق بين المجتمع. وقد اعترف بذلك صاحب فيض الباري حيث قال: وقع في الحنفية بحمله على خلطة الشيوع في بعد من ألفاظ الحديث فإن الجمع والتفريق لا يتبادر منه إلا ما كان بحسب المكان ولا يأتي هذا التعبير في الجمع والتفريق ملكا، ثم حمله على خلطة الجواز كما فعل السندي (وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية) ما، هنا تامة نكرة متضمنة معنى حرف الاستفهام، ومعناها أي شيء كان من خليطين فإنهما يترادان الفصل بينهما بالسوية على قدر عدد أموالهما كما سيأتي توضيحة. واعلم أن الخلطة بضم الخاء على نوعين: خلطة اشتراك، وخلطة جوار، وقد يعبر عن الأول بخلطة الأعيان وخلطة الشيوع، وعن الثاني بخلطة الأوصاف:
(11/230)
والمراد بالأول لا يتميز نصيب أحد الرجلين أو الرجال عن نصيب غيره، كما شيه ورثها قوم أو ابتاعوها معا. وبالثاني أن يكون مال كل واحد معينا متميزا، واختلف في المراد بالخليط في هذا الحديث فذهب أبوحنيفة إلى أنه الشريك، لأن الخليطين في اللغة العربية هما الشريكان اللذان اختلط ما لهما ولم يتميز كالخليطين من النبيذ، وما لم يختلط مع غيره فليسا بخليطين، وإذا تميز مال كل واحد منهما من مال الآخر فلا خلطة وذهب الجمهور: إلى أن المراد بالخليط المخالط وهو أعم من الشريك، وحكم الخليطين عندهم إن تصدق ما شيتهما كأنهما على رجل واحد، والخلطة عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت والحوض والفحل. واعترض على أبي حنيفة بأن الشريك لا يعرف عين ماله وقد قال: إنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ومما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكا قوله تعالى: ?وإن كثير من الخلطاء?[ص: 24] وقد بينه قبل ذلك بقوله: ?إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة?[ص: 23] واختلف أيضا في أن الخلطة مؤثرة في الزكاة أم لا، فذهب الجمهور إلى كونها مؤثرة. وقال أبوحنيفة: لا تأثير للخلطة سواء كانت خلطة شيوع واشتراك في الأعيان أو خلطة أوصاف وجوار في المكان فلا يجب على أحد الشريكين أو الشركاء إلا مثل الذي كان يجب عليه لو لم يكن خلط. وتعقبه ابن جرير: بأنه لو كان تفريقها مثل جمعها في الحكم لبطلت فائدة الحديث، وإنما نهي عن أمر لو فعله كانت فيه فائدة قبل النهي. ولو كان كما قال: لما كان لتراجع الخليطين بينهما بالسوية معنى. واعتذر بعضهم عن الحنفية بأن الأصل قوله - صلى الله عليه وسلم -. ليس فيما دون خمس ذود صدقة وحكم الخلطة يغير هذا الأصل فلم يقولوا به. ورد بأن ذلك مع الانفراد وعدم الخلطة، لا إذا انضم ما دون الخمس إلى عدد الخليط يكون به الجميع نصابا، فإنه يجب تزكية الجميع لهذا الحديث وما ورد في معناه ولا بد من الجمع بهذا. قال ابن قدامة (ج2
(11/231)
ص607) إن الخلطة في السائمة تجعل مال الرجلين كمال الرجلين الواحد في الزكاة سواء كانت خلطة أعيان، وهي أن تكون المشتركة بينهما لكل واحد منهما، منها نصيب أن يرثا نصابا أو يشترياه أو يوهب لهما فيبقياه بحاله أو خلطة أوصاف وهي أن يكون مال كل واحد منهما مميزا، فخلطاء واشتركا في الأوصاف التي نذكرها (يعني المسرح والمبيت والمحلب والمشرب والفحل) وسواء تساويا في الشركة أو اختلفا مثل أن يكون لرجل شاة ولآخر تسعة وثلاثون، أو يكون لأربعين رجلا أربعون شاة لكل واحد منهم شاة نص عليهما أحمد. وهذا قول عطاء (كما في البيهقي) والأوزاعي والشافعي والليث وإسحاق. وقال مالك: إنما تؤثر الخلطة إذا كان لكل واحد من الشركاء نصاب، وحكى ذلك عن الثوري وأبي الثور واختاره ابن المنذر. وقال أبوحنيفة: لا أثر لها بحال لأن ملك كل واحد دون النصاب فلم يجب عليه زكاة كما لو لم يختلط بغيره، ولأبي حنيفة فيما إذا اختلطا في نصابين، إن كل واحد
(11/232)
منهما يملك أربعين من الغنم فوجبت عليه السلام في أربعين شاة شاة. ولنا ما روي البخاري في حديث أنس لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع وما كان من خليطين الخ. ولا يجيء التراجع إلا على قولنا في خلطة الأوصاف وقوله "لا يجمع بين متفرق" إنما يكون هذا إذا كان لجماعة فإن الواحد يضم ماله بعضه إلى بعض وإن كان في أماكن، وهذا لا يفرق بين مجتمع. ولأن للخلطة تأثيرا في تخفيف المؤنة فجاز أن تؤثر في الزكاة كالسوم والسقي وقياسهم مع مخالفة النص غير مسموع - انتهى. وقال ابن رشد في البداية: (ج1 ص237) أكثر الفقهاء إن للخلطة تأثيرا في قدر الواجب من الزكاة، واختلف القائلون بذلك هل لها تأثير في قدر النصاب أم لا.وأما أبوحنيفة وأصحابه فلم يروا للخلطة تأثيرا، لا في قدر الواجب ولا في قدر النصاب. وتفسير ذلك إن مالكا والشافعي وأكثر فقهاء الأمصار اتفقوا على أن الخلطاء يزكون زكاة المالك الواحد. واختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما: في نصاب الخلطاء هل يعد نصاب مالك واحد سواء لكل واحد منهم نصاب أو لم يكن، أم إنما يزكون زكاة الرجل الواحد إذا كان لكل واحد منهم نصاب. والثاني: في صفة الخلطة التي لها تأثير في ذلك وأما اختلافهم أولا في، هل للخلطة تأثير في النصاب وفي الواجب، أوليس لها تأثير، فسبب اختلافهم في مفهوم ما ثبت في كتاب الصدقة من قوله عليه الصلاة والسلام. لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية، فإن كل واحد من الفريقين أنزل مفهوم هذا الحديث على اعتقاده، وذلك إن الذين رأوا للخلطة تأثيرا، إما في النصاب والقدر الواجب، أو في القدر الواجب فقط. قالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام "وما كان من خليطين" الخ وقوله "لا يجمع بين متفرق" الخ يدل دلالة واضحة إن ملك الخليطين كملك رجل واحد فإن هذا الأثر مخصص لقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة" إما في
(11/233)
الزكاة عند مالك وأصحابه أعنى في قدر الواجب وإما في الزكاة والنصاب معا عند الشافعي وأصحابه. وأما الذين لم يقولوا بالخلطة فقالوا: إن الشريكين قد يقال لهما خليطان، ويحتمل أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام. "لا يجمع بيم متفرق" الخ إنما هو نهي للسعاة أن يقسم ملك الرجل الواحدة قسمة توجب عليه كثرة الصدقة أو يجمع ملك رجل واحد إلى ملك رجل آخر حيث يوجب الجمع كثرة الصدقة. قالوا: وإذا كان هذا الاحتمال في هذا الحديث وجب إلا تخصص به الأصول الثابتة المجمع عليها أعنى أن النصاب والحق الواجب في الزكاة يعتبر بملك الرجل الواحد، وأما الذين قالوا بالخلطة فقالوا: إن لفظ الخلطة هو أظهر في الخلطة نفسها منه في الشركة. وإذا كان ذلك كذلك فقوله عليه الصلاة والسلام "فيهما أنهما يتراجعان بينهما بالسوية" مما يدل على أن الحق الواجب عليهما حكمه حكم رجل واحد. وعلى إن الخليطين ليسا بشريكين، لأن الشريكين ليس يتصور بينهما تراجع، إذ المأخوذ هو من مال الشركة، فمن اقتصر على هذا المفهوم ولم يقس عليه النصاب قال: الخليطان إنما يزكيان زكاة الرجل الواحد إذا كان لكل واحد منهما نصاب، ومن جعل حكم النصاب تابعا لحكم
(11/234)
الحق الواجب. قال: نصابهما نصاب الرجل الواحد كما أن زكاتهما زكاة الرجل الواحد. وأما القائلون بالخلطة فإنهم اختلفوا فيما هي الخلطة المؤثرة في الزكاة، فذكره ابن رشد مختصرا ثم قال: وسبب اختلافهم اشتراك اسم الخلطة، ولذلك لم يرقوم تأثيرا الخلطة في الزكاة وهو مذهب أبي محمد بن حزم الأندلسي- انتهى كلام ابن رشد مختصرا. قلت: الأصل في اعتبار أوصاف الخلطة هو ما رواه الدارقطني (ص204) وأبوعبيد (ص395) وابن حزم (ج6 ص55- 56) من طريق أبي عبيد عن سعد بن أبي وقاص. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي، وروى المرعى وهو حديث ضعيف تفرد به ابن لهيعة وأخطأ فيه، وانظر الكلام عليه في التلخيص (ص175) إذا تحققت هذا فاعلم أن معنى قوله "ما كان من خليطين" الخ على مذهب الجمهور، إن ما كان متميزا لأحد الخليطين من المال فأخذ الساعي من ذلك المتميز يرجع إلى صاحبه بحصته، بأن كان لكل عشرون شاة وأخذ الساعي من مال أحدهما يرجع إلى صاحب الأربعين بالثلثين، وإن أخذ منه يرجع على صاحب عشرين بالثلاث وهذا عند الشافعي. وأما عند مالك فهو كخليطين بينهما مائة شاة لأحدهما ستون وللآخر أربعون ففيها عليهما شاة واحدة يكون على صاحب الأربعين خمساها وعلى رب الستين ثلاثة أخماسها، فإن أخذ الساعي الشاة الواجبة من الأربعين، رجع صاحبها على صاحب الستين بقيمة ثلاثة أخماسها، وإن أخذها من الستين رجع صاحبها على صاحب الأربعين بخميسها. وعند أبي حنيفة الذي يحمل الخليط على الشريك ويقول بأن الخلطة غير مؤثرة، إذا كان المال بينهما على الشركة بلا تميز وأخذ الساعي الزكاة من المال المشترك، لأنه ليس عليه أن ينتظر قسمتهما لمالهما يجب التراجع بالسوية، أي يرجع كل منهما على صاحبه بقدر ما يساوي ماله، مثلا لأحدهما أربعون بقرة وللآخر ثلاثون والمال مشترك غير متميز فأخذ الساعي عن صاحب أربعين مسنة، وعن صاحب
(11/235)
ثلاثين تبيعا، وأعطى كل منهما
من المال المشترك فيرجع صاحب أربعين، وهكذا كلما كانت الشركة بينهما على التفاوت
فأخذ من أحدهما زيادة لأجل صاحبه فإنه يرجع على صاحبه بذلك القدر. وأما إذا كان
المأخوذ حصة كل واحد منهما لا غير بأن كان المال بينهما على السوية فلا تراجع
بينهما. لأن ذلك القدر وكان واجبا على كل واحد منهما بالسوية هذا، وقد بسط أبو
عبيد (ص391، 400) وابن حزم (ج6 ص51و 59) الكلام في بيان معنى الجمع بين المتفرق
والتفريق بين المجتمع وتراجع الخليطين، وذكر مذاهب العلماء ووافق أبوعبيد الشافعي
وابن حزم الحنفية ورجح مذهبهم. قيل: وإليه ميل البخاري كما يظهر من ذكر أثر طاووس
وعطاء وأثر سفيان الثوي في باب ما كان من خلطين فإنهما يتراجعان بالسوية وفيه نظر
قوى، فإن قول طاووس
وفي الرقة ربع العشر،
(11/236)
وعطاء يدل على الفرق بين الخلطة الجوار وخلطة الشيوع، بأن الأولى غير مؤثرة والثانية مؤثرة وهذا قول مخالف للحنفية، فإنه لا تأثير للخلطة عندهم مطلقا على أنه روى البيهقي (ج4 ص106) من طريق عبدالرزاق عن ابن جريج. قال: سألت عطاء عن النفر الخلطاء لهم أربعون شاة قال عليهم شاة قلت فإن كانت لواحدة تسع وثلاثون، ولآخر شاة قال عليهما شاة وهذا كما ترى عين. مذهب الشافعي. وأما قول سفيان فهو موافق للمالكية لا للحنفية كما لا يخفى، وعلى هذا فما قيل إن البخاري وافق الحنفية بعيد عن الصواب. والقول الراجح عندنا: هو ما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه والله تعالى أعلم فائدة اختلف القائلون بتأثير الخلطة أنها هل تؤثر في غير السائمة من الزرع والثمار والعروض والنقدين أم لا، فقال الشافعي على ما ذكره ابن حزم: تؤثر في غير المواشي أيضا. وقالت المالكية والحنابلة وأبوعبيد والأوزاعي: لا تأثير لها في غير الماشية، وهذا هو الراجح عندي. قال ابن قدامة (ص619) إذا اختلطوا في غير السائمة كالذهب والفضة وعروض التجارة والزروع والثمار لم تؤثر خلطتهم شيئا وكان حكمهم حكم المنفردين وهذا قول أكثر أهل العلم، وعن أحمد رواية أخرى إن شركة الأعيان تؤثر في غير الماشية، فإذا كان بينهم نصاب يشتركون فيه فعليهم الزكاة وهذا قول إسحاق والأوزاعي في الحب والثمر، والمذهب الأول قال أبوعبدالله الأوزاعي يقول: في الزرع إذا كانوا شركاء فخرج لهم خمسة أوسق يقول فيه الزكاة قاسه على الغنم ولا يعجبني قول الأوزاعي. وأما خلطة الأوصاف فلا مدخل لها في غير الماشية بحال، لأن الاختلاط لا يحصل، وخرج القاضي وجها آخر إنها تؤثر لأن المؤنة تحف إذا كان الملقح واحدا والصعاد والناطور والجرين، وكذلك أموال التجارة والدكان واحد والمخزن والميزان والبائع فأشبه الماشية ومذهب الشافعي على نحو مما حكينا من مذهبنا، والصحيح إن الخلطة لا تؤثر في غير الماشية لقول النبي - صلى
(11/237)
الله عليه وسلم -. والخليطان
ما اشتركا في الحوض والفحل والراعي فدل على أن ما لم يوجد فيه ذلك لا يكون خلطة
مؤثرة، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجمع بين متفرق خشية
الصدقة" إنما يكون في الماشية لأن الزكاة تقل بجمعها تارة وتكثر أخرى، وسائر
الأموال تجب فيها فيما زاد على النصاب بحسابه فلا أثر لجمعها، ولأن الخلطة في
الماشية تؤثر في النفع تارة وفي الضرر أخرى. ولو اعتبرنا في غير الماشية أثرت ضررا
محضا برب المال فلا يجوز اعتبارها إذا ثبت هذا، فإن كان لجماعة حائط مشترك بينهم
فيه ثمرة أو زرع فلا زكاة عليهم إلا أن يحصل في يد بعضهم نصاب كامل فيجب عليه،
وعلى الرواية الأخرى إذا كان الخارج نصابا ففيه الزكاة - انتهى. (وفي الرقة) بكسر
الراء وتخفيف القاف الفضة سواء كانت مضروبة وغير مضروبة، أصله ورق حذف منه الواو
وعوض عنه التاء كما في عدة ودية. وقيل: هي الدرهم المضروبة (ربع العشر) بضم الأول
وسكون الثاني وضمهما فيهما يعني إذا كانت الفضة مائتي درهم فربع العشر
فإن لم تكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها)). رواه البخاري.
(11/238)
خمسة دراهم، ومران الاقتصار عليها للغالب (فإن لم تكن) أي الرقة التي عنده (إلا تسعين) أي درهما (ومائة) أي دراهم، والمعنى إذا كانت الفضة ناقصة عن مائتى درهم (فليس فيها شيء) أي لا يجب إجماعا. في شرح السنة هذا يوهم إنها إذا زادت على التسعين والمائة شيئا قبل أن تتم مائتين كانت فيه الصدقة وليس الأمر كذلك، لأن نصابها المائتان وإنما ذكر تسعين لأنه آخر فصل أي عقد من فصول المائة والحساب، إذا جاوز المائة كان تركيبه بالفصول والعشرات والمئات والألوف، فذكر التسعين ليدل على أن لا صدقة فيما نقص عن كمال المائتين بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة". قال الطيبي: أراد أن دلالة هذا الحديث على أقل ما نقص من النصاب، إنما يتم بحديث ليس فيما دون خمس أواق صدقة ويسمى هذا في الأصول النص المقيد بمفارقة نص آخر وينصره الحديث الآتي عن علي رضي الله تعالى عنه، وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم (إلا أن يشاء ربها) أي يريد مالكها أن يعطي على سبيل التبرع فإنه لا مانع له فيها، وهذا كقوله في حديث الأعرابي في الإيمان إلا أن تطوع (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص11- 12) والشافعي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه الدارقطني وابن حبان وغيرهما واعلم أن هذا الحديث أخرجه البخاري مقطعا في عشرة مواضع من صحيحة في الزكاة في ستة مواضع، وفي الشركة، وفي الخمس، وفي اللباس، وفي ترك الحيل، مطولا ومختصرا بسند واحد. قال حدثنا محمد بن عبدالله بن المثنى الأنصاري قال حدثني أبي قال حدثني ثمامة بن عبدالله بن أنس إن أنسا حدثه أن أبابكر كتب له هذا الكتاب الخ وقد انتقد عليه الدارقطني في التتبع والاستدراك حيث قال إن ثمامة لم يسمع من أنس ولا سمعه عبدالله بن المثنى من ثمامة. ثم روى عن علي بن المديني عن عبدالصمد حدثني عبدالله بن المثنى. قال دفع إلى
(11/239)
ثمامة هذا الكتاب قال وثنا
عفان ثنا حماد قال أخذت من ثمامة كتابا عن أنس نحو هذا وكذا قال حماد بن زيد عن
أيوب أعطاني ثمامة كتابا فذكر هذا - انتهى. قال الحافظ في مقدمة الفتح: ليس فيما
ذكر الدارقطني ما يقتضي إن ثمامة لم يسمعه من أنس كما صدر به كلامه فأما كون
عبدالله بن المثنى لم يسمعه من ثمامة فلا يدل على قدح في هذا الإسناد بل فيه على
صحة الرواية بالمناولة إن ثبت أنه يسمعه مع أن في سياق البخاري عن عبدالله بن
المثنى، حدثني ثمامة إن أنسا حدثه وليس عبدالصمد فوق محمد بن عبدالله الأنصاري في
الفقه، ولا أعرف بحديث أبيه منه - انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج20 ص6) هذا
الحديث في نهاية الصحة وعمل به أبوبكر الصديق بحضرة جميع الصحابة لا يعرف له منهم
مخالف أصلا رواه عن أبي بكر أنس وهو صاحب، ورواه عن أنس ثمامة وهو ثقة سمعه من
أنس، ورواه عن ثمامة حماد بن سلمة وعبدالله بن المثنى وكلاهما ثقة وإمام. ورواه عن
ابن المثنى ابنه القاضي محمد، وهو مشهور ثقة ولي قضاء البصرة، ورواه عن حماد بن
سلمة يونس بن محمد (عند البيهقي وابن حزم)
1812- (4) وعن عبدالله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فيما سقت
السماء والعيون، أو كان عثريا العشر، وما سقي بالنضح
(11/240)
وشريح بن النعمان (عند النسائي وابن حزم) وموسى بن إسماعيل التبوذكي (عند أبي داود) وأبوكامل المظفر بن مدرك (عند النسائي وأحمد) وغيرهم (كالنضر بن شميل عند الدارقطني والحاكم) وكل هؤلاء إمام ثقة مشهور ولا مغمز لأحد في أحد من رواة هذا الحديث - انتهى. وتكلم ابن معين أيضا على حديث أنس هذا، ففي الأطراف للمقدسي. قيل: لابن معين حديث ثمامة عن أنس في الصدقات، قال لا يصح وليس بشئ ولا يصح في هذا حديث في الصدقات - انتهى. قال ابن حزام: كلام ابن معين مردود لأنه دعوى بلا برهان: وقال البيهقي في المعرفة: لا نعلم من الحفاظ أحدا استقصى في انقاد الرواة ما استقصاه محمد بن إسماعيل البخاري مع إمامته في معرفة علل الأحاديث وأسانيدها. وهو قد اعتمد فيه على حديث ابن المثنى فأخرجه في صحيحه وذلك لكثرة الشواهد له بالصحة - انتهى. وقال في السنن الكبرى (ج4:ص90) قد روينا الحديث من حديث ثمامة بن عبدالله بن أنس عن أنس من أوجه صحيحة ورويناه عن سالم ونافع موصولا ومرسلا ومن حديث عمرو بن حزم موصولا وجميع ذلك يشد بعضه بعضا - انتهى.
(11/241)
1812- قوله: (فيما سقت السماء)
أي المطر أو الثلج أو البرد أو الطل من باب ذكر المحل وإرادة الحال (والعيون) أي
الأنهار الجارية التي يستسقى منها بإساحة الماء من دون اغتراف بآلة، والمراد ما لا
يحتاج في سقيه إلى مؤنة. (أو كان عثريا) بفتح العين المهملة وفتح المثلثة المخففة
وكسر الراء وتشديد التحتية. قال الخطابي: هو الذي يشرب بعروقة من غير سقى لأنه عثر
على الماء، وذلك حيث كان الماء قريبا من وجه الأرض فيغرس عليه فيصل إلى الماء عروق
الشجر فيستغنى عن السقى وهو المسمى بالبعل في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه.
وقال الحافظ في التلخيص: العثري بفتح المهملة والمثلثة وحكى إسكان ثانية. قال
الأزهري وغيره: العثري مخصوص بما سقى من ماء السيل فيجعل عاثورا وهو شبه ساقية
تحفر ويجرى فيها الماء إلى أصوله وسمي كذلك. لأنه يتعثر به المار الذي لا يشعر به
والنضح السقي بالسانية. وقال ابن قدامة قال القاضي: (أبويعلى) هو الماء المستنقع
في بركة أو نحوها يصب إليه ماء المطر في سواقي تشق له فإذا اجتمع سقى منه،
واشتقاقه من العاثور وهي الساقية التي يجرى فيها الماء لأنها يعثر بها من يمر بها
(إذا لم يعلمها) قال الحافظ في الفتح بعد ذكر تفسير الخطابي: وهذا أولى من إطلاق
أبي عبيد (ص478) أن العثري ما تسقيه السماء لأن سياق الحديث يدل على المغايرة
(العشر) مبتدأ خبره "فيما سقت السماء" أي العشر واجب فيما سقت السماء أو
أنه فاعل محذوف أي فيما ذكر يجب العشر (وما سقى) ببناء المجهول (بالنضح) بفتح
النون وسكون الضاد المعجمة بعدها حاء مهملة هو السقى
نصف العشر)). رواه البخاري.
(11/242)
بالرشا والغرب والدالية. وقال الحافظ: أي بالسانية وهي رواية مسلم يعني حديث جابر، والمراد بها الإبل يستقي عليها وذكر الإبل كالمثال وإلا فالبقر وغيرها كذلك في الحكم، والمراد ما يحتاج إلى مؤنة الآلة. قلت: وفي رواية أبي داود والنسائي وفيما سقي بالسواني والنضح، وهذا يدل على التغاير بين السانية والنضح وإن السواني المراد بها الدواب والنضح ما كان بغيرها كنضح الرجال بالآلة (نصف العشر) فيه دليل على التفرقة بين ما سقي بالسواني والنضح وبين ما سقي بماء السماء ونحوه وقد أجمع العلماء عليه. قال ابن قدامة: لا نعلم في هذه التفرقة خلافا والفارق ثقل المؤنة هنا وخفتها في الأول. قال الخطابي: إنما كان وجوب الصدقة مختلفة المقادير في النوعين، لأن ما عمت منفعته وخفت مؤنة كان أحمل للمواساة فأوجب فيه العشر توسعة على الفقراء، وجعل فيما كثرت مؤنته نصف العشر رفقا بأرباب الأموال - انتهى. وقد استدل أبوحنيفة بهذا الحديث: على عدم اشتراط النصاب في زكاة الخارج من الأرض وعلى وجوب الزكاة في جميع ما يخرج من الأرض، وقد تقدم الكلام على المسألتين مبسوطا. قال السندي: استدل أبوحنيفة بعموم الحديث على وجوب الزكاة في كل ما أخرجته الأرض من قليل وكثير، والجمهور جعلوا هذا الحديث لبيان محل العشر ونصفه. وأما القدر الذي يؤخذ منه فأخذوا من حديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وهذا أوجه لما فيه من استعمال كل من الحديثين فيما سيق له - انتهى. فائدة إن وجد ما يسقي بالنضح تارة وبغير النضح أخرى فإن كان ذلك على جهة الاستواء وجب فيه ثلاثة أرباع العشر وهو قول أهل العلم، قال ابن قدامة (ج2 ص699): لا نعلم فيه مخالفا، وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر أكثرهما فوجب مقتضاه وسقط حكم الآخر أي كان حكم الأقل تبعا للأكثر نص عليه أحمد وهو قول عطاء والثوري وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. وقال ابن حامد: يؤخذ بالقسط وهو القول الثاني للشافعي، لأنهما
(11/243)
لو كانا نصفين أخذ بالحصة،
فكذلك إذا كان أحدهما أكثر كما كانت الثمرة نوعين، ووجه الأول إن اعتبار مقدار
السقي وعدد مراته وقدر ما يشرب في كل سقيه يشق ويتعذر، فكان الحكم للأغلب منهما
كالسوم في الماشية. قال الحافظ: ويحتمل أن يقال إن أمكن فصل كل واحد منهما أخذ
بحسابه، وعن ابن القاسم صاحب مالك العبرة بما تم به الزرع وانتهى ولو كان أقل - انتهى.
قال ابن قدامة: وإن جهل المقدار غلبنا إيجاب العشر احتياطا نص عليه أحمد (رواه
البخاري) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والدارقطني
وابن الجارود وأبوعبيد البيهقي، وأخرجه أحمد ومسلم وأبوداود والنسائي من حديث جابر
والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي هريرة، والنسائي وابن ماجه من حديث معاذ،
وأبوداود من حديث علي ويحيى بن آدم من حديث أنس.
1813 - (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((العجما
جرحها جبار،
(11/244)
1813- قوله: (العجماء) بفتح المهملة وسكون الجيم وبالمد تأنيث الأعجم وهي البهيمة، سميت بذلك لأنها لا تتكلم وكل من لا يقدر على الكلام أصلا فهو أعجم ومستعجم. وعن أبي حاتم يقال: لكل من لم يبين الكلام من العرب والعجم والصغار أعجم ومستعجم، وكذلك من الطير والبهائم كلها والاسم العجمة (جرحها) بضم الجيم وفتحها والمفهوم من النهاية نقلا عن الأزهري إنه بالفتح لا غير، لأنه مصدر وبالضم الجراحة والمراد إتلافها، قال عياض: إنما عبر بالجرح لأنه الأغلب. وقيل: هو مثال نبه به على ما عداه كذا في المرقاة. وقال السندي: جرحها بفتح الجيم على المصدر لا غير وهو بالضم اسم منه، وذلك لأن الكلام في فعلها، لا في ما حصل في جسدها من الجرح وإن حمل جرحها بالضم على جرح حصل في جسد مجروحها يكون الإضافة بعيدة، وأيضا الهدر حقيقة هو الفعل لا أثره في المجروح فليتأمل - انتهى. ووقع في رواية للبخاري العجماء جبار، ولا بد فيه من تقدير مضاف ليصح حمل المبتدأ على الخبر، أي فعل العجماء هدر. قال الولي العراقي لا بد في هذه الرواية من تقدير إذ لا معنى لكون العجماء نفسها هدرا، وقد دل غير هذه الرواية على أن ذلك المقدر هو الجرح فوجب الرجوع إليه لكن الحكم غير مختص به بل هو مثال منه يستدل به على ما عداه كما تقدم، ولو لم تدل رواية أخرى على تعيين ذلك المقدر لم يكن لرواية البخاري هذه عموم في جميع المقدرات التي يستقيم الكلام بتقدير واحد منها هذا هو الصيح المنصور في الأصول إن المقتضى لا عموم له - انتهى. وفي رواية للبخاري أيضا العجماء عقلها جبار. قال الزين العراقي في شرح الترمذي: ليس ذكر الجرح قيدا، وإنما المراد به إتلافها بأي وجه كان سواء كان بجرح أو غيره، والمراد بالعقل الدية أي لا دية فيما تتلفه (جبار) بضم الجيم وتخفيف الباء الموحدة أي هدر غير مضمون أي لا شيء فيه، يقال ذهب دمه جبارا أي هدرا، وعن مالك أي هدر لا دية فيه يعني الدابة
(11/245)
المرسلة في رعيها أو المنفلتة
من صاحبها ليس لها قائد ولا سائق ولا راكب، إذا جرحت أحدا أو أتلفت شيئا وكان
نهارا فلا ضمان، وإن كان معها أحد فهو ضامن لأن الإتلاف حصل بتقصيره، وكذلك إذا
كان ليلا لأن المالك قصر في ربطها إذ العادة أن تربط الدواب ليلا. وتسرح نهارا كذا
ذكره الطيبي وابن الملك. وفي إعراب هذه الجملة وجهان. أحدهما: أن يكون قوله
"جرحها جبار" جملة من المبتدأ وخبر وهي خبر عن المبتدأ الذي هو العجماء.
والثاني: أن يكون قوله "جرحها" بدلا من "العجماء" وهو بدل
اشتمال والخبر قوله "جبار" والكلام جملة واحدة والمصدر في قوله
"جرحها" مضاف للفاعل أي كون العجماء تجرح غيرها غير مضمون. وقد استدل
بإطلاق الحديث من قال لا ضمان فيما اتلفت البهيمة سواء كانت منفردة أو معها أحد
سواء كان راكبها أو سائقها أو قائدها وهو قول الظاهرية واستثنوا ما إذا كان الفعل
منسوبا إليه بأن حملها على ذلك الفعل، إذا كان راكبا كان يلوى عنانها فتتلف شيئا
والبئر
(11/246)
برجلها مثلا أو يطعنها أو يزجرها حين يسوقها أو يقودها حتى تتلف ما مرت عليه، وإما ما لا ينسب إليه فلا ضمان فيه. وقال الشافعية: إذا كان مع البهيمة إنسان فإنه يضمن ما أتلفته من نفس أو عضو أو مال سواء كان راكبا أو سائقا أو قاعدا، وسواء كان مالكا أو أجيرا أو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا، وسواء اتلفت بيدها أو رجلها أو ذنبها أو رأسها أو عضها، وسواء كان ذلك ليلا أو نهارا، والحجة في ذلك أن الإتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره ومن هو مع البهيمة حاكم عليها فهي كالآلة بيده ففعلها منسوب إليه سواء حملها عليه أم لا، سواء علم به أم، لا وعن مالك كذلك إلا أن رمحت بغير أن يفعل بها أحد شيئا ترمح بسببه وحكاه ابن عبدالبر عن الجمهور. وقال الحنفية: إن الراكب والقائد لا يضمنان ما نفحت الدابة برجلها أو ذنبها إلا أن أوقفها في الطريق. واختفلوا في السائق. فقال القدوري وآخرون: إنه ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها لأن النفحة بمرأى عينه فيمكنه الاحتراز عنها وقال أكثرهم: لا يضمن النفحة أيضا وإن كان يراها إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التحرز عنه بخلاف الكدم لا مكان كبحها بلجامها، صححه صاحب الهداية: وكذلك قال الحنابلة: إن الراكب لا يضمن ما تتلفه البهيمة برجلها وحكى ابن حزم نفي الضمان من النفحة عن شريح القاضي والحسن البصري وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين، وعطاء بن أبي رباح وعن الحكم والشعبي، يضمن لا يبطل دم المسلم وتمسك من نفي الضمان من النفحة بعموم هذا الحديث مع الرواية التي فيها الرجل جبار لكنها ضعيفة، ضعفها الدارقطني والشافعي وغيرهما. واستدل بالحديث على أنه لا فرق في إتلاف البهيمة للزروع وغيرها من الأموال في الليل والنهار فيما إذا لم يكن صاحبها معها وهو قول الحنفية والظاهرية. وقال الجمهور: إنما يسقط الضمان عن صاحب البهيمة إذا كان ذلك نهارا. وأما بالليل فإن عليه حفظها فإذا انفلتت بتقصير منه
(11/247)
وجب عليه ضمان ما اتلفت ودليل
هذا التخصيص ما أخرجه الشافعي وأبوداود والنسائي وابن ماجه عن البراء بن عازب. قال:
كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: إن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وإن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وإن على
أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل، وأشار الطحاوي إلى أنه منسوخ بحديث الباب.
وتعقبوه بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال مع الجهل بالتاريخ وأقوى من ذلك قول الشافعي،
أخذنا بحديث البراء لثبوته ومعرفة رجاله ولا يخالفه حديث العجماء جبار، لأنه عام
المراد به الخاص فلما قال العجماء جبار وقضي فيما أفسدت العجماء بشيء في حال دون
حال دل ذلك على أن ما أصابت العجماء من جرح وغيره في حال جبار وفي حال غير جبار.
ثم نقض على الحنفية إنهم لم يستمروا على الأخذ بعمومه في تضمين الراكب متمسكين
بحديث الرجل جبار مع ضعف رواية، كذا في الفتح. (والبئر) بكسر الموحدة ثم ياء ساكنة
جبار والمعدن جبار وفي الركاز
(11/248)
مهموزة ويجوز تسهيلها وهي مؤنثة، وقد تذكر على معنى القليب والطوى والجمع أبؤر وآبار بالمد والتخفيف وبهمزتين بينهما موحدة ساكنة (جبار). وفي رواية لمسلم: "البئر جرحها جبار" قال أبوعبيد: المراد بالبئر هنا العادية القديمة التي لا يعلم لها مالك تكون في البادية فيقع فيها إنسان أو دابة فلا شيء في ذلك على أحد، وكذلك لو حفر بئرا في ملكه أو في موات فوقع فيها إنسان أو غيره، فتلف فلا ضمان إذا لم يكن منه تسبب إلى ذلك ولا تغرير، وكذا لو استأجر إنسانا ليحفر له البئر، فانهارت عليه فلا ضمان. وأما من حفر بئرا في طريق المسلمين وكذا في ملك غيره بغير إذن فتلف بها إنسان فإنه يجب ضمانه على عاقله الحافر والكفارة في ماله، وإن تلف بها غير آدمي وجب ضمانه في مال الحافر ويلتحق بالبئر كل حفرة على التفصيل المذكور (والمعدن) بفتح الميم وكسر الدال أي المكان من الأرض يخرج منه شيء من الجواهر والأجساد، كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص وغير ذلك مأخوذ من عدن بالمكان إذا أقام به يعدن بالكسر عدونا سمي بذلك لعدون ما أنبته الله فيه قاله الأزهري وقال في القاموس: المعدن كمجلس منبت الجواهر من ذهب ونحوه لإقامة أهله فيه دائما أو لإثبات الله عزوجل إياه فيه - انتهى. وقيل: أصل المعدن المكان بقيد الاستقرار فيه ثم اشتهر في نفس الأجزاء المستقرة التي ركبها الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض حتى صار الانتقال من اللفظ إليه ابتداء بلا قرينة (جبار) أي هدر وليس المراد أنه لا زكاة فيه، وإنما المعنى إن من حفر معدنا في ملكه أو في موات لاستخراج ما فيه فوقع فيه إنسان أو أنهار على حافره الأجير فهي هدر ولا ضمان فيه. قال الحافظ: وقع في رواية مسلم والمعدن جرحها جبار والحكم فيه ما تقدم في البئر، ولكن البئر مؤنثة والمعدن مذكر فكأنه ذكره بالتأنيث للمواخاة أو لملاحظة أرض المعدن. فلو حفر معدنا في ملكه أو في موات فوقع فيه شخص فمات فدمه
(11/249)
هدر، وكذا لو استأجر أجيرا يعمل له فانهار عليه فمات ويلتحق بالبئر والمعدن في ذلك كل أجير على عمل، كمن استوجر على صعود نخلة فسقط منها فمات - انتهى. (وفي الركاز) بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي من الركز بفتح الراء. قال ابن قدامة:" الركاز المدفون في الأرض، واشتقاقه من ركز يركز مثل غرز يغرز إذا خفي، يقال ركز الرمح إذا غرز أسفله في الأرض ومنه الركز وهو الصوت الخفي قال الله تعالى: ?أو تسمع لهم ركزا? [مريم: 98] وفي القاموس: الركاز ما ركزه الله تعالى في المعادن، أي أحدثه ودفين أهل الجاهلية وقطع الذهب والفضة من المعدن واركز الرجل وجد الركاز والمعدن صارفيه ركاز وارتكز ثبت - انتهى. واعلم أنهم اختلفوا في المراد من الركاز في الحديث فقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور. إن الركاز كنز الجاهلية والمدفون في الأرض وليس المعدن بركاز ولا خمس في المعدن بل فيه الزكاة وسيأتي ببيانه في آخر الفصل الثاني من هذا الباب. وقال الحنفية: المعدن ركاز أيضا فيجب الخمس فيهما. قال ابن الهمام: الركاز يعم المعدن والكنز لأنه من الركز مرادا به المركوز أعم من كون راكزه الخالق والمخلوق فكان
(11/250)
إيجابا فيهما. وقال الكاساني: المستخرج من الأرض نوعان: أحدهما: يسمى كنزا وهو المال الذي دفنه بنو آدم في الأرض. والثاني: يسمى معدنا وهو المال الذي خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض. والركاز اسم يقع على كل واحد منهما إلا أن حقيقته للمعدن واستعماله للكنز مجازا. قال في النهر: لا يجوز أن يكون حقيقة في المعدن، مجازا في الكنز، لامتناع الجمع بينهما بلفظ واحد. وقال في الدر المختار: هو لغة: من الركز أي الإثبات بمعنى المركوز. وشرعا: مال مركوز تحت أرض أعم من معدن خلقي ومن كنز مدفون دفنه الكفار واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم "والمعدن جبار وفي الركاز الخمس، ووجه الاستدلال إنه عطف الركاز على المعدن. وفرق بينهما بواو فاصلة، فعلم إن المعدن ليس بركاز عنده - صلى الله عليه وسلم - بل هما شيئان متغايران، ولو كان المعدن ركازا عنده لقال المعدن جبار، وفيه الخمس ولما لم يقل ذلك ظهر أنه غيره لأن العطف يدل على المغايرة. قال الحافظ: والحجة للجمهور التفرقة من النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المعدن والركاز بواو العطف فصح أنه غيره وأجيب عن هذا بأنه لا يرد على الحنفية لأنهم قالوا إن الركاز يعم المعدن والكنز والمغايرة. بين العام والخاص مما لا يخفي، فلو قال فيه الخمس يعلم حكم المعدن دون الكنز، وأيضا وضع المظهر محل المضمر مما لا ينكر على أنه ورد في رواية للبخاري في الديات، العجماء عقلها جبار والمعدن جبار والبئر جبار وفي الركاز الخمس، فلو قال: وفيه الخمس لحصل الالتباس باحتمال رجوع الضمير إلى البئر. قال ابن التركماني: المعدن هو الركاز فلما أراد أن يذكر له حكما آخر ذكره بالاسم الآخر وهو الركاز، ولفظ الصحيح في الحديث والبئر جبار وفي الركاز الخمس فلو قال، وفيه الخمس لحصل الالتباس بعود الضمير إلى البئر. وقال في المواهب اللطيفة أخذا من ابن الهمام: إن المغايرة بينهما إنما حصلت لاختلاف كل منهما
(11/251)
في أمر يمتاز به عن الآخر، وذلك إن قوله "المعدن جبار" معنا إن إهلاكه أو الهلاك به للأجير الحافر له غير مضمون، لا أنه لا شيء فيه بنفسه، وإلا لم يجب شيء أصلا وهو خلاف المتفق عليه (إذا الخلاف إنما هو في كميته لا في أصله) وغاية ما هناك أنه أثبت للمعدن بخصوصه حكما فنص على خصوص اسمه ثم أثبت له حكما آخر مع غيره فعبر بالاسم الذي يعمهما ليثبت فيهما فإنه - صلى الله عليه وسلم - علق الحكم أعنى وجوب الخمس بما يسمى ركازا فما كان من أفراده وجب فيه - انتهى. وقال بعضهم: احتجاج الجمهور غير صحيح، فإن المراد بالمعدن حفرته فإنه إذا وقع فيها إنسان فلا ضمان فيه، والمراد بالركاز المال الذي في المعدن بأن المال المستخرج منها فيه الخمس، فعلى هذا دلالة العطف صحيحة لأن مدلول أحدهما غير مدلول الآخر فلا حجة فيه للجمهور واحتج الجمهور أيضا بالركاز في لغة أهل الحجاز هو دفين الجاهلية، ولا شك في أن النبي الحجازي - صلى الله عليه وسلم -: تكلم بلغة أهل الحجاز وأراد به ما يريدون منه. قال ابن الأثير الجزري:
(11/252)
في النهاية الركاز عند أهل الحجاز كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض، وعند أهل العراق المعادن والقولان تحتملها اللغة لأن كلا منهما مركوز في الأرض أي ثابت، يقال ركزه يركزه ركزا إذا دفنه وأركز الرجل إذا وجد الركاز. والحديث إنما جاء في التفسير الأول وهو الكنز الجاهلي، وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه. وقال في جامع الأصول: (ج5 ص481) الركاز عند أهل الحجاز كنز الجاهلية ودفنها لأن صاحبه ركزه في الأرض أي أثبته وهو أهل العراق المعدن، لأن الله ركزه في الأرض ركزا. والحديث إنما جاء في التفسير الأول منهما وهو الكنز الجاهلي على ما فسره الحسن. وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه، والأصل فيه إن ما خفت كلفته كثر الواجب فيه، وما ثقلت كلفته قل الواجب فيه - انتهى. وقيل: إنما جعل الركاز الخمس لأنه مال كافر فنزل من وجده منزلة الغنائم فكان له أربعة أخماسه. وقال الزين بن المنير: كان الركاز مأخوذ من أركزته في الأرض إذا غرزته فيها، وأما المعدن فإنه ينبت في الأرض بغير وضع واضع هذه حقيقتهما فإذا افترقا في أصلهما فكذلك في حكمهما كذا في الفتح. واحتج الحنفية بما روى ابن عبدالبر في التمهيد والحاكم (ج2 ص65) والبيهقي (ج4 ص155) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: في كنز وجده في خربة جاهلية إن وجدته في قرية مسكونة أو سبيل ميتاء فعرفه، وإن وجدته في خربة جاهلية أو في قرية مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس، وروى أبوعبيد عنه بلفظ: إن المزني قال يا رسول الله فما يوجد في الخرب العادي، قال فيه وفي الركاز الخمس. قال التوربشتي: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - : هذا عن المال المدفون ثم عطف عليه الركاز والمعطوف غير المعطوف عليه. وقال أبوعبيد: تبين لنا أن الركاز سوى المال المدفون لقوله فيه وفي الركاز، فجعل الركاز غير المال المدفون، فعلم بهذا أنه المعدن. وقال الكاساني: عطف
(11/253)
النبي - صلى الله عليه وسلم -
الركاز على الكنز، والشيء لا يعطف على نفسه هو الأصل فدل على أن المراد منه المعدن
وأجيب عن هذا بأنه ورد فيما وجد من أموال الجاهلية ظاهرا فوق الأرض في الطريق غير
الميتاء وفي القرية الغير المسكونة، فيكون فيه وفي الركاز الخمس وليس ذلك من المعدن
بسبيل. وتعقبه ابن التركماني: بأن الرواية المذكور أولا تدفع هذا الجواب لأن الكنز
على ما ذكره أهل اللغة الجوهري وغيره، هو المال المدفون، وعطف الركاز على الكنز
دليل على أن الركاز غير الكنز وأنه المعدن كما يقوله أهل العراق. ورد ذلك بأن
الكنز هو المال المجموع بعضه على بعض، سواء كان على ظهر الأرض أو بطنها. قال
الراغب: الكنز هو جعل المال بعضه على بعض وحفظه، وأصله من كنزت التمر في الوعاء.
وقال ابن جرير: هو كل شيء جمع بعضه على بعض في بطن الأرض أو ظهرها - انتهى. وعلى
هذا يصح حمل الحديث المذكور على ما وجد من مال الجاهلية ظاهرا فوق الأرض. واحتج
الحنفية أيضا
الخمس)).
(11/254)
بما روى البيهقي وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: في الركاز الخمس. قيل وما الركاز يا رسول الله؟ قال الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت. وأجيب عنه بأنه تفرد به عبدالله ابن سعيد ضعيف جدا، بل رماه بعضهم بالكذب. واحتجوا أيضا بتسمية المعدن بالركاز. قال الهروي في كتابه الغريب: الركاز القطع العظام من الذهب والفضة كالجلاميد، واحده ركزة وقدار كز المعدن أنال - انتهى. وقال في القاموس: اركز (الرجل) وجد الركاز والمعدن صار فيه ركاز. وقال الإمام محمد بن الحسن في كتاب الحجج: إنما الركاز وجد في المعادن، وإنما قال: المدفون جعل نظيرا لمال يستخرج من المعدن، هذا أمر لم يكن أرى إن أهل المدينة يخالفونه من كلام العرب، إنما يقال أركز المعدن يعنون أنه استخرج منه مال كثير- انتهى. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: قد نقل عن محمد بن الحسن الشيباني وهو مع رسوخه في الفقه يعد من علماء العربية أنه قال: إن العرب تقول أركز المعدن إذا كثر ما فيه من الذهب والفضة - انتهى. وأجيب عنه بأنه لا يلزم من الاشتراك في الاسم الاشتراك في الحكم والمعنى وإلا لوجب على من ربح ربحا كثيرا الخمس في ربحه، لأنه يقال له أركز ولم يقل به أحد. قال الإمام البخاري في صحيحه: وقال بعض الناس المعدن ركاز مثل دفن الجاهلية، لأنه يقال أركز المعدن إذا أخرج منه شيء قيل له فقد يقال لمن وهب له الشيء أو ربح ربحا كثيرا أو كثرة ثمره أركزت - انتهى. قال ابن بطال: ما ألزم به البخاري القائل المذكور وحجة بالغة لأنه لا يلزم من الاشتراك في الأسماء الاشتراك في المعنى، إلا إن أوجب ذلك من يجب التسليم له. وقد أجمعوا على أن المال الموهوب لا يجب فيه الخمس، وإن كان يقال له أركز فكذلك المعدن - انتهى. وارجع للتفصيل إلى رفع الالتباس عن بعض الناس والقول الراجح عندنا: هو ما ذهب إليه الجمهور من أن الركاز إنما هو كنز الجاهلية
(11/255)
الموضوع في الأرض، وإنه لا يعم المعدن بل هو غيره الله تعالى أعلم (الخمس) فيه دليل على وجوب الخمس في الركاز وهو إجماع العلماء إلا ما حكى عن الحسن البصري. قال ابن قدامة: (ج2 ص17- 18) الأصل في صدقة الركاز ما روى أبوهريرة مرفوعا العجماء جبار، وفي الركاز الخمس، متفق عليه. وهو أيضا مجمع عليه. قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا خالف هذا الحديث إلا الحسن، فإنه فرق بين ما يوجد في أرض الحرب وأرض العرب فقال: في ما يوجد في أرض الحرب الخمس وفيما يوجد في أرض العرب الزكاة - انتهى. ثم ههنا مسائل لا بد للطالب من الوقوف عليها فلنذكرها مختصرا والبسط في المنتقى للباجي وغيره من كتب الفروع وشروح الحديث. الأولى وأنه لا فرق بين قليل الركاز وكثيره عند الجمهور خلافا للشافعي في قوله الجديد أنه لا يجب الخمس حتى يبلغ النصاب. قال البخاري في صحيحه قال مالك وابن إدريس: الركاز دفن الجاهلية في قليله وكثيره الخمس. قال الحافظ: قوله في قليله وكثيره
(11/256)
الخمس نقله ابن المنذر عن مالك كذلك، وفيه عند أصحابه عنه اختلاف وهو قول الشافعي في القديم كما نقله ابن المنذر واختاره. وأما في الجديد فقال: لا يجب الخمس يبلغ نصاب الزكاة، والأول قول الجمهور كما نقله ابن المنذر أيضا وهو مقتضى ظاهر الحديث - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص21) الخمس يجب في قليله وكثيره في قول إمامنا ومالك وإسحاق أصحاب الرأي والشافعي في القديم. وقال في الجديد: يعتبر النصاب فيه لأنه حق مال يجب فيما استخرج من الأرض فاعتبر فيه النصاب كالمعدن والزرع، ولنا عموم الحديث، ولأنه مال مخموس فلا يعتبر له نصاب كالغنيمة. ولأنه مال كافر مظهور عليه في الإسلام فأشبه الغنيمة والمعدن والزرع يحتاجان إلى عمل ونوائب، فاعتبر فيه النصاب تخفيفا بخلاف الركاز، ولأن الواجب فيهما مواساة فاعتبر النصاب ليبلغ حدا يحتمل المواساة منه بخلاف مسألتنا - انتهى. الثانية قال الحافظ: اتفقوا على أنه لا يشترط فيه الحول بل يجب إخراج الخمس في الحال وأغرب ابن العربي في شرح الترمذي فحكى عن الشافعي الاشتراط ولا يعرف ذلك في شيء من كتبه ولا من كتب أصحابه الثالثة قال ابن قدامة (ج3 ص20) الركاز الذي فيه الخمس هو كل ما كان ما لا على اختلاف أنواعه من الذهب والفضة والحديد والرصاص والصفر والنحاس وغير ذلك، وهو قول إسحاق وأبي عبيد وابن المنذر وأصحاب الرأي وإحدى الروايتين عن مالك وأحد قولي الشافعي والقول الآخر لا تجب إلا في الأثمان. ولنا عموم قوله عليه السلام "وفي الركاز الخمس" ولأنه مال مظهور عليه من مال الكفار فوجب فيه الخمس مع اختلاف أنواعه كالغنيمة - انتهى. قلت: المشهور عند المالكية هو العموم والمذهب عند الشافعية خصوصه بالنقدين، وظاهر الحديث العموم فالراجح هو قول الجمهور. الرابعة قال الحافظ: اختلفوا في مصرفه فقال مالك وأبوحنيفة والجمهور مصرفه مصرف خمس الفيء وهو اختيار المزني. وقال الشافعي: في أصح قوليه مصرف الزكاة وعن
(11/257)
أحمد روايتان. وينبني على ذلك ما إذا وجده ذمي فعند الجمهور يخرج منه الخمس وعند الشافعي لا يؤخذ منه شيء - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص121) اختلفت الرواية عن أحمد في مصرفه مع ما فيه من اختلاف أهل العلم. فقال الخرقي: هو لأهل الصدقات ونص عليه أحمد في رواية حنبل فقال: يعطي الخمس من الركاز على مكانه، وإن تصدق على المساكين أجزأه وهذا هو قول الشافعي، لأن علي بن أبي طالب أمر صاحب الكنز أن يتصدق به على المساكين، حكاه الإمام أحمد والرواية الثانية مصرفه مصرف الفيء نقله محمد بن الحكم عن أحمد وهذه الرواية أصح وأقيس على مذهبه، وبه قال أبوحنيفة والمزني لما روى أبوعبيد (ص342) عن هشيم عن مجالد عن الشعبي، إن رجلا وجد ألف دينار مدفونة خارجا من المدينة فأتى بها عمر بن الخطاب فأخذ منه الخمس مائتي دينار، ودفع إلى الرجل بقيتها وجعل عمر يقسم المائتين بين من حفرة من المسلمين إلى أن فضل منها فضلة فقال عمر ابن صاحب الدنانير فقام إليه فقال عمر: خذ هذه الدنانير فهي لك ولو
(11/258)
كانت زكاة لخص بها أهلها ولم يرده على واجده، ولأنه يجب على الذمي والزكاة لا تجب عليه ولأنه مال مخموس زالت عنه يد الكافر أشبه خمس الغنيمة - انتهى. الخامسة اختلفوا فيمن يجب عليه الخمس وفي الأربعة الأخماس باعتبار اختلاف الواجد من كونه حرا أو عبدا أو مكاتبا قال ابن قدامة: (ج3 ص22) يجب الخمس على كل من وجده من مسلم وذمي وحر وعبد ومكاتب وكبير وصغير وعاقل ومجنون، إلا أن الواجد له إذا كان عبدا فهو لسيده لأنه كسب مال، وإن كان مكاتبا ملكه وعليه خمسة لأنه بمنزلة كسبه وإن كان صبيا أو مجنونا فهو لهما ويخرج عنهما وليهما وهذا قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على الذمى في الركاز يجده الخمس قاله مالك وأهل المدينة والثوري والأوزاعي وأهل العراق وأصحاب الرأي وغيرهم وقال الشافعي: لا يجب الخمس إلا على من تجب عليه الزكاة لأنه زكاة، وقال الثوري والأوزاعي وأبوعبيد: إذا كان الواجد له عبدا يرضخ له منه ولا يعطاه كله، ولنا عموم قوله عليه السلام وفي الركاز الخمس، فإنه يدل بعمومه على وجوب الخمس في كل ركاز يوجد ومفهومه إن باقية لواجده من كان ولأنه مال كافر مظهور عليه فكان فيه الخمس على من وجده وباقية لواجده كالغنيمة ولأنه اكتساب مال فكان لمكتسبة إن كان حرا أو لسيده إن كان عبدا كالاحتشاش والاصطياد - انتهى. السادسة يعرف كون الركاز من دفن الجاهلية بأن ترى عليه علامتهم كأسماء ملوكهم وصورهم وصلبهم وصور أصنامهم ونحو ذلك، واستشكله الرافعي وغيره بأنه لا يلزم من روية علامتهم عليه كونه من دفنهم لاحتمال أنه وجد مسلم كنزا جاهليا فكنزه ثانيا. والحكم مدار على كونه من دفن الجاهلية لا على روية علامتهم عليه وأجيب عنه بأن هذا الاحتمال مدفوع بالأصل ولا يخفى ما فيه قالوا فإن كان عليه علامة الإسلام أو اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من خلفاء المسلمين أو وال لهم أو
(11/259)
آية من قرآن أو نحو ذلك فهو
لقطة لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه فيعرفه الواجد سنة ثم له تملكه إن لم يظهر
مالكه. وقيل: هو مال ضائع يمسكه الآخذ للمالك أبدا فلو لم يعرف إن الموجود من ضرب
الجاهلية أو الإسلام ففيه للشافعي قولان: أظهرهما أنه ليس بركاز بل هو لقطة على
الأصح. والقول الثاني: أنه ركاز في خمس وهو الأصح عند الحنفية: قال صاحب الهداية:
ولو اشتبه الضرب يجعل جاهليا في ظاهر المذهب لأنه الأصل. وقيل: إسلاميا في زماننا
لتقادم العهد - انتهى. السابعة ليس في الحديث تعرض لمن يتعاطى إخراج الخمس من
الركاز أهو الواجد أو يتعين الفاعل لذلك الإمام أو نائبه. وينبغي أن يقال إن قلنا
مصرفه مصرف الزكاة، وأنه يجوز أن يتولى الرجل إخراج زكاته بنفسه فلو أخرجه الواجد
له وقع الموقع. وإن قلنا أنه لا يتولى الرجل إخراج زكاته بنفسه أو إن مصرف الزكاة
مصرف الفيء فذلك من وظيفة الإمام أو نائبه الذي أقامه لذلك. وقد حكى ابن المنذر عن
أبي ثور: أنه لا يسعه أن يتصدق بخمسه فإن فعل ضمنه الإمام وعن أصحاب الرأي أنه
يسعه ذلك قال ابن المنذر: وهذا أصح. وقال
متفق عليه.
(11/260)
ابن قدامة في المغنى: (ج3 ص23) ويجوز أن يتولى الإنسان تفرقة الخمس بنفسه، وبه قال أصحاب الرأي وابن المنذر. لأن عليا أمر واجد الكنز بتفرقة على المساكين قاله الإمام أحمد. ثم قال: ويتخرج أن لا يجوز ذلك لأن الصحيح أنه فئ فلم يملك تفرقته بنفسه كخمس الغنيمة. قال القاضي من الحنابلة: وليس للإمام رد خمس الركاز على واجده لأنه حق مال، فلم يجز رده على من وجب عليه كالزكاة وخمس الغنيمة. وقال ابن عقيل: يجوز لأنه روى عن عمر أنه رد بعضه على واجده، ولأنه فيء فجاز رده أو بعضه على واجده كخراج الأرض وهذا قول أبي حنيفة. الثامنة استدل به الحنفية على وجوب الخمس في المستخرج من المعادن، سواءا كان ذهبا أو فضة أو غيرهما من معادن الأرض كالحديد والنحاس والرصاص وغيرها بناء على دخول ذلك في إسم الركاز، ولم يعتبروا في ذلك نصابا ولا حولا وجعلوا مصرفه مصرف الفيء، وذهب الأئمة الثلاثة والأكثرون إلى أن المعدن لا يدخل تحت اسم الركاز ولا له حكمه. واتفقوا على الإخراج منه في الجملة، وإن مصرف المخرج منه مصرف الزكاة، والمشهور من مذاهبهم اعتبار النصاب فيه دون الحول. ثم اختلفت تفاصيل مذاهبهم في ذلك. فقال الشافعية: إن كان المستخرج من المعدن غير الذهب والفضة فلا زكاة فيه إلا في وجه شاذ، وإن كان أحد النقدين ففيه الزكاة. وفي قدر الواجب ثلاثة أقوال للشافعي أصحها ربع العشر كزكاة النقدين. والثاني: الخمس. والثالث: إن ناله بلا تعب ومؤنة فالخمس وإلا فربع العشر ولم يخص الحنابلة ذلك بالذهب والفضة بل قالوا: بوجوب الزكاة في كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرهما مما له قيمة، إذا بلغ قيمة عشرين مثقالا من الذهب أو مائتي درهم من الفضة، كالحديد والصفر والنحاس والزئبق والياقوت والزبرجد والبلور والعقيق والسبج والكحل والزاج والزرنيخ والمغرة بل وسعوا ذلك حتى قالوه: في المعادن الجارية كالقار والنفط والكبريت، والحنفية خصوا ذلك بما
(11/261)
ينطبع كالحديد والنحاس. قال
الحنابلة: والواجب فيه ربع العشر، وخص المالكية ذلك بالنقدين وقالوا إن الواجب ربع
العشر إلا ما لا يتكلف فيه إلى عمل ففيه الخمس، واعتبر إسحاق بن راهوية وابن
المنذر في زكاة المعدن الحول، وحكى قولا عن الشافعي وسيأتي مزيد الكلام في ذلك.
التاسعة اختلفوا في حكم الركاز باعتبار اختلاف موضعه، وقد بسطه ابن قدامة في
المغني (ج3:ص20،18) والباجي في المنتقي (ج2:ص106،105) والكاساني في البدائع (متفق
عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الديات ومسلم في الحدود وأخرجه أيضا أحمد
(ج2:ص228-239) ومالك في الزكاة مختصرا وفي الديات مطولا، والترمذي في الزكاة وفي
الأحكام وأبوداود مختصرا في آخر الخراج، والنسائي في الزكاة، وابن ماجه مختصرا في
اللقطة، والبيهقي، وأبوعبيد وغيرهم، وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكرهم العيني
في شرح البخاري (ج9:ص102،101) والمقصود من ذكر هذا الحديث في هذا الباب هو قوله في
الركاز الخمس.
?الفصل الثاني?
1814- (6) عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد عفوت عن الخيل
والرقيق فهاتوا، صدق الرقة من كل أربعين درهما درهم. وليس في تسعين ومائة شي. فإذا
بلغت مائتين، ففيها خمسة دراهم)). رواه الترمذي وأبوداود.
(11/262)
1814- قوله: (قد عفوت عن الخيل والرقيق) أي إذا لم يكونا للتجارة، وفي الخيل السائمة للنسل خلاف تقدم قال السندي: أي تركت لكم أخذ زكاتهما وتجاوزت عنه، هذا لا يقتضى سبق وجوبه ثم نسخه، وقال الطيبي: عفوت مشعر بسبق ذنب من إمساك المال عن الإنفاق أي تركت وجاوزت عن أخذ زكاتهما مشيرا إلى أن الأصل في كل مال أن تؤخذ منه الزكاة - انتهى. وفيه دليل على أنه لا زكاة في الخيل خلافا للحنفية. فقالوا: المراد بالخيل فيه الخيل المعدة للركوب والغزو بدليل أنه قرن بين الخيل والرقيق والمراد منها عبيد الخدمة، أو المراد عفوت عن إتيانكم بها إلي لأني ما كلفتكم بإحضارها عندي لقلة محالها بالغاية، وإن كانت واجبة فيها فلا تنسوا حق الله في رقابها بل أدوه فيما بينكم وبين الله تعالى - انتهى. ورد الأول. بأن هذه القرينة يبطل دلالتها مع كون دلالة الاقتران ضعيفة أحاديث نفي وجوب الزكاة في الخيل مطلقا. منها حديث عمر ما فعله صاحباي قبلي فافعله ورد الثاني بأن هذا التأويل خلاف الظاهر وبأن مقتضاه مع قوله فهاتوا صدقة الرقة بعد ذلك، أن يجب إحضار صدقة الرقة عند الإمام ودفعها إليه مع أن زكاة الأموال الباطنة عند الجمهور يجوز لأصحابها أن يصرفوها بأنفسهم في مصارفها (فهاتوا) أي أعطوا من هاتاه مهاتاة أي أعطاه يقال هات يا رجل: أي أعط وهاتي يا امرأة وما أهاتيك أي ما أنا بمعطيك (صدقة الرقة) بكسر الراء وتخفيف القاف أي زكاة الفضة (من كل أربعين درهما درهم) أي إذا بلغت الدراهم النصاب. وقال الخطابي: هذا تفصيل لجملة قد تقدم بيانها في حديث أبي سعيد الخدري وهو قوله ليس فيما دون خمس أواق شي وتفصيل الجملة لا يناقض الجملة (وليس) يجب (في تسعين ومائة شي) من الزكاة (فإذا بلغت) أي الرقة. وقيل: أي الدراهم (مائتين ففيها خمسة دراهم) أي الواجب فيها خمسة دراهم بعد جولان الحول (رواه الترمذي وأبوداود) من طريق أبي عوانة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن
(11/263)
علي، وأخرجه أيضا من هذا
الطريق أحمد (ج1:ص92-145) والبيهقي (ج4:ص118) وأخرجه النسائي من طريق الأعمش
وسفيان الثوري وأحمد (ج1: ص113-114-148) والدارقطني (ص214) من طريق الأعمش عن أبي
إسحاق عن عاصم بن ضمرة مختصرا، وأخرجه ابن ماجه من طريق الثوري وأحمد من طريق حجاج
بن أرطاة (ج1:ص121) والثوري (ج1:ص132) وشريك (ج1:ص146) والبيهقي من طريق ابن عيينة
والثوري (ج4:ص118)
وفي رواية لأبي داود عن الحارث الأعور عن علي قال زهير: أحسبه عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
(11/264)
عن أبي إسحاق عن الحرث الأعور عن علي مختصرا أيضا. قال الترمذي: روى هذا الحديث الأعمش وأبوعوانة وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي، وروى سفيان الثوري وابن عيينة وغير واحد عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق يحتمل أن يكون عنهما جميعا- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: بعد ذكر حديث علي هذا أخرجه أبوداود وغيره وإسناده حسن (وفي رواية لأبي داود عن الحارث الأعور عن علي) هذه الرواية: أخرجها أبوداود من طريق عبدالله ابن محمد النفيلي نا زهير نا أبوإسحاق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث الأعور عن علي وأخرجها أيضا البيهقي (ج4:ص93-94-99) والحارث هذا هو الحارث بن عبدالله الأعور الهمداني الحوتي الكوفي أبوزهير وهو ممن اشتهر بصحبة علي بن أبي طالب، وروى عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وعنه الشعبي وأبوإسحاق السبيعي وعطاء بن أبي رباح وغيرهم. قال شعبة: لم يسمع أبوإسحاق منه إلا أربعة أحاديث. وكذلك قال العجلي: وزاد وسائر ذلك كتاب أخذه وقد تكلم فيه الأئمة. فقال الشعبي وأبوإسحاق وابن المديني: هو كذاب. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ. وقال ابن حبان: كان الحارث غالبا في التشيع واهيا في الحديث، وقال النسائي: ليس بالقوى. وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وكذا قال ابن معين: في رواية الدوري عنه. وقال ابن أبي خيثمة. قيل: ليحيى يحتج بالحارث. فقال: مازال المحدثون يقبلون حديثه. وقال ابن عبدالبر: لم يبين من الحارث كذبه وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي. وقال أحمد بن صالح المصري الحارث الأعور: ثقة ما أحفظه وما أحسن ما روى عن علي وأثنى عليه. قيل له فقد قال الشعبي: كان يكذب. قال: لم يكن يكذب في الحديث إنما كان كذبه في رأيه. وقال ابن أبي داود: كان الحارث أفقه الناس وأحسب الناس وأفرض الناس تعلم الفرائض من علي. وقال الذهبي
(11/265)
والنسائي: مع تعنته في الرجال
قد احتج به وقوى أمره والجمهور على توهين أمره مع روايتهم لحديثه في الأبواب هذا
الشعبي يكذبه ثم يروي عنه. والظاهر أنه كان يكذب في لهجته وحكاياته لا في الحديث
النبوي: قال الحافظ: لم يحتج به النسائي. وإنما أخرج له في السنن حديثا واحدا
مقرونا بابن ميسرة وآخر في اليوم والليلة متابعة هذا جميع ماله عنده. وقال في
التقريب: رمى بالرفض وفي حديثه ضعف مات في خلافة ابن الزبير سنة (65) (قال زهير)
بالتصغير وهو زهير بن معاونة بن حديج أبوخيثمة الجعفي الكوفي نزيل الجزيرة ثقة ثبت
إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بآخره. قال أحمد: زهير فيما روى عن المشائخ ثبت بخ بخ
وفي حديثه عن أبي إسحاق لين سمع منه بآخره. وقال أبوزرعة: ثقة إلا أنه سمع من أبي
إسحاق بعد الاختلاط مات في رجب سنة (172) أو (173) أو (174) وكان مولده سنة مائة
(أحسبه) أي أظن هذا الحديث مرويا (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه) أي النبي
- صلى الله عليه وسلم - (قال) يعني قال زهير: أظن أباإسحاق. قال: في حديثه بعد
قوله عن
((هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهما درهم، وليس عليكم شيء، حتى تتم مائتي درهم.
فإذا كانت مائتي درهم، ففيها خمسة دراهم، فما زاد فعلى حساب ذلك.
(11/266)
علي رضي الله عنه "عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " وهذا يدل على أن زهيرا شك في رفعه قال الزيلعي: (ج2 ص353، 360، 365، 366) ورواه الدارقطني في سننه مجزوما به ما ليس فيه. وقال زهير: وأحسبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن القطان: إسناده صحيح وكل من فيه ثقة معروف ولا أعنى رواية الحارث وإنما أعنى رواية عاصم - انتهى كلامه. قال الزيلعي: وهذا منه توثيق لعاصم - انتهى. قلت: لم أجد حديث زهير هذا بهذا السياق الطويل الآتي في الدارقطني في مظانة إلا ما في باب ليس في العوامل صدقة (ص204) فإنه هناك مجزوم برفعه ولكن متنه مختصر جدا، فإنه اقتصر على الجملة بلفظ: ليس في البقر العوامل شيء (هاتوا) أي في كل حول (ربع العشر) وفي أبي داود ربع العشور أي من الفضة وبيانه (من كل أربعين درهما) نصب على التمييز (درهم) بالرفع على الابتداء وفي بعض نسخ أبي داود درهما، أي بالنصب على المفعولية (وليس) يجب (عليكم شيء) أي من الزكاة (حتى تتم) بالتأنيث أي تبلغ الرقة (مائتي درهم) قال الطيبي: نصبه على الحالية أي بالغة مائتين كقوله تعالى: ?فتم ميقات ربه أربعين ليلة? [الأعراف: 142] (فإذا كانت) أي الرقة (مائتي درهم) أي وزنها (ففيها) أي حينئذ (خمسة دراهم فما زاد) أي على مائتي درهم (فعلى حساب ذلك) أي تجب الزكاة في الزائد على النصاب بقدره قل أو كثر حتى إذا كانت الزيادة درهما يجب فيها جزء من أربعين جزءا من درهم. وفيه دليل على أنه لا وقص في نصاب الفضة فيخرج عما زاد على المائتي درهم بحسابه ربع العشر قلت الزيادة أو كثرت. وكذا فيما زاد على العشرين دينارا في الذهب وهو قول أكثر أهل العلم، روى هذا عن علي وابن عمر، وبه قال عمر بن عبدالعزيز والنخعي والثوري وابن أبي ليلى وأبويوسف ومحمد بن الحسن وأبوعبيد وأبوثور وابن المنذر، وهو قول مالك والشافعي وأحمد. وروى عن الحسن البصري والشعبي ومكحول وسعيد بن المسيب والأوزاعي
(11/267)
وعطاء والزهري وعمرو بن دينار إنهم قالوا: لا شيء في زيادة الدراهم حتى تبلغ أربعين، ولا في زيادة الدنانير حتى تبلغ أربعة دنانير.وبه قال أبوحنيفة. واحتج أهل هذا القول بما روى الدارقطني (ص200) والبيهقي (ج4 ص135) من طريق ابن إسحاق عن المنهال بن الجراح عن حبيب بن نجيح عن عبادة بن نسي عن معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره حين وجهه إلى اليمن أن لا تأخذ من الكسور شيئا، إذا كانت الورق مائتي درهم فخذ منها خمسة دراهم، ولا تأخذ مما زاد شيئا حتى تبلغ أربعين درهما، فإذا بلغت أربعين فخذ منها درهما. قال الدارقطني: المنهال بن الجراح متروك الحديث واسمه الجراح بن المنهال وكان ابن إسحاق يقلب اسمه إذا روى عنه وعبادة لم يسمع من معاذ - انتهى. وقال ابن حبان: المنهال بن الجراح كان يكذب. وقال عبدالحق: كذاب. وقال أبوحاتم: متروك الحديث واهية، لا يكتب حديثه. وقال البيهقي: إسناد
(11/268)
هذا الحديث ضعيف جدا. واحتجوا أيضا بما روى من طريق الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: هاتوا ربع العشر من كل مائتي خمسة دراهم، ومن كل عشرين دينارا نصف دينار، وليس في مائتي درهم شيء حتى يحول عليها الحول. فإذا حال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، فما زاد ففي كل أربعين درهما درهم ذكره ابن حزم في المحلى. (ج6 ص61) والحسن بن عمارة متروك فالحديث ضعيف جدا، واحتجوا أيضا بما روى الحاكم (ج1 ص395) والبيهقي (ج4 ص89) والطبراني وغيرهم من حديث عمرو ابن حزم الطويل وفيه " في كل خمس أواق من الورق خمسة دراهم وما زاد ففي كل أربعين درهما درهم" وهذا حديث سنده جيد، وإن تكلم عليه ابن التركماني في الجوهر النقي، وأجيب عنه بأن غاية ما فيه إن في أربعين درهما زائد درهم، ولا ينكره أهل القول الأول، وليس فيه إسقاط الزكاة عن أقل من أربعين زائدة على المائتين، أي ليس فيه أن لا زكاة فيما بين المأتين وبين الأربعين فلا يترك به منطوق حديث الباب. واحتجوا أيضا بما روى ابن أبي شيبة عن الحسن البصري. قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري فيما زاد على المائتين ففي كل أربعين درهما درهم. وروى أبوعبيد في الأموال (ص422) من طريق يحيى بن أيوب عن حميد عن أنس قال: ولاني عمر بن الخطاب الصدقات فأمرني أن آخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار، وما زاد فبلغ أربعة دنانير ففيه درهم وإن آخذ من مائتي درهم خمسة دراهم فما زاد فبلغ أربعين درهما ففيه درهم. وأجيب عن الأول. بأنه منقطع فإن الحسن لم يولد إلا لسنتين باقيتين من خلافة عمر. وعن الثاني: بما قال أبوعبيد (ص423) قد يحتمل قول عمر أن يكون إنما أراد أن يفهم الناس الحساب وأن يعلمهم إن في كل أوقية درهما، وهو مع هذا يرى إن ما زاد على المائتين وعلى عشرين دينارا ففيه الزكاة بالحساب - انتهى. واحتجوا أيضا بأن له عفوا في الابتداء فكان
(11/269)
له عفو بعد النصاب كالماشية
وأجيب عنه بأن الماشية يشق تشقيصها بخلاف الأثمان. واستدل أهل القول الأول بحديث
الباب وهو حديث صحيح أو حسن وله طرق ذكرها الزيلعي، وأجاب عنه أهل القول الثاني بأنه
محمول على أن يكون الزائد على المائتين هو الأربعين جمعا بين الأحاديث ولا يخفى ما
فيه. واستدلوا أيضا بما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -. "ليس فيما دون
خمس أواق صدقة" قال أبوعبيد: (ص424) القول الأول هو المعمول به عندنا والذي
عليه الجمهور الأعظم من المسلمين ومع اجتماعهم عليه أنه موافق لتأويل الحديث
المرفوع. قال: ألا ترى! أنه - صلى الله عليه وسلم - حين أخبر إن ليس في أقل من خمس
أواق شيء، قد جعل الخمس حدا فاصلا فيما بين ما تجب فيه الصدقة وبين ما لا تجب.
فتبين لنا بقوله هذا إن الزائد على الخمس سواء قليله أو كثيره. وإن الزكاة واجبة
فيه إذ لم يذكر بعد الخمس وقتا آخر كتوقيته في الماشية حين قال: في كل خمس شاة وفي
كل عشر شاتان، فجعل صدقة
وفي الغنم في كل أربعين شأة، شأة، إلى عشرين ومائة، فإن زادت واحدة، فشأتان إلى
مائتين. فإن زادت، فثلاث شياه إلى ثلاث مائة. فإذا زادت على ثلاثمائة، ففي كل مائة
شأة. فإن لم تكن إلا تسع وثلاثون، فليس عليك فيها شيء.
(11/270)
الماشية خاصة مراتب بعضها فوق بعض وألغى ما بينهما، وجعل الصامت وما تخرج الأرض كله بمنزلة واحدة، إذا بلغت الخمس فصاعدا. ثم شرحه علي وابن عمر وإبراهيم وعمر بن عبدالعزيز بقولهم وما زاد فبالحساب. وقال الخطابي في المعالم: (ج2 ص14) في قوله ليس فيما دون خمس أواق صدقة دليل على أن ما زاد على المائتين، فإن الزكاة تجب فيه بحسابه لأن في دلالته إيجابا في الخمس الأواقي وفيما زاد عليه، وقليل الزيادة وكثيرها سواء في مقتضى الاسم ولا خلاف في أن فيما زاد على الخمسة الأوسق من التمر صدقة قلت الزيادة أو كثرت. وقد اسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة عن الخمسة الأوسق كما أسقطها عما نقص عن الخمس الأواق، فوجب أن يكون حكم ما زاد على الخمس الأواقي من الورق حكم الزيادة على الخمسة الأوسق لأن مخرجهما في اللفظ مخرج واحد- انتهى. واستدل ابن حزم لذلك بما تقدم من قوله عليه السلام في كتاب أبي بكر الصديق وفي الرقة ربع العشر الخ. قال ابن حزم: أوجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصدقة في الرقة ربع العشر عموما لم يخص عن ذلك شيئا إلا ما كان أقل من خمس أواقي فبقي ما زاد على ذلك على وجوب الزكاة فيه، فلا يجوز تخصيص شيء منه أصلا - انتهى. واستدل لذلك أيضا بما روى أبوعبيد (ص420) وعبدالرزاق عن علي وعبدالرزاق وابن أبي شيبة (ج3 ص7) وأبوعبيد (ص421) عن ابن عمر قالا في كل مائتي درهم خمسة دراهم وما زاد فبالحساب، وهذا القول هو الراجح المعول عليه المعول به عندنا والله تعالى أعلم. (في كل أربعين) بدل من في الغنم بإعادة الجار (شأة) قال القاري: تمييز للتأكيد كما في قوله تعالى: ?ذرعها سبعون ذراعا? [الحاقة: 32]. قال الطيبي: وليس شاة ههنا تمييزا مثله في قوله في كل أربعين درهما درهم، لأن درهما بيان مقدار الواحد من أربعين ولا يعلم هذا من الرقة فيكون شاة هنا لمزيد التوضيح ونظر فيه ابن حجر (شأة) مبتدأ مؤخر "وفي الغنم"
(11/271)
خبره. قال القاري: ثم الظاهر
إن لفظ "كل" زائدة، أو المراد بها استغراق أفراد الأربعين ليفيد تعلق
الزكاة بكل من أربعين أو الواجب شاة مبهمة. والحاصل إنها ليست مثلها في كل أربعين
درهما درهم، وإلا لفسد المعنى إذ لا تتكر الزكاة هنا بتكرر الأربعين إجماعا ثم لا
شيء فيما زاد على الأربعين. (إلى عشرين ومائة فإن زادت واحدة فشأتان إلى مائتين
فإن زادت) أي واحدة أو الغنم على مأتين (فثلاث شياه إلى ثلاث مائة فإذا زادت) أي
الشأة (على ثلاث مائة) مائة أخرى لا ما دونها (ففي كل مائة شاة فإن لم تكن)
بالتأنيث وفي أبي داود فإن لم يكن بالتذكير (إلا تسع وثلاثون) من الغنم (فليس عليك
فيها شيء) لأنها لم تبلغ النصاب، وليس في هذا الحديث عند أبي داود ما ذكر المصنف
من سياق صدقة الغنم فإن أباداود لم يذكر سياقه بل أحاله
وفي البقر في كل ثلاثين تبيع، وفي الأربعين مسنة)).
(11/272)
على حديث الزهري ولفظه "وفي الغنم في كل أربعين شاة شأة فإن لم يكن إلا تسع وثلاثون فليس عليك فيها شيء" وساق صدقة الغنم مثل الزهري - انتهى. أي وساق أبوإسحاق صدقة الغنم كما تقدم في حديث سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه (وفي البقر) اسم جنس للمذكر والمؤنث إشتقت من بقرت الشيء إذا شققته، لأنها تبقر الأرض بالحراثة. وفيه دليل على وجوب الزكاة في البقر، قال ابن قدامة: (ج2 ص591) صدقة البقر واجبة بالسنة والإجماع. أما السنة فما روى أبوذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمن فتنطحه بقرونها الحديث. وقد تقدم في أوائل الزكاة ثم ذكر ابن قدامة حديث معاذ الآتي وحديثا آخر له عن مسند الإمام أحمد. ثم قال: وأما الإجماع فلا أعلم اختلافا في وجوب الزكاة في البقر. وقال أبوعبيد: (ص379) لا أعلم الناس يختلفون فيه اليوم (في كل ثلاثين) أي بقرا (تبيع) هو ما تم له الحول من ولد البقر وطعن في السنة الثانية سمي به، لأنه فطم عن أمه فهو يتبعها وتجزيء عنه تبيعة بل أولى للأنوثة (وفي الأربعين) من البقر (مسنة) هي التي استكملت سنتين وطعنت في الثالثة وهي الثنية وسميت بذلك لأنها طلعت سنها والاقتصار على المسنة يدل على أنه لا يجزيء المسن ولكن أخرج الطبراني عن ابن عباس مرفوعا في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسن أو مسنة. قال الهيثمي: وفيه ليث ابن أبي سليم وهو ثقة لكنه مدلس - انتهى. وهذا يدل على أنها لا تتعين الأنوثة في البقر بخلاف الإبل، وسيأتي مزيد من الكلام عليه في شرح الحديث الذي يليه. والحديث دليل على أن نصاب الزكاة في البقر ما ذكر فيه. قال ابن عبدالبر: في الاستذكار لا خلاف بين العلماء إن السنة في زكاة البقر ما في حديث معاذ الآتي وإنه النصاب المجمع عليه فيها - انتهى. وفيه دلالة على أنه لا يجب فيما دون الثلاثين شيء وفيه
(11/273)
خلاف الزهري. فقال: يجب في كل
خمس شاة قياسا على الإبل. وأجاب الجمهور بأن النصاب لا يثبت بالقياس وبأنه قد روى
(النسائي) ليس فيما دون ثلاثين من البقر شيء وهو وإن كان مجهول الإسناد فمفهوم
حديث معاذ يؤيده كذا في سبل السلام. وقال ابن قدامة: لا زكاة فيما دون الثلاثين من
البقر في قول جمهور العلماء، وحكى عن سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا: في كل
خمس شاة لأنها عدلت الإبل في الهدى والأضحية فكذلك في الزكاة، ولنا ما تقدم من
الخبر، ولأن نصب الزكاة إنما ثبتت بالنص والتوقيف وليس فيما ذكراه نص ولا توقيف
فلا يثبت وقياسهم فاسد فإن خمسا وثلاثين من الغنم تعدل خمسا من الإبل في الهدى ولا
زكاة فيها- انتهى. ثم قال ابن حجر: ولا شيء فيما زاد على الأربعين حتى تبلغ سنتين
ففيها تبيعان ثم يتغير الفرض بزيادة عشر فعشر، ففي كل أربعين مسنة وفي كل ثلاثين
تبيع - انتهى. وقال الخطابي في المعالم: (ج2 ص30) في الحديث دليل على أن البقر إذا
زادت على الأربعين لم يكن فيها شيء حتى تكمل ستين، ويدل على صحة ذلك ما روى عن
معاذ أنه أتى بوقص البقر فلم يأخذه، ومذهب أبي حنيفة إن ما
وليس على العوامل شيء.
1815- (7) وعن معاذ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لما وجهه إلى اليمن، أمره
أن يأخذ من البقرة، من كل ثلاثين تبيعا، أو تبيعة. ومن كل أربعين مسنة)).
(11/274)
زاد على الأربعين فبحسابه - انتهى. وسيأتي تفصيل الكلام عليه في شرح الحديث الذي يليه. (وليس على العوامل شيء) "على" بمعنى في أو التقدير على صاحب العوامل وعند الدارقطني في حديث عاصم ليس في البقر العوامل شيء، وفي حديث الحارث ليس على البقر العوامل شيء وهي جمع عاملة وهي التي يستقي عليها ويحرث وتستعمل في الاشتغال. وفيه دليل على أنه لا يجب في البقر العوامل شيء ولو بلغت نصابا، وظاهره سواء كانت سائمة أو معلوفة وقد ثبتت شرطية السوم في الغنم في حديث أبي بكر المتقدم. وفي الإبل في حديث بهز عند أبي داود والنسائي. قال الدميري: وألحقت البقر بهما. قال ابن قدامة: لا زكاة في غير السائمة من البقر في قول الجمهور وحكى عن مالك إن في العوامل والمعلوفة صدقة كقوله في الإبل وقد تقدم الكلام معه، ثم ذكر حديث عليه هذا وما روى في نفي الصدقة عن البقر العوامل من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص مرفوعا، ومن آثار الصحابة كعلي ومعاذ وجابر. قال ولأن صفة النماء معتبرة في الزكاة ولا يوجد إلا في السائمة - انتهى. وحديث على هذا أخرجه ابن عدي في الكامل عن زيد بن حبان الكوفي عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهما درهم، وما زاد فبحساب ذلك- انتهى. ولين زيد بن حبان. وقال: لا أرى برواياته بأسا - انتهى.
(11/275)
1815- قوله: (وعن معاذ) بضم الميم (وجهه) أي بعثه (إلى اليمن) عاملا على الزكاة وغيرها (من البقر) وفي بعض النسخ من البقر كما في أبي داود والنسائي والدارمي والتاء في بقرة للوحدة لا للتأنيث فيقع على الذكر والأنثى والمراد الجنس (تبيعا أو تبيعة) فيه أنه مخير بين الأمرين (ومن كل أربعين مسنة) يعني أو مسنا كما تقدم في حديث ابن عباس عند الطبراني. واختلف العلماء فيه، فذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى أنه لا يجزيء فيها المسن أي الذكر، وقال أبوحنيفة: ذكورها وإناثها في الصدقة سواء. قال في المبسوط: لا فرق بين الذكر والإناث في زكاة البقر بخلاف الإبل فإنه لا يؤخذ منها إلا الإناث، وذلك لتقارب ما بين الذكور والإناث في الغنم والبقر وتباين ما بينهما في الإبل - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج2 ص593) لا يخرج الذكر في الزكاة أصلا إلا في البقر فإن ابن اللبون ليس بأصل، إنما هو بدل عن ابنة مخاض. ولهذا لا يجزيء مع وجودها وإنما يجزيء الذكر في البقر عن الثلاثين وما تكرر منها كالستين والسبعين، وما تركب من الثلاثين
(11/276)
وغيرها كالسبعين فيها تبيع ومسنة والمائة فيها مسنة وتبيعان، وإن شاء أخرج مكان الذكور إناثا لأن النص ورد بهما جميعا، فأما الأربعون وما تكرر منها كالثمانين فلا يجزيء في فرضها إلا الإناث إلا أن يخرج عن المسنة تبيعين فيجوز، وإذا بلغت البقر مائة وعشرين اتفق الفرضان جميعا فيخير رب المال بين إخراج ثلاث مسنات، أو أربع أتبعه، والواجب أحدهما أيهما شاء، والخيرة في الإخراج إلى رب المال. وهذا التفصيل فيما إذا كان فيها إناث فإن كانت كلها ذكورا أجزأ الذكر فيها بكل حال، ويحتمل أنه لا يجزئه إلا إناث في الأربعينات. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على المسنات في حديث معاذ عند أحمد فيجب إتباع مورده فيكلف شراءها والأول. أولى لأننا أجزنا المذكر في الغنم مع أنه لا مدخل له في زكاتها مع وجود الإناث، فالبقر التي للذكر فيها مدخل أولى انتهى. قلت: والراجح عندي أنه يجزيء المسن عن الأربعين لحديث ابن عباس المتقدم والله تعالى أعلم. هذا وقد اختلفوا فيما زاد على الأربعين فذهب أكثر أهل العلم، ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وأبويوسف ومحمد والثوري والنخعي والشعبي والحسن وإسحاق وأبوعبيد وطاووس وعمر بن عبدالعزيز والليث وأبوثور، لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين فإذا بلغتها ففيها تبيعان إلى تسع وستين، فإذا بلغت سبعين ففيها مسنة وتبيع، ثم هكذا أبدا لا شيء فيها حتى تبلغ عشرا زائدة، فإذا بلغتها ففي كل ثلاثين من العدد تبيع وفي كل أربعين مسنة. وقال أبوحنيفة في الرواية المشهورة عنه: فيما زاد على الأربعين بحسابه في كل بقرة ربع عشر مسنة، وهكذا إلى ستين فرارا من جعل الوفص تسعة عشر وهو مخالف لجميع أوقاصها فإن جميع أوقاصها عشرة عشرة، فإذا بلغت الستين ففيها تبيعان ثم لا شيء فيها إلا في كل عشرة زائدة. قال في الهداية: إذا زادت على أربعين وجب في الزيادة بقدر ذلك إلى ستين عند أبي حنيفة، ففي الواحدة ربع عشر مسنة
(11/277)
وهكذا وهو رواية الأصل، لأن العفو ثبت نصا بخلاف القياس ولا نص ههنا. وروى الحسن عن أبي حنفية أنه لا يجب في الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين، ثم فيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع لأن مبني هذا النصاب على أن يكون بين عقدين وقص وفي كل عقد واجب. وقال أبويوسف ومحمد: لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين وهو رواية عن أبي حنيفة. قال العيني: وبه قال مالك والشافعي وأحمد: وفي المحيط هو أوفق الروايات عن أبي حنفية وفي جوامع الفقه هو المختار - انتهى. قلت: وهو القول الراجح المعول عليه عندنا لما روى أحمد (ج5 ص240) والطبراني من طريق ابن وهب عن حيوة بن شريح عن يزيد بن أبي حبيب عن سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم إن معاذا قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أصدق أهل اليمن وأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا، ومن كل أربعين مسنة. قال: فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين وبين الستين والسبعين، وما بين الثمانين والتسعين فأبيت ذاك. وقلت لهم حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقدمت فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم -
(11/278)
فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين ومن السبعين مسنة وتبيعا، ومن الثمانين مسنتين ومن التسعين ثلاث أتبعة، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشرة ومائة مسنتين وتبيعا، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات، أو أربعة أتبعه. قال: وأمرني أن لا أخذ فيما بين ذلك شيئا إلا أن تبلغ مسنة أو جذعا وزعم إن الأوقاص لا فريضة فيها - انتهى. قال ابن قدامة: (ج2 ص593) هذا صريح في محل النزاع وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة، يدل على أن الاعتبار بهذين العددين، ولأن البقر أحد بهيمة الأنعام، ولا يجوز في زكاتها كسر كسائر الأنواع، ولا ينقل من فرض فيها إلى فرض بغير وقص كسائر الفروض، ولأن هذه زيادة لا يتم بها أحد العددين فلا يجب فيها شيء كما بين الثلاثين والأربعين، وما بين الستين والسبعين. ومخالفة قول أبي حنيفة المشهور للأصول أشد من الوجوه التي ذكرناها على أن أوقاص الإبل والغنم مختلفة، فجاز الاختلاف ههنا - انتهى. قلت: حديث معاذ المذكور أخرجه أبوأحمد ابن زنجوية في كتاب الأموال، من طريق بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم. وأخرجه أيضا أبوعبيد في الأموال (ص383) من هذا الطريق، إلا أنه قال عن سلمة بن أسامة إن معاذ بن جبل قال بعثني الخ ولم يذكر يحيى بن الحكم. ونقل الزيلعي عن صاحب التنقيح أنه قال: هذا أي حديث معاذ المذكور حديث فيه إرسال، وسلمة بن أسامة ويحيى بن الحكم غير المشهورين ولم يذكرهما ابن أبي حاتم في كتابة - انتهى. واعترض بعض العلماء على هذا الحديث بأن معاذا لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه من اليمن، بل توفي عليه السلام قبل قدوم معاذ من اليمن. قلت: اختلفت الروايات في قدوم معاذ على النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن بعد أن أرسله، ففي رواية مالك من طريق طاووس عن معاذ فتوفي النبي
(11/279)
- صلى الله عليه وسلم - قبل أن
يقدم معاذ، وهذا منقطع طاووس لم يدرك معاذا. وفي حديث ابن مسعود عند الحاكم (ج3
ص272) وقد صححه كان معاذ شابا سمحا فلم يزل يدان حتى أغرق ماله الحديث في تأمير
النبي - صلى الله عليه وسلم - له على اليمن، وفيه فلم يزل فيها حتى توفي النبي -
صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع معاذ فوافي عمر بمكة أميرا على الموسم وعن كعب بن
مالك نحوه (ج3 ص273) وصححه أيضا وعن جابر بمعناه (ج3 ص274) وسكت عنه. وروى ابن سعد
من طريق أبي وائل استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا على اليمن فتوفي
النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف أبوبكر ومعاذ باق باليمن ويعارض هذه
الأحاديث ما روى الدارقطني (ص202) والبيهقي (ج4 ص99) والبزار وابن حزم (ج6 ص6) من
حديث بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاووس عن ابن عباس قال: بعث رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - معاذا إلى اليمن الحديث. وفيه فلما رجع سأل رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عنه يعني الوقص فقال: ليس فيها شيء، تفرد به بقية عن المسعودي
والمسعودي قد اختلط، وتابعه الحسن بن عمارة عن الحكم، والحسن بن عمارة متروك. وما
روى أبويعلى
رواه أبو داود والترمذي والنسائي والدارمي.
(11/280)
وغيره بإسناد فيه ضعف، من طريق صهيب إن معاذا لما قدم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن سجد له. فقال ما هذا يا معاذ: إني وجدت اليهود والنصارى يسجدون لعظمائهم، وقالوا هذه التحية أنبياءنا قال - صلى الله عليه وسلم -: كذبوا على أنبياءهم الحديث. وأخرج أحمد من وجه آخر (ج5:ص227) نحوه ذكر هذه الأحاديث المتعارضة الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في الدراية: وسكتا عن الترجيح أو الجمع. وقال القاري: بعد ذكر هذه الروايات، ولعل الجمع بتعدد الواقعة. وقال الحافظ في الفتح: اتفقوا على أن معاذا لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها. وقال في الإصابة في ترجمته: قدم من اليمن في خلافة أبي بكر وكانت وفاته بالطاعون في الشام سنة سبع عشرة أو التي بعدها وهو قول الأكثر- انتهى. (رواه أبوداود والترمذي والنسائي والدارمي) واللفظ لأبي داود وأخرجه أيضا أحمد (ج5:ص230) وابن ماجه وابن حبان والحاكم (ج1:ص398) والدارقطني (ص203) والبيهقي (ج4:ص98) كلهم من طريق الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ، وصححه ابن حبان والحاكم وأقره الذهبي وحسنه الترمذي. وقال ابن عبدالبر: في التمهيد ولاستذكار إسناده متصل صحيح ثابت وكذا قال ابن بطال كما في الفتح. وأعله عبدالحق في أحكامه فقال مسروق لم يلق معاذا. وقال الحافظ في الفتح: في الحكم بصحته نظر، لأن مسروقا لم يلق معاذا، وإنما حسنه الترمذي لشواهده وبالغ ابن حزم في المحلي (ج6:ص11) أولا في تقرير إن هذا الحديث منقطع ثم استدركه في آخر المسألة، ورجع عن رأيه هذا حيث قال: (ج6:ص16) وجدنا حديث مسروق إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر، وهو بلا شك قد أدرك معاذا وشهد حكمه وعمله المشهور المنتشر، فصار نقله لذلك، ولأنه عن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلا عن الكافة عن معاذ بلا شك فوجب القول به - انتهى. وقال ابن القطان: لا أقول إن مسروقا سمع من
(11/281)
معاذ إنما أقول إنه يجب على
أصولهم أن يحكم بحديثه عن معاذ، بحكم حديث المتعاصرين الذين لم يعلم انتفاء اللقاء
بينهما، فإن الحكم فيه أن له بالاتصال عند الجمهور. وشرط البخاري وابن المديني أن
يعلم إجتماعهما ولو مرة واحدة، فهما إذا لم يعلما لقاء أحدهما للآخر لا يقولون في
حديث أحدهما عن الآخر منقطع، إنما يقولان لم يثبت سماع فلان من فلان فإذن ليس في
حديث المتعاصرين إلا رأيان أحدهما: أنه محمول على الاتصال. والآخر أن يقال لم يعلم
اتصال ما بينهما. فأما الثالث وهو أنه منقطع فلا - انتهى. وقال الأمير اليماني:
وأجيب عن دعوى الانقطاع بأن مسروقا همداني النسب من وداعة يماني الدار، وقد كان في
أيام معاذ باليمن فاللقاء ممكن بينهما، فهو محكوم باتصاله على رأي الجمهور- انتهى.
قلت: فالاحتجاج بحديث مسروق عن معاذ هذا تام صحيح على رأي الجمهور، وعلى ما وجه
ابن حزم هذا. وقد أشار الترمذي وأبوداود إلى اختلاف
1816- (8) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المعتدي في الصدقة،
كمانعها)).
(11/282)
في وصله. قال الترمذي بعد تحسينه: وروى بعضهم هذا الحديث عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق أن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا أي المرسل أصح أي من رواية مسروق عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا رجح الدارقطني في العلل الرواية المرسلة، وهذه الرواية المرسلة أخرجها ابن أبي شيبة (ج3:ص12) وأبوعبيد (ص378) بسنديهما. قلت: والحديث له طرق أخرى وشواهد قد اعتضد بعضها ببعض، فمنها: عن أبي وائل عن معاذ وهي عند أحمد (ج5: ص233-247) وأبي داود والنسائي. ومنها: عن إبراهيم النخعي عن معاذ، وهي عند النسائي والدارمي والبيهقي. ومنها: عن إبراهين النخعي عن مسروق عن معاذ، وهي عند أبي داود والنسائي والدارقطني والبيهقي. ومنها: عن طاووس عن معاذ، وهي في موطأ مالك. قال في الإمام: ورواية إبراهيم عن معاذ منقطعة بلا شك، ورواية طاووس عن معاذ كذلك قال الشافعي وطاووس عالم بأمر معاذ، وإن كان لم يلق لكثرة من لقيه مما أدرك معاذا وهذا مما لا أعلم من أحد فيه خلافا - انتهى. وقال البيهقي: طاووس وإن لم يلق معاذا إلا أنه يماني وسيرة معاذ بينهم مشهورة - انتهى. ومنها: عن يحيى بن الحكم عن معاذ، وهي عند أحمد وقد تقدم. وأما الشواهد. فمنها: حديث ابن مسعود عند الترمذي وابن ماجه والبيهقي وهو منقطع، ورواه ابن الجارود في المنتقي موصولا. ومنها: حديث طاووس عن ابن عباس عند الدارقطني والبيهقي والبزار وابن حزم وهو ضعيف. وتقدم الإشارة إليه، ولابن عباس حديث آخر عند الطبراني والدارقطني، من طريق ليث عن مجاهد وطاووس عن ابن عباس. وقد تقدم الإشارة إليه أيضا. ومنها: حديث أنس عند البيهقي (ج4:ص99) واختلف في وصله ورجح الدارقطني الإرسال. ومنها: حديث عمرو بن حزم الطويل عند الحاكم والبيهقي والطبراني. ومنها: حديث علي الذي قبل هذا الذي نحن في شرحه.
(11/283)
1816- قوله: (المعتدي في صدقة
كمانعها) الاعتداء مجاوزة الحد، فيحتمل أن يكون المراد به المالك الذي يعتدى
بإعطاء الزكاة غير مستحقيها أي يعطيها في غير المصرف، أو الذي يجاوز الحد في
الصدقة بحيث لا يبقى لعياله شيئا، أو الذي يعتدى بكتم بعضها أو وصفها على الساعي
حتى أخذ منه مالا يجزئه، أو ترك عنه بعض ما هو عليه كمانعها من أصلها في الإثم. أو
المراد الساعي الذي يأخذ أكثر وأجود من الواجب، لأنه إذا فعل ذلك سنة فصاحب المال
يمنعه في السنة الأخرى، فيكون سببا للمنع فشارك المانع في إثم المنع. قال المظهر:
يعني العامل الذي يأخذ في الزكاة أكثر من القدر الواجب، ويظلم أرباب الأموال هو في
الوزر كالذي لا يعطي الزكاة، ويظلم الفقراء بمنع الزكاة عنهم، وكذلك العامل يظلم
أرباب الأموال بأخذ الزيادة منهم - انتهى. وقال البغوي في
رواه أبوداود والترمذي.
1817- (9) وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس في حب ولا
تمر صدقة، حتى يبلغ خمسة أوسق)). رواه النسائي.
1818- (10) وعن موسى بن طلحة
(11/284)
شرح السنة: معنى الحديث إن على
المعتدى في الصدقة من الإثم ما على المانع فلا يحل لرب المال، كتمان المال، وإن
اعتدى عليه الساعي- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: الظاهر إن المراد بالمعتدى
في الصدقة العامل المعتدى في أخذ الصدقة، ويؤيده حديث بشير بن الخصاصية. قال: قلنا
إن أهل الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون قال: لا. رواه
أبوداود (رواه أبوداود والترمذي) وأخرجه أيضا ابن ماجه وأبوعبيد (ص401) والبيهقي
(ج4:ص97) وابن خزيمة في صحيحه كلهم من رواية سعد بن سنان عن أنس. وقال الترمذي:
حديث غريب. وقد تكلم أحمد بن حنبل في سعد بن سنان - انتهى. قلت: سعد بن سنان هذا
كندي مصري، واختلف في إسمه فقيل: هكذا. وقيل: سنان بن سعد، وصوب هذا الثاني
البخاري وابن يونس، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. قال الجوزجاني: أحاديثه
واهية. وقال النسائي وابن سعد منكر الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال أحمد: لم
أكتب أحاديثه لأنهم اضطربوا فيه وفي حديثه. وقال ابن معين: ثقة. ونقل ابن القطان
إن أحمد يوثقه. وقال المنذري: في آخر الترغيب بعد ذكر الجروح المذكورة. وروى عن
أحمد توثيقه وحسن الترمذي حديثه، واحتج به ابن خزيمة في صحيحه في غير ما موضع -
انتهى. وقال الحافظ في التقريب: صدوق له أفراد - انتهى. فالظاهر أنه من رجال
الحسن، وإن حديثه هذا حسن والله تعالى أعلم.
1817- قوله: (ليس في حب ولا تمر) أي ولا زبيب (صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق) تقدم
بيانه، وقد استدل بعضهم بمفهوم الحديث على أنه لا زكاة فيما ليس بحب، كالزعفران
والعصفر والقطن وغيرها من الأزهار وكالجزر والبطاطة والخيار والقثاء وغيرها من
الخضر والبقول. وفي هذا الاستدلال نظر، فإن المتبادر إن هذا بيان للنصاب في الحب
والتمر لا لحصر الزكاة فيهما (رواه النسائي) بل رواه مسلم أيضا، فكان ينبغي إيراده
في الفصل الأول. وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج4:ص128).
(11/285)
1818- قوله: (وعن موسى بن
طلحة) أي ابن عبيدالله القرشي التيمي يكنى أباعيسى وأبامحمد المدني نزيل الكوفة
ثقة جليل من كبار التابعين.وقال ابن عساكر: يقال أنه ولد في عهد النبي - صلى الله
عليه وسلم - وسلم وسماه.
قال: ((عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: إنما
أمره أن يأخذ الصدقة،
وقال ابن الهمام: لم يثبت هذا. وذكره الحافظ في الإصابة في القسم الثاني من حرف
الميم، أي فيمن ذكر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم، لبعض الصحابة ممن مات صلى الله عليه وسلم وهو في دون سن التميز. قال الحافظ:
لكن أحاديث هؤلاء عنه من قبيل المراسيل عند المحققين - انتهى. روى عن أبيه طلحة بن
عبيدالله أحد العشرة المبشرة، وعن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهم من
الصحابة، وعنه ابنه عمران وحفيده سليمان وابنا أخيه إسحاق، وطلحة إبنا يحيى بن
طلحة، وعمرو بن عثمان وغيرهم مات سنة ثلاث ومائة على الصحيح (قال عندنا كتاب معاذ
بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم) قال القاري: قال بعضهم أخذا من كلام الطيبي
إن تعلق عن النبي صلى الله عليه وسلم: بقوله عن موسى بن طلحة كان الحديث مرسلا
لأنه تابعي، ويكون قوله عندنا كتاب معاذ معترضا ولا معنى له. قلت: قائله القاري) بل
معناه إن كتابه بهذا المضمون أو موافق للرواية لفظا ومعنى. ويؤيده قوله
"قال" ويقويه قول المؤلف مرسل. قال: وإن تعلق بقوله عندنا كتاب معاذ كان
حالا من ضمير كتاب في الخبر، أي صادرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يكون
الحديث مرسلا بل يكون هذا وجادة - انتهى. قال القاري: لكن يتوقف كونه وجادة على
ثبوت كون الكتاب بخط معاذ. قال ثم رأيت الطيبي قال: هذا من باب الوجادة، لأنه من
باب نقل من كتاب الغير من غير إجازة ولا سماع ولا قراءة - انتهى. قلت: الحق
والصواب إن قوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - متعلق بقوله
(11/286)
عندنا كتاب معاذ، وهو من باب
الوجادة بشرط أن يكون الكتاب المذكور بخط معاذ. والوجادة المصطحلة هي أن يقف على
أحاديث بخط، راويها غير المعاصر له أو المعاصر ولم يلقه أو لقيه ولم يسمع منه أو
سمع منه، ولكن لا يروي تلك الأحاديث الخاصة عنه بسماع ولا إجازة. فله أن يقول وجدت
أو قرأت بخط فلان عن فلان، وهو من باب المنقطع لكن فيه شوب إتصال لقوله وجدت بخط
فلان. وإذا وجد حديثا في تأليف شخص وليس بخطه، قال ذكر فلان أو قال فلان. وهذا
منقطع لا شوب من الاتصال فيه. وهذا كله إذا وثق بأنه خطه أو كتابه، وإلا فليقل
بلغني عن فلان أو وجدت عنه إلى آخر ما قال السيوطي في التدريب. وروى هذا الحديث
أبويوسف في الخراج (ص64) قال حدثنا عمرو بن عثمان عن موسى بن طلحة، أنه كان لا يرى
صدقة إلا في الحنطة والشعير والنخل والكرم والزبيب. قال: وعندنا كتاب كتبه النبي
صلى الله عليه وسلم لمعاذ، أو قال نسخة أو وجدت نسخة هكذا - انتهى. وهذا يدل على
أن المراد بكتاب معاذ في رواية الباب كتاب كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم -
لمعاذ في الصدقة، لا كتاب كتبه معاذ في الصدقة، وكيف ما كان الأمر الحديث مرسل كما
قال المؤلف (أنه) أي معاذا (قال إنما أمره) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن
يأخذ الصدقة) أي الزكاة وهي العشر أو نصفه ورواه أحمد (ج5:ص528) والحاكم (ج1:ص401)
والدارقطني (ص201)
من الحنطة والشعير والزبيب والتمر)). مرسل، رواه في شرح السنة.
(11/287)
والبيهقي (ج4:ص228) بلفظ: عن موسى بن طلحة. قال: عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه إنما أخذ الصدقة الخ. قال البيهقي: ورواه عبدالله بن الوليد العدني عن سفيان، وزاد فيه بعث الحجاج موسى بن المغيرة على الخضر والسواد، فأراد أن يأخذ من الخضر الرطاب والبقول. فقال موسى بن طلحة: عندنا كتاب معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمره أن يأخذ الخ. (من الحنطة والشعير والزبيب والتمر) فيه دليل على أنه لا زكاة إلا في هذه الأربعة واحتج به من قال بحصر العشر أو نصفه في الحنطة والشعير من الحبوب والتمر الزبيب من الثمار. وأجاب من لم يقل بذلك بأن الحديث منقطع كما تقدم وسيأتي أيضا، وبأنه ليس معناه أنه لا تجب الزكاة إلا في هذه الأربعة فقط، بل الزكاة واجبة فيما ينبته الآدميون إذا كان قوتا في حال الاختيار كما قال الشافعي أو إذا كان مكيلا مدخرا كما ذهب إليه أحمد، أو في جميع ما يقصد بزراعته نماء الأرض كما ذهب إليه أبوحنيفة وداود الظاهري. وإنما أمره أن يأخذ الزكاة من هذه الأربعة، لأنه لم يكن، ثم غير هذه الأربعة قال الطيبي: هذا إن صح بالنقل فلا كلام وإن فرض إن ثمة شيئا غير هذه الأربعة مما تجب الزكاة فيه، فمعناه أنه إنما أمره أن يأخذ الصدقة من المعشرات من هذه الأجناس، وغلب الحنطة والشعير على غيرهما، من الحبوب لكثرتهما في الوجود، وإصالتهما في القوت. واختلف فيما تنبت الأرض مما يزرعه الناس وتغرسه، فعند أبي حنيفة تجب الزكاة في الكل سواء كان قوتا أو غير قوت، فذكر التمر والزبيب عنده للتغليب أيضا. وقيل: الحصر فيه ليس حصرا حقيقيا، بل هو إضافي بالنسبة إلى الخضروات ونحوها. لما روى الدارقطني وغيره عن موسى بن طلحة عن معاذ مرفوعا، فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر، وفيما سقى بالنضح نصف العشر. وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب، فأما القثاء والبطخ والرمان والقصب فقد عفا عنه
(11/288)
رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وفيه إسحاق بن طلحة وهو ضعيف متروك. وقد تقدم بسط الكلام على هذه المسألة في شرح
حديث الأوساق (مرسل) أي منقطع. قال ابن حزم في المحلي (ج5:ص222) هذا منقطع لأن
موسى بن طلحة لم يدرك معاذا بعقله. وقال الحاكم: موسى بن طلحة تابعي كبير لم ينكر
له أن يدرك أيام معاذ أي لا ينكر له لقي معاذ. قال الحافظ: قد منع ذلك أبوزرعة.
وقال ابن عبدالبر: لم يلق معاذا ولا أدركه - انتهى. وقال ابن دقيق العيد: في
الاتصال بين موسى بن طلحة ومعاذ نظر، فقد ذكروا إن وفاة موسى سنة ثلاث ومائة،
وقيل: سنة أربع ومائة - انتهى. وقال ميرك: فيه شائبة الاتصال بواسطة الوجادة إن صح
إن الكتاب بخط معاذ (رواه في شرح السنة) وأخرجه أيضا أحمد والدارقطني والحاكم
والبيهقي، وفي معناه أحاديث أخرى ذكرناها في شرح حديث الأوساق.
1819- (11) وعن عتاب بن أسيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في زكاة الكروم،
إنها تخرص
(11/289)
1819- قوله: (وعن عتاب) بفتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية آخره موحدة (بن أسيد) بفتح الهمزة وكسر السين المهملة ابن أبي العيص بن أمية بن عبدشمس الأموي المكي صحابي. وكان أمير مكة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومات في يوم مات أبوبكر الصديق فيما ذكر الواقدي لكن ذكر الطبراني أنه كان عاملا على مكة لعمر سنة إحدى وعشرين كذا في التقريب. وقال ابن عبدالبر: استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة عام الفتح في خروجه إلى حنين، فحج بالناس سنة ثمان، وحج المشركون على ما كانوا عليه، ولم يزل على مكة حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقره أبوبكر فلم يزل عليها واليا إلى أن مات فكانت وفاته فيما ذكر الواقدي يوم مات أبوبكر الصديق وكان رجلا صالحا فاضلا، وكان عمره حين استعمل نيفا وعشرين سنة له عند أصحاب السنن حديث الخرص. رووه من رواية سعيد بن المسيب عنه. قال أبوداود وأبوحاتم: لم يسمع سعيد من عتاب. وقال ابن قانع: لم يدركه وقال المنذري: إن قطاعه ظاهر. لأن مولد سعيد في خلافة عمر (لسنتين مضتا من خلافة عمر) ومات عتاب يوم مات أبوبكر. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: في ترجمة سعيد بن المسيب بعد ذكر اختلاف أحمد ومالك وأبي حاتم في سماع سعيد من عمر ما لفظه. وقال ابن سعد: عن الواقدي لم أر أهل العلم يصححون سماعة من عمر، وإن كانوا قد رووه. قلت: قد وقع لي حديث بإسناد صحيح لا مطعن فيه تصريح بسماعه من عمر فذكره ثم قال: وأما حديثه عن بلال وعتاب بن أسيد فظاهر الانقطاع بالنسبة إلى وفاتيهما ومولده والله أعلم. وقال في ترجمة عتاب: روى الطيالسي والبخاري في تاريخه (ج4:ص54) من طريق أيوب عن عبدالله بن يسار عن عمرو بن عقرب، سمعت عتابا فذكر حديثا وإسناده حسن، ومقتضاه إن عتابا تأخرت وفاته عما قال الواقدي. لأن عمرو بن عقرب ذكره البخاري في التابعين وقال سمع عتابا، ويؤيد ذلك إن الطبري ذكر عتابا فيمن لا يعرف
(11/290)
تاريخ وفاته، وقال في تاريخه
إنه كان والي عمر سنة عشرين، وذكره قبل ذلك في سني عمر، ثم ذكره في سنة (22) ثم
قال في مقتل عمر سنة (23) قتل وعامله على مكة نافع بن عبدالحارث - انتهى. فهذا
يشعر بأن موت عتاب كان في أواخر سنة (22) أو أوائل سنة (23) فعلى هذا فيصح سماع
سعيد بن المسيب منه - انتهى. (قال في زكاة الكروم) أي في كيفية زكاتها وهي بضمتين،
جمع الكرم بفتح الكاف وسكون الراء وهو شجر العنب. قال ابن حجر: ولا ينافي تسمية
العنب كرما خبر الشيخين لا تسموا العنب كرما، فإن الكرم هو المسلم. وفي رواية:
فإنما الكرم قلب المؤمن لأنه نهى تنزيه على أن تلك التسمية من لفظ الراوي لم يبلغه
النهى أو خاطب به من لا يعرفه إلا به - انتهى. وسيأتي مزيد الكلام عليه في باب
الأسامي في شرح حديث النهى المذكور (إنها تخرص)
كما تخرص النخل، ثم تؤدي زكاة زبيبا، كما تؤدي زكاة النخل تمرا)).
(11/291)
على بناء المجهول من باب ضرب ونصر أي تحزر (بتقديم الزاي المعجمة على الراء المهملة) من خرص الكرمة والنخلة يخرصها خرصا بفتح المعجمة وسكون الراء إذا قدر ما عليها من الرطب تمرا، ومن العنب زبيبا. قال السندي: الخرص هو تقدير ما على النخل من الرطب تمرا، وما على الكروم من العنب زبيبا، ليعرف مقدار عشره ثم يخلى بينه وبين مالكه، ويؤخذ ذلك المقدار وقت قطع الثمار. وحكى الترمذي عن بعض أهل العلم إن تفسيره إن الثمار إذا أدركت من الرطب والعنب مما فيه الزكاة بعث السلطان خارصا ينظر، فيقول يخرج من هذا كذا وكذا زبيبا، أو كذا وكذا تمرا، فيحصيه وينظر مبلغ العشر من ذلك، فيثبته عليهم ويخلى بينهم وبين الثمار، فإذا جاء وقت الجذاذ أخذ منهم العشر- انتهى. وفائدة الخرص التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها، والبيع من زهوها، وإيثار الأهل والجيران والفقراء لأن في منعهم تضييقا لا يخفى. قال الأمير اليماني: فائدة الخرص أمن الخيانة من رب المال، ولذلك يجب عليه البينة في دعوى النقص بعد الخرص وضبط حق الفقراء على المالك ومطالبة المصدق بقدر ما خرصه وانتفاع المالك بالأكل ونحوه. وقال الخطابي: فائدة الخرص ومعناه إن الفقراء شركاء أرباب الأموال في الثمر، فلو منع أرباب الأموال من حقوقهم ومن الانتفاع بها إلى أن تبلغ الثمرة غاية جفافها لا ضرر ذلك بهم، ولو انبسطت أيديهم فيها لا خل ذلك بحصة الفقراء منها، إذا ليس مع كل أحد من التقية ما تقع به الوثيقة في أداء الأمانة، فوضعت الشريعة هذا العيار ليتوصل به أرباب الأموال إلى الإنتفاع ويحفظ على المساكين حقوقهم. وإنما يفعل ذلك عند أول وقت بدو صلاحها، قبل أن يؤكل ويستهلك ليعلم حصة الصدقة منها فيخرج بعد الجفاف بقدرها تمرا وزبيبا - انتهى. كما تخرص النخل ثم تؤدي زكاته) أي المخروص (زبيبا) هو اليابس من العنب يعني إذا ظهر في العنب وثمر النخل حلاوة يخرص على المالك ويقدر الخارص،
(11/292)
إن هذا العنب إذا صار زبيبا كم
يكون. وكذلك الرطب إذا صار تمرا كم يكون، ثم ينظر فإن كان نصابا يجب عليه زكاته
وإن لم يكن نصابا لم يجب عليه (كما تؤدي زكاة النخل تمرا) قال الخطابي: إنما يخرص
من الثمر ما يحيط به البصر بارزا لا يحول دونه حائل، ولا يخفى موضعه في خلال ورق
الشجر والعنب في هذا المعنى كثمرا النخل. فأما سائر الثمار فإنها لا تجري فيها
الخرص لأن هذا المعنى فيها معدوم - انتهى. وقيل: إن حكمة جعل النخل فيه أصلا مقيسا
عليه، إن خيبر فتحت أول سنة سبع وبها نخل، وقد بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم
عبدالله بن رواحة. فخرصها فلما فتح الطائف وبها العنب الكثير أمر بخرصه كخرص النخل
المعروف عندهم ذكره صاحب البيان وهو الأحسن. أو إن النخل كانت عندهم أكثر وأشهر
كذا في المرقاة. والحديث دليل على مشروعية الخرص في العنب والنخل واليه ذهب أكثر
أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب وسهل بن أبي حثمة
.................................
(11/293)
ومروان والقاسم بن محمد وعطاء والزهري، وعمرو بن دينار ومالك والشافعي وأحمد وأبوعبيد وأبوثور. ثم اختلفوا هل هو واجب أو مستحب أو جائز؟ فقال الشافعي: في أحد قوليه بوجوبه مستدلا بما في حديث عتاب بن أسيد عند أبي داود والنسائي وغيرهما من أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمر أن يخرص العنب كما يخرص النخل. إلخ. قال الأمير اليماني: قول الراوي "أمر" يفهم منه أنه أتى صلى الله عليه وسلم بصيغة تفيد الأمر والأصل فيه الوجوب. وقال الجمهور هو مستحب (وهي رواية عن الشافعي) إلا أن تعلق به حق لمحجور مثلا أو كان شركاءه غير مؤتمنين فيجب لحفظ مال الغير. وروى عن الشافعي أيضا أنه جائز فقط. قال العيني: وقال الشعبي والثوري وأبوحنيفة وأبويوسف ومحمد: الخرص مكروه. وقال الشعبي: الخرص بدعة. وقال الثوري: خرص الثمار لا يجوز. وقال ابن رشد قال أبوحنيفة وصاحباه: الخرص باطل وعلى رب المال أن يؤدي عشر ما تحصل بيده زاد على الخراص أو نقص منه. وقال في المسوى قالت الحنفية: الخرص ليس بشئ، وأولوا ما روى من ذلك بأنه كان تخويفا للأكرة لئلا يخونوا، فأما أن يكون به حكم فلا - انتهى. قال صاحب العرف الشذي: اعتبر الخرص الحنفية أيضا إلا أنهم لم يجعلوه حجة ملزمة وأمرا فاصلا، فإن وقع الاختلاف بين الخارص والمالك لا يقضى عليه بقول الخارص فقط، ومن سوء بعض عبارات أصحابنا نسب إلينا عدم اعتباره مطلقا وليس بصواب. فإن الأحاديث قد وردت به صراحة - انتهى. وقال صاحب الكوكب الدري: الخرص بالمعنى الذي بينه الترمذي جوزه الإمام أبوحنيفة في العشر والخراج - انتهى. وهذا كما ترى مخالف لما نسبه شراح الحديث وغيرهم إلى الحنفية من أنهم انكروا الخرص مطلقا. وقالوا ببطلانه وكراهته. ووجه بعضهم هذا الاختلاف بأن محمل قول من حكى عن الحنفية بأن الخرص باطل أو ليس بشئ هو إلزام مقدار معين من العشر بذلك الخرص فإنه باطل، لأنه تخمين وليس بحجة ملزمة، ومن حكى
(11/294)
الكراهة أراد أخذ التمر بدل
الرطب بالخرص، فإنه من البيوع المنهية في الأحاديث. ومن حكى الجواز والاعتبار أراد
جواز الخرص لمجرد التخمين والطمأنينة بغلبة الظن لتخويف الأكرة، ولئلا يتجاسروا
على إضاعة العشر والخراج - انتهى. قلت: إعتلال الحنفية عن أحاديث الخرص بما روى من
النهى عن الخرص وبأنه من المزابنة المنهي عنها وبأن جوازه منسوخ بنسخ الرباء،
وبأنه كان قبل تحريم القمار، وبأنه تخمين وغرور صريح في أن مذهب الحنفية هو عدم
جواز الخرص وعدم اعتباره مطلقا، وهذا مستلزم للقول ببطلانه وإنه ليس بشئ. وأما ما
نسب إليهم صاحب العرف الشذي وغيره من القول بجوازه فلا أثر له في شئ من كتب
فروعهم، والظاهر إن هؤلاء لما رأو قول الكراهة والبطلان مخالفا للسنة الثابتة
الصريحة، ذهبوا إلى جوازه وإعتباره ثم نسبوه إلى الحنفية وجعلوه مذهبا لهم، فرارا
من إلزام مخالفة السنة ومنابذته قلت: واستدل الجهور لمشروعية الخرص بأحاديث منها
حديث عتاب وهو حديث حسن كما ستعرف.
.................................
(11/295)
ومنها حديث أبي حميد الساعدي الطويل عند الشيخين في خرصه - صلى الله عليه وسلم - على امرأة بوادي القرى حديقة لها. ومنها حديث عائشة الآتي قال الماروردي: الدليل على جواز الخرص ورود السنة قولا وفعلا وامتثالا, أما القول فحديث عتاب. وأما الفعل فحديث البخاري يعني حديث أبي حميد الساعدي الذي أشرنا إليه. وأما الإمتثال فما روى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان له خراصون، يعني حديث عائشة وما في معناه. ومنها حديث ابن عمر في صحيح ابن حبان، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلب أهل خيبر على الأرض والزرع والنخل فصالحوه وفيه، فكان ابن رواحة يأتيهم فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر ذكره العيني. قلت: ولابن عمر حديث آخر عند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث ابن رواحة إلى خيبر يخرص عليهم، ثم خيرهم أن يأخذوا أو يردوا إلخ. وفيه العمري وفيه كلام. ومنها: حديث جابر في المصنف. قال العيني: بسند صحيح. قال: خرصها عليهم ابن رواحة يعني خيبر أربعين ألف وسق وله حديث آخر بمعناه عند الدارقطني (ص217) والبيهقي (ج4:ص123). ومنها: حديث ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه إن النبي صلى الله عليه وسلم: حين افتتح خيبر الحديث. وفيه فلما كان حين يصرم النخل بعث إليهم ابن رواحة فحزر النخل وهو الذي يسميه أهل المدينة الخرص. ومنها: حديث الصلت ابن زبيد عن أبيه عن جده عند البيهقي (ج4:ص123، 124) وأبي نعيم وابن مندة في الصحابة وفيه محمد بن مغيث. قال العلائي: لا أعرفه. وقال البيهقي: هذا إسناد مجهول. ومنها: حديث جابر عند ابن عبدالبر مرفوعا، خففوا في الخرص الحديث. وفيه ابن لهيعة. ومنها حديث سهل بن أبي حثمة الآتي وهو حديث صحيح وله حديث آخر عند الدارقطني (ص217-218) والطبراني، وفيه محمد بن صدقة وهو ضعيف. ومنها: حديث عمر عند البيهقي وغيره في أمره بالخرص. وأجاب الحنفية عن هذه الأحاديث بوجوه. الأول: الكلام في أسانيدها. قال ابن
(11/296)
العربي: ليس في الخرص حديث
صحيح، إلا حديث أبي حميد الساعدي عند الشيخين، ويليه ما روى في خرص ابن رواحة على
أهل خيبر. وتعقب بأن حديث عتاب حسن وحديث سهل صحيح كما ستعرف، قالوا: والجواب عن
حديث أبي حميد أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك الخرص معرفة مقدار ما في نخل
تلك المرأة خاصة، ثم يأخذ منها الزكاة وقت الصرام على حسب ما تجب فيها، وأيضا فقد
خرص حديقتها وأمرها أن تحصى، وليس فيه أنه جعل زكاتها في ذمتها وأمرها أن تتصرف في
ثمرها كيف شاءت. وفيه إن الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - خرص عليها حديقتها،
وأمرها أن تحصى كيلها ليأخذ منها الزكاة حسب خرصه، ولتنتفع هي بالتناول كيف شاءت
فتكون الزكاة في ذمتها. قالوا: والجواب عن الخرص على أهل خيبر إنه لم يكن للزكاة،
إذ كانوا ليسوا بأهل زكاة فكان تخمينا ليعلم ما
............................
(11/297)
بأيدي كل قوم من الثمار فيؤخذ مثله بقدره في وقت الصرام لا أنهم يملكون منه شيئا مما يجب لله فيه ببدل لا يزول ذلك البدل. ويرده ما في حديث ابن عمر عند ابن حبان إن ابن رواحة كان يضمن أهل خيبر الشطر، وما في عامة الروايات من تخيير إياهم فإنه يدل على أنهم لو دفعوها إلى المسلمين كان يجب عليهم أن يضمنوا الشطر ويتصرفوا فيها كيف شاءوا. ثم يعطوا اليهود حقهم بحسب خرص ابن رواحة ويؤدوا ما يجب عليهم من الزكاة إلى بيت المال بحسب ذلك الخرص، فكان هذا الخرص في الظاهر لأخذ الحق على اليهود، وفي الحقيقة عليهم وعلى المسلمين جميعا. الثاني: الكلام في معناها وهو إن الخرص لم يكن على وجه تضمين رب المال بقدر الصدقة، لأنه غير جائز لكونه من باب بيع الرطب بالتمر، وإنما وجهه إنهم فعلوا ذلك تخويفا للمزارعين لئلا يخونوا، لا ليلزم به الحكم لأنه تخمين وغرور. الثالث: إنه منسوخ بنسخ الرباء. قال الخطابي: قال بعض: أصحاب الرأي إنما كان جوازه قبل تحريم الرباء والقمار. وتعقبه في المعالم (ج2:ص44) بأن تحريم الربا والقمار والميسر متقدم، والخرص عمل به في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى مات، ثم أبوبكر وعمر فمن بعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم ولا عن التابعين خلاف فيه إلا عن الشعبي - انتهى. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: المثال التاسع والعشرون رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في خرص الثمار في الزكاة والعرايا وغيرها إذا بدا صلاحها، ثم ذكر أحاديث الخرص ثم قال: فردت هذه السنن كلها بقوله تعالى: ?إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه? [المائدة: 90] قالوا: والخرص من باب القمار والميسر فيكون تحريمه نسخا لهذه الآثار، وهذا من أبطل الباطل. فإن الفرق بين القمار والميسر والخرص المشروع كالفرق بين البيع والرباء والميتة والمذكي، وقد نزه الله رسوله وأصحابة عن تعاطي القمار وعن شرعه وإدخاله في الدين، ويا
(11/298)
لله العجب! أكان المسلمون
يقامرون إلى زمن خيبر ثم استمروا على ذلك إلى عهد الخلفاء الراشدين. ثم انقضى عصر
الصحابة وعصر التابعين على القمار، ولا يعرفون إن الخرص قمار حتى بينه بعض فقهاء
الكوفة، هذا والله الباطل حقا والله الموفق - انتهى كلام ابن القيم. قال العيني:
قول الخطابي تحريم الربا والميسر متقدم، يحتاج إلى معرفة التاريخ، وعندنا ما يدل
على صحة النسخ، وهو ما رواه الطحاوي من حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: نهى عن الخرص. وقال: أرأيتم إن هلك التمر أيجب أحدكم أن يأكل مال أخيه
بالباطل؟ والحظر بعد الإباحة علامة النسخ - انتهى كلام العيني. قلت تقدم تحريم
الربا والميسر واضح جدا ظاهر معلوم، لكل من له فهم وعقل صحيح. فإن الخرص قد عمل به
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طول عمره وعمل به أبوبكر وعمر في زمانها، ولو
كان الخرص قمارا أو ربا أو كان ذلك قبل تحريم القمار والربا لما خفي عليهم ذلك ولم
يعملوا به قط، وعملهم بالخرص طول أعمارهم دليل على أن الخرص ليس بقمار ولا ربا،
وأما
...............................
(11/299)
حديث جابر فالمراد بالخرص فيه الخرص في المزارعة والمساقاة والبيع لا في الصدقة والعرايا، قال الخطابي: وأما قول أصحاب الرأي: إنه تخمين وغرور فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار الثمار وأدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير كما يعلم ذلك بالمكاييل والموازين، وإن كان بعضها أحصر من بعض. وإنما هذا كإباحته الحكم بالاجتهاد عند عدم النص مع كونه معرضا للخطأ، وفي معناه تقويم المتلفات من طريق الاجتهاد وباب الحكم بالظاهر باب واسع لا ينكره عالم - انتهى. الرابع: إنه من باب المزابنة المنهي عنها، وهو بيع الثمر في رؤس النخل بالتمر كيلا، وهو أيضا من باب بيع الرطب بالتمر نسيئة فيدخله المنع من التفاضل، ومن النسيئة وكلاهما من أصول الربا. وأجيب عن هذا بأن الخرص مستثنى من تلك الأصول كالعرايا بل هو أصل مستقل بنفسه يدل على ذلك ورود السنة به قولا وعملا وتعامل المسلمين من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم. الخامس: إنه كيف يجوز ذلك وقد يجوز أن يحصل للثمرة آفة تتلفها فيكون ما يؤخذ من صاحبها مأخوذ، بدلا مما لا يسلم له أعتل به الطحاوي. وأجيب بأن القائلين بالخرص لا يضمنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص. قال ابن المنذر: اجمع من يحفظ عنه العلم إن المخروص إذا أصابته جائحة، قبل الجذاذ فلا ضمان بخلاف ما إذا أتلفه المالك، فإنه يضمن نصيب الفقراء أي تؤخذ منه الزكاة بحساب ما خرص، والفرق بين الإتلاف والتلف مما لا ينكره عالم. السادس: إن الخرص كان خاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان يوفق من الصواب ما لا يوافق له غيره ذكره أبوعبيد (ص492) ثم تعقبه (ص493) بأنه لا يلزم من كون غيره لا يسدد لما كان يسدد له، سواء أن يثبت بذلك الخصوصية، وإن كان المرأ لا يجب عليه الإتباع إلا فيما يعلم أنه يسدد فيه، كتسديد الأنبياء لسقط الإتباع: قال الحافظ: وترد هذه الحجة أيضا
(11/300)
بإرسال النبي - صلى الله عليه
وسلم - الخراص في زمانه والله أعلم - انتهى. قال الماوردي: واحتج أبوحنيفة بما
رواه جابر مرفوعا نهى عن الخرص. وبما رواه جابر بن سمرة إن رسول الله نهى بيع كل
ثمرة يخرص وبأنه تخمين، وقد يخطىء وبأنه تضمين رب المال بقدر الصدقة، وذلك غير
جائز؛ لأنه بيع رطب بتمر وأنه بيع حاضر بغائب. وأجيب عن الحديثين بأن المراد من
الخرص فيهما الخرص في المزارعة والمساقاة لا في الصدقة كما تقدم. وأما القول بأنه
تخمين وقد يخطىء، وبأنه بيع رطب بتمر الخ. فقد تقدم جوابه أيضا فتذكر. وأعلم أنه
اختلف القائلون بالخرص هل يختص أو يلحق به العنب أو يعم كل ما ينتفع به رطبا
وجافا؟. وبالأول قال شريح القاضي وبعض الظاهرية. (قال ابن رشد: لأنه لم يصح عندهم
حديث عتاب) والثاني قول الجمهور. وإلى الثالث نحا البخاري. وهل يمضي قول الخارص أو
يرجع ما آل إليه الحال بعد الجفاف الأول
.............................
(11/301)
قول مالك وطائفة. والثاني: قول الشافعي. ومن تبعه وهل يكفي خارص واحد عارف ثقة أو لابد من اثنين وهما قولان الشافعي والجمهور على الأول، واختلف أيضا هل هو إعتبار أو تضمين وهما قولان للشافعي أظهرهما الثاني: وفائدته جواز التصرف في جميع الثمرة، ولو اتلف المالك الثمرة بعد الخرص أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص كذا في الفتح. واختلفوا أيضا هل يحاسب أصحاب النخيل والثمار بما أكلوا قبل الجذاذ أم لا؟، وكذلك اختلفوا هل يؤخذ قدر العرايا والضيف وما في معناه أم لا؟. وسيأتي بيانه في شرح حديث سهل. واختلفوا أيضا إذا غلط الخارص. قال ابن قدامة: (ج2 ص706، 710) وينبغي أن يبعث الإمام ساعيه إذا بدا صلاح الثمار ليخرصهما ويقدر الزكاة، ويعرف المالك ذلك، قال: ويجزئ خارص واحد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يبعث ابن رواحة فيخرص ولم يذكر معه غيره، ولأن الخارص يفعل ما يؤديه اجتهاد إليه فهو كالحاكم ويعتبر في الخارص أن يكون أمينا غير متهم (لأن الفاسق لا يقبل خبره). وصفة الخرص أن يطيف بكل نخلة أو شجرة وينظر كم في الجميع رطبا أو عنبا ثم يقدر ما يجيء منها تمرا، فإذا خرص على المالك وعرفه قدر الزكاة خيره بين أن يضمن قدر الزكاة ويتصرف فيها بما شاء من أكل وغيره، وبين حفظها إلى وقت الجذاذ والجفاف، فإن اختار حفظها ثم أتلفها أو تلفت بتفريطة فعليه ضمان نصيب الفقراء بالخرص، وإن تلفت بجائحة من السماء سقط عنهم الخرص. وإن ادعى تلفها بغير تفريطه فالقول قوله بغير يمين (وقال الأمير اليماني إذا أدعي المخروص عليه النقص بسبب يمكن إقامة البينة عليه وجب إقامتها وإلا صدق بيمينه). وإن حفظها إلى وقت الإخراج فعليه زكاة الموجود لا غير، سواء إختار الضمان أو حفظها على سبيل الأمانة وسواء كانت أكثر مما خرصه الخارص أو أقل وبهذا قال الشافعي، وقال مالك: يلزمه ما قال الخارص زاد أو نقص، إذا كانت الزكاة متقاربة؛ لأن الحكم انتقل إلى ما
(11/302)
قال الساعي بدليل وجوب ما قال
عند تلف المال. ولنا إن الزكاة أمانة فلا تصير مضمونة بالشرط كالوديعة، ولا نسلم
أن الحكم إنتقل إلى ما قاله الساعي، وإنما يعمل بقوله: إذا تصرف في الثمرة ولم
يعلم قدرها؛ لأن الظاهر أصابته، وإن أدعى رب المال غلط الخارص وكان ما ادعاه
محتملا قبلا قوله بغير يمين، وإن لم يكن محتملا مثل أن يدعى غلط النصف ونحوه لم
يقبل قوله؛ لأنه لا يحتمل فيعلم كذبه، وإن قال لم يحصل في يدي غير هذا قبل منه
بغير يمين، لأنه قد يتلف بعضها بآفة لا نعلمها (وفيه ما قيل: إن هذا ما يليق بحال
المؤمنين الصادقين. وقد قل عددهم في أكثر الأمصار فلو قبل السلطان قولهم لكذب
أكثرهم) ويخرص النخل والكرم لما روينا من الأثر فيهما ولم يسمع بالخرص في غيرهما
فلا يخرص الزرع في سنبله، وبهذا قال عطاء والزهري ومالك. لأن الشرع لم يرد بالخرص
فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه. لأن ثمرة النخل والكرم تؤكل رطبا فيخرص على أهله
للتوسعة عليهم ليخلي بينهم وبين أكل الثمرة والتصرف فيها ثم يؤدون الزكاة منها على
ما خرص، ولأن ثمرة النخل والكرم ظاهرة
رواه الترمذي وأبوداود.
1820- (12) وعن سهل بن أبي حثمة، حدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان
يقول: ((إذا خرصتم
(11/303)
مجتمعه، فخرصها أسهل من خرص غيرهما وما عداهما فلا يخرص. وإنما على أهله فيه الأمانة إذا صار مصفي يابسا ولا بأس أن يأكلوا منه ما جرت العادة بأكله ولا يحتسب عليهم - انتهى كلام ابن قدامة مختصرا ملتقطا. (رواه الترمذي وأبوداود) واللفظ للترمذي وأخرجه أيضا الدارقطني (ص217) ولفظ أبي داود: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا. وأخرجه بهذا اللفظ النسائي والدارقطني وابن حبان أيضا، وفي رواية للترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يبعث على الناس من يخرص كرومهم وثمارهم. ومدار الحديث على سعيد بن المسيب عن عتاب، وقد تقدم قول أبي داود وأبي حاتم إن سعيد بن المسيب لم يسمع من عتاب وابن قانع، أنه لم يدركه، والمنذري إن انقطاعه ظاهر وقال الحافظ في بلوغ المرام: فيه انقطاع. وقال ابن السكن: لم يرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه غير هذا. وقد رواه الدارقطني بسند فيه الواقدي. فقال: عن سعيد بن المسيب عن المسور بن مخرمة عن عتاب. وقال أبوحاتم: الصحيح عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عتابا مرسل. وهذه رواية عبدالرحمن بن إسحاق الزهري - انتهى. قلت: اختلف أصحاب الزهري عليه، فرواه الواقدي عن محمد بن عبدالله بن مسلم وعبدالرحمن ابن عبدالعزيز عن الزهري عن سعيد عن المسور بن مخرمة عن عتاب، وهذا عند الدارقطني. ورواه محمد بن صالح الثمار عن الزهري عن سعيد عن عتاب، وهو عند الترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي. وكذا رواه عبدالرحمن ابن إسحاق عن الزهري عند أبي داود والدارقطني والبيهقي. وروى عبدالرحمن بن إسحاق أيضا عن الزهري عن سعيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمر عتابا مرسل وهذا عند النسائي والبيهقي، ولم يظهر لي وجه كون المرسل صحيحا والموصول خطأ، والحديث قد حسنه
(11/304)
الترمذي. وسماع سعيد بن المسيب
من عتاب ممكن على ما حققه الحافظ في تهذيب التهذيب والإصابة، وقد سبق كلامه. فالظاهر
إن هذا الحديث موصول حسن والله تعالى أعلم. وقال النووي: وهو وإن كان مرسلا فهو
يعتضد بقول الأئمة ثم رأيت الزرقاني. قال في شرح الموطأ: ودعوى الإرسال بمعنى
الانقطاع مبني على قول الواقدي، إن عتابا مات يوم مات أبو بكر الصديق لكن ذكر ابن
جرير الطبري إنه كان عاملا لعمر على مكة سنة إحدى وعشرين، وقد ولد سعيد لسنتين
مضتا من خلافة عمر على الأصح فسماعه من عتاب ممكن فلا انقطاع، وأما عبدالرحمن ببن
إسحاق فصدوق احتج به مسلم وأصحاب السنن- انتهى.
1820- قوله: (وعن سهل بن أبي حثمة) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة (إذا خرصتم)
أي قدرتم
فخذوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث، فدعوا الربع)).
(11/305)
وحزرتم أيها السعاة والمصدقون (فخذوا) أي زكاة المخروص إن سلم من الآفة وهو بضم الخاء والذال المعجمتين أمر من الأخذ، وفي بعض نسخ أبي داود فجذوا بالجيم والدال من الجذ، أي فقطعوا، وفي بعضها فجدوا بالدال المهملة وهو القطع أيضا وعلى هاتين النسختين جزاء الشرط محذوف، أي إذا خرصتم. ثم قطع أرباب النخل ثمرها فخذوا زكاة المخروص. وقيل: جذوا بضم الجيم صيغة أمر وهو جزاء الشرط، أي رخصوا لهم في الجذاذ وذلك لأن الجذر ليس إلى المصدقين (ودعوا) أي أتركوا (الثلث) بضم اللام. قال الطيبي: "فخذوا" جواب الشرط "ودعوا" عطف عليه أي إذا خرصتم فبينوا مقدار الزكاة، ثم خذوا ثلثي ذلك المقدار واتركوا الثلث لصاحب المال، حتى يتصدق به أي على جيرانه ومن يطلب منه. قال القاضي: الخطاب مع المصدقين أمرهم أن يتركوا للمالك ثلث ما خرصوا عليه أو ربعة توسعة عليه حتى يتصدق به هو على جيرانه، ومن يمر به ويطلب منه فلا يحتاج إلى أن يغرم ذلك من ماله- انتهى. قال الأمير اليماني: قد اختلف في معنى الحديث على قولين أحدهما: أن يترك الثلث أو الربع من العشر. وثانيهما: أن يترك ذلك من نفس الثمر قبل أن يعشر. وقال الشافعي: معناه أن يدع ثلث الزكاة أو ربعها ليفرقها هو على أقاربه وجيرانه. وقيل: يدع له ولأهله قدرما يأكلون ولا يخرص. قال في الشرح: والأولى الرجوع إلى ما صرحت به رواية جابر وهو التخفيف في الخرص ويترك من العشر قدر الثلث أو الربع، فإن الأمور المذكورة قد لا تدرك الحصاد فلا تجب فيها الزكاة- انتهى. قلت: حديث جابر رواه ابن عبدالبر من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا. قال: خففوا في الخرص فإن في المال العرية والوطئة والآكلة- الحديث. كذا في التلخيص، ويؤيده ما روى الدارقطني (ص218) والطبراني عن سهل ابن أبي حثمة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بعث أباه أباحثمة خارصا فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إن أباحثمة زاد علي، فدعا
(11/306)
أباحثمة فقال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: إن ابن عمك يزعم أنك قد زدت عليه فقال: يا رسول الله! قد تركت
عرية أهله وما تطعمه المساكين وما يصيب الريح. فقال: قد زادك ابن عمك وأنصف-
انتهى. وفيه محمد بن صدقة وهو ضعيف. واختلف العلماء في العمل بحديث الباب، فذهب
مالك وسفيان وأبوحنيفة إلى أنه لا يترك لرب المال شيء، بل يحسب عليه ما أكل من
ثمرة قبل الجذاذ في النصاب. قال الحافظ: وهو المشهور عن الشافعي. وقال ابن الملك
وابن حجر: هو قول الشافعي في الجديد. قيل والجواب عن هذا الحديث إنه كان في حق
يهود خيبر، وكانت قصتهم مخصوصة لأن الأرض أرضه والعبيد عبيده، فأمر - صلى الله
عليه وسلم -: أن يترك لهم منها قدر نفقاتهم. وأجاب بعضهم بأن معنى الحديث أن يترك
لهم ذلك من العشر الواجب ليتصدقوا منه بأنفسهم على الفقراء من أقاربهم وجيرانهم
كما سبق عن الشافعي، وليس المعنى أنه لا زكاة عليهم في
رواه الترمذي وأبوداود، والنسائي.
(11/307)
ذلك أو لا يحسب لهم ما أكلوه في النصاب، وأجيب أيضا بأن المراد به مؤنة الزرع أو مؤنة الأرض فيوضع ذلك ولا يحسب في النصاب. قال ابن العربي: والمتحصل من صحيح النظر أن يعمل بالحديث وهو قدر المؤنة، ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب مما يؤكل رطبا. وذهب أحمد والليث وإسحاق والشافعي أيضا على ما قال ابن رشد (ج1 ص241) وابن حزم إلى ظاهر الحديث. فقالوا: يترك لهم في الخرص من عرض المال الثلث أو الربع ولا يحسب ذلك في النصاب. قال الخطابي: ذهب بعض العلماء في تأويل الحديث إلى أنه متروك لهم من عرض المال توسعة عليهم، فلو أخذوا بإستيفاء الحق كله لا ضر ذلك بهم، وقد يكون منها السقاطة وبنتابها الطير ويخترفها الناس للأكل فترك لهم الربع توسعة عليهم. وكان عمر بن الخطاب يأمر الخراص بذلك، وبقول عمر قال أحمد وإسحاق. وذهب غير هؤلاء إلى أنه لا يترك لهم شيئا شائعا في جملة النخل بل يفرد لهم نخلات معدودة، قد علم مقدار ثمرها بالخرص- انتهى. قال الحافظ: قال بظاهر الحديث الليث وأحمد وإسحاق وغيرهم، وفهم منه أبوعبيد في كتاب الأموال أنه القدر الذي يأكلونه بحسب احتياجهم إليه: فقال يترك قدر احتياجهم- انتهى. وقال ابن قدامة: (ج2 ص706) وعلى الخارص أن يترك في الخرص الثلث أو الربع توسعة على أرباب الأموال. لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم ويطعمون جيرانهم وأهلهم وأصدقائهم وسؤالهم، ويكون في الثمرة السقاطة وينتابها الطير، وتأكل منه المارة فلو استوفى الكل منهم أضر بهم، وبهذا قال إسحاق ونحوه. قال الليث وأبوعبيد: والمرجع في تقدير المتروك إلى الساعي باجتهاد فإن رأي الآكلة كثيرا ترك الثلث وإن كانوا قليلا ترك الربع، لحديث سهل بن أبي حثمة. وروى أبوعبيد (ص487) بإسناده عن مكحول قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا بعث الخراص قال: "خففوا فإن المال العرية والوطئة" وروى عن عمر أنه قال: خففوا على الناس في الخرص فإن
(11/308)
المال العرية والواطئة
والآكلة. قال أبوعبيد: الواطئة السابلة سموا بذلك، لوطئهم بلاد الثمار مجتازين
والآكلة أرباب الثمار وأهلوهم ومن لصق بهم، ومنه حديث سهل بن أبي حثمة في مال سعد
بن أبي سعد حين قال: لولا إني وجدت فيه أربعين عريشا الخرصة تسعمأة وسق، وكانت تلك
العرش لهؤلاء الآكلة والعرية النخلة أو النخلات يهب إنسانا ثمرتها فجاء عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ليس في العرايا صدقة. وروى ابن المنذر (وأبوعبيد
والحاكم والبيهقي) عن عمر أنه قال لسهل بن أبي حثمة: إذا أتيت على نخل قد حضرها
قوم فدع لهم ما يأكلون، والحكم في العنب كالحكم في النخيل سواء، فإن لم يترك لهم
الخارص شيئا فلهم الآكل قدر ذلك، ولا يحتسب عليهم به؛ لأنه حق عليهم- انتهى. (رواه
الترمذي وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص2، 3) و(ج3 ص448) والنسائي وابن
حبان والحاكم (ج1 ص402) والبيهقي (ج4 ص123)
1821-(13) وعن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يبعث عبدالله بن
رواحة إلى يهود، فيخرص النخل، حين يطيب قبل أن يؤكل منه)).
وأبوعبيد (ص485) وابن حزم (ج5 ص255) وقد سكت عنه أبوداود والمنذري، وصححه ابن حبان
والحاكم والذهبي. قال الحاكم: وله شاهد بإسناد متفق على صحته إن عمر بن الخطاب أمر
به- انتهى. وقد تقدم لفظه، ولم يحكم الترمذي على حديث سهل بشيء، نعم قال بعد
روايته والعمل على حديث سهل عند أكثر أهل العلم وبحديث سهل يقول إسحاق وأحمد-
انتهى. وفي سنده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراوي عن سهل. وقد قال البزار: إنه
تفرد وهو معروف. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله.؟ قلت: عبدالرحمن هذا ذكره ابن
حبان في الثقات وقال الحافظ: في التقريب: إنه مقبول.
(11/309)
1821-قوله: (يبعث) أي يرسل (إلى يهود) أي في خيبر (فيخرص النخل) بضم الراء يحزرها (حين يطيب) بالتذكير والتأنيث أي يظهر في الثمار الحلاوة قاله القاري. (قبل أن يؤكل منه) هذه رواية أبي داود في الزكاة من طريق حجاج عن ابن جريج، أخبرت عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، وفيه واسطة بين ابن جريج والزهري ولم يعرف، ومن هذا الطريق أخرجه في آخر كتاب البيوع وزاد ثم يخير اليهود يأخذونه بذلك الخرص أم يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق" ومن طريق أبي داود، أخرجه البيهقي (ج45 ص123) قال الطيبي: وهذه زكاة أموال المسلمين الذين تركوها في أيدي اليهود ويعملون فيها- انتهى. قال القاري: وفيه إشارة إلى دفع ما يرد عليه من أن الكافر لا زكاة عليه، فبينه بأن ابن رواحة لم يخرص عليهم إلا حصة الغانمين دفعوا إليها نخلها ليعملوا فيه بحصته من التمر- انتهى كلام القاري. وقال في عون المعبود: (ج3 ص274) مراد عائشة إن بعث ابن رواحة للخرص إنما كان لإحصاء الزكاة؛ لأن المساكين ليسوا شركاء معينين، فلو ترك اليهود وأكلها رطبا والتصرف فيها أضر ذلك سهم المسلمين. قال الزرقاني في شرح الموطأ قال ابن مزين: سألت عيسى عن فعل ابن رواحة يجوز للمستاقيين أو للشريكين فقال لا، ولا يصلح قسمه إلا كيلا إلا أن تختلف حاجتهما إليه فيقتسمانه بالخرص فتأول خرص ابن رواحة للقسمة خاصة. وقال الباجي: يحتمل أنه خرصها لتميز حق الزكاة لأن مصرفها غير مصرف أرض العنوة؛ لأنه يعطيها الإمام للمستحق من غني وفقير، فيسلم مما خافه عيسى. وأنكره وقوله في رواية مالك ن شئتم فلكم، وإن شئتم فلي، حمله عيسى على أنه أسلم إليهم جميع الثمرة بعد الخرص ليضمنوا حصة المسلمين. ولو كان هذا معناه لم يجز، لأنه بيع الثمر بالثمر بالخرص في غير العرية. وإنما معناه خرص الزكاة فكأنه قال: إن شئتم أن تأخذوا الثمرة على أن تؤدوا زكاتها على ما خرصته، وإلا فأنا اشتريها
(11/310)
من الفيء بما يشتري به، فيخرج
بهذا الخرص، وذلك معروف لمعرفتهم بسعر
رواه أبوداود.
1822-(14) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:((في العسل، في
كل عشرة أزق زق)).
الثمر. وأن حمل على خرص القسمة لاختلاف الحاجة فمعناه، إن شئتم هذا النصيب فلكم،
وإن شئتم فلي يبين ذلك إن الثمرة ما دامت في رؤس النخل ليس بوقت قسمة ثمر
المساقاة، لأن على العامل جذها والقيام عليها حتى يجرى فيها الكيل أو الوزن. فثبت
بهذا أن الخرص قبل ذلك لم يكن للقسمة إلا بمعنى اختلاف الأغراض. وقال ابن البر:
الخرص في المساقاة لا يجوز عند جميع العلماء، لأن المساقيين شريكان لا يقتسمان إلا
بما يجوز به بيع الثمار بعضها ببعض، وإلا دختله المزابنة. قالوا وإنما بعث - صلى
الله عليه وسلم - من يخرص على اليهود لإحصاء الزكاة، لأن المساكين ليسوا شركاء
معينين، فلو ترك اليهود وأكلها رطبا والتصرف فيها أضر ذلك سهم المسلمين. قالت: عائشة:
إنما أمر - صلى الله عليه وسلم - : بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار-
انتهى كلام ابن عبد البر. وهذا الحديث المطول قد رواه عبدالرزاق ومن طريقه الدار
قطني (ص217) وابن حزم (ج5 ص255) عن ابن جريج عن الزهري ولم يذكر واسطة، وابن جريج
مدلس فلعله تركها تدليسا، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه. قال: فرواه صالح بن أبي
الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة. وأرسله معمر ومالك وعقيل ولم يذكروا
أباهريرة. وقال صاحب الاستذكار قوله "في رواية عبدالرزاق "وإنما كان أمر
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخرص لكي تحصى الزكاة الخ. من قول عائشة. وقال
الترمذي: بعد رواية حديث عتاب بن أسيد المتقدم. قد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن
شهاب عن عروة عن عائشة وسألت محمدا عن هذا فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ، وحديث
سعيد عن عتاب أصح - انتهى. لكن أخرج أبوداود في كتاب البيوع من طريق ابن جريج
أخبرني أبوالزبير أنه
(11/311)
سمع جابرا يقول: خرصها ابن
رواحة أربعين ألف وسق، وزعم إن اليهود لما خيرهم ابن رواحة، أخذوا الثمر وعليهم
عشرون ألف وسق- انتهى. وهذا يؤيد حديث ابن جريج عن الزهري المتقدم، وكذا يؤيده ما
رواه أبوداود أيضا من طريق إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر أنه قال: لما
أفاء الله رسوله خيبر فأقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كانوا، وجعلها
بينه وبينهم. فبعث عبدالله بن رواحة فخرصها قال الزرقاني: أي لتميز حق الزكاة من
غيرها لاختلاف المصرفين أو للقسمة لاختلاف الحاجة كما مر، وفيه جواز التخريص لذلك.
(رواه أبوداود) أي في كتاب الزكاة وفي إسناده رجل مجهول لكن أخرج هو أيضا في آخر
البيوع شاهدا له، من حديث جابر برجال ثقات وقد ذكرنا لفظه.
1822- قوله: (في العسل) بفتح العين والسين المهملتين لعاب النحل. قال في مختار
الصحاح: العسل يذكر ويؤنث (في كل عشرة أزق) بفتح الهمزة وضم الزاي وتشديد القاف
أفعل جمع قله (زق) بكسر الزاي
.............................
(11/312)
مفرده وهو ظرف من جلد يجعل فيه السمن والعسل وغيرهما. وفيه دليل على وجوب العشر في العسل. واختلف العلماء فيه، فذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر والثوري وأبوثور وداود وابن حزم إلى أنه لا زكاة في العسل، وبه قال من الصحابة علي رضي الله عنه أخرجه يحيى بن آدم في الخراج (ص31) والبيهقي (ج4 ص127) من طريقه، وفيه انقطاع، وعبدالله بن عمر رضي الله عنه. أخرجه أبوعبيد (ص499) بإسناد فيه ضعف، ومعاذ كما سيأتي. ومن التابعين المغيرة بن حكيم وعمر بن عبدالعزيز، أخرجه ابن أبي شيبة وعبدالرزاق بإسناد صحيح. قال ابن المنذر: ليس في العسل خبر يثبت ولا إجماع فلا زكاة. وهو قول الجمهور. وقال أحمد وأبوحنيفة وأبويوسف، ومحمد وإسحاق ومكحول والزهري وسليمان بن موسى وربيعة ويحيى بن سعيد وابن وهب بوجوب كل العشر فيه. ويروي ذلك عن عمر بن عبدالعزيز، أخرجه عبدالرزاق ولكنه بإسناد ضعيف كما بينه الحافظ في الفتح، وابن حزم في المحلى (ج5 ص232) وأخرج أبوعبيد (ص498) عن خصيف أن عمر بن عبدالعزيز رأى في العسل العشر. وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم. وأشار العراقي في شرح الترمذي إلى أن الذي نقله ابن المنذر عن الجمهور أقوى من نقل الترمذي. واحتج هؤلاء بحديث الباب وهو كما ستعرف، وبما روى عبدالرزاق والبيهقي من طريقه (ص126) من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ من أهل العسل العشور، وفيه عبدالله بن محرر وهو متروك وبما روى الشافعي في الأم (ج2 ص33) وأبوعبيد (ص496) والبيهقي (ج4 ص127) وابن أبي شيبة (ج3 ص20) والطبراني في الكبير والبزار عن سعد بن أبي ذباب، أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - : فأسلمت فذكر الحديث، وفيه أنه أخذ من قومه زكاة العسل العشر، فأتى به عمر فأخذه. قال الهيثمي: فيه منير بن عبدالله وهو ضعيف. وقال الحافظ في التلخيص: ضعفه البخاري والازدي وغيرهما، وقال البخاري:
(11/313)
وعبدالله الذي رواه عنه ابنه
منير عن سعد بن أبي ذباب لم يصح حديثه. وقال ابن عبدالبر: لا يقوم بهذا حجة. قلت:
وفي سنده عند الشافعي عبدالرحمن بن أبي ذباب ولم أقف على ترجمته. وقال الشافعي:
وسعد بن ذباب يحكى ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لم يأمره
بأخذ الصدقة من العسل، وإنه شيء رأه هو فتطوع له به أهله، وبما روى أحمد (ج4 ص336)
وابن ماجه والطيالسي (ص169) والبيهقي (ج4 ص126) وأبويعلى وعبدالرزاق وأبوعبيد
(ص497) والطبراني من طريق سليمان بن يسار عن أبي سيارة المتعى. قال: قلت يا رسول
الله! إن لي نحلا. قال: أد العشر. قلت: أحم لي جبلها فحماه لي. قال البيهقي: هذا
أصح ما روى في وجوب العشر في العسل وهو منقطع. قال الترمذي في علله: سألت محمدا عن
هذا الحديث. فقال: مرسل لأن سليمان لم يدرك أحدا من الصحابة، وليس في زكاة العسل
شيء يصح. وبما روى أبوداود والنسائي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
..................................
(11/314)
جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي له واديا يقال له سلبة فحماه له فلما ولي عمر كتب إلى عامله سفيان بن وهب، إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عشور نحلة فاحم له سلبة وإلا فلا. ورواه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ من العسل العشر. وروى الطبراني من هذا الوجه إن بني شبابه بطن من فهم كانوا يؤدون عن نحل لهم العشر من كل عشر قرب قربة- الحديث. ولأبي عبيد في الأموال (ص497) والبيهقي (ج4 ص127) من هذا الوجه إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يؤخذ في زمانه من العسل في كل عشر قرب قربة من أوسطها، وفي إسناده ابن لهيعة. قال الحافظ في الفتح: بعد ذكر رواية أبي داود والنسائي إسناده صحيح إلى عمرو، وترجمة عمرو قوية على المختار، لكن حيث لا تعارض. وقد ورد ما يدل على أن هلالا أعطى ذلك تطوعا، فعند عبدالرزاق عن صالح بن دينار إن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى عثمان بن محمد ينهاه، أن يأخذ من العسل صدقة. إلا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها فجمع عثمان أهل العسل فشهدوا إن هلال بن سعد قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسل. فقال ما هذا، قال: صدقة فأمر برفعها ولم يذكر عشورا لكن الإسناد الأول أقوى، إلا أنه محمول على أنه في مقابلة الحمى، كما يدل عليه كتاب عمر بن الخطاب- انتهى. وقال الخطابي في المعالم: (ج2 ص43) في هذا الحديث دليل على أن الصدقة غير واجبة في العسل. وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أخذ العشر من هلال المتعى، إذ كان قد جاء بها متطوعا وحمى له الوادي رفاقا ومعونة له بدل ما أخذ منه. وعقل عمر بن الخطاب المعنى في ذلك فكتب إلى عامله يأمره بأن يحمى له الواديان إن أدى إليه العشر وإلا فلا، ولو كان سبيله سبيل الصدقات الواجبة في الأموال لم يخيره في ذلك- انتهى. وقال الشوكاني: وأعلم
(11/315)
أن حديث أبي سيارة وحديث هلال
إن كان غير أبي سيارة لا يدلان على وجوب الزكاة في العسل، لأنهما تطوعا بها وحمى
لهما يدل ما أخذ وعقل عمر العلة فأمر بمثل ذلك، ولو كان سبيله سبيل الصدقات لم
يخير في ذلك. وبقية أحاديث الباب لا تنتهض للاحتجاج بها- انتهى. ويؤيده ما رواه
الحميدي بإسناده إلى معاذ بن جبل أنه أتى بوقص البقر والعسل فقال معاذ كلاهما لم
يأمرني فيه - صلى الله عليه وسلم - بشيء- انتهى. قلت: حديث معاذ هذا أخرجه أيضا
أبوداود في المراسيل، وعبدالرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي "(ج4 ص127) وابن حزم
(ج5 ص233) من طريق طاووس عنه. وفيه انقطاع بين طاووس ومعاذ. لكن قال البيهقي: هو
قوى لأن طاوسا كان عارفا بقضايا معاذ. وقال الشافعي:الحديث في أن في العسل العشر
ضعيف، وفي أن لا يؤخذ منه العشر ضعيف، إلا عن عمر بن عبدالعزيز، واختياري أن لا
يؤخذ منه؛ لأن السنن والآثار ثابتة فيما يؤخذ منه، وليست فيه ثابتة فكأنه عفو-
انتهى. وتقدم قول ابن المنذر أنه ليس في وجوب الصدقة في العسل خبر يثبت ولا إجماع،
فلا زكاة فيه، وقول البخاري أنه لا يصح فيه شيء- انتهى. قلت: واستدل الجصاص على
وجوب الزكاة في العسل بقوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة? [التوبة: 103] إذ قال
ظاهر قوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة? يوجب الصدقة في العسل إذ هو من
رواه الترمذي، وقال: في إسناده مقال،
(11/316)
ماله- انتهى. قال ابن حزم: إن الله تعالى قال: ?ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل? [البقر: 188] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، فلا يجوز إيجاب فرض زكاة في مال لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه إيجابها، فإن احتجوا بعموم قول الله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة? قيل: لهم فأوجبوها فيما خرج من معادن الذهب والفضة، وفي القصب وفي ذكور الخيل، فكل ذلك أموال المسلمين بل أوجبوها حيث لم يوجبها الله تعالى، وأسقطوا مما خرج من النخل والبر والشعير في أرض الخراج، وفي الأرض المستأجرة. ولكنهم قوم يجهلون - انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أنه لم يثبت في زكاة العسل شيء، إلا حديث عمرو بن شعيب عند أبي داود والنسائي وابن ماجه، وهو محمول على أنه كان في مقابلة الحمى، كما قال الخطابي والحافظ والشوكاني: فالقول الراجح المعول عليه هو ما ذهب إليه مالك والشافعي من عدم وجوب الزكاة في العسل والله تعالى اعلم. واعلم إن أباحنيفة فرق بين أن يكون العسل في أرض العشر ففيه الزكاة وبين أن يكون في أرض الخراج فلا زكاة فيه، لأن مذهبه إن العشر والخراج لا يجتمعان في أرض، وسوى الإمام أحمد بين الأرضين، وأوجبه بما أخذه من ملكه أو وات. ثم اختلف الموجبون له هل له نصاب أم لا، على قولين. أحدهما: أنه يجب في قليله وكثيره، وهذا قول أبي حنيفة. قال ابن الهمام: بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب المتقدم، من رواية الطبراني وأبي عبيد غاية ما في حديث القرب، أنه كان أداءهم من كل عشر قرب قربة وهو فرع بلوغ عسلهم هذا المبلغ؛ أما النفي عما هو أقل من عشر قرب فلا دليل فيه عليه. وأما حديث الترمذي فضعيف - انتهى. والثاني: إن له نصابا معينا، ثم اختلف في قدره. فقال أبويوسف: يجب إذا بلغت قيمته خمسة أوساق، وعنه أنه قدره بعشرة أرطال قال في المبسوط: وهي رواية الأمالي وهي خمسة أمناء وعنه أنه اعتبر فيه عشر قرب. وعن محمد؛ ثلاث
(11/317)
روايات. إحداها: خمس قرب
والقربة خمسون منا ذكره في الينابيع. وفي المغني القربة مائة رطل. والثانية: خمسة
أمناء، والثالثة خمسة أواق. قال السرخسي: وهي تسعون منا. وقال أحمد: نصابه عشرة
أفراق، لما روى الجوزجاني إن عمر قال: إن أديتم صدقتها من كل عشرة أفراق فرقا
حميناها لكم. قال الزهري: والفرق ستة عشر رطلا فيكون نصابه مائة وستون رطلا. وقال
ابن حامد: الفرق ستون رطلا، فيكون النصاب ستمائة رطل. وقيل: الفرق ستة وثلاثون
رطلا فيكون النصاب ثلاث مائة رطل وستون رطلا، والأول: هو ظاهر كلام الإمام أحمد
وهو الذي رجحه ابن قدامة في المغني (ج2 ص715) (رواه الترمذي وقال إسناده مقال)
؛لأنه قد تفرد به صدقة بن عبدالله السمين وهو ضعيف، وأخرجه أيضا ابن عدي في الكامل
في ترجمة صدقة بن عبدالله، وأعله به وضعفه عن أحمد والنسائي وابن معين. ورواه
البيهقي (ج4 ص126) وقال: تفرد به صدقة وهو ضعيف، ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما.
ورواه ابن حبان في الضعفاء. وقال: في صدقة يروي الموضوعات عن الثقات. ورواه
الطبراني في الأوسط من هذا الوجه. وقال: إنه تفرد به. ولفظه وقال: في العسل العشر
في كل قرب قربة، وليس فيما
ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كثير شيء.
1823-(15) وعن زينب امرأة عبدالله، قالت: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقال: ((يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن، فإنكن أكثر أهل جهنم يوم القيامة)).
(11/318)
دون ذلك شيء كذا في نصب الراية. وقال الحافظ في التلخيص: في سنده صدقة السمين وهو ضعيف الحفظ وقد خولف. وقال النسائي: هذا حديث منكر. وقال البيهقي: تفرد به صدقة وهو ضعيف. وقد تابعه طلحة بن زيد عن موسى بن يسار ذكره المروزي. ونقل عن أحمد تضعيفه، وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عنه. فقال: هو عن نافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل. (ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب) أب باب زكاة العسل (كثير شيء) قال الطيبي: أي ما يعول عليه. وقال البخاري: ليس في زكاة العسل شيء يصح.
(11/319)
1823- قوله: (وعن زينب) بنت معاوية ويقال بنت عبدالله بن معاوية بن عتاب الثقفية وتسمى أيضا برائطة (امرأة عبدالله) بن مسعود (تصدقن) أي أخرجن زكاة أموالكن (ولو من حليكن) بضم الحاء وكسرها فكسر اللام وتشديد التحية جمع الحلي بفتح فسكون. قال في القاموس: الحلي بالفتح ما يزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة جمعه حلي بالضم والكسر كدلي، أو هو جمع والواحد حلية كظبية، والحلية بالكسر الحلي جمع حلي وحلي- انتهى. وقال في النهاية: الحلي اسم لكل ما يتزين به مصاغ الذهب والفضة، والجمع حلي بالضم والكسر، والجمع الحلية حلي مثل لحية ولحي، وربما تضم وتطلق الحلية على الصفة أيضا وانتهى. (فإنكن أكثر أهل جهنم يوم القيامة) أي لمحبة الدنيا الباعثة على ترك الزكاة والصدقة للعقبى. والحديث بظاهرة يدل على وجوب الزكاة في الحلي، وهو الذي فهمه الترمذي حيث أورده في باب ما جاء في الزكاة الحلي. قال أبوالطيب السندي في شرح الترمذي: مناسبته بالترجمة باعتبار إن الأمر فيه للوجوب؛ لأن الأصل فيه ذلك أي تصدقن وجوبا، ولو كانت الصدقة من حليكن وهو الذي فهمه المصنف. وأما القول: بأنه أمر ندب بالصدقة النافلة، لأنه خطاب بالحاضرات ولم تكن كلهم ممن فرضت عليهن الزكاة. والظاهر إن معنى قوله "ولو من حليكن" أي ولو تيسر من حليكن وهذا لا يدل على أنه يجب في الحلي إذ يجوز أن يكون واجبا على الإنسان في أمواله الأخر. ويؤديه من الحلي فذكر المصنف أي الترمذي الحديث في هذا الباب لا يخلو عن خفاء فعدول عن الأصل الذي هو الوجوب وتغيير للمعنى الذي هو الظاهر، لأن معناه تصدقن من جميع الأموال التي تجب فيها الزكاة عليكن، ولو كانت الصدقة الواجبة من حليكن. وإنما ذكر لدفع توهم من يتوهم إن الحلي من الحوائج الأصلية، ولا تجب فيها الزكاة ويؤيد هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -، فإنكن أكثر أهل جهنم لترك الواجبات. وأما كون الخطاب
(11/320)
....................................
للحاضرات خصوصا، فممنوع بل الخطاب، لكل من يصلح للخطاب نعم، فيه تلميح إلى حسن
الصدقة في حق غير الغنيات، فلا يرد إن كون الأمر للوجوب لا يستقيم ويؤيده ما في
آخر هذا الحديث في البخاري. قالت زينب لعبدالله قد أمرنا بصدقة فأته فسله، فإن كان
ذلك يجزيء عنى وإلا صرفتها إلى غيركم الحديث، لأن الصدقات من النوافل لا كلام في
جوازها لو صرفت إلى الزوج انتهى كلام أبي الطيب. قال شيخنا في شرح الترمذي: (ج2
ص10) قلت: في الاستدلال بهذا الحديث على وجوب الزكاة في الحلي نظر، فإنه ليس بنص
صريح فيه لاحتمال أن يكون معنى قوله " ولو من حليكن" أي ولو تيسر من
حليكن كما قيل. وهذا لا يدل على وجوب الزكاة في الحلي، إذ يجوز أن يكون واجبا على
الإنسان في أمواله الأخر ويؤديه من الحلي، وقد ذكر أبوالطيب: هذا الاحتمال، ولم
يجب عن هذا جوابا شافيا فتفكر انتهى كلام الشيخ. قلت: حمل الحنفية القائلون بوجوب
الزكاة في الحلي، وعدم جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها الفقير هذا الحديث على
صدقة التطوع، وبه جزم النووي من الشافعية، واستدل الطحاوي (ج1 ص308) لذلك بما روى
من طريق رائطة امرأة ابن مسعود، إنها كانت امرأة صنعاء اليدين تصنع بيديها فتبيع
من ذلك فكانت تنفق على عبدالله وعلى ولده، قال فهذا يدل على أنها صدقة التطوع.
واستدل أيضا بقولها في حديث أبي هريرة عنده فأخذت حلي، أتقرب به إلى الله عزوجل
رجاء أن لا يجعلني الله من أهل النار؛ لأن الزكاة لا توجب الصدقة بكل المال، وإنما
توجب الصدقة بجزء منه. واستدل لذلك أيضا بما وقع في حديث أبي سعيد عند البخاري
"زوجك وولدك أحق من أن تصدقت به عليهم" لأن الولد لا يعطي من الزكاة
الواجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره، والأم يلزمها نفقة ولدها إذا كان
أبوه فقيرا عاجزا عن التكسب جدا عند الحنفية. ويمتنع إعطاء الصدقة الواجبة من يلزم
المعطي نفقته
(11/321)
وسيأتي الكلام على إعطاء
الزكاة للزوج والولد. وما مسألة الحلي ففيها خلاف بين العلماء. فقال أبوحنيفة
وأصحابه والثوري وعبدالله بن المبارك: تجب فيها الزكاة، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب
وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمرو وعبدالله عباس وابن عمر وعائشة، وبه قال
عبدالله بن شداد وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وابن سيرين، وجابر بن زيد
ومجاهد والزهري وطاووس وميمون بن مهران والضحاك وعلقمة والأسود، وعمر بن عبدالعزيز
وإبراهيم النخعي وذر الهمداني والأوزاعي وابن شبرمة، والحسن بن حي وابن المنذر
وابن حزم وهي رواية عن أحمد كما في المغني، وهو أحد أقوال الشافعي. وذهب مالك
وأحمد وإسحاق والشافعي في أظهر قوليه إلى أنها لا تجب الزكاة فيها، وروي ذلك عن
ابن عمر وجابر وأنس وعائشة وأسماء رضي الله عنهم، وبه قال القاسم ابن محمد والشعبي
وقتادة ومحمد بن علي وعمرة وأبوعبيد وأبوثور، قال ابن المنذر: وقد كان الشافعي قال
بهذا إذا هو
.................................
(11/322)
بالعراق، ثم وقف عنه بمصر وقال: هذا مما استخير الله تعالى فيه ذكر المنذري في الترغيب. وقال الليث: ما كان من حلي يلبس ويعار فلا زكاة فيه، وإن اتخذ للتحرز من الزكاة ففيه الزكاة. وقال أنس بن مالك: يزكي عاما واحدا لا غير. قال الأمير اليماني: في المسألة أربعة أقوال. الأول: وجوب الزكاة وهو مذهب الهادوية وجماعة من السلف وأحد أقوال الشافعي، عملا بما روى في ذلك من الأحاديث. والثاني: لا تجب الزكاة في الحلية وهو مذهب مالك وأحمد والشافعي في أحد أقواله، لآثار وردت عن السلف قاضية بعدم وجوبها في الحلية، ولكن بعد صحة الحديث لا أثر للآثار. والثالث: إن زكاة الحلية عاريتها. والرابع: إنها تجب فيها الزكاة مرة واحدة، رواه البيهقي عن أنس وأظهر الأقوال دليلا وجوبها لصحة الحديث وقوته- انتهى. قلت: القول بوجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة هو الظاهر الراجح المعول عليه عندي، لعموم قوله تعالى: ?والذين يكنزون الذهب والفضة? الآية ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: في الرقة ربع العشر. قال ابن قتيبة: الرقة الفضة سواء كانت الدراهم أو غيرها، نقله ابن الجوزي في التحقيق، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة، والورق يطلق على الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة يدل على ذلك ما جاء في الحديث إن عرفجة اتخذ أنفا من ورق، وفي حديث عائشة عند أبي داود وغيره فرأى في يدي فتخات من ورق. قال الخطابي في المعالم: (ج3:ص17) الطاهر من الكتاب يشهد لقول من أوجبها والأثر يؤيده، ومن أسقطها ذهب إلى النظر، ومعه طرف من الأثر والاحتياط أداءها- انتهى. وقال ابن حزم في المحلي: (ج6:ص80) لما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقة ربع العشر وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، فإذا بلغ مائتي درهم ففيها خمسة دراهم وكان الحلي ورقا وجب فيه حق الزكاة لعموم هذين الأثرين الصحيحين. وأما الذهب فقد صح عن رسول الله
(11/323)
صلى الله عليه وسلم ما من صاحب
ذهب لا يؤدي ما فيها إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار يكوي بها، فوجبت الزكاة
في كل ذهب بهذا النص، ولم يأت إجماع قط بأنه عليه السلام لم يرد إلا بعض أحوال
الذهب وصفاته، فلم يجز تخصيص شيء من ذلك بغير نص ولا إجماع. وقال: قد صح عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - إيجاب الزكاة في الذهب عموما، ولم يخص الحلي منه بسقوط
الزكاة فيه، لا بنص ولا بإجماع فوجبت الزكاة بالنص في كل ذهب وفضة، ولم يجز تخصيص
شيء منهما إذ قد عمهما النص، فوجب أن لا يفرق بين أحوال الذهب بغير نص، ولا إجماع.
والحلي فضة أو ذهب فلا يجوز أن يقال إلا الحلي بغير نص في ذلك ولا إجماع انتهى
مختصرا. وقال الرازي في تفسيره: الصحيح عندنا وجوب الزكاة في الحلي، والدليل عليه
قوله تعالى: ?والذين يكنزون الذهب والفضة? الآية وأيضا العمومات الواردة في إيجاب
الزكاة في الحلي المباح، قال عليه السلام: في الرقة ربع العشر وغير ذلك من
.............................
(11/324)
الأخبار فهذه الآية مع جميع هذه الأخبار توجب الزكاة في الحلي المباح، ثم نقول: ولم يوجد لهذا الدليل معارض من الكتاب وهو ظاهر؛ لأنه ليس في القرآن ما يدل أنه لا زكاة في الحلي المباح ولم يوجد في الأخبار أيضا معارض إلا أن أصحابنا نقلوا فيه خبرا وهو قوله عليه السلام: لا زكاة في الحلي المباح، إلا إن أباعيسى الترمذي قال: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلي خبر صحيح. وأيضا بتقدير أن يصح هذا الخبر فنحمله على اللآلي؛ لأن الحلي في الحديث مفرد محلي بالألف واللام، وقد دللنا على أنه لو كان هناك معهود سابق وجب إنصرافه إليه، والمعهود في القرآن في لفظ الحلي اللآلي قال تعالى: ?وتستخرجوا منه حلية تلبسونها? وإذا كان كذلك انصرف لفظ الحلي إلى اللآلي فسقطت دلالته، وأيضا الاحتياط في القول بوجوب الزكاة، وأيضا لا يمكن معارضة هذا النص بالقياس؛ لأن النص خير من القياس، فثبت إن الحق ما ذكرنا- انتهى. قلت: حديث لا زكاة في الحلي رواه ابن الجوزي في التحقيق بسنده عن عافية بن أيوب عن ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس في الحلي زكاة. وعافية هذا قال الذهبي في الميزان: في ترجمته تكلم فيه ما هو بحجة وفيه جهالة- انتهى. وقال ابن عبدالهادي: الصواب وقفه. وقال الزيلعي (ج2:ص374) قال البيهقي في المعرفة: هو حديث باطل، لا أصل له إنما يروي عن جابر من قوله: وعافية بن أيوب مجهول، فمن احتج به مرفوعا كان مغررا بدينه داخلا فيما يعيب المخالفين من الاحتجاج برواية الكذابين - انتهى. وقال الشيخ في الإمام: رأيت بخط شيخنا المنذري وعافية بن أيوب لم يبلغني فيه ما يوجب تضعيفه. قال الشيخ: ويحتاج من يحتج به إلى ذكر ما يوجب تعديله - انتهى. وقال الحافظ في التخليص (ص183) وعافية. قيل: ضعيف. وقال ابن الجوزي: ما نعلم فيه جرحا. وقال البيهقي: مجهول. ونقل ابن أبي حاتم توثيقه عن أبي زرعة -
(11/325)
انتهى. قلت: وفي وجوب الزكاة
في الحلي أحاديث خاصة أيضا فمنها: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إن امرأة أتت
النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من
ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا. قالت لا، قال أيسرك أن يسورك الله بهما يوم
القيامة سوارا من نار. قال: فخلعتهما فألهتهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقالت: هما لله ولرسوله أخرجه أبوداود والنسائي وأبوعبيد (ص439) والدارقطني (207)
والبيهقي (ج4:ص140) كلهم من طريق حسين بن ذكوان المعلم عن عمرو بن شعيب وسكت عنه
أبوداود. وقال الزيلعي (ج2:ص370) قال ابن القطان إسناده صحيح. وقال المنذري في
مختصره. إسناده لا مقال فيه ثم بينه رجلا رجلا، وقال في آخر كلامه: وهذا إسناده
تقوم به الحجة إنشاءالله انتهى. وقال ابن الملقن: رواه أبوداود بإسناد صحيح ذكره
ميرك. وقال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده قوي - انتهى. ورواه الترمذي بسند فيه
مقال كما سيأتي. ومنها
...............................
(11/326)
حديث أم سلمة الآتي وهو حديث صحيح أو حسن كما ستعرف. ومنها: حديث أسماء بنت يزيد قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلينا أسورة من ذهب، فقال لنا: أتعطيان زكاته، فقلنا لا، قال: أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار أديا زكاته، أخرجه أحمد (ج6:ص461) قال المنذري في الترغيب: بإسناد حسن. وقال الهيثمي: في مجمع الزوائد (ج3:ص67) إسناده حسن وذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه، وقال في الدراية في إسناده مقال- انتهى. قلت: في سنده علي بن عاصم وهو متكلم فيه، قال البخاري: ليس بالقوى عندهم. وقال مرة يتكلمون فيه، وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطيء ويصر، وفيه أيضا شهر بن حوشب وهو صدوق كثير الإرسال والأوهام. والحق إن حديث أسماء هذا إن قصر عن درجة الحسن فلا يقصر عن أن يكون صالحا للإستشهاد. ومنها: حديث عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال ما هذا يا عائشة! فقلت صنعتهن أتزين لك بهن يا رسول الله! قال أفتؤدين زكاتهن، فقلت لا، قال هن حسبك من النار، أخرجه أبوداود والدارقطني (ص205) والحاكم (ج1:ص389-390) والبيهقي (ج4:ص139) قال الخطابي في المعالم (ج2:ص17) والغالب إن الفتخات لا تبلغ نصابا تجب فيها بمفردها الزكاة، وإنما معناه أن تضم إلى سائر ما عندها من الحلي فتؤدي زكاتها منه - انتهى. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقال ابن دقيق العيد: هو على شرط مسلم. ومنها: حديث فاطمة بنت قيس، قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم: بطوق فيه سبعون مثقالا من ذهب، فقلت يا رسول الله! خذ منه الفريضة فأخذ منه مثقالا وثلاثة أرباع مثقال. أخرجه الدارقطني (ص205) وفي إسناده أبوبكر الهذلي وهو ضعيف، ونصر بن مزاحم وهو أضعف منه، وتابعه عباد بن كثير أخرجه أبونعيم في ترجمة شيبان بن زكريا من تاريخه كذا في الدراية، وبسط
(11/327)
الكلام فيه الزيلعي (ج2:ص373)
ومنها: حديث عبدالله بن مسعود قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن لامرأتي
حليا من ذهب عشرين مثقالا. قال: فأد زكاته نصف مثقال أخرجه الدارقطني (ص205) قال
الحافظ: في الدراية إسناده ضعيف جدا. وأجاب القائلون: بعدم وجوب الزكاة في الحلي عن
هذه الأحاديث بأجوبة كلها مردودة، فمنها إن الزكاة في هذه الأحاديث محمولة على أنه
كان حين كان التحلي بالذهب حراما على النساء، فلما أبيح لهن سقطت منه الزكاة
بالاستعمال كما تسقط زكاة الماشية بالاستعمال، وهذا الجواب باطل. قال البيهقي في
المعرفة، كيف يصح هذا القول من حديث أم سلمة، وحديث فاطمة بنت قيس، وحديث أسماء
بنت يزيد، وفيها التصريح بلبسه مع الأمر بالزكاة، ذكره الزيلعي (ج2:ص374) ومنها إن
الزكاة المذكورة في هذه الأحاديث. إنما كانت للزيادة على قدر الحاجة، وهذا إدعاء
محض لا دليل عليه
رواه الترمذي.
1824-(16) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، إن امرأتين أتتا رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: وفي أيديهما سوران من ذهب، فقال: لهما تؤديان زكاته، قالتا: لا، فقال
لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتحبان أن يسور كما الله بسوارين من
نار، قالتا: لا، قال فأديا زكاته)). رواه الترمذي. وقال هذا حديث قد روى المثنى بن
الصباح، عن عمر بن شعيب نحو هذا
(11/328)
بل في بعض الروايات ما يرده. قال الزيلعي: (ج2 ص374) بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، من رواية أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهوية بلفظ: فأديا زكاة هذا الذي في أيديكما، ما نصه وهذا اللفظ يرفع تأويل من يحمله على أن الزكاة المذكورة فيه، شرعت للزيادة فيه على قدر الحاجة - انتهى. ومنها إن المراد بالزكاة في هذه الأحاديث التطوع لا الفريضة أو المراد بالزكاة العارية. قال القاري: وهما في غاية البعد إذ لا وعيد في ترك التطوع والإعارة مع أنه لا يصح إطلاق الزكاة على العارية لا حقيقة ولا مجازا (رواه الترمذي) قال ميرك: ورجاله موثقون. قلت أصل الحديث في الصحيحين كما سيأتي في باب أفضل الصدقة.
(11/329)
1284- قوله: (وفي أيديهما
سواران) تثنية سوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار بالضم، وجمعه أسورة وأساور وأساورة
كذا في القاموس. ويقال له بالفارسية، دست برنجن، وفي الهندية كنكن. قال الطيبي:
الظاهر أسورة لجمع اليد، والمعنى إن في يدي كل واحدة منهما سوارين. قلت: وقع في
رواية لأحمد والدارقطني وعليهما أسورة وفي أخرى لأحمد وفي أيديهما أساور (تؤديان)
أي أتؤديان (زكاته) أي الذهب أو ما ذكر من السوارين. قال الطيبي: الضمير فيه بمعنى
اسم الإشارة كما في قوله تعالى: ?لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك? [البقرة: 68] (أن
يسوركما الله بسوارين من نار) وعند أحمد في رواية: أن يسور كما الله يوم القيامة
أساور من نار وفي أخرى: إن سور كما الله سوارين من نار، يقال سورت المرأة بالتشديد
أي ألبستها سوارا. (فأديا زكاته) وفي رواية لأحمد: فأديا حق هذا الذي في أيديكما،
وفي أخرى له: فأديا حق الله عليكما في هذا. وفي هذا الحديث أيضا دليل على وجوب
الزكاة في الحلي. قال شيخنا: وهو الحق (رواه الترمذي) من طريق ابن لهيعة عن عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه أحمد (ج2 ص178- 204- 208) والدارقطني (ص206) وابن
أبي شيبة في مصنفه (ج3 ص27) الثلاثة من طريق الحجاج بن إرطاة عن عمرو بن شعيب نحوه
(وقال) أي الترمذي (هذا الحديث قد روى المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب نحو هذا)
قد تقدم أنه رواه عنه
والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يضعفان الحديث، ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - شيء.
(11/330)
الحجاج بن أرطاة أيضا عند أحمد والدارقطني وابن أبي شيبة وحسين بن ذكوان المعلم عند أبي داود والنسائي وأبي عبيد والدارقطني والبيهقي، ولم أقف على من أخرجه من طريق المثنى بن الصباح. وأما قول الزيلعي وبسند الترمذي رواه أحمد وابن أبي شيبة واسحاق بن راهوية في مسانيدهم. وقوله: "طريق آخر أخرجه أحمد رضي الله عنه في مسنده عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب به وهي الطريق التي أشار إليها الترمذي" ففيه نظر. قال الشيخ أحمد شاكر في شرحه الترمذي للمسند: (ج10 ص200) بعد ذكر قولي الزيلعي المذكورين "لست أدري كيف كان هذان النقلان" أما مسند ابن راهوية فإني لم أراه ولكن مصنف ابن أبي شيبة أمامي وليس فيه إلا روايته من طريق الحجاج بن أرطاة، وكذلك مسند الإمام أحمد بين يدي وأستطيع أن أجزم بالاستقراء التام إنه لم يروه إلا من طريق الحجاج، فمن أين جاء بنسبة روايتي ابن لهيعة والمثنى بن الصباح لمسند أحمد؟ وهو أعنى الزيلعي لا يريد بإشارته إليهما رواية الحجاج بن أرطاة يقينا، لأن كلامه صريح في الرواية من طريق ابن لهيعة والمثنى. ثم هو قد ذكر بعد ذلك رواية الحجاج بن أرطاة (ج3 ص371) ونسبها لأحمد والدارقطني فإن كان هذان النقلان سهوا منه يكن سهوا عجيبا، وإلا فإني عاجز أن أجد لشيء منه توجيها أو تأويلا - انتهى. (والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يضعفان) بصيغة المجهول (في الحديث) اعلم أنه روى الترمذي في جامعه هذا الحديث أولا عن قتيبة نا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ثم قال: هذا حديث قد روى المثنى ابن الصباح عن عمرو بن شعيب الخ. وبهذا يظهر وجه تقريب ذكر ابن لهيعة وتضعيفه. وإنما وقع الإجمال والإغلاق في نقل صاحب المشكاة، وابن لهيعة هو عبدالله بفتح اللام وكسر الهاء ابن عقبة الحضرمي أبوعبدالرحمن المصري القاضي. قال في التقريب هو صدوق خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في
(11/331)
مسلم بعض شيء مقرون مات سنة
أربع وسبعين ومائة، وقد ناف على الثمانين - انتهى. وارجع للبسط إلى تهذيب التهذيب
(ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء) قال ابن الملقن: بل
رواه أبوداود بإسناد صحيح، ذكره ميرك كذا في المرقاة، وقال الزيلعي في نصب الراية:
(ج2 ص370) قال المنذري: لعل الترمذي قصد الطريقين الذي ذكرهما، وإلا فطريق أبي
داود لا مقال فيها وقال ابن القطان: بعد تصحيحه لحديث أبي داود، وإنما ضعف الترمذي
هذا الحديث؛ لأن عنده فيه ضعيفين ابن لهيعة والمثنى بن الصباح - انتهى. وقال
الحافظ في الدراية: (ص161) بعد نقل كلام الترمذي هذا ما لفظه كذا قال، وغفل عن
طريق خالد بن الحارث - انتهى. وأراد الحافظ بطريق خالد، هذا ما روى أبوداود عن أبي
كامل
1825-(17) وعن أم سلمة، قالت: كنت ألبس أوضاحا من ذهب، فقلت يا رسول الله! أكنز
هو؟ فقال: ((ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي، فليس بكنز)). رواه مالك، وأبوداود.
(11/332)
الجحدري، وحميد بن مسعدة والنسائي عن إسماعيل بن مسعود، كلهم عن خالد بن الحارث عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، إن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - الحديث. وقد ذكرنا سياقه. وقال في التلخيص: (ص183) بعد ذكر سياق أبي داود أخرجه من حديث حسين المعلم، وهو ثقة عن عمرو، وفيه رد على الترمذي حيث جزم بأنه لا يعرف إلا من حديث ابن لهيعة، والمثنى بن الصباح عن عمرو، وقد تابعهم حجاج بن أرطاة أيضا. وقال الشيخ أحمد شاكر في شرحه لمسند الإمام أحمد: (ج10 ص197)بعد نقل كلام الترمذي المتقدم ما لفظه، والعجب من الترمذي كيف خفي عليه رواية الحجاج بن أرطاة هذا الحديث، عن عمرو بن شعيب مع كثرة من رووه عن الحجاج والثقة بهم. ثم إن أكثر ما يؤخذ على هؤلاء الثلاثة الحجاج ابن أرطاة وابن لهيعة والمثنى بن الصباح، خشية الغلط أو الاضطراب مع ما رمى به الحجاج من التدليس، ولم يجرح واحد منهم في صدقة وأمانته فإذا اتفق هؤلاء الثلاثة، أو اثنان منهم على رواية حديث كان احتمال الخطأ مرفوعا أو بعيدا على الأقل. فإني يكون هذا الحديث ضعيفا، وقد جاء نحو معناه بإسناد صحيح لا خلاف في صحته، فذكر رواية أبي داود والنسائي من طريق خالد بن الحارث، ولم ينفرد بذلك خالد بل تابعه محمد بن أبي عدي عند أبي عبيد، وأبوأسامة عند الدارقطني، فظهر بهذا أن قول الترمذي "ولا يصح في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء" غير صحيح والله تعالى أعلم.
(11/333)
1825- قوله: (كنت ألبس) بفتح
الموحدة من باب سمع (أوضاحا) في النهاية هو جمع وضح بفتحتين نوع من الحلي يعمل من
الفضة سمي به لبياضه. وفي جامع الأصول (ج5 ص480) الأوضاح حلي من الدراهم الصحاح،
هكذا قال الجوهري، وقال الأزهري: الأوضاح حلي من الفضة - انتهى. وفي منتهى الأرب
بالفارسية وضح بمعنى خلخال أي حلقة طلا، ونقره كه در بائي كنند، وآنرا بفارسي بائي
برنجن نامند (من ذهب) هذا يدل على أنها تسمى إذا كانت من ذهب أوضاحا (أكنز هو)
يعني استعمال الحلي كنز من الكنوز الذي بشر صاحبه بالنار في قوله تعالى: ?والذين
يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم? [التوبة: 34]
(ما بلغ) أي الذي بلغ (أن تؤدي) بصيغة المجهول (زكاته) أي بلغ نصابا (فزكى) بصيغة
المجهول أي أدى زكاته (فليس بكنز) فيه دليل كما في الحديث الذي قبله على وجوب زكاة
الحلية، وإن كل مال أخرجت زكاته فليس بكنز، فلا يشمله الوعيد في الآية (رواه مالك
وأبوداود) ونسبه الجزري في جامع الأصول (ج5 ص331) إلى مالك فقط. حيث قال(ط عطاء بن
أبي رباح) قال بلغني إن أم سلمة قالت: كنت ألبس
1826-(18) وعن سمرة بن جندب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان يأمرنا أن
نخرج الصدقة، من الذي نعد للبيع)).
(11/334)
أوضاحا من الذهب فذكر مثل سياق الكتاب سواء. ثم قال: أخرجه الموطأ ولم أجد حديث أم سلمة هذا في النسخ الموجودة عندنا من الموطأ، ولم يعزه إليه أحد غير صاحب المشكاة وصاحب جامع الأصول فقد أورده الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص371، 372) والحافظ في الفتح، والتلخيص والدراية، وبلوغ المرام، والعيني في شرح البخاري (ج9 ص34) والشوكاني في السيل الجرار، والنابلسي في ذخائر المواريث، ولكنه لم ينسبه أحد منهم إلى الموطأ، ولا أدري كيف كانت نسبة المصنف، والجزري هذه الرواية إلى الموطأ ولعل هذا سهو منهما. ويمكن أن يأول أن يوجه بأنها كانت موجودة في رواية غير يحيى المصمودي للموطأ والله تعالى اعلم - والحديث. أخرجه أبوداود من طريق عتاب بن بشير عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة، وأخرجه الحاكم (ج1 ص390) عن محمد بن مهاجر عن ثابت به. ولفظه: إذا أديت زكاته فليس بكنز، وكذلك رواه الدارقطني (ص204) والبيهقي (ج4 ص83) وصححه الحاكم والذهبي على شرط البخاري. وقال الحافظ في الدراية: قواه ابن دقيق العيد: وقال في الفتح: بعد عزوه إلى الحاكم وصححه ابن القطان أيضا، وأخرجه أبوداود. وقال ابن عبدالبر في سنده مقال. وذكر شيخنا في شرح الترمذي إن سنده جيد - انتهى. قلت: تكلم في هذا الحديث البيهقي وابن الجوزي، وقد رد عليهما الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص372) والحق عندي: أن هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن بل هو صحيح، كما قال الحاكم والذهبي وابن القطان والله تعالى أعلم. فائدة يعتبر في النصاب في الحلي الذي تجب فيه الزكاة بالوزن، فلو ملك حليا قيمته مائتا درهم ووزنه دون المائتين، لم يكن عليه زكاة، وإن بلغ مائتين وزنا ففيه الزكاة. وإن نقص في القيمة لقوله عليه السلام "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" اللهم إلا أن يكون الحلي للتجارة فيقوم، فإذا بلغت قيمته بالذهب والفضة نصابا ففيه الزكاة؛ لأن الزكاة متعلقة بالقيمة، وما لم يكن للتجارة
(11/335)
فالزكاة في عينه فيعتبر أن
يبلغ بقيمته ووزنه نصابا وهو، مخير بين إخراج ربع العشر حلية مشاعا أو دفع ما
يساوي ربع عشرها من جنسها. وإن زاد في الوزن على ربع العشر؛ لأن الربا لا يجري
ههنا، لأن المخرج حق لله ولا ربوا بين العبد وسيده، ولو أراد كسرها ودفع ربع عشرها
لم يكن منه لأنه ينقص قيمتها، وهذا مذهب الشافعي. وإن أراد إخراج الفضة عن حلي
الذهب أو الذهب عن الفضة أخرج على الوجهين كما قدمنا في إخراج أحد النقدين عن
الآخر كذا في المغنى (ج3 ص12).
1826- قوله: (كان يأمرنا أن نخرج الصدقة) أي الزكاة الواجبة (من الذي) أي المال
الذي (نعده) بضم النون وكسر العين المهملة من الأعداد أي نهيئه (للبيع) أي للتجارة
وخص لأنه الأغلب. قال الطيبي: وفيه
..................................
(11/336)
دليل على أن ما ينوي به القنية لا زكاة فيه - انتهى. قلت: الحديث دليل ظاهر على وجوب الزكاة في مال التجارة، لأن قول الراوي يأمرنا يفهم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي بصيغة تفيد الأمر، والأصل فيه الوجوب وهي قرينة على حمل الصدقة على الزكاة الواجبة. واختلف العلماء في ذلك: قال ابن رشد في البداية: (ص230) اتفقوا على أن لا زكاة في العروض التي لم يقصد بها التجارة، واختلفوا في إيجاب الزكاة فيما اتخذ منها للتجارة. فذهب فقهاء الأمصار إلى وجوب ذلك ومنع ذلك أهل الظاهر - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص29) تجب الزكاة في قيمة عروض التجارة في قول أكثر أهل العلم، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة، إذا حال عليها الحول. روى ذلك عن ابن عمر وابنه وابن عباس، وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر ابن زيد وميمون بن مهران، وطاووس والنخعي والثوري والأوزاعي والشافعي وأبوعبيد وإسحاق وأصحاب الرأي، وحكى عن مالك وداود لا زكاة فيها - انتهى. قلت: ما حكى عن مالك هو سهو من ابن قدامة؛ لأن الموطأ صريح في إيجاب الزكاة في مال التجارة، واتفقت فروع المالكية على إثباتها، ولم يحك أحد من نقله المذاهب خلاف مالك، في ذلك ويمكن أن تكون المسألة اشتبهت على ابن قدامة بالتاجر المحتكر، فإن الإمام مالكا لم يقل بوجوب الزكاة عليه في كل سنة، خلافا للجمهور. بل قال: إنما يجب الزكاة عليه في ثمنه إذا نض بالبيع لسنة واحدة فقط. وإن أقام عنده أحوالا. قلت: واستدل للجمهور على وجوب الزكاة في مال التجارة بحديث الباب وفي سنده مقال. واختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه كما ستعرف. وبقوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة? [التوبة: 103] قال ابن العربي: وهذا عام في كل مال على اختلاف أصنافه وتباين أسماءه واختلاف أغراضه، فمن أراد أن يخصه في شيء فعليه الدليل وبقوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما
(11/337)
كسبتم? [البقرة: 267] قال
مجاهد: نزلت في التجارة. وبما روى عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: في الإبل صدقتها، وفي البز صدقته. أخرجه أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي.
قال الحافظ في الدراية: وإسناده حسن - انتهى. وفسروا البز بالثياب المعدة للبيع
عند البزارين. قلت: للحديث أربعة طرق إحداها: عن عاصم عن موسى بن عبيدة الربذي عن
عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس أبي الحدثان عن أبي ذر. والثانية: عن سعيد بن
سلمة بن أبي الحسام عن موسى بن عبيدة عن عمران بن أبي أنس، وهاتان الطريقتان عند
الدارقطني (ص203) والبيهقي (ج4 ص147) قال الدارقطني: في آخر الطريق الأولى، وفي
البز صدقته قالها بالزاي، وفي آخر الثانية كتبته من الأصل العتيق، وفي البز مقيدا
- انتهى. وموسى بن عبيدة ضعيف. والثالثة: من رواية ابن جريج عن عمران بن أبي أنس
وهي عند أحمد (ج6 ص179) والدار قطني (ص203) والحاكم (ج1 ص388) والبيهقي (ج4 ص147)
رواها الدارقطني والبيهقي بلفظ: وفي البز
...................................
(11/338)
صدقته أي بالزاي المعجمة، ولفظ أحمد والحاكم في النسختين المطبوعتين من المسند والمستدرك وفي البر صدقته أي بالراء المهملة. وقال ابن دقيق العيد: الأصل الذي نقلت منه هذا الحديث من المستدرك، ليس فيه البز بالزاي المعجمة وفيه ضم الباء في الموضعين أي في هذا الطريق، وفي الطريق الآتي فيحتاج إلى كشفه من أصل آخر معتبر، فإن اتفقت الأصول على ضم الباء فلا يكون فيه دليل على مسألة زكاة التجارة - انتهى. قال الزيلعي: وهذا فيه نظر، فقد صرح به في مسند الدارقطني، قالها بالزاي كما تقدم (ولكن طريقة ضعيفة كما عرفت). وقال النووي في تهذيب اللغات: هو بالباء والزاي، ومن الناس من صحفه بضم الباء وبالراء المهملة وهو غلط - انتهى. وهذا الطريق الثالث معلول، وإن صححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين، لأن ابن جريج رواه عن عمران أنه بلغه عنه كما في مسند الإمام أحمد ورواه الترمذي في العلل من هذا الوجه. وقال: سألت البخاري عنه، فقال لم يسمعه ابن جريج من عمران، هو يقول حدثت عن عمران. وقال ابن القطان: ابن جريج مدلس، لم يقل حدثنا عمران، فالحديث منقطع ثم نقل كلام الترمذي. والطريقة الرابعة: عن سعيد بن سلمة بن أبي الحسام، ثنا عمران بن أبي أنس أخرجها الحاكم أيضا وصححها على شرط الشيخين. وقال الحافظ في التلخيص: وهذا إسناد لا بأس به. قلت: فالحديث بمجوع طرقه حسن صالح للاحتجاج هذا مما لا شك فيه عندنا. واستدل للجمهور أيضا بما روى الشافعي في الأم (ج2 ص39) وعبدالرزاق والدارقطني (ص213) وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والبيهقي (ج4 ص147) وأبوعبيد (ص425) عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه إن عمر قال له: قومها يعني الأدرم والجعاب ثم أد زكاتها. قال ابن قدامة: هذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر فيكون إجماعا. وبما روى محمد بن الحسن في كتاب الآثار (ص48) وأبوعبيد (ص533) عن زيادة بن جدير. قال:بعثني عمر مصدقا فأمرني أن آخذ من المسلمين من أموالهم إذا
(11/339)
اختلفوا بها للتجارة ربع العشر
الحديث. وبما روى البيهقي (ص147) بإسناد صحيح والشافعي (ج2 ص39) عن ابن عمر قال:
ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة. وبما روى عبدالرزاق من وجه آخر صحيح عن
ابن عمر أنه كان يقول: في كل مال يدار في عبيد أو دواب أو بز للتجارة تدار الزكاة
فيه كل عام. قال الزرقاني قال الطحاوي: ثبت عن عمر وابنه زكاة عروض التجارة ولا
مخالف لهما من الصحابة وهذا يشهد إن قول ابن عباس وعائشة، لا زكاة في العروض إنما
هو في عروض القنية. وقال البيهقي: بعد رواية أثر ابن عمر المتقدم وهذا قول عامة
أهل العلم، فالذي روى عن ابن عباس أنه قال: لا زكاة في العروض. فقد قال الشافعي:
في كتابة القديم إسناد الحديث عن ابن عباس ضعيف، فكان إتباع حديث ابن عمر لصحته
والاحتياط في الزكاة أحب إلي والله أعلم. قال البيهقي: وقد حكى ابن المنذر عن
عائشة وابن عباس مثل ما روينا عن ابن عمر ولم يحك خلافهم عن أحد، فيحتمل أن يكون
معنى قوله إن صح لا زكاة في العرض أي إذا لم يرد به التجارة - انتهى. وبما روى
1827-(19) وعن ربيعة بن أبي عبدالرحمن
(11/340)
(ج4 ص146) جميعهم من رواية جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة عن جده سمرة. قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده لين وفي الدراية فيه ضعف، وفي التلخيص في إسناده جهالة وقال الهيثمي: في إسناده ضعف. وقال ابن حزم: رواته يعني من جعفر إلى سمرة مجهولون لا يعرف من هم، وتبعه ابن القطان.فقال: ما من هؤلاء من يعرف حاله، وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم وهو إسناد يروي به جملة أحاديث قد ذكر البزار منها نحو المائة وقال عبدالحق: خبيب هذا ضعيف وجعفر ليس ممن يعتمد عليه. وقال الذهبي في الميزان: خبيب لا يعرف، وقد ضعف، قال: وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم - انتهى. قلت: الحديث سكت عنه أبوداود ثم المنذري بعده وهذا تحسين منهما. وقال ابن عبدالبر: وقد ذكر هذا الحديث رواه أبوداود وغيره بإسناد حسن - انتهى. وقال ابن القطان: متعقبا على عبدالحق فذكر في كتاب الجهاد حديث من كتم غالا فهو مثله، وسكت عنه من رواية جعفر بن سعد هذا، عن خبيب بن سليمان عن أبيه فهو منه تصحيح. ذكره الزيلعي (ج2 ص376) والرواة الثلاثة أي جعفر وخبيب وأبوه سليمان ذكرهم ابن حبان في ثقاته. فائدة قال ابن قدامة: (ج3 ص30) من ملك عرضا للتجارة فحال عليه الحول وهو نصاب قومه في آخر الحول، فما بلغ أخرج زكاته وهو ربع عشر قيمته، ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في اعتبار الحول، وقد دل عليه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" إذا ثبت هذا فإن الزكاة تجب فيه في كل حول، وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبوعبيد وأصحاب الرأي. وقال مالك: لا يزكيه إلا لحول واحد إلا أن يكون مديرا أي غير محتكر - انتهى. قلت: حاصل مذهب مالك ما ذكره الزرقاني من أن إدارة التجارة ضربان. أحدهما: التقلب فيها وإرتصاد الأسواق بالعروض فلا زكاة، وإن أقام أعواما حتى يبيع فيزكي لعام واحد. والثاني: البيع في كل وقت بلا انتظار سوق كفعل
(11/341)
أرباب الحوانيت فيزكي كل عام
بشروط أشار إليها الباجي وذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم إلى أن التاجر يقوم كل عام
ويزكي مديرا كان أو محتكرا - انتهى. قلت: ظاهر الأحاديث والآثار المذكورة التي
فيها الأمر بالزكاة، مما يعد للبيع يعم المدير والمحتكر من غير فرق، بين ما ينض
وبين ما لا ينض، فالقول الراجح هو ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة ثم ههنا مسائل تتعلق
بالزكاة في عروض التجارة، لا يستغني عنها الطالب فعليه أن يرجع إلى المغني.
1827- قوله: (وعن ربيعة بن أبي عبدالرحمن) التيمي مولاهم أبوعثمان المدني المعروف
بربيعة الرأي واسم أبيه فروخ ثقة فقيه مشهور من صغار التابعين، أدرك بعض الصحابة
والأكابر من التابعين، وكان أحد مفتى المدينة، وكان يجلس إليه وجوه الناس
بالمدينة، وعنه أخذ مالك روى عن أنس والسائب بن يزيد وابن
عن غير واحد، ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطع لبلال بن الحارث المزني،
معادن القبلية
(11/342)
المسيب والقاسم بن محمد ومكحول وغيرهم، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك وشعبة والسفيانان، وحماد ابن سلمة والليث والدراوردي وغيرهم. قال ابن سعد: كانوا يتقونه لموضع الرأي مات سنة (136) على الصحيح وقيل سنة (133) وقال الباجي: في رجال البخاري سنة (142) قال مالك: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة. وقال الذهبي: كان ربيعة إماما حافظا فقيها مجتهدا بصيرا بالرأي، ولذلك يقال له ربيعة الرأي أخباره مستوفاة في تاريخ دمشق وتاريخ بغداد قال الخطيب: كان فقيها عالما حافظا للفقه والحديث - انتهى. (عن غير واحد) زاد رواية أبي والبيهقي من علماءهم (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال المنذري: هذا مرسل، وهكذا رواه مالك في الموطأ مرسلا ولفظه عن غير واحد من علماءهم. وقال أبوعمر بن عبدالبر: هكذا في الموطأ عند جميع الرواة مرسل، ولم يختلف فيه عن مالك، وذكر إن الدراوردي رواه عن ربيعة عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه وقال أيضا: وإسناد ربيعة فيه صالح حسن كذا في عون المعبود. قلت: وصله البزار وأبوعبيد (ص290) والحاكم (ج1 ص404) ومن طريقة البيهقي (ج4 ص152) من رواية عبدالعزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن عبدالبر: ورواه أبوسبرة المديني عن مطرف عن مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن بلال موصولا، لكن لم يتابع عليه، قال ورواه أبوأويس عن كثير بن عبدالله عن أبيه عن جده وعن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس. قلت: أخرجه من الوجهين الآخرين أحمد (ج1 ص306) وأبوداود وكثير بن عبدالله حسن حديثه البخاري والترمذي وتكلم فيه غيرهما، وأبوأويس عبدالله ابن عبدالله أخرج له مسلم الشواهد وضعفه غير واحد (أقطع) من الإقطاع وهذه رواية أبي داود، وفي الموطأ قطع بدون الهمزة، وكذا عند أبي عبيد (ص338) والبيهقي (ج4 ص152) والمعروف عند أهل اللغة،
(11/343)
وفي الأحاديث والآثار هو
الإقطاع. قال الحافظ في الفتح. تقول أقطعته أرضا جعلتها له قطيعة، والمراد به ما
يخص به الإمام بعض الرعية من الأرض الموات، فيختص به ويصير أولى بإحياءه ممن لم
يسبق إلى أحياءه. واختصاص الإقطاع بالموات متفق في كلام الشافعية - انتهى. وقال
الطيبي: الإقطاع ما يجعله الإمام لبعض الأجناد والمرتزقة من قطعة أرض ليرتزق من
ريعها في النهاية، الإقطاع يكون تمليكا وغير تمليك. وقال العيني: الإقطاع هو تسويغ
الإمام من مال الله تعالى لمن يراه أهلا لذلك، وأكثرها ما يستعمل في إقطاع الأرض،
وهو أن يخرج منها شيئا يجوزه، إما أن يملكه إياه فيعمره، أو يجعل له غلته ففي صورة
التمليك الذي أقطع له، وهو الذي يسمى المقطع له رقبة الأرض فيصير ملكا له، يتصرف
فيه تصرف الملاك في أملاكهم، وفي صورة جعل الغلة لا يملك إلا منفعة الأرض دون
رقبتها. فعلى هذا لا يجوز للجندي الذي يقطع له أن يوجر ما اقطع له، لأنه يملك
منافعها وإن لم يملك رقبته (معادن القبيلة) بفتح القاف وفتح الموحدة وكسر اللام
وبالياء المشددة المفتوحة
..................................
(11/344)
واختلف الأئمة في حكم هذه الأنواع، فذهب الحنفية كما تقدم إلى أن وجوب الخمس يختص بالنوع الأول دون النوعين الأخيرين. قال الكاساني: أما ما لا يذوب بالإذابة فلا خمس فيه ويكون كله للواجد، لأن الجص والنورة ونحوهما من أجزاء الأرض، فكان كالتراب والياقوت والفص من جنس الأحجار غير أنها أحجار مضيئة، ولا خمس في الحجر.وقال مالك والشافعي وابن حزم وداود يجب الزكاة في الذهب والفضة خاصة. وأوجب أحمد الزكاة في الأنواع الثلاثة. قال في الرواض المربع: المعدن إن كان ذهبا أو فضة ففيه ربع عشره إن بلغ نصابا، وإن كان غيرهما ففيه ربع عشر قيمته، إن بلغت نصابا بعد سبك وتصفية - انتهى. واستدل ابن قدامة لذلك بعموم قوله تعالى: ?ومما أخرجنا لكم من الأرض? [البقرة: 267] وقال الشاه ولي الله الدهلوي في المصفى شرح الموطأ بالفارسية: الظاهر إن المعادن القبلية لم تكن من الذهب والفضة، فإنها لم يذكرها أهل التاريخ، ومن البعيد سكوت جميعهم عن ذكرها، وإهمالهم إياها أو خفاءها عليهم، مع كونها بقرب المدينة. فالظاهر إنها كانت من بقية المنطبعات أو من غير ما ينطبع كالمغرة والنورة وهذا الأخير أقرب، فالظاهر هو ما قال به أحمد: من أن الزكاة تجب في كل ما يخرج من المعدن، منطبعا كان أو غير منطبع - انتهى معربا. الثانية: اختلفوا هل يشترط النصاب في الوجوب فيما يخرج من المعدن أم لا، قال العيني: يجب الخمس في قليله وكثيره ولا يشترط فيه النصاب عندنا واشترط مالك والشافعي وأحمد لوجوب الزكاة فيه أن يكون الموجود نصابا ولنا أن النصوص خالية عن اشتراط النصاب فلا يجوز اشتراطه بغير دليل شرعي - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص25) وهو أي نصاب المعادن ما يبلغ من الذهب عشرين مثقالا، ومن الفضة مائتي درهم، أو قيمة ذلك من غيرهما، وهذا مذهب الشافعي. وأوجب أبوحنيفة الخمس في قليله وتكثيره من غير اعتبار نصاب، بناء على أنه ركاز لعموم الأحاديث التي احتجوا بها
(11/345)
عليه؛ ولأنه لا يعتبر له حول
فلم يعتبر له نصاب كالركاز. ولنا عموم قوله السلام: ليس فيما دون خمس أواق صدقة.
وقوله: ليس في تسعين ومائة شيء، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ليس عليكم في الذهب
شيء، حتى يبلغ عشرين مثقالا. وقد تقدم إن هذا ليس بركاز، وأنه مفارق للركاز، حيث
إن الركاز مال كافر أخذ في الإسلام فأشبه الغنيمة، وهذا وجب مواساة وشكر النعمة
الغني فاعتبر له النصاب كسائر الزكوات، وإنما لم يعتبر له الحول لحصوله دفعة واحدة
فأشبه الزروع والثمار - انتهى. الثالثة: قال ابن قدامة: (ج3 ص26) تجب الزكاة في ما
يخرج من المعدن حين يتناوله ويكمل نصابه ولا يعتبر له حول، وهذا قول مالك والشافعي
وأصحاب الرأي. وقال إسحاق وابن المنذر: لا شيء في المعدن، حتى يحول عليه الحول
لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول, ولنا
أنه مال مستفاد من الأرض فلا يعتبر في وجوب حقه حول، كالزروع والثمار والركاز،
ولأن الحول إنما يعتبر في غير هذا لتكميل النماء، وهو يتكامل نماءه دفعة واحدة،
فلا يعتبر له
?الفصل الثالث?
1828- (20) عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس صدقة،
حول كالزروع - انتهى. قال ابن رشد (ج1:ص243) وسبب اختلافهم تردد شبهه بين ما تخرجه
الأرض مما تجب فيه الزكاة، وبين التبر والفضة المقتنيين، فمن شبهه بما تخرجه الأرض
لم يعتبر الحول فيه، ومن شبهه بالتبر والفضة المقتنيين أوجب الحول، وتشبيهه بالتبر
والفضة أبين - انتهى. وقد اعترض أيضا أبوعبيد (ص341-342) على تشبيهه المعدن
بالزرع، وابن حزم (ج6:ص110) على قياسه على الزرع والركاز، ووافق في ذلك إسحاق حيث
قال (ج6:ص111): لا زكاة في مال غير الزرع إلا بعد الحول، والمعدن من جملة الذهب
والفضة فلا شئ فيها إلا بعد الحول، وهذا قول الليث بن سعد وأحد أقوال الشافعي وقول
أبي سليمان - انتهى.
(11/346)
1828- قوله: (ليس في الخضروات) بفتح الخاء المعجمة جمع خضراء والمراد بها الرياحين والأوراد والبقول والخيار والقثاء والبطيخ والباذنجان وأشباه ذلك. قال يحيى بن آدم في الخراج: (ص146) الخضر عندنا الرطاب والرياحين والبقول والفاكهة مثل الكمثري والسفرجل والخوخ والتفاح والتين والأجاص والمشمش والرمان والخيار والقثاء والنبق والباقلي والجزر والموز والمقل والجوز واللوز والبطيخ وأشباهه - انتهى. وقال الأمير اليماني: الخضروات ما لا يكال ولا يقتات (صدقة) لأنها لا تقتات، والزكاة تختص بالقوت، وحكمته أن القوت ما يقوم به بدن الإنسان، لأن الأقتيات من الضروريات التي لا حياة بدونها، فوجب فيها حق لأرباب الضرورات قاله القاري. والحديث يدل على ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الزكاة في الخضروات، وقد ورد في هذا أحاديث أخرى مرفوعة عن عائشة ومحمد بن جحش وأنس ومعاذ وطلحة، لكنها كلها ضعيفة كحديث على هذا، وقد ذكرها مع بيان ضعفها الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص386-389) وقال الترمذي: ليس يصح في هذا الباب أي في نفي زكاة الخضروات عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء- انتهى. وأقوى ما استدل به للجمهور إن الخضر كانت بالمدينة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث لا يخفى ذلك، ولم ينقل أنه أمر بإخراج شئ منها، ولا أن أحد أخذ منها زكاة ولا أنهم يؤدونها اليه، ولو كان ذلك لنقل كما نقل زكاة سائر ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فثبت أنه لا زكاة فيها. وذهب أبوحنيفة إلى أنه تجب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض سواء كان من الحبوب أو الثمار أو الفواكه أو البقول أو غير ذلك بعد ما كان المقصود به استغلال الأرض، وروى ذلك عن عمر بن عبدالعزيز وأبي بردة بن أبي موسى وحماد والنخعي، وهو قول داود الظاهري وقواه ابن العربي، واليه يظهر ميل الفخر الرازي وهو مختار شيخ مشائخنا العلامة الغازي فوري. واستدل لهم بعموم قوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة?
(11/347)
[التوبة:103] وقوله: ?ومما
أخرجنا لكم من الأرض? [البقرة:267] وقوله: ?وآتوا حقه?
صدقة، ولا في أقل من خمسة أوسق صدقة، ولا في العوامل صدقة، ولا في الجبهة صدقة،
قال: الصقر الجبهة الخيل والبغل والعبيد)) رواه الدارقطني.
وزاد أنه رخص لهم أن يأكلوا الرطب ولا يشتروه لتجارة ولا ادخار، ومنع أبوحنيفة صور
البيع كلها وقصر العرية على الهبة، وهو أن يعرى الرجل تمر نخلة من نخلة ولا يسلم
ذلك، ثم يبدو له في ارتجاع تلك الهبة، فرخص له أن يحتبس ذلك، ويعطيه بقدر ما وهبه
له من الرطب بخرصه تمرا وحمله ذلك أخذه بعموم النهى عن بيع الثمر بالتمر. وتعقب:
بالتصريح باستثناء العرايا في حديث ابن عمر وفي حديث غيره انتهى كلام الحافظ.
وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في كتاب البيوع إنشاءالله تعالى (صدقة)؛ لأنها تكون دون
النصاب أو؛ لأنها خرجت عن ملك مالكها قبل الوجوب بطريق صحيح (ولا في أقل من خمسة
أوسق صدقة) فيه بيان نصاب المعشرات، وإنه لا تجب الزكاة فيها حتى تبلغ خمسة أوسق.
قال القاري: لأنه قليل فلا تتشرف الفقراء إلى المواساة منه (ولا في) الإبل أو
البقر (العوامل) للمالك أو لغيره (صدقة)؛ لأنها بالعمل صارت غير مقتناة للنماء
(ولا في الجبهة) قال أبو عبيد: الجبهة الخيل (صدقة قال الصقر) أي أحد رواة الحديث
وهو بفتح المهملة وسكون القاف ابن حبيب. ويقال: الصعق روى عن أبي رجاء العطاردي
تكلم فيه ابن حبان. فقال: يأتي عن الثقات بالمقلوبات، وغمزه الدارقطني في الزكاة،
ولا يكاد يعرف كذا في الميزان. قال الحافظ في اللسان: وبقية كلام ابن حبان يخالف
الثقات. وقال إنه شيخ من أهل البصرة سلولي - انتهى. (الجبهة الخيل والبغال
والعبيد) والذي في القاموس وغيره أنها الخيل. قال في الفائق: سميت بذلك؛ لأنها
خيار البهائم كما يقال وجه السلعة لخيارها ووجه القوم وجبهتهم لسيدهم. وقال بعضهم:
هي خيار الخيل ثم رأيت صاحب النهاية أشار إلى أن ما قاله الصقر فيه
(11/348)
بعد وتكلف قاله القاري. قلت:
روى البيهقي بسند ضعيف عن أبي هريرة مرفوعا، عفوت لكم عن صدقة الجبهة والكسعة
والنخة. قال بقية (أحد رواته) الجبهة الخيل والكسعة البغال والحمير والنخة
المربيات في البيوت، ثم رواه البيهقي عن عبدالرحمن بن سمرة مرفوعا. بلفظ: لا صدقة
في الكسعة والجبهة والنخة فسره أبوعمر وعبدالله بن يزيد (راوي الحديث) الكسعة
الحمير والجبهة الخيل والنخة العبيد. ثم ذكر تفصيل ذلك عن أبي عبيدة حيث قال: قال
أبوعبيد قال عبيدة: الجبهة الخيل والنخة الرقيق والكسعة الحمير. قال الكسائي
وغيره: في الجبهة والكسعة مثله. وقال الكسائي: والنخة برفع النون وفسره هو وغيره
في مجلسه البقر العوامل - انتهى. (رواه الدارقطني) (ص200) من حديث أحمد بن الحارث
البصري ثنا الصقر بن حبيب. قال: سمعت أبارجاء العطاردي يحدث عن ابن عباس عن علي بن
أبي طالب. قال الزيلعي (ج2:ص357-388) ومن طريق الدارقطني رواه ابن الجوزي في العلل
المتناهية والصقر ضعيف. قال ابن حبان في الضعفاء: ليس هو من كلام
1829- (21) وعن طاووس، إن معاذ بن جبل أتى بوقص البقر فقال: لم يأمرني فيه النبي
صلى الله عليه وسلم بشيء. رواه الدارقطني والشافعي.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما يعرف بإسناد منقطع فقلبه الصقر على أبي
رجاء وهو يأتي بالمقلوبات – انتهى. وأحمد بن الحارث الراوي عن الصقر. قال أبوحاتم
الرازي: هو متروك الحديث - انتهى.
(11/349)
1829- قوله: (وعن طاووس) هو طاووس بن كيسان اليماني أبوعبدالرحمن الحميري مولاهم الفارسي يقال اسمه ذكوان وطاووس لقب ثقة ثبت فقيه فاضل من أوساط التابعين مات سنة ست ومائة. وقيل: بعد ذلك (أتى) بصيغة المجهول (بوقص) بفتح الواو والقاف ويجوز إسكانها وإبدال الصاد سينا وهو ما بين الفرضين عند الجمهور واستعمله الشافعي فيما دون النصاب الأول (البقر فقال لم يأمرني فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء) أي بأخذ شيء ويؤيد هذا ما روى مالك في الموطأ عن حميد بن قيس عن طاووس، إن معاذا أخذ من ثلاثين بقرة تبيعا، ومن أربعين بقرة مسنة، وأتى بما دون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئا. وقال: لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئا حتى ألقاه فأسأله فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ: وقد ورد ما يدل على رفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فروى البزار والدارقطني (ص202) والبيهقي (ج4:ص98) وابن حزم من طريق المسعودي عن الحكم عن طاووس عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن - الحديث. فلما رجع سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه يعني الوقص. فقال: ليس فيها شيء. قال المسعودي: والأوقاص ما بين الثلاثين إلى الأربعين والأربعين إلى الستين. وأخرج أحمد (ج5:ص240) والطبراني من رواية سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم أن معاذا قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصدق أهل اليمن فذكر الحديث قال: فأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئا وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها ورواه أبوعبيد (ص383) من طريق سلمة بن أسامة، إن معاذا قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر مثله. وروى أبو عبيد (ص384) أيضا من طريق سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الأوقاص لا صدقة فيها. وقد تقدم الكلام في رواية سلمة بن أسامة ورواية المسعودي عن الحكم عن
(11/350)
طاووس عن ابن عباس، وروى
الطبراني من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم عن رجل عن معاذ عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: ليس في الأوقاص شيء ووقفه ابن أبي شيبة (ج3:ص13) من طريق ليث عن طاووس
عن معاذ قال: ليس في الأوقاص شيء، وروى الدارقطني في المؤتلف والمختلف عن عبيد بن
صخر بن لوذان الأنصاري قال: عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمالة على اليمن
في البقر في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة وليس في الأوقاص شيء. قال
الدارقطني: والأوقاص ما بين السنين اللذين يجب فيها الزكاة - انتهى. (رواه
الدارقطني) (ص202) (والشافعي) في الأم (ج2:ص7) كلاهما من حديث سفيان عن عمرو بن
دينار
وقال: الوقص ما لم يبلغ الفريضة.
(2) باب صدقة الفطر
(11/351)
عن طاووس إن معاذ بن جبل إلخ. ورواه أبوعبيد (ص383-384) عن حجاج عن ابن جريج وحماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن طاووس. إن معاذ بن جبل قال باليمن: لست بآخذ من أوقاص البقر شيئا حتى آتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرني فيها بشيء - انتهى. وروى ابن حزم (ج6:ص12) من طريق الحجاج بن منهال عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس، إن معاذ أتى بوقص البقر والعسل فلم يأخذه فقال: كلاهما لم يأمرني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء. ومن طريق الشافعي رواه البيهقي (ج4:ص98) وقد سبق إن رواية طاووس عن معاذ منقطعة. قال عبدالحق: طاووس لم يدرك معاذ- انتهى. وقال الشافعي: طاووس عالم بأمر معاذ، وإن كان لم يلقه لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذا، وهذا مما لا أعلم عن أحد فيه خلافا - انتهى. وقال البيهقي: طاووس وإن لم يلق معاذا، إلا أنه يماني وسيرة معاذ بينهم مشهورة (وقال) أي الشافعي (الوقص ما لم يبلغ الفريضة) أي ما لم يجب فيه شيء ابتداء كأربع الإبل ودون ثلاثين البقر وأربعين الغنم، وعند الجمهور هو ما بين السنين اللذين يجب فيهما الزكاة كما بين الخمس والعشر في الأول، والثلاثين والأربعين في الثاني، والأربعين والمائة والإحدى والعشرين في الثالث، قال القاري: والأشهر إطلاقه على المعنى الثاني. وقيل: الوقص في البقر خاصة - انتهى.
(11/352)
(باب صدقة الفطر) أي هذا باب
في ذكر الأحاديث التي تؤخذ منها أحكام صدقة الفطر. قال الله تعالى: ?قد أفلح من
تزكى وذكر اسم ربه فصلى? [الأعلى:14-15] روى عن ابن عمر وعمرو بن عوف زكاة الفطر،
وروى عن أبي العالية وابن المسيب وابن سيرين وغيرهم. قالوا: يعطي صدقة الفطر. ثم
يصلي، رواه البيهقي وغيره. والمراد بصدقة الفطر أي من رمضان فأضيفت الصدقة للفطر
لكونها تجب بالفطر منه. وقيل: إضافة الصدقة إلى الفطر من إضافة الشيء إلى شرطه
كحجة الإسلام. وقال ابن قتيبة المراد بصدقة الفطر صدقة النفوس مأخوذ من الفطرة
التي هي الخلقة المرادة بقوله تعالى: ?فطرة الله التي فطر الناس عليها? [الروم:30]
والمعنى إنها وجبت على الخلقة تزكية للنفس أي تطهيرا لها. قال الحافظ: والأول أظهر
ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث زكاة الفطر من رمضان - انتهى. وقوله "باب صدقة
الفطر، هكذا في كتب الحديث وأكثر كتب الفروع من المذهب المتبوعة، ووقع في بعض كتب
فروع الحنفية كالوقاية والنقاية والدرر باب صدقة الفطرة بزيادة التاء في آخره
وهكذا وقع في كلام الفقهاء، الفطرة نصف صاع من بر فقيل: لفظ الفطرة الواقع في
كلامهم اسم مولد حتى عده بعضهم من لحن العوام أي إن الفطرة المراد بها الصدقة غير
لغوية؛ لأنها لم تأت بهذا المعني.
...............................
(11/353)
وقيل قول الفقهاء على حذف المضاف أي صدقة الفطر فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه واستغنى به في الاستعمال لفهم المعنى. وقيل: حذف المضاف وأقيمت الهاء في المضاف اليه لتدل على ذلك. وقال: ابن عابدين بعد بسط الكلام في اشتقاقه من الفطرة بمعنى الخلقة. والحاصل إن لفظ الفطرة بالتاء لا شك في لغويته. ومعناه الخلقة، وإنما الكلام في إطلاقه مرادا به المخرج فإن أطلق عليه بدون تقدير فهو إصطلاح شرعي (للفقهاء) مولد. وأما مع تقدير المضاف فالمراد بها المعنى اللغوي (كما تقدم في كلام ابن قتيبة) وأما لفظ الفطر بدون تاء فلا كلام في أنه معنى لغوي (مستعمل قبل الشرع؛ لأنه ضد الصوم) ويقال لها أيضا زكاة الفطر وزكاة رمضان، وزكاة الصوم وصدقة رمضان، وصدقة الصوم، وتسمى أيضا صدقة الرؤوس، وزكاة الأبدان سماها الإمام مالك رحمه الله. وكان فرضها في السنة الثانية من الهجرة في شهر رمضان قبل العيد بيومين. واختلف في حكمها فقالت: طائفة هي فرض، وهم الشافعي ومالك وأحمد لقول ابن عمر وأبي سعيد وابن عباس. فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر. وقال الحنفية: هي واجبة بناء على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب. قال العيني: والنزاع لفظي؛ لأن الفريضة عند الشافعي (ومن وافقه) نوعان، مقطوع حتى يكفر جاحده، وغير مقطوع حتى لا يكفر جاحده، ومن جحد صدقة الفطر لا يكفر بالإجماع ولذا لا يكفر من قال إنها مستحبة، وأجاب ابن الهمام بأن الثابت بظني يفيد الوجوب وإنه لا خلاف في المعنى، لأن الافتراض الذي يثبته الشافعية ليس على وجه يكفر جاحده، فهو معنى الوجوب عندنا. وقد يجاب بأن قول الصحابي فرض، يراد به المعنى المصطلح عندنا للقطع به بالنسبة إلى من سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره ما لم يصل إليه بطريق قطعي فيكون مثله، ولذا قالوا إن الواجب لم يكن في عصره - صلى الله عليه وسلم - - انتهى. وقالت طائفة: هي سنة مؤكدة نقله
(11/354)
المالكية عن أشهب وهو قول بعض
أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية، وأولوا قوله "فرض" في الحديث بمعنى
"قدر" قال ابن دقيق العيد: (ج2:ص197) هو أصله في اللغة لكنه نقل في عرف
الاستعمال إلى الوجوب فالحمل عليه أولى، لأن ما اشتهر في الاستعمال فالقصد إليه هو
الغالب - انتهى. قال الحافظ: ويؤيده تسميتها زكاة، وقوله في الحديث "على كل
حر وعبد" والتصريح بالأمر بها في حديث قيس بن سعد الآتي ولدخوله في عموم قوله
تعالى: ?وآتوا الزكاة? [البقرة:43] فبين - صلى الله عليه وسلم - تفاصيل ذلك، ومن
جملتها زكاة الفطر- انتهى. وقالت طائفة: هي فعل خير مندوب إليه، كانت واجبة، ثم
نسخت، قال به إبراهيم بن علية وأبوبكر بن كيسان الأصم. لما روى عن قيس بن سعد بن
عبادة قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل
الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله، أخرجه النسائي وابن
ماجه والحاكم والبيهقي. قال الحافظ: وتعقب بأن في إسناده راويا مجهولا وعلى تقدير
الصحة، فلا دليل فيه على النسخ الإحتمال الاكتفاء بالأمر الأول، لأن نزول فرض لا
يوجب سقوط
?الفصل الأول?
1830-(1) عن ابن عمر، قال: ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر
فرض آخر قلت: حديث قيس هذا سنده صحيح رواته ثقات، وقد صححه الحاكم والذهبي، والقول
بأن في سنده راويا مجهولا خطأ فليس فيه مجهول قط. وقال الخطابي: حديث قيس هذا لا
يدل على زوال وجوبها، وذلك أن الزيادة في جنس العبادة لا توجب نسخ الأصل المزيد
عليه، غير أن محل سائر الزكوات الأموال، ومحل زكاة الفطر الرقاب - انتهى. وقال
البيهقي: هذا لا يدل على سقوط فرضها، لأن نزول فرض لا يوجب سقوط آخر. وقد أجمع أهل
العلم على وجوب زكاة الفطر، وإن اختلفوا في تسميتها فرضا فلا يجوز تركها، وقد نقل
ابن المنذر الإجماع على فرضية صدقة الفطر. قلت: فيه نظر لما تقدم من الإختلاف في
ذلك.
(11/355)
1830- قوله: (فرض) أي أوجب وألزم (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وما أوجبه فبأمر الله ?وما ينطق عن الهوى? [النجم:3] قال الطيبي: دل قوله "فرض" على أن صدقة الفطر فريضة، والحنفية على أنها واجبة. قال القاري: لعدم ثبوتها بدليل قطعي فهو فرض عملي لا اعتقادي. وقال السندي: الحديث من أخبار الآحاد فمؤداه الظن فلذلك قال بوجوبه دون افتراضه، من خص الفرض بالقطع والواجب بالظن - انتهى. وقال ابن حجر: في الحديث دليل لمذهبنا، ولما رأى الحنفية الفرق بين الفرض والواجب بأن الأول ما ثبت بدليل قطعي. والثاني: ما ثبت بظني. قالوا: إن الفرض هنا بمعنى الواجب. وفيه نظر؛ لأن هذا قطعي لمعا علمت أنه مجمع عليه فالفرض فيه باق على حاله حتى على قواعدهم فلا يحتاج لتأويلهم الفرض هنا بالواجب - انتهى. قال القاري: وفيه أن الإجماع على تقدير ثبوته إنما هو في لزوم هذا الفعل، وأما أنه على طريق الفرض أو الواجب بناء على إصطلاح الفقهاء المتأخرين فغير مسلم، وأما قوله: ووجوبها مجمع عليه كما حكاه المنذري والبيهقي فمنقوض بأن جمعا حكوا الخلاف فيها (كما تقدم). قلت: حمل اللفظ في كلام الشارع على الحقيقة الشرعية متعين، لكن حمله على المصطلح الحادث غير صحيح، والصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يعرفون هذا الاصطلاح الحادث. والفرق الذي قال به الحنفية فالظاهر هو ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من أن صدقة الفطر فريضة (زكاة الفطر) زاد مسلم في رواية "من رمضان" ونصبها على المفعولية "وصاعا" بدل منها أو حال أو تميز أو على نزع الخافض أي في زكاة رمضان والمفعول "صاعا" وقيل: نصب "صاعا" على أنه مفعول ثان. واستدل بقوله "زكاة الفطر" على أن وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر؛ لأنه وقت الفطر من رمضان. وقيل: وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد؛ لأن الليل ليس محلا للصوم، وإنما يتبين الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر، والأول: قول الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي في
(11/356)
الجديد وإحدى الراويتين عن
مالك. والثاني: قول أبي حنيفة والليث والشافعي في
صاعا من تمر،
القديم، والرواية الثانية عن مالك. قال الحافظ: ويقويه قوله في الحديث وأمر بها أن
تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة. قال المازري قيل: إن الخلاف ينبني على أن قوله:
الفطر من رمضان الفطر المعتاد في سائر الشهر، فيكون الوجوب بالغروب أو الفطر
الطاريء بعد فيكون بطلوع الفجر. وقال ابن د