الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج13.وج14.مرعاة المفاتيح

 

13.مرعاة المفاتيح

وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال محاباة المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ. وقال ابن المنير: يؤخذ من قوله هلا جلس في بيت أبيه وأمه جواز قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل ذلك كذا قال: ولا يخفى أن محل ذلك إذا لم يزد على العادة. وفيه أن من رأى متأولا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به أن يشهر القول للناس، ويبين خطأه ليحذر من الاغترار به. وفيه جواز توبيخ المخطيء واستعمال المفضول في الإمارة وللإمامة والأمانة مع وجود من هو أفضل منه- انتهى كلام الحافظ (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والهبة والإيمان والنذور والحيل والأحكام، ومسلم في المغازي وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص523) وأبوداود في الخراج، وأبوعوانة والبيهقي وغيرهم. وفي الباب عن عائشة عند البزار، وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير ذكرهما الهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 ص85- 86) مع الكلام فيهما (قال الخطابي) صاحب معالم السنن (وفي قوله هلا جلس في بيت أمه أو أبيه) كذا في رواية أبي داود بتقديم الأم. قيل: هي رواية بالمعنى، والأصل ما وقع عند الآخرين بتقديم الأب وهو أيضا مقتضي المقام، فإنه مشعر بزيادة الإكرام، فقوله في الحديث "أو بيت أمه" محمول على التنزل (فينظر أيهدي إليه أم لا) كذا في بعض نسخ أبي داود بلفظ: إليه مكان له, وهكذا وقع في بعض الروايات البخاري (دليل على أن كل أمر يتذرع) بالذال المعجمة على بناء المفعول من التذرع أي يتوسل (به إلى محظور فهو محظور) أي ممنوع ومحرم. ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة، والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا أجرة، وكراء والدابة المرهونة يركبها أو يرتفق بها من غير عوض، قاله القاري. وقال الشاه عبدالعزيز الدهلوي في فتاواه: معنى قول الخطابي: أن المباح إذا جعله وسيلة إلى أمر محرم صار حراما كقبول الهدية في قصة ابن اللتبية، فإنه في الأصل مباح، لكن لما جعل وسيلة إلى أخذ الزكاة بالمحاباة والمسامحة، وهو حرام صار حراما،

(11/63)


لأن للوسائل حكم المقاصد في الحرمة - انتهى. (وكل دخل) بفتحتين. هكذا وقع في بعض النسخ. وفي أكثرها دخيل على وزن كريم، وهكذا في معالم السنن "وكل" بالرفع. وقيل بالنصب أي كل عقد يدخل (في العقود) ويضم إلى بعضها كعقد البيع والبهة والإجارة والقرض والنكاح والرهن (ينظر) أي فيه (هل يكون حكمه عند الانفراد) أي قبل دخوله في ذلك العقد وانضمامه إليه (كحكمه عند الاقتران) والاجتماع والدخول (أم لا) فعلى الأول يصح وعلى الثاني لا يصح، كما إذا باع من أحد متاعا يساوي عشرة بمائة ليقرضه ألفا مثلا يدفع ربحه إلى ذلك الثمن، ومن رهن دارا بمبلغ كثير
هكذا في شرح السنة.

(11/64)


وآجره بشيء قليل، فقد ارتكب محظورا. ولما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بعض أمته يرتكبون هذا المحظور بالغ حيث قال: اللهم هل بلغت مرتين، كذا في المرقاة. وقال الشاه عبدالعزيز الدهلوي: معنى قول الخطابي: أن من أدخل عقد في عقد آخر، كمن أدخل إعارة في رهن أو إجارة في رهن أو قرضا في بيع ينظر هل يكون حكم ذلك العقد الداخل عند الانفراد عن العقد الذي أدخل فيه كحكمه في تعليق رضاء المتعاقدين به عند اقترانه به أم لا، فعلى الأول يصح، وعلى الثاني لا يصح، كما إذا باع متاعا بثمن يسير ليقرضه ألفا، فلو لم يتوقع البائع منفعة القرض لما باع بهذا القدر ولم يرض به، وكذا لو لم يكن رهن الدار بمبلغ كثير لم يرض الراهن بإجارتها بشيء يسير، ولم يرض بإعارتها فلا تصح هذه العقود، لأنها لم يتعلق بها الرضاء عند الانفراد بل عند الاقتران فقط، ولو كان بين الراهن والمرتهن صداقة تصح الإعارة أو الإجارة بشيء يسير، ولو لم ينعقد بينهما عقد الرهن صح الإعارة أو الإجارة، لأنهما مما يتعلق به الرضاء عند الانفراد لأجل الصدقة مثلا فقط- انتهى. (هكذا) أي نقله البغوي عنه (في شرح السنة) وكلام الخطابي هذا معالم السنن (ج3 ص8) هكذا وفي قوله "ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدي إليه أم لا، دليل على أن كل أمر يتذرع به إلى محظور فهو محظور، ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا كراء، والدابة المرهونة يركبها ويرتفق بها من غير عوض. وفي معناه باع درهما ورغيفا بدرهمين، لأن معلوما أنه إنما جعل الرغيف ذريعة إلى أن يربح فضل الدرهم الزائد، وكذلك كل تلجئة وكل دخيل في العقود يجري مجرى ما ذكرناه على معنى قوله هلا قعد في بيت أمه حتى ينظر أيهدي إليه أم لا، فينظر في الشيء وقرينه إذا أفرد أحدهما عن الآخر، وفرق بين إقرانهما، هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران والله أعلم" قلت: وإليه ذهب الإمام

(11/65)


مالك، وقد بسط ذلك في المؤطا وذكر لذلك نظائر وأمثله في باب المراطلة من كتاب البيوع: منها أن الرجل يعطي صاحبه الذهب الجيد ويجعل معد ردئيا، ويأخذ منه ذهبا متوسطا مثلا بمثل. فقال: هذا لا يصلح، لأنه أخذ فضل جيده من الردي، ولو لاه لم يبايعه - انتهى. ملخصا. وقد ذكره ابن رشد في البداية (ج2 ص164- 165) مع بيان اختلاف العلماء في ذلك فارجع إليه. ومنها أن رجلا أراد أن يبتاع ثلاثة آصع من تمر عجوة بصاعين ومدين من تمر كبيس. فقيل له: هذا لا يصلح، فجعل صاعين من كبيس، وصاعا من حشف، يريد أن يجيز بذلك بيعه، فذلك لا يصلح، لأنه لم يكن صاحب العجوة ليعطيه صاعا من العجوة بصاع من حشف، ولكنه إنما أعطاه ذلك لفضل الكبيس. ومنها أن يقول الرجل للرجل: يعني ثلاثة آصع من البيضاء بصاعين ونصف من حنطة شامية، فيقول: هذا لا يصلح إلا مثلا بمثل، فيجعل صاعين من

(11/66)


حنطة شامية وصاعا من شعير (الشعير والحنطة عند مالك صنف واحد) يريد أن يجيز بذلك البيع، فهذا لا يصلح لأنه لم يكن ليعطيه بصاع من شعير صاعا من حنطة بيضاء لو كان ذلك الصاع مفردا، وإنما أعطاه إياه لفضل الشامية فهذا لا يصلح إلى آخر ما قال، وعليك أن ترجع لشرح هذه الأمثلة إلى شروح المؤطا للزرقاني والباجي وغيرهما وما قاله الخطابي في الكلية الأولى، فهو موافق لمذهب الحنفية ومذهب الشافعي وغيره، لأن من القواعد المقررة أن للوسائل حكم المقاصد، فوسيلة الطاعة طاعة ووسيلة المعصية معصية. وأما ما قاله من الكلية الثانية، فإنما يليق بمذهب من منع الحيل للتوسل بها إلى الخروج من الربا أو غيره، كمالك وأحمد. وأما أبوحنيفة والشافعي فهما يريان إباحة الحيل فلا ينظران إلى هذا الدخيل. واستدل لهما بما سيأتي في باب الربوا من حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال لا والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا- انتهى. ونحوه حديث أبي سعيد في قصة بلال، وسيأتي أيضا في ذلك الباب. قال القاري: أفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كل عقد توسط في معاملة أخرجها عن المعاملة المؤدية إلى الربوا جائز؟ وقال أيضا هذا الحديث (يعني حديث أبي سعيد في قصة بلال) كالذي قبله صريح في جواز الحيلة في الربوا الذي قال به أبو حنيفة والشافعي. وبيانه أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يبيع الردى بالدراهم ثم يشتري بها الجيد من غير أن يفصل في أمره بين كون الاشتراء من ذلك المشتري أو من غيره، بل ظاهر السياق أنه بما في ذمته، وإلا لبينه له- انتهى. وأجيب عن هذا الاستدلال بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - بع الجمع مطلق لا عام، والمطلق لا

(11/67)


يشمل، ولكن يشيع، فإذا عمل به في صورة سقط الاحتجاج به فيما عداها، ولا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن باعه تلك السلعة بعينها، هذا ملخص ما ذكره الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين في الجواب عن هذا الاستدلال، وقد أطال فيه جدا وبسط الكلام أيضا على سد الذرائع وإبطال الحيل، فعليك أن ترجع إليه وإلى إرشاد الفحول (ص17- 18) للشوكاني. والفروق للقرافي (ج2 ص39، 41) وقال القرطبي: استدل بهذا الحديث من لم يقل بسد الذرائع، لأن بعض صور هذا البيع يؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلا، ويكون الثمن لغوا، قال: ولا حجة في هذا الحديث، لأنه لم ينص على جواز شراء التمر الثاني ممن باعه التمر الأول ولا يتناوله ظاهر السياق بعمومه، بل بإطلاقه، والمطلق يحتمل التقييد إجمالا، فوجب الاستفسار، وإذا كان كذلك فتقييده بأن دليل كاف، وقد دل الدليل على سد الذرائع، فلتكن هذه الصورة ممنوعة- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في هذا في الباب الربوا إنشاء الله تعالى.
1795- (9) وعن عدي بن عميرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة)). رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1796- (10) عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية ?والذين يكنزون الذهب والفضة?

(11/68)


1795- قوله: (وعن عدي بن عميرة) بفتح المهملة وكسر الميم بعدها تحتية ثم راء هو عدي بن عميرة فروة بن زرارة بن الأرقم الكندي صحابي معروف، يكنى أبا زرارة وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه شيئا يسيرا، وروى عنه أخوه العرس وله صحبة وغير واحد. قال أبوعروبة الحراني: كان عدي بن عميرة قد نزل الكوفة ثم خرج عنها بعد قتل عثمان، فصار إلى الجزيرة فمات بها، وله عقب بحران، وقال ابن سعد: لما قدم علي الكوفة جعل بعض أصحابه يتناول عثمان، فقال بنوالأرقم لا نقيم ببلد يشتم فيها عثمان. فتحولوا إلى الشام، فأنزل معاوية الجزيرة، وقيل: أسكنهم الرها وأقطعهم بها ومات بها عدي بن عميرة في خلافة معاوية (من استعملناه) أي جعلناه عاملا (منكم) أيها المؤمنون، إذا الكافر لا يصح توليته. قال المناوي: فخرج الكافر، فلا يجوز استعماله على شيء من أموال بيت المال (فكتمنا) بفتح الميم أي أخفى عنا (مخيطا) بكسر الميم وسكون المعجمة، وفتح أي إبرة (فلما فوقه) أي فشيئا يكون فوق المخيط في الصغر أو الكبر. قال الطيبي: الفاء في قوله: فما فوقه، للتعقيب على التوالي وما فوقه يحتمل أن يكون المراد به الأعلى أو الأدنى، كما في قوله تعالى: ?بعوضة فما فوقها?- [البقرة: 26] (كان) أي ذلك الكتمان (غلولا) بضم المعجمة أي خيانة في الغنيمة. قال النووي: أصل الغلول الخيانة مطلقا ثم غلب اختصاصه في الاستعمال بالخيانة في الغنيمة (به) أي بماغل (يوم القيامة) تفضيحا له وتعذيبا. والحديث مسوق لحث العمال على الأمانة وتحذيرهم عن الخيانة ولو في تافه وقد أجمع المسلمون على تحريم الغلول وأنه من الكبار وأن عليه رد ما غله، وذكر هذا الحديث في باب الزكاة استطرادا لمناسبته للحديث السابق في ذكر العمل والخيانة (رواه مسلم) في المغازي وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص192) وأبوداود في القضايا.

(11/69)


1796- قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) أي يجمعونها يقال كنزت المال كنزا من باب ضرب جمعته وادخرته، وكنزت التمر في وعائه كنزا أيضا فأصل الكنز في اللغة الضم والجمع ولا يختص ذلك بالذهب والفضة. قال ابن جرير: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها- انتهى. ومنه
كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبي الله! إنه كبر على أصحابك هذه الآية، فقال: إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث، وذكر كلمة لتكون لمن بعدكم، فقال: فكبر عمر، ثم قال له: ألا أخبرك بخير ما يكنز المرأ؟

(11/70)


ناقة كناز مكتنزة اللحم. وقيل: الكنز المال المدفون معروف تسمية بالمصدر والجمع كنوز وأكتنز الشيء اجتمع وامتلأ ومال مكنوز أي مجموع (كبر) بضم الباء أي شق وأشكل (ذلك) أي نزول الآية أو ظاهر الآية من العموم (على المسلمين) لأنهم حسبوا أنه يمنع جمع المال مطلقا وأن كل من تأثل مالا جل أو قل فالوعيد لاحق به (أنا أفرج عنكم) بتشديد الراء أي أزيل هذه الشدة عنكم وآتى بالفرج لكم فإنه ليس عليكم في الدين من حرج (فانطلق) أي فذهب عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقال) وفي بعض نسخ أبي داود: فانطلقوا فقالوا (يا نبي الله إنه) أي الشأن (كبر) أي عظم وصعب (على أصحابك هذه الآية) أي حكمها والعمل بها لما فيها من عموم منع الجمع (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إلا ليطيب) من التفعيل أي ليحل الله بأداء الزكاة لكم (ما بقي من أموالكم) قال تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها?-[التوبة: 103] ومعنى التطييب إن أداء الزكاة إما أم يحل ما بقي من ماله المخلوط بحق الفقراء، وإما أن يزكيه من تبعه ما لحق به من إثم منع حق الله تعالى، وحاصل الجواب أن المراد بالكنز منع الزكاة لا الجمع مطلقا، ولعل في الآية في قوله تعالى: ?ولا ينفقونها في سبيل الله?-[التوبة: 34] إشارة إليه بأن المراد بالإنفاق إعطاء الزكاة لا إنفاق المال كله. قال الحافظ: المراد بسبيل الله في الآية المعنى الأعم لا خصوص أحد السهام الثمانية التي هي مصارف الزكاة وإلا لاختص بالصرف إليه بمقتضي هذه الآية (وإنما فرض المواريث) عطف على قوله: " إن الله لم يفرض الزكاة" قال الطيبي: كأنه قيل إن الله لم يفرض الزكاة إلا لكذا ولم يفرض المواريث إلا ليكون طيبا لمن يكون بعدكم، والمعنى لو كان الجمع محظورا مطلقا لما افترض الله الزكاة ولا الميراث (وذكر كلمة) من كلام الراوي أي أن ابن عباس أي وذكر - صلى الله عليه وسلم -: كلمة أخرى بعد المواريث لم

(11/71)


أحفظها، والجملة معترضة بين الفعل وعلته وهو قوله (لتكون) أي وإنما فرض المواريث لتكون الأموال بالميراث طيبة (لمن بعدكم) وفي النسخ التي بأيدينا من سنن أبي داود وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم أي بدون قوله: "وذكر كلمة" ورواه البيهقي بلفظ: وإنما فرض المواريث في أموال تبقى بعدكم (فقال) أي ابن عباس (فكبر عمر) أي فرحا على كشف المعضلة (ثم قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (له) أي لعمر (ألا أخبرك) يحتمل أن تكون للتنبيه وأن تكون الهمزة الاستفهامية ولا نافية (بخير ما يكنز المرأ) أي بأفضل ما يقتنيه ويتخذه لعاقبته ولما بين أن لا وزر في جمع المال بعد أداء
المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته)).

(11/72)


الزكاة ورأى فرحهم بذلك ورغبهم عن ذلك إلى ما هو خير وأبقى وهو التقلل والاكتفاء بالبلغة (المرأة الصالحة) أي الجميلة ظاهرا وباطنا. قال الطيبي: المرأة مبتدأ والجملة الشرطية خبره، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف. والجملة الشرطية بيان (إذا نظر) أي الرجل (سرته) أي جعلته مسرورا بجمال صورتها وحسن سيرتها وحصول حفظ الدين بها (وإذا أمرها) بأمر شرعي أو عرفي (أطاعته) وخدمته (حفظته) أي حقوقه في نفسها وماله وولده وبيته. قال القاضي: لما بين لهم - صلى الله عليه وسلم - أنه لا حرج عليهم في جمع المال وكنزه ما داموا يؤدون الزكاة ورأى استبشارهم به ورغبهم عنه إلى ما هو خير وأبقى وهي المرأة الصالحة الجميلة فإن الذهب لا ينفعك إلا بعد الذهاب عنك وهي ما دامت معك تكون رفيقك تنظر إليها فتسرك وتقضي عند الحاجة إليها وطرك وتشاورها فيما يعن لك فتحفظ عليك سرك وتستمد منها في حوائجك فتطيع أمرك وإذا غبت عنها تحامى مالك وتراعي عيالك ولو لم يكن لها إلا أنها تحفظ بذرك وتربي زرعك فيحصل لك بسببها ولد يكون لك وزيرا في حياتك وخليفة بعد وفاتك لكان بذلك فضل كثير- انتهى. وأعلم أنه ذهب أكثر العلماء إلى أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته وإن لم تدفن فإن أديت فليس بكنز مذموم وإن دفن ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من أهل الزهد كأبي ذر. قال ابن عبدالبر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله وأن آية الوعيد نزلت في ذلك وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي حيث قال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع- انتهى. والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما سيأتي عن ابن عمر, وقد استدل له ابن بطال بقوله تعالى: ?ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو?-[البقرة: 219] أي ما فضل عن الكفاية فكان ذلك واجبا في أول الأمر

(11/73)


ثم نسخ والله أعلم، وفي المسند من طريق يعلي بن شداد بن أوس عن أبيه قال كان أبوذر يسمع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه الشدة ثم يخرج إلى قومه ثم يرخص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يسمع الرخصة ويتعلق بالأمر الأول. قال الحافظ: والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه، وتعقبه النووي بالإبطال لأن السلاطين حينئذ كانوا مثل أبي بكر وعمر وعثمان وهؤلاء لم يخونوا. قلت: لقوله محمل وهو أنه أراد من يفعل ذلك وإن لم يوجد حينئذ من يفعله- انتهى كلام الحافظ. قلت: ويشهد لما ذهب إليه الجمهور ما رواه أحمد في الزهد والبخاري وابن مردوية والبيهقي عن ابن عمر قال إنما هذا كان قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة جعلها الله طهرة للأموال- الحديث. وفي الباب عن جابر أخرجه الحاكم بلفظ: إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره ورجح أبوزرعة والبيهقي وقفه
رواه أبوداود.
1797- (11) وعن جابر بن عتيك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيأتيكم ركيب مبغضون، فإذا جاؤكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون،
كما عند البزار، وعن أبي هريرة أخرجه الترمذي بلفظ: إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك. وقال حسن غريب وصححه الحاكم وهو على شرط ابن حبان، وعن أم سلمة عند الحاكم وصححه ابن القطان أيضا، وأخرجه أبوداود. وقال ابن عبدالبر: في سنده مقال، وذكر العراقي في شرح الترمذي أن سنده جيد، وعن ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا بلفظ: ما أدى زكاته فليس بكنز وارجع لمزيد الكلام في ذلك إلى طرح التثريب (ج4 ص7- 8) (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا الحاكم وصححه وابن أبي حاتم وابن مردوية والبيهقي وأبويعلى وغيرهم.

(11/74)


1797- قوله: (وعن جابر بن عتيك) بفتح العين وكسر التاء الفوقية (سيأتيكم ركيب) تصغير ركب وهو اسم جمع للراكب، وقال الجزري والخطابي: جمع راكب، كما قيل صحب في صاحب وتجر في تاجر أراد بهم السعاة في الصدقة، وفي بعض نسخ أبي داود سيأتيكم ركب، وكذا عند البيهقي والبزار أي سعاة وعمال للزكاة (مغضون) بفتح الغين المشددة والمبغض الذي جعل بغيضا في قلوب الناس والبغيض من كرهه الناس وهو ضد الحبيب، ويجوز بسكون الباء من أبغض الرجل أحدا إذا كرهه أراد أنهم يبغضون طبعا لا شرعا لأنهم يأخذون محبوب قلوبهم. قال الخطابي: إنما جعلهم مبغضين لأن الغالب في نفوس أرباب الأموال التكره للسعاة لما جبلت عليه القلوب من حب المال وشدة حلاوته في الصدر إلا من عصمه الله ممن أخلص النية واحتسب فيها الأجر والمثوبة- انتهى. وقيل: معناه أنه قد يكون بعض العمال سيء الخلق متكبرا يكرههم الناس لسوء خلقهم. قال الطيبي: والأول أوجه لقوله - صلى الله عليه وسلم - سيأتيكم ركيب الخ لأن فيه إشعارا بأنهم عمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينصره شكوى القوم عنهم في الحديث الذي يليه وهو قولهم أن ناسا من المصدقين يأتونا فيظلمونا ولا ارتياب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستعمل ظالما، فالمعنى أنه سيأتي عمالي يطالبون منكم زكاة أموالكم، والنفس مجبولة على حب المال، فتبغضونهم وتزعمون أنهم ظالمون، وليسوا بذلك وقوله: فإن عدلوا وإن ظلموا مبني على هذا الزعم، ولو كانوا ظالمين في الحقيقة كيف يأمرهم بالدعاء لهم بقوله وليدعوا لكم (فرحبوا بهم) أي قولوا لهم مرحبا وأهلا وسهلا، وأظهروا الفرح بقدومهم وعظموهم (وخلوا) أي أتركوا بينهم (بين ما يبتغون ) أي ما يطلبون من الزكاة. قال ابن الملك: يعني كيف ما يأخذوا الزكاة لا تمنعوهم وإن ظلموكم لأن مخالفتهم مخالفة السلطان، لأنهم مأمورون من جهته ومخالفة

(11/75)


فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليهم، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم، وليدعوا لكم)). رواه أبوداود.
1798- (12) وعن جرير بن عبد الله، قال: جاء ناس ـ يعني من الأعراب ـ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ((إن ناس من المصدقين
السلطان تؤدي إلى الفتنة وثورانها - انتهى. وهو كلام المظهر بناء على أنه عمم الحكم في جميع الأزمنة. قال الطيبي: وفيه بحث لأن العلة لو كانت هي المخالفة لجاز الكتمان لكنه لم يجز لقوله في الحديث الآتي أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون قال لا (فإن عدلوا) في أخذ الزكاة وتركوا الظلم (فلأنفسهم) أي فلهم الثواب (وإن ظلموا) بأخذ الزكاة أكثر مما وجب عليكم أو أفضل أي على الفرض والتقدير أو على زعمكم (فعليهم) كذا في جميع النسخ وهكذا في جامع الأصول (ج5 ص359) والترغيب. وفي المصابيح فعليها كما في سنن أبي داود، والبيهقي والبزار أي فعلى أنفسهم إثم ذلك الظلم ولكم الثواب بتحمل ظلمهم (وأرضوهم) أي اجتهدوا في إرضائهم ما أمكن بأن تعطوهم الواجب من غير مطل ولا غش ولا خيانة (فإن تمام زكاتكم) أي كمالها (رضاهم) أي حصول رضاهم (وليدعوا) بسكون اللام وكسرها (لكم) وهو أمر ندب لقابض الزكاة ساعيا أو مستحقا أن يدعوا للمزكي (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج4 ص114) وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده أبوالغصن، وهو ثابت بن قيس المدني الغفاري مولاهم، وقيل: مولى عثمان بن عفان قال الإمام أحمد ثقة وقال ابن معين ضعيف. وقال مرة ليس بذلك صالح، وقال مرة ليس به بأس، وقال ابن حبان كان قليل الحديث كثير الوهم فيما يرويه، ولا يحتج بخبره إذا لم يتابعه عليه غيره قال المنذري: وفي الرواة خمسة كل منهم اسمه ثابت بن قيس لا يعرف من تكلم فيه غيره انتهى. قلت: وقال النسائي ليس به بأس. وقال ابن سعد شيخ قليل الحديث. وقال ابن أبي عدي هو ممن يكتب حديثه. وقال الآجري عن أبي داود ليس حديثه بذاك. وقال

(11/76)


الحافظ في التقريب: صدوق بهم، والحديث ذكره الهيثمي في باب رضا المصدق (ج3 ص79- 80) عن جابر من غير أن ينسبه بهذا اللفظ وعزاه إلى البزار. وقال ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف لا يضر.
1798- قوله: (جاء ناس يعني من الأعراب) تفسير من الراوي عن جرير قاله القاري. وفي رواية مسلم: جاء ناس من الأعراب، وفي رواية النسائي: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ناس من الأعراب، وفي رواية للبيهقي: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعراب. فالظاهر أن التفسير المذكور في رواية أبي داود. ممن دون الراوي عن جرير (إن ناسا من المصدقين) بتخفيف الصاد وكسر الدال المشددة أي السعاة العاملين على الصدقة
يأتونا، فيظلمونا. فقال: أرضوا مصدقيكم، قالوا يا رسول الله! وإن ظلمونا؟! قال: أرضوا مصدقيكم وإن ظلمتم)). رواه أبوداود.
1799- (13) وعن بشير بن الخصاصية،

(11/77)


(يأتونا فيظلمونا) بتخفيف النون وتشديد فيهما (أرضوا) بقطع الهمزة (وإن ظلمونا) أي نرضيهم ولو كانوا ظالمين علينا (وإن ظلمتم) على بناء المجهول أي وإن اعتقدتم أنكم مظلمون بسبب حبكم أموالكم ولم يرد أنهم وإن كانوا مظلومين حقيقة يجب إرضاءهم. بل المراد أنه يستحب إرضاءهم وإن كانوا مظلومين حقيقة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - فإن تمام زكاتكم رضاهم. قال الطيبي: لأن لفظة "إن" الشرطية هنا تدل على الفرض، والتقدير. لا على الحقيقة، ونحوه قوله عليه الصلاة والسلام اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد الحبشي- انتهى. وقال السندي: علم - صلى الله عليه وسلم - إن عامليهم لا يظلمون ولكن أرباب الأموال لمحبتهم بالأموال يعدون الأخذ ظلما، فقال لهم ما قال. فليس فيه تقرير للعاملين على الظلم ولا تقرير للناس على الصبر عليه، وعلى أعطاء الزيادة على ما حده الله تعالى في الزكاة- انتهى والحديث رواه مسلم لكن ليس عنده قوله وإن ظلمتم. قال النووي: قوله أرضوا مصدقيكم معناه ببذل الواجب وملاطفتهم وترك مشاقتهم، وهذا محمول على ظلم لا يفسق به الساعي إذ لو فسق لا نعزل ولم يجب الدفع إليه بل لا يجزي، والظلم قد يكون بغير معصية. فإنه مجاوزة الحد ويدخل في ذلك المكروهات- انتهى. (رواه أبوداود) عن أبي كامل عن عبدالواحد بن زياد، وعن عثمان بن أبي شيبة عن عبدالرحيم بن سليمان كلاهما عن محمد بن إسماعيل واللفظ المذكور لأبي كامل إلا قوله وإن ظلمتم فإنه زاده عثمان وأخرجه مسلم عن أبي كامل عن عبدالواحد. وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبدالرحيم بن سليمان. وعن محمد بن بشار عن يحيى بن سعيد. وعن إسحاق عن أبي أسامة كلهم عن محمد بن إسماعيل بدون هذه الزيادة. وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص362) عن يحيى، والنسائي عن محمد بن المثنى، وابن بشار عن يحيى بدون الزيادة المذكورة، وكذا البيهقي من طريق أبي أسامة (ج4 ص114) وأخرجه البيهقي أيضا من أبي داود (ج4 ص137).

(11/78)


1799- قوله: (وعن بشير) بفتح الباء الموحدة وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة فراء مهملة (بن الخصاصية) بفتح الخاء المعجمة وخفة الصاد المهملة الأولى المفتوحة وكسر الثانية بعدها تحتانية مشددة مفتوحة وتاء تأنيث. هو بشير بن معبد وقيل ابن زيد بن معبد السدوسي المعروف بابن الخصاصية، وكان اسمه في الجاهلية، زحما بالزاي المفتوحة، والحاء المهملة الساكنة. فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيرا. صحابي جليل روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنه بشير بن نهيك، وجرى بن كليب وديسم، رجل من بني سدوس وامرأته ليلى المعروف بالجهدمة ولها صحبة أيضا، وجزم ابن عبدالبر وغيره، إن الخصاصية أم بشير. قال الحافظ: وليس كذلك بل هي إحدى جداته
قال: قلنا: إن أهل الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون؟ قال: لا)). رواه أبوداود.
1800- (14) وعن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((العامل على الصدقة بالحق

(11/79)


وهي والدة جده الأعلى، ضباري بن سدوس حرر ذلك الدمياطي عن ابن الكلي وحزم به الرامهر مزي. وقال اسمها كبشة. وقيل: مارية بنت عمرو الغطريفية (قال قلنا إن الصدقة) هذا لفظ الحديث الموقوف رواه أبوداود من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن رجل يقال له ديسم عن بشير بن الخصاصية، قال قلنا إن أهل الصدقة الخ. فضمير قال للرجل الذي يقال له ديسم. وقوله "قلنا" أي لبشير بن الخصاصية ثم رواه أبوداود مرفوعا: قال حدثنا الحسن بن علي ويحيى بن موسى، قالانا عبدالرزاق عن معمر عن أيوب بإسناده ومعناه إلا أنه قال: قلنا يا رسول الله! إن أصحاب الصدقة، قال أبوداود: رفعه عبدالرزاق عن معمر، وقال البيهقي بعد رواية الحديث المرفوع من طريق أبي بكر بن داسة عن أبي داود، ورواه حماد ابن زيد عن أيوب فلم يرفعه. وعلى هذا فكان حق البغوي أن يورد في المصابيح الطريق المرفوع لا الموقوف، والعجب أنه لم يتنبه لذلك المصنف فوقع فيما وقع فيه البغوي مع أن الجزري قد أورد في جامع الأصول (ج5 ص358) لفظ المرفوع لا الموقوف. والمراد بأهل الصدقة أهل أخذ الصدقة من العمال والسعاة (يعتدون علينا) الاعتداء: مجاوزة الحد، يعني يظلموننا ويأخذون أكثر مما يجب علينا (أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون) يعني إذا علمنا أنهم يأخذون عن الخمس من الإبل، شاتين، مع أن واجبها شاة، فإن كان لنا عشر من الإبل، فهل يجوز أن نكتم خمسا. ونقول ليس لنا إلا خمس حتى إذا أخذوا شاتين عن خمس، لا يكون عليهم ظلم (قال لا) قال ابن الملك: وإنما يرخص لهم في ذلك كتمان بعض المال خيانة. والخيانة كذب ومكر، ولأنه لو رخص لربما كتم بعضهم على عامل، غير ظالم. وفي الحديث دليل على أنه لا يجوز كتم شيء عن المصدقين، وإن تعدوا، قيل كأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنهم لحبهم المال. يرون أخذ الحق اعتداء وإلا فلا يصح صدور الاعتداء من عماله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك سماهم مبغضين، وإلا فلا يجب إعطاء

(11/80)


الزيادة لقوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن سئل فوقه فلا يعطيه (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج4 ص104) وعبدالرزاق، وسكت عنه أبوداود والمنذري، وفي إسناده ديسم السدوسي، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب مقبول.
1800- قوله: (العامل على الصدقة) أي الزكاة (بالحق) متعلق بالعامل ويشهد له رواية أحمد.
كالغازي في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)). رواه أبوداود، والترمذي.
1801- (15) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا جلب ولا جنب،

(11/81)


(ص143) بلفظ العامل بالحق على الصدقة أي عملا بالصدق والصواب، أو بالإخلاص والاحتساب. قاله القاري: وزاد في رواية لأحمد: لوجه الله عزوجل. وقيل العامل بالحق أي بأن لم يخن في الصدقة، ولم يظلم أرباب الأموال فلم يأخذ منهم أكثر مما يجب عليهم ولا أقل (كالغازي في سبيل الله) أي في حصول الآجر، ويستمر ذلك (حتى يرجع) أي العامل (إلى بيته) أي محل أقامته، يعني يكون له الثواب ذهابا وإيابا إلى حين الرجوع، كما ثبت في الغازي. وقال القاري: قوله "كالغازي" أي في تحصيل بيت المال واستحقاق الثواب في تمشية أمر الدارين. قال ابن العربي: في شرح الترمذي، وذلك إن الله ذو الفضل العظيم قال من جهز فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا. والعامل على الصدقة خليفة الغازي لأنه يجمع مال سبيل الله فهو غاز بعمله وهو غاز بنيته. وقال عليه السلام: أن بالمدينة قوما ما سلكتم واديا، ولا قطعتم شعبا إلا وهو معكم حبسهم العذر فكيف بمن حسبه العمل للغازي وخلافته وجمع ماله الذي ينفقه في سبيل الله، وكما لا بد من الغزو، فلا بد من جمع المال الذي يغزى به فهما شريكان في النية شريكان في العمل، فوجب أن يشتركا في الأجر- انتهى. وقيل: في الحديث إلحاق الناقص بالكامل، ترغيبا. والله تعالى أعلم (رواه أبوداود) في الخراج (والترمذي) في الزكاة، وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص465 ج4 ص143) وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحة والحاكم (ج1 ص406) وغيرهم. وقد سكت عنه أبوداود، وحسنه الترمذي، وأقره المنذري. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وفي سنده عندهم محمد بن إسحاق، وقد عنعن، والحديث عزاه الهيثمي لأحمد. وقال وفيه محمد بن إسحاق وهو ثقة. ولكنه مدلس وبقية رجاله رجال الصحيح. وفي الباب عن عبدالرحمن بن عوف عند الطبراني في الكبير بلفظ "العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته" قال الهيثمي: وفيه دويب ابن عمامة قال

(11/82)


الذهبي ضعفه الدارقطني: وغيره ولم يهدر.
1801- قوله: (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) أي جد شعيب عبدالله بن عمرو بن العاص ففي رواية أحمد (ج2 ص180) "عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو" وفي رواية (ج2 ص185) له أيضا "عن عمرو بن شعيب عن أبيه عبدالله بن عمرو" وقد سمع شعيب من جده عبدالله فالحديث موصول ليس بمنقطع، ولا مرسل وقد تقدم تحقيقة (لا جلب) بفتح الجيم واللام (ولا جنب) بفتح
ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم)).

(11/83)


الجيم والنون وكل منهما يكون في الزكاة، والرهان، أي سباق الفرس. فأما الجلب في الزكاة فهو أن ينزل الساعي محلا بعيدا من مواضع أرباب الأموال، ولا يأتي أماكنهم لأخذ الصدقات. ولكن يرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها أو يأمر أرباب الأموال أن يجمعوا أموالهم عنده ويجلبوها إليه ليأخذ زكاتها فنهى عن ذلك وأمر بأخذ صدقاتهم على أماكنهم ودورهم ومنازلهم ومياههم، لسهولة الأخذ. حينئذ لأن في إتيانهم وسوق مواشيهم وغيرها من الأموال من مواضعهم إلى الموضع، الذي نزل فيه العامل مشقة، والجنب في الزكاة أن يجنب أي يبعد أرباب الأموال من مواضعهم المعهودة إلى مواضع بعيدة حتى يحتاج العامل إلى الأبعاد في طلبهم فنهى عن ذلك لما في إيتأنه إليهم من المشقة، والحاصل أن الجلب أن يقرب العامل أموال الناس إليه والجنب أن يبعد صاحب المال بماله عن العامل، وقيل الجنب في الزكاة أن ينزل الساعي بأقصى محال أرباب الأموال، ثم يأمر بالأموال بأن تجنب إليه أي تحضر فنهى عن ذلك لما في من شدة المشقة على أرباب الأموال، والفرق بين التفسرين أن حكم النهي على الأول: يكون متعلقا بالمعطى، وعلى الثاني: بالساعي والتفسير الأول أولى وأدخل في الفرق بينه وبين الجلب بخلاف الثاني فإنه لا فرق كثير بينهما عليه، وأما الجلب في سباق الخيل فهو أن يتبع الفارس رجلا فرسه ليزجره ويجلب عليه ويصيح به حثا له على قوة الجري، فنهى عنه، لما يترتب إليه من أضرار الفرس، وفسره مالك بأن تجلب الفرس في السباق فيحرك وراءه شيء يستحث فيسبق والجنب في السباق أن يجنب فرسا إلى فرسه الذي يسابق عليه فإذا افتر المركوب يتحول إلى المجنوب فيسبق صاحبه، فنهى عنه. قيل: وكان وجه النهي عنه، أن السباق إنما هو لبيان إختباره قوة الفرس وبهذا الفعل لا يعرف قوة واحد من الفرسين، فرب فرس توانى أولا. أو في الأثناء ثم سبق. قال الخطابي: في المعالم (ج2 ص40- 41) الجلب، يفسر تفسيرين يقال:

(11/84)


إنه في رهان الخيل، وهو أن يجلب عليها عند الركض (ليحتد في الجري) ويقال: هو في الماشية. يقول لا ينبغي للمصدق أن يقيم بموضع، ثم يرسل إلى أهل المياه فيجلبوا إليه مواشيهم فيصدقها ولكن ليأتيهم على مياهم حتى يصدقهم هناك وأما الجنب فتفسيره أيضا على وجهين، أحدهما أن يكون في الصدقة وهو أن أصحاب الأموال لا يجنبون عن مواضعهم أي لا يبعدون عنها حتى يحتاج المصدق إلى أن يتبعهم ويمعن في طلبهم. وقيل: أن الجنب في الرهان، وهو أن يركب فرسا فيركضه وقد أجنب معه فرسا آخر فإذا قارب الغاية ركبه وهو جام فيسبق صاحبه- انتهى. وكذا فسرهما الجزري في جامع الأصول (ج5 ص479) قال الطيبي: كلا اللغطين مشترك في معنى السباق، والزكاة والقرينة الموضحة لأداء المعنى الثانية قوله : (ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم) أي منازلهم وأماكنهم ومياههم وقبائلهم على سبيل الحصر لأنه كنى بها عنه فإن أخذ الصدقة في دورهم لازم لعدم بعد الساعي عنها فيجلب إليه ولعدم بعد المزكي فإنه إذا بعد عنها لم يؤخذ فيها- انتهى. وحاصله أن
رواه أبوداود.
1802- (16) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((من استفاد مالا فلا زكاة فيه، حتى يحول عليه الحول)).

(11/85)


آخر الحديث مؤكد لأوله. أو إجمال لتفصيله. ولا يخفى ما فيه على المتأمل (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص180، 215- 216) والبيهقي (ج4 ص110) قال الشوكاني: الحديث سكت عنه أبوداود والمنذري والحافظ في التلخيص وفي إسناده محمد بن إسحاق وقد عنعن - انتهى. قلت: قد صرح بالتحديث عند أحمد (ج2 ص216) فزال شبهة التدليس، وفي الباب عن عمران بن حصين عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي وابن حبان: وصححاه بمثل حديث الباب. وهو متوقف على صحة سماع الحسن من عمران. وقد أختلف في ذلك: وزاد أبوداود، بعد قوله لا جلب ولا جنب في الرهان: وعن أنس عند أحمد والبزار وابن حبان وعبدالرزاق وأعله البخاري، والترمذي والنسائي، وأبوحاتم، وأخرجه النسائي عنه من وجه آخر: وقال المنذري (ج2 ص206) وقد أخرجه أبوداود في الجهاد: من حديث الحسن البصري عن عمران بن حصين، وليس فيه ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم، وأخرجه أيضا من هذا الوجه الترمذي والنسائي. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقد ذكر علي بن المديني وأبوحاتم الرازي وغيرهما من الأئمة، أن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين- انتهى.

(11/86)


1802- قوله: (من استفاد مالا فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول) قال ابن الملك: يعني من وجدها مالا، وعنده نصاب من ذلك الجنس، مثل أن يكون له ثمانون شاة ومضى عليها ستة أشهر ثم حصل له أحد وأربعون شاة بالشراء أو بالإرث أو غير ذلك، لا يجب عليه للأحد والأربعين حتى يتم حولها من وقت الشراء أو الإرث لأن المستفاد لا يكون تبعا للمال الموجود. وبه قال الشافعي وأحمد: وعند أبي حنيفة ومالك يكون المستفاد تبعا له فإذا تم الحول على الثمانين وجب الشأتان، يعني في الكل كما أن النتائج تبع للأمهات- انتهى. وقال ابن قدامة: في المغني (ج2 ص626) أن استفاد مالا مما يعتبر له الحول ولا مال له سواه، وكان نصابا، أو كان له مال من جنسه لا يبلغ نصابا، فبلغ بالمستفاد نصابا انعقد عليه حول الزكاة من حينئذ فإذا تم حول وجبت الزكاة فيه، وإن كان عنده نصاب لم يخل المستفاد من ثلاثة أقسام: أحدها أم يكون المستفاد من نمائة كربح مال التجارة ونتاج السائمة فهذا يجب ضمه إلى ما عنده من أصله فيعتبر حوله بحوله لا نعلم فيه خلافا لأنه تبع له من جنسه فأشبه النماء المتصل وهو زيادة قيمة عروض التجارة. الثاني

(11/87)


أن يكون المستفاد من غير جنس ما عنده فهذا له حكم نفسه لا يضم إلى ما عنده في حول ولا نصاب، بل أن كان نصابا استقبل به حولا وزكاه وإلا فلا شيء فيه، وهذا قول جمهور العلماء منهم أبوبكر، وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. الثالث أن يستفيد مالا من جنس نصاب عنده قد انعقد عليه حول الزكاة بسبب مستقل مثل أن يكون عنده أربعون من الغنم مضى عليها بعض الحول، فيشتري أو يتهب مائة، فهذا لا تجب فيه الزكاة حتى يمضي عليه حول أيضا وبهذا قال الشافعي: وقال أبوحنيفة يضمه إلى ما عنده في الحول فيزكيهما جميعا عند تمام حول المال الذي كان عنده، لأنه يضم إلى جنسه في النصاب فوجب ضمه إليه في الحول كالنتاج ولأنه إذا ضم في النصاب وهو سبب فضمه إليه في الحول الذي هو شرط أولى، وبيان ذلك أنه لو كان عنده مائتا درهم مضى عليها نصف الحول فوجب له مائة أخرى فإن الزكاة تجب فيها إذا تم حولها بغير خلاف، ولو لا المأتان ما وجب فيها شيء فإذا ضمت إلى المائتين في أصل الوجوب فكذلك في وقته، ولأن إفراده بالحول يفضي إلى تشقيص الواجب في السائمة واختلاف أوقات الواجب، والحاجة إلى ضبط مواقيت التملك ومعرفة قدر الواجب في كل جزء ملكه ووجوب القدر اليسير الذي لا يتمكن من إخراجه ثم يتكرر ذلك في كل حول ووقت وهذا حرج مدفوع بقوله تعالى: ?وما جعل عليكم في الدين من حرج? [الحج: 78] وقد اعتبر الشرع ذلك بإيجاب غير الجنس فيما دون خمس وعشرين من الإبل وجعل الأوقاص في السائمة وضم الأرباح والنتاج إلى حول أصلها مقرونا بدفع هذه المفسدة فيدل على أنه علة لذلك فوجب تعدية الحكم إلى محل النزاع وقال مالك: كقوله في السائمة دفعا لتشقيص الواجب وكقولنا في الإثمان لعدم ذلك فيها. ولنا حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول (أخرجه ابن ماجه وغيره بسند ضعيف) ثم ذكرت حديث ابن عمر قال وقد روى عن أبي بكر الصديق وعلي وابن عمر

(11/88)


وعائشة وعطاء وعمر بن عبدالعزيز وسالم والنخعي إنه لا زكاة في المستفاد حتى يحول عليه الحول. ولأنه مملوك أصلا فيعتبر فيه الحول شرطأ كالمستفاد من غير الجنس. قال: وأما الأرباح والنتاج فإنما ضمت إلى أصلها، لأنها تبع له ومتولدة منه، ولا يوجد ذلك في مسألتنا، وإن سلمنا أن علة ضمنها ما ذكروه من الحرج. فلا يوجد ذلك في مسألتنا، لأن الأرباح تكثر وتتكرر في الأيام والساعات ويعسر ضبطها، وكذلك النتاج وقد يوجد ولا يشعر به فالمشقة فيه أتم لكثرة تكرره بخلاف هذه الأسباب المستقلة. فإن الميراث والاغتنام والاتهاب ونحو ذلك يندر ولا يتكرر فلا يشق ذلك فيه، فإن شق فهو درن المشقة في الأرباح والنتاج فيمتنع قياسه عليه، واليسر فيما ذكرنا أكثر. لأن الإنسان يتخير بين التأخير والتعجيل وما ذكروه يتعين عليه التعجيل.ولا شك إن التخيير بين شيئين أيسر من تعيين أحدهما، وأما ضمه إليه في النصاب فلأن النصاب معتبر لحصول الغني وقد حصل الغني بالنصاب الأول والحول معتبر ليحصل أداء الزكاة من الربح

(11/89)


ولا يحصل ذلك بمرور الحول على أصله فوجب أن يعتبر الحول له- انتهى. وأعلم أن نماء العين على الثلاثة أنواع: ربح، وغلة، وفائدة، ونماء الماشية على نوعين: فائدة، ونسل. والربح زائد ثمن مبيع تجر على ثمنه الأول ذهبا أو فضة، والغلة ما تجدد من سلع التجارة قبل بيع رقابها كغلة العبد ونجوم الكتابة. والفائدة ما تجدد لا عن مال أو عن مال غير مزكي كهبة وميراث واشتراء وثمن عرض مقتنى من عقار أو حيوان باعه بعين، والنسل هو نتاج الماشية وأولادها واختلف العلماء في ضم هذه الأنواع إلى الأصل واعتبار حولها. فأما الربح فقال ابن رشد: في البداية (ج1 ص244) اختلفوا في اعتبار حول ربح المال على ثلاثة أقوال: فرأى الشافعي أن حوله يعتبر من يوم استفيد سواء كان الأصل نصابا أو لم يكن. وهو مروي عن عمر بن عبدالعزيز (كما في كتاب الأموال (ص417) إنه كتب أن لا يعرض لإرباح التجار حتى يحول عليها الحول. وقال مالك: حول الربح هو حول الأصل أي إذا كمل للأصل حول، زكى الربح معه سواء كان الأصل نصابا أو أقل من نصاب إذا بلغ الأصل مع ربحه نصابا، قال أبوعبيد (ص414) ولم يتابعه عليه أحد من الفقهاء إلا أصحابه، وفرق قوم بين أن يكون رأس المال الحائل عليه الحول نصابا أو لا يكون؟ فقالوا: إن كان نصابا زكى الربح مع رأس ماله وإن لم يك نصابا لم يزك، وممن قال بهذا القول الأوزاعي وأبوثور وأبوحنيفة، وسبب اختلافهم تردد الربح بين أن يكون حكمه حكم المال المستفاد، أو حكم الأصل، فمن شبهه بالمال المستفاد ابتداء. قال: يستقبل به الحول ومن شبهه بالأصل وهو رأس المال. قال: حكمه حكم رأس المال. إلا أن من شروط هذا التشبيه أن يكون رأس المال قد وجبت فيه الزكاة، وذلك لا يكون إلا إذا كان نصابا ولذلك يضعف قياس الربح على الأصل، في مذهب مالك. ويشبه أن يكون الذي اعتمده مالك في ذلك هو تشبيه ربح المال بنسل الغنم، لكن نسل الغنم مختلف فيه أيضا. وقد روى عن مالك مثل

(11/90)


قول الجمهور- انتهى. قال الزرقاني: هذا مذهب مالك، إن حول الربح حول أصله وإن لم يكن أصله نصابا قياسا على نسل الماشية ولم يتابعه غير أصحابه، وقاسه على ما لا يشبهه في أصله ولا في فرعه وهما أصلان، والأصول لا يرد بعضها إلى بعض، وإنما يرد الفرع إلى أصله - انتهى. قلت والحنابلة موافقون للحنفية في مسألة الربح كما قال الخرقي (ج3 ص37) إذا كان في ملكه نصاب للزكاة فاتجر فيه فنمى أدى زكاة الأصل مع النماء إذا حال الحول. وقال في الروض المربع حصول الربح حول أصله إذا كان الأصل نصابا فحول الجميع من كمال نصابه وإن لم يكن الأصل نصابا- انتهى. وفي مسلك الشافعية تفصيل خلافا لما حكى شراح الحديث من مذهب الشافعي قال ابن قدامة (ج3 ص37) قال الشافعي: إن نضت الفائدة قبل الحول لم يبين حولها على حول النصاب، وأستأنف بها حولا لقوله عليه السلام؟: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" ولأنها فائدة

(11/91)


تامة لم تتولد مما عنده فلم يبين على حوله كما لو استفاد من غير الربح وإن اشترى سلعة بنصاب فزادت قيمتها عند رأس الحول. فإنه يضم الفائدة ويزكي عن الجميع بخلاف ما إذا باع السلعة قبل الحول بأكثر من نصاب فإنه يزكى عند رأس الحول عن النصاب ويستأنف للزيادة حولا، وقال في شرح الإقناع يضم ربح حاصل في أثناء الحول، لأصل في الحول إن لم ينض بما يقوم به، فلو اشترى عرضا بمائتي درهم فصارت قيمته في الحول ثلاث مائة زكاها، أما إذا نض دراهم أو دنانير بما يقوم به، وامسكه إلى آخر الحول فلا يضم إلى الأصل. بل يزكي الأصل بحوله ويفرد الربح بحول - انتهى. وقد استدل ابن قدامة لمذهب الحنابلة، بأن الربح نماء جار في الحول، تابع لأصله في الملك، فكان مضموما إليه في الحول كالنتاج. وكما لو لم ينض ولأنه ثمن عرض تجب زكاة بعضه، ويضم إلى ذلك البعض قبل البيع فيضم إليه بعده كبعض النصاب. ولأنه لو بقي عرضا زكى جميع القيمة فإذا نض كان أولى، لأنه يصير متحققا، ولأن هذا الربح كان تابعا للأصل في الحول، كما لو لم ينض فبنضه لا يتغير حوله. والحديث فيه مقال، وهو مخصوص بالنتاج، وبما لم ينض فنقيس عليه- انتهى. وأما الفائدة فقال ابن رشد: (ج1 ص244) أجمعوا على أن المال إذا كان أقل من نصاب، وأستفيد إليه مال من غير ربحه يكمل من مجموعها نصاب، إنه يستقبل به الحول من يوم كمل. واختلفوا إذا استفاد مالا، وعنده نصاب مال آخر قد حال عليه الحول. فقال مالك: يزكي المستفاد إن كان نصابا لحوله، ولا يضم إلى المال الذي وجبت فيه الزكاة. وبهذا القول في الفوائد. قال الشافعي: (وهو قول أحمد أيضا) وقال أبوحنيفة وأصحابه والثوري الفوائد كلها تزكي بحول الأصل، إذا كان الأصل نصابا، وكذلك الربح عنده، ذكر ابن رشد سبب اختلافهم في ذلك وهذا الاختلاف في حكم فائدة العين. وأما الفائدة الماشية فإن مذهب مالك فيها بخلاف مذهبه في فائدة العين، وذلك أنه يبني فائدة

(11/92)


الماشية على الأصل، إذا كان الأصل نصابا، كما يفعل أبوحنيفة في فائدة الدراهم. وفي فائدة الماشية فأبوحنيفة مذهبه في الفوائد حكم واحد، أعنى أنها تبني على الأصل إذا كانت نصابا كانت فائدة غنم، أو فائدة ناض، والأرباح عنده والنسل كالفوائد. وأما مالك فالربح والنسل عنده حكمهما واحد ويفرق بين فوائد الناض أي العين، وفوائد الماشية. وأما الشافعي فالربح وفائدة العين، وفائدة الماشية عنده حكمه مع واحد، فاعتبار حولهما بأنفسها. ونسل الماشية حكمه أن يعتبر حوله بالأصل، إذا كان نصابا. وأما أحمد فالأرباح والنسل عنده حكمهما واحد، باعتبار حولهما بالأصل إذا كان نصابا وفائدة العين وفائدة الماشية واحد أيضا باعتبار حولهما بأنفسهما، وكأنه إنما فرق مالك بين الماشية والعين إتباعا لعمر وإلا فالقياس فيهما واحد أعني أن الربح شبيه بالنسل، والفائدة بالفائدة. وحديث عمر هذا هو أنه أمر أن يعد عليهم بالسخال ولا يأخذ منهما شيئا. قال
رواه الترمذي، وذكر جماعة أنهم

(11/93)


الزرقاني (ج2 ص117) حاصل مذهب مالك في فائدة الماشية. أنهما إنما تضم إلى نصاب، وإلا أي إن لم تكن عنده نصابها قبل ذلك استؤنف بالجميع حولا. وإن كان له نصاب من نوع، ما أفاد زكى الفائدة على حول النصاب ولو استفادها قبل الحول بيوم. وبه قال أبوحنيفة، وقال الشافعي وأبوثور لا تضم الفوائد. ويزكي كل على حوله الإنتاج الماشية فتزكى مع أمهاتها إن كانت نصابا- انتهى. وقال في شرح الكبير وضمت الفائدة من النعم للنصاب من جنسه، وإن حصلت قبل تمام حول النصاب بلحظة: لا لأقل من نصاب، بل تضم الأولى للثانية وهذا بخلاف فائدة العين، فإنها لا تضم لنصاب قبلها، بل يستقبل بها ويبقى كل مال على حوله - انتهى. وأما نسل الماشية أي نتاجها. فقال مالك: حول النسل هو حول الأمهات كانت الأمهات نصابا، أو لم تكن. كما قال في ربح الناض. وقال الشافعي وأبوحنيفة وأحمد وأبوثور. لا يكون حول النسل حول الأمهات، إلا أن تكون الأمهات نصابا، وسبب اختلافهم هو بعينه سبب اختلافهم في ربح المال. والراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد. إن الربح والنسل حكمهما واحد، باعتبار حولهما باعتبار حولهما بالأصل. وفائدة العين والماشية حكمهما أيضا واحد، باعتبار حولهما بأنفسهما والله تعالى أعلم. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا البيهقي (ج4 ص95، 104) والدارقطني في السنن (ص198) كلهم من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر وعبدالرحمن ضعيف. قال الترمذي: والصحيح عن ابن عمر موقوف، وكذا قال البيهقي، وابن الجوزي والدارقطني وغيرهم. وأخرجه الدارقطني أيضا وابن عبدالبر في التمهيد مرفوعا، من طريق بقية بن وليد عن إسماعيل بن عياش عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. وهذا أيضا ضعيف بقية مدلس، وقد عنعن وإسماعيل ضعيف، في روايته عن غير الشاميين. وأخرجه الدارقطني أيضا، في غرائب مالك عن إسحاق بن إبراهيم الحنيني عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا نحوه. قال

(11/94)


الدارقطني: الحنيني ضعيف والصحيح عن مالك موقوف في الباب عن أنس أخرجه الدارقطني في السنن (ص199) وابن عدي في الكامل. وأعله بحسان بن سياه، وعن عائشة، أخرجه ابن ماجه والبيهقي (ج4 ص95، 103) وأبوعبيد في الأموال (ص413) وهو ضعيف أيضا وعن أم سعد الأنصارية، امرأة زيد بن ثابت بنحو حديث الباب ذكره الهيثمي (ج3 ص79) وعزاه للطبراني قال. وفيه عنبسة بن عبدالرحمن وهو ضعيف، وروى البيهقي عن أبي بكر وعلي وعائشة موقوفا عليهم، مثل ما روى عن ابن عمر، قال: والاعتماد في ذلك على الآثار الصحيحة، فيه عن أبي بكر وعثمان بن عفان وعبدالله بن عمر وغيرهم، وقال أبوعبيد (ص413) بعد ذكر حديث عائشة مرفوعا، فإن كان لهذا أصل، فهو السنة. وإلا ففي من سمينا من الصحابة قدوة ومتبع- انتهى. وقال الحافظ: في التلخيص بعد ذكر قول البيهقي، قلت حديث علي (عند أبي داود وغيره) لا بأس بإسناده، والآثار تعضده فيصلح للحجة - انتهى. (وذكر) أي وسمي
وقفوه على ابن عمر.
1803- (17) وعن علي: ((أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له ذلك)).
الترمذي (جماعة) أي بأسماءهم، منهم أيوب وعبيدالله (أنهم) بدل اشتمال، أي ذكر أن جماعة عددهم (وقفوه) أي هذا الحديث (على ابن عمر) أي جعلوه من ابن عمر، ولم يرفعوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الترمذي: والموقوف أصح، وقال الحافظ في البلوغ. بعد ذكر حديث ابن عمر، المرفوع ما لفظه. والراجح وقفه، قال الأمير اليماني: له حكم الرفع، لأنه لا مسرح للاجتهاد فيه- انتهى. وقد بسط الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص328- 329- 330) طرق هذا الحديث، من أحب الوقوف عليها رجع إليه.

(11/95)


1803- قوله: (قبل أن تحل) بكسر الحاء أي قبل أن تجب، ومنه قوله تعالى: ?أم أردتم أن يحل عليكم غضب?- [طه: 86] أي يجب على قراءة الكسر. ومن حل الدين حلولا، وأما الذي بمعنى النزول، فبضم الحاء. ومنه قوله تعالى: ?أو تحل قريبا من دارهم?- [الرعد: 31] قاله السندي: وقيل: أي قبل أن تسير حالا بمضيء الحول. وقيل: أي قبل أن يجيء وقتها من حلول الأجل بمعنى مجيئه، وقال ابن حجر: أي قبل أن يتم حولها وهو حاصل المعنى (فرخص له) أي للعباس (في ذلك) أي في تعجيل الصدقة. قال ابن الملك: هذا يدل على جواز تعجيل الزكاة بعد حصول النصاب قبل تمام الحول- انتهى. واختلف العلماء فيه، فذهب الشافعي وأحمد وأبوحنيفة وسعيد بن جبير والأوزاعي وإسحاق وأبوعبيد إلى جواز ذلك، وقال ربيعة ومالك وداود إنه لا يجوز، واستدل لذلك بما روى أنه لا زكاة حتى يحول الحول. وأجيب عنه بأن الوجوب متعلق بالحلول، فلا وجوب حتى يحول عليه الحول، وهذا لا ينفي جواز التعجيل. واحتج أيضا لمالك ومن وافقه، بأن الحول أحد شرطي الزكاة فلم يجز تقديم الزكاة عليه كالنصاب. وأجيب عن هذا، بأن تقديم الزكاة على النصاب تقديم لها على سببها، فأشبه تقديم الكفارة على اليمين، وكفارة القتل على الجرح، فلم يجز بخلاف تقديم الزكاة على الحول، فإنه تعجيل لمال وجد سبب وجوبه، فجاز كتعجيل قضاء الدين قبل حلول أجله، وأداء كفارة اليمين بعد الحلف وقبل الحنث، وقد سلم مالك تعجيل الكفارة، وبأنه إذا قدم على النصاب قدمها على الشرطين، وإذا قدمها على الحول قدمها على أحدهما. ومن قواعدهم إن ماله سببان، يقدم على أحدهما لا عليهما، فجاز تقديمها على الحول لا النصاب. واستدل له أيضا بأن للزكاة وقتا، فلم يجز تقديمها عليه كالصلاة. وأجيب عنه بأن الوقت إذا دخل في الشيء رفقا بالإنسان، كان له أن يعجله ويترك الإرفاق بنفسه كالدين المؤجل. وأم الصلاة والصيام فتعبد محض،

(11/96)


رواه أبوداود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
1804- (18) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خطب الناس فقال: ((ألا
من ولى يتيما له فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)).
والتوقيت فيهما غير معلول، فيجب إن يقتصر عليه. قاله ابن قدامة في المغنى. (ج2 ص630) وقال ابن الهمام: فيه خلاف، لمالك، وهو يقول الزكاة إسقاط الواجب، ولا إسقاط قبل الوجوب، وصار كالصلاة قبل الوقت بجامع أنه أداء قبل السبب إذا السبب هو النصاب الحولي، ولم يوجد. قلنا لا نسلم اعتبار الزائد على مجرد النصاب جزاء من السبب بل هو النصاب فقط، والحول تأجيل في الأداء بعد أصل الوجوب فهو كالدين المؤجل وتعجيل المؤجل صحيح، فالأداء بعد النصاب كالصلاة في أول الوقت لا قبله. وكصوم المسافر رمضان، لأنه بعد السبب. ويدل على صحة هذا الاعتبار ما في أبي داود والترمذي من حديث علي إن العباس سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل زكاته الحديث. (رواه أبوداود الخ) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص104) والحاكم (ج3 ص332) والدارقطني (ص213) والبيهقي (ج4 ص111) وغيرهم، وفيه اختلاف ذكره الدارقطني والبيهقي، من شاء الوقوف عليه رجع إليهما. وقد رجحا إرساله، وكذا رجحه أبوداود. وفي الباب عن أبي رافع عند أبي داود الطيالسي والدارقطني والطبراني وإسناده ضعيف وعن ابن مسعود عند البزار والطبراني، وهو أيضا ضعيف. وعن طلحة بن عبيدالله عند أبي يعلى والبزار وابن عدي والدارقطني، وفيه الحسن بن عمارة وهو متروك، وعن ابن عباس عند الدارقطني، وهو ضعيف أيضا. من أحب الإطلاع على ألفاظها رجع إلى مجمع الزائد (ج3 ص79) والفتح: قال الحافظ: بعد ذكر هذه الروايات، وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق - انتهى. وقال الأمير اليماني: قد ورد هذا من طرق بألفاظ مجموعها، يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - تقدم من العباس زكاة

(11/97)


عامين. وإختلفت الروايات هل هو استلف ذلك أو تقدمه ولعلهما واقعان معا- انتهى.
1804- قوله: (ألا) للتنبيه (من ولى يتيما) بفتح الواو وكسر اللام، قال القاري: وفي نسخة بضم الواو وتشديد اللام المكسورة أي صار ولى يتيم (له مال) صفة "ليتيما" أي من صار وليا ليتيم ذي مال (فليتجر) بتشديد الفوقية أي بالبيع والشراء (فيه) أي في مال اليتيم وفي رواية أبي عبيد فليتجر له فيه (ولا يتركه) بالنهي وقيل بالنفي (حتى تأكله الصدقة) أي تنقصه وتفنيه لأن الأكل سبب الإفناء. قال ابن الملك: أي بأخذ الزكاة منها فينقص شيئا فشيئا: وهذا يدل على وجوب الزكاة في مال الصبي، وبه قال: الشافعي ومالك

(11/98)


وأحمد, وعند أبي حنيفة لا زكاة فيه - انتهى. وقال ابن قدامة: الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون لوجود الشرائط الثلاث. (أي الحرية والإسلام وتمام الملك) فيهما روى ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وعائشة والحسن بن علي وجابر رضي الله عنهم. وبه قال جابر بن زيد، وابن سيرين وعطاء ومجاهد وربيعة ومالك وابن أبي ليلى والشافعي وابن عيينة وإسحاق وأبوعبيد وأبوثور. ويحكي عن ابن مسعود والثوري والأوزاعي، أنهم قالوا: تجب الزكاة ولا تخرج، حتى يبلغ الصبي ويفيق المعتوة قال ابن مسعود: أحصى ما يجب في مال اليتيم من الزكاة, فإذا بلغ، أعلمه فإن شاء زكى وإن لم يشأ لم يزك. وروى نحو هذا عن إبراهيم. وقال الحسن البصري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وأبووائل النخعي وأبوحنيفة: لا تجب الزكاة في أموالها. وقال أبوحنيفة: يجب العشر في زروعهما وثمرتهما وتجب صدقة الفطر عليهما. واحتج في نفي الزكاة بقوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي يبلغ وعن المجنون حتى يفيق، وبأنها عبادة محضة فلا تجب عليهما كالصلاة والحج ولنا ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال من ولى يتيما له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكلة الصدقة. أخرجه الدارقطني، وفي رواية المثنى بن الصباح، وفيه مقال وروى موقوفا على عمرو إنما تأكله الصدقة بإخراجها، وإنما يجوز إخراجها إذا كانت واجبة لأنه ليس له أن يتبرع بمال اليتيم، ولأن من وجب العشر في زرعه وجب ربع العشر في ورقه كالبالغ العاقل، ويخالف الصلاة والصوم فإنها مختصة بالبدن وبنية الصبي ضعيفة عنها والمجنون لا يتحقق منه نيتها والزكاة حق يتعلق بالمال فأشبه نفقة الأقارب والزوجات واروش الجنايات وقيم المتلفات، والحديث أريد به رفع الإثم والعبادات البدنية بدليل وجوب العشر وصدقة الفطر والحقوق المالية، ثم هو مخصوص بما ذكرنا. والزكاة في المال في معناه فنقيسها عليه إذا تقرر هذا فإن الولي يخرجها عنهما من مالهما لأنها

(11/99)


زكاة واجبة فوجب إخراجها كزكاة العاقل البالغ والولي يقوم مقامه في أداء ما عليه، ولأنها حق واجب على الصبي والمجنون فكان على الولي أداءه عنهما كنفقة أقاربه وتعتبر نية الولي في الإخراج كما تعتبر النية من رب المال - انتهى. كلام ابن قدامة قلت: واستدل للأئمة الثلاثة أيضا بما روى الطبراني في الأوسط عن أنس مرفوعا اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة ذكره الحافظ في التلخيص (ص176) وفي الدراية (ص154) والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص332) وسكتا عنه، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 ص67) وقال أخبرني سيدي وشيخي يعني الحافظ العراقي أن إسناده صحيح، والسيوطي في الجامع الصغير قال المناوي وسنده كما قال الحافظ العراقي صحيح وبعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقا، وبما روى في ذلك من آثار الصحابة عمر وعلي وابن عمر وعائشة وجابر رواها أبوعبيد والبيهقي والدارقطني وغيرهم وذكرها الزيلعي
رواه الترمذي، وقال: في اسناده مقال، لأن المثنى

(11/100)


والحافظ في التلخيص وأجاب الحنفية عن حديث الباب بأن المراد بالصدقة النفقة على اليتيم نفسه، لأن الزكاة لا تفني جميع المال فعلم أن المراد به النفقة التي تستغرق جميع المال. قال السرخسي: ألا ترى أنه أضاف الأكل إلى جميع المال والنفقة هي التي تأتي على جميع المال دون الزكاة، ولأن اسم الصدقة قد ينطلق على النفقة لقوله عليه السلام: أن المسلم إذا أنفق على أهله كانت له صدقة وتعقب هذا بأن اسم الزكاة لا يطلق على النفقة لغة ولا شرعا ولا يقاس على لفظ صدقة، لأن اللغة لا تؤخذ بالقياس، والقول بأن رواية من روى بلفظ الزكاة رواية بالمعنى باطل مردود لأنه مجرد دعوى لا دليل عليها، ويرده أيضا أثر ابن مسعود المذكور في كلام ابن قدامة وغير ذلك من الآثار. وأجيب عن الأول بأن المراد بالأكل النقص كما قال القاري وابن الملك وأجاب ابن الهمام عن آثار الصحابة التي تدل على وجوب الزكاة في مال الصبي بأنها لا تستلزم كونها عن سماع إذ يمكن الرأي فيه فيجوز كونه بناء عليه، فحاصله قول الصحابي عن اجتهاد عارضه رأى صحابي آخر. قال محمد بن الحسن في كتاب الآثار أنا أبوحنيفة حدثنا ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن مسعود ليس في مال اليتيم زكاة. وليث كان أحد العلماء العباد، وقيل اختلط في آخر عمره، ومعلوم أن أباحنيفة لم يكن ليذهب فيأخذ عنه حال اختلاطه ويرويه وهو الذي شدد أمر الرواية ما لم يشدده غيره وروى مثل قول ابن مسعود عن ابن عباس تفرد به ابن لهيعة- انتهى. وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأنه لم يثبت عن أحد من الصحابة بسند صحيح عدم القول بوجوب الزكاة في مال الصبي، وأما أثر ابن مسعود فهو ضعيف من وجهين: الأول أنه منقطع والثاني أن في إسناده ليث بن أبي سليم، قال الحافظ: صدوق اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه. وقال البيهقي (ج4 ص108) هذا أثر ضعيف لأنه منقطع فإن مجاهدا لم يدرك ابن مسعود، وليث بن أبي سليم ضعيف عند أهل الحديث، ذكره الزيلعي (ج2

(11/101)


ص334) وسكت عليه، وأجاب ابن الهمام عن الوجه الثاني ولم يجب عن الوجه الأول وفيما أجاب به عن الوجه الثاني كلام فتفكر وأما أثر ابن عباس فقد تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف عند أهل الحديث، وأما حديث رفع القلم عن ثلاثة ففي الاستدلال به على عدم وجوب الزكاة في مال الصبي نظر كيف وقد رواه عائشة وعلي وهما قائلان بوجوب الزكاة في مال الصبي، وقال الزيلعي: قال ابن الجوزي والجواب أن المراد قلم الإثم أو قلم الأذى - انتهى. وقد بسط في الرد على من قاس الزكاة على الصلاة أبوعبيد في الأموال (ص454- 456) فأرجع إليه (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا أبوعبيد في الأموال (ص448) والدارقطني (ص206) والبيهقي (ج4 ص107) (وقال) أي الترمذي (في اسناده مقال لأن المثنى) بضم الميم وفتح المثلثة وتشديد النون مقصورا
ابن الصباح ضعيف.
?الفصل الثالث?
1805- (19) عن أبي هريرة، قال: لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبوبكر بعده، وكفر من كفر من العرب،

(11/102)


(ابن الصباح) بالمهملة المفتوحة والموحدة المشددة اليماني الأبناوي نزيل مكة (ضعيف) أي في الحديث والذي في الترمذي "يضعف في الحديث" قلت: ضعفه أبوحاتم وابن سعد وابن حبان وابن أبي عمار والساجي وسحنون الفقيه والدارقطني وغيرهم. وقال ابن حبان: كان ممن اختلط في آخر عمره. وقال أحمد: لا يساوي حديثه شيئا مضطرب الحديث، وذكره العقيلي في الضعفاء وأورد عن علي بن المديني سمعت يحيى القطان وذكر عنده المثنى فقال لم نتركه من أجل حديث عمرو بن شعيب ولكن كان اختلاط منه، ذكره الحافظ في تهذيبه (ج10 ص36- 37) وقال في التقريب: ضعيف اختلط بآخره وكان عابدا- انتهى. وقال الترمذي: إنما روى هذا الحديث من هذا الوجه ورواه بعضهم عن عمرو بن شعيب عن عمر بن الخطاب موقوفا عليه - انتهى. وقال ههنا سألت أحمد عن هذا الحديث فقال ليس بصحيح، ورواد الدارقطني من حديث أبي إسحاق الشيباني أيضا عن عمرو بن شعيب لكن راوية عند مندل بن علي وهو ضعيف ومن حديث العزرمي عن عمرو، والعزرمي ضعيف متروك، ورواه ابن عدى من طريق عبدالله بن علي وهو الأفريقي وهو ضعيف. قال الحافظ في بلوغ المرام: ولحديث عمرو شاهد مرسل عند الشافعي- انتهى. يعني ما رواه عن عبدالمجيد بن رواد عن ابن جريج عن يوسف بن ماهك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة. قال البيهقي بعد روايته من طريق الشافعي: وهذا مرسل، إلا أن الشافعي أكده بالاستدلال بالخبر الأول أي حديث أبي سعيد عند الشيخين ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة - الحديث. يعني لأنه يدل بعمومه على إيجاب الزكاة في مال كل حر مسلم وبما روى عن الصحابة في ذلك. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا المرسل: ولكن أكده الشافعي بعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقا.

(11/103)


1805- قوله: (لما توفي) بصيغة المجهول (واستخلف) بصيغة المجهول أيضا أي جعل خليفة (بعده) أي بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - (وكفر من كفر من العرب) بعض بعبادة الأوثان، وبعض بالرجوع إلى إتباع مسيلمة وهم أهل اليمامة وغيرهم. واستمر بعض على الإيمان إلا أنه منع الزكاة، وتأول أنها خاصة بالزمن النبوي. قال الحافظ
في الفتح قال القاضي عياض وغيره كان أهل الردة ثلاث أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان. وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكان كل منهما ادعى النبوة قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فصدق مسيلمة أهل اليمامة وجماعة غيرهم، وصدق الأسود أهل صنعاء وجماعة غيرهم، فقتل الأسود قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل، وبقي بعض من آمن به فقاتلهم عمال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلافة أبي بكر، وأما مسيلمة فجهز إليه أبوبكر الجيش، وعليهم خالد بن وليد فقتلوه. وصنف الثالث استمروا على الإسلام لكنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم الذين ناظر عمر أبابكر في قتالهم كما وقع في حديث الباب. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص4): وهؤلاء أي الصنف الثالث في الحقيقة أهل بغي وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصا لدخولهم في غمار أهل الردة فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما وأرخ مبدأ قتال أهل البغي بأيام علي بن أبي طالب إذ كانوا متفردين في زمانه لم يختلطوا بأهل شرك وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة عن ذلك وفرقها فيهم- انتهى. وقال أبومحمد بن حزم في الملل والنحل (ج2 ص79- 80): انقسمت العرب بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -. أربعة أقسام: طائفة ثبتت على ما

(11/104)


كانت عليه في حياته من الإسلام ولم تبدل شيئا ولزمت طاعة أبي بكر وهم الجمهور والأكثر. وطائفة بقيت على الإسلام أيضا إلا أنهم قالوا نقيم الصلاة وشرائع الإسلام إلا إنا لا نؤدي الزكاة إلى أبي بكر ولا نعطي طاعة لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان هؤلاء كثيرا إلا أنهم دون من ثبت على الطاعة أي قليل بالنسبة إلى الطائفة الأولى وطائفة ثالثة أعلنت بالكفر والردة كأصحاب طليحة وسجاح وسائر من ارتدوهم قليل بالإضافة إلى من قبلهم إلا أنه كان في كل قبيلة من المؤمنين من يقاوم المرتدين. وطائفة رابعة توقفت فلم تدخل في أحد من الطوائف المذكورة ولم تطعهم وبقوا يتربصون لمن تكون الغلبة فأخرج إليهم أبوبكر البعوث وكان فيروز ومن معه غلبوا على بلاد الأسود وقتلوه وقتل مسيلمة باليمامة وعاد طليحة إلى الإسلام وكذا سجاح ورجع غالب من كان ارتد إلى الإسلام فلم يمض عام واحد حتى راجع الجميع الإسلام أولهم عن آخرهم وإنما كانت نزعة من الشيطان كنار اشتعلت فأطفأ الله للوقت- انتهى. قال الحافظ وإنما أطلق الكفر ليشمل الصنفين فهو في حق من جحد الزكاة حقيقة وفي حق الآخرين أي الذين منعوا الزكاة مع الاعتراف مجاز تغليبا وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل؛ لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع فلما أصروا قاتلهم - انتهى. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص5) زعم زاعمون من الروافض أن أبابكر أول من سمي المسلمين

(11/105)


كفارا وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم?[التوبة: 103] خطاب خاص في مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومثل هذه الشبهة إذا وجد كان مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم فكان ما جرى من أبي بكر عليهم عسفا وسوء سيرة. قلت: (قائله الخطابي) وهؤلاء قوم لا خلاق لهم في الدين وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقيعة في السلف وقد بينا أن الذين نسبوا إلى الردة كانوا أصنافا منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسليمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها. وهؤلاء الذين سماهم الصحابة كفارا ولذلك رأى أبوبكر سبى ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة، واستولد علي بن أبي طالب جارية من سبى بني حنيفة فولدت له محمد بن علي الذي يدعى ابن الحنفية ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبي. فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد عنهم كفارا، وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين. وذلك أن الردة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلا إليه فقد ارتد عنه، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق فانقطع عنهم اسم الثناة والمدح بالدين. وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقا، وفي أمر هؤلاء المانعين للزكاة عرض الخلاف، ووقعت الشبهة لعمر لا في الصنفين الأولين أي الذين ارتدوا حقيقة. قال الخطابي: وأما قوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم?[التوبة: 103] وما أدعوا من وقوع الخطاب فيه خاصا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم

(11/106)


- فإن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه: خطاب عام، كقوله: ?يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة?[المائدة: 6] الآية. وكقوله: ?يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام?[البقرة: 183] وخطاب خاص للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشركه في ذلك غيره وهو ما ابين عن غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى: ?ومن الليل فتهجد به نافلة لك?[الإسراء: 79] وكقوله: ?خالصة لك من دون المؤمنين?[الأحزاب: 50] وخطاب مواجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو وجميع أمته في المراد به سواه كقوله تعالى: ?أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل?[الإسراء: 78] وقوله: ?فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم?[النحل: 98] وكقوله: ?وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة?[النساء: 102] ونحو ذلك من خطاب المواجهة فكله عام للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته غير مختص به - صلى الله عليه وسلم - بل تشركه الأمة في جميع ذلك، ومن هذا النوع قوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة? وإنما الفائدة في مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه هو الداعي إلى الله سبحانه والمبين عنه معنى ما أراده فقدم اسمه في

(11/107)


الخطاب ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم، قال: وأما تطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة فإن الفاعل لها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيها وكل ثواب موعود على عمل من الطاعات كان في زمانه حياته - صلى الله عليه وسلم - فإنه باق غير منقطع بوفاته، وقد يستحب للإمام ولعامل الصدقة أن يدعو للمتصدق بالنماء والبركة في ماله ويرجى أن الله يستجيب له ذلك ولا يخيب مسألته فيه. قال الخطابي: ومن أنكر فرض الزكاة في هذا الزمان وامتنع من أدائها إلى الإمام لم يكن حكمه حكم أهل البغي، بل كان كافرا بإجماع المسلمين. لأنه قد شاع اليوم دين الإسلام واستفاض علم وجوب الزكاة حتى عرفه الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل في من أنكر شيئا مما أجمعت عليه الأمة من أمور الدين إذا كان علمه منتشرا كالصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الخمر، والزنا ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام إلا أن يكون رجل حديث عهد بالإسلام لا يعرف حدوده فإذا أنكر شيئا منه جهلا به لم يكفر وكان سبيله سبيل أولئك القوم في تبقية اسم الدين عليه، فإما ما كان الإجماع فيه معلوما من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وإن قاتل العمد لا يرث وإن للجدة السدس، وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة وتفرد الخاصة بها. قال الخطابي: وإنما عرض الوهم في تأويل هذا الحديث من رواية أبي هريرة: ووقعت الشبهة فيه لمن تأوله على الوجه الذي حكيناه عنهم لكثرة ما دخله من الحذف والاختصار وذلك؛ لأن القصد لم يكن به سياق الحديث على وجهه، وذكر القصة في كيفية الردة منهم وإنما قصد به حكاية ما جرى بين أبي بكر وعمر وما تنازعاه من الحجاج في استباحة قتالهم

(11/108)


ويشبه أن يكون أبوهريرة إنما لم يعن بذكر القصة وسوقها على وجهها كلها اعتمادا على معرفة المخاطبين بها إذ كانوا قد علموا وجه الأمر وكيفية القصة في ذلك فلم يضر ترك إشباع البيان مع حصول العلم عندهم به انتهى كلام الخطابي. وحاصله أن عمر إنما أراد بقوله الآتي تقاتل الناس، الصنف الأخير فقط. أي الذين منعوا الزكاة وتأولوا قوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة? [التوبة: 103] لأنه لا يتردد في جواز قتال الذين رجعوا إلى عبادة الأوثان، كما أنه لا يتردد في قتال غيرهم من المرتدين وكأنه لم يستحضر من الحديث إلا القدر الذي ذكره وقد حفظ غيرهم (كابن عمر عند الشيخين وأنس عند أبي داود والنسائي) في الصلاة والزكاة معا، وقد رواه عبدالرحمن بن يعقوب عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ: يعم الشريعة حيث قال فيها: ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإن مقتضى ذلك أن من جحد شيئا مما جاء به - صلى الله عليه وسلم - ودعي إليه فامتنع ونصب القتال أنه يجب قتاله وقتله إذا أصر وإنما عرضت الشبهة لما دخله من الاختصار وكان راويه لم يقصد سياق الحديث على وجهه وإنما أراد سياق مناظرة أبي بكر وعمر واعتمد على معرفة السامعين بأصل الحديث.
قال عمر بن الخطاب: لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله؟

(11/109)


قال الحافظ: وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه لو كان عند عمر في الحديث حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ما استشكل قتالهم للتسوية في كون غاية القتال كل من التلفظ بالشهادتين وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قال عياض: حديث ابن عمر نص في قتال من لم يصل ولم يزك كمن لم يقر بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر، وجواب أبي بكر دل على أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة الزكاة إذ لو سمعه عمر لم يحتج على أبي بكر ولو سمعه أبوبكر لرد به على عمر، ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله إلا بحقه- انتهى. قلت: في كلام عياض الأخير نظر، وسيأتي التنبيه عليه (كيف تقاتل الناس) أي الذين منعوا الزكاة مع الإقامة على أصل الدين (أمرت) بضم الهمزة مبنيا للمفعول أي أمرني الله (حتى يقولوا لا إله إلا الله) كناية عن الإسلام. قال الخطابي وغيره: المراد بقوله حتى يقولوا لا إله إلا الله: إنما هم أهل الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون لا إله إلا الله ثم إنهم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف حتى يقروا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أويعطوا الجزية (فمن قال لا إله إلا الله) يعني كلمة الإيمان وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله للإجماع على أنه لا يعتد في الإسلام بتلك وحدها (عصم) بفتح الصاد أي منع وحفظ (مني) أي من تعرضي أنا ومن اتبعني (ماله ونفسه) فلا يجوز هدر دمه واستباحة ماله بسبب من الأسباب (إلا بحقه) أي بحق الإسلام من نحو قصاص أو حد أو غرامة متلف ونحو ذلك. قال الطيبي: أي لا يحل لأحد أن يتعرض لماله ونفسه بوجه من الوجوه إلا بحقه، أي بحق هذا القول، أو بحق أحد المذكورين. وقال الحافظ: إن كان الضمير في قوله بحقه للإسلام فمهما ثبت أنه من حق الإسلام تناوله ولذلك اتفق الصحابة على قتال من جحد الزكاة- انتهى. قلت: ورد حديث ابن عمر المتقدم في كتاب الإيمان بلفظ: إلا بحق الإسلام فالظاهر أن ضمير بحقه في حديث الباب للقول المذكور الذي هو كناية عن الإسلام

(11/110)


(وحسابه على الله) أي فيما يستسر به دون ما يخل به من الأحكام الواجبة عليه في الظاهر. قال الطيبي: يعني من قال لا إله إلا الله، وأظهر الإسلام نترك مقاتلته ولا نفتش باطنه، هو مخلص أم لا؟ فإن ذلك إلى الله تعالى وحسابه عليه. قال الخطابي: فيه دليل على أن الكافر المستسر بكفره لا يتعرض له إذا كان ظاهره الإسلام ويقبل توبته إذا أظهر الإنابة من كفر علم بإقراره أنه كان يستسر به وهو قول أكثر العلماء، وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك أيضا عن أحمد بن حنبل - انتهى. وقال العيني في هذا الحديث: قبول توبة الزنديق ولأصحاب الشافعي في الزنديق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويعلم ذلك بأن يطلع الشهود على كفر كان يخفيه أو علم بإقراره خمسة
فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال،

(11/111)


أوجه: أحدها: قبول توبته مطلقا وهو الصحيح المنصوص عن الشافعي والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: أفلا شققت عن قلبه. والثاني: وبه قال مالك لا تقبل توبته ويتحتم قتله لكنه إن كان صادقا في توبته نفعه ذلك عندالله تعالى، وعن أبي حنيفة روايتان كالوجهين. والثالث. إن كان من الدعاة إلى الضلال لم تقبل توبتهم وتقبل توبة عوامهم. والرابع. إن أخذ ليقتل فتاب لم تقبل وإن جاء تائبا ابتداء وظهرت مخايل الصدق عليه قبلت، وحكى هذا القول عن مالك. والخامس: إن تاب مرة قبلت منه وإن تكررت منه التوبة لم تقبل، وقال صاحب التقريب: روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في الزنديق الذي يظهر الإسلام، قال استيتب كالمرتد، وقال أبويوسف مثل ذلك زمانا فلما رأى ما يصنع الزنادقة من إظهار الإسلام ثم يعودون قال: إن أتيت بزنديق أمرت بقتله ولم استتب فإن تاب قبل أن أقتله خليته، وروى سليمان بن شعيب عن أبيه عن يوسف عن أبي حنيفة في نوادر له قال قال أبوحنيفة: اقتلوا الزنديق المستتر فإن توبته لا تعرف- انتهى. (والله لأقاتلن من فرق) بتشديد الراء وقد تخفف (بين الصلاة والزكاة) بأن أقر بالصلاة وأنكر الزكاة جاحدا أو مانعا مع الاعتراف، وإنما أطلق في أول القصة الكفر ليشمل الصنفين فهو في حق من جحد حقيقة وفي حق الآخرين مجاز تغليبا وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل؛ لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع فلما أصروا قاتلهم، قال المازري: ظاهر السياق إن عمر كان موافقا على قتال من جحد الصلاة فالزمه الصديق بمثله في الزكاة لورودهما في الكتاب والسنة موردا واحدا، كذا في الفتح. (فإن الزكاة حق المال) قال القسطلاني: احتج عمر في هذه القصة بظاهر ما استحضره مما رواه من قبل أن ينظر إلى قوله إلا بحقه ويتأمل شرائطه، فقال له أبوبكر: إن الزكاة حق المال كما أن الصلاة حق البدن أي فدخلت في قوله إلا بحقه فقد تضمنت القضية

(11/112)


عصمة دم ومال معلقة باستيفاء شرائطها والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والأخر معدوم فكما لا تتناول العصمة من لم يؤد حق البدن أي الصلاة، كذلك لا تتناول العصمة من لم يؤد حق المال أي الزكاة. وإذا لم تتناولهم العصمة بقوا في عموم قوله: أمرت أن أقاتل الناس فوجب قتالهم حينئذ، وهذا من لطيف النظر أن يقلب المعترض على المستدل دليله فيكون أحق به. وكذلك فعل أبوبكر فسلم له عمر ثم قاسه على الممتنع من الصلاة؛ لأنها كانت بالإجماع من رأى الصحابة فرد المختلف فيه إلى المتفق عليه وفيه دلالة على أن العمرين لم يسمعا من الحديث الصلاة والزكاة كما سمعه غيرهما أو لم يستحضراه إذ لو كان ذلك لم يحتج عمر على أبي بكر ولو سمعه أبوبكر لرد به على عمر ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله: إلا بحقه لكن يحتمل أنه سمعه واستظهر بهذا الدليل النظري. وقال الطيبي: كان عمر حمل قوله: بحقه على غير الزكاة فلذلك صح استدلالة بالحديث فأجاب أبوبكر بأنه شامل للزكاة أيضا أو ظن عمر أن القتال إنما كان لكفرهم لا لمنعهم الزكاة فاستشهد بالحديث فأجابه الصديق بأني ما أقاتلهم لكفرهم بل لمنعهم الزكاة- انتهى. وقال الحافظ: قوله فإن الزكاة حق
والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(11/113)


المال يشير إلى دليل منع التفرقة التي ذكرها أن حق النفس الصلاة، وحق المال الزكاة فمن صلى عصم نفسه ومن زكى عصم ماله فإن لم يصل قوتل على ترك الصلاة ومن لم يزك أخذت الزكاة من ماله قهرا وإن نصب الحرب لذلك قوتل. وهذا يوضح أنه لو كان سمع الحديث ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة لما احتاج إلى هذا الاستنباط لكنه يحتمل أن يكون سمعه واستظهر بهذا الدليل النظري - انتهى. قلت: هذا الاحتمال الأخير هو الراجح عندي لما روى النسائي والحاكم والبيهقي من حديث أنس قال لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدت العرب، فقال عمر يا أبابكر كيف تقاتل العرب: فقال أبوبكر: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة- الحديث. ورجاله رجال الصحيح إلا عمران أبوالعوام وهو صدوق بهم كما في التقريب، وقال النسائي عمران القطان ليس بالقوى في الحديث، وهذا الحديث خطأ والذي قبله الصواب حديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن أبي هريرة، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد غير أن الشيخين لم يخرجا عن عمران القطان وليس لهما حجة في تركه فإنه مستقيم الحديث، وكذا قال الذهبي في تلخيصه: وقد ظهر بهذا وبما تقدم قبله أن أبابكر الصديق احتج على عمر بالنص الصريح وبعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بحقه وبمقايسة الزكاة بالصلاة وبكونهما فقرينتين في كتاب الله تعالى (والله لو منعوني عناقا) بفتح العين وتخفيف النون وهي الأنثى من الأولاد المعز دون السنة (كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الخطابي: فيه دليل على وجوب الصدقة في السخال والفصلان والعجاجيل وإن واحدة منها تجزيء عن الواجب في الأربعين، ومنها إذا كانت كلها صغارا ولا يكلف صاحبها مسنة، وفيه دليل على أن حول النتاج حول الأمهات، ولو كان يستأنف بها الحول لم يوجد السبيل

(11/114)


إلى أخذ العناق. وقال عياض: احتج بذلك من يجيز أخذ العناق في زكاة الغنم إذا كانت كلها سخالا، وهو أحد الأقوال. قال النووي: هو محمول على ما إذا كانت الغنم صغارا كلها بأن ماتت أمهاتها في بعض الحول، فإذا حال حول الأمات زكى السخال الصغار بحول الأمهات سواء بقي من الأمهات شيء أم لا، هذا هو الصحيح المشهور، ويتصور ذلك أيضا فيما إذا مات معظم الكبار وحدثت صغار فحال حول الكبار على بقيتها وعلى الصغار- انتهى. قلت: اختلف العلماء فيما إذا كانت الغنم سخالا كلها أو كانت الإبل فصلانا والبقر عجاجيل. فقال مالك: عليه في الغنم جذعة أو ثنية، وعليه في الإبل والبقر ما في الكبار منها، وهو قول زفر وأبي ثور وأبي عبيد. وقال أبويوسف: والأوزاعي والشافعي يؤخذ منها إذا كانت صغارا من كل صنف واحد منها، وهو مذهب البخاري في الغنم حيث ترجم لحديث الباب بقوله: "باب أخذ العناق في الصدقة. وقال أبوحنيفة ومحمد: لا شيء في الفصلان ولا في العجاجيل ولا في صغار الغنم لا منها ولا من غيرها، وهذا آخر

(11/115)


أقوال أبي حنيفة، وكان يقول أولا بما ذهب إليه مالك، ثم رجع وقال بما ذهب إليه أبويوسف والشافعي، ثم رجع وقال ليس في الفصلان والعجاجيل والسخال صدقة. قال الخطابي: وهذا أظهر أقاويله، وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل، وحكى ذلك عن سفيان الثوري. قلت: الحنابلة موافقون في ذلك للشافعي. قال الموفق في المغنى: السخلة لا تؤخذ في الزكاة لقول عمر لساعيه: اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي على يديه ولا تأخذها منهم ولا نعلم فيه خلافا إلا أن يكون النصاب كله صغارا فيجوز أخذ الصغيرة في الصحيح من المذهب، وإنما يتصور ذلك بأن يبدل كبارا بصغار في أثناء الحول أو يكون عنده نصاب من الكبار فتوالد نصاب من الصغار ثم تموت الأمهات وتحول الحول على الصغار. وقال أبوبكر: لا يؤخذ أيضا إلا كبيرة تجزيء في الأضحية، وهو قول مالك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما حقنا في الجذعة والثنية" ولنا قول الصديق رضي الله عنه"والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليها "فدل على أنهم كانوا يؤدون العناق، ولأنه مال تجب فيه الزكاة من غير اعتبار قيمته، فيجب أن يأخذ من عينه كسائر الأموال. والحديث محمول على ما فيه كبار- انتهى. واستدل لأبي حنيفة ومحمد بأن النصاب إنما يعرف بالنص، والنص ورد بإسم الإبل والبقر والغنم، وهذه الاسامي لا تتناول الفصلان والعجاجيل والحملان أي السخال، فلم يثبت كونها نصابا وأجاب المانعون عن قول أبي بكر الصديق بأنه خرج على طريق التمثيل لا التحقيق أي لو وجبت هذه ومنعوها لقاتلتهم أو على المبالغة دون التحقيق بدليل ما في الرواية الأخرى "عقالا" مكان "عناقا" فإن العقال ليس من الصدقة، كما أن العناق ليس من سن الزكاة، وبأن المراد بالعناق فيه الجذعة والثنية مجازا، فلا يستلزم أخذ الصغار ولو سلم جاز أخذها بطريق القيمة لا أنها هي نفس الواجب، وبأن معناه كانوا يؤدون عنها ما

(11/116)


يجوز أداءه ويشهد له قول عمر اعدد عليهم السخلة ولا تأخذها. والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي وأبويوسف لظاهر قول أبي بكر الصديق قال ابن رشد وهو الأقيس- انتهى. وما ذكره المانعون للجواب عن قول الصديق تكلف كله لا يخفى ذلك على من تأمل وانصف، هذا وقوله: "عناقا" إنما هو للبخاري ولفظ مسلم "عقالا" بكسر العين بدل العناق وكذا عند الترمذي والبخاري في رواية. ووقع عند أبي داود والنسائي كلا اللفظين، واختلف في رواية العقال فقيل هي وهم، وإلى ذلك أشار البخاري في "باب الإقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من كتاب الاعتصام، وقيل: الرواية محفوظة، ولها معنى متجه وجرى النووي على طريقته. فقال: هو محول على أن أبابكر قالها مرتين. مرة عناقا ومرة عقالا، فروى عنه اللفظان. قال الحافظ: هو بعيد مع اتحاد المخرج والقصة، واختلف في المراد بالعقال، قال في النهاية أراد بالعقال: الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في الصدقة، لأن على صاحبها التسليم وإنما يقع القبض بالرباط. وقيل: أراد ما يساوي عقالا من حقوق الصدقة. وقيل: إذا أخذ المصدق أعيان الإبل،
لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا رأيت، إن الله شرح صدر أبي بكر للقتال،
قيل أخذ عقالا، وإذا أخذ أثمانها قيل أخذ نقدا. (كما أنشد أبوالعباس النحوي) لبعضهم:
أتانا أبوالخطاب يضرب طبله فرد ولم يأخذ عقال ولا نقدا

(11/117)


وقيل أراد بالعقال صدقة العام، يقال أخذ المصدق عقال هذا العام أي أخذ منهم صدقته، وبعث فلان على عقال بني فلان إذا بعث على صدقاتهم، واختاره أبوعبيد. وقال: هي أشبه عندي بالمعنى: وقال الخطابي: إنما يضرب المثل في مثل هذا بالأقل لا بالأكثر وليس بسائر في لسانهم إن العقال صدقة عام وفي أكثر الروايات عناق وفي أخرى جدي. وقيل: إذا كان من عرض التجارة فبلغ مع غيره قيمة النصاب يجب فيه، وجاء في الحديث على القولين فمن الأول. حديث عمر أنه قال: يأخذ مع كل فريضة عقالا ورداء، وحديث محمد بن مسلمة إنه كان يعمل على الصدقة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يأمر الرجل إذا جاء بفريضتين أن يأتي بعقاليهما وقرانيهما، ومن الثاني. حديث عمر أنه آخر الصدقة عام الرمادة فلما أحيا الناس بعث عامله فقال: اعقل عنهم عقالين فاقسم فيهم عقالا وأتى بالأخر يريد صدقة عامين- انتهى. وقد بسط الحافظ والنووي الكلام في تفسير العقال. وقال النووي: ذهب كثيرون من المحققين إلى أن المراد بالعقال، الحبل الذي يعقل به البعير، وهذا القول يحكي عن مالك وابن أبي ذئب وغيرهما، وهو اختيار صاحب التحرير وجماعة من حذاق المتأخرين، قال: وهذا الذي اختاره وهو الصحيح الذي لا ينبغي غيره. قيل: ولم يزد عينه، وإنما أراد قدر قيمته. قال النووي: وهذا ظاهر متصور في زكاة النقد وفي المعدن والركاز والمعشرات وزكاة الفطر، وفيما لو وجبت سن فأخذ الساعي دونه، وفيما إذا كانت الغنم سخالا فمنع واحدة وقيمتها عقال (لقاتلهم على منعها) أي لأجل منعها أو على ترك أدانها إلى الأمام وهذا ظاهر في أنه قاتلهم على ترك أداءهم الزكاة إلى الإمام لا على إنكار فرضيتها وجحدها. وقال الخطابي: فيه دليل على أن الردة لا تسقط عن المرتد الزكاة الواجبة في أمواله، وتعقبه الحافظ: بأن المرتد كافر والكافر لا يطالب بالزكاة وإنما يطالب بالإيمان، وليس في فعل الصديق حجة لما ذكر، وإنما فيه

(11/118)


قتال من منع الزكاة والذين تمسكوا بأصل الإسلام ومنعوا الزكاة بالشبهة التي ذكروها لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجة. وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم هل تغنم أموالهم وتسبي ذراريهم كالكفار أو لا كالبغاة، فرأى أبوبكر الأول، وعمل به، وناظره عمر في ذلك، وذهب إلى الثاني، ووافقه غيره في خلافته على ذلك واستقر الإجماع عليه في حق من جحد شيئا من الفرائض بشبهه فيطالب بالرجوع، فإن نصب القتال قوتل وأقيمت عليه الحجة فإن رجع وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ- انتهى. (فوالله ما هو) أي الشأن (إلا رأيت) أي علمت (إن الله شرح صدر أبي بكر للقتال) أي فتح ووسع له، قال النووي: معناه علمت أنه جازم بالقتال لما ألقي الله سبحانه وتعالى في قلبه من الطمأنينة
فعرفت أنه الحق)). متفق عليه.
1806- (20) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع، يفر منه صاحبه، وهو يطلبه حتى يلقمه أصابعه)). رواه أحمد.

(11/119)


لذلك واستصوا به ذلك. قال الطيبي: المستثنى منه غير مذكور أي ليس الأمر شيئا من الأشياء إلا علمي بأن أبابكر محق، فهذا الضمير يفسره ما بعده نحو قوله تعالى: ?إن هي إلا حياتنا الدنيا?[الأنعام: 29] (فعرفت أنه الحق) أي ظهر له من صحة احتياجه لا أنه قلده في ذلك، وهذا انصاف منه رضي الله عنه ورجوع إلى الحق عند ظهوره. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة غير ما تقدم، ذكرها الحافظ والنووي من شاء الوقوف عليها رجع إلى الفتح وشرح مسلم للنووي (متفق عليه) واللفظ للبخاري، فقد تقدم إن مسلما رواه بلفظ "عقالا" مكان "عناقا" والحديث أخرجه البخاري في الزكاة وفي استنابة المرتدين وفي الاعتصام، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في الإيمان، وأبوداود في الزكاة والنسائي فيه وفي الجهاد وفي المحاربة والبيهقي وابن حبان وغيرهم، وأخرج مالك في الموطأ طرفا من قول أبي بكر قال مالك: بلغه أن أبابكر الصديق. قال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه لم يزد على هذا.
1806- قوله: (يكون كنز أحدكم) أي المال المكنوز أي المجموع أو المدفون من غير إخراج الزكاة (شجاعا) أي يصير حية وينقلب ويتصور (يفر منه صاحبه) أي صاحب الكنز أو صاحب الشجاع، والإضافة لأدنى ملابسة (وهو) أي الشجاع (يطلبه) ولا يتركه (حتى يلقمه) من الألقام (أصابعه) لأن المانع الكانز يكتسب المال بيديه. قال السيد جمال الدين: وهو يحتمل احتمالين. أحدهما: أن يلقم الشجاع أصابع صاحب المال على أن يكون أصابعه بدلا من الضمير، وثانيهما: أن يلقم صاحب المال الشجاع أصابع نفسه أي يجعل أصابع نفسه لقمة الشجاع تأمل - انتهى. قال الطيبي: ذكر فيما تقدم أن الشجاع يأخذ بلهزمتيه أي شدقيه، وخص هنا بألقام الأصابع، ولعل السر فيه إن المانع يكتسب المال بيديه ويفتخر بشدقيه فخصا بالذكر, أو أن البخيل قد يوصف بقبض اليد، قالوا: يد فلان مقبوضة وأصابعه مكفوفة، كما أن الجواد يوصف ببسطها. قال الشاعر:

(11/120)


تعود بسط الكف لو أنه ثناها بقبض لم تطعه أنامله
انتهى. قال القاري: والأظهر أن يقال كل يعذب بما هو الغالب عليه، ويحتمل أن مانع الزكاة يعذب بجميع ما مر في الأحاديث، فيكون ماله تارة يجعل صفائح وتارة يتصور شجاعا أقرع يطوقه، وتارة يتبعه ويفر منه حتى يلقمه أصابعه (رواه أحمد) وأخرجه أيضا الحاكم (ج1 ص389). وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
1807- (21) وعن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله، إلا جعل الله يوم القيامة في عنقه شجاعا، ثم قرأ علينا مصداقة من كتاب الله، ?ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله? الآية. رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
1808- (22) وعن عائشة، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما خالطت الزكاة مالا قط إلا أهلكته)).

(11/121)


1807- قوله: (ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل الله يوم القيامة في عنقه شجاعا) هذا لفظ الترمذي وللنسائي: ما من رجل له مال لا يؤدي حق ماله إلا جعل له طوقا في عنقه، شجاع أقرع وهو يفر منه وهو يتبعه، ولفظ ابن ماجه، من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع حتى يطوق به عنقه، وأخرجه أحمد بلفظ: "لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه يفر منه وهو يتبعه فيقول أنا كنزك" (ثم قرأ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في رواية ابن ماجه (علينا مصداقة) أي ما يصدقه ويوافقه (من كتاب الله) الظاهر أنه حال من مصداقة أو من بيان له وما بعده بدل بعض من الكل ?ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله? الآية في الترمذي بعده، وقال مرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقة: ?سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة?[آل عمران: 180] (رواه الترمذي) في التفسير واللفظ له (والنسائي وابن ماجه) في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص377) والبيهقي (ج4 ص81) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال المنذري في الترغيب: بعد إيراده رواه ابن ماجه والنسائي بإسناد صحيح وابن خزيمة في صحيحه- انتهى. وأخرجه الحاكم في التفسير (ج2 ص298- 299) وابن جرير عن ابن مسعود موقوفا.

(11/122)


1808- قوله: (ما خالطت الزكاة مالا قط) بأن يكون صاحب مال من النصاب فيأخذ الزكاة أو بأن لم يخرج من ماله الزكاة. قال المنذري: هذا الحديث يحتمل معنيين، أحدهما: أن الصدقة ما تركت في مال ولم تخرج منه إلا أهلكته، ويشهد لهذا حديث عمر مرفوعا: ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة (أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه عمر ابن هارون وهو ضعيف) والثاني: إن الرجل يأخذ الزكاة وهو غني عنها فيضعها مع ماله فيهلكه، وبهذا فسره الإمام أحمد (كما سيأتي) (إلا أهلكته) أي نقصته أو أفنته أو قطعت بركته أي إذا لم تخرج الزكاة من مال وجبت فيه أهلكته أي محقته بأن سلطت عليه الآفات كسرقة وغصب وحرق، أو المراد قلت بركته حتى لا ينتفع به وإن كان موجودا فهو حينئذ كالهالك المعدوم. وقال الطيبي: يحتمل محقته واستصالته لأن الزكاة كانت حصنا له
رواه الشافعي والبخاري في تاريخه، والحميدي، وزاد. قال يكون قد وجب عليك صدقة، فلا تخرجها، فيهلك الحرام الحلال، وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين.

(11/123)


أو أخرجته من كونه منتفعا به لأن الحرام غير منتفع شرعا (رواه الشافعي) في باب الهدية للوالي بسبب الولاية (ج2 ص50) من كتاب الأم بلفظ: لا تخالطه الصدقة مالا إلا أهلكته (والبخاري في تاريخه) الكبير في ترجمة محمد بن عثمان بن صفوان بن أمية الجحمي القرشي (ج1 180) بلفظ: "ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته" (والحميدي) كلهم من طريق محمد بن عثمان بن صفوان الجحمي المكي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ومحمد بن عثمان هذا لم يذكر البخاري فيه جرحا ولا تعديلا وهو من رجال ابن ماجه. قال الحافظ في تهذيبه (ج9 ص337): روى عن هشام بن عروة والحكم بن اربان وغيرهما، وروى عنه الشافعي والحميدي وأحمد ابن حنبل وإبراهيم بن حمزة الزبيري (وعنه البخاري) وغيرهم. قال أبوحاتم: منكر الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: ليس بقوى. وقال في التقريب: ضعيف. والحديث أخرجه أيضا ابن عدي، والبزار، والبيهقي، وأشار المنذري إلى ضعفه حيث صدره بلفظة روى. وقال الهيثمي (ج3 ص64): بعد عزوه إلى البزار. وفيه عثمان بن عبدالرحمن الجحمي. قال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به - انتهى. قلت: إن كان ما وقع في نسخة مجمع الزوائد المطبوعة صحيحا فعثمان هذا من رجال الترمذي وابن ماجه. قال البخاري: فيه أنه مجهول، وقال الساجي: يحدث عن محمد بن زياد بأحاديث لا يتابع عليها وهو صدوق، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه مناكير، كذا في تهذيب التهذيب (ج7 ص136) وقال الحافظ في التقريب: ليس بالقوى (وزاد) أي الحميدي (قال) أي البخاري في تفسير الحديث (يكون قد وجب عليك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال) فكأنها تعينت واختلطت (وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين) أي لا بالذمة، قال الشوكاني: احتجاج من احتج به على تعلق الزكاة بالعين صحيح، لأنها لو كانت متعلقة بالذمة لم يستقم هذا الحديث، لأنها لا تكون في جزء من أجزاء المال فلا يستقيم اختلاطها بغيرها،

(11/124)


ولا كونها سببا لإهلاك ما خالطته - انتهى. وقال الطيبي: فإن قلت: هذا الحديث ظاهر في معنى المخالطة فإنها معنى ومبني تستدعي شيئين متمايزين يختلط أحدهما بالآخر، فأين هذا المعنى من قول من فسرها بإهلاك الحرام الحلال. قلت: لما جعلت الزكاة متعلقة بعين المال لا بالذمة، جعل قدر الزكاة المخرج من النصاب معينا ومشخصا، فيستقيم الخلط بنا بقي من النصاب - انتهى. قال في اللمعات: وإلى تعلق الزكاة بالعين ذهب الأئمة الثلاثة، ومن تبعهم، ولهذا لا يجوزون دفع القيم في الزكاة؛ لأنها قربة تعلقت بمحل، فلا تتأدى بغيره كالهدايا والضحايا. وتعلق الزكاة بالمال عندهم تعلق شركة، لأن المنصوص عليه هو الشأة، فالشارع أوجب
هكذا في المنتقى، وروى البيهقي، في شعب الإيمان، عن أحمد بن حنبل، بإسناده إلى عائشة، وقال أحمد في خالطت تفسيره إن الرجل يأخذ الزكاة، وهو موسر، أو غنى، وإنما هي للفقراء.

(11/125)


المنصوص عليه عينا، والواجب لا يسع تركه - انتهى. قلت: ذهب الحنيفة إلى أنها متعلقة بعين المال، صرح به الدر المختار وغيره، وهو مذهب المالكية كما صرح به الزرقاني، وأشار إليه الباجي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وأحد قولي الشافعي، وذهب ابن حزم إلى أنها واجبة في ذمة صاحب المال لا في عين المال، وهو القول الثاني للشافعي، والرواية الثانية عن أحمد. قال ابن قدامة (ج2 ص679): الزكاة تجب في الذمة في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو أحد قولي الشافعي، لأن إخراجها من غير النصاب جائز، فلم تكن الواجبة فيه كزكاة الفطر، ولأنها لو وجبت فيه لامتنع تصرف صاحب المال فيه، ولتمكن المستحقون من إلزامه أداء الزكاة من عينه، واسقطت الزكاة بتلف النصاب من غير تفريط كسقوط ارش الجنابة بتلف الجاني، والرواية الثانية أنها تجب في العين، وهذا قول الثاني للشافعي، وهذه الرواية هي الظاهرة عند بعض أصحابنا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : في أربعين شاة شأة، وقوله: فيما سقت السماء العشر، وغير ذلك من الألفاظ الواردة بحرف"في" وهي للظرفية. وإنما جاز الإخراج من غير النصاب رخصة. وفائدة الخلاف أنها إذا كانت في الذمة فحال على ماله حولان لم يؤد زكاتهما وجب عليه أداءها لما مضى، ولا تنقص عنه الزكاة في الحول الثاني، وكذلك إن كان أكثر من نصاب لم تنقص الزكاة. وإن مضى عليه أحوال، فلو كان عنده أربعون شاة مضى عليها ثلاثة أحوال لم يؤد زكاتها وجب عليه ثلاث شياه، لأن الزكاة وجبت في ذمته، فلم يؤثر في تنقيص النصاب، وإن قلنا الزكاة تنعلق بالعين. وكان النصاب مما تجب الزكاة في عينه فحالت عليه أحوال لم تؤد زكاتها تعلقت الزكاة في الحول الأول من النصاب بقدرها، فإن كان فيه نصابا لا زيادة عليه فلا زكاة فيه فيما بعد الحول الأول، لأن النصاب نقص فيه- انتهى. (هكذا) أي الحديث مع تخريجه وما ذكر من زيادة الحميدي إلى قوله: وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة

(11/126)


بالعين (في المنتقى) من أخبار المصطفى لمجد الدين أبي البركات ابن تيمية (وروى البيهقي في شعب الإيمان) أي هذا الحديث (وقال أحمد في خالطت) أي في لفظ"خالطت" الواقع في صدر الحديث (تفسيره) أي معناه أو تأويله وهو مقبول قول أحمد (إن الرجل يأخذ الزكاة وهو موسر أو غنى) شك من الراوي (وإنما هي) أي الزكاة (للفقراء) أي ولأمثالهم وغلبوا؛ لأنهم أكثر من البقية. وقال الشافعي: يعني أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم أي بمراد كلام رسوله إن خيانة الصدقة تتلف المال المخلوط بالخيانة من الصدقة - انتهى.
(1) باب ما يجب فيه الزكاة
?الفصل الأول?
1809- (1) عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر

(11/127)


(باب ما يجب فيه الزكاة) قال مالك: لا تكون الصدقة إلا في ثلاثة أشياء، الحرث والعين والماشية. قال ابن عبدالبر: لا خلاف في جملة ذلك، ويختلف في تفصيله. وقال في المسوي: وعليه أهل العلم إن صدقة الأموال على ثلاثة أقسام: وزكاة التجارة إنما تؤخذ بحساب القيمة وأما الصدقة الفطر فهي صدقة الرؤس. وقال الإمام ابن القيم في الهدى: (ج1 ص151) جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في أربعة أصناف من المال وهي أكثر الأموال دورا بين الخلق وحاجتهم إليها ضرورية. أحدها: الزرع والثمار. الثانية: بهيمة الأنعام، الإبل والبقر والغنم. الثالث: الجوهران اللذان بهما قوام العالم، وهما الذهب والفضة. الرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها، وقال ابن رشد في البداية (ج1 ص227): وأما ما تجب فيه الزكاة من الأموال فإنهم اتفقوا منها على أشياء واختلفوا في أشياء أما ما اتفقوا عليه فصنفان من المعدن الذهب والفضة اللتين ليستا بحلي. وثلاثة أصناف من الحيوان، الإبل والبقر والغنم، وصنفان من الحبوب، الحنطة والشعير وصنفان من الثمر التمر والزبيب وفي الزيت خلاف شاذ- انتهى. ثم فصل ابن رشد الأشياء التي اختلفوا في وجوب الزكاة فيها كالحلي من الذهب والفضة والخيل من الحيوان، وغير السائمة من الإبل والبقر والغنم، وغير الأصناف الأربعة المذكورة من النبات.

(11/128)


1809- قوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق) جمع وسق بفتح الواو، ويجوز كسرها كما حكاه صاحب المحكم وجمعه حينئذ أوساق كحمل وأحمال، وقد وقع كذلك في رواية لمسلم، وهو ستون صاعا بالاتفاق، ووقع في رواية ابن ماجه نحو هذا الحديث، وفيه والوسق ستون صاعا وأخرجها أحمد وأبوعبيد وأبوداود أيضا، لكن قال ستون مختوما قال أبوعبيد في الأموال (ص518) والمختوم ههنا الصاع بعينه، وإنما سمي مختوما؛ لأن الأمراء جعلت على أعلاه خاتما مطبوعا لئلا يزاد فيه ولا ينتقص منه- انتهى. والصاع أربعة أمداد والمد رطل وثلث رطل، فالصاع خمسة أرطال وثلث رطل وذلك بالرطل الذي وزنه مائة درهم وثمانية وعشرون درهما بالدراهم التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل (من التمر) وفي رواية لمسلم: ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة، وفي رواية له: ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق، وفي رواية له أيضا
صدقة،

(11/129)


من ثمر بالثاء ذات النقط الثلاث (صدقة) أي زكاة والمراد بها العشر، أو نصف العشر. قال الحافظ: لفظ"دون" في مواضع الثلاثة من الحديث بمعنى أقل لا أنه نفي عن غير الخمس الصدقة كما زعم بعض من لا يعتد بقوله، والمعنى إذا خرج من الأرض أقل من ذلك في المكيل فلا زكاة عليه فيه وبه أخذ الجمهور وخالفهم أبوحنيفة. قلت: هذا الحديث صريح في أن النصاب شرط لوجوب العشر أو نصف العشر، فلا تجب الزكاة في شيء من الزروع والثمار حتى تبلغ خمسة أوسق، وهذا مذهب أكثر أهل العلم. وبه قال صاحبا أبي حنيفة محمد وأبويوسف رحمهم الله تعالى، وهو الحق والصواب، وذهب أبوحنيفة إلى أنه لا يشترط النصاب لوجوب الزكاة في ما يخرج من الأرض، فيجب عنده العشر أو نصف العشر في كثير الخارج وقليله، وهو قول إبراهيم النخعي ومجاهد وعمر بن عبدالعزيز. أخرج عبدالرزاق في مصنفه عن معمر، عن سماك بن الفضل، عن عمر بن عبدالعزيز، قال: فيما أنبتت الأرض من قليل أو كثير العشر، وأخرج نحوه عن مجاهد، وإبراهيم النخعي. وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن هؤلاء نحوه. واستدل لهم بقوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض?[البقرة: 268] وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: فيما سقت السماء والعيون: أكان عثريا العشر. وما سقي بالنضح نصف العشر، أخرجه البخاري من حديث ابن عمر وسيأتي. قالوا: إن الآية والحديث عام، فإن كلمة "ما" من ألفاظ العموم فتشمل ما يكون قدر خمسة أوسق أو أقل أو أكثر. وتعقب بأن الآية مبهمة، وكذا حديث ابن عمر مبهم، وحديث أبي سعيد مفسر، والزيادة من الثقة مقبولة،؟ فيجب حمل المبهم على المفسر والمبين يعنى أن الآية وحديث ابن عمر عام يشمل النصاب ودونه وحديث أبي سعيد خاص بقدر النصاب فيقضي الخاص على العام أي يبني العام على الخاص. وأجاب بعض الحنفية عن هذا التعقب بأن محل ذلك إذا كان البيان وفق المبين لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه،

(11/130)


أما إذا بقي شيء من أفراد العام فإنه يتمسك به كحديث أبي سعيد هذا، فإنه دل على النصاب فيما يقبل التوسيق وسكت عما لا يقبله، فيتمسك بعموم قوله عليه السلام: فيما سقت السماء العشر. وأجاب القائلون بالنصاب عن هذا الجواب بما روى مرفوعا "لا زكاة في الخضروات" رواه الدارقطني من طريق علي وطلحة ومعاذ مرفوعا. قال الترمذي: لا يصح فيه شيء إلا مرسل موسى بن طلحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو دال على أن الزكاة إنما هي فيما يكال مما يدخر للإقتيات في حال الاختيار، وهذا قول مالك والشافعي. وعن أحمد يخرج من جميع ذلك ولو كان لا يقتات، وهو قول محمد وأبي يوسف. وأجاب الحنفية عن التعقب المذكور بوجوه غير ما تقدم. منها. أن حديث الأوساق من أخبار الآحاد فلا يقبل في معارضه الكتاب والخبر المشهور. وفيه أنه ليس فيه شائبة المعارضة بل هو بيان المقدار ما يجب فيه العشر،

(11/131)


والبيان بخبر الواحد جائز كبيان المجمل والمتشابه قال الأمير اليماني: حديث الأوساق حديث صحيح، ورد لبيان القدر الذي تجب فيه الزكاة كما ورد حديث مائتي الدرهم لبيان ذلك مع ورود في الرقة ربع العشر، ولم يقل أحد أنه يجب في قليل الفضة وكثيرها الزكاة، وذلك؛ لأنه لم يرد حديث في الرقة ربع العشر إلا لبيان أن هذا الجنس تجب فيه الزكاة وأما قدر ما يجب فيه فموكول إلى حديث التبيين له بمائتي درهم فكذا هنا قوله: فيما سقت السماء العشر، أي في هذا الجنس يجب العشر وأما بيان ما يجب فيه فموكول إلى حديث الأوساق وكأنه ما ورد إلا لدفع ما يتوهم من عموم "فيما سقت السماء العشر" كما ورد ذلك في قوله "وليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة". ثم إذا تعارض العام والخاص كان العمل بالخاص عند جهل التاريخ، كما هنا فإنه أظهر الأقوال في الأصول، وقال الإمام ابن القيم في الأعلام (ج1 ص283): لا تعارض بين الحديثين بوجه من الوجوه فإن قوله"فيما سقت السماء العشر، إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وبين ما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث وبينه نصا في الحديث الآخر فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما دل عليه البتة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم لم يقصد، وبيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصها من النصوص- انتهى. قلت: ذهب جمهور الأصوليين، وعامتهم إلى جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد الصحيح وهو الحق، واحتج لذلك في المحصول بأن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان وخبر الواحد أخص من العموم، فوجب تقديمه على العموم. قال الشوكاني: وأيضا يدل على جواز التخصيص دلالة بينه واضحة ما وقع من أوامر الله عزوجل بإتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم - من غير تقييد، فإذا جاء عنه الدليل كان إتباعه واجبا، وإذا

(11/132)


عارضه عموم قرآني كان سلوك طريقة الجمع ببناء العام على الخاص متحتما، ودلالة العام على إفراده ظنية لا قطيعة فلا وجه لمنع تخصيصه بالإخبار الصحيحة الآحادية- انتهى. ثم قال ابن القيم: ويا الله العجب: كيف يخصون عموم القرآن والسنة بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون مختلفا في الاحتجاج به وهو محل اشتباه واضطرب إذ ما من قياس إلا وتمكن معارضته بقياس مثله أو دونه أو أقوى منه بخلاف السنة الصحيحة الصريحة؛ فإنها لا يعارضها إلا سنة ناسخة معلومة التأخر والمخالفة، ثم يقال إذا خصصتم عموم قوله "فيما سقت السماء العشر" بالقصب والحشيش، ولا ذكر لهما في النص فهلا خصصتموه بقوله: " لا زكاة في حب ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق" وإذا كنتم تخصون العموم بالقياس فهلا خصصتم هذا العام بالقياس الجلي الذي هو من أجلي القياس وأصحه على سائر أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة فإن الزكاة الخاصة لم يشرعها الله ورسوله في مال إلا وجعل له نصابا كالمواشي والذهب والفضة، ويقال أيضا هلا أوجبتم الزكاة في قليل كل مال وكثيره عملا بقوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة?[التوبة: 103] وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من صاحب إبل

(11/133)


ولا بقر لا يؤدي زكاتها إلا بطح له بقاع قرقر" وبقوله: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة صفائح من نار" وهلا كان هذا العموم عندكم مقدما على أحاديث النصب الخاصة وهلا قلتم هناك تعارض مسقط وموجب، فقدمنا الموجب احتياطا وهذا في غاية الوضوح - انتهى. وقد اتضخ بهذا كله كل الاتضاح أنه يعجب تخصيص عموم قوله تعالى: ?ومما أخرجنا لكم من الأرض?[البقرة: 267] وحديث ابن عمر بحديث الأوساق كم اخصص قوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة] بالأخبار التي دلت على كون الزكاة منحصرة في أشياء مخصوصة وقوله تعالى: ?والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله?[التوبة: 34] بأحاديث النصب الخاصة وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في سائمة الإبل الزكاة" بقوله: ليس فيما دون خمس ذود صدقة" وقوله: "في الرقة ربع العشر" بقوله: "ليس في ما دون خمس أواق صدقة، على أن حديث الأوساق حديث مشهور، روى عن غير واحد من الصحابة منهم أبوسعيد عند الجماعة، ومنهم أبوهريرة عند أحمد والدارقطني والطحاوي، ومنهم ابن عمر عند أحمد والدارقطني ويحيى بن آدم (ص136) والبيهقي، ومنهم جابر عند أحمد ومسلم والبيهقي والطحاوي والحاكم وابن ماجه، ومنهم عائشة عند الطبراني في الأوسط، ومنهم أبورافع عند الطبراني في الكبير، ومنهم عمرو بن حزم عند الحاكم والطحاوي والطبراني والبيهقي، ومنهم أبوأمامة بن سهل ابن حنيف عند البيهقي، ومنهم عبدالله بن عمر، وعند يحيى بن آدم (ص137) والدارقطني (ص199) وبه قال الصحابة: منهم عمر وأبوسعيد وابن عمر وجابر وأبوأمامة بن سهيل بن حنيف. ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة فهو إجماع منهم، وقد جرى به التعامل وتلقاه الأمة بقبولها. قال أبوعبيد في الأموال (ص408): حدثنا يزيد عن حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن محمد بن عبدالرحمن أن في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي كتاب عمر في الصدقة أن لا تؤخذ من شيء حتى

(11/134)


يبلغ خمسة أوسق. وروى الطحاوي والحاكم والبيهقي والطبراني عن عمرو بن حزم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كتب إلى أهل اليمن بكتاب فذكر فيه ما سقت السماء أو كان سيحا أو كان بعلا ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق وما سقي بالرشاد والدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق. ومنها أن حديث الأوساق منسوخ قال الزيلعي (ج2 ص385) ومن الأصحاب من جعله أي حديث الأوساق منسوخا ولهم في تقريره قاعدة ذكرها السغناقي نقلا عن الفوائد الظهيرية، قال: إدا ورد حديثان متعارضان أحدهما عام والآخر خاص، فإن علم تقديم العام على الخاص خص العام به وإن علم تأخير العام ناسخا للخاص. قال محمد بن شجاع الثلجي هذا إذا علم التاريخ، أما إذا لم يعلم فإن العام يجعل آخرا لما فيه من الاحتياط وهنا لم يعلم التاريخ فيجعل العام آخرا لما فيه من الاحتياط- انتهى. وذكر العيني وابن الهمام نحو هذا. وفيه أن الحق في صورة تأخر العام عن الخاص هو بناء العام على الخاص أي تقديم الخاص وتخصيص العام به؛ لأن ما تناوله الخاص

(11/135)


متيقن وما تناوله العام ظاهر مظنون والمتيقن أولى، وكذا في صورة جهل التاريخ الحق هو البناء. قال ابن قدامة في روضة الناظر (ج1 ص161) الدليل الرابع من أدلة التخصيص التسع النص الخاص يخصص اللفظ العام فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع إلا في ربع دينار" خصص عموم قوله: ?والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما?[المائدة: 38] وقوله عليه السلام: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق خصص عموم قوله: "فيما سقت السماء العشر" ولا فرق بين أن يكون العام كتابا أو سنة أو متقدما أو متأخرا- انتهى. أي فإن الخاص يخصص العام ويقدم عليه لقوة دلالة الخاص على مدلوله فإنها قاطعة، ودلالة العام على أفراده ظاهرة، والقاطع مقدم على الظاهر، مثاله لو قال كلما سرق السارق فاقطعوه، وهو معنى الآية، فدلالته على من سرق دون ربع دينار ظاهرة، ودلالة قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا قطع إلا في ربع دينار على عدم القطع فيما دونه قاطعة فيقدم. وقال الشوكاني في إرشاد الفحول: (ص144) الحق الذي لا ينبغي العدول عنه في صورة الجهل البناء وليس عنه مانع يصلح للتشبث به، والجمع بين الأدلة ما أمكن هو الواجب، ولا يمكن الجمع مع الجهل إلا بالبناء، قال: وقد تقرر أن الخاص أقوى دلالة من العام والأقوى أرجح وأيضا إجراء العام على عمومه إهمال للخاص وإعمال الخاص لا يوجب إهمال العام، وأيضا قد نقل أبوالحسين الإجماع على البناء مع جهل التأريخ. والحاصل أن البناء هو الراجح على جميع التقادير (إلى آخر ما قال). ومنها ما قال صاحب الهداية إن حديث أبي سعيد وما في معناه ورد في زكاة التجارة دون العشر، وذلك لأنهم كانوا يتبايعون بالأوساق، وقيمة الوسق يومئذ كانت أربعين درهما فيكون قيمة خمسة أوسق مائتى درهم وهو نصاب زكاة الفضة. وحاصله أن الجمهور نقلوا حديث زكاة التجارة إلى باب آخر، فوقع التعارض مع أن الحديث العام أي حديث ابن عمر وما في معناه كان في العشر، وحديث

(11/136)


الأوساق في زكاة مال التجارة، فلا تعارض أصلا. وقال الجصاص في أحكام القرآن: قد روى ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة، فجائز أن يريد به زكاة التجارة بأن يكون سأل سائل عن أقل من خمسة أوسق طعام أو تمر للتجارة، فأخبر أن لا زكاة فيه، فنقل الراوي كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك ذكر السبب. وفيه ما قال الشيخ رشيد أحمد الكنكوكي بعد ذكر هذا الجواب. ولكن الأنصاف خلاف ذلك فإن تفاوت أسعار الثمار والشعير والحنطة غير قليل فكيف يعلم ماذا أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك حتى يعلم حكمه، كذا في الكوكب الدري (ج1 ص236) قلت: ويرد هذا التأويل أيضا حديث عمرو بن جزم الذي ذكرنا لفظه وسيأتي أيضا. ومنها ما قال الجصاص: قد ذكرنا أن الله حقوقا واجبة في المال غير الزكاة ثم نسخت بالزكاة كما روى عن أبي جعفر محمد بن علي، والضحاك قالا: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن فجائز أن يكون هذا التقدير معتبرا في الحقوق التي كانت واجبة فنسخت، نحو قوله تعالى: ?وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى?[ النساء: 8] الآية ونحو ما روى عن مجاهد، إذا حصدت طرحت للمساكين الخ. وهذا الحقوق غير واجبة

(11/137)


اليوم فجائز أن يكون ما روى من تقدير الخمسة الأوسق كان معتبر في تلك الحقوق وإذا احتمل ذلك لم يجز تخصيص الآية والأثر المتفق عليه على نقله به- انتهى. وقال العيني (ج9 ص75) نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصدقة ولم ينف العشر وقد كان في المال صدقات نسختها آية الزكاة والعشر ليس بصدقة مطلقة، إذ فيه معنى المؤنة وفيه أن النسخ لا يثبت بالاحتمال والتجويز والإدعاء وفيه أيضا ما قال الشيخ محمد أنور بعد ذكر الوجوه الثلاثة الأخيرة)، ويرد على هذه الأجوبة كلها ما عند الطحاوي (ج1 ص315) ما سقت السماء أو كان سيحا أو بعلا ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق- الحديث. وإسناده قوى، فإنه يدل على أن الحديث (أي حديث أبي سعيد وما في معناه) في العشر لا في الصدقات المتفرقة كما ذهب إليه العيني (والجصاص) ولا من باب التجارة كما اختاره صاحب الهداية كذا في فيض الباري (ج3 ص46) قلت: رواية الطحاوي هذه أخرجها الحاكم (ج1 ص395) والطبراني والبيهقي (ج4 ص89، 180) أيضا كلهم من حديث عمرو ابن حزم مطولا وقد ذكرنا طرفا منه. قال البيهقي: حديث مجود الإسناد ورأه أبوزرعة الرازي وأبوحاتم الرازي وعثمان بن سعيد الدارمي وجماعة من الحفاظ موصول الإسناد حسنا وروى البيهقي عن أحمد بن حنبل أنه قال: أرجو أن يكون صحيحا- انتهى. وبسط الحافظ الكلام في إسناده هذا الحديث في ترجمة سليمان بن داود الخولاني الدمشقي من تهذيبه من أحب الوقوف عليه رجع إليه، وسيأتي أيضا شيء من الكلام فيه في بيان نصاب الذهب، وقد جمع كما ترى حديث عمرو من حزم معنى حديث ابن عمر وحديث أبي سعيد، فدل على أنه لا تعارض بينهما خلافا لما زعمت الحنفية وبطل به ما ذهبوا إليه من تقديم حديث ابن عمر وجعله متأخرا احتياطا ولبطلان هذه الأجوبة. وجوه أخرى لا تخفى على المصنف. ومنها ما قال صاحب العرف الشذى: أن حديث الأوساق محمول على العرية، والعرية تكون فيما دون خمسة أوسق فلما أعطى

(11/138)


رجل ما خرج من أرضه بطريق العرية فلا زكاة عليه فيما أعرى، لأنه مثل من وهب بجميع ماله أو بعضه أنه لا زكاة عليه فيما وهب فصح أنه لا عشر فيما دون خمسة أوسق؛ لأنها عرية، قال وعلي أن المذكور في الحديث حكم العرية قرائن. منها، أن في الصحيحين أن العرية إنما تكون إلى خمسة أوسق فالمتبادر أن في حديث أبي سعيد أيضا حكم العرية، والمراد أن ما دون خمسة أوسق يؤدنه ديانة فيما بينهم وبين الله ولا يجب رفعه إلى بيت المال فإنه يؤدي إلى المعرى له ثم لما أداه بجميعه فتأدى زكاته أيضا، فمراد الحديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، أي لا يجب رفعه إلى بيت المال، وحاصله أن النفي في حديث أبي سعيد ليس لثبوت النصاب في الثمار والزرع وأن ما دون خمسة أوسق يبقى في بيته لا تجب فيه فريضة الله أي للعشر، بل لأنه يتصدق فيها بنفسه فلا تؤخذ منه صدقة ترفع إلى بيت المال، فالنفي باعتبار رفعها إلى بيت المال لا لعدم وجوبها، وما حديث ابن عمر فبيان للواجب في نفس الأمر سواء رفع إلى بيت المال أو أمر باداءه بنفسه فلا تعارض أصلا. قال ومنها رواية الطحاوي (ص315) عن مكحول بإسناد جيد مرسلا، خففوا في الصدقات فإن في المال

(11/139)


العرية والوصية. وفي السنن الكبرى للبيهقي أن أبا بكر وعمر كانا يأمران سعاتهما أن لا يخرصوا في العرايا قلت: حاصل هذا الجواب أن حديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، محمول على العشر لكنه مصروف إلى العرايا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص في العرايا في هذا القدر فلم يوجب فيها صدقة لأن العرية نفسها صدقة، وإنما فائدة الخبر أنما تصدق به صاحب العشر يحتسب له ولا تجب فيها صدقة ترفع إلى بيت المال ولا يضمنها، كما قاله الجصاص في شرح ما روى عن أبي سعيد مرفوعا أنه قال: ليس في العرايا صدقة وهذا تأويل أيضا باطل مردود لأنه - صلى الله عليه وسلم - نفى الصدقة فيما دون الخمسة أوسق مطلقا كما أنه نفاها فيما دون خمس أواق من الرقة وفيما دون خمس ذود من الابل وهذا يدل دلالة بينة على أنه لا تجب الزكاة رأسا في الخارج من الأرض إذا كان دون هذا المقدار كما لا تجب أصلا في الرقة إذا كانت دون خمس أواق، وفي الابل إذا كانت دون خمس، وحمل النفي في الخارج من الأرض خاصة على عدم أخذ لساعي ونفي رفعه إلى بيت المال مما لا دليل عليه. ولأن الظاهر أن المقصود من ذكر الفصول الثلاثة على نسق بيان نصب المعشرات والرقة من العين والابل من الماشية، فالفرق بينها يحمل الاثنين منها على بيان نصاب الصدقة، والأول على معنى آخر مع كون الثلاثة على نسق واحد وشاكلة واحدة غير صحيح؛ ولأنه وقع في هذا الحديث عند البيهقي (ج4:ص125) من طريق مرسلة بعد ذكر الأواق، والأوساق، والاذواد من زيادة قوله "وليس في العرايا صدقة" وروى الدارقطني من حديث علي مرفوعا بسند فيه ضعف ليس في الخضروات صدقة، ولا في العرايا صدقة، ولا في أقل من خمسة أوسق صدقة، ولا في العوامل صدقة، الحديث وسيأتي في الفصل الثالث، وكأنه أشار إليه أبوعبيد في الأموال (ص489) بقوله "لأن سنته أن لا صدقة في أقل من خمسة أوسق، وأن لا صدقة في العرايا" وذكر نفى الصدقة في العرايا وفيما دون خمسة

(11/140)


أوسق معا يبعد حمل حديث الأوساق على العرايا. ويدل على أن المقصود من قوله: ولا في أقل من خمسة أوسق في حديث الأوساق بيان نصاب صدقة المعشرات، ومن نفي الصدقة في العرايا عدم وجوب الزكاة فيها رأسا، لأنها تكون دون النصاب وهو الذي فهمه جميع أهل العلم، وأما رواية مكحول فرواها أبوعبيد في الأموال (ص 487) بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص. قال: خففوا فإن في المال العرية والوطية، ورواها ابن أبي شيبة بلفظ: "خفف على الناس فإن المال العارية والوصية" وروى البيهقي (ج4:ص124) وأبوعبيد أيضا عن الأوزاعي. قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: خففوا على الناس في الخرص فإن في المال العرية والواطئة والأكلة- انتهى. وليس في هذه الروايات أدنى دلالة على كون حديث الأوساق محمولا على حديث العرية، وغاية ما فيها أنها تدل على التخفيف في الخرص على رب النخل في قدر ما يأكله هو وأهله وزواره والمارة والسابلة رطبا وفيما يعرى أهل الحاجة منها، ولذا عفى وأسقط الصدقة أي العشر عن ذلك رأسا لا أنه أوجبها فيها ورخص في عدم رفعها إلى بيت المال بل فوض صرفها في مصارفها إلى رب

(11/141)


الحائط واحتسب ذلك له أي أسقطه من الحساب؛ ولأنه يأباه كما قال صاحب فتح الملهم: ما وقع في رواية لمسلم في حديث أبي سعيد، ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق وما في بعض روايات جابر، لا صدقة في شيء من الزرع أو الكرم حتى يكون خمسة أوسق، ولأحمد من حديث أبي هريرة ولا يحل في البر والتمر زكاة حتى يبلغ خمسة أوسق فإن العرية تعرف في التمر أو الثمار لا في سائر الحبوب والزروع، فكيف يستقيم حمل الحديث المشتمل على جميع المعشرات على العرايا. وقد روى البيهقي بإسناده عن الزهري، قال سمعت أباأمامة بن سهل بن حنيف يحدث في مجلس سعيد بن المسيب إن السنة مضت أن لا تؤخذ صدقة من نخل حتى يبلغ خرصها خمسة أوسق، وهذا ظاهر في أن المقصود بيان نصاب الصدقة كما في قرينتيه من الدود والأواقي لا بيان ما أسقط من الحساب، هذا وقد اتضح بما ذكرنا أن كل ما تأول به الحنفية حديث الأوساق باطل، وقد ظهر بذلك أيضا سخافة استدلالهم بحديث العموم. ولذلك أورد صاحب العرف الشذي حديثا آخر للاحتجاج لمذهب الحنفية، وزعم أنه خاص صريح في مذهبهم حيث قال: أن الصحيح الاحتجاج بالرواية الخاصة في مقابلة الخاص فنحتج بما رواه الطحاوي (ج2:ص213) في باب العرايا عن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرية في الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة، وقال: في كل عشرة أقناء قنو يوضع في المسجد للمساكين، قال وما تمسك به أحد منا، والحديث قوي. ومراده عندي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أجاز بالعرية إلى أربعة أوسق. وأما المسألة فيما زاد فهي كما ذكرها فيما بعد أعنى إيجاب العشر حتى أوجب في عشرة أقناء قنوا، وحينئذ صار الحديث صريحا فيما رامه الحنفية. قلت: حديث جابر هذا ذكره الحافظ في الفتح في باب بيع الثمر على رؤس النخل بالذهب والفضة ونسبه إلى الشافعي وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، قال أخرجوه كلهم من طريق ابن إسحاق حدثني محمد بن

(11/142)


يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة، لفظ أحمد- انتهى. قلت: وأخرج أحمد الجزء الثاني (ج3:ص360) في رواية أخرى بلفظ: أمر من كل جاد بعشرة أوسق من تمر بقنو يعلق في المسجد. ولفظ الحاكم (ج1:ص417): رخص في العرايا الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة، وقال: في جاذ كل عشرة أوسق قنو يوضع للمساكين في المسجد. وأخرج أبوداود الجزء الثاني فقط بلفظ: أمر من كل جاد عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين. قال الخطابي في المعالم (ج2:ص75): قال إبراهيم الحربي: يريد قدرا من النخل يجذ منه عشرة أوسق، وتقديره مجذوذ فاعل بمعنى مفعول، وأراد بالقنوا العذق بما عليه من الرطب والبسر يعلق للمساكين يأكلونه، وهذا من صدقة المعروف دون الصدقة التي هي فرض واجب- انتهى. والعمدة هي رواية هؤلاء الحفاظ التي خالية عن زيادة قوله في كل عشرة أقناء قنو لا رواية الطحاوي المشتمل على تلك الزيادة، وذلك

(11/143)


لوجهين: الأول: أنه رواه ابن إسحاق عندهم بصيغة التحديث، ووقع في طريق الطحاوي روايته بعن. والثاني: أنه وقع عند بعض هؤلاء الحفاظ مكان الزيادة المذكورة قوله: أمر في كل جاذ عشرة أوسق بقنو يعلق في المسجد وهذا كما ترى مخالف لزيادة قوله: في كل عشرة أقناء قنو الواقعة في طريق الطحاوي، وهذا كله يورث التردد في قبول تلك الزيادة، كما قال صاحب فتح الملهم، بل يوجب ردها والله تعالى أعلم. ولو تنزلنا فرواية الطحاوي أيضا محمولة على البر والإحسان والتطوع دون بيان الصدقة المفروضة أي العشر والزكاة، وعلى هذا حمل الحديث الشراح قاطبة من أصحاب الغريب وغيرهم، ونسبة الغلط والخطأ إليهم في فهم معنى الحديث جرأة شنيعة بل كبر ومكابرة، ويؤيد كون الحديث من قبيل المعروف وصدقة التطوع ما روى الحاكم (ج1 ص417) والطبراني في الأوسط عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من كل حائط بقناء للمسجد، قال الحاكم: صحيح. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. واحتج بعضهم لمذهب الحنفية بأنه لا يعتبر للخارج من الأرض حول فلا يعتبر له نصاب فإنه لما سقط له وقت ينبغي أن يسقط له المقدار، وأجاب عنه ابن قدامة بأنه إنما لم يعتبر الحول له؛ لأنه يكمل نماءه باستحصاده لا ببقاءه واعتبر الحول في غيره؛ لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال والنصاب، اعتبر ليبلغ حدا يحتمل المواساة منه فلهذا اعتبر فيه يحققه أن الصدقة إنما تجب على الأغنياء بما قد ذكرنا فيما تقدم، ولا يحصل الغني بدون النصاب كسائر الأموال الزكاتيه- انتهى. قال في حجة الله: إنما قدر من الحب والترخمسة أوسق؛ لأنها تكفي أقل أهل البيت إلى السنة وذلك؛ لأن أقل أهل البيت الزوج والزوجة وثالث خادم أو ولد بينهما وما يضاهى ذلك من البيوت، وغالب قوت الإنسان رطل أو مد من الطعام فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار كفاهم لسنة وبقيت بقية لنوائبهم أو أدامهم- انتهى. إعلم أن الاعتبار في نصاب

(11/144)


المعشرات وصدقة الفطر وغيرها إنما هو للكيل لا الوزن، فلا يخرج العشر وزكاة الفطر وغيرها إلا بالصاع والمد إلا إذا لم يتيسر ذلك فحينئذ يرجع إلى الوزن، والمراد بالصاع الصاع النبوي وهو صاع أهل الحجاز المحرمين وغيرهما لا الصاع الحجاجي الذي هو صاع أهل العراق وارجع لتحقيق ذلك إلى المحلى (ج5 ص240، 246) لابن حزم وكتاب الأموال (ص514، 525) لأبي عبيد والمجموع (ج1 ص122) و (ج5 ص458) و (ج6 ص128، 129) للنووي فإنهم قد بسطوا الكلام في تحقيق الصاع والمد وبيان مقدارهما من الوزن، وذكر مذاهب العلماء في ذلك، قال ابن قدامة: النصاب معتبر بالكيل فإن الأوساق مكيلة وإنما نقلت إلى الوزن لتضبط وتحفظ وتنقل، والمكيلات تختلف في الوزن فمنها الثقيل كالحنطة والعدس ومنها الخفيف كالشعير والذرة ومنها المتوسط، وقد نص أحمد على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة، وروى جماعة عنه أنه قال: الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثي رطل حنطة، وقال حنبل: قال أحمد: أخذت الصاع من أبي النضر وقال أبوالنضر

(11/145)


أخذته من ابن أبي ذئب، وقال: هذا صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يعرف بالمدينة، قال أبوعبدالله: فأخذنا العدس فعيرنا به وهو أصح ما يكال به؛ لأنه لا يتجافى عن مواضعه فكلنا به ووزناه فإذا هو خمسة أرطال وثلث وهذا أصح ما وقفنا عليه وما بين لنا من صاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعض أهل العلم: أجمع أهل الحرمين على أن مد النبي - صلى الله عليه وسلم - رطل وثلاث قمحا من أوسط القمح فمتى بلغ القمح ألفا وستمائة رطل ففيه الزكاة وهذا يدل على أنهم قدروا الصاع بالثقيل، فأما التخفيف فتجب الزكاة فيه إذا قارب هذا وإن لم يبلغه- انتهى. واعلم أيضا أنه اختلف في هذا النصاب هل هو تحديد أو تقريب، وبالأول جزم أحمد وهو أصح الوجهين للشافعية إلا أن كان نقصا يسيرا جدا مما لا ينضبط فلا يضر، قاله ابن دقيق العيد: وصحح النووي في شرح مسلم أنه تقريب، كذا في الفتح. وقال ابن قدامة، قال القاضي: وهذا النصاب معتبر تحديدا فمتى نقص شيئا لم تجب الزكاة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة والناقص عنها لم يبلغها إلا أن يكون نقصا يسيرا يدخل في المكاييل كالأوقية ونحوها فلا عبرة به؛ لأن مثل ذلك يجوز أن يدخل في المكاييل فلا ينضبط فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين انتهى. هذا ولم يتعرض في الحديث للقدر الزائد على النصاب المذكور وقد أجمع العلماء على أنه لا وقص في نصاب المعشرات، قال ابن قدامة: لا وقص في نصاب الحبوب والثمار بل مهما زاد على النصاب أخرج منه بالحساب فيخرج عشر جميع ما عنده فإنه لا ضرر في تبعيضه بخلاف الماشية فإن فيها ضرر ثم ههنا مسائل، ينبغي ذكرها تكميلا للفائدة. الأولى: الخمسة الأوسق تعتبر بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار، فلو كان له عشرة أوسق عنبا لا يجيء منه خمسة أوسق زبيبا لم يجب عليه شيء، لأنه حال وجوب الإخراج منه فاعتبر النصاب بحاله. الثانية: إذا وجب

(11/146)


عليه عشر مرة لم يجب عليه عشر آخر وإن حال عنده أحوالا؛ لأن هذه الأموال غير مرصدة للنماء في المستقبل بل هي إلى النقص أقرب، والزكاة إنما تجب في الأشياء النامية ليخرج من النماء فيكون أسهل. الثالثة: وقت وجوب الزكاة في الحب إذا اشتد وفي الثمرة إذا بد إصلاحها قال ابن العربي في تفسيره: اختلف العلماء في وجوب الزكاة في هذه الأموال النباتية على ثلاثة أقوال. الأول: أنها تجب وقت الجذاذ. الثاني: أنها تجب يوم الطيب؛ لأن ما قبل الطيب علفا لا قوتا وطعاما، فإذا طابت وكان الأكل الذي أنعم الله به وجب الحق الذي أمر الله به. الثالث: أن يكون بعد تمام الخرص؛ لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطا لوجوبها، ولكل قول وجه كما ترون لكن الصحيح وجوب الزكاة بالطيب لما بينا من الدليل، وإنما خرص عليهم ليعلم قدر الواجب في ثمارهم- انتهى. الرابعة: يجب العشر أو نصفه إذا بلغ الخارج النصاب سواء زرعه في أرض له أو في أرض لغيره أرض خراج كانت أو أرض عشر، سقى بماء العشر أو بماء الخراج، وهذا قول جمهور الناس وبه قال مالك

(11/147)


والشافعي وأحمد وداود الظاهري، فيجتمع عندهم العشر والخراج في أرض واحدة. وقال أبوحنيفة: لا عشر فيما أصيب في أرض خراج فاشتراط الوجوب العشر أن تكون الأرض عشرية فلا يجتمع عنده العشر والخراج في أرض واحدة واستدل الجمهور بقوله تعالى: ?ومما أخرجنا لكم من الأرض?[البقرة: 267] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "فيما سقت السماء العشر" وغيره من عمومات الأخبار. قال ابن الجوزي في التحقيق بعد ذكر هذا الخبر هذا عام في الأرض الخراجية وغيرها، وقال ابن المبارك: يقول الله تعالى: ?ومما أخرجنا لكم من الأرض? ثم يقول نترك القرآن لقول أبي حنيفة. واستدل الشيخ تقي الدين في الإمام للجمهور بما روى يحيى بن آدم في الخراج (ص165) والبيهقي من طريقه (ج4 ص131) عن سفيان بن سعيد،عن عمرو بن ميمون بن مهران. قال: سألت عمر بن عبدالعزيز، عن مسلم يكون في يده أرض خراج فيسأل الزكاة فيقول إن علي الخراج قال فقال: الخراج على الأرض وفي الحب الزكاة، قال ثم سألته مرة أخرى فقال مثل ذلك، قال شيخنا في شرح الترمذي إسناده صحيح. قلت ما ورواه أبوعبيد الطبراني في الأموال (ص88) عن قبيصة عن سفيان قال الحافظ في الدراية (ص268) وصح عن عمر بن عبدالعزيز أنه قال لمن قال: إنما علي الخراج الخراج على الأرض والعشر على الحب، أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن آدم في الخراج له، وأخرج أيضا عن يحيى ثنا ابن المبارك عن يونس (وفي الخراج ليحى (ص166) عن معمر مكان عن يونس) قال: سألت الزهري عن زكاة الأرض التي عليها الجزية فقال: لم يزل المسلمون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده يعاملون على الأرض ويستكرونها ويؤدون الزكاة مما خرج منها فترى هذه الأرض على نحو ذلك- انتهى. وهذا فيه إرسال عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى يحيى بن آدم في الخراج (ص165) وأبوعبيد في الأموال (ص88) عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عبدالله بن أبي عوف

(11/148)


عامله على فلسطين فيمن كانت في يده أرض يحرثها من المسلمين أن يقبض منها جزيتها، ثم يأخذ منها زكاة ما بقي بعد الجزية قال ابن أبي عبلة: أنا ابتليت بذلك ومنى أخذوا الجزية يعنى الخراج الأرض. واستدل الحنفية بما رواه ابن عدي في الكامل والبيهقي من طريقه (ج4 ص132) عن يحيى بن عنبسة ثنا أبوحنفية عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم وبأن أحدا من أئمة العدل وولاة الجور لم يأخذ من أرض السواد عشر إلى يومنا هذا فالقول بوجوب العشر فيها يخالف الإجماع فيكون باطلاص. قال صاحب الهداية: لم يجمع أحد من أئمة العدل والجور بينهما يعني بين الخراج والعشر وكفى بإجماعهم حجة وأجيب عن الحديث بأنه باطل لا أصل له، قال البيهقي: هذا حديث باطل وصله ورفعه. ويحيى بن عنبسة متهم بالوضع، وقال ابن عدي: يحيى بن

(11/149)


عنبسة منكر الحديث، وإنما يروي هذا من قول إبراهيم، وقد رواه أبوحنيفة عن حماد عن إبراهيم قوله: فجاء يحيى بن عنبسة فأبطل فيه ووصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويحيى بن عنبسة مكشوف الأمر في ضعفه لروايته عن الثقات الموضوعات- انتهى. وقال ابن حبان: ليس هذا من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحيى بن عنبسة دجال يضع الحديث لا تحل الرواية عنه، وقال الدارقطني: يحيى هذا دجال يضع الحديث هو كذب على أبي حنيفة ومن بعده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، كذا في نصب الراية (ج3:ص442) وأجيب عن دعوى الإجماع بأنها باطلة جدا، قال الحافظ في الدراية: (ص268) رادا على صاحب الهداية ولا إجماع مع خلاف عمر بن عبدالعزيز والزهري، بل لم يثبت عن غيرهما التصريح بخلافهما - انتهى. وقال أبوعبيد في الأموال (ص90) لا نعلم أحدا من الصحابة، قال: لا يجتمع عليه العشر والخراج ولا نعلمه من التابعين إلا شيء يروي عن عكرمة، رواه عنه رجل من أهل خراسان يكنى أباالمنيب سمعه يقول ذلك- انتهى. واحتج لهم أيضا بما روى أن عتبة بن فرقد قال لعمر رضي الله عنه حين اشترى أرض خراج ضع عن أرضي الصدقة فقال: أدعنها ما كانت تؤدي أو أرددها إلى أهلها وإن رجلا قال لعمر رضي الله عنه: أسلمت فضع عن أرضى الخراج فقال: إن أرضك أخذت عنوة، وقول عمر: في المرأة التي أسلمت من أهل نهر الملك (كورة واسعة ببغداد بعد نهر عيسى) فقال إن أدت ما على أرضها وإلا فخلوا بين المسلمين وبين أرضهم، وقول علي رضي الله عنه فيمن أسلم من أهل السواد: إن أقمت بأرضك تؤدي ما كانت تؤدي وإلا قبضناها منك وإن الرفيل أسلم فأعطاه عمر أرضه بخراجها. خرج هذه الآثار يحيى بن آدم والبيهقي في المعرفة وغيرهما، قال يحيى: (ص168) وليس في شيء من هذه الأحاديث إلا الخراج وحده ثم أجاب عنها قال: وذلك عندنا؛ لأنهم طلبوا طرح الخراج حتى يصير عليها العشر وحده فلم

(11/150)


يفعل عمر رضي الله عنه لم يطرح الخراج ولم يذكر العشر بطرح ولا غيره؛ لأن العشر زكاة على كل مسلم، أي فهو واجب عليه في كل حال لا يحتاج إلى تصريحه وقال أبوعبيد: (ص87) ليس في ترك ذكر عمر وعلي رضي الله عنهما العشر دليل على سقوطه عنهم، لأن العشر حق واجب على المسلمين في أراضيهم لأهل الصدقة لا يحتاج إلى اشتراطها عليهم عند دخولهم في الأرضين، قال: وذلك أن حكم الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على كل مسلم في أرضه أن ذكر ذلك أو ترك. وإنما أرض الخراج كالأرض يكتريها الرجل المسلم من ربها الذي يملكها بيضاء فيزدرعها أفلست ترى أن عليه كراءها لربها وعليه عشر ما تخرج إذا بلغ ما يجب فيه الزكاة. ومما يفرق بين العشر والخراج ويوضح لك أنهما حقان إثنان أن موضع الخراج الذي يوضع فيه سوى موضع العشر إنما ذلك في أعطية المقاتلة والأرزاق الذربة وهذا صدقة يعطاها الأصناف الثمانية فليس واحد من الحقين قاضيا عن

(11/151)


الآخر - انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أنه لم يقم دليل صحيح أو سقيم على أن الخراج والعشر لا يجتمعان على مسلم، بل الآية المذكورة وحديث "فيما سقت السماء العشر" وما في معناه يدلان بعمومهما على الجمع بينهما، وأثر عمر بن عبدالعزيز الخليفة الراشد العدل، وأثر الزهري يدلان على أن العمل كان ذلك في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده، فالحق والصواب في ذلك هو ما ذهب إليه الجمهور. تنبيه: إختلف أصحاب الفتوى من الحنفية في أراضي المسلمين في بلاد الهند في زمن الانكليز وتخبطوا في ذلك فقال بعضهم: لا عشر فيها لأنها أراضي دار الحرب، وقال بعضهم إن أراضي الهند ليست بعشرية ولا خراجة بل أراضي الحوز أي أراضي بيت المال وأرض المملكة. (أرجع لتعريفها إلى رد المختار (ج3:ص353-354) وقال بعضهم: إن الرجل الذي لا يعلم إن أرضه انتقلت إليه من أيدي الكفار والأرض الآن في ملكه فعليه فيها العشر وجعل بعضهم أراضيها على عدة أنواع، وقال الأحوط أداء العشر من جميع هذه الأنواع. والحق عندنا وجوب العشر في أراضي الهند مطلقا أي على أي صفة كانت، فيجب والعشر أو نصفه على المسلم فيما يحصل له من الأرض، إذا بلغ النصاب سواء كانت الأرض ملكا له أو لغيره زرع فيها على سبيل الإجارة أو العارية أو المزارعة. لأن العشر في الحب والزرع والعيرة لمن يملكه، فيجب الزكاة فيه على مالكه المسلم وليس من مؤنة الأرض فلا يبحث عن صفتها والضريبة التي تأخذها المملكة من أصحاب المزارع في الهند ليست خراجها شرعيا ولا مما يسقط فرضة العشر كما لا يخفى وارجع إلى المغني (ج2:ص728) فائدة في حد أرض العشر من أرض الخراج. قال أبوعبيد في كتاب الأموال (ص512) لا تكون الأرض عشرية إلا من أربعة أنواع. أحدها كل أرض أسلم عليها أهلها فهم مالكون لرقابها كالمدينة والطائف واليمن. والنوع الثاني: كل أرض أخذت عنوة ثم أن الإمام لم ير أن يجعلها فيئا موقوفا ولكنه رأى أن يجعلها غنيمة

(11/152)


فخمسها وقسم أربعة أخماسها بين الذين إفتتحوها خاصة كفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرض خيبر، فهذه أيضا ملك إيمانهم ليس فيها غير العشر وكذلك الثغور كلها إذا قسمت بين الذين إفتتحوها خاصة. والنوع الثالث: كل أرض عادية لا رب لها ولا عامر أقطعها الإمام رجلا من جزيرة العرب أو غيرها. والنوع الرابع: كل أرض ميتة استخرجها رجل من المسلمين فأحياها بالماء والنبات فهذه الأرضون التي جاءت فيها السنة بالعشر أو نصف العشر وكلها موجودة في الأحاديث- انتهى مختصرا. وقال أبويوسف في كتاب الخراج: (ص82) كل أرض أسلم عليها أهلها وهي من أرض العرب أو أرض العجم فهي لهم. و هي أرض عشر بمنزلة المدينة حين أسلم عليها أهلها وبمنزلة اليمن، وكذلك كل من لا تقبل منه الجزية ولا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل فأرضهم أرض عشر وإن ظهر عليها الإمام، قال: وأيما دار من دور الأعاجم قد ظهر عليها الإمام وتركها في أيدي أهلها فهي أرض خراج، وإن قسمها

(11/153)


بين الذين غنموها فيه أرض عشر. ألا ترى أن عمر رضي الله عنه ظهر على أرض الأعاجم وتركها في أيديهم فهي أرض خراج وكل أرض من أراضي الأعاجم صالح عليها أهلها وصاروا ذمة فهي أرض خراج- انتهى. باختصار يسير. وقال ابن قدامة: (ج2:ص716) الأرض قسمان. صلح، وعنوة فأما الصلح: فكل أرض صالح أهلها عليها لتكون لهم ويؤدون خراجها معلوما وهذا الخراج في حكم الجزية وأما الثاني: وهو ما فتح عنوة فهي ما أجلى عنها بالسيف ولم يقسم بين الغانمين فهذه تصير وقفاص للمسلمين يضرب عليا خراج معلوم يؤخذ منها في كل عام وتقر في أيدي أربابها ماداموا يؤدون خراجها وسواء كانوا مسلمين أو من أهل الذمة ولا يسقط خراجها بإسلام أربابها ولا بانتقالها إلى مسلم- انتهى مختصرا. الخامسة: يجب الزكاة عند أحمد فيما جمع هذه الأوصاف الكيل والبقاء واليبس من الحبوب والثمار مما ينبته الآدميون سواء كان قوتا كالحنطة والشعير والسلت والارزة والذرة والدخن. أو من القطنيات كالفول والعدس والماش والحمص، أو من الأبازير أي التوابل كالكمون والكراويا أو البزور كبزر القثاء والخيار، أو حب البقول كحب الفجل والسمسم وسائر الحبوب، وتجب أيضا فيما جمع هذه الأوصاف من الثمار كالتمر والزبيب واللوز والفستق والبندق إذا بلغ خمسة أوسق. ولا زكاة في سائر الفواكه كالخوخ والإجاص والكمثري والتفاح والتين ولا في الخضر كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر. ونحوه قول أبي يوسف ومحمد فإنهما قالا: لا شيء فيما تخرجه الأرض إلا ما كانت له ثمرة باقية يبلغ مكيلها خمسة أوسق، واختلفت أقوالهم في ما لا يكال كالزعفران والقطن واستدل ابن قدامة لما ذهب إليه أحمد ومن وافقه بأن عموم قوله "فيما سقت السماء العشر". وقوله لمعاذ "خذ الحب من الحب" يقتضي وجوب الزكاة في جميع ما تناوله خرج منه مالا يكال وما ليس بحب بمفهوم قوله. ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق. رواه مسلم والنسائي، فدل

(11/154)


هذا الحديث على انتفاء الزكاة مما لا توسيق فيه وهو مكيال ففيما هو مكيل يبقى على العموم والدليل على انتفاء الزكاة مما سوى ذلك ما ذكر من اعتبار التوسيق وروى عن علي وعائشة وطلحة وأنس مرفوعا: ليس في الخضروات صدقة، رواهن الدارقطني. وذهب مالك والشافعي إلى أنه لا زكاة في ثمر إلا التمر والزبيب ولا في حب إلا ما كان قوتا في حال الاختيار لذلك إلا في الزيتون على اختلاف. وقال أبوحنيفة: تجب الزكاة في كل ما يقصد بزراعته نماء الأرض إلا الحطب والقصب الفارسي والحشيش، وهو قول عمر بن عبدالعزيز وأبي بردة بن أبي موسى وحماد وإبراهيم وإليه ذهب داود الظاهري إلا أنه قال: إن كل ما يدخل فيه الكيل يراعى فيه النصاب وما لا يدخل فيه الكيل ففي قليلة وكثيرة الزكاة، قال الحافظ: وهذا نوع من الجمع بين الحديثين.واستدل لقول أبي حنيفة بقوله تعالى: ?ومما أخرجنا لكم من الأرض?[البقرة: 267] وبقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" وهذان عامان؛ ولأن هذا يقصد بزراعته نماء الأرض فأشبه الحب

(11/155)


وخص الجمهور هذا العموم بحديث الخضروات. وحكى عن أحمد لا زكاة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب وهو قول موسى بن طلحة والحسن البصري وابن سيرين والشعبي والحسن بن صالح وابن أبي ليلى وابن المبارك وأبي عبيد، ورجح هذا المذهب الأمير اليماني والشوكاني والعلامة الأمير القنوجي البوفالي واستدل لهذا القول بأن ما عدا هذه الأربعة لا نص فيها ولا إجماع ولا هو في معناها في غلبة الإقتيات بها وكثرة نفعها ووجودها فلم يصح قياسه عليها ولا إلحاقه بها فيبقى على النفي الأصلي، وأما عموم الآية والحديث فهو مخصوص بأحاديث الخضروات وبالأحاديث الواردة بصيغة الحصر في الأقوات الأربعة قالوا: وهي مروية بطرق متعددة يقوى بعضها بعضا فتنتهض لتخصيص هذه العمومات. فمنها ما روى الدارقطني (ص201) والحاكم (ج1:ص401) والبيهقي (ج4:ص125) والطبراني من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن فأمرهما أن يعلما الناس أمر دينهم، وقال لا تأخذوا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر، قال الحاكم: إسناده صحيح ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح،ونقل الحافظ في التلخيص (ص178) عن البيقهي، أنه قال رواته ثقات وهو متصل. وقال في الدراية (ص164) في الإسناد طلحة بن يحيى مختلف فيه وهو أمثل مما في الباب- انتهى. قلت: وفيه أيضا اختلف في رفعه ووقفه وانظر الخراج ليحيى بن آدم (ص153) رقم (537-538) والسنن الكبرى للبيهقي (ج4:ص125) ونصب الراية للزيلعي (ج2:ص389) والمحلي (ج5:ص221) ومنها ما روى ابن شيبة وأبوعبيد في الأموال (ص468) ويحيى بن آدم في الخراج (ص148) عن موسى بن طلحة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ الصدقة من الحنطة والشعير والنخل والعنب وهذا منقطع؛ لأن موسى بن طلحة لم يدرك معاذا بعقله قاله ابن حزم

(11/156)


(ج5:ص222) وقال الحافظ في التلخيص (ص179): فيه انقطاع، وقال أبوزرعة موسى بن طلحة عبيدالله عن عمر مرسلة ومعاذ، توفي في خلافة عمر فرواية موسى بن طلحة عنه أولى بالإرسال، وقال تقي الدين في الإمام وفي الاتصال بين موسى بن طلحة ومعاذ نظر، فقد ذكروا أن وفاة موسى سنة ثلاث ومائة، وقيل: سنة أربع ومائة. ذكره الزيلعي (ج2:ص387). وقال ابن عبدالبر: لم يلق موسى معاذا ولا أدركه- انتهى. والمشهور في ذلك ما روى عن عمرو بن عثمان عن موسى بن طلحة قال: عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والزبيب والتمر أخرجه أحمد (ج5:ص228) والدارقطني (ص201) والبيهقي (ج4:ص129) وابن حزم في المحلي (ج5:ص222) وأبويوسف في الخراج (ص64) ومنها ما روى الدارقطني (ص201) والحاكم

(11/157)


(ج1:ص401) والبيهقي (ج4:ص129) والطبراني من طريق إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر وفيما سقى بالنضح نصف العشر وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب فأما، القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. قلت في تصحيحهما لهذا الحديث نظر، فإنه حديث ضعيف، إسحاق بن يحيى بن طلحة ضعيف، متروك. وموسى بن طلحة عن معاذ منقطع، كما تقدم. ومنها ما روى الدارقطني (ص201) وأبويوسف في الخراج (ص65) من طريق محمد بن عبيدالله العزرمي عن الحكم عن موسى بن طلحة عن عمر بن الخطاب. قال: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة الحنطة، والشعير، والزبيب، والتمر، وفيه أن العزرمي متروك، وموسى بن طلحة عن عمر منقطع كما تقدم. ومنها ما روى ابن ماجه والدارقطني (ص200) من طريق العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الخمسة الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب،والذرة، ورواه يحيى بن آدم في الخراج (ص150) من طريق يحيى بن أبي أنيسة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ: أربع ليس فيما سواها شيء الحنطة، والشعير، والتمر والزبيب، وهذا أيضا ضعيف، العزرمي متروك ويحيى بن أبي أنيسة ضعيف جدا. ومنها ما روى الدارقطني (ص203) من حديث جابر. قال: لم تكن المقاثي فيما جاء به معاذ إنما أخذ الصدقة من البر، والشعير، والتمر، والزبيب، وليس في المقاثي شيء وفي سنده عدي بن الفضل وهو متروك الحديث. ومنها ما روى يحيى بن آدم في الخراج (ص150) عن أبي حماد الحنفي عن إبان عن أنس. قال: لم يفرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصدقة إلا من الحنطة، والشعير، والتمر والأعناب،وهذا أيضا ضعيف، لضعف أبي حماد مفضل

(11/158)


بن صدقة الحنفي الكوفي، قال: ابن معين ليس بشيء، وقال النسائي متروك، وقال أبوحاتم ليس بقوى يكتب حديثه. ومنها ما روى يحيى بن آدم في الخراج (ص149-150) والبيهقي من طريقه (ج4:ص129) عن عتاب بن بشير عن خصيف عن مجاهد قال: لم تكن الصدقة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في خمسة أشياء الحنطة، والشعير، والتمر والزبيب،و الذرة وهذا مرسل، وفيه خصيف وهو صدوق سيئ الحفظ خلط بآخره أنكروا عليه أحاديث رواها عنه عتاب بن بشير.ومنها ما روى أيضا يحيى بن آدم (ص149) والبيهقي من طريقه (ج4:ص129) عن ابن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصري.قال: لم يفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة إلا في عشر أشياء الإبل، والبقر والغنم. والذهب، والفضة، والحنطة، والشعير،والتمر، والزبيب، قال ابن عيينة أراه قال والذرة، وذكر في رواية للبيهقي السلت
وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقه،

(11/159)


مكان الذرة وهذا أيضا مرسل، وقال العراقي: مراسيل الحسن شبه الريح، وقال أحمد: ليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن، وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن عبيد متكلم فيه كان يكذب على الحسن في الحديث. ومنها ما روى أيضا يحيى بن آدم (ص149) والبيهقي من طريقه (ج4 ص129) عن أبي بكر بن عياش عن الأجلح عن الشعبي. قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن: إنما الصدقة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، وهذا أيضا مرسل، وأبوبكر بن عياش ثقة إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابة صحيح. وأجاب الحنفية عن هذه الأحاديث بأنها ضعيفة لا يخلو واحد منها عن الكلام على أنها أخبار آحاد، ولا يجوز تخصيص عموم القرآن، والخبر المشهور بالأخبار الآحادية لو كانت صحيحة فكيف بالضعاف. وأجاب عنها الشافعية ومن وافقهم في عدم حصر العشر في الأشياء الأربعة بأن الحصر فيها ليس حصرا حقيقا بل إضافي أي بالنسبة إلى الخضروات يدل على هذا قوله، في الحديث الثالث إنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية القصب والخضر فعفو عفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترجم البيهقي في السنن الكبرى (ج4 ص128) لهذه الأحاديث، باب الصدقة فيما يزرعه الآدميون وييبس ويدخر ويقتات دون ما تنتبه الأرض من الخضر- انتهى. وفي المسألة أقوال آخر، ذكرها العيني في شرح البخاري وأبوعبيد في الأموال، وأرجح هذه الأقوال، وأقواها عندي قول داود الظاهري، ثم قول من ذهب إلى الحصر العشر في الأربعة الحنطة، والشعير، من الحبوب، والتمر، والزبيب، من الثمار والله تعالى أعلم. (وليس فيما دون خمس أواق) قال الحافظ: بالتنوين وبإثبات التحتانية مشددا ومخففا جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد التحتانية وحكى الجياني وقيه بحذف الألف وفتح الواو ومقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهما بالإتفاق،

(11/160)


والمراد بالدراهم الخالص من الفضة سواء كان مضروبا أو غير مضروب (من الورق) بفتح الواو وكسر الراء وسكونها والمراد به ههنا الفضة مطلقا أي مضروبة كانت أو غيرها، واختلف أهل اللغة في أصله، فقيل يطلق في الأصل على جميع الفضة، وقيل: هو حقيقة للمضروب دراهم، ولا يطلق على غير الدراهم إلا مجازا، هذا قول كثيرين من أهل اللغة، وبالأول قال ابن قتيبة وغيره قاله النووي (صدقة) قال الحافظ: لم يخالف في أن نصاب الزكاة مائتا درهم يبلغ مائة وأربعين مثقالا من الفضة الخالصة إلا ابن حبيب الأندلسي فإنه انفرد إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهم، وذكر ابن عبدالبر اختلافا في الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلاد، وكذا خرق المريسي الإجماع فاعتبر النصاب بالعدد لا الوزن، وانفرد السرخسي من الشافعية بحكاية وجه في المذهب أن الدراهم المغشوشة إذا بلغت قدر الوضم إليه قيمة الغش من نحاس مثلا لبلغ نصابا فإن الزكاة تجب

(11/161)


فيه كما نقل عن أبي حنيفة - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص1): نصاب الفضة مائتا درهم لا نعلم في ذلك خلافا بين علماء الإسلام وقد بينته السنة يعني بها هذا الحديث وحديث أنس الآتي، ففيه وفي الرقة ربه العشر فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها قال ابن قدامة، والدراهم التي يعتبر بها النصاب هي الدراهم التي كل عشر منها وزن سبعة مثاقيل بمثقال الذهب وكل درهم نصف مثقال وخمسة وهي الدراهم الإسلامية التي تقدر بها نصف الزكاة ومقدار الجزية والديات ونصاب القطع في السرقة وغير ذلك، وكانت الدراهم في صدر الإسلام صنفين سودا وطبرية، وكانت السود ثمانية دوانيق والطبرية أربعة دوانيق فجمعا في الإسلام وجعلا درهمين متساويين في كل درهم ستة دوانيق فعل ذلك بنوا أمية- انتهى. قلت: روى ابن سعد في الطبقات (ج5 ص170) عن الواقدي، عن عبدالرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه. قال: ضرب عبدالملك بن مروان الدنانير والدراهم سنة خمس وسبعين وهو أول من أحدث ضربها ونقش عليها، وقال الواقدي: عن خالد بن ربيعة ابن أبي هلال عن أبيه قال: كانت مثاقيلا الجاهلية التي ضرب عليها عبدالملك بن مروان اثنتين وعشرين قيراطا إلا حبة بالشامي وكانت العشرة (دراهم) وزن سبعة (مثاقيل) وقال أبوعبيد في الأموال (ص524) كانت الدراهم قبل الإسلام كبارا وصغارا، فلما جاء الإسلام وأرادو ضرب الدراهم وكانوا يزكونها من النوعين فنظروا إلى الدراهم الكبير فإذا هو ثمانية دوانيق وإلى الدرهم الصغير فإذا هو أربعة دوانيق فوضعوا زيادة الكبير على نقصان الصغير فجعلوها درهمين سواء كل واحد ستة دوانيق، ثم اعتبروها بالمثاقيل ولم يزل المثقال في آباد الدهر محدود إلا يزيد ولا ينقص فوجدوا عشرة من هذه الدراهم التي واحدها ستة دوانيق يكون وزن سبعة مثاقيل سواء فاجتمعت فيه وجوه الثلاثة، أن العشرة منها وزن سبعة مثاقيل وأنه عدل بين الصغار والكبار وأنه موافق لسنة رسول

(11/162)


الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة فمضت سنة الدراهم على هذا واجتمعت عليه الأمة، فلم يختلف أن الدرهم التام ستة دوانيق فما زاد أو نقص قيل: "فيه" زائد أو ناقص، والناس في زكاتهم بحمد الله تعالى على الأصل الذي هو السنة لم يزيغوا عنه وكذلك في المبعايعات والديات على أهل الورق انتهى كلامه ملخصا محررا. قال العيني (ج8 ص258): وفي كتاب المكائيل عن الواقدي عن معبد بن مسلم عن عبدالرحمن ابن سابطة. قال: كان لقريش أوزان في الجاهلية فلما جاء الإسلام أقرت على ما كانت عليه الأوقية أربعون درهما والرطل اثنا عشر أوقية فذلك أربع مائة وثمانون درهما وكان لهم النش وهو عشرون درهما والنواة وهي خمسة دراهم وكان المثقال اثنين وعشرين قيراطا إلا حبة وكانت العشرة دراهم وزنها سبعة مثاقيل والدرهم خمسة عشر قيراطا (إلى ما آخر قال) وأما مقدار نصاب الفضة بحسب أوزان بلادنا الهندية، فهو اثنان

(11/163)


وخمسون تولجة ونصف تولجة. قال القاضي ثناء الله الفاني فتى صاحب التفسير المظهري وتلميذ الشاة ولي الله الدهلوي: في رسالته الفارسية "ما لا بد منه" نصاب زر بيست مثقال ست كه هفت ونيم تولة باشد، ونصاب سيم دوصد درم ست. كه بنجاه وشش روبيه سكه دهلي وزن آن مى شود- انتهى. قال في حاشيتها: جون دوصد نزم محققين مساوى بنجاه ودونيم تولة است، جناجنة صاحب فتاوى جواهر اخلاطي مى أرد. فيكون مائتا درهم اثنين وخمسين تولجة ونصف تولجة من الفضة - انتهى. بس هر روبيه كه بوزن يازدة ماشه وباؤ ماشه بالا باشد بنجاه وشش روبيه خواهد بود، جناجة مصنف رحمة الله عليه فرموده است. وهمين روبيه در عهد مصنف رحمة الله علية رواج ميداشت وهر روبيه كه بوزن يازدة ماشا باشد از سيم مذكور بنجاه وجهار روبيه وسه ماشه خواهد بود - انتهى. وقال شيخ مشائخنا العلامة الشيخ عبدالله الغازيفوري في رسالته ما معربه نصاب الفضة مائتا درهم أي خمسون واثنتان تولجة ونصف تولجة، وهي تساوي ستين روبية من الروبية الإنكليزية (النافقة في الهند في زمن الإنكليز) التي تكون بقدر عشر ماهجة ونصف ماهجة. وقال الشيخ بحر العلوم اللكنوى الحنفي: في رسائل الأركان الأربعة (ص178) وزن مائتي درهم وزن خمس وخمسين روبية، وكل روبية أحد عشر ما شج واستدل بهذا الحديث على عدم الوجوب فيما إذا نقص من النصاب ولو حبة واحدة. قال ابن قدامة: نصاب الفضة مائتا درهم ولا فرق في ذلك بين التبر والمضروب، ومتى نقص النصاب عن ذلك فلا زكاة فيه، سواء كان كثيرا أو يسيرا هذا ظاهر كلام الخرقي. ومذهب الشافعي وإسحاق وابن المنذر لظاهر قوله عليه السلام: ليس فيما دون خمس أواق صدقة، والأوقية أربعون درهما بغير خلاف فيكون ذلك مائتي درهم. وقال غير الخرقي من أصحابنا: إن كان النقص يسيرا كالحبة والحبتين وجبت الزكاة، لأنه لا يضبط غالبا فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين، وإن كان نقصا بينا كالدانق والدانقين

(11/164)


فلا زكاة فيه. وقال مالك: إذا نقصت نقصا يسيرا يجوز جواز الوازنة وجبت الزكاة، لأنها تجوز الوازنة فأشبهت الوازنة. والأول ظاهر الخبر فينبغي أن لا يعدل عنه- انتهى. قلت: وإليه ذهبت الحنفية والشافعية وهو الحق عندنا. واختلفوا في الفضة هل فيها وقص أم لا، وسيأتي الكلام عليه في الفصل الثاني في شرح حديث على هذا، واقتصر في حديث أبي سعيد وحديث أنس الآتي على ذكر نصاب الفضة؛ لأنها الأغلب. وأما الذهب فقال النووي في شرح مسلم: لم يأت في الصحيح بيان نصاب الذهب، وقد جاءت فيه أحاديث تحديد نصاب بعشرين مثقالا، وهي ضعاف ولكن أجمع من يعتد به الإجماع على ذلك. وقال ابن عبدالبر: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نصاب الذهب شيء إلا ما روى عن الحسن بن عمارة عن علي وابن عمارة أجمعوا على ترك حديثه لسوء حفظه وكثرة خطأه. ورواه الحفاظ موقوفا على على لكن عليه الجمهور الأئمة الأربعة

(11/165)


وغيرهم. وقال المهلب: لم ينقل عن الشارع زكاة الذهب من طريق الخبر كما تنقل عنه زكاة الفضة. وقال عياض نصاب الفضة خمس أوراق وهي مائتا درهم بنص الحديث، وأما الذهب فعشرون مثقالا والمعول فيه على الإجماع. قال: وقد حكى فيه خلاف شاذ وروى فيه أيضا حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الشافعي: في كتاب الرسالة (ص52) في باب الزكاة وفرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الورق صدقة، وأخذ المسلمون في الذهب صدقة بعده، إما بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغنا، وإما قياسا على أن الذهب والورق فقد الناس الذي اكتنزوه وأجازوه إثمانا على ما يتابعون به في البلدان قبل الإسلام وبعده. وقال في الأم (ج2 ص34): لا أعلم اختلافا في أن ليس في الذهب صدقة، حتى تبلغ عشرين مثقالا فإذا بلغت عشرين مثقالا ففيها الزكاة. وقال مالك: في الموطأ السنة التي لا اختلاف فيها عندنا إن الزكاة تجب في عشرين دينارا عينا كما تجب في مائتي درهم. قال الباجي: وهذا كما قال إن نصاب الذهب عشرون دينارا من الدنانير الشرعية، وهو كل عشرة دراهم سبعة دنانير ولا خلاف في ذلك بين فقهاء الأمصار، إلا ما روى عن الحسن البصري أنه قال: لا زكاة في الذهب حتى يبلغ أربعين دينارا فيكون فيه دينار. والدليل على صحة ما ذهب إليه الجمهور أن الإجماع أنعقد بعد الحسن على خلافه، وهذا من أقوى الأدلة على أن الحق في خلافه، ودليلنا من جهة السنة ما روى عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: وليس عليك شيء يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، وهذا الحديث ليس اسناده هناك غير إن اتفاق العلماء على الأخذ به دليل على صحة حكمه، ودليلنا من جهة المعنى أن المأتى الدرهم نصاب الورق ولا خلاف في ذلك. والدينار كان صرفه في وقت فرض الزكاة عشرة دراهم فوزن المأتى درهم عشرون مثقالا، فكان

(11/166)


ذلك نصاب الذهب - انتهى. وقال أبوعبيد في الأموال (ص409): بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في نصاب الذهب عشرين مثقالا. ما لفظه فهذا، لا اختلاف فيه بين المسلمين، إذا كان الرجل قد ملك في أول السنة من المال ما تجب في مثله الصدقة وذلك مائتا درهم أو عشرون دينارا أو خمس من الإبل أو ثلاثون من البقر أو أربعون من الغنم، فإذا ملك واحدة من هذه الأصناف من أول الحول إلى آخره فالصدقة واجبة عليه في قول الناس جميعا - انتهى. وقال في شرح الأحياء نصاب الذهب عشرون دينارا خالصة بالإجماع، ووقع في المنهاج مثقالا بدل دينارا ومآلهما واحد. لأن كل دينار زنة مثقال - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص4): قال ابن منذر أجمع العلم على أن الذهب إذا كان عشرين مثقالا قيمتها مائتا درهم، إن الزكاة تجب فيها، إلا ما حكى عن الحسن أنه لا زكاة

(11/167)


فيها حتى تبلغ أربعين وأجمعوا على أنه إذا كان أقل من عشرين مثقالا ولا يبلغ مائتي درهم فلا زكاة فيه. وقال عامة الفقهاء: نصاب الذهب عشرون مثقالا من غير اعتبار قيمتها. إلا ما حكى عن عطاء طاووس والزهري وسليمان بن حرب الواشحي وأيوب السختياني أنهم قالوا: هو معتبر بالفضة فما كانت قيمته مائتى درهم ففيه الزكاة (كان وزن ذلك من الذهب عشرين دينارا أو أقل أو أكثر، هذا فيما كان منها دون الأربعين دينارا، فإذا بلغت أربعين دينارا كان الاعتبار بها نفسها لا بالدراهم لا صرفا ور قيمة) واستدل للحسن بما روى ابن حبان والحاكم (ج1 ص395) والبيهقي (ج4 ص89) وابن حزم في المحلى (ج6 ص93) والطبراني من حديث يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عمرو بن حزم مطولا. وفيه بعد ذكر نصاب الفضة وفي كل أربعين دينارا دينار، قال الحاكم: صحيح ووافقه الذهبي وقال أحمد كتاب عمرو بن حزم في الصدقات صحيح، وقال بعضهم في نسخة كتاب عمرو بن حزم تلقاها الأمة بالقبول. وهي متوارثة كنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهي دائرة على سليمان بن أرقم وسليمان بن داود الخولاني عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده وكلاهما ضعيف، بلى المرجح في روايتهما سليمان بن أرقم وهو متروك، لكن الشافعي في الرسالة (ص113): لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال أحمد: أرجو أن يكون هذا الحديث صحيحا، وقال يعقوب بن سفيان الفسوي لا أعلم في جميع الكتب المنقولة أصح منه، كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم، وقال البيهقي (ج4 ص90): حديث سليمان بن داود مجود الإسناد قد اثنى على سليمان بن داود الخولاني. هذا أبوزرعة الرازي وأبوحاتم الرازي وعثمان بن سعيد الدارمي وجماعة من الحفاظ ورأوه هذا الحديث الذي رواه في الصدقة موصول

(11/168)


الإسناد حسنا - انتهى. واستدل للحسن أيضا بما روى الدارقطني (ص200) من حديث محمد بن عبدالله بن جحش عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن، أن يأخذ من كل أربعين دينارا دينارا - الحديث. وفيه عبدالله بن شيب قال ابن حبان في الضعفاء يقلب الأخبار ويسرقها ولا يجوز الاحتجاج به بحال - انتهى. وأجاب من وافق الحسن عن أحاديث العشرين مثقالا بأنها لم تصح، فيكون الاعتماد في نصاب الذهب على الإجماع المتيقن المقطوع به وهو اتفاقهم على وجوبها في الأربعين واستدل للذين جعلوا الزكاة فيما دون الأربعين تبعا للدراهم بأنه لما كانا من جنس واحد جعل الفضة هي الأصل، إذ كان النص قد ثبت فيها وجعل الذهب تابعا لها في القيمة لا في الوزن وذلك فيما دون موضع الإجماع. قلت: واحتج بضعهم لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس الآتي، وفي الرقة ربع العشر الخ بناء على ما قيل إن الرقة يطلق على الذهب

(11/169)


والفضة بخلاف الورق، فعلى هذا فقيل إن الأصل في زكاة النقدين نصاب الفضة فإذا بلغ الذهب ما قيمته مائتا درهم وجبت فيه الزكاة وهو ربع العشر كذا في الفتح وقد ورد في ذلك حديث صريح، رواه ابن حزم في المحلى (ج6 ص13) من طريق أبي أويس عن عبدالله ومحمد ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيهما عن جدهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم حين أمره على اليمن، وفيه بعد ذكر نصاب الفضة فإذا بلغت الذهب قيمة مائتى درهم ففي قيمة كل أربعين درهما درهم حتى تبلغ أربعين دينارا فإذا بلغت أربعين دينارا ففيها دينار - انتهى. ورواه الحاكم (ج1 ص395) مختصرا بلفظ: "فإذا بلغ قيمة الذهب مائتى درهم ففي كل أربعين درهما درهم:" وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي وفي تصحيحيهما له نظر، فإن أباأويس هذا هو عبدالله بن أويس ابن عم مالك بن أنس وزوج أخته وهو صالح صدوق بهم. قال ابن عبدالبر: لم يحك أحد عنه جرحة في دينه وأمانته، وإنما عابوه بسوء حفظه وأنه يخالف في بعض حديثه - انتهى. وأخرج له مسلم فسي الشواهد والمتابعات دون الأصول، ولم يحتج به، وقد تفرد أبوأويس بهذا اللفظ، ورواه الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وليس فيه ما ذكره أبوأويس كما تقدم. ومع ذلك فحديثه هذا مرسل لأنه عن محمد بن عمرو بن حزم جد عبدالله ومحمد ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم فلا يصح الاحتجاج برواية أبي أويس هذه ولا الاستشهاد والاعتبار. واستدل للجمهور بأحاديث منها حديث علي رواه أبوداود من طريق ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم وسمي آخر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء، يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون دينارا، فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك قال فلا

(11/170)


أدري أعلي يقول فبحساب ذلك أو رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال وراه شعبة وسفيان وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي ولم يرفعوه - انتهى. قال الزيلعي (ج2 ص328): وفيه عاصم والحارث فعاصم وثقة المديني وابن معين والنسائي، وتكلم فيه ابن حبان وابن عدي فالحديث حسن. قال النووي في الخلاصة: وهو حديث صحيح أو حسن- انتهى. ولا يقدح فيه ضعف الحارث لمتابعة عاصم له- انتهى كلام الزيلعي. وضعفه ابن حزم أولا (ج6 ص70) ثم رجع عن ذلك حيث قال (ج6 ص74) ثم استدركنا فرأينا إن حديث جرير بن حازم مسند صحيح لا يجوز خلافه، وإن الاعتلاال فيه بأن عاصم بن ضمرة أو أن أباإسحاق أو جريرا أخلط إسناد الحارث بإرسال عاصم. هو الظن الباطل الذي لا يجوز وما علينا من مشاركة الحارث لعاصم، ولا لإرسال من أرسله ولا لشك زهير فيه شيء، وجرير ثقة فالأخذ بما أسنده لازم - انتهى. وقال الحافظ في بلوغ المرام: وهو حسن وقد اختلف في رفعه وقال في التلخيص (ص182) حديث علي هذا
وليس فيما دون خمس ذود

(11/171)


معلول، فإنه قال أبوداود حدثنا سليمان بن داود المهري ثنا ابن وهب ثنا جرير بن حازم وسمي آخر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة، والحارث عن علي ونبه ابن المواق على علة خفية فيه وهي إن جرير بن حازم لم يسمعه من أبي إسحاق. فقد رواه حفاظ أصحاب ابن وهب سحنون وحرملة ويونس وبحر بن نصر، وغيرهم عن ابن وهب عن جرير بن حازم والحارث بن نبهان عن الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق، فذكره قال ابن المواق: الحمل فيه على سليمان شيخ أبي داود فإنه وهم في إسقاط رجل - انتهى. فلعل من حسن هذا الحديث إنما حسنه لشواهده والله تعالى أعلم ومنها حديث ابن عمر وعائشة أخرجه ابن ماجه والدارقطني من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن عبدالله بن واقد عن ابن عمر وعائشة، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار - انتهى. وابن مجمع قال فيه ابن معين لا شئ وقال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به فإنه كثير الوهم ومنها حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أخرجه الدارقطني (ص199) من طريق ابن أبي ليلى عن عبدالكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب ولا في أقل من مائتي درهم صدقة، وذكره أبوعبيد في الأموال (ص409-445) وابن حزم في المحلى (ج6:ص69) معلقا. قال الحافظ في التلخيص (ص182): إسناده ضعيف. ورواه أبوأحمد بن زنجوية في الأموال كما في نصب الراية (ج2:ص369) من طريق العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفط:"ليس فيما دون مائتي درهم شئ ولا فيما دون عشرين مثقالا من الذهب شئ وفي المائتين خمسة دراهم وفي عشرين مثقالا ذهبا نصف مثقال" قال الحافظ في الدراية (ص161): بإسناد ضعيف أي لأن العزرمي متروك ومنها حديث محمد بن عبدالرحمن الأنصاري أخرجه أبوعبيد (ص408) عن يزيد بن هارون عن حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن محمد ابن عبدالرحمن الأنصاري، إن في

(11/172)


كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي كتاب عمر في الصدقة. إن الذهب لا يؤخذ منه شئ حتى يبلغ عشرين دينارا فإذا بلغ عشرين دينارا ففيه نصف دينار- الحديث. وذكره ابن حزم في المحلي (ج6:ص69) وقال هو حديث مرسل ومنها حديث ابن مسعود رواه الدارقطني (ص206) من طريق يحيى بن أبي أنيسة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله بن مسعود قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن لإمرأتي حليا من عشرين مثقالا، قال فأد زكاته نصف مثقال. قال الدارقطني: يحيى بن أبي أنيسة متروك وهذا وهم، والصواب مرسل موقوف- انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا إن أحاديث تحديد نصاب الذهب ضعيفة إلا حديث علي، واختلف فيه أيضا فحسنه النووي والحافظ في البلوغ والزيلعي، وصححه ابن حزم وأعله الحافظ في التلخيص. وقد تقدم إن المعول في ذلك إجماع المسلمين على تحديده بعشرين مثقالا فهو المعتمد ومقداره من أوزان بلادنا سبع تولجات ونصف تولجة كما تقدم والله تعالى أعلم (وليس فيما دون خمس ذود) بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها دال
من الإبل صدقة)). متفق عليه.
1810- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس على المسلم صدقة في عبده

(11/173)


مهملة والرواية المشهورة بإضافة خمس إلى ذود وروى بتنوين خمس على أن ذود بدل منه، وقوله: "من الإبل صفة مؤكدة لذود لأنه إسم الإبل خاصة، والأكثر على أن الذود من الثلاثة إلى العشرة وإنه لا واحد له من لفظه. وإنما يقال في الواحد بعير. وقيل: بل ناقة، فإن الذود في الإناث دون الذكور، لكن حملوه في الحديث على ما يعم الذكر والأنثى فمن ملك خمسا من الإبل ذكورا يجب عليه فيها الصدقة. وقيل الذود ما بين الثنتين إلى التسع. وقيل: من الثلاثة إلى العشرة.و قيل: إلى خمس عشرة. وقيل: إلى عشرين. وقيل: إلى الثلثين، قال القسطلاني: القياس في تمييز ثلاثة إلى عشر أن يكون جمع تكسير جمع قلة فمجيئة اسم جمع كما في هذا الحديث قليل، والذود يقع على المذكر والمؤنث والجمع والمفرد فلذا أضاف خمس إليه - انتهى. قال القرطبي: أصله زاد يذود إذا دفع شيئا فهو مصدر، وكان من كان عنده دفع عن نفسه معرة الفقر وشدة الفاقة والحاجة (من الإبل) بيان للذود (صدقة) أي إذا كان الإبل أقل من خمس فلا صدقة فيها، قال ابن قدامة: وجوب زكاة الإبل مما أجمع عليه علماء الإسلام وصحت فيه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وأجمع المسلمون على أن ما دون خمس من الإبل لا زكاة فيه لحديث أبي سعيد هذا، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس الآتي، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها (متفق عليه) وأخرجه أحمد ومالك والشافعي والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

(11/174)


1810- قوله: (ليس على المسلم) قال القسطلاني: خص المسلم وإن كان الصحيح عند الأصوليين والفقهاء تكليف الكافر بالفروع، لأنه مادام كافرا فلا يجب عليه الإخراج حتى يسلم، فإذا أسلم سقطت، لأن الإسلام يجب ما قبله. وقال ابن حجر: يؤخذ منه إن شرط وجوب زكاة المال بأنواعها الإسلام، ويوافقه قول الصديق في كتابه الآتي على المسلمين، قال القاري: هذا حجة على من يقول إن الكفار مخاطبون بالشرائع في الدنيا بخلاف من يقول إن الكافر مخاطب بفروع الشريعة بالنسبة للعقاب عليها في الآخرة كما أفهمه قوله تعالى: ?وويل المشركين الذين لا يؤتون الزكاة?[فصلت:7] وقالوا ?ولم نك نطعم المسكين?[مدثر:44] وعليه جمع من أصحابنا وهو الأصح عند الشافعية - انتهى. وقد سبق الكلام على هذا من أوائل الزكاة (صدقة) أي زكاة (في عبده) أي رقيقه ذكرا كان أو أنثى ونفي الصدقة في العبد مطلقا، لكنه مقيد بما ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ليس في العبد
ولا في فرسه

(11/175)


صدقة إلا صدقة الفطر، ولأبي داود ليس في الخيل والرقيق زكاة الفطر. (ولا في فرسه) الشامل للذكر ولأنثى وجمعه الخيل من غير لفظه وهذا إذا لم يكونا للتجارة فإنه إذا اشتراهما للتجارة تجب الزكاة في قيمتهما كسائر أموال التجارة. واستدل بهذا الحديث من قال من أهل الظاهر بعدم وجوب الزكاة فيهما مطلقا ولو كانا للتجارة، وأجيبوا بأن زكاة التجارة ثابتة بالإجماع، كما نقله ابن المنذر وغيره فيخص به عموم هذا الحديث. وتعقب هذا بأنه كف الإجماع مع خلاف الظاهرية، وأجيبوا أيضا بأن زكاة التجارة متعلقها القيمة لا العين، فالحديث يدل على عدم التعلق بالعين فإنه لو تعلقت الزكاة بالعين من العبيد والخيل لثبتت ما بقيت العين وليس كذلك. فإنه لو نوى القنية لسقطت الزكاة والعين باقية وإنما الزكاة متعلقة بالقيمة بشرط نية التجارة. قال النووي هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها وإنه لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة، وبهذا قال العلماء كافة من السلف والخلف، إلا أباحنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان وزفر أوجبوا في الخيل، إذا كانت إناثا أو ذكورا وإناثا في كل فرس دينارا وإن شاء قومها وأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم وليس لهم حجة في ذلك. وهذا الحديث صريح في الرد عليهم - انتهى. قلت: مذهب أبي حنيفة كما في البدائع أنه إذا كانت الخيل تسام للدر والنسل وهي ذكور وإناث يجب فيها الزكاة، وفي الذكور المنفردة والإناث المنفردة روايتان، وفي المحيط المشهور عدم الوجوب فيهما أي لعدم تحقق النماء في الذكور والإناث منفردة بالتوالد والتناسل. و قال ابن الهمام في الفتح: الراجح في الذكور عدمه وفي الإناث الوجوب أي لأنها تناسل بالفجل المستعار، واختلف متأخروا الحنفية في أن الفتوى على قول أبي حنيفة أو صاحبيه أبي يوسف ومحمد الذين وافقا الجمهور، ففي فتاوى (قاضي خان (ج1:ص119) قالوا: الفتوى على قولهما وأجمعوا على أن الإمام لا

(11/176)


يأخذ منه صدقة الخيل جبرا- انتهى. وقال ابن عابدين (ج2:ص26) قال الطحاوي: هذا أي قول الصاحبين أحب القولين الينا، ورجحه القاضي أبوزيد في الأسرار وفي الينابيع وعليه الفتوى، "وفي الجواهر" والفتوى على قولهما "وفي الكافي" هو المختار للفتوى، وتبعه الزيلعي والبزازي تبعا للخلاصة "وفي الخانية" قالوا: الفتوى على قولهما تصحيح العلامة قاسم. قال ابن عابدين وبه جزم "في الكنز" لكن رجح قول الإمام (أبي حنيفة) في الفتح (أي فتح القدير) "وفي التحفة" الصحيح قوله ورجحه الإمام السرخسي في المبسوط، والقدوري في التجريد وصاحب البدائع وصاحب الهداية. وهذا القول أقوى حجة على ما شهد به التجريد والمبسوط وشرح شيخنا- انتهى كلام ابن عابدين. قلت: والقول الراجح المعول عليه عندنا هو ما قال به جمهور أهل العلم لحديث أبي هريرة هذا، ولحديث علي الآتي في الفصل الثاني، ولحديث عمرو بن حزم عند ابن حبان والحاكم والبيهقي والطبراني، ولحديث عمر وحذيفة عند أحمد (ج1:ص118) وسنده ضعيف لانقطاعه. فإن راشد بن سعد لم يدرك عمر ولأن أبابكر بن عبدالله بن أبي مريم

(11/177)


ضعيف لاختلاطه وسوء حفظه ولحديث ابن عباس عند الطبراني في "الصغير والأوسط" وفيه محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى وفيه كلام. قال أبوعبيد: في "كتاب الأموال" (ص465) إيجاب الصدقة في سائمة الخيل التي يبتغي منها النسل ليس على إتباع السنة ولا على طريق النظر، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عفا عن صدقتها ولم يستثن سائمة ولا غيرها، وبه عملت الأئمة والعلماء بعده فهذه السنة. وأما في النظر فكان يلزمه إذا رأى فيها صدقة أن يجعلها كالماشية تشبيها بها لأنها سائمة مثلها ولم يصر إلى واحد من الأمرين على أن تسمية سائمتها قد جاءت عن غير واحد من التابعين بإسقاط الزكاة منها. ثم روى ذلك عن إبراهيم والحسن وعمر بن عبدالعزيز. قلت: وأجاب الحنفية عن حديث أبي هريرة بأنه محمول على فرس الركوب والحمل والجهاد في سبيل الله، قال صاحب الهداية: وتأويله فرس الغازي هو المنقول عن زيد بن ثابت- انتهى. قلت: نقله عنه زيد الديوسي في "كتاب الأسرار" فقال إن زيد بن ثابت لما بلغه حديث أبي هريرة قال: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما أراد فرس الغازي قال ومثل هذا لا يعرف بالرأي فثبت أنه مرفوع- انتهى. قال الحافظ: "في الدراية" (ص158) تبع أي صاحب الهداية في ذلك أبازيد الدبوسي فإنه نقله عن زيد بن ثابت بلا إسناد - انتهى. فما لم يعرف إسناده وأنه قوي صالح للإعتماد عليه لا يصح الاستناد إليه على أنه قول صحابي، وفيه مسرح للإجتهاد وحمل الحديث على فرس الغازي مخالف لظاهره، وأما ما روى ابن أبي شيبة وأبوعبيد "في الأموال" (ص464) وأبوأحمد بن زنجوية بإسناد صحيح عن طاووس قال: سألت ابن عباس عن الخيل أفيها صدقة فقال: "ليس على فرس الغازي في سبيل الله صدقة" فليس فيه إن ابن عباس فسر بذلك حديث أبي هريرة، وبين المراد من الفرس المذكور فيه وغاية ما فيه أنه نفي الصدقة عن فرس الغازي وهذا مما لا ينكره أحد والمفهوم ليس بحجة عند الحنفية مع أن

(11/178)


مفهومه يعارض عموم حديث أبي هريرة فلا يلتفت إليه على أنه يقتضي أن يجب الصدقة في فرس غير الغازي، وإن كان يعلف للركوب والحمل ولم يقل به أحد. قال ابن الهمام: لا شك إن هذه الإضافة للفرس المفرد لصاحبها في قولنا فرسه وفرس زيد كذا وكذا يتبادر منه الفرس الملابس للإنسان ركوبا ذهابا ومجيئا عرفا وإن كان لغة أعم والعرف املك ويؤيد هذه القرينة قوله "في عبده" ولا شك أن العبد للتجارة تجب فيه الزكاة، فعلم أنه لم يرد النفي عن عموم العبد بل عبد الخدمة. وقد روى ما يوجب حمله على هذا المحمل لو لم تكن هاتان القرينتان العرفية واللفظية، وهو ما في الصحيحين من حديث مانعي الزكاة وفيه الخيل لثلاثة الحديث- انتهى. قلت: المراد بالفرس والعبد في الحديث الجنس كما يدل عليه رواية أبي داود الآتية، ولا نسلم أن المتبادر من الإضافة المذكورة الفرس الملابس للإنسان ركوبا عرفا، ولو سلمنا فكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب حمله على مقتضي صرف اللغة لا على العرف فإن العرف يختلف على أنه ورد هذا الحديث في رواية ضعيفة لأبي داود بلفظ. "ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق" أي بلفظ الجمع وبغير الإضافة وفي لفظ في "مسند

(11/179)


عبدالله بن وهب" لا صدقة على الرجل في خيله ولا في رقيقه، ولا يتمشى فيه تأويل ابن الهمام ويرد تأويله أيضا ما رواه مالك في "الموطأ" عن الزهري عن سليمان بن يسار إن أهل الشام قالوا: لأبي عبيدة بن الجراح خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة فأبى ثم كتب إلى عمر بن الخطاب فأبى عمر - الحديث. فافهم. وأما ما ذكر لتأييد ذلك من القرينة اللفظية ففيه أن الأصل أن يبقى اللفظ المطلق على إطلاقه والعام على عمومه ولا يقيد ولا يخص إلا بدليل شرعي، وقد قام الدليل من السنة والإجماع على وجوب الزكاة في عبد التجارة. فلم يكن بد من حمل العبد في الحديث على عبد الخدمة بخلاف الفرس، فإنه لم يقم دليل شرعي على استثناء غير فرس التجارة ولم يرد في السنة ما يدل على وجوب الزكاة في شي من الفرس إلا ما كان للتجارة فلا يصح حمل لفظ الفرس في الحديث على فرس الركوب خاصة وإستثناء السائمة منه وأما ما أشار إليه من حديث مانعي الزكاة في الصحيحين فليس فيه ما يوجب حمله على فرس الركوب كما ستعرف. وأجاب عن الحديث في "المحيط البرهاني" بأن المنفي ولاية أخذ الساعي فإن الفرس مطمع كل طامع، فالظاهر أنه إذا علموا به لا يتركوه لصاحبه- انتهى. وحاصله: أنه لم يرد نفي الزكاة عن الفرس رأسا بل أراد عدم وجوب أداءها إلى بيت المال على شاكلة الأموال الباطنة. قلت: لا دليل على هذا الحمل وظاهر الحديث يرده فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نفى الصدقة عن الفرس والعبد معا بكلام واحد، فكما أن الزكاة معفوة ومنفية عن عبد غير التجارة رأسا كذلك منفية وساقطة عن الفرس الذي لم يكن للتجارة، وفي الفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة عندي كلام. قال ابن الهمام: معتذرا عن عدم أخذه - صلى الله عليه وسلم - الزكاة عن الفرس ما نصه وعدم أخذه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن في زمانه أصحاب الخيل السائمة من المسلمين، بل أهل الإبل وما تقدم. إذ أصحاب هذه إنما هم أهل المدائن والدشت

(11/180)


والتراكمة وإنما فتحت بلادهم في زمن عمر وعثمان- انتهى. قلت: هذا الاعتذار إنما يحتاج إليه لو ثبت وجوب الزكاة في الفرس السائمة بحديث مرفوع صحيح صريح فإنه حينئذ يسوغ أن يقال. بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما لم يأخذ الزكاة عن الفرس مع الوجوب لعزة أصحاب الخيل السائمة من المسلمين في ذلك الوقت لكن لم يثبت الوجوب بحديث مرفوع صحيح أصلا وإنما لم يأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة عن الفرس كما لم يأخذ عن الرقيق. لأنه لا زكاة فيهما أصلا، لا لكون الخيل قليلة إذ ذاك ولا أنه ترك زكاتها إلى المالكين بأن يؤدوها فيما بينهم وبين الله لمعنى يعلمه على أن أهل اليمن قد كانت عندهم الخيل كما يدل عليه رواية عبدالرزاق الآتية، وهم قد أسلموا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقل أنه أخذ زكاتها منهم ولا أنه أمرهم بأدائها فيما بينهم وبين الله تعالى. قلت: واحتج الحنفية على أصل الوجوب بما تقدم من حديث أبي هريرة وهو أقوى ما احتجوا به، وفيه الخيل ثلاثة هي لرجل وزر وهي لرجل ستر وهي لرجل أجر قال: وأما التي هي له ستر فرجل ربطها

(11/181)


في سبيل الله (وفي رواية ربطها تغنيا وتعففا) ثم ليس ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر الحديث. قالوا: إن الحق الثابت لله تعالى على رقاب الحيوانات ليس إلا الزكاة، فدل ذلك على وجوبها لأنه رتب على الخروج منه كونها له حينئذ سترا يعني من النار. وأجاب عنه الطحاوي في شرح معاني الآثار: بأنه يجوز إن ذلك الحق سوى الزكاة فإنه قد روى لنا عن فاطمة بن قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: في المال حق سوى الزكاة. وحجة أخرى إنا رأينا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الإبل السائمة فقال: فيها حق فسئل ما هو فقال: إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنحة سمنها فاحتمل أن يكون هو في الخيل - انتهى ملخصا. وقال ابن الجوزي: في التحقيق بعد ذكر الدليل هنا للحنفية وجوابه من وجهين، أحدهما. إن حقها إعارتها وحمل المنقطعين عليها فيكون ذلك على وجه الندب. والثاني: أن يكون واجبا ثم نسخ بدليل قوله "قد عفوت لكم عن صدقة الخيل" إذ العفو لا يكون إلا عن شئ لازم - انتهى. وأجاب العيني عن الوجه الأول بأن الذي يكون على وجه الندب لا يطلق عليه حق، وعن الثاني بأن النسخ لو كان اشتهر زمن الصحابة لما قرر عمر الصدقة في الخيل وإن عثمان ما كان يصدقها- انتهى. وتعقب بأن الحق لغة بمعنى الشيء الثابت سواء كان لازما أو غير لازم. وأيضا قد روى البخاري مرفوعا ومن حقها أي حق الإبل أن تحلب على الماء، وفي رواية أبي داود قلنا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما حقها؟ قال: إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله- انتهى ومن المعلوم أن هذه الأمور من الحقوق المندوبة لا الواجبة، وأما ما ذكر من أن عمر وعثمان أخذ الصدقة عن الخيل ففيه أنه كان ذلك على سبيل الندب والأختيار لا الإيجاب كما سيأتي. وقال الشيخ عبدالعلي الحنفي المعروف ببحر العلوم اللكنوي صاحب فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: في "رسائل

(11/182)


الأركان الأربعة" (ص172) بعد ذكر استدلال الحنفية بحديث أبي هريرة ما لفظه هذا إنما يتم لو أريد بحق الله الحق الواجب وإن عمم، كما يدل عليه عطف "ولا ظهورها" لأنه ليس في الظهور حق واجب. وقد حمل ابن الهمام الحق في الظهور على حمل منقطعي الحاج ففيه أن هذا ليس حقا واجبا بل الغاية الاستحباب، ثم الحديث إن دل على وجوب الزكاة فهو غير فارق بين الذكور والإناث والسائمة وغير السائمة وهو خلاف المذهب- انتهى. واحتج الحنفية لكمية الواجب في الفرس بما روى الدارقطني (ص214) والبيهقي (ج4:ص119) والطبراني من طريق الليث بن حماد الأصطخري عن أبي يوسف عن غورك بن الخضرم أبي عبدالله السعدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الخيل السائمة في كل فرس دينار ورد هذا بوجهين أحدهما إن سنده ضعيف جدا، قال الدارقطني: تفرد به غورك وهو ضعيف جدا ومن دونه ضعفاء، وقال الهيثمي: فيه ليث بن حماد وغورك وكلاهما ضعيف. قال البيهقي: لو كان هذا الحديث صحيحا

(11/183)


عند أبي يوسف لم يخالفه ذكره الزيلعي. والثاني أنه ليس في هذا الحديث ذكر للفرق بين الذكور المنفردة والإناث المنفردة والمختلط منهما ولا للتخيير بين الدينار والقيمة الذي قال به أبوحنيفة، وأجاب ابن الهمام عن الوجه الأول بما يقضي منه العجب حيث قال: ولعل ملحظهم في تقدير الواجب ما روى عن جابر من قوله عليه السلام في كل فرس دينار بناء على أنه صحيح في نفس الأمر، ولو لم يكن صحيحا على طريقة المحدثين إذ لا يلزم من عدم الصحة على طريقتهم إلا عدمها ظاهرا دون نفس الأمر على أن الفحص عن مأخذهم لا يلزمنا إذ يكفي العلم بما اتفقوا عليه من ذلك- انتهى. وفي ذكر هذا غنى عن الرد ولعله حمله على ذلك غلوه في حماية مذهبه وشدة التعصب عليه وقد يحمل الإنسان عصبيته العمياء على اقبح من ذلك. واحتج الحنفية أيضا بما روى الدارقطني في غرائب مالك بإسناد صحيح عنه عن الزهري إن السائب بن يزيد أخبره قال. رأيت أبي يقيم الخيل ثم يدفع صدقتها إلى عمر، وأخرجه عبدالرزاق عن ابن جريج أخبرني ابن أبي حسين إن ابن شهاب أخبره إن عثمان كان يصدق الخيل، وإن سائب بن يزيد أخبره إنه كان يأتي عمر بصدقة الخيل. قال ابن عبدالبر: الخبر في صدقة الخيل عن عمر صحيح من حديث الزهري عن السائب بن يزيد. وأجاب عنه الطحاوي بأنه لم يأخذه عمر على أنه حق واجب عليهم بل بسبب آخر، ثم أخرج بسنده عن حارثة قال حججت مع عمر فأتاه أشراف الشام قالوا: إنا أصبنا خيلا وأموالا فخذ من أموالنا صدقة، فقال هذا شي لم يفعله اللذان كانا قبلي لكن إنتظروا حتى أسأل المسلمين. فسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم علي فقالوا حسن وعلي ساكت فقال عمر مالك يا أباالحسن فقالوا قد أشاروا عليك ولا باس بما قالوا إن لم يكن واجبا وجزية راتبة يؤخذون بها بعدك. فدل ذلك على أنه إنما أخذ على سبيل التطوع بعد ابتغاءهم ذلك لا على سبيل إنه شي واجب وقد أخبر إنه لم يأخذه رسول الله - صلى

(11/184)


الله عليه وسلم - ولا أبوبكر - انتهى. وقال ابن قدامة: في المغني (ج2:ص621) وأما عمر فإنما أخذ منهم شيئا تبرعوا به وسألوه أخذه وعوضهم عنه برزق عبيدهم ثم ذكر هذا الحديث من رواية أحمد وقال: فصار حديث عمر حجة عليهم من وجوه، أحدها قوله ما فعله صاحباي قبلي يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ولو كان واجبا لما تركا فعله، الثاني إن عمر امتنع من أخذها ولا يجوز أن يمتنع من الواجب، الثالث قول علي حسن إن لم يكن جزية يؤخذون بها بعدك فسمى جزية إن أخذوا بها وجعل مشروطا بعدم أخذهم به فيدل على أن أخذهم بذلك غير جائز. الرابع استشارة عمر أصحابه في أخذه ولو كان واجبا لما احتاج إلى الاستشارة. الخامس إن عمر عوضهم عنه رزق عندهم (وكذا رزق فرسهم كما في رواية الدارقطني ص214) والزكاة لا يؤخذ عنها عوض- انتهى. وأجاب الحنفية عن هذا الجواب بأن رواية الدارقطني (ص219) "فوضع على فرس دينارا" في قصة أهل الشام المذكور. ورواية عبدالرزاق من طريق يعلى بن أمية إن عمر قال له إن الخيل لتبلغ في بلادكم هذا وقد كان اشترى
وفي رواية، قال: ليس في عبده صدقة إلا صدقة الفطر)) متفق عليه.

(11/185)


من رجل من أهل اليمن فرسا بمائة قلوص قال: فنأخذ من كل أربعين شاة شأة ولا نأخذ من الخيل شيئا خذ من كل فرس دينارا فقرر على الخيل دينارا، وفي رواية ابن حزم والبيهقي فضرب على الخيل دينارا دينار توجب خلاف ما قلتم من أن أخذه كان على سبيل إنه تطوع وتبرع لا للإيجاب، قلت: رواية الطحاوي في قصة أهل الشام صريحة في نفي الوجوب ورواها مالك بلفظ إن أهل الشام قالوا لأبي عبيدة: خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة فأبى ثم كتب إلى عمر بن الخطاب فأبى عمر ثم كلموه أيضا فكتب إلى عمر فكتب إليه عمر إن أحبوا فخذها منهم (يعني إنهم إذا تطوعوا بذلك فيقبل عنهم تطوعا) وأردد عليهم (أي على فقراءهم) وارزق رقيقهم - انتهى. وهذه الرواية ظاهرة في أن عمر لم يقل بإيجاب الزكاة في الخيل لأنه إنما أمر بذلك حين أحبه أربابها وتبرعوا وتطوعوا بها، وأما ما ذكروه من رواية الدارقطني وعبدالرزاق وما شاكلها فهو محمول على هذه لتتافق الروايات ولا تختلف، قال بعض من كتب علي الموطأ من أهل عصرنا من الحنفية: والظاهر إن ذلك أي عدم الإيجاب كان عن عمر أولا ثم قال: بالزكاة فيها أي إن الآخر من أمرى عمر أخذ الزكاة من الخيل كما يدل عليه رواية الدارقطني ورواية عبدالرزاق. قلت: ليس في شي من روايات قصة أهل الشام ما يدل أن ذاك كان أولا وهذا كان آخرا والجمع بما قلنا واضح فالقول به متعين، ولو سلمنا فهو اجتهاد من عمر ومن وافقه كما اعترف به ابن الهمام وحديث أبي هريرة الذي نحن في شرحه يخالفه ويقطع بنفي الصدقة عنها فلا يلتفت إلى ما سواه لأنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم. هذا وقد استدل ابن الهمام برواية الدارقطني في قصة أهل الشام على وجوب الزكاة في الفرس، وادعى وقوع إجماع الصحابة على ذلك، وقد رد عليه بحر العلوم اللكنوي الحنفي في رسائل "الأركان الأربعة" (ص173) ردا حسنا فعليك أن تراجعه (وفي رواية قال) أي النبي -

(11/186)


صلى الله عليه وسلم - (ليس في عبده) في مسلم ليس في العبد (صدقة إلا صدقة الفطر) بالرفع على البدلية وبالنصب على الاستثنائية قال النووي: هذا صريح في وجوب صدقة الفطر على السيد عن عبده سواء كان للقنية أم للتجارة وهو مذهب مالك والشافعي والجمهور، وقال أهل الكوفة لا تجب في عبيد التجارة وحكى عن داود قال: لا تجب على السيد بل تجب على العبد ويلزم السيد تمكينه من الكسب ليؤديها- انتهى. وقال ابن حبان: فيه دليل على أن العبد لا يملك إذ لو ملك لوجب عليه صدقة الفطر (متفق عليه) إلا قوله "إلا صدقة الفطر" فإنه من إفراد مسلم وهذه الزيادة عند ابن حبان أيضا ورواه الدارقطني بلفظ: لا صدقة على الرجل في فرسه ولا في عبده إلا زكاة الفطر وفي لفظ لأبي داود ليس: في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق، والرواية الأولى أخرجها أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم.
1811- (3) وعن أنس، أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين، بسم الله الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها،

(11/187)


1811- قوله: (إن أبابكر) الصديق (كتب له) أي لأنس، لما استخلف (هذا الكتاب) أي المكتوب الآتي (لما وجهه) أي حين أرسله أبوبكر (إلى البحرين) أي عاملا عليها وهو تثنية بحر خلاف البر موضع معروف بين بحري فارس والهند ومقارب جزيرة العرب، ويقال هو إسم لاقليم مشهور يشتمل على مدن معروفة قاعدتها هجر وهكذا ينطق به بلفظ التثنية والنسبة إليه بحراني (بسم الله الرحمن الرحيم) بدل من الكتاب بمعنى إسم المفعول وهو واضح، لأن المراد كتب له هذه النقوش التي هي بسم الله الخ. قال الماوردي: يستدل به على إثبات البسملة في إبتداء الكتب وعلى أن الابتداء بالحمد ليس بشرط. وقال الحافظ: لم تجر العادة الشرعية ولا العرفية بابتداء المراسلات بالحمد وقد جمعت كتبه - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك وغيرهم، فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد بل بالبسملة (هذه) أي المعاني الذهنية الدالة عليها النقوش اللفظية الآتية (فريضة الصدقة) أي نسخة فريضة الصدقة فحذف المضاف للعلم به والفريضة بمعنى المفروضة (التي فرض رسول الله على المسلمين) هذا ظاهر في رفع الخبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه ليس موقوفا على أبي بكر وقد صرح برفعه في رواية إسحاق بن راهوية في مسنده ومعنى "فرض" هنا أوجب يعني بأمر الله تعالى قال الخطابي: معنى الفرض الإيجاب وذلك أن يكون الله تعالى قد أوجبها وأحكم فرضها في كتابه ثم أمر رسوله بالتبليغ فأضيف الفرض إليه بمعنى الدعاء اليه وحمل الناس عليه، وقد فرض الله طاعته على الخلق فجاز أن يسمى أمره وتبليغه عن الله عزوجل فرضا على هذا المعنى.وقيل: معناه قد رأى بين وفصل لأن إيجابها ثابت بنص القرآن على سبيل الإجمال وبين - صلى الله عليه وسلم - مجملة بتقدير الأنواع والأجناس ففرض النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بيانه للمجمل من الكتاب، ومن هذا فرض نفقة الأزواج وفرض أرزاق الجند. وقيل: معنى الفرض هنا السنة ومنه ما روى أنه -

(11/188)


صلى الله عليه وسلم - فرض كذا أي سنة يعني شرعه بأمر الله تعالى (والتي) عطف على "التي" عطف تفسير أي الصدقة التي. ولأحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه "التي" بدون العطف على أنها صفة بعد صفة أو يدل من الجملة الأولى (أمر الله بها) أي بتلك الصدقة أي أمر بتبلغيها أو بتقدير أنواعها وأجناسها والقدر المخرج منها (فمن سألها) بضم السين على بناء المفعول أي من سأل الزكاة (من المسلمين) بيان لمن (على وجهها) حال من المفعول الثاني في سئلها أي حال كونها على حسب ما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فرض مقاديرها يعني على هذه الكيفية المبينة في هذا الكتاب (فليعطها) أي على الكيفية المذكورة في هذا الحديث. وفيه دلالة على دفع صدقة الأموال
ومن سأل فوقها فلا يعط في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاة،

(11/189)


الظاهرة إلى الإمام (ومن سئل فوقها) أي فوق حقها يعني زائدا على الفريضة المعينة في السن أو العدد، وقال الطيبي: أي أزيد من واجبها كمية أو كيفية، وتكون المسألة إجماعية إجمالا، لا اجتهادية فإنها حينئذ يقدم الساعي (فلا يعط) أي فله المنع يعني لا يعطي الزائد على الواجب.وقيل: لا يعطي شيئا من الزكاة لهذا الساعي، لأنه يصير خائنا بطلبه فوق الواجب فتسقط طاعته بظهور خيانته، لأن شرطه أن يكون أمينا وحينئذ يتولى هو إخراجه بنفسه أو يعطيه لساع آخر. قال الحافظ: لكن محل هذه إذا طلب الزيادة بغير تأويل - انتهى. وكأنه يشير بهذا إلى الجمع بين هذا الحديث وحديثي جرير وجابر بن عتيك المتقدمين في أوائل الزكاة، فيكون هذان الحديثان محمولين على أن للعامل تأويلا في طلب الزائد على الواجب. قال القاري: هذا أي حديث أبي بكر يدل على أن المصدق إذا أراد أن يظلم المزكي فله أن يأباه ولا يتحرى رضاه، ودل حديث جرير وقوله: "أرضوا مصدقيكم وإن ظلمتم" على خلاف ذلك. وأجاب الطيبي بأن أولئك المصدقين من الصحابة وهم لم يكونوا ظالمين، وكان نسبة الظلم إليهم على زعم المزكي أو جريان على سبيل المبالغة وهذا عام فلا منافاة بينهما- انتهى. وقد يجاب بأن الأول محمول على الاستحباب وهذا على الرخصة والجواز، أو الأول إذا كان يخشى التهمة والفتنة وهذا عند عدمهما. قال في شرح السنة: فيه دليل على إباحة الدفع عن ماله إذا طولب بغير حقه- انتهى. (في أربع وعشرين) قال الطيبي: استئناف بيان لقوله "هذا فريضة الصدقة" وكأنه أشار بهذه إلى ما في الذهن ثم آتى به بيانا له. قال ابن الملك: "في أربع" خبر مبتدأ محذوف أي الواجب أو المفروض أو المعطى في أربع وعشرين (من الإبل) كلمة "من" بيانية وبدأ بزكاة الإبل لأنها كانت جل أموالهم وأنفسها (فما دونها) أي فما دون أربع وعشرين إلى الخمس (من الغنم) بيان للام الواجب المقدر، لأنه بمعنى الذي (من كل خمس شأة) أي الواجب

(11/190)


من الغنم في أربع وعشرين إبلا من كل خمس إبل شأة. وقال الطيبي: "من" الأولى ظرف مستقر، لأنه بيان لشأة توكيدا كما في قوله: "خمس ذود من الإبل" والثانية لغو إبتدائية متصلة بالفعل المحذوف، أي ليعط في أربع وعشرين من الإبل شأن كائنة من الغنم لأجل كل خمس من الإبل. وقيل: "من الغنم" خبر لمبتدأ محذوف أي الصدقة في أربع وعشرين من الإبل من الغنم. وقوله:"من كل خمس شأة" مبتدأ وخبر بيان للجملة المتقدمة. وقال الحافظ: قوله من الغنم كذا للأكثر وفي رواية ابن السكن بإسقاط "من" وصوبها بعضهم وقال عياض: كل صواب فمن أثبتها فمعناها زكاتها أي الإبل من الغنم و"من" للبيان لا للتبعيض، ومن حذفها فالغنم مبتدأ والخبر مضمر في قوله في أربع وعشرين. وإنما قدم الخبر لأن الغرض بيان المقادير التي تجب فيها الزكاة، والزكاة إنما تجب بعد وجود النصاب فحسن تقديمه. وههنا مسألتان خلافيتان، الأولى أنه ذهب الشافعي في قوله الجديد أي في غير البويطي ومالك في

(11/191)


رواية. وأحمد وأبوحنيفة وأبويوسف إلى أن الزكاة في النصاب فقط دون العفو والوقص (بفتح الواو والقاف ويجوز إسكانها وبالصاد المهملة وهو ما بين الفرضين عند الجمهور) وقال الشافعي: في القديم أي في البويطي ومالك في رواية ومحمد وزفر، إلى أنها في النصاب والعفو جميعا. قال الحافظ: ويظهر أثر الخلاف فيمن له مثلا تسع من الإبل فتلف منها أربعة بعد الحول وقبل التمكن من الأداء، حيث قلنا إنه شرط في الوجوب وجبت عليه شاة بلا خلاف. وكذا إن قلنا التمكن شرط في الضمان وقلنا الوقص عفو، وإن قلنا يتعلق به الفرض وجب خمس اتساع شاة – انتهى واستدل للقول الأول بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الإبل في خمس شاة وفي عشر شاتان وفي الغنم إذا زادت على ثلاث مائة ففي كل مائة شأة، قال القاري في النقاية: هذا ظاهر في أن الزكاة في النصاب فقط- انتهى. وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن حزم في خمس من الإبل شاة وليس في الزيادة شيء حتى تبلغ عشرا قال في البدائع: هذا نص على أن الواجب في النصاب دون الوقص- انتهى. لكن قد تكلم العيني في البناية في هذه الرواية. وقال الحافظ في الدراية (ص159): لم أجده وذكره أبوإسحاق الشيرازي في المهذب وأبويعلى الفراء في كتابة وقد يستأنس له بحديث محمد بن عبدالرحمن الأنصاري أن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات إن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة فليس فيما دون العشر شيء أخرجه أبوعبيد (ص363) – انتهى. واستدل للقول الثاني بقول النبي صلى الله عليه وسلم في خمس من الإبل شاة إلى تسع ذكره في البدائع. وروى البيهقي (ج4 ص87) معناه من كتاب عمر قال الكاساني: وأخبر أي النبي صلى الله عليه وسلم إن الواجب يتعلق بالكل- انتهى. وقد يستدل لهذا القول أيضا بظاهر قوله في كتاب أبي بكر في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم من كل خمس شأة، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض- الحديث. وفي

(11/192)


صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شأة، قال الزيلعي (ج2 ص362): وجه الدليل أنه غير الوجوب إلى النصاب الآخر فدل على أن الوجوب الأول منسحب إلى الوجوب الثاني وما بينهما هو العفو- انتهى. وقد رجح ابن الهمام هذا القول الثاني إذ قال ولا يخفى إن هذا الحديث (أي حديث عمرو بن حزم الذي استدل به للقول الأول، وفيه ليس في الزيادة حتى تبلغ عشرا) لا يقوي قوة حديثهما (أي الحديثين اللذين استدل بهما لمحمد وزفر) في الثبوت إن ثبت والله أعلم. وإنما نسبة ابن الجوزي في التحقيق، إلى رواية أبي يعلى القاضي وأبي إسحاق الشيرازي في كتابيهما، فقول محمد أطهر من جهة الدليل- انتهى. قال صاحب بذل المجهود: فمدار الحنيفة في الاستلال في استيناف الصدقة أيضا على حديث عمرو بن حزم فلو كان الحديث عندهم ضعيفا لا يصح الاستدلال به على الاستيناف، ومع هذا فقد ورد في حديث أبي داود (في كتاب عمر في الصدقة) وليس فيها شيء حتى تبلغ المائة فثبت بطريقين إن الأوقاص لا يجب فيها الزكاة- انتهى. المسألة الثانية قال الحافظ: استدل بقوله في أربع وعشرين من الإبل
فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى،

(11/193)


فما دونها من الغنم على تعين من الغنم إخراج الغنم في مثل ذلك، وهو قول مالك وأحمد فلو أخرج بعيرا عن الأربع والعشرين لم يجزه، وقال الشافعي والجمهور: يجزئه لأنه يجزيء عن خمس وعشرين فما دونها أولى، ولأن الأصل أن يجب من جنس المال. وإنما عدل عنه رفقا بالمالك فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه قال الزرقاني: ورد بأنه قياس في معرض النص فإن كانت قيمة البعير مثلا دون قيمة أربع شياه ففيه خلاف عند الشافعية وغيرهم، قال الحافظ: والأقيس أنه لا يجزيء - انتهى. ويجوز عند الحنفية إذا ساوى قيمة المؤدى قيمة الواجب كما بسط في فروعهم. وقوله من كل خمس شاة يقتضي إن الشأة هي الواجبة فيها، فلو أخرج عن خمس من الإبل واحدا منها لم يجزه وإنما يجزئه أن يخرج ما وجب عليه وهي شأة، وإليه ذهبت الحنابلة كما في المغنى (ج4 ص578) وبه قال ابن العربي والباجي من المالكية، وذهبت الشافعية والمالكية إلى الجواز، وبه قالت الحنفية لكن باعتبار القيمة (فإذا بلغت) أي الإبل (خمسا وعشرين) قال الحافظ: فيه إن في هذا القدر بنت مخاض وهو قول الجمهور إلا ما جاء عن علي إن في خمس وعشرين خمس شياه، فإذا صارت ستا وعشرين كان فيها بنت مخاض. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه موقوفا ومرفوعا وإسناده المرفوع ضعيف - انتهى. قال الأمير اليماني: والموقوف ليس بحجة فلذا لم يقل به الجمهور (إلى خمس وثلاثين ففيها) أي ففي الإبل التي بلغت خمسا وعشرين (بنت مخاض) بفتح الميم وبالخاء المعجمة الخفيفة وفي آخره ضاد معجمة. قال الجزري في جامع الأصول (ج5 ص472): بنت المخاض من الإبل وابن المخاض ما استكمل السنة الأولى. ودخل في الثانية ثم هو ابن مخاض وبنت مخاض إلى آخر الثانية سمي بذلك، لأن أمه من المخاض أي الحوامل والمخاض الحوامل لا واحد له من لفظه- انتهى. وقال الحافظ: هي التي أتى عليها حول ودخلت في الثانية وحملت أمها، والماخض الحامل أي دخل وقت حملها وإن لم تحمل -

(11/194)


انتهى. وقال ابن قدامة: سميت بذلك لأن أمها قد حملت غيرها والماخض الحامل وليس كون أمها ماخضا شرطا فيها وإنما ذكر تعريفا لها بغالب حالها وقال في المجمع (ج2 ص285): الماخض اسم للنوق الحوامل واحدتها خلفة وابن مخاض وبنته ما دخل في السنة الثانية. لأن أمه لحقت بالمخاض أي الحوامل، وإن لم تكن حاملا وقيل: هو الذي حملت أنه أو حملت الإبل التي فيها أمه، وإن لم تحمل هي، وهذا معنى ابن مخاض لأن الواحد لا يكون ابن نوق وإنما يكون ابن ناقة واحدة. والمراد أن يكون وضعتها أمها في وقت ما وقد حملت النوق التي وضعت مع أمها، وإن لم تكن أمها حاملة فنسبتها إلى الجماعة بحكم مجاورتها أمها، وسمي ابن مخاض في السنة الثانية لأن العرب إنما كانت تحمل الفحول على الإناث بعد وضعها لسنة ليشتد ولدها فهي تحمل في السنة الثانية وتمخض - انتهى. (أنثى) قيد بالأنثى للتأكيد كما يقال رأيت بعيني وسمعت بأذني، وقال الطيبي: ذكره تأكيدا، كما قال تعالى: ?نفخة واحدة?[الحاقة: 13] ولئلا يتوهم إن البنت ههنا والابن في ابن لبون كالبنت والابن في بنت طبق،
فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين، ففيها حقة طروقه الجمل. فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة. فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون. فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتان الجمل.

(11/195)


وابن آوى يشترك فيهما الذكر والأنثى. وحاصله إن وصف البنت بالأنثى لئلا يتوهم إن المراد منه الجنس الشامل للذكر والأنثى كالولد، إذ في غير الآدمي قد يطلق البنت والابن ويراد بهما الجنس كما في ابن عرس وبنت طبق وهي السلحفاة وزاد في رواية حماد بن سلمة عن ثمامة عن أنس عند أحمد (ج1 ص11) وأبي داود والنسائي والدارقطني والبيهقي، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر وهو الذي استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة وهو كذلك إلى تمامها، سمي بذلك لأن أمه صارت لبونا أي ذاب لبن بوضع الحمل. (فإذا بلغت) الإبل (ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين) الغاية داخلة في المغيا بدليل قوله بعد ذلك فإذا بلغت ستا وأربعين فعلم أن حكمها حكم ما قبلها (ففيها بنت لبون) هي التي تمت لها سنتان ودخلت في الثالثة إلى تمامها (أنثى) زاده تأكيدا كما عرفت (حقة) بكسر الحاء المهملة وفتح القاف المشددة والجمع حقاق بالكسر والتخفيف وهي من الإبل ما استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة وهي كذلك إلى تمامها، ويقال للذكر الحق سميت بذلك لاستحقاقها أن تركب ويحمل عليها ويركبها الفحل ولذلك قال في صفتها (طروقة الجمل) بفتح أوله أي مطروقته فعولة بمعنى مفعولة كحلوبة بمعنى محلوبة صفة لحقة، والمراد من شأنها أن تقبل ذلك وإن لم يطرقها الفحل يعني إنها بلغت وصلحت أن يغشاها الجمل ويطأها من الطرق بمعنى الضرب (جذعة) بفتح الجيم والذال المعجمة قال الجزري: الجذعة والجذع من الإبل ما استكمل الرابعة ودخل في الخامسة إلى آخرها. قال القسطلاني: سميت بذلك لأنها جذعت مقدم أسنانها أي أسقطته وهي غاية أسنان الزكاة. وقال ابن قدامة: قيل لها ذلك لأنها تجذع إذا سقطت سنها وهي أعلى سن تجب في الزكاة. وقال القاري: سميت بذلك لأنها سقطت أسنانها والجذع السقوط. وقيل: لتكامل أسنانها. وقال التوربشتي يقال للإبل في السنة الخامس أجذع وجذع اسم له في زمن ليس سن ينبت ولا يسقط والأنثى جذعة -

(11/196)


انتهى. (فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل) أجمع العلماء على المذكور من أول الحديث إلى هذا إلا ما تقدم عن علي إنه قال: في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه، وفي ست وعشرين بنت مخاض، حكى هذا الإجماع العيني وابن قدامة وأبوعبيد والسرخسي. قال ابن قدامة: هذا كله مجمع عليه إلى أن يبلغ عشرين ومائة، ذكره ابن المنذر. وقال أبوعبيد (ص363): هذا ما جاء في فرائض الإبل إلى أن تبلغ
فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.

(11/197)


عشرين ومائة لم يختلفوا إلا في هذا الحروف الواحد وحده، فإذا جاوزت عشرين ومائة فهناك الاختلاف، ثم ذكره كما سيأتي بيانه. وقال السرخسي: على هذا اتفقت الآثار وأجمع العلماء إلا ما روى شاذا عن علي. وقال العيني: لا خلاف فيه بين الأئمة وعليها اتفقت الأخبار عن كتب الصدقات التي كتبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلاف فيما إذا زادت على مائة وعشرين. (فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة) أي إذا زاد يجعل الكل على عدد الأربعينات والخمسينات، مثلا إذا زاد واحد على العدد المذكور يعتبر الكل ثلاث أربعينات وواحد والواحد لا شيء فيه، وثلاث أربعينات فيها ثلاث لبونات إلى ثلاثين ومائة، وفي ثلاثين ومائة حقة لخمسين وبنتا لبون لأربعينين. وهكذا، ولا يظهر التغيير إلا عند زيادة عشر قاله السندي. وقال الشوكاني: المراد أنه يجب بعد مجاوزة المائة والعشرين بواحدة في كل أربعين بنت لبون، فيكون الواجب في مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، وإلى هذا ذهب الجمهور. ولا اعتبار بالمجاوزة بدون واحد كنصف أو ثلث أو ربع خلافا للأصطخري من الشافعية، فقال: يجب ثلاث بنات لبون بزيادة بعض واحدة لصدق الزيادة ويرد عليه ما عند الدارقطني في آخر هذا الحديث وما في كتاب عمر، فإذا كانت أحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة ومثله في كتاب عمرو بن حزم - انتهى. إعلم أنهم اختلفوا فيما زادت على عشرين ومائة، فذهب الشافعي الأوزاعي وإسحاق بن راهوية إلى أنها إذا زادت على العشرين والمائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون إلى أن تصير مائة وثلاثين فيجب فيها حقة وبنتا لبون. ثم كلما زادت عشرة كان في خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، والمختار عند الحنابلة، وهو قول عمر بن عبدالعزيز وابن حزم وأبي سليمان داود والزهري وأبي ثور وابن القاسم صاحب مالك. قال الباجي: قول ابن

(11/198)


القاسم رواية لمالك أيضا واحتج لهذا القول بقوله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، فإنه علق النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم بنفس الزيادة والواحدة زيادة فعندها يجب في كل أربعين بنت لبون. وقد جاء مصرحا بذلك كما تقدم في كلام الشوكاني. وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص20) فيه دليل على أن الإبل إذا زادت على العشرين ومائة لم يستأنف لها الفريضة لأنه علق تغير الفرض بوجود الزيادة، وقد يحصل وجود الزيادة بالواحدة كحصولها بأكثر منها، وعلى هذا وجد الأمر في أكثر الفرائض فإن زيادة الواحد بعد منتهى الوقص توجب تغير الفريضة كالواحدة بعد الخامسة والثلاثين وبعد الخامسة والأربعين وبعد كمال الستين. وذهب أبوعبيد ومحمد بن إسحاق وأحمد في رواية إلى أنها لا يجب فيما زاد على العشرين والمائة شيء، حتى تكون مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون، فلا يتغير الفرض عندهم ولا يتعدى إلى ثلاثين ومائة وهو رواية عن مالك، رواها عنه عبدالملك وأشهب وابن نافع. واستدل بأن لهم بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا زادت على عشرين ومائة -

(11/199)


الحديث. يقتضي أن يكون تغير الفرض في عدد يجب السنان معا، أي المراد بالزيادة هي التي يمكن اعتبار المنصوص عليه فيها وذلك لا يكون فيما دون العشر، وأجيب عنه بأن هذا غير لازم وذلك أنه إنما علق تغير الفرض بوجود الزيادة على المائة والعشرين، وجعل بعدها في أربعين ابنة لبون، وفي خمسين حقة، وقد وجدت الأربعونات الثلث في هذا النصاب، فلا يجوز أن يسقط الفرض ويتعطل الحكم. وإنما اشترط وجود السنين في محلين مختلفين لا في محل واحد فاشتراطهم وجودهما معا في واحد غلط، واستدل لهم أيضا بأن الفرض لا يتغير بزيادة الواحد كسائر الفروض، وأجيب عنه بأنه ما تغير بالواحدة وحدها، وإنما تغير بها مع ما قبلها فأشبهت الواحدة الزائدة عن التسعين والستين وغيرهما. واستدل لهم أيضا بما روى أبوعبيد (ص363) عن يزيد عن حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن محمد بن عبدالرحمن، إن في كتاب صدقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي كتاب عمر في الصدقة، إن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة فليس فيما دون العشر شيء حتى تبلغ ثلاثين ومائة، وأجيب بأن هذا مرسل ولا حجة فيه. وأيضا قد رواه الدارقطني (ص210) والحاكم (ج1 394- 395) والبيهقي (ج4 ص92) مطولا، وفيه فإذا زادت على العشرين ومائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون، حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك فليس فيما لا يبلغ العشر منها شيء حتى يبلغ العشر- انتهى. وهذا كما ترى نص في القول الأول وصريح في الرد على القول الثاني. وذهب مطرف وابن أبي حازم وابن دينار وأصبغ إلى أن الساعي بالخيار بين أن يأخذ في إحدى وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون، أو حقتين أي الصفتين أدى أجزأه إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة، فيجب فيها حقة وبنتا لبون وهو رواية عن مالك أيضا وهو مختار فروع المالكية. قال ابن حزم (ج5 ص31): قول مالك في التخيير بين إخراج حقتين أو ثلاث بنات لبون خطأ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(11/200)


فرق بين حكم العشرين ومائة, فجعل حقتين بنص كلامه وبين حكم ما زاد على ذلك فلم يجز أن يسوى بين حكمين، فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ولا نعلم أحدا قبل مالك قال بهذا التخيير- انتهى. وقد ظهر بما قدمنا أن فيما زاد على عشرين ومائة إلى تسع وعشرين ومائة لمالك ثلاث روايات التخيير، وعدم التغيير، ووجوب ثلاث بنات لبون من غير أن يخير الساعي. ومختار فروع المالكية الرواية الأولى ومذهب الشافعي وأحمد وجوب ثلاث بنات لبون من غير تخيير. وهو القول الراجح عندنا ثم إن هؤلاء الأئمة الثلاثة اتفقوا على أنه يدور الحكم بعد العشرين والمائة على الأربعينات والخمسينات أبدا من غير أن يستأنف الفريضة فتتغير الفريضة عندهم بعد العدد المذكور إلى بنت لبون في كل أربعين، وإلى حقة في كل خمسين. ولا تعود إلى الأول. واستدلوا لذلك بما روى في كتاب أبي بكر الصديق وفي كتاب عمر وفي كتاب عمرو بن حزم وفي كتاب زياد بن لبيد زياد بن لبيد إلى حضر الموت، من قوله - صلى الله عليه وسلم - زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت

(11/201)


لبون، وفي كل خمسين حقة، بسط طرق هذه الكتب الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص335، 345) وأخرج الثلاثة الأول منها الدارقطني (ص208، 210) والحاكم (ج1 ص390، 397) والبيهقي (ج4 ص85 و92). وأما ما وقع في بعض الطرق من الاقتصار على قوله "في كل خمسين حقة" فهو من اختصار الراوي لا أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك ذكر الأربعين قصدا. وذهب أبوحنيفة وأصحابه والثوري والنخعي إلى أنه يستأنف الفريضة بعد العشرين ومائة، كما في الأول وخمسين، إلا أنه لا تجب في هذا الاستيناف بنت لبون وجذعة فليس عندهم فيما بعد العشرين ومائة إلا حقتان فقط. حتى تتم خمسا وعشرين ومائة فيجب فيها حقتان وشأة إلى ثلاثين ومائة، فإذا بلغتها ففيها حقتان وشأتان إلى خمس وثلاثين ومائة، ففيها حقتان وثلاث شياه إلى الأربعين ومائة، ففيها حقتان وأربع شياه إلى خمس وأربعين ومائة، فإذا بلغتها ففيها حقتان وبنت مخاض إلى خمسين ومائة، فإذا بلغتها ففيها ثلاث حقاق. هذا هو الاستيناف الأول ثم تستأنف الفريضة وتجب فيها بنت لبون أيضا على خلاف الاستيناف الأول، فيجب في مائة وخمس وخمسين ثلاث حقاق وشأة. ثم كما ذكرنا في كل خمس شاة مع الثلاث حقاق إلى أن تصير خمسا وسبعين ومائة، فيجب فيها بنت مخاض وثلث حقاق إلى ست وثمانين ومائة، فإذا بلغتها كانت فيها بنت لبون وثلث حقاق إلى ست وتسعين ومائة، فإذا بلغتها ففيها أربع حقاق إلى مائتين ثم تستأنف الفريضة كما بعد مائة وخمسين، فتجب في كل خمس شأة. فإذا صارت مائتين وخمسا وعشرين ففيها أربع حقاق وبنت مخاض، وفي ست وثلاثين ومائتين أربع حقاق وبنت لبون إلى ست وأربعين ومائتين، فإذا بلغتها كانت فيها خمس حقاق إلى خمسين ومائتين، وهكذا إلى ما لا نهاية له كلما بلغت الزيادة خمسين زاد حقة ثم استأنف تزكيتها بالغنم ثم بنت المخاض ثم ببنت اللبون ثم بالحقة. ولا يخفى أن هذا المذهب لا يصدق عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا زادت على عشرين

(11/202)


ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، فإنه يدل على أن مدار الحكم والحساب بعد العشرين ومائة هو الأربعون والخمسون، وعلى أنه يجعل الكل على عدد الأربعينات والخمسينات، وقد عرفت أنهم لم يجعلوا الأربعين والخمسين مدارا للحكم، بل قالوا بالعود إلى أول الفريضة والاستيناف، وتقدم أنه ليس في الاستئناف الأول بنت لبون أصلا. ثم إنها وإن كانت في الاستيناف الثاني لكن الفريضة لا تدور على الأربعين عندهم، فإنه تجب بنت لبون من ست وثلاثين إلى ست وأربعين والأربعون واقع في البين، فلم يكن مدار الحكم ولا يكون لتخصيصه بالذكر على مذهبهم، معنى لكون بنت لبون واجبة فيما دونه وفيما فوقه أيضا، وكذا الحقة تجب من ست وأربعين إلى خمسين فلا يكون الخمسون فلا يكون الخمسون مدارا، ولا يظهر لتخصيصه في قوله وفي كل خمسين حقة معنى أيضا. قال صاحب العرف الشذى: الحق إن حديث الباب أقرب بمذهب الحجازيين لأنه عليه السلام قد أجمل بعد مائة وعشرين،

(11/203)


ومذهب الحجازيين مستقيم على هذا الحديث بعد مائة وعشرين إلى الأبد. وأما مذهبنا الحنفية فاستقامته إنما هو بعد خمسين ومائة - انتهى. قلت: الحديث الذي استدل به أهل الحجاز لا يصدق على مذهب أهل العراق أصلا، فإن مذهبهم كما لا يستقيم قبل خمسين ومائة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس عند الدارقطني (ص209) فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، كذلك لا يستقيم بعده أيضا فإن مدار بنت اللبون هو ست وثلاثون لا أربعون، ومدار الحقة ست وأربعون لا خمسون، فإن هذين العددين يكونان في البين. والحديث نص في كون الأربعينات والخمسينات مدارا بعد العشرين، ومائة مطردا دائما. هذا وقد تصدى الحنفية كالطحاوي في شرح الآثار والسرخسي في المبسوط وأبي بكر الرازي في أحكام القرآن وابن الهمام في فتح القدير، والزيلعي في شرح الكنز والعيني في شرح البخاري للجواب عن حديث الباب. والتخلص من مخالفته ولولا أنه يطول البحث جدا لذكرنا كلاهم أجمعين، وبينا ما في أجوبتهم من التكلف والتمحل والتلبيس والتخليط والفساد، وقد ذكر تقرير ابن الهمام وجوابه الشيخ عبدالعلي بحر العلوم اللكنوي الحنفي في رسائل الأركان الأربعة (ص170- 171). ثم رد عليه ورجح مذهب الجمهور وقال في آخر كلامه فالأشبهة ما عليه الإمام الشافعي والإمام أحمد. واحتج الحنفية لمذهبهم بما روى أبوداود في المراسيل وإسحاق بن راهوية في مسنده، والطحاوي في مشكله عن حماد بن سلمة قال: قلت لقيس بن سعد خذ لي كتاب محمد بن عمرو بن حزم فأعطاني كتابا أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه لجده فقرأته فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل فقص الحديث إلى أن يبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من عشرين ومائة فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل، وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم في كل خمس ذود شاة كذا في نصب الراية.

(11/204)


وأجيب عنه بما قال ابن الجوزي في التحقيق: إن هذا حديث مرسل. وقال هبة الله الطبري: هذا الكتاب صحيفة ليس بسماع ولا يعرف أهل المدينة كلهم عن كتاب عمرو بن حزم إلا مثل روايتنا، رواها الزهري وابن المبارك وأبوأويس كلهم عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده مثل قولنا. ثم لو تعارضت الروايتين عن عمرو بن حزم بقيت روايتنا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهي في الصحيح وبها عمل الخلفاء الأربعة. وقال البيهقي في السنن (ج4 ص94) هذا منقطع بين أبي بكر بن حزم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيس بن سعد أخذه عن كتاب لا عن سماع، وكذلك حماد بن سلمة أخذه عن كتاب لا سماع، وقيس بن سعد وحماد بن سلمة. وإن كانا من الثقات فروايتهما هذه بخلاف رواية الحفاظ عن كتاب عمرو بن حزم وغيره، وحماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره، فالحفاظ لا يحتجون بما يخالف فيه ويتجنبون ما ينفرد به عن قيس بن سعد خاصة وأمثاله، وهذا الحديث قد جمع الأمرين

(11/205)


مع ما فيه من الانقطاع. وقال في معرفة السنن: الحفاظ مثل يحيى القطان وغيره يضعفون رواية حماد عن قيس ابن سعد، ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال: ضاع كتاب حماد بن سلمة عن قيس بن سعد فكان يحدثهم من حفظه ثم أسند عن ابن المديني نحو ذلك. قال البيهقي: ويدل على خطأ هذه الرواية إن عبدالله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم رواه عن أبيه عن جده بخلافه، وأبوالرجال محمد بن عبدالرحمن الأنصاري رواه بخلافه، والزهري مع فضل حفظه رواه بخلافه في رواية سليمان بن داود الخولاني عنه موصولا، في رواية غيره مرسلا وإذا كان حديث حماد عن قيس مرسلا ومنقطعا وقد خالفه عدد، وفيهم ولد الرجل والكتاب بالمدينة بأيديهم يتوارثونه بينهم، وأمر به عمر بن عبدالعزيز فنسخ له فوجد مخالفا لما رواه حماد عن قيس وموافقا لما في كتاب أبي بكر وما في كتاب عمر وكتاب أبي بكر في الصحيح، وكتاب عمر أسنده سفيان بن حسين وسليمان بن كثير عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكتبه عمر عن رأية إذ لا مدخل للرأي فيه وعمل به وأمر عماله، فعملوا به. وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وأقرأ ابنه عبدالله بن عمر وأقرأه عبدالله ابنه سالما ومولاه نافعا. وكان عندهم حتى قرأه مالك بن أنس أفما يدلك ذلك كله على خطأ هذه الرواية - انتهى. وقال ابن قدامة في المغنى: (ج2 ص584) بعد الإشارة إلى كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الذي استدل به الحنفية، ولنا أن في حديثي الصدقات الذي كتبه أبوبكر لأنس, والذي كان عند آل عمر بن الخطاب مثل مذهبنا وهما صحيحان، وقد رواه أبوبكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما كتاب عمرو بن حزم فقد اختلف في صفته فرواه الأثوم في سنته مثل مذهبنا والأخذ بذلك أولى لموافقته الأحاديث الصحاح وموافقته القياس، فإن المال إذا وجب فيه من جنسه لم يجب من غير جنسه، كسائر بهيمة الأنعام، ولأنه مال احتمل المواساة من جنسه

(11/206)


فلم يجب من غير جنسه كالبقر والغنم. وإنما وجب في الابتداء من غير جنسه، لأنه ما احتمل المواساة من جنسه فعدلنا إلى غير الجنس ضرورة. وقد زال ذلك بزيادة المال وكثرته ولأنه عندهم ينقل من بنت مخاض إلى حقة بزيادة خمس من الإبل وهي زيادة يسيرة لا تقتضي الانتقال إلى حقة، فإنا لم ننقل في محل الوفاق من بنت مخاض إلى حقة إلا بزيادة إحدى وعشرين - انتهى. وقال ابن حزم: (ج6 ص41) والعجب أنهم يدعون أنهم أصحاب قياس وقد خالفوا في هذا المكان النصوص والقياس. فهل وجدوا فريضة تعود بعد سقوطها؟ وهل وجدوا في أوقاص الإبل وقصا من ثلاثة وثلاثين من الإبل إذ لم يجعلوا بعد الإحدى والتسعين حكما زائدا إلى خمسة وعشرين ومائة، وهل وجدوا في شيء من الإبل حكمين مختلفين في إبل واحدة؟ بعضها يزكي بالإبل وبعضها يزكي بالغنم، وهلا إذ ردوا الغنم وبنت المخاض بعد إسقاطهما ردوا أيضا في ست وثلاثين زائدا على العشرين والمائة بنت اللبون، فإن قالوا منعنا عن ذلك قوله عليه السلام في كل خمسين حقة قيل لهم فهلا منعكم من رد الغنم قوله عليه السلام؟ وفي كل أربعين بنت لبون - انتهى.

(11/207)


واحتج الحنفية أيضا بما روى ابن أبي شيبة (ج3 ص11) عن يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة يستقبل بها الفريضة - انتهى. ورواه البيهقي (ج4 ص92) بلفظ: إذا زادت على عشرين ومائة فبحساب ذلك ليستأنف بها الفرائض. قال الحافظ في الدراية: إسناده حسن إلا أنه اختلف على أبي إسحاق - انتهى. ورواه أبوعبيد (ص363) بلفظ استؤنف بها الفريضة بالحساب الأول. وأجيب عنه بما قال البيهقي (ج4 ص92) قد أنكر أهل العلم هذا على عاصم بن ضمرة لأن رواية عاصم بن ضمرة عن علي خلاف كتاب آل عمرو بن حزم، وخلاف كتاب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال: في (ص93) واستدلوا على خطأه بما فيه من الخلاف للروايات المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الصدقات. وقال: في (ص94) بعد ما روى من طريق عاصم بن ضمرة، والحارث عن علي في خمس وعشرين خمس من الغنم، فإذا زادت واحدة ففيها بنت مخاض ما لفظه وفيه وفي كثير من الروايات عنه في خمس وعشرين خمس شياه. وقد أجمعوا على ترك القول به لمخالفة عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي الروايات المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر في الصدقات في ذلك، كذلك رواية من روى عنه الاستئناف مخالفة لتلك الروايات المشهورة مع ما في نفسها من الاختلاف والغلط وطعن أئمة أهل النقل فيها، فوجب تركها والمصير إلى ما هو أقوى منها - انتهى. ونقل الخطابي في المعالم عن ابن المنذر أنه قال ليس هذا القول بثابت عن علي. قلت: وروى البيهقي (ج4 ص93) من طريق شريك وشعبة وابن حزم (ج6 ص38) من طريق معمر كلهم عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال: إذا زادت على عشرين ومائة ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين ابنة لبون موافقا للروايات المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحازمي في كتاب الاعتبار: (ص10) الوجه

(11/208)


الثامن عشر من الترجيحات أن يكون أحد الحديثين قد اختلفت الرواية فيه والثاني لم يختلف فيه فيقدم الذي لم يختلف فيه، وذلك نحو ما رواه أنس في زكاة الإبل إذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة. وهو حديث مخرج في الصحيح من رواية ثمامة عن أنس، ورواه عن ثمامة ابنه عبدالله وحماد بن سلمة ورواه عنهما جماعة كلهم، قد اتفقوا عليه من غير اختلاف بينهم، ثم ذكر الاختلاف في رواية أبي إسحاق عن عاصم عن علي ثم قال: فحديث أنس لم تختلف الرواية فيه وحديث علي اختلفت الرواية فيه كما ترى، فالمصير إلى حديث أنس أولى للمعنى الذي ذكرناه على أن كثيرا من الحفاظ أحالوا الغلط في حديث علي على عاصم وإذا تقابلت حجتان فما سلم منهما من المعارض كان أولى كالبينات إذا تقابلت فإن الحكم فيها كذلك - انتهى. وقال الشافعي: بعد ذكر رواية شريك عن أبي إسحاق موافقا لحديث أنس كما قدمنا وبهذا نقول، وهو موافق للسنة وهم يعني بعض العراقيين لا يأخذون بهذا فيخالفون ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها فإذا بلغت خمسا ففيها شأة. ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها

(11/209)


وأبي بكر وعمر والثابت عن علي عندهم إلى قول إبراهيم (النخعي) وشيء يغلط به عن علي رضي الله عنه - انتهى. وقد تصدى الحنفية وتمحلوا الإثبات إن رواية سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي مسنده مرفوعة، وقد رد عليهم ابن حزم فأجاد من أحب الوقوف عليه رجع إلى المحلى (ج6 ص37- 38). واحتجوا أيضا بما روى الطحاوي عن خصيف عن أبي عبيدة وزيادة بن أبي مريم عن ابن مسعود قال: فإذا بلغت العشرين ومائة استقبلت الفريضة بالغنم في كل خمسين شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين ففرائض الإبل. قال الزيلعي: واعترضه البيهقي بأنه موقوف ومنقطع بين أبي عبيدة وزيادة وبين ابن مسعود قال وخصيف غير محتج به - انتهى. وأخرج عن إبراهيم النخعي نحوه انتهى، كلام الزيلعي. وقد ظهر بما حررنا فساد قول الحنفية وخلافهم للروايات المرفوعة المشهورة ولأبي بكر وعمر وعلي وأنس وابن عمر وسائر الصحابة والتابعين دون أن يتعقلوا برواية صريحة صحيحة عن أحد منهم بمثل قولهم إلا عن إبراهيم النخعي وحده هذا. وقد ذهب ابن جرير إلى أنه يتخير بين الاستيناف وعدمه. قال الخطابي في المعالم: (ج2 ص21) وقال محمد بن جرير الطبري: هو مخير إن شاء إستأنف الفريضة إذا زادت الإبل على مائة وعشرين، وإن شاء أخرج الفرائض لأن الخبرين جميعا قد رويا - انتهى. ثم رد عليه الخطابي (ومن لم يكن معه) أي في ملكه (إلا أربع من الإبل فليس) عليه (فيها) أي في إبله الأربع (صدقة إلا أن يشاء ربها) أي مالكها وصاحبها أن يتبرع ويتطوع بها يعني يخرج عنها نفلا منه وإلا فلا واجب عليه فهو استثناء منقطع ذكر لدفع توهم نشأ من قوله فليس فيها صدقة، إن المنفي مطلق الصدقة لاحتمال اللفظ له وإن كان غير مقصود، وفيه دليل على أن ما دون خمس من الإبل لا زكاة فيه وهذا بالإجماع. (ومن بلغت عنده من الإبل) قال القاري: يتعين أن "من" زائدة على مذهب الأخفش داخلة على الفاعل أي ومن بلغت إبله (صدقة الجذعة) بالنصب

(11/210)


والإضافة قال الطيبي: أي بلغت الإبل نصابا يجب فيه الجذعة - انتهى. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة برفع "صدقة" بتنوينها ونصب "الجذعة" وفي نسخة بالإضافة. وقال العيني: قوله "صدقة الجذعة" كلام إضافي مرفوع، لأنه فاعل بلغت (وليست عنده جذعة) أي والحال إن الجذعة ليست موجودة عنده (وعنده حقة) أي والحال إن الموجودة عنده حقة (فإنها) أي القصة أو الحقة أو ضمير مبهم (تقبل منه الحقة) تفسير، أي تقبل الحقة من المالك من الزكاة، وقوله فإنها" الخ خبر المبتدأ الذي هو من بلغت (ويجعل) ضميره راجع إلى من (معها) أي مع الحقة
شأتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما.

(11/211)


(شأتين) بصفة الشأة المخرجة عن خمس من الإبل. قال ابن حجر: ذكرين أو أنثيين أو أنثى، وذكر من الضأن مالها السنة، ومن المعز مالها سنتان. وقال ابن قدامة (ج2 ص578) ولا يجزيء في الغنم المخرجة في الزكاة إلا الجذع من الضأن والثني من المعز، وكذلك شاة الجبران وأيهما أخرج أجزأه، ولا يعتبر كونها من جنس غنمه ولا جنس غنم البلد، لأن الشأة مطلقة في الخبر الذي ثبت به وجوبها وليس غنمه ولا غنم الولد سببا لوجوبها، فلم بتقييد بذلك كالشأة الواجبة في الفدية وتكون أنثى، فإن أخرج ذكرا لم يجزئه. لأن الغنم الواجبة في نصبها إناث، ويحتمل أن يجزئه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أطلق لفظ الشأة فدخل فيه الذكر والأنثى، ولأن الشأة إذا تعلقت بالذمة دون العين أجزأ فيها الذكر كالأضحية (إن استيسرتا له) أي وجدتا في ماشيته، يقال تيسر واستيسر بمعنى (أو عشرين درهما) أو يجعل عشرين درهما فضة من النقرة. قال الخطابي: فيه من الفقه إن كل واحدة من الشأتين والعشرين الدرهم أصل في نفسه ليست ببدل، وذلك لأنه قد خيره بينهما بحرف أو. وقد اختلف الناس في ذلك فذهب إلى الظاهر الحديث إبراهيم النخعي والشافعي وأحمد وأصحاب الحديث والظاهرية وذهب سفيان الثوري إلى ما روى عن علي أنه يرد عشرة دراهم أو شاتين. قال ابن حزم (ج6 ص23) وروى أيضا عن عمر رضي الله عنه وإليه ذهب أبوعبيد (ص368). وقال مالك: لا يعطي إلا ما وجب عليه بأن يبتاع للساعي والسن الذي يجب له، ولا يعطي سنا مكان سن برد شاتين أو عشرين درهما. وقال أبوحنيفة: يأخذ قيمة السن الذي وجب عليه، وإن شاء أخذ الفضل منها ورد عليه فيه دراهم، وإن شاء أخذ دونها وأخذ الفضل دراهم، ولم يعين عشرين درهما ولا غيرها فجبران ما بين السنين غير مقدر عنده ولكنه بحسب الغلاء والرخص. وحمل هذا الحديث على أن تفاوت ما بين السنين كان ذلك القدر في تلك الأيام لا أنه تقدير شرعي، بدليل ما روى عن علي رضي الله عنه

(11/212)


أنه قدر جبران ما بين السنين بشأتين أو عشرة دراهم. وفيه أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأنه لو قدر تفاوت ما بين السنين بشيء، أدى إلى الأضرار بالفقراء أو الإجحاف بأرباب الأموال فالواجب هو تفاوت القيمة لا تعيين ذلك. واستدل به على جواز أداء القيم من العروض وغيرها بدل الزكاة الواجبة وإن كان المأمور بأخذ ممكنا وأجاب الجمهور الذين لم يقولوا بجواز أداء القيم في الزكاة عن ذلك، بأنه لو كان كذلك لكان ينظر إلى ما بين السنين في القيمة، فكان العرض يزيد تارة وينقص أخرى لاختلاف ذلك في الأمكنة والأزمنة، فلما قدر الشارع التفاوت بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص كان ذلك هو الواجب في الأصل في مثل ذلك. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص22): وأصح هذه الأقاويل قول من ذهب إلى أن كل واحد من الشأتين والعشرين الدرهم أصل في نفسه، وإنه ليس له أن يعدل عنهما إلى القيمة،
ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطي شاتين أو عشرين درهما. ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. ومن بلغت صدقته بنت صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين.

(11/213)


ولو كان للقيمة، فيها مدخل لم يكن لنقله الفريضة إلى سن فوقها وأسفل منها ولا لجبران النقصان فيهما بالعشرين أو بالشأتين معنى قال: ويشبه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل الشاتين أو العشرين الدرهم تقديرا في جبران النقصان والزيادة بين السنين ولم يكل الأمر في ذلك إلى اجتهاد الساعي وإلى تقديره. لأن الساعي إنما يحضر الأموال على المياه، وليس بحضرته حاكم ولا مقوم يحمله، ورب المال عند اختلافها على قيمة يرتفع بها الخلاف وتنقطع معها مادة النزاع، فجعلت فيها قيمة شرعية كالقيمة في المصراة والجنين حسما لمادة الخلاف مع تعذر الوصول إلى حقيقة العلم بما يجب فيها عند التعديل، يعني فضبطه بشيء يرفع التنازع كالصاع في المصراة والغرة في الجنين (ومن بلغت عنده صدقة الحقة) أي وجبت الحقه عليه من أجل إن كانت الإبل ستا وأربعين (وليست عنده) أي في ملكه (الحقة وعنده الجذعة) الواو للحال (فإنها تقبل منه الجذعة) عوضا عن الحقة، وإن كانت الجذعة زائدة على ما لم يلزمه فلا يكلف تحصيل ما ليس عنده، وقوله "الجذعة" بدل من الضمير الذي هو اسم "إن" أو فاعل "تقبل" فالضمير للقصة (ويعطيه المصدق) بضم الميم وتخفيف الصاد وكسر الدال كمحدث، أخذ الصدقة وهو الساعي الذي يأخذ الزكاة (عشرين درهما أو شاتين) كما سلف في عكسه. قال في التوضيح: وعندنا إن الخيار في الشأتين والدراهم لدافعها سواء كان المالك أو الساعي، وفي قول إن الخيرة إلى الساعي مطلقا، فعلى هذا إن كان هو المعطى راعي المصلحة للمساكين (فإنها تقبل منه بنت لبون) إعرابه كما سبق (ويعطي) أي رب المال (شأتين أو عشرين درهما) قال الطيبي: فيه دليل على أن الخيرة في الصعود والنزول من السن الواجب إلى المالك - انتهى. وعلل بأنهما شرعا تخفيفا له ففوض الأمر إلى اختباره (ومن بلغت صدقته بنت لبون) بنصب "بنت" على المفعولية (ويعطيه) أي رب المال (المصدق) أي العامل (عشرين درهما أو

(11/214)


شاتين) مقابل ما زاد عنده (وليست عنده) أي والحال إن بنت اللبون ليست موجودة عنده (ويعطي) أي رب المال (معها) أي مع بنت المخاض ومعها حال مما بعده لأنه صفة له تقدم عليه (عشرين درهما) قال الطيبي: أي عشرين درهما
ومن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت لبون، فانها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه وليس معه شيء.
كائنا مع بنت المخاض، فلما قدم صار حالا (ومن بلغت صدقته) بالرفع (بنت مخاض) بالنصب على المفعولية (وليست) أي بنت مخاض (عنده وعند بنت لبون فإنها تقبل منه) أي من مالك (ويعطيه المصدق) أي الساعي (عشرين درهما أو شاتين) فيه دليل على أن جبر كل مرتبة بشأتين أو عشرين درهما. وجواز النزول والصعود من الواجب عند فقده إلى سن آخر يليه، والخيار في الشأتين والدراهم لدافعها، سواء كان مالكا أو ساعيا وفي الصعود والنزول للمالك في الأصح (فإن لم يكن) بالتذكير وفي بعض النسخ بالتأنيث (عنده) أي المالك (بنت مخاض على وجهها) بأن فقدها حسا أو شرعا قاله القاري: قيل: أي على وجهها المفروض (فأنه يقبل منه) أي بدلا من بنت مخاض وإن كان أقل قيمة منها ولا يكلف تحصيلها (وليس معه شئ) أي لا يلزمه مع ابن لبون شئ آخر من الجبران. قال ابن الملك تبعا للطيبي: وهذا يدل على أن فضيلة الأنوثة تجبر بفضل السن. وقال الخطابي: هذا دليل على أنه ابنة المخاض مادامت موجودة، فان ابن اللبون لا يجزيء عنها وموجب هذا الظاهر أنه يقبل منه سواء كانت قيمته قيمة ابنة المخاض أو لم يكن، ولو كانت القيمة مقبولة لكان الأشبه أن يجعل بدل ابنة مخاض قيمتها دون أن يؤخذ الذكران من الإبل فان سنة الزكاة قد جرت بأن لا يؤخذ فيها إلا الإناث إلا ما جاء في البقر من التبيع - انتهى. وفيه دليل على أن ابن اللبون يجزىء عن بنت المخاض عند عدمها. وهو أمر متفق عليه لا خلاف في

(11/215)


ذلك عند الأئمة، حكى هذا الإجماع جمع من الشراح كالباجي والحافظ والزرقاني وابن قدامة وابن رشد، لكن المدار عند الحنفية على القيمة وعليه حملوا الحديث بأن ابن اللبون كانت قيمته مساوية لقيمة بنت المخاض في ذلك الزمان، فعند الحنفية لا يتعين أخذ ابن اللبون خلافا لمن عداهم من أهل العلم فانه يتعين عندهم أخذه وهو الحق والصواب. ولو لم يجد واحدا منهما لا بنت مخاض ولا ابن لبون يتعين شراء بنت مخاض، وهو قول مالك وأحمد. والأصح عند الشافعية إن له أن يشتري أيهما شاء. قال ابن قدامة (ج2:ص580) في شرح قول الخرقي: "فان لم يكن فيها ابنة مخاض فابن لبون" أراد إن لم يكن في إبله ابنة مخاض أجزأه ابن لبون ولا يجزئه مع وجود ابنة مخاض، لأنه صلى الله عليه وسلم شرط في إخراجه عدمها فان اشتراها وأخرجها جاز وإن أراد إخراج ابن لبون بعد شراءها لم يجز، لأنه صار في إبله بنت مخاض. فان لم يكن في إبله ابن لبون وأراد الشراء لزمه شراء بنت مخاض، وهذا قول مالك. وقال الشافعي: يجزئه شراء ابن لبون لظاهر الخبر وعمومه، ولنا أنهما استويا في
وفي صدقة الغنم

(11/216)


العدم فلزمته بنت مخاض كما لو استويا في الوجود. والحديث محمول على وجوده لأن ذلك للرفق به أغناء له عن الشراء، ومع عدمه لا يستغنى عن الشراء فكان شراء الأصل أولى على أن في بعض ألفاظ الحديث. "فمن لم يكن عنده ابنة مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شئ" فشرط في قبوله وجوده وعدمها وهذا في حديث أبي بكر وإن لم يجد إلا ابنة مخاض معيبة فله الانتقال إلى ابن لبون لقوله في الخبر "فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها" ولأن وجودها كعدمها لكونها لا يجوز إخراجها، فأشبه الذي لا يجد إلا ما لا يجوز الوضوء به في انتقاله إلى التيمم. وإن وجد ابنة مخاض أعلى من صفة الواجب لم يجزه ابن لبون لوجود بنت مخاض على وجهها، ويخير بين إخراجها وبين شراء بنت مخاض على صفة الواجب. ولا يخير بعض الذكورية بزيادة سن في غير هذا الموضع ولا يجزيه أن يخرج عن ابن لبون حقا، ولا عن الحقة جذعا لعدمهما ولا وجودهما. وقال القاضي وابن عقيل: يجوز ذلك مع عدمهما لأنهما أعلى وأفضل فيثبت الحكم فيهما بطريق التنبيه، ولنا أنه لا نص فيهما ولا يصح قياسهما على ابن لبون مكان بنت مخاض، لأن زيادة سن ابن لبون على بنت مخاض يمتنع بها من صغار السباع ويرعى الشجر بنفسه ويرد الماء، ولا يوجد هذا في الحق مع بنت لبون لأنهما يشتركان في هذا، فلم يبق إلا مجرد السن فلم يقابل إلا بتوجيه. وإن أخرج عن الواجب سنا أعلى من جنسه مثل أن يخرج بنت لبون عن بنت مخاض وحقه عن بنت لبون، أو بنت مخاض، أو أخرج عن الجذعة ابنتي لبون، أو حقتين جاز. لا نعلم فيه خلافا، لأنه زاد على الواجب عن جنسه ما يجزى عنه مع غيره فكان مجزئا عنه على انفراده كما لو كانت الزيادة في العدد. ثم ذكر حديث أبي ابن كعب في قبوله صلى الله عليه وسلم: ناقة فتية سمينة عظيمة عن ابنة مخاض حين تطوع بها صاحبها، وقوله صلى الله عليه وسلم: ذاك الذي وجب عليك فان تطوعت بخير اجزل الله فيه وقبلناه

(11/217)


منك، أخرجه أحمد وأبوداود. ثم قال ابن قدامة: وهكذا الحكم إذا أخرج أعلى من الواجب في الصفة. وإن عدم السن الواجبة والتي تليها كمن وجبت عليه جذعة فعدمها وعدم الحقة أو وجبت عليه حقة فعدمها وعدم ابنة اللبون فقال القاضي: يجوز أن ينتقل إلى السن الثالث مع الجبران فيخرج ابنة اللبون في الصورة الأولى، ويخرج معها أربعة شياه أو أربعين درهما، ويخرج ابنة مخاض في الثانية ويخرج معها مثل ذلك وذكر إن أحمد أومأ إليه وهذا قول الشافعي. وقال أبوالخطاب: لا ينتقل إلا إلى سن تلي الواجب فأما إن انتقل من حقه إلى بنت مخاض، أو من جذعة إلى بنت لبون لم يجز، لأن النص ورد بالعدول إلى سن واحد فيجب الاقتصار عليها كما اقتصرنا في أخذ الشياه عن الإبل على الموضع الذي ورد به النص، هذا قول ابن المنذر (وابن حزم) ثم ذكر ابن قدامة وجه القول الأول (وفي صدقة الغنم) خبر مقدم والغنم بفتحتين الشاء لا واحد لها من لفظها،
في سائمتها

(11/218)


وإنما يقول للواحد شاة وهو اسم جنس يقع على الذكور والإناث ويعم الضان والمعز. قال ابن الهمام: سمي به لأنه ليس له آلة الدفاع فكانت غنيمة لكل طالب والشأة تذكر وتؤنث وأصلها شاهة، لأن تصغيرها شويهة، والجمع شياه بالهاء إلى العشر يقال ثلث شياه فإذا جاوزت العشر فبالتاء (في سائمتها) أي راعيتها لا المعلوفة في الأهل، قال القسطلاني: وفي سائمتها كما قاله في شرح المشكاة بدل على من الغنم بإعادة الجار والمبدل في حكم الطرح فلا يجب في مطلق الغنم شئ، وهذا أقوى في الدلالة من أن لو قيل ابتداء في سائمة الغنم أو في الغنم السائمة، لأن دلالة البدل على المقصود بالمنطوق ودلالة غيره عليه بالمفهوم، وفي تكرار الجار أشار إلى أن للسوم في هذا الجنس مدخلا قويا وأصلا يقاس عليه بخلاف جنسي الإبل والبقر- انتهى. والسائمة هي التي ترعى ولا تعلف في الأهل، والمراد السوم، لقصد الدر والنسل فلو اسيمت الابل أو البقر أو الغنم للحمل أو الركوب أو اللحم فلا زكاة فيها وإن اسيمت للتجارة ففيها زكاة التجارة، وإن كانت أقل من النصاب إذا سادت مائتي درهم. والمعتبر عند أحمد وأبي حنيفة السوم في أكثر الحول لأن اسم السوم لا يزول بالعلف اليسير. ولأن العلف اليسير لا يمكن التحرز عنه فاعتباره في جميع السنة يسقط الزكاة بالكلية سيما عند من يسوغ له الفرار من الزكاة، فإنه إذا أراد إسقاط الزكاة يوما فأسقطها بالإسامة، ولأن الضرورة تدعو إليه في بعض الأحيان. ولأن هذا وصف معتبر في رفع الكلفة في الزرع والثمار، واعتبر الشافعي السوم في جميع الحول فلا تجب الزكاة فيها إذا لم تكن سائمة في جميع السنة. وفي الحديث دليل على أن الزكاة إنما تجب في الغنم إذا كانت سائمة، فأما المعلوفة فلا زكاة فيها، ولذلك لا تجب الزكاة في عوامل البقر والابل عند عامة أهل العلم، وإن كانت سائمة، وأوجبها مالك في عوامل البقر والابل. قال الزرقاني: لا خلاف في وجوب زكاة السائمة،

(11/219)


واختلف في المعلوفة فقال مالك والليث: فيها الزكاة رعت أم لا، لأنها سائمة في صفتها والماشية كلها سائمة ومنعها من الرعي لا يمنع تسميتها سائمة، والحجة عموم أقواله صلى الله عليه وسلم: في الزكاة لم يخص سائمة من غيرها وقال سائر فقهاء الأمصار: لا زكاة في غير السائمة منها، وروى عن جمع من الصحابة. وقال ابن قدامة (ج2:ص576) وفي ذكر السائمة احتراز من العلوفة والعوامل فإنه لا زكاة فيها عند أكثر أهل العلم، وحكى عن مالك في الإبل النواضح والعلوفة الزكاة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في كل خمس شأة، قال أحمد: ليس في العوامل زكاة وأهل المدينة يرون فيها الزكاة، وليس عندهم في هذا أصل. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في كل سائمة في كل أربعين بنت لبون في حديث بهز بن حكيم فقيده بالسائمة، فدل على أنه لا زكاة في غيرها وحديثهم مطلق فيحمل على المقيد، ولأن وصف النماء معتبر في الزكاة والمعلوفة يستغرق علفها نماءها، إلا أن يعدها للتجارة فيكون فيها زكاة التجارة - انتهى. وقال العيني (ج9:ص22) وحجة من اشتراط السوم كتاب الصديق وحديث عمرو بن حزم مثله وشرطه في الإبل حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا، في كل سائمة
إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شأة. فإذا زادت عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان. فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة، ففيها ثلاث شياه. فإذا زادت على ثلاث مائة ففي كل مائة شأة.

(11/220)


من كل أربعين من الإبل بنت لبون رواه أبوداود والنسائي والحاكم، وقال صحيح الإسناد. وقد ورد تقييد السوم وهو مفهوم الصفة والمطلق يحمل على المقيد إذا كانا في حادثة واحدة، والصفة إذا قرنت بالاسم العلم تنزل منزل العلة لا يجاب الحكم، ثم ذكر العيني أحاديث نفي الصدقة عن العوامل. وقال الخطابي في المعالم (ج2:ص25) فيه دليل على أن لا زكاة في المعلوفة من الغنم، لأن الشيء إذا كان يعتوره وصفان لازمان فعلق الحكم بأحد وصفيه كان ما عداه بخلافه وكذلك هذا في عوامل البقر والإبل قال الأمير اليماني: البقر لم يأت فيها ذكر السوم وإنما قاسوها على الإبل والغنم (إذا كانت) أي غنم الرجل، وفي رواية إذا بلغت (شأة) مبتدأ مؤخر "وفي صدقة الغنم" خبره وقيل: قوله"في صدقة الغنم" يتعلق بفرض أو كتب مقدرا أي فرض في صدقتها شاة أو كتب في شأن صدقة الغنم هذا، وهو إذا كانت أربعين إلى آخره، وحينئذ يكون "شأة" خبر مبتدأ محذوف أي فزكاتها شاة، أو بالعكس أي ففيها شاة (فإذا زادت) غنمه (على عشرين ومائة) واحدة فصاعدا ففي كتاب عمر، فإذا كانت أحدى وعشرين حتى تبلغ مائتين ففيها شاتان، وقد تقدم قول الاصطخري في ذلك والتعقب عليه (إلى مائتين ففيها شاتان) كذا في جميع النسخ للمشكاة وفي المصابيح،وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول والمجد في المنتقي والحافظ في البلوغ وكذا وقع عند أبي داود والنسائي وغيرهما والذي في البخاري "إلى مائتين شاتان" أي بإسقاط لفظه "ففيها" وهكذا نقله الزيلعي في نصب الراية عن البخاري، وعلى هذا فقوله "شاتان" مرفوع على الخبرية أي فزكاتها شاتان أو الإبتدائية أي فيها شاتان (فإذا زادت) غنمه (على مائتين) ولو واحدة (إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه فإذا زادت ) غنمه (على ثلاث مائة) مائة أخرى لا دونها (ففي كل مائة شاة) ففي أربع مائة أربع شياه وفي خمس مائة خمس وفي ست مائة ست. وهكذا قال الخطابي: قوله "فإذا زادت على ثلاث مائة" الخ.

(11/221)


إنما معناه أن يزيد مائة أخرى فيصير أربع مائة، وذلك لأن المائتين لما توالت إعدادها حتى بلغت ثلاث مائة وعلقت الصدقة الواجبة فيها بمائة مائة. ثم قيل: فإذا زادت عقل إن هذه الزيادة اللاحقة بها إنما هي مائة لا ما دونها وهو قول عامة الفقهاء الثوري وأصحاب الرأي وقول الحجازيين مالك والشافعي وغيرهم. وقال الحافظ: وهو قول الجمهور قالوا وفائدة ذكر الثلاث مائة لبيان النصاب الذي بعده لكون ما قبله مختلفا، وعن بعض الكوفيين كالحسن بن صالح بن حي ورواية عن أحمد إذا زادت على الثلاث مائة واحدة وجبت الأربع - انتهى. واعلم إن مسألة نصاب الغنم من أوله إلى ثلاث مائة إجماعية حكى الإجماع عليها ابن المنذر وابن رشد وابن قدامة والعيني وغيرهم. قال ابن قدامة (ج2:ص597) إذا ملك أربعين من الغنم فأسامها أكثر السنة ففيها
فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها. ولا تخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار

(11/222)


شأة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه وهذا كله مجمع عليه قاله ابن المنذر - انتهى. واختلفوا فيما زاد على ثلاث مائة قال ابن قدامة تحت قول الخرقي:"فإذا زادت ففي كل مائة شاة شأة" ظاهر هذا القول إن الفرض لا يتغير بعد المائتين وواحدة حتى يبلغ أربع مائة فيجب في كل مائة شاة ويكون الوقص ما بين المائتين وواحدة إلى أربع مائة وذلك مائة وتسعة وتسعون وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وقول أكثر الفقهاء. وعن أحمد رواية أخرى، إنها إذا زادت على ثلاث مائة واحدة ففيها أربع شياه ثم لا يتغير الفرض حتى تبلغ خمس مائة فيكون في كل مائة شاة، ويكون الوقص الكبير بين ثلاث مائة وواحدة إلى خمس مائة وهو أيضا مائة وتسعة وتسعون وهذا إختيار أبي بكر. وحكى عن النخعي والحسن بن صالح لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلاث مائة حدا للوقص وغاية له، فيجب أن يتعقبه تغير النصاب كالمائتين، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم "فإذا زادت ففي كل مائة شأة" وهذا يقتضي أن لا يجب في دون المائة شئ وفي كتاب الصدقات الذي كان عند آل عمر بن الخطاب، فإذا زادت على ثلاث مائة واحدة فليس أخرج معناه أبوعبيد (ص386) وابن أبي شيبة فيها شئ حتى تبلغ أربع مائة شاة ففيها أربع شياه، وهذا نص لا يجوز خلافه إلا بمثله أو أقوى منه وتحديد النصاب لاستقرار الفريضة لا للغاية - انتهى. (فإذا كانت سائمة الرجل) وكذا المرأة (ناقصة) خبر"كانت" (من أربعين شأة) تمييز (واحدة) بالنصب على نزع الخافض أي بواحدة، أو على أنه مفعول ناقصة أي إذا كان عند الرجل سائمة تنقص واحدة من أربعين فلا زكاة عليه فيها وبطريق الأولى إذا نقصت زائدا على ذلك ويحتمل أن يكون شاة مفعول ناقصة وواحدة وصف لها والتمييز محذوف للدلالة عليه وروى بشأة واحدة بالجر (فليس فيها) أي في الناقصة عن الأربعين (صدقة) واجبة (إلا أن يشاء ربها) أن يتطوع ويخرج

(11/223)


الصدقة نفلا كما سلف (ولا تخرج) على بناء المجهول وفي رواية لا يؤخذ (في الصدقة) المفروضة أي الزكاة (هرمة) بفتح الهاء وكسر الراء أي كبيرة سقطت أسنانها. وقال الجزري: الكبيرة، الطاعنة في السن، وقال التوربشتي: أراد التي نال منها كبر السن وأضربها (ولا ذات عوار) بفتح العين المهملة وبضمها أي معيبة وقيل: بالفتح العيب، وبالضم العور في العين، واختلف في ضبطها فالأكثر على أنه ما يثبت به الرد في البيع. وقيل: ما يمنع الأجزاء في الأضحية ويدخل في المعيب المريض والذكورة بالنسبة إلى الأنوثة والصغير سنا بالنسبة إلى سن أكبر منه كذا في الفتح.وقال الجزري: بفتح العين وبضم أي صاحبة عيب ونقص. قال ابن حجر: فهو من عطف العام على الخاص إذا العيب يشمل المرض والهرم وغيرهما. قال ابن الملك: هذا إذا كان كل ماله أو بعضه سليما فإن كان
ولا تيس، إلا ما شاء المصدق.

(11/224)


كله معيبا فإنه يأخذ واحدا من وسطه (ولا تيس) وفي رواية ولا تيس الغنم وهو بفتح التاء الفوقية وسكون التحتية بعدها سين مهملة أي فحل الغنم المعد لضرابها قال في القاموس: هو الذكر من الظباء والمعز والوعول أو إذا أتى عليه سنة. وقال الباجي: التيس الذكر من المعز وهو الذي لم يبلغ حد الفحولة فلا منفعة فيه لضراب ولا لدر ولا نسل وبنحوه فسره الإمام مالك كما في المدونة قال العيني: معناه إذا كانت ماشيته كلها أو بعضها إناثا لا يؤخذ منه الذكر إنما تؤخذ الأنثى إلا في موضعين وردت بهما السنة. أحدهما: أخذ التبيع من ثلاثين من البقر. والآخر: أخذ ابن اللبون من خمس وعشرين من الإبل بدل بنت مخاض عند عدمها، وأما إذا كانت ماشيته كلها ذكورا فيؤخذ الذكر. وقال الخطابي: إنما لا يؤخذ التيس لأنه مرغوب عنه لنتنه وفساد لحمه. وقيل: لأنه ربما يقصد به المالك منه الفحولة فيتضرر بإخراجه (إلا أن يشاء المصدق) اختلف في ضبطه ومصداقه، فقيل: المراد به رب الماشية لا الساعي، وعلى هذا هو إما بتخفيف الصاد وفتح الدال المشددة، وهذا اختيار أبي عبيد أي الذي أخذت صدقة ماله، أو بتشديد الصاد والدال معا وكسر الدال، وأصله المتصدق فأدغمت التاء بعد قلبها في الصاد. قال تعالى: ?إن المصدقين والمصدقات?[ الحديد:18] أو بتخفيف الصاد وكسر الدال المشددة اسم فاعل من قوله تعالى: ?فلا صدق ولا صلى?[القيامة: 31] قال الراغب: يقال صدق وتصدق وتقدير الحديث لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب أصلا ولا يؤخذ التيس إلا برضاك المالك لكونه يحتاج إليه ففي أخذه بغير اختياره أضرار به وعلى هذا فالاستثناء مختص بالثالث وهو التيس. وقيل: المراد به الساعي وعلى هذا هو بتخفيف الصاد وكسر الدال المشددة لا غير، وهذا هو المشهور في ضبطها وهو قول جمهور المحدثين وعامة الرواة كما قال الخطابي: أي العامل الذي يستوفي الزكاة من أربابها. قال في القاموس: المصدق كمحدث آخذ الصدقات – انتهى.

(11/225)


والاستثناء متعلق بالأقسام الثلاث ففيه إشارة إلى التفويض إلى إجتهاد العامل لكونه كالوكيل للفقراء فيفعل ما يرى فيه المصلحة، والمعنى لا تخرج كبيرة السن ولا المعيبة ولا التيس، إلا أن يرى العامل إن ذلك أفضل للمساكين فيأخذه نظرا لهم. قال الحافظ: وهذا أشبه بقاعدة الشافعي في تناول الاستثناء جميع ما ذكر قبله فلو كانت الغنم كلها معيبة أو تيوسا أجزأه أن يخرج منها، وعن المالكية، يلزم المالك أن يشتري شاة مجزئة تمسكا بظاهر هذه الحديث، وفي رواية أخرى عندهم كالأول - انتهى. وقيل: الاستثناء مخصوص بما إذا كانت المواشي كلها معيبة أو تيوسا. قال ابن قدامة: ج2:ص598) وعلى هذا أي ضبط المصدق بكسر الدال بمعنى العامل لا يأخذ المصدق وهو الساعي أحد هذه الثلاثة إلا أن يرى ذلك بأن يكون جميع النصاب من جنسه، فيكون له أن يأخذ من جنس المال فيأخذ هرمة من الهرمات، وذات عوار من أمثالها وتيسا من التيوس- انتهى. وهذا كله إذا كان الاستثناء متصلا. قال الطيبي: ويحتمل أن يكون منقطعا، والمعنى لا يخرج المزكي الناقص
ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة

(11/226)


والمعيب لكن يخرج ما شاء المصدق من السليم والكامل (لا يجمع) بضم أوله وفتح ثالثه، أي لا يجمع المالك والمصدق (بين متفرق) بتقديم التاء على الفاء من التفرق وفي رواية مفترق بتقديم الفاء على التاء من الافتراق (ولا يفرق) بضم أوله وفتح ثالثه مشدد، أو يخفف أي لا يفرق المالك والمصدق (بين مجتمع) بكسر الميم الثانية (خشية) منصوب على أنه مفعول لأجله متعلق بالفعلين على التنازع. ويحتمل أن يتعلق بفعل مقدر يعم الفعلين أي لا يفعل شيئا من ذلك خشية الصدقة، فيحصل المراد من غير تنازع (الصدقة) أي خشية وجوب الصدقة أو كثرتها هذا إن رجع إلى المالك وخشية سقوط الصدقة، أو قلتها إن رجع إلى المصدق فالنهى للمالك والساعي كليهما. والخشية خشيتان: خشية المالك أن يجب الصدقة أو تكثر، وخشية الساعي أن تسقط الصدقة أو تقل، وهذا إنما يقع في زكاة الخلطاء. قال الخطابي: قال الشافعي: الخطاب في هذا للمصدق ولرب المال معا، وقال ابن رشد في مقدماته: ذهب الشافعي إلى أن النهى فيه إنما هو للسعاة، وذهب مالك إلى أن النهى إنما هو لأرباب المواشي والصواب على عمومه لهما جميعا لا يجوز للساعي أن يجمع غنم رجلين أن لم يكونا خليطين على الخلطة ليأخذ أكثر من الواجب له، ولا أن يفرق غنم الخليطين فيزكيهما على الانفراد ليأخذ أكثر من الواجب له. وكذلك أرباب الماشية لا يجوز لهم إذا لم يكونوا خلطاء أن يقولوا نحن خلطاء ليؤدوا على الخلطة أقل مما يجب عليهم في الانفراد، ولا يجوز لهم إذا كانوا خلطاء أن ينكروا الخلطة ليؤدوا على الانفراد أقل مما يجب عليهم على الخلطة. وأما أبوحنيفة الذي لا يقول بالخلطة له (أي بخلطة الجوار) فيقول: المعنى في ذلك أنه لا يجوز للساعي أن يجمع ملك الرجلين فيزكيهما على ملك واحد مثل أن يكون للرجلين أربعون شاة فيما بينهما، ولا أن يفرق بملك الرجل الواحد فيزكيه على إملاك متفرقة مثل أن يكون له مائة وعشرون فلا يجوز له أن يجعلها ثلاثة

(11/227)


أجزاء - انتهى. قلت: ومثال جمع المالك بين المتفرق خشية كثرة الصدقة أي لتقليلها رجل ملك أربعين شاة فجمعها وخلطها بأربعين لغيره عنده حضور المصدق فرارا عن لزوم الشاة إلى نصفها، إذ عند الجمع والخلط يؤخذ من كل المال شاة واحدة فنهى عن ذلك. ومثال تفريق المالك خشية وجوب الصدقة، أي لإسقاطها رجل كان له عشرون شاة مخلوطة بمثلها لغيره ففرقها لئلا يكون نصابا فلا يجب شيء ومثال تفريقه أيضا خشية كثرتها رجل يكون له مائة شاة وشاة مخلوطة بمثلها لغيره فيكون عليهما عند الاجتماع والخلط ثلاثة شياه، ففرقا ما لهما لتقل الصدقة ويكون على كل واحد شاة فقط. ومثال جمع المصدق خشية سقوط الصدقة أي لايجابها أو خشية قلتها أي لتكثيرها، رجلان كان لهما أربعون شاة متفرقة، فجمعها وخلطها المصدق ليجب فيها الزكاة ويأخذ شأة، أو كان لكل واحد منهما مائة وعشرون، فجمع بينهما ليصير الواجب ثلاثة شياه. ومثال تفريق المصدق خشية قلة الصدقة، أي لتكثيرها ثلاثة خلطاء في مائة وعشرين شاة وواجبها عليهم شأة، ففرقها الساعي أربعين أربعين ليكون فيها، ثلاث شياه. والحاصل: إن الخلط في الجوار عند الجمهور
وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينما بالسوية،

(11/228)


مؤثر في زيادة الصدقة ونقصانها كخلطة الشيوع، لكن لا ينبغي لأرباب الأموال أن يفعلوا ذلك فرارا عن زيادة الصدقة ولا للسعاة أن يفعلوا ذلك لوجوب الصدقة أو زيادتها، وأما عند أبي حنيفة لا أثر للخلطة، فمعنى الحديث عنده على ظاهر النفي على أن النفي راجع إلى القيد. وحاصله نفي الخلط لنفي الأثر أي لا أثر للخلطة والتفريق في تقليل الزكاة وتكثيرها، أي لا يفعل شيء من ذلك خشية الصدقة إذ لا أثر له في الصدقة فيكون ذلك لغوا عبثا لا فائدة فيه كذا قرره السندي. ولا يخفى ما فيه من التكلف بل من إهمال الحديث، وحمله عامة الحنفية كالكاساني في البدائع وابن الهمام في فتح القدير وغيرهما على خلطة الشيوع كما حملوا عليها قوله "وما كان من خلطين الخ. قالوا: والمراد الجمع والتفريق في الملك لا في المكان، والخشية خشيتان: خشية الساعي، وخشية المالك، وكذا النهي نهيان النهي للساعي. عن جمع المتفرق، وعن تفريق المجتمع، والنهي للمالك عن جمع المتفرق، وعن تفريق المجتمع، مثال الأول: كخمس من الإبل بين اثنين أو ثلاثين من البقر أو أربعين من الغنم حال عليها الحول، وأراد الساعي أن يأخذ منها الصدقة ويجمع بين الملكين، ويجعلهما كملك واحد خشية فوت الصدقة، أي يعدهما كملك رجل واحد لأخذ الصدقة فليس له ذلك. ومثال الثاني: كرجل له ثمانون من الغنم في مرعتين مختلفتين أنه يجب عليه شاة واحدة ولو أراد الساعي أن يفرق المجتمع خشية قلة الصدقة كأنها لرجلين، فيأخذ منها شاتين ليس له ذلك، لأن الملك مجتمع فلا يملك الساعي تفريقة لتكثير الصدقد ومثال الثالث: كثمانين من الغنم بين اثنين حال عليها الحول، أنه يجب فيها شاتان على كل واحد منهما شأة، ولو أراد أن يجمعا بين الملكين فيجعلاهما ملكا واحدا خشية كثرة الصدقة، أي لتقليها، فيعطي الساعي شاة واحدة ليس لهما ذلك لتفرق ملكيهما فلا يملكان الجمع في الملك لأجل تقليل الزكاة. ومثال الرابع: كرجل، له أربعون من

(11/229)


الغنم في مرعتين مختلفتين تجب عليه الزكاة لأن الملك مجتمع فلا يجعلها كالمتفرقين في الملك، أي كأنها في ملك رجلين خشية وجوب الصدقة أي لإسقاطها. قلت: حمله على خلطة الشيوع وعلى الجمع والتفريق في الملك بعيدا جدا، فإن المتبادر من لفظ الجمع والتفريق هو ما كان في المكان أي بالمخالطة لا في الملك، فإنه لا يعبر عن جعل الملكين كملك واحد أو جعل الملك الواحد كملكين بالجمع بين المتفرق أو بالتفريق بين المجتمع. وقد اعترف بذلك صاحب فيض الباري حيث قال: وقع في الحنفية بحمله على خلطة الشيوع في بعد من ألفاظ الحديث فإن الجمع والتفريق لا يتبادر منه إلا ما كان بحسب المكان ولا يأتي هذا التعبير في الجمع والتفريق ملكا، ثم حمله على خلطة الجواز كما فعل السندي (وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية) ما، هنا تامة نكرة متضمنة معنى حرف الاستفهام، ومعناها أي شيء كان من خليطين فإنهما يترادان الفصل بينهما بالسوية على قدر عدد أموالهما كما سيأتي توضيحة. واعلم أن الخلطة بضم الخاء على نوعين: خلطة اشتراك، وخلطة جوار، وقد يعبر عن الأول بخلطة الأعيان وخلطة الشيوع، وعن الثاني بخلطة الأوصاف:

(11/230)


والمراد بالأول لا يتميز نصيب أحد الرجلين أو الرجال عن نصيب غيره، كما شيه ورثها قوم أو ابتاعوها معا. وبالثاني أن يكون مال كل واحد معينا متميزا، واختلف في المراد بالخليط في هذا الحديث فذهب أبوحنيفة إلى أنه الشريك، لأن الخليطين في اللغة العربية هما الشريكان اللذان اختلط ما لهما ولم يتميز كالخليطين من النبيذ، وما لم يختلط مع غيره فليسا بخليطين، وإذا تميز مال كل واحد منهما من مال الآخر فلا خلطة وذهب الجمهور: إلى أن المراد بالخليط المخالط وهو أعم من الشريك، وحكم الخليطين عندهم إن تصدق ما شيتهما كأنهما على رجل واحد، والخلطة عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت والحوض والفحل. واعترض على أبي حنيفة بأن الشريك لا يعرف عين ماله وقد قال: إنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ومما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكا قوله تعالى: ?وإن كثير من الخلطاء?[ص: 24] وقد بينه قبل ذلك بقوله: ?إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة?[ص: 23] واختلف أيضا في أن الخلطة مؤثرة في الزكاة أم لا، فذهب الجمهور إلى كونها مؤثرة. وقال أبوحنيفة: لا تأثير للخلطة سواء كانت خلطة شيوع واشتراك في الأعيان أو خلطة أوصاف وجوار في المكان فلا يجب على أحد الشريكين أو الشركاء إلا مثل الذي كان يجب عليه لو لم يكن خلط. وتعقبه ابن جرير: بأنه لو كان تفريقها مثل جمعها في الحكم لبطلت فائدة الحديث، وإنما نهي عن أمر لو فعله كانت فيه فائدة قبل النهي. ولو كان كما قال: لما كان لتراجع الخليطين بينهما بالسوية معنى. واعتذر بعضهم عن الحنفية بأن الأصل قوله - صلى الله عليه وسلم -. ليس فيما دون خمس ذود صدقة وحكم الخلطة يغير هذا الأصل فلم يقولوا به. ورد بأن ذلك مع الانفراد وعدم الخلطة، لا إذا انضم ما دون الخمس إلى عدد الخليط يكون به الجميع نصابا، فإنه يجب تزكية الجميع لهذا الحديث وما ورد في معناه ولا بد من الجمع بهذا. قال ابن قدامة (ج2

(11/231)


ص607) إن الخلطة في السائمة تجعل مال الرجلين كمال الرجلين الواحد في الزكاة سواء كانت خلطة أعيان، وهي أن تكون المشتركة بينهما لكل واحد منهما، منها نصيب أن يرثا نصابا أو يشترياه أو يوهب لهما فيبقياه بحاله أو خلطة أوصاف وهي أن يكون مال كل واحد منهما مميزا، فخلطاء واشتركا في الأوصاف التي نذكرها (يعني المسرح والمبيت والمحلب والمشرب والفحل) وسواء تساويا في الشركة أو اختلفا مثل أن يكون لرجل شاة ولآخر تسعة وثلاثون، أو يكون لأربعين رجلا أربعون شاة لكل واحد منهم شاة نص عليهما أحمد. وهذا قول عطاء (كما في البيهقي) والأوزاعي والشافعي والليث وإسحاق. وقال مالك: إنما تؤثر الخلطة إذا كان لكل واحد من الشركاء نصاب، وحكى ذلك عن الثوري وأبي الثور واختاره ابن المنذر. وقال أبوحنيفة: لا أثر لها بحال لأن ملك كل واحد دون النصاب فلم يجب عليه زكاة كما لو لم يختلط بغيره، ولأبي حنيفة فيما إذا اختلطا في نصابين، إن كل واحد

(11/232)


منهما يملك أربعين من الغنم فوجبت عليه السلام في أربعين شاة شاة. ولنا ما روي البخاري في حديث أنس لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع وما كان من خليطين الخ. ولا يجيء التراجع إلا على قولنا في خلطة الأوصاف وقوله "لا يجمع بين متفرق" إنما يكون هذا إذا كان لجماعة فإن الواحد يضم ماله بعضه إلى بعض وإن كان في أماكن، وهذا لا يفرق بين مجتمع. ولأن للخلطة تأثيرا في تخفيف المؤنة فجاز أن تؤثر في الزكاة كالسوم والسقي وقياسهم مع مخالفة النص غير مسموع - انتهى. وقال ابن رشد في البداية: (ج1 ص237) أكثر الفقهاء إن للخلطة تأثيرا في قدر الواجب من الزكاة، واختلف القائلون بذلك هل لها تأثير في قدر النصاب أم لا.وأما أبوحنيفة وأصحابه فلم يروا للخلطة تأثيرا، لا في قدر الواجب ولا في قدر النصاب. وتفسير ذلك إن مالكا والشافعي وأكثر فقهاء الأمصار اتفقوا على أن الخلطاء يزكون زكاة المالك الواحد. واختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما: في نصاب الخلطاء هل يعد نصاب مالك واحد سواء لكل واحد منهم نصاب أو لم يكن، أم إنما يزكون زكاة الرجل الواحد إذا كان لكل واحد منهم نصاب. والثاني: في صفة الخلطة التي لها تأثير في ذلك وأما اختلافهم أولا في، هل للخلطة تأثير في النصاب وفي الواجب، أوليس لها تأثير، فسبب اختلافهم في مفهوم ما ثبت في كتاب الصدقة من قوله عليه الصلاة والسلام. لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية، فإن كل واحد من الفريقين أنزل مفهوم هذا الحديث على اعتقاده، وذلك إن الذين رأوا للخلطة تأثيرا، إما في النصاب والقدر الواجب، أو في القدر الواجب فقط. قالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام "وما كان من خليطين" الخ وقوله "لا يجمع بين متفرق" الخ يدل دلالة واضحة إن ملك الخليطين كملك رجل واحد فإن هذا الأثر مخصص لقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة" إما في

(11/233)


الزكاة عند مالك وأصحابه أعنى في قدر الواجب وإما في الزكاة والنصاب معا عند الشافعي وأصحابه. وأما الذين لم يقولوا بالخلطة فقالوا: إن الشريكين قد يقال لهما خليطان، ويحتمل أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام. "لا يجمع بيم متفرق" الخ إنما هو نهي للسعاة أن يقسم ملك الرجل الواحدة قسمة توجب عليه كثرة الصدقة أو يجمع ملك رجل واحد إلى ملك رجل آخر حيث يوجب الجمع كثرة الصدقة. قالوا: وإذا كان هذا الاحتمال في هذا الحديث وجب إلا تخصص به الأصول الثابتة المجمع عليها أعنى أن النصاب والحق الواجب في الزكاة يعتبر بملك الرجل الواحد، وأما الذين قالوا بالخلطة فقالوا: إن لفظ الخلطة هو أظهر في الخلطة نفسها منه في الشركة. وإذا كان ذلك كذلك فقوله عليه الصلاة والسلام "فيهما أنهما يتراجعان بينهما بالسوية" مما يدل على أن الحق الواجب عليهما حكمه حكم رجل واحد. وعلى إن الخليطين ليسا بشريكين، لأن الشريكين ليس يتصور بينهما تراجع، إذ المأخوذ هو من مال الشركة، فمن اقتصر على هذا المفهوم ولم يقس عليه النصاب قال: الخليطان إنما يزكيان زكاة الرجل الواحد إذا كان لكل واحد منهما نصاب، ومن جعل حكم النصاب تابعا لحكم

(11/234)


الحق الواجب. قال: نصابهما نصاب الرجل الواحد كما أن زكاتهما زكاة الرجل الواحد. وأما القائلون بالخلطة فإنهم اختلفوا فيما هي الخلطة المؤثرة في الزكاة، فذكره ابن رشد مختصرا ثم قال: وسبب اختلافهم اشتراك اسم الخلطة، ولذلك لم يرقوم تأثيرا الخلطة في الزكاة وهو مذهب أبي محمد بن حزم الأندلسي- انتهى كلام ابن رشد مختصرا. قلت: الأصل في اعتبار أوصاف الخلطة هو ما رواه الدارقطني (ص204) وأبوعبيد (ص395) وابن حزم (ج6 ص55- 56) من طريق أبي عبيد عن سعد بن أبي وقاص. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي، وروى المرعى وهو حديث ضعيف تفرد به ابن لهيعة وأخطأ فيه، وانظر الكلام عليه في التلخيص (ص175) إذا تحققت هذا فاعلم أن معنى قوله "ما كان من خليطين" الخ على مذهب الجمهور، إن ما كان متميزا لأحد الخليطين من المال فأخذ الساعي من ذلك المتميز يرجع إلى صاحبه بحصته، بأن كان لكل عشرون شاة وأخذ الساعي من مال أحدهما يرجع إلى صاحب الأربعين بالثلثين، وإن أخذ منه يرجع على صاحب عشرين بالثلاث وهذا عند الشافعي. وأما عند مالك فهو كخليطين بينهما مائة شاة لأحدهما ستون وللآخر أربعون ففيها عليهما شاة واحدة يكون على صاحب الأربعين خمساها وعلى رب الستين ثلاثة أخماسها، فإن أخذ الساعي الشاة الواجبة من الأربعين، رجع صاحبها على صاحب الستين بقيمة ثلاثة أخماسها، وإن أخذها من الستين رجع صاحبها على صاحب الأربعين بخميسها. وعند أبي حنيفة الذي يحمل الخليط على الشريك ويقول بأن الخلطة غير مؤثرة، إذا كان المال بينهما على الشركة بلا تميز وأخذ الساعي الزكاة من المال المشترك، لأنه ليس عليه أن ينتظر قسمتهما لمالهما يجب التراجع بالسوية، أي يرجع كل منهما على صاحبه بقدر ما يساوي ماله، مثلا لأحدهما أربعون بقرة وللآخر ثلاثون والمال مشترك غير متميز فأخذ الساعي عن صاحب أربعين مسنة، وعن صاحب

(11/235)


ثلاثين تبيعا، وأعطى كل منهما من المال المشترك فيرجع صاحب أربعين، وهكذا كلما كانت الشركة بينهما على التفاوت فأخذ من أحدهما زيادة لأجل صاحبه فإنه يرجع على صاحبه بذلك القدر. وأما إذا كان المأخوذ حصة كل واحد منهما لا غير بأن كان المال بينهما على السوية فلا تراجع بينهما. لأن ذلك القدر وكان واجبا على كل واحد منهما بالسوية هذا، وقد بسط أبو عبيد (ص391، 400) وابن حزم (ج6 ص51و 59) الكلام في بيان معنى الجمع بين المتفرق والتفريق بين المجتمع وتراجع الخليطين، وذكر مذاهب العلماء ووافق أبوعبيد الشافعي وابن حزم الحنفية ورجح مذهبهم. قيل: وإليه ميل البخاري كما يظهر من ذكر أثر طاووس وعطاء وأثر سفيان الثوي في باب ما كان من خلطين فإنهما يتراجعان بالسوية وفيه نظر قوى، فإن قول طاووس
وفي الرقة ربع العشر،

(11/236)


وعطاء يدل على الفرق بين الخلطة الجوار وخلطة الشيوع، بأن الأولى غير مؤثرة والثانية مؤثرة وهذا قول مخالف للحنفية، فإنه لا تأثير للخلطة عندهم مطلقا على أنه روى البيهقي (ج4 ص106) من طريق عبدالرزاق عن ابن جريج. قال: سألت عطاء عن النفر الخلطاء لهم أربعون شاة قال عليهم شاة قلت فإن كانت لواحدة تسع وثلاثون، ولآخر شاة قال عليهما شاة وهذا كما ترى عين. مذهب الشافعي. وأما قول سفيان فهو موافق للمالكية لا للحنفية كما لا يخفى، وعلى هذا فما قيل إن البخاري وافق الحنفية بعيد عن الصواب. والقول الراجح عندنا: هو ما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه والله تعالى أعلم فائدة اختلف القائلون بتأثير الخلطة أنها هل تؤثر في غير السائمة من الزرع والثمار والعروض والنقدين أم لا، فقال الشافعي على ما ذكره ابن حزم: تؤثر في غير المواشي أيضا. وقالت المالكية والحنابلة وأبوعبيد والأوزاعي: لا تأثير لها في غير الماشية، وهذا هو الراجح عندي. قال ابن قدامة (ص619) إذا اختلطوا في غير السائمة كالذهب والفضة وعروض التجارة والزروع والثمار لم تؤثر خلطتهم شيئا وكان حكمهم حكم المنفردين وهذا قول أكثر أهل العلم، وعن أحمد رواية أخرى إن شركة الأعيان تؤثر في غير الماشية، فإذا كان بينهم نصاب يشتركون فيه فعليهم الزكاة وهذا قول إسحاق والأوزاعي في الحب والثمر، والمذهب الأول قال أبوعبدالله الأوزاعي يقول: في الزرع إذا كانوا شركاء فخرج لهم خمسة أوسق يقول فيه الزكاة قاسه على الغنم ولا يعجبني قول الأوزاعي. وأما خلطة الأوصاف فلا مدخل لها في غير الماشية بحال، لأن الاختلاط لا يحصل، وخرج القاضي وجها آخر إنها تؤثر لأن المؤنة تحف إذا كان الملقح واحدا والصعاد والناطور والجرين، وكذلك أموال التجارة والدكان واحد والمخزن والميزان والبائع فأشبه الماشية ومذهب الشافعي على نحو مما حكينا من مذهبنا، والصحيح إن الخلطة لا تؤثر في غير الماشية لقول النبي - صلى

(11/237)


الله عليه وسلم -. والخليطان ما اشتركا في الحوض والفحل والراعي فدل على أن ما لم يوجد فيه ذلك لا يكون خلطة مؤثرة، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة" إنما يكون في الماشية لأن الزكاة تقل بجمعها تارة وتكثر أخرى، وسائر الأموال تجب فيها فيما زاد على النصاب بحسابه فلا أثر لجمعها، ولأن الخلطة في الماشية تؤثر في النفع تارة وفي الضرر أخرى. ولو اعتبرنا في غير الماشية أثرت ضررا محضا برب المال فلا يجوز اعتبارها إذا ثبت هذا، فإن كان لجماعة حائط مشترك بينهم فيه ثمرة أو زرع فلا زكاة عليهم إلا أن يحصل في يد بعضهم نصاب كامل فيجب عليه، وعلى الرواية الأخرى إذا كان الخارج نصابا ففيه الزكاة - انتهى. (وفي الرقة) بكسر الراء وتخفيف القاف الفضة سواء كانت مضروبة وغير مضروبة، أصله ورق حذف منه الواو وعوض عنه التاء كما في عدة ودية. وقيل: هي الدرهم المضروبة (ربع العشر) بضم الأول وسكون الثاني وضمهما فيهما يعني إذا كانت الفضة مائتي درهم فربع العشر
فإن لم تكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها)). رواه البخاري.

(11/238)


خمسة دراهم، ومران الاقتصار عليها للغالب (فإن لم تكن) أي الرقة التي عنده (إلا تسعين) أي درهما (ومائة) أي دراهم، والمعنى إذا كانت الفضة ناقصة عن مائتى درهم (فليس فيها شيء) أي لا يجب إجماعا. في شرح السنة هذا يوهم إنها إذا زادت على التسعين والمائة شيئا قبل أن تتم مائتين كانت فيه الصدقة وليس الأمر كذلك، لأن نصابها المائتان وإنما ذكر تسعين لأنه آخر فصل أي عقد من فصول المائة والحساب، إذا جاوز المائة كان تركيبه بالفصول والعشرات والمئات والألوف، فذكر التسعين ليدل على أن لا صدقة فيما نقص عن كمال المائتين بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة". قال الطيبي: أراد أن دلالة هذا الحديث على أقل ما نقص من النصاب، إنما يتم بحديث ليس فيما دون خمس أواق صدقة ويسمى هذا في الأصول النص المقيد بمفارقة نص آخر وينصره الحديث الآتي عن علي رضي الله تعالى عنه، وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم (إلا أن يشاء ربها) أي يريد مالكها أن يعطي على سبيل التبرع فإنه لا مانع له فيها، وهذا كقوله في حديث الأعرابي في الإيمان إلا أن تطوع (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص11- 12) والشافعي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه الدارقطني وابن حبان وغيرهما واعلم أن هذا الحديث أخرجه البخاري مقطعا في عشرة مواضع من صحيحة في الزكاة في ستة مواضع، وفي الشركة، وفي الخمس، وفي اللباس، وفي ترك الحيل، مطولا ومختصرا بسند واحد. قال حدثنا محمد بن عبدالله بن المثنى الأنصاري قال حدثني أبي قال حدثني ثمامة بن عبدالله بن أنس إن أنسا حدثه أن أبابكر كتب له هذا الكتاب الخ وقد انتقد عليه الدارقطني في التتبع والاستدراك حيث قال إن ثمامة لم يسمع من أنس ولا سمعه عبدالله بن المثنى من ثمامة. ثم روى عن علي بن المديني عن عبدالصمد حدثني عبدالله بن المثنى. قال دفع إلى

(11/239)


ثمامة هذا الكتاب قال وثنا عفان ثنا حماد قال أخذت من ثمامة كتابا عن أنس نحو هذا وكذا قال حماد بن زيد عن أيوب أعطاني ثمامة كتابا فذكر هذا - انتهى. قال الحافظ في مقدمة الفتح: ليس فيما ذكر الدارقطني ما يقتضي إن ثمامة لم يسمعه من أنس كما صدر به كلامه فأما كون عبدالله بن المثنى لم يسمعه من ثمامة فلا يدل على قدح في هذا الإسناد بل فيه على صحة الرواية بالمناولة إن ثبت أنه يسمعه مع أن في سياق البخاري عن عبدالله بن المثنى، حدثني ثمامة إن أنسا حدثه وليس عبدالصمد فوق محمد بن عبدالله الأنصاري في الفقه، ولا أعرف بحديث أبيه منه - انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج20 ص6) هذا الحديث في نهاية الصحة وعمل به أبوبكر الصديق بحضرة جميع الصحابة لا يعرف له منهم مخالف أصلا رواه عن أبي بكر أنس وهو صاحب، ورواه عن أنس ثمامة وهو ثقة سمعه من أنس، ورواه عن ثمامة حماد بن سلمة وعبدالله بن المثنى وكلاهما ثقة وإمام. ورواه عن ابن المثنى ابنه القاضي محمد، وهو مشهور ثقة ولي قضاء البصرة، ورواه عن حماد بن سلمة يونس بن محمد (عند البيهقي وابن حزم)
1812- (4) وعن عبدالله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريا العشر، وما سقي بالنضح

(11/240)


وشريح بن النعمان (عند النسائي وابن حزم) وموسى بن إسماعيل التبوذكي (عند أبي داود) وأبوكامل المظفر بن مدرك (عند النسائي وأحمد) وغيرهم (كالنضر بن شميل عند الدارقطني والحاكم) وكل هؤلاء إمام ثقة مشهور ولا مغمز لأحد في أحد من رواة هذا الحديث - انتهى. وتكلم ابن معين أيضا على حديث أنس هذا، ففي الأطراف للمقدسي. قيل: لابن معين حديث ثمامة عن أنس في الصدقات، قال لا يصح وليس بشئ ولا يصح في هذا حديث في الصدقات - انتهى. قال ابن حزام: كلام ابن معين مردود لأنه دعوى بلا برهان: وقال البيهقي في المعرفة: لا نعلم من الحفاظ أحدا استقصى في انقاد الرواة ما استقصاه محمد بن إسماعيل البخاري مع إمامته في معرفة علل الأحاديث وأسانيدها. وهو قد اعتمد فيه على حديث ابن المثنى فأخرجه في صحيحه وذلك لكثرة الشواهد له بالصحة - انتهى. وقال في السنن الكبرى (ج4:ص90) قد روينا الحديث من حديث ثمامة بن عبدالله بن أنس عن أنس من أوجه صحيحة ورويناه عن سالم ونافع موصولا ومرسلا ومن حديث عمرو بن حزم موصولا وجميع ذلك يشد بعضه بعضا - انتهى.

(11/241)


1812- قوله: (فيما سقت السماء) أي المطر أو الثلج أو البرد أو الطل من باب ذكر المحل وإرادة الحال (والعيون) أي الأنهار الجارية التي يستسقى منها بإساحة الماء من دون اغتراف بآلة، والمراد ما لا يحتاج في سقيه إلى مؤنة. (أو كان عثريا) بفتح العين المهملة وفتح المثلثة المخففة وكسر الراء وتشديد التحتية. قال الخطابي: هو الذي يشرب بعروقة من غير سقى لأنه عثر على الماء، وذلك حيث كان الماء قريبا من وجه الأرض فيغرس عليه فيصل إلى الماء عروق الشجر فيستغنى عن السقى وهو المسمى بالبعل في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه. وقال الحافظ في التلخيص: العثري بفتح المهملة والمثلثة وحكى إسكان ثانية. قال الأزهري وغيره: العثري مخصوص بما سقى من ماء السيل فيجعل عاثورا وهو شبه ساقية تحفر ويجرى فيها الماء إلى أصوله وسمي كذلك. لأنه يتعثر به المار الذي لا يشعر به والنضح السقي بالسانية. وقال ابن قدامة قال القاضي: (أبويعلى) هو الماء المستنقع في بركة أو نحوها يصب إليه ماء المطر في سواقي تشق له فإذا اجتمع سقى منه، واشتقاقه من العاثور وهي الساقية التي يجرى فيها الماء لأنها يعثر بها من يمر بها (إذا لم يعلمها) قال الحافظ في الفتح بعد ذكر تفسير الخطابي: وهذا أولى من إطلاق أبي عبيد (ص478) أن العثري ما تسقيه السماء لأن سياق الحديث يدل على المغايرة (العشر) مبتدأ خبره "فيما سقت السماء" أي العشر واجب فيما سقت السماء أو أنه فاعل محذوف أي فيما ذكر يجب العشر (وما سقى) ببناء المجهول (بالنضح) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة بعدها حاء مهملة هو السقى
نصف العشر)). رواه البخاري.

(11/242)


بالرشا والغرب والدالية. وقال الحافظ: أي بالسانية وهي رواية مسلم يعني حديث جابر، والمراد بها الإبل يستقي عليها وذكر الإبل كالمثال وإلا فالبقر وغيرها كذلك في الحكم، والمراد ما يحتاج إلى مؤنة الآلة. قلت: وفي رواية أبي داود والنسائي وفيما سقي بالسواني والنضح، وهذا يدل على التغاير بين السانية والنضح وإن السواني المراد بها الدواب والنضح ما كان بغيرها كنضح الرجال بالآلة (نصف العشر) فيه دليل على التفرقة بين ما سقي بالسواني والنضح وبين ما سقي بماء السماء ونحوه وقد أجمع العلماء عليه. قال ابن قدامة: لا نعلم في هذه التفرقة خلافا والفارق ثقل المؤنة هنا وخفتها في الأول. قال الخطابي: إنما كان وجوب الصدقة مختلفة المقادير في النوعين، لأن ما عمت منفعته وخفت مؤنة كان أحمل للمواساة فأوجب فيه العشر توسعة على الفقراء، وجعل فيما كثرت مؤنته نصف العشر رفقا بأرباب الأموال - انتهى. وقد استدل أبوحنيفة بهذا الحديث: على عدم اشتراط النصاب في زكاة الخارج من الأرض وعلى وجوب الزكاة في جميع ما يخرج من الأرض، وقد تقدم الكلام على المسألتين مبسوطا. قال السندي: استدل أبوحنيفة بعموم الحديث على وجوب الزكاة في كل ما أخرجته الأرض من قليل وكثير، والجمهور جعلوا هذا الحديث لبيان محل العشر ونصفه. وأما القدر الذي يؤخذ منه فأخذوا من حديث ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وهذا أوجه لما فيه من استعمال كل من الحديثين فيما سيق له - انتهى. فائدة إن وجد ما يسقي بالنضح تارة وبغير النضح أخرى فإن كان ذلك على جهة الاستواء وجب فيه ثلاثة أرباع العشر وهو قول أهل العلم، قال ابن قدامة (ج2 ص699): لا نعلم فيه مخالفا، وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر أكثرهما فوجب مقتضاه وسقط حكم الآخر أي كان حكم الأقل تبعا للأكثر نص عليه أحمد وهو قول عطاء والثوري وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. وقال ابن حامد: يؤخذ بالقسط وهو القول الثاني للشافعي، لأنهما

(11/243)


لو كانا نصفين أخذ بالحصة، فكذلك إذا كان أحدهما أكثر كما كانت الثمرة نوعين، ووجه الأول إن اعتبار مقدار السقي وعدد مراته وقدر ما يشرب في كل سقيه يشق ويتعذر، فكان الحكم للأغلب منهما كالسوم في الماشية. قال الحافظ: ويحتمل أن يقال إن أمكن فصل كل واحد منهما أخذ بحسابه، وعن ابن القاسم صاحب مالك العبرة بما تم به الزرع وانتهى ولو كان أقل - انتهى. قال ابن قدامة: وإن جهل المقدار غلبنا إيجاب العشر احتياطا نص عليه أحمد (رواه البخاري) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والدارقطني وابن الجارود وأبوعبيد البيهقي، وأخرجه أحمد ومسلم وأبوداود والنسائي من حديث جابر والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي هريرة، والنسائي وابن ماجه من حديث معاذ، وأبوداود من حديث علي ويحيى بن آدم من حديث أنس.
1813 - (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((العجما جرحها جبار،

(11/244)


1813- قوله: (العجماء) بفتح المهملة وسكون الجيم وبالمد تأنيث الأعجم وهي البهيمة، سميت بذلك لأنها لا تتكلم وكل من لا يقدر على الكلام أصلا فهو أعجم ومستعجم. وعن أبي حاتم يقال: لكل من لم يبين الكلام من العرب والعجم والصغار أعجم ومستعجم، وكذلك من الطير والبهائم كلها والاسم العجمة (جرحها) بضم الجيم وفتحها والمفهوم من النهاية نقلا عن الأزهري إنه بالفتح لا غير، لأنه مصدر وبالضم الجراحة والمراد إتلافها، قال عياض: إنما عبر بالجرح لأنه الأغلب. وقيل: هو مثال نبه به على ما عداه كذا في المرقاة. وقال السندي: جرحها بفتح الجيم على المصدر لا غير وهو بالضم اسم منه، وذلك لأن الكلام في فعلها، لا في ما حصل في جسدها من الجرح وإن حمل جرحها بالضم على جرح حصل في جسد مجروحها يكون الإضافة بعيدة، وأيضا الهدر حقيقة هو الفعل لا أثره في المجروح فليتأمل - انتهى. ووقع في رواية للبخاري العجماء جبار، ولا بد فيه من تقدير مضاف ليصح حمل المبتدأ على الخبر، أي فعل العجماء هدر. قال الولي العراقي لا بد في هذه الرواية من تقدير إذ لا معنى لكون العجماء نفسها هدرا، وقد دل غير هذه الرواية على أن ذلك المقدر هو الجرح فوجب الرجوع إليه لكن الحكم غير مختص به بل هو مثال منه يستدل به على ما عداه كما تقدم، ولو لم تدل رواية أخرى على تعيين ذلك المقدر لم يكن لرواية البخاري هذه عموم في جميع المقدرات التي يستقيم الكلام بتقدير واحد منها هذا هو الصيح المنصور في الأصول إن المقتضى لا عموم له - انتهى. وفي رواية للبخاري أيضا العجماء عقلها جبار. قال الزين العراقي في شرح الترمذي: ليس ذكر الجرح قيدا، وإنما المراد به إتلافها بأي وجه كان سواء كان بجرح أو غيره، والمراد بالعقل الدية أي لا دية فيما تتلفه (جبار) بضم الجيم وتخفيف الباء الموحدة أي هدر غير مضمون أي لا شيء فيه، يقال ذهب دمه جبارا أي هدرا، وعن مالك أي هدر لا دية فيه يعني الدابة

(11/245)


المرسلة في رعيها أو المنفلتة من صاحبها ليس لها قائد ولا سائق ولا راكب، إذا جرحت أحدا أو أتلفت شيئا وكان نهارا فلا ضمان، وإن كان معها أحد فهو ضامن لأن الإتلاف حصل بتقصيره، وكذلك إذا كان ليلا لأن المالك قصر في ربطها إذ العادة أن تربط الدواب ليلا. وتسرح نهارا كذا ذكره الطيبي وابن الملك. وفي إعراب هذه الجملة وجهان. أحدهما: أن يكون قوله "جرحها جبار" جملة من المبتدأ وخبر وهي خبر عن المبتدأ الذي هو العجماء. والثاني: أن يكون قوله "جرحها" بدلا من "العجماء" وهو بدل اشتمال والخبر قوله "جبار" والكلام جملة واحدة والمصدر في قوله "جرحها" مضاف للفاعل أي كون العجماء تجرح غيرها غير مضمون. وقد استدل بإطلاق الحديث من قال لا ضمان فيما اتلفت البهيمة سواء كانت منفردة أو معها أحد سواء كان راكبها أو سائقها أو قائدها وهو قول الظاهرية واستثنوا ما إذا كان الفعل منسوبا إليه بأن حملها على ذلك الفعل، إذا كان راكبا كان يلوى عنانها فتتلف شيئا
والبئر

(11/246)


برجلها مثلا أو يطعنها أو يزجرها حين يسوقها أو يقودها حتى تتلف ما مرت عليه، وإما ما لا ينسب إليه فلا ضمان فيه. وقال الشافعية: إذا كان مع البهيمة إنسان فإنه يضمن ما أتلفته من نفس أو عضو أو مال سواء كان راكبا أو سائقا أو قاعدا، وسواء كان مالكا أو أجيرا أو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا، وسواء اتلفت بيدها أو رجلها أو ذنبها أو رأسها أو عضها، وسواء كان ذلك ليلا أو نهارا، والحجة في ذلك أن الإتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره ومن هو مع البهيمة حاكم عليها فهي كالآلة بيده ففعلها منسوب إليه سواء حملها عليه أم لا، سواء علم به أم، لا وعن مالك كذلك إلا أن رمحت بغير أن يفعل بها أحد شيئا ترمح بسببه وحكاه ابن عبدالبر عن الجمهور. وقال الحنفية: إن الراكب والقائد لا يضمنان ما نفحت الدابة برجلها أو ذنبها إلا أن أوقفها في الطريق. واختفلوا في السائق. فقال القدوري وآخرون: إنه ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها لأن النفحة بمرأى عينه فيمكنه الاحتراز عنها وقال أكثرهم: لا يضمن النفحة أيضا وإن كان يراها إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التحرز عنه بخلاف الكدم لا مكان كبحها بلجامها، صححه صاحب الهداية: وكذلك قال الحنابلة: إن الراكب لا يضمن ما تتلفه البهيمة برجلها وحكى ابن حزم نفي الضمان من النفحة عن شريح القاضي والحسن البصري وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين، وعطاء بن أبي رباح وعن الحكم والشعبي، يضمن لا يبطل دم المسلم وتمسك من نفي الضمان من النفحة بعموم هذا الحديث مع الرواية التي فيها الرجل جبار لكنها ضعيفة، ضعفها الدارقطني والشافعي وغيرهما. واستدل بالحديث على أنه لا فرق في إتلاف البهيمة للزروع وغيرها من الأموال في الليل والنهار فيما إذا لم يكن صاحبها معها وهو قول الحنفية والظاهرية. وقال الجمهور: إنما يسقط الضمان عن صاحب البهيمة إذا كان ذلك نهارا. وأما بالليل فإن عليه حفظها فإذا انفلتت بتقصير منه

(11/247)


وجب عليه ضمان ما اتلفت ودليل هذا التخصيص ما أخرجه الشافعي وأبوداود والنسائي وابن ماجه عن البراء بن عازب. قال: كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه فقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وإن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وإن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل، وأشار الطحاوي إلى أنه منسوخ بحديث الباب. وتعقبوه بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال مع الجهل بالتاريخ وأقوى من ذلك قول الشافعي، أخذنا بحديث البراء لثبوته ومعرفة رجاله ولا يخالفه حديث العجماء جبار، لأنه عام المراد به الخاص فلما قال العجماء جبار وقضي فيما أفسدت العجماء بشيء في حال دون حال دل ذلك على أن ما أصابت العجماء من جرح وغيره في حال جبار وفي حال غير جبار. ثم نقض على الحنفية إنهم لم يستمروا على الأخذ بعمومه في تضمين الراكب متمسكين بحديث الرجل جبار مع ضعف رواية، كذا في الفتح. (والبئر) بكسر الموحدة ثم ياء ساكنة
جبار والمعدن جبار وفي الركاز

(11/248)


مهموزة ويجوز تسهيلها وهي مؤنثة، وقد تذكر على معنى القليب والطوى والجمع أبؤر وآبار بالمد والتخفيف وبهمزتين بينهما موحدة ساكنة (جبار). وفي رواية لمسلم: "البئر جرحها جبار" قال أبوعبيد: المراد بالبئر هنا العادية القديمة التي لا يعلم لها مالك تكون في البادية فيقع فيها إنسان أو دابة فلا شيء في ذلك على أحد، وكذلك لو حفر بئرا في ملكه أو في موات فوقع فيها إنسان أو غيره، فتلف فلا ضمان إذا لم يكن منه تسبب إلى ذلك ولا تغرير، وكذا لو استأجر إنسانا ليحفر له البئر، فانهارت عليه فلا ضمان. وأما من حفر بئرا في طريق المسلمين وكذا في ملك غيره بغير إذن فتلف بها إنسان فإنه يجب ضمانه على عاقله الحافر والكفارة في ماله، وإن تلف بها غير آدمي وجب ضمانه في مال الحافر ويلتحق بالبئر كل حفرة على التفصيل المذكور (والمعدن) بفتح الميم وكسر الدال أي المكان من الأرض يخرج منه شيء من الجواهر والأجساد، كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص وغير ذلك مأخوذ من عدن بالمكان إذا أقام به يعدن بالكسر عدونا سمي بذلك لعدون ما أنبته الله فيه قاله الأزهري وقال في القاموس: المعدن كمجلس منبت الجواهر من ذهب ونحوه لإقامة أهله فيه دائما أو لإثبات الله عزوجل إياه فيه - انتهى. وقيل: أصل المعدن المكان بقيد الاستقرار فيه ثم اشتهر في نفس الأجزاء المستقرة التي ركبها الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض حتى صار الانتقال من اللفظ إليه ابتداء بلا قرينة (جبار) أي هدر وليس المراد أنه لا زكاة فيه، وإنما المعنى إن من حفر معدنا في ملكه أو في موات لاستخراج ما فيه فوقع فيه إنسان أو أنهار على حافره الأجير فهي هدر ولا ضمان فيه. قال الحافظ: وقع في رواية مسلم والمعدن جرحها جبار والحكم فيه ما تقدم في البئر، ولكن البئر مؤنثة والمعدن مذكر فكأنه ذكره بالتأنيث للمواخاة أو لملاحظة أرض المعدن. فلو حفر معدنا في ملكه أو في موات فوقع فيه شخص فمات فدمه

(11/249)


هدر، وكذا لو استأجر أجيرا يعمل له فانهار عليه فمات ويلتحق بالبئر والمعدن في ذلك كل أجير على عمل، كمن استوجر على صعود نخلة فسقط منها فمات - انتهى. (وفي الركاز) بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي من الركز بفتح الراء. قال ابن قدامة:" الركاز المدفون في الأرض، واشتقاقه من ركز يركز مثل غرز يغرز إذا خفي، يقال ركز الرمح إذا غرز أسفله في الأرض ومنه الركز وهو الصوت الخفي قال الله تعالى: ?أو تسمع لهم ركزا? [مريم: 98] وفي القاموس: الركاز ما ركزه الله تعالى في المعادن، أي أحدثه ودفين أهل الجاهلية وقطع الذهب والفضة من المعدن واركز الرجل وجد الركاز والمعدن صارفيه ركاز وارتكز ثبت - انتهى. واعلم أنهم اختلفوا في المراد من الركاز في الحديث فقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور. إن الركاز كنز الجاهلية والمدفون في الأرض وليس المعدن بركاز ولا خمس في المعدن بل فيه الزكاة وسيأتي ببيانه في آخر الفصل الثاني من هذا الباب. وقال الحنفية: المعدن ركاز أيضا فيجب الخمس فيهما. قال ابن الهمام: الركاز يعم المعدن والكنز لأنه من الركز مرادا به المركوز أعم من كون راكزه الخالق والمخلوق فكان

(11/250)


إيجابا فيهما. وقال الكاساني: المستخرج من الأرض نوعان: أحدهما: يسمى كنزا وهو المال الذي دفنه بنو آدم في الأرض. والثاني: يسمى معدنا وهو المال الذي خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض. والركاز اسم يقع على كل واحد منهما إلا أن حقيقته للمعدن واستعماله للكنز مجازا. قال في النهر: لا يجوز أن يكون حقيقة في المعدن، مجازا في الكنز، لامتناع الجمع بينهما بلفظ واحد. وقال في الدر المختار: هو لغة: من الركز أي الإثبات بمعنى المركوز. وشرعا: مال مركوز تحت أرض أعم من معدن خلقي ومن كنز مدفون دفنه الكفار واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم "والمعدن جبار وفي الركاز الخمس، ووجه الاستدلال إنه عطف الركاز على المعدن. وفرق بينهما بواو فاصلة، فعلم إن المعدن ليس بركاز عنده - صلى الله عليه وسلم - بل هما شيئان متغايران، ولو كان المعدن ركازا عنده لقال المعدن جبار، وفيه الخمس ولما لم يقل ذلك ظهر أنه غيره لأن العطف يدل على المغايرة. قال الحافظ: والحجة للجمهور التفرقة من النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المعدن والركاز بواو العطف فصح أنه غيره وأجيب عن هذا بأنه لا يرد على الحنفية لأنهم قالوا إن الركاز يعم المعدن والكنز والمغايرة. بين العام والخاص مما لا يخفي، فلو قال فيه الخمس يعلم حكم المعدن دون الكنز، وأيضا وضع المظهر محل المضمر مما لا ينكر على أنه ورد في رواية للبخاري في الديات، العجماء عقلها جبار والمعدن جبار والبئر جبار وفي الركاز الخمس، فلو قال: وفيه الخمس لحصل الالتباس باحتمال رجوع الضمير إلى البئر. قال ابن التركماني: المعدن هو الركاز فلما أراد أن يذكر له حكما آخر ذكره بالاسم الآخر وهو الركاز، ولفظ الصحيح في الحديث والبئر جبار وفي الركاز الخمس فلو قال، وفيه الخمس لحصل الالتباس بعود الضمير إلى البئر. وقال في المواهب اللطيفة أخذا من ابن الهمام: إن المغايرة بينهما إنما حصلت لاختلاف كل منهما

(11/251)


في أمر يمتاز به عن الآخر، وذلك إن قوله "المعدن جبار" معنا إن إهلاكه أو الهلاك به للأجير الحافر له غير مضمون، لا أنه لا شيء فيه بنفسه، وإلا لم يجب شيء أصلا وهو خلاف المتفق عليه (إذا الخلاف إنما هو في كميته لا في أصله) وغاية ما هناك أنه أثبت للمعدن بخصوصه حكما فنص على خصوص اسمه ثم أثبت له حكما آخر مع غيره فعبر بالاسم الذي يعمهما ليثبت فيهما فإنه - صلى الله عليه وسلم - علق الحكم أعنى وجوب الخمس بما يسمى ركازا فما كان من أفراده وجب فيه - انتهى. وقال بعضهم: احتجاج الجمهور غير صحيح، فإن المراد بالمعدن حفرته فإنه إذا وقع فيها إنسان فلا ضمان فيه، والمراد بالركاز المال الذي في المعدن بأن المال المستخرج منها فيه الخمس، فعلى هذا دلالة العطف صحيحة لأن مدلول أحدهما غير مدلول الآخر فلا حجة فيه للجمهور واحتج الجمهور أيضا بالركاز في لغة أهل الحجاز هو دفين الجاهلية، ولا شك في أن النبي الحجازي - صلى الله عليه وسلم -: تكلم بلغة أهل الحجاز وأراد به ما يريدون منه. قال ابن الأثير الجزري:

(11/252)


في النهاية الركاز عند أهل الحجاز كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض، وعند أهل العراق المعادن والقولان تحتملها اللغة لأن كلا منهما مركوز في الأرض أي ثابت، يقال ركزه يركزه ركزا إذا دفنه وأركز الرجل إذا وجد الركاز. والحديث إنما جاء في التفسير الأول وهو الكنز الجاهلي، وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه. وقال في جامع الأصول: (ج5 ص481) الركاز عند أهل الحجاز كنز الجاهلية ودفنها لأن صاحبه ركزه في الأرض أي أثبته وهو أهل العراق المعدن، لأن الله ركزه في الأرض ركزا. والحديث إنما جاء في التفسير الأول منهما وهو الكنز الجاهلي على ما فسره الحسن. وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه، والأصل فيه إن ما خفت كلفته كثر الواجب فيه، وما ثقلت كلفته قل الواجب فيه - انتهى. وقيل: إنما جعل الركاز الخمس لأنه مال كافر فنزل من وجده منزلة الغنائم فكان له أربعة أخماسه. وقال الزين بن المنير: كان الركاز مأخوذ من أركزته في الأرض إذا غرزته فيها، وأما المعدن فإنه ينبت في الأرض بغير وضع واضع هذه حقيقتهما فإذا افترقا في أصلهما فكذلك في حكمهما كذا في الفتح. واحتج الحنفية بما روى ابن عبدالبر في التمهيد والحاكم (ج2 ص65) والبيهقي (ج4 ص155) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: في كنز وجده في خربة جاهلية إن وجدته في قرية مسكونة أو سبيل ميتاء فعرفه، وإن وجدته في خربة جاهلية أو في قرية مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس، وروى أبوعبيد عنه بلفظ: إن المزني قال يا رسول الله فما يوجد في الخرب العادي، قال فيه وفي الركاز الخمس. قال التوربشتي: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - : هذا عن المال المدفون ثم عطف عليه الركاز والمعطوف غير المعطوف عليه. وقال أبوعبيد: تبين لنا أن الركاز سوى المال المدفون لقوله فيه وفي الركاز، فجعل الركاز غير المال المدفون، فعلم بهذا أنه المعدن. وقال الكاساني: عطف

(11/253)


النبي - صلى الله عليه وسلم - الركاز على الكنز، والشيء لا يعطف على نفسه هو الأصل فدل على أن المراد منه المعدن وأجيب عن هذا بأنه ورد فيما وجد من أموال الجاهلية ظاهرا فوق الأرض في الطريق غير الميتاء وفي القرية الغير المسكونة، فيكون فيه وفي الركاز الخمس وليس ذلك من المعدن بسبيل. وتعقبه ابن التركماني: بأن الرواية المذكور أولا تدفع هذا الجواب لأن الكنز على ما ذكره أهل اللغة الجوهري وغيره، هو المال المدفون، وعطف الركاز على الكنز دليل على أن الركاز غير الكنز وأنه المعدن كما يقوله أهل العراق. ورد ذلك بأن الكنز هو المال المجموع بعضه على بعض، سواء كان على ظهر الأرض أو بطنها. قال الراغب: الكنز هو جعل المال بعضه على بعض وحفظه، وأصله من كنزت التمر في الوعاء. وقال ابن جرير: هو كل شيء جمع بعضه على بعض في بطن الأرض أو ظهرها - انتهى. وعلى هذا يصح حمل الحديث المذكور على ما وجد من مال الجاهلية ظاهرا فوق الأرض. واحتج الحنفية أيضا
الخمس)).

(11/254)


بما روى البيهقي وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: في الركاز الخمس. قيل وما الركاز يا رسول الله؟ قال الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت. وأجيب عنه بأنه تفرد به عبدالله ابن سعيد ضعيف جدا، بل رماه بعضهم بالكذب. واحتجوا أيضا بتسمية المعدن بالركاز. قال الهروي في كتابه الغريب: الركاز القطع العظام من الذهب والفضة كالجلاميد، واحده ركزة وقدار كز المعدن أنال - انتهى. وقال في القاموس: اركز (الرجل) وجد الركاز والمعدن صار فيه ركاز. وقال الإمام محمد بن الحسن في كتاب الحجج: إنما الركاز وجد في المعادن، وإنما قال: المدفون جعل نظيرا لمال يستخرج من المعدن، هذا أمر لم يكن أرى إن أهل المدينة يخالفونه من كلام العرب، إنما يقال أركز المعدن يعنون أنه استخرج منه مال كثير- انتهى. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: قد نقل عن محمد بن الحسن الشيباني وهو مع رسوخه في الفقه يعد من علماء العربية أنه قال: إن العرب تقول أركز المعدن إذا كثر ما فيه من الذهب والفضة - انتهى. وأجيب عنه بأنه لا يلزم من الاشتراك في الاسم الاشتراك في الحكم والمعنى وإلا لوجب على من ربح ربحا كثيرا الخمس في ربحه، لأنه يقال له أركز ولم يقل به أحد. قال الإمام البخاري في صحيحه: وقال بعض الناس المعدن ركاز مثل دفن الجاهلية، لأنه يقال أركز المعدن إذا أخرج منه شيء قيل له فقد يقال لمن وهب له الشيء أو ربح ربحا كثيرا أو كثرة ثمره أركزت - انتهى. قال ابن بطال: ما ألزم به البخاري القائل المذكور وحجة بالغة لأنه لا يلزم من الاشتراك في الأسماء الاشتراك في المعنى، إلا إن أوجب ذلك من يجب التسليم له. وقد أجمعوا على أن المال الموهوب لا يجب فيه الخمس، وإن كان يقال له أركز فكذلك المعدن - انتهى. وارجع للتفصيل إلى رفع الالتباس عن بعض الناس والقول الراجح عندنا: هو ما ذهب إليه الجمهور من أن الركاز إنما هو كنز الجاهلية

(11/255)


الموضوع في الأرض، وإنه لا يعم المعدن بل هو غيره الله تعالى أعلم (الخمس) فيه دليل على وجوب الخمس في الركاز وهو إجماع العلماء إلا ما حكى عن الحسن البصري. قال ابن قدامة: (ج2 ص17- 18) الأصل في صدقة الركاز ما روى أبوهريرة مرفوعا العجماء جبار، وفي الركاز الخمس، متفق عليه. وهو أيضا مجمع عليه. قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا خالف هذا الحديث إلا الحسن، فإنه فرق بين ما يوجد في أرض الحرب وأرض العرب فقال: في ما يوجد في أرض الحرب الخمس وفيما يوجد في أرض العرب الزكاة - انتهى. ثم ههنا مسائل لا بد للطالب من الوقوف عليها فلنذكرها مختصرا والبسط في المنتقى للباجي وغيره من كتب الفروع وشروح الحديث. الأولى وأنه لا فرق بين قليل الركاز وكثيره عند الجمهور خلافا للشافعي في قوله الجديد أنه لا يجب الخمس حتى يبلغ النصاب. قال البخاري في صحيحه قال مالك وابن إدريس: الركاز دفن الجاهلية في قليله وكثيره الخمس. قال الحافظ: قوله في قليله وكثيره

(11/256)


الخمس نقله ابن المنذر عن مالك كذلك، وفيه عند أصحابه عنه اختلاف وهو قول الشافعي في القديم كما نقله ابن المنذر واختاره. وأما في الجديد فقال: لا يجب الخمس يبلغ نصاب الزكاة، والأول قول الجمهور كما نقله ابن المنذر أيضا وهو مقتضى ظاهر الحديث - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص21) الخمس يجب في قليله وكثيره في قول إمامنا ومالك وإسحاق أصحاب الرأي والشافعي في القديم. وقال في الجديد: يعتبر النصاب فيه لأنه حق مال يجب فيما استخرج من الأرض فاعتبر فيه النصاب كالمعدن والزرع، ولنا عموم الحديث، ولأنه مال مخموس فلا يعتبر له نصاب كالغنيمة. ولأنه مال كافر مظهور عليه في الإسلام فأشبه الغنيمة والمعدن والزرع يحتاجان إلى عمل ونوائب، فاعتبر فيه النصاب تخفيفا بخلاف الركاز، ولأن الواجب فيهما مواساة فاعتبر النصاب ليبلغ حدا يحتمل المواساة منه بخلاف مسألتنا - انتهى. الثانية قال الحافظ: اتفقوا على أنه لا يشترط فيه الحول بل يجب إخراج الخمس في الحال وأغرب ابن العربي في شرح الترمذي فحكى عن الشافعي الاشتراط ولا يعرف ذلك في شيء من كتبه ولا من كتب أصحابه الثالثة قال ابن قدامة (ج3 ص20) الركاز الذي فيه الخمس هو كل ما كان ما لا على اختلاف أنواعه من الذهب والفضة والحديد والرصاص والصفر والنحاس وغير ذلك، وهو قول إسحاق وأبي عبيد وابن المنذر وأصحاب الرأي وإحدى الروايتين عن مالك وأحد قولي الشافعي والقول الآخر لا تجب إلا في الأثمان. ولنا عموم قوله عليه السلام "وفي الركاز الخمس" ولأنه مال مظهور عليه من مال الكفار فوجب فيه الخمس مع اختلاف أنواعه كالغنيمة - انتهى. قلت: المشهور عند المالكية هو العموم والمذهب عند الشافعية خصوصه بالنقدين، وظاهر الحديث العموم فالراجح هو قول الجمهور. الرابعة قال الحافظ: اختلفوا في مصرفه فقال مالك وأبوحنيفة والجمهور مصرفه مصرف خمس الفيء وهو اختيار المزني. وقال الشافعي: في أصح قوليه مصرف الزكاة وعن

(11/257)


أحمد روايتان. وينبني على ذلك ما إذا وجده ذمي فعند الجمهور يخرج منه الخمس وعند الشافعي لا يؤخذ منه شيء - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص121) اختلفت الرواية عن أحمد في مصرفه مع ما فيه من اختلاف أهل العلم. فقال الخرقي: هو لأهل الصدقات ونص عليه أحمد في رواية حنبل فقال: يعطي الخمس من الركاز على مكانه، وإن تصدق على المساكين أجزأه وهذا هو قول الشافعي، لأن علي بن أبي طالب أمر صاحب الكنز أن يتصدق به على المساكين، حكاه الإمام أحمد والرواية الثانية مصرفه مصرف الفيء نقله محمد بن الحكم عن أحمد وهذه الرواية أصح وأقيس على مذهبه، وبه قال أبوحنيفة والمزني لما روى أبوعبيد (ص342) عن هشيم عن مجالد عن الشعبي، إن رجلا وجد ألف دينار مدفونة خارجا من المدينة فأتى بها عمر بن الخطاب فأخذ منه الخمس مائتي دينار، ودفع إلى الرجل بقيتها وجعل عمر يقسم المائتين بين من حفرة من المسلمين إلى أن فضل منها فضلة فقال عمر ابن صاحب الدنانير فقام إليه فقال عمر: خذ هذه الدنانير فهي لك ولو

(11/258)


كانت زكاة لخص بها أهلها ولم يرده على واجده، ولأنه يجب على الذمي والزكاة لا تجب عليه ولأنه مال مخموس زالت عنه يد الكافر أشبه خمس الغنيمة - انتهى. الخامسة اختلفوا فيمن يجب عليه الخمس وفي الأربعة الأخماس باعتبار اختلاف الواجد من كونه حرا أو عبدا أو مكاتبا قال ابن قدامة: (ج3 ص22) يجب الخمس على كل من وجده من مسلم وذمي وحر وعبد ومكاتب وكبير وصغير وعاقل ومجنون، إلا أن الواجد له إذا كان عبدا فهو لسيده لأنه كسب مال، وإن كان مكاتبا ملكه وعليه خمسة لأنه بمنزلة كسبه وإن كان صبيا أو مجنونا فهو لهما ويخرج عنهما وليهما وهذا قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على الذمى في الركاز يجده الخمس قاله مالك وأهل المدينة والثوري والأوزاعي وأهل العراق وأصحاب الرأي وغيرهم وقال الشافعي: لا يجب الخمس إلا على من تجب عليه الزكاة لأنه زكاة، وقال الثوري والأوزاعي وأبوعبيد: إذا كان الواجد له عبدا يرضخ له منه ولا يعطاه كله، ولنا عموم قوله عليه السلام وفي الركاز الخمس، فإنه يدل بعمومه على وجوب الخمس في كل ركاز يوجد ومفهومه إن باقية لواجده من كان ولأنه مال كافر مظهور عليه فكان فيه الخمس على من وجده وباقية لواجده كالغنيمة ولأنه اكتساب مال فكان لمكتسبة إن كان حرا أو لسيده إن كان عبدا كالاحتشاش والاصطياد - انتهى. السادسة يعرف كون الركاز من دفن الجاهلية بأن ترى عليه علامتهم كأسماء ملوكهم وصورهم وصلبهم وصور أصنامهم ونحو ذلك، واستشكله الرافعي وغيره بأنه لا يلزم من روية علامتهم عليه كونه من دفنهم لاحتمال أنه وجد مسلم كنزا جاهليا فكنزه ثانيا. والحكم مدار على كونه من دفن الجاهلية لا على روية علامتهم عليه وأجيب عنه بأن هذا الاحتمال مدفوع بالأصل ولا يخفى ما فيه قالوا فإن كان عليه علامة الإسلام أو اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من خلفاء المسلمين أو وال لهم أو

(11/259)


آية من قرآن أو نحو ذلك فهو لقطة لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه فيعرفه الواجد سنة ثم له تملكه إن لم يظهر مالكه. وقيل: هو مال ضائع يمسكه الآخذ للمالك أبدا فلو لم يعرف إن الموجود من ضرب الجاهلية أو الإسلام ففيه للشافعي قولان: أظهرهما أنه ليس بركاز بل هو لقطة على الأصح. والقول الثاني: أنه ركاز في خمس وهو الأصح عند الحنفية: قال صاحب الهداية: ولو اشتبه الضرب يجعل جاهليا في ظاهر المذهب لأنه الأصل. وقيل: إسلاميا في زماننا لتقادم العهد - انتهى. السابعة ليس في الحديث تعرض لمن يتعاطى إخراج الخمس من الركاز أهو الواجد أو يتعين الفاعل لذلك الإمام أو نائبه. وينبغي أن يقال إن قلنا مصرفه مصرف الزكاة، وأنه يجوز أن يتولى الرجل إخراج زكاته بنفسه فلو أخرجه الواجد له وقع الموقع. وإن قلنا أنه لا يتولى الرجل إخراج زكاته بنفسه أو إن مصرف الزكاة مصرف الفيء فذلك من وظيفة الإمام أو نائبه الذي أقامه لذلك. وقد حكى ابن المنذر عن أبي ثور: أنه لا يسعه أن يتصدق بخمسه فإن فعل ضمنه الإمام وعن أصحاب الرأي أنه يسعه ذلك قال ابن المنذر: وهذا أصح. وقال
متفق عليه.

(11/260)


ابن قدامة في المغنى: (ج3 ص23) ويجوز أن يتولى الإنسان تفرقة الخمس بنفسه، وبه قال أصحاب الرأي وابن المنذر. لأن عليا أمر واجد الكنز بتفرقة على المساكين قاله الإمام أحمد. ثم قال: ويتخرج أن لا يجوز ذلك لأن الصحيح أنه فئ فلم يملك تفرقته بنفسه كخمس الغنيمة. قال القاضي من الحنابلة: وليس للإمام رد خمس الركاز على واجده لأنه حق مال، فلم يجز رده على من وجب عليه كالزكاة وخمس الغنيمة. وقال ابن عقيل: يجوز لأنه روى عن عمر أنه رد بعضه على واجده، ولأنه فيء فجاز رده أو بعضه على واجده كخراج الأرض وهذا قول أبي حنيفة. الثامنة استدل به الحنفية على وجوب الخمس في المستخرج من المعادن، سواءا كان ذهبا أو فضة أو غيرهما من معادن الأرض كالحديد والنحاس والرصاص وغيرها بناء على دخول ذلك في إسم الركاز، ولم يعتبروا في ذلك نصابا ولا حولا وجعلوا مصرفه مصرف الفيء، وذهب الأئمة الثلاثة والأكثرون إلى أن المعدن لا يدخل تحت اسم الركاز ولا له حكمه. واتفقوا على الإخراج منه في الجملة، وإن مصرف المخرج منه مصرف الزكاة، والمشهور من مذاهبهم اعتبار النصاب فيه دون الحول. ثم اختلفت تفاصيل مذاهبهم في ذلك. فقال الشافعية: إن كان المستخرج من المعدن غير الذهب والفضة فلا زكاة فيه إلا في وجه شاذ، وإن كان أحد النقدين ففيه الزكاة. وفي قدر الواجب ثلاثة أقوال للشافعي أصحها ربع العشر كزكاة النقدين. والثاني: الخمس. والثالث: إن ناله بلا تعب ومؤنة فالخمس وإلا فربع العشر ولم يخص الحنابلة ذلك بالذهب والفضة بل قالوا: بوجوب الزكاة في كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرهما مما له قيمة، إذا بلغ قيمة عشرين مثقالا من الذهب أو مائتي درهم من الفضة، كالحديد والصفر والنحاس والزئبق والياقوت والزبرجد والبلور والعقيق والسبج والكحل والزاج والزرنيخ والمغرة بل وسعوا ذلك حتى قالوه: في المعادن الجارية كالقار والنفط والكبريت، والحنفية خصوا ذلك بما

(11/261)


ينطبع كالحديد والنحاس. قال الحنابلة: والواجب فيه ربع العشر، وخص المالكية ذلك بالنقدين وقالوا إن الواجب ربع العشر إلا ما لا يتكلف فيه إلى عمل ففيه الخمس، واعتبر إسحاق بن راهوية وابن المنذر في زكاة المعدن الحول، وحكى قولا عن الشافعي وسيأتي مزيد الكلام في ذلك. التاسعة اختلفوا في حكم الركاز باعتبار اختلاف موضعه، وقد بسطه ابن قدامة في المغني (ج3:ص20،18) والباجي في المنتقي (ج2:ص106،105) والكاساني في البدائع (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الديات ومسلم في الحدود وأخرجه أيضا أحمد (ج2:ص228-239) ومالك في الزكاة مختصرا وفي الديات مطولا، والترمذي في الزكاة وفي الأحكام وأبوداود مختصرا في آخر الخراج، والنسائي في الزكاة، وابن ماجه مختصرا في اللقطة، والبيهقي، وأبوعبيد وغيرهم، وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكرهم العيني في شرح البخاري (ج9:ص102،101) والمقصود من ذكر هذا الحديث في هذا الباب هو قوله في الركاز الخمس.
?الفصل الثاني?
1814- (6) عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا، صدق الرقة من كل أربعين درهما درهم. وليس في تسعين ومائة شي. فإذا بلغت مائتين، ففيها خمسة دراهم)). رواه الترمذي وأبوداود.

(11/262)


1814- قوله: (قد عفوت عن الخيل والرقيق) أي إذا لم يكونا للتجارة، وفي الخيل السائمة للنسل خلاف تقدم قال السندي: أي تركت لكم أخذ زكاتهما وتجاوزت عنه، هذا لا يقتضى سبق وجوبه ثم نسخه، وقال الطيبي: عفوت مشعر بسبق ذنب من إمساك المال عن الإنفاق أي تركت وجاوزت عن أخذ زكاتهما مشيرا إلى أن الأصل في كل مال أن تؤخذ منه الزكاة - انتهى. وفيه دليل على أنه لا زكاة في الخيل خلافا للحنفية. فقالوا: المراد بالخيل فيه الخيل المعدة للركوب والغزو بدليل أنه قرن بين الخيل والرقيق والمراد منها عبيد الخدمة، أو المراد عفوت عن إتيانكم بها إلي لأني ما كلفتكم بإحضارها عندي لقلة محالها بالغاية، وإن كانت واجبة فيها فلا تنسوا حق الله في رقابها بل أدوه فيما بينكم وبين الله تعالى - انتهى. ورد الأول. بأن هذه القرينة يبطل دلالتها مع كون دلالة الاقتران ضعيفة أحاديث نفي وجوب الزكاة في الخيل مطلقا. منها حديث عمر ما فعله صاحباي قبلي فافعله ورد الثاني بأن هذا التأويل خلاف الظاهر وبأن مقتضاه مع قوله فهاتوا صدقة الرقة بعد ذلك، أن يجب إحضار صدقة الرقة عند الإمام ودفعها إليه مع أن زكاة الأموال الباطنة عند الجمهور يجوز لأصحابها أن يصرفوها بأنفسهم في مصارفها (فهاتوا) أي أعطوا من هاتاه مهاتاة أي أعطاه يقال هات يا رجل: أي أعط وهاتي يا امرأة وما أهاتيك أي ما أنا بمعطيك (صدقة الرقة) بكسر الراء وتخفيف القاف أي زكاة الفضة (من كل أربعين درهما درهم) أي إذا بلغت الدراهم النصاب. وقال الخطابي: هذا تفصيل لجملة قد تقدم بيانها في حديث أبي سعيد الخدري وهو قوله ليس فيما دون خمس أواق شي وتفصيل الجملة لا يناقض الجملة (وليس) يجب (في تسعين ومائة شي) من الزكاة (فإذا بلغت) أي الرقة. وقيل: أي الدراهم (مائتين ففيها خمسة دراهم) أي الواجب فيها خمسة دراهم بعد جولان الحول (رواه الترمذي وأبوداود) من طريق أبي عوانة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن

(11/263)


علي، وأخرجه أيضا من هذا الطريق أحمد (ج1:ص92-145) والبيهقي (ج4:ص118) وأخرجه النسائي من طريق الأعمش وسفيان الثوري وأحمد (ج1: ص113-114-148) والدارقطني (ص214) من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة مختصرا، وأخرجه ابن ماجه من طريق الثوري وأحمد من طريق حجاج بن أرطاة (ج1:ص121) والثوري (ج1:ص132) وشريك (ج1:ص146) والبيهقي من طريق ابن عيينة والثوري (ج4:ص118)
وفي رواية لأبي داود عن الحارث الأعور عن علي قال زهير: أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(11/264)


عن أبي إسحاق عن الحرث الأعور عن علي مختصرا أيضا. قال الترمذي: روى هذا الحديث الأعمش وأبوعوانة وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي، وروى سفيان الثوري وابن عيينة وغير واحد عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق يحتمل أن يكون عنهما جميعا- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: بعد ذكر حديث علي هذا أخرجه أبوداود وغيره وإسناده حسن (وفي رواية لأبي داود عن الحارث الأعور عن علي) هذه الرواية: أخرجها أبوداود من طريق عبدالله ابن محمد النفيلي نا زهير نا أبوإسحاق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث الأعور عن علي وأخرجها أيضا البيهقي (ج4:ص93-94-99) والحارث هذا هو الحارث بن عبدالله الأعور الهمداني الحوتي الكوفي أبوزهير وهو ممن اشتهر بصحبة علي بن أبي طالب، وروى عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وعنه الشعبي وأبوإسحاق السبيعي وعطاء بن أبي رباح وغيرهم. قال شعبة: لم يسمع أبوإسحاق منه إلا أربعة أحاديث. وكذلك قال العجلي: وزاد وسائر ذلك كتاب أخذه وقد تكلم فيه الأئمة. فقال الشعبي وأبوإسحاق وابن المديني: هو كذاب. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ. وقال ابن حبان: كان الحارث غالبا في التشيع واهيا في الحديث، وقال النسائي: ليس بالقوى. وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وكذا قال ابن معين: في رواية الدوري عنه. وقال ابن أبي خيثمة. قيل: ليحيى يحتج بالحارث. فقال: مازال المحدثون يقبلون حديثه. وقال ابن عبدالبر: لم يبين من الحارث كذبه وإنما نقم عليه إفراطه في حب علي. وقال أحمد بن صالح المصري الحارث الأعور: ثقة ما أحفظه وما أحسن ما روى عن علي وأثنى عليه. قيل له فقد قال الشعبي: كان يكذب. قال: لم يكن يكذب في الحديث إنما كان كذبه في رأيه. وقال ابن أبي داود: كان الحارث أفقه الناس وأحسب الناس وأفرض الناس تعلم الفرائض من علي. وقال الذهبي

(11/265)


والنسائي: مع تعنته في الرجال قد احتج به وقوى أمره والجمهور على توهين أمره مع روايتهم لحديثه في الأبواب هذا الشعبي يكذبه ثم يروي عنه. والظاهر أنه كان يكذب في لهجته وحكاياته لا في الحديث النبوي: قال الحافظ: لم يحتج به النسائي. وإنما أخرج له في السنن حديثا واحدا مقرونا بابن ميسرة وآخر في اليوم والليلة متابعة هذا جميع ماله عنده. وقال في التقريب: رمى بالرفض وفي حديثه ضعف مات في خلافة ابن الزبير سنة (65) (قال زهير) بالتصغير وهو زهير بن معاونة بن حديج أبوخيثمة الجعفي الكوفي نزيل الجزيرة ثقة ثبت إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بآخره. قال أحمد: زهير فيما روى عن المشائخ ثبت بخ بخ وفي حديثه عن أبي إسحاق لين سمع منه بآخره. وقال أبوزرعة: ثقة إلا أنه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط مات في رجب سنة (172) أو (173) أو (174) وكان مولده سنة مائة (أحسبه) أي أظن هذا الحديث مرويا (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال) يعني قال زهير: أظن أباإسحاق. قال: في حديثه بعد قوله عن
((هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهما درهم، وليس عليكم شيء، حتى تتم مائتي درهم. فإذا كانت مائتي درهم، ففيها خمسة دراهم، فما زاد فعلى حساب ذلك.

(11/266)


علي رضي الله عنه "عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " وهذا يدل على أن زهيرا شك في رفعه قال الزيلعي: (ج2 ص353، 360، 365، 366) ورواه الدارقطني في سننه مجزوما به ما ليس فيه. وقال زهير: وأحسبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن القطان: إسناده صحيح وكل من فيه ثقة معروف ولا أعنى رواية الحارث وإنما أعنى رواية عاصم - انتهى كلامه. قال الزيلعي: وهذا منه توثيق لعاصم - انتهى. قلت: لم أجد حديث زهير هذا بهذا السياق الطويل الآتي في الدارقطني في مظانة إلا ما في باب ليس في العوامل صدقة (ص204) فإنه هناك مجزوم برفعه ولكن متنه مختصر جدا، فإنه اقتصر على الجملة بلفظ: ليس في البقر العوامل شيء (هاتوا) أي في كل حول (ربع العشر) وفي أبي داود ربع العشور أي من الفضة وبيانه (من كل أربعين درهما) نصب على التمييز (درهم) بالرفع على الابتداء وفي بعض نسخ أبي داود درهما، أي بالنصب على المفعولية (وليس) يجب (عليكم شيء) أي من الزكاة (حتى تتم) بالتأنيث أي تبلغ الرقة (مائتي درهم) قال الطيبي: نصبه على الحالية أي بالغة مائتين كقوله تعالى: ?فتم ميقات ربه أربعين ليلة? [الأعراف: 142] (فإذا كانت) أي الرقة (مائتي درهم) أي وزنها (ففيها) أي حينئذ (خمسة دراهم فما زاد) أي على مائتي درهم (فعلى حساب ذلك) أي تجب الزكاة في الزائد على النصاب بقدره قل أو كثر حتى إذا كانت الزيادة درهما يجب فيها جزء من أربعين جزءا من درهم. وفيه دليل على أنه لا وقص في نصاب الفضة فيخرج عما زاد على المائتي درهم بحسابه ربع العشر قلت الزيادة أو كثرت. وكذا فيما زاد على العشرين دينارا في الذهب وهو قول أكثر أهل العلم، روى هذا عن علي وابن عمر، وبه قال عمر بن عبدالعزيز والنخعي والثوري وابن أبي ليلى وأبويوسف ومحمد بن الحسن وأبوعبيد وأبوثور وابن المنذر، وهو قول مالك والشافعي وأحمد. وروى عن الحسن البصري والشعبي ومكحول وسعيد بن المسيب والأوزاعي

(11/267)


وعطاء والزهري وعمرو بن دينار إنهم قالوا: لا شيء في زيادة الدراهم حتى تبلغ أربعين، ولا في زيادة الدنانير حتى تبلغ أربعة دنانير.وبه قال أبوحنيفة. واحتج أهل هذا القول بما روى الدارقطني (ص200) والبيهقي (ج4 ص135) من طريق ابن إسحاق عن المنهال بن الجراح عن حبيب بن نجيح عن عبادة بن نسي عن معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره حين وجهه إلى اليمن أن لا تأخذ من الكسور شيئا، إذا كانت الورق مائتي درهم فخذ منها خمسة دراهم، ولا تأخذ مما زاد شيئا حتى تبلغ أربعين درهما، فإذا بلغت أربعين فخذ منها درهما. قال الدارقطني: المنهال بن الجراح متروك الحديث واسمه الجراح بن المنهال وكان ابن إسحاق يقلب اسمه إذا روى عنه وعبادة لم يسمع من معاذ - انتهى. وقال ابن حبان: المنهال بن الجراح كان يكذب. وقال عبدالحق: كذاب. وقال أبوحاتم: متروك الحديث واهية، لا يكتب حديثه. وقال البيهقي: إسناد

(11/268)


هذا الحديث ضعيف جدا. واحتجوا أيضا بما روى من طريق الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: هاتوا ربع العشر من كل مائتي خمسة دراهم، ومن كل عشرين دينارا نصف دينار، وليس في مائتي درهم شيء حتى يحول عليها الحول. فإذا حال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، فما زاد ففي كل أربعين درهما درهم ذكره ابن حزم في المحلى. (ج6 ص61) والحسن بن عمارة متروك فالحديث ضعيف جدا، واحتجوا أيضا بما روى الحاكم (ج1 ص395) والبيهقي (ج4 ص89) والطبراني وغيرهم من حديث عمرو ابن حزم الطويل وفيه " في كل خمس أواق من الورق خمسة دراهم وما زاد ففي كل أربعين درهما درهم" وهذا حديث سنده جيد، وإن تكلم عليه ابن التركماني في الجوهر النقي، وأجيب عنه بأن غاية ما فيه إن في أربعين درهما زائد درهم، ولا ينكره أهل القول الأول، وليس فيه إسقاط الزكاة عن أقل من أربعين زائدة على المائتين، أي ليس فيه أن لا زكاة فيما بين المأتين وبين الأربعين فلا يترك به منطوق حديث الباب. واحتجوا أيضا بما روى ابن أبي شيبة عن الحسن البصري. قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري فيما زاد على المائتين ففي كل أربعين درهما درهم. وروى أبوعبيد في الأموال (ص422) من طريق يحيى بن أيوب عن حميد عن أنس قال: ولاني عمر بن الخطاب الصدقات فأمرني أن آخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار، وما زاد فبلغ أربعة دنانير ففيه درهم وإن آخذ من مائتي درهم خمسة دراهم فما زاد فبلغ أربعين درهما ففيه درهم. وأجيب عن الأول. بأنه منقطع فإن الحسن لم يولد إلا لسنتين باقيتين من خلافة عمر. وعن الثاني: بما قال أبوعبيد (ص423) قد يحتمل قول عمر أن يكون إنما أراد أن يفهم الناس الحساب وأن يعلمهم إن في كل أوقية درهما، وهو مع هذا يرى إن ما زاد على المائتين وعلى عشرين دينارا ففيه الزكاة بالحساب - انتهى. واحتجوا أيضا بأن له عفوا في الابتداء فكان

(11/269)


له عفو بعد النصاب كالماشية وأجيب عنه بأن الماشية يشق تشقيصها بخلاف الأثمان. واستدل أهل القول الأول بحديث الباب وهو حديث صحيح أو حسن وله طرق ذكرها الزيلعي، وأجاب عنه أهل القول الثاني بأنه محمول على أن يكون الزائد على المائتين هو الأربعين جمعا بين الأحاديث ولا يخفى ما فيه. واستدلوا أيضا بما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -. "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" قال أبوعبيد: (ص424) القول الأول هو المعمول به عندنا والذي عليه الجمهور الأعظم من المسلمين ومع اجتماعهم عليه أنه موافق لتأويل الحديث المرفوع. قال: ألا ترى! أنه - صلى الله عليه وسلم - حين أخبر إن ليس في أقل من خمس أواق شيء، قد جعل الخمس حدا فاصلا فيما بين ما تجب فيه الصدقة وبين ما لا تجب. فتبين لنا بقوله هذا إن الزائد على الخمس سواء قليله أو كثيره. وإن الزكاة واجبة فيه إذ لم يذكر بعد الخمس وقتا آخر كتوقيته في الماشية حين قال: في كل خمس شاة وفي كل عشر شاتان، فجعل صدقة
وفي الغنم في كل أربعين شأة، شأة، إلى عشرين ومائة، فإن زادت واحدة، فشأتان إلى مائتين. فإن زادت، فثلاث شياه إلى ثلاث مائة. فإذا زادت على ثلاثمائة، ففي كل مائة شأة. فإن لم تكن إلا تسع وثلاثون، فليس عليك فيها شيء.

(11/270)


الماشية خاصة مراتب بعضها فوق بعض وألغى ما بينهما، وجعل الصامت وما تخرج الأرض كله بمنزلة واحدة، إذا بلغت الخمس فصاعدا. ثم شرحه علي وابن عمر وإبراهيم وعمر بن عبدالعزيز بقولهم وما زاد فبالحساب. وقال الخطابي في المعالم: (ج2 ص14) في قوله ليس فيما دون خمس أواق صدقة دليل على أن ما زاد على المائتين، فإن الزكاة تجب فيه بحسابه لأن في دلالته إيجابا في الخمس الأواقي وفيما زاد عليه، وقليل الزيادة وكثيرها سواء في مقتضى الاسم ولا خلاف في أن فيما زاد على الخمسة الأوسق من التمر صدقة قلت الزيادة أو كثرت. وقد اسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة عن الخمسة الأوسق كما أسقطها عما نقص عن الخمس الأواق، فوجب أن يكون حكم ما زاد على الخمس الأواقي من الورق حكم الزيادة على الخمسة الأوسق لأن مخرجهما في اللفظ مخرج واحد- انتهى. واستدل ابن حزم لذلك بما تقدم من قوله عليه السلام في كتاب أبي بكر الصديق وفي الرقة ربع العشر الخ. قال ابن حزم: أوجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصدقة في الرقة ربع العشر عموما لم يخص عن ذلك شيئا إلا ما كان أقل من خمس أواقي فبقي ما زاد على ذلك على وجوب الزكاة فيه، فلا يجوز تخصيص شيء منه أصلا - انتهى. واستدل لذلك أيضا بما روى أبوعبيد (ص420) وعبدالرزاق عن علي وعبدالرزاق وابن أبي شيبة (ج3 ص7) وأبوعبيد (ص421) عن ابن عمر قالا في كل مائتي درهم خمسة دراهم وما زاد فبالحساب، وهذا القول هو الراجح المعول عليه المعول به عندنا والله تعالى أعلم. (في كل أربعين) بدل من في الغنم بإعادة الجار (شأة) قال القاري: تمييز للتأكيد كما في قوله تعالى: ?ذرعها سبعون ذراعا? [الحاقة: 32]. قال الطيبي: وليس شاة ههنا تمييزا مثله في قوله في كل أربعين درهما درهم، لأن درهما بيان مقدار الواحد من أربعين ولا يعلم هذا من الرقة فيكون شاة هنا لمزيد التوضيح ونظر فيه ابن حجر (شأة) مبتدأ مؤخر "وفي الغنم"

(11/271)


خبره. قال القاري: ثم الظاهر إن لفظ "كل" زائدة، أو المراد بها استغراق أفراد الأربعين ليفيد تعلق الزكاة بكل من أربعين أو الواجب شاة مبهمة. والحاصل إنها ليست مثلها في كل أربعين درهما درهم، وإلا لفسد المعنى إذ لا تتكر الزكاة هنا بتكرر الأربعين إجماعا ثم لا شيء فيما زاد على الأربعين. (إلى عشرين ومائة فإن زادت واحدة فشأتان إلى مائتين فإن زادت) أي واحدة أو الغنم على مأتين (فثلاث شياه إلى ثلاث مائة فإذا زادت) أي الشأة (على ثلاث مائة) مائة أخرى لا ما دونها (ففي كل مائة شاة فإن لم تكن) بالتأنيث وفي أبي داود فإن لم يكن بالتذكير (إلا تسع وثلاثون) من الغنم (فليس عليك فيها شيء) لأنها لم تبلغ النصاب، وليس في هذا الحديث عند أبي داود ما ذكر المصنف من سياق صدقة الغنم فإن أباداود لم يذكر سياقه بل أحاله
وفي البقر في كل ثلاثين تبيع، وفي الأربعين مسنة)).

(11/272)


على حديث الزهري ولفظه "وفي الغنم في كل أربعين شاة شأة فإن لم يكن إلا تسع وثلاثون فليس عليك فيها شيء" وساق صدقة الغنم مثل الزهري - انتهى. أي وساق أبوإسحاق صدقة الغنم كما تقدم في حديث سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه (وفي البقر) اسم جنس للمذكر والمؤنث إشتقت من بقرت الشيء إذا شققته، لأنها تبقر الأرض بالحراثة. وفيه دليل على وجوب الزكاة في البقر، قال ابن قدامة: (ج2 ص591) صدقة البقر واجبة بالسنة والإجماع. أما السنة فما روى أبوذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمن فتنطحه بقرونها الحديث. وقد تقدم في أوائل الزكاة ثم ذكر ابن قدامة حديث معاذ الآتي وحديثا آخر له عن مسند الإمام أحمد. ثم قال: وأما الإجماع فلا أعلم اختلافا في وجوب الزكاة في البقر. وقال أبوعبيد: (ص379) لا أعلم الناس يختلفون فيه اليوم (في كل ثلاثين) أي بقرا (تبيع) هو ما تم له الحول من ولد البقر وطعن في السنة الثانية سمي به، لأنه فطم عن أمه فهو يتبعها وتجزيء عنه تبيعة بل أولى للأنوثة (وفي الأربعين) من البقر (مسنة) هي التي استكملت سنتين وطعنت في الثالثة وهي الثنية وسميت بذلك لأنها طلعت سنها والاقتصار على المسنة يدل على أنه لا يجزيء المسن ولكن أخرج الطبراني عن ابن عباس مرفوعا في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسن أو مسنة. قال الهيثمي: وفيه ليث ابن أبي سليم وهو ثقة لكنه مدلس - انتهى. وهذا يدل على أنها لا تتعين الأنوثة في البقر بخلاف الإبل، وسيأتي مزيد من الكلام عليه في شرح الحديث الذي يليه. والحديث دليل على أن نصاب الزكاة في البقر ما ذكر فيه. قال ابن عبدالبر: في الاستذكار لا خلاف بين العلماء إن السنة في زكاة البقر ما في حديث معاذ الآتي وإنه النصاب المجمع عليه فيها - انتهى. وفيه دلالة على أنه لا يجب فيما دون الثلاثين شيء وفيه

(11/273)


خلاف الزهري. فقال: يجب في كل خمس شاة قياسا على الإبل. وأجاب الجمهور بأن النصاب لا يثبت بالقياس وبأنه قد روى (النسائي) ليس فيما دون ثلاثين من البقر شيء وهو وإن كان مجهول الإسناد فمفهوم حديث معاذ يؤيده كذا في سبل السلام. وقال ابن قدامة: لا زكاة فيما دون الثلاثين من البقر في قول جمهور العلماء، وحكى عن سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا: في كل خمس شاة لأنها عدلت الإبل في الهدى والأضحية فكذلك في الزكاة، ولنا ما تقدم من الخبر، ولأن نصب الزكاة إنما ثبتت بالنص والتوقيف وليس فيما ذكراه نص ولا توقيف فلا يثبت وقياسهم فاسد فإن خمسا وثلاثين من الغنم تعدل خمسا من الإبل في الهدى ولا زكاة فيها- انتهى. ثم قال ابن حجر: ولا شيء فيما زاد على الأربعين حتى تبلغ سنتين ففيها تبيعان ثم يتغير الفرض بزيادة عشر فعشر، ففي كل أربعين مسنة وفي كل ثلاثين تبيع - انتهى. وقال الخطابي في المعالم: (ج2 ص30) في الحديث دليل على أن البقر إذا زادت على الأربعين لم يكن فيها شيء حتى تكمل ستين، ويدل على صحة ذلك ما روى عن معاذ أنه أتى بوقص البقر فلم يأخذه، ومذهب أبي حنيفة إن ما
وليس على العوامل شيء.
1815- (7) وعن معاذ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لما وجهه إلى اليمن، أمره أن يأخذ من البقرة، من كل ثلاثين تبيعا، أو تبيعة. ومن كل أربعين مسنة)).

(11/274)


زاد على الأربعين فبحسابه - انتهى. وسيأتي تفصيل الكلام عليه في شرح الحديث الذي يليه. (وليس على العوامل شيء) "على" بمعنى في أو التقدير على صاحب العوامل وعند الدارقطني في حديث عاصم ليس في البقر العوامل شيء، وفي حديث الحارث ليس على البقر العوامل شيء وهي جمع عاملة وهي التي يستقي عليها ويحرث وتستعمل في الاشتغال. وفيه دليل على أنه لا يجب في البقر العوامل شيء ولو بلغت نصابا، وظاهره سواء كانت سائمة أو معلوفة وقد ثبتت شرطية السوم في الغنم في حديث أبي بكر المتقدم. وفي الإبل في حديث بهز عند أبي داود والنسائي. قال الدميري: وألحقت البقر بهما. قال ابن قدامة: لا زكاة في غير السائمة من البقر في قول الجمهور وحكى عن مالك إن في العوامل والمعلوفة صدقة كقوله في الإبل وقد تقدم الكلام معه، ثم ذكر حديث عليه هذا وما روى في نفي الصدقة عن البقر العوامل من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص مرفوعا، ومن آثار الصحابة كعلي ومعاذ وجابر. قال ولأن صفة النماء معتبرة في الزكاة ولا يوجد إلا في السائمة - انتهى. وحديث على هذا أخرجه ابن عدي في الكامل عن زيد بن حبان الكوفي عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهما درهم، وما زاد فبحساب ذلك- انتهى. ولين زيد بن حبان. وقال: لا أرى برواياته بأسا - انتهى.

(11/275)


1815- قوله: (وعن معاذ) بضم الميم (وجهه) أي بعثه (إلى اليمن) عاملا على الزكاة وغيرها (من البقر) وفي بعض النسخ من البقر كما في أبي داود والنسائي والدارمي والتاء في بقرة للوحدة لا للتأنيث فيقع على الذكر والأنثى والمراد الجنس (تبيعا أو تبيعة) فيه أنه مخير بين الأمرين (ومن كل أربعين مسنة) يعني أو مسنا كما تقدم في حديث ابن عباس عند الطبراني. واختلف العلماء فيه، فذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى أنه لا يجزيء فيها المسن أي الذكر، وقال أبوحنيفة: ذكورها وإناثها في الصدقة سواء. قال في المبسوط: لا فرق بين الذكر والإناث في زكاة البقر بخلاف الإبل فإنه لا يؤخذ منها إلا الإناث، وذلك لتقارب ما بين الذكور والإناث في الغنم والبقر وتباين ما بينهما في الإبل - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج2 ص593) لا يخرج الذكر في الزكاة أصلا إلا في البقر فإن ابن اللبون ليس بأصل، إنما هو بدل عن ابنة مخاض. ولهذا لا يجزيء مع وجودها وإنما يجزيء الذكر في البقر عن الثلاثين وما تكرر منها كالستين والسبعين، وما تركب من الثلاثين

(11/276)


وغيرها كالسبعين فيها تبيع ومسنة والمائة فيها مسنة وتبيعان، وإن شاء أخرج مكان الذكور إناثا لأن النص ورد بهما جميعا، فأما الأربعون وما تكرر منها كالثمانين فلا يجزيء في فرضها إلا الإناث إلا أن يخرج عن المسنة تبيعين فيجوز، وإذا بلغت البقر مائة وعشرين اتفق الفرضان جميعا فيخير رب المال بين إخراج ثلاث مسنات، أو أربع أتبعه، والواجب أحدهما أيهما شاء، والخيرة في الإخراج إلى رب المال. وهذا التفصيل فيما إذا كان فيها إناث فإن كانت كلها ذكورا أجزأ الذكر فيها بكل حال، ويحتمل أنه لا يجزئه إلا إناث في الأربعينات. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على المسنات في حديث معاذ عند أحمد فيجب إتباع مورده فيكلف شراءها والأول. أولى لأننا أجزنا المذكر في الغنم مع أنه لا مدخل له في زكاتها مع وجود الإناث، فالبقر التي للذكر فيها مدخل أولى انتهى. قلت: والراجح عندي أنه يجزيء المسن عن الأربعين لحديث ابن عباس المتقدم والله تعالى أعلم. هذا وقد اختلفوا فيما زاد على الأربعين فذهب أكثر أهل العلم، ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وأبويوسف ومحمد والثوري والنخعي والشعبي والحسن وإسحاق وأبوعبيد وطاووس وعمر بن عبدالعزيز والليث وأبوثور، لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين فإذا بلغتها ففيها تبيعان إلى تسع وستين، فإذا بلغت سبعين ففيها مسنة وتبيع، ثم هكذا أبدا لا شيء فيها حتى تبلغ عشرا زائدة، فإذا بلغتها ففي كل ثلاثين من العدد تبيع وفي كل أربعين مسنة. وقال أبوحنيفة في الرواية المشهورة عنه: فيما زاد على الأربعين بحسابه في كل بقرة ربع عشر مسنة، وهكذا إلى ستين فرارا من جعل الوفص تسعة عشر وهو مخالف لجميع أوقاصها فإن جميع أوقاصها عشرة عشرة، فإذا بلغت الستين ففيها تبيعان ثم لا شيء فيها إلا في كل عشرة زائدة. قال في الهداية: إذا زادت على أربعين وجب في الزيادة بقدر ذلك إلى ستين عند أبي حنيفة، ففي الواحدة ربع عشر مسنة

(11/277)


وهكذا وهو رواية الأصل، لأن العفو ثبت نصا بخلاف القياس ولا نص ههنا. وروى الحسن عن أبي حنفية أنه لا يجب في الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين، ثم فيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع لأن مبني هذا النصاب على أن يكون بين عقدين وقص وفي كل عقد واجب. وقال أبويوسف ومحمد: لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين وهو رواية عن أبي حنيفة. قال العيني: وبه قال مالك والشافعي وأحمد: وفي المحيط هو أوفق الروايات عن أبي حنفية وفي جوامع الفقه هو المختار - انتهى. قلت: وهو القول الراجح المعول عليه عندنا لما روى أحمد (ج5 ص240) والطبراني من طريق ابن وهب عن حيوة بن شريح عن يزيد بن أبي حبيب عن سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم إن معاذا قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أصدق أهل اليمن وأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا، ومن كل أربعين مسنة. قال: فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين وبين الستين والسبعين، وما بين الثمانين والتسعين فأبيت ذاك. وقلت لهم حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقدمت فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم -

(11/278)


فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين ومن السبعين مسنة وتبيعا، ومن الثمانين مسنتين ومن التسعين ثلاث أتبعة، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشرة ومائة مسنتين وتبيعا، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات، أو أربعة أتبعه. قال: وأمرني أن لا أخذ فيما بين ذلك شيئا إلا أن تبلغ مسنة أو جذعا وزعم إن الأوقاص لا فريضة فيها - انتهى. قال ابن قدامة: (ج2 ص593) هذا صريح في محل النزاع وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة، يدل على أن الاعتبار بهذين العددين، ولأن البقر أحد بهيمة الأنعام، ولا يجوز في زكاتها كسر كسائر الأنواع، ولا ينقل من فرض فيها إلى فرض بغير وقص كسائر الفروض، ولأن هذه زيادة لا يتم بها أحد العددين فلا يجب فيها شيء كما بين الثلاثين والأربعين، وما بين الستين والسبعين. ومخالفة قول أبي حنيفة المشهور للأصول أشد من الوجوه التي ذكرناها على أن أوقاص الإبل والغنم مختلفة، فجاز الاختلاف ههنا - انتهى. قلت: حديث معاذ المذكور أخرجه أبوأحمد ابن زنجوية في كتاب الأموال، من طريق بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم. وأخرجه أيضا أبوعبيد في الأموال (ص383) من هذا الطريق، إلا أنه قال عن سلمة بن أسامة إن معاذ بن جبل قال بعثني الخ ولم يذكر يحيى بن الحكم. ونقل الزيلعي عن صاحب التنقيح أنه قال: هذا أي حديث معاذ المذكور حديث فيه إرسال، وسلمة بن أسامة ويحيى بن الحكم غير المشهورين ولم يذكرهما ابن أبي حاتم في كتابة - انتهى. واعترض بعض العلماء على هذا الحديث بأن معاذا لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه من اليمن، بل توفي عليه السلام قبل قدوم معاذ من اليمن. قلت: اختلفت الروايات في قدوم معاذ على النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن بعد أن أرسله، ففي رواية مالك من طريق طاووس عن معاذ فتوفي النبي

(11/279)


- صلى الله عليه وسلم - قبل أن يقدم معاذ، وهذا منقطع طاووس لم يدرك معاذا. وفي حديث ابن مسعود عند الحاكم (ج3 ص272) وقد صححه كان معاذ شابا سمحا فلم يزل يدان حتى أغرق ماله الحديث في تأمير النبي - صلى الله عليه وسلم - له على اليمن، وفيه فلم يزل فيها حتى توفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع معاذ فوافي عمر بمكة أميرا على الموسم وعن كعب بن مالك نحوه (ج3 ص273) وصححه أيضا وعن جابر بمعناه (ج3 ص274) وسكت عنه. وروى ابن سعد من طريق أبي وائل استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا على اليمن فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف أبوبكر ومعاذ باق باليمن ويعارض هذه الأحاديث ما روى الدارقطني (ص202) والبيهقي (ج4 ص99) والبزار وابن حزم (ج6 ص6) من حديث بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاووس عن ابن عباس قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذا إلى اليمن الحديث. وفيه فلما رجع سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه يعني الوقص فقال: ليس فيها شيء، تفرد به بقية عن المسعودي والمسعودي قد اختلط، وتابعه الحسن بن عمارة عن الحكم، والحسن بن عمارة متروك. وما روى أبويعلى
رواه أبو داود والترمذي والنسائي والدارمي.

(11/280)


وغيره بإسناد فيه ضعف، من طريق صهيب إن معاذا لما قدم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن سجد له. فقال ما هذا يا معاذ: إني وجدت اليهود والنصارى يسجدون لعظمائهم، وقالوا هذه التحية أنبياءنا قال - صلى الله عليه وسلم -: كذبوا على أنبياءهم الحديث. وأخرج أحمد من وجه آخر (ج5:ص227) نحوه ذكر هذه الأحاديث المتعارضة الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في الدراية: وسكتا عن الترجيح أو الجمع. وقال القاري: بعد ذكر هذه الروايات، ولعل الجمع بتعدد الواقعة. وقال الحافظ في الفتح: اتفقوا على أن معاذا لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها. وقال في الإصابة في ترجمته: قدم من اليمن في خلافة أبي بكر وكانت وفاته بالطاعون في الشام سنة سبع عشرة أو التي بعدها وهو قول الأكثر- انتهى. (رواه أبوداود والترمذي والنسائي والدارمي) واللفظ لأبي داود وأخرجه أيضا أحمد (ج5:ص230) وابن ماجه وابن حبان والحاكم (ج1:ص398) والدارقطني (ص203) والبيهقي (ج4:ص98) كلهم من طريق الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ، وصححه ابن حبان والحاكم وأقره الذهبي وحسنه الترمذي. وقال ابن عبدالبر: في التمهيد ولاستذكار إسناده متصل صحيح ثابت وكذا قال ابن بطال كما في الفتح. وأعله عبدالحق في أحكامه فقال مسروق لم يلق معاذا. وقال الحافظ في الفتح: في الحكم بصحته نظر، لأن مسروقا لم يلق معاذا، وإنما حسنه الترمذي لشواهده وبالغ ابن حزم في المحلي (ج6:ص11) أولا في تقرير إن هذا الحديث منقطع ثم استدركه في آخر المسألة، ورجع عن رأيه هذا حيث قال: (ج6:ص16) وجدنا حديث مسروق إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر، وهو بلا شك قد أدرك معاذا وشهد حكمه وعمله المشهور المنتشر، فصار نقله لذلك، ولأنه عن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلا عن الكافة عن معاذ بلا شك فوجب القول به - انتهى. وقال ابن القطان: لا أقول إن مسروقا سمع من

(11/281)


معاذ إنما أقول إنه يجب على أصولهم أن يحكم بحديثه عن معاذ، بحكم حديث المتعاصرين الذين لم يعلم انتفاء اللقاء بينهما، فإن الحكم فيه أن له بالاتصال عند الجمهور. وشرط البخاري وابن المديني أن يعلم إجتماعهما ولو مرة واحدة، فهما إذا لم يعلما لقاء أحدهما للآخر لا يقولون في حديث أحدهما عن الآخر منقطع، إنما يقولان لم يثبت سماع فلان من فلان فإذن ليس في حديث المتعاصرين إلا رأيان أحدهما: أنه محمول على الاتصال. والآخر أن يقال لم يعلم اتصال ما بينهما. فأما الثالث وهو أنه منقطع فلا - انتهى. وقال الأمير اليماني: وأجيب عن دعوى الانقطاع بأن مسروقا همداني النسب من وداعة يماني الدار، وقد كان في أيام معاذ باليمن فاللقاء ممكن بينهما، فهو محكوم باتصاله على رأي الجمهور- انتهى. قلت: فالاحتجاج بحديث مسروق عن معاذ هذا تام صحيح على رأي الجمهور، وعلى ما وجه ابن حزم هذا. وقد أشار الترمذي وأبوداود إلى اختلاف
1816- (8) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المعتدي في الصدقة، كمانعها)).

(11/282)


في وصله. قال الترمذي بعد تحسينه: وروى بعضهم هذا الحديث عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق أن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا أي المرسل أصح أي من رواية مسروق عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا رجح الدارقطني في العلل الرواية المرسلة، وهذه الرواية المرسلة أخرجها ابن أبي شيبة (ج3:ص12) وأبوعبيد (ص378) بسنديهما. قلت: والحديث له طرق أخرى وشواهد قد اعتضد بعضها ببعض، فمنها: عن أبي وائل عن معاذ وهي عند أحمد (ج5: ص233-247) وأبي داود والنسائي. ومنها: عن إبراهيم النخعي عن معاذ، وهي عند النسائي والدارمي والبيهقي. ومنها: عن إبراهين النخعي عن مسروق عن معاذ، وهي عند أبي داود والنسائي والدارقطني والبيهقي. ومنها: عن طاووس عن معاذ، وهي في موطأ مالك. قال في الإمام: ورواية إبراهيم عن معاذ منقطعة بلا شك، ورواية طاووس عن معاذ كذلك قال الشافعي وطاووس عالم بأمر معاذ، وإن كان لم يلق لكثرة من لقيه مما أدرك معاذا وهذا مما لا أعلم من أحد فيه خلافا - انتهى. وقال البيهقي: طاووس وإن لم يلق معاذا إلا أنه يماني وسيرة معاذ بينهم مشهورة - انتهى. ومنها: عن يحيى بن الحكم عن معاذ، وهي عند أحمد وقد تقدم. وأما الشواهد. فمنها: حديث ابن مسعود عند الترمذي وابن ماجه والبيهقي وهو منقطع، ورواه ابن الجارود في المنتقي موصولا. ومنها: حديث طاووس عن ابن عباس عند الدارقطني والبيهقي والبزار وابن حزم وهو ضعيف. وتقدم الإشارة إليه، ولابن عباس حديث آخر عند الطبراني والدارقطني، من طريق ليث عن مجاهد وطاووس عن ابن عباس. وقد تقدم الإشارة إليه أيضا. ومنها: حديث أنس عند البيهقي (ج4:ص99) واختلف في وصله ورجح الدارقطني الإرسال. ومنها: حديث عمرو بن حزم الطويل عند الحاكم والبيهقي والطبراني. ومنها: حديث علي الذي قبل هذا الذي نحن في شرحه.

(11/283)


1816- قوله: (المعتدي في صدقة كمانعها) الاعتداء مجاوزة الحد، فيحتمل أن يكون المراد به المالك الذي يعتدى بإعطاء الزكاة غير مستحقيها أي يعطيها في غير المصرف، أو الذي يجاوز الحد في الصدقة بحيث لا يبقى لعياله شيئا، أو الذي يعتدى بكتم بعضها أو وصفها على الساعي حتى أخذ منه مالا يجزئه، أو ترك عنه بعض ما هو عليه كمانعها من أصلها في الإثم. أو المراد الساعي الذي يأخذ أكثر وأجود من الواجب، لأنه إذا فعل ذلك سنة فصاحب المال يمنعه في السنة الأخرى، فيكون سببا للمنع فشارك المانع في إثم المنع. قال المظهر: يعني العامل الذي يأخذ في الزكاة أكثر من القدر الواجب، ويظلم أرباب الأموال هو في الوزر كالذي لا يعطي الزكاة، ويظلم الفقراء بمنع الزكاة عنهم، وكذلك العامل يظلم أرباب الأموال بأخذ الزيادة منهم - انتهى. وقال البغوي في
رواه أبوداود والترمذي.
1817- (9) وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس في حب ولا تمر صدقة، حتى يبلغ خمسة أوسق)). رواه النسائي.
1818- (10) وعن موسى بن طلحة

(11/284)


شرح السنة: معنى الحديث إن على المعتدى في الصدقة من الإثم ما على المانع فلا يحل لرب المال، كتمان المال، وإن اعتدى عليه الساعي- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: الظاهر إن المراد بالمعتدى في الصدقة العامل المعتدى في أخذ الصدقة، ويؤيده حديث بشير بن الخصاصية. قال: قلنا إن أهل الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون قال: لا. رواه أبوداود (رواه أبوداود والترمذي) وأخرجه أيضا ابن ماجه وأبوعبيد (ص401) والبيهقي (ج4:ص97) وابن خزيمة في صحيحه كلهم من رواية سعد بن سنان عن أنس. وقال الترمذي: حديث غريب. وقد تكلم أحمد بن حنبل في سعد بن سنان - انتهى. قلت: سعد بن سنان هذا كندي مصري، واختلف في إسمه فقيل: هكذا. وقيل: سنان بن سعد، وصوب هذا الثاني البخاري وابن يونس، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. قال الجوزجاني: أحاديثه واهية. وقال النسائي وابن سعد منكر الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال أحمد: لم أكتب أحاديثه لأنهم اضطربوا فيه وفي حديثه. وقال ابن معين: ثقة. ونقل ابن القطان إن أحمد يوثقه. وقال المنذري: في آخر الترغيب بعد ذكر الجروح المذكورة. وروى عن أحمد توثيقه وحسن الترمذي حديثه، واحتج به ابن خزيمة في صحيحه في غير ما موضع - انتهى. وقال الحافظ في التقريب: صدوق له أفراد - انتهى. فالظاهر أنه من رجال الحسن، وإن حديثه هذا حسن والله تعالى أعلم.
1817- قوله: (ليس في حب ولا تمر) أي ولا زبيب (صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق) تقدم بيانه، وقد استدل بعضهم بمفهوم الحديث على أنه لا زكاة فيما ليس بحب، كالزعفران والعصفر والقطن وغيرها من الأزهار وكالجزر والبطاطة والخيار والقثاء وغيرها من الخضر والبقول. وفي هذا الاستدلال نظر، فإن المتبادر إن هذا بيان للنصاب في الحب والتمر لا لحصر الزكاة فيهما (رواه النسائي) بل رواه مسلم أيضا، فكان ينبغي إيراده في الفصل الأول. وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج4:ص128).

(11/285)


1818- قوله: (وعن موسى بن طلحة) أي ابن عبيدالله القرشي التيمي يكنى أباعيسى وأبامحمد المدني نزيل الكوفة ثقة جليل من كبار التابعين.وقال ابن عساكر: يقال أنه ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم وسماه.
قال: ((عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: إنما أمره أن يأخذ الصدقة،
وقال ابن الهمام: لم يثبت هذا. وذكره الحافظ في الإصابة في القسم الثاني من حرف الميم، أي فيمن ذكر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لبعض الصحابة ممن مات صلى الله عليه وسلم وهو في دون سن التميز. قال الحافظ: لكن أحاديث هؤلاء عنه من قبيل المراسيل عند المحققين - انتهى. روى عن أبيه طلحة بن عبيدالله أحد العشرة المبشرة، وعن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهم من الصحابة، وعنه ابنه عمران وحفيده سليمان وابنا أخيه إسحاق، وطلحة إبنا يحيى بن طلحة، وعمرو بن عثمان وغيرهم مات سنة ثلاث ومائة على الصحيح (قال عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم) قال القاري: قال بعضهم أخذا من كلام الطيبي إن تعلق عن النبي صلى الله عليه وسلم: بقوله عن موسى بن طلحة كان الحديث مرسلا لأنه تابعي، ويكون قوله عندنا كتاب معاذ معترضا ولا معنى له. قلت: قائله القاري) بل معناه إن كتابه بهذا المضمون أو موافق للرواية لفظا ومعنى. ويؤيده قوله "قال" ويقويه قول المؤلف مرسل. قال: وإن تعلق بقوله عندنا كتاب معاذ كان حالا من ضمير كتاب في الخبر، أي صادرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يكون الحديث مرسلا بل يكون هذا وجادة - انتهى. قال القاري: لكن يتوقف كونه وجادة على ثبوت كون الكتاب بخط معاذ. قال ثم رأيت الطيبي قال: هذا من باب الوجادة، لأنه من باب نقل من كتاب الغير من غير إجازة ولا سماع ولا قراءة - انتهى. قلت: الحق والصواب إن قوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - متعلق بقوله

(11/286)


عندنا كتاب معاذ، وهو من باب الوجادة بشرط أن يكون الكتاب المذكور بخط معاذ. والوجادة المصطحلة هي أن يقف على أحاديث بخط، راويها غير المعاصر له أو المعاصر ولم يلقه أو لقيه ولم يسمع منه أو سمع منه، ولكن لا يروي تلك الأحاديث الخاصة عنه بسماع ولا إجازة. فله أن يقول وجدت أو قرأت بخط فلان عن فلان، وهو من باب المنقطع لكن فيه شوب إتصال لقوله وجدت بخط فلان. وإذا وجد حديثا في تأليف شخص وليس بخطه، قال ذكر فلان أو قال فلان. وهذا منقطع لا شوب من الاتصال فيه. وهذا كله إذا وثق بأنه خطه أو كتابه، وإلا فليقل بلغني عن فلان أو وجدت عنه إلى آخر ما قال السيوطي في التدريب. وروى هذا الحديث أبويوسف في الخراج (ص64) قال حدثنا عمرو بن عثمان عن موسى بن طلحة، أنه كان لا يرى صدقة إلا في الحنطة والشعير والنخل والكرم والزبيب. قال: وعندنا كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ، أو قال نسخة أو وجدت نسخة هكذا - انتهى. وهذا يدل على أن المراد بكتاب معاذ في رواية الباب كتاب كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ في الصدقة، لا كتاب كتبه معاذ في الصدقة، وكيف ما كان الأمر الحديث مرسل كما قال المؤلف (أنه) أي معاذا (قال إنما أمره) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن يأخذ الصدقة) أي الزكاة وهي العشر أو نصفه ورواه أحمد (ج5:ص528) والحاكم (ج1:ص401) والدارقطني (ص201)
من الحنطة والشعير والزبيب والتمر)). مرسل، رواه في شرح السنة.

(11/287)


والبيهقي (ج4:ص228) بلفظ: عن موسى بن طلحة. قال: عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه إنما أخذ الصدقة الخ. قال البيهقي: ورواه عبدالله بن الوليد العدني عن سفيان، وزاد فيه بعث الحجاج موسى بن المغيرة على الخضر والسواد، فأراد أن يأخذ من الخضر الرطاب والبقول. فقال موسى بن طلحة: عندنا كتاب معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمره أن يأخذ الخ. (من الحنطة والشعير والزبيب والتمر) فيه دليل على أنه لا زكاة إلا في هذه الأربعة واحتج به من قال بحصر العشر أو نصفه في الحنطة والشعير من الحبوب والتمر الزبيب من الثمار. وأجاب من لم يقل بذلك بأن الحديث منقطع كما تقدم وسيأتي أيضا، وبأنه ليس معناه أنه لا تجب الزكاة إلا في هذه الأربعة فقط، بل الزكاة واجبة فيما ينبته الآدميون إذا كان قوتا في حال الاختيار كما قال الشافعي أو إذا كان مكيلا مدخرا كما ذهب إليه أحمد، أو في جميع ما يقصد بزراعته نماء الأرض كما ذهب إليه أبوحنيفة وداود الظاهري. وإنما أمره أن يأخذ الزكاة من هذه الأربعة، لأنه لم يكن، ثم غير هذه الأربعة قال الطيبي: هذا إن صح بالنقل فلا كلام وإن فرض إن ثمة شيئا غير هذه الأربعة مما تجب الزكاة فيه، فمعناه أنه إنما أمره أن يأخذ الصدقة من المعشرات من هذه الأجناس، وغلب الحنطة والشعير على غيرهما، من الحبوب لكثرتهما في الوجود، وإصالتهما في القوت. واختلف فيما تنبت الأرض مما يزرعه الناس وتغرسه، فعند أبي حنيفة تجب الزكاة في الكل سواء كان قوتا أو غير قوت، فذكر التمر والزبيب عنده للتغليب أيضا. وقيل: الحصر فيه ليس حصرا حقيقيا، بل هو إضافي بالنسبة إلى الخضروات ونحوها. لما روى الدارقطني وغيره عن موسى بن طلحة عن معاذ مرفوعا، فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر، وفيما سقى بالنضح نصف العشر. وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب، فأما القثاء والبطخ والرمان والقصب فقد عفا عنه

(11/288)


رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه إسحاق بن طلحة وهو ضعيف متروك. وقد تقدم بسط الكلام على هذه المسألة في شرح حديث الأوساق (مرسل) أي منقطع. قال ابن حزم في المحلي (ج5:ص222) هذا منقطع لأن موسى بن طلحة لم يدرك معاذا بعقله. وقال الحاكم: موسى بن طلحة تابعي كبير لم ينكر له أن يدرك أيام معاذ أي لا ينكر له لقي معاذ. قال الحافظ: قد منع ذلك أبوزرعة. وقال ابن عبدالبر: لم يلق معاذا ولا أدركه - انتهى. وقال ابن دقيق العيد: في الاتصال بين موسى بن طلحة ومعاذ نظر، فقد ذكروا إن وفاة موسى سنة ثلاث ومائة، وقيل: سنة أربع ومائة - انتهى. وقال ميرك: فيه شائبة الاتصال بواسطة الوجادة إن صح إن الكتاب بخط معاذ (رواه في شرح السنة) وأخرجه أيضا أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي، وفي معناه أحاديث أخرى ذكرناها في شرح حديث الأوساق.
1819- (11) وعن عتاب بن أسيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في زكاة الكروم، إنها تخرص

(11/289)


1819- قوله: (وعن عتاب) بفتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية آخره موحدة (بن أسيد) بفتح الهمزة وكسر السين المهملة ابن أبي العيص بن أمية بن عبدشمس الأموي المكي صحابي. وكان أمير مكة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومات في يوم مات أبوبكر الصديق فيما ذكر الواقدي لكن ذكر الطبراني أنه كان عاملا على مكة لعمر سنة إحدى وعشرين كذا في التقريب. وقال ابن عبدالبر: استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة عام الفتح في خروجه إلى حنين، فحج بالناس سنة ثمان، وحج المشركون على ما كانوا عليه، ولم يزل على مكة حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقره أبوبكر فلم يزل عليها واليا إلى أن مات فكانت وفاته فيما ذكر الواقدي يوم مات أبوبكر الصديق وكان رجلا صالحا فاضلا، وكان عمره حين استعمل نيفا وعشرين سنة له عند أصحاب السنن حديث الخرص. رووه من رواية سعيد بن المسيب عنه. قال أبوداود وأبوحاتم: لم يسمع سعيد من عتاب. وقال ابن قانع: لم يدركه وقال المنذري: إن قطاعه ظاهر. لأن مولد سعيد في خلافة عمر (لسنتين مضتا من خلافة عمر) ومات عتاب يوم مات أبوبكر. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: في ترجمة سعيد بن المسيب بعد ذكر اختلاف أحمد ومالك وأبي حاتم في سماع سعيد من عمر ما لفظه. وقال ابن سعد: عن الواقدي لم أر أهل العلم يصححون سماعة من عمر، وإن كانوا قد رووه. قلت: قد وقع لي حديث بإسناد صحيح لا مطعن فيه تصريح بسماعه من عمر فذكره ثم قال: وأما حديثه عن بلال وعتاب بن أسيد فظاهر الانقطاع بالنسبة إلى وفاتيهما ومولده والله أعلم. وقال في ترجمة عتاب: روى الطيالسي والبخاري في تاريخه (ج4:ص54) من طريق أيوب عن عبدالله بن يسار عن عمرو بن عقرب، سمعت عتابا فذكر حديثا وإسناده حسن، ومقتضاه إن عتابا تأخرت وفاته عما قال الواقدي. لأن عمرو بن عقرب ذكره البخاري في التابعين وقال سمع عتابا، ويؤيد ذلك إن الطبري ذكر عتابا فيمن لا يعرف

(11/290)


تاريخ وفاته، وقال في تاريخه إنه كان والي عمر سنة عشرين، وذكره قبل ذلك في سني عمر، ثم ذكره في سنة (22) ثم قال في مقتل عمر سنة (23) قتل وعامله على مكة نافع بن عبدالحارث - انتهى. فهذا يشعر بأن موت عتاب كان في أواخر سنة (22) أو أوائل سنة (23) فعلى هذا فيصح سماع سعيد بن المسيب منه - انتهى. (قال في زكاة الكروم) أي في كيفية زكاتها وهي بضمتين، جمع الكرم بفتح الكاف وسكون الراء وهو شجر العنب. قال ابن حجر: ولا ينافي تسمية العنب كرما خبر الشيخين لا تسموا العنب كرما، فإن الكرم هو المسلم. وفي رواية: فإنما الكرم قلب المؤمن لأنه نهى تنزيه على أن تلك التسمية من لفظ الراوي لم يبلغه النهى أو خاطب به من لا يعرفه إلا به - انتهى. وسيأتي مزيد الكلام عليه في باب الأسامي في شرح حديث النهى المذكور (إنها تخرص)
كما تخرص النخل، ثم تؤدي زكاة زبيبا، كما تؤدي زكاة النخل تمرا)).

(11/291)


على بناء المجهول من باب ضرب ونصر أي تحزر (بتقديم الزاي المعجمة على الراء المهملة) من خرص الكرمة والنخلة يخرصها خرصا بفتح المعجمة وسكون الراء إذا قدر ما عليها من الرطب تمرا، ومن العنب زبيبا. قال السندي: الخرص هو تقدير ما على النخل من الرطب تمرا، وما على الكروم من العنب زبيبا، ليعرف مقدار عشره ثم يخلى بينه وبين مالكه، ويؤخذ ذلك المقدار وقت قطع الثمار. وحكى الترمذي عن بعض أهل العلم إن تفسيره إن الثمار إذا أدركت من الرطب والعنب مما فيه الزكاة بعث السلطان خارصا ينظر، فيقول يخرج من هذا كذا وكذا زبيبا، أو كذا وكذا تمرا، فيحصيه وينظر مبلغ العشر من ذلك، فيثبته عليهم ويخلى بينهم وبين الثمار، فإذا جاء وقت الجذاذ أخذ منهم العشر- انتهى. وفائدة الخرص التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها، والبيع من زهوها، وإيثار الأهل والجيران والفقراء لأن في منعهم تضييقا لا يخفى. قال الأمير اليماني: فائدة الخرص أمن الخيانة من رب المال، ولذلك يجب عليه البينة في دعوى النقص بعد الخرص وضبط حق الفقراء على المالك ومطالبة المصدق بقدر ما خرصه وانتفاع المالك بالأكل ونحوه. وقال الخطابي: فائدة الخرص ومعناه إن الفقراء شركاء أرباب الأموال في الثمر، فلو منع أرباب الأموال من حقوقهم ومن الانتفاع بها إلى أن تبلغ الثمرة غاية جفافها لا ضرر ذلك بهم، ولو انبسطت أيديهم فيها لا خل ذلك بحصة الفقراء منها، إذا ليس مع كل أحد من التقية ما تقع به الوثيقة في أداء الأمانة، فوضعت الشريعة هذا العيار ليتوصل به أرباب الأموال إلى الإنتفاع ويحفظ على المساكين حقوقهم. وإنما يفعل ذلك عند أول وقت بدو صلاحها، قبل أن يؤكل ويستهلك ليعلم حصة الصدقة منها فيخرج بعد الجفاف بقدرها تمرا وزبيبا - انتهى. كما تخرص النخل ثم تؤدي زكاته) أي المخروص (زبيبا) هو اليابس من العنب يعني إذا ظهر في العنب وثمر النخل حلاوة يخرص على المالك ويقدر الخارص،

(11/292)


إن هذا العنب إذا صار زبيبا كم يكون. وكذلك الرطب إذا صار تمرا كم يكون، ثم ينظر فإن كان نصابا يجب عليه زكاته وإن لم يكن نصابا لم يجب عليه (كما تؤدي زكاة النخل تمرا) قال الخطابي: إنما يخرص من الثمر ما يحيط به البصر بارزا لا يحول دونه حائل، ولا يخفى موضعه في خلال ورق الشجر والعنب في هذا المعنى كثمرا النخل. فأما سائر الثمار فإنها لا تجري فيها الخرص لأن هذا المعنى فيها معدوم - انتهى. وقيل: إن حكمة جعل النخل فيه أصلا مقيسا عليه، إن خيبر فتحت أول سنة سبع وبها نخل، وقد بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن رواحة. فخرصها فلما فتح الطائف وبها العنب الكثير أمر بخرصه كخرص النخل المعروف عندهم ذكره صاحب البيان وهو الأحسن. أو إن النخل كانت عندهم أكثر وأشهر كذا في المرقاة. والحديث دليل على مشروعية الخرص في العنب والنخل واليه ذهب أكثر أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب وسهل بن أبي حثمة
.................................

(11/293)


ومروان والقاسم بن محمد وعطاء والزهري، وعمرو بن دينار ومالك والشافعي وأحمد وأبوعبيد وأبوثور. ثم اختلفوا هل هو واجب أو مستحب أو جائز؟ فقال الشافعي: في أحد قوليه بوجوبه مستدلا بما في حديث عتاب بن أسيد عند أبي داود والنسائي وغيرهما من أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمر أن يخرص العنب كما يخرص النخل. إلخ. قال الأمير اليماني: قول الراوي "أمر" يفهم منه أنه أتى صلى الله عليه وسلم بصيغة تفيد الأمر والأصل فيه الوجوب. وقال الجمهور هو مستحب (وهي رواية عن الشافعي) إلا أن تعلق به حق لمحجور مثلا أو كان شركاءه غير مؤتمنين فيجب لحفظ مال الغير. وروى عن الشافعي أيضا أنه جائز فقط. قال العيني: وقال الشعبي والثوري وأبوحنيفة وأبويوسف ومحمد: الخرص مكروه. وقال الشعبي: الخرص بدعة. وقال الثوري: خرص الثمار لا يجوز. وقال ابن رشد قال أبوحنيفة وصاحباه: الخرص باطل وعلى رب المال أن يؤدي عشر ما تحصل بيده زاد على الخراص أو نقص منه. وقال في المسوى قالت الحنفية: الخرص ليس بشئ، وأولوا ما روى من ذلك بأنه كان تخويفا للأكرة لئلا يخونوا، فأما أن يكون به حكم فلا - انتهى. قال صاحب العرف الشذي: اعتبر الخرص الحنفية أيضا إلا أنهم لم يجعلوه حجة ملزمة وأمرا فاصلا، فإن وقع الاختلاف بين الخارص والمالك لا يقضى عليه بقول الخارص فقط، ومن سوء بعض عبارات أصحابنا نسب إلينا عدم اعتباره مطلقا وليس بصواب. فإن الأحاديث قد وردت به صراحة - انتهى. وقال صاحب الكوكب الدري: الخرص بالمعنى الذي بينه الترمذي جوزه الإمام أبوحنيفة في العشر والخراج - انتهى. وهذا كما ترى مخالف لما نسبه شراح الحديث وغيرهم إلى الحنفية من أنهم انكروا الخرص مطلقا. وقالوا ببطلانه وكراهته. ووجه بعضهم هذا الاختلاف بأن محمل قول من حكى عن الحنفية بأن الخرص باطل أو ليس بشئ هو إلزام مقدار معين من العشر بذلك الخرص فإنه باطل، لأنه تخمين وليس بحجة ملزمة، ومن حكى

(11/294)


الكراهة أراد أخذ التمر بدل الرطب بالخرص، فإنه من البيوع المنهية في الأحاديث. ومن حكى الجواز والاعتبار أراد جواز الخرص لمجرد التخمين والطمأنينة بغلبة الظن لتخويف الأكرة، ولئلا يتجاسروا على إضاعة العشر والخراج - انتهى. قلت: إعتلال الحنفية عن أحاديث الخرص بما روى من النهى عن الخرص وبأنه من المزابنة المنهي عنها وبأن جوازه منسوخ بنسخ الرباء، وبأنه كان قبل تحريم القمار، وبأنه تخمين وغرور صريح في أن مذهب الحنفية هو عدم جواز الخرص وعدم اعتباره مطلقا، وهذا مستلزم للقول ببطلانه وإنه ليس بشئ. وأما ما نسب إليهم صاحب العرف الشذي وغيره من القول بجوازه فلا أثر له في شئ من كتب فروعهم، والظاهر إن هؤلاء لما رأو قول الكراهة والبطلان مخالفا للسنة الثابتة الصريحة، ذهبوا إلى جوازه وإعتباره ثم نسبوه إلى الحنفية وجعلوه مذهبا لهم، فرارا من إلزام مخالفة السنة ومنابذته قلت: واستدل الجهور لمشروعية الخرص بأحاديث منها حديث عتاب وهو حديث حسن كما ستعرف.
.................................

(11/295)


ومنها حديث أبي حميد الساعدي الطويل عند الشيخين في خرصه - صلى الله عليه وسلم - على امرأة بوادي القرى حديقة لها. ومنها حديث عائشة الآتي قال الماروردي: الدليل على جواز الخرص ورود السنة قولا وفعلا وامتثالا, أما القول فحديث عتاب. وأما الفعل فحديث البخاري يعني حديث أبي حميد الساعدي الذي أشرنا إليه. وأما الإمتثال فما روى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان له خراصون، يعني حديث عائشة وما في معناه. ومنها حديث ابن عمر في صحيح ابن حبان، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلب أهل خيبر على الأرض والزرع والنخل فصالحوه وفيه، فكان ابن رواحة يأتيهم فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر ذكره العيني. قلت: ولابن عمر حديث آخر عند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث ابن رواحة إلى خيبر يخرص عليهم، ثم خيرهم أن يأخذوا أو يردوا إلخ. وفيه العمري وفيه كلام. ومنها: حديث جابر في المصنف. قال العيني: بسند صحيح. قال: خرصها عليهم ابن رواحة يعني خيبر أربعين ألف وسق وله حديث آخر بمعناه عند الدارقطني (ص217) والبيهقي (ج4:ص123). ومنها: حديث ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه إن النبي صلى الله عليه وسلم: حين افتتح خيبر الحديث. وفيه فلما كان حين يصرم النخل بعث إليهم ابن رواحة فحزر النخل وهو الذي يسميه أهل المدينة الخرص. ومنها: حديث الصلت ابن زبيد عن أبيه عن جده عند البيهقي (ج4:ص123، 124) وأبي نعيم وابن مندة في الصحابة وفيه محمد بن مغيث. قال العلائي: لا أعرفه. وقال البيهقي: هذا إسناد مجهول. ومنها: حديث جابر عند ابن عبدالبر مرفوعا، خففوا في الخرص الحديث. وفيه ابن لهيعة. ومنها حديث سهل بن أبي حثمة الآتي وهو حديث صحيح وله حديث آخر عند الدارقطني (ص217-218) والطبراني، وفيه محمد بن صدقة وهو ضعيف. ومنها: حديث عمر عند البيهقي وغيره في أمره بالخرص. وأجاب الحنفية عن هذه الأحاديث بوجوه. الأول: الكلام في أسانيدها. قال ابن

(11/296)


العربي: ليس في الخرص حديث صحيح، إلا حديث أبي حميد الساعدي عند الشيخين، ويليه ما روى في خرص ابن رواحة على أهل خيبر. وتعقب بأن حديث عتاب حسن وحديث سهل صحيح كما ستعرف، قالوا: والجواب عن حديث أبي حميد أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك الخرص معرفة مقدار ما في نخل تلك المرأة خاصة، ثم يأخذ منها الزكاة وقت الصرام على حسب ما تجب فيها، وأيضا فقد خرص حديقتها وأمرها أن تحصى، وليس فيه أنه جعل زكاتها في ذمتها وأمرها أن تتصرف في ثمرها كيف شاءت. وفيه إن الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - خرص عليها حديقتها، وأمرها أن تحصى كيلها ليأخذ منها الزكاة حسب خرصه، ولتنتفع هي بالتناول كيف شاءت فتكون الزكاة في ذمتها. قالوا: والجواب عن الخرص على أهل خيبر إنه لم يكن للزكاة، إذ كانوا ليسوا بأهل زكاة فكان تخمينا ليعلم ما
............................

(11/297)


بأيدي كل قوم من الثمار فيؤخذ مثله بقدره في وقت الصرام لا أنهم يملكون منه شيئا مما يجب لله فيه ببدل لا يزول ذلك البدل. ويرده ما في حديث ابن عمر عند ابن حبان إن ابن رواحة كان يضمن أهل خيبر الشطر، وما في عامة الروايات من تخيير إياهم فإنه يدل على أنهم لو دفعوها إلى المسلمين كان يجب عليهم أن يضمنوا الشطر ويتصرفوا فيها كيف شاءوا. ثم يعطوا اليهود حقهم بحسب خرص ابن رواحة ويؤدوا ما يجب عليهم من الزكاة إلى بيت المال بحسب ذلك الخرص، فكان هذا الخرص في الظاهر لأخذ الحق على اليهود، وفي الحقيقة عليهم وعلى المسلمين جميعا. الثاني: الكلام في معناها وهو إن الخرص لم يكن على وجه تضمين رب المال بقدر الصدقة، لأنه غير جائز لكونه من باب بيع الرطب بالتمر، وإنما وجهه إنهم فعلوا ذلك تخويفا للمزارعين لئلا يخونوا، لا ليلزم به الحكم لأنه تخمين وغرور. الثالث: إنه منسوخ بنسخ الرباء. قال الخطابي: قال بعض: أصحاب الرأي إنما كان جوازه قبل تحريم الرباء والقمار. وتعقبه في المعالم (ج2:ص44) بأن تحريم الربا والقمار والميسر متقدم، والخرص عمل به في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى مات، ثم أبوبكر وعمر فمن بعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم ولا عن التابعين خلاف فيه إلا عن الشعبي - انتهى. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: المثال التاسع والعشرون رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في خرص الثمار في الزكاة والعرايا وغيرها إذا بدا صلاحها، ثم ذكر أحاديث الخرص ثم قال: فردت هذه السنن كلها بقوله تعالى: ?إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه? [المائدة: 90] قالوا: والخرص من باب القمار والميسر فيكون تحريمه نسخا لهذه الآثار، وهذا من أبطل الباطل. فإن الفرق بين القمار والميسر والخرص المشروع كالفرق بين البيع والرباء والميتة والمذكي، وقد نزه الله رسوله وأصحابة عن تعاطي القمار وعن شرعه وإدخاله في الدين، ويا

(11/298)


لله العجب! أكان المسلمون يقامرون إلى زمن خيبر ثم استمروا على ذلك إلى عهد الخلفاء الراشدين. ثم انقضى عصر الصحابة وعصر التابعين على القمار، ولا يعرفون إن الخرص قمار حتى بينه بعض فقهاء الكوفة، هذا والله الباطل حقا والله الموفق - انتهى كلام ابن القيم. قال العيني: قول الخطابي تحريم الربا والميسر متقدم، يحتاج إلى معرفة التاريخ، وعندنا ما يدل على صحة النسخ، وهو ما رواه الطحاوي من حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن الخرص. وقال: أرأيتم إن هلك التمر أيجب أحدكم أن يأكل مال أخيه بالباطل؟ والحظر بعد الإباحة علامة النسخ - انتهى كلام العيني. قلت تقدم تحريم الربا والميسر واضح جدا ظاهر معلوم، لكل من له فهم وعقل صحيح. فإن الخرص قد عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طول عمره وعمل به أبوبكر وعمر في زمانها، ولو كان الخرص قمارا أو ربا أو كان ذلك قبل تحريم القمار والربا لما خفي عليهم ذلك ولم يعملوا به قط، وعملهم بالخرص طول أعمارهم دليل على أن الخرص ليس بقمار ولا ربا، وأما
...............................

(11/299)


حديث جابر فالمراد بالخرص فيه الخرص في المزارعة والمساقاة والبيع لا في الصدقة والعرايا، قال الخطابي: وأما قول أصحاب الرأي: إنه تخمين وغرور فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار الثمار وأدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير كما يعلم ذلك بالمكاييل والموازين، وإن كان بعضها أحصر من بعض. وإنما هذا كإباحته الحكم بالاجتهاد عند عدم النص مع كونه معرضا للخطأ، وفي معناه تقويم المتلفات من طريق الاجتهاد وباب الحكم بالظاهر باب واسع لا ينكره عالم - انتهى. الرابع: إنه من باب المزابنة المنهي عنها، وهو بيع الثمر في رؤس النخل بالتمر كيلا، وهو أيضا من باب بيع الرطب بالتمر نسيئة فيدخله المنع من التفاضل، ومن النسيئة وكلاهما من أصول الربا. وأجيب عن هذا بأن الخرص مستثنى من تلك الأصول كالعرايا بل هو أصل مستقل بنفسه يدل على ذلك ورود السنة به قولا وعملا وتعامل المسلمين من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم. الخامس: إنه كيف يجوز ذلك وقد يجوز أن يحصل للثمرة آفة تتلفها فيكون ما يؤخذ من صاحبها مأخوذ، بدلا مما لا يسلم له أعتل به الطحاوي. وأجيب بأن القائلين بالخرص لا يضمنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص. قال ابن المنذر: اجمع من يحفظ عنه العلم إن المخروص إذا أصابته جائحة، قبل الجذاذ فلا ضمان بخلاف ما إذا أتلفه المالك، فإنه يضمن نصيب الفقراء أي تؤخذ منه الزكاة بحساب ما خرص، والفرق بين الإتلاف والتلف مما لا ينكره عالم. السادس: إن الخرص كان خاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان يوفق من الصواب ما لا يوافق له غيره ذكره أبوعبيد (ص492) ثم تعقبه (ص493) بأنه لا يلزم من كون غيره لا يسدد لما كان يسدد له، سواء أن يثبت بذلك الخصوصية، وإن كان المرأ لا يجب عليه الإتباع إلا فيما يعلم أنه يسدد فيه، كتسديد الأنبياء لسقط الإتباع: قال الحافظ: وترد هذه الحجة أيضا

(11/300)


بإرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - الخراص في زمانه والله أعلم - انتهى. قال الماوردي: واحتج أبوحنيفة بما رواه جابر مرفوعا نهى عن الخرص. وبما رواه جابر بن سمرة إن رسول الله نهى بيع كل ثمرة يخرص وبأنه تخمين، وقد يخطىء وبأنه تضمين رب المال بقدر الصدقة، وذلك غير جائز؛ لأنه بيع رطب بتمر وأنه بيع حاضر بغائب. وأجيب عن الحديثين بأن المراد من الخرص فيهما الخرص في المزارعة والمساقاة لا في الصدقة كما تقدم. وأما القول بأنه تخمين وقد يخطىء، وبأنه بيع رطب بتمر الخ. فقد تقدم جوابه أيضا فتذكر. وأعلم أنه اختلف القائلون بالخرص هل يختص أو يلحق به العنب أو يعم كل ما ينتفع به رطبا وجافا؟. وبالأول قال شريح القاضي وبعض الظاهرية. (قال ابن رشد: لأنه لم يصح عندهم حديث عتاب) والثاني قول الجمهور. وإلى الثالث نحا البخاري. وهل يمضي قول الخارص أو يرجع ما آل إليه الحال بعد الجفاف الأول
.............................

(11/301)


قول مالك وطائفة. والثاني: قول الشافعي. ومن تبعه وهل يكفي خارص واحد عارف ثقة أو لابد من اثنين وهما قولان الشافعي والجمهور على الأول، واختلف أيضا هل هو إعتبار أو تضمين وهما قولان للشافعي أظهرهما الثاني: وفائدته جواز التصرف في جميع الثمرة، ولو اتلف المالك الثمرة بعد الخرص أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص كذا في الفتح. واختلفوا أيضا هل يحاسب أصحاب النخيل والثمار بما أكلوا قبل الجذاذ أم لا؟، وكذلك اختلفوا هل يؤخذ قدر العرايا والضيف وما في معناه أم لا؟. وسيأتي بيانه في شرح حديث سهل. واختلفوا أيضا إذا غلط الخارص. قال ابن قدامة: (ج2 ص706، 710) وينبغي أن يبعث الإمام ساعيه إذا بدا صلاح الثمار ليخرصهما ويقدر الزكاة، ويعرف المالك ذلك، قال: ويجزئ خارص واحد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يبعث ابن رواحة فيخرص ولم يذكر معه غيره، ولأن الخارص يفعل ما يؤديه اجتهاد إليه فهو كالحاكم ويعتبر في الخارص أن يكون أمينا غير متهم (لأن الفاسق لا يقبل خبره). وصفة الخرص أن يطيف بكل نخلة أو شجرة وينظر كم في الجميع رطبا أو عنبا ثم يقدر ما يجيء منها تمرا، فإذا خرص على المالك وعرفه قدر الزكاة خيره بين أن يضمن قدر الزكاة ويتصرف فيها بما شاء من أكل وغيره، وبين حفظها إلى وقت الجذاذ والجفاف، فإن اختار حفظها ثم أتلفها أو تلفت بتفريطة فعليه ضمان نصيب الفقراء بالخرص، وإن تلفت بجائحة من السماء سقط عنهم الخرص. وإن ادعى تلفها بغير تفريطه فالقول قوله بغير يمين (وقال الأمير اليماني إذا أدعي المخروص عليه النقص بسبب يمكن إقامة البينة عليه وجب إقامتها وإلا صدق بيمينه). وإن حفظها إلى وقت الإخراج فعليه زكاة الموجود لا غير، سواء إختار الضمان أو حفظها على سبيل الأمانة وسواء كانت أكثر مما خرصه الخارص أو أقل وبهذا قال الشافعي، وقال مالك: يلزمه ما قال الخارص زاد أو نقص، إذا كانت الزكاة متقاربة؛ لأن الحكم انتقل إلى ما

(11/302)


قال الساعي بدليل وجوب ما قال عند تلف المال. ولنا إن الزكاة أمانة فلا تصير مضمونة بالشرط كالوديعة، ولا نسلم أن الحكم إنتقل إلى ما قاله الساعي، وإنما يعمل بقوله: إذا تصرف في الثمرة ولم يعلم قدرها؛ لأن الظاهر أصابته، وإن أدعى رب المال غلط الخارص وكان ما ادعاه محتملا قبلا قوله بغير يمين، وإن لم يكن محتملا مثل أن يدعى غلط النصف ونحوه لم يقبل قوله؛ لأنه لا يحتمل فيعلم كذبه، وإن قال لم يحصل في يدي غير هذا قبل منه بغير يمين، لأنه قد يتلف بعضها بآفة لا نعلمها (وفيه ما قيل: إن هذا ما يليق بحال المؤمنين الصادقين. وقد قل عددهم في أكثر الأمصار فلو قبل السلطان قولهم لكذب أكثرهم) ويخرص النخل والكرم لما روينا من الأثر فيهما ولم يسمع بالخرص في غيرهما فلا يخرص الزرع في سنبله، وبهذا قال عطاء والزهري ومالك. لأن الشرع لم يرد بالخرص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه. لأن ثمرة النخل والكرم تؤكل رطبا فيخرص على أهله للتوسعة عليهم ليخلي بينهم وبين أكل الثمرة والتصرف فيها ثم يؤدون الزكاة منها على ما خرص، ولأن ثمرة النخل والكرم ظاهرة
رواه الترمذي وأبوداود.
1820- (12) وعن سهل بن أبي حثمة، حدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((إذا خرصتم

(11/303)


مجتمعه، فخرصها أسهل من خرص غيرهما وما عداهما فلا يخرص. وإنما على أهله فيه الأمانة إذا صار مصفي يابسا ولا بأس أن يأكلوا منه ما جرت العادة بأكله ولا يحتسب عليهم - انتهى كلام ابن قدامة مختصرا ملتقطا. (رواه الترمذي وأبوداود) واللفظ للترمذي وأخرجه أيضا الدارقطني (ص217) ولفظ أبي داود: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا. وأخرجه بهذا اللفظ النسائي والدارقطني وابن حبان أيضا، وفي رواية للترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يبعث على الناس من يخرص كرومهم وثمارهم. ومدار الحديث على سعيد بن المسيب عن عتاب، وقد تقدم قول أبي داود وأبي حاتم إن سعيد بن المسيب لم يسمع من عتاب وابن قانع، أنه لم يدركه، والمنذري إن انقطاعه ظاهر وقال الحافظ في بلوغ المرام: فيه انقطاع. وقال ابن السكن: لم يرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه غير هذا. وقد رواه الدارقطني بسند فيه الواقدي. فقال: عن سعيد بن المسيب عن المسور بن مخرمة عن عتاب. وقال أبوحاتم: الصحيح عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عتابا مرسل. وهذه رواية عبدالرحمن بن إسحاق الزهري - انتهى. قلت: اختلف أصحاب الزهري عليه، فرواه الواقدي عن محمد بن عبدالله بن مسلم وعبدالرحمن ابن عبدالعزيز عن الزهري عن سعيد عن المسور بن مخرمة عن عتاب، وهذا عند الدارقطني. ورواه محمد بن صالح الثمار عن الزهري عن سعيد عن عتاب، وهو عند الترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي. وكذا رواه عبدالرحمن ابن إسحاق عن الزهري عند أبي داود والدارقطني والبيهقي. وروى عبدالرحمن بن إسحاق أيضا عن الزهري عن سعيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمر عتابا مرسل وهذا عند النسائي والبيهقي، ولم يظهر لي وجه كون المرسل صحيحا والموصول خطأ، والحديث قد حسنه

(11/304)


الترمذي. وسماع سعيد بن المسيب من عتاب ممكن على ما حققه الحافظ في تهذيب التهذيب والإصابة، وقد سبق كلامه. فالظاهر إن هذا الحديث موصول حسن والله تعالى أعلم. وقال النووي: وهو وإن كان مرسلا فهو يعتضد بقول الأئمة ثم رأيت الزرقاني. قال في شرح الموطأ: ودعوى الإرسال بمعنى الانقطاع مبني على قول الواقدي، إن عتابا مات يوم مات أبو بكر الصديق لكن ذكر ابن جرير الطبري إنه كان عاملا لعمر على مكة سنة إحدى وعشرين، وقد ولد سعيد لسنتين مضتا من خلافة عمر على الأصح فسماعه من عتاب ممكن فلا انقطاع، وأما عبدالرحمن ببن إسحاق فصدوق احتج به مسلم وأصحاب السنن- انتهى.
1820- قوله: (وعن سهل بن أبي حثمة) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة (إذا خرصتم) أي قدرتم
فخذوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث، فدعوا الربع)).

(11/305)


وحزرتم أيها السعاة والمصدقون (فخذوا) أي زكاة المخروص إن سلم من الآفة وهو بضم الخاء والذال المعجمتين أمر من الأخذ، وفي بعض نسخ أبي داود فجذوا بالجيم والدال من الجذ، أي فقطعوا، وفي بعضها فجدوا بالدال المهملة وهو القطع أيضا وعلى هاتين النسختين جزاء الشرط محذوف، أي إذا خرصتم. ثم قطع أرباب النخل ثمرها فخذوا زكاة المخروص. وقيل: جذوا بضم الجيم صيغة أمر وهو جزاء الشرط، أي رخصوا لهم في الجذاذ وذلك لأن الجذر ليس إلى المصدقين (ودعوا) أي أتركوا (الثلث) بضم اللام. قال الطيبي: "فخذوا" جواب الشرط "ودعوا" عطف عليه أي إذا خرصتم فبينوا مقدار الزكاة، ثم خذوا ثلثي ذلك المقدار واتركوا الثلث لصاحب المال، حتى يتصدق به أي على جيرانه ومن يطلب منه. قال القاضي: الخطاب مع المصدقين أمرهم أن يتركوا للمالك ثلث ما خرصوا عليه أو ربعة توسعة عليه حتى يتصدق به هو على جيرانه، ومن يمر به ويطلب منه فلا يحتاج إلى أن يغرم ذلك من ماله- انتهى. قال الأمير اليماني: قد اختلف في معنى الحديث على قولين أحدهما: أن يترك الثلث أو الربع من العشر. وثانيهما: أن يترك ذلك من نفس الثمر قبل أن يعشر. وقال الشافعي: معناه أن يدع ثلث الزكاة أو ربعها ليفرقها هو على أقاربه وجيرانه. وقيل: يدع له ولأهله قدرما يأكلون ولا يخرص. قال في الشرح: والأولى الرجوع إلى ما صرحت به رواية جابر وهو التخفيف في الخرص ويترك من العشر قدر الثلث أو الربع، فإن الأمور المذكورة قد لا تدرك الحصاد فلا تجب فيها الزكاة- انتهى. قلت: حديث جابر رواه ابن عبدالبر من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا. قال: خففوا في الخرص فإن في المال العرية والوطئة والآكلة- الحديث. كذا في التلخيص، ويؤيده ما روى الدارقطني (ص218) والطبراني عن سهل ابن أبي حثمة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بعث أباه أباحثمة خارصا فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إن أباحثمة زاد علي، فدعا

(11/306)


أباحثمة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن ابن عمك يزعم أنك قد زدت عليه فقال: يا رسول الله! قد تركت عرية أهله وما تطعمه المساكين وما يصيب الريح. فقال: قد زادك ابن عمك وأنصف- انتهى. وفيه محمد بن صدقة وهو ضعيف. واختلف العلماء في العمل بحديث الباب، فذهب مالك وسفيان وأبوحنيفة إلى أنه لا يترك لرب المال شيء، بل يحسب عليه ما أكل من ثمرة قبل الجذاذ في النصاب. قال الحافظ: وهو المشهور عن الشافعي. وقال ابن الملك وابن حجر: هو قول الشافعي في الجديد. قيل والجواب عن هذا الحديث إنه كان في حق يهود خيبر، وكانت قصتهم مخصوصة لأن الأرض أرضه والعبيد عبيده، فأمر - صلى الله عليه وسلم -: أن يترك لهم منها قدر نفقاتهم. وأجاب بعضهم بأن معنى الحديث أن يترك لهم ذلك من العشر الواجب ليتصدقوا منه بأنفسهم على الفقراء من أقاربهم وجيرانهم كما سبق عن الشافعي، وليس المعنى أنه لا زكاة عليهم في
رواه الترمذي وأبوداود، والنسائي.

(11/307)


ذلك أو لا يحسب لهم ما أكلوه في النصاب، وأجيب أيضا بأن المراد به مؤنة الزرع أو مؤنة الأرض فيوضع ذلك ولا يحسب في النصاب. قال ابن العربي: والمتحصل من صحيح النظر أن يعمل بالحديث وهو قدر المؤنة، ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب مما يؤكل رطبا. وذهب أحمد والليث وإسحاق والشافعي أيضا على ما قال ابن رشد (ج1 ص241) وابن حزم إلى ظاهر الحديث. فقالوا: يترك لهم في الخرص من عرض المال الثلث أو الربع ولا يحسب ذلك في النصاب. قال الخطابي: ذهب بعض العلماء في تأويل الحديث إلى أنه متروك لهم من عرض المال توسعة عليهم، فلو أخذوا بإستيفاء الحق كله لا ضر ذلك بهم، وقد يكون منها السقاطة وبنتابها الطير ويخترفها الناس للأكل فترك لهم الربع توسعة عليهم. وكان عمر بن الخطاب يأمر الخراص بذلك، وبقول عمر قال أحمد وإسحاق. وذهب غير هؤلاء إلى أنه لا يترك لهم شيئا شائعا في جملة النخل بل يفرد لهم نخلات معدودة، قد علم مقدار ثمرها بالخرص- انتهى. قال الحافظ: قال بظاهر الحديث الليث وأحمد وإسحاق وغيرهم، وفهم منه أبوعبيد في كتاب الأموال أنه القدر الذي يأكلونه بحسب احتياجهم إليه: فقال يترك قدر احتياجهم- انتهى. وقال ابن قدامة: (ج2 ص706) وعلى الخارص أن يترك في الخرص الثلث أو الربع توسعة على أرباب الأموال. لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم ويطعمون جيرانهم وأهلهم وأصدقائهم وسؤالهم، ويكون في الثمرة السقاطة وينتابها الطير، وتأكل منه المارة فلو استوفى الكل منهم أضر بهم، وبهذا قال إسحاق ونحوه. قال الليث وأبوعبيد: والمرجع في تقدير المتروك إلى الساعي باجتهاد فإن رأي الآكلة كثيرا ترك الثلث وإن كانوا قليلا ترك الربع، لحديث سهل بن أبي حثمة. وروى أبوعبيد (ص487) بإسناده عن مكحول قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا بعث الخراص قال: "خففوا فإن المال العرية والوطئة" وروى عن عمر أنه قال: خففوا على الناس في الخرص فإن

(11/308)


المال العرية والواطئة والآكلة. قال أبوعبيد: الواطئة السابلة سموا بذلك، لوطئهم بلاد الثمار مجتازين والآكلة أرباب الثمار وأهلوهم ومن لصق بهم، ومنه حديث سهل بن أبي حثمة في مال سعد بن أبي سعد حين قال: لولا إني وجدت فيه أربعين عريشا الخرصة تسعمأة وسق، وكانت تلك العرش لهؤلاء الآكلة والعرية النخلة أو النخلات يهب إنسانا ثمرتها فجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ليس في العرايا صدقة. وروى ابن المنذر (وأبوعبيد والحاكم والبيهقي) عن عمر أنه قال لسهل بن أبي حثمة: إذا أتيت على نخل قد حضرها قوم فدع لهم ما يأكلون، والحكم في العنب كالحكم في النخيل سواء، فإن لم يترك لهم الخارص شيئا فلهم الآكل قدر ذلك، ولا يحتسب عليهم به؛ لأنه حق عليهم- انتهى. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص2، 3) و(ج3 ص448) والنسائي وابن حبان والحاكم (ج1 ص402) والبيهقي (ج4 ص123)
1821-(13) وعن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يبعث عبدالله بن رواحة إلى يهود، فيخرص النخل، حين يطيب قبل أن يؤكل منه)).
وأبوعبيد (ص485) وابن حزم (ج5 ص255) وقد سكت عنه أبوداود والمنذري، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي. قال الحاكم: وله شاهد بإسناد متفق على صحته إن عمر بن الخطاب أمر به- انتهى. وقد تقدم لفظه، ولم يحكم الترمذي على حديث سهل بشيء، نعم قال بعد روايته والعمل على حديث سهل عند أكثر أهل العلم وبحديث سهل يقول إسحاق وأحمد- انتهى. وفي سنده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراوي عن سهل. وقد قال البزار: إنه تفرد وهو معروف. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله.؟ قلت: عبدالرحمن هذا ذكره ابن حبان في الثقات وقال الحافظ: في التقريب: إنه مقبول.

(11/309)


1821-قوله: (يبعث) أي يرسل (إلى يهود) أي في خيبر (فيخرص النخل) بضم الراء يحزرها (حين يطيب) بالتذكير والتأنيث أي يظهر في الثمار الحلاوة قاله القاري. (قبل أن يؤكل منه) هذه رواية أبي داود في الزكاة من طريق حجاج عن ابن جريج، أخبرت عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، وفيه واسطة بين ابن جريج والزهري ولم يعرف، ومن هذا الطريق أخرجه في آخر كتاب البيوع وزاد ثم يخير اليهود يأخذونه بذلك الخرص أم يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق" ومن طريق أبي داود، أخرجه البيهقي (ج45 ص123) قال الطيبي: وهذه زكاة أموال المسلمين الذين تركوها في أيدي اليهود ويعملون فيها- انتهى. قال القاري: وفيه إشارة إلى دفع ما يرد عليه من أن الكافر لا زكاة عليه، فبينه بأن ابن رواحة لم يخرص عليهم إلا حصة الغانمين دفعوا إليها نخلها ليعملوا فيه بحصته من التمر- انتهى كلام القاري. وقال في عون المعبود: (ج3 ص274) مراد عائشة إن بعث ابن رواحة للخرص إنما كان لإحصاء الزكاة؛ لأن المساكين ليسوا شركاء معينين، فلو ترك اليهود وأكلها رطبا والتصرف فيها أضر ذلك سهم المسلمين. قال الزرقاني في شرح الموطأ قال ابن مزين: سألت عيسى عن فعل ابن رواحة يجوز للمستاقيين أو للشريكين فقال لا، ولا يصلح قسمه إلا كيلا إلا أن تختلف حاجتهما إليه فيقتسمانه بالخرص فتأول خرص ابن رواحة للقسمة خاصة. وقال الباجي: يحتمل أنه خرصها لتميز حق الزكاة لأن مصرفها غير مصرف أرض العنوة؛ لأنه يعطيها الإمام للمستحق من غني وفقير، فيسلم مما خافه عيسى. وأنكره وقوله في رواية مالك ن شئتم فلكم، وإن شئتم فلي، حمله عيسى على أنه أسلم إليهم جميع الثمرة بعد الخرص ليضمنوا حصة المسلمين. ولو كان هذا معناه لم يجز، لأنه بيع الثمر بالثمر بالخرص في غير العرية. وإنما معناه خرص الزكاة فكأنه قال: إن شئتم أن تأخذوا الثمرة على أن تؤدوا زكاتها على ما خرصته، وإلا فأنا اشتريها

(11/310)


من الفيء بما يشتري به، فيخرج بهذا الخرص، وذلك معروف لمعرفتهم بسعر
رواه أبوداود.
1822-(14) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:((في العسل، في كل عشرة أزق زق)).
الثمر. وأن حمل على خرص القسمة لاختلاف الحاجة فمعناه، إن شئتم هذا النصيب فلكم، وإن شئتم فلي يبين ذلك إن الثمرة ما دامت في رؤس النخل ليس بوقت قسمة ثمر المساقاة، لأن على العامل جذها والقيام عليها حتى يجرى فيها الكيل أو الوزن. فثبت بهذا أن الخرص قبل ذلك لم يكن للقسمة إلا بمعنى اختلاف الأغراض. وقال ابن البر: الخرص في المساقاة لا يجوز عند جميع العلماء، لأن المساقيين شريكان لا يقتسمان إلا بما يجوز به بيع الثمار بعضها ببعض، وإلا دختله المزابنة. قالوا وإنما بعث - صلى الله عليه وسلم - من يخرص على اليهود لإحصاء الزكاة، لأن المساكين ليسوا شركاء معينين، فلو ترك اليهود وأكلها رطبا والتصرف فيها أضر ذلك سهم المسلمين. قالت: عائشة: إنما أمر - صلى الله عليه وسلم - : بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار- انتهى كلام ابن عبد البر. وهذا الحديث المطول قد رواه عبدالرزاق ومن طريقه الدار قطني (ص217) وابن حزم (ج5 ص255) عن ابن جريج عن الزهري ولم يذكر واسطة، وابن جريج مدلس فلعله تركها تدليسا، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه. قال: فرواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة. وأرسله معمر ومالك وعقيل ولم يذكروا أباهريرة. وقال صاحب الاستذكار قوله "في رواية عبدالرزاق "وإنما كان أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخرص لكي تحصى الزكاة الخ. من قول عائشة. وقال الترمذي: بعد رواية حديث عتاب بن أسيد المتقدم. قد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وسألت محمدا عن هذا فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ، وحديث سعيد عن عتاب أصح - انتهى. لكن أخرج أبوداود في كتاب البيوع من طريق ابن جريج أخبرني أبوالزبير أنه

(11/311)


سمع جابرا يقول: خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق، وزعم إن اليهود لما خيرهم ابن رواحة، أخذوا الثمر وعليهم عشرون ألف وسق- انتهى. وهذا يؤيد حديث ابن جريج عن الزهري المتقدم، وكذا يؤيده ما رواه أبوداود أيضا من طريق إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر أنه قال: لما أفاء الله رسوله خيبر فأقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم. فبعث عبدالله بن رواحة فخرصها قال الزرقاني: أي لتميز حق الزكاة من غيرها لاختلاف المصرفين أو للقسمة لاختلاف الحاجة كما مر، وفيه جواز التخريص لذلك. (رواه أبوداود) أي في كتاب الزكاة وفي إسناده رجل مجهول لكن أخرج هو أيضا في آخر البيوع شاهدا له، من حديث جابر برجال ثقات وقد ذكرنا لفظه.
1822- قوله: (في العسل) بفتح العين والسين المهملتين لعاب النحل. قال في مختار الصحاح: العسل يذكر ويؤنث (في كل عشرة أزق) بفتح الهمزة وضم الزاي وتشديد القاف أفعل جمع قله (زق) بكسر الزاي
.............................

(11/312)


مفرده وهو ظرف من جلد يجعل فيه السمن والعسل وغيرهما. وفيه دليل على وجوب العشر في العسل. واختلف العلماء فيه، فذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر والثوري وأبوثور وداود وابن حزم إلى أنه لا زكاة في العسل، وبه قال من الصحابة علي رضي الله عنه أخرجه يحيى بن آدم في الخراج (ص31) والبيهقي (ج4 ص127) من طريقه، وفيه انقطاع، وعبدالله بن عمر رضي الله عنه. أخرجه أبوعبيد (ص499) بإسناد فيه ضعف، ومعاذ كما سيأتي. ومن التابعين المغيرة بن حكيم وعمر بن عبدالعزيز، أخرجه ابن أبي شيبة وعبدالرزاق بإسناد صحيح. قال ابن المنذر: ليس في العسل خبر يثبت ولا إجماع فلا زكاة. وهو قول الجمهور. وقال أحمد وأبوحنيفة وأبويوسف، ومحمد وإسحاق ومكحول والزهري وسليمان بن موسى وربيعة ويحيى بن سعيد وابن وهب بوجوب كل العشر فيه. ويروي ذلك عن عمر بن عبدالعزيز، أخرجه عبدالرزاق ولكنه بإسناد ضعيف كما بينه الحافظ في الفتح، وابن حزم في المحلى (ج5 ص232) وأخرج أبوعبيد (ص498) عن خصيف أن عمر بن عبدالعزيز رأى في العسل العشر. وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم. وأشار العراقي في شرح الترمذي إلى أن الذي نقله ابن المنذر عن الجمهور أقوى من نقل الترمذي. واحتج هؤلاء بحديث الباب وهو كما ستعرف، وبما روى عبدالرزاق والبيهقي من طريقه (ص126) من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ من أهل العسل العشور، وفيه عبدالله بن محرر وهو متروك وبما روى الشافعي في الأم (ج2 ص33) وأبوعبيد (ص496) والبيهقي (ج4 ص127) وابن أبي شيبة (ج3 ص20) والطبراني في الكبير والبزار عن سعد بن أبي ذباب، أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - : فأسلمت فذكر الحديث، وفيه أنه أخذ من قومه زكاة العسل العشر، فأتى به عمر فأخذه. قال الهيثمي: فيه منير بن عبدالله وهو ضعيف. وقال الحافظ في التلخيص: ضعفه البخاري والازدي وغيرهما، وقال البخاري:

(11/313)


وعبدالله الذي رواه عنه ابنه منير عن سعد بن أبي ذباب لم يصح حديثه. وقال ابن عبدالبر: لا يقوم بهذا حجة. قلت: وفي سنده عند الشافعي عبدالرحمن بن أبي ذباب ولم أقف على ترجمته. وقال الشافعي: وسعد بن ذباب يحكى ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لم يأمره بأخذ الصدقة من العسل، وإنه شيء رأه هو فتطوع له به أهله، وبما روى أحمد (ج4 ص336) وابن ماجه والطيالسي (ص169) والبيهقي (ج4 ص126) وأبويعلى وعبدالرزاق وأبوعبيد (ص497) والطبراني من طريق سليمان بن يسار عن أبي سيارة المتعى. قال: قلت يا رسول الله! إن لي نحلا. قال: أد العشر. قلت: أحم لي جبلها فحماه لي. قال البيهقي: هذا أصح ما روى في وجوب العشر في العسل وهو منقطع. قال الترمذي في علله: سألت محمدا عن هذا الحديث. فقال: مرسل لأن سليمان لم يدرك أحدا من الصحابة، وليس في زكاة العسل شيء يصح. وبما روى أبوداود والنسائي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
..................................

(11/314)


جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي له واديا يقال له سلبة فحماه له فلما ولي عمر كتب إلى عامله سفيان بن وهب، إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عشور نحلة فاحم له سلبة وإلا فلا. ورواه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ من العسل العشر. وروى الطبراني من هذا الوجه إن بني شبابه بطن من فهم كانوا يؤدون عن نحل لهم العشر من كل عشر قرب قربة- الحديث. ولأبي عبيد في الأموال (ص497) والبيهقي (ج4 ص127) من هذا الوجه إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يؤخذ في زمانه من العسل في كل عشر قرب قربة من أوسطها، وفي إسناده ابن لهيعة. قال الحافظ في الفتح: بعد ذكر رواية أبي داود والنسائي إسناده صحيح إلى عمرو، وترجمة عمرو قوية على المختار، لكن حيث لا تعارض. وقد ورد ما يدل على أن هلالا أعطى ذلك تطوعا، فعند عبدالرزاق عن صالح بن دينار إن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى عثمان بن محمد ينهاه، أن يأخذ من العسل صدقة. إلا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها فجمع عثمان أهل العسل فشهدوا إن هلال بن سعد قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسل. فقال ما هذا، قال: صدقة فأمر برفعها ولم يذكر عشورا لكن الإسناد الأول أقوى، إلا أنه محمول على أنه في مقابلة الحمى، كما يدل عليه كتاب عمر بن الخطاب- انتهى. وقال الخطابي في المعالم: (ج2 ص43) في هذا الحديث دليل على أن الصدقة غير واجبة في العسل. وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أخذ العشر من هلال المتعى، إذ كان قد جاء بها متطوعا وحمى له الوادي رفاقا ومعونة له بدل ما أخذ منه. وعقل عمر بن الخطاب المعنى في ذلك فكتب إلى عامله يأمره بأن يحمى له الواديان إن أدى إليه العشر وإلا فلا، ولو كان سبيله سبيل الصدقات الواجبة في الأموال لم يخيره في ذلك- انتهى. وقال الشوكاني: وأعلم

(11/315)


أن حديث أبي سيارة وحديث هلال إن كان غير أبي سيارة لا يدلان على وجوب الزكاة في العسل، لأنهما تطوعا بها وحمى لهما يدل ما أخذ وعقل عمر العلة فأمر بمثل ذلك، ولو كان سبيله سبيل الصدقات لم يخير في ذلك. وبقية أحاديث الباب لا تنتهض للاحتجاج بها- انتهى. ويؤيده ما رواه الحميدي بإسناده إلى معاذ بن جبل أنه أتى بوقص البقر والعسل فقال معاذ كلاهما لم يأمرني فيه - صلى الله عليه وسلم - بشيء- انتهى. قلت: حديث معاذ هذا أخرجه أيضا أبوداود في المراسيل، وعبدالرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي "(ج4 ص127) وابن حزم (ج5 ص233) من طريق طاووس عنه. وفيه انقطاع بين طاووس ومعاذ. لكن قال البيهقي: هو قوى لأن طاوسا كان عارفا بقضايا معاذ. وقال الشافعي:الحديث في أن في العسل العشر ضعيف، وفي أن لا يؤخذ منه العشر ضعيف، إلا عن عمر بن عبدالعزيز، واختياري أن لا يؤخذ منه؛ لأن السنن والآثار ثابتة فيما يؤخذ منه، وليست فيه ثابتة فكأنه عفو- انتهى. وتقدم قول ابن المنذر أنه ليس في وجوب الصدقة في العسل خبر يثبت ولا إجماع، فلا زكاة فيه، وقول البخاري أنه لا يصح فيه شيء- انتهى. قلت: واستدل الجصاص على وجوب الزكاة في العسل بقوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة? [التوبة: 103] إذ قال ظاهر قوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة? يوجب الصدقة في العسل إذ هو من
رواه الترمذي، وقال: في إسناده مقال،

(11/316)


ماله- انتهى. قال ابن حزم: إن الله تعالى قال: ?ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل? [البقر: 188] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، فلا يجوز إيجاب فرض زكاة في مال لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه إيجابها، فإن احتجوا بعموم قول الله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة? قيل: لهم فأوجبوها فيما خرج من معادن الذهب والفضة، وفي القصب وفي ذكور الخيل، فكل ذلك أموال المسلمين بل أوجبوها حيث لم يوجبها الله تعالى، وأسقطوا مما خرج من النخل والبر والشعير في أرض الخراج، وفي الأرض المستأجرة. ولكنهم قوم يجهلون - انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أنه لم يثبت في زكاة العسل شيء، إلا حديث عمرو بن شعيب عند أبي داود والنسائي وابن ماجه، وهو محمول على أنه كان في مقابلة الحمى، كما قال الخطابي والحافظ والشوكاني: فالقول الراجح المعول عليه هو ما ذهب إليه مالك والشافعي من عدم وجوب الزكاة في العسل والله تعالى اعلم. واعلم إن أباحنيفة فرق بين أن يكون العسل في أرض العشر ففيه الزكاة وبين أن يكون في أرض الخراج فلا زكاة فيه، لأن مذهبه إن العشر والخراج لا يجتمعان في أرض، وسوى الإمام أحمد بين الأرضين، وأوجبه بما أخذه من ملكه أو وات. ثم اختلف الموجبون له هل له نصاب أم لا، على قولين. أحدهما: أنه يجب في قليله وكثيره، وهذا قول أبي حنيفة. قال ابن الهمام: بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب المتقدم، من رواية الطبراني وأبي عبيد غاية ما في حديث القرب، أنه كان أداءهم من كل عشر قرب قربة وهو فرع بلوغ عسلهم هذا المبلغ؛ أما النفي عما هو أقل من عشر قرب فلا دليل فيه عليه. وأما حديث الترمذي فضعيف - انتهى. والثاني: إن له نصابا معينا، ثم اختلف في قدره. فقال أبويوسف: يجب إذا بلغت قيمته خمسة أوساق، وعنه أنه قدره بعشرة أرطال قال في المبسوط: وهي رواية الأمالي وهي خمسة أمناء وعنه أنه اعتبر فيه عشر قرب. وعن محمد؛ ثلاث

(11/317)


روايات. إحداها: خمس قرب والقربة خمسون منا ذكره في الينابيع. وفي المغني القربة مائة رطل. والثانية: خمسة أمناء، والثالثة خمسة أواق. قال السرخسي: وهي تسعون منا. وقال أحمد: نصابه عشرة أفراق، لما روى الجوزجاني إن عمر قال: إن أديتم صدقتها من كل عشرة أفراق فرقا حميناها لكم. قال الزهري: والفرق ستة عشر رطلا فيكون نصابه مائة وستون رطلا. وقال ابن حامد: الفرق ستون رطلا، فيكون النصاب ستمائة رطل. وقيل: الفرق ستة وثلاثون رطلا فيكون النصاب ثلاث مائة رطل وستون رطلا، والأول: هو ظاهر كلام الإمام أحمد وهو الذي رجحه ابن قدامة في المغني (ج2 ص715) (رواه الترمذي وقال إسناده مقال) ؛لأنه قد تفرد به صدقة بن عبدالله السمين وهو ضعيف، وأخرجه أيضا ابن عدي في الكامل في ترجمة صدقة بن عبدالله، وأعله به وضعفه عن أحمد والنسائي وابن معين. ورواه البيهقي (ج4 ص126) وقال: تفرد به صدقة وهو ضعيف، ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما. ورواه ابن حبان في الضعفاء. وقال: في صدقة يروي الموضوعات عن الثقات. ورواه الطبراني في الأوسط من هذا الوجه. وقال: إنه تفرد به. ولفظه وقال: في العسل العشر في كل قرب قربة، وليس فيما
ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كثير شيء.
1823-(15) وعن زينب امرأة عبدالله، قالت: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن، فإنكن أكثر أهل جهنم يوم القيامة)).

(11/318)


دون ذلك شيء كذا في نصب الراية. وقال الحافظ في التلخيص: في سنده صدقة السمين وهو ضعيف الحفظ وقد خولف. وقال النسائي: هذا حديث منكر. وقال البيهقي: تفرد به صدقة وهو ضعيف. وقد تابعه طلحة بن زيد عن موسى بن يسار ذكره المروزي. ونقل عن أحمد تضعيفه، وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عنه. فقال: هو عن نافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل. (ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب) أب باب زكاة العسل (كثير شيء) قال الطيبي: أي ما يعول عليه. وقال البخاري: ليس في زكاة العسل شيء يصح.

(11/319)


1823- قوله: (وعن زينب) بنت معاوية ويقال بنت عبدالله بن معاوية بن عتاب الثقفية وتسمى أيضا برائطة (امرأة عبدالله) بن مسعود (تصدقن) أي أخرجن زكاة أموالكن (ولو من حليكن) بضم الحاء وكسرها فكسر اللام وتشديد التحية جمع الحلي بفتح فسكون. قال في القاموس: الحلي بالفتح ما يزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة جمعه حلي بالضم والكسر كدلي، أو هو جمع والواحد حلية كظبية، والحلية بالكسر الحلي جمع حلي وحلي- انتهى. وقال في النهاية: الحلي اسم لكل ما يتزين به مصاغ الذهب والفضة، والجمع حلي بالضم والكسر، والجمع الحلية حلي مثل لحية ولحي، وربما تضم وتطلق الحلية على الصفة أيضا وانتهى. (فإنكن أكثر أهل جهنم يوم القيامة) أي لمحبة الدنيا الباعثة على ترك الزكاة والصدقة للعقبى. والحديث بظاهرة يدل على وجوب الزكاة في الحلي، وهو الذي فهمه الترمذي حيث أورده في باب ما جاء في الزكاة الحلي. قال أبوالطيب السندي في شرح الترمذي: مناسبته بالترجمة باعتبار إن الأمر فيه للوجوب؛ لأن الأصل فيه ذلك أي تصدقن وجوبا، ولو كانت الصدقة من حليكن وهو الذي فهمه المصنف. وأما القول: بأنه أمر ندب بالصدقة النافلة، لأنه خطاب بالحاضرات ولم تكن كلهم ممن فرضت عليهن الزكاة. والظاهر إن معنى قوله "ولو من حليكن" أي ولو تيسر من حليكن وهذا لا يدل على أنه يجب في الحلي إذ يجوز أن يكون واجبا على الإنسان في أمواله الأخر. ويؤديه من الحلي فذكر المصنف أي الترمذي الحديث في هذا الباب لا يخلو عن خفاء فعدول عن الأصل الذي هو الوجوب وتغيير للمعنى الذي هو الظاهر، لأن معناه تصدقن من جميع الأموال التي تجب فيها الزكاة عليكن، ولو كانت الصدقة الواجبة من حليكن. وإنما ذكر لدفع توهم من يتوهم إن الحلي من الحوائج الأصلية، ولا تجب فيها الزكاة ويؤيد هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -، فإنكن أكثر أهل جهنم لترك الواجبات. وأما كون الخطاب

(11/320)


....................................
للحاضرات خصوصا، فممنوع بل الخطاب، لكل من يصلح للخطاب نعم، فيه تلميح إلى حسن الصدقة في حق غير الغنيات، فلا يرد إن كون الأمر للوجوب لا يستقيم ويؤيده ما في آخر هذا الحديث في البخاري. قالت زينب لعبدالله قد أمرنا بصدقة فأته فسله، فإن كان ذلك يجزيء عنى وإلا صرفتها إلى غيركم الحديث، لأن الصدقات من النوافل لا كلام في جوازها لو صرفت إلى الزوج انتهى كلام أبي الطيب. قال شيخنا في شرح الترمذي: (ج2 ص10) قلت: في الاستدلال بهذا الحديث على وجوب الزكاة في الحلي نظر، فإنه ليس بنص صريح فيه لاحتمال أن يكون معنى قوله " ولو من حليكن" أي ولو تيسر من حليكن كما قيل. وهذا لا يدل على وجوب الزكاة في الحلي، إذ يجوز أن يكون واجبا على الإنسان في أمواله الأخر ويؤديه من الحلي، وقد ذكر أبوالطيب: هذا الاحتمال، ولم يجب عن هذا جوابا شافيا فتفكر انتهى كلام الشيخ. قلت: حمل الحنفية القائلون بوجوب الزكاة في الحلي، وعدم جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها الفقير هذا الحديث على صدقة التطوع، وبه جزم النووي من الشافعية، واستدل الطحاوي (ج1 ص308) لذلك بما روى من طريق رائطة امرأة ابن مسعود، إنها كانت امرأة صنعاء اليدين تصنع بيديها فتبيع من ذلك فكانت تنفق على عبدالله وعلى ولده، قال فهذا يدل على أنها صدقة التطوع. واستدل أيضا بقولها في حديث أبي هريرة عنده فأخذت حلي، أتقرب به إلى الله عزوجل رجاء أن لا يجعلني الله من أهل النار؛ لأن الزكاة لا توجب الصدقة بكل المال، وإنما توجب الصدقة بجزء منه. واستدل لذلك أيضا بما وقع في حديث أبي سعيد عند البخاري "زوجك وولدك أحق من أن تصدقت به عليهم" لأن الولد لا يعطي من الزكاة الواجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره، والأم يلزمها نفقة ولدها إذا كان أبوه فقيرا عاجزا عن التكسب جدا عند الحنفية. ويمتنع إعطاء الصدقة الواجبة من يلزم المعطي نفقته

(11/321)


وسيأتي الكلام على إعطاء الزكاة للزوج والولد. وما مسألة الحلي ففيها خلاف بين العلماء. فقال أبوحنيفة وأصحابه والثوري وعبدالله بن المبارك: تجب فيها الزكاة، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمرو وعبدالله عباس وابن عمر وعائشة، وبه قال عبدالله بن شداد وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وابن سيرين، وجابر بن زيد ومجاهد والزهري وطاووس وميمون بن مهران والضحاك وعلقمة والأسود، وعمر بن عبدالعزيز وإبراهيم النخعي وذر الهمداني والأوزاعي وابن شبرمة، والحسن بن حي وابن المنذر وابن حزم وهي رواية عن أحمد كما في المغني، وهو أحد أقوال الشافعي. وذهب مالك وأحمد وإسحاق والشافعي في أظهر قوليه إلى أنها لا تجب الزكاة فيها، وروي ذلك عن ابن عمر وجابر وأنس وعائشة وأسماء رضي الله عنهم، وبه قال القاسم ابن محمد والشعبي وقتادة ومحمد بن علي وعمرة وأبوعبيد وأبوثور، قال ابن المنذر: وقد كان الشافعي قال بهذا إذا هو
.................................

(11/322)


بالعراق، ثم وقف عنه بمصر وقال: هذا مما استخير الله تعالى فيه ذكر المنذري في الترغيب. وقال الليث: ما كان من حلي يلبس ويعار فلا زكاة فيه، وإن اتخذ للتحرز من الزكاة ففيه الزكاة. وقال أنس بن مالك: يزكي عاما واحدا لا غير. قال الأمير اليماني: في المسألة أربعة أقوال. الأول: وجوب الزكاة وهو مذهب الهادوية وجماعة من السلف وأحد أقوال الشافعي، عملا بما روى في ذلك من الأحاديث. والثاني: لا تجب الزكاة في الحلية وهو مذهب مالك وأحمد والشافعي في أحد أقواله، لآثار وردت عن السلف قاضية بعدم وجوبها في الحلية، ولكن بعد صحة الحديث لا أثر للآثار. والثالث: إن زكاة الحلية عاريتها. والرابع: إنها تجب فيها الزكاة مرة واحدة، رواه البيهقي عن أنس وأظهر الأقوال دليلا وجوبها لصحة الحديث وقوته- انتهى. قلت: القول بوجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة هو الظاهر الراجح المعول عليه عندي، لعموم قوله تعالى: ?والذين يكنزون الذهب والفضة? الآية ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: في الرقة ربع العشر. قال ابن قتيبة: الرقة الفضة سواء كانت الدراهم أو غيرها، نقله ابن الجوزي في التحقيق، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة، والورق يطلق على الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة يدل على ذلك ما جاء في الحديث إن عرفجة اتخذ أنفا من ورق، وفي حديث عائشة عند أبي داود وغيره فرأى في يدي فتخات من ورق. قال الخطابي في المعالم: (ج3:ص17) الطاهر من الكتاب يشهد لقول من أوجبها والأثر يؤيده، ومن أسقطها ذهب إلى النظر، ومعه طرف من الأثر والاحتياط أداءها- انتهى. وقال ابن حزم في المحلي: (ج6:ص80) لما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقة ربع العشر وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، فإذا بلغ مائتي درهم ففيها خمسة دراهم وكان الحلي ورقا وجب فيه حق الزكاة لعموم هذين الأثرين الصحيحين. وأما الذهب فقد صح عن رسول الله

(11/323)


صلى الله عليه وسلم ما من صاحب ذهب لا يؤدي ما فيها إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار يكوي بها، فوجبت الزكاة في كل ذهب بهذا النص، ولم يأت إجماع قط بأنه عليه السلام لم يرد إلا بعض أحوال الذهب وصفاته، فلم يجز تخصيص شيء من ذلك بغير نص ولا إجماع. وقال: قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إيجاب الزكاة في الذهب عموما، ولم يخص الحلي منه بسقوط الزكاة فيه، لا بنص ولا بإجماع فوجبت الزكاة بالنص في كل ذهب وفضة، ولم يجز تخصيص شيء منهما إذ قد عمهما النص، فوجب أن لا يفرق بين أحوال الذهب بغير نص، ولا إجماع. والحلي فضة أو ذهب فلا يجوز أن يقال إلا الحلي بغير نص في ذلك ولا إجماع انتهى مختصرا. وقال الرازي في تفسيره: الصحيح عندنا وجوب الزكاة في الحلي، والدليل عليه قوله تعالى: ?والذين يكنزون الذهب والفضة? الآية وأيضا العمومات الواردة في إيجاب الزكاة في الحلي المباح، قال عليه السلام: في الرقة ربع العشر وغير ذلك من
.............................

(11/324)


الأخبار فهذه الآية مع جميع هذه الأخبار توجب الزكاة في الحلي المباح، ثم نقول: ولم يوجد لهذا الدليل معارض من الكتاب وهو ظاهر؛ لأنه ليس في القرآن ما يدل أنه لا زكاة في الحلي المباح ولم يوجد في الأخبار أيضا معارض إلا أن أصحابنا نقلوا فيه خبرا وهو قوله عليه السلام: لا زكاة في الحلي المباح، إلا إن أباعيسى الترمذي قال: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلي خبر صحيح. وأيضا بتقدير أن يصح هذا الخبر فنحمله على اللآلي؛ لأن الحلي في الحديث مفرد محلي بالألف واللام، وقد دللنا على أنه لو كان هناك معهود سابق وجب إنصرافه إليه، والمعهود في القرآن في لفظ الحلي اللآلي قال تعالى: ?وتستخرجوا منه حلية تلبسونها? وإذا كان كذلك انصرف لفظ الحلي إلى اللآلي فسقطت دلالته، وأيضا الاحتياط في القول بوجوب الزكاة، وأيضا لا يمكن معارضة هذا النص بالقياس؛ لأن النص خير من القياس، فثبت إن الحق ما ذكرنا- انتهى. قلت: حديث لا زكاة في الحلي رواه ابن الجوزي في التحقيق بسنده عن عافية بن أيوب عن ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس في الحلي زكاة. وعافية هذا قال الذهبي في الميزان: في ترجمته تكلم فيه ما هو بحجة وفيه جهالة- انتهى. وقال ابن عبدالهادي: الصواب وقفه. وقال الزيلعي (ج2:ص374) قال البيهقي في المعرفة: هو حديث باطل، لا أصل له إنما يروي عن جابر من قوله: وعافية بن أيوب مجهول، فمن احتج به مرفوعا كان مغررا بدينه داخلا فيما يعيب المخالفين من الاحتجاج برواية الكذابين - انتهى. وقال الشيخ في الإمام: رأيت بخط شيخنا المنذري وعافية بن أيوب لم يبلغني فيه ما يوجب تضعيفه. قال الشيخ: ويحتاج من يحتج به إلى ذكر ما يوجب تعديله - انتهى. وقال الحافظ في التخليص (ص183) وعافية. قيل: ضعيف. وقال ابن الجوزي: ما نعلم فيه جرحا. وقال البيهقي: مجهول. ونقل ابن أبي حاتم توثيقه عن أبي زرعة -

(11/325)


انتهى. قلت: وفي وجوب الزكاة في الحلي أحاديث خاصة أيضا فمنها: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا. قالت لا، قال أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارا من نار. قال: فخلعتهما فألهتهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقالت: هما لله ولرسوله أخرجه أبوداود والنسائي وأبوعبيد (ص439) والدارقطني (207) والبيهقي (ج4:ص140) كلهم من طريق حسين بن ذكوان المعلم عن عمرو بن شعيب وسكت عنه أبوداود. وقال الزيلعي (ج2:ص370) قال ابن القطان إسناده صحيح. وقال المنذري في مختصره. إسناده لا مقال فيه ثم بينه رجلا رجلا، وقال في آخر كلامه: وهذا إسناده تقوم به الحجة إنشاءالله انتهى. وقال ابن الملقن: رواه أبوداود بإسناد صحيح ذكره ميرك. وقال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده قوي - انتهى. ورواه الترمذي بسند فيه مقال كما سيأتي. ومنها
...............................

(11/326)


حديث أم سلمة الآتي وهو حديث صحيح أو حسن كما ستعرف. ومنها: حديث أسماء بنت يزيد قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلينا أسورة من ذهب، فقال لنا: أتعطيان زكاته، فقلنا لا، قال: أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار أديا زكاته، أخرجه أحمد (ج6:ص461) قال المنذري في الترغيب: بإسناد حسن. وقال الهيثمي: في مجمع الزوائد (ج3:ص67) إسناده حسن وذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه، وقال في الدراية في إسناده مقال- انتهى. قلت: في سنده علي بن عاصم وهو متكلم فيه، قال البخاري: ليس بالقوى عندهم. وقال مرة يتكلمون فيه، وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطيء ويصر، وفيه أيضا شهر بن حوشب وهو صدوق كثير الإرسال والأوهام. والحق إن حديث أسماء هذا إن قصر عن درجة الحسن فلا يقصر عن أن يكون صالحا للإستشهاد. ومنها: حديث عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال ما هذا يا عائشة! فقلت صنعتهن أتزين لك بهن يا رسول الله! قال أفتؤدين زكاتهن، فقلت لا، قال هن حسبك من النار، أخرجه أبوداود والدارقطني (ص205) والحاكم (ج1:ص389-390) والبيهقي (ج4:ص139) قال الخطابي في المعالم (ج2:ص17) والغالب إن الفتخات لا تبلغ نصابا تجب فيها بمفردها الزكاة، وإنما معناه أن تضم إلى سائر ما عندها من الحلي فتؤدي زكاتها منه - انتهى. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقال ابن دقيق العيد: هو على شرط مسلم. ومنها: حديث فاطمة بنت قيس، قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم: بطوق فيه سبعون مثقالا من ذهب، فقلت يا رسول الله! خذ منه الفريضة فأخذ منه مثقالا وثلاثة أرباع مثقال. أخرجه الدارقطني (ص205) وفي إسناده أبوبكر الهذلي وهو ضعيف، ونصر بن مزاحم وهو أضعف منه، وتابعه عباد بن كثير أخرجه أبونعيم في ترجمة شيبان بن زكريا من تاريخه كذا في الدراية، وبسط

(11/327)


الكلام فيه الزيلعي (ج2:ص373) ومنها: حديث عبدالله بن مسعود قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن لامرأتي حليا من ذهب عشرين مثقالا. قال: فأد زكاته نصف مثقال أخرجه الدارقطني (ص205) قال الحافظ: في الدراية إسناده ضعيف جدا. وأجاب القائلون: بعدم وجوب الزكاة في الحلي عن هذه الأحاديث بأجوبة كلها مردودة، فمنها إن الزكاة في هذه الأحاديث محمولة على أنه كان حين كان التحلي بالذهب حراما على النساء، فلما أبيح لهن سقطت منه الزكاة بالاستعمال كما تسقط زكاة الماشية بالاستعمال، وهذا الجواب باطل. قال البيهقي في المعرفة، كيف يصح هذا القول من حديث أم سلمة، وحديث فاطمة بنت قيس، وحديث أسماء بنت يزيد، وفيها التصريح بلبسه مع الأمر بالزكاة، ذكره الزيلعي (ج2:ص374) ومنها إن الزكاة المذكورة في هذه الأحاديث. إنما كانت للزيادة على قدر الحاجة، وهذا إدعاء محض لا دليل عليه
رواه الترمذي.
1824-(16) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، إن امرأتين أتتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وفي أيديهما سوران من ذهب، فقال: لهما تؤديان زكاته، قالتا: لا، فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتحبان أن يسور كما الله بسوارين من نار، قالتا: لا، قال فأديا زكاته)). رواه الترمذي. وقال هذا حديث قد روى المثنى بن الصباح، عن عمر بن شعيب نحو هذا

(11/328)


بل في بعض الروايات ما يرده. قال الزيلعي: (ج2 ص374) بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، من رواية أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهوية بلفظ: فأديا زكاة هذا الذي في أيديكما، ما نصه وهذا اللفظ يرفع تأويل من يحمله على أن الزكاة المذكورة فيه، شرعت للزيادة فيه على قدر الحاجة - انتهى. ومنها إن المراد بالزكاة في هذه الأحاديث التطوع لا الفريضة أو المراد بالزكاة العارية. قال القاري: وهما في غاية البعد إذ لا وعيد في ترك التطوع والإعارة مع أنه لا يصح إطلاق الزكاة على العارية لا حقيقة ولا مجازا (رواه الترمذي) قال ميرك: ورجاله موثقون. قلت أصل الحديث في الصحيحين كما سيأتي في باب أفضل الصدقة.

(11/329)


1284- قوله: (وفي أيديهما سواران) تثنية سوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار بالضم، وجمعه أسورة وأساور وأساورة كذا في القاموس. ويقال له بالفارسية، دست برنجن، وفي الهندية كنكن. قال الطيبي: الظاهر أسورة لجمع اليد، والمعنى إن في يدي كل واحدة منهما سوارين. قلت: وقع في رواية لأحمد والدارقطني وعليهما أسورة وفي أخرى لأحمد وفي أيديهما أساور (تؤديان) أي أتؤديان (زكاته) أي الذهب أو ما ذكر من السوارين. قال الطيبي: الضمير فيه بمعنى اسم الإشارة كما في قوله تعالى: ?لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك? [البقرة: 68] (أن يسوركما الله بسوارين من نار) وعند أحمد في رواية: أن يسور كما الله يوم القيامة أساور من نار وفي أخرى: إن سور كما الله سوارين من نار، يقال سورت المرأة بالتشديد أي ألبستها سوارا. (فأديا زكاته) وفي رواية لأحمد: فأديا حق هذا الذي في أيديكما، وفي أخرى له: فأديا حق الله عليكما في هذا. وفي هذا الحديث أيضا دليل على وجوب الزكاة في الحلي. قال شيخنا: وهو الحق (رواه الترمذي) من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه أحمد (ج2 ص178- 204- 208) والدارقطني (ص206) وابن أبي شيبة في مصنفه (ج3 ص27) الثلاثة من طريق الحجاج بن إرطاة عن عمرو بن شعيب نحوه (وقال) أي الترمذي (هذا الحديث قد روى المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب نحو هذا) قد تقدم أنه رواه عنه
والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يضعفان الحديث، ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء.

(11/330)


الحجاج بن أرطاة أيضا عند أحمد والدارقطني وابن أبي شيبة وحسين بن ذكوان المعلم عند أبي داود والنسائي وأبي عبيد والدارقطني والبيهقي، ولم أقف على من أخرجه من طريق المثنى بن الصباح. وأما قول الزيلعي وبسند الترمذي رواه أحمد وابن أبي شيبة واسحاق بن راهوية في مسانيدهم. وقوله: "طريق آخر أخرجه أحمد رضي الله عنه في مسنده عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب به وهي الطريق التي أشار إليها الترمذي" ففيه نظر. قال الشيخ أحمد شاكر في شرحه الترمذي للمسند: (ج10 ص200) بعد ذكر قولي الزيلعي المذكورين "لست أدري كيف كان هذان النقلان" أما مسند ابن راهوية فإني لم أراه ولكن مصنف ابن أبي شيبة أمامي وليس فيه إلا روايته من طريق الحجاج بن أرطاة، وكذلك مسند الإمام أحمد بين يدي وأستطيع أن أجزم بالاستقراء التام إنه لم يروه إلا من طريق الحجاج، فمن أين جاء بنسبة روايتي ابن لهيعة والمثنى بن الصباح لمسند أحمد؟ وهو أعنى الزيلعي لا يريد بإشارته إليهما رواية الحجاج بن أرطاة يقينا، لأن كلامه صريح في الرواية من طريق ابن لهيعة والمثنى. ثم هو قد ذكر بعد ذلك رواية الحجاج بن أرطاة (ج3 ص371) ونسبها لأحمد والدارقطني فإن كان هذان النقلان سهوا منه يكن سهوا عجيبا، وإلا فإني عاجز أن أجد لشيء منه توجيها أو تأويلا - انتهى. (والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يضعفان) بصيغة المجهول (في الحديث) اعلم أنه روى الترمذي في جامعه هذا الحديث أولا عن قتيبة نا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ثم قال: هذا حديث قد روى المثنى ابن الصباح عن عمرو بن شعيب الخ. وبهذا يظهر وجه تقريب ذكر ابن لهيعة وتضعيفه. وإنما وقع الإجمال والإغلاق في نقل صاحب المشكاة، وابن لهيعة هو عبدالله بفتح اللام وكسر الهاء ابن عقبة الحضرمي أبوعبدالرحمن المصري القاضي. قال في التقريب هو صدوق خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في

(11/331)


مسلم بعض شيء مقرون مات سنة أربع وسبعين ومائة، وقد ناف على الثمانين - انتهى. وارجع للبسط إلى تهذيب التهذيب (ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء) قال ابن الملقن: بل رواه أبوداود بإسناد صحيح، ذكره ميرك كذا في المرقاة، وقال الزيلعي في نصب الراية: (ج2 ص370) قال المنذري: لعل الترمذي قصد الطريقين الذي ذكرهما، وإلا فطريق أبي داود لا مقال فيها وقال ابن القطان: بعد تصحيحه لحديث أبي داود، وإنما ضعف الترمذي هذا الحديث؛ لأن عنده فيه ضعيفين ابن لهيعة والمثنى بن الصباح - انتهى. وقال الحافظ في الدراية: (ص161) بعد نقل كلام الترمذي هذا ما لفظه كذا قال، وغفل عن طريق خالد بن الحارث - انتهى. وأراد الحافظ بطريق خالد، هذا ما روى أبوداود عن أبي كامل
1825-(17) وعن أم سلمة، قالت: كنت ألبس أوضاحا من ذهب، فقلت يا رسول الله! أكنز هو؟ فقال: ((ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي، فليس بكنز)). رواه مالك، وأبوداود.

(11/332)


الجحدري، وحميد بن مسعدة والنسائي عن إسماعيل بن مسعود، كلهم عن خالد بن الحارث عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، إن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - الحديث. وقد ذكرنا سياقه. وقال في التلخيص: (ص183) بعد ذكر سياق أبي داود أخرجه من حديث حسين المعلم، وهو ثقة عن عمرو، وفيه رد على الترمذي حيث جزم بأنه لا يعرف إلا من حديث ابن لهيعة، والمثنى بن الصباح عن عمرو، وقد تابعهم حجاج بن أرطاة أيضا. وقال الشيخ أحمد شاكر في شرحه لمسند الإمام أحمد: (ج10 ص197)بعد نقل كلام الترمذي المتقدم ما لفظه، والعجب من الترمذي كيف خفي عليه رواية الحجاج بن أرطاة هذا الحديث، عن عمرو بن شعيب مع كثرة من رووه عن الحجاج والثقة بهم. ثم إن أكثر ما يؤخذ على هؤلاء الثلاثة الحجاج ابن أرطاة وابن لهيعة والمثنى بن الصباح، خشية الغلط أو الاضطراب مع ما رمى به الحجاج من التدليس، ولم يجرح واحد منهم في صدقة وأمانته فإذا اتفق هؤلاء الثلاثة، أو اثنان منهم على رواية حديث كان احتمال الخطأ مرفوعا أو بعيدا على الأقل. فإني يكون هذا الحديث ضعيفا، وقد جاء نحو معناه بإسناد صحيح لا خلاف في صحته، فذكر رواية أبي داود والنسائي من طريق خالد بن الحارث، ولم ينفرد بذلك خالد بل تابعه محمد بن أبي عدي عند أبي عبيد، وأبوأسامة عند الدارقطني، فظهر بهذا أن قول الترمذي "ولا يصح في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء" غير صحيح والله تعالى أعلم.

(11/333)


1825- قوله: (كنت ألبس) بفتح الموحدة من باب سمع (أوضاحا) في النهاية هو جمع وضح بفتحتين نوع من الحلي يعمل من الفضة سمي به لبياضه. وفي جامع الأصول (ج5 ص480) الأوضاح حلي من الدراهم الصحاح، هكذا قال الجوهري، وقال الأزهري: الأوضاح حلي من الفضة - انتهى. وفي منتهى الأرب بالفارسية وضح بمعنى خلخال أي حلقة طلا، ونقره كه در بائي كنند، وآنرا بفارسي بائي برنجن نامند (من ذهب) هذا يدل على أنها تسمى إذا كانت من ذهب أوضاحا (أكنز هو) يعني استعمال الحلي كنز من الكنوز الذي بشر صاحبه بالنار في قوله تعالى: ?والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم? [التوبة: 34] (ما بلغ) أي الذي بلغ (أن تؤدي) بصيغة المجهول (زكاته) أي بلغ نصابا (فزكى) بصيغة المجهول أي أدى زكاته (فليس بكنز) فيه دليل كما في الحديث الذي قبله على وجوب زكاة الحلية، وإن كل مال أخرجت زكاته فليس بكنز، فلا يشمله الوعيد في الآية (رواه مالك وأبوداود) ونسبه الجزري في جامع الأصول (ج5 ص331) إلى مالك فقط. حيث قال(ط عطاء بن أبي رباح) قال بلغني إن أم سلمة قالت: كنت ألبس
1826-(18) وعن سمرة بن جندب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان يأمرنا أن نخرج الصدقة، من الذي نعد للبيع)).

(11/334)


أوضاحا من الذهب فذكر مثل سياق الكتاب سواء. ثم قال: أخرجه الموطأ ولم أجد حديث أم سلمة هذا في النسخ الموجودة عندنا من الموطأ، ولم يعزه إليه أحد غير صاحب المشكاة وصاحب جامع الأصول فقد أورده الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص371، 372) والحافظ في الفتح، والتلخيص والدراية، وبلوغ المرام، والعيني في شرح البخاري (ج9 ص34) والشوكاني في السيل الجرار، والنابلسي في ذخائر المواريث، ولكنه لم ينسبه أحد منهم إلى الموطأ، ولا أدري كيف كانت نسبة المصنف، والجزري هذه الرواية إلى الموطأ ولعل هذا سهو منهما. ويمكن أن يأول أن يوجه بأنها كانت موجودة في رواية غير يحيى المصمودي للموطأ والله تعالى اعلم - والحديث. أخرجه أبوداود من طريق عتاب بن بشير عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة، وأخرجه الحاكم (ج1 ص390) عن محمد بن مهاجر عن ثابت به. ولفظه: إذا أديت زكاته فليس بكنز، وكذلك رواه الدارقطني (ص204) والبيهقي (ج4 ص83) وصححه الحاكم والذهبي على شرط البخاري. وقال الحافظ في الدراية: قواه ابن دقيق العيد: وقال في الفتح: بعد عزوه إلى الحاكم وصححه ابن القطان أيضا، وأخرجه أبوداود. وقال ابن عبدالبر في سنده مقال. وذكر شيخنا في شرح الترمذي إن سنده جيد - انتهى. قلت: تكلم في هذا الحديث البيهقي وابن الجوزي، وقد رد عليهما الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص372) والحق عندي: أن هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن بل هو صحيح، كما قال الحاكم والذهبي وابن القطان والله تعالى أعلم. فائدة يعتبر في النصاب في الحلي الذي تجب فيه الزكاة بالوزن، فلو ملك حليا قيمته مائتا درهم ووزنه دون المائتين، لم يكن عليه زكاة، وإن بلغ مائتين وزنا ففيه الزكاة. وإن نقص في القيمة لقوله عليه السلام "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" اللهم إلا أن يكون الحلي للتجارة فيقوم، فإذا بلغت قيمته بالذهب والفضة نصابا ففيه الزكاة؛ لأن الزكاة متعلقة بالقيمة، وما لم يكن للتجارة

(11/335)


فالزكاة في عينه فيعتبر أن يبلغ بقيمته ووزنه نصابا وهو، مخير بين إخراج ربع العشر حلية مشاعا أو دفع ما يساوي ربع عشرها من جنسها. وإن زاد في الوزن على ربع العشر؛ لأن الربا لا يجري ههنا، لأن المخرج حق لله ولا ربوا بين العبد وسيده، ولو أراد كسرها ودفع ربع عشرها لم يكن منه لأنه ينقص قيمتها، وهذا مذهب الشافعي. وإن أراد إخراج الفضة عن حلي الذهب أو الذهب عن الفضة أخرج على الوجهين كما قدمنا في إخراج أحد النقدين عن الآخر كذا في المغنى (ج3 ص12).
1826- قوله: (كان يأمرنا أن نخرج الصدقة) أي الزكاة الواجبة (من الذي) أي المال الذي (نعده) بضم النون وكسر العين المهملة من الأعداد أي نهيئه (للبيع) أي للتجارة وخص لأنه الأغلب. قال الطيبي: وفيه
..................................

(11/336)


دليل على أن ما ينوي به القنية لا زكاة فيه - انتهى. قلت: الحديث دليل ظاهر على وجوب الزكاة في مال التجارة، لأن قول الراوي يأمرنا يفهم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي بصيغة تفيد الأمر، والأصل فيه الوجوب وهي قرينة على حمل الصدقة على الزكاة الواجبة. واختلف العلماء في ذلك: قال ابن رشد في البداية: (ص230) اتفقوا على أن لا زكاة في العروض التي لم يقصد بها التجارة، واختلفوا في إيجاب الزكاة فيما اتخذ منها للتجارة. فذهب فقهاء الأمصار إلى وجوب ذلك ومنع ذلك أهل الظاهر - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص29) تجب الزكاة في قيمة عروض التجارة في قول أكثر أهل العلم، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة، إذا حال عليها الحول. روى ذلك عن ابن عمر وابنه وابن عباس، وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر ابن زيد وميمون بن مهران، وطاووس والنخعي والثوري والأوزاعي والشافعي وأبوعبيد وإسحاق وأصحاب الرأي، وحكى عن مالك وداود لا زكاة فيها - انتهى. قلت: ما حكى عن مالك هو سهو من ابن قدامة؛ لأن الموطأ صريح في إيجاب الزكاة في مال التجارة، واتفقت فروع المالكية على إثباتها، ولم يحك أحد من نقله المذاهب خلاف مالك، في ذلك ويمكن أن تكون المسألة اشتبهت على ابن قدامة بالتاجر المحتكر، فإن الإمام مالكا لم يقل بوجوب الزكاة عليه في كل سنة، خلافا للجمهور. بل قال: إنما يجب الزكاة عليه في ثمنه إذا نض بالبيع لسنة واحدة فقط. وإن أقام عنده أحوالا. قلت: واستدل للجمهور على وجوب الزكاة في مال التجارة بحديث الباب وفي سنده مقال. واختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه كما ستعرف. وبقوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة? [التوبة: 103] قال ابن العربي: وهذا عام في كل مال على اختلاف أصنافه وتباين أسماءه واختلاف أغراضه، فمن أراد أن يخصه في شيء فعليه الدليل وبقوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما

(11/337)


كسبتم? [البقرة: 267] قال مجاهد: نزلت في التجارة. وبما روى عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: في الإبل صدقتها، وفي البز صدقته. أخرجه أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي. قال الحافظ في الدراية: وإسناده حسن - انتهى. وفسروا البز بالثياب المعدة للبيع عند البزارين. قلت: للحديث أربعة طرق إحداها: عن عاصم عن موسى بن عبيدة الربذي عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس أبي الحدثان عن أبي ذر. والثانية: عن سعيد بن سلمة بن أبي الحسام عن موسى بن عبيدة عن عمران بن أبي أنس، وهاتان الطريقتان عند الدارقطني (ص203) والبيهقي (ج4 ص147) قال الدارقطني: في آخر الطريق الأولى، وفي البز صدقته قالها بالزاي، وفي آخر الثانية كتبته من الأصل العتيق، وفي البز مقيدا - انتهى. وموسى بن عبيدة ضعيف. والثالثة: من رواية ابن جريج عن عمران بن أبي أنس وهي عند أحمد (ج6 ص179) والدار قطني (ص203) والحاكم (ج1 ص388) والبيهقي (ج4 ص147) رواها الدارقطني والبيهقي بلفظ: وفي البز
...................................

(11/338)


صدقته أي بالزاي المعجمة، ولفظ أحمد والحاكم في النسختين المطبوعتين من المسند والمستدرك وفي البر صدقته أي بالراء المهملة. وقال ابن دقيق العيد: الأصل الذي نقلت منه هذا الحديث من المستدرك، ليس فيه البز بالزاي المعجمة وفيه ضم الباء في الموضعين أي في هذا الطريق، وفي الطريق الآتي فيحتاج إلى كشفه من أصل آخر معتبر، فإن اتفقت الأصول على ضم الباء فلا يكون فيه دليل على مسألة زكاة التجارة - انتهى. قال الزيلعي: وهذا فيه نظر، فقد صرح به في مسند الدارقطني، قالها بالزاي كما تقدم (ولكن طريقة ضعيفة كما عرفت). وقال النووي في تهذيب اللغات: هو بالباء والزاي، ومن الناس من صحفه بضم الباء وبالراء المهملة وهو غلط - انتهى. وهذا الطريق الثالث معلول، وإن صححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين، لأن ابن جريج رواه عن عمران أنه بلغه عنه كما في مسند الإمام أحمد ورواه الترمذي في العلل من هذا الوجه. وقال: سألت البخاري عنه، فقال لم يسمعه ابن جريج من عمران، هو يقول حدثت عن عمران. وقال ابن القطان: ابن جريج مدلس، لم يقل حدثنا عمران، فالحديث منقطع ثم نقل كلام الترمذي. والطريقة الرابعة: عن سعيد بن سلمة بن أبي الحسام، ثنا عمران بن أبي أنس أخرجها الحاكم أيضا وصححها على شرط الشيخين. وقال الحافظ في التلخيص: وهذا إسناد لا بأس به. قلت: فالحديث بمجوع طرقه حسن صالح للاحتجاج هذا مما لا شك فيه عندنا. واستدل للجمهور أيضا بما روى الشافعي في الأم (ج2 ص39) وعبدالرزاق والدارقطني (ص213) وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والبيهقي (ج4 ص147) وأبوعبيد (ص425) عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه إن عمر قال له: قومها يعني الأدرم والجعاب ثم أد زكاتها. قال ابن قدامة: هذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر فيكون إجماعا. وبما روى محمد بن الحسن في كتاب الآثار (ص48) وأبوعبيد (ص533) عن زيادة بن جدير. قال:بعثني عمر مصدقا فأمرني أن آخذ من المسلمين من أموالهم إذا

(11/339)


اختلفوا بها للتجارة ربع العشر الحديث. وبما روى البيهقي (ص147) بإسناد صحيح والشافعي (ج2 ص39) عن ابن عمر قال: ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة. وبما روى عبدالرزاق من وجه آخر صحيح عن ابن عمر أنه كان يقول: في كل مال يدار في عبيد أو دواب أو بز للتجارة تدار الزكاة فيه كل عام. قال الزرقاني قال الطحاوي: ثبت عن عمر وابنه زكاة عروض التجارة ولا مخالف لهما من الصحابة وهذا يشهد إن قول ابن عباس وعائشة، لا زكاة في العروض إنما هو في عروض القنية. وقال البيهقي: بعد رواية أثر ابن عمر المتقدم وهذا قول عامة أهل العلم، فالذي روى عن ابن عباس أنه قال: لا زكاة في العروض. فقد قال الشافعي: في كتابة القديم إسناد الحديث عن ابن عباس ضعيف، فكان إتباع حديث ابن عمر لصحته والاحتياط في الزكاة أحب إلي والله أعلم. قال البيهقي: وقد حكى ابن المنذر عن عائشة وابن عباس مثل ما روينا عن ابن عمر ولم يحك خلافهم عن أحد، فيحتمل أن يكون معنى قوله إن صح لا زكاة في العرض أي إذا لم يرد به التجارة - انتهى. وبما روى
1827-(19) وعن ربيعة بن أبي عبدالرحمن

(11/340)


(ج4 ص146) جميعهم من رواية جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة عن جده سمرة. قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده لين وفي الدراية فيه ضعف، وفي التلخيص في إسناده جهالة وقال الهيثمي: في إسناده ضعف. وقال ابن حزم: رواته يعني من جعفر إلى سمرة مجهولون لا يعرف من هم، وتبعه ابن القطان.فقال: ما من هؤلاء من يعرف حاله، وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم وهو إسناد يروي به جملة أحاديث قد ذكر البزار منها نحو المائة وقال عبدالحق: خبيب هذا ضعيف وجعفر ليس ممن يعتمد عليه. وقال الذهبي في الميزان: خبيب لا يعرف، وقد ضعف، قال: وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم - انتهى. قلت: الحديث سكت عنه أبوداود ثم المنذري بعده وهذا تحسين منهما. وقال ابن عبدالبر: وقد ذكر هذا الحديث رواه أبوداود وغيره بإسناد حسن - انتهى. وقال ابن القطان: متعقبا على عبدالحق فذكر في كتاب الجهاد حديث من كتم غالا فهو مثله، وسكت عنه من رواية جعفر بن سعد هذا، عن خبيب بن سليمان عن أبيه فهو منه تصحيح. ذكره الزيلعي (ج2 ص376) والرواة الثلاثة أي جعفر وخبيب وأبوه سليمان ذكرهم ابن حبان في ثقاته. فائدة قال ابن قدامة: (ج3 ص30) من ملك عرضا للتجارة فحال عليه الحول وهو نصاب قومه في آخر الحول، فما بلغ أخرج زكاته وهو ربع عشر قيمته، ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في اعتبار الحول، وقد دل عليه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" إذا ثبت هذا فإن الزكاة تجب فيه في كل حول، وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبوعبيد وأصحاب الرأي. وقال مالك: لا يزكيه إلا لحول واحد إلا أن يكون مديرا أي غير محتكر - انتهى. قلت: حاصل مذهب مالك ما ذكره الزرقاني من أن إدارة التجارة ضربان. أحدهما: التقلب فيها وإرتصاد الأسواق بالعروض فلا زكاة، وإن أقام أعواما حتى يبيع فيزكي لعام واحد. والثاني: البيع في كل وقت بلا انتظار سوق كفعل

(11/341)


أرباب الحوانيت فيزكي كل عام بشروط أشار إليها الباجي وذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم إلى أن التاجر يقوم كل عام ويزكي مديرا كان أو محتكرا - انتهى. قلت: ظاهر الأحاديث والآثار المذكورة التي فيها الأمر بالزكاة، مما يعد للبيع يعم المدير والمحتكر من غير فرق، بين ما ينض وبين ما لا ينض، فالقول الراجح هو ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة ثم ههنا مسائل تتعلق بالزكاة في عروض التجارة، لا يستغني عنها الطالب فعليه أن يرجع إلى المغني.
1827- قوله: (وعن ربيعة بن أبي عبدالرحمن) التيمي مولاهم أبوعثمان المدني المعروف بربيعة الرأي واسم أبيه فروخ ثقة فقيه مشهور من صغار التابعين، أدرك بعض الصحابة والأكابر من التابعين، وكان أحد مفتى المدينة، وكان يجلس إليه وجوه الناس بالمدينة، وعنه أخذ مالك روى عن أنس والسائب بن يزيد وابن
عن غير واحد، ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطع لبلال بن الحارث المزني، معادن القبلية

(11/342)


المسيب والقاسم بن محمد ومكحول وغيرهم، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك وشعبة والسفيانان، وحماد ابن سلمة والليث والدراوردي وغيرهم. قال ابن سعد: كانوا يتقونه لموضع الرأي مات سنة (136) على الصحيح وقيل سنة (133) وقال الباجي: في رجال البخاري سنة (142) قال مالك: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة. وقال الذهبي: كان ربيعة إماما حافظا فقيها مجتهدا بصيرا بالرأي، ولذلك يقال له ربيعة الرأي أخباره مستوفاة في تاريخ دمشق وتاريخ بغداد قال الخطيب: كان فقيها عالما حافظا للفقه والحديث - انتهى. (عن غير واحد) زاد رواية أبي والبيهقي من علماءهم (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال المنذري: هذا مرسل، وهكذا رواه مالك في الموطأ مرسلا ولفظه عن غير واحد من علماءهم. وقال أبوعمر بن عبدالبر: هكذا في الموطأ عند جميع الرواة مرسل، ولم يختلف فيه عن مالك، وذكر إن الدراوردي رواه عن ربيعة عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه وقال أيضا: وإسناد ربيعة فيه صالح حسن كذا في عون المعبود. قلت: وصله البزار وأبوعبيد (ص290) والحاكم (ج1 ص404) ومن طريقة البيهقي (ج4 ص152) من رواية عبدالعزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن عبدالبر: ورواه أبوسبرة المديني عن مطرف عن مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن بلال موصولا، لكن لم يتابع عليه، قال ورواه أبوأويس عن كثير بن عبدالله عن أبيه عن جده وعن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس. قلت: أخرجه من الوجهين الآخرين أحمد (ج1 ص306) وأبوداود وكثير بن عبدالله حسن حديثه البخاري والترمذي وتكلم فيه غيرهما، وأبوأويس عبدالله ابن عبدالله أخرج له مسلم الشواهد وضعفه غير واحد (أقطع) من الإقطاع وهذه رواية أبي داود، وفي الموطأ قطع بدون الهمزة، وكذا عند أبي عبيد (ص338) والبيهقي (ج4 ص152) والمعروف عند أهل اللغة،

(11/343)


وفي الأحاديث والآثار هو الإقطاع. قال الحافظ في الفتح. تقول أقطعته أرضا جعلتها له قطيعة، والمراد به ما يخص به الإمام بعض الرعية من الأرض الموات، فيختص به ويصير أولى بإحياءه ممن لم يسبق إلى أحياءه. واختصاص الإقطاع بالموات متفق في كلام الشافعية - انتهى. وقال الطيبي: الإقطاع ما يجعله الإمام لبعض الأجناد والمرتزقة من قطعة أرض ليرتزق من ريعها في النهاية، الإقطاع يكون تمليكا وغير تمليك. وقال العيني: الإقطاع هو تسويغ الإمام من مال الله تعالى لمن يراه أهلا لذلك، وأكثرها ما يستعمل في إقطاع الأرض، وهو أن يخرج منها شيئا يجوزه، إما أن يملكه إياه فيعمره، أو يجعل له غلته ففي صورة التمليك الذي أقطع له، وهو الذي يسمى المقطع له رقبة الأرض فيصير ملكا له، يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم، وفي صورة جعل الغلة لا يملك إلا منفعة الأرض دون رقبتها. فعلى هذا لا يجوز للجندي الذي يقطع له أن يوجر ما اقطع له، لأنه يملك منافعها وإن لم يملك رقبته (معادن القبيلة) بفتح القاف وفتح الموحدة وكسر اللام وبالياء المشددة المفتوحة
..................................

(11/344)


واختلف الأئمة في حكم هذه الأنواع، فذهب الحنفية كما تقدم إلى أن وجوب الخمس يختص بالنوع الأول دون النوعين الأخيرين. قال الكاساني: أما ما لا يذوب بالإذابة فلا خمس فيه ويكون كله للواجد، لأن الجص والنورة ونحوهما من أجزاء الأرض، فكان كالتراب والياقوت والفص من جنس الأحجار غير أنها أحجار مضيئة، ولا خمس في الحجر.وقال مالك والشافعي وابن حزم وداود يجب الزكاة في الذهب والفضة خاصة. وأوجب أحمد الزكاة في الأنواع الثلاثة. قال في الرواض المربع: المعدن إن كان ذهبا أو فضة ففيه ربع عشره إن بلغ نصابا، وإن كان غيرهما ففيه ربع عشر قيمته، إن بلغت نصابا بعد سبك وتصفية - انتهى. واستدل ابن قدامة لذلك بعموم قوله تعالى: ?ومما أخرجنا لكم من الأرض? [البقرة: 267] وقال الشاه ولي الله الدهلوي في المصفى شرح الموطأ بالفارسية: الظاهر إن المعادن القبلية لم تكن من الذهب والفضة، فإنها لم يذكرها أهل التاريخ، ومن البعيد سكوت جميعهم عن ذكرها، وإهمالهم إياها أو خفاءها عليهم، مع كونها بقرب المدينة. فالظاهر إنها كانت من بقية المنطبعات أو من غير ما ينطبع كالمغرة والنورة وهذا الأخير أقرب، فالظاهر هو ما قال به أحمد: من أن الزكاة تجب في كل ما يخرج من المعدن، منطبعا كان أو غير منطبع - انتهى معربا. الثانية: اختلفوا هل يشترط النصاب في الوجوب فيما يخرج من المعدن أم لا، قال العيني: يجب الخمس في قليله وكثيره ولا يشترط فيه النصاب عندنا واشترط مالك والشافعي وأحمد لوجوب الزكاة فيه أن يكون الموجود نصابا ولنا أن النصوص خالية عن اشتراط النصاب فلا يجوز اشتراطه بغير دليل شرعي - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص25) وهو أي نصاب المعادن ما يبلغ من الذهب عشرين مثقالا، ومن الفضة مائتي درهم، أو قيمة ذلك من غيرهما، وهذا مذهب الشافعي. وأوجب أبوحنيفة الخمس في قليله وتكثيره من غير اعتبار نصاب، بناء على أنه ركاز لعموم الأحاديث التي احتجوا بها

(11/345)


عليه؛ ولأنه لا يعتبر له حول فلم يعتبر له نصاب كالركاز. ولنا عموم قوله السلام: ليس فيما دون خمس أواق صدقة. وقوله: ليس في تسعين ومائة شيء، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ليس عليكم في الذهب شيء، حتى يبلغ عشرين مثقالا. وقد تقدم إن هذا ليس بركاز، وأنه مفارق للركاز، حيث إن الركاز مال كافر أخذ في الإسلام فأشبه الغنيمة، وهذا وجب مواساة وشكر النعمة الغني فاعتبر له النصاب كسائر الزكوات، وإنما لم يعتبر له الحول لحصوله دفعة واحدة فأشبه الزروع والثمار - انتهى. الثالثة: قال ابن قدامة: (ج3 ص26) تجب الزكاة في ما يخرج من المعدن حين يتناوله ويكمل نصابه ولا يعتبر له حول، وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقال إسحاق وابن المنذر: لا شيء في المعدن، حتى يحول عليه الحول لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول, ولنا أنه مال مستفاد من الأرض فلا يعتبر في وجوب حقه حول، كالزروع والثمار والركاز، ولأن الحول إنما يعتبر في غير هذا لتكميل النماء، وهو يتكامل نماءه دفعة واحدة، فلا يعتبر له
?الفصل الثالث?
1828- (20) عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس صدقة،
حول كالزروع - انتهى. قال ابن رشد (ج1:ص243) وسبب اختلافهم تردد شبهه بين ما تخرجه الأرض مما تجب فيه الزكاة، وبين التبر والفضة المقتنيين، فمن شبهه بما تخرجه الأرض لم يعتبر الحول فيه، ومن شبهه بالتبر والفضة المقتنيين أوجب الحول، وتشبيهه بالتبر والفضة أبين - انتهى. وقد اعترض أيضا أبوعبيد (ص341-342) على تشبيهه المعدن بالزرع، وابن حزم (ج6:ص110) على قياسه على الزرع والركاز، ووافق في ذلك إسحاق حيث قال (ج6:ص111): لا زكاة في مال غير الزرع إلا بعد الحول، والمعدن من جملة الذهب والفضة فلا شئ فيها إلا بعد الحول، وهذا قول الليث بن سعد وأحد أقوال الشافعي وقول أبي سليمان - انتهى.

(11/346)


1828- قوله: (ليس في الخضروات) بفتح الخاء المعجمة جمع خضراء والمراد بها الرياحين والأوراد والبقول والخيار والقثاء والبطيخ والباذنجان وأشباه ذلك. قال يحيى بن آدم في الخراج: (ص146) الخضر عندنا الرطاب والرياحين والبقول والفاكهة مثل الكمثري والسفرجل والخوخ والتفاح والتين والأجاص والمشمش والرمان والخيار والقثاء والنبق والباقلي والجزر والموز والمقل والجوز واللوز والبطيخ وأشباهه - انتهى. وقال الأمير اليماني: الخضروات ما لا يكال ولا يقتات (صدقة) لأنها لا تقتات، والزكاة تختص بالقوت، وحكمته أن القوت ما يقوم به بدن الإنسان، لأن الأقتيات من الضروريات التي لا حياة بدونها، فوجب فيها حق لأرباب الضرورات قاله القاري. والحديث يدل على ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الزكاة في الخضروات، وقد ورد في هذا أحاديث أخرى مرفوعة عن عائشة ومحمد بن جحش وأنس ومعاذ وطلحة، لكنها كلها ضعيفة كحديث على هذا، وقد ذكرها مع بيان ضعفها الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص386-389) وقال الترمذي: ليس يصح في هذا الباب أي في نفي زكاة الخضروات عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء- انتهى. وأقوى ما استدل به للجمهور إن الخضر كانت بالمدينة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث لا يخفى ذلك، ولم ينقل أنه أمر بإخراج شئ منها، ولا أن أحد أخذ منها زكاة ولا أنهم يؤدونها اليه، ولو كان ذلك لنقل كما نقل زكاة سائر ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فثبت أنه لا زكاة فيها. وذهب أبوحنيفة إلى أنه تجب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض سواء كان من الحبوب أو الثمار أو الفواكه أو البقول أو غير ذلك بعد ما كان المقصود به استغلال الأرض، وروى ذلك عن عمر بن عبدالعزيز وأبي بردة بن أبي موسى وحماد والنخعي، وهو قول داود الظاهري وقواه ابن العربي، واليه يظهر ميل الفخر الرازي وهو مختار شيخ مشائخنا العلامة الغازي فوري. واستدل لهم بعموم قوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة?

(11/347)


[التوبة:103] وقوله: ?ومما أخرجنا لكم من الأرض? [البقرة:267] وقوله: ?وآتوا حقه?
صدقة، ولا في أقل من خمسة أوسق صدقة، ولا في العوامل صدقة، ولا في الجبهة صدقة، قال: الصقر الجبهة الخيل والبغل والعبيد)) رواه الدارقطني.
وزاد أنه رخص لهم أن يأكلوا الرطب ولا يشتروه لتجارة ولا ادخار، ومنع أبوحنيفة صور البيع كلها وقصر العرية على الهبة، وهو أن يعرى الرجل تمر نخلة من نخلة ولا يسلم ذلك، ثم يبدو له في ارتجاع تلك الهبة، فرخص له أن يحتبس ذلك، ويعطيه بقدر ما وهبه له من الرطب بخرصه تمرا وحمله ذلك أخذه بعموم النهى عن بيع الثمر بالتمر. وتعقب: بالتصريح باستثناء العرايا في حديث ابن عمر وفي حديث غيره انتهى كلام الحافظ. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في كتاب البيوع إنشاءالله تعالى (صدقة)؛ لأنها تكون دون النصاب أو؛ لأنها خرجت عن ملك مالكها قبل الوجوب بطريق صحيح (ولا في أقل من خمسة أوسق صدقة) فيه بيان نصاب المعشرات، وإنه لا تجب الزكاة فيها حتى تبلغ خمسة أوسق. قال القاري: لأنه قليل فلا تتشرف الفقراء إلى المواساة منه (ولا في) الإبل أو البقر (العوامل) للمالك أو لغيره (صدقة)؛ لأنها بالعمل صارت غير مقتناة للنماء (ولا في الجبهة) قال أبو عبيد: الجبهة الخيل (صدقة قال الصقر) أي أحد رواة الحديث وهو بفتح المهملة وسكون القاف ابن حبيب. ويقال: الصعق روى عن أبي رجاء العطاردي تكلم فيه ابن حبان. فقال: يأتي عن الثقات بالمقلوبات، وغمزه الدارقطني في الزكاة، ولا يكاد يعرف كذا في الميزان. قال الحافظ في اللسان: وبقية كلام ابن حبان يخالف الثقات. وقال إنه شيخ من أهل البصرة سلولي - انتهى. (الجبهة الخيل والبغال والعبيد) والذي في القاموس وغيره أنها الخيل. قال في الفائق: سميت بذلك؛ لأنها خيار البهائم كما يقال وجه السلعة لخيارها ووجه القوم وجبهتهم لسيدهم. وقال بعضهم: هي خيار الخيل ثم رأيت صاحب النهاية أشار إلى أن ما قاله الصقر فيه

(11/348)


بعد وتكلف قاله القاري. قلت: روى البيهقي بسند ضعيف عن أبي هريرة مرفوعا، عفوت لكم عن صدقة الجبهة والكسعة والنخة. قال بقية (أحد رواته) الجبهة الخيل والكسعة البغال والحمير والنخة المربيات في البيوت، ثم رواه البيهقي عن عبدالرحمن بن سمرة مرفوعا. بلفظ: لا صدقة في الكسعة والجبهة والنخة فسره أبوعمر وعبدالله بن يزيد (راوي الحديث) الكسعة الحمير والجبهة الخيل والنخة العبيد. ثم ذكر تفصيل ذلك عن أبي عبيدة حيث قال: قال أبوعبيد قال عبيدة: الجبهة الخيل والنخة الرقيق والكسعة الحمير. قال الكسائي وغيره: في الجبهة والكسعة مثله. وقال الكسائي: والنخة برفع النون وفسره هو وغيره في مجلسه البقر العوامل - انتهى. (رواه الدارقطني) (ص200) من حديث أحمد بن الحارث البصري ثنا الصقر بن حبيب. قال: سمعت أبارجاء العطاردي يحدث عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب. قال الزيلعي (ج2:ص357-388) ومن طريق الدارقطني رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية والصقر ضعيف. قال ابن حبان في الضعفاء: ليس هو من كلام
1829- (21) وعن طاووس، إن معاذ بن جبل أتى بوقص البقر فقال: لم يأمرني فيه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء. رواه الدارقطني والشافعي.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما يعرف بإسناد منقطع فقلبه الصقر على أبي رجاء وهو يأتي بالمقلوبات – انتهى. وأحمد بن الحارث الراوي عن الصقر. قال أبوحاتم الرازي: هو متروك الحديث - انتهى.

(11/349)


1829- قوله: (وعن طاووس) هو طاووس بن كيسان اليماني أبوعبدالرحمن الحميري مولاهم الفارسي يقال اسمه ذكوان وطاووس لقب ثقة ثبت فقيه فاضل من أوساط التابعين مات سنة ست ومائة. وقيل: بعد ذلك (أتى) بصيغة المجهول (بوقص) بفتح الواو والقاف ويجوز إسكانها وإبدال الصاد سينا وهو ما بين الفرضين عند الجمهور واستعمله الشافعي فيما دون النصاب الأول (البقر فقال لم يأمرني فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء) أي بأخذ شيء ويؤيد هذا ما روى مالك في الموطأ عن حميد بن قيس عن طاووس، إن معاذا أخذ من ثلاثين بقرة تبيعا، ومن أربعين بقرة مسنة، وأتى بما دون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئا. وقال: لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئا حتى ألقاه فأسأله فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ: وقد ورد ما يدل على رفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فروى البزار والدارقطني (ص202) والبيهقي (ج4:ص98) وابن حزم من طريق المسعودي عن الحكم عن طاووس عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن - الحديث. فلما رجع سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه يعني الوقص. فقال: ليس فيها شيء. قال المسعودي: والأوقاص ما بين الثلاثين إلى الأربعين والأربعين إلى الستين. وأخرج أحمد (ج5:ص240) والطبراني من رواية سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم أن معاذا قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصدق أهل اليمن فذكر الحديث قال: فأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئا وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها ورواه أبوعبيد (ص383) من طريق سلمة بن أسامة، إن معاذا قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر مثله. وروى أبو عبيد (ص384) أيضا من طريق سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الأوقاص لا صدقة فيها. وقد تقدم الكلام في رواية سلمة بن أسامة ورواية المسعودي عن الحكم عن

(11/350)


طاووس عن ابن عباس، وروى الطبراني من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم عن رجل عن معاذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس في الأوقاص شيء ووقفه ابن أبي شيبة (ج3:ص13) من طريق ليث عن طاووس عن معاذ قال: ليس في الأوقاص شيء، وروى الدارقطني في المؤتلف والمختلف عن عبيد بن صخر بن لوذان الأنصاري قال: عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمالة على اليمن في البقر في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة وليس في الأوقاص شيء. قال الدارقطني: والأوقاص ما بين السنين اللذين يجب فيها الزكاة - انتهى. (رواه الدارقطني) (ص202) (والشافعي) في الأم (ج2:ص7) كلاهما من حديث سفيان عن عمرو بن دينار
وقال: الوقص ما لم يبلغ الفريضة.
(2) باب صدقة الفطر

(11/351)


عن طاووس إن معاذ بن جبل إلخ. ورواه أبوعبيد (ص383-384) عن حجاج عن ابن جريج وحماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن طاووس. إن معاذ بن جبل قال باليمن: لست بآخذ من أوقاص البقر شيئا حتى آتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرني فيها بشيء - انتهى. وروى ابن حزم (ج6:ص12) من طريق الحجاج بن منهال عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس، إن معاذ أتى بوقص البقر والعسل فلم يأخذه فقال: كلاهما لم يأمرني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء. ومن طريق الشافعي رواه البيهقي (ج4:ص98) وقد سبق إن رواية طاووس عن معاذ منقطعة. قال عبدالحق: طاووس لم يدرك معاذ- انتهى. وقال الشافعي: طاووس عالم بأمر معاذ، وإن كان لم يلقه لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذا، وهذا مما لا أعلم عن أحد فيه خلافا - انتهى. وقال البيهقي: طاووس وإن لم يلق معاذا، إلا أنه يماني وسيرة معاذ بينهم مشهورة (وقال) أي الشافعي (الوقص ما لم يبلغ الفريضة) أي ما لم يجب فيه شيء ابتداء كأربع الإبل ودون ثلاثين البقر وأربعين الغنم، وعند الجمهور هو ما بين السنين اللذين يجب فيهما الزكاة كما بين الخمس والعشر في الأول، والثلاثين والأربعين في الثاني، والأربعين والمائة والإحدى والعشرين في الثالث، قال القاري: والأشهر إطلاقه على المعنى الثاني. وقيل: الوقص في البقر خاصة - انتهى.

(11/352)


(باب صدقة الفطر) أي هذا باب في ذكر الأحاديث التي تؤخذ منها أحكام صدقة الفطر. قال الله تعالى: ?قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى? [الأعلى:14-15] روى عن ابن عمر وعمرو بن عوف زكاة الفطر، وروى عن أبي العالية وابن المسيب وابن سيرين وغيرهم. قالوا: يعطي صدقة الفطر. ثم يصلي، رواه البيهقي وغيره. والمراد بصدقة الفطر أي من رمضان فأضيفت الصدقة للفطر لكونها تجب بالفطر منه. وقيل: إضافة الصدقة إلى الفطر من إضافة الشيء إلى شرطه كحجة الإسلام. وقال ابن قتيبة المراد بصدقة الفطر صدقة النفوس مأخوذ من الفطرة التي هي الخلقة المرادة بقوله تعالى: ?فطرة الله التي فطر الناس عليها? [الروم:30] والمعنى إنها وجبت على الخلقة تزكية للنفس أي تطهيرا لها. قال الحافظ: والأول أظهر ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث زكاة الفطر من رمضان - انتهى. وقوله "باب صدقة الفطر، هكذا في كتب الحديث وأكثر كتب الفروع من المذهب المتبوعة، ووقع في بعض كتب فروع الحنفية كالوقاية والنقاية والدرر باب صدقة الفطرة بزيادة التاء في آخره وهكذا وقع في كلام الفقهاء، الفطرة نصف صاع من بر فقيل: لفظ الفطرة الواقع في كلامهم اسم مولد حتى عده بعضهم من لحن العوام أي إن الفطرة المراد بها الصدقة غير لغوية؛ لأنها لم تأت بهذا المعني.
...............................

(11/353)


وقيل قول الفقهاء على حذف المضاف أي صدقة الفطر فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه واستغنى به في الاستعمال لفهم المعنى. وقيل: حذف المضاف وأقيمت الهاء في المضاف اليه لتدل على ذلك. وقال: ابن عابدين بعد بسط الكلام في اشتقاقه من الفطرة بمعنى الخلقة. والحاصل إن لفظ الفطرة بالتاء لا شك في لغويته. ومعناه الخلقة، وإنما الكلام في إطلاقه مرادا به المخرج فإن أطلق عليه بدون تقدير فهو إصطلاح شرعي (للفقهاء) مولد. وأما مع تقدير المضاف فالمراد بها المعنى اللغوي (كما تقدم في كلام ابن قتيبة) وأما لفظ الفطر بدون تاء فلا كلام في أنه معنى لغوي (مستعمل قبل الشرع؛ لأنه ضد الصوم) ويقال لها أيضا زكاة الفطر وزكاة رمضان، وزكاة الصوم وصدقة رمضان، وصدقة الصوم، وتسمى أيضا صدقة الرؤوس، وزكاة الأبدان سماها الإمام مالك رحمه الله. وكان فرضها في السنة الثانية من الهجرة في شهر رمضان قبل العيد بيومين. واختلف في حكمها فقالت: طائفة هي فرض، وهم الشافعي ومالك وأحمد لقول ابن عمر وأبي سعيد وابن عباس. فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر. وقال الحنفية: هي واجبة بناء على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب. قال العيني: والنزاع لفظي؛ لأن الفريضة عند الشافعي (ومن وافقه) نوعان، مقطوع حتى يكفر جاحده، وغير مقطوع حتى لا يكفر جاحده، ومن جحد صدقة الفطر لا يكفر بالإجماع ولذا لا يكفر من قال إنها مستحبة، وأجاب ابن الهمام بأن الثابت بظني يفيد الوجوب وإنه لا خلاف في المعنى، لأن الافتراض الذي يثبته الشافعية ليس على وجه يكفر جاحده، فهو معنى الوجوب عندنا. وقد يجاب بأن قول الصحابي فرض، يراد به المعنى المصطلح عندنا للقطع به بالنسبة إلى من سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره ما لم يصل إليه بطريق قطعي فيكون مثله، ولذا قالوا إن الواجب لم يكن في عصره - صلى الله عليه وسلم - - انتهى. وقالت طائفة: هي سنة مؤكدة نقله

(11/354)


المالكية عن أشهب وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية، وأولوا قوله "فرض" في الحديث بمعنى "قدر" قال ابن دقيق العيد: (ج2:ص197) هو أصله في اللغة لكنه نقل في عرف الاستعمال إلى الوجوب فالحمل عليه أولى، لأن ما اشتهر في الاستعمال فالقصد إليه هو الغالب - انتهى. قال الحافظ: ويؤيده تسميتها زكاة، وقوله في الحديث "على كل حر وعبد" والتصريح بالأمر بها في حديث قيس بن سعد الآتي ولدخوله في عموم قوله تعالى: ?وآتوا الزكاة? [البقرة:43] فبين - صلى الله عليه وسلم - تفاصيل ذلك، ومن جملتها زكاة الفطر- انتهى. وقالت طائفة: هي فعل خير مندوب إليه، كانت واجبة، ثم نسخت، قال به إبراهيم بن علية وأبوبكر بن كيسان الأصم. لما روى عن قيس بن سعد بن عبادة قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله، أخرجه النسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي. قال الحافظ: وتعقب بأن في إسناده راويا مجهولا وعلى تقدير الصحة، فلا دليل فيه على النسخ الإحتمال الاكتفاء بالأمر الأول، لأن نزول فرض لا يوجب سقوط
?الفصل الأول?
1830-(1) عن ابن عمر، قال: ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر
فرض آخر قلت: حديث قيس هذا سنده صحيح رواته ثقات، وقد صححه الحاكم والذهبي، والقول بأن في سنده راويا مجهولا خطأ فليس فيه مجهول قط. وقال الخطابي: حديث قيس هذا لا يدل على زوال وجوبها، وذلك أن الزيادة في جنس العبادة لا توجب نسخ الأصل المزيد عليه، غير أن محل سائر الزكوات الأموال، ومحل زكاة الفطر الرقاب - انتهى. وقال البيهقي: هذا لا يدل على سقوط فرضها، لأن نزول فرض لا يوجب سقوط آخر. وقد أجمع أهل العلم على وجوب زكاة الفطر، وإن اختلفوا في تسميتها فرضا فلا يجوز تركها، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على فرضية صدقة الفطر. قلت: فيه نظر لما تقدم من الإختلاف في ذلك.

(11/355)


1830- قوله: (فرض) أي أوجب وألزم (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وما أوجبه فبأمر الله ?وما ينطق عن الهوى? [النجم:3] قال الطيبي: دل قوله "فرض" على أن صدقة الفطر فريضة، والحنفية على أنها واجبة. قال القاري: لعدم ثبوتها بدليل قطعي فهو فرض عملي لا اعتقادي. وقال السندي: الحديث من أخبار الآحاد فمؤداه الظن فلذلك قال بوجوبه دون افتراضه، من خص الفرض بالقطع والواجب بالظن - انتهى. وقال ابن حجر: في الحديث دليل لمذهبنا، ولما رأى الحنفية الفرق بين الفرض والواجب بأن الأول ما ثبت بدليل قطعي. والثاني: ما ثبت بظني. قالوا: إن الفرض هنا بمعنى الواجب. وفيه نظر؛ لأن هذا قطعي لمعا علمت أنه مجمع عليه فالفرض فيه باق على حاله حتى على قواعدهم فلا يحتاج لتأويلهم الفرض هنا بالواجب - انتهى. قال القاري: وفيه أن الإجماع على تقدير ثبوته إنما هو في لزوم هذا الفعل، وأما أنه على طريق الفرض أو الواجب بناء على إصطلاح الفقهاء المتأخرين فغير مسلم، وأما قوله: ووجوبها مجمع عليه كما حكاه المنذري والبيهقي فمنقوض بأن جمعا حكوا الخلاف فيها (كما تقدم). قلت: حمل اللفظ في كلام الشارع على الحقيقة الشرعية متعين، لكن حمله على المصطلح الحادث غير صحيح، والصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يعرفون هذا الاصطلاح الحادث. والفرق الذي قال به الحنفية فالظاهر هو ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من أن صدقة الفطر فريضة (زكاة الفطر) زاد مسلم في رواية "من رمضان" ونصبها على المفعولية "وصاعا" بدل منها أو حال أو تميز أو على نزع الخافض أي في زكاة رمضان والمفعول "صاعا" وقيل: نصب "صاعا" على أنه مفعول ثان. واستدل بقوله "زكاة الفطر" على أن وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر؛ لأنه وقت الفطر من رمضان. وقيل: وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد؛ لأن الليل ليس محلا للصوم، وإنما يتبين الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر، والأول: قول الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي في

(11/356)


الجديد وإحدى الراويتين عن مالك. والثاني: قول أبي حنيفة والليث والشافعي في
صاعا من تمر،
القديم، والرواية الثانية عن مالك. قال الحافظ: ويقويه قوله في الحديث وأمر بها أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة. قال المازري قيل: إن الخلاف ينبني على أن قوله: الفطر من رمضان الفطر المعتاد في سائر الشهر، فيكون الوجوب بالغروب أو الفطر الطاريء بعد فيكون بطلوع الفجر. وقال ابن دقيق العيد (ج2 ص198) ما محصله الاستدلال بذلك لهذا الحكم ضعيف، لأن إضافتها إلى الفطر من رمضان، لا يستلزم أنه وقت الوجوب بل يقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان. وأما وقت وجوب فيؤخذ من أمر آخر. وقال ابن قدامة: (ج3 ص67) أما وقت وجوب زكاة الفطر فهو وقت غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، فإنها تجب بغروب الشمس من آخر شهر رمضان، فمن تزوج أو ملك عبدا أو ولد له ولدا أو أسلم قبل غروب الشمس فعليه الفطرة، وإن كان بعد الغروب لم تلزمه، ولو كان حين الوجوب معسرا ثم أيسر في ليلته تلك أو فييومه لم يجب عليه شيء، ولو كان في وقت الوجوب موسرا ثم أعسر لم تسقط عنه اعتبارا بحالة الوجوب. ومن مات بعد غروب الشمس ليلة الفطر فعليه صدقة الفطر، نص عليه أحمد وبما ذكرنا في وقت الوجوب. قال الثوري وإسحاق ومالك في إحدى الروايتين عنه والشافعي في أحد قوليه. وقال الليث وأبوثور وأصحاب الرأي: تجب بطلوع الفجر يوم العيد وهو رواية عن مالك (صاعا من تمر) وهو خمسة أرطال وثلث رطل بالبغدادي، ويقال له: الصاع الحجازي؛ لأنه كان مستعملا في بلاد الحجاز، وهو الصاع الذي كان مستعملا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبه كانوا يخرجون صدقة الفطر. وزكاة المعشرات وغيرهما من الحقوق الواجبة المقدرة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وأبويوسف وعلماء الحجاز. وقال أبوحنيفة ومحمد. بالصاع العراقي، وهو ثمانية أرطال بالرطل المذكور. وإنما قيل له

(11/357)


العراقي، لأنه كان مستعملا في بلاد العراق، وهو الذي يقال له الصاع الحجاجي؛ لأنه أبرزة الحجاج الوالي، وكان أبويوسف يقول كقول أبي حنيفة ثم رجع إلى قول الجمهور، لما تناظر مع مالك بالمدينة فأراه الصيعان التي توراثها أهل المدينة عن إسلافهم من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فائدة قال القسطلاني: الرطل البغدادي مائة وثلاثون درهما على الأصح عند الرافعي ومائة وثمانية وعشرون درهما، وأربعة أسباع درهم على الأصح عند النووي، فالصاع على الأول ستمائة درهم وثلاثون وتسعون درهما وثلث درهم، وعلى الثاني: ستمائة درهم وخمسة وثمانون درهما وخمسة أسباع درهم والأصل الكيل. وإنما قدر بالوزن استظهارا. قال في الروضة: وقد يشكل ضبط الصاع بالأرطال فإن الصاع المخرج به في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكيال معروف، ويختلف قدره وزنا باختلاف جنس ما يخرج كالذرة والحمص وغيرهما. والصواب ما قاله أبوالفرج الدارمي من الشافعية، إن الاعتماد على الكيل بصاع معاير بالصاع الذي كان يخرج به في عصره - صلى الله عليه وسلم -، ومن لم يجده لزمه إخراج قدر يتيقن أنه لا ينقص عنه وعلى هذا فالتقدير بخمسة أرطال وثلاث رطل تقريب - انتهى. وقد سبق شيء من الكلام فيه في شرح حديث الأوساق ومن أراد
أو صاعا من شعير،

(11/358)


مزيد التفصيل فليرجع إلى طرح التثريب (ج4 ص53- 54- 55). (أو صاعا من شعير) قال الباجي: لفظة أو ههنا على قول جماعة أصحابنا لا يصح أن تكون للتخيير، وإنما هي للتقسيم، ولو كانت للتخيير لاقتصى أن يخرج الشعير من قوته غيره من التمر مع وجوده، ولا يقول هذا أحد منهم فتقديره صاعا من تمر على من كان ذلك قوته، أو صاعا من شعير على من كان ذلك قوته - انتهى. وقال القاري: أو للتخيير بين النوعين وما في معناهما فليس ذكرهما لحصر إلا عطاء منها - انتهى. قلت: الظاهر إن "أو" للتخيير وإنه يخرج من أيهما شاء صاعا وسيأتي مزيد الكلام عليه في شرح حديث أبي سعيد. قال الحافظ: لم تختلف الطرق عن ابن عمر في الاقتصار على هذين الشيئين إلا ما أخرجه أبوداود والنسائي وغيرهما من طريق عبدالعزيز بن أبي رواد عن نافع، فزاد فيه السلت والزبيب. فأما السلت فهو نوع من الشعير. وأما الزبيب فسيأتي ذكره في حديث أبي سعيد. وأما حديث ابن عمر فقد حكم مسلم في كتاب التمييز على عبدالعزيز فيه بالوهم - انتهى. قلت: ظاهر رواية الكتاب إنه لا يجزيء غير التمر والشعير. وبذلك قال ابن حزم ومن وافقه: لكن ورد في روايات أخرى ذكر أجناس أخرى وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. قال العيني: يستفاد من الحديث إن صدقة الفطر من التمر والشعير صاع، ومذهب داود ومن تبعه أنه لا يجوز إلا من التمر والشعير، ولا يجزيء عنده قمح ولا دقيقة ولا دقيق شعير ولا سويق ولا خبز ولا زبيب ولا غير ذلك. واحتج في ذلك بهذا الحديث قال: لأنه ذكر فيه ابن عمر التمر والشعير ولم يذكر غيرهما - انتهى. وقال القسطلاني: يجب من غالب قوت بلده "فأو" ليست للتخيير بل لبيان الأنواع التي يخرج منها، وذكرا لأنهما الغالب في قوت أهل المدينة، وجاءت أحاديث أخرى بأجناس أخرى وسيأتي مزيد الكلام في هذه المسألة. واستدل بإطلاق الحديث على وجوب صدقة الفطر على أهل البادية والعمود والقرى، وعلى أن النصاب ليس بشرط،

(11/359)


ويدل عليه أيضا رواية مالك بلفظ: فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس. واختلف العلماء في ذلك. قال ابن رشد: (ج1 ص250) أجمعوا على أن المسلمين مخاطبون بها ذكرانا كانوا أو إناثا صغارا أو كبارا عبيدا أو أحرارا لحديث ابن عمر إلا ما شذ فيه الليث. فقال: ليس على أهل العمود زكاة الفطر، وإنما هي على أهل القرى ولا حجة له. قال وليس من شرط هذه الزكاة الغناء عند أكثرهم ولا نصاب بل أن تكون فضلا عن قوته وقوت عياله. وقال أبوحنيفة وأصحابه: لا يجب على من تجوز له الصدقة؛ لأنه لا يجتمع أنه تجوز له، وإن تجب عليه وذلك بين - انتهى. وقال ابن قدامة: (ج3 ص60) أكثر أهل العلم يوجبون صدقة الفطر على أهل البادية، روى ذلك عن ابن الزبير، وبه قال ابن النسيب والحسن ومالك والشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي. وقال عطاء والزهري وربيعة: لا صدقة عليهم، ولنا عموم الحديث. ولأنها زكاة فوجبت عليهم كزكاة المال، ولأنهم مسلمون فيجب عليهم صدقة الفطر كغيرهم. وقال(ج3 ص73) تحت قول الخرقي إذا كان عنده فضل عن قوت يومه
على العبد والحر

(11/360)


وليلته. صدقة الفطر واجبة على من قدر عليها، ولا يعتبر في وجوبها نصاب، وبهذا قال أبوهريرة وأبوالعالية والشعبي وعطاء وابن سيرين والزهري ومالك وابن المبارك والشافعي وأبوثور. وقال أصحاب الرأي: لا تجب إلا على من يملك مائتي درهم أو ما قيمته نصاب فاضل عن مسكنه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صدقة إلا عن ظهر غني (أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا) والفقير لا غنى له فلا تجب عليه كمن لا يقدر عليها، ولنا ما روى ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أدوا صدقة الفطر- الحديث. وفيه غنى أو فقير. أما غنيكم فيزكيه الله. وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى. والذي قاسوا عليه عاجز فلا يصح القياس عليه وحديثهم محمول على زكاة المال - انتهى. وقال الشوكاني في النيل: قد اختلف في القدر الذي يعتبر ملكه لمن تلزمه الفطرة فقال أبوحنيفة وأصحابة: أنه يعبر أن يكون المخرج غنيا غنى شرعيا، واستدل لهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الصدقة ما كان عن ظهر غنى (أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا) وبالقياس على زكاة المال. ويجاب بأن الحديث لا يفيد المطلوب؛ لأنه بلفظ: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى كما أخرجه أبوداود - انتهى. قلت: وأخرجه البخاري أيضا بهذا اللفظ وهو مشعر، بأن النفي في رواية أحمد للكمال، لا للحقيقة. فالمعنى لا صدقة كاملة إلا عن ظهر غني. قال الشوكاني: وأما الاستدلال بالقياس فغير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق، إذ وجوب الفطرة متعلق بالأبدان. والزكاة بالأموال. وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: إنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكا لقوت يوم وليلة. لما روى أنه طهرة للصائم ولا فرق بين الغني والفقير في ذلك. ويؤيد ذلك ما روى من تفسيره صلى الله عليه وسلم من لا يحل له السؤال بمن يملك ما يغديه ويعشيه وهذا هو الحق، لأن النصوص أطلقت ولم يخص غنيا ولا فقيرا ولا مجال

(11/361)


للاجتهاد في تعيين المقدار الذي يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكا له ولاسيما والعلة التي شرعت لها الفطرة موجودة في الغني والفقير وهي التطهرة من اللغو والرفث واعتبار كونه وأجد القوت يوم وليلة أمر لابد منه، لأن المقصود من شرع الفطرة إغناء الفقراء في ذلك اليوم كما أخرجه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر مرفوعا وفيه: أغنوهم في هذا اليوم وفي رواية للبيهقي: أغنوهم عن طواف هذا اليوم، وأخرجه أيضا ابن سعد في الطبقات من حديث عائشة وأبي سعيد فلو لم يعتبر في حق المخرج ذلك لكان ممن أمرنا بإغناءه في ذلك اليوم، لا من المأمورين بإخراج الفطرة وإغناء غيره. وبهذا يندفع ما اعترض به صاحب البحر عن أهل هذه المقالة من أنه يلزمهم إيجاب الفطرة على من لم يملك إلا دون قوت اليوم ولا قائل به - انتهى كلام الشوكاني. (على العبد) ظاهره إخراج العبد عن نفسه ولم يقل به إلا داود. فقال يجب على السيد إن يمكن العبد من الاكتساب لها كما يجب عليه أن يمكنه من الصلاة وخالفه أصحابة والناس. واحتجوا بحديث أبي هريرة مرفوعا: ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر أخرجه، مسلم ومقتضاه إنها ليست عليه بل على سيده. ثم افترقوا
والذكر والأنثى

(11/362)


فرقتين فقالت طائفة: تجب على السيد ابتداء، وكلمة "على" بمعنى عن وحروف الجر يقوم بعضها مقام بعض وقال آخرون: تجب على العبد ثم يحملها سيده عنه فكلمة الاستعلاء جارية على ظاهرها وقال القاضي البيضاوي: جعل وجوب زكاة الفطر على السيد كالوجوب على العبد مجازا، إذ ليس هو أهلا، لأن يكلف بالواجبات المالية، ويؤيد ذلك عطف الصغير عليه. ولفظ "العبد" يعم عبد التجارة وغيره فتجب على السيد عن عبيده سواء كانوا لتجارة أو لغير تجارة، وإليه ذهب الأئمة الثلاثة خلافا لأبي حنيفة والنخعي وعطاء. قال ابن قدامة: فأما العبيد فإن كانوا لغير التجارة فعلى سيدهم فطرتهم لا نعلم فيه خلافا، وإن كانوا للتجارة فعليه أيضا فطرتهم، وبهذا قال مالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر. وقال عطاء والنخعي والثوري وأصحاب الرأي: لا تلزمه فطرتهم؛ لأنها زكاة ولا تجب في مال واحد زكاتان وقد وجبت فيهم زكاة التجارة، فيمتنع وجوب الزكاة الأخرى. ولنا عموم الأحاديث. ولأن نفقتهم واجبة فوجبت فطرتهم كعبيد القنية، أو نقول مسلم تجب مؤنته فوجبت فطرته كالأصل وزكاة الفطر تجب على البدن، ولهذا تجب على الأحرار وزكاة التجارة عن القيمة وهي المال - انتهى. (والذكر والأنثى) ظاهر وجوبها على المرأة سواء كان لها زوج أم لا، وبه قال الثوري وأبوحنيفة وابن المنذر. وقال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق تجب على زوجها إلحاقا بالنفقة، وفيه نظر، لأنهم قالوا: إن أعسر وكانت الزوجة أمة وجبت فطرتها على السيد بخلاف النفقة فافترقا. واتفقوا على أن المسلم لا يخرج عن زوجته الكافرة مع أن نفقتها تلزمه. وإنما احتج الشافعي بما رواه من طريق محمد بن علي بن الباقر مرسلا نحو حديث ابن عمر، وزاد فيه ممن تمونون. وأخرجه البيهقي من هذا الوجه فزاد في سنده ذكر على وهو منقطع أيضا. وأخرجه من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف كذا في الفتح. وقال ابن قدامة: (ج3 ص69) في شرح قول

(11/363)


الخرقي "ويلزمه أن يخرج عن نفسه وعن عياله" عيال الإنسان من يعوله أي يمونه فتلزمه فطرتهم كما تلزمه مؤنتهم، ذا وجد ما يؤدي عنهم لحديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض صدقة الفطر عن كل صغير وكبير وحر وعبد ممن تمونون. والذين يلزم الإنسان نفقتهم وفطرتهم ثلاثة أصناف. الزوجات، والعبيد، والأقارب. فأما الزوجات: فعليه فطرتهن، وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق. وقال أبوحنيفة والثوري وابن المنذر لا تجب عليه فطرة امرأته وعلى المرأة فطرة نفسها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدقة الفطر على كل ذكر وأنثى، ولأنها زكاة فوجبت عليها كزكاة مالها. ولنا الخير ولأن النكاح سبب تجب به النفقة فوجبت به الفطرة كالملك والقرابة بخلاف زكاة المال فإنها لا تتحمل بالملك والقرابة قال: وإن نشزت المرأة في وقت الوجوب ففطرتها على نفسها دون زوجها، لأن نفقتها لا تلزمه. واختار أبوالخطاب: إن عليه فطرتها لأن الزوجية ثابتة عليها فلزمته فطرتها والأول أصح، لأن هذه ممن لا تلزمه مؤنته فلا تلزمه فطرته كالأجنبية، وكذلك كل امرأة لا يلزمه نفقتها كغير المدخول بها إذا لم تسلم إليه. والصغيرة التي لا يمكن
والصغير والكبير من المسلمين.

(11/364)


الاستمتاع بها فإنه لا تلزمه نفقتها ولا فطرتها؛ لأنها ليست من يمون - انتهى. قال ابن رشد: (ج1 ص251) اتفق الجمهور على أن هذه الزكاة ليست بلازمة لمكلف مكلف في ذاته فقط، كالحال في سائر العبادات، بل ومن قبل غيره لإيجابها على الصغير والعبيد، فمن فهم من هذا علة الحكم الولاية. قال الولي: يلزمه إخراج الصدقة عن كل ما يليه، ومن فهم من هذه النفقة قال المنفق يجب أن يخرج الزكاة عن كل من ينفق عليه بالشرع، وإنما عرض هذا الاختلاف لأنه اتفق في الصغير والعبد وهما اللذان نبها على أن هذه الزكاة ليست معلقة بذات المكلف فقط، بل ومن قبل غيره إن وجدت الولاية فيها. ووجوب النفقة فذهب مالك (ومن وافقه) إلى أن العلة في ذلك وجوب النفقة، وذهب أبوحنيفة إلى أن العلة في ذلك الولاية ولذلك اختلفوا في الزوجة - انتهى. (والصغير والكبير) ظاهره وجوبها على الصغير لكن المخاطب عنه وليه فوجوبها على هذا في مال الصغير فيخرج عنه وليه من ماله. وإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته من أب وغيره، وهذا قول الجمهور. وقال محمد بن الحسن: هي على الأب مطلقا، ولو كان للصغير مال لم تخرج عنه. فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه، وقال ابن حزم: هي في مال الصغير إن كان له مال. وإلا سقطت عنه، قال ابن قدامة: وعموم قوله الصغير والكبير يقتضي وجوبها على اليتيم، ولأنه مسلم فوجبت فطرته كما لو كان له أب. وقال الحسن وابن المسيب والشعبي: لا تجب إلا على من صام. لحديث ابن عباس الآتي صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث. وأجيب بأن ذكر التطهير خرج على الغالب كما أنها تجب على من لم يذنب كمتحقق الصلاح، أو من أسلم قبل غروب الشمس بلحظة (من المسلمين) لأئمة الحديث كلام طويل في هذه اللفظة، لأنه لم يتفق عليها الرواة لهذا الحديث إلا أنها زيادة من عدل ثقة حافظ فتقبل، وهي تدل على اشتراط الإسلام في وجوب صدقة الفطر، وإنها لا تجب على الكافر عن نفسه وهذا متفق عليه. وهل

(11/365)


يخرجها المسلم عن عبده الكافر؟ فقال الجمهور: لا خلافا لعطاء والنخعي وإسحاق ومجاهد وعمر بن عبدالعزيز وسعيد بن جبير والثوري وأبي حنيفة وأصحابة. واستدلوا بعموم قوله: ليس على المسلم في عبده إلا صدقة الفطر. وأجاب الآخرون بأن الخاص يقضي على العام. فعموم قوله: في عبده مخصوص بقوله: من المسلمين وفيه ما قال الشوكاني إن قوله من المسلمين أعم من قوله في عبده من وجه، وأخص من وجه فتخصيص أحدهما بالآخر تحكم ولكنه يؤيد اعتبار الإسلام ما عند مسلم بلفظ: على كل نفس من المسلمين حر أو عبد واحتج بعضهم على وجوب إخراجها عن العبد الكافر بما روى الدارقطني وغيره عن ابن عمر أنه كان يخرج عن عبده الكافر، وهو أعرف بمراد الحديث وتعقب بأنه لو صح حمل على أنه كان يخرج عنهم تطوعا ولا مانع واحتج بعضهم أيضا بما
وأمر بها أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة)). متفق عليه.

(11/366)


روى الدارقطني عن ابن عباس مرفوعا، أدوا صدقة الفطر عن كل صغير أو كبير ذكر أو أنثى يهودي أو نصراني حر أو مملوك - انتهى. وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف جدا، فإن مسنده سلاما الطويل وهو متروك وأجاب الطحاوي عن قوله من المسلمين بأنه صفة للمخرجين لا للمخرج عنهم. ورد بأنه يأباه ظاهر الحديث؛ لأن فيه العبد وكذا الصغير، وهما ممن يخرج عنه فدل على أن الصفة الإسلام لا تختص بالمخرجين ويؤيده رواية مسلم بلفظ: على كل نفس من المسلمين حر أو عبد - الحديث. وقال في المصابيح: هو نص ظاهر في أن قوله من المسلمين صفة لما قبله من المنكرات المتعاطفات بأو فيندفع قول الطحاوي بأنه خطاب متوجه، معناه إلى السادة يقصد بذلك الاحتجاج لمن ذهب إلى إخراج زكاة الفطر عن العبد الكافر - انتهى. وأجاب بعض الحنفية بجواب آخر وهو أن قوله: من المسلمين لا يعتبر مفهومه المخالف عند الحنفية. قالوا: والنكتة في ذكر هذا القيد هي التنبيه على الأهم والأشراف حيث نص عليه بعد دخوله تحت الاسم المطلق. وفيه إن مسألة مفهوم المخالفة مبحث لغوي، واستعمال أهل اللغة والشرع لمفهوم الصفة وعلمهم به معلوم لكل من له علم بذلك. وأما النكنة المذكورة فلا تتمشي ههنا لما وقع في رواية لمسلم: فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين حر أو عبد أو رجل أو امرأة صغير أو كبير.. الخ فافهم (وأمر) أي رسول الله `- صلى الله عليه وسلم -(بها) أي بصدقة الفطر (أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة) أي صلاة العيد. قال الطيبي: هذا أمر استجاب لجواز التأخير عن الخروج عند الجمهور إلى الغروب وحكى الخطابي الإجماع على هذا الاستحباب، وقال العيني: لم يحك الترمذي فيه خلافا. وقال ابن حزم: الأمر فيه للوجوب فيحرم تأخيرها عن ذلك الوقت- انتهى. وقال الحافظ: استدل به على كراهة تأخيرها عن ذلك، وحمله ابن حزم على التحريم - انتهى. قلت: يدل الحديث على أن المادرة بها هي المطلوب المأمور بها فلو

(11/367)


أخرها عن الصلاة أثم وخرجت عن كونها صدقة فطر، وصارت صدقة من الصدقات. وقد ورد ذلك مصرحا عند أبي داود من حديث ابن عباس. قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصيام من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات - انتهى. قال القاري: هذا الخبر يفيد الوجوب إلا أن جماعة إدعوا إن إخراجه قبل صلاة العيد أفضل إجماعا - انتهى. قلت ويؤكد كون الأمر للوجوب ما روى ابن عدي والدارقطني وغيرهما من حديث ابن عمر، أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم - انتهى. فإنه لا يحصل الغني للفقراء في هذا اليوم والاستراحة عن الطواف، إلا بإعطاءهم صدقة الفطر أول اليوم. فالحق عندي: هو إن الأمر في حديث الباب للوجوب لا للاستجاب والله تعالى أعلم. (متفق عليه)
1831-(2) وعن أبي سعيد، قال: ((كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام،
وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم مطولا ومختصرا، من أحب الوقوف على اختلاف ألفاظه رجع إلى جامع الأصول (ج5 ص347- 348- 349) والتقريب مع طرح التثريب (ج4 ص43، 48).

(11/368)


1831- قوله: (كنا نخرج زكاة الفطر) وفي رواية للبخاري كنا نعطيتها في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي أخرى له أيضا كنا نخرج في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعند مسلم كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر. قال الحافظ: هذا حكمه الرفع لإضافته إلى زمنه - صلى الله عليه وسلم -، ففيه إشعار بإطلاعه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وتقريره له، ولاسيما في هذه الصورة التي كانت توضع عنده وتجمع بأمره وهو الآمر بقبضها وتفريقها - انتهى. وفي هذا رد على ابن حزم في زعمه إن حديث أبي سعيد ليس مسندا، لأنه ليس فيه إن رسول الله علم بذلك وأقره، وهذا لأن ألفاظ الحديث تدل على أن ذلك كان معلوما معروفا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يخفي مثل ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صاعا من طعام) قال السندي في حاشية ابن ماجه: يحتمل إن صاعا من طعام أريد به صاع من الحنطة فإن الطعام وإن كان يعم الحنطة وغيرها لغة لكن اشتهر في العرف إطلاقه على الحنطة، ويؤيده المقابلة بما بعده، ويحتمل أن يكون صاعا من طعام مجملا ويكون ما بعده بيانا له كأنه بين إن الطعام الذي كانوا يعطون منه الصاع، كان تمرا وشعيرا وإقطا لا حنطة. ويؤيده ما روى البخاري عن أبي سعيد كنا نخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر صاعا من طعام وكان طعامنا يومئذ الشعير والزبيب والأقط والتمر، وكذا ما رواه ابن خزيمة عن ابن عمر قال: لم تكن الصدقة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا التمر والزبيب والشعير ولم تكن الحنطة فينبغي أن يتعين الحمل على هذا المعنى، بل يستعبد أن يكون المعلوم عندهم المعلوم فيما بينهم صاعا من الحنطة فيتركونه إلى نصفه بكلام معاوية، بل لا يبقى لقول معاوية، إن النصف يعدل الصاع حينئذ وجه إلا بتكلف. وبالجملة فمعنى هذا الحديث أنه ما كان عندهم نص منه -

(11/369)


صلى الله عليه وسلم - في البر بصاع أو بنصفه، وإلا فلو كان عندهم حديث بالصاع، لما خالفوه، أو بنصفه لما احتاجوا إلى القياس، بل حكموا بذلك ويدل على هذا حديث ابن عمر في هذا الباب المروي في الصحاح - انتهى كلام السندي. قلت: اختلفوا في تعيين المراد من الطعام في هذا الحديث، قال الخطابي في المعالم (ج2 ص50- 51): زعم بعض أهل العلم إن المراد بالطعام هنا الحنطة، وأنه عندهم اسم خاص للبر. قال: ويدل على صحة ذلك أنه ذكر في الخبر الشعير والأقط والتمر والزبيب وهي أقواتهم التي كانوا يقتاتونها في الحضر والبدو، ولم يذكر الحنطة وكانت أغلاها وأفضلها كلها، فلولا أنه أرادها بقوله"صاعا من طعام" لكان يجري ذكرها عند التفصيل كما جرى ذكر غيرها من سائر الأقوات، ولاسيما حيث عطفت عليها بحرف
...........................

(11/370)


أو الفاصلة. وقال ابن دقيق العيد (ج2 ص200): قد كانت لفظة الطعام تستعمل في البر عند الإطلاق حتى إذا قيل: أذهب إلى سوق الطعام فهم منه سوق البر، وإذا غلب العرف بذلك نزل اللفظ عليه، لأن ما غلب إطلاق اللفظ عليه فحطورة عند الإطلاق أقرب فينزل اللفظ عليه. قال الخطابي: وزعم الآخرون إن هذا جملة قد فصلت، والتفصيل لا يخالف الجملة. وإنما قال. في أول الحديث صاعا من طعام، ثم فصله. فقال: صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو كذا أو كذا، واسم الطعام شامل لجميع ذلك - انتهى. وقال القاري: قال علماءنا: إن المراد بالطعام المعنى الأعم لا الحنطة بخصوصها، فيكون عطف ما بعده عليه من باب عطف الخاص على العام، واستدركه الكرماني فقال: لكن هذا العطف إنما هو فيما إذا كان الخاص أشرف وهذا بعكس ذلك. قال الحافظ: وقد رد ذلك أي حمل الطعام على البر ابن المنذر. وقال: ظن أصحابنا إن قوله في حديث أبي سعيد صاعا من طعام حجة لمن قال صاعا من حنطة وهذا غلط منه، وذلك إن أباسعيد أجمل الطعام ثم فسره، ثم أورد طريق حفص ابن ميسرة عند البخاري وغيره، إن أباسعيد قال: كنا نخرج في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر صاعا من طعام. قال أبوسعيد: وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر وهي ظاهرة فيما قال. وأخرج الطحاوي نحوه من طريق أخرى. وقال: فيه "ولا يخرج غيره" وفيه قوله فلما جاء معاوية وجاءت السمراء دليل على أنها لم تكن قوتا لهم قبل هذا، فدل على أنها لم تكن كثيرة ولا قوتا فكيف يتوهم أنهم أخرجوا ما لم يكن موجودا - انتهى كلامه. وأخرج ابن خزيمة من طريق فضيل بن غزوان عن نافع عن ابن عمر قال: لم تكن الصدقة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا التمر والزبيب والشعير ولم تكن الحنطة، ولمسلم من وجه آخر عن عياض عن أبي سعيد كنا نخرج من ثلاثة أصناف صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير، وكأنه سكت عن الزبيب في هذه

(11/371)


الرواية لقلته بالنسبة إلى الثلاثة المذكورة. وهذه الطرق كلها تدل على أن المراد بالطعام في حديث أبي سعيد غير الحنطة، فيتحمل أن تكون الذرة فإنه المعروف عند أهل الحجاز الآن وهي قوت غالب لهم، وقد روى الجوزقي من طريق ابن عجلان عن عياض في حديث أبي سعيد صاعا من تمر، صاعا من سلت أو ذرة - انتهى كلام الحافظ. وأجاب البرماوي عن رواية حفص بن ميسرة بأن الطعام فيها محمول على معناه اللغوي الشامل لكل مطعوم. قال: فلا ينافي تخصيص الطعام فيما سبق بالبر؛ لأنه قد عطف عليه الشعير وغيره فدل على التغاير، وهذا كالوعد فإنه عام في الخير والشر، وإذا عطف عليه الوعيد خص بالخير وليس هو من عطف الخاص على العام، نحو فاكهة ونخل ورمان وملائكته وجبريل. فإن ذلك إنما هو فيما إذا كان الخاص أشرف وهنا بالعكس. وقال الكرماني: فإن قلت قوله قال أبوسعيد: وكان طعامنا. الخ مناف لما تقدم من قولك إن الطعام هو الحنطة ثم أجاب بقوله: لا نزاع في أن الطعام بحسب اللغة عام لكل إنما البحث فيما يعطف عليه الشعير وسائر الأطعمة
..........................

(11/372)


فإن العطف قرينة لإرادة المعنى العرفي منه وهو البر بخصوصه - انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف والظاهر عندي: هو قول من قال إن الطعام في قوله صاعا من طعام مجمل، وما ذكره بعده بيان له كما يدل عليه طريق حفص ابن ميسرة وحديث ابن عمر عندي ابن خزيمة، وأن الصحابة ما كانوا يخرجون البر في عهده - صلى الله عليه وسلم - كما يدل عليه رواية النسائي والطحاوي، كنا نخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط لا نخرج غيره. وإن أباسعيد ما أخرج البر في صدقة الفطر قط، لا في زمانه - صلى الله عليه وسلم -، ولا فيما بعده، لا صاعا ولا نصفه، كما يدل عليه رواية مسلم إن معاوية لما جعل نصف الصاع من الحنطة عدل صاع من تمر، أنكر ذلك أبوسعيد. وقال: لا أخرج فيها إلا الذي كنت أخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعا من تمر أو صاعا من زبيب أو صاعا من شعير أو صاعا سن أقط وفي رواية. قال أبوسعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبدا ما عشت وإن أباسعيد لما تحقق عنده إن الصحابة أخرجوا في زمنه - صلى الله عليه وسلم - صاعا من جميع ما أخرجوا من الشعير والأقط والتمر والزبيب. وغيرها ذهب إلى أن المقدار الواجب من كل شيء صاع، أو لما رأى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لهم صاعا من غير البر، ولم يبين لهم حال البر، فقاس عليه أبوسعيد حال البر، ورأى أن الواجب في البر أيضا صاع. وقد روى أبوداود عن عياض قال سمعت أباسعيد يقول: لا أخرج أبدا إلا صاعا (أي من كل شيء) إنا كنا نخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاع تمر أو شعير أو أقط أو زبيب وأخرج الطحاوي (ج1 ص319) عن عياض قال: سمعت أباسعيد وهو يسئل عن صدقة الفطر. قال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط فقال، له

(11/373)


رجل أو مدين من قمح فقال لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها، ولا أعمل بها. وأخرجه أيضا الدارقطني (ص222) والحاكم (ص411) وابن خزيمة والبيهقي (ج4 ص166) وزاد فيه أو صاعا من حنطة بعد قوله: صاعا من تمر وقد صرح ابن خزيمة وأبوداود إن ذكر الحنطة فيه غير محفوظ. وأما ما روى الطحاوي بسنده (ص319) عن أبي سعيد أنه قال: إنما علينا أن نعطي لكل رأس عند كل فطر صاعا من تمر أو نصف صاع من بر، فلا يوازي الروايات المتقدمة فلا يلتفت إليه، والقول بأن حديث الباب يدل على أنهم كانوا يعطون من البر صاعا، لكن على سبيل التبرع، يعني إن أباسعيد وغيره من الصحابة إنما كانوا يخرجون النصف الآخر تطوعا واختيارا وفضلا تأويل بعيد لا يخفى تكلفه وأما ما يذكر من الأحاديث المرفوعة في الصاع من القمح أو في نصفه فكلها مدخولة. قال البيهقي (ج4 ص170) بعد إيراد أحاديث نصف الصاع من القمح. وقد وردت أخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صاع من بر، ووردت أخبار في نصف صاع، ولا يصح شيء من ذلك قد بينت علة كل واحد منها الخلافيات وروينا في حديث أبي سعيد وفي حديث أبي سعيد وفي حديث ابن عمر، إن تعديل نصف صاع من بر بصاع من شعير وقع بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -
..............................

(11/374)


وأما ما روى أبوداود وغيره من طريق عبدالعزيز بن أبي داود عن نافع عن ابن عمر قال كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعا من شعير، أو صاعا من تمر أو زبيب فلما كان عمر وكثرت الحنطة فجعل عمر نصف صاع من حنطة مكان صاع من تلك الأشياء. فقال الحافظ: قد حكم مسلم في كتاب التمييز على عبدالعزيز فيه بالوهم وأوضح الرد عليه. وقال ابن عبدالبر: قول ابن عيينة: (أي في جعل معاوية نصف الصاع من الحنطة عدل صاع من تلك الأشياء) عندي أولى. وقال ابن المنذر: لا نعلم في القمح خبرا ثابتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتمد عليه، ولم يكن البر بالمدينة في ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كثر في زمن الصحابة رأوا إن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من شعير، وهم الأئمة فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم، ثم أسند عن عثمان وعلي وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد صحيحة، إنهم رأوا إن في زكاة الفطر نصف صاع من قمح - انتهى. قال الحافظ: وهذا مصير منه إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفية لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك. وكذلك ابن عمر فلا إجماع في المسألة خلافا للطحاوي - انتهى. وتعقبه العيني فقال: أما أبوسعيد فإنه لم يكن يعرف في الفطرة إلا التمر والشعير والأقط والزبيب، والدليل عليه ما روى عنه في رواية، كنا نخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعا من تمر أو صاعا من شعير. الحديث - لا نخرج غيره. وأما روايته الأخرى كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام، فقد بينت إن الطعام اسم لما يطعم مما يؤكل ويقتات فيتناول الأصناف التي ذكرها في حديثه، وجواب آخر إن أباسعيد إنما أنكر على معاوية على إخراجه المدين من القمح، لأنه ما كان يعرف القمح في الفطرة وكذلك ما نقل عن ابن عمر - انتهى. قلت: قد عرفت مما قدمنا إن أباسعيد كان يرى إن الواجب من

(11/375)


كل شيء صاع خلافا لمعاوية، ومن وافقه، ولكنه لم يخرج من البر قط لا صاعا ولا نصفه لا؛ لأنه ما كان يعرف القمح في الفطرة بل إتباعا لما كان يفعله الصحابة في زمانه - صلى الله عليه وسلم - من إخراج غير البر، وكذا ابن عمر. فدعوى الإجماع على النصف من البر مع مخالفته أبي سعيد وابن عمر مردودة. وأعلم أن الواجب في صدقة الفطر عند مالك والشافعي وأحمد وإسحاق صاع عن كل إنسان لا يجزي أقل من ذلك من جميع الأجناس المخرج، وروى ذلك عن أبي سعيد الخدري والحسن وأبي العالية. وقال أبوحنيفة والثوري أنه يجزيء نصف صاع من البر خاصة. وروى ذلك عن عثمان وابن الزبير ومعاوية، وهو مذهب ابن المسيب وعطاء وطاووس ومجاهد وعمر بن عبدالعزيز وعروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبدالرحمن وسعيد بن جبير وابن المبارك وغيرهم. واحتج لقول الأئمة الثلاثة بحديث أبي سعيد هذا، وذلك بوجوه. الأول إن الطعام في عرف أهل الحجاز اسم للحنطة خاصة لاسيما، وقد قرنه بباقي المذكورات قاله النووي. وقد تقدم الكلام على
.........................

(11/376)


هذا الاستدلال. والثاني: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض صدقة الفطر صاعا من طعام والبر مما يطلق عليه اسم الطعام إن لم يكن غالبا فيه، وتفسيره بغير البر إنما هو؛ لأنه لم يكن معهودا عندهم، فلا يجزيء دون الصاع منه، قاله الشوكاني: وهذا إنما يتمشى لوورد الحديث بلفظ: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعا من طعام، ولكنه لم يقع في رواية أصلا. ولو سلمنا فيمكن أن يقال إن البر على تسليم دخوله تحت لفظ الطعام مخصص، والأحاديث المرفوعة التي جاءت بنصف الصاع من البر. قال الشوكاني في النيل وفي السيل الجرار: وهي تنتهض بمجموعها للتخصيص- انتهى. والثالث: إن الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد لما كانت متساوية في مقدار ما يخرج منها مع اختلافها في القيمة، دل ذلك على أن المراد إخراج هذا المقدار أي الصاع من أي جنس كان، ولا نظر إلى قيمته فلا فرق بين الحنطة وغيرها واستدل لمن قال بنصف الصاع من البر بأحاديث مرفوعة ذكرها الزيلعي (ج2 ص418 و423) والعيني (ج9 ص114، 115) وسيأتي بعضها في هذا الباب وكلها مدخولة ضعفها أهل العلم بالحديث واستدل لهم أيضا بأنه صار الإجماع على نصف الصاع من البر في زمن الصحابة. ففي رواية لمسلم: قال أبو سعيد كنا نخرج إذا كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر عن كل صغير وكبير، حر أو مملوك صاعا من طعام، أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر، فكان فيما كلم به الناس: أن قال إني أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر، فأخذ الناس بذلك الحديث. قال النووي: هذا الحديث هو الذي اعتمده أبوحنيفة وموافقوه. والجمهور يجيبون عنه بأنه قول صحابي، وقد خالفه أبوسعيد وغيره ممن هو أطول صحبة وأعلم بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد صرح معاوية بأنه رأى رأه لا أنه سمعه

(11/377)


من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان عند أحد من حاضري مجلسه مع كثرتهم في تلك اللحظة علم في موافقته معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لذكره كما جرى لهم في غير هذه القضية - انتهى. وأجاب الزيلعي عن هذا بأنه قد وافق معاوية غيره من الصحابة الجم الغفير بدليل قوله "فأخذ الناس" بذلك ولفظ "الناس" للعموم فكان إجماعا وكذلك قول ابن عمر فعدل الناس به مدين من حنطة ولا يضر مخالفة أبي سعيد لذلك؛ لأنه لا يقدح في الإجماع - انتهى. قلت: هذا عجيب فإن الأصوليين قد صرحوا بأن مخالفة الواحد تمنع انعقاد لإجماع فكيف تصح دعوى انعقاد الإجماع من مخالفة أبي سعيد. وقد تقدم قول الحافظ إن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر فلا إجماع في المسألة قال: ومن جعله نصف صاع منها بدل صاع من شعير فعل ذلك بالاجتهاد بناء منه على أن قيم ماعدا الحنطة متساوية،وكانت الحنطة إذ ذاك غالية الثمن، لكن يلزم على قولهم إن تعتبر القيمة في كل زمان فيختلف الحال، ولا ينضبط
أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط،

(11/378)


وربما لزم في بعض الأحيان إخراج آصع من حنطة ويدل على أنهم لحظوا ذلك ما روى جعفر الفريابي في كتاب صدقة الفطر إن ابن عباس لما كان أمير البصرة أمرهم بإخراج زكاة الفطر، ويبين لهم إنها صاع من تمر إلى أن قال أو نصف صاع من بر. قال: فلما جاء على ورأى رخص أسعارهم قال اجعلوها صاعا من كل. فدل على أنه كان ينظر إلى القيمة في ذلك، ونظر أبوسعيد إلى الكيل - انتهى. قلت: الأحوط عندي هو أن يخرج صاع من البر أيضا ولو أخرج أحد نصف صاع منه أجزأه إنشاء الله نظرا إلى الأحاديث الضعيفة وآثار الصحابة في ذلك (أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر) اختلفوا في أن "أو" للتقسيم أو للتخيير. قال ابن رشد (ج1 ص2) وأما مما ذا تجب فإن قوما ذهبوا إلى أنها تجب من البر أو التمر أو الشعير أو الزبيب أو الأقط على التخيير. وقوم ذهبوا إلى أن الواجب عليه هو غالب قوت البلد، أو قوت المكلف إذا لم يقدر على قوت البلد وهو الذي حكاه عبدالوهاب عن المذهب. والسبب في اختلافهم واختلافهم في مفهوم حديث أبي سعيد الخدري فمن فهم من هذا الحديث التخيير قال أي أخرج من هذه أجزأ عنه، ومن فهم منه إن اختلاف المخرج ليس سببه الإباحة. وإنما سببه اعتبار قوت المخرج أو قوت غالب البلد قال بالقول الثاني - انتهى. وقال القاري قال ميرك: نقلا عن الأزهار اختلف العلماء في أن "أو" في هذا الحديث لتخيير المؤدي من هذه الأشياء أو لتعيين واحد منها وهو الغالب فيه قولان. أحدهما: إنه للتخيير وبه قال أبوحنيفة: والثاني: إنه لتعيين أحد هذه الأشياء بالغلبة وهو غالب قوت البلد على الأصح وبه قال الأكثرون. ومعناه كنا نخرج هذه الأنواع بحسب أقواتنا ومقتضي أحوالنا - انتهى. وقال ابن الملك: أو هذه للتنويع لا للتخيير فإن القوت الغالب لا يعدل عنه إلى ما دونه في الشرف - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص64) ومن أي الأصناف المنصوص عليها أخرج جاز، وإن لم يكن قوتا له. وقال مالك: يخرج من غالب

(11/379)


قوت البلد. وقال الشافعي: أي قوت كان الأغلب على الرجل أدى الرجل زكاة الفطر منه يعني إن الاعتبار بغالب قوت المخرج. ولنا إن خبر الصدقة ورد بحرف التخيير بين هذه الأصناف فوجب التخيير فيه؛ ولأنه عدل إلى منصوص عليه فجاز كما لو عدل إلى الأعلى والغني يحصل بدفع قوت من الأجناس، ويدل على ما ذكرنا إنه خير بين التمر والزبيب والأقط ولم يكن الزبيب والأقط قوتا لأهل المدينة، فدل على أنه لا يعتبر أن يكون قوتا للمخرج - انتهى. وقال ولي الدين العراقي من قال بالتخيير فقد أخذ بظاهر الحديث، ومن قال بتعيين غالب قوت البلد فإنه حمل الحديث على ذلك - انتهى. قلت: الراجح عندي: في ذلك قول من ذهب إلى التخيير وهو ظاهر الحديث فلا يعدل عنه (أو صاعا من أقط) بفتح الهمزة مع كسر القاف أو ضمها أو فتحها أو إسكانها وبكسر الهمزة مع كسر القاف وإسكانها وبضم الهمزة مع إسكان القاف فقط، وهو الشيء يتخذ من اللبن المخيض كأنه نوع من اللبن
أو صاعا من زبيب)).

(11/380)


الجاف. وقيل: هو لبن مجفف يابس جامد مستحجر غير منزوع الزبد يطبخ به، وفيه دليل على أجزاء الأقط في صدقة الفطر كغيره مما قرن به. واختلف العلماء فيه: فقال مالك بالأجزاء: إذا كان من أغلب القوت. وللشافعي فيه قولان أحدهما: كقول مالك. والثاني أنه لا يجزىء قال الحافظ: وعند الشافعية فيه خلاف، وزعم الماوردي أنه يختص بأهل البادية. وأما الحاضرة فلا يجزىء عنهم بلا خلاف. وتعقبه النووي في شرح المهذب. وقال قطع الجمهور بأن الخلاف في الجميع - انتهى. والمذكور في فروع الشافعية الأجزاء إذا كان غالب أقوات المخرج. قال النووي في شرح مسلم: يجزىء الأقط على المذهب - انتهى. وقال الحنفية: لا يجزىء إلا بدلا عن القيمة. قال الكاساني في البدائع: أما الأقط فتعتبر فيه القيمة لا يجزىء إلا باعتبار القيمة؛ لأنه غير منصوص عليه من وجه يؤثق به، وجواز ما ليس بمنصوص عليه لا يكون إلا بالقيمة - انتهى. قلت: هذا عجيب فإن الأقط منصوص عليه ثابت في حديث أبي سعيد عند الشيخين وغيرهما. فإعتبار القيمة فيه مردود قال الخرقي: إن أعطى أهل البادية الأقط صاعا أجزأ إذا كان قوتهم. قال ابن قدامة: (ج2:ص60) يجزىء أهل البادية اخراج الأقط إذا كان قوتهم وكذلك من لم يجد من الأصناف المنصوص عليها سواه فأما من وجد سواه فهل يجزىء على روايتين، إحداهما: يجزئه أيضا لحديث أبي سعيد وفي بعض ألفاظه. قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط أخرجه النسائي. والثانية: لا يجزئه لأنه جنس لا تجب الزكاة فيه فلا يجزىء إخراجه لمن يقدر على غيره من الأجناس المنصوص عليها كاللحم. ويحمل الحديث على من هو قوت له أو لم يقدر على غيره، فإن قدر على غيره، مع كونه قوتا له فظاهر كلام الخرقي جواز إخراجه سواء كان من أهل البادية أو لم يكن، لأن الحديث لم يفرق، وقول أبي سعيد كنا نخرج صاعا من أقط وهم أهل

(11/381)


الأمصار وإنما خص أهل البادية بالذكر لأن الغالب أنه لا يقتاته غيرهم - انتهى. قلت: الظاهر عندي أنه يجزىء إخراجه لأهل الأمصار ولمن قدر على غيره من الأشياء المنصوص عليها، وإن لم يكن قوتا له، لأن الحديث لم يفرق ولم يفصل. قال الحافظ: أراد البخاري بتفريق التراجم على هذه الأشياء، الإشارة إلى ترجيح التخيير في هذه الأنواع. إلا أنه لم يذكر الأقط، وهو ثابت في حديث أبي سعيد، وكأنه لا يراه مجزئا في حال وجدان غيره كقوله أحمد. وحملوا الحديث على أن من كان يخرجه كان قوته إذ ذاك، أو لم يقدر على غيره وظاهر الحديث يخالفه - انتهى. (أو صاعا من زبيب) فيه وفي الأقط خلاف الظاهرية حيث لا يجوز عندهم إلا من التمر. والشعير وأجمع غيرهم على جواز الزبيب إلا أن الأئمة الثلاثة قالوا: إن الواجب منه صاع. وإليه ذهب أبويوسف ومحمد وهي رواية عن أبي حنيفة. قال بعض الحنفية وعليه الفتوى. وفي رواية أخرى عنه نصف صاع كالقمح، وهي خلاف نص الحديث، وأجاب ابن حزم عن هذا الحديث بوجهين. أحدهما: أنه غير
..........................

(11/382)


مسند لأنه ليس في شيء من طرقه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بذلك فأقره. والثاني: أنه مضطرب فيه فإن في بعض طرقه إثبات الزبيب وفي بعضها نفيه، وفي بعضها ذكر الدقيق. والسلت، وقد تقدم الجواب عن الوجه الأول. وأما الثاني: فقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المحلي (ج6:ص125) ليس هذا من الاضطراب في شيء بل إن بعض الرواة يطيل وبعضهم يختصر، ومنهم من يذكر شيئا ويسهو عن غيره وزيادة الثقة مقبولة، فالواجب جمع كل ما روى في الروايات الصحيحة إذ لا تعارض بينهما أصلا فائدة اختلفوا في الأفضل من الأجناس المنصوص عليها. فقال القسطلاني: مذهب الشافعية إن البر خير من التمر والأرز، والشعير خير من التمر؛ لأنه أبلغ في الأقتيات. التمر خير من الزبيب - انتهى. وقال الخرقي: اختيار أبي عبدالله (أحمد بن حنبل) اخراج التمر. قال ابن قدامة (ج3:ص61 وبهذا قال مالك: قال ابن المنذر. واستحب مالك اخراج العجوة منه، وأختار الشافعي وأبوعبيد إخراج البر، وقال بعض أصحاب الشافعي: يحتمل أن يكون الشافعي قال ذلك؛ لأن البر كان أعلى في وقته ومكانه، لأن المستحب أن يخرج أغلاها ثمنا وأنفسها. وإنما اختار أحمد إخراج التمر إقتداء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فروى بإسناده عن أبي مجلز. قال: قلت لابن عمر إن الله قد أوسع والبر أفضل من التمر. قال: إن أصحابي سلكوا طريقا وأنا أحب أن أسلكه، وظاهر هذا إن جماعة من الصحابة كانوا يخرجون التمر فأحب ابن عمر موافقتهم وسلوك طريقتهم، وأحب أحمد أيضا الإقتداء بهم إتباعهم. وروى البخاري عن ابن عمر قال: فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر - الحديث. وفيه كان ابن عمر يعطي التمر فأعوز أهل المدينة من التمر، فأعطى شعيرا، قال الحافظ: فيه دلالة على أن التمر أفضل ما يخرج في صدقة الفطر. وقد روى جعفر الفريابي من طريق أبي مجلز قال: قلت لابن عمر قد أوسع الله والبر أفضل من التمر أفلا تعطي البر. قال:

(11/383)


لا أعطي إلا كما كان يعطي أصحابي. ويستنبط من ذلك أنهم كانوا يخرجون من أعلى الأصناف التي يقتات بها؛ لأن التمر أعلى من غيره، مما ذكر في حديث أبي سعيد، وإن كان ابن عمر فهم منه خصوصية التمر بذلك - انتهى. قال ابن قدامة. والأفضل بعد التمر البر، وقال بعض أصحابنا الأفضل بعده الزبيب، لأنه أقرب تناولا، وأقل كلفة فأشبه التمر. ولنا إن البر أنفع في الأقتيات وأبلغ في دفع حاجة الفقير إلى آخر ما قال. فائدة أخرى اختلفوا في الإخراج عن غير هذه الأصناف مع القدرة عليها. قال الخرقي: ومن قدر على التمر أو الزبيب أو البر أو الشعير أو الأقط فأخرج غيره لم يجزه، قال ابن قدامة: (ج3:ص62) ظاهر المذهب أنه لا يجوز له العدول عن هذه الأصناف مع القدرة عليها سواء كان المعدول إليه قوت بلده أو لم يكن. وقال مالك: يخرج من غالب قوت البلد. وقال الشافعي: أي قوت كان الأغلب على الرجل أدى الرجل زكاة الفطر منه. واختلف أصحابه فمنهم من قال بقول مالك، ومنهم من قال الاعتبار بغالب قوت المخرج، ثم إن
متفق عليه.

(11/384)


عدل عن الواجب إلى أعلى منه جاز، وإن عدل إلى ما دونه ففيه قولان. (أي للشافعي) أحدهما: يجوز لقوله عليه السلام أغنوهم عن الطلب، والغني يحصل بالقوت. الثاني: لا يجوز؛ لأنه عدل عن الواجب إلى أدنى منه فلم يجزئه ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر أجناسا معدودة فلم يجز العدول عنها كما لو اخراج القيمة وذلك؛ لأن ذكر الأجناس بعد ذكره الفرض تفسير للمفروض فما أضيف إلى المفسر يتعلق بالتفسير فتكون هذه الأجناس مفروضة فيتعين الإخراج منها. قال: والسلت نوع من الشعير فيجوز إخراجه لدخوله في المنصوص عليه، وقد صرح بذكره في بعض ألفاظ حديث ابن عمر، وحديث أبي سعيد عند النسائي، ويجوز إخراج الدقيق نص عليه أحمد، وكذلك السويق وقال مالك والشافعي: لا يجزىء إخراجهما لحديث ابن عمر، ولأن منافعه نقصت فهو كالخبر، ولنا حديث أبي سعيد وقوله فيه أو صاعا من دقيق - انتهى. قلت: حديث أبي سعيد هذا أخرجه أبوداود والنسائي والدارقطني والبيهقي. قال أبوداود زاد سفيان بن عيينة فيه أو صاعا من دقيق. قال حامد: (شيخ أبي داود) فأنكروا عليه فتركه سفيان. قال: أبوداود فهذه الزيادة وهم من ابن عيينة. وقال الدارقطني: قال أبوالفضل: فقال له علي بن المدينى يعني لسفيان وهو معنا يا أبامحمد أحد لا يذكر في هذا الدقيق. قال: بلى هو فيه - انتهى. ولعل سفيان ذكر الدقيق أولا وتيقن به ثم شك فيه فتركه والله أعلم. وإذا عجز عن الأجناس المنصوص فقال الخرقي. أجزأه كل مقتات من كل حبة وتمرة. قال ابن قدامة: ظاهر هذا أنه لا يجزئه من غيرها كاللحم واللبن وقال أبوبكر يعطي ما قام مقام الأجناس المنصوص عليها عند عدمها الإخراج مما يقتتاته كالذرة والدخن ولحوم الحيتان والأنعام، ولا يردون إلى أقرب قوت الأمصار - انتهى. ويجوز إخراج اللبن واللحم والجبن ممن هو قوته عند الشافعية والمالكية على المشهور (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد ومالك والشافعي والترمذي

(11/385)


وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم مطولا ومختصرا بألفاظ، من شاء الإطلاع عليها رجع إلى جامع الأصول (ج5:ص349-350-351). تنبيه اختلفوا في جواز إعطاء القيمة في صدقة الفطر، فمنعه الأئمة الثلاثة. وأجازه أبوحنيفة وأصحابه. قال الخرقي: من أعطى القيمة لم تجزئه. قال ابن قدامة: (ص65) قال أبوداود: قيل لأحمد وأنا أسمع أعطى دراهم يعني في صدقة الفطر. قال: أخاف أن لا يجزئه خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبوطالب قال لي أحمد: لا يعطي قيمته، قيل له قوم يقولون عمر بن عبدالعزيز كان يأخذ القيمته، قال يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قال فلان. قال ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى: ?وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول?[المائدة:92] وقال قوم يردون السنن قال فلان، قال فلان، وظاهر مذهبه أنه لا يجزئه إخراج القيمة في شيء من الزكوات، وبه قال مالك والشافعي، وقال الثوري وأبوحنيفة يجوز. وقد روى ذلك عن عمر بن عبدالعزيز والحسن، وروى عن أحمد مثل قولهم فيما عدا الفطرة، وقال
?الفصل الثاني?
1832- (3) عن ابن عباس، قال: ((في آخر رمضان أخرجوا صدقة صومكم، فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه الصدقة صاعا من تمر، أو شعير، أو نصف صاع من قمح

(11/386)


أبوداود: سئل أحمد عن رجل باع ثمر نخلته قال عشرة على الذي باعه قيل له فيخرج ثمرا أو ثمنه. قال إن شاء أخرج تمرا وإن شاء أخرج من الثمن، وهذا دليل على جواز إخراج القيم. ووجهه قول معاذ لأهل اليمن إيتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة. وقال سعيد: حدثنا سفيان عن عمرو عن طاووس قال لما قدم معاذ اليمن. قال ائتوني بعرض الثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة. قال: وحدثنا جرير عن ليث عن عطاء. قال: كان عمر بن الخطاب يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم، ولأن المقصود دفع الحاجة ولا يختلف ذلك بعد اتحاد قدر المالية باختلاف صور المال، ولنا قول ابن عمر فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير، فإذا عدل عن ذلك فقد ترك المفروض وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: في أربعين شاة، شاة. وفي مائتي درهم، خمسة دراهم، وهو وارد لبيان مجمل قوله تعالى: ?وآتوا الزكاة? [البقرة: 43] فتكون الشاة المذكورة هي الزكاة المأمور بها والأمر للوجوب إلى آخر ما بسطه ووافق البخاري في ذلك الحنفية فقال بجواز إخراج العروض في الزكاة، إذا كانت بقيمتها إذ ترجم بقوله باب العرض في الزكاة وذكر فيه أثر طاووس المتقدم وغيره من الأحاديث. وقد أجاب الجمهور عن جميع ذلك كما بسطه الحافظ في الفتح. والراجح عندي: أنه لا يجوز القيمة في صدقة الفطر، وزكاة الأموال بل يتعين إخراج ما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم -إلا عند العذر. قال الشوكاني: في السيل الجرار في شرح قول صاحب حدائق الأزهار، إنما تجزيء القيمة للعذر. أقول هذا صحيح لأن ظاهر الأحاديث الواردة بتعين قدر الفطرة من الأطعمة إن إخراج ذلك مما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - متعين، وإذا عرض مانع من إخراج العين كانت القيمة مجزئة لأن ذلك هو الذي يمكن من عليه الفطرة، ولا يجب عليه ما لا يدخل

(11/387)


تحت إمكانه- انتهى.
1832- قوله: (قال) أي ابن عباس والمعنى أنه قال للناس (أخرجوا) أي أدوا (صدقة صومكم) أي صدقة الفطر. والحديث رواه أبوداود والنسائي وغيرهما من طريق حميد الطويل عن الحسن البصري. قال: خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة. فقال: أخرجوا صدقة صومكم لفظ أبي داود، وللنسائي في رواية عن الحسن، قال: قال ابن عباس وهو أمير البصرة في آخر الشهر أخرجوا زكاة صومكم وفي أخرى له عن الحسن إن ابن عباس، خطب بالبصرة فقال: أدوا زكاة صومكم. ورواه البيهقي (ج4 ص168) بلفظ، قال: أي الحسن خطبنا ابن عباس بالبصرة في آخر رمضان، فقال: "أدوا صدقة صومكم (أو نصف صاع من قمح)
على كل حر أو مملوك ذكر أو أنثى صغير أو كبير)). رواه أبوداود، والنسائي.

(11/388)


بفتح القاف وسكون الميم أي بر وبه قال أبوحنيفة، خلافا للأئمة الثلاثة. والحديث منقطع كما اعترف به ابن التركماني (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص228) مختصرا و(ج1 ص351) مطولا والدارقطني (ص225) والبيهقي (ج4 ص168) كلهم من رواية الحسن عن ابن عباس. وقد تكلموا في سماعه من عباس، وجزم كثير من أئمة الحديث كالنسائي وأحمد بن حنبل وابن المديني وأبي حاتم وبهز بن أسد والبزار، بأنه لم يسمع منه أنظر مختصر السنن للمنذري (ج2 ص221) ونصب الراية (ج1 ص90، ج2 ص418) والتهذيب في ترجمة الحسن، والمراسيل لابن أبي حاتم (ص12، 13) والسنن الكبرى للبيهقي (ج4 ص168) قال ابن المديني: لم يسمع الحسن من ابن عباس وما رآه قط كان الحسن بالمدينة أيام ابن عباس بالبصرة وقال أيضا: في قول الحسن خطبنا ابن عباس بالبصرة قال إنما أراد خطب أهل البصرة كقول ثابت قدم علينا عمران بن حصين ومثل قول مجاهد، خرج علينا علي وكقول الحسن إن سراقة بن مالك حدثهم، وإنما حدث من حدثه وكذا قال أبوحاتم. وقال البزار: في مسنده بعد أن رواه لا يعلم روى الحسن عن ابن عباس غير هذا الحديث ولم يسمع الحسن من ابن عباس، وقوله "خطبنا" أي خطب أهل البصرة ولم يكن الحسن شاهد لخطبته ولا دخل البصرة بعد لأن ابن عباس خطب يوم الجمل، والحسن دخل أيام صفين - انتهى. وقال البزار: أيضا في مسنده في آخر ترجمة ابن المسيب، أما قول الحسن خطبنا ابن عباس بالبصرة فقد أنكر عليه، لأن ابن عباس كان بالبصرة أيام الجمل، وقدم الحسن أيام صفين فلم يدركه بالبصرة، وتأول قوله خطبنا أي خطب أهل البصرة - انتهى. وقال ابن القيم في تهذيب السنن قال الترمذي: سألت البخاري عن حديث الحسن خطبنا ابن عباس فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فرض صدقة الفطر، فقال روى غير يزيد بن هارون عن حميد عن الحسن، خطب ابن عباس فكأنه رأى هذا أصح. قال الترمذي: وإنما قال البخاري هذا لأن ابن عباس

(11/389)


كان بالبصرة في أيام علي والحسن البصري في أيام عثمان وعلي كان بالمدينة- انتهى. وقال البيهقي كذا قال محمد بن أبي بكر في روايته عن سهل بن يوسف عن حميد خطبنا. ورواه محمد بن المثنى عن سهل بن يوسف. فقال: خطب وهو أصح- انتهى. قلت: وكذا رواه يزيد بن هارون عند الدارقطني (ص225) وخالفهم العلامة الشيخ أحمد شاكر حيث قال في تعليقه على المنذري، القول بعدم سماع الحسن من ابن عباس وعدم رويته إياه وهم، فإن الحسن عاصر ابن عباس يقينا ولا يمنع كونه بالمدينة أيام ابن عباس على البصرة سماعه من ابن عباس قبل ذلك أو بعده ويقطع بسماعه منه ولقائه إياه، ما رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح (ج1 ص337) عن ابن سيرين إن جنازة مرت بالحسن وابن عباس، فقام الحسن ولم يقم ابن عباس، فقال الحسن لابن عباس أقام لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: قام وقعد. وقال في شرح هذا الحديث (ج5 ص49، 50) إسناده
1833-(4) وعنه، قال: ((فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم: زكاة الفطر طهرا لصيام من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين)).

(11/390)


صحيح وهو قاطع في صحة سماع الحسن من ابن عباس فإنه صريح في أنه لقي ابن عباس وسأله وسمع منه - انتهى. قلت: ويدل أيضا على سماع الحسن منه ما جاء في مسند أبي يعلى الموصلي في حديث عن الحسن. قال: أخبرني ابن عباس. قال صاحب التنقيح: هذا إن ثبت دل على سماعه منه - انتهى. قلت: طرق حديث ابن عباس تدل على أن ابن عباس إنما يريد يبن حكم صدقة الفطر حين ما كان أميرا على البصرة من جهة على، وكان الحسن إذ ذاك بالمدينة لا بالبصرة كما تقدم ابن المديني، إن الحسن كان بالمدينة أيام ابن عباس بالبصرة، وهذا ظاهر في أن الحسن لم يسمع هذا الحديث من ابن عباس وثبوت سماعه منه في الجملة لا يستلزم سماع هذا الحديث منه، وإليه أشار الشيخ أحمد شاكر في شرحه للمسند (ج3 ص318) بقوله نعم قد يمنع الرواية التي يعللونها في قوله خطبنا ابن عباس بالبصرة - انتهى. فالراجح عندي: إن هذا الحديث مرسل وقد اعترف بذلك ابن التركماني (ص169) والقاري وغيرهما من الحنفية. والحديث أخرجه الدارقطني من وجه آخر (ص221) وفيه الواقدي وهو مكشوف الحال ومن وجه أخر فيه سلام الطويل وهو متروك، ومن وجه آخر وفيه يحيى بن عباد وهو منكر الحديث جدا. قال الذهبي في تلخيصه: خبر منكر جدا. قال العقيلي: يحيى بن عباد عن ابن جريج حديثه يدل على الكذب. وقال الدارقطني: ضعيف - انتهى. هذا وقد صحح الشيخ أحمد شاكر سماع ابن سيرين من ابن عباس ورد على من زعم أنه لن يسمع منه أنظر شرحه للمسند (ج3 ص257).

(11/391)


1833- قوله: (طهرا لصيام) بضم الطاء وسكون الهاء أي تطهير الصوم. وقيل: الصيام جمع صائم كالقيام جمع قائم، وفي المصابيح طهرة للصائم بضم الطاء وبزيادة التاء في آخره، وكذا في ابن ماجه والدارقطني وكذا نقله الحافظ في الفتح والتلخيص والدراية وبلوغ المرام والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص411- 416) والمجد في المنتقى والخطابي في المعالم (ج2 ص47) وهكذا وقع في بعض نسخ أبي داود، ووقع في بعضها طهرة للصيام وهكذا عند الحاكم والبيهقي وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج5 ص354) أي تطهيرا لنفس من صام (من اللغو) هو ما لا يعقد عليه القلب من القول قاله ابن الأثير. وقال الطيبي المراد به القبيح (والرفث) الواقع منه في صومه وهو بفتح الراء والفاء. قال ابن الأثير: الرفث ههنا هو الفحش من الكلام. وقال الطيبي: هو في الأصل ما يجري من الكلام بين الرجل والمرأة تحت اللحاف ثم استعمل في كل كلام قبيح - انتهى. فيحمل قوله في تفسير اللغو على القبيح الفعلي أو العطف تفسيري (وطعمة) بضم الطاء وسكون العين وهو الطعام الذي يؤكل (للمساكين) استدل به على أن الفطرة تصرف في المساكين دون غيرهم من مصارف الزكاة وقيل: هي كالزكاة…
رواه أبوداود.

(11/392)


فتصرف في الأصناف الثمانية لعموم قوله تعالى: ?إنما الصدقات? [التوبة:60] والتنصيص على بعض الأصناف لا يلزم منه التنصيص، فإنه قد وقع ذلك في الزكاة ولم يقل أحد بتخصيص مصرفها، ففي حديث معاذ أمرت أن آخذها من أغنياءكم وأردها في فقرائكم. قال الخرقي: ويعطي صدقة الفطر لمن يجوز أن يعطى صدقة الأموال. قال ابن قدامة: (ج3 ص78) إنما كانت كذلك لأن صدقة الفطر زكاة فكان مصرفها مصرف سائر الزكات ولأنها صدقة فتدخل في عموم قوله تعالى:?إنما الصدقات للفقراء والمساكين? ولا يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع زكاة المال إليه، ولا يجوز دفعها إلى ذمي وبهذا قال مالك والليث والشافعي وأبوثور. وقال أبوحنيفة: يجوز، وعن عمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل ومرة الهمداني إنهم كانوا يعطون منها الرهبان. ولنا إنها زكاة فلم يجز دفعها لغير المسلمين كزكاة المال، ولا خلاف في أن زكاة المال لا يجوز دفعها إلى غير المسلمين. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن لا يجزيء أن يعطي من زكاة المال أحد من أهل الذمة - انتهى. واستدل بقوله "طهرة للصائم" على أنها تجب على الفقير كما تجب على الغني. قال الخطابي في المعالم: (ج2 ص47) قد عللت بأنها طهرة للصائم من الرفث واللغو فهي واجبة على كل صائم غني ذي جدة ويسر أو فقير يجدها فضلا عن قوته إذ كان وجوبها عليه بعلة التطهير وكل من الصائمين محتاجون إليها فإذا اشتركوا في العلة اشتركوا في الوجوب - انتهى. واستدل به من ذهب إلى إسقاطها عن الأطفال لأنهم إذا كانوا لا يلزمهم الصيام فلا يلزمهم طهرة الصيام وقد تقدم الجواب عن هذا. واستدل البيهقي به على أنه لا يؤدي صدقة الفطر عن العبد الكافر الذي يمونه. ووجه الاستدلال أنه عليه السلام جعل صدقة الفطر طهرة وزكاة، والكافر لا يتزكى، ولا يخفى ما في هذا الاستدلال (رواه أبوداود) أخرجه أيضا ابن ماجه والدارقطني (ص219) والحاكم (ج1 ص409) والبيهقي (ج4 ص163) وسكت عنه أبوداود

(11/393)


والمنذري وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال الدارقطني: ليس في رواته مجروح - انتهى. وتمام الحديث عندهم من أداها قبل الصلاة (أي صلاة العيد) فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. قال الشوكاني: يعني التي يتصدق بها في سائر الأوقات وأمر القبول فيها موقوف على مشيئة الله تعالى. والظاهر أن من أخرج الفطرة بعد الصلاة العيد كان كمن لم يخرجها باعتبار اشتراكهما في ترك هذه الصدقة الواجبة. وقد ذهب الجمهور: إلى أن إخراجها قبل الصلاة العيد إنما هو مستحب فقط، وجزموا بأنها تجزيء إلى آخر يوم الفطر، والحديث يرد عليهم - انتهى. وقال ابن القيم بعد ذكر هذا الحديث: وحديث ابن عمر المتقدم بلفظ: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة ما لفظه، ومقتضى هذين الحديثين أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد وإنها
..............................

(11/394)


تفوت بالفراغ من الصلاة وهذا هو الصواب، فإنه لا معارض لهذين الحديثين ولا ناسخ ولا إجماع يدفع القول بهما، وكان شيخنا يقوي ذلك وينصره. ونظيره ترتيب الأضحية على صلاة الإمام لا على وقتها. وإن من ذبح قبل الصلاة الإمام لم تكن ذبيحته أضحية بل شاة لحم- انتهى. وتقدم عن العيني والحافظ إن ابن حزم ذهب إلى تحريم تأخيرها عن الخروج إلى الصلاة، وحمل الأمر على الوجوب وهذا هو الراجح عندنا واعلم إن لصدقة الفطر خمسة أوقات عند الجمهور. وقت جواز، ووقت وجوب، ووقت فضيلة واستحباب، ووقت كراهة، ووقت حرمة. وأما وقت الجواز: فهو أول شهر رمضان عند الشافعي وأول السنة عند الحنفية على ما هو المشهور عنهم، ويومان قبل العيد عند الملكية، على ما هو المعتمد عندهم وإليه ذهب أكثر الحنابلة. وقال بعضهم: بجواز تقديمها من بعد نصف الشهر. وقال ابن حزم: (ج6 ص143) لا يجوز تقديمها قبل وقتها أصلا. قال ابن قدامة: (ج3 ص68) يجوز تقديم الفطرة قبل العيد بيومين لا يجوز أكثر من ذلك. وقال ابن عمر: كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو بيومين. وقال بعض أصحابنا: يجوز تعجيلها من بعد نصف الشهر كما يجوز تعجيل أذان الفجر، والدفع من مزدلفة بعد نصف الليل. وقال أبوحنيفة يجوز تعجيلها من أول الحول لأنها زكاة فأشبهت زكاة المال. وقال الشافعي: يجوز من أول شهر رمضان لأن سبب الصدقة الصوم والفطر عنه، فإذا وجد أحد السببين جاز تعجيلهما كزكاة المال بعد ملك النصاب. ولنا ما روى الجوزجاني عن يزيد بن هارون عن أبي معشر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم والأمر للوجوب، ومتى قدمها بالزمان الكثير لم يحصل إغناءهم بها يوم العيد. وسبب وجوبها الفطر بدليل إضافتها إليه وزكاة المال سببها ملك النصاب، والمقصود إغناء الفقير بها في الحول كله فجاز إخراجها في جميعه، وهذه المقصود منها في وقت مخصوص فلم يجز تقديمها قبل الوقت. فأما تقديمها بيوم أو بيومين فجائز

(11/395)


لما روى البخاري بسنده عن ابن عمر كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو بيومين، وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا، ولأن تعجيلها بهذا القدر لا يخل بالمقصود منها فإن الظاهر إنها تبقى أو بعضها إلى يوم العيد، فيستغني بها عن الطواف والطلب فيه - انتهى. قلت: قال البخاري بعد ذكر قول ابن عمر كانوا يعطون ليجمع لا للفقراء، وروى مالك عن نافع إن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة. قال الحافظ: وأخرجه الشافعي عنه. وقال هذا حسن وأنا استحبه يعني تعجيلها قبل يوم الفطر- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: أثر ابن عمر إنما يدل على جواز إعطاء صدقة الفطر قبل الفطر بيوم أو يومين ليجمع لا للفقراء كما قال البخاري. وأما إعطاءها بيوم أو يومين للفقراء فلم يقم عليه دليل- انتهى. قال الحافظ: وبدل على ذلك أي تعجيلها قبل الفطر أيضا ما أخرجه البخاري في الوكالة وغيرها عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان الحديث
?الفصل الثالث?
1834-(4) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بعث مناديا في فجاج مكة.

(11/396)


وفيه أنه أمسك الشيطان ثلاث ليال وهو يأخذ من التمر، فدل على أنهم كانوا يعجلونها، وعكسه الجوزقي فاستدل به على جواز تأخيرها عن يوم الفطر وهو محتمل للأمرين- انتهى. وهذا إن دل على التقديم فإنما يدل على جواز تقديمها للجمع لا على الأعطاء للفقراء قبل يوم الفطر. وقال في البدائع: بعد ذكر أقوال الحنفية المختلفة وجوهها، والصحيح أنه لا يجوز التعجيل مطلقا، وذكر السنة والسنتين في رواية الحسن عن أبي حنيفة ليس على التقدير بل هو لبيان استكثار المدة، أي يجوز وإن كثرت المدة. ووجهه إن الوجوب إن لم يثبت فقد وجب سبب الوجوب، وهو رأس يمونه ويلي عليه، والتعجيل بعد وجوب السبب جائز كتعجيل الزكاة والعشور- انتهى. قلت: القول الراجح عندي هو ما ذهب إليه المالكية وأكثر الحنابلة من جواز تقديمها قبل الفطر بيوم أو يومين لا قبل ذلك والله تعالى اعلم. وأما وقت الوجوب فقد تقدم الكلام عليه وأما وقت الفضيلة. فقبل الخروج لصلاة العيد وهذا عند الأئمة الأربعة وأما وقت الكراهة فتأخيرها عن صلاة العيد إلا لعذر وهذا عند الشافعية والحنابلة. وقال مالك: وذلك واسع إن شاؤا أن يؤدوا قبل الغد ومن يوم الفطر وبعده (أي بعد الغدو) وقد تقدم عن الشوكاني وابن القيم وابن حزم أنه يجب أداءها قبل الخروج إلى الصلاة ويحرم تأخيرها عن الخروج فقبل الصلاة هو وقت وجوب الأداء عندهم لا وقت الفضيلة فقط، وبعد صلاة العيد هو وقت تحريم لا وقت كراهة فقط, وهذا هو الصواب. وأما وقت الحرمة: فتأخيرها عن يوم العيد وهذا عند المالكية والشافعية والحنابلة قال في شرح الإقناع: وهامشه ويحرم تأخيرها عن يوم العيد بلا عذر كغيبة ماله أو المستحقين، فلو أخرها بلا عذر عصى وصارت قضاء فيقضيها وجوبا فورا- انتهى. وقال ابن قدامة: فإن أخرها عن يوم العيد إثم ولزمه القضاء وحكى عن ابن سيرين والنخعي الرخصة في تأخيرها عن يوم العيد، وروى محمد بن يحيى الكحال قال: قلت لأبي عبدالله فإن

(11/397)


أخرج الزكاة ولم يعطها قال نعم، إذا أعدها لقوم. وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإتباع السنة أولى- انتهى. وقال في البدائع: أما وقت أداءها: فجميعه العمر عند عامة أصحابنا، ولا تسقط بالتأخير عن يوم الفطر لأن الأمر بأداءها مطلق عن الوقت فيجب في مطلق الوقت غير معين، وإنما يتعين بتعيينه فعلا أو بآخر العمر كالأمر بالزكاة والعشر والكفارات وغير ذلك، وفي أي وقت أدى كان مؤديا لا قاضيا كما في سائر الوجبات الموسعة غير أن المستحب أن يخرج قبل الخروج إلى المصلى- انتهى.
1834-قوله: (بعث مناديا) زاد في رواية الدارقطني بعده ينادي (في فجاج مكة) بكسر الفاء جمع فج
ألا أن صدقة الفطر واجبة، على كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير، مدان من قمح، أو سواه، أو صاع من طعام)). رواه الترمذي.

(11/398)


وهو الطريق الواسع (مدان من قمح) أي هي مدان من حنطة فهو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف (أو سواه) أي من غير القمح وأو للتخيير وقيل: للتنويع (أو صاع من طعام) كذا في جميع النسخ الموجودة الحاضرة عندنا. قال القاري: قوله أو صاع شك من الراوي وقوله"من طعام" أي سوى القمح وهو يؤيد التأويل الذي قدمناه من أن الطعام يراد به المعنى الأعم. وقال ابن حجر: شك في أي اللفظين سمع - انتهى. وهو يحتمل أن يكون بدلا من قوله "مدان أو سواه" انتهى كلام القاري. وقال الشيخ الدهلوي: في أشعة اللمعات: (أو سواه) أي أو سوى القمح من الزبيب كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة (أو صاع من طعام) أو للشك من الراوي إن كان المراد بالطعام القمح وللتنويع إن كان المراد به غير القمح- انتهى كلامه معربا. قلت: كل هذا وهم وتكلف والحق إن لفظة أو قبل قوله "صاع" خطأ من النساخ، والدليل عليه أن نسخ الترمذي كلها متفقة على إسقاطها ولفظها أو سواه صاع من طعام ومعناه واضح جدا، وقوله "من طعام" بيان لقوله سواه كما يدل عليه رواية الدارقطني مدان من قمح أو صاع مما سواه من الطعام (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا الدارقطني (ص220) كلاهما من طريق سالم بن نوح عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وأعله ابن الجوزي في التحقيق بسالم بن نوح قال. قال ابن المعين: ليس بشيء وتعقبه صاحب التنقيح فقال هو صدوق روى له مسلم في صحيحه. وقال أبوزرعة: صدوق ثقة وثقة ابن حبان. وقال النسائي: ليس بالقوى. وقال الدارقطني: فيه شيء. وقال ابن عدي: عند غرائب وأفراد وأحاديثه مقاربة مختلفة ذكره الزيلعي (ج2 ص420). وقال الحافظ في الدراية: (ص169) ورواه الدارقطني من وجه أخر عن عمرو بن شعيب. وقد اختلف فيه على عمرو فقيل: عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: عنه بلغني إن النبي - صلى الله عليه وسلم - _ انتهى. قلت: وله طريق رابع أخرجه الدارقطني والبيهقي (ج4 ص173) من

(11/399)


رواية المعتمر بن سليمان عن علي بن صالح عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومدار هذه الطرق الأربعة على ابن جريج وهو مدلس وصفه بالتدليس ابن حبان والنسائي وغيرهما. قال الدارقطني: تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح وذكره الحافظ في المرتبة الثالثة في طبقات المدلسين، ولم يصرح ابن جريج هنا بالسماع. وقال الترمذي. قال محمد ابن إسماعيل: لم يسمع ابن جريج من عمرو بن شعيب كذا في تهذيب التهذيب (ج6 ص405) وقال البيهقي (ج4 ص173) بعد الإشارة إلى طريق سالم بن نوح. قال أبوعيسى الترمذي: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب - انتهى.
1835-(5) وعن عبدالله بن ثعلبة، أو ثعلبة بن عبدالله بن أبي صعير عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صاع من بر، أو قمح عن كل اثنين

(11/400)


1835- قوله: (وعن عبدالله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبدالله بن أبي صعير) بمهملتين مصغرا (عن أبيه) قال الحافظ في تهذيب التهذيب: في حرف العين المهملة عبدالله بن ثعلبة بن صعير، ويقال ابن أبي صعير مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهه ورأسه زمن الفتح ودعا له، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبيه (أي ثعلبة بن صعير) وعمر وعلي وسعد وأبي هريرة وجابر، وروى عنه الزهري وأخوه عبدالله بن مسلم وسعد بن إبراهيم وغيرهم. قال ابن سعد: كان أبوثعلبة بن صعير شاعرا وكان حليفا لبني زهرة، وقال الحاكم: أبوأحمد، أبومحمد عبدالله بن ثعلبة بن صعير. قيل: إنه ولد قبل الهجرة (بأربع سنين) وقيل بعدها وتوفي سنة سبع. وقيل: سنة تسع وثمانين وهو ابن (83) سنة. وقيل: ابن (93) سنة. وقيل: غير ذلك في تاريخ وفاته ومبلغ سنة. وقال ابن السكن: يقال له صحبة وحديثه في صدقة الفطر مختلف فيه وصوابه مرسل، وليس يذكر في شيء من الروايات الصحيحة سماع عبدالله من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا حضوره إياه. وقال أبوحاتم: قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير. وقال البخاري في التاريخ: عبدالله بن ثعلبة بن صعير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل، إلا أن يكون عن أبيه وهو أشبه وزعم ابن حزم إن عبدالله بن ثعلبة مجهول - انتهى مختصرا. وقال في التقريب. عبدالله بن ثعلبة بن صعير بمهملتين مصغرا، ويقال ابن أبي صعير له رؤية، ولم يثبت له سماع، مات سنة سبع أو تسع وثمانين وقد قارب التسعين. وقال: في حرف المثلثة من تهذيبه ثعلبة بن صعير، ويقال ابن عبدالله بن صعير ويقال ابن أبي صعير، ويقال عبدالله بن ثعلبة بن صعير العذري له حديث واحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدقة الفطر. وروى عنه ابنه عبدالله وفيه خلاف كثير أخرجه أبوداود على الاختلاف فيه. قال يحيى بن معين: ثعلبة بن عبدالله بن أبي صعير، وثعلبة بن أبي مالك (القرظي) جميعا

(11/401)


قد رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: (قائله الحافظ). وقال الدارقطني: الصواب فيه عبدالله بن ثعلبة بن أبي صعير لثعلبة صحبة ولعبدالله رؤية والله أعلم- انتهى. وقال في التقريب: ثعلبة بن صعير أو ابن أبي صعير العذري بضم المهملة وسكون المعجمة. ويقال ثعلبة بن عبدالله بن صعير، ويقال عبدالله بن ثعلبة بن صعير مختلفي صحبته (صاع من بر) أي صدقة الفطر صاع موصوف بأنه من بر (أو قمح) أو للشك من روايه حماد بن زيد كما في مسند الإمام أحمد (ج5 ص432) (عن كل اثنين) كذا في جميع النسخ وكذا نقله الخطابي في المعالم، وفي نسخ أبي داود على كل اثنين. وكذا نقله الزيلعي في نصب الراية يعني مجزيء عن كل اثنين، وفيه حجة لمذهب من أجاز نصف الصاع ممن البر، لكن الحديث مضطرب، فقد وقع في بعض الروايات عند الدارقطني وغيره صاع من قمح عن كل رأس،
صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى، أما أغنيكم فيزكيه الله. وأما فقيركم فيرد عليه أكثر مما أعطاه)). رواه أبوداود.

(11/402)


وفي بعضها عن كل إنسان وفي بعضها نصف صاع من قمح (صغير أو كبير حرا أو عبد ذكر أو أنثى) زاد في رواية غني أو فقير (أما غنيكم) تفصيل لعلة وجوب صدقة الفطر (فيزكيه الله) التزكية بمعنى التطهير أو التنمية فالمناسب لحال الغني التطهير من الإمساك وبحال الفقير التنمية فيما أبقاه من القوت وهذا على أن يكون الفقير ممن يملك قوته قاله الطيبي: (وأما فقيركم) المراد به من يكملك صدقة الفطر زيادة على قوت نفسه وعياله ليوم العيد، وليلته (فيرد) أي الله (عليه أكثر مما أعطاه) أي هو المساكين. قال القاري: وفي نسخة بصيغة المجهول في فيرد وبرفع أكثر والأول أكثر - انتهى. قلت: في سنن أبي داود فيرد الله وكذا وقع عند الدارقطني والبيهقي وغيرهما، وكذا نقله الجزري والزيلعي. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص52): وفيه بيان أنها تلزم الفقير إذا وجد ما يؤديه ألا تراه يقول "وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه" فقد أوجب عليه أن يؤديها عن نفسه مع إجازته له أن يأخذ صدقة غيره - انتهى. وأجاب القاري عنه بأن المراد بالفقير الفقير بالإضافة إلى أكابر الأغنياء. وقال بعضهم: أو يقال إن الفقير إذا أعطى متطوعا من غير أن يجب عليه يرد الله عليه أكثر مما أعطى ولا يخفى ما فيه من التكلف (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص432) والدارقطني (ص223) والطحاوي (ج1 ص320) والبيهقي (ج4 ص163، 164) وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري في إسناده، النعمان بن راشد، ولا يحتج بحديثه - انتهى. قلت النعمان بن راشد هذا ضعفه يحيى بن القطان وابن معين وأبوداود والنسائي. وقال أحمد: مضطرب الحديث روى أحاديث مناكير. وقال: مهنأ ذكرت لأحمد حديث ثعلبة بن أبي صعير في صدقة الفطر نصف الصاع من بر، فقال ليس بصحيح. إنما هو مرسل يرويه معمر وابن جريج عن الزهري مرسلا. قلت من قبل من هذا. قال: من قبل النعمان بن راشد وليس بالقوى في الحديث وضعف حديث ابن أبي صعير- انتهى. وقال

(11/403)


البخاري: وأبوحاتم في حديثه وهم كثيرون وهو في الأصل صدوق. وقال ابن أبي حاتم: أدخله البخاري في الضعفاء فسمعت أبي يقول يحول عنه وذكره ابن حبان في الثقات. وقال النسائي: مرة صدوق فيه ضعف، وقال ابن معين: ضعيف مضطرب الحديث. وقال: مرة ثقة. وقال العقيلي: ليس بالقوى يعرف فيه الضعف. وقال ابن عدي: قد احتمله الناس روى عنه الثقات وله نسخة عن الزهري لا بأس به. وقال الحافظ في التقريب: صدوق سيء الحفظ- انتهى. وللحديث طرق أخرى عند أحمد وأبي داود والدارقطني وعبدالرزاق والطبراني والحاكم والبيهقي ذكرها الزيلعي (ج2 ص407) ومدار جميع طرق هذا الحديث على الزهري عن عبدالله بن ثعلبة. وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه، وقد أوضح هذا الاختلاف الدارقطني في علله. ونقله عنه في نصب الراية. وقال ابن التركماني
(3) باب من لا تحل له الصدقة
?الفصل الأول?
1836-(2) عن أنس، قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمرة في الطريق، فقال: ((لو لا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها)).
في الجوهر: النقي هو حديث اضطراب إسنادا ومتنا وقد بين البيهقي بعض ذلك، وقال ابن عبدالبر: هذا حديث مضطرب لا يثبت وليس دون الزهري في هذا الحديث من تقوم به حجة، واختلف عليه فيه أيضا - انتهى. فإن قلت: روى عبدالرزاق ومن طريقه الدارقطني (ص224) والطبراني عن ابن جريج عن الزهري عن عبدالله ابن ثعلبة. قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس قبل الفطرة بيوم أو يومين، فقال أدوا صاعا من بر أو قمح بين اثنين- الحديث. وهذا سند صحيح قوي كما قال الزيلعي (ج2 ص407) قلت: قد تقدم إن حديث عبدالله بن ثعلبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل، وفيه أيضا ابن جريج وهو مدلس وقد عنعن، وعارضه رواية بكر بن وائل عن الزهري عند الدارقطني (ص223) بلفظ: صاعا من تمر أو صاعا من شعير عن كل واحد أو عن كل رأس أو صاع قمح ففي صحة طريق عبدالرزاق نظر.

(11/404)


(باب من لا تحل له الصدقة) قال في اللمعات: الظاهر إن معناه من لا يحلله أكل الصدقات وقد يجعل العنوان"باب من لا يجوز دفع الزكاة إليه" والمآل واحد، لكنه يختلف المعنى في مادة الكافر، فإنه لا يجوز دفع الزكاة إليه يعني لا يبرأ الذمة بأدائها إليه، ولا يبحث من عدم حلها له ويصدق المعنيان في مثل بني هاشم فافهم.
1836- قوله: (مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمرة) أي ملقاة (في الطريق فقال: لو لا إني أخاف أن تكون من الصدقة) أي من تمرها (لأكلتها) فتركها تنزها لأجل الشبهة وهو احتمال كونها من الصدقة. والحديث ظاهر في جواز أكل ما يوجد من المحقرات ملقي في الطرقات، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه لم يمتنع من أكلها إلا تورعا لخشية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه لا لكونها مرمية في الطريق فقط. وقد أوضح ذلك ما روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها، فإنه ظاهر في أنه ترك أخذها تورعا لخشية أن تكون صدقة فلو لم يخش ذلك لأكلها ولم يذكر تعريفا. فدل على أن مثل ذلك يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف وفيه تحريم قليل الصدقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويؤخذ منه تحريم كثيرها من باب الأولى. قال النووي: فيه تحريم الصدقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا فرق بين صدقة الفرض
متفق عليه.
1837- (2) وعن أبي هريرة، قال أخذ الحسن بن علي، تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كخ كخ

(11/405)


والتطوع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: الصدقة بالألف واللام وهي تعم النوعين ولم يقل الزكاة وفيه استعمال الورع لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال لكن للورع تركها. قال الخطابي: هذا أصل في الورع وفي أن كل ما لا يستبينه الإنسان من شئ طلقا لنفسه فإنه يجتنبه ويتركه وفيه إن التمرة ونحوها من محقرات الأموال لا يجب تعريفها بل يباح أكلها، والتصرف فيها في الحال لأنه صلى الله عليه وسلم: إنما تركها خشية أن تكون من الصدقة لا لكونها لقطة، وهذا الحكم متفق عليه وعللوه بأن صاحبها في العادة لا يطلبها ولا يبقى له فيها مطمع وقد استشكل بعضهم تركه - صلى الله عليه وسلم - التمرة في الطريق مع أن الإمام يأخذ المال الضائع للحفظ وأجيب باحتمال أن يكون أخذها كذلك لأنه ليس في الحديث ما ينفيه لو تركها عمدا لينتفع بها من يجدها ممن تحل له الصدقة. وإنما يجب على الإمام حفظ المال الذي يعلم تطلع صاحبه له، لا ما جرت به العادة بالإعراض عنه لحقارته. هذا وقد روى أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال: تضرر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقيل له ما أسهرك قال: إني وجدت تمرة ساقطة فأكلتها ثم ذكرت تمرا كان عندنا من تمر الصدقة، فما أدري أمن ذلك كانت التمرة أو من تمر أهلي فذلك أسهرني. قال الحافظ هو محمول على التعدد وأنه لما اتفق له أكل التمرة كما في هذا الحديث وأقلقه ذلك صار بعد ذلك إذا وجد مثلها مما يدخل التردد تركه إحتياطا، ويحتمل أن يكون في حالة أكله إياها كان في مقام التشريع، وفي حال تركه كان في خاصة نفسه. وقال المهلب: إنما تركها - صلى الله عليه وسلم - تورعا وليس بواجب، لأن الأصل إن كل شئ في بيت الإنسان على الإباحة حتى يقوم دليل على التحريم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في أوائل البيوع وفي اللقطة، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود في الزكاة والبيهقي في قسم الصدقات.

(11/406)


1837- قوله: (وعن أبي هريرة قال أخذ الحسن) وفي رواية لأحمد قال (أي أبوهريرة) كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم تمرا من الصدقة والحسن في حجره (فجعلها في فيه) أي فمه زاد أبومسلم الكجي فلم يفطن له النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قام ولعابه يسيل، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - شدقه، وفي رواية أحمد المتقدمة. فلما فرغ حمله على عاتقه فسال لعابه فرفع رأسه فإذا تمرة في فيه (كخ كخ) بفتح الكاف وكسرها وسكون الخاء المعجمة وبكسرها منونة وغير منونة فتصير ست لغات والثانية تأكيد للأولى، وهي كلمة تقال لردع الصبي وزجره عند تناوله ما يستقذر، بمعنى أتركه وأرم به، قال ابن مالك: إنها من أسماء الأفعال، وفي التحفة إنها من أسماء الأصوات وبه قطع ابن هشام
ليطرحها، ثم قال: أما شعرت؟ إنا لا نأكل الصدقة)).

(11/407)


في حواشيه على التسهيل. قيل: هي عربية. وقيل: أعجمية.وزعم الدوادي أنها معربة بمعنى بئس. وقد أشار إلى هذا البخاري بقوله في ترجمة باب من تكلم بالفارسية والرطانة (ليطرحها) أي التمرة من فيه زاد مسلم إرم بها وفي رواية عند أحمد فنظر إليه فإذا هو يلوك تمرة فحرك خده. وقال: القها يا بني ويجمع بين هذا وبين قوله كخ كخ بأنه كلمة أولا بهذا، فلما تمادى قاله له: كخ كخ إشارة إلى استقذار ذلك له، ويحتمل العكس بأن يكون كلمه أولا بذلك فلما تمادى نزعها من فيه (ثم قال أما شعرت) أي أما علمت كما في رواية مسلم، وفي رواية للبخاري أما تعرف، وهذا يقال عند الأمر الواضح التحريم وإن لم يكن المخاطب بذلك عالما أي كيف خفى عليك هذا مع ظهور تحريمه وهو أبلغ في الزجر من قوله لا تفعله (إنا لا نأكل الصدقة) في رواية لمسلم إنا لا تحل لنا الصدقة، وفي رواية لأحمد إن الصدقة لا تحل لآل محمد وكذا عند أحمد والطحاوي من حديث الحسن بن علي نفسه، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر علي جرين من تمر الصدقة فأخذت منه تمرة فألقيتها في فأخذها بلعابها فقال: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة قال الحافظ: وإسناده قوي والحديث يدل على أن الطفل يجنب الحرام كالكبير ويعرف لأي شيء نهى عنه لينشأ على العلم فيأتي عليه وقت التكليف وهو على علم من الشريعة وفيه دليل على تحريم لصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله. واختلف في المراد بالآل هنا. فقال الشافعي وجماعة من العلماء: إنهم بنو هاشم بن عبد مناف بن قصي وبنو المطلب بن عبدمناف. وقال أبوحنيفة ومالك: هم بنو هاشم خاصة. وأما بنو المطلب فيجوز لهم الأخذ من الزكاة، وعن أحمد روايتان كالمذهبين. وقيل: هم قريش كلها. وقال أصبغ المالكي: هم بنو قصي والمراد ببني هاشم آل علي وعقيل وجعفر أولاد أبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل العباس. والحارث ابني عبدالمطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم

(11/408)


يدخل في ذلك آل أبي لهب لأن حرمة الصدقة أولا في الآباء إكراما لهم، حيث نصروه صلى الله عليه وسلم في جاهليتهم وإسلامهم ثم سرت إلى الأولاد ولا إكرام لأبي لهب. واستدل الشافعي لمذهبه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرك بني المطلب مع بني هاشم في سهم ذوى القربى ولم يعط أحدا من قبائل قريش غيرهم، كما يدل عليه حديث جبير بن مطعم الآتي، وتلك العطية عوض عوضوه بدلا عما حرموه من الصدقة. وأجيب عن ذلك بأنه إنما أعطاهم ذلك لموالاتهم لا عوضا عن الصدقة، قال الأمير اليماني: الأقرب في المراد بالآل ما فسرهم به زيد بن أرقم (عند مسلم في المناقب في قصة طويلة) بأنه آل علي وآل العباس وآل جعفر وآل عقيل-انتهى. قال: ويزيد آل الحرث بن عبد المطلب لحديث عبدالمطلب بن ربيعة الذي يأتي بعد هذا، فهذا تفسير الراوي وهو مقدم على تفسير غيره فالرجوع إليه في تفسير آل محمد هنا هو الظاهر. لأن لفظ الآل مشترك، وتفسير رواية دليل على المراد منه وكذلك يدخل في تحريم الزكاة عليهم بنو المطلب بن عبد مناف كما
.....................................

(11/409)


يدخلون معهم في قسمة الخمس، كما يفيده حديث جبير بن مطعم. قال مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله! أعطيت بني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد أخرجه البخاري. قال الأمير: هذا الحديث دليل على أن بني المطلب يشاركون بني هاشم في سهم ذوى القربى وتحريم الزكاة أيضا دون من عداهم، وإن كانوا في النسب سواء. وعلله - صلى الله عليه وسلم - بإستمرارهم على الموالاة كما في لفظ آخر تعليله "بأنه لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام" فصاروا كالشيء الواحد في الأحكام وهو دليل واضح في ذلك، وإليه ذهب الشافعي وخالفه الجمهور (أبوحنيفة ومالك وأحمد في رواية) وقالوا: إنه - صلى الله عليه وسلم - أعطا بني المطلب على جهة التفضل لا الاستحقاق وهو خلاف الظاهر. بل قوله شيء واحد دليل على أنهم يشاركونهم في استحقاق الخمس وتحريم الزكاة-انتهى. واعلم أن ظاهر قوله "لا تحل لنا الصدقة" إنه يحرم على النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفرض والتطوع وهو الحق، وقد نقل فيه غير واحد منهم الخطابي الإجماع، لكن حكى غير واحد عن الشافعي في التطوع قولا، وكذا في رواية عن أحمد لكن قال ابن قدامة: ليس ما نقل عنه من ذلك بواضح الدلالة. واختلف هل كان تحريم الصدقة من خصائصه دون الأنبياء أو كلهم سواء في ذلك وأما آل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ابن قدامة: لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة وكذا حكى الإجماع ابن رسلان، وروى أبوعصمة عن أبي حنيفة جواز دفعها إلى الهاشمي في زمانه. قال الطحاوي: هذه الرواية عن أبي حنيفة ليست بالمشهورة، وروى عنه وعن أبي يوسف يحل من بعضهم لبعض لا من غيرهم. قال الحافظ: وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة، الجواز، المنع، جواز التطوع دون الفرض، عكسه والأحاديث الدالة

(11/410)


على التحريم على العموم ترد على الجميع. وقد قيل: إنها متواترة تواترا معنويا ويؤيده قوله تعالى ?قل ما أسألكم عليه من أجر?[الفرقان:57] وقوله ?قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى?[الشورى:23] ولو أحلها لآله، لأوشك أن يطعنوا فيه ولقوله تعالى ?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها?[التوبة:103] وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الصدقة أوساخ الناس كما سيأتي ويؤخذ من هذا جواز التطوع دون الفرض وهو قول أكثر الحنفية والمصحح عند الشافعية والحنابلة، لأن المحرم عليهم إنما هو أوساخ الناس وذلك هو الزكاة لا صدقة التطوع. وقال أبويوسف: أنها تحرم عليه كصدقة الفرض لأن الدليل لم يفصل. وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار: والنظر أيضا يدل على استواء حكم الفرائض والتطوع في ذلك أي في التحريم، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وقد اختلف في ذلك عن أبي حنيفة فروى عنه أنه قال: لا بأس بالصدقات كلها على بني هاشم ثم بين الطحاوي وجه هذه الرواية ثم قال: وقد حدثني سلمان بن شعيب عن أبيه عن محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في ذلك
متفق عليه.
1838- (3) وعن عبد المطلب بن ربيعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس،
مثل قول أبي يوسف، فبهذا نأخذ – انتهى. وهذا صريح في أن الطحاوي ما اختار رواية الحل عن أبي حنيفة بل أخذ بالرواية التي وافقت قول أبي يوسف وهي ظاهر الرواية التي ذكرها أولا من استواء حكم التحريم في الفريضة والتطوع (متفق عليه) وأخرجه أحمد والبيهقي أيضا.

(11/411)


1838- قوله: (وعن عبد المطلب) بضم الميم وفتح الطاء المهملة المشددة وكسر اللام المخففة (بن ربيعة) ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي صحابي. قال ابن عبدالبر: كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رجلا ولم يغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه فيما علمت سكن المدينة. ثم انتقل إلى الشام في خلافة عمر ومات في أمرة يزيد بن معاوية بدمشق سنة (62) قال الحافظ قال العسكري: هو المطلب بن ربيعة هكذا يقول أهل البيت، وأصحاب الحديث يختلفون فمنهم، من يقول المطلب بن ربيعة ومنهم من يقول، عبد المطلب. وقال البغوي: عبد المطلب. ويقال المطلب. وقال الطبراني: الصواب المطلب وذكر أنه توفي سنة (61) -انتهى. (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي حينما أتى إليه عبدالمطلب يطلب منه أن يجعله عاملا على بعض الزكاة. فقال: له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -الحديث. وفيه قصة (إن هذه الصدقات) أي أنواع الزكاة وأصناف الصدقات (إنما هي أوساخ الناس) الجملة خبر لقوله "هذه" كما في قوله تعالى ?إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجرا من أحسن عملا?[الكهف:30] قال النووي: هو تنبيه على العلة في تحريمها على بني هاشم وبني المطلب، وأنه لكرامتهم وتنزيههم من الأوساخ ومعنى أوساخ الناس إنها تطهير لأموالهم ونفوسهم كما قال الله تعالى ?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها?[التوبة:103] فهي كغسالة الأوساخ. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: إنما كانت أوساخا لأنها تكفر الخطايا وتدفع البلاء وتقع فداء عن العبد في ذلك، فيتمثل في مدارك الملأ الأعلى إنها هي وهذا يسمى عندنا بالوجود التشبيهي فتدرك بعض النفوس العالية، إن فيها ظلمة وأيضا فإن المال الذي يأخذه الإنسان من غير مبادلة عين أو نفع ولا يراد به احترام وجهه فيه ذلة ومهانة، ويكون لصاحب المال عليه فضل ومنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم، اليد العليا خير من اليد السفلى،

(11/412)


فلا جرم إن التكسب بهذا النوع شر وجوه المكاسب لا يليق بالمطهرين والمنوه بهم في الملة - انتهى. وقال السنوسي: لما كانت الصدقات أوساخ الناس ولهذا حرمت عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله فيكف أباحها لبعض أمته. ومن كمال إيمان المرء أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه. قلت: ما أباحها لهم عزيمة بل
و إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)). رواه مسلم.
1839- (4) وعن أبي هريرة قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بطعام سأل عنه "أهدية أم صدقة" فإن قيل: صدقة، قال لأصحابه: "كلوا" ولم يأكل، وإن قيل: هدية، ضرب بيده فأكل معهم)).
اضطرارا وكم أحاديث تراها ناهية عن السؤال فعلى الحازم أنيراها كالميتة ?فمن اضطر عير باغ ولا عاد فلا إثم عليه? [البقرة:173] (وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) فيه أيضا دليل على تحريم الزكاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وإنها كانت محرمة عليهم سواء كانت بسبب العمل أو بسبب الفقر، والمسكنة وغيرها من الأسباب الثمانية وهذا هو الصحيح عندنا، وإليه ذهب الجمهور وجوز بعض الشافعية لبني هاشم ولبني المطلب العمل عليها بسهم العامل لأنه إجازة. قال النووي: وهذا ضعيف أو باطل وهذا الحديث صريح في رده (رواه مسلم) في الزكاة في قصة طويلة، وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص166) وأبوداود في الخراج والنسائي في الزكاة مطولا ومختصرا، ورواه الطبراني في الكبير بسند فيه كلام عن ابن عباس فذكر القصة مختصرة وفي آخره فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه لا يحل لكم أهل البيت من الصدقات شيء، إنما هي غسالة الأيدي إن لكم في خمس الخمس لما يغنيكم - انتهى.

(11/413)


1839- قوله: (إذا أتى بطعام) أي جيء به زاد أحمد وابن حبان من غير أهله (سأل عنه) أي عن الطعام (أ هدية أم صدقة) بالرفع أي هو صدقة (قال لأصحابه) أي من غير آله (كلوا ولم يأكل) لأنها حرام عليه (وإن قيل هدية) بالرفع (ضرب بيده) أي شرع في الأكل مسرعا، ومثله ضرب في الأرض إذا أسرع فيها قاله الحافظ: وقيل أي مد يده إليه من غير تحام عنه تشبيها للمد بالذهاب سريعا في الأرض فعداه بالباء كما يقال ذهب به (فأكل معهم) فارقت الصدقة الهدية حيث حرمت عليه تلك، وحلت له هذه بأن الصدقة ما ينفق على الفقراء، ويراد به ثواب الآخرة ولا يكافيء في الدنيا فيبقى المنة عليه، وفيه عز للمعطى وذل للمعطى له والهدية يراد بها إكرام المهدي إليه والتقرب إليه، وتنفق على الأغنياء. وفيها غاية العزة والرفعة ويثاب عليها في الدنيا فيزول المنة البتة. وأيضا لما كان صلى الله عليه وسلم آمرا بالصدقات ومرغبا في المبرات فتنزه عن الأخذ منها براءة لساحته عن الطمع فيها، وعن التهمة بالحث عليها، ولذا قال: تؤخذ من أغيناءهم وترد على فقراءهم إيماء إلى أن المصلحة راجعة إليهم وأنه سفير محض مشفق عليهم، وفي الحديث استعمال الورع والفحص عن أصل المآكل والمشارب
متفق عليه.
1840- (5) وعن عائشة، قال: كان في بريرة ثلاث سنن:
(متفق عليه) أخرجه البخاري في الهبة ومسلم في الزكاة، واللفظ للبخاري وأخرجه أحمد وابن حبان والبيهقي أيضا وأخرجه الترمذي والنسائي والبيهقي أيضا من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.

(11/414)


1840- قوله: (كان في بريرة) أي حصل بسببها وهي مولاة عائشة أم المؤمنين صحابية مشهورة وبريرة بفتح الموحدة وكسر الراء الأولى بوزن كريمة مشتقة من البرير وهو ثمر الأراك. وقيل: إنها فعيلة من البر بمعنى مفعولة كمبرورة، أو بمعنى فاعلة كرحيمة هكذا وجهه القرطبي. والأول أولى لأنه صلى الله عليه وسلم غير إسم جويرية، وكان إسمها برة. وقال: لا تزكوا أنفسكم فلو كانت بريرة من البر لشاركتها في ذلك، وكانت بريرة لقوم من الأنصار. وقيل لناس: من بني هلال فكاتبوها ثم باعوها فاشترتها عائشة ثم أعتقتها وكانت تخدم عائشة قبل أن تشتريها، وكانت حال عتقها متزوجة عبدا، اسمه مغيث كما في البخاري، عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية وتفرست في عبدالملك بن مروان أنه يلي الخلافة فبشرته بذلك وروى هو ذلك عنها (ثلاث سنن) بضم السين وفتح النون الأولى أي علم بسببها ثلاثة أحكام من الشريعة. وهذا لفظ البخاري ولمسلم ثلاث قضيات، وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود قضى فيها النبي صلى الله عليه وسلم أربع قضيات فذكر نحو حديث عائشة وزاد، وأمرها أن تعتد عدة الحرة أخرجه الدارقطني وهذه الزيادة لم تقع في حديث عائشة فلذلك اقتصرت على ثلاث لكن أخرج ابن ماجه بسند على شرط الشيخين عن عائشة قالت: أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض وهذا مثل حديث ابن عباس في قوله: "تعتد عدة الحرة" ولا يخالف قول عائشة ثلاث سنن، ما قال ابن بطال أنه أكثر الناس في تخريج الوجوه في حديث بريرة حتى بلغوها نحو مائة، وما قال النووي أنه صنف فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين أكثرا فيهما من استنباطا لفوائد منها، وما قال الحافظ إن بعض المتأخرين أوصل فوائد حديث بريرة إلى أربع مائة لأن مراد عائشة، ما وقع من الأحكام فيها مقصودا خاصة لكن لما كان كل حكم منها يشتمل على تقعيد قاعدة يستنبط العالم الفطن منها فوائد جمة، وقع التكثر من هذه الحيثية وانضم إلى ذلك ما وقع في سياق القصة غير

(11/415)


مقصود، فإن في ذلك أيضا فوائد تؤخذ بطريق التنصيص أو الإستنباط أو اقتصر على الثلاث أو الأربع لكونها أظهر ما فيها وما عداها إنما يؤخذ بطريق الاستنباط أو لأنها أهم، والحاجة إليها أمس. قال القاضي عياض: حديث بريرة كثيرة السنن والعلم والآداب ومعنى ثلاث أو أربع إنها شرعت في قصتها وعند وقوع قضيتها وما يظهر فيها مما سوى ذلك، فكان قد علم قبل ذلك من غير قصتها، وهذا أولى من قول من قال ليس في كلام عائشة حصر، ومفهوم العدد ليس بحجة، وما أشبه ذلك من الاعتذارات التي لا تدفع
إحدى السنن إنها عتقت فخيرت في زوجها،

(11/416)


سؤال ما الحكمة في الاقتصار على ذلك قاله الحافظ (إحدى السنن) الثلاث (إنها عتقت) بفتح العين والتاء، وفي رواية أعتقت بضم الهمزة وكسر التاء من الاعتاق وأعتقتها عائشة (فخيرت) بضم الخاء المعجمة مبنيا للمفعول (في زوجها) مغيث أي صارت مخيرة بين أن تفارق زوجها وأن تدوم وتبق تحت نكاحه. وكان عبدا يوم أعتقت فاختارت نفسها، وفي رواية للبخاري فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم فخيرها من زوجها فاختارت نفسها، وفي رواية للدارقطني إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: اذهبي فقد عتق معك بضعك، زاد ابن سعد من طريق الشعبي مرسلا فأختارى. فالمرأة إذا كانت أمة وزوجها عبد فعتقت تكون مخيرة إن شاءت فسخت، وإن شاءت لا، وهذا أمر مجمع عليه. وأما إذا كانت الأمة تحت حر فعتقت ففيه خلاف بين العلماء. فقال الجمهور: لا يكون لها خيار إلا إذا كان زوجها عبدا عندما عتقت لتضررها بالمقام تحته من جهة أنها توقير به. وإن لسيده منعه عنها وإنه لا ولاية له على ولده وغير ذلك بخلاف ما إذا أعتقت تحت حر، لأن الكمال الحادث لها حاصل له فأشبه ما إذا أسلمت كتابية تحت مسلم. وذهب الحنفية إلى أن الأمة إذا أعتقت لها الخيار في نفسها سواء كانت تحت حر، أو عبد، لأن اعتبار عدد الطلاق عندهم بالنساء. فالأمة تبين بطلقتين سواء كان زوجها حرا، أو عبدا والحرة تبين بثلاث تطليقات، حرا كان زوجها أو عبدا، فبعد ما عتقت الأمة تخير في الصورتين حذرا عن ثبوت الملك الزائد عليها. وعند الجمهور الاعتبار في الطلاق بالرجال فزوجة الحر تبين عندهم بثلاث، وإن كانت أمة وزوجة العبد بإثنين، وإن كانت حرة فإذا عتقت تحت الحر لم توجد علة الفسخ وهو العار أو زيادة الملك، والأصل في ذلك قصة بريرة. واختلفت الروايات في أن زوجها حرا كان أو عبدا عندما عتقت فرجحت الحنفية رواية كونه حرا. وقالوا: لم يخيرها صلى الله عليه وسلم لكونه عبدا ولا لأنه حرا. وإنما خيرها للعتق

(11/417)


ورجح الجمهور كونه عبدا. قال الشوكاني: قد ثبت من طريق ابن عباس (عند البخاري والترمذي) وابن عمر (عند الدارقطني والبيهقي) وصفية بنت أبي عبيد (عند النسائي والبيهقي) إنه كان عبدا ولم يرو عنهم ما يخالف ذلك، وثبت عن عائشة من طريق القاسم وعروة أنه كان عبدا، ومن طريق الأسود أنه كان حرا، ورواية اثنين أرجح من رواية واحد على فرض صحة الجميع، فكيف إذا كانت رواية الواحد (يعني رواية الأسود) معلولة بالانقطاع كما قال البخاري. وقال الحافظ: وعلى تقدير إن رواية الأسود موصولة فيرجح رواية من قال عبدا بالكثرة، وأيضا قال المرأ أعرف بحديثه فإن القاسم ابن أخي عائشة، وعروة ابن أختها وتابعهما غيرهما، فروايتهما أولى من رواية الأسود فإنهما أقعد بعائشة واعلم بحديثها والله أعلم. ويترجح أيضا بأن عائشة كانت تذهب إلى أن الأمة إذا عتقت تحت الحر لا خيار لها، وهذا بخلاف ما روى العراقيون عنها فكان
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الولاء لمن اعتق ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة تفور بلحم فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت، فقال:

(11/418)


يلزم على أصل مذهبهم أن يأخذوا بقولها ويدعوا ما روى عنها لاسيما. وقد اختلف عنها فيه، وأدى بعضهم إنه يمكن الجمع بين الروايتين بحمل قول من قال، كان عبدا على اعتبار ما كان عليه، ثم اعتق فلذلك قال من قال كان حرا يعني كان حرا في الوقت الذي خيرت فيه. وعبدا قبل ذلك، ويرد هذا الجمع قول عروة كان عبدا ولو كان حرا لم تخير. وأخرج الترمذي عن ابن عباس إن زوج بريرة كان عبدا أسود يوم عتقت فهذا يعارض رواية الأسود إنه كان حرا، ويعارض الاحتمال المذكور احتمال أن يكون من قال كان حرا أراد ما آل إليه أمره وإذا تعارضا إسنادا وإحتمالا أحتيج إلى الترجيح، ورواية الأكثر يرجح بها وكذلك الأحفظ وكذلك الألزم، وكل ذلك موجود في جانب من قال كان عبدا -انتهى كلام الحافظ. ويأتي مزيد الكلام في هذه المسألة في كتاب النكاح إنشاءالله تعالى: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في شأن بريرة لما أرادت عائشة أن تشتريها وتعتقها وشرط مواليها الولاء لهم أن يكون (الولاء لمن اعتق) أي لمن باع ولو شرط إن الولاء له فمن اعتق عبدا أو أمة كان ولاءه له، وهذه هي المسألة الثانية، والولاء بفتح الواو مع المد مأخوذ من الولي بفتح الواو وسكون اللام. وهو القرب. والمراد به هنا وصف حكمي ينشأ عنه ثبوت حق الإرث من العتيق الذي لا وارث له من جهة نسب أو زوجية أو الفاضل عن ذلك، وحق العقل عنه إذا جنى. قال الحافظ: الولاء بالفتح والمد، حق ميراث المعتق من المعتق بالفتح، ووقع في كثير من الروايات إنما الولاء لمن اعتق وكلمة إنما هنا للحصر لأنها لو لم تكن للحصر لما لزم من إثبات الولاء لمن اعتق نفيه عمن لم يعتق العبد وهو الذي أريد من الخبر ويأتي مزيد الكلام في ذلك في باب قبل باب السلم من كتاب البيوع واستدل بمفهومه على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل أو وقع بينه، وبينه مخالفة خلافا للحنفية ولا للملتقط خلافا لإسحاق وسيأتي البسط لذلك في

(11/419)


الفرائض إنشاءالله تعالى (ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي بيت عائشة (والبرمة) بضم الموحدة وسكون الراء القدر من الحجر ويستعمل بمعنى القدر مطلقا والواو للحال. قال ابن الأثير: البرمة هي القدر مطلقا وجمعها برام وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز (تفور) بالفاء أي تغلى متلبسة (بلحم فقرب) بضم القاف وتشديد الراء على صيغة المجهول (إليه خبز) مفعول ناب عن الفاعل (وأدم) بضم الهمزة وسكون الدال ويضم بمعنى الأدام وهو ما يؤتدم به الخبز أي يطيب أكله به ويتلذذ الأكل بسببه (من أدم البيت) بضمتين جمع أدام، والمراد بأدم البيت الأدم التي توجد في البيوت غالبا كالخل والعسل والتمر. وفي رواية فدعا بالغداء فأتى بخبز وأدم (فقال)
"ألم أر برمة فيها لحم"؟ قالوا: بلى، ولكن ذلك لحم تصدق به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة. قال: "هو عليها صدقة ولنا هدية")).

(11/420)


صلى الله عليه وسلم (ألم أر برمة فيها لحم) الاستفهام للتقرير (قالوا بلى ولكن ذلك لحم تصدق) بضم التاء والصاد وكسر الدال المشددة مبنيا لما لم يسم فاعله جملة في محل رفع صفة للحم (به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة) وفي رواية للبخاري أتى النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فقالوا: هذا ما تصدق به على بريرة، وكذا في حديث أنس عند البخاري ويجمع بينهما بأنه لما سأل عنه أتى به. وقيل: له ذلك وفي رواية لعائشة عند أحمد وابن ماجه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرجل يفور بلحم. فقال من أين لك هذا قلت: أهدته لنا بريرة وتصدق به عليها، وعند أحمد ومسلم وكان الناس يتصدقون عليها فتهدى لنا منه (قال) - صلى الله عليه وسلم - (هو) أي اللحم (عليها) أي بريرة (صدقة ولنا هدية) أي حيث أهدته بريره لنا. لأن الفقير يملك ما تصدق به عليه فيسوغ له التصرف فيه بالبيع وغيره كتصرف سائر الملاك في إملاكهم وهذه هي المسألة الثالثة. وفي الحديث دليل على أن الصدقة إذا أهداها من تصدق عليه بها إلى من لا تحل له الصدقة ابتداء من هاشمي أو غني صرف عنها حكم الصدقة، وجاز للمهدي إليه استعمالها وحل له أكلها فيؤخذ منه إن التحريم إنما هو على الصفة لا على العين، وإن العين الواحدة يختلف حكمها باختلاف جهات الملك. قال الأبي: لا يقال كون الصدقة أوساخ الناس وإنها مطهرة للمال هو وصف لا يزيله عنها الهدية بها لأنا نقول كونها وسخا ليس وصفا ذاتيا لها حتى يقال أنه لا يزول، وإنما هو وصف حكمي جعل بالشرع، والشرع قد حكم بزواله عنها -انتهى. واستنبط، منه بعضهم جواز استرجاع صاحب الدين عين ما دفعه إلى الفقير بنية الزكاة في دين له عليه. وفيه دليل على أن الصدقة لا تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لو حلت له لما كان لعائشة مانع من إحضار لحم بريرة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه دليل على أن الصدقة لم تحرم على موالي أزواج النبي صلى الله

(11/421)


عليه وسلم وبه ترجم البخاري في صحيحه فقال باب الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأورد فيه حديث بريرة وحديث ابن عباس وجد النبي صلى الله عليه وسلم شأة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال: هلا انتفعتم بجلدها قالوا: إنها ميتة قال. إنما حرم أكلها. وأما أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فنقل ابن بطال إنهن لا يدخلن في ذلك أي لا يحرم عليهن الصدقة بإتفاق الفقهاء. قال الحافظ: وفيه نظر فقد ذكر ابن قدامة إن الخلال أخرج من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة قال: وهذا يدل على تحريمها. قال الحافظ: وإسناده إلى عائشة حسن. وأخرجه ابن أبي شيبة وهذا لا يقدح فيما نقله ابن بطال يعني لأنه لما رأى إن الفقهاء لم يذهبوا إلى هذا نقل اتفاقهم على ذلك. ولم يتعرض للدليل في ذلك. وفي قصة بريرة
متفق عليه.
1841- (6) وعنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية، ويثيب عليها)).
فوائد كثيرة غير ما تقدم. ذكرها الحافظ في كتاب العتق وفي كتاب الطلاق والنووي في العتق (متفق عليه) أخرجه البخاري مطولا أي بذكر السنن الثلاث في باب الحرة تحت العبد من كتاب النكاح، وفي باب لا يكون بيع الأمة طلاقا من كتاب الطلاق، وفي باب الأدم من كتاب الأطعمة. وأخرجه مفرقا ومقطعا في المساجد والزكاة والبيوع والعتق والمكاتب والهبة والشروط والطلاق والنذور والفرائض. وأخرجه مسلم مطولا في الزكاة والعتق، واللفظ المذكور في الكتاب للبخاري في باب لا يكون بيع الأمة طلاقا وأخرجه هكذا مالك في الطلاق والنسائي في آخر الزكاة، وفي الطلاق، وأخرجه الترمذي في أبواب الولاء والهبة، وأبوداود في الطلاق والفرائض والعتق كلاهما مختصرا، وأخرجه ابن ماجه في الطلاق مطولا وفي العتق مختصرا.

(11/422)


1841- قوله: (يقبل الهدية) قال الخطابي في المعالم (ج3 ص168) قبول النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدية نوع من الكرم، وباب من حسن الخلق يتألف به القلوب. وقد روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال تهادوا تحابوا وكان أكل الهدية شعارا له، وأمارة من أماراته ووصف في الكتب المتقدمة بأنه يقبل الهدية، ولا يأكل الصدقة لأنها أوساخ الناس. وكان إذا قبل الهدية أثاب عليها لئلا يكون لأحد عليه يد، ولا يلزمه لأحد منة - انتهى. وقال البيجوري: فيسن قبول الهدية حيث لا شبهة في مال المهدي وإلا فلا يقبلها، وكذلك إذا ظن المهدي إليه إن المهدي أهداه حياء. قال الغزالي مثال من يهدي حياء من يقدم من سفره ويفرق الهدايا خوفا من العار فلا يجوز قبول هديته إجماعا لأنه لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس، وإذا ظن المهدي إليه إن المهدي إنما أهدى له هديته لطلب المقابل فلا يجوز له قبولها إلا إذا إعطاءه ما في ظنه بالقرائن- انتهى. (ويثيب عليها) من أثاب يثيب إذا أعطى الثواب وهو العوض أي يجازي ويكافىء عليها بأن يعطي الذي يهدي له بدلها، والمراد بالثواب المجازاة وأقله ما يساوي قيمة الهدية، ولفظ ابن أبي شيبة "ويثيب ما هو خير منها" وقد استدل بعض المالكية بهذا الحديث على وجوب المكافأة على الهدية إذا أطلق المهدي وكان ممن مثله يطلب الثواب كالفقير للغني بخلاف ما يهبه إلا على للأدنى، ووجه الدلالة منه مواظبته - صلى الله عليه وسلم - وبه قال الشافعي في القديم، قال الشوكاني: ويجاب بأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب ولو وقعت المواظبة كما تقرر في الأصول. قال الحافظ: وقال الشافعي في الجديد: كالحنفية الهبة للثواب باطلة لا تنعقد لأنها بيع بثمن مجهول لأن موضوع الهبة التبرع، فلو أبطلناه لكان في معنى المعاوضة. وقد فرق الشرع والعرف بين البيع والهبة فما استحق العوض أطلق عليه لفظ البيع بخلاف الهبة. وأجاب بعض المالكية بأن الهبة لو لم تقتض

(11/423)


الثواب أصلا لكانت بمعنى الصدقة وليس كذلك، فإن الأغلب
رواه البخاري.
1842- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو دعيت إلى كراع لأجبت
من حال الذي يهدي أنه يطلب الثواب ولاسيما إذا كان فقيرا - انتهى. وقال القسطلاني ومذهب الشافعية: لا يجب الثواب بمطلق الهبة والهدية إذ لا يقتضيه اللفظ ولا العادة ولو وقع ذلك من الأدنى إلى الأعلى كما في إعارته له إلحاقا للأعيان بالمنافع، فإن أثابه المتهب على ذلك فهبة مبتدأ، وإذا قيدها المتعاقدان بثواب معلوم لا مجهول صح العقد بيعا نظرا للمعنى فإنه معاوضة مال بمال معلوم كالبيع بخلاف ما إذا قيداها بمجهول لا يصح لتعذره بيعا وهبة نعم المكافأة على الهبة، والهدية مستحبة إقتداء به - صلى الله عليه وسلم - - انتهى. قلت ما ذكره القسطلاني من مذهب الشافعية هو مذهب الحنابلة أيضا كما بسط ذلك ابن قدامة في المغنى (ج5 ص622) وهو القول الراجح عندنا والله تعالى اعلم (رواه البخاري) في الهبة وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود في أواخر البيوع والترمذي في البر والصلة من الجامع وفي الشمائل، كلهم من طريق عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن عائشة، وذكر البخاري إن وكيعا ومحاضرا أرسلاه، حيث قال لم يذكر وكيع ومحاضر عن هشام عن أبيه عن عائشة قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن عيسى بن يونس تفرد بوصله عن هشام، وقد قال الترمذي: والبزار لا نعرفه موصولا إلا من حديث عيسى بن يونس. وقال الآجري سألت أباداود عنه فقال: تفرد بوصله عيسى بن يونس وهو عند الناس مرسل ورواية وكيع وصلها ابن أبي شيبة عنه بلفظ: "ويثيب ما هو خير منها" ورواية محاضر لم أقف عليها بعد- انتهى.

(11/424)


1842- قوله: (لو دعيت)بضم الدال وكسر العين (إلى كراع) بضم الكاف وتخفيف الراء، بعدها ألف ثم عين مهملة وهو من الدواب ما دون الكعب. وقيل: مستدق الساق من البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس يذكر ويؤنث وأمرع من الإنسان ما دون الركبة من مقدم الساق، والجمع أكرع وأكارع. وقال ابن فارس: كراع كل شيء طرفه وقال في الصراح: كراع بالضم بارجه كوسفند وكاؤو جزآن، وفي المثل أعطى العبد كراعا فطلب ذراعا لأن الذراع في اليد، والكراع في الرجل. والأول خير من الثاني، ويقال أيضا كان كراعا فصار ذراعا إذا صار الضعيف الذليل قويا عزيزا (لأجبت) أي التأليف الداعي وزيادة المحبة فإن عدم الإجابة يقتضي النفرة وعدم المحبة فيندب إجابة الدعوة ولو شيء قليل. قال الحافظ: قد زعم بعض السراح وكذا وقع للغزالي إن المراد بالكراع في هذا الحديث المكان المعروف بكراع الغيم بفتح المعجمة وهو موضع بين مكة والمدينة، وزعم أنه أطلق ذلك على ذلك على سبيل المبالغة في الإجابة ولو بعد المكان لكن المبالغة في الإجابة مع
ولو أهدي إلى ذراع لقبلت)). رواه البخاري.
1843- (8) وعنه، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان)).

(11/425)


حقارة الشيء أوضح في المراد، ولذا ذهب الجمهور إلى أن المراد بالكراع هنا كراع الشأة. وأغرب الغزالي في الأحياء فذكر الحديث بلفظ: ولو دعيت إلى كراع الغميم ولا أصل لهذه الزيادة. وقد أخرج الترمذي (في الأحكام من الجامع وفي الشمائل) من حديث أنس وصححه مرفوعا لو أهدى إلى كراع لقلبت ولو دعيت عليه لأجبت، وأخرج الطبراني من حديث أم حكيم بنت وادع الخزاعية إنها قالت يا رسول الله! تكره رد الظلف قال ما أقبحه لو أهدى إلى كراع لقلبت الحديث ويستفاد سببه من هذه الرواية (ولو أهدى) بضم الهمزة وكسر الدال (إلي) بتشديد الياء (ذراع) بكسر الذال المعجمة وهو الساعد وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب أكله لأنه مبادي الشاة وأبعد عن الأذى ولسرعة نضجه. قال القسطلاني: ولأبي ذر كراع أي بدل ذراع (لقلبت) أي ليحصل التحابب والتألف فإن الرد يحدث النفور والعداوة فيندب قبول الهدية ولو لشيء قليل. قال الحافظ: خص الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الحقير والخطير لأن الذراع كاتب أحب إليه من غيرها، والكراع لا قيمة له. وفي الحديث دليل على حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - وتواضعه وجبره القلوب الناس وعلى قبول الهدية وإجابة من يدعو الرجل إلى منزله، ولو علم أن الذي يدعوه إليه شيء قليل (رواه البخاري) في الهبة وفي الوليمة من كتاب النكاح وأخرجه الترمذي من حديث أنس.

(11/426)


1843- قوله: (ليس المسكين) أي المذكور في قوله تعالى: ?إنما الصدقات للفقراء والمساكين? [التوبة:60] والمسكين مفعيل بكسر الميم من السكون فكأنه من قلة المال سكنت حركاته. ولذا قال تعالى: ?أو مسكينا ذا متربة? [البلد: 16] أي لاصق بالتراب قاله القرطبي: (الذي يطوف) أي يدور ويتردد (على الناس) ليسألهم صدقة عليه (ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان) جملة حالية أي يرد هو على الأبواب لأجل اللقمة أو إنه إذا أخذ لقمة رجع إلى باب آخر، فكان اللقمة ردته من باب إلى باب. والمراد ليس المسكين الكامل الذي هو أحق بالصدقة وأحوج إليها المردود على الأبواب لأجل اللقمة، ولكن الكامل الذي لا يجد الخ فليس المراد نفي المسكنة عن الطواف بل نفي كمالها لأنهم أجمعوا على أن السائل الطواف المحتاج مسكين. قال النووي: معناه المسكين الكامل المسكنة الذي هو أحق بالصدقة وأحوج إليها ليس هو هذا الطواف بل هو الذي
ولكن المسكين الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقم فسأل الناس)).

(11/427)


لا يجد غني الخ وليس معناه نفي أصل المسكنة عن الطواف بل معناه نفي كمال المسكنة كقوله تعالى: ?ليس البر? [البقرة: 177] الآية وكقوله - صلى الله عليه وسلم - أتدرون من المفلس - الحديث انتهى. ويقرب منه ما قيل: ليس المراد نفي استحقاق الطواف الزكاة بل إثبات المسكنة لغير هذا المتعارف بالمسكنة وإثبات استحقاقه أيضا لأن كلا منهما مصرف الزكاة حيث لا غنى لهما لكن الثاني أفضل. وقال السندي: المراد ليس المسكين المعدود في مصارف الزكاة هذا المسكين بل هذا داخل في الفقير، وإنما المسكين المستور الحال الذي لا يعرفه أحد إلا بالتفتيش، وبه يتبين الفرق بين الفقير والمسكين في المصارف (ولكن المسكين) أي الكامل في المسكنة بتخفيف نون لكن، فالمسكين مرفوع وبتشديدها فالمسكين منصوب (الذي لا يجد غني) بكسر الغين مقصورا أي يسار، وفي رواية قالوا: فما المسكين يا رسول الله! قال: الذي لا يجد غني، وفي رواية إنما المسكين الذي يتعفف اقرؤا إن شئتم ?لا يسألون الناس إلحافا? (يغنيه) أي عن غيره ويكفيه وهي صفة لقوله "غنى" وهو قدر زائد على اليسار إذ لا يلزم من حصول اليسار للمرأة أن يغني به بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر، واللفظ محتمل لأن يكون المراد نفي أصل اليسار، ولأن يكون المراد نفي اليسار المقيد بأنه يغنيه مع وجود أصل اليسار، وعلى الاحتمال الثاني، ففيه إن المسكين هو الذي يقدر على مال أو كسب يقع موقعا من حاجته ولا يكفيه كثمانية من عشرة وهو حينئذ أحسن حالا من الفقير فإنه الذي لا مال له أصلا، أو يملك ما لا يقع موقعا من حاجته كثلاثة من عشرة. واحتج لذلك بقوله تعالى: ?أما السفينة فكانت لمساكين? [الكهف: 79] فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة لكنها لا تقوم بجميع حاجاتهم (ولا يفطن به) بصيغة المجهول مخففا أي لا يعلم باحتياجه، وفي رواية له أي باللام بدل الباء الموحدة (فيتصدق عليه) بضم الياء مجهولا (ولا يقوم فيسأل الناس) برفع المضارع

(11/428)


الواقع بعد الفاء في الموضعين عطفا على المنفي المرفوع فينسحب النفي عليه أي لا يفطن له فلا يتصدق عليه ولا يقوم فلا يسأل الناس، وبالنصب فيهما بأن مضمرة وجوبا لوقوعه في جواب النفي بعد الفاء. وقد يستدل بقوله ولا يقوم فيسأل الناس على أحد محملي قوله تعالى: ?لا يسألون الناس إلحافا? [البقرة:273] إن معناه نفي السؤال أصلا. وقد يقال لفظة يقوم تدل على التأكيد في السؤال فليس فيه نفي أصل السؤال. والتأكيد في السؤال هو الإلحاف وفي الحديث إن المسكنة إنما تحمد مع العفة عن السؤال والصبر على الحاجة وفيه حسن الإرشاد لوضع الصدقة، وأن يتحري وضعها فيمن صفته التعفف دون الإلحاح وفيه إن المسكين هو الجامع بين عدم الغنى وعدم تفطن الناس له لما يظن به لأجل تعففه وتظهره بصورة الغنى من عدم الحاجة، ومع هذا فهو مستعفف عن السؤال لكن قد تقدم إن معناه المسكين الكامل،
متفق عليه.

(11/429)


وليس المراد نفي أصل المسكنة (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والتفسير، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد، ومالك في الجامع من الموطأ، وأبوداود والنسائي في الزكاة والبيهقي في قسم الصدقات. وفائدة اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين في آية المصارف. فقال الشافعي: الفقير من لا شيء له أي لا مال له ولا حرفة تقع موقعا. وقال أبوحنيفة: هو من له مال دون النصاب أو قدر نصاب غير تام وهو مستغرق في الحاجة. وأما المسكين فهو عند الشافعي من له شيء أي مال أو حرفة لكن لا يكفيه، وعند أبي حنيفة من لا شيء له فيحتاج إلى المسألة لقوته، فالفقير أسوأ حالا من المسكين عند الشافعي. وبه قال الأصمعي. قال الحافظ: وهو قول جمهور أهل الحديث والفقه. وعند أبي حنيفة المسكين أسوأ حالا من الفقير، وإليه ذهب ابن السكيت ويونس بن حبيب من أهل اللغة. وقيل: هما سواء. قال الحافظ: وهذا قول ابن القاسم وأصحاب مالك. وقال ابن الهمام: الفقير من له مال دون نصاب، أو قدر نصاب غير تام وهو مستغرق في الحاجة والمسكين من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقوته، أو ما يواري بدنه. ويحل له ذلك بخلاف الأول فإنه لا يحل لمن يملك قوت يومه بعد ستره بدنه. وعند بعضهم لا يحل لمن كان كسوبا أو يملك خمسين درهما. ويجوز صرف الزكاة لمن لا تحل له المسألة بعد كونه فقيرا، ولا يخرجه عن الفقر ملك نصب كثيرة غير نامية إذا كانت مستغرقة بالحاجة، ولذا قلنا يجوز للعالم، وإن كانت له كتب تساوي نصبا كثيرة على تفصيل ما ذكرنا فيما إذا كان محتاجا إليها للتدريس، أو الحفظ أو التصحيح ولو كانت ملك عامي وليس له نصاب تام لا يحل دفع الزكاة له، لأنها غير مستغرقة في حاجته فلم تكن كثياب البذلة، وعلى هذا جميع آلات المحترفين إذا ملكها صاحب تلك الخرفة. والحاصل إن النصب ثلاثة نصاب: يوجب الزكاة على مالكه وهو النامي خلقه أو إعداد وهو سالم من الدين. ونصاب لا يوجبها: وهو ما ليس

(11/430)


أحدهما فإن كان مستغرقا لحاجة مالكه حل له أخذها وإلا حرمت عليه كثياب تساوي نصابا لا يحتاج إلى ملكها، أو أثاث، لا يحتاج إلى استعماله كله في بيته وفرس لا يحتاج إلى خدمته وركوبه، ودار، لا يحتاج إلى سكناها فإن كان محتاجا إلى ما ذكرنا حاجة أصلية فهو فقير يحل دفع الزكاة له وتحرم عليه المسألة. ونصاب يحرم المسألة: وهو ملك قوت يومه أو لا يملك لكنه يقدر على الكسب أو يملك خمسين درهما على الخلاف في ذلك - انتهى. وإن شئت البسط للفرق بين الفقير والمسكين فارجع إلى تفسير روح المعاني (ج10 ص107- 108) للعلامة الآلوسي ومعالم السنن (ج6 ص61- 62) للخطابي وإتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين (ج4 ص142، 143) للعلامة الزبيدي والمغنى لابن قدامة (ج6: ص420- 421) وتفسير المنار للعلامة السيد محمد رشيد رضا تحت مصارف الزكاة.
?الفصل الثاني?
1844- (9) عن أبي رافع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: أصحبني كيما تصيب منها. فقال: لا، حتى آتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسأله فانطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله،

(11/431)


1844- قوله: (عن أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمه أسلم (بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة) أي أرسله ساعيا ليجمع الزكاة ويأتي بها إليه. قال المنذري: وهذا الرجل هو الأرقم بن الأرقم القرشي المخزومي بين ذلك الخطيب والنسائي وكان من المهاجرين الأولين. وكنيته أبوعبدالله وهو الذي استخفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في داره بمكة في أسفل الصفا، حتى كملوا الأربعين رجلا، آخرهم عمر بن الخطاب -انتهى. وقيل: هذا الرجل المبعوث هو الأرقم بن أبي الأرقم الزهري لما روى أحمد (ج6:ص8) من طريق الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة عن ابن أبي رافع عن أبي رافع. قال: مر على الأرقم الزهري أو ابن أبي الأرقم، واستعمل على الصدقات قال فاستتبعني الحديث. وروى أبويعلى والطبراني في الكبير، والبيهقي من طريق الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس. قال: استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأرقم بن أبي الأرقم الزهري على السعاية فاستتبع أبارافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له. فقال: يا أبارافع! إن الصدقة حرام على محمد وآل محمد وإن مولى القوم منهم أو من أنفسهم. ففي الروايتين دليل على أن الرجل المبعوث على السعاية في هذه القصة هو الأرقم الزهري. قلت: فيه نظر لأنه قد صرح في رواية شعبة عن الحكم عن ابن أبي رافع عن أبي رافع عند أحمد (ج6:ص10) والترمذي وأبي داود والنسائي والحاكم والبيهقي، إن الرجل المبعوث على الصدقة من بني مخزوم، وهذا الطريق أصح من طريقي أحمد، والطبراني المتقدمين. قال البيهقي: رواية شعبة عن الحكم عن ابن أبي رافع عن أبي رافع أولى من رواية ابن أبي ليلى، وابن أبي ليلى هذا كان سيء الحفظ. وقال الحافظ في الإصابة: بعد ذكر طريق الطبراني لكن رواه شعبة عن الحكم عن مقسم. فقال: استعمل رجلا من بني مخزوم وكذلك أخرجه أبوداود وغيره

(11/432)


وإسناده أصح من الأول -انتهى. وهذا لأن في طريق الطبراني (وكذا طريق أحمد) محمد بن أبي ليلى وفيه كلام. قال أحمد: وشعبة وأبوحاتم وابن المديني والساجي إنه سيء الحفظ. وقال الدارقطني كان رديء الحفظ كثير الوهم. وقال ابن حبان: كان فاحش الخطأ ردي الحفظ (فقال) أي الرجل المخزومي (أصحبني) بفتح الحاء المهملة أمر من باب سمع أي رافقني وصاحبني في هذا السفر (كيما تصيب) نصب بكى و"ما" زائدة أي لتأخذ (منها) أي من الصدقة (فقال لا) أي لا أصحبك (فأسأله) أي أستأذنه أو أسأله هل يجوز لي أم لا
فانطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال: إن الصدقة لا تحل لنا، وإن موالي القوم من أنفسهم)). رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي.

(11/433)


(فانطلق) أبورافع (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله) عن ذلك (إن الصدقة لا تحل لنا) تقدم الكلام عليه (وإن موالي القوم) أي عتقاءهم (من أنفسهم) بضم الفاء أي فحكمهم كحكمهم يعني فلا تحل لك لكونك مولانا، وفيه دليل على تحريم الصدقة على موالي بني هاشم ولو كان الأخذ على جهة العمالة. قال الحافظ في الفتح: وبه قال أحمد وأبوحنيفة وبعض المالكية كابن الماجشون وهو الصحيح عند الشافعية. وقال الجمهور: يجوز لهم لأنهم ليسوا منهم حقيقة ولذلك لم يعوضوا بخمس الخمس ومنشئو الخلاف قوله منهم أو أنفسهم، هل يتناول المساواة في حكم تحريم الصدقة أم لا، وحجة الجمهور أنه لا يتناول جميع الأحكام فلا دليل فيه على تحريم الصدقة، لكنه ورد على سبب الصدقة وقد اتفقوا على أنه لا يخرج السبب، وان اختلفوا هل يخص به أم لا-انتهى. وقال الأمير اليماني: الحديث دليل على أن حكم مولى آل محمد - صلى الله عليه وسلم - حكمهم في تحريم الصدقة. قال: وذهبت جماعة إلى عدم تحريمها عليهم لعدم المشاركة في النسب ولأنه ليس لهم في الخمس سهم. وأجيب بأن النص لا تقدم عليه هذه العلل فهي مردودة فإنها ترفع النص. قال ابن عبدالبر: هذا خلاف الثابت من النص ثم هذا الحديث نص على تحريم العمالة على الموالي، وبالأولى على آل محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه أراد الرجل الذي عرض على أبي رافع أن يوليه على بعض عمله الذي ولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فينال عمالة، لا أنه أراد أن يعطيه من أجرته جائز فإنه جائز لأبي رافع أخذه إذ هو داخل تحت الخمسة الذين تحل لهم، لأنه قد ملك ذلك الرجل أجرته فيعطيه من ملكه فهو حلال لأبي رافع فهو نظير قوله عليه السلام، ورجل تصدق عليه منها فأهدى منها -انتهى. وقال الخطابي في المعالم: (ج2:ص71) أما موالي بني هاشم فانه لا حظ لهم في سهم ذي القربى فلا يجوز أن يحرموا الصدقة، ويشبه أن يكون إنما نهاه عن ذلك تنزيها له. وقال: مولى القوم من

(11/434)


أنفسهم على سبيل التشبيه في الاستنان بهم، والإقتداء بسيرتهم في اجتناب مال الصدقة التي هي أوساخ الناس، ويشبه أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قد كان يكفيه المؤنة ويزيح له العلة، إذ كان أبورافع مولى له وكان يتصرف له في الحاجة والخدمة، فقال له على هذا المعنى، إذا كنت تستغنى بما أعطيت فلا تطلب أوساخ الناس فإنك مولانا ومنا -انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف ومخالفة ظاهر الحديث. والحق عندنا ما ذهب إليه أحمد وأبوحنيفة ومن وافقها والله تعالى أعلم (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) واللفظ للترمذي وأخرجه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي وسكت عنه أبوداود والمنذري وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم. وروى البخاري من حديث أنس مرفوعا مولى القوم من أنفسهم، وروى أحمد وابن أبي شيبة وغيرهما من حديث أم كلثوم بنت علي، قالت حدثني مولى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة ومولى القوم منهم.
1845- (10) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوى)).

(11/435)


1845- قوله: (لا تحل الصدقة لغني) هذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم لكنهم، اختلفوا في حد الغنى المانع من الصدقة، وفي المحيط من كتب الحنفية الغنى على ثلاثة أنواع. غني: يوجب الزكاة وهو ملك نصاب حولي تام. وغني: يحرم الصدقة ويوجب صدقة الفطر والأضحية. وهو ملك ما يبلغ قيمة نصاب من الأموال الفاضلة عن حاجته الأصلية. وغني: يحرم السؤال، دون الصدقة وهو أن يكون له قوت يومه وما يستر عورته -انتهى. وبسط الكلام فيه ابن قدامة في المغني كما سيأتي (ولا لذى مرة) بكسر الميم وتشديد الراء أي قوة. قال الخطابي: معنى المرة القوة وأصلها من شدة قتل الحبل يقال أمررت الحبل إذا أحكمت فتله فمعنى المرة في الحديث شدة اسر الخلق وصحة البدن التي يكون معها احتمال الكد والتعب - انتهى. وقال الشوكاني: قال الجوهري: المرة القوة وشدة العقل ورجل مرير أي قوي ذو مرة. وقال غيره: المرة القوة على الكسب والعمل (سوى) أي سليم الخلق تام الأعضاء. قال الجوهري: السوى مستوى الخلق والمراد استواء الأعضاء وسلامتها قال ابن الملك: أي لا تحل الزكاة لمن أعضاءه صحيحة، وهو قوي يقدر على الاكتساب بقدر ما يكفيه وعياله، وبه قال الشافعي. قال الطيبي وقيل: المعنى ولا لذى عقل وشدة وهو كناية عن القادر على الكسب، وهو مذهب الشافعي والحنفية على أنه إن لم يكن له نصاب حلت الصدقة. قال القاري: في هذا الحديث نفي كمال الحل لا نفس الحل أو لا تحل له بالسؤال -انتهى. وقال السندي: لا تحل الصدقة أي سؤالها وإلا فهي تحل للفقير وإن كان صحيحا سوى الأعضاء إذا أعطاءه أحد بلا سؤال وقال الترمذي: قد روى في غير هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل المسألة لغني. ولا لذى مرة سوى، وإذا كان الرجل قويا محتاجا، ولم يكن عنده شيء فتصدق عليه أجزأ عن المتصدق عند أهل العلم. ووجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم على المسألة -انتهى. يعني إن هذا الحديث محمول على المسألة، والمراد

(11/436)


بقوله لا تحل الصدقة لا تحل المسألة، والدليل عليه حديث حبشي بن جنادة الآتي في الفصل الثاني من الباب الذي يليه، قال الخطابي: اختلف الناس في جواز أخذ الصدقة لمن يجد قوة يقدر بها على الكسب، فقال الشافعي: لا تحل له الصدقة. وكذلك قال إسحاق بن راهوية وأبوعبيد، وقال أصحاب الرأي: يجوز له أخذ الصدقة إذا لم يملك مائتي درهم فصاعدا -انتهى. وقال ابن قدامة (ج2:ص166) اختلف العلماء في الغنى المانع من أخذها ونقل عن أحمد فيه روايتان أظهرهما أنه ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من كسب، أو تجارة أو عقار أو نحو ذلك ولو ملك من العروض، أو الحبوب أو السائمة أو العقار ما لا تحصل به الكفاية لم يكن غنيا وإن ملك نصابا هذا هو الظاهر من مذهبه، وهو قول الثوري
..................................

(11/437)


والنخعي وابن المبارك وإسحاق. وروي عن علي وعبدالله إنهما قالا: لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو عدلها أو قيمتها من الذهب وذلك لما روى عبدالله بن مسعود مرفوعا من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خموشا أو خدوشا أو كدوحا في وجهه. فقيل يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! وما الغنى؟ قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب (وسيجيء هذا الحديث في الباب الذي يليه) والرواية الثانية إن الغنى ما تحصل به الكفاية فإذا لم يكن محتاجا حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئا، وإن كان محتاجا حلت له الصدقة، وإن ملك نصابا والأثمان وغيرها في هذا سواء وهذا اختيار أبي الخطاب، وقول مالك والشافعي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة: رجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجى من قومه الحديث (وسيجيء في الباب الآتي) فمد إباحة المسألة إلى وجود إصابة القوام أو السداد، ولأن الحاجة هي الفقر والغنى ضدها فمن كان محتاجا فهو فقير يدخل في عموم النص، ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة. والحديث الأول فيه ضعف ثم يجوز إن تحرم المسألة ولا يحرم أخذ الصدقة إذا جاءته عن غير المسألة، فإن المذكور فيه تحريم المسألة فنقتصر عليه. وقال الحسن وأبوعبيد: الغنى ملك أوقية وهي أربعون درهما لما روى أبوسعيد الخدري مرفوعا من سأل، وله قيمة أوقية فقد الحف رواه أبوداود، وكانت الأوقية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين درهما وقال أصحاب الرأي الغنى: الموجب للزكاة هو المانع من أخذها وهو ملك نصاب تجب فيه الزكاة من الأثمان والعروض المعد للتجارة أو السائمة أو غيرها لحديث "تؤخذ من أغنياءهم وترد في فقراءهم" فجعل الأغنياء من تجب عليهم الزكاة، فيدل ذلك على أن من تجب عليه غنى، ومن لا تجب عليه ليس بغنى فيكون فقيرا، فتدفع الزكاة إليه لقوله فترد في فقراءهم فيحصل الخلاف بيننا وبينهم في

(11/438)


أمور ثلاثة. أحدها إن الغنى المانع من الزكاة غير الموجب لها عندنا، ودليل ذلك حديث ابن مسعود وهو أخص من حديثهم فيجب تقديمه، ولأن حديثهم دل على الغنى الموجب، وحديثنا دل على الغنى المانع ولا تعارض بينهما فيجب الجمع بينهما. الثاني إن من له ما يكفيه من مال غير زكائي أو مكسبه أو أجرة عقارات أو غيره ليس له الأخذ من الزكاة وبهذا. قال الشافعي وإسحاق وأبوعبيدة وابن المنذر وقال أبويوسف: إن دفع الزكاة إليه فهو قبيح وأرجو أن يجزئه وقال أبوحنيفة وسائر أصحابه: يجوز دفع الزكاة إليه لأنه ليس بغنى لما ذكروه في حجتهم. ولنا ما روى الإمام أحمد من حديث عبيدالله بن عدي بن الخيار، يعني الذي يأتي بعد هذا. ثم ذكر حديث عبدالله بن عمر والذي نحن في شرحه. ثم قال: ولأن له ما يغنيه عن الزكاة فلم يجز الدفع إليه كمالك النصاب. الثالث إن من ملك نصابا زكائيا لا تتم به الكفاية من غير الأثمان فله الأخذ من الزكاة. قال
رواه الترمذي وأبوداود والدارمي.

(11/439)


الميموني: ذاكرت أباعبدالله. فقلت: قد يكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة، وهو فقير ويكون له أربعون شأة وتكون له الضيعة لا تكفيه فيعطى من الصدقة؟ قال نعم وذكر قول عمر أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا وقال في رواية محمد بن الحكم: إذا كان له عقار يشغله أو ضيعة تساوي عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه يأخذ من الزكاة وهذا قول الشافعي وقال أصحاب الرأي: ليس له أن يأخذ منها إذا ملك نصابا زكويا لأنه تجب عليه الزكاة فلم تجز له للخبر، ولنا أنه لا يملك ما يغنيه ولا يقدر على كسب ما يكفيه فجاز له الأخذ من الزكاة ولأن الفقر عبارة عن الحاجة. قال الله تعالى: ?يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله?[فاطر:15] أي المحتاجون إليه وهذا محتاج فيكون فقيرا غير غنى، وقد بينا إن الغنى يختلف مسماه فيقع على ما يوجب الزكاة وعلى ما يمنع منها فلا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من عدمه عدم الآخر. فمن قال: إن الغنى هو الكفاية سوى بين الأثمان وغيرها، وجوز الأخذ لكل من لا كفاية له، وإن ملك نصبا من جميع الأموال. ومن قال بالرواية الأخرى فرق بين الأثمان وغيرها لخبر ابن مسعود إلى آخر ما بسطه. وقال الأمير اليماني في شرح بلوغ المرام: قد اختلفت الأقوال في حد الغنى الذي يحرم به قبض الصدقة على أقوال، وليس عليها ما تسكن له النفس من الاستدلال لأن المبحث ليس لغويا حتى يرجع فيه إلى تفسير لغة، ولأنه في اللغة أمر نسبي لا يتعين في قدر ووردت أحاديث معينة لقدر الغنى الذي يحرم به السؤال كحديث أبي سعيد عند النسائي من سأل وله أوقية فقد الحف، وعند أبي داود من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل الحافا، وأخرج أيضا من سأل وله ما يغنيه فإنما يستكثر من النار. قالوا: وما يغينيه؟ قال: قدر ما يعشيه ويغديه صححه ابن حبان، فهذا قدر الغنى الذي يحرم معه السؤال. وأما الغنى الذي يحرم معه قبض الزكاة فالظاهر أنه من تجب عليه

(11/440)


الزكاة وهو من يملك مائتي درهم لقوله - صلى الله عليه وسلم - أمرت أن آخذها من أغنياءكم وأردها في فقراءكم فقابل بين الغنى، وأفاد أنه من تجب عليه الصدقة وبين الفقير، وأخبر أنه من ترد فيه الصدقة هذا أقرب ما يقال فيه -انتهى. قلت: وبه قال الحنفية كما تقدم وهو الراجح عندي والله تعالى أعلم (رواه الترمذي وأبوداود والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد (ج2:ص164-192) وأبوعبيد (ص549) والطيالسي وابن الجارود في المنتقى (ص186) والبخاري في التاريخ الكبير (ج2،1:ص301) والدارقطني (ص211) والحاكم (ج1:ص407) والطحاوي (ج1:ص303) كلهم من حديث سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد العامري عن عبدالله بن عمرو، قال الترمذي: حديث حسن وذكر إن شعبة رواه عن سعد بن إبراهيم بهذا الإسناد ولم يرفعه. وقال أبوداود وقال عطاء بن زهير: إنه لقى عبدالله بن عمرو، فقال إن الصدقة لا تحل لقوى، ولا لذى مرة سوى. وقال الإمام أحمد قال عبدالرحمن بن مهدي: ولم يرفعه سعد ولا ابنه يعني إبراهيم بن سعد. وقال البخاري في التاريخ الكبير: وروى إبراهيم بن سعد
.............................

(11/441)


عن أبيه ولم يرفعه. وقال المنذري بعد ذكر كلام الترمذي: في إسناده ريحان بن يزيد. قال ابن معين ثقة. وقال أبوحاتم الرازي: شيخ مجهول. وقال بعضهم: لم يصح إسناده وإنما هو موقوف على عبدالله بن عمرو -انتهى. قلت: ريحان بن يزيد قد عرفه غير أبي حاتم ووثقه، وقد تقدم أنه وثقه يحيى بن معين. وقال: حجاج عن شعبة عن سعد بن إبراهيم سمع ريحان بن يزيد وكان أعرابيا صدوقا وذكره ابن حبان في الثقات، وترجمة البخاري في التاريخ الكبير، فلم يذكر فيه جرحا، ومن عرف حجة على من لم يعرف. وأما التعليل بأن شعبة وإبراهيم بن سعد روياه عن سعد فلم يرفعاه فليس بشيء، فإن الحديث رواه عن سعد ثلاثة من الحفاظ الثقات، سفيان الثوري وشعبة وإبراهيم بن سعد. أما الثوري فرواه عن سعد مرفوعا عند أحمد في الموضعين، وعند الطيالسي وأبي عبيد والبخاري في الكبير والدارمي والترمذي وابن الجارود والحاكم والدارقطني والطحاوي لم تختلف الرواية عنه في رفعه. وأما شعبة فاختلف عليه، فروى عنه الحجاج بن منهال عند الطحاوي (ص 303) موقوفا. وروى عنه آدم بن أبي أياس عند الحاكم، وحجاج عند البخاري في الكبير مرفوعا. وأما إبراهيم بن سعد فاختلف عليه أيضا فروى عنه عباد بن موسى الختلي عند أبي داود وأبوبكر بن أبي العوام عند الحاكم مرفوعا، ويشير كلام الإمام أحمد المتقدم إلى أن عبدالرحمن بن مهدي الذي روى الحديث عن الثوري قد سمعه من إبراهيم بن سعد عن أبيه موقوفا كما سمعه من الثوري عن سعد مرفوعا، فيكون إبراهيم رواه مرة مرفوعا، ومرة موقوفا، ولا يضر هذا الاختلاف فإن الراوي قد يرفع الحديث مرة، ويقفه أخرى، والرفع زيادة من الثقة فهي مقبولة. بل ههنا الرفع أرجح لأن سفيان أحفظ من شعبة وإبراهيم بن سعد. ولأنه إذا خالف شعبة سفيان فالقول قول سفيان ولأن سفيان لم تختلف الرواية عنه في رفعه بخلاف شعبة وإبراهيم، فإنه قد روى عنهما مرفوعا موافقا لسفيان كما عرفت. وأما

(11/442)


ما قال أبوداود إن عطاء بن زهير قال: أنه لقى عبدالله بن عمرو الخ. فهو خطأ من جهة الإسناد والمتن جميعا كما بينه العلامة الشيخ أحمد شاكر في شرحه للمسند (ج10:ص51-52-53-54) قلت: ويدل على وقوع الخطأ في رواية أبي داود المعلقة هذه ما رواه البيهقي (ج7:ص13) من طريق عبيدالله بن الشميط ثنا أبي والأخضر بن عجلان عن عطاء بن زهير العامري عن أبيه قال: قلت لعبدالله بن عمرو بن العاص أخبرني عن الصدقة أي مال هي؟ قال: هي شر مال للعميان والعرجان والكسحان واليتامى وكل منقطع به. فقلت: إن للعاملين عليها حقا وللمجاهدين. فقال للعاملين عليها بقدر عمالتهم وللمجاهدين في سبيل الله قدر حاجتهم، أو قال حالهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذى مرة سوى -انتهى. هذا وقد بسط العلامة الشيخ أحمد شاكر القول في تصحيح حديث عبدالله بن عمرو المرفوع فعليك أن تراجعه.
1846- (11) ورواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة.
1847- (12) وعن عبيدالله بن عدي بن الخيار، ((قال أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في حجة الوداع، وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما،

(11/443)


1846- قوله: (ورواه أحمد) (ج2:ص377-389) (والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة) وأخرجه عنه ابن حبان والبزار والطحاوي والطبراني والحاكم أيضا واختلفوا في تسمية الراوي عن أبي هريرة، فعند أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والطحاوي والبزار والبيهقي، عن سالم بن أبي الجعد عن أبي هريرة. قال صاحب التنقيح: رواته ثقات، إلا أن أحمد بن حنبل قال: سالم بن أبي الجعد لم يسمع من أبي هريرة - انتهى. ورواه الطحاوي من حديث أبي صالح عن أبي هريرة والحاكم والبيهقي من حديث أبي حازم عنه قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين وشاهده حديث عبدالله بن عمرو. ثم رواه بسند السنن وسكت عنه. وحديث أبي هريرة عزاه الهيثمي للطبراني، وقال: رجاله رجال الصحيح، وفي الباب عن رجل من بني هلال عند أحمد والطحاوي. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح وعن حبشي بن جنازة وسيأتي. وعن جابر عند الدارقطني بسند ضعيف، وعن طلحة عند أبي يعلى وابن عدي بسند فيه ضعف، وعن عبدالرحمن بن أبي بكر عند الطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة وعن ابن عمر عند ابن عدي بسند ضعيف. تنبيه كلام المصنف يدل على أن الإمام أحمد لم يرو هذا الحديث عن عبدالله بن عمرو، وهو ذهول منه فإنه أحمد رواه عن أبي هريرة، وعبدالله بن عمرو وكليهما كما عرفت.

(11/444)


1847- قوله: (وعن عبيدالله بن عدي بن الخيار) بكسر الحاء المعجمة فمثناة تحتية آخره راء (أخبرني رجلان) زاد الطحاوي في شرح الآثار (ص303) من قومي ولم أقف على تسميتهما (وهو في حجة الوداع) بفتح الواو (وهو يقسم) بفتح الياء وكسر السين (الصدقة) أي أموالها (فسألاه منها) أي طالباه أن يعطيهما شيئا من تلك الصدقة (فرفع فينا النظر) في نسختي العون والبذل من نسخ السنن لأبي داود البصر بدل النظر. وكذا وقع عند أبي عبيد والطحاوي والدارقطني والبيهقي من طريق أبي داود. وكذا نقله الزيلعي والحافظ في تخريجهما. ووقع في نسخة معالم السنن النظر كما في الكتاب، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول. ولفظ أحمد والنسائي فقلب فيهما البصر، وفي رواية لأحمد فصعد فيهما البصر، وللبيهقي في رواية فصعد فينا النظر، وصوب. وفي رواية فصعد البصر (جلدين) بفتح الجيم وسكون اللام أي قويين (إن شئتما أعطيتكما) أي منها ووكلت الأمر إلى أمانتكما لكن تكونان في خطر الأخذ
ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب)). رواه أبوداود والنسائي.
1848-(13) وعن عطاء بن يسار، مرسلا، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة.

(11/445)


بغير حق إن كنتما قويين كما دل عليه حالكما أو غنيين (ولا حظ) أي نصيب (فيها لغني ولا لقوي مكتسب) بصيغة الفاعل أي قادر على الكسب. قال الطيبي: أي لا أعطيكما؛ لأن في الصدقة ذلا وهوانا. فإن رضيتما بذلك أعطيتكما أو لا أعطيكما لأنها حرام على القوي المكتسب، فإرضيتما بأكل الحرام أعطيكما قاله توبيخا وتغليظا، أي كقوله تعالى: ?ومن شاء فليكفر?[الكهف:29] وقال السندي: قوله "إن شئتما" الخ يدل على أنه لو أدى أحد إليهما يحل لهما أخذه ويجزيء عنه، وإلا لم يصح له أن يؤدي إليهما بمشيئتهما فقوله "ولا حظ فيها" الضمير للصدقة على تقدير المضاف، أي في سؤالها أو للمسألة المعلومة من المقام - انتهى. وقال ابن الهمام: الحديث دل على أن المراد حرمة سؤالهما لقوله "وإن شئتما أعطيتكما" فلو كان الأخذ محرما غير مسقط عن صاحب المال لم يفعله - انتهى. والحديث من أدلة تحريم الصدقة على الغني، وهو تصريح بمفهوم الآية وإن اختلف في تحقيق الغني بما سلف وعلى القوي المكتسب، لأن حرفته صيرتة في حكم الغني. ومن أجاز له تأول بما تقدم في أول كلام الطيبي وفي كلام السندي وابن الهمام (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد (ج4 ص224) وأبوعبيد (ص549) والدارقطني (ص211) والطحاوي (ص303) والطبراني والبيهقي (ج7 ص14) كلهم من حديث هشام بن عروة عن أبي عبيدالله بن عدي بن الخيار، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحافظ في بلوغ المرام: قواه أبوداود. وقال أحمد: ما أجوده من حديث، وقال هو أحسنها إسنادا. وقال صاحب التنقيح: حديث صحيح ورواته ثقات. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

(11/446)


1848- قوله: (وعن عطاء بن يسار) بفتح الياء تابعي جليل (مرسلا) أي بحذف الصحابي وهو أبوسعيد الخدري كما سيأتي (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) فتحل لهم وهم أغنياء؛ لأنهم أخذوها بوصف آخر قاله الزرقاني: وقال ابن رشد: الجمهور على أنه لا تجوز الصدقة للأغنياء بأجمعهم، إلا للخمس الذي نص عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث. روى عن ابن القاسم أنه لا يجوز أخذ الصدقة لغني أصلا مجاهدا كان أو عاملا. قال: وسبب اختلافهم هو هل العلة في إيجاب الصدقة للأصناف المذكورين هو الحاجة فقط أو الحاجة والمنفعة العامة إلى آخر ما قال. وعند الحنفية: سبب استحقاق الزكاة في الكل واحد وهو الفقر والحاجة إلا العاملين عليها والمؤلفة، واختلاف الأسماء إنما هو لبيان أسباب الحاجة. قال أبوبكر الجصاص الرازي في أحكام القرآن: وجميع من يأخذ
لغاز في سبيل الله،

(11/447)


الصدقة من هذه الأصناف فإنما يأخذها صدقة بالفقر، والمؤلفة قلوبهم والعاملون عليها لا يأخذونها صدقة. وإنما تحصل الصدقة في يد الإمام للفقراء ثم يعطي الإمام المؤلفة لدفع أذيتهم عن الفقراء وسائر المسلمين، ويعطيها العاملين عوضا من أعمالهم لا على أنها صدقة عليهم. وإنما قلنا ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن آخذ الصدقة من أغنياءكم وأوردها في فقراءكم، فبين إن الصدقة مصروفة إلى الفقراء فدل ذلك على أن أحدا لا يأخذها صدقة إلا بالفقر، وإن الأصناف المذكورين إنما ذكروا بيانا لأسباب الفقر- انتهى. قلت: اعتبار الفقر في جميع الأصناف غير العامل والمؤلف وجعله مناطا للاستحقاق ليس بصحيح، فإن الله تعالى قد فرق بين هذه الأصناف بالتسمية وعطف بعضها على بعض، وجعل العامل وما بعده صنفا غير الفقراء والمساكين، فلا يشترط وجودها معناهما فيما ذكر بعدهما كما لا يشترط معناه فيهما، ولا يجب وجود صفة هذين الصنفين في بقية الأصناف كما لا يلزم وجود صفة تلك الأصناف فيهما. وأما حديث معاذ ففيه بيان صنف واحد فقط، ولذا احتج به من ذهب إلى جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد. قال القاري: ظاهر حديث معاذ إن دفع المال إلى صنف واحد جائز كما هو مذهبنا - انتهى. وهكذا استدل به لذلك ابن الجوزي وأبوعبيد والكاساني في البدائع، والقرطبي المالكي في المفهم، وابن قدامة في المغنى، وغيرهم من الشراح. وخص هذا الصنف بالذكر مع كون المقام مقام إرسال البيان لأهل اليمن وتعليمهم لمقابلة الأغنياء، ويحتمل أن يكون ذلك لكون الفقراء هم الأغلب أو لبيان أنهم الأحق والأهم. وكانت آية مصارف الزكاة معلومة معروفة فلم تكن حاجة إلى تعديد جميع مصارفها، وحديث الباب نص في الرد على الحنفية وعلى ابن القاسم، وقد تكلف ابن الهمام وغيره للجواب عنه كما سيأتي مع الرد عليه وقال الشوكاني في السيل الجرار: لا ينافي ما صرحت به الآية من المصارف الثمانية ما ورد من أن

(11/448)


الزكاة تؤخذ من الأغنياء وترد في الفقراء، فإن ذلك محمول على أنه لم يوجد في المحل الذي أخذت منه إلا الفقراء. أما إذا وجد غيرهم فله حق فيها كحق الفقراء، فيجمع بين الأدلة بهذا، وأما من اشترط الفقر في جميع الأصناف فلا يحتاج إلى الجمع بهذا ولكن هذا الاشتراط خلاف ظاهر القرآن، وخلاف ما ثبت في السنة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحل الصدقة لغني إلا لغاز في سبيل الله - الحديث. (لغاز في سبيل الله) أي يجوز له أخذ الزكاة والاستعانة بها في غزوه، وإن كان غنيا، وإليه ذهب الأئمة الثلاثة وإسحاق بن راهوية وأبوثور وأبوعبيد وابن المنذر وقال أبوحنيفة لا يحل للغازي إلا أن يكون منقطعا به أو فقيرا ورد بأن الأول داخل في الآية في ابن السبيل، والثاني في الفقراء وقد فرق الله تعالى بين سهم السبيل وابن السبيل والفقراء بالواو، والقول بأن منقطع الغزاة فقيرا، لا أنه زاد بالانقطاع في عبادة الله فكان مغايرا للفقير المطلق الخالي عن هذا القيد، لا يجدي شيئا فإنه بقيد الفقر يبطل كون سبيل الله صنفا مستقلا، إذ يرجع حينئذ إلى الصنف الأول وهو الفقراء والمساكين. والحديث تفسير لقوله تعالى: ?في سبيل
.......................

(11/449)


الله? [التوبة:60] إن المراد به الغزاة، وعليه الجمهور، قال أبوعبيد (ص610) بعد ذكر هذا الحديث فأرخص - صلى الله عليه وسلم - للغازي أن يأخذ من الصدقة وإن كان غنيا، ونراها تأويل هذه الآية قوله "وفي سبيل الله" وقال الخطابي: في الحديث بيان إن للغازي وإن كان غنيا أن يأخذ الصدقة، ويستعين بها في غزوة وهو من سهم سبيل الله وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأي لا يجوز أن يعطي الغازي من الصدقة إلا أن يكون منقطعا به. قلت (قائله الخطابي): سهم السبيل غير سهم ابن السبيل. وقد فرق الله بينهما بالتسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو والذي هو حرف الفرق بين المذكورين المنسوق أحدهما على الآخر، فقال وفي سبيل الله وابن السبيل والمنقطع به هو ابن السبيل، فأما سهم السبيل فهو على عمومه وظاهره في الكتاب. وقد جاء في هذا الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه - انتهى. وقال الباجي: لا بأس أن يعطى من الزكاة للغازي وإن كان معه ما يغنيه وإن لم يأخذ فهو أفضل هذا قول مالك وبه قال الشافعي: وقال أبوحنيفة: لا يعطي الغازي الغني شيء من الصدقة ولا يحل له أخذها. وقال ابن المنذر: وأما قول أبي حنيفة لا يعطي الغازي من الزكاة إلا أن يكون محتاجا فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى: ?وفي سبيل الله? وأما السنة فحديث أبي سعيد يعني الذي نحن في شرحه. وقال الشوكاني في السيل الجرار: تحت قول صاحب حدائق الأزهار وسبيل الله هو المجاهد الفقير ما لفظه، أقول قد عرفناك إن حديث أبي سعيد فيه التصريح بعدم اشتراط الفقر فيمن اشتمل عليه ومن جملتهم الغازي، فالسنة قد دلت على أنه يصرف إلى هذا الصنف مع الغنى. والقرآن لم يشترط فيه الفقر فلم يبق ما يوجب هذا الاشتراط، بل هو مجرد رأي بحت فيصرف إليه ما يحتاجه في الجهاد من سلاح ونفقة وراحلة وإن بلغ أنصبا كثيرة قلت: واستدل لأبي حنيفة بحديث معاذ: أمرت أن آخذ

(11/450)


الصدقة من أغنياءكم وأردها في فقرائكم. قال الكاساني: جعل الناس قسمين. قسم، يؤخذ منهم. وقسم، يصرف إليهم. فلو جاز صرف الصدقة إلى الغني لبطلت القسمة وهذا لا يجوز، وبحديث عبدالله بن عمرو المتقدم بلفظ: لا تحل الصدقة لغني، قال ابن الهمام حديث: لا تحل الصدقة لغني مع حديث معاذ يفيد منع غنى الغزاة والغارمين عنها، فهو حجة على الشافعي في تجويزه لغني الغزاة إذا لم يكن له شيء في الديوان ولم يأخذ من الفيء وأجيب عن ذلك بأنه لو صح ما قال الكاساني للزم اشتراط الفقر في العامل والمؤلف أيضا، ولما جاز دفع الزكاة إلى غنى العاملين والمؤلفة قلوبهم وإلا لبطلت القسمة، وأيضا لزم تقييد إطلاق القرآن بخبر الواحد وهذا لا يجوز عند الحنيفة. وقدمنا إن حديث معاذ فيه بيان للصنف الواحد فقط من الأصناف الثمانية وهم الفقراء وذلك لمقابلة الأغنياء أو لكونهم إذ ذاك هم الأغلب لا، لأن هذا الصنف هو المصرف فقط. ولا لأن الفقر شرط في الأصناف الآخر، والمفهوم من الآية إن المعتبر في المصارف المذكورة. أما حاجتهم إلى الصدقة وهذا في الفقير والمسكين والرقبة والغارم لقضاء دينه وابن السبيل أو حاجة المسلمين إليهم والمنفعة العامة، وهذا في
..............................

(11/451)


العامل والمؤلف والغازي والغارم لا صلاح ذات البين. قال ابن العربي في أحكام القرآن: قال أبوحنيفة: لا يعطي الغازي إلا إذا كان فقيرا وهذه زيادة على النص وعنده إن الزيادة على النص نسخ ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر - انتهى. وأما حديث عبدالله بن عمرو فهو مجمل يفسره حديث عطاء بن يسار هذا وهو حديث موصول صحيح كما ستعرف. قال ابن عبدالبر: هذا الحديث مفسر لمجمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى وإنه ليس على عمومه، وأجمعوا على أن الصدقة المفروضة لا تحل لغير الخمسة المذكورين - انتهى. وأجاب الحنفية عن هذا الحديث بوجوه. منها: ما قال العيني: المراد من قوله: لغاز في سبيل الله هو الغازي الغني بقوة البدن والقدرة على الكسب، لا الغني بالنصاب الشرعي بدليل حديث معاذ وفي ذكر هذا غنى عن الرد، ويدل على بطلانه أيضا حديث عبدالله بن عمرو وحديث عبيدالله بن عدي بن الخيار المتقدمين كما لا يخفي. ومنها: ما قيل إن المستثنى مقيد بالفقر وإطلاق الغني عليه مجاز باعتبار ما كان. قال الكاساني في البدائع: وأما استثناء الغازي فمحمول على حال حدوث الحاجة وسماه غنيا على اعتبار ما كان قبل حدوث الحاجة وهو أن يكون غنيا، ثم تحدث له الحاجة بأن كان له دار يسكنها، ومتاع يمتهنه، وثياب يلبسها وله مع ذلك فضل مائتي درهم حتى لا تحل له الصدقة، ثم يعزم على الخروج في سفر غزو فيحتاج إلى آلات السفر والسلاح والمركب، فيجوز أن يعطي من الصدقة ما يستعين به في حاجته التي تحدث له في سفره، وهو في مقامه غني بما يملكه، لأنه غير محتاج في حال الإقامة. فيحمل قوله: لا تحل الصدقة لغني إلا لغاز في سبيل الله على من كان غنيا في حال مقامه، فيعطي بعض ما يحتاج لسفره لما أحدث له السفر من الحاجة إلا أنه يعطي حين يعطي وهو غني - انتهى ملخصا. وفيه إن هذا يدل على أن المراد من الغازي هو الغني الذي تحدث له الحاجة

(11/452)


إلى جهز الجهاد عند إرادة الغزو وإنشاء سفره، وهذا مخالف لما صرح به الحنفية في كتب فروعهم من أن المراد من سبيل الله في الآية منقطع الغزاة. ثم فسروه بالذي عجز عن اللحوق بجيش الإسلام لفقره بهلاك النفقة والدابة أو غيرها وإن كان في بيته مال وافر، فتحل له الصدقة وإن كان كاسبا - انتهى. وقال في شرح الأحياء قال أبوحنيفة: هذا السهم مخصوص بجنس خاص من الغزاة وهو الفقير المنقطع، وبه فسر في سبيل الله وبه قال أبويوسف وهو المفهوم من اللفظ عند الإطلاق فلا يصرف إلى أغنياء الغزاة - انتهى. وفيه أيضا تقييد المستثنى بالفقر مع كون المستثنى منه مطلقا، وارتكاب المجاز من غير دليل وهذا لا يجوز: وأما حديث معاذ فقد تقدم توجيهه. ومنها ما ذكر ابن الهمام قيل: لم يثبت هذا الحديث يعني الذي استدل به الشافعي ومن وافقه، وهو حديث عطاء بن يسار ولو ثبت لم يقو قوة حديث معاذ، فإنه رواه أصحاب الكتب الستة مع قرينة حديث عبدالله بن
............................

(11/453)


عمرو ولو قوي قوته، ترجح حديث معاذ بأنه مانع وما رواه مبيع ذكره القاري. قلت: حديث عطاء بن يسار هذا موصول صحيح ثابت قوي لا مطعن فيه كما ستعرف، ولا مخالفة بينه وبين حديثي عبدالله بن عمرو ومعاذ حتى يصار إلى الترجيح وقد تقدم بيان معناهما فائدة اختلفوا في المراد من سبيل الله في آية المصارف فقيل: المراد به الغزاة وعليه الجمهور. قال الباجي: هو الغزو والجهاد قاله مالك وجمهور الفقهاء. وقال الخرقي وسهم في سبيل الله وهم الغزاة. قال ابن قدامة: هذا الصنف السابع من أهل الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم ولا خلاف في أنهم الغزاة في سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو - انتهى. ثم اختلف أهل هذا القول. فقال الأكثر: إنهم يعطون ما ينفقون في غزوهم وإن كانوا أغنياء. وقال أبوحنيفة وأبويوسف: لا يعطي الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به. قال الحافظ: أما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو فقيرا، إلا أن أباحنيفة قال يختص بالغازي المحتاج. وقيل: المراد منه منقطع الحاج وبه قال محمد وروى عن أحمد وإسحاق إن الحج أيضا من سبيل الله يعني إن الحج من جملة السبل مع الغزو ولأنه طريق بر. قال ابن قدامة: وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى لا يصرف منها في الحج وبه قال مالك والليث وأبوحنيفة والثوري والشافعي وأبوثور وابن المنذر. وقيل: اللفظ عام فلا يجوز قصره على نوع خاص ويدخل فيه جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك، نقل ذلك القفال عن بعض الفقهاء من غير أن يسميه كما في حاشية تفسير البيضاوي لشيخزادة، وإليه مال الكاساني إذ فسره بجميع القرب. قال في البدائع سبيل الله عبارة عن جميع القرب ويدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا. وقال النووي في شرح مسلم: وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة، وتأول عليه هذا الحديث، أي ما روى

(11/454)


البخاري في القسامة أنه صلى الله عليه وسلم وداه الذي قتل بخيبر مائة من إبل الصدقة. قلت واحتج للقول الثاني بما روى أبوداود عن ابن عباس إن امرأة قالت لزوجها أحججني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جملك فلان قال ذاك حبيس في سبيل الله - الحديث. وفيه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أما أنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله. وبما روى عن أم معقل الاسدية إن زوجها بكرا في سبيل الله وإنها أرادت الحج - الحديث. وفيه فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيها البكر، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحج من سبيل الله أخرجه أحمد وغيره. وبما روى عن أبي لاس قال حملنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على إبل من الصدقة للحج ذكره البخاري تعليقا بصيغة التمريض، ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم. قال الشوكاني: حديث أم معقل وحديث=

14. مرعاة المفاتيح

أبي لاس يدلان على أن الحج من سبيل الله، وإن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج عليه، ويدلان أيضا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة إلى قاصدين الحج - انتهى. وبما روى ابن عبيد في الأموال عن أبي معاوية وابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسن إلى الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس، أنه كان لا يرى بأسا أن يعطى الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منها الرقبة. وبما روى عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله فقيل له أتجعل في الحج؟ فقال أما أنه من سبل الله أخرجه أبوعبيد بإسناد صحيح عنه. والقول الراجح عندي: هو ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد به الغزو والجهاد خاصة، لأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه. قال ابن العربي في أحكام القرآن: قوله: "في سبيل الله " قال مالك سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو. ولحديث عطاء بن يسار الذي نحن في شرحه وهو حديث صحيح مفسر لقوله: في سبيل الله في الآية فيجب حمله عليه، ولم أر عنه جوابا شافيا من أحد، وإليه ذهب ابن حزم إذ قال، وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق. ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد من طريق أبي داود وهو الذي رجحه ابن قدامة حيث قال: وهذا أصح لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد فإن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير، فيجب أن يحمل ما في هذه الآية على ذلك لأن الظاهر أرادته به - انتهى. وهو الذي صححه الخازن في تفسيره حيث قال: والقول الأول هو الصحيح لإجماع الجمهور عليه، ورجحه أيضا العلامة القنوجي البوفالي في تفسيره إذ قال: والأول أولى لإجماع الجمهور عليه وبه فسر الشوكاني في فتح القدير (ج2:ص356) ورجحه، واختاره

(11/456)


أيضا غيرهم من المفسرين. وأما الأحاديث التي استدل بها أهل القول الثاني فقد أجيب عنها بوجهين. الأول الكلام فيها إسنادا فإن حديث ابن عباس في إسناده عامر بن عبدالواحد الأحول وقد تكلم فيه أحمد والنسائي. وقال الحافظ: صدوق يخطيء. وقد روى الشيخان عن ابن عباس نحو هذه القصة وليس عندهما إنه جعل جملة حبيسا في سبيل الله ولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو احججتها عليه كان في سبيل الله. وأما حديث أم معقل ففيه اضطراب كثير واختلاف شديد في سنده ومتنه حتى تعذر الجمع والترجيح مع ما في بعض طرقه من راو ضعيف ومجهول ومدلس قد عنعن، وهذا مما يوجب التوقف فيه وذلك لا يشك فيه من ينظر في طرق هذا الحديث في مسند الإمام أحمد وفي السنن مع حديث ابن عباس عند الشيخين وأبي داود وابن أبي شيبة، ومع قصة أم طليق عند ابن السكن وابن مندة والدولابي. وقد حمل ذلك بعضهم على
...........................

(11/457)


وقائع متعددة ولا يخفى بعده. وأما حديث أبي لاس، فقال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق، ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته - انتهى. ويشير بذلك إلى ما حكى عنه أنه قال إن ثبت حديث ابن لاس قلت بذلك، قال الحافظ: وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة ولم يتملكوها - انتهى. وأما أثر ابن عباس فهو أيضا مضطرب صرح به أحمد كما في الفتح، وقد بين اضطرابه الحافظ، ولذلك كف أحمد عن القول بالإعتاق من الزكاة تورعا وقيل بل رجح عن هذا القول. والثاني أنه لا ينكر إن الحج من سبيل الله بل كل فعل خير من سبل الله، لكن لا يلزم من هذا أن يكون السبيل المذكور في هذه الأحاديث هو المذكور في الآية، فإن المراد في هذه الأحاديث المعنى الأعم وفي الآية نوع خاص منه، وهو الغزو والجهاد، لحديث أبي سعيد. وإلا فجميع الأصناف من سبيل الله بذلك المعنى. قال ابن حزم: فإن قيل قد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الحج من سبيل الله، وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج، قلنا نعم، وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات، فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص وهو الذي ذكرنا - انتهى. وقال ابن قدامة: هذا أي عدم صرف الزكاة في الحج أصح، لأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين محتاج إليها كالفقراء والمساكين، وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم وابن السبيل، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين والحج من الفقير لا، نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضا إليه، لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه ولا مصلحة له في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قدر فهه الله منها، وخفف عنه إيجابها. وأما الخير(يعني حديث إن الحج في سبيل الله) فلا يمنع أن يكون الحج من سبيل الله، والمراد بالآية غيره لما ذكرنا - انتهى. وقال

(11/458)


ابن الهمام: متعقبا على الاستدلال المذكور، ثم فيه نظر لأن المقصود ما هو المراد بسبيل الله المذكور في الآية، والمذكور في الحديث لا يلزم كونه إياه لجواز أنه أراد الأمر الأعم وليس ذلك المراد في الآية بل نوع مخصوص، وإلا فكل الأصناف في سبيل الله بذلك المعنى - انتهى. وقال صاحب تفسير المنار: بعد الكلام في سند حديث أم معقل ما لفظه، وأقول من جهة المعنى. أولا إن جعل أبي معقل جمله في سبيل الله أو وصيته به صدقة تطوع، وهي لا يشترط فيها إن تصرف في هذه الأصناف التي قصرتها عليها الآية، وثانيا: إن حج امرأته عليه ليس تمليكا لها يخرج الجمل عن إبقاءه على ما أوصى به أبومعقل، ويقال مثل هذا في حديث أبي لاس. وثالثا: إن الحج من سبيل الله بالمعنى العام للفظ، والراجح المختار أنه غير مراد في الآية - انتهى. وأما القول الثالث: فهو أبعد الأقوال لأنه لا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة صحيحة أو سقيمة ولا من إجماع، ولا من رأى صحابي
.......................

(11/459)


ولا من قياس صحيح أو فاسد، بل هو مخالف للحديث الصحيح الثابت، وهو حديث أبي سعيد. ولم يذهب إلى هذا التعميم أحد من السلف إلا ما حكى القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء المجاهيل، والقاضي عياض عن بعض العلماء الغير المعروفين. قال صاحب تفسير المنار: أما عموم مدلول هذا اللفظ فهو يشمل كل أمر مشروع أريد به مرضاة الله تعالى بإعلاء كلمته وإقامة دينه وحسن عبادته ومنفعة عباده ولا يدخل فيه الجهاد بالمال والنفس إذا كان لأجل الرياء والسمعة، وهذا العموم لم يقل له أحد من السلف ولا الخلف، ولا يمكن أن يكون مرادا هنا. لأن الإخلاص الذي يكون به العمل في سبيل الله أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى، فلا يمكن أن تناط به حقوق مالية دولية. وإذا قيل إن الأصل في كل طاعة من المؤمن أن تكون لوجه الله تعالى: فيراعي هذا في الحقوق عملا بالظاهر، اقتضى هذا أن يكون كل مصل وصائم ومتصدق. وقال: للقرآن وذاكر لله تعالى ومميط للأذى عن الطريق مستحقا بعمله هذا للزكاة الشرعية، فيجب أن يعطى منها. ويجوز له أن يأخذ منها وإن كان غنيا، وهذا ممنوع بالإجماع أيضا وإرادته تنافي حصر المستحقين في الأصناف المنصوصة. لأن هذا الصنف لأحد لجماعاته فضلا عن أفراده، وإذا وكل أمره إلى السلاطين والأمراء تصرفوا فيه بأهوائهم تصرفا، تذهب حكمة فرضية الصدقة من أهلها - انتهى. وأما ما يذكر للاحتجاج لذلك من رواية البخاري في دية الأنصارى الذي قتل بخيبر مائة من غبل صدقة، فهو مخالف لما روى البخاري أيضا في قصته إنه وداه من عنده. وجمع بين الروايتين، بأنه اشتراه من أهل الصدقة بعد أن ملكوها ثم دفعها تبرعا إلى أهل القتيل، حكاه النووي عن الجمهور،وعلى هذا فلا حجة فيه لمن ذهب إلى التعميم. وإذا تقرر هذا فلا يجوز صرف الزكاة في عمارة المساجد والمعاهد الدينية وبناء الجسور، وإصلاح الطرق والشوارع وتكفين الموتى وقضاء ديونهم وغير ذلك من أنواع البر. لأنه ليس هذا في

(11/460)


شيء من المصارف المنصوصة. وهو مذهب أحمد كما يظهر من المغنى (ج2 ص667) ومالك كما في المدونة (ج2 ص59) وسفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء كما في الأموال لأبي عبيد (ص610) هذا وقد ألحق بعض العلماء بالغازي من كان قائما بمصلحة من مصالح المسلمين كالقضاء والإفتاء والتدريس وإن كان غنيا، وأدخله بعضهم في العالمين فأجاز له الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيا، ولا يخفى ما فيه. وقال صاحب المنار: إن سبيل الله هنا مصالح المسلمين الشرعية التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد والأشخاص،وان الحج ليس منها. وقال: وأولها وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح، وأغذية الجند وأدوات التنقل وتجهيز، قال ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية والخيرية، وأشراع الطرق وتعبيدها ومد الخطوط الحديدية العسكرية لا التجارية. ومنها بناء البوارج المدرعة والمنطادات والطيارات الحربية
أو لعامل عليها،

(11/461)


والحصون والخنادق، قال: ويدخل فيه النفقة على المدارس للعلوم الشرعية وغيرها مما تقوم به المصلحة العامة، وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس ماداموا يؤدون وظائفهم المشروعة التي ينقطعون بها عن كسب آخر ولا يعطي عالم غني لأجل علمه وإن كان يفيد الناس به - انتهى. قلت: حديث أبي سعيد ينافي هذا التعميم لكونه كالنص، في أن المراد بسبيل الله المطلق في الآية هم الغزاة والمجاهدون خاصة فيجب الوقوف عنده (أو لعامل عليها) أي على الصدقة قال تعالى ?والعاملين عليها?[التوبة:60] أي الذين يوليهم الامام أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء وهم الجباة والسعاة وعلى حفظها وهم الخزنة وكذا الرعاة للإنعام منها والكتبة لديوانها. قال ابن قدامة: هم السعاة الذين يبعثهم الامام لأخذها من أربابها وجمعها وحفظها ونقلها وممن يعينها ممن يسوقها ويرعاها ويحملها، وكذلك الحاسب والكاتب والكيال والوزان والعداد وكل من يحتاج إليه فيها - انتهى. وفي الحديث دليل على أنه تحل الصدقة للعامل وإن كان غنيا، والمراد بذلك ما يعطى بطريق العمالة، بضم المهملة وخفة الميم، أي رزقه على عمله. ولا خلاف في هذا بين أهل العلم، لأن ما يستحقه العامل إنما يستحقه بطريق العمالة لا بطريق الصدقة، فلا يشترط أن يكون فقيرا. قال الخطابي: أما العامل فإنه يعطى منها عمالة على قدر عمله وأجرة مثله فسواء كان غنيا أو فقيرا فإنه يستحق العمالة إذا لم يفعله متطوعا - انتهى. فإن كان العامل عمالته على عمله لا على فقره فإن لم تكفه كان له أن يأخذ بفقره ما يأخذ أمثاله. ثم اختلف العلماء: هل يستحق العامل على عمله جزاء منها معلوما معينا سبعا أو ثمنا أو يعطى قدر عمله على حسب اجتهاد الإمام، فحكى عن الشافعي إنه يعطى الثمن لكن في فروع الشافعية إنه يعطى قدر أجرة عمله، وهكذا عند المالكية الحنابلة والحنفية إنه يعطى بقدر أجره وعمله، روى أبوعبيد عن مالك أنه قال: ليس

(11/462)


للعامل على الصدقة فريضة مسماة، إنما ذلك إلى نظر الإمام وإجتهاده. قال أبوعبيد: وكذلك قول سفيان وأهل العراق، وهذا عندنا هو المعمول به لا قول من يذهب إلى توقيت الثمن. ولو كان ذلك محدودا لكانت حال الأصناف الثمانية كلهم كحالهم، أي كحال العاملين، لكنهم عندنا إنما هم ولاة من ولاة المسلمين كسائر العمال من الأمراء والحكام وجباة الفيء وغير ذلك فإنما لهم من المال بقدر سعيهم وعمالتهم ولا يبخسون منه شيئا ولا يزادون عليه - انتهى. ثم إنه يبدأ بإعطاء العامل عند المالكية والحنابلة. لأنه يأخذه على طريق المعاوضة فكان إستحقاقه أقوى ولذلك يعطى جميعها إن كانت قدر عمله وإذا عجزت عن أجره تمم له من بيت المال. ولا يزاد على نصف ما يجمعه عند الحنفية، وعلى الثمن عند الشافعية. قال في الأحياء: إن فضل شيء من الثمن عن أجر مثله رد على بقية الأصناف، وإن نقص كمل من مال المصالح - انتهى. ثم اختلفوا: في أن الاستحقاق العامل بعمله هل على سبيل الكفاية له ولا عوانه أو على سبيل
أو لغارم

(11/463)


الأجرة. فقال الحنفية: كما في البدائع على سبيل الكفاية لا على طريق الأجرة، لأن مجهولة. لأن قدر الكفاية له ولا عوانه غير معلوم. ولأن الأجرة لا تكون إلا على عمل معلوم ومدة معينة. وقال غيرهم: بطريق الأجرة لكن عند الشافعية يستحق أجرة المثل. وقال ابن قدامة: (ج6:ص426) الامام مخير بين أن يستأجر العامل إجارة صحيحة بأجر معلوم إما على مدة معلومة وإما على عمل معلوم، وبين أن يجعل له جعلا معلوما على عمله فإذا عمله استحق المشروط وإن شاء بعثه من غير تسمية ثم أعطاه، فإن عمر رضي الله عنه قد عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما رجع من عمله فقال عمر: أعطه أحوج مني - الحديث. فإن تلفت الصدقة بيده قبل وصولها إلى أربابها من غير تفريط فلا ضمان عليه، ويستحق أجرة من بيت المال وإن لم تتلف أعطى أجر عمله منها، وإن كان أكثر من ثمنها أو أقل. ثم قسم الباقي على أربابها لأن ذلك من مؤنتها فجرى مجرى علفها ومداومتها، وإن رأى الامام أعطاه أجرة من بيت المال أو يجعل له رزقا في بيت المال ولا يعطيه منها شيئا فعل -انتهى. قلت: الظاهر عندي إن العامل يستحقه على سبيل الأجرة، لأن سبب الاستحقاق إنما هو عمله فيكون المأخوذ في مقابلته أجرة، فيعطى عمالة بقدر عمله وأجرة مثله، فإن كانت زائدة على حاجته أو كان غير محتاج فله أن يأكل منها ويتصدق، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: كل وتصدق، وقد يجب عليه الزكاة فيما يأخذ منها بشروطها من النصاب والحول، وقد يستغنى عنه فيسقط سهمه. ثم هذا مخصص بما تقدم من حديث المطلب بن ربيعة وحديث أبي رافع فلا يعطى العامل الهاشمي ومولاه عمالته منها (أو لغارم) هو من غرم لا لنفسه بل لغيره كإصلاح ذات البين بأن يخاف وقوع فتنة بين شيخين أو قبيلتين فيستدين من يطلب صلاح الحال بينهما مالا لتسكين الثائرة فيجوز له أن يقضى ذلك من الزكاة وإن كان غنيا، هذا فسره الشافعي والجمهور. قال ابن تيمية في

(11/464)


المنتقى يحمل هذا الغارم على من تحمل حمالة لإصلاح ذات البين كما في حديث قبيصة الآتي لا لمصلحة نفسه لقوله في حديث أنس، أو لذي غرم مفظع - انتهى. وقال الخطابي: أما الغارم الغني فهو الرجل يتحمل الحمالة ويدان في المعروف وإصلاح ذات البين، وله مال إن بيع فيها افتقر فيوفر عليه ماله، ويعطى من الصدقة ما يقضي به دينه. وأما الغارم الذي يدان نفسه وهو معسر فلا يدخل في هذا المعنى، لأنه من جملة الفقراء - انتهى. وقال أبوحنيفة: الغارم مديون استغرق دينه ماله، وفي الهداية الغارم من لزمه دين ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه. ورد بأنه من جملة الفقراء، والحاصل إن الغارم يحل له أخذ الزكاة لقضاء ما تحمل وإن كان غنيا فهو كالغازي والمؤلف عند الشافعي وأحمد والجمهور. قال أبوحنيفة: لا تحل له إلا إذا كان فقيرا لعموم حديث عبدالله بن عمرو المتقدم مع حديث معاذ. قال الشوكاني: لا وجه لاشتراط الفقر فيه فإن القرآن لم يشترط ذلك، والسنة المطهرة مصرحة بعدم اشتراط الفقر فيه، كما في حديث أبي سعيد فذكره، ثم قال فهذا الحديث فيه التصريح بعدم اشتراط الفقر في الغارم. ومن ذكر معه بل
أو لرجل اشتراها بماله،

(11/465)


يعطى الغارم من الزكاة ما يقضى دينه. وإن كان أنصبا كثيرة، وأجاب الكاساني عن هذا الحديث بمثل ما أجاب به في مسألة الغازي، فقال تسمية الغارم غنيا على اعتبار ما كان قبل حلول الغرم به، وقد حدثت له الحاجة بسبب الغرم وقد تقدم الجواب عن هذا (أو لرجل) أي غني (اشتراها) أي الزكاة من الفقير (بماله) وهذا بعمومه يقتضى جواز شراء المتصدق صدقته ممن دفعها إليه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومن وافقهما، وحمل هؤلاء قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تبتعه ولا تعد في صدقتك على كراهة التنزيه. وذهب قوم إلى عدم جواز شراء صدقة نفسه، وحملوا النهى على التحريم، وقالوا المراد بالرجل الغني في حديث أبي سعيد غير المتصدق، فيجوز له شراء صدقة غيره. قال ابن قدامة (ج2:ص651) وليس لمخرج الزكاة شراءها ممن صارت إليه، وروى ذلك عن الحسن وهو قول قتادة ومالك. قال أصحاب مالك: فإن اشتراها لم ينقض البيع. وقال الشافعي وغيره: يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة، رجل ابتاعها بماله. وروى سعيد في سننه إن رجلا تصدق على أمه بصدقة ثم ماتت، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد قبل الله صدقتك وردها إليك الميراث وهذا في معنى شراءها. ولأن ما صح أن يملك إرثا صح أن يملك ابتياعا كسائر الأموال. ولنا ما روى عمر أنه قال حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده وظننت أنه بائعه برخص، فأردت أن أشتريه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تبتعه ولا تعد في صدقتك ولو أعطاكه بدرهم - الحديث متفق عليه. فإن قيل يحتمل إنها كانت حبسا في سبيل الله فمنعه لذلك، قلنا لو كان حبسا لما باعها الذي هي في يده، ولا هم عمر بشراءها. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أنكر بيعها إنما أنكر على عمر الشراء معللا بكونه عائدا في الصدقة الثاني إننا نحتج بعموم اللفظ من غير نظر إلى خصوص السبب. فإن النبي - صلى

(11/466)


الله عليه وسلم - قال: لا تعد في صدقتك أي بالشراء، والأخذ بعموم اللفظ أولى من التمسك بخصوص السبب، فإن قيل: إن اللفظ لا يتناول الشراء فإن العود في الصدقة استرجاعها بغير عوض وفسخ للعقد كالعود في الهبة، ولو وهب إنسانا شيئا ثم اشتراه منه جاز. قلنا: النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر ذلك جوابا لعمر حين سأله عن شراء الفرس، فلو لم يكن اللفظ متناولا للشراء المسئول عنه لم يكن مجيبا له، ولا يجوز إخراج خصوص السبب من عموم اللفظ، لئلا يخلو السؤال عن الجواب. وقد روى عن جابر وابن عمر النهى عن اشتراء المتصدق صدقته، ولأن في شراءه لها وسيلة إلى استرجاع شيء منها. لأن الفقير يستحي منه فلا يماكسه في ثمنها، وربما رخصها له طمعا في أن يدفع إليه صدقة أخرى. أما حديثهم فنقول به وإنها ترجع إليه بالميراث وليس هذا محل النزاع. قال ابن عبدالبر: كل العلماء يقولون إذا رجعت إليه بالميراث طابت له إلا ابن عمر والحسن بن حي، وليس البيع في معنى الميراث لأن الملك ثبت بالميراث حكما بغير اختياره، وحديث أبي سعيد
أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين للغنى)). رواه مالك وأبوداود.

(11/467)


عام وحديثنا خاص فالعمل به أولى - انتهى. وقال الشوكاني: لا معارضة بين الحديثين، لأن حديث عمر في صدقة التطوع وحديث أبي سعيد في صدقة الفريضة، فيكون الشراء جائزا في صدقة الفريضة إلى آخر ما قال (أو لرجل) أي غني (كان له جار) ذكره تمثيلا لا إحترازا فلا مفهوم له (مسكين) المراد به ما يعم الفقير أيضا (فتصدق) بصيغة المجهول (على المسكين) بشيء (فأهدى) أي ذلك الشيء (المسكين) بالرفع (للغني) أي فيحل له كما تقدم في قصة بريرة، وفي هذا والذي قبله دليل على أن الزكاة، والصدقة إذا بلغت محلها ملكها الآخذ فيجوز له التصرف فيها بالبيع والصدقة والهدية، وتغيرت صفتها وزال عنها اسم الزكاة وتغيرت الأحكام المتعلقة بها. والحكم المذكور في الحديث إنما هو صدقة الفريضة. وأما التطوع فيحل للغني والفقير مطلقا (رواه مالك) أي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا (وأبوداود) وأخرجه أيضا الحاكم (ج1:ص408) كلاهما من طريق مالك ورواه البيهقي من طريق أبي داود (ج7:ص15) قال أبوداود: ورواه ابن عيينة عن زيد بن أسلم كما قال مالك أي مرسلا، ورواه الثوري عن زيد فقال: حدثني الثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - انتهى. وأخرجها أبوعبيد في الأموال (ص549-610) قال حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا. قال ابن عبدالبر: قد وصل هذا الحديث جماعة من رواية زيد بن أسلم - انتهى. قلت اختلف في هذا الحديث على زيد بن أسلم عن عطاء. فقال مالك وابن عيينة وغيرهما: من أصحابه عنه، هكذا مرسلا. ورواه الثوري.فقيل عنه هكذا، وقيل عن عطاء حدثني الثبت كما أشار إليه أبوداود.وقيل عن عطاء عن أبي سعيد الخدري أخرجه الدارقطني (ص211) والبيهقي (ج7:ص15) من طريق عبدالرزاق عن معمر والثوري كلاهما عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد. ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد من غير خلاف فيه، أخرجه أبوداود وابن ماجه وأحمد (ج3:ص56)

(11/468)


والبزار والحاكم (ج1:ص407) والبيهقي (ج7:ص15-22) والوصل زيادة من الثقة العدل لا يحل تركها، فلا يلتفت إلى قول من أعله بإرسال من أرسله كائنا من كان، وقد صححه جماعة كما قال الحافظ في التلخيص. ومنهم الحاكم حيث قال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. قال الحاكم: ولم يخرجه الشيخان لإرسال مالك إياه عن زيد بن أسلم، ثم رواه من طريقه مرسلا، وقال هذا من شرط في خطبة الكتاب إنه صحيح فقد يرسل مالك في الحديث ويصله ويسنده ثقة، والقول قول الثقة الذي يصله ويسنده.
1849- (14) وفي رواية لأبي داود عن أبي سعيد: أو ابن السبيل.
1850- (15) وعن زياد بن الحارث الصدائي، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فذكر حديثا طويلا، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها هو

(11/469)


1849- قوله: (وفي رواية داود عن أبي سعيد) هذه الرواية من رواية عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد، وقد أخرجها البيهقي (ج7:ص22-23) والطحاوي (ج1:ص206) أيضا. قال المنذري: وعطية هو ابن سعد أبوالحسن العوفي الكوفي ولا يحتج بحديثه (أو ابن السبيل) هو الغريب المنقطع عن ماله، وإن كان غنيا في وطنه. قال ابن قدامة: (ج6:ص438) هو المسافر الذي ليس له ما يرجع به إلى بلده وله اليسار في بلده فيعطى ما يرجع به، وهذا قول قتادة، ونحوه قال مالك وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: هو المجتاز، ومن يريد إنشاء السفر إلى بلد أيضا فيدفع إليهما ما يحتاجان إليه لذهابهما وعودهما، لأنه يريد السفر لغير معصية، فأشبه المجتاز. ولنا أن ابن السبيل هو الملازم للطريق الكائن فيها كما يقال "ولد الليل" للذي يكثر الخروج فيه، والقاطن في بلده ليس في طريق، ولا يثبت له حكم الكائن فيها ولهذا لا يثبت له حكم السفر بهمه به دون فعله، ولأنه لا يفهم من ابن السبيل إلا الغريب دون من هو في وطنه ومنزله، وإن انتهت به الحاجة منتهاها فوجب أن يحمل المذكور في الآية (وكذا في الحديث) على الغريب دون غير إلى آخر ما بسطه. قال البيهقي: (ج7:ص23) هذا الحديث إن صح قائما أراد والله أعلم. ابن سبيل غني في بلده، محتاج في سفره. وحديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد أصح طريقا، وليس فيه ذكر ابن السبيل - انتهى. قلت مدار هذه الرواية على عطية العوفي، وقد تقدم كلام المنذري فيه. وقال أبوداود: ليس بالذي يعتمد عليه، وضعفه أحمد وأبوحاتم والنسائي، وذكره ابن حبان في الضعفاء. وقال أبوزرعة لين. وقال الحافظ: صدوق يخطيء كثيرا كان شيعيا مدلسا.

(11/470)


1850- قوله: (الصدائي) بضم صاد وخفة دال مهملة فألف فهمزة نسبة إلى صداء (فذكر) أي زياد بن الحارث (حديثا طويلا) رواه المزي في تهذيبه بسنده عن زياد بن نعيم الحضرمي عن زياد بن الحارث، ونقله عنه في حاشية تهذيب التهذيب تحت ترجمة زياد بن الحارث (فأتاه) أي أتى النبي صلى الله عليه وسلم (رجل) لم يعرف اسمه (فقال) أي الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات) أي في مصارفها (حتى حكم فيها هو) بنفسه. قال الخطابي: فيه دليل على أن بيان الشريعة قد يقع من وجهين أحدهما
فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك)).

(11/471)


ما تولى الله بيانه في الكتاب، وأحكم فرضه فليس به حاجة إلى زيادة من بيان النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان شهادات الأصول والوجه الآخر ما ورد ذكره في الكتاب مجملا، ووكل بيانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو يفسره قولا وفعلا. أو يتركه على إجماله ليتنبه فقهاء الأمة ويستدركوه استنباطا وإعتبارا بدلائل الأصول، وكل ذلك بيان مصدره عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - (فجزأها) بتشديد الزاي فهمز من التجزئة أي قسم أصحابها (ثمانية أجزاء) أي أصناف أو قسم مصارفها ثمانية أنواع (فإن كنت من تلك الأجزاء) أي من أصحاب تلك الأجزاء (أعطيتك) كذا في جميع النسخ، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى، ووقع في سنن أبي داود أعطيتك حقك، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول، والبغوي في المصابيح، والخطابي في المعالم. وكذا وقع عند البيهقي. والظاهر أنه سقط لفظ حقك من نسخ المشكاة من النساخ، أو قلد المصنف في ذلك صاحب المنتقى. قال الخطابي (ج2:ص56): في قوله "فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك" دليل على أنه لا يجوز جمع الصدقة كلها في صنف واحد، وإن الواجب تفرقتها على أهل السهمان بحصصهم، ولو كان معنى الآية بيان المحل دون الحصص لم يكن للتجزئة معنى، ويدل على صحة ذلك قوله "أعطيتك حقك" فبين إن لأهل كل جزء على حدة حقا، وإلى هذا ذهب عكرمة وهو قول الشافعي قلت: اختلف الأئمة في أنه هل يجوز إن تصرف جميع الصدقة إلى صنف واحد من الأصناف المنصوصة مع وجود جميعها، أم هم شركاء في الصدقة، لا يجوز أن يخص بها صنف دون صنف. فذهب مالك وأبوحنيفة وأصحابه وأحمد إلى أنه يجوز للإمام أن يصرفها في صنف واحد، ويجوز أن يعطيها شخصا واحدا، وهو قول حذيفة وابن عباس وعمر. وبه قال سعيد بن جبير، والحسن والنخعي وعطاء. واليه ذهب الثوري وأبوعبيد والشعبي. وقال الشافعي وأصحابه: لا يجوز ترك صنف منهم مع وجوده بل يجب التعميم في القسمة، واستيعاب الأصناف

(11/472)


والتسوية بينها، وروى عن النخعي أنه قال إن كان المال كثيرا يحتمل الأصناف قسمه عليهم، وإن كان قليلا جاز وضعه في صنف واحد. وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم، ويقدم الأولى فالأولى. وقال أحمد: تفريقها وتعميمها أولى ويجزئه أن يضعه في صنف واحد. وقال الحنفية: صاحب المال مخير إن شاء أعطى جميعهم، وإن شاء اقتصر على صنف واحد، وكذا يجوز أن يقتصر على شخص واحد من أي صنف شاء. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم معارضة اللفظ للمعنى فإن اللفظ يقتضى القسمة بين جميعها، والمعنى يقتضى أن يؤثر بها أهل الحاجة إذ كان المقصود بها سد الخلة فكان تعديدهم في الآية عند هؤلاء، إنما ورد لتمييز الجنس أعنى أهل الصدقات لا تشريكهم في الصدقة، فالأول أظهر من جهة اللفظ، وهذا أظهر من المعنى. ومن الحجة للشافعي ما رواه أبوداود عن الصدائي - انتهى. قلت: المشهور إن اللام في الآية للصيرورة عند المالكية وللملك عند
..........................

(11/473)


الشافعية وهو الذي يقتضيه مذهبهم، وعند الحنفية للاختصاص لا للملك يعني إنهم مختصون بالزكاة، ولا تكون لغيرهم كقولهم الخلافة لقريش، والسقاية لبني هاشم أي لا يوجد ذلك في غيرهم فتكون اللام لبيان محل صرفها أي المقصود من الآية بيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا تعيين الدفع لهم. قال الطيبي: إنما سمي الله تعالى الأصناف الثمانية في آية الصدقات إعلاما منه إن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف، لا إيجاب التقسيم فيما بينهم جميعا، يدل عليه إيراد الآية بأداة الحصر. أي إنما الصدقات لهؤلاء الأصناف، لا لغيرهم - انتهى. والتمليك ركن من أركان الزكاة عند الحنفية، واستدلوا لذلك بوجوه بسطها ابن الهمام وغيره. منها: إن الله تعالى سماها صدقة وحقيقة الصدقة تمليك المال من الفقير. ومنها: قوله تعالى: ?وآتوا الزكاة?[البقرة:43] والإيتاء هو التمليك. ومنها: قوله تعالى: ?إنما الصدقات للفقراء?[التوبة:60] الآية. وقوله تعالى: ?وفي أموالهم حق للسائل والمحروم?[الذاريات:19] قال في البدائع: والإضافة بحرف اللام تقتضي الاختصاص بجهة الملك إذا كان المضاف إليه من أهل الملك. وقال بعضهم: اللام في الآية للعاقبة. قال في العناية: معناه إن المقبوض يصير ملكا لهم في العاقبة فهم مصاريف ابتداء لا مستحقون ثم يحصل لهم الملك في العاقبة بدلالة اللام واعترض عليه بأنه لا يدل لام العاقبة على التمليك، كما في قوله تعالى: ?فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا?[الكهف:8] وكما قال الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب

(11/474)


ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ: تؤخذ من أغنياءهم وترد على فقراءهم. قالوا: الرد على الفقراء لا يكون إلا بتمليكهم إياها، وأجاب الحنفية عن حديث الصدائي بأنه ضعيف وعلى تسليم صحته ليس فيه دلالة إلا على أن الزكاة لا تصرف إلا إلى هذه الأجزاء الثمانية، لا إنها تصرف إلى جميع هذه الأجزاء، وإنما جزأ الله ثمانية لئلا تخرج الصدقة عن تلك الأجزاء. وقال الشوكاني في وبل الغمام: بعد الإشارة إلى تضعيف هذا الحديث ما نصه وعلى فرض صلاحيته للاحتجاج فالمراد بتجزئة الصدقة تجزئة مصارفها كما هو ظاهر الآية التي قصدها - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان المراد تجزئة الصدقة نفسها. وإن كل جز لا يجوز صرفه في غير الصنف المقابل له لما جاز صرف نصيب ما هو معدوم من الأصناف إلى غيره وهو خلاف الإجماع، وأيضا لو سلم ذلك لكان باعتبار مجموع الصدقات التي تجتمع عند الإمام لا باعتبار صدقة كل فرد، فلم يبق ما يدل على وجوب التقسيط بل يجوز إعطاء بعض المستحقين بعض الصدقات، وإعطاء بعضهم بعضا، نعم إذا جمع الإمام جميع صدقات أهل قطر من الأقطار وحضر عنده جميع الأصناف الثمانية كان لكل صنف حق في مطالبته، بما فرضه الله تعالى له، وليس عليه تقسيط ذلك بينهم بالسوية ولا تعميمهم بالعطاء، بل له أن يعطى بعض الأصناف أكثر من البعض الآخر، وله أن يعطى بعضهم
رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
1851- (16) عن زيد بن أسلم، قال: ((شرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبنا فأعجبه، فسأل الذي سقاه، من أين هذا اللبن؟ فأخبره إنه ورد

(11/475)


دون بعض، إذا رأى في ذلك صلاحا عائدا على الإسلام وأهل مثلا إذا جمعت لديه الصدقات وحضر الجهاد وحقت المدافعة على حوزة الإسلام من الكفار أو البغاة، فإن له تأثير صنف المجاهدين بالصرف إليهم، وإن استغرق جميع الحاصل من الصدقات، وهكذا إذا اقتضت المصلحة تأثير غير المجاهدين - انتهى. قلت: واستدل للأئمة الثلاثة بقوله تعالى: ?إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم?[البقرة:271] وقد تناول جنس الصدقات. والضمير عائد إلى الصدقات وهو عام يتناول جميع الصدقات وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين بعثه إلى اليمن أعلمهم صدقة تؤخذ من أغنياءهم فترد في فقراءهم فلم يذكر في الآية ولا في الحديث، إلا صنفا واحدا. وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لقبيصة حين تحمل حمالة أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، فذكر دفعها إلى صنف واحد وهو من الغارمين، وأمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر وهو شخص واحد، وقسم الذهبية التي بعث بها إليه علي من اليمن بين المؤلفة قلوبهم، وهم صنف واحد. وإنما يؤخذ من أهل اليمن الصدقة، وبما روى في ذلك من آثار الصحابة كحذيفة وابن عباس وعمر وعلي رضي الله عنهم. قلت: أقرب أقوال الأئمة في هذه المسألة وأرجحها عندي قول مالك وإبراهيم النخعي وهو مختار الشوكاني، كما يدل عليه كلامه الذي نقلنا من وبل الغمام (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا الدارقطني (ص218) والطحاوي (ج1:ص304) والبيهقي (ج7:ص6) وسكت عنه أبوداود والبيهقي. وقال المنذري: في إسناده عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وقد تكلم فيه غير واحد - انتهى. قلت: تفرد به عبدالرحمن وقد ضعفه القطان وابن مهدي وابن معين وابن حنبل وغيرهم وضعفه أيضا البيهقي. وقال الترمذي: رأيت البخاري يقوى أمره. وقال هو مقارب الحديث. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف في الحفظ وكان رجلا صالحا.

(11/476)


1851- قوله: (فأعجبه) قال القاري: أي وافق هوى نفسه فأنكره بالاستدلال القلبي أو الالهمام الغيبي (فسأل الذي سقاه من أين) حصل لك (هذا اللبن) قال الغزالي: سأل عمر رضي الله عنه اذرابه فانه أعجبه طعمه ولم يكن على ما كان يألفه كل ليلة، وهذا من أسباب الريبة وحمله على الورع ذكره القاري (ورد) أي مر
عل ماء قد سماه، فإذا نعم من نعم الصدقة وهم يسقون، فحلبوا من ألبانها فجعلته في سقائى فهو هذا. فأدخل عمر يده، فاستقاء)). رواه مالك والبيهقي في شعب الإيمان.

(11/477)


(على ماء قد سماه) أي عينه باسمه (فإذا) المفاجأة (نعم) بفتحتين (من نعم الصدقة) وردت هذا الماء (وهم) أي الرعاة (يسقون) أي النعم من ذلك الماء (فحلبوا) وفي نسخ الموطأ الموجودة عندنا فحلبوا لي أي بزيادة لفظه لي بعد حلبوا وكذا وقع عند البيهقي من رواية مالك لكن رقم عليها في نسخ الموطأ علامة النسخة، ونقله في جامع الأصول كما في المشكاة (فجعلته) أي اللبن (في سقائى) بكسر السين (فأدخل عمر يده) أي في فمه أو حلقه (فاستقاءه) أي فتقيأه حتى أخرجه من جوفه. قال الطيبي: هذا غاية الورع والتنزه من الشبه. وقال ابن عبدالبر: محمله عند أهل العلم إن الذي سقاه ليس ممن تحل له الصدقة إذ لعله غني أو مملوك فاستقاءه لئلا ينتفع به، وأصله محظور وإن لم يأته قصدا، وهذا نهاية الورع، ولعله أعطى مثل ذلك أو قيمته للمساكين. ولو كان الذي حلب له هذا اللبن مستحقا للصدقة لما حرم على عمر قصد شربه كما لم يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أكل اللحم الذي تصدق به على بريرة، وقال هو عليها صدقة. ولنا هدية، وما فعله عمر ليس بواجب؛ لأنه استهلكه بالشرب ولا فائدة في قذفه إلا المبالغة في الورع. قلت: وجاء مثل هذا عن أبي بكر أيضا. قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن ابن المنكدر إن أبابكر شرب لبنا فقيل له إنه من الصدقة فتقيأه. وروى البخاري في باب أيام الجاهلية من حديث عائشة قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج وكان أبوبكر يأكل من خراجه فجاءه يوما بشيء فأكل منه أبوبكر فقال له الغلام تدري ما هذا؟ فقال أبوبكر: وما هو. قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا إني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبوبكر يده فقاء كل شيء في بطنه. وذكر الحافظ في الفتح له عدة قصص نحو هذا وهو من كمال ورعه رضي الله عنه (رواه مالك) أي عن زيد بن أسلم إنه قال: شرب عمر بن الخطاب لبنا الخ. وهذا منقطع. ورواه الشافعي عن مالك عن

(11/478)


زيد بن أسلم (والبيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضا في السنن الكبرى (ج7:ص14) من طريق مالك وترجم له باب الخليفة ووالي الإقليم العظيم الذي لا يلي قبض الصدقة ليس لهما في سهم العاملين عليها حق وذكر فيه أيضا ما روى هو وسعيد ابن منصور وأبوعبيد (ص605) من طريق سليمان بن يسار إن ابن أبي ربيعة قدم بصدقات سعى عليها، فلما قدم الحرة خرج عمر بن الخطاب فقرب إليه تمرا ولبنا وزبدا، فأكلوا وأبى عمر أن يأكل. فقال ابن ربيعة: والله أصلحك الله إنا نشرب ألبانها ونصيب منها، فقال: يا ابن أبي ربيعة! لست كهيئتك إنك تتبع أذنابها - انتهى.
(4) باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له
?الفصل الأول?
1852- (1) عن قبيصة بن مخارق، قال: تحملت حمالة. فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أسأله فيها، فقال: ((أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها ثم قال: يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة يصيبها ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة
(باب من لا تحل له المسألة ومن تحله له)

(11/479)


1852- قوله: (عن قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة فمثناة تحتية فصاد مهملة (بن مخارق) بضم الميم وتخفيف المعجمة بعدها راء مكسورة ثم قاف، هو قبيصة بن مخارق بن عبدالله أبوبشر الهلالي صحابي، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه سكن البصرة (تحملت حمالة) بفتح الحاء وتخفيف الميم وهو المال يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة كان يقع حرب بين فريقين، ويسفك فيها الدماء فيدخل بينهم رجل يتحمل ديات القتلي ليصلح ذات البين. والتحمل أن يحملها عنهم على نفسه أي يتكفلها ويلتزمها في ذمته. قال الخطابي: تفسير الحمالة، أن يقع بين القوم التشاجر في الدماء والأموال ويحدث بسببهما العدواة والشحناء ويخاف من ذلك الفتق العظيم فيتوسط الرجل فيما بينهم، ويسعى في إصلاح ذات البين ويتضمن مالا لأصحاب الطوائل يترضاهم بذلك حتى تسكن الثائرة وتعود بينهم الألفة - انتهى. قال الشوكاني: قد كانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك، والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، ولا شك إن هذا من مكارم الأخلاق، وكانوا إذا علموا إن احدهم تحمل حمالة بادروا إلى معونته وأعطوه ما تبرأ به ذمته، وإذا سأل لذلك لم يعد نقصا في قدره بل فخرا - انتهى. (أسأله فيها) أي في الحمالة بمعنى لأجلها (أقم) أمر من الإقامة بمعنى اثبت واصبر. وقال السندي: أي كن في المدينة مقيما (حتى تأتينا الصدقة) أي يحضرنا مالها (فنأمر لك) بنصب الراء (بها) أي بالصدقة أو بالحمالة (إن المسألة) أي السؤال (لا تحل إلا لأحد ثلاثة) أي لا تحل إلا لصاحب ضرورة ملجئة إلى السؤال كأصحاب هذه الضرورات (رجل) بدل "من أحد". وقال ابن الملك: بدل من "ثلاثة" وبالرفع خبر مبتدأ محذوف أي أحدهم (فحلت له المسألة) أي جازت (حتى يصيبها) أي الحمالة (ثم يمسك) أي عن السؤال؛ لأن السؤال حل له لأجل الحمالة فلما أصابها إرتفعت الإباحة فيجب أن يمسك

(11/480)


عنه (ورجل) بالوجهين (أصابته جائحة)
اجتاحت ماله، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواما من عيش، أو قال سدادا من عيش.ورجل أصابته فاقة، حتى يقوم ثلاثة من ذوى الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة، حتى يصيب قواما من عيش، أو قال سدادا من عيش. فما سواهن من المسألة يا قبيصة؟ سحت يأكلها صاحبها سحتا)).
هي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها كالغرق والحرق والبرد للزرع والثمار، من جاحه يجوحه إذا استأصله (إجتاحت) أي استأصلت وأتلفت (ماله) من ثمار بستانه أو غيرها من الأموال (قواما) بكسر القاف أي ما يقوم به حاجته ويسد به خلته (من عيش) أي معيشة من قوة ولباس (أو قال) شك من الراوي (سداد) بكسر السين ما تسد به حاجته وخلته. قال النووي: القوام والسداد بكسر القاف والسين وهما بمعنى، وهو ما يغنى من شيء وما تسد به الحاجة. وقال المنذري: القوام بفتح القاف وكسرها أفصح هو ما يقوم به حال الإنسان من مال غيره، والسداد بكسر السين هو ما يسد حاجته المعوذ ويكفيه (ورجل) بالوجهين (فاقة) أي حاجة أي كان غنيا موسرا ثم افتقر وأصابته فاقة ولم يعرف حاله (حتى يقوم) أي على رؤس الأشهاد (ثلاثة من ذوي الحجي) بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم بعدها ألف مقصورة، أي العقل والفطنة (من قومه لقد أصابت فلانا فاقة) أي يقوم ثلاثة قائلين هذا القول. قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ أي من صحيح مسلم حتى يقوم ثلاثة وهو صحيح، أي يقومون بهذا الأمر فيقولون لقد أصابته فاقة - انتهى. وقال الصغاني: هكذا وقع في كتاب مسلم يقوم، والصحيح يقول باللام، وكذا أخرجه أبوداود وكذا في المصابيح. وأجيب بأن تقدير القول مع القيام آكد. قال السندي: وهذا كناية عن كون تلك الفاقة محققة لا مخيلة حتى لو استشهد عقلاء قومه بتلك الفاقة لشهدوا بها، والفرق بين هذا القسم والقسم السابق، إن الفاقة في القسم الأول ظاهرة بين غالب الناس وفي هذا القسم خفية

(11/481)


عنهم (وما سواهن) أي هذه الأقسام الثلاثة من المسألة (سحت) بضم السين وسكون الحاء المهملتين وروى بضم الحاء وهو الحرام. وسمي سحتا؛ لأنه يسحت البركة أي يذهبها ويمحقها (يأكلها) أي يأكل ما يحصل له بالمسألة قاله الطيبي: والحاصل يأكل حاصلها. وقال في سبل السلام: يأكلها أي الصدقة، أنث لأنه جعل السحت عبارة عنها وإلا فالضمير له (صاحبها) أي المسألة (سحتا) نصب على التمييز أو بدل من ضمير يأكلها وجعله ابن حجر حالا. قال ابن الملك: وتأنيث الضمير بمعنى الصدقة والمسألة - انتهى. والحديث دليل على أنها تحرم المسألة من الزكاة إلا لثلاثة الأول لمن تحمل حمالة، وظاهره وإن كان غنيا فإنه
......................

(11/482)


لا يلزمه تسليمه من ماله، وهذا هو أحد الخمسة الذين يحل لهم أخذ الصدقة وإن كانوا أغنياء كما سلف في حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد. والثاني: من أصاب ماله آفة سماوية أو أرضية كالبرد والغرق ونحوه بحيث لم يبق له ما يقوم بعيشه حلت له المسألة، حتى يحصل له ما يقوم بحالة ويسد خلته. والثالث: من أصابته فاقة ولكن لا تحل له إلا بشرط أن يشهد له من قومه؛ لأنهم أخبر بحاله ثلاثة من ذوي العقول، لا من غلب عليه البغاوة والتغفيل هو محمول على من كان معروفا بالغنى ثم افتقر. أما إذا لم يكن كذلك فإنه يحل له السؤال وإن لم يشهدوا له بالفاقة، ويقبل قوله وظاهره إعتبار شهادة ثلاثة على الإعسار، وقد ذهب إلى ذلك ابن خزيمة وبعض أصحاب الشافعي. وقال الجمهور: تقبل شهادة عدلين كسائر الشهادات غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب. قال الخطابي: في هذا الحديث علم كثير وفوائد جمة، وذلك إنه قد جعل من تحل له المسألة من الناس أقساما ثلاثة غنيا وفقيرين، وجعل الفقر على ضربين، فقرا ظاهرا، وباطنا، فالغنى الذي تحل له المسألة، هو صاحب الحمالة، وهي الكفالة والحميل الضمين والكفيل، ثم ذكر تفسير الحمالة كما نقلنا عنه. ثم قال فهذا الرجل صنع معروفا وابتغى بما أتاه صلاحا فليس من المعروف أن تورك الغرامة عليه في ماله، ولكن يعان على أداء ما تحمله منه ويعطى من الصدقة قدر ما يبرأ به ذمته ويخرج من عهدة ما تضمنه منه: وأما النوع الأول من نوعي أهل الحاجة فهو رجل أصابته جائحة في ماله فأهلكته، والجائحة في غالب العرف هي ما ظهر أمره من الآفات كالسيل يغرق متاعه، والنار تحرقه، والبرد يفسد زرعه وثماره في نحو ذلك من الأمور، وهذه الأشياء لا تخفى آثارها عند وقوعها، فإذا أصاب الرجل شيء منها فذهب ماله وافتقر حلت له المسألة. ووجب على الناس أن يعطوه الصدقة من غير بينة يطالبونه بها على ثبوت فقره وإستحقاقه إياها. وأما النوع الآخر: فإنما هو فيمن

(11/483)


كان له ملك ثابت وعرف له يسار ظاهر فأدعى تلف ماله من لص طرقه أو خيانة ممن أودعه أو نحو ذلك من الأمور التي لا يبين لها أثر ظاهر في المشاهدة والعيان. فإذا كان ذلك، ووقعت في أمره الريبة في النفوس لم يعط شيئا من الصدقة إلا بعد إستبراء حاله، والكشف عنه بالمسألة عن أهل الاختصاص به والمعرفة بشأنه، وذلك معنى قوله "حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجي من قومه" الخ. واشتراطه "الحجي" تأكيد لهذا المعنى أي لا يكونوا من أهل الغباوة والغفلة ممن يخفى عليهم بواطن الأمور، وليس هذا من باب الشهادة، ولكن من باب التبين والتعريف. وذلك أنه لا مدخل لعدد الثلاثة في شيء من الشهادات، فإذا قال نفر من قومه، أو جيرانه أو ذوى الخبرة بشأنه إنه صادق فيما يدعيه أعطى الصدقة. قال الخطابي: وفي قوله "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" دليل على جواز نقل الصدقة من بلد إلى أهل بلد آخر، وفيه إن الحد الذي ينتهي إليه العطاء في الصدقة هو الكفاية التي يكون بها قوام العيش وسداد الخلة، وذلك يعتبر في كل إنسان بقدر حاله ومعيشته ليس في حد معلوم يحمل عليه الناس كلهم مع اختلاف
رواه مسلم.
1853- وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس أموالهم تكثرا، فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر)) رواه مسلم.
1854- وعن عبدالله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم))
أحوالهم - انتهى. والظاهر من الأحاديث تحريم السؤال إلا للثلاثة المذكورين أو أن يكون المسئول السلطان كما سيأتي (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج3:ص477) و(ج5:ص60) والشافعي (ج2:ص62) وأبوداود والنسائي والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي (ج7:ص21-23) وأبوعبيد (ص230-547).

(11/484)


1853- قوله: (من سأل الناس أموالهم) أي شيئا من أموالهم يقال، سألته الشيء وعن الشيء. قال الطيبي: قوله "أموالهم" بدل اشتمال "من الناس" وقد تقرر عند العلماء إن البدل هو المقصود بالذات، وإن الكلام سبق لأجله فيكون القصد من سؤال هذا السائل نفس المال والإكثار منه لا دفع الحاجة، فيكون مثل هذا المال كنز يترتب عليه فإنما يسأل جمرا - انتهى. (تكثرا) مفعول له أي ليكثر به ماله لا للاحتجاج. وقيل: أي بطريق الإلحاح والمبالغة في السؤال (فإنما يسأل جمرا) أي قطعة من نار جهنم يعني ما أخذ سبب للعقاب بالنار، وجعله جمرا للمبالغة فهذا كقوله تعالى: ?إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، إنما يأكلون في بطونهم نارا?[النساء:10] أي ما يوجب نارا في العقبى، ويجوز أن يكون على ظاهره، وإن الذي يأخذه يصير جمرا حقيقة يعذب ويكوى به كما ثبت في مانعى الزكاة (فليستقل) من السؤال أو الجمر (أو ليستكثر) أي ليطلب قليلا أو كثيرا ولينظر في عاقبته وهذا توبيخ له وتهديد كما في قوله تعالى: ?فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر?[الكهف:29] لا إلاذن والتخيير. قال في السبل قوله "فليستقل" أمر للتهكم ومثله ما عطف عليه، أو للتهديد من باب اعملوا ما شئتم وهو مشعر بتحريم السؤال للاستكثار (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والبيهقي.
1854- قوله: (ما يزال الرجل) والمرأة (يسأل الناس) أموالهم أي تكثرا وهو غنى كما سيأتي (مزعة لحم) مزعة بضم الميم وحكى كسرها وسكون الزاى بعدها مهملة أي قطعة من لحم أو نتفة منه. وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح الميم والزاي. والذي أحفظه من المحدثين الضم. قال الخطابي: يحتمل وجوها. أن يأتي
متفق عليه.
1855 - (4) وعن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألة مني شيئا، وأنا كاره، فيبارك له فيما أعطيته))

(11/485)


ذليلا ساقطا لا جاه له ولا قدر، كما يقال لفلان وجه عند الناس فهو كناية. وأن يكون قد نالته العقوبة في وجهه فعذب حتى سقط لحمه على معنى مشاكلة عقوبة الذنب مواضع الجناية من الأعضاء كقوله صلى الله عليه وسلم: رأيت ليلة أسرى بي قوما تقرض سفاههم فقلت: يا جبريل! من هؤلاء ؟ قال: هم الذين يقولون ما لا يفعلون. وأن يبعث ووجهة عظم كله فيكون ذلك علامة له وشعارا يعرف به، وإن لم يكن من عقوبة مسته في وجهه -انتهى. قال الحافظ: الأول صرف للحديث عن ظاهره وقد يؤيده ما أخرجه الطبراني والبزار من حديث مسعود بن عمر. ومرفوعا، لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه فلا يكون له عند الله وجه. ومال المهلب إلى حمله على ظاهره، وإلى أن السر فيه إن الشمس تدنو يوم القيامة، فإذا جاء لا لحم بوجهه كانت أذية الشمس له أكثر من غيره قال. والمراد به من سأل تكثرا وهو غني لا تحل له الصدقة، وأما من سأل وهو مضطر فذلك مباح له فلا يعاقب عليه - انتهى. قلت: ظاهر الحديث يدل على ذم تكثير السؤال وقبحه، وإن كل مسألة تذهب من وجهه قطعة لحم حتى لا يبقى فيه شيء لقوله "لا يزال" وفهم البخاري إنه وعيد لمن يسأل تكثرا، يعني سأل ليجمع الكثير من غير احتياج إليه، فإنه ترجم له بباب من سأل تكثرا، والفرق بينهما ظاهر فقد يسأل الرجل دائما، وليس متكثرا لدوام افتقاره واحتياجه لكن لما كان المتوعد عليه على ما تشهد به القوائد هو السائل عن غني وكثرة، وإن سؤال ذي الحاجة مباح نزل البخاري - الحديث. على من يسأل ليكثر ماله (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج2:ص15-88) والنسائي والبيهقي (ج4:ص196).

(11/486)


1855- قوله: (وعن معاوية) أي ابن أبي سفيان (لا تلحفوا في المسألة) مصدر بمعنى السؤال أي لا تبالغوا ولا تلحوا من الحف في المسألة إذا ألح فيها. قال تعالى: ?لا يسألون الناس إلحافا?[البقرة: 273] واشتقاق الحف من اللحاف؛ لأنه يشتمل على وجوه الطلب كإشتمال اللحاف في التغطية (فوالله لا يسألني) أي بالإلحاف (فتخرج) بالتأنيث منصوبا ومرفوعا والنسبة مجازية سببية في الإخراج (وأنا له) أي لذلك الشيء يعني لإعطائه أو لذلك الإخراج الدال عليه تخرج والواو للحال (فيبارك) بالنصب مجهولا (له فيما أعطيته) أي على تقدير الإلحاف. قال الطيبي: بالنصب بعد الفاء على معنى الجمعية أي لا يجتمع إعطائي كارها مع البركة - انتهى. وسره إن النفوس اللاحقة بالملاء الأعلى تكون الصورة الذهنية فيها من الكراهة والرضا بمنزلة الدعاء المستجاب
رواه مسلم.
1856 - (5) وعن الزبير بن العوام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيبيعها.

(11/487)


والله أعلم، كذا في حجة الله البالغة. قال القاري: وفي نسخة بالرفع فيقدر هو فيكون كقوله تعالى: ?ولا يؤذن لهم فيعتذرون?[المرسلات:36] انتهى. وفي رواية لمسلم قال: أي معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما أنا خازن فمن أعطيته عن طيب نفس فمبارك له فيه، ومن أعطيته عن مسألة وشره نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع. قال النووي في شرح مسلم: اتفق العلماء على النهى عن السؤال لغير ضرورة، واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين: أصحهما أنها حرام لظاهر الأحاديث. والثاني: حلال مع الكراهة بثلاثة شروط أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسئول فان فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق - انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص98) والنسائي والدارمي والبيهقي (ج4:ص196) وفي الباب عن ابن عمر عند أبي يعلى ذكره المنذري في الترغيب، وقال رواته محتج بهم في الصحيح.

(11/488)


1856- قوله: (وعن الزبير بن العوام) بفتح العين المهملة وتشديد الواو وهو الزبير بن العوام بن خويلد ابن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب أبوعبدالله الأسدي القرشي حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية بنت عبدالمطلب وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى أسلم وله اثنتا عشر سنة. وقيل: ثمان سنين. وكان عم الزبير وهو نوفل بن خويلد يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ليرجع إلى الكفر فيقول: لا أكفر أبدا، شهد بدرا وما بعدها، وهاجر الهجرتين. وهو أول من سل سيفا في سبيل الله وذلك إن الشيطان نفخ نفخة فقال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل الزبير يشق الناس بسيفه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بأعلى مكة. وفي رواية فقيل: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج الزبير متجردا بالسيف صلتا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه إبناه عبدالله وعروة والأحنف وغيرهم، وكان في صدره أمثال العيون من الطعن والرمي أصابه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله، قتل في جمادى الآخرة سنة (36) بعد منصرفة من وقعة الجمل، وله ست أو سبع وستون سنة. وكان الذي قتله عمرو بن جرموز التميمي قتله غدرا بوادي السباع ناحية البصرة ودفن فيه، وقال علي رضي الله عنه لمن آذنه بقتله: بشر قائل ابن صفية بالنار (لأن يأخذ) بفتح اللام (أحدكم حبله) أي فيجمع حطبا ثم يربط به (فيأتي بحزمة حطب على ظهره) قال ابن الملك: الحزمة بضم الحاء قدر ما يحمل بين العضدين والصدر، ويستعمل فيما يحمل على الظهر من الحطب. وقال في الصراح: حزمة بالضم بند هيزم (فبيعها) قيل:
فيكف الله بها وجهه، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه)). رواه البخاري.
1857- (6) وعن حكيم بن حزام، قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال لي: يا حكيم! إن هذا المال خضر حلو.

(11/489)


منصوب بتقدير"إن" أي فإن يبيع تلك الحزمة (فكيف) بالنصب أيضا (الله بها) أي فيمنع الله بسبب الحزمة وثمنها (وجهه) أي من أن يريق ماءه بالسؤال (خير له) قال الحافظ: ليست "خير" هنا بمعنى التفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، والأصح عند الشافعية إن سؤال من هذا حاله حرام. ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل وتسميته الذي يعطاه خيرا، وهو في الحقيقة شر - انتهى. وقال السندي في حاشية مسلم: قوله "خير له" الخ. أي لو فرض في السؤال خيريه لكان هذا خبرا منه، إلا فمعلوم أنه لا خيرية في السؤال. وقال في حاشية ابن ماجه: الكلام من قبيل "وإن تصوموا خيرا لكم" والمراد إن ما يلحق الإنسان بالاحتزام من التعب الدنيوي خير له مما يلحقه بالسؤال من التعب الأخروي، فعند الحاجة ينبغي له أن يختار الأول ويترك الثاني (من أن يسأل الناس) أي من سؤال الناس، ولو كان الاكتساب بعمل شاق كالاحتطاب. وقد روى عن عمر فيما ذكره ابن عبدالبر مكسبة فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس (أعطوه) فحملوه ثقل المنة مع ذل السؤال (أو منعوه) فاكتسب الذل والخيبة والحرمان يعني يستوي الأمر إن في أنه خير له. وفي الحديث الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو أمتهن المرأ نفسه في طلب الرزق، وارتكب المشقة في ذلك ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها، وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد، إذا لم يعط. ولما يدخل على المسؤل من الضيق في ماله أن أعطى كل سائل، وفيه فضيلة الاكتساب بعمل اليد (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص146-168) وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص195) وفي الباب عن أبي هريرة عند مالك والشيخين والترمذي والنسائي.

(11/490)


1857- قوله: (وعن حكيم بن حزام) بفتح المهملة في الأول وكسرها في الثاني، وتخفيف الزاي المعجمة (سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني ثم سألته فأعطاني) كذا وقع في هذه الرواية بتكرير الإعطاء مرتين وفي سائر الروايات بتكرير السؤال والإعطاء ثلاثا (ثم قال لي) أي بعد الإعطاء الثالث كما في سائر الروايات (إن هذا المال خضر) بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، أي طرى ناعم مرغوب فيه غاية الرغبة (حلو) بضم الحاء المهملة وسكون اللام، أي لذيذ عند النفس تميل إليه بالطبع غاية الميل. وقيل: الخضر في العين طيب، والحلو يكون في الفم طيبا: إذ لا تمل العين من النظر إلى الخضر، ولا يمل الفم من أكل الحلو فكذلك النفس حريصة بجمع المال
فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع،

(11/491)


لا تمل عنه. والمعنى إن هذا المال في الرغبة فيه، والميل إليه وحرص النفوس عليه كالفاكهة خضر في المنظر حلو في الذوق، ففيه تشبيه المال في الرغبة والميل إليه بالفاكهة الخضرة المستلذة المستحلاة الطعم. فان الأخضر مرغوب فيه على انفراده بالنسبة إلى اليابس والحلو كذلك على انفراده بالنسبة إلى الحامض، فالإعجاب بهما إذا اجتمعا أشد. وفيه إشارة إلى عدم بقاءه، لأن الخضروات لا تبقى ولا تراد للبقاء وذكر الخبر في هذه الرواية، ووقع في سائر الروايات إن هذا المال خضرة حلوة. قيل: أنث الخبر لأن المراد الدنيا. وقيل: لأن التقدير إن صورة هذا المال أو يكون التأنيث للمعنى؛ لأنه اسم جامع لأشياء كثيرة، والمراد بالخضرة الروضة الخضراء، أو الشجرة الناعمة والحلوة المستحلاة الطعم. قال في المصابيح: إذا كان قوله "خضرة" صفة للروضة أو المراد بها نفس الروضة الخضرة لم يكن ثم إشكال البتة، وذلك أن توافق المبتدأ والخبر في التأنيث. إنما يجب إذا كان الخبر صفة مشقة غير سببية نحو هند حسنة أو حكمها كالمنسوب. أما في الجوامد فيجوز نحو هذه الدار مكان طيب وزيد نسمة عجيبة - انتهى. وقال الحافظ: معناه إن صورة حسنة مونقة، والعرب تسمى كل شيء مشرق ناضر أخضر. وقال ابن الأنباري: قوله "خضرة حلوة" ليس هو صفة المال وإنما هو للتشبيه كأنه قال المال كالبقلة الخضراء الحلوة أو التاء فيه باعتبار ما يشتمل عليه المال من زهرة الدنيا. أو على معنى فائدة المال أي إن الحياة به أو العيشة أو إن المراد بالمال هنا الدنيا؛ لأنه من زينتها. قال الله تعالى: ?المال والبنون زينة الحياة الدنيا?[الكهف:46] وقد وقع في حديث أبي سعيد في السنن الدنيا خضرة حلوة فيتوافق الحديثان، ويحتمل أن تكون التاء فيهما للمبالغة (فمن أخذه) أي المال أخذا متلبسا (بسخاوة) بفتح السين المهملة (نفس) أي من غير حرص عليه أو بغير شره ولا إلحاح أي من أخذه بغير سؤال ولا إشراف ولا تطلع ولا

(11/492)


طمع وهذا بالنسبة إلى الآخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المعطى أي بسخاوة نفس المعطى أي انشراح صدره بما يعطيه يعني من أخذه ممن يعطى منشرحا باعطاءه إياه طيب النفس لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس المعطى، والظاهر هو الأول (ومن أخذه بإشراف نفس) أي مكتسبا له بطلب النفس وحرصها عليه وتعرضها له وطعمها فيه وتطلعها اليه وهذا بالنسبة إلى الآخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المعطى أي بكراهيته من غير طيب نفس بالاعطاء كذا قيل: والظاهر هو الأول (لم يبارك له) أي الآخذ (فيه) أي في المعطى (وكان) أي السائل الآخذ الصدقة في هذه الصورة لما يسلط عليه من عدم البركة وكثرة الشره والنهمة (كالذي يأكل ولا يشبع) أي كذى الجوع الكاذب بسبب سقم من غلبة خلط سوداوي أو آفة ويسمى جوع
واليد العليا خير من اليد السفلى. واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم. فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا، حتى أفارق الدنيا)).

(11/493)


الكلب كلما أزداد جوعا فلا يجد شبعا ولا ينجع فيه الطعام، والمراد أنه لا ينقطع شهاءه فيبقى في حيرة الطلب على الدوام ولا ينقضي شهواته التي لأجلها طلبه. وفي الحديث على التعفف والرضا بما تيسر في عفاف، وإن كان قليلا، وإنه لا يغتر الإنسان بكثرة ما يحصل له بإشراف ونحوه فإنه لا يبارك له فيه (واليد العليا) أي المنفقة (خير من اليد السفلى) أي السائلة. قال السندي: المشهور تفسير اليد العليا بالمنفقة وهو الموافق للأحاديث. وقيل: عليه كثيرا ما يكون السائل خيرا من المعطى فكيف يستقيم هذا التفسير وليس بشيء إذا الترجيح من جهة الإعطاء والسؤال، السؤال لا من جميع الوجوه والمطلوب الترغيب في التصدق والتزهيد في السؤال، ومنهم من فسر العليا بالمتعففة عن السؤال حتى صفحوا المنفقة في الحديث (يعني حديث ابن عمر الآتي) بالمتعففة والمراد بالعلو قدر أو على الوجهين فالسفلى هي السائلة. إما لأنها تكون تحت يد المعطى وقت الإعطاء أو لكونها ذليلة بذل السؤال والله أعلم. بحقيقة الحال - انتهى. قلت: القول الراجح المعول عليه هو أن المراد بالعليا هي المنفقة وبالسفلى السائلة. لما روى أحمد والطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن خزام مرفوعا: يد الله فوق يد المعطى، ويد المعطى فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي، وللطبراني من حديث عدي الجذامي مرفوعا مثله. وروى النسائي وابن حبان والدارقطني من حديث طارق المحاربي. قال: قدمنا المدينة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول: يد المعطى العليا. ولابن أبي شيبة والبزار من طريق ثعلبة بن زهدم مثله، ولأبي داود وابن خزيمة والحاكم من حديث أبي الأحوض عوف بن مالك عن أبيه مرفوعا الأيدي ثلاثة. فيد الله: العليا. ويد المعطى: التي تليها. ويد السائل: السفلى. ولأحمد والبزار من حديث عطية السعدي اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى. قال الحافظ بعد ذكر هذه الأحاديث:

(11/494)


فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية وإن السفلى هي السائلة وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور - انتهى. وفي تفسير ذلك أقوال أخرى ذكرها الحافظ في الفتح. ثم قال وكل هذه التأويلات تضمحل عند الأحاديث المتقدمة المصرحة بالمراد فأولى ما فسر الحديث بالحديث - انتهى. (لا أزرأ) بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الزاي بعدها همزة أي لا انقص (أحدا) أي مال أحد بالسؤال عنه والأخذ منه (بعدك) أي بعد سؤالك هذا أو بعد قولك هذا (شيئا) مفعول ثان "لأرزأ" بمعنى أنقص أي لا آخذ من أحد شيئا بعدك، وفي رواية قلت: فواالله لا تكون يدي بعدك تحت يد من أيدي العرب (حتى أفارق الدنيا) أي إلى أن أموت ولم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي لعشر سنين من إمارة معاوية مبالغة في الاحتراز، إذا مقتضى الجبلة الإشراف والحرص والنفس سراقة، ومن حام حول الحمى
متفق عليه.
1858- (8) وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال وهو على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: ((اليد العليا خير من اليد السفلى" واليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة)).
يوشك أن يقع فيه. وفي الحديث فوائد، ذكرها الحافظ في الفتح نقلا عن ابن أبي جمرة فارجع إليه (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والوصايا والخمس والرقاق، ومسلم في الزكاة. واللفظ للبخاري في الوصايا، وأخرجه أيضا أحمد (ج3:ص434) والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم.

(11/495)


1858- قوله: (وهو على المنبر) جملة إسمية وقعت حالا (وهو) أي والحال أنه (يذكر الصدقة) أي فضلها والحث عليها (والتعفف عن المسألة) أي الكف عن السؤال وهذا لفظ مسلم عن قتيبة عن مالك عن نافع ابن عمر، وكذا رواه النسائي عن قتيبة، وكذا وقع في الموطأ. ولفظ البخاري من طريق القعنبي عن مالك، وذكر الصدقة والتعفف. والمسألة أي بالواو بدل عن قبل المسألة، ولأبي داود من هذا الطريق، وهو يذكر الصدقة والتعفف منها والمسألة، والضمير في "منها" عائد على "الصدقة" المتقدم ذكرها أي والتعفف من أخذ الصدقة، والمعنى أنه كان يحض الغنى على الصدقة والفقير على التعفف عن المسألة أو يحضة على التعفف ويذم المسألة (واليد العليا) قال النووي: المراد بالعلو علو الفضل والمد ونيل الثواب. وقال الباجي: هو بمعنى أنه أرفع درجة ومحلا في الدنيا والآخرة، (هي المنفقة) اسم فاعل من انفق يعني المعطية (والسفلى هي السائلة) هذا التفسير مدرج في الحديث فروى أحمد (ج2:ص152) بإسناد صحيح عن ابن عمر إنه كتب إلى عبدالعزيز بن مروان إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى، وإني لأحسب اليد العليا المعطية والسفلى السائلة. فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة والبيهقي (ج4:ص198) من طريق عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال: كنا نتحدث إن اليد العليا هي المنفقة. واعلم إنه اتفق الرواة عن مالك على قوله: المنفقة، والحديث رواه البخاري أيضا عن عارم عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لم يسق متن هذا الطريق وأشار أبوداود إلى الاختلاف فيه على أيوب عن نافع، ثم على حماد بن زيد عن أيوب. وحاصل هذا الاختلاف أنه قال: أكثر الرواة عن حماد ابن زيد عن أيوب اليد العليا المنفقة. وقال مسدد عن حماد عند ابن عبدالبر في التمهيد. وأبوالربيع الزهراني

(11/496)


عن حماد عند يوسف بن يعقوب القاضي في كتاب الزكاة المتعففة، يعني بالعين والفائيين وكذا قال عبدالوارث عن
متفق عليه.
1859- (9) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((إن أناسا من الأنصار، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
أيوب "المتعففة" بدل المنفقة قال الحافظ: لم أقف على رواية عبدالوارث موصولة، وقد أخرجه أبونعيم في المستخرج من طريق سليمان بن حرب عن حماد بلفظ: واليد العليا يد المعطى، وهذا يدل على أن من رواه عن نافع بلفظ: المتعففة فقد صحف، قلت: ويدل عليه أيضا ما روى أحمد (ج2:ص98) عن يونس عن حماد بلفظ: اليد العليا المعطية، ورواه موسى بن عقبة عن نافع فاختلف عليه أيضا فقال عبدالله بن المبارك: عند أحمد (ج2:ص67) وحفص بن ميسرة عند البيهقي (ج4:ص198) وفضيل بن سليمان عند ابن حبان كلهم عن موسى بن عقبة المنفقة. وقال إبراهيم بن طهمان عنه: عند البيهقي (ج4:ص198) المتعففة يعني بعين وفاءيين، ورجح الخطابي في المعالم (ج2:ص70) رواية المتعففة فقال: إنها أشبه وأصح في المعنى، وذلك إن ابن عمر ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام، وهو يذكر الصدقة والتعفف منها فعطف الكلام على سببه الذي خرج عليه وعلى ما يطابقه في معناه أولى. ورجح ابن عبدالبر في التمهيد رواية المنفقة فقال: إنها أولى وأشبه بالصواب من قول من قال المتعففة. وقال النووي في شرح مسلم: إنها الصحيح قال: ويحتمل صحة الروايتين فالمنفقة أعلى من السائلة والمتعففة أولى من السائلة - انتهى. قلت: قد سبق ما يدل على أنه لفظة المتعففة بالعين والفاءيين مصحفة عن المنفقة وتقدم أيضا إن الأحاديث متظافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية، فالصحيح هي رواية المنفقة لا المتعففة والله تعالى أعلم. وفي الحديث الحث على الصدقة والإنفاق في وجوه الطاعة وفيه كراهة السؤال والتنفير عنه، ومحله إذا لم تدع إليه ضرورة من خوف هلاك ونحوه (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد

(11/497)


مختصرا (ج2:ص67-98) ومالك في الجامع من الموطأ وأبوداود والنسائي والبيهقي وغيرهم.
1859- قوله: (إن أناسا) وفي بعض النسخ ناسا أي بترك الهمزة (من الأنصار) لم يعرف أسماءهم ولكن قال الحافظ: روى النسائي من طريق عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ما يدل على أن أباسعيد راوي هذا الحديث خوطب بشيء من ذلك ولفظه في حديثه (في باب من الملحف) سرحتني أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة فأتيته فقعدت فاستقبلني وقال من استغنى أغناه الله - الحديث. وزاد فيه ومن سأل وله قيمة أوقية فقد الحف فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقية فرجعت ولم أسأله - انتهى. واعترضه العيني بأنه ليس فيه شيء يدل على كونه مع الأنصار في حالة سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم (سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) كذا في عامة النسخ
فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده.فقال: "ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر،

(11/498)


وكذا في المصابيح وهكذا وقع في الصحيحين والموطأ وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي، ووقع في بعض نسخ المشكاة سألوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والظاهر إنه غلط من الناسخ (فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم) بتكرير السؤال والإعطاء مرتين ووقع ذلك في بعض النسخ من صحيحي البخاري ومسلم ثلاث مرات (حتى نفد) بكسر الفاء وبالدال المهملة أي فرغ وفني (ما عنده) من المال (ما يكون عندي من خير) أي مال ومن بيان لما "وما" موصولة لا شرطية وإلا لوجب "يكن" بحذف الواو والفاء في قوله (فلن أدخره عنكم) لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وأدخره بتشديد الدال المهملة، أي كل شيء من المال موجود عندي فلن أحبسه وأخبأه وأمنعكم إياه منفردا به عنكم أو لن أجعله ذخيرة لغيركم معرضا عنكم (ومن يسعف) بفاء واحدة مشددة. قال القاري: وفي بعض النسخ بالفك، ويظهر من كلام الحافظ والقسطلاني إن في رواية الكشمهيني يستعفف أي بفاءيين، للحموي والمستملى يستعف أي بفاء واحدة مشددة، يعني من يطلب من نفسه العفة عن السؤال. قال الطيبي: أويطلب العفة من الله تعالى فليس السين لمجرد التأكيد. قال الجزري: الاستعفاف طلب العفاف، والتعفف، وهو الكف من الحرام والسؤال من الناس أي من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها. وقيل: الاستعفاف، الصبر والنزاهة عن الشيء يقال: عف يعف عفة فهو عفيف - انتهى. (يعفه الله) بضم التحتية وكسر المهملة ونصب الفاء المشددة أي يرزقه الله العفة أي الكف عن السؤال والحرام ولأبي ذر، يعفه الله برفع الفاء قاله القسطلاني. وقال في المجمع: يعفه من الاعفاف وبفتح فاء مشددة، وضمه بعضهم إتباعهم بضم الهاء - انتهى. قال القاري: يعفه الله أي يجعله عفيفا من الاعفاف وهو إعطاء العفة، وهي الحفظ عن المناهي يعني من قنع بأدنى قوت وترك السؤال تسهل عليه القناعة وهي كنز لا يفنى. وقال ابن التين: معناه إما أن يرزقه من المال ما يستغنى به عن السؤال، وإما أن يرزقه

(11/499)


القناعة (ومن يستغن) أي بالله عمن سواه أو يظهر للغنى بالاستغناء عن أموال الناس والتعفف عن السؤال حتى يحسبه الجاهل غنيا من التعفف (يغنه الله) أي يجعله غنيا أي بالقلب ففي الحديث ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غني النفس. ولو حمل على غنى المال لم يبعد أي يعطيه ما يغنيه عن الخلق (ومن يتصبر) بفتح الفوقية وتشديد الموحدة المفتوحة أي يعالج الصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا. وقال السندي: أي يتكلف في تحمل مشاق الصبر وفي التعبير بباب التكلف إشارة إلى أنه ملكة الصبر تحتاج في الحصول إلى الاعتبار، وتحمل المشاق من الإنسان. وقال القاري: أي يطلب توفيق الصبر من الله لأنه قال تعالى: ?واصبر وما صبرك إلا بالله?
يصبره الله. وما أعطى أحد عطاء، هو خير وأوسع من الصبر)). متفق عليه.
1860 - (10) وعن عمر بن الخطاب، قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء

(11/500)


[النحل:127] أو يأمر نفسه بالصبر، ويتكلف في التحمل عن مشاقة، وهو تعميم بعد تخصيص؛ لأن الصبر يشتمل على صبر الطاعة والمعصية والبليلة أو من يتصبر عن السؤال والتطلع إلى ما في أيدي الناس بأن يتجرع مرارة ذلك ولا يشكو حاله لغير ربه (يصبره الله) بضم أوله وتشديد الموحدة المكسورة من التصبير أي يسهل عليه الصبر فتكون الجمل مؤكدات، ويؤيد إرادة معنى العموم قوله الآتي وما أعطى أحد الخ. وقال الباجي: معناه من يتصد للصبر ويؤثره يعينه الله تعالى عليه ويوفقه (وما أعطى) بضم الهمزة مبنيا للمفعول (أحد) بالرفع نائب عن الفاعل (عطاء) بالنصب مفعول ثان "لأعطى" وفي الترمذي ما أعطى أحد شيئا وفي رواية مسلم وأبي داود من عطاء (هو خير) أي أفضل كذا في جميع نسخ المشكاة الحاضرة ووقع في صحيح مسلم "خير" بلا لفظ هو، وهو مقدر. وهكذا وقع في بعض نسخ البخاري، ووقع في بعضها "خيرا" بالنصب على أنه صفة عطاء، وهكذا في المصابيح. قال العيني: قوله "خيرا" بالنصب صفة عطاء" ويروي خير بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو خير انتهى. (وأوسع) عطف على خير (من الصبر) لجمعه مكارم الأخلاق؛ ولأنه كما قال الباجي: أمر يدوم له الغنى به بما يعطي وإن كان قليلا ولا يفنى، ومع عدمه لا يدوم له الغنى وإن كثر. وربما يغنى ويمتد إلى أكثر منه مع عدم الصبر. وقال ابن الجوزي: إنما جعل الصبر خير العطاء؛ لأنه حبس النفس عن فعل ما تحبه والزامها بفعل ما تكره في العاجل مما لو فعله أو تركه لتأذى به في الآجل. وقال القاري: وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات؛ لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات، ولذا قدم على الصلاة في قوله تعالى: ?واستعينوا بالصبر والصلاة? [البقرة:45] ومعنى كونه أوسع أنه تتسع به المعارف والمشاهد والأعمال والمقاصد - انتهى. وفي الحديث إعطاء السائل مرتين أو ثلاثا والاعتذار إليه والحض على التعفف، وفيه جواز السؤال للحاجة وإن كان الأولى تركه والصبر

(12/1)


حتى يأتيه رزقه بغير مسألة، وفيه الحث على الصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا وإن الصبر أفضل ما يعطاه المرأ لكون الجزاء عليه غير مقدر ولا محدود، وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من السخاء وإنفاذ أمر الله (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد ومالك في كتاب الجامع من الموطأ. والترمذي في البر والصلة وأبوداود والنسائي والبيهقي في الزكاة.
1860- قوله: (يعطيني العطاء) قيل كان ذلك أجر عمله في الصدقة كما يدل عليه حديث ابن الساعدي في الفصل الثالث. وقال الحافظ: قوله: "يعطيني العطاء أي من المال الذي يقسمه في المصالح" قال وفي حديث ابن
فأقول: ((أعطه أفقر إليه مني فقال: خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف، ولا سائل، فخذه، ومالا، فلا تتبعه نفسك)).

(12/2)


السعدي عند مسلم إن عطية النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بسبب العمالة. ولهذا قال الطحاوي: ليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام وليست هي من جهة الفقر، ولكن شيء من الحقوق، فلما قال عمر: أعطه من هو أفقر إليه مني، لم يرض بذلك. لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر، قال ويؤيده قوله: خذه فتموله فدل ذلك على أنه ليس من الصدقات (فأقول أعطه) بقطع الهمزة والضمير للعطاء أو للسكت (أفقر) أي أحوج (إليه مني) قال الكرماني: جاز الفصل بين أفعل التفضيل وبين كلمة "من" لأن الفاصل ليس أجنبيا بل هو الصق به من الصلة. لأنه محتاج إليه بحسب جوهر اللفظ، والصلة محتاج إليه بحسب الصيغة (خذه) أي بالشرط المذكور بعد (فتموله) بتشديد الواو أي أقبله وأدخله في ملكك ومالك أي اجعله مالا لك يعني إن كنت محتاجا (وتصدق به) أي على أفقر منك إن كان فاضلا عنك عما لابد لك منه قاله القاري. وفي رواية لمسلم أو تصدق به بلفظ "أو" بدل الواو. وقال السندي: أي إذا أخذت فان شئت أبقه عنك مالا، وإن شئت تصدق به - انتهى. وهو أمر إرشاد على الصحيح. قال ابن بطال: أشار صلى الله عليه وسلم على عمر بالأفضل؛ لأنه وإن كان مأجورا بإيثاره لعطائه عن نفسه من هو أفقر إليه منه، فإن أخذه للعطاء ومباشرته للصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدل على عظيم فضل الصدقة بعد التمول لما في النفوس من الشح على المال (فما جاءك من هذا المال) إشارة إلى جنس المال أو المال الذي أعطاه وفي رواية إذا جاءك من هذا المال شيء (وأنت غير مشرف) بضم الميم وسكون المعجمة وبعدها راء مكسورة ففاء من الإشراف، وهو التعرض للشيء والحرص عليه والتطلع اليه من قولهم: أشرف على كذا إذا تطاول له. وقيل: للمكان المرتفع شرف لذلك أي والحال إنك غير طامع ولا ناظر له. قال أبوداود: سألت أحمد عن إشراف النفس فقال: بالقلب. وقال يعقوب بن محمد: سألت أحمد عنه فقال: هو أن يقول مع نفسه

(12/3)


يبعث إلى فلان بكذا. وقال الأثرم: يضيق عليه أن يرده إذا كان كذلك (ولا سائل) أي ولا طالب له (فخذه) ولا ترده. وأطلق الأخذ أولا وعلقه ثانيا بالشرط فحمل المطلق على المقيد وهو مقيد أيضا بكونه حلالا، فلو شك فيه فالاحتياط الرد وهو الورع نعم يجوز أخذه عملا بالأصل (ومالا) يكون على هذه الصفة بأن لم يجيء إليك ومالت نفسك إليه (فلا تتبعه نفسك) في الطلب واتركه وقوله: لا تتبعه بضم الفوقية الأولى وسكون الثانية وكسر الموحدة وسكون العين من الإتباع مخففا، أي فلا تجعل نفسك تابعة له ناظرة إليه لأجل أن
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1861- (11) عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسائل كدوح، يكدح بها الرجل وجهه،

(12/4)


يحصل عندك، أشار إلى أن المدار على عدم تعلق النفس بالمال، لا على عدم أخذه ورده على المعطى قاله السندي. واختلف العلماء فيمن جاءه مال هل يجب قبوله أم يندب على ثلاثة مذاهب حكاها الطبري بعد إجماعهم على أن قوله خذه أمر ندب. قال النووي: الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور إنه مستحب في غير عطية السلطان، وأما عطية السلطان يعني الجائز فحرمها قوم، وأباحها آخرون، وكرهها قوم. والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حرمت، وكذا إن أعطى من لا يستحق وإن لم يغلب الحرام فمباح، إن لم يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الأخذ. وقالت طائفة الأخذ واجب من السلطان وغيره وقال آخرون هو مندوب في عطية السلطان دون غيره، ويرد هذا حديث خالد بن عدي عند أحمد وغيره مرفوعا بلفظ: من بلغه معروف عن أخيه عن غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله، ولا يرده الحديث. وقد بسط الكلام في ذلك العيني (ج9:ص55-56) فليرجع إليه، وفي حديث الباب إن للإمام أن يعطى بعض رعيته إذا رأى لذلك وجها، وإن كان غيره أحوج إليه منه، وإن رد عطية الإمام ليس من الأدب ولاسيما من الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: ?وما آتاكم الرسول فخذوه? [الحشر:7] وفيه منقبة لعمر، وبيان فضله وزهده وإيثاره (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الأحكام، ومسلم في الزكاة واللفظ للبخاري في الأحكام وأخرجه النسائي والبيهقي أيضا.

(12/5)


1861- قوله: (المسائل) جمع المسألة وجمعت لاختلاف أنواعها والمراد هنا سؤال الرجل أموال الناس (كدوح) بضم الكاف جمع كدح، أي خدوش وجروح يعني آثار القشر (يكدح) بفتح الدال أي يجرح ويخدش (بها) أي بالمسائل (وجهه) يوم القيامة. قيل: هي كناية عن الذلة والهون، وهذا لفظ أبي داود والنسائي، ولفظ الترمذي والنسائي في رواية المسألة كد يكد بها الرجل وجهه قال الجزري: الكد الاتعاب، يقال: كد يكد في عمله، إذا أستعجل وتعب. وأراد بالوجه ماءه ورونقه - انتهى. وقال السيوطي في قوت المغتذي: كد بفتح الكاف وتشديد الدال المهملة، وفي رواية أبي داود: كدوح بضم الكاف والدال وحاء مهملة. وقد ذكر اللفظين معا أبو موسى المديني في ذيله على الغريبين، وفسر الكدوح بالخدوش في الوجه،
فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء تركه، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بدا)).

(12/6)


والكد بالتعب والنصب. قال العراقي ويجوز أن يكون الكدح بمعنى الكد من قوله تعالى: ?إنك كادح? [الانشقاق:6] وهو السعي والحرص- انتهى. ما في قوت المغتذي (فمن شاء أبقى) أي الكدح (على وجهه) أي بالسؤال (ومن شاء تركه) أي الكدح بترك السؤال. وقال القاري: (فمن شاء) أي الإبقاء (أبقى على وجهه) أي ماء وجهه من الحياء بترك السؤال والتعفف (ومن شاء) أي عدم الإبقاء (تركه) أي ذلك الإبقاء - انتهى. وقوله "تركه" هكذا في جميع النسخ، وفي أبي داود ترك، أي بدون الضمير المنصوب. ولفظ النسائي فمن شاء كدح وجهه ومن شاء ترك. قال السندي أي الكدوح أو السؤال وهذا ليس بتخيير بل هو توبيخ مثل قوله تعالى: ?فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر? [الكهف:29] (إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان) أي ذا حكم وسلطة بيده بيت المال فيسأل حقه أي ولو منع الغناء، لأن السؤال مع الحاجة دخل في قوله: أو في أمر لابد منه قال الخطابي في المعالم (ج2:ص66) قوله: إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، هو أن يسأله حقه من بيت المال الذي في يده، وليس هذا على معنى استباحة الأموال التي تحويها أيدي بعض السلاطين من غصب أملاك المسلمين - انتهى. وقال الأمير اليماني في السبل: أما سؤال الرجل من السلطان فإنه لا مذمة فيه لأنه إنما يسأل مما هو حق له في بيت المال، ولا منة للسلطان على السائل. لأنه وكيل فهو كسؤال الإنسان وكيله أن يعطيه من حقه الذي لديه، وظاهره وإن سأل السلطان تكثرا فإنه لا بأس فيه ولا إثم، لأنه جعله قسيما للأمر الذي لا بد منه. وقد فسر الأمر الذي لا بد منه حديث قبيصة وحديث أنس، وفيه لا يحل السؤال إلا لثلاثة ذي فقر مدقع أو دم موجع أو غرم مفظع - انتهى. (أو في أمر) أي أو يسأل في أمر (لا يجد منه) أي من أجله (بدا) أي علاجا آخر غير السؤال. وفيه دليل على جواز المسألة عند الضرورة والحاجة التي لابد عندها من السؤال كما في الحمالة والجائحة والفاقة، بل يجب حال الاضطرار في

(12/7)


العرى والجوع. وهذا لفظ أبي داود، وعند الترمذي والنسائي في رواية أو في أمر لابد منه. قال الأمير اليماني: أي لا يتم له حصوله مع ضرورته إلا بالسؤال وحديث قبيصة مبين ومفسر للأمر الذي لابد منه - انتهى ولفظ النسائي في رواية أخرى أو شيئا لا يجد منه بدا. قال السندي. وظاهره إنه عطف على "ذا سلطان" ولا يستقيم إذا السؤال يتعدى إلى مفعولين الشخص والمطلوب المحتاج إليه، وذا سلطان هو الأول، وترك الثاني للعموم، وشيئا ههنا لا يصلح أن يكون الأول بل هو الثاني، إلا أن يراد بشيئا شخصا ومعنى، لا يجد منه أي من سؤاله بدا وهو تكلف بعيد. فالأقرب أن يقال تقديره أو يسأل شيئا الخ. وحذف ههنا المفعول الأول لقصد العموم أو يقدر يسأل ذا سلطان أي شيء كان أو غيره شيئا لا يحدث منه بدا،
رواه أبوداود والترمذي والنسائي.
1862- (12) وعن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس وله ما يغنيه، جاء يوم القيامة، ومسألته في وجهه خموش أو خدش أو كدح. قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب))

(12/8)


فهو من عطف شيئين على شيئين إلا أنه حذف من كل منهما ما ذكر مماثله في الآخر من صنعة الاحتباك - انتهى. قال العراقي في شرح الترمذي: ورد التخصيص في السؤال في أربعة أماكن، وهي أن يسأل سلطانا أو في أمر لابد منه أو ذا رحم في حاجة، أو الصالحين. فأما السلطان فهو الذي بيده أموال المصالح، وأما الأمر الذي لابد منه فهو الحاجة التي لابد منها، وأما ذو الرحم، فلما ورد في الصدقة على ذي الرحم من الفضل ولذهاب بعض العلماء إلى وجوب النفقة عليه مع وصف الفقر والعجز، فرخص في سؤاله. وأما سؤال الصالحين فهو في حديث ابن الفراسي (يعني أول أحاديث الفصل الثالث من هذا الباب) قال: ثم يحتمل أن يراد بالصالحين الصالحون من أرباب الأموال الذين لا يمنعون ما عليهم من الحق، وقد لا يعلمون المستحق من غيره، فإذا عرفوا بالسؤال المحتاج أعطوه مما عليهم من حقوق الله تعالى، ويحتمل أن يراد بهم من يتبرك بدعاءه وترجى إجابته إذا دعا الله له، ويحتمل أن يراد الساعون في مصالح الخلق بسؤالهم لمن علموا استحقاقه ممن عليه حق فيعطيهم أرباب الأموال بوثوقهم بصلاحهم كذا في شرح التقريب (ج4:ص79-80) (رواه أبوداود والترمذي والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد (ج5:ص10-19) وابن حبان والبيهقي (ج4:ص197) وصححه الترمذي وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره.

(12/9)


1862- قوله: (وله ما يغنيه) أي عن السؤال (ومسألته) أي أثرها (في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح) بضم أوائلها ألفاظ متقاربة المعاني جمع خمش وخدش وكدح "فأو" هنا لشك الراوي إذا لكل يعرب عن أثر ما يظهر على الجلد واللحم من ملاقاة الجسد ما يقشر أو يجرح، ولعل المراد بها آثار مستنكرة في وجهه حقيقة أو أمارات ليعرف، ويشهر بذلك بين أهل الموقف. أو لتقسيم منازل السائل فإنه معقل أو مكثر أو مفرط في المسألة، فذكر الأقسام على حسب ذلك. والخمش أبلغ في معناه من الخدش وهو أبلغ من الكدح إذا لخمش في الوجه، والخدش في الجلد، والكدح فوق الجلد وقيل: الخدش قشر الجلد يعودوا لخمش قشرة بالأظفار. والكدح العض وهي في أصلها مصادر لكنها لما جعلت أسماء الآثار جمعت كذا في المرقاة (وما يغنيه) أي ما الغنى المانع عن السؤال، وليس المراد بيان الغنى الموجب للزكاة أو المحرم لأخذها من غير سؤال (خمسون درهما أو قيمتها)
رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي.

(12/10)


أي قيمة الخمسين من الذهب. وفيه دليل على أن من ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب يحرم عليه السؤال، وهذا فرد من أفراد الغنى المانع عن السؤال إذ لا عبرة للمفهوم، فلا دليل فيه على إباحة السؤال لمن كان عنده أقل من خمسين درهما مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث آخر. وقيل هذا الحديث منسوخ بحديث الأوقية وهو منسوخ ما يغديه ويعشيه. وقيل يجمع بين هذه الأحاديث بأن القدر الذي يحرم السؤال عنده هو أكثرها وهي الخمسون عملا بالزيادة. وقال في حجة الله البالغة (ج2: ص34-35) جاء في تقدير الغنية المانعة من السؤال إنها أوقية أو خمسون درهما، وجاء أيضا إنها ما يغديه ويعشيه، وهذه الأحاديث ليست متخالفة عندنا. لأن الناس على منازل شتى، ولكل واحد كسب، لا يمكن أن يتحول عنه أعنى الامكان المأخوذ في العلوم الباحثة عن سياسة المدن، لا المأخوذ في علم تهذيب النفس. فمن كان كاسبا بالحرفة فهو معذور حتى يجد آلات الحرفة، ومن كان زارعا حتى يجد الزرع، ومن كان تاجرا حتى يجد البضاعة، ومن كان على الجهاد مسترزقا بما يروح ويغدو من الغنائم، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالضابط فيه أوقية أو خمسون درهما، ومن كان كاسبا بحمل الأثقال في الأسواق أو احتطاب الحطب وبيعه وأمثال ذلك فالضابط فيه ما يغديه ويعشيه والله أعلم-انتهى. وقد استدل بهذا الحديث لأحمد وإسحاق ومن وافقهما على أن الغناء المانع من أخذ الصدقة هو ملك خمسين درهما وتعقب بأنه ليس في الحديث إن من ملك خمسين درهما لم تحل له الصدقة، إنما فيه أنه كره المسألة فقط، فلا يحل له أخذ الزكاة بالسؤال. وأما الأخذ من غير سؤال فلا دليل فيه على منعه، وقد تقدم بسط الكلام في ذلك فتذكر (رواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد (ج1: ص388-441) وأبوعبيد (ص550) والحاكم (ج1:ص407) والدارقطني (ص 212) والبيهقي (ج7:ص24) كلهم من حديث

(12/11)


حكيم بن جبير عن محمد بن عبدالرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن مسعود، وحكيم بن جبير ضعيف. قال الدارقطني: متروك. وقال الجوزجاني: كذاب. وقال ابن معين وأبوداود: ليس بشيء. وقال أحمد وأبوحاتم: ضعيف منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوى. وقال البخاري في التاريخ: كان يحيى وعبدالرحمن لا يحدثان عنه، وتكلم فيه شعبة وتركه من أجل هذا الحديث ببني لأنه مخالف للأصول والروايات المعتبر في تحديد الغنى لكن لم ينفرد به حكيم بن جبير فقد تابعه على ذلك زبيد بن الحارث الأيامي عند الترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي. فرواه الترمذي من طريق شريك عن حكيم بن جبير، ثم قال حديث حسن. وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث، ثم روى من طريق يحيى بن آدم، حدثنا سفيان عن حكيم بن جبير بهذا الحديث، فقال له عبدالله بن عثمان صاحب شعبة لو غير حكيم حدث بهذا، فقال له سفيان
1863- (13) وعن سهل بن الحنظلية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل، وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار. قال النفيلي:

(12/12)


وما لحكيم؟ لا يحدث عنه شعبة؟ قال نعم قال سفيان سمعت زبيدا يحدث بهذا عن محمد بن عبدالرحمن بن يزيد-انتهى. ورواه أبوداود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي من طريق يحيى بن آدم عن سفيان الثوري عن حكيم بن جبير. وزاد أبوداود والحاكم والبيهقي في آخرة. قال يحيى (هو ابن آدم) فقال عبدالله بن عثمان لسفيان حفظي إن شعبة لا يروي عن حكيم، فقال سفيان فقد حدثناه زبيد عن محمد بن عبدالرحمن بن يزيد-انتهى. وعند النسائي قال يحيى قال سفيان، وسمعت زبيدا يحدث عن محمد بن عبدالرحمن، وعند ابن ماجه فقال رجل لسفيان إن شعبة لا يحدث عن حكيم، فقال سفيان فقد حدثنا، زبيد عن محمد بن عبدالرحمن بن يزيد فقد ظهر من هذا كله إن الحديث صحيح من جهة زبيد اليامي، لم ينفرد به حكيم بن جبير. وقد تكلف بعضهم في تضعيفه مع هذا بما لا يطمئن به القلب. فقال الحافظ في الفتح: بعد ذكر رواية سفيان عن زبيد نقلا عن الترمذي ما لفظه، ونص أحمد في علل الخلال وغيرها على أن رواية زبيد موقوفة -انتهى. وقال ابن معين: يرويه سفيان عن زبيد، ولا أعلم أحدا يرويه عنه غير يحيى بن آدم وهذا وهم. لو كان كذا لحدث به الناس عن سفيان ولكنه حديث منكر يعني، وإنما المعروف بروايته حكيم ذكره الذهبي والمنذري. وذكر البيهقي (بعد حكاية متابعة زبيد لحكيم بن جبير) عن يعقوب بن سفيان. قال هي حكاية بعيدة، لو كان حديث حكيم بن جبير عند زبيد، ما خفي على أهل العلم -انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف. والظاهر إن الحديث صحيح من طريق زبيد الأيامي ولا مخالفة بينه وبين الأحاديث الأخرى كما أسلفنا. وسيأتي أيضا والله تعالى أعلم.

(12/13)


1863- قوله: (وعن سهل بن الحنظلية) صحابي أنصاري أوسي، كان ممن بايع تحت الشجرة، وشهد أحد أو الخندق والمشاهد كلها ما خلا بدرا وكان فاضلا عالما معتزلا عن الناس، كثير الصلاة والذكر لا يجالس أحدا. سكن الشام ومات بدمشق في أول خلافة معاوية ولا عقب له. قال سعيد بن عبدالعزيز: كان لا يولد له فكان يقول لي لأن يكون لي سقط في الإسلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. والحنظلية أمه، وقيل أم أبيه، وقيل أم جده. واختلف في إسم أبيه فقيل الربيع، وقيل عبيد، وقيل عمرو، وقيل عقيب بن عمرو بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخررج بن عمرو بن مالك بن الأوس. (من سأل وعنده) الواو للحال (ما يغنيه) أي عن السؤال (فإنما يستكثر من النار) يعني من جمع أموال الناس بالسؤال من غير ضرورة. فكأنه جمع لنفسه نار جهنم (قال النفيلي) بضم النون وفتح الفاء وهو عبدالله بن محمد بن علي بن نفيل، بنو وفاء مصغرا أبوجعفر النفيلي الحراني ثقة حافظ، وهو شيخ أبي داود السجستاني صاحب السنن. قال الحافظ: روى عنه
وهو أحد رواته، في موضع آخر، وما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يغديه ويعشيه. وقال: في موضع آخر أن يكون له شبع يوم، أو ليلة يوم)). رواه أبوداود.

(12/14)


أبوداود فأكثر وروى له الباقون سوى مسلم بواسطة الذهلي مات سنة (234) (وهو أحد رواته) أي الحديث (في موضع آخر) أي في رواية أخرى يعني مرة أخرى (وما الغنى الذي لا ينبغي) أي لا يحل (معه المسألة) أي مكان قوله وما يغنيه. ففي أبي داود بعد قوله من النار. وقال النفيلي في موضع آخر: من جمر جهنم فقالوا يا رسول الله! وما يغنيه. وقال النفيلي في موضع آخر وما الغنى الخ (قال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (قدر ما يغديه) بفتح الغين المعجمة وتشديد الدال المهملة (ويعشيه) بفتح العين المهملة وتشديد الشين المعجمة أي ما يكفي غداءه وعشاءه، وفي رواية ابن حبان وأحمد أو يعشيه بحرف التخيير، والتغدية إطعام طعام الغدوة. والتعشية إطعام طعام العشاء يعني من كان له قوت هذين الوقتين لا يجوز له أن يسأل في ذلك اليوم. قال الخطابي في المعالم (ج2:ص58): اختلف الناس في تأويل قوله ما يغديه ويعشيه. فقال بعضهم: من وجد غداء يومه وعشاءه لم تحل له المسألة على ظاهر الحديث. وقال بعضهم: إنما هو فيمن وجد غداء وعشاء على دائم الأوقات، فإذا كان عنده ما يكفيه لقوته المدة الطويلة فقد حرمت عليه المسألة. وقال آخرون: هذا منسوخ بحديث الخمسين وحديث الأوقية -انتهى. قال المنذري: إدعاء النسخ مشترك بينهما، ولا أعلم مرجحا لأحدهما على الآخر. وقال البيهقي (ج7:ص28) وليس شيء من هذه الأحاديث، بمختلف، فكان النبي صلى الله عليه وسلم علم ما يغنى كل واحد منهم فجعل غناه به، وذلك لأن الناس يختلفون في قدر كفاياتهم فمنهم من يغنيه خمسون درهما لا يغنيه أقل منها، ومنهم من له كسب يدر عليه كل يوم ما يغديه ويعشيه ولا عيال له مستغن به -انتهى. وهذا مما تقدم عن حجة الله. وحمل أبوعبيد حديث سهل هذا على من سأل مسألة ليكتثر بها (وقال) أي النفيلي (في موضع آخر) أي في الجواب عما يغنيه (أن يكون له شبع يوم) بكسر الشين وسكون الموحدة وفتحها وهو الأكثر، أي ما يشبعه من

(12/15)


الطعام أول يومه وآخره. قال ابن الملك: بسكون الباء ما يشبع وبفتح الباء المصدر (أو ليلة ويوم) شك من الراوي وقوله "شبع يوم أو ليلة ويوم" هكذا في جميع النسخ الحاضرة. ووقع في أبي داود شبع يوم أو ليلة أو ليلة ويوم، وهكذا في رواية البيهقي، والظاهر إنه سقط لفظ "ليلة" في الموضع الأول في نسخ المشكاة من الناسخ. وحاصل الاختلاف الذي وقع في رواية النفيلي إنه حدث أباداود بهذا الحديث مرتين، فمرة قال من سأل وعنده ما تغنيه، فإنما يستكثر من النار،فقالوا يا رسول الله! وما يغنيه قال: قدر ما يغديه ويعشيه ومرة قال (أي النفيلي) من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمرة جهنم فقالوا يا رسول الله! وما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة، قال قدر أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم (رواه أبوداود) وفيه قصة، وأخرجه، أيضا أحمد
1864- (14) وعن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل منكم، وله أوقية أو عدلها، فقد سأل إلحافا)) رواه مالك، وأبوداود، والنسائي.
1865- (15) وعن حبشي بن جنادة،
(ج4:ص180-181) وأبوعبيد (ص 551-552) والبيهقي (ج7:ص25) وابن حبان وابن خزيمة وسكت عنه أبوداود والمنذري.

(12/16)


1864- قوله: (عن رجل من بني أسد) له صحبة كما يدل عليه سياق الحديث عند مخرجيه ولم يعرف اسمه ولا يضر ذلك، لأن الصحابة كلهم عدول (وله أوقية) بضم الهمزة وكسر القاف وتشديد التحتية أي أربعون درهما من الفضة (أو عدلها) بكسر العين وبفتح أي ما يساويها من ذهب عرض. وقال الخطابي: قوله "أو عدلها" يريد قيمتها، يقال هذا عدل الشيء أي ما يساويه في القيمة، وهذا عدله بكسر العين أي نظيره ومثله في الصورة والهيئة -انتهى. قال السندي: هذا يدل على أن التحديد بخمسين درهما ليس مذكورا على وجه التحديد، بل هو مذكور على وجه التمثيل (فقد سأل إلحافا) أي ملحفا أو سؤالا إلحافا، وهو أن يلازم المسؤل حتى يعطيه. والمراد أنه خالف ثناء الله تعالى بقوله تعالى ?لا يسألون الناس إلحافا? [البقرة: 273] وقال القاري: أي سأل إلحاحا وإسرافا من غير إضطرار. وقال الباجي: يقال الحف في المسألة إلح فيها، وذلك يقتضى أنه ورد على أمر قد تقرر فيه، إن الإلحاف في المسألة ممنوع، فجعل من الإلحاف الممنوع سؤال من له أوقية -انتهى. قلت: قد تقدم حديث معاوية لا تلحفوا في المسألة وهو صريح في النهى عن الإلحاح في السؤال. واستدل أبوعبيد بحديث الأسدي وما في معناه على ما ذهب إليه من تحديد الغنى المحرم للصدقة يملك أربعين درهما ولا يخفى ما فيه (رواه مالك) في أواخر الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد (وأبوداود والنسائي) كلاهما من طريق مالك، وأخرجه البيهقي (ج7:ص24) من طريق أبي داود وأحمد (ج5،4ص:36-430) من حديث سفيان عن زيد بن أسلم، وأبوعبيد (ص 550) من حديث سفيان وهشام بن سعد عن زيد بن أسلم. وفي الحديث قصة عند مالك وأبي داود والنسائي وأبي عبيد، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري، وله شاهد من حديث أبي سعيد عند أحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم بلفظ: من سأل وله قيمة أوقية فقد الحف.

(12/17)


1865- قوله: (وعن حبشي) بضم الحاء المهملة وسكون الموحدة بعدها معجمة ثم تحتية ثقيلة، وهو اسم بلفظ النسب (بن جنادة) بضم الجيم ابن نصر السلولي صحابي، شهد حجة الوداع، ثم نزل الكوفة يكنى
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المسألة لا تحل لغنى، ولا لذى مرة سوى، إلا لذى فقر مدقع، أو غرم مفظع. ومن سأل الناس ليثرى به ماله، كان خموشا في وجهه يوم القيامة، ورضفا يأكله من جهنم، فمن شاء فليقل، ومن شاء فليكثر)). رواه الترمذي.

(12/18)


أباالجنوب بفتح الجيم. قال العسكري: شهد مع علي مشاهده، وروى في فضله أحاديث (ولا لذى مرة) بكسر الميم وتشديد الراء هي الشدة والقوة أي لذي قوة وقدرة على الكسب (سوى) بفتح السين المهملة وتشديد الياء هو التام الخلق السالم من موانع الاكتساب (إلا لذى فقر مدقع) بضم الميم وسكون المهملة وكسر القاف، وهو الفقر الشديد الملصق صاحبه بالدقعاء، وهي الأرض التي لا نبات بها يقال ادقع الرجل أي لصق بالدقعاء أي الأرض والتراب، وجوع مدقع أي شديد (أو غرم) بضم الغين المعجمة وسكون الراء، هو ما يلزم أداءه تكلفا، لا في مقابلة عوض (مفظع) بضم الميم وسكون الفاء وكسر الظاء المعجمة هو الشديد الشنيع قاله المنذري. وقال القاري: غرم مفظع أي دين شنيع مثقل. قال الطيبي: والمراد ما استدان لنفسه وعياله في مباح، قال ويمكن أن المراد به ما لزمه من الغرامة بنحو دية وكفارة (ليثرى) أي يكثر ويزيد (به) أي بسبب السؤال أو بالمأخوذ (ماله) برفع اللام ويثرى بفتح الياء وسكون الثاء المثلثة وفتح الراء من ثرى كرضى، أو بضم الياء وسكون الثاء وكسر الراء من الأثراء. قال في القاموس: الثروة كثرة العدد من الناس والمال، وثرى القوم كثروا ونموا. والمال كذلك، وثرى كرضى كثر ماله كاثرى - انتهى. وفي النهاية: الثرى المال، وأثرى القوم كثروا وكثروا أموالهم- انتهى. (كان) أي السؤال أو المال (خموشا) أي عبسا (ورضفا) بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة بعدها فاء هو الحجارة المحماة (يأكله من جهنم) أي فيها (فمن شاء فليقل) بكسر القاف وتشديد اللام المفتوحة من الأقلال أي ليقلل هذا السؤال، أو ما يترتب عليه من النكال (من شاء فليقل) بكسر القاف وتشديد اللام المفتوحة من الأقلال أي ليقلل هذا السؤال، أو ما يترتب عليه من النكال (ومن شاء فليكثر) من الإكثار وهما أمر تهديد، ونظيره قوله تعالى ?فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا? [الكهف:29] (رواه

(12/19)


الترمذي) من حديث مجالد بن سعيد عن عامر الشعبي عن حبشي، وقال حديث غريب من هذا الوجه، قال شيخنا: لم يحكم الترمذي على هذا الحديث بشيء من الصحة أو الضعف، والحديث ضعيف. لأن في سنده مجالدا وهو ضعيف -انتهى. قلت: مجالد هذا ضعفه يحيى بن سعيد وابن معين والدارقطني وابن سعد، وقال أحمد ليس بشيء. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به وكان ابن مهدي لا يروي عنه. وقال أبوحاتم والنسائي: ليس بالقوي. ووثقه النسائي مرة. وقال ابن عدي: له عن الشعبي عن جابر أحاديث صالحة وعن غير جابر، وعامة ما يرويه غير محفوظة. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال البخاري: صدوق. وقال محمد بن المثنى: يحتمل حديثه للصدق كذا
1866- (16) وعن أنس، أن رجلا من الأنصار، أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: ((أما في بيتك شيء؟ بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: "من يزيد على درهم"؟ مرتين أو ثلاثا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري، وقال: "أشتر بأحدهما طعاما فأنبذه إلى أهلك، وأشتر بالآخر قدوما، فائتني به" فأتاه به،
في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: ليس بالقوى، وقد تغيير في آخر عمره - انتهى. والحديث أخرجه أحمد (ج4:ص165) وأبوعبيد (ص553) من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن حبشي مختصرا بلفظ: من سأل من غير فقر فكأنهما يأكل الجمرة، وعزاه المنذري في الترغيب للطبراني في الكبير وابن خزيمة، وقال رجال الطبراني رجال الصحيح، ورواه البيهقي بلفظ: الذي يسأل من غير حاجة كمثل الذي يلتقط الجمر.

(12/20)


1866- قوله: (إن رجلا من الأنصار) لم يعرف اسمه (يسأله) حال أو استئناف بيان (أما في بيتك شيء) بهمزة إستفهام تقرير "وما نافية" (بلى حلس) أي في حلس بكسر الحاء المهملة وسكون اللام، بعدها سين مهملة كساء يلي ظهر البعير يفرش تحت القتب. قال المنذري: وسمي به غيره مما يداس ويمتهن من الأكسية ونحوها (نلبس) بفتح الباء (بعضه) أي بالتغطية لدفع البرد و(نبسط) بضم السين (بعضه) أي بالفرش (وقعب) بفتح القاف وسكون العين المهملة قدح من خشب (نشرب فيه من الماء) من تبعيضية أو زائدة على مذهب الأخفش، وفي رواية ابن ماجه. وقدح نشرب فيه الماء أي بحذف من (ائتني بهما) أي بالحلس والقعب (أنا آخذهما) بضم الخاء ويحتمل كسرها (قال من يزيد على درهم مرتين) ظرف لقال (أو ثلاثا) شك من الراوي (قال رجل) أي آخر (فأعطاهما إياه) أي فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الحلس، والقعب الرجل الآخر (فأخذ الدرهمين) كذا في جميع النسخ الحاضرة والذي في سنن أبي داود وأخذ أي بالواو بدل الفاء، وكذا وقع في رواية ابن ماجه، وكذا نقله الخطابي والمنذري (فأعطاهما) أي الدرهمين (اشتر) بكسر الراء (بأحدهما) أي أحد الدرهمين (فأنبذه) بكسر الباء أي أطرحه وألقه (قدوما) بفتح القاف وتخفيف الدال المهملة المضمومة وجوز تشديدها آلة النجر والنحت أي فأسا (فأتاه به) أي بالقدوم بعدما
فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال:"اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما" فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في يوم وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذى غرم مفظع، أو لذى دم موجع)). رواه أبوداود، وروى ابن ماجه إلى قوله "يوم القيامة".

(12/21)


اشتراه (فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا) أي أدخل في ذلك القدوم عودا وأحكمه (بيده) الكريمة تفضلا، وإمتناعا عليه (احتطب) أي اطلب الحطب وأجمع (ولا أرينك خمسة عشر يوما) أي لا تكن هنا هذه المدة حتى لا أراك وهذا مما أقيم فيه المسبب مقام السبب، والمراد نهى الرجل عن ترك الاكتساب في هذه المدة، لا نهى نفسه عن الرؤية (نكتة) بضم النون وسكون الكاف أثر كالنقطة أي حال كونها علامة قبيحة أو أثرا من العيب (في وجهك يوم القيامة) أي على رؤس الأشهاد (إن المسألة لا تصلح) أي لا تحل ولا تجوز (لذي فقر مدقع) أي شديد يفضي بصاحبه إلى التراب لا يكون عنده ما بقي به من التراب (أو لذى غرم مفظع) أي فظيع شنيع ثقيل (أو لذي دم موجع) بكسر الجيم أي مؤلم وهو أن يتحمل دية فيسعى فيها حتى يؤديها إلى أولياء المقتول، فإن لم يؤديها قتل المحتمل عنه فيوجعه قتله. قال المنذري: ذو الدم الموجع هو الذي يتحمل دية عن قريبه أو حميمه أو نسيبه القاتل يدفعها إلى أولياء المقتول، ولو لم يفعل قتل قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله -انتهى. وفي الحديث من الفقة جواز بيع المزايدة وهذا ليس بالسوم على سوم أخيه لأن السوم، هو أن يقف الراغب والبائع على البيع ولم يعقداه، فيقول الآخر للمبائع أنا أشتريه وهذا حرام بعد استقرار الثمن، وأما السوم بالسلعة التي تباع لمن يزيد فليس بحرام. وفيه الأكل من عمل يده، والأمر بالاكتساب بالمباحات كالحطب والحشيش النابتين في موات. وفيه جواز المسألة لهؤلاء الثلاثة (رواه أبوداود) في الزكاة. وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج7:ص25) و(روى ابن ماجه) أي في باب المزايدة من أبواب النجارات (إلى يوم القيامة) هذا سهو من المصنف، فإن ابن ماجه روى الحديث بطوله إلى قوله دم موجع، وأخرج الترمذي والنسائي في البيوع من هذا الحديث قصة بيع القدح فقط. والحديث سكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، وقال لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن

(12/22)


عجلان عن أبي بكر عبدالله الحنفي عن أنس، وعله ابن القطان بجهل حال أبي بكر الحنفي ونقل عن البخاري أنه قال: لا يصح حديثه كذا في التلخيص (ص237).
1867- (17) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله، أوشك الله له بالغنى، إما بموت عاجل، أو غنى آجل)). رواه أبوداود، والترمذي.
?الفصل الثالث?
1868- عن ابن الفراسي، أن الفراسي،
1867- قوله: (من أصابته فاقة) أي حاجة شديدة وأكثر استعمالها في الفقر وضيق المعيشة (فأنزلها بالناس) أي عرضها عليهم وأظهرها بطريق الشكاية لهم وطلب إزالة فاقته منهم. قال الطيبي: نزل بالمكان ونزل من علو ومن المجاز نزل به مكروه وأنزلت حاجتي على كريم، وخلاصته إن من اعتمد في سدها على سؤالهم (لم تسد) بصيغة المجهول (فاقته) أي لم تقض حاجته ولم تزل فاقته وكلما تسد حاجة أصابته أخرى أشد منها (ومن أنزلها بالله) بأن اعتمد في إزالتها على مولاه (أوشك الله له) أي أسرع له وعجل (بالغنى) بكسر الغين مقصورا. قال في القاموس: الغنى كالى ضد الفقر وإذا فتح مد (إما بموت عاجل) قيل يموت قريب له فيرثه. وقيل: معناه أن يميته الله فيستغنى عن المال (أو غنى) بكسر وقصر (آجل) كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة بموت عاجل، أو غنى آجل بالعين في الأول، وبالهمزة في الثاني، وفي نسخ السنن لأبي داود بالعين في الموضين، وكذا وقع في نسخ مختصر السنن للمنذري كما في العون. ولفظ الترمذي برزق عاجل أو آجل. وقال الطيبي: هو هكذا أي بالعين في الموضعين في أكثر نسخ المصابيح وجامع الأصول، وفي سنن أبي داود والترمذي أو غنى آجل بهمزة ممدودة وهو أصح دراية لقوله تعالى ?إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله? [النور:32] انتهى. قلت: في نسخ أبي داود الحاضرة عندنا غنى عاجل بالعين كما تقدم (رواه أبوداود) في الزكاة (والترمذي) في الزهد. وأخرجه أحمد (ج1:ص389-442) بلفظ:

(12/23)


برزق عاجل أو موت آجل (ج1:ص407) بلفظ: آجل عاجل أو غنى عاجل والحاكم (ج1:ص408) والبيهقي من طريق الحاكم (ج4:ص196) وصححه الترمذي والحاكم والذهبي، وسكت عنه أبوداود. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره.
1868- قوله: (عن ابن الفراسي) بكسر الفاء وخفة الراء بعدها ألف ثم سين مهملة ثم ياء مشددة. قال في التقريب: ابن الفراسي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف اسمه (إن الفراسي) قال ابن
قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسأل يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، وإن كنت لا بد فسل الصالحين)). رواه أبوداود، والنسائي.
1869- (19) وعن ابن الساعدي،

(12/24)


عبدالبر، ويقال فراس أي بغير ياء النسبة، وهو من بني فراس بن مالك بن كنانة، حديثه عند أهل مصر فذكر هذا الحديث. قال: وله حديث آخر مثل حديث أبي هريرة في البحر هو الطهور ماءه والحل ميتته، كلاهما يرويه الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن بكر بن سوادة عن مسلم بن مخشى عن الفراسى. ومنهم من يقول عن مسلم ابن مخشى عن ابن الفراسي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: يعد في أهل مصر وحديثه عنهم -انتهى. وقال الحافظ في الإصابة: فراس (بغير ياء في آخره) له صحبة قاله البخاري. ثم ذكر هذا الحديث من روايته ثم قال هكذا رأيت في نسخة قديمة من تاريخ البخاري في حرف الفاء، وكذا ذكر ابن السكن إن البخاري سماه فراسا. قال: وقال غيره الفراسي من بني فراس بن مالك بن كنانة ولا يوقف على اسمه، ومخرج حديثه عن أهل مصر، وذكره البغوي وابن حبان بلفظ: النسب كما هو المشهور لكن صنيعه تقتضى إنه اسم بلفظ: النسب. والمعروف إنه نسبه وإن اسمه لا يعرف، والمعروف في الحديث عن ابن الفراسي عن أبيه. وقيل: عن ابن الفراسي فقط، وهو مرسل -انتهى. (قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي بعض النسخ قال لرسول الله أي بحذف "قلت" وهكذا وقع في السنن لأبي داود والنسائي والبيهقي، ومسند الإمام أحمد (أسأل) على تقدير حرف الإستفهام، والمراد أسأل المال من غير الله المتعال وإلا فلا منع للسؤال من الله تعالى بل هو المطلوب (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا) أي لا تسأل من غير الله شيئا فإن السؤال ذل (وإن كنت لا بد) كذا في جميع النسخ الحاضرة وفي أبي داود والنسائي والبيهقي ومسند الإمام أحمد، وإن كنت سائلا لا بد أي لا بد لك منه ولا غنى لك عنه (فسل الصالحين) أي القادرين على قضاء الحاجة أو أخيار الناس لأنهم لا يحرمون السائلين ويعطون ما يعطون عن طيب نفس، ولأنهم لا يعطون إلا من الحلال ولا يكونون إلا كرماء رحماء ولا يهتكون العرض، ولأنهم يدعون لك فيستجاب،

(12/25)


وقد سلف شيء من الكلام في معناه في شرح حديث سمرة بن جندب (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أحمد (ج4:ص334) والبيهقي (ج4:ص197) والبخاري في تاريخه (ج4:ص137-138) وسكت عنه أبوداود.
1869- قوله: (وعن ابن الساعدي) بالألف بعد السين وبكسر العين وبياء النسبة، وهو عبدالله بن السعدي، واسم السعدي، وقدان. وقيل: عمرو، ووقدان جده، وقيل: اسمه قدامة بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب. وإنما قيل له: ابن السعدي لأن أباه كان مسترضعا في بني
قال استعملني عمر على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه، أمرني بعمالة، فقلت: إنما عملت لله وأجري على الله، قال خذ ما أعطيت، فإني قد عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمني، فقلت: مثل قولك، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أعطيتك شيئا من غير أن تسأله فكل وتصدق)).

(12/26)


سعد بن بكر بن هوازن، وفد عبدالله بن سعدي على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه قديما. وسكن الأردن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر بن الخطاب حديث العمالة، وروى عنه حويطب بن عبدالعزى وبسر بن سعيد وغيرهما. قال الحافظ في الفتح: ومات عبدالله بن السعدي بالمدينة سنة سبع وخمسين، ويقال بل مات في خلافة عمر والأول أقوى. قلت: الأول قول الواقدي. والثاني قول ابن حبان. وقال ابن عساكر: لا أراه محفوظا وقوله ابن الساعدي هكذا وقع في رواية الليث بن سعد عن بكير بن الأشج عن بسر بن سعيد عند أبي داود والنسائي ومسلم، وخالفه عمرو بن الحارث عن بكير عند مسلم. فقال ابن السعدي قال الحافظ: وهو المحفوظ. وقال عياض: الصواب ابن السعدي كما في الرواية الأخرى. وإنما قيل: له السعدي لأنه استرضع في بني سعد بن بكر. وأما الساعدي فلا يعرف له وجه. وابنه عبدالله من الصحابة وهو قرشي عامري مالكي. وقال النووي: أما قوله الساعدي فأنكروه قالوا وصوابه السعدي كما رواه الجمهور منسوب إلى بني سعد بن بكر كما سبق. قلت: وهكذا وقع في رواية السائب بن يزيد عن حويطب بن عبدالعزى عن عبدالله بن السعدي عند البخاري والنسائي (إستعملني عمر) أي جعلني عاملا (على الصدقة) أي على أخذها وجمعها (فلما فرغت منها) أي من أخذها وجبابتها (وأديتها إليه) أي إلى عمر (أمر لي بعمالة) بضم العين المهملة وتخفيف الميم أي أجرة العمل. قال الجوهري: العمالة بالضم رزق العامل على عمله، وذكر الحافظ في الفتح رواية من فوائد أبي بكر النيشابوري، تدل على أن العمالة المذكورة كانت ألف دينار والله تعالى أعلم. (قال) أي عمر (خذ ما أعطيت) على بناء المفعول والأمر للاستحباب عند الجمهور (فعملني) بتشديد الميم أي أعطاني أجرة عملي، والمعنى أراد إعطاءها وأمر لي بالعطاء (فقلت مثل قولك) فيه منقبة لعمر وبيان فضله وزهده وإيثاره، وكذا لإبن السعدي فقد وافق فعله فعل عمر سواء (إذا أعطيت)

(12/27)


بصيغة المجهول (شيئا من غير أن تسأله فكل وتصدق) أي خذه ولا ترده، واصنع ما شئت من الأكل والتصدق. وقيل: أي كل حال كونك فقيرا وتصدق حال كونك غنيا. قال الشوكاني: في الحديث دليل على أن عمل الساعي سبب لإستحقاقه الأجرة كما أن وصف الفقر والمسكنة هو السبب في ذلك، وإذا كان العمل هو السبب اقتضى قياس قواعد الشرع إن المأخوذ في مقابلته أجرة، ولهذا قال أصحاب الشافعي تبعا له إنه يستحق أجرة المثل. وفيه أيضا دليل على أن من نوع التبرع يجوز له أخذة الأجر بعد ذلك، ولهذا قال المصنف
رواه أبوداود.
1870- (20) وعن علي، أنه سمع يوم عرفة رجلا يسأل الناس. فقال: ((أفي هذا اليوم، وفي هذا المكان تسأل من غير الله؟ فخفقه بالدرة)). رواه رزين.

(12/28)


يعني المجد بن تيمية صاحب المنتقى. وفيه دليل على أن نصيب العامل يطيب له وإن نوى التبرع أو لم يكن مشروطا - انتهى. وقال المنذري: في الحديث جواز أخذ الأجرة على إعمال المسلمين وولاياتهم الدينية والدنيوية، قيل: وليس معنى الحديث في الصدقات وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام على أغنياء الناس وفقراءهم، واستشهد بقوله في بعض طرقه فتموله. وقال الفقير: لا ينبغي أن يأخذ من الصدقة ما يتخذه مالا كان عن مسألة أو غير مسألة -انتهى. قال ابن المنذر حديث ابن السعدي حجة في جواز أرزاق القضاة عن وجوهها. وقال الطبري: في حديث عمر الدليل الواضح على أن لمن شغل بشيء من إعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك، كالولاة والقضاة وجباة الفيء وعمال الصدقة. وشبههم لإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر العمالة على عمله، وذكر ابن المنذر إن زيد بن ثابت كان يأخذ الأجر على القضاء. واحتج أبوعبيد في ذلك بما فرض الله للعاملين على الصدقة. وجعل لهم منها حقا لقيامهم وسعيهم فيها (رواه أبوداود) فيه تساهل فإن الحديث أخرجه مسلم والنسائي بهذا اللفظ، والبخاري في الأحكام بنحوه فكان على المصنف أن يقول رواه مسلم وأبوداود والنسائي أو يقول متفق عليه.

(12/29)


1870- قوله: (فقال) أي علي (أفي هذا اليوم وفي هذا المكان) أي أفي زمان إجابة الدعاء ومكان قبول الثناء وحصول الرجاء (تسأل من غير الله) أي شيئا حقيرا مثل الغداء أو العشاء. قال الطيبي: أي هذا المكان وهذا اليوم، ينافيان السؤال من غير الله، ويلحق بذلك السؤال في المساجد إذ لم تبن إلا للعبادة - انتهى. قلت قد روى أبوداود والبيهقي في باب المسألة في المساجد، والحاكم من حديث عبدالرحمن بن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل فيكم أحد أطعم اليوم مسكينا. فقال أبوبكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبز في يد عبدالرحمن فأخذتها منه فدفعتها إليه - انتهى. وهذا بظاهره يدل على جواز السؤال في المساجد والإعطاء فيها، خلافا لمن ذهب إلى تحريم السؤال فيها، وكراهة الإعطاء مطلقا (فخفقه) أي ضربه وهو من باب ضرب ونصر يقال: خفقه بالسيف أي ضربه به ضربا خفيفا، والمخفق السيف العريض، والمخفقة الدرة يضرب بها. وقال الطيبي: الخفق الضرب بالشيء العريض (بالدرة) بكسر الدال وتشديد الراء في القاموس هي التي يضرب بها (رواه رزين).
1871- (21) وعن عمر، قال: ((تعلمن أيها الناس! إن الطمع فقر، وإن الإياس غنى، وإن المرأ إذا يئس عن شيء استغنى عنه)). رواه رزين.

(12/30)


1871- قوله: (تعلمن) بضم الميم. قال الطيبي: أي لتعلمن وفيه شذوذان إيراد اللام في أمر المخاطب وحذفها مع كونها مرادة. وقيل: يحتمل أن يكون تعلمن جواب قسم مقدر، واللام المقدرة هي المفتوحة أي والله لتعلمن ذكره القاري، وفي بعض النسخ تعلمون وهو خبر بمعنى الأمر (إن الطمع) أي في الخلق (فقر) أي حاضر أو يجر إليه (وإن الإياس) بكسر الهمزة بمعنى اليأس من الناس (وإن المرأ) تفسير لما تقدم (إذا يئس) وفي نسخة صحيحة إذا أيس (عن شيء استغنى عنه) ولذا قيل اليأس إحدى الراحتين (رواه رزين) ذكر هذا الأثر والذي قبله رزين في تجريده من غير سند ولم أقف على من أخرج أثر علي، وأما أثر عمر فأخرجه أبونعيم في الحلية كما سيأتي. وقد ذكره أيضا ابن رجب في شرح الأربعين (ص217) والغزالي في الإحياء (ج4:ص195) من غير أن يذكرا مخرجه وسكت العراقي أيضا عن تخريجه في المغنى، ولفظ الإحياء "إن الطمع فقر" واليأس غنى وأنه من يئس عما في أيدي الناس وقنع استغنى عنهم، ورواه أبونعيم في الحلية (ج1:ص50) قال: حدثنا أبوبكر بن همدان ثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي ثنا أبومعاوية ووكيع عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال عمر. في خطبة: تعلمون أن الطمع فقر وأن اليأس غنى وأن الرجل إذا يئس عن شيء "استغنى عنه" رواه ابن وهب عن الثوري عن هشام عن أبيه عن زبيد (بضم الزاي بعدها ياء معجمة باثنتين من تحتها مكررة) ابن الصلت (بمهملة وبمثناة فوق في آخره) عن عمر: حدثنا أبي ثنا إبراهيم بن محمد ثنا أحمد بن سعيد ثنا ابن وهب به. انتهى ما في الحلية. قلت: عروة عن عمر منقطع لأن عروة ولد في آخر خلافة عمر (أي لست سنين خلت من خلافة عمر) كما في تهذيب التهذيب للحافظ والتذكرة للذهبي. وقيل: ولد في خلافة عثمان، وأما زبيد بن الصلت عن عمر فهو متصل لأن زبيدا قد أدرك عمر، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (ج1/ق2/ص622) زبيد بن الصلت المديني روى عن أبي بكر رضي الله عنه

(12/31)


مرسل، وعن عمر وقد أدركه، روى عنه عروة بن الزبير
1872- (22) وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا، فأتكفل له بالجنة؟ فقال ثوبان: أنا: فكان لا يسأل أحدا شيئا)). رواه أبوداود، والنسائي.
والزهري وعبدالله بن إبراهيم بن قارظ ثم ذكر عن يحيى بن معين أنه قال زبيد بن الصلت ثقة.انتهى. وأثر عمر من طريق هشام عن أبيه أخرجه أيضا وكيع بن الجراح في الزهد (ج2:ص426) وأحمد في الزهد (117) وأبونعيم في الحلية (ج6:ص328) وابن المبارك في الزهد (223) والمروزي في زيادات زهد ابن المبارك (354) وابن الجوزي في مناقب عمر في مختصره (181) وروى أحمد في الزهد والبيهقي والحاكم في المستدرك (ج4:ص326) عن سعد بن أبي وقاص قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أوصني وأوجز فقال له: عليك بالإياس مما في أيدي الناس وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر- الحديث. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد. وقال الذهبي: صحيح. وأما ما روى الطبراني من حديث ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الغنى؟ قال: اليأس مما في أيدي الناس، ففي إسناده إبراهيم بن زياد العجلي وهو متروك.

(12/32)


1872- قوله: (من يكفل) بفتح الياء وضم الفاء مرفوعا في بعض النسخ بصيغة الماضي من التكفل، وكذا وقع في سنن أبي داود ولفظ النسائي من يضمن و"من" استفهامية أي أيكم يضمن ويلتزم ويتقبل (لي أن لا يسأل الناس شيئا) أي من مالهم وإلا فطلب ماله عليهم لا يضر، والمراد من يديم على ذلك (فأتكفل) بالنصب والرفع أي أتضمن وأتقبل (له بالجنة) أي أولا من غير سابقة عقوبة، وفيه إشارة إلى بشارة حسن الخاتمة (فقال ثوبان أنا) أي تضمنت أو أتضمن (فكان) أي ثوبان بعد ذلك (لا يسأل أحدا شيئا) وفي رواية عند أحمد وابن ماجه، فكان ثوبان يقح سوطه وهو راكب أي على بعيره فلا يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيأخذه (رواه أبوداود والنسائي) واللفظ لأبي داود، ولفظ النسائي من يضمن لي واحدة وله الجنة. قال يحيى: (أحد
1873- (23) وعن أبي ذر، قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهو يشترط على أن لا تسأل الناس شيئا قلت نعم. قال: ولا سوطك إن سقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه)). رواه أحمد.
((5)) باب الإنفاق وكراهية الإمساك
?الفصل الأول?
1874- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لي مثل أحد ذهبا
رواته) ههنا كلمة معناها أن لا يسأل الناس شيئا -انتهى.والحديث أخرجه أحمد (ج5: ص275-276-277-279-281) وابن ماجه والحاكم (ج1:ص412) والبيهقي (ج4:ص197) وسكت عنه أبوداود والمنذري في مختصر السنن. وقال في الترغيب: إسناده صحيح وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

(12/33)


1873- قوله: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي إلى المبايعة الخاصة كما يدل عليه أو الحديث قال أي أبوذر بايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا، وأوثقني سبعا وأشهد الله على تسعا أن لا أخاف في الله لومة لائم. قال أبوالمثنى: أحد رواته. قال أبوذر: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل لك إلى بيعة ولك الجنة قلت نعم وبسطت يدي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهو يشترط علي الخ، (وهو يشترط علي) أي والحال أنه يقول لي على جهة الاشتراط أبايعك على (أن لا تسأل الناس شيئا) بفتح اللام وكسرها وعلى الأول أكثر النسخ. قال الطيبي: إن مفسرة داخلة على النهى لما في يشترط من معنى القول. قيل: ويحتمل أن تكون مصدرية كذا في المرقاة (قلت نعم) أي بايعتك على ذلك (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم للمبالغة (ولا سوطك) أي ولا تسأل أحدا أن يناوله لك (إن سقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه) أي بنفسك وهذا مبالغة في النهى عن السؤال وحسم لمادته وإن لم يكن من السؤال المحرم (رواه أحمد) (ج5:ص172) وفي رواية له (ج5:ص181) إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ستة أيام ثم أعقل يا أباذر ما أقول لك بعد. فلما كان اليوم السابع، قال أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته وإذا أسات فأحسن ولا تسألن أحدا شيئا وإن سقط سوطك، ولا تقبض أمانة. قال المنذري في الترغيب والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3:ص93) رجاله ثقات.
(باب الإنفاق وكراهية الإمساك) الإنفاق إخراج المال من اليد، يقال أنفق المال أي صرفه وأنفده وكل ما فاءه نون وعينه فاء، فهو دال على معنى الذهاب والخروج نحو نفر، ونفس ونفح ونفث ونفي ونفع وأمثالها والإمساك البخل.
1874- قوله: (لو كان لي مثل أحد) بضمتين جبل معروف بالمدينة (ذهبا) تمييز لمثل وفي رواية مسلم
لسرني أن لا يمر على ثلاث ليال، وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده لدين)). رواه البخاري.

(12/34)


1875- (2) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم يصبح
ما يسرني أن لي أحدا ذهبا، وفي رواية للبخاري فلما أبصر أحدا قال ما أحب أنه تحول لي ذهبا يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث. قال الحافظ: ويمكن الجمع بين قوله مثل أحد وبين قوله تحول لي أحد بحمل المثلية على شيء يكون وزنه من الذهب وزن أحد، والتحويل على أنه إذا انقلب ذهبا كان قدر وزنه أيضا (لسرني) باللام قبل السين جواب لو أي أعجبني وجعلني في سرور (أن لا يمر علي) وفي رواية أن لا تمر بي (ثلاث ليال) قيل قيد بالثلاث لأنه لا يتهيأ تفريق قدر أحد من الذهب في أقل منها غالبا ويعكر عليه رواية يوم وليلة، فالأولى أن يقال الثلاثة أقصى ما يحتاج إليه في تفرقة مثل ذلك والواحدة أقل ما يمكن (وعندي منه شيء) قال ابن الملك الواو فيه للحال يعني لسرني عدم مرور ثلاث ليال والحال أن يكون فيها شيء منه عندي، والنفي في الحقيقة راجع إلى الحال (إلا شيء) وفي رواية إلا شيئا بالنصب، قال الطيبي: وجه الرفع إن قوله "شيء" في حيز النفي أي لسرني أن لا يبقى منه شيء إلا شيء - انتهى. ووجه النصب إن المستثنى منه مطلق عام، والمستثنى مقيد خاص ووقع تفسير شيء في رواية بدينار (أرصده) بضم الهمزة وكسر الصاد أي أعده وأحفظه (لدين) بفتح الراء أي لأداء دين لأن قضاء الدين واجب فهو مقدم على الصدقة المندوبة، وهذا الإرصاد أعم من أن يكون لصاحب دين غائب حتى يحضر فيأخذه أو لأجل وفاء دين مؤجل حتى يحل فيوفى. قال القاري: قوله "لدين" أي لأداء دين كان على لأن أداء الدين مقدم على الصدقة، وكثير من جهلة العوام وظلمة الطغام يعملون الخيرات والمبرات، وعليهم حقوق الخلق ولم يلتفتوا إليها، وكثير من المتصوفة غير العارفة يجتهدون في الرياضات وتكثير الطاعات والعبادات وما يقومون بما يجب عليهم من الديانات -انتهى. وفي الحديث الحث على الإنفاق في وجوه الخيرات وأنه صلى الله عليه وسلم كان في

(12/35)


أعلى درجات الزهد في الدنيا بحيث أنه لا يحب أن يبقى في يده شيء من الدنيا إلا لإنفاقه فيمن يستحقه. وأما لإرصاده لمن له حق، وإما لتعذر من يقبل ذلك من لتقييده في رواية بقوله أجد من يقبله ويؤخذ منه جواز تأخير الزكاة الواجبة عن الإعطاء إذا لم يوجد من يستحق أخذها، وينبغي لمن وقع له ذلك أن يعزل القدر الواجب من ماله، ويجتهد في حصول من يأخذه، فإن لم يجد فلا حرج عليه، ولا ينسب إلى تقصير في حبسه. وفيه تقديم وفاء الدين على صدقة التطوع، وفيه جواز الاستقراض، وفيه الحث على وفاء الديون، وأداء الأمانات (رواه البخاري) في الرقاق بهذا اللفظ، وأخرجه أيضا في الاستقراض وفي التمنى نحوه، وأخرجه أحمد (ج2: ص256-316) ومسلم أيضا فكان على المصنف أن يقول متفق عليه.
1875- قوله: (ما من يوم) "ما" نافية و"من" زائدة لتأكيد الإستغراق والمعنى ليس يوم (يصبح
العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا. ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا)). متفق عليه.

(12/36)


العباد فيه) صفة يوم (إلا ملكان) مبتدأ خبره (ينزلان) أي فيه وهذه الجملة مع ما يتعلق بها في محل الخبر وهو مستثنى من محذوف أي على وجه إلا هذا الوجه كذا في المرقاة. وقال القسطلاني: "ما" بمعنى ليس و"يوم" اسمه و"من" زائدة و"يصبح العباد" صفة "يوم" وملكان مستثنى من محذوف وهو خبر ما أي ليس يوم موصوف بهذا الوصف ينزل فيه أحد إلا ملكان، فحذف المستثنى منه ودل عليه بوصف الملكين ينزلان (فيقول أحدهما) الخ قال السندي: لا فائدة في هذا القول على تقدير عدم سماع الناس ذلك، إذ لا يحصل به ترغيب ولا ترهيب بدون السماع، لأنا نقول تبليغ الصادق يقوم مقام السماع فينبغي للعاقل أن يلاحظ كل يوم هذا الدعاء بحيث كأنه يسمعه من الملكين فيفعل بسبب ذلك ما لو سمع من الملكين لفعل. وهذا هو فائدة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك على أن المقصود بالذات الدعاء لهذا، وعلى هذا سواء علموا به أم لا، والله تعالى أعلم (اللهم أعط) بقطع همزة أعط (منفقا) أي منفق مال. وقيل: أي من ينفق من محله في محله (خلفا) بفتح اللام أي عوضا عظيما وهو العوض الصالح أو عوضا في الدنيا وبدلا في العقبى لقوله تعالى ?وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه? [سبأ: 39] وقوله ابن آدم أنفق أنفق عليك، قيل أبهم الخلف لتتناول المال والثواب وغيرهما، فكم من منفق مات قبل أن يقع له الخلف المالي، فيكون خلفه الثواب المعدله في الآخرة، أو يدفع عنه من السوء ما يقابل ذلك (ويقول) الملك (الآخر اللهم أعط ممسكا) أي من يمسك عن خيره لغيره (تلفا) بفتح اللام أي هلاكا وضياعا زاد ابن أبي حاتم من حديث أبي الدرداء فأنزل الله تعالى في ذلك ?فأما من أعطى واتقى إلى قوله العسرى? [الليل:5] وقوله اللهم أعط ممسكا تلفا هو من قبيل المشاكلة لأن التلف ليس بعطية. قال الحافظ: تضمنت الآية الوعيد بالتيسير لمن ينفق في وجوه البر، والوعيد بالتعسير لعكسه والتيسير المذكور أعم من أن يكون لأحوال

(12/37)


الدنيا وأحوال الآخرة، وكذا دعاء الملك بالخلف يحتمل الأمرين، وأما الدعاء بالتلف فيحتمل تلف ذلك المال بعينه، أو تلف نفس صاحب المال أو المراد به فوات أعمال البر بالتشاغل بغيرها. قال النووي: الإنفاق الممدوح ما كان في الطاعات، وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك بحيث لا يذم ولا يسمى سرفا والإمساك المذموم الإمساك عن هذا. وقال القرطبي: هو يعم الواجبات والمندوبات لكن الممسك عند المندوبات لا يستحق هذا الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه (متفق عليه) وأخرجه ابن حبان والطبراني بنحوه كما في الترغيب. وفي الباب عن أبي الدرداء عند أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي.
1876- (3) وعن أسماء، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انفقي ولا تحصى فيحصى الله عليك، ولا توعي، فيوعي الله عليك ارضخي ما استطعت)).

(12/38)


1876- قوله: (وعن أسماء) بنت الصديق الأكبر (قالت قال) لي (رسول الله صلى الله عليه وسلم انفقي) بهمزة قطع وكسر فاء (ولا تحصى) بضم أوله وكسر الصاد صيغة نهى المؤنث من الإحصاء، أي لا تعدي ما أنفقته فتستكثريه (فيحصى الله عليك) بنصب فيحصى مع كسر صاده جواب النهى أي حتى يعطيك الله أيضا بحساب ولا يرزقك من غير حساب. والمراد التعليل، وقيل معناه ولا تبقى شيئا للإدخار فإن من أبقى شيئا إحصاه وقوله "فيحصى الله عليك" أي فيقل الرزق عليك بقطع البركة ومنع الزيادة ويجعله كالشيء المعدود أو فيحاسبك عليه في الآخرة. قال الطيبي: أصل "الإحصاء" الإحاطة بالشيء حصرا وتعداد أي معرفة قدره وزنا أو عددا والمراد به ههنا عد الشيء للتبقية والقنية وإدخاره للإعتداد به وترك الإنفاق منه في سبيل الله، وإحصاء الله تعالى يحتمل وجهين، أحدهما أنه يحبس عنك مادة الرزق ويقلله بقطع البركة حتى يصير كالشيء المعدود، والآخر أنه يحاسبك ويناقشك عليه في الآخرة. وقال النووي: هذا من مقابلة اللفظ باللفظ للتجنيس كما قال تعالى ?ومكروا ومكر الله? [آل عمران: 54] ومعناه يمنعك كما منعت ويفتر عليك كما فترت ويمسك فضله عنك كما أمسكته (ولا توعى) بعين مهملة من أوعبت المتاع في الوعاء أوعية إذا جعلته فيه ووعيت الشيء حفظته والمراد لازم الايعاء وهو الإمساك (فيوعي الله عليك) بضم التحتية وكسر العين والنصب لكونه جوابا للنهى مقرونا بالفاء، وإسناده إلى الله مجاز عن الإمساك أي لا تجمعي في الوعاء وتبخلي بالنفقة فتجازى بمثل ذلك. وقال الخطابي: لا توعي أي لا تخبئي الشيء في الوعاء أي لأن مادة الرزق متصلة بإتصال النفقة منقطعة بانقطاعها فلا تمنعي فضلها فتحرمي مادتها وفي رواية لا توكي فيوكي الله عليك بالكاف بدل العين فيهما، والإيكاء شد رأس الوعاء بالوكاء، وهو الرباط الذي يربط به، يقال أوكى ما في سقاءه إذا شده بالوكاء، وهو الخيط الذي يشد به رأس القربة،

(12/39)


وأوكى علينا أي بخل أي لا توكى مالك عن الصدقة خشية نفاده ولا تمنعي ما في يدك، وتدخري فتنقطع مادة الرزق عنك. وفيه أن السخاء يفتح أبواب الرزق والبخل بخلافه قال النووي: معنى الحديث الحث على النفقة في الطاعة والنهى عن الإمساك والبخل (إرضخي) من باب فتح والرضخ براء وضاد معجمة وخاء كذلك العطية القليلة أي أعطى وأنفقي من غير أحجاف. وقيل أي أعطى شيئا وإن كان يسيرا، يقال رضخه أعطاه عطاء غير كثير أو قليلا من كثير (ما استطعت) أي ما دمت مستطيعة قادرة على الرضخ فما ظرفية أي مدة إستطاعتك، أو موصولة أي الذي استطعته، أو نكرة موصوفة أي شيئا إسطعته. قال النووي: معناه مما يرضى به الزبير، وتقديره إن لك في الرضخ مراتب مباحة بعضها فوق بعض وكلها يرضاها الزبير فافعلي أعلاها أو يكون معناه ما استطعت مما هو ملك لك. وقال ابن الملك: وإنما أمرها
متفق عليه.
1877- (4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال تعالى أنفق يا ابن آدم! أنفق عليك)).
1878- (5) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا ابن آدم! إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك.

(12/40)


صلى الله عليه وسلم بالرضخ لما عرف من حالها إنها لا تقدر تتصرف في مالها ولا في مال زوجها بغير إذنه إلا في الشيء اليسير الذي جرت العادة فيها بالتسامح من قبل الأزواج كالكسرة والتمرة والطعام الذي يفضل في البيت ولا يصلح للإدخار لتسارع الفساد إليه أو فيما سبق إليها من نفقتها وحصتها، ولهذا كانت تستفتيه فيما ادخل عليها الزبير وفي صحيح مسلم إن أسماء جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله! ليس لي شيء إلا ما ادخل على الزبير فهل علي جناح إن أرضخ مما يدخل علي، فقال: أرضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك. قال النووي: هذا محمول على ما أعطاها الزبير لنفسها بسبب نفقة وغيرها أو مما هو ملك الزبير ولا يكره الصدقة منه بل يرضى بها على عادة غالب الناس (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والهبة، ومسلم في الزكاة واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي.
1877- قوله: (أنفق) بفتح الهمزة وكسر الفاء مجزوم على الأمر أي على عباد الله، وفي ترك تقييد النفقة بشيء معين ما يرشد إلى أن الحث على الإنفاق يشمل جميع أنواع الخير (أنفق عليك) بضم الهمزة وكسر الفاء مجزوم جوابا بصيغة المضارع أي أعطك خلفه بل أكثر من أضعافا مضاعفة وهو معنى قوله تعالى ?وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ? [سبا:39] فيتضمن الحث على الإنفاق يعني في وجوه الخير والتبشير بالخلف من فضل الله تعالى (متفق عليه) هذا طرف من حديث طويل أخرجه البخاري في تفسير سورة هود، ومسلم في الزكاة وأخرجه البخاري أيضا مقتصرا على هذا القدر، في باب ?يريدون أن يبدلوا كلام الله? من كتاب التوحيد، وهو من الأحاديث القدسية وقد أخرجه أحمد (ج2:ص314) والبيهقي أيضا.

(12/41)


1878- قوله: (يا ابن آدم إن تبذل) بضم الذال المعجمة وفي مسلم يا ابن آدم إنك إن تبذل (الفضل) هو ما زاد على قدر الحاجة، "وإن" مصدرية مع مدخولها مبتدأ خبره (خير لك) أي بذل الزيادة على قدر الحاجة خير لك في الدنيا والآخرة (وإن تمسكه) أي إمساك ذلك الفضل ومنعه (شر لك) أي عندالله وعند
ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول)). رواه مسلم.
1879- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين، عليهما جنتان من حديد.

(12/42)


الناس. قال النووي: قوله "إنك إن تبذل الفضل" الخ هو بفتح همزة أن ومعناه إن بذلك الفاضل عن حاجتك وحاجة عيالك فهو خير لك لبقاء ثوابه، وإن أمسكته فهو شر لك لأنه إن أمسك عن الواجب استحق العقاب عليه، وإن أمساك عن المندوب فقد نقص ثوابه وفوت مصلحة نفسه في آخرته وهذا كله شر (ولا تلام على كفاف) بفتح الكاف وهو من الرزق القوت وهو ما كف عن الناس وأغنى عنهم. وقيل: الكفاف ما كف عن الحاجة إلى الناس مع القناعة، لا يزيد على قدر الحاجة أي لا تذم على إمساك كفاف، وحفظه يعني إن حفظت من مالك قدر حاجتك لا لوم عليك وإن حفظت ما فضل على قدر حاجتك فأنت بخيل، والبخيل ملوم، قال النووي: معنى قوله "لا تلام على كفاف" إن قدر الحاجة لا لوم على صاحبه في حفظه وإمساكه، وهذا إذا لم يتوجه في الكفاف حق شرعي كمن كان له نصاب زكوى، ووجبت الزكاة بشروطها وهو محتاج إلى ذلك النصاب لكفافه، وجب عليه إخراج الزكاة ويحصل كفايته من جهة مباحة (وأبدأ) أي ابتدأ في إعطاء الزائد على الكفاف (بمن تعول) أي بمن تمونه ويلزمك نفقته. يقال عال الرجل عياله يعولهم إذا قام بما يحتاجون إليه من قوت كسوة أي إبداء في إنفاق الفضل (أي ما يزيد على ما يحصل منه الكفاف) بعيالك ووسع عليهم أولا زيادة على نفقتهم الواجبة والمقصود إن العيال والقرابة أحق من غيرهم؟ وفيه الإبتداء بالأهم فالأهم (رواه مسلم) في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في الزهد والبيهقي (ج4:ص182).

(12/43)


1879- قوله: (مثل البخيل والمتصدق) وفي رواية المنفق أي صفتهما (جنتان) بضم الجيم وتشديد النون تثنية جنة، وهو كل ما وقى الإنسان واجنه وأحصنه، والمراد به هنا الدرع. وقيل: الجنة في الأصل الحصن، وسميت بها الدرع لأنها تجن صاحبها أي تحصنه، وقوله "جنتان: هكذا وقع في جميع النسخ الحاضرة بالنون، وكذا في المصابيع، وكذا في جامع الأصول، وكذا نقله المنذري في الترغيب، وهكذا في صحيح مسلم، وهي رواية إبراهيم بن نافع عن الحسن بن مسلم عن طاووس عن أبي هريرة. ووقع عند البخاري في هذه الرواية جبتان بالباء المؤحدة تثنية جبة، وهو اللباس المعروف. ويظهر من كلام الحافظ في الزكاة إن المحفوظ في هذه الرواية بالموحدة ومن رواه فيها بالنون فقد صحف. ورجحت رواية النون لقوله من حديد ولقوله قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها. قال الحافظ: ولا مانع من إطلاع الجبة بالباء على الدرع. وقال السندي: إطلاق الجبة بالباء
قد أضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة، إنبسطت عنه. وجعل البخيل كلما هم بصدقة، قلصت وأخذت، كل حلقة بمكانها)).

(12/44)


على الجنة بالنون مجازا غير بعيد، فينبغي أن يكون الجنة بالنون هو المراد في الروايتين (قد اضطرت أيديهما) قال القسطلاني: بفتح الطاء ونصب التحتية الثانية من أيديهما عند أبي ذر على المفعولية ولغيره بضم الطاء وسكون التحتية مرفوع نائب عن الفاعل. وقال القاري: بضم الطاء أي شدت وضمت والصقت، وفي نسخة بفتح الطاء ونصب أيديهما على أن ضمير الفعل إلى جنس الجنة المفهوم من التثنية (إلى ثديهما) بضم المثلثة وكسر الدال المهملة وتشديد المثناة التحتية جمع ثدى بفتح فسكون (وتراقيهما) بفتح مثناة فوق وكسر قاف جمع ترقوة بفتح التاء المثناة وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو، وهما العظمان المشرفان في أعلى الصدر من رأس المنكبين إلى طرف ثغرة النحر (فجعل) أي طفق (المتصدق كلما تصدق) أي هم يتصدق بصدقة (إنبسطت) أي انتشرت الجنة واتسعت وسبغت (عنه) أي عن المتصدق زاد في رواية حتى تغشى أنامله (بفتح الشين المعجمة أي تسترها) وتعفو أثره (بنصب الراء أي تستر أثره، ويقال عفا الشيء وعفوته أنا، لازم ومتعد، ويقال عفت الدار إذا غطاها التراب. والمعنى إن الصدقة تستر خطاياه كما يغطي الثوب الذي يجر على الأرض أثر صاحبه إذا مشى بمرور الذيل عليه). (هم بصدقة) أي قصد إليها (قلصت) بالقاف واللام المخففة والصاد المهملة المفتوحات أي انضمت وانجمعت وانقبضت جنته عليه (وأخذت كل حلقة) بسكون اللام من الجنة (بمكانها) يعني اشتدت والتصقت الحلق بعضها ببعض، والباء زائدة. قال التوربشتي: معنى الحديث إن الجواد الموفق إذا هم بالصدقة اتسع لذلك صدره وطاوعته نفسه انبسطت بالبذل والعطاء يداه كالذي لبس درعا فاسترسلت عليه، وأخرج منها يديه فانبسطت حتى خلصت إلى ظهور قدميه فاجنته وحصنته، وإن البخيل إذا أراد الإنفاق حرج به صدره واشمأزت عنه نفسه، وانقبضت عنه يداه كالذي أراد أن يستجن بالدرع وقد غلت يداه إلى عنقه فحال ما ابتلى به بينه وبين ما يبتغيه فلا يزيده

(12/45)


لبسها إلا ثقلا، ووبالا والتزاما في العنق والتواء وأخذا بالترقوة -انتهى. وقال الحافظ في الفتح: قال الخطابي وغيره: وهذا مثل ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للبخيل والمتصدق فشبهما برجلين أراد كل واحد منهما أن يلبس درعا يستتر به من سلاح عدوه فصبها على رأسه ليلبسها، والدروع أول ما تقع على الصدر والثديين إلى أن يدخل الإنسان يديه في كميها، فجعل المنفق كمن لبس درعا سابغة فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وهو معنى قوله حتى تعفو أثره أي تستر جميع بدنه. وجعل البخيل كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه كلما أراد لبسها اجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته، وهو معنى قوله قلصت أي تضامت واجتمعت. والمراد إن الجواد إذا هم بالصدقة إنفسخ لها صدره وطابت نفسه فتوسعت في الإنفاق أي وطاوعت يداه بالإنفاق فامتدتا بالعطاء، والبخيل
متفق عليه.
1880- (7) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة،

(12/46)


إذا حدث نفسه بالصدقة شحت نفسه فضاق صدره وانقبضت يداه ?ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون? [الحشر:9]- انتهى. وقال الطيبي: أوقع المتصدق مقابل البخيل، والمقابل الحقيقي السخي إيذانا بأن السخاء ما أمر به الشرع وندب إليه من الإنفاق لا ما يتعافاه المبذرون، وخص المشبه بهما بلبس الجبتين من الحديد إعلاما بأن الشح والقبض من جبلة الإنسان وخلقته، وإن السخاء من عطاء الله وتوفيقه يمنحه من يشاء من عباده المفلحين. وخص اليد بالذكر لأن السخي والبخيل يرصفان ببسط اليد وقبضها، فإذا أريد المبالغة في البخل قيل مغلولة يده إلى عنقه وثديه وترقيه. وإنما عدل عن الغل إلى الدرع لتصور معنى الإنبساط والتقلص والأسلوب من التشبيه المفرق شبه السخي الموفق، إذا قصد التصدق يسهل عليه ويطاوعه قلبه بمن عليه الدرع، ويده تحت الدرع. فإذا أراد أن يخرجها منها وينزعها يسهل عليه والبخيل على عكسه -انتهى. وقال المنذري: شبه نعم الله تعالى ورزقه بالجنة وفي رواية بالجبة فالمنفق كلما انفق إتسعت عليه النعم وسبغت ووفرت حتى تستره سترا كاملا شاملا. والبخل كلما أراد أن ينفق منعه الشح والحرص وخوف النقص فهو بمنعه يطلب أن يزيد ما عنده، وإن تتسع عليه النعم فلا تتسع ولا تستر منه ما يروم ستره والله سبحانه أعلم -انتهى. وزاد في رواية بعد قوله كل حلقة بمكانها "قال أي أبوهريرة : فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع". قال النووي: وفي هذا دليل على لباس القميص وكذا ترجم عليه البخاري باب جيب القميص من عند الصدر لأنه المفهوم من لباس النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة مع أحاديث أخرى صحيحة وردت في ذلك. قال الحافظ نقلا عن ابن بطال: وموضع الدلالة منه إن البخيل إذا أراد إخراج يده أمسكت في الموضع الذي ضاق عليها وهو الثدي والتراقى وذلك في الصدر، قال فبان إن جيبه كان في صدره لأنه لم كان في يده

(12/47)


لم تضطر يداه إلى ثدييه وتراقيه. (متفق عليه) أخرجه البخاري بهذا اللفظ في باب جيب القميص من عند الصدر وغيره من كتاب اللباس، ومسلم في الزكاة وأخرجه البخاري أيضا في الزكاة وفي الجهاد وفي الطلاق، وأحمد في مواضع منها في (ج2:ص245-246) والنسائي والبيهقي في الزكاة.
1880- قوله: (اتقوا الظلم) الذي هو مجاوزة الحد والتعدي على الخلق (فإن الظلم) في الدنيا (ظلمات) على صاحبه (يوم القيامة) فلا يهتدي بسببها يوم يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم فالظلمة حسية محمولة على
واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم)). رواه مسلم.
1881- (8) وعن حارثة بن وهب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تصدقوا، فإنه يأتي عليكم زمان

(12/48)


ظاهرها. وقيل: معنوية يعني إن المراد بالظلمات الشدائد وبه فسروا قوله تعالى ?قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر? [الأنعام:63] أي شدائدهما، ويحتمل أنها عبارة عن الأنكال والعقوبات (واتقوا الشح) مثلث الشين قيل: الشح أشد البخل وأبلغ في المنع من البخل. وقيل: هو البخل مع الحرص لكنز المال وإدخاره. الشح بخل الرجل بما في يد غيره كأن رأى إنسانا يتصدق فقال له لا تفعل ذلك فإنه يذهب مالك فتصير فقيرا أحرص على حفظ مالك ينفعك، والبخل هو المنع من مال نفسه. وقيل: البخل يكون في المال والشح يكون فيه وفي غيره من معروف أو طاعة. وقيل: الشح الحرص على ما ليس عنده والبخل بما عنده (فإن الشح أهلك من كان قبلكم) من الأمم فداءه قديم وبلاءه عظيم. قال القاضي: يحتمل أن هذا الهلاك، هو الهلاك الذي أخبر عنهم به في الدنيا بأنهم سفكوا دماءهم، ويحتمل أنه هلاك الآخرة، وهذا الثاني أظهر، ويحتمل أنه أهلكهم في الدنيا والآخرة (حملهم على أن سفكوا دماءهم) أي إسألوها بقتل بعضهم بعضا حرصا على استئثار المال (واستحلوا محارمهم) أي ما حرم الله من أموالهم وغيرها. وقال الطيبي: إنما كان الشح سببا لذلك لأن في بذل المال ومؤاساة الأخوان التحاب والتواصل، وفي الإمساك والشح التهاجر والتقاطع وذلك يؤدي إلى التشاجر والتعادي من سفك الدماء، واستباحة المحارم من الفروج والإعراض والأموال وغيرها -انتهى. (رواه مسلم) في البر والصلة وأخرجه أيضا أحمد والبخاري في الأدب المفرد.

(12/49)


1881- قوله: (وعن حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة (بن وهب) بفتح الواو وسكون الهاء الخزاعي أخي عبدالله بن الخطاب لأمه (تصدقوا) أي اغتنموا التصدق عند وجود المال وعند حصول من يقبله وأقبلوا منة الفقير في أخذه منكم، فالمعنى تصدقوا قبل أن لا تتصدقوا على سنن حجوا قبل أن لا تحجوا. قاله القاري. فإن قيل: إن من أخرج صدقته مثاب على نيته، وإن لم يجد من يقبلها، فالجواب إن الواجد يثاب ثواب المجازاة والفضل والناوي يثاب ثواب الفضل فقط. والأول أرجح (فإنه يأتي عليكم) وفي رواية، فسيأتي والخطاب لجنس الأمة والمراد بعضهم (زمان) أي قرب الساعة وهو زمان المهدي ونزول عيسى عليه السلام، وقيل: هو زمان ظهور أشراط الساعة كما ورد لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقة وحتى
يمشي الرجل بصدقته، فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل: لو جئت بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم فلا حاجة لي بها)). متفق عليه.
1882- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول الله! أي الصدقة أعظم أجرا. قال: ((إن تصدق

(12/50)


يعرضه، فيقول الذي يعرضه عليه لا إرب لي فيه (يمشي الرجل) أي الإنسان فيه. (بصدقته) أي يذهب بها وجملة "يمشي" في محل رفع على أنها صفة لزمان، والعائد محذوف أي فيه (فلا يجد من يقبلها) قال النووي: سبب عدم قبولهم الصدقة في آخر الزمان لكثرة الأموال وظهور كنوز الأرض ووضع البركات فيها كما ثبت في الصحيح بعد هلاك يأجوج ومأجوج (وهو زمان المهدي ونزول عيسى عليه السلام) وقتله آمالهم وقرب الساعة وعدم إدخارهم المال وكثرة الصدقات. وقال القسطلاني: وهذا إنما يكون في الوقت الذي يستغنى الناس عن المال فيه لاشتغالهم بأنفسهم عند الفتنة فلا يلوون على الأهل فضلا عن المال، وهذا في زمن الدجال، أو يكون ذلك لفرط الأمن والعدل البالغ بحيث يستغنى كل أحد بما عنده عما عند غيره. وهذا يكون في زمن المهدي وعيسى، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما وقع في زمن عمر بن عبدالعزيز وبه جزم البيهقي، فلا يكون من أشراط الساعة وفي تاريخ يعقوب بن سفيان من طريق يحيى بن أسيد بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب بسند جيد قال لا، والله ما مات عمر بن عبدالعزيز حتى قعد الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء فما يبرح حتى يرجع بماله فنتذكر من نضعه فيه فلا نجده فيرجع فقد أغنى عمر بن عبدالعزيز الناس. وسبب ذلك بسط عمر بن عبدالعزيز العدل وإيصال الحقوق إلى أهلها حتى استغنوا، كذا ذكره في السراج المنير، ورجح الحافظ هذا الأخير إذ قال وهذا أرجح. لأن الذي رواه عدي بن حاتم ثلاثة أشياء أمن الطريق والاستيلاء على كنوز كسرى وفقد من يقبل الصدقة من الفقراء. فذكر عدي إن الأوليين وقعا وشاهد هما، وإن الثالث سيقع فكان كذلك لكن بعد موت عدي في زمن عمر بن عبدالعزيز وسببه بسط العدل وإيصال الحقوق لأهلها، حتى استغنوا. وأما فيض المال الذي يقع في زمن عيسى عليه السلام، فسببه كثرة المال وقلة الناس واستشعارهم بقيام الساعة -انتهى. (يقول الرجل) أي الذي

(12/51)


يريد المتصدق أن يعطيه إياها (لو جئت بها) أي بالصدقة (بالأمس) أي قبل ذلك من الزمن الماضي حال فقري (لقبلتها فأما اليوم) أي الآن (فلا حاجة لي بها) وفي رواية فيها. وفي الحديث الحث على الصدقة والمبادرة والإسراع بها وإغتنام إمكانها قبل تعذرها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الفتن، ومسلم في الزكاة، واللفظ للبخاري وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص306) والنسائي.
1882- قوله: (قال رجل) قال الحافظ: لم أقف على تسميته (إن تصدق) بتخفيف الصاد أي تتصدق
وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى. ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم. قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)).

(12/52)


بالتاءيين فحذفت إحداهما تخفيفا، ويحتمل أن يكون بتشديد الصاد والدال جميعا، وأصله تتصدق فأبدلت إحدى التائيين صادا، وأدغمت الصاد في الصاد، وهي في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف أي هي تصدقك أو أعظم الصدقة أجرا إن تصدق (وأنت صحيح) جملة اسمية وقعت حالا. والمراد بالصحيح في هذا الحديث من لم يدخل في مرض مخوف كذا قيل (شحيح) خبر بعد خبر أي من شأنه الشح للحاجة إلى المال. وقال ابن الملك: قوله "شحيح" تأكيد وبيان للصحيح لأن الرجل في حال صحته يكون شحيحا، وفي رواية: وأنت صحيح حريص (تخشى الفقر) أي بصرف المال خبر بعد خبر أو حال بعد حال أو استئناف بيان قاله القاري: والمراد أن تقول في نفسك لا تتلف مالك كيلا تصير فقيرا فتحتاج إلى الناس (وتأمل) بضم الميم من نصر (الغنى) أي ترجوه وتطمع فيه يعني وتقول أترك مالك في بيتك لتكون غنيا ويكون لك عز عند الناس بسبب غناك (ولا تمهل) من الإمهال وهو بالنصب عطفا على تصدق أو بالجزم على النهى أو بالرفع على أنه خبر أي ولا تؤخر الصدقة أي ولا تمهل نفسك (حتى إذا بلغت) أي الروح (الحلقوم) بضم الحاء المهملة مجرى النفس، والمراد قاربت بلوغه إذ لو بلغته حقيقة لم تصح وصيته ولا صدقته ولا شيء من تصرفاته بإتفاق الفقهاء، ولم يجر للروح ذكر إغتناء بدلالة السياق (لفلان) كناية عن الموصى له (كذا) كناية عن الموصى به، والجملة مبتدأ وخبر (وقد كان لفلان) أي الوارث قيل: جملة حالية أي وقد صار المال الذي تتصرف فيه في هذه الحالة ثلثاه حقا للوارث وأنت تتصدق بجميعه فكيف يقبل منك. وقال القسطلاني: أي وقد صار ما أوصى به للوارث فيبطله إن شاء إذا زاد على الثلث، أو أوصى به لوارث آخر. وقيل: المعنى أنه قد خرج عن تصرفه وكمال ملكه واستقلاله بما شاء من التصرف، فليس له في وصيته كبير ثواب وكثير فضل بالنسبة إلى صدقة الصحيح الشحيح، وحاصل معنى الحديث أفضل الصدقة إن تتصدق في حال صحتك، واختصاص المال بك وشح

(12/53)


نفسك، بأن تقول لا تتلف مالك كيلا تصير فقيرا لا في حال سقمك وسياق موتك، لأن المال حينئذ خرج عنك وتعلق بغيرك يعني أعظم الصدقة أجرا إن تصدق حال حياتك مع احتياجك إليه، فإن الصدقة في هذه الحالة أشد مراغمة للنفس، لأن فيه مجاهدة النفس على إخراج المال الذي هو شقيق الروح مع قيام مانع الشح، وليس هذا إلا من قوة الرغبة في القربة وصحة العقد فكان أفضل وأعظم أجرا من غيره. وقال الخطابي: معنى الحديث إن الشح غالب في حال الصحة فإذا سمح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لأجره بخلاف من أشرف على الموت وأيس من الحياة، ورأى مصير المال لغيره فإن صدقته حينئذ ناقصة بالنسبة إلى حالة الصحة والشح، ورجاء البقاء وخوف الفقر. قال: وفيه دليل على أن المرض يقصر
متفق عليه.
1883- (10) وعن أبي ذر، قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: ((هم الأخسرون ورب الكعبة، فقلت: فداك أبي وأمي من هم الأكثرون أموالا، إلا من قال

(12/54)


يد المالك عن بعض ملكه، وإن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه سمة البخل، ولذلك شرط أن يكون صحيح البدن شحيحا بالمال يجد له وقعا في قلبه لما يأمله من طول العمر، ويخالف من حدوث الفقر. قال الحافظ: وفي الحديث أن تنجيز وفاء الدين والتصدق في الحياة وفي الصحة أفضل منه بعد الموت وفي المرض، وأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله وأنت صحيح حريص تأمل الغنا إلى آخره، لأنه في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالبا لما يخوفه به الشيطان ويزين له من إمكان طول العمر. والحاجة إلى المال كما قال تعالى: ?الشيطان يعدكم الفقر? [البقرة:268] الآية وأيضا فإن الشيطان ربما زين له الحيف في الوصية أو الرجوع عن الوصية فتيحمض تفضيل الصدقة الناجزة. قال بعض السلف عن بعض أهل الترف يعصون الله تعالى في أموالهم مرتين يبخلون بها وهي في أيديهم، يعني في الحياة ويسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم يعني بعد الموت، وأخرج الترمذي بإسناد حسن وصححه ابن حبان عن أبي الدرادء مرفوعا قال مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته مثل الذي يهدي إذا شبع وهو يرجع إلى معنى حديث الباب. وروى أبوداود وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا لأن يتصدق الرجل في حياته وصحته بدرهم خير له، من أن يتصدق عند موته بمائة - انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الوصايا، ومسلم في الزكاة، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص231، 250) وابن ماجه في الوصايا، والنسائي فيه وفي الزكاة والبيهقي وغيرهم.

(12/55)


1883- قوله: (هم الأخسرون) هم ضمير عن غير مذكور لكن يأتي تفسيره وهو قوله هم الأكثرون وفيه أنه يصح رجع الضمير إلى الحاضر في الذهن ثم تفسيره للمخاطب إذا سأل عنه (ورب الكعبة) الواو للقسم (فداك أبي وأمي) بفتح الفاء لأنه ماض خبر بمضى الدعاء، ويحتمل كسر الفاء والقصر لكثرة الاستعمال أي يفديك أبي وأمي وهما أعز الأشياء عندي قاله القاري. قال العراقي الرواية المشهورة بفتح الفاء والقصر على أنها جملة فعليه, وروى بكسر الفاء والمد على الجملة الاسمية - انتهى. (من هم) أي من الأخسرون الذين أجملتهم (هم الأكثرون أموالا) قال القاري: لعل جمع التمييز لإرادة الأنواع أو المقابلة الجمع بالجمع أي الأخسرون مالا هم الأكثرون مالا. قال ابن الملك: يعني من كان ماله أكثر خسرانه أكثر (إلا من قال) أي فعل بماله. والقول
هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم)). متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1884- (11) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السخي قريب من الله قريب من الجنة، قريب من الناس،

(12/56)


يطلق في لسان العرب على الأفعال كلها. قال الطيبي: يقال قال بيده أي أشار، وقال بيده أي أخذ، وقال برجله أي ضرب، وقال بالماء على يده أي صبه، وقال بثوبه أي رفعه فيطلقون القول على جميع الأفعال أتساعا (هكذا وهكذا وهكذا) أي إلا من صدق بماله وبذله ونثره في كل جانب فقوله: "قال هكذا" الخ كناية عن التصدق العام في جميع جهات الخير (من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله) هو بيان لقوله هكذا وهكذا وهكذا واكتفي في الإشارة بثلاثة مع أن الجوانب المذكورة أربعة اكتفاء. وقيل المراد بالثلاث الجمع لأنه أقل مراتب الجمع، ولذا قال ابن الملك أي الأمن تصدق به من جوانبه الأربع على المحاتجين، أي فليس من الخاسرين بل من الفائزين، ويمكن أن يراد بالثلاث القدام والخلف وأحد الجانبين وهذه رواية مسلم، وفي رواية البخاري وقع هكذا وهكذا مرتين. فالمراد بها التكرار والتكثير. قال القاري. وقال في الحديث بمعنى أشار بيده إشارة مثل هذه الإشارة ومن بيان الإشارة، والأظهر أن يتعلق من بالفعل لمجيء عن، والتقدير مبتدأ من بين يديه، ومن خلفه ومجاوزا عن يمينه وشماله (وقليل ما هم) جملة اسمية "فهم" مبتدأ مؤخر، "وقليل" خبره. وما زائدة مؤكدة للقلة أو صفة يعني ومن يفعل ذلك قليل. قال النووي: في حديث الحث على الصدقة في وجوه الخير وأنه لا يقصر على نوع من وجوه البر، بل ينفق في كل وجه من وجوه الخير يحضر، وهو المراد بإشاراته - صلى الله عليه وسلم - إلى قدام ووراء والجانبين، وفيه جواز الحلف بغير تحليف بل هو مستحب إذا كان فيه مصلحة كتوكيد أمر مهم وتحقيقه ونفي المجاز عنه. (متفق عليه) واللفظ لمسلم أخرجه من طريق المعرور بن سويد عن أبي ذر وأخرجه البخاري من طريق زيد بن وهب عن أبي ذر في الاستقراض والاستئذان والرقاق. بلفظ الأكثرون هم الأقلون إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وأشار أبوشهاب (أحد رواته عند البخاري) بين يديه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما

(12/57)


هم رواه بهذا اللفظ في الاستقراض في أثناء حديث، وروى مسلم أيضا من طريق ابن وهب بنحوه، وأخرجه أحمد من الطريقتين، والترمذي والنسائي من طريق المعرور بن سويد.
1884- قوله: (السخي) هو الذي اختار رضا المولى في بذله على الغني (قريب من الله) أي من رحمته (قريب من الجنة) بصرف المال وإنفاقه فيما ينبغي فالسخاء سبب موصل إلى الجنة (قريب من الناس) لأن السخي
بعيد من النار. والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار. ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل)). رواه الترمذي.

(12/58)


يحبه جميع الناس، ولو لم يحصل لبعضهم نفع من سخاوته كمحبة العادل (بعيد من النار) هو لازم لما قبله من قوله قريب من الجنة (والبخيل) هو الذي لا يؤدي الواجب عليه. وقيل: المراد بالسخاوة والبخل هنا أداء الزكاة ومنعها. وقيل: المراد الاتصاف بهذين الخلقين مطلقا (بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار) معنى هذه الجملة ظاهر مما قبلها، والأشياء تتبين بأضدادها. قال العلقمي: من أدى زكاة ماله فقد امتثل أمر الله وعظمه وأظهر الشفقة على خلق الله تعالى، وواساهم بماله، فهو قريب من الله وقريب من الناس فلا تكون منزلته إلا الجنة، ومن لم يؤدها فأمره إلى عكس ذلك ولذا كان جاهل سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل- انتهى. (ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل) يريد بالجاهل ههنا ضد العابد، لأنه ذكره بازاءه يعني رجلا يؤدي الفرائض ولا يؤدي النوافل، وهو سخي أحب إلى الله تعالى من رجل يكثر النوافل وهو بخيل، لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، والمراد بحب الدنيا حب المال (رواه الترمذي) في البر والصلة من طريق سعيد بن محمد الوراق عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة. قال: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث سعيد بن محمد، وقد خولف سعيد بن محمد في رواية هذا الحديث إنما يروي عن يحيى بن سعيد عن عائشة شيء مرسل - انتهى. قلت: حديث أبي هريرة أخرجه العقيلي، وقال ليس لهذا الحديث أصل وسعيد الوراق. قال ابن معين: ليس بشيء. قال السيوطي في اللآلي (ج2 ص48) أخرجه الترمذي وابن حبان في الروضة والبيهقي في الشعب والخطيب في ذم البخلاء من طرق عن سعيد الوراق به. قال ابن حبان: غريب. وقال البيهقي تفرد به الوراق وهو ضعيف. وقال السيوطي: في التعقبات لم ينفرد به الوراق، بل تابعه عبدالعزيز بن أبي حازم أخرجه الديلمي. وحديث عائشة أخرجه البيهقي في الشعب، وفيه تليد بن سليمان وسعيد بن مسلمة

(12/59)


وكلاهما ضعيفان، والطبراني في الأوسط وفيه سعيد الوراق، والخطيب في ذم البخلاء وفيه خالد بن يحيى القاضي عن غريب بن عبدالواحد وهما مجهولان. وروى أيضا من حديث أنس وفيه محمد بن تميم يضع ومن حديث جابر أخرجه البيهقي في الشعب، وفيه سعيد بن مسلمة، ومن حديث ابن عباس أخرجه تمام في فوائده ذكر هذه الأحاديث السيوطي في اللآلى (ج2 ص48، 49) مع الكلام فيها وقال الشوكاني في الفوائد المجموعة: وقد روى هذا الحديث من طرق لا تقوم بها الحجة عن أنس وابن عباس وعائشة، وجابر بألفاظ مختلفة وقال الدارقطني لهذا الحديث طرق لا يثبت منها شيء.
1885- (12) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((لأن يتصدق المرأ في حياته بدرهم خير له، من أن يتصدق بمائة عند موته)). رواه أبوداود.
1886- (13) وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل الذي يتصدق عند موته، أو يعتق كالذي يهدي إذا شبع)). رواه أحمد،

(12/60)


1885- قوله: (لأن يتصدق المرأ في حياته) وصحته أي في الحالة التي يكون فيها شحيحا (بدرهم) أي مثلا. وقال الطيبي: المراد التقليل (خير له من أن يتصدق بمائة) أي مثلا: وقال الطيبي: جاء في بعض الروايات بماله بدل بمائة" والمراد التكثير، والمعنى بماله كله وهو أبلغ (عند موته) أي احتضار موته فكأنه ميت قاله الطيبي: وإنما كان ذلك خيرا من هذا لأنه يشق عليه إخراج ماله لما يخوفه به الشيطان من الفقر، وطول العمر فالصدقة فيها مزيد قهر للنفس والشيطان وقصر الأمل والوثوق بما عند الله تعالى (رواه أبوداود) في الوصايا وسكت عنه، وقال المنذري: في إسناده شرحبيل بن سعد الأنصاري الخطمي مولاهم المدني كنيته أبوسعيد ولا يحتج به - انتهى. قلت: شرحبيل هذا ضعفه النسائي والدارقطني، ولينه أبوزرعة واختلف فيه قول ابن معين وذكره ابن حبان في الثقات وخرج ابن خزيمة وابن حبان حديثه في صحيحيهما. وقال ابن سعد: كان شيخا قديما روى عن زيد بن ثابت وعامة الصحابة، وبقي حتى اختلط واحتاج، وله أحاديث وليس يحتج به. وقال في التقريب: صدوق اختلط بآخره مات سنة (123) وقد قارب المائة - انتهى. والحديث عزاه السيوطي في جامع الصغير لابن حبان أيضا.

(12/61)


1886- قوله: (عند موته) أي احتضاره (أو يعتق) أي عند موته (كالذي يهدي) من أهدى (إذا شبع) كسمن أي كالذي يعطي بعد ما قضي حاجته وهو قليل الجدوى ولا يعتاده إلا دنيء الهمة، وإنما مثل بذلك لأن الثاني أشهر وإلا فالعكس أولى، فإن الذي شبع ربما يتوقع حاجته إلى ذلك الشيء بخلاف الذي يعتق أو يتصدق عند موته إلا أن يقال قد لا يصبر عند موته فيحتاج إلى ذلك الشيء فلذلك يعد إعتاقه وتصدقه فضلية ما لكن هذا إذا لم يكن بطريق الوصية قاله السندي. وقال الطيبي: شبه تأخير الصدقة عن أوانه ثم تداركه في غير أوانه بمن تفرد بالأكل واستأثر بنفسه، ثم إذا شبع يعطيه غيره. وإنما يحمد إذا كان عن إيثار كما قال الله تعالى: ?ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة?[الحشر- 9] وما أحسن موقع يهدي في هذا المقام ودلالتها على الاستهزاء والسخرية بالمهدي إليه - انتهى. قال القاري: والأظهر إن المراد أنه مرتبة ناقصة، لأن التصدق والاعتاق حال الصحة أفضل كما إن السخاوة عند المجاعة أكمل (رواه أحمد) (ج5 ص197)
والنسائي، والدارمي، والترمذي. وصححه.
1887-(14) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خصلتان لا تجتمعان في مؤمن، البخل وسوء الخلق)).
(والنسائي والدارمي والترمذي) في الوصايا، واللفظ للدارمي إلا قوله :إذا شبع" فإنه للترمذي ولأحمد في رواية ولفظ الدارمي بعد ما شبع وللنسائي وأحمد في رواية بعد ما شبع (وصححه) أي الترمذي وأخرجه أيضا البيهقي (ج4 ص910) والحاكم (ج2 ص213) وصححه وأقره الذهبي.

(12/62)


1887- قوله: (خصلتان لا تجتمعان في مؤمن) أي كامل الإيمان (البخل وسوء الخلق) قيل أي لا ينبغي أن يجتمعا فيه. وقال التوربشتي: تأويل هذا الحديث أن نقول أراد به اجتماع الخصلتين فيه مع بلوغ النهاية منهما بحيث لا ينفك عنهما، ولا ينفكان عنه، ويوجد منه الرضاء بهما، فأما الذي يؤنس عنه شيء من ذلك بحيث يبخل حينا ويقلع عنه حينا أو يسوء خلقه وقتا دون وقت، أو في أمر دون أمر أو يندر منه فيندم عليه أو يلوم نفسه أو تدعوه النفس إلى ذلك فينازعها فإنه بمعزل عن ذلك، ومنه الحديث الآخر لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا على نحو ما ذكرنا في معنى هذا الحديث. وأرى له وجها آخر وهو أن نقول الشح خلة غريزية جبل عليها الإنسان فهو كالوصف اللازم له ومركزها النفس قال تعالى: ?وأحضرت الأنفس الشح?[النساء: 328]فإذا انتهى سلطانه إلى القلب واستولى عليه عرى القلب عن الإيمان لأنه يشح بالطاعة فلا يسمح به، ولا يبذل الانقياد لأمر الله تعالى، والشح بخل مع حرص فهو أبلغ في المنع من البخل، فالبخل يستعمل في الفتنة بالمال والشح في سائر ما يمتنع النفس عن الاسترسال فيه من بذل مال، أو طاعة أو معروف ووجود الشح في نفس الإنسان ليس بمذموم، لأنه طبعية خلقها الله تعالى في النفوس كالشهوة والحرص للابتلاء ولمصلحة عمار والعالم، وإنما المذموم أن يستولي سلطانه على القلب والله تعالى أعلم - انتهى كلام التوربشتي. وقال الطيبي: يمكن أن يحمل سوء الخلق على ما يخالف الإيمان فإن الخلق الحسن، هو ما به امتثال الأوامر واجتناب النواهي لا ما يتعارف بين الناس لما ورد عن عائشة رضي الله عنها وكان خلقه القرآن، وأفراد البخل من سوء الخلق وهو بعضه وجعله معطوفا عليه، يدل على أنه أسوأها وأشنعها ويؤيد هذا التأويل حديث أبي هريرة رضي الله عنه لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا والله أعلم- انتهى. وقوله خصلتان لا تجتمعان في مؤمن خبر موصوف والمبتدأ

(12/63)


البخل وسوء الخلق، قاله ابن الملك. وقال ابن حجر: "خصلتان" مبتدأ سوغه إبدال المعرفة منه في قوله البخل وسوء الخلق والخبر لا تجتمعان" وقال القاري: الظاهر إن "لا تجتمعان" صفة مخصصة مسوغة لكون المبتدأ
رواه الترمذي.
1888- (15) وعن أبي بكر الصديق، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يدخل الجنة خب ولا بخيل ولا منان)). رواه الترمذي.
1889- (16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((شرما في الرجل
نكرة، والخبر قوله البخل وسوء الخلق (رواه الترمذي) في البر والصلة، وأخرجه البخاري في لأدب المفرد. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صدقة ابن موسى- انتهى. وصدقة ابن موسى ضعفه ابن معين، وأبوداود والنسائي والدولابي والساجي، وقال الترمذي: ليس عندهم بذلك القوى. وقال في التقريب: صدوق له أوهام.

(12/64)


1888- قوله: (لا يدخل الجنة) أي دخولا أوليا (خب) بفتح الخاء المعجمة وتكسر أي لئيم، يسعى بين الناس بالفساد. قال المنذري: هو الخداع الساعي بين الناس بالشر والفساد (ولا بخيل) يمنع الواجب من المال. وقيل: أي مانع الزكاة أو مانع للقيام بمؤنة ممونة (ولا منان) من المنة أي يمن على الفقراء بعد العطاء، أو من المن بمعنى القطع لما يحب أن يوصل. وقيل: لا يدخل الجنة مع هذه الصفة حتى يجعل طاهرا منها. إما بالتوبة عنها في الدنيا أو بالعقوبة بقدرها تمحيصها في العقبى، أو بالعفو عنه تفضيلا وإحسانا، ويؤيده قوله تعالى: ?ونزعنا ما في صدروهم من غل?[الأعراف: 43]كذا في المرقاة. وقال التوربشتي معنى قوله "لا يدخل الجنة" أي لا يدخلها مع الداخلين في العريل من غير ما بأس، بل يصاب منه بالعذاب ويمحص حتى يذهب عنه آثار تلك الخصال، هذا هو السبيل في تأويل أمثال هذا الحديث ليوافق أصول الدين. قال ومما ينبغي للفطن أن يقدمه في هذا الباب ليكون من التأويل على بصيرة أن يعلم أن للشارع - صلى الله عليه وسلم - أن يقتصر في مثل هذه المواطن على القول المجل إبقاء للخوف في نفوس المكلفين وتحذيرا لهم عما فيه المنقصة في الدين بأبلغ ما يكون من الرجز. ثم يرده العلماء الراسخون إلى أصول الدين- انتهى. (رواه الترمذي) في البر والصلة، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص4، 7) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب- انتهى. والظاهر إن إسناده ضعيف لأن فيه صدقة بن موسى المتقدم ورواه عن فرقد السبخي عن مرة عن أبي بكر وفرقد صدوق عابد لكنه لين الحديث كثير الخطاء قال أحمد: رجل صالح يقوي في الحديث لم يكن صاحب حديث، وقال أيضا يروي عن مرة منكرات.
1889- قوله: (شرما في الرجل) أي من خصال الذميمة وقوله "ما في الرجل" هكذا وقع في جميع النسخ الحاضرة، وكذا في المصابيح وكذا نقله المنذري في الترغيب، ووقع في سنن أبي داود ما في رجل،

(12/65)


شح هالع، وجبن خالع)). رواه أبوداود، وسنذكر حديث أبي هريرة: لا يجتمع الشح والإيمان، في كتاب الجهاد إنشاء الله تعالى.
?الفصل الثالث?
1890- (17) عن عائشة، إن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قلن
وهكذا نقله الخطابي في المعالم، والسيوطي في الجامع الصغير (شح هالع) أي مخزن جازع والهلع أشد الجزع والضجر أي شح يحمل على الحرص على تحصيل المال والجزع على ذهابه. كما قال الله تعالى: ?إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا?[المعارج: 19-21] وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص241) أصل "الهلع" الجزع والهالع هنا الهلع. ويقال إن الشح أشد من البخل، ومعناه البخل الذي يمنعه من إخراج الحق الواجب عليه، فإذا استخرج منه هلع وجزع منه (وجبن) بضم الجيم وسكون الباء (خالع) أي شديد كأنه يخلع قلبه من شدة تمكنه منه، والمعنى خوف شديد متمكن يترتب عليه خلع قلبه فلا يستطيع القتال والمحاربة مع الكفار والإقدام عليه. وهاتان الخصلتان وإن وجدتا في النساء إلا أن الغالب وجودهما في الرجال. ولذا قال في صدر الحديث شرما في رجل، ولم يقل والمرأة مع أنها مثله في ذلك قاله الحفني. وقال التوربشتي: خص الرجل إما لأنهما ممدوحان للنساء في نوع منهما أو لأن مذمة الرجال بهما فوق مذمة النساء بهما والله أعلم. (رواه أبوداود) في الجهاد من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبدالعزيز بن مروان عن أبي هريرة. وأخرجه أيضا البخاري في تاريخه، وابن حبان في صحيحه، وسكت عنه أبوداود. وقال محمد بن طاهر: وهو إسناد متصل، وقد احتج مسلم بموسى بن علي عن أبيه (وسنذكر حديث أبي هريرة) الذي رواه النسائي في الجهاد وابن حبان والحاكم (لا يجتمع الشح والإيمان) أي في قلب عبد وقد تقدم معناه في كلام التوربشتي. وقال السندي: أي لا ينبغي للمؤمن أن يجمع بينهما إذ الشح أبعد شيء من الإيمان، أو المراد بالإيمان كماله أو المراد قلما يجتمع الشح

(12/66)


والإيمان، واعتبر ذلك بمنزلة العدم وأخبر بأنهما لا يجتمعان. ويؤيد الوجهين الأخيرين ما وقع في رواية لا يجمع الله تعالى الإيمان والشح في قلب مسلم - انتهى. (في كتاب الجهاد) لأن أول الحديث وصدره يليق بكتاب الجهاد ولذا أورده النسائي والحاكم فيه ولفظه عند النسائي لا يجمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا. وفي رواية وجه الرجل، وفي أخرى في منخري مسلم، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدأ.
1890- قوله: (إن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قلن) الضمير للبعض الغير المعين، لكن عند
للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: ((أطولكن يدا، فأخذوا قصبة يذرعونها، وكانت سودة أطولهن يدا، فعلمنا بعد إنما كان طول يدها الصدقة، وكانت أسرعنا لحوقا به زينب

(12/67)


ابن حبان من طريق يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: فقلت وهو يفيد إن عائشة هي السائلة (أينا) بضم التحتية المشددة بغير علامة التأنيث لأن سيبوية يشبه تأنيث أي بتأنيث كل في قولهم كلتهن، يعني ليست بفصيحة ذكره الزمخشري في سورة لقمان. وفي رواية النسائي أتينا بالتاء وأينا مبتدأ خبره (أسرع بك لحوقا) نصب على التمييز أي من حيث اللحوق بك يعنى يدركك بالموت، والمقصود استكشاف أنه من يموت بعده - صلى الله عليه وسلم - من أزواجه بلا واسطة (قال) - صلى الله عليه وسلم - (أطولكن) بالرفع خبر مبتدأ محذوف دل عليه السؤال أي أسرعكن لحوقا بي أطولكن (يدا) نصب على التمييز وإنما لم يقل طولاكن بلفظ: فعلى مع أن القياس هذا، لأن في مثله يجوز الإفراد. والمطابقة لمن أفعل التفضيل له يعني أكثركن صدقة فإن اليد تطلق ويراد بها المنة والنعمة مجازا (فأخذوا قصبة) بفتح القاف والصاد (يذرعونها) بالذال المعجمة أي يقدرونها بذراع كل واحدة كي يعلمن أيهن أطول جارحة يعني يقيسون أيديهن بها بناء على فهمهن، إن المراد باليد الجارحة. وإنما ذكر بلفظ: جمع المذكر والقياس ذكر لفظ جمع المؤنث اعتبار لمعنى الجمع، لا للفظ جماعة النساء أو عدل إليه تعظيما لشأنهن كقول الشاعر:
وإن شئت حرمت النساء سواكم

(12/68)


(وكانت) كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة، وفي البخاري "فكانت" أي بالفاء بدل "الواو" وكذا عند النسائي (سودة) بفتح السين بنت زمعة (أطولهن يدا) أي من طريق المساحة (فعلمنا بعد) مبني على الضم أي بعد هذا حين ماتت أو نساءه لحوقا به. وقال القسطلاني: أي بعد إن تقرر كون سودة أطولهن يدا بالمساحة (إنما) بفتح الهمزة لكونه في موضع المفعول لعلمنا (كان طول يدها) كلام إضافي مرفوع لأنه اسم كان (الصدقة) بالنصب وقوله "كان" كذا في جميع النسخ، وفي البخاري كانت بالتأنيث. قال الحافظ: الصدقة بالرفع، وطول يدها بالنصب لأنه الخبر- انتهى. أي علمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرد باليد العضو وبالطول طولها بل أراد العطاء وكثرته فاليد ههنا استعارة للصدقة، والطول ترشيح لها لأنه ملائم للمستعارة منة (وكانت أسرعنا لحوقا به زينب) كذا في النسخ الحاضرة عندنا بذكر زينب هنا، وفي البخاري وقع بدون ذكرها كما صرح به الحافظ والعيني وغيرهما. قال ميرك: وقع في بعض نسخ المشكاة هنا بعد قوله لحوقا به زيادة لفظ زينب ملحقا وليس بصحيح، لأن في عامة نسخ البخاري وقع بحذفها كما صرح به الحافظ ابن حجر في شرحه - انتهى. ورواية البخاري توهم
..................................

(12/69)


إن سودة كانت أسرع لحوقا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال النووي وقع هذا الحديث في كتاب الزكاة من البخاري بلفظ: منعقد يوهم إن أسرعهن لحاقا سودة وهذا الوهم باطل بالإجماع، يعني لأن أول نساءه لحوقا به زينب، لا سودة، وإن كانت سودة أطولهن جارحة. والصواب ما ذكره مسلم في صحيحه وهو المعروف عند أهل الحديث، إنها زينب فالصحيح تقدير زينب أو وجوده وقال الحافظ أبوعلي الصيرفي: ظاهر هذا اللفظ إن سودة كانت أسرع لحوقا وهو خلاف المعروف عند أهل العلم، إن زينب أول من مات من الأزواج، ثم نقله عن مالك والواقدي. وقال ابن بطال هذا الحديث سقط منه ذكر زينب لاتفاق أهل السير على أن زينب أول من مات من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني إن الصواب وكانت زينب أسرعنا لحوقا به وقال ابن الجوزي: هذا الحديث غلط من بعض الرواة والعجب من البخاري كيف لم ينبه عليه ولا أصحاب التعاليق ولا علم بفساد ذلك الخطابي فإنه فسره، وقال لحوق سودة من إعلام النبوة وكل ذلك وهم، وإنما هي زينب فإنها كانت أطولهن يدا بالعطاء كما رواه مسلم. وأجاب ابن رشيد بأن عائشة لا تعني سودة بقولها فعلمنا بعد أي بعد أن أخبرت عن سودة بالطول الحقيقي، ولم تذكر سببا للرجوع عن الحقيقة إلى المجاز إلا الموت، فتعين الحمل على المجاز- انتهى. وحينئذ فالضمير "في" وكانت في الموضعين عائد على الزوجة التي عناها - صلى الله عليه وسلم - بقوله أطولكن يدا، وإن كانت لم تذكر إذ هو متعين لقيام الدليل على أنها زينب كما في مسلم، مع اتفاقهم على أنها أولهن موتا فتعين أن تكون هي المرادة، وهذا من إضمار ما لا يصلح غيره كقوله حتى توارت بالحجاب، وعلى هذا فلم يكن سودة مرادة قطعا وليس الضمير عائدا عليها. وقال الزين بن المنير: وجه الجمع إن قولها فعلمنا بعد يشعر إشعارا قويا إنهن حملن طول اليد على ظاهره، ثم علمن بعد ذلك خلافه، وإنه كناية عن كثرة الصدقة والذي علمنه آخرا

(12/70)


خلاف ما اعتقدنه أولا. وقد انحصر الثاني في زينب للاتفاق على أنها أولهن موتا فتعين أن تكون هي المرادة، وكذلك بقية الضمائر بعد قوله فكانت واستغنى عن تسميتها لشهرتها بذلك- انتهى. وقال الكرماني: يحتمل أن يقال إن في الحديث اختصارا أو إكتفاء بشهرة القصة لزينب، أو يؤل الكلام بأن الضمير راجح إلى المرأة التي علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنها أول من يلحق به وكانت كثيرة الصدقة. قلت: ولكن وقع في رواية النسائي تعيين سودة ولفظه: فكانت سودة أسرعهن لحوقا به، وكذا وقع التصريح بذلك في رواية أحمد وابن سعد والبخاري في التاريخ الصغير، والبيهقي في الدلائل وابن حبان في صحيحه قال ابن سعد: قال لنا محمد بن عمر يعني الواقدي هذا الحديث، وهل في سودة وإنما هو زينب هو في زينب بنت جحش فهي أول نساءه لحوقا به، وتوفيت في خلافة عمر، وبقيت سودة إلى أن توفيت
وكانت تحب الصدقة)). رواه البخاري وفي رواية مسلم،

(12/71)


في خلافة معاوية في شوال سنة أربع وخمسين. وأجاب الحافظ عن هذه الروايات المصرحة بسودة بأنه يمكن أن يكون تفسيره بسودة من بعض الرواة لكون غيرها لم يتقدم له ذكر، فلما لم يطلع على قصة زينب وكونها أول الأزواج لحوقا به جعل الضمائر كلها السودة، وهذا عندي من أبي عوانة فقد خالفه في ذلك ابن عيينة عن فراس. وروى يونس بن بكير في زيادة المغازي والبيهقي في الدلائل بإسناده عنه عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي التصريح بأن ذلك لزينب لكن قصر زكريا في إسناده فلم يذكر مسروقا، ولا عائشة، ولفظه: فلما توفيت زينب علمن إنها كانت أطولهن يدا في الخير والصدقة. ويؤيده ما رواه الحاكم في المناقب من مستدركه من طريق يحيى بن سعيد عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأزواجه أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا قالت: عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا فعرفنا حينئذ إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما أراد بطول اليد الصدقة. وكانت زينب امرأة صناعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتتصدق في سبيل الله. قال الحاكم: على شرط مسلم. وهي رواية مفسرة مبينة مرحجة لرواية عائشة بنت طلحة عن عائشة في أمر زينب عند مسلم. وروى ابن أبي خيثمة من طريق القاسم بن معن قال: كانت زينب أول نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لحوقا به وكذا روى البخاري في التاريخ من طريق الشعبي عن عبدالرحمن بن أبزي وابن سعد، من طريق برزة بنت رافع ما يدل على أن زينب توفيت في خلافة عمر، وإنها كانت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لحوقا به. فهذه روايات يعضد بعضها بعضا ويحصل من مجموعها إن في رواية أبي عوانة وهما- انتهى كلام الحافظ مخلصا. وقد جمع بعضهم بين الروايتين. فقال الطيبي: يمكن أن يقال فيما رواه البخاري،

(12/72)


ومن صرح بتسمية سودة المراد الحاضرات من أزواجه دون زينب فكانت سودة أولهن موتا، يعني أن يكون خطابه - صلى الله عليه وسلم -. في رواية البخاري لمن كان حاضرا عنده إذ ذاك من الزوجات وإن سودة وعائشة كانتا ثمة، وزينب غائبة لم تكن حاضرة، فالألية لسودة باعتبار من حضر ويرد هذا ما رواه ابن حبان إن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمعن عنده لم تغادر منهن واحدة (وكانت) أي زينب (تحب الصدقة) أي إعطاءها وكانت لها صناعة كما تقدم (رواه البخاري) في الزكاة من حديث موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عائشة، وأخرجه أيضا في التاريخ الصغير بهذا الإسناد، وكذا ابن حبان في صحيحه والبيهقي في الدلائل. وأخرجه أحمد وابن سعد عن عفان عن أبي عوانة، والنسائي وابن حبان أيضا من طريق يحيى بن حماد عن أبي عوانة (وفي رواية لمسلم) أخرجها في
قالت: وكانت يتطاولن قالت: أيتهن أطول يدا، فكانت أطولنا يدا زينب، لأنها كانت تعمل بيدها تتصدق)).
1891- (18) وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال: رجل

(12/73)


الفضائل من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة (قالت) أي عائشة (وكانت) أي جماعة النساء وفي بعض النسخ فكانت، وفي مسلم فكن (يتطاولن) يتقايسن طول أيديهن (أيتهن) بالضم (أطول يدا) قال الطيبي: محله النصب على أنه حال أو مفعول به أي يتطاولن ناظرات أيتهن (قالت) عائشة (فكانت أطولنا يدا) أي بالصدقة (زينب) وكانت امرأة قصيرة. قال النووي: معنى الحديث إنهن ظنن إن المراد بطول اليد الحقيقة وهي الجارحة فكن يذرعن أيديهن بقصبة، فكانت سودة أطولهن جارحة. وكانت زينب أطولهن يدا في الصدقة، وفعل الخير فماتت زينب أولهن، فعلموا أن المراد طول اليد في الصدقة والجود. وقال أهل اللغة يقال فلان طويل الباع إذا كان سمحا جوادا، وضده قصير اليد والباع (لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق) أي تدبغ الجلود بيدها ثم تبيعها وتتصدق بثمنها. قال الطيبي: تعليل بمنزلة البيان لقولها يتطاولن، وإن المراد المعنوي لا الصوري - انتهى. وفي الحديث علم من أعلام النبوة ظاهر وفيه إطلاق اللفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة، وهو لفظ أطولكن إذا لم يكن محذور. قال الزين بن المنير: لما كان السؤال عن آجال مقدرة لا تعلم إلا بالوحي أجابهن بلفظ غير صريح وأحالهن على ما لا يتبين إلا بآخره، وساغ ذلك لكونه ليس من الأحكام التكليفية. وفيه إن من حمل الكلام على ظاهره وحقيقته لم يلم، وإن كان مراد المتكلم مجازه، لأن نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم - حملن طول اليد على الحقيقة فلم ينكر عليهن. وزينب هذه هي ابنة جحش ابن أرباب بن يعمر الأسدية أم المؤمنين، وأمها أميمة بنت عبدالمطلب عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -. تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ثلاث. وقيل سنة خمس. ونزلت بسببها آية الحجاب وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة وفيها نزلت. ?فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها? وكان إسمها برة فسماها زينب، وقد وصف عائشة زينب بالوصف الجميل في قصة الأفك، وإن

(12/74)


الله عصمها بالورع، وإنها كانت صالحة صوامة قوامة صناعا تصدق بذلك على المساكين. وكان عطاءها اثنى عشر ألفا لم تأخذه إلا عاما واحدا، وقسمه في أهل رحمها. قال الواقدي: تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي بنت خمس وثلاثين سنة وماتت سنة عشرين، وهي بنت خمسين وصلى عليها عمر بن الخطاب. روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وروى عنها ابن أخيها محمد بن عبدالله بن جحش، وأم حبيبة بنت أبي سفيان وزينب بنت أبي سلمة، ولهم صحبة ومذكور مولاها وغيرهم.
1891- قوله: (قال رجل) أي من بني إسرائيل كما عند أحمد من طريق ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة
لا تصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق؟

(12/75)


ولم يعرف اسمه، والاستدلال به مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يظهر النسخ والإنكار (لا تصدقن) زاد في رواية الليلة وكررها في المواضع الثلاثة، وهذا من باب الالتزام كالنذر، والقسم فيه مقدر. كأنه قال: والله لا تصدقن، وعلى هذا فصار الصدقة واجبة فصح الاستدلال به في صدقة الفرض (فخرج) من بيته (بصدقته) أي التي نوى بها ليضعها في يد مستحق (فوضعها في يد سارق) أي وهو لا يعلم إنه سارق فأذاع السارق إنه تصدق عليه الليلة (فأصبحوا) أي القوم الذين كان فيهم ذلك المتصدق (يتحدثون) في موضع نصب خبر أصبح (تصدق) بضم التاء والصاد على البناء للمفعول (الليلة) كذا في جميع النسخ بذكر الليلة في المواضع الثلاثة، وهكذا وقع في جامع الأصول (ج7 ص301) للجزري، وكذا نقله المنذري في الترغيب، وقد صرحا كالمصنف بعد ذكر الحديث بأنه لفظ البخاري. ولكن لم يقع ذكر الليلة في نسخ البخاري الموجودة عندنا إلا في موضع واحد، وهو قوله الآتي: فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية، وهكذا في المنتقي للمجد بن تيمية، وكذا وقع عند مسلم. والظاهر إن صاحب المشكاة قلد في ذلك جامع الأصول والله أعلم. قال الحافظ: قوله: تصدق على سارق في رواية أبي عوانة عن أبي أمية عن أبي اليمان: تصدق الليلة على سارق، وفي رواية ابن لهيعة عند أحمد: تصدق الليلة على فلان السارق، ولم أر في شيء من الطرق تسمية أحد من الثلاثة المتصدق عليهم- انتهى. وهو إخبار بمعنى التعجب والإنكار (فقال) المتصدق (اللهم لك الحمد على سارق) أي على تصدقي على سارق لا، لي لأن صدقتي وقعت بيد من لا يستحقها فلك الحمد حيث كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي، فإن إرادتك كلها جميلة، ولا يحمد على المكروه سواك. وقدم الخبر على المبتدأ في قوله "لك الحمد" للاختصاص. وقال الطيبي: لما جزم بوضعها في موضعها بدلالة التنكير في بصدقة، وأبرز كلامه في معرض القسم تأكيدا أو قطعا للقبول بها جوزي بوضعها في يد سارق

(12/76)


فحمد الله وشكره، على أنه لم يقدر أن يتصدق على من هو أسوأ حالا منه أي لك الحمد لأجل وقوع الصدقة في يده دون من هو أشد حالا منه أو أجرى الحمد مجرى التبيع في استعماله عند مشاهدة ما يتعجب منه تعظيما لله يعني ذكر الحمد في موضع التعجب كما يذكر التسبيح في موضعه. فلما تعجلوا من فعله تعجب هو أيضا فقال: اللهم لك الحمد على سارق - انتهى. قال الحافظ: لا يخفي بعد هذا الوجه. وأما الذي قبله فأبعد عنه والذي يظهر الأول وأنه سلم وفوض ورضي بقضاء الله فحمد الله على تلك الحال لأنه المحمود على جميع الحال لا يحمد على المكروه سواه. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان إذا رأى ما لا يعجبه، قال اللهم لك الحمد على كل حال،
لا تصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية. فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، لا تصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق وزانية وغني؟ فأتى، فقيل له، أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله)).

(12/77)


(لا تصدقن) أي الليلة وكما في رواية مسلم، وفيه فضل صدقة السر وفضل الإخلاص (بصدقة) أخرى على مستحق (فخرج بصدقته) ليضعها في يد مستحق (فوضعها في يد) امرأة (زانية فأصبحوا) أي بنو إسرائيل (يتحدثون) تعجبا أو إنكارا (تصدق) بصيغة المجهول أيضا وكذلك تصدق الثالث (الليلة على زانية فقال) المتصدق (اللهم لك الحمد على) تصدقي (على زانية) حيث كان بإرادتك لا بإرادتي (فأتى) في رواية الطبراني في مسند الشاميين فساءه ذلك فأتى في منامه، وكذلك أخرجه أبونعيم والإسماعيلي ورؤيا غير الأنبياء وإن كان لا حجة فيها لكن هذا الرؤيا قد قررها النبي - صلى الله عليه وسلم -. فحصل الاحتجاج بتقريره - صلى الله عليه وسلم - (فقيل له أما صدقتك على سارق) زاد في رواية أبي عوانة: قد قبلت، وفي رواية مسلم وأحمد: أما صدقتك فقد قبلت، وفي رواية الطبراني: إن الله قد فبل صدقتك (فلعله أن يستعف عن سرقته) بفتح السين وكسر الراء أي إما مطلقا أو مدة الاكتفاء (وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها بالقصر وفيه إيماءؤ إلى أن الغالب في السارق والزانية إنهما يرتكبان المعصية للحاجة. (وأما الغني فلعله يعتبر) أي يتعظ ويتذكر (فينفق) بالرفع فيه وفي يعتبر وفي رواية أي يعتبر فينفق (مما أعطاه الله) في الحديث دلالة على أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير، ولهذا تعجبوا من الصدقة على الأصناف الثلاثة. وفيه إن نية المتصدق إذا كانت صالحة قبلت صدقته، ولو لم تقع الموقع وهذا في صدقة التطوع. واختلف الفقهاء في الأجزاء إذا كان ذلك في زكاة الفرض. قال الحافظ: ولا دلالة في الحديث على الأجزاء ولا على المنع، ومن ثم ترجم البخاري على هذا الحديث بلفظ: الاستفهام فقال "باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم" ولم يجزم بالحكم. قلت: قد تقدم وجه الاستدلال به على الأجزاء في الصدقة الواجبة بأن قوله "لا تصدقن" من باب الالتزام كالنذر فصار الصدقة واجبة عليه. وقد قرر

(12/78)


النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤيا المتصدق في قبول صدقته، فصح الاستدلال به في زكاة الفرض والله تعالى أعلم. قال ابن قدامة (ج2
متفق عليه. ولفظه للبخاري.
1892-(19)وعنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة: أسق حديقة فلان،
ص667) إذا عطي من يظنه فقيرا فبان غنيا فعن أحمد فيه روايتان إحداهما يجزئه أي تسقط عنه الزكاة ولا تجب عليه الإعادة، أختارها أبوبكر، وهذا قول الحسن وأبي عبيد وأبي حنيفة. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الرجلين الجلدين وقال: إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب. وقال للرجل الذي سأله الصدقة: إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك ولو اعتبر حقيقة لما أكتفى بقولهم. ثم ذكر ابن قدامة حديث أبي هريرة هذا الذي نحن في شرحه. ثم قال: والرواية الثانية لا يجزئه، وعليه الإعادة، لأنه دفع الواجب إلى غير مستحقه فلم يخرج من عهدته كما لو دفعها إلى كافر، وهذا قول الثوري والحسن بن صالح وأبي يوسف وابن المنذر وللشافعي قولان كالروايتين - انتهى. قلت: المسألة عند الحنفية إنه لو دفع الزكاة بتحر لمن يظنه مصرفا فبان إنه غني وأبوه أو ابنه لا يعيد؛ لأنه أتى بما وسعه حتى لو دفع بلا تحر لم يحزان اخطأ. واستدل ابن الهمام لذلك بما روى البخاري عن معن بن يزيد. قال كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها فقال: والله ما إياك أردت فخاصمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقال لك ما نويت يا يزيد! ولك ما أخذت يا معن - انتهى. قال ابن الهمام: وهو وإن كان واقعة حال يجوز فيها كون تلك الصدقة كانت نفلا، لكن عموم لفظ ما في قوله عليه الصلاة والسلام: لك ما نويت يفيد المطلوب ذكره القاري فتأمل. قال الحافظ: فإن قيل: إن الخبر يعني حديث الباب إنما تضمن قصة خاصة وقع الإطلاع فيها على قبول الصدقة، برؤيا صادقة

(12/79)


اتفاقية فمن أين يقع تعميم الحكم وتعدية إلى غيرها، فالجواب إن التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب. وفي الحديث استحباب إعادة الصدقة إذا لم تقع الموقع، وإن الحكم للظاهر حتى يتبين سواه، وبركة التسليم والرضا وذم التضجر بالقضاء كما قال بعض السلف: لا تقطع الخدمة ولو ظهر لك عدم القبول (متفق عليه) أخرجاه في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد والنسائي في الزكاة، والبيهقي (ج4 ص192و ج7 ص34) (ولفظه للبخاري) أي ولمسلم معناه، وقد تقدم الإشارة إلى ما فيه من التسامح.
1892-قوله: (بينا) بإشباع الفتحة ألفا أي بين أوقات (رجل بفلاة) بفتح الفاء أي بصحراء واسعة (أسق) بقطع همزة ووصله (حديقة فلان) الحديقة بفتح الحاء المهملة بستان إذا كان عليه حائط، وقال
فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته، يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبدالله ما اسمك قال: فلان، الاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبدالله! لم تسألني عن اسمي فقال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه، يقول اسق حديقة فلان لإسمك، فما تصنع فيها، قال: أما إذا قلت هذا،

(12/80)


النووي: الحديقة، القطعة من النخيل. وتطلق على الأرض ذات الشجر- انتهى. وفلان كناية منه عليه الصلاة والسلام عن اسم صاحب الحديقة كما سيأتي بيانه (فتنحى ذلك السحاب) أي ذهب إلى حديقته. قال النووي: معنى تنحا قصد يقال: تنحيت الشيء موانتحيته ونحوته إذا قصدته (فأفرغ ماءه) أي صبه (في حرة) بفتح الحاء وتشديد الراء وهي أرض ذات حجارة سود (فإذا شرجة) بفتح الشين المعجمة وإسكان الراء بعدها جيم وتاء تأنيث مسيل الماء إلى الأرض السهلة، وقال النووي جمعها شراج بكسر الشين، وهي مسائل الماء في الحرار (من تلك الشراج) أي الواقعة في تلك الحرة (قد استوعبت) أي بالأخذ يقال: استوعب الشيء أي أخذه بأجمعه واستوفاه (ذلك الماء) أي النازل من السحاب الواقع في الحرة (فتتبع) أي ذلك الرجل (الماء) أي أثره (يحول) بتشديد الواو (الماء) أي من مكان إلى مكان من حديقته (بمسحائة) بكسر الميم وبالسين والحاء المهملتين ما يسحي به أي يجرف ويقشر ويكسح كالمجرفة من الحديد أو غيره (فقال) أي الرجل (له) أي لصاحب الحديقة (ما اسمك) أي المخصوص (قال فلان الإسم) قال القاري: بالرفع وقيل بالنصب. قال الطيبي: هو صرح بإسمه لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنى عنه بفلان، ثم فسر بقوله: الاسم الذي سمع في السحابة) ولعل العدول عن التصريح إلى الكناية للإشارة إلى أن معرفة الأسماء في بعض المواضع ليست من الأمور المهمة. وقوله.الإسم كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة عندنا، وفي مسلم للإسم بزيادة لام الجر في أوله، وكذا وقع في الترغيب للمنذري (لم) بكسر اللام (تسألني) كذا في جميع النسخ، وهكذا في بعض النسخ من صحيح مسلك وفي بعضها لم سألتني (هذا ماءه يقول) أي ذلك الصوت يعني صاحبه للسحاب وفي بعض النسخ، ويقول بزيادة الواو قبل يقول، وهو خلاف ما في مسلم (اسق حديقة فلان لاسمك) قال الطيبي: أي قلت أنا فلان لاسمك المخصوص وبدله فإن الهاتف صرح بالإسم والكناية من السامع

(12/81)


(فما تصنع فيها) أي في حديقتك من الخير حتى تستحق هذه الكرامة (قال أما) بتشديد الميم (إذا قلت) وفي بعض النسخ إذ قلت كما في مسلم
فأني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثة وآكل أنا وعيالي ثلثا، وأرد فيها ثلثة)). رواه مسلم.
1893 - (20)وعنه، إنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع، وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه قذره، وأعطى لونا حسنا وجلدا حسنا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، أو قال: البقر، شك إسحاق
(إلى ما يخرج منها) أي من زرع الحديقة وثمرها (وأورد فيها) أي وأصرف في الحديقة للزرعة والعمارة (ثلثة) في الحديث ضل الصدقة والإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل وفضل أكل الإنسان من كسبه، والإنفاق على العيال (رواه مسلم) في الزهد في أواخر من صحيحه وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص296) وأبوداود الطيالسي.

(12/82)


1893- قوله: (إن ثلاثة من بني إسرائيل) كذا في جميع النسخ الحاضرة والذي في الصحيحين: إن ثلاثة في بني إسرائيل (أبرص) هو الذي أبيض ظاهر بدنه أي جلده لفساد مزاجه (وأقرع) وهو الذي ذهب شعر رأسه لآفة (وأعمى) هو الذي ذهب بصره. قال القاري: منصوبات على البدلية من الثلاثة ولم يعرف أسماءهم (فأراد الله) هذا لفظ مسلم، وفي البخاري بدأ الله بفتح الموحدة والمهملة المخففة بغير همز، ومعناه سبق في علم الله فأراد إظهاره لا إن ظهر له بعد أن كان خافيا إذ أن ذلك محال في حق الله تعالى، وخطأ هذا الكرماني في شرحه تبعا لابن قرقول، ولفظه في مطالعه ضبطناه عن مقتنى شيوخنا بالهمز أي ابتدأ الله أن يبتليهم قال ورواه كثير من الشيوخ بغير همز وهو خطأ، وقد سبقه إلى التخطئة الخطابي وليس كذلك، فقد ثبتت الرواية به ووجه، وأولى ما يحمل عليه كما في الفتح. إن المراد قضى الله أن يبتليهم. وأما البدء الذي يراد به تغير الأمر عما كان عليه فلا (أن يبتليهم) أي يمتحنهم ليعرفوا أنفسهم أي ليعرفهم الناس. قال الطيبي: قوله: "فأراد الله" خبر إن عند من يجوز دخول الفاء في خبرها، ومن لم يجوز قدر الخبر أي فيما أقص عليكم فقوله: "فأراد تفسير للمجمل، ولو رفع أبرص وما عطف عليه بالخبرية تعين للتفسير - انتهى. يعني إن رفعها بتقدير أحدهم أبرص أو منهم أبرص (فبعث إليهم ملكا) أي في صورة رجل مسكين (ويذهب عني) بالرفع أي يزول عني (الذي قد قذرني الناس) بفتح القاف وكسر الذال المعجمة أي اشمأزوا من رؤيتي وعدوني مستقذرا وكرهوني من أجله وهو البرص (فمسحه) أي مسح على جسمه (فذهب عنه قذره) بفتحتين يعني برصه (وأعطى) بضم الهمزة (شك إسحاق) أحد

(12/83)


إلا أن الأبرص أو الأقرع، قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر: البقر. قال: فأعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس. قال: فمسحه فذهب عنه، قال: وأعطي شعرا حسنا. قال فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر. فأعطي بقرة حاملا، قال: بارك الله لك فيها، قال: فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه، فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شأة والدا، فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا

(12/84)


رواته وهو إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري المدني أبويحيى ثقة حجة من الطبقة الوسطى من التابعين، روى عن أبيه وأنس وعبدالرحمن بن أبي عمرة وغيرهم، وعنه همام ومالك والأوزاعي وغيرهم مات سنة (132) وقيل: بعدها (إلا أن الأبرص والأقرع) استثناء من الشك (قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر) أي لم يشك إسحاق في هذا بل في التعيين. قاله الطيبي: ولفظ البخاري هو شك في ذلك إن الأبرص أو الأقرع. قال أحدهما الإبل، وقال الآخر البقر (فأعطي) بضم الهمزة أي الذي تمنى الإبل (ناقة عشراء) بضم العين وفتح الشين المعجمة والراء ممدودا الحامل التي أتى عليها في حملها عشرة أشهر من يوم طرقها الفحل، وهي من أنفس المال، وقد يطلق على الحامل مطلقا. وقال النووي: العشراء الحامل القريبة الولادة (ويذهب عنى هذا) أي القرع (الذي قد قذرني الناس) أي كرهوا مخالطتي من أجله (فمسحه) أي الملك على رأسه (فذهب عني) أي قرعه (فأبصر) بالنصب والرفع من الأبصار (فمسحه) أي على عينيه (شأة والدا) أي وضعت ولدها وهو معها وقيل: الحامل. وقيل: التي عرف منها كثرة النتاج (فأنتج) بصيغة الفاعل من الإنتاج أي تولى الولادة. وقال ابن حجر: أي استولد الناقة والبقرة (هذان) أي صاحبا الإبل والبقر وهما الأبرص والأقرع (وولد) فعل ماض معلوم من التوليد بمعنى الإنتاج (هذا) أي صاحب الشأة وهو الأعمى. قال النووي: قوله: "فأنتج" هذان وولدا هذا، هكذا الرواية فأنتج رباعي وهي لغة قليلة الاستعمال، والمشهور نتج ثلاثي. وممن حكى اللغتين الأخفش ومعناه تولى الولادة وهي النتج والإنتاج. ومعنى ولد هذا بتشديد اللام معنى أنتج والناتج للإبل، والمولد للغنم وغيرها هو كالقابلة للنساء - انتهى. وقال الكرماني: قد راعى عرف الاستعمال حيث قال فيهما أنتج وفي الشأة ولد (فكان لهذا)

(12/85)


واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم. قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرا أتبلغ به في سفري. فقال: الحقوق كثيرة. فقال: إنه كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله مالا؟
أي الذي اختار الإبل (واد) قد امتلأ (من الإبل ولهذا) الذي اختار البقر (واد) قد امتلأ (من البقر ولهذا) الذي اختار الغنم وهو الأعمى (واد من الغنم) (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثم إنه) أي الملك (أتى الأبرص) الذي كان مسحه فذهب برصه (في صورته) أي في صورة التي كان عليها لما اجتمع به وهو أبرص ليكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة عليه قاله الحافظ. وقال الطيبي: أي في الصورة التي جاء الأبرص عليها أول مرة ولا يبعد أن يكون الضمير راجعا إلى الأبرص لعله يتذكر حاله ويرحم عليه بماله، والأول أظهر في الحجة عليه، حيث جاء في صورته التي تسبب في جماله وحصول كثرة ماله (فقال) له إني (رجل مسكين) زاد في رواية: وابن السبيل (قد انقطعت بي الحبال في سفري) قال السيد: الباء بمعنى من كما في قوله تعالى: ?يشرب بها عباد الله?[الدهر: 6] قال القاري: الأظهر إن الباء للسبيية والملابسة كما في قوله:?وتقطعت بهم الأسباب? [البقرة: 166] والحبال بكسر المهملة بعدها موحدة خفيفة جمع حبل، أي الأسباب التي يقطعها في طلب الرزق. وقيل: العقبات. وقيل: الحبل هو المستطيل من الرمل، ولبعض رواة مسلم الجبال بالمهملة والتحتانية جمع حيلة، أي لم يبق لي حيلة. ولبعض رواة البخاري الجبال بالجيم والموحدة وهو تصحيف قاله الحافظ: أي طال سفري وقعدت عن بلوغ حاجتي (فلا بلاغ) أي كفاية (لي اليوم إلا بالله) أي إيجاد يعني ليس لي ما أبلغ به غرضي إلا بالله (ثم بك) أي بطريق التنزل على وجه التسبب والمجاز فثم

(12/86)


هنا لتراخي الرتبة والتنزل في المرتبة لا للترقي وهذا ونحوه من الملائكة معاريض لا أخبار والمراد به ضرب المثل ليتيقظ المخاطب (أسألك) أي مقسما عليك (بالذي) أي بالله الذي (أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال) أي الإبل (بعيرا) مفعول أسألك أي أطلب منك بعيرا (أتبلغ به في سفري) بهمزة فوقية وموحدة ولام مشددة مفتوحات، ثم معجمة من البلغة وهي الكفاية والمعنى أتوصل به إلى مرادي (الحقوق كثيرة) أي حقوق المال كثيرة علي ولم أقدر على أدائها أو حقوق المستحقين كثيرة فلم يحصل لك البعير، وقد أراد به دفعة وهو غير صادق فيه (فقال إنه) أي الشأن (يقذرك الناس) بفتح التحتية والذال المعجمة من باب علم أي يكرهونك ويقذرونك (فقيرا) حال (فأعطاك الله مالا)
فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا، فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته. فقال: له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد على هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته وهيأته. فقال: رجل مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك، شأة أتبلغ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت. فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله.

(12/87)


كذا في جميع النسخ الحاضرة بزيادة لفظ مالا، ووقع في الصحيحين بحذفه وهو الصواب، فيعم إعطاء المال والجمال (إنما ورثت) بفتح الواو وكسر الراء المخففة، وقيل: بضم الواو وتشديد الراء المكسورة (كابرا) حال (عن كابر) أي كبيرا عن كبير في العز والشرف والثروة أي ورثته عن آبائي الذين ورثوه من أجداد الذين ورثوه من آباءهم، حال كون كل واحد منهم كبيرا ورث عن كبير في العز والشرف. وقال القاري: والمعنى حال كوني أكبر قومي سنا ورياسة ونسبا وآخذا عن آبائي الذين هم كذلك حسا، وهذا من باب الإكتفاء في الجواب، فإنه يلزم عرفا من التكذيب في شيء تكذيبه في آخر (فقال) له الملك (إن كنت كاذبا) في مقالتك هذه (فيصيرك الله إلى ما كنت) من البرص والفقر، والجملة جواب الشرط، وأدخل الفاء في الفعل الماضي، لأنه دعاء وعبر بالماضي لقصد المبالغة في الدعاء عليه، والشرط ليس على حقيقته، لأن الملك لم يشك في كذبه، بل هو مثل قول العامل إذا سوف في عمالته إن كنت عملت فأعطني حقي (وأتى الأقرع في صورته) زاد في رواية البخاري وهيئته (وابن السبيل) أي مسافر (لا أجهدك) قال القاري: بفتح الهمزة والهاء وفي نسخة: بضم الهمزة وكسر الهاء (اليوم بشيء) كذا في جميع النسخ بشيء، وكذا وقع في البخاري ووقع في مسلم شيئا (أخذته لله) قال النووي: قوله: "لا أجهدك اليوم شيئا" الخ هكذا هو في رواية الجمهور أجهدك بالجيم والهاء، وفي رواية ابن ماهان أحمدك بالحاء المهملة والميم، ووقع في البخاري بالوجهين لكن الأشهر في مسلم بالجيم. وفي البخاري بالحاء ومعنى الجيم لا أشق عليك برد شيء تأخذه أو تطلبه من مالي. والجهد المشقة، ومعناه بالحاء لا أحمدك بترك شيء تحتاج إليه أو تريده، فتكون لفظة الترك محذوفة مرادة كما قال الشاعر:
ليس على طول الحياة تندم
أي فوات طول الحياة- انتهى. وقال الحافظ: في رواية كريمة وأكثر روايات مسلم لا أجهدك بالجيم والهاء

(12/88)


فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي عنك، وسخط على صاحبيك)). متفق عليه.
1894- (21) وعن أم بجيد، قالت، قلت: يا رسول الله! إن المسكين ليقف على بابي حتى استحي فلا أجد في بيتي ما أدفع في يده، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((ادفعي في يده ولو ظلفا محرقا)).
قال القسطلاني: ولأبي ذر لا أحمدك بالحاء المهملة، والميم بدل الجيم والهاء لشيء باللام بدل الموحدة أي لا أحمدك على ترك شيء تحتاج إليه من مالي (فإنما ابتليتم) أي أنت ورفيقاك. والمعنى أختبركم الله هل تذكرون سوء حالتكم وشدة حاجتكم أولا وتشكرون نعمة ربكم عليكم آخرا (فقد رضي عنك) بضم أوله على البناء للمفعول في رضي وسخط، وفي رواية البخاري فقد رضي الله عنك بإظهار الفاعل. وفي الحديث جواز ذكر ما اتفق لمن مضى ليتعظ به من سمعه، ولا يكون ذلك غيبة فيهم ولعل هذا هو السر في ترك تسميتهم وفيه التحذير من كفران النعم والترغيب في شكرها، والاعتراف بها وحمد الله عليها وفيه فضل الصدقة والحث على الرفق بالضعفاء وإكرامهم وتبليغهم مآربهم وفيه الزجر عن البخل لأنه حمل صاحبه على الكذب وعلى جحد نعمة الله تعالى (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل من كتاب الأنبياء ومسلم واللفظ لمسلم.

(12/89)


1894- قوله: (وعن أم بجيد) بضم الموحدة وفتح الجيم الأنصارية الحارثية. قيل: اسمها حواء صحابية، وكانت من المبايعات. روى حديثها عبدالرحمن ومحمد ابنا بجيد الأنصاريان عن جدتهما أم بجيد الأنصارية. قال ابن عبدالبر: في الكنى أم بجيد الأنصارية الحارثية. قيل: اسمها حواء وفي ذلك اضطراب وهي مشهورة بكنيتها، وقال في ترجمة حواء الأنصارية جدة ابن بجيد، حدثنا عبدالوارث حدثنا أحمد بن زهير حدثنا سعيد بن منصور حدثنا حفص بن ميسرة حدثنا زيد بن أسلم عن عمرو بن معاذ الأنصاري عن جدته حوار قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ردوا السائل ولو بظلف محرق، وروى المقبري عن عبدالرحمن بن بجيد الأنصاري عن جدته قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن لجارتها ولو فرسن شأة، وقد ذكرنا الاضطراب في هذا الإسناد في كتاب التمهيد (ليقف على بابي) أي سائلا، وهذا لفظ أحمد وفي رواية له: فيقوم على بابي (ما أدفع في يده) أي شيئا أضع في يده (ولو ظلفا) بكسر الظاء المعجمة وإسكان اللام، وبالفاء وهو للبقر والغنم كالحافر للفرس. وقال في القاموس: الظلف بالكسر للبقر والشأة والظبي وشبهة بمنزلة القدم لنا. وقال الباجي: هو ظفر كل ما اجتر و"لو" للتقليل أي أعطوا السائل ولو كان شيئا قليلا كالظلف (محرقا) اسم مفعول من الإحراق وقيدا لإحراق مبالغة في رد السائلي بأدنى ما تيسر أي تصدقي بما تيسر
رواه أحمد، وأبوداود،والترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(12/90)


1895-(22) وعن مولى لعثمان رضي الله تعالى عنه، قال: ((أهدي لأم سلمة بضعة من لحم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه اللحم، فقالت لخادم: ضعيه في البيت لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكله، فوضعته في كوة البيت. وجاء سائل فقام على الباب، فقال: تصدقوا، بارك الله فيكم. فقالوا: بارك الله فيك، فذهب السائل، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أم سلمة! هل عندكم شيء أطعمه؟
وإن قل، ولا ترديه محروما بلا شيء مهما أمكن حتى إن وجدت شيئا حقيرا مثل الظلف المحرق أعطيه إياه. وقال أبوبكر بن العربي في شرح الترمذي: اختلف في تأويله. فقيل: ضربه مثلا للمبالغة كما جاء من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة. وقيل: إن الظلف المحرق كان له عندهم قدر، بأنهم يسحقونه ويسفونه- انتهى. وقال الزرقاني: قيد بالإحراق أي الشيء كما هو عادتهم فيه لأن النيئ قد لا يؤخذ، وقد يرميه آخذه فلا ينتفع بخلاف المشوي- انتهى. قال الباجي:حض بذلك - صلى الله عليه وسلم - على أن يعطي المسكين شيئا ولا يرده خائبا وإن كان ما يعطاه ظلفا محرقا، وهو أقل ما يمكن أن يعطي ولا يكاد أن يقبله المسكين ولا ينتفع به إلا في وقت المجاعة والشدة (رواه أحمد) (ج6 ص382- 383) (وأبوداود والترمذي) واللفظ لأحمد وأخرجه أيضا النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1 ص417) والبيهقي (ج4 ص177) وأبونعيم وابن سعد، وأخرجه مالك في كتاب الجامع من الموطأ عن زيد بن أسلم عن ابن بجيد الأنصاري، ثم الحارثي عن جدته إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ردوا المسكين ولو بظلف محرق، وأخرجه أيضا أحمد (ج6 ص435) والنسائي من طريق مالك، وسيأتي في باب أفضل الصدقة (وقال) أي الترمذي (هذا حديث حسن صحيح) وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي، وأقره وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(12/91)


1895- قوله: (وعن مولى لعثمان) بن عفان رضي الله عنه وكان له عدة موالي حمران بن إبان وهانيء البرري وأبوصالح وأبوسهلة ويوسف، ولا أدري من هذا الذي روى هذه القصة (أهدى) بضم الهمزة (لأم سلمة) أم المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - (بضعة) بكسر الباء وفتحها أي قطعة (من لحم) وهو مطبوخة (وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه اللحم) بضم التحتية جملة معترضة (فقالت للخادم) واحد الدم يقع على الذكر والأنثى لجرية مجرى الأسماء، وهو هنا أنثى لقوله (ضعيه) أي اللحم (في كوة البيت) بفتح الكاف وضمه أي في ثقبه (فقال) أي السائل (تصدقوا) أي يا أهل البيت (يا أم سلمة هل عندكم) فيه تعظيم أو تغليب (شيء أطعمه) بفتح الهمزة
فقالت: نعم، قالت للخادم: إذهبي فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك اللحم. فذهبت، فلم تجد في الكوة إلا قطعة مروة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإن ذلك اللحم عاد مروة لما لم تعطوه السائل)). رواه البيهقي "في دلائل النبوة".
1896- (23) وعن ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بشر الناس منزلا؟ قيل: نعم، قال: الذي يسأل بالله ولا يعطى به)). رواه أحمد.
والعين المهملة بينهما طاء ساكنة أي آكله (فأتى) أي فهاتي (إلا قطعة مروة) بفتح الميم وسكون الراء أي حجر أبيض (عاد) أي صار (لما) بكسر اللام وتخفيف الميم وبفتح اللام وتشديد (لم تعطوه) أي منه (السائل) في الحديث الزجر عن البخل والإمساك (رواه البيهقي لم أقف على سنده، والظاهر إنه منقطع، لأن مولى عثمان المذكور لم يحضر القصة ولم يسم من حدثه بها.

(12/92)


1896- قوله: (الذي يسأل بالله ولا يعطى به) على بناء الفاعل فيهما أي يسأل غيره بحق الله ثم إذا سئل هو به لا يعطي بل ينكص ويبخل، ويحتمل أن يكون قوله يسئل مبنيا للمفعول أي يسأله غيره بالله فلا يجيب يعني يسأله صاحب حاجة بأن يقول أعطني لله وهو يقدر، ولا يعطي شيئا بل يرده خائبا. قال الطيبي: الباء كالباء في كتبت بالقلم أي يسأل بواسطة ذكر الله، أو للقسم والاستعطاف أي يقول السائل أعطوني شيئا بحق الله. وقال ابن حجر: أي مقسما عليه بالله استعطافا إليه وحملا له على الإعطاء بأن يقال له بحق الله أعطني كذا لله. ولا يعطي مع ذلك شيئا أي والصورة إنه مع قدرة علم اضطرار السائل إلى ما سأله، وعلى هذا حمل قول الحليمي أخذا من هذا الحديث وغيره، إن رد السائل بوجه الله كبيرة- انتهى. واختار السندي الاحتمال الأول واستبعد الثاني إذ قال، قوله الذي يسأل بالله بناء على الفاعل أي الذي يجمع بين القبيحين أحدهما السؤال بالله، والثاني: عدم الإعطاء لمن يسأل به تعالى فما يراعي حرمة اسمه تعالى في الوقتين جميعا، وأما جعله مبنيا للمفعول فبعيد إذ لا صنع للعبد في أن يسأله السائل بالله فلا وجه للجمع بينه وبين ترك الإعطاء في هذا المحمل، والوجه في إفادة ذلك المعنى أن يقال الذي لا يعطي إذا سئل بالله ونحوه، والله تعالى أعلم- انتهى. فتأمل (رواه أحمد) (ج1 ص237، 319و 322) وأخرجه أيضا الترمذي في فضائل الجهاد، وحسنه، والنسائي في الزكاة، وابن حبان في صحيحه كلهم من حديث عطاء بن يسار عن ابن عباس بأتم من هذا، وسيأتي مطولا في باب أفضل الصدقة، وأخرجه أيضا أحمد من حديث أبي هريرة. وفي الباب أيضا عن أبي موسى الأشعري بلفظ: ملعون من سأل بوجه الله وملعون من

(12/93)


1897-(24) وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، ((أنه استأذن على عثمان، فأذن له وبيده عصاه، فقال عثمان: يا كعب! إن عبدالرحمن توفي وترك مالا، فما ترى فيه. فقال: إن كان يصل فيه حق الله فلا بأس عليه. فرفع أبوذر عصاه فضرب كعبا. وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهبا أنفقه ويتقبل مني أذر خلفي منه ست أواقي، أنشدك بالله يا عثمان! سمعته؟ ثلاث مرات، قال: نعم)). رواه أحمد.
سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسئل هجرا، رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن أورد المنذري الأحاديث الثلاثة في باب ترهيب السائل أن يسأل بوجه الله غير الجنة، وترهيب المسؤل بوجه الله أن يمنع.

(12/94)


1897 - قوله: (استأذن على عثمان) أي للدخول عليه (وبيده عصا) الواو للحال والضمير لأبي ذر (يا كعب) أي كعب الأحبار (إن عبدالرحمن) أي ابن عوف (وترك مالا) أي كثيرا بحيث جاء ربع ثمنه ثمانين ألف دينار (فما ترى فيه) أي فما تقول في حق المال أو صاحبه وهو الأظهر، والمعنى هل تضر كثرة ماله في نقص كماله (فقال) أي كعب (إن كان) شرطية، ويحتمل أن تكون مخففة (يصل فيه) أي ماله (حق الله فلا بأس عليه) أي لا كراهة فيه ولا نقص له (فضرب) أي بعصاه (كعبا) قال الطيبي: فإن قيل كيف يضربه وقد علم أنه ليس بكنز بعد إخراج حق الله منه، قلت: إنما ضربه لأنه نفى البأس على سبيل الاستغراق حيث جعله مدخولا. للا التي النفي الجنس، وكم من بأس فإنه يحاسب ويدخل الجنة بعد فقراء المهاجرين بزمان طويل أي بخمسة مائة سنة- انتهى. وقال في اللمعات: كان أبوذر من فقراء الصحابة وزهادهم، وكان مذهبه ترك الكل والاختيار التجريد وعدم الادخار أي ولذلك ضرب كعبا، وإلا فما أدى زكاته فليس بكنز ولا وعيد عليه، لاسيما إذا وصلت فيه الحقوق من الصدقات النافلة. واختلاف أبي ذر مع معاوية في هذه المسألة في زمن عثمان مشهور (هذا الجبل) إشارة إلى الجبل المستحضر في الذهن مثلا أو يكون إشارة إلى جبل أحد، وقد وقع ذكره صريحا (أنفقه) حال (ويتقبل مني) فيه مبالغة أي مع أنه يتقبل ويترتب عليه الثواب (أذر) مفعول أحب بتقدير إن بالرفع بعد حذفها كقوله وتسمع بالمعيدي أي ما أحب أن أترك (ست أواقي) بتشديد الياء ويجوز تخفيفها، وفي المسند ست أواق بحذف الياء، وكذا في مجمع الزوائد (أسمعته) بفتح الهمزة وضم المعجمة (بالله) أي أقسم به عليك، وفي المسند أنشدك الله وكذا نقله في مجمع الزوائد (أسمعته) أي هذا الحديث (ثلاث مرات) ظرف لأنشدك أو لا سمعته (رواه أحمد) في مسند عثمان (ج1 ص63) من طريق ابن لهيعة عن أبي قبيل عن مالك

(12/95)


1898-(25) وعن عقبة بن الحارث، قال: ((صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة العصر، فسلم، ثم قام مسرعا، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نساءه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته. قال: ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته)).
ابن عبدالله الزيادي عن أبي ذر وابن لهيعة قد ضعفه غير واحد ومالك بن عبدالله مستور، وأخرجه أيضا ابن عبدالحكم في فتوح مصر (ص286) كما قال الحافظ في التعجيل (ص389): ولأبي ذر حديث آخر في معناه أخرجه أحمد (ج5 ص145).

(12/96)


1898- قوله: (وعن عقبة) بضم عين وسكون قاف (بن الحارث) بن عامر بن نوفل بن عبدمناف بن قصي القرشي النوفلي المكي، صحابي من مسلمة الفتح وهو أبوسروعة الذي قتل خبيب بن عدي في قول أهل الحديث ويقال إن أباسروعة أخوه، وإنهما أسلما جميعا يوم الفتح، وهو قول أهل النسب وصوبه العسكري. وقيل: إن أباسروعة أخو عقبة لأمه وجزم به مصعب الزبيري. قال الحافظ: قد أطبق أهل الحديث على أن أباسروعة هو عقبة هذا، وقولهم أو لا إن شاء الله تعالى بقي عقبة إلى بعد الخمسين (فسلم ثم قام) وفي رواية: فسلم فقام (مسرعا فتخطى) بغير همز أي تجاوز (رقاب الناس) أي متوجها (إلى بعض حجر نسائه) بضم الحاء وفتح الجيم جمع حجرة (ففزع الناس) بكسر الزاي أي خافوا (من سرعته) أي من أجل إسراعه وكانت تلك عادتهم إذا رأوا منه غير ما يعهدونه خشية أن ينزل فيهم شيء يسؤهم (فخرج) - صلى الله عليه وسلم - من الحجرة (عليهم) وفي رواية إليهم (فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته)وفي رواية فقلت أو قيل له أي عن سبب سرعته. وهو شك من الراوي (قال) وفي البخاري فقال (ذكرت) بفتح الذال والكاف أي تفكرت وأنا في الصلاة (شيئا من تبر) وفي رواية تبرا من الصدقة، والتبر، بكسر المثناة وسكون الموحدة ذهب غير مضروب. وقيل: ذهب أو فضة غير مضروب (فكرهت أن يحبسني) أي يمنعني ويشغلني التفكر فيه عن التوجه والإقبال على الله تعالى، وفهم منه ابن بطال معنى آخر. فقال فيه: إن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة في الموقف (فأمرت) أي أهل البيت (بقسمته) بكسر القاف والمثناة الفوقية بعد الميم وفي رواية بقسمة بفتح القاف من غير مثناة وفي الحديث إن المكث بعد الصلاة ليس بواجب وإن للإمام أن ينصرف متى شاء وإن التخطي لما لا غنى عنه مباح، وإن عروض الذكر في الصلاة في أجنبي عنها من وجوه الخير وتذكر ما لا يتعلق بالصلاة فيها لا يفسدها، ولا ينافي خشوعها ولا يقدح في كمالها، وإن إنشاء العزم في أثناءها

(12/97)


على الأمور المحمودة لا يضر، وفيه إن الخير ينبغي أن
رواه البخاري. وفي رواية له، قال: ((كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة، فكرهت أن أبيته).
1899-(26) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندي في مرضه ستة دنانير أو سبعة، فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أفرقها، فشغلني وجع نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم سألني عنها ما فعلت الستة والسبعة؟ قلت: لا والله، لقد كان شغلني وجعك. فدعا بها، ثم وضعها في كفه. فقال: ما ظن نبي الله لو لقي الله عزوجل وهذه عنده)). رواه أحمد.
يبادر به فإن الآفات تعرض والموانع تمنع والموت لا يؤمن، والتسويف غير محمود والتعجيل به أخلص للذمة وأنفى للحاجة وأبعد من المطل المذموم وأرضى للرب وأمحى للذنب، وفيه جواز الاستنابة مع القدرة على المباشرة (رواه البخاري) أي بهذا اللفظ في باب من صلى بالناس فذكر حاجته فتخطاهم قبيل كتاب الجمعة (وفي رواية له) أوردها في باب من أحب تعجيل الصدقة من يومها من كتاب الزكاة (كنت خلفت) بتشديد اللام أي تركت خلفي (أن أبيته) بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد المثناة التحتية أي أتركه حتى يدخل عليه الليل، يقال بات الرجل دخل في الليل، وبيته تركه حتى دخل الليل. والحديث أخرجه البخاري أيضا في باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة من أواخر الصلاة، وفي باب من أسرع في مشيه لحاجة أو قصد من كتاب الاستئذان. وأخرجه أحمد (ج4 ص384) والنسائي في الصلاة.

(12/98)


1899- قوله: (أو سبعة) بالتنوين وتركه (أن أفرقها) بتشديد الراء (فشغلني وجع نبي الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مرضه عن تفريقها (ما فعلت الستة أو السبعة) شك من الراوي وهو بالرفع. قال الطيبي: وإذا روى بالنصب كان فعلت على خطاب عائشة- انتهى. والتقدير ما فعلت بالستة أو السبعة يعني هل فرقتها أم لا (قالت لا والله) أي ما فرقتها، ولعل وجه القسم تحقيق التقصير ليكون سببا لقبول العذر (ما ظن نبي الله) بالإضافة (وهذه) أي الدنانير (عنده) أي ثابتة وباقية. قال الطيبي: في وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدنانير. في كفه، ووضع المظهر موضع المضمر، وتخصيص ذكر نبي الله، ثم الإشارة بقوله هذه تصوير لتلك الحالة الشنيعة واستهجان بها وإيذان بأن حال النبوة منافية، لأن يلقي الله ومعه هذا الدنيء الحقير- انتهى. (رواه أحمد) ولعائشة رواية أخرى بمعناه رواها أحمد أيضا قالت: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتصدق بذهب كان عندها في مرضه. قالت: فأفاق قال ما فعلت، قلت ما رأيت منك. قال فهلم بها فجاءت بها إليه سبعة أو تسعة، أبوحازم يشك دنانير، فقال حين جاءت بها ما ظن محمد لو لقي الله وهذه عنده، وما تنفى هذه من محمد - صلى الله عليه وسلم - لو لقي الله وهذه عنده. قال الهيثمي: رواه
1900-(27) وعن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على بلال، وعنده صبرة من تمر، فقال: ((ما هذا يا بلال؟ قال: شيء أدخرته لغد. فقال: أما تخشى أن ترى له غدا بخارا في نار جهنم يوم القيامة. أنفق بلال! ولا تخش من ذي العرش إقلالا)).
1901-(28) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((السخاء شجرة في الجنة،

(12/99)


أحمد بأسانيد ورجال أحدها الصحيح - انتهى. وروى الطبراني في الكبير نحوه من حديث سهل بن سعد بسند، رجاله ثقات ذكره الهيثمي (ج3 ص124) والمنذري في باب الإنفاق والترهيب من الإمساك، وروى أحمد وأبويعلى نحوا من هذا من حديث أم سلمة ذكره الهيثمي في باب الإنفاق من الزهد.
1900- قوله: (صبرة) بضم الصاد وسكون الموحدة أي تمر مجتمع كالكومة (ما هذا) أي التمر (إن ترى له) أي لهذا الشيء أو التمر (غدا) أي يوم القيامة (بخارا في نار جهنم) أي أثرا يصل إليك فهو كناية عن قربة منها (يوم القيامة) أي جميع زمانها أو هو تأكيد لغد (أنفق بلال) أي يا بلال (ولا تخش من ذي العرش إقلالا) أي فقرا أو إعداما، وهذا أمر بتحصيل مقام الكمال، وإلا فقد جوز ادخار المال سنة للعيال، وكذا الضعفاء الأحوال. وما أحسن موقع ذي العرش في هذا المقام أي أتخشى أن يضيع مثلك من يدبر الأمر من السماء إلى الأرض قاله الطيبي. وقيل: إن هذا الحديث ونحوه كان في صدر الإسلام حين كان الادخار ممنوعا ثم نسخ النهي وأبيح الادخار. وإنما دخل الدخيل على كثير من الناس لعدم علمهم بالنسخ كذا قاله السيوطي: والحديث نسبه المصنف إلى البيهقي كما سيأتي، وأخرجه أيضا البزار وأبويعلى والطبراني في الكبير والأوسط. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 ص 241): والمنذري في الترغيب بإسناد حسن. وقال السيوطي. قال الحافظ ابن حجر في زوائد: إسناده حسن - انتهى. وروى نحوه من حديث ابن مسعود أخرجه البزار بإسناد حسن والطبراني في الكبير ذكره المنذري والهيثمي (ج3 ص126 وج10 ص241) ومن حديث بلال أخرجه الطبراني في الكبير والبزار، وفي أسناديهما محمد بن الحسن بن زبالة وهو ضعيف، وللطبراني طريق آخر وفيه طلحة ابن زيد القرشي وهو أيضا ضعيف. ومن حديث عائشة أخرجه الحكيم في نوارده والبيهقي في الشعب، ذكر طرق هذه الأحاديث السيوطي في اللآلي. وقال في هامش مجمع الزوائد: بسط الكلام على الحديث على

(12/100)


الحديث ومخرجيه في كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على السنة الناس للعجلوني.
1901- قوله: (شجرة) أي كشجرة (في الجنة) لعله شبه السخاء بها في عظمها وكونها ذات أغصان وشعب كثيرة قاله الطيبي. قال القاري: ويمكن أن يكون صفة السخاء مصورة بشجرة في الجنة. قال الطيبي: جنس الشجرة الدنيوية نوعان: متعارف، وغير متعارف. وهي شجرة السخاء الثابت أصلها في الجنة وفرعها في الدنيا فمن أخذ
فمن كان سخيا أخذ بغصن منها فلم يتركه الغصن حتى يدخله الجنة، والشح شجرة في النار، فمن كان شحيحا أخذ بغصن منها، فلم يتركه حتى يدخله النار)). رواهما البيهقي في شعب الإيمان.
1902-(29) وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالصدقة

(12/101)


بغصن منها في الدنيا أوصله إلى أصل الجنة في العقبى كما أشار بقوله (فمن كان سخيا) أي في علم الله أو في الدنيا (أخذ بغصن منها) أي بنوع من أنواع السخاء (فلم يتركه الغصن) أي ولو آخر الأمر (حتى يدخله الجنة والشح) أي البخل (حتى يدخله النار) أي أولا. وقيل: معنى الحديث أي السخاء يدل على قوة الإيمان لاعتقاد إن الله تعالى ضمن الرزق فمن تمسك بهذا الأصل أوصله إلى الجنة. والبخل يدل على ضعف الإيمان لعدم وثوقه بضمان الرحمن، وذلك يجره إلى دار الهوان. وفي الحديث فضل السخاء والجود وذم البخل والشح (رواهما) أي هذا الحديث والذي قبله (البيهقي) قد تقدم الكلام على الحديث الأول ومن أخرجه، وأما هذا الحديث فأخرجه أيضا ابن عدي، وفيه داود ابن الحصين روى عن الأعرج عن أبي هريرة. قال ابن الجوزي: داود حدث عن الثقات بما لا يشبه حديث الإثبات قلت: داود هذا من رجال الستة ثقة إلا في عكرمة، ورمى برأي الخوارج قيل والبلاء هنا ممن دونه. وللحديث شواهد، منها حديث الحسن أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن مسلمة عن جعفر بن محمد عن جده مرفوعا. قال ابن الجوزي: سعيد بن مسلمة الأموي ليس بشيء. قال السيوطي في التعقبات: قال البيهقي إسناده ضعيف وسعيد ابن مسلمة لم يتهم بكذب، بل قال البخاري ضعيف، ووثقه ابن عدي فقال: أرجو أنه ممن لا يترك حديثه، وقد أخرج له الترمذي وابن ماجه ومثل هذا يحسن حديثه إذا توبع، وداود بن الحصين وإن كان فيه كلام إلا أنه محدث مشهور، ووثقه الجمهور. وأخرج له الأئمة الستة وأكثر ما عيب عليه الابتداع، وأنكر ابن المديني وأبوداود أحاديثه عن عكرمة خاصة. قال أبوداود: أحاديثه عن عكرمة مناكير وأحاديثه عن شيوخه مستقيمة، فهذه الطريق على انفرادها جيدة، فكيف وطريق الحسن شاهدة لها. ومنها حديث أبي سعيد أخرجه الخطيب، وفيه محمد بن مسلمة وهو ضعيف جدا، ومنها حديث جابر أخرجه الخطيب وفيه عاصم بن عبدالله وهو ضعيف، وشيخه عبدالعزيز

(12/102)


بن خالد كذاب، ومنها حديث عائشة أخرجه ابن حبان وفيه إسماعيل بن عباد متروك، وشيخه الحسين ابن علوان وضاع. ومنها حديث عبدالله بن جراد أخرجه البيهقي والخطيب وابن عساكر. قال البيهقي: ضعيف الإسناد. ومنها حديث أنس أخرجه ابن عساكر. ومنها حديث معاوية أخرجه الديلمي ذكر هذه الأحاديث السيوطي في اللآلي (ج2 ص49- 50) وبسط طرقها.
1902- قوله: (بادروا) أي بالموت أو المرض أو غيركم (بالصدقة) أي بإعطائها للمستحقين وفي
فإن البلاء لا يتخطاها)) رواه رزين.
(6) باب فضل الصدقة
?الفصل الأول?
1903-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من تصدق بعدل تمرة

(12/103)


مجمع الزوائد (ج3 ص110) والترغيب للمنذري واللآلي للسيوطي عزوا للطبراني. باكروا بالصدقة مكان بادروا أي سارعوا بها (فإن البلاء لا يتخطاها) أي لا يجاوزها يعني لا يلحق صاحبها. قال القاري: أي لا يتجاوزها بل يقف دونها أو يرجع عنها. قال الطيبي: تعليل للأمر بالمبادرة وهو تمثيل. قيل: جعلت الصدقة والبلاء كفرسي رهان، فأيهما سبق لم يلحقه الآخر ولم يخطه، والتخطي تفعل من الخطو- انتهى. قال الطيبي: والأولى إنه جعل الصدقة سترا وحجابا بين يدي المتصدق، ولا يتخطاها البلاء حتى يصل إليه (رواه رزين) قد تقدم إن هذا الحديث عزاه الهيثمي والمنذري والسيوطي للطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: فيه عيسى بن عبدالله بن محمد وهو ضعيف. وقال المنذري: رواه الطبراني وذكره رزين في جامعه وليس في شيء من الأصول وكذا قال الشيخ محمد طاهر الفتني في تذكرة الموضوعات (ص64) وللحديث طريق آخر أخرجه ابن أبي الدنيا وابن عدي وأبوالشيخ في الثواب، والبيهقي من حديث أنس. قال ابن الجوزي في موضوعاته فيه أبويوسف لا يعرف وبشر بن عبيد منكر الحديث وتعقبه السيوطي. فقال أبويوسف: هو القاضي المشهور صاحب أبي حنيفة، وبشر ابن عبيد ذكره ابن حبان في الثقات، وله شاهد من حديث على أخرجه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف. وقال البيهقي في السنن الكبرى: (ج4 ص189) بعد روايته من طريق يحيى بن سعيد عن المختار ابن فلفل عن أنس هذا موقوف، وكان في كتاب شيخنا أبي نصر أحمد علي الفامي مرفوعا، وهو وهم وروى عن أبي يوسف القاضي عن المختار بن فلفل عن أنس مرفوعا - انتهى.
(باب فضل الصدقة) هي ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة، واجبا كان أو تطوعا. سميت بذلك؛ لأنها تنبيء عن صدق رغبة صاحبها في مراتب الجنان أو تدل على تحقيق تصديق صاحبها في إظهار الإيمان.

(12/104)


1903- قوله: (من تصدق بعد تمرة) بسكون الميم والعدل عند الجمهور بفتح العين المثل، وبالكسر الحمل بكسر الحاء أي بقيمة تمرة. وقال الفراء: العدل بالفتح المثل من غير جنسه، وبالكسر من جنسه. وقيل: بالعكس وقيل: بالفتح مثله في القيمة وبالكسر في النظر وأنكر البصريون هذه التفرقة. وقال الكسائي: هما بمعنى كما إن لفظ
من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها
المثل لا يختلف وضبط في هذه الرواية للأكثر بالفتح قاله الحافظ (من كسب) أي صناعة أو تجارة أو زراعة أو غيرها ولو إرثا وهبة. قال الحافظ: معنى الكسب المكسوب، والمراد به ما هو أعم من تعاطى التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث، وكأنه ذكر الكسب لكونه الغالب في تحصيل المال (طيب) أي حلال، وقد يطلق على المستلذ بالطبع، والمراد هنا هو الحلال. وقال القرطبي: أصل الطيب المستلذ بالطبع، ثم أطلق على المطلق بالشرع وهو الحلال (ولا يقبل الله إلا الطيب) جملة معترضة بين الشرط والجزاء لتقرير ما قبله، وفيه دليل على أن غير الحلال مقبول. قال السندي: هذه جملة معترضة لبيان أنه لا ثواب في غير الطيب لا أن ثوابه دون هذا الثواب إذ قد يتوهم من التقييد إنه شرط لهذا الثواب بخصوصه، لا لمطلق الثواب، فمطلق الثواب يكون بدونه أيضا فذكرت هذه الجملة دفعا لهذا التوهم، ومعنى عدم قبوله إنه لا يثيب عليه ولا يرضى به انتهى. قال القرطبي: وإنما لا يقبل الله الصدقة بالحرام؛ لأنه غير مملوك للمصدق وهو ممنوع من التصرف فيه، والمتصدق به متصرف فيه. فلو قبل منه لزم أن يكون الشيء مأمورا ومنهيا من وجه واحد، وهو محال - انتهى. (فإن الله يتقبلها بيمينه) قيل: هو كناية عن حسن القبول ووقوعها منه عزوجل موقع الرضا، وذكر اليمين للتشريف والتعظيم وكلتا يدي الرحمن يمين. قال المازري: هذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوا في خطابهم ليفهموا عنه فكنى عن قبول

(12/105)


الصدقة بأخذها باليمين وعن تضعيف أجرها بالتربية. وقال عياض: لما كان الشيء الذي يرتضي ويعز يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا واستعير للقبول والرضا كما قال الشاعر:
إذا ما رأية رفعت لمجد تلقاه عرابة باليمين
وقال الزين بن المنير: الكناية عن الرضا والقبول بالتلقي باليمين لتثبيت المعاني المعقولة من الأذهان، وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات أي لا يتشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي للشيء بيمينه، لا أن التناول كالتناول المعهود ولا أن المتناول به جارحة - انتهى. قلت: الحق في هذا وأمثاله من أحاديث الصفات هو ما روى عن السلف أن يؤمن المرأ به كما جاء ويجزيه على ظاهره، ولا يتعرض له، بتأويل وتفسير ولا تحريف ولا تمثيل ولا تعطيل، بل يكل علمه ويفوض كيفه إلى العليم الخبير. قال الترمذي في جامعه: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث ولا نتوهم فيها تشبيها، ولا نقول كيف هكذا. روى عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم أنهم قالوا: في هذه الأحاديث أمروها بلا كيف، وأنكرت الجهمية هذه الروايات - انتهى. (ثم يربيها) التربية كناية عن الزيادة أي يزيدها ويعظمها حتى تثقل في الميزان (لصاحبها) أي لصاحب الصدقة أو تلك التمرة
كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل)). متفق عليه.
1904 -(2) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله

(12/106)


وفي رواية لصاحبه أي لصاحب المال، والأول أنسب بما قبلها (كما يربي أحدكم فلوه) بفتح الفاء وضم اللام وفتح الواو المشددة المهر، وهو ولد الفرس حين يفلي أي يفطم، وهو حينئذ يحتاج إلى تربية غير الأم. وقيل: هو كل فطيم من ذات حافر، والجمع أفلاء كعدو وأعداء، وقال أبوزيد: إذا فتحت الفاء شددت الواو، وإذا كسرتها سكنت اللام كجرو، وضرب به المثل لأنه يزيد زيادة بينة. فإن صاحب النتاج لا يزال يتعاهده ويتولى تربيته، ولأن الصدقة نتاج عمله وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيما، فإذا أحسن القيام والعناية به انتهى إلى حد الكمال وكذلك عمل ابن آدم لاسيما الصدقة التي يجاذبها الشح، ويتشبث بها الهوى ويقتفيها الرياء ويكدرها الطبع فلا تكاد تخلص إلى الله إلا موسومة بنقايص لا يجبرها إلا نظر الرحمن. فإذا تصدق العبد من كسب طيب مستعد للقبول فتح دونها باب الرحمة فلا يزال نظر الله يكسبها نعت الكمال ويوفيها حصة الثواب حتى ينتهي بالتضعيف إلى نصاب يقع المناسبة بينه وبين ما قدم من العمل، وقوع المناسبة بين التمرة والجبل كذا قال التوربشتي. (حتى تكون) بالتأنيث أي الصدقة أو ثوابها أو تلك التمرة (مثل الجبل) أي في الثقل وفي رواية لمسلم: حتى تكون أعظم من الجبل، ولابن جرير: حتى يوافي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد يعني التمرة، وهي عند الترمذي بلفظ: حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد. قال الحافظ: والظاهر إن المراد بعظمها إن عينها تعظم لتثقل في الميزان، ويحتمل أن يكون ذلك معبرا به عن ثوابها (متفق عليه) وأخرجه أحمد في عشرة مواضع والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي وأبوعوانة، ورواه مالك عن سعيد بن يسار مرسلا لم يذكر أباهريرة.

(12/107)


1904- قوله: (ما نقصت صدقة) "ما" نافية و "من" في قوله (من مال) زائدة أو تبعيضية أو بيانه أي ما نقصت صدقة مالا أو بعض مال أو شيئا من مال، بل تزيد إضعاف ما يعطي منه، بأن ينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية أو بالعطية الجلية في الدنيا أو بالمثوبة العلية المرتبة عليه في الآخرة. (وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا) يعني لو ظلم أحد أحدا، ويقدر المظلوم على الانتقام عن الظالم فيعفو عنه يزيد الله عزاه في الدنيا، بسبب هذا العفو. فإن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب وزاد عزه وإكرامه. أو المراد يزيد عزه في الآخرة بأن يعظم ثوابة وأجره هناك، أو المراد في الدنيا والآخرة جميعا (وما تواضع أحد لله) بأن أنزل نفسه
إلا رفعه الله)). رواه مسلم.
1905 -(3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنفق زوجين من شيء من
الأشياء في سبيل الله، دعي من أبواب الجنة،
عن مرتبة يستحقها لرجاء التقرب إلى الله دون غرض غيره (إلا رفعه الله) أما في الدنيا بأن يثبت له بتواضعه في القلوب منزلة، ويرفعه عند الناس ويجل مكانه أو في الآخرة بأن يرفع درجته وثوابه فيها بتواضعه في الدنيا أو المراد رفعه في الدنيا والآخرة جميعا. قال الطيبي: من جبلة الإنسان الشح ومتابعة السبعية من إيثار الغضب والانتقام والاسترسال في الكبر الذي هو من نتائج الشيطانية، فأراد الله تعالى أن يقلعها من سنخها فحث أولا على الصدقة ليتحلى بالسخاء والكرم، وثانيا على العفو ليتعزز بعزم الحلم والوقار، وثالثا على التواضع ليرفع درجته في الدارين - انتهى. (رواه مسلم) في البر والصلة والأدب وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص235) والترمذي في البر والصلة، والبيهقي في الزكاة وأخرجه مالك مرسلا.

(12/108)


1905- قوله: (من أنفق زوجين) أي شيئين (من شيء من الأشياء) أي من أي صنف من أصناف المال من نوع واحد، وقد جاء مفسرا مرفوعا بعيرين شاتين حمارين درهمين. قال الحافظ: الزوج يطلق على الواحد وعلى الاثنين وهو ههنا على الواحد جزما. وقال في مجمع البحار: الزوج خلاف الفرد، وأراد أن يشفع كل ما يشفع من شيء بمثله إن كان دراهم فدرهمين أو دنانير فدينارين وكذا سلاحا وغيره. قيل: ويحتمل أن يراد ي به تكرار الإنفاق مرة بعد مرة ففسر الإنفاق بما ينفقه، لأنه إذا أنفق درهما في سبيل الله ثم عاد فأنفق آخر يصير زوجين. ومعنى كلام الإنفاق بعد الإنفاق أي يتعود ذلك ويتخذه دأبا. وقال القاضي قال الهروي: في تفسير هذا الحديث قيل: وما زوجان قال: فرسان أو عبدان أو بعيران. وقال ابن عرفة: كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج يقال: زوجت بين الإبل إذا قرنت بعيرا ببعير. وقيل: درهم ودينار أو درهم وثوب. قال: والزوج يقع على الإثنين ويقع على الواحد وقيل: إنما يقع على الواحد إذا كان معه آخر، ويقع الزوج أيضا على الصنف. وفسر بقوله تعالى: ?وكنتم أزواجا ثلاثة?[الواقعة: 7] والمطلوب تشفيع صدقة بأخرى والتنبيه على فضل الصدقة والنفقة في الطاعة الاستكثار منها وقال ابن الأثير: الأصل في الزوج الصنف والنوع من كل شيء، وكل شيئين مقترنين شكلين كانا أو صنفين فهما زوجان، وكل واحد منهما زوج، يريد من أنفق صنفين من ماله في سبيل الله (في سبيل الله) أي في طلب ثواب الله، وهو أعم من الجهاد وغيره من العبادات. وقيل: المراد به الجهاد خاصة وأول أصح وأظهر كذا قال القاضي عياض. (دعي) بضم الدال أي نودي، وقد ورد بيان الداعي من وجه آخر ولفظه دعاه خزنة الجنة، كل خزنة باب أي قل هلم أي خزنة كل باب فهو من المقلوب (من أبواب الجنة) كذا في جميع
وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة،

(12/109)


النسخ مقتصرا عليه، وهكذا وقع في المصابيح. وفي الصحيحين بعد هذا يا عبدالله! هذا خير. قيل معناه: لك هنا خير وثواب وغبطة. وقيل: معناه هذا الباب فيما نعتقده خير لك من غيره من الأبواب لكثرة ثوابه ونعيمه فتعال فادخل منه ولابد من تقدير ما ذكرناه إن كل مناد يعتقد ذلك الباب أفضل من غيره قاله النووي. وقال الحافظ: قوله هذا خير ليس اسم التفضيل بل المعنى هذا أخير من الخيرات والتنوين فيه للتعظيم وبه تظهر الفائدة، يعني إن لفظ "خير" بمعنى فاضل لا بمعنى أفضل، وإن كان اللفظ قد يوهم ذلك ففائدته ترغيب السامع في طلب الدخول من ذلك الباب (وللجنة أبواب) أي ثمانية كما في الأحاديث الصحيحة (فمن كان من أهل الصلاة) أي المؤدين للفرائض المكثرين من النوافل وكذا ما يأتي فيما بعد (دعي من باب الصلاة) أي قيل يا عبدالله! أدخل الجنة من هذا الباب. قال الحافظ: ومعنى الحديث إن كان عامل يدعى من باب ذلك العمل وقد جاء ذلك صريحا من وجه آخر، عن أبي هريرة لكل عامل باب من أبواب الجنة يدعى منه بذلك العمل. أخرجه أحمد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح - انتهى. والحاصل إن من أكثر نوعا من العبادة خص بباب يناسبها ينادي منها جزاء وفاقا. وقال السندي: في حاشية مسلم قوله: فمن كان من أهل الصلاة الخ الظاهر من هذه الرواية إن من أنفق زوجين ينادي في الجنة من باب واحد، وهو الباب الذي غلب على المنفق عمل أهله، ففائدة الإنفاق هو تكريمه بالمناداة وإلا فهو يدخل الجنة من ذلك الباب بناء على أنه من أهله، وهذا هو الذي عليه التفضيل، وهو قوله: "فمن كان من أهل الصلاة" الخ وهو الذي يوافقه سؤال أبي بكر رضي الله عنه على الوجه المذكور في هذه الرواية. وأما حمل قوله: نودي على النداء من جميع الأبواب، وجعل قوله: فمن كان من أهل الصلاة الخ منقطعا عن ذكر المنفق زوجين، بل هو بيان لأبواب الجنة وأهليها فذاك بعيد جدا في نفسه، ومع ذلك لا يناسبه سؤال أبي بكر على

(12/110)


الوجه المذكور في هذه الرواية إلا أن يتكلف فيه. ويقال معنى وهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها أي غير المنفق زوجين، وهو مع بعده يستلزم بمقتضى قوله - صلى الله عليه وسلم -: وأرجو أن تكون منهم، إن أبابكر ليس من المنفقين زوجين بل من غيرهم، فوجب حمل هذه الرواية على المناداة من باب واحد وحينئذ يظهر التنافي بحسب الظاهر بين هذه الرواية وبين الآية (يعني حديث أبي هريرة عند الشيخين بلفظ: من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب أي قل هلم: فقال أبوبكر: يا رسول الله! ذاك الذي لا توى عليه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأرجو أن تكون منهم) فإنها تفيد إن المناداة من جميع الأبواب، وتفيد إن أبابكر ما سأل إن أحدا ينادي من تمام الأبواب أو لا، بل مدح الذي ينادي من تمام الأبواب. وهذه الرواية تخالف تلك في الأمرين كما لا يخفي فالخلاف إما لسهو وقع من بعض الرواة وهو الظاهر
ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، فقال أبوبكر: ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة،

(12/111)


في مثل هذا، وإما لحمله على أنهما واقعتان في المجلسين أنه - صلى الله عليه وسلم - أوحي إليه أولا بالمناداة من باب واحد، وثانيا بالمناداة من تمام الأبواب فأخبر في كل مجلس بما أوحي إليه، وسأل أبوبكر في المجلس الأول عمن ينادي من تمام الأبواب، وفي المجلس مدح ذلك المنادي على ما اللائق بكل مجلس، وبشره النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجلسين بأن ينادي من تلك الأبواب والله تعالى أعلم بالصواب - انتهى كلام السندي. (ومن كان من أهل الجهاد) أي ممن يغلب عليه الجهاد (ومن كان من أهل الصدقة) أي المكثرين منها (ومن كان من أهل الصيام) أي الذي الغالب عليه الصيام، وإلا فكل المؤمنين أهل للكل (دعي من باب الريان) بفتح الراء وتشديد التحتانية، وزن فعلان. من الري. اسم علم لباب من أبواب الجنة يختص بدخول الصائمين منه، وهو مما وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه، لأنه مشتق من الري وهو مناسب لحال الصائمين، لأنهم بتعطيشهم أنفسهم في الدنيا يدخلون من باب الريان ليأمنوا من العطش. قال الحافظ: وقع في الحديث ذكر أربعة أبواب من أبواب الجنة وقد ثبت إن أبواب الجنة ثمانية وبقي من الأركان الحج فله باب بلا شك. وأما الثلاثة الأخرى فمنها، باب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. رواه أحمد بن حنبل عن أشعث عن الحسن مرسلا: إن لله بابا في الجنة لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة. ومنها الباب الأيمن وهو باب المتوكلين الذي يدخل منه من لا حساب عليه ولا عذاب. وأما الثالث فلعله باب الذكر عند الترمذي ما يؤميء إليه، ويحتمل أن يكون باب العلم، ويحتمل أن يكون المراد بالأبواب التي يدعي منها أبواب من داخل أبواب الجنة الأصلية، لأن الأعمال الصالحة أكثر عددا من ثمانية - انتهى. وقال القاضي: قد جاء ذكر بقية أبواب الجنة الثمانية في حديث آخر في باب التوبة وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وباب الراضين. فهذه سبعة أبواب جاءت في الأحاديث وجاء في

(12/112)


حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب إنهم يدخلون من الباب الأيمن فلعله باب الثامن - انتهى. وروى الحاكم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن للجنة بابا يقال له باب الضحى، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين كانوا يدامون على صلاة الضحى، هذا بابكم فادخلوه برحمة الله، ذكره ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص93) (ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة) بفتح الضاد وكلمة "ما" للنفي و "من" زائدة وهي اسم "ما" أي ليس ضرورة واحتياج على من دعي من باب واحد من تلك الأبواب إن لم يدع من سائرها لحصول
فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم)).

(12/113)


المقصود وهو دخول الجنة، وهذا نوع تمهيد قاعدة السؤال في قوله (فهل يدعي أحد من تلك الأبواب كلها) أي سألت عن ذلك بعد معرفتي بأن لا ضرورة ولا احتياج لمن يدعي من باب واحد إلى الدعاء من سائر الأبواب إذ يحصل مراده بدخول الجنة (قال نعم) أي يكون جماعة يدعون من جميع تلك الأبواب تعظيما وتكريما لهم لكثرة صلاتهم وجهادهم وصيامهم وغير ذلك من أبواب الخير. قال الحافظ: في الحديث إشعار بقلة من يدعي من تلك الأبواب كلها، وفيه إشارة إلى أن المراد ما يتطوع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها، لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات كلها بخلاف التطوعات فقل من يجتمع له العمل بجميع أنواع التطوعات. ثم من يجتمع له ذلك إنما يدعي من جميع الأبواب على سبيل التكريم له، وإلا فدخوله إنما يكون من باب واحد وهو باب العمل الذي يكون أغلب عليه والله أعلم. وأما ما أخرجه مسلم عن عمر من توضأ ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله - الحديث. وفيه فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء فلا ينافي ما تقدم، وإن كان ظاهره إنه يعارضه؛ لأنه يحمل على أنها تفتح له على التكريم ثم عند دخوله لا يدخل إلا من باب العمل الذي يكون أغلب عليه كما تقدم - انتهى. (وأرجو أن تكون منهم) الرجاء من الله ومن نبيه - صلى الله عليه وسلم - واقع محقق ففيه إن الصديق من أهل هذه الأعمال كلها، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن حبان في نحو هذا الحديث التصريح بالوقوع لأبي بكر ولفظه: قال أجل وأنت هو يا أبابكر: أي لأنه رضي الله عنه كان جامعا لهذه الخيرات كلها. أما التعبير بعنوان الرجاء في حديث الباب فقيل: إنه خرج مخرج الأدب مع الله تعالى إذ لا يجب عليه سبحانه شيء وهو سبحانه أكرم من أن يخلف رجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. تنبيه الإنفاق في الصلاة والجهاد والعلم والحج ظاهر. وأما الإنفاق في غيرها فمشكل، ويمكن أن يكون المراد بالإنفاق في الصلاة فيما يتعلق بوسائلها من تحصيل

(12/114)


آلاتها من طهارة وتطهير ثوب وبدن ومكان. والإنفاق في الصيام بما يقويه على فعله وخلوص القصد فيه. والإنفاق في العفو عن الناس يمكن أن يقع بترك ما يجب له من حق والإنفاق في التوكل بما ينفقه على نفسه في مرضه المانع له من التصرف في طلب المعاش مع الصبر على المعصية، أو ينفق على من أصابه مثل ذلك طلبا للثواب. والإنفاق في الذكر على نحو من ذلك. وقيل: المراد بالإنفاق في الصلاة والصيام بذل النفس والبدن فيهما فإن العرب تسمى ما يبذله المرأ من نفسه نفقة. كما يقال أنفقت في طلب العلم عمري وبذلت فيه نفسي، وهذا معنى حسن، وأبعد من قال المراد بقوله زوجين النفس والمال لأن المال في الصلاة والصيام ونحوهما ليس بظاهر إلا بالتأويل المتقدم وكذلك من قال النفقة في الصيام تقع بتفطير الصائم والإنفاق عليه، لأن ذلك يرجع إلى باب الصدقة كذا في
متفق عليه.
1906-(4) وعنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبوبكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبوبكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبوبكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبوبكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمعن في امرء إلا دخل الجنة)). رواه مسلم.
1907-(5) وعنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا نساء المسلمات
الفتح: (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصيام وفي فضائل أبي بكر، وأخرجه في الجهاد وبدء الخلق مختصرا. وأخرجه مسلم في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص268) ومالك والنسائي في الجهاد والترمذي في مناقب أبي بكر.

(12/115)


1906 – قوله: (من أصبح منكم اليوم صائما) من استفهامية "وأصبح" بمعنى صار وخبره "صائما" أو بمعنى دخل في الصباح فتكون تامة، وصائما حال من ضميره (قال أبو بكر أنا) قال الطيبي: ذكر "أنا" هنا للتعيين في الأخبار لا للاعتداء بنفسه كما يذكر في مقام المفاخرة، وهذا هو الذي كرهه الصوفية، وقد ورد: ?قل إنما أنا بشر مثلكم?[الكهف:110] وما أنا من المتكلفين إلى غير ذلك وأما رده عليه الصلاة والسلام على جابر حيث أجاب بعد دق الباب بأنا، قائلا أنا، أنا فلعدم العتيين في مقام الأخبار يعني سبب كراهة له الاقتصار عليه المؤدي إلى عدم تعريفه نفسه، ثم لو عرفه بصوته لما استفهمه. (ما اجتمن) أي ما وجدت هذه الخصال الأربعة وحصلت في يوم واحد (في امريء إلا دخل الجنة) أي بلا محاسبة وإلا فمجرد الإيمان يكفي لمطلق الدخول، أو معناه دخل الجنة من أي باب شاء كما تقدم والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) في الزكاة وأخرجه أيضا ابن خزيمة كما في الترغيب والبيهقي في الزكاة.
1907- قوله: (يا نساء المسلمات) قال عياض: في إعرابه ثلاثة أوجه أصححها وأشهرها نصب النساء وجر المسلمات على الإضافة وهي رواية المشارقة من إضافة الشيء إلى صفته كمسجد الجامع، وهو عند الكوفيين جائزة على ظاهره. وعند البصريين يقدرون فيه موصوفا أي مسجد المكان الجامع، وتقدر هنا يا نساء الأنفس المسلمات أو الجماعات المسلمات. وقال السهيلي: وغيره جاء برفع الهمزة على أنه منادى مفرد ويجوز في المسلمات الرفع صفة على اللفظ على معنى يا أيها النساء المسلمات، والنصب صفة على الموضع كما يقال يا زيد العاقل برفع زيد ونصب
لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شأة)) متفق عليه.
1908-1909- (6-7) وعن جابر وحذيفة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل معروف صدقة))

(12/116)


العاقل، وكسر التاء هنا علامة النصب. وروى بنصب الهمزة على أنه منادى مضاف وكسر التاء للخفض بالإضافة كقولهم مسجد الجامع وهو مما أضيف فيه الموصوف إلى الصفة في اللفظ فالبصريون يتأولونه على حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه نحو يا نساء الأنفس المسلمات أو يا نساء الطوائف المؤمنات، أي لا الكافرات. وقيل: تقديره يا فاضلات المسلمات كما يقال هؤلاء رجال القوم أي أفاضلهم. والكوفيون يدعون أن لا حذف فيه ويكتفون باختلاف الألفاظ في المغايرة. (لا تحقرن) بفتح حرف المضارعة وكسر القاف وبالنون الثقيلة أي لا تستحقرن إهداء شيء (جارة) مؤنث الجار (لجارتها ) متعلق بمحذوف أي لا تحقرن جارة هدية مهداة لجارتها (ولو فرسن شأة) بكسر الفاء والسين المهملة بينهما راء ساكنة وآخره نون هو عظم قليل اللحم، وهو للبعير موضع الحافر للفرس. ويطلق على الشاة مجازا ونونه زائدة. وقيل: أصلية وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله لا إلى حقيقة الفرسن، لأنه لم يجر العادة بإهداءه أي لا تمتنع جارة من الهدية لجارتها لاستقلالها وإحتقارها الموجود عندها، بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر، وإن كان قليلا فهو خير من العدم، وذكر الفرسن على سبيل المبالغة. ويحتمل أن يكون النهى للمهدي إليها وإنها لا تحتقر ما يهدى إليها ولو كان قليلا، وحمله على الأعم من ذلك أولى. قال الطيبي: ويمكن أن يقال هو من باب النهى عن الشيء والأمر بضده وهو كناية عن التحابب والتوادد، كأنه قيل: لتحاب جارة جارتها بإرسال هدية ولو كانت حقيرة، ويتساوى فيه الفقير والغنى. وخص النهى بالنساء، لأنهن موارد الشنأن والمحبة ولأنهن أسرع إنفعالا في كل منهما. وفي الحديث الحض على التهادي ولو باليسير لما فيه من استجلاب المودة وإذهاب الشحناء، ولما فيه من التعاون على أمر المعيشة والهدية إذا كانت يسيرة فهي أول على المحبة وأسقط للمؤنة وأسهل على المهدي لاطراح التكلف والكثير قد لا

(12/117)


يتيسر كل وقت والمواصلة باليسير تكون كالكثير. وفي حديث عائشة يا نساء المؤمنين! تهادوا ولو فرسن شأة فإنه ينبت المودة ويذهب الضغائن (متفق عليه) أخرجه البخاري في أول الهبة وفي الأدب ومسلم في الزكاة، وأخرجه أيضا أحمد في مواضع منها في (ج2:ص264-307) والترمذي في الهبة.
1908-1909- قوله: (كل معروف صدقة) أي له حكمها في الثواب يعني ثوابه كثواب الصدقة بالمال، قال الراغب: المعروف اسم كل فعل يعرف حسنه بالشرع والعقل معا، ويطلق على الاقتصاد لثبوت النهى عن
متفق عليه
1910- (8) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)). رواه مسلم.
1911- (9) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((على كل مسلم صدقة،

(12/118)


السرف. وقال ابن أبي جمرة: يطلق اسم المعروف على ما عرف بأدلة الشرع إنه من أعمال البر سواء جرت به العادة أم لا. قال: والمراد بالصدقة الثواب فإن قارنته النية أجر صاحبه جزما وإلا ففيه احتمال.قال: وفي هذا الكلام إشارة إلى أن الصدقة لا تنحصر في الأمر المحسوس منه فلا تختص بأهل اليسار مثلا، بل كل واحد قادر على أن يفعلها في أكثر الأحوال بغير مشقة. وقال ابن بطال: دل هذا الحديث على أن كل شيء يفعله المرأ أو يقوله من الخير يكتب له به صدقة، وقد فسر ذلك في حديث أبي موسى الأشعري المذكور بعد حديث أبي ذر، وزاد عليه إن الإمساك عن الشر صدقة وفي الحديث بيان إن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، وفيه إنه لا يحتقر شيئا من المعروف وإنه ينبغي أن لا يبخل به بل ينبغي أن يحضره (متفق عليه) ظاهره يقتضى إلا كلا من البخاري ومسلم أخرجه من حديث جابر، وحذيفة معا. وليس كذلك فقد أخرجه البخاري في الهبة من حديث جابر ومسلم في الزكاة من حديث حذيفة، فحديث جابر من أفراد البخاري، وحديث حذيفة من أفراد مسلم. وأصل الحديث مع قطع النظر عن الروايتين متفق عليه. وأخرجه أبوداود في الأدب والبيهقي في الزكاة من حديث حذيفة. وأخرجه أحمد والترمذي في البر والصلة من حديث جابر مثله وزاد في آخره. ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وإن تفرغ من دلوك في إناء أخيك، وأخرجه أيضا الدارقطني والحاكم من حديث جابر، وزاد وما انفق الرجل على أهله كتب له به صدقة وما وقى به المرأ عرضه فهو صدقة، ذكره الحافظ في الفتح.

(12/119)


1910- قوله: (لا تحقرن) أي أنت يا أباذر (من المعروف) تقدم بيان معناه (شيئا ولو إن تلقى أخاك بوجه طليق) الوجه الطليق الذي فيه بشاشة وفرح أي إفعل الخيرات كلها قليلها وكثيرها، ومن الخيرات أن يكون وجهك ذابشاشة وفرح إذا رأيت مسلما، فإنه يوصل إلى قلبه سرورا إذا تركت العبوس وتطلقت عليه ولا شك إن إيصال السرور إلى قلوب المسلمين حسنه، وقوله "طليق" كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة وهكذا في المصابيح ووقع في نسخ مسلم طلق أي بحذف الياء. قال النووي روى طلق على ثلاثة أوجه إسكان اللام وكسرها وطليق بزيادة ياء ومعناه سهل منبسط وفيه الحث على فعل المعروف وما تيسر منه وإن قل حتى طلاقه الوجه عند اللقاء (رواه مسلم) في البر والصلة وأخرجه أيضا أحمد (ج5:ص173) والبيهقي (ج4:ص188).
1911- قوله: (على كل مسلم صدقة) أي كل يوم كما في حديث أبي هريرة الآتي والمراد على سبيل
قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بيديه فينفع نفسه، ويتصدق. قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: فيعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يفعله؟ قال: فيأمر بالخير.

(12/120)


الاستحباب المتأكد ولا حق في المال سوى الزكاة إلا على سبيل الندب ومكارم الأخلاق كما قاله الجمهور ذكره القسطلاني. وقال النووي: قال العلماء المراد صدقة ندب وترغيب لا إيجاب وإلزام. وقال الحافظ: قوله على كل مسلم صدقة أي على سبيل الاستحباب المتأكد أو على ما هو أعم من ذلك. والعبارة صالحة للإيجاب والاستحباب كقوله عليه السلام "على المسلم ست خصال" فذكر منها ما هو مستحب إنفاقا. كذا قال في الزكاة وقال في الأدب: قوله على كل مسلم صدقة أي في مكارم الأخلاق، وليس ذلك بفرض إجماعا. قال ابن بطال: وأصل الصدقة ما يخرجه المرأ من ماله متطوعا به، وقد يطلق على الواجب لتحرى صاحبه الصدق بفعله: ويقال: لكل ما يحابى به المرأ من حقه صدقة، لأنه تصدق بذلك على نفسه. (قالوا فإن لم يجد) أي ما يتصدق به كأنهم فهموا من لفظ الصدقة العطية فسألوا عمن ليس عنده شيء، فبين لهم أن المراد بالصدقة ما هو أعم من ذلك ولو بإغاثة الملهوف والأمر بالمعروف، وهل تلتحق هذه الصدقة؟ بصدقة التطوع التي تحسب يوم القيامة من الفرض الذي أخل به. فيه نظر، الذي يظهر أنها غيرها لما تبين من حديث عائشة الآتي إنها شرعت بسبب عتق المفاصل، حيث قال في آخر هذا الحديث فإنه يمسى يومئذ. وقد زحزح نفسه عن النار قاله الحافظ (فليعمل) كذا في جميع النسخ الحاضرة والذي في البخاري في الزكاة يعمل وفي الأدب فيعمل وفي مسلم يعتمل (بيديه) بالتثنية (فينفع نفسه) بما يكسبه من صناعة وتجارة ونحوهما بإنفاقه عليها، ومن تلزمه نفقته ويستغنى بذلك عن السؤال لغيره (ويتصدق) فينفع غيره ويؤجر. قال القسطلاني: وقوله فيعمل فينفع ويتصدق، بالرفع في الثلاثة خبر بمعنى الأمر قاله ابن مالك قال ابن بطال: فيه التنبيه على العمل والتكسب ليجد المرأ ما ينفق على نفسه ويتصدق به ويغنيه عن ذل السؤال، وفيه الحث على فعل الخير مهما أمكن وإن من قصد شيئا منها فتعسر فلينتقل إلى غيره (فإن لم يستطع) أي

(12/121)


بأن عجز عن العمل (أو لم يفعل) ذلك عجزا أو كسلا والشك من الراوي (فيعين) أي بالفعل أو بالقول أو بهما (ذاالحاجة الملهوف) بالنصب صفة لذا الحاجة المنصوب على المفعولية، والملهوف، عند أهل اللغة يطلق على المتحسر وعلى المضطر وعلى المظلوم. يقال: لهف بكسر الهاء يلهف بفتحها لهفا بإسكانها أي حزن وتحسر، وكذلك التلهف ذكره النووي. وقال الحافظ: الملهوف، المستغيث وأعم من أن يكون مظلوما أو عاجزا. وقيل: هو المكروب المحتاج (فإن لم يفعله) أي عجزا أو كسلا، وفي البخاري فإن لم يفعل. أي يحذف الضمير المنصوب (فيأمر بالخير) وهو يشمل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإفادة العلمية والنصيحة العملية وفي البخاري في الأدب فيأمر بالخير أو قال بالمعروف، وفي مسلم يأمر بالمعروف أو الخير، وهذا شك من الراوي، وللبخاري في الزكاة فليعمل بالمعروف.
قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فيمسك عن الشر، فإنه له صدقة)). متفق عليه.
1912- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل سلامي

(12/122)


وزاد أبوداود الطيالسي في مسنده وينهى عن المنكر (فيمسك عن الشر) وفي رواية فليمسك أي نفسه أو الناس (فإنه) أي الإمساك عن الشر (له) أي للمسك (صدقة) أي على نفسه لأنه إذا أمسك عن الشر لله تعالى كان له أجر على ذلك كالتصدق بالمال. وحاصل الحديث إن الشفقة على خلق الله متأكدة وهي إما بمال حاصل، وهو الشق الأول: أو بمقدور التحصيل. وهو الثاني: أو بغير مال وهو إما فعل وهو الإعانة والإغاثة أو ترك وهو الإمساك عن الشر. لكن قال الزين بن المنير: إن حصول ذلك للمسك إنما يكون مع نية القربة به بخلاف محض الترك، وقضية الحديث ترتيب الأمور الأربعة وليس مرادا، وإنما هو للتسهيل على من عجز عن واحد منها، وإلا فمن أمكنه فعل جميعها أو عدد منها معا فليفعل. ومقصود الحديث إن إعمال الخير تنزل منزل الصدقات في الأجر ولاسيما في حق من لا يقدر عليها ويفهم منه إن الصدقة في حق القادر عليها أفضل من الأعمال القاصرة. وقال ابن أبي جمرة: ترتيب هذا الحديث إنه ندب إلى الصدقة وعند العجز عنها ندب إلى ما يقرب منها، أو يقوم مقامها وهو العمل ولانتفاع، وعند العجز عن ذلك ندب إلى ما يقوم مقامه وهو الإغاثة، وعند عدم ذلك ندب إلى فعل المعروف أي من سوى ما تقدم كإماطة الأذى، وعند عدم ذلك ندب إلى الصلاة فإن لم يطق فترك الشر وذلك آخر المراتب. قال: ومعنى "الشر" هنا ما منعه الشرع ففيه تسلية للعاجز عن فعل المندوبات إذا كان عجزه عن ذلك عن غير إختيار. قال الحافظ: وأشار بالصلاة إلى ما وقع آخر حديث أبي ذر عند مسلم ويجزى عن ذلك كله ركعتا الضحى، وهو يؤيد ما قدمناه إن هذه الصدقة لا يكمل منها ما يختل من الفرض، لأن الزكاة لا تكمل الصلاة ولا العكس. فدل على افتراق الصدقتين، واستشكل الحديث مع ما تقدم ذكر الأمر بالمعروف وهو من فروض الكفاية فكيف تجزيء عنه صلاة الضحى وهي من التطوعات، والذي يظهر في الجواب أن المراد إن صلاة الضحى تقوم مقام الثلثمائة وستين

(12/123)


حسنة التي يستحب للمرأ أن يسعى في تحصيلها كل يوم ليعتق مفاصله التي هي بعددها، لا إن المراد إن صلاة الضحى تغنى عن الأمر بالمعروف وما ذكر معه وإنما كان كذلك لأن الصلاة عمل بجميع الجسد فتتحرك المفاصل كلها فيها بالعبادة، وكأن صلاة الضحى خصت بالذكر لكونها أول تطوعات النهار بعد الفرض وراتبته. وقد أشار في حديث أبي ذر، وكذا في حديثي أبي هريرة وعائشة الآتيين إلى أن صدقة السلامي نهارية (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي الأدب، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص395-411) والنسائي في الزكاة والبيهقي فيه (ج4:ص188).
1912- قوله: (كل سلامي) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم مقصورا، أي أنملة من أنامل
من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الإثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل

(12/124)


الأصابع أو مفصل من المفاصل الثلاثمائة وستين التي في كل أحد. وقيل: هي ما بين كل مفصلين من أصابع الإنسان. وقيل: كل عظم مجوف من صغارا العظام مثل عظام الأصابع وقيل: كل عظم في البدن واحدة وجمعه سواء. وقيل: جمعه سلاميات وقوله كل سلامي مبتدأ مضاف وقوله (من الناس) أي من كل واحد منهم صفة لسلامي (عليه صدقة) جملة من المبتدأ والخبر خبر للمبتدأ الأول: وقوله عليه مشكل. قال ابن مالك: المعهود في كل إذا أضيف إلى نكرة من خبر وتمييز وغيرهما أن يجيء على وفق المضاف إليه، نحو قوله تعالى ?كل نفس ذائقة الموت? [الأنبياء:35] وهنا جاء على وفق كل سلامي عليه صدقة، وكان القياس أن يقول عليها صدقة. لأن السلامي مؤنثة لكن دل مجيئها في هذا الحديث على الجواز، أي جواز مطابقة المضاف، ويحتمل أن يكون ضمن السلامي معنى العظم أو المفصل فأعاد الضمير عليه كذلك. والمعنى على كل مسلم مكلف بعدد كل مفصل من عظامه صدقة لله تعالى على سبيل الشكر له، بأن جعل في عظامه مفاصل يتمكن بها من قبض أصابعه ويديه ورجليه وغير ذلك، وبسطها فإن هذه نعمة عظيمة. فإنه لو جعل أعضاءه بغير مفصل يكون كلوح أو خشب لا يقدر على القبض والبسط والقيام والقعود والاضطجاع. وأوجب الصدقة على السلامي مجازا، وفي الحقيقة على صاحبها قال الطيبي: ولعل تخصيص السلامي وهي المفاصل من الأصابع بالذكر لما في أعمالها من دقائق الصنائع التي تتحير الأوهام فيها، ولذلك قال تعالى ?بلى قادرين على أن نسوي بنانه?[القيامة:4] أي نجعل أصابع يديه ورجليه مستوية شيئا واحدا، كخف البعير وحافر الحمار، فلا يمكن أن يعمل بها شيئا مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل من فنون الأعمال دقتها وجلها، ولهذا السر غلب الصغار من العظام على الكبار-انتهى. (كل يوم) بالنصب على الظرفية أي في كل يوم (تطلع فيه الشمس) على صاحب السلامي وهي صفة تخصص اليوم عن مطلق الوقت بمعنى النهار. وقال السندي: وصف اليوم

(12/125)


بذلك لإفادة التنصيص كما قالوا في قوله تعالى ?وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه? [الأنعام:38] والحاصل إن الشيء إذا وصف بوصف يعم جميع أفراده يصير نصا في التعميم. قال المنادي: وليس المراد هنا بالصدقة المالية فقط، بل كنى بها عن نوافل الطاعة كما يفيده قوله (يعدل) فأعله الشخص المسلم المكلف وهو في تأويل المصدر مبتدأ خبره صدقة، تقديره أن يعدل مثل قوله تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وقد قال تعالى ?ومن آيته يريكم البرق?[الروم:24] (بين الإثنين) متحاكمين أو متخاصمين أو متهاجرين. وقيل: يعدل بين الإثنين أي يصلح بينهما بالعدل (صدقة) أي أجره كأجر الصدقة (ويعين) المسلم المكلف (الرجل) أي يساعده (على دابته) أي دابة الرجل أو المعين (فيحمل)
عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة ويميط الأذى عن الطريق صدقة)). متفق عليه.
1913- (11) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل. فمن كبرالله، وحمدالله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفرالله، وعزل حجرا عن طريق الناس، أو شوكة، أو عظما، أو أمر بمعروف، أو نهى عن المنكر، عدد تلك الستين والثلاثمائة، فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار)). رواه مسلم.

(12/126)


بفتح التحتية وسكون المهملة وكسر الميم (عليها) المتاع أو نفس الرجل بأن يعينه في الركوب أو يحمله كما هو (أو يرفع عليها متاعه) شك من الراوي أو تنويع (والكلمة الطيبة) أي مطلقا أو مع الناس (وكل خطوة) بفتح الخاء المرة الواحدة وبالضم ما بين القدمين (يخطوها إلى الصلاة) ذاهبا وراجعا (ويميط) بضم أوله أي يزيل وينحى (الأذى) أي ما يؤذى المارة من نحو شوك وعظم وحجر (متفق عليه) رواه البخاري بهذا اللفظ في باب من أخذ بالركاب من الجهاد، وأخرج في باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر بنحوه، وفي الصلح مختصرا و أخرجه مسلم في الزكاة أيضا أحمد والبيهقي في الزكاة.

(12/127)


1913- قوله: (من بنى آدم) بيان لإفادة التعميم (على ستين وثلاثمائة مفصل) بالإضافة وهو بفتح الميم وكسر الصاد، ملتقى العظمين في البدن (فمن كبرالله) أي عظمه أو قال الله أكبر قاله القاري: (وهلل الله) أي وحده أو قال لا إله إلا الله (وسبح الله) أي نزهه عما لا يليق به من الصفات، أو قال سبحان الله (وعزل) أي بعد ونحى (أو شوكة أو عظما) أو للتنويع (أو أمر) وفي رواية، وأمر بالواو مكان أو (عدد تلك الستين) أي بعددها نصب بنزع الخافض متعلق بالأذكار وما بعدها أو بفعل مقدر، يعني من فعل الخيرات المذكورة ونحوها عدد تلك الستين. (الثلاث مائة) بإضافة ثلاث إلى مائة مع تعريف الأول وتنكير الثاني، والمعروف لأهل العربية عكسه، وهو تنكير الأول وتعريف الثاني. وأجيب بأن الألف واللام زائدتان، فلا اعتداد بدخولهما قال الطيبي: ولو ذهب إلى أن التعريف بعد الإضافة كما في الخمسة عشر بعد التركيب لكان وجها حسنا. وقيل: مائة منصوب على التمييز على قول بعض أهل العربية. (فإنه يمشي) بفتح الياء وبالشين المعجمة من المشى، وفي رواية يمسى بضمها وبالسين المهملة من الإمساء وكلاهما صحيح قاله النووي: (يؤمئذ) أي وقت إذ فعل ذلك (وقد زحزح نفسه) أي بعدها ونحاها ( رواه مسلم) في الزكاة، وأخرجه أيضا البيهقي (ج4:ص188).
1914- (12) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيه وزر؟

(12/128)


1914- قوله: (وكل تكبيرة) بالرفع على المبتدأ والخبر (صدقة) قال النووي: رويناه بوجهين رفع صدقة ونصبه، فالرفع على الاستيناف، والنصب عطف على اسم إن وعلى النصب، يكون كل تكبيرة مجرورا فيكون من العطف على عاملين مختلفين، فإن الواو قامت مقام الباء وكذا قوله (وكل تحميده صدقة وكل تهليلة صدقة) الخ. قال القاضي: يحتمل تسميتها صدقة إن لها أجرا كما للصدقة أجر، وإن هذه الطاعات تماثل الصدقات في الأجود وسماها صدقة على طريق المقابلة وتجنيس الكلام. وقيل: معناه إنها صدقة على نفسه (وأمر بالمعروف صدقة) أسقط المضاف هنا إعتمادا على ما سبق ذكره الطيبي. وقال النووي: فيه إشارة إلى ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر منه في التسبيح والتحميد والتهليل، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية. وقد يتعين ولا يتصور وقوعه نفلا، والتسبيح والتحميد والتهليل نوافل، ومعلوم إن أجر الفرض أكثر من أجر النفل لقوله عزوجل وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه أخرجه البخاري (وفي بضع أحدكم صدقة) بضم الموحدة يطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه، وكلاهما تصح إرادته هنا قاله النووي: وإدخال في إشارة إلى أن ذاته ليست صدقة. بل ما ضمنه من التحصين، وأداء حق الزوجة وطلب الولد الصالح والأمور المذكورة ذواتها صدقة. لأنها إذكار وقربات كذا في اللمعات، وقال الطيبي: الباء في قوله: "إن بكل تسبيحة صدقة" بمعنى "في " وإنما أعيدت في قوله وفي بضع أحدكم لأن هذا النوع من الصدقة أغرب. قال النووي: في هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة ومنعهما جميعا من النظر إلى حرام، أو الفكر فيه أوالهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة (أيأتي أحدنا شهوته) أي

(12/129)


أيقضيها ويفعلها (ويكون له فيها أجر) والأجر غير معروف في المباح (أرأيتم) أي أخبروني (لو وضعها) أي شهوة بضعه (أكان عليه فيه) أي في الوضع (وزر) قال الطيبي: أقحم همزة الإستفهام على سبيل التقرير بين "لو" وجوابها تأكيدا للإستخبار في أرأيتم. (فكذلك) أي فعلى
فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)). رواه مسلم.
1915- (13) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم الصدقة اللحقة
القياس (إذا وضعها في الحلال) وعدل عن الحرام مع أن النفس تميل إليه وتستلذ به أكثر من الحلال. فإن لكل جديد لذة، والنفس بالطبع إليها أميل، والشيطان إلى مساعدتها أقبل، والمؤنة فيها عادة أقل (كان له أجر) وفي بعض النسخ أجرا بالنصب. قال النووي: ضبطنا أجرا بالنصب والرفع وهما ظاهران. قال القاري فالأجر ليس في نفس قضاء الشهوة بل في وضعها موضعها كالمبادرة إلى الأفطار في العيد وكأكل السحور وغيرهما من الشهوات النفسية الموافقة للأمور الشرعية. ولذا قيل الهوى إذا صادف الهدى فهو كالزبد مع العسل ويشير إليه قوله تعالى ?ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله?[القصص:50] انتهى. (رواه مسلم) في الزكاة في حديث أوله أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: للنبي صلى الله عليه وسلم ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به إن بكل تسبيحة صدقة الخ. وأخرجه في كتاب الصلاة بلفظ: يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة، وبجزيء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى. وقد تقدم في باب صلاة الضحى، وحديث الباب أخرجه أحمد والبيهقي أيضا.

(12/130)


1915- قوله: (نعم الصدقة) بالرفع فاعل نعم وهذا لفظ البخاري في الأشربة، ووقع في الهبة بلفظ: نعم المنيحة بدل نعم الصدقة. قال: أهل اللغة. المنحة بكسر الميم، المنحية بفتحها مع زيادة الياء على وزن عظيمة هي العطية، وتكون في الحيوان وفي الثمار وهي قد تكون عطية للرقبة بمنافعها فيملكها المعطي له وهي الهبة وقد تكون عطية اللبن أو التمرة مدة، وتكون الرقبة باقية على ملك صاحبها ويردها إذا انقضى اللبن أو التمر الماذون فيه. قال أبوعبيدة المنحية. عند العرب على وجهين أحدهما أن يعطي الرجل صاحبه صلة فتكون له، والآخر أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بحلبها ووبرها زمنا، ثم يردها. والمراد بها في هذا الحديث عارية ذوات الألبان ليؤخذ لبنها ثم ترد هي لصاحبها قال ابن التين: من روى نعم الصدقة روى بالمعنى لأن المنحة العطية. والصدقة أيضا عطية. قال الحافظ لا تلازم بينهما فكل صدقة عطية وليس كل عطية صدقة، وإطلاق الصدقة على المنيحة مجاز، ولو كانت المنحة صدقة لما حلت للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي من جنس الهبة والهدية -انتهى. (اللقحة) بكسر اللام وسكون القاف بمعنى الملقوحة وهي الناقة ذات اللبن القريبة العهد بالولادة. قال أهل اللغة اللقحة بكسر اللام وبفتحها، واللقوح الناقة الحلوب الغزيرة اللبن. قال العيني: اللقحة مرفوع لأنه صفة صدقة، وقال أبوالبقاء: هي المخصوصة
الصفى منحة، والشأة الصفي منحة تغدو بإناء وتروح بآخر)). متفق عليه.
1916- (14) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يغرس غرسا،

(12/131)


بالمدح (الصفي) بفتح الصاد وكسر الفاء وتشديد التحتية أي الكريمة الغزيرة اللبن بمعنى مفعول أي مصطفاة مختارة وهي صفة ثانية للصدقة أو صفة للقحة واستعملت بغير هاء على الأشهر في الرواية، لأن الفعيل إذا كان بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. وقال العيني: روى أيضا الصفية بناء التأنيث (منحة) منصوب على التميز. قال ابن مالك: في التوضيح فيه وقوع التميز بعد فاعل نعم ظاهرا، وقد منعه سيبوية إلا مع إضمار الفاعل نحو بئس للظالمين بدلا وجوزه المبرد وهو الصحيح -انتهى. وقال في المصابيح: يحتمل أن يقال إن فاعل نعم في الحديث مضمر، والمنيحة الموصوفة بما ذكر هي المخصوصة بالمدح ومنحة تمييز تأخر عن المخصوص فلا شاهد فيه على ما قال، ولا يرد على سيبوية حينئذ. قيل: هذا صحيح لكن يؤيد قول المبرد قول الشاعر:
تزود مثل أبيك زادا فنعم الزاد زاد أبيك زادا
فذلك جائز وإن كان قليلا. والشاة الصفى صفة وموصوف عطف على ما قبله أي ونعم الصدقة الشاة الصفى (تغدو بإناء) أي من اللبن (وتروح بآخر) بالمد أي يحلب من لبنها ملء إناء وقت الغدوة وملء إناء آخر وقت الرواح وهو المساء، والجملة صفة مادحة لمنحة أو استئناف جواب عمن سأل عن سبب كونها ممدوحة. وفيه إشارة إلى أن المستعير لا يستأصل لبنها قاله الحافظ. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب شرب اللبن من الأشربة، ورواه مسلم في الزكاة بلفظ: إلا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغد ويعس وتروح بعس، إن أجرها لعظيم، وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج4 ص184).

(12/132)


1916- قوله: (ما من مسلم) أخرج الكافر لأنه رتب على ذلك، كون ما أكل منه يكون له صدقة، والمراد بالصدقة الثواب في الآخرة، وذلك يختص بالمسلم دون الكافر، لأن القرب إنما تصح من المسلم فإن تصدق الكافر أو فعل شيئا من وجوه البر لم يكن له أجر في الآخرة، نعم ما أكل من زرع الكافر يثاب عليه في الدنيا كما ثبت دليله. وأما من قال يخفف عنه بذلك من عذاب الآخرة فيحتاج إلى دليل. ونقل عياض الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، لكن بعضهم أشد عذابا من بعضهم بحسب جرائمهم. وأما حديث أبي أيوب عند أحمد مرفوعا ما من رجل يغرس، وحديث ما من عبد فظاهرهما يتناول المسلم والكافر لكن يحمل المطلق على المقيد، والمراد بالمسلم الجنس فتدخل المرأة المسلمة (يغرس) بكسر الراء (غرسا) يقال غرس الشجر يغرسه غرسا و غراسة وغرسه أي أثبته في الأرض والغرس، بفتح المعجمة وسكون الراء
أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة، إلا كانت له صدقة)). متفق عليه.

(12/133)


مصدر وبمعنى المغروس (أو يزرع) أو للتنويع لأن الزرع غير الغرس (زرعا) نصبه، كذا نصب غرسا على المصدرية، أو على المفعولية (فيأكل منه) أي مما ذكر من المغروس أو المزروع (إنسان) ولو بالتعدي (أو طير أو بهيمة) أي ولو بإختياره (إلا كانت له صدقة) قال الطيبي: الرواية برفع الصدقة على أن كانت تامة - انتهى. قال القاري: وفي نسخة بالنصب على أن الضمير راجع إلى المأكول وأنث لتأنيث الخبر- انتهى. ولفظ الصحيحين: إلا كان له به صدقة. قال القسطلاني: بالرفع اسم كان وفي الحديث فضل الغرس والزرع والحض على عمارة الأرض ويستنبط منه اتخاذ الضيعة والقيام عليها، ويحمل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين، ويحمل حديث الباب على اتخاذها للكفاف أو نفع المسلمين بها، وتحصيل ثوابها، وفي رواية لمسلم إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة. ومقتضاه إن أجر ذلك يستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولا منه، ولو مات زارعه أو غارسه ولو انتقل ملكه إلى غيره. وظاهر الحديث إن الأجر يحصل لمتعاطي الزرع أو الغرس، ولو كان ملكه لغيره. لأنه أضاف إلى أم مبشر كما في رواية مسلم ثم سألها عمن غرسه. قال الطيبي: نكر مسلما وأوقعه في سياق النفي، وزاد من الاستغراقية وعم الحيوان ليدل على سبيل الكناية على أن أي مسلم كان حرا أو عبدا، مطيعا، أو عاصيا يعمل أي عمل من المباح ينتفع بما عمله أي حيوان كان يرجع نفعه إليه ويثاب عليه وفيه جواز نسبة الزرع إلى الآدمي وما ورد في المنع منه حديث غير قوى أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة مرفوعا، لا يقل أحدكم زرعت، ولكن ليقل حرثت ألم تسمع لقول الله تعالى: ?أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون? [الواقعة: 64] ورجاله ثقات إلا أن مسلم بن أبي مسلم الجرمي. قال فيه ابن حبان: ربما أخطأ وروى عبد بن حميد من طريق أبي عبدالرحمن السلمي بمثله من قوله غير مرفوع كذا في الفتح واستدل به على أن الزراعة أفضل المكاسب وقال

(12/134)


به كثيرون وقيل: الكسب باليد. وقيل: التجارة. وقد يقال كسب اليد أفضل من حيث الحل والزرع من حيث عموم الانتفاع، وحينئذ فينبغي أن يختلف ذلك باختلاف الحال فحيث أحتيج إلى الأقوات أكثر تكون الزراعة أفضل للتوسعة على الناس، وحيث احتيج إلى المتجر لانقطاع الطرق تكون التجارة أفضل، وحيث أحتيج إلى الصنائع تكون أفضل قاله القسطلاني (متفق عليه) أخرجه البخاري في المزارعة وفي الأدب، ومسلم في المزارعة. وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي في الأحكام. وفي الباب أحاديث أخرة عن جماعة من الصحابة ذكرها المنذري، في باب الترغيب في الزرع وغرس الأشجار للثمرة، والهيثمي في أواخر الزكاة، وفي أوائل البيوع.
1917-(15) وفي رواية لمسلم عن جابر، ((وما سرق منه له صدقة)).
1918-(16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي، يلهث كاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك، قيل: إن لنا في البهائم أجرا، قال: في كل ذات كبد رطبة أجر)).
1917- قوله: (وفي رواية لمسلم عن جابر وما سرق منه له صدقة) أي يحصل له مثل ثواب تصدق المسروق، والحاصل أنه بأي سبب يؤكل مال المسلم له الثواب، وفيه تسلية له بالصبر على نقصان المال.

(12/135)


1918- قوله: (غفر) بضم أوله مبنيا للمفعول أي غفر الله (لامرأة) لم تسم وفي رواية للبخاري ومسلم إن الذي سقى الكلب رجل، وهذا يقتضي تعدد القصة (مومسة) أي مومسات بني إسرائيل، وهي بميم مضمومة فواو ساكنة، فميم مكسورة فسين مهملة، أي زانية من الومس، وهو الاحتكاك. والمومسة المرأة الفاجرة المجاهرة بالفجور (مرت بكلب) أي على كلب كائن (على رأس ركي) بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتية أي بئر. وقيل: بئر لم تطو. وقال الحافظ: الركي البئر مطوية أو غير مطوية، وغير المطوية يقال لها جب وقليب ولا يقال لها بئر حتى تطوى. وقيل: الركي البئر قبل أن تطوي فإذا طويت فهي الطوى- انتهى. (يلهث) بفتح الهاء وبالمثلثة أي يخرج لسانه عطشا. يقال: لهث بفتح الهاء وكسرها يلهث بفتح الهاء لا غير لهثا بإسكانها إذا أخرج لسانه من شدة العطش والحر والتعب وكذلك الطائر ولهث الرجل إذا أعيا. ويقال: إذا بحث بيده ورجليه. وقيل: اللهث إرتفاع النفس من الأعياء (كاد يقتله العطش) أي قارب أن يهلكه (فنزعت خفها) أي خلعته من رجلها (فأوثقته) أي شدته (بخمارها) بكسر الخاء المعجمة أي بنصفيها بدلا من الحبل (فنزعت) بهما (له) أي للكلب (من الماء) أي من ماء البئر يعني استقت للكلب بخفها من الركية (فغفر لها بذلك) أي بسبب سقيها للكلب وهذا تأكيد للخبر وفيه إن الله تعالى قد يتجاوز عن الكبيرة بالفعل اليسير من غير توبة تفضلا منه (قيل إن) أي أأن (لنا في البهائم) أي في سقيها أو الإحسان إليها (أجرا) أتى بالاستفهام المؤكد للتعجب (في كل ذات كبد) بفتح الكاف وكسر الموحدة، ويجوز سكون الكاف وسكون الموحدة يذكر ويؤنث (رطبة) أي حية. والمراد رطوبة الحياة، أو لأن الرطوبة لازمة للحياة فهو كناية. وقيل: هو من باب وصف الشيء بما يؤل إليه أي كبد يرطبها السقي ويصيرها رطبة. والمعنى في كل كبد حري لمن سقاها حتى تصير رطبة
متفق عليه.

(12/136)


1919، 1920-(17، 18) وعن ابن عمر، وأبي هريرة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عذبت امرأة في هرة أمسكتها حتى ماتت من الجوع، فلم تكن تطعمها ولا ترسلها فتأكل من خشاش الأرض)).
(أجر) بالرفع مبتدأ قدم خبره. والتقدير أجر حاصل أو كائن أو ثابت في أرواء كل ذات كبد حية من جميع الحيوانات. وقيل: يحتمل أن تكون في سببية كقولك في النفس الدية. قال الداودي: المعنى في كل كبد حي أجر وهو عام في جميع الحيوانات. وقال أبوعبدالملك: قوله: " في كل كبد" مخصوص ببعض البهائم مما لا ضرر فيه، لأن المأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يقوى ليزداد ضرره. وكذا قال النووي: إن عمومه مخصوص بالحيوان المحترم وهو ما لم يؤمر بقتله، فيحصل الثواب بسقيه ويلتحق به إطعامه وغير ذلك من وجوه الإحسان إليه. وقال ابن التين: لا يمتنع إجراءه على عمومه يعني فيسقي ثم يقتل، لأنا أمرنا بأن نحسن القتلة ونهيا عن المثلة وفي الحديث الحث على الإحسان إلى الناس لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي الكلب فسقى المسلم، أعظم أجرا وأستدل به على جواز صدقة التطوع للمشركين، وينبغي أن يكون محله ما إذا لم يوجد هناك مسلم، فالمسلم أحق وكذا إذا دار الأمر بين البهيمة والآدمي المحترم واستويا في الحاجة، فالآدمي أحق كذا في الفتح (متفق عليه) واللفظ للبخاري في آخر بدأ الخلق قبل كتاب الأنبياء إلا أن قوله قيل إن لنا في البهائم الخ. ليس في هذه الرواية بل هو في قصة الرجل الذي سقى الكلب. والحديث أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل بلفظ: بينهما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به، وأخرجه مسلم في كتاب قتل الحيات.

(12/137)


1919- 1920- قوله: (عذبت) بضم العين وكسر المعجمة مبنيا للمفعول (إمرأة) قال الحافظ: لم أقف على اسمها، ووقع في رواية أنها حميرية، وفي أخرى أنها من بني إسرائيل، ولا تضاد بينهما لأن طائفة من حمير كانوا قد دخلوا في اليهودية فيكون نسبتها إلى بني إسرائيل. لأنهم أهل دينها وإلى حمير، لأنهم قبيلتها يعني نسبت إلى دينها تارة وإلى قبيلتها أخرى (في هرة) أي في شأنها وبسببها ولأجلها ففي تعليلية سببية، والهرة أنثى السنور والهر الذكر (أمسكتها) أي ربطتها المرأة وحبستها ومنعتها من الصيد (حتى ماتت) أي الهرة (من الجوع) فيه دليل على تحريم قبل الهرة وتحريم حبسها بغير طعام وشراب (فلم تكن تطعمها) من الإطعام (فتأكل) بالنصب على جواب النفي (من خشاش الأرض) بفتح الخاء المعجمة ويجوز ضمها وكسرها وبمعجمتين بينهما ألف الأولى
متفق عليه.
1921-(19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مر رجل بغصن شجرة

(12/138)


خفيفة. والمراد حشرات الأرض وهو أمها من فارة ونحوها قال الطيبي: وذكر الأرض هنا كذكرها في قوله تعالى: ?وما من دابة في الأرض?[الأنعام-38] للاحاطة والشمول ثم ظاهر هذا الحديث إن المرأة عذبت بسبب قتل هذه الهرة بالحبس وأختلف في أنها مؤمنة كانت أو كافرة. قال القرطبي وعياض: يحتمل أن تكون المرأة كافرة فعذبت بكفرها وزيدت عذابا بسبب ظلمها على الهرة، واستحقت ذلك لكونها ليست مؤمنة تغفر صغائرها باجتناب الكبائر، ويحتمل أن تكون مسلمة وعذبت بسبب الهرة. وقال النووي: الصواب إنها كانت مسلمة وإنها دخلت النار بسببها كما هو ظاهر الحديث، وهذه المعصية ليست صغيرة، بل صارت بإصرارها كبيرة. وليس في الحديث أن تخلد في النار- انتهى. وهذا يدل على أنهم لم يطلعوا على نقل في ذلك. قال الحافظ: ويؤيد كونها كافرة ما أخرجه البيهقي في البعث والنشور وأبونعيم في تاريخ أصبهان من حديث عائشة. وفيه قصة لها مع أبي هريرة وهو بتمامة عند أحمد- انتهى. وقال الديرمي: كانت هذه المرأة كافرة كما رواه البزار في مسنده، وأبونعيم في تاريخ أصبهان، والبيهقي في البعث والنشور عن عائشة، فاستحقت التعذيب بكفرها وظلمها. وقال القاري: ليس في الحديث دلالة على إصرار هذه المرأة، ويجوز التعذيب على الصغيرة كما في العقائد سواء اجتنب مرتكبها الكبيرة أم لا، لدخولها تحت قوله تعالى: ?ويفغر ما دون ذلك لمن يشاء?[النساء- 48] خلافا لبعض المعتزلة فيما إذا اجتنب الكبائر لظاهر قوله تعالى: ?إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم? [النساء-31] وعنه أجوبة عند أهل السنة ليس هذا محلها- انتهى. (متفق عليه) رواه البخاري عن ابن عمر بمعناه في باب فضل السقي من كتاب الشرب، وفي أواخر بدء الخلق، وفي ذكر بني إسرائيل. ورواه من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة في بدء الخلق نحوه، ولم يذكر لفظه بل أحال على حديث ابن عمر قبله بمعناه. وأما مسلم فرواه في كتاب قتل الحياة

(12/139)


وغيرها، وفي الأدب عنهما من طرق بألفاظ مختلفة متقاربة، ليس اللفظ المذكور هنا واحدا منها كما لا يخفى على من نظر في طرق هذا الحديث، وألفاظها، فالمذكور هنا هو معنى ما رواه الشيخان، وقد أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة من ثمانية أوجه، منها في (ج2 ص261 و269 و286) ونسبه الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند لابن ماجه أيضا، وقال: حديث عبدالله بن عمر في هذا ليس في المسند فيما رأيت مع أنه في الصحيحين.
1921- قوله: (مر رجل بغصن شجرة) وفي رواية البخاري، غصن شوك والغصن بضم المعجمة مفرد
على ظهر طريق، فقال: لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فأدخلهم الجنة)). متفق عليه.
1922-(20) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس)). رواه مسلم.
1923-(21) وعن أبي برزة، قال: يا نبي الله! علمن شيئا أنتفع به. قال: ((أعزل الأذى عن طريق المسلمين)).

(12/140)


الأغصان، والغصون وهي أطراف الشجرة ما دامت فيها ثابتة قاله ابن الأثير: (على ظهر طريق) أي ظاهره لا في جنبيه (لأنحين) بتشديد الحاء أي لأبعدن (لا يؤذيهم) بالرفع على أنه استئناف فيه معنى التعليل أي لكيلا يؤذيهم (فأدخل) ماض مجهول (الجنة) بالنصب على أنه مفعول ثان أي فنحاه فأدخل الجنة بهذا الخير. وقال الطيبي: يمكن إن إدخاله الجنة بمجرد النية الصالحة، وإن لم ينحه وأن يكون قذ نحاه- انتهى. وفي الحديث فضل إماطة ما يؤذي الناس عن طريقهم. وفيه إن قليل الخير يحصل به كثير الأجر. وفيه التنبيه على فضيلة كل ما نفع المسلمين وأزال عنهم ضررا (متفق عليه) واللفظ لمسلم وقد أخرجه في الأدب وأخرجه في الأدب وأخرجه البخاري في المظالم في باب من أخذ الغصن وما يؤذي الناس في الطريق فرمى به بلفظ بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له. قال ابن المنير: وإنما ترجم به لئلا يتخيل إن الرمي بالغصن وغيره ما يؤذي تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيمتنع، فأراد أن يبين إن ذلك لا يمتنع لما فيه من الندب إليه. ثم ذكر حديث أبي برزة الآتي، والحديث أخرجه أيضا أحمد في ستة مواضع، والترمذي في البر والصلة، وأبوداود وابن ماجه في الأدب، ورواه مالك بمعناه ضمن حديث مطول.
1922- قوله: (لقد رأيت رجلا يتقلب) أي يتردد ويتنعم في الجنة (في شجرة) أي لأجلها وبسببها (قطعها من ظهر الطريق) قال النووي: أي يتنعم في الجنة بملاذها بسبب قطعة الشجرة من الطريق وإبعادها عنه (كانت تؤذي الناس) أي كانوا يتأذون بها. قال القاري: وفيه مبالغة على قتل المؤذي وإزالته بأي وجه يكون (رواه مسلم) في الأدب.

(12/141)


1923- قوله: (علمني شيئا) وفي رواية ابن ماجه دلني على عمل (انتفع به) قال القاري: روى مجزوما جوابا للأمر، ومرفوعا صفة لشيء أي انتفع بعمله (إعزل) بكسر الهمزة والزاي المعجمة بينهما عين مهملة ساكنة أي أبعد ونح (الأذى عن طريق المسلمين) أي إذا رأيت في ممرهم ما يؤذيهم كشوك وحجر فنحه عنهم، فإن
رواه مسلم. وسنذكر حديث عدي بن حاتم: اتقوا النار في باب علامات النبوة إن شاء الله تعالى.
?الفصل الثاني?
1924-(22) عن عبدالله بن السلام، قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، جئت، فلما تبينت وجهه،

(12/142)


فذلك من شعب الإيمان. قيل أبوبرزة من كبار الصحابة فنبه بأدنى شعب الإيمان على أعلاها أي لا تترك بابا من الخير. وروى مسلم هذا الحديث من وجه آخر. قال أبوبرزة: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! إني لا أدري لعسى أن تمضي وأبقى بعدك فزودني شيئا ينفعني الله به. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إفعل كذا إفعل كذا أبوبكر بن شعيب (راوي الحديث) نسيه وأمر الأذى عن الطريق (رواه مسلم) في الأدب، كذا ابن ماجه ونسبه في التنقيح إلى البخاري في الأدب المفرد وابن سعد والطبراني في الكبير. (وسنذكر حديث عدي بن حاتم) هو عدي بن حاتم بن عبدالله بن سعد بن الحشرج الطائي أبوطريف ولد الجواد المشهور صحابي شهير، أسلم في سنة تسع. وقيل: سنة عشر. وكان نصرانيا قبل ذلك. وثبت على إسلامه في الردة وأحضر صدقة قومه إلى أبي بكر، وحضر فتوح العراق وشهد مع علي الجمل وفقعت عينه يومئذ ثم شهد أيضا مع علي صفين والنهروان، ثم سكن الكوفة ومات بها سنة (68) وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: مات وهو ابن مائة وثمانين سنة، وكان سيدا شريفا في قومه خطيبا، حاضر الجواب فاضلا كريما. روى عنه أنه قال ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء، وما دخل وقت صلاة قط إلا وأنا أشتاق إليها. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر وروى عنه جماعة من البصريين والكوفيين (إتقو النار) تمامه ولو بشق تمرة بكسر المعجمة أي بنصفها أو جانبها. والمعنى إدفعوها عن أنفسكم بالخيرات. ولو كان الإتقاء بالتصدق ببعض تمرة يعني لا تستقلوا شيئا من الصدقة فإن لم تجدوا فبكلمة أي يطيب بها قلب المسلم، أو بكلمة من كلمات الأذكار فإنها بمنزلة صدقة الفقير (في باب علامات النبوة) أي ضمن حديث طويل لعدي مذكور في الباب، وكان صاحب المصابيح أتى ببعض الحديث أو بحديث مستقل هنا مناسبة لهذا الباب، فعده المؤلف من باب التكرار فأسقطه وأكتفى بذكره في ذلك

(12/143)


الباب والله أعلم بالصواب.
1924- قوله: (لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة جئت) في الناس لأنظر إليه (فلما تبينت وجهه) أي عرفته. قال في الصراح: استبنته أنا عرفته وتبينته أنا كذلك - انتهى. وقيل أي تأملته وتفرست بأمارات لائحة في سيماه وهذا
عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما قال: ((يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)). رواه الترمذي وابن ماجه، والدارمي.
1925-(23) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أعبدوا الرحمن، وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام، تدخلوا الجنة بسلام)). رواه الترمذي،

(12/144)


لفظ ابن ماجه في الأطعمة، وللدارمي فلما رأيت وجهه، ولفظ الترمذي في صلاة الليل، فلما استبنت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب) بالإضافة وينون أي بوجه ذي كذب لما لاح عليه من سواطع أنوار النبوة (فكان أول ما قال) بالرفع وينصب قاله القاري. ولفظ الترمذي وابن ماجه "فكان أول شيء تكلم به أن قال" قال السندي: أول شيء بالنصب على أنه خبر كان واسمها أن قال الخ وللدارمي، فكان أول ما سمعته يقول (يا أيها الناس) خطاب العام بكلمات جامعة للمعاملة مع الخلق والحق (أفشوا) من الإفشاء (السلام) أي أكثروه وبينوه فيما بينكم وقيل أي أظهروه وعموا به الناس ولا تخصوا المعارف (وأطعموا) من الإطعام (الطعام) أراد به قدرا زائدا على الواجب في الزكاة سواء فيه الصدقة والهدية والضيافة. (وصلوا) بكسر المهملة من وصل يصل وصلا وصلة (الأرحام) جمع رحم بفتح أوله وكسر ثانية، وبكسر أوله وسكون ثانية. وهي القرابة يقال: وصل رحمه أي أحسنه إلى الأقربين إليه من ذوي النسب، وعطف عليهم ورفق بهم (وصلوا) بتشديد اللام (بالليل والناس نيام) بكسر النون جمع نائم أو مصدر بمعنى اسم فاعل أي لأنه وقت الغفلة فلأرباب الحضور مزيد المثوبة أو لبعده عن الرياء والسمعة. (تدخلوا الجنة بسلام) أي سالمين من المكروه أو التعب والمشقة أو يسلم عليكم الملائكة (رواه الترمذي) في الزهد وصححه (وابن ماجه) في صلاة الليل وفي الأطعمة واللفظ له (والدارمي) في صلاة الليل، وفي الاستئذان. ونسبه المنذري في الترغيب للترمذي، والحاكم، ونقله عن الترمذي أنه قال: حديث حسن صحيح، وعن الحاكم أنه قال: صحيح على شرط الشيخين. وفي الباب عن أبي هريرة عند الحاكم من وجهين. وقال في كل منهما حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي في الأول بأن عبيدالله ابن أبي حميد قال أحمد: ترك حديثه. وقال المنذري: عبيدالله بن أبي حميد متروك ووافقه الذهبي في الثاني.

(12/145)


1925- قوله: (أعبدوا الرحمن) أي أفردوه بالعبادة (تدخلوا الجنة بسلام) أي فإنكم إذا فعلتم ذلك ومتم عليه دخلتم الجنة آمنين، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون (رواه الترمذي) في الأطعمة وصححه
وابن ماجه.
1926-(24) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء)). رواه الترمذي.
1927-(25) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل معروف صدقة،
(وابن ماجه) في الأدب، وأخرجه ابن حبان في صحيحه بلفظ: أعبدوا الرحمن وأفشو السلام، وأطعموا الطعام تدخلوا الجنان.
1926- قوله: (إن الصدقة لتطفئ غضب الرب) أي سخطه على من عصاه (وتدفع ميتة السوء) بكسر الميم وسكون الياء، أصلها موته مصدر للنوع، كالجلسة أبدلت واوه ياء لسكونها وكسرة ما قبلها وهي الحالة التي يكون عليها الإنسان في الموت. والسوء بفتح السين ويضم. والمراد بميتة السوء الحالة السيئة التي يكون عليها عند الموت، مما يؤدي إلى كفران النعمة من الآلام والأوجاع المفضية إلى الفزع والجزع والغفلة عن ذكر الله. ومنها موت الفجاءة وسائر ما يشغله عن الله مما يؤدي إلى سوء الخاتمة. وقيل: إن المراد إنها تقية من الفتانات عند الموت، أو أنه يوفق للتوبة فلا يموت، وهو عاص مصر على ذنب. أو أنه يموت ميتة سالمة من نحو هدم وغرق وحرق ولا مانع من إرادة الجميع. وقال العراقي: الظاهر إن المراد بها ما استعاذ منه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهدم والتردي والغرق والحرق، وأن يتخبطه الشيطان عند الموت، وأن يقتل في سبيل الله مدبرا. وقال بعضهم: هي موت الفجاءة. وقيل: ميتة الشهرة كالمصلوب- انتهى. (رواه الترمذي) في الزكاة. وقال: هذا حديث حسن غريب، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وروى ابن المبارك في كتاب البر شطره الأخير، ولفظه إن الله ليدرأ بالصدقة سبعين بابا من ميتة السوء كذا في الترغيب للمنذري.

(12/146)


1927- قوله: (كل معروف صدقة) قد سبق بيان معناه. وقال التوربشتي: المعروف اسم لكل فعل يعرف حسنه بالشرع، أو يعرف بالعقل من غير أن ينازع فيه الشرع. وكذلك القول المعروف. وقد قيل: للأقتصاد في الجود معروف، لأنه مستحسن بالشرع والعقل. والصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة، وذلك لأن عليه أن يتحرى الصدق فيها. وقد استعمل في الواجبات وأكثر ما يستعمل في التطوع به، ويستعمل أيضا في الحقوق التي تجافي عنها الإنسان. قال تعالى: ?والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له?[المائدة-45] أي تجافى عن القصاص الذي هو حقه وقد أجرى في التنزيل ما يسامح به المعسر مجرى الصدقة قال تعالى: ?وأن تصدقوا خير لكم?[البقرة- 27] فقوله "كل معروف صدقة" أي محل فعل المعروف محل
وإن من المعروف أن تلقي أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك)). رواه أحمد والترمذي.
1928-(26) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة ونصرك الرجل الردي البصر

(12/147)


التصدق بالمال ويقع التبرع بذلك موقعه في القربة، فالمعروف والصدقة. وإن اختلفا في اللفظ والصيغة فإنهما يتقاربان في المعنى، ويتفقان في الأمر المطلوب منهما وقد عرفنا الاختلاف بينهما من الكتاب. قال تعالى: ?إلا من أمر بصدقة أو معروف?[النساء:114] وعرفنا الاتفاق بينهما في المعنى من السنة- انتهى. (وإن من المعروف) أي من جملة أفراده (إن تلقى أخاك) أي المسلم (بوجه) بالتنوين (طلق) تقدم ضبطه، ومعناه يعني تلقاه منبسط الوجه متهللة (وإن تفرغ) من الإفراغ أي تصب (من دلوك) أي عند استقاءك (في إناء أخيك) لئلا يحتاج إلى الاستقاء، أو لاحتياجه إلى الدلو (رواه أحمد) (ج3 ص244) (والترمذي) في البر والصلة من طريق المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال القاري: وفي كثير من نسخ الترمذي حسن، فقط. وليس في سنده غير المنكدر بن محمد المنكدر. قال الذهبي: فيه لين وقد وثقه أحمد كذا ذكره ميرك- انتهى. قلت: صدر الحديث متفق عليه، كما سبق، والمنكدر بن محمد بن المنكدر لين الحديث كما قال الحافظ في التقريب: وقد تفرد بتوثيقه أحمد، ولينه غيره وتكلموا فيه من جهة حفظه.

(12/148)


1928-قوله: (تبسمك) هو أن تظهر الأسنان بدون صوت، فإن كان بصوت لطيف يسمعه من يقربه فقط. كان ضحكا. فإن كان الصوت قويا يسمعه البعيد سمي قهقهة (في وجه أخيك) في الدين (صدقة) كذا في جميع النسخ الحاضرة، وكذا نقله المنذري في الترغيب، وعليه بني القاري شرحه كما سيأتي. ووقع في نسخ الترمذي لك صدقة، وهكذا نقله السيوطي في الجامع الصغير، يعني إظهارك البشاشة. والبشر إذا لقيته تؤجر عليه كما تؤجر على الصدقة (وأمرك بالمعروف) أي بما عرفه الشرع والعقل بالحسن (ونهيك عن المنكر) أي ما أنكره وقبحه (صدقة) كذلك (وإرشادك الرجل) أي الإنسان (في أرض الضلال) أضيفت إلى الضلال كأنها خلقت له، وهي التي لا علامة فيها للطريق فيضل فيها الرجل. (لك صدقة) بالمعنى المقرر قال القاري: زيد لك في هذه القرينة والتي بعدها لمزيد الاختصاص (ونصرك) أي أعانتك (الرجل الردي البصر) بالهمز ويدغم أي الذي
لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
1929-(27) وعن سعد بن عبادة، قال: يا رسول الله! إن أم سعد ماتت، فأي الصدقة أفضل؟
_______________________________________________

(12/149)


لا يبصر أصلا أو يبصر قليلا. قال القاري: وضع النصر موضع القياد مبالغة في الإعانة كأنه ينصره على كل شيء يؤذيه- انتهى. قلت: وقع في نسخ الترمذي بصرك للرجل بالباء الموحدة، وكذا نقله العزيزي، والحفني في شرح الجامع الصغير، والجزري في جامع الأصول (ج10 ص342) وهكذا وقع في صحيح ابن حبان كما في الترغيب، والبصر محركة حس العين والعلم والرؤية. والمراد تبصيرك الرجل الردي البصر لك صدقة. وقيل: المعنى إذا بصرت رجلا ردي البصر فأعنته كان ذلك لك صدقة (وإماطتك) أي إزالتك وتنحيتك (الحجر والشوك والعظم) أي ونحوها (عن الطريق) أي طريق المسلمين المسلوك أو المتوقع السلوك (وإفراغك) أي صبك (من دلوك في دلو أخيك) في الدين (لك صدقة) فكيف إذا لم يكن لأخيك دلو (رواه الترمذي) في البر والصلة (وقال هذا حديث غريب) في نسخ الترمذي الحاضرة عندنا حديث حسن غريب، ويؤيده قول المنذري في الترغيب "رواه الترمذي وحسنه" والحديث أخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد، وابن حبان في صحيحه.

(12/150)


1929- قوله: (إن أم سعد) أراد به نفسه، واسم أمه عمرة بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار صحابية، وكانت من المبايعات توفيت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنة خمس من الهجرة. قال ابن سعد: ماتت والنبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة دومة الجندل في شهر ربيع الأول، وابنها سعد بن عبادة معه، قال: فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة أتى قبرها فصلى عليها. قال الحافظ: وثبت أنها لما ماتت سأل والدها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصدقة عنها ولها أربع أخوات اسم كل منهن أيضا عمرة أسلمن وبايعن. قال الحافظ: في الإصابة عمرة بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة والدة سعد بن عبادة ماتت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة خمس. وعمرة بنت مسعود الصغرى خالة سعد بن عبادة، كانت زوج أوس بن زيد بن أصرم ثم تزوجها سهل بن ثعلبة. وعمرة بنت مسعود بن قيس الأنصارية أخت اللتين قبلها. قال ابن سعد كن خمس أخوات اسم كل منهن عمرة أسلمن وبايعن، وهذه هي الثالثة أمها عميرة بنت عمرو بن حزام تزوجها ثابت بن المنذر والد حسان وعمرة بنت مسعود الرابعة شقيقة التي قبلها تزوجها زيد بن مالك وعمرة بنت مسعود الخامسة شقيقة اللتين قبلها وهي والدة قيس بن عمرو من بني النجار (فأي الصدقة أفضل) أي لها بوصول ثوابها إليها، وفي رواية لأبي داود
((قال الماء فحفر بئرا وقال: هذه لأم سعد)). رواه أبوداود، والنسائي.
1930-(28) وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عرى، كساه الله من خضر الجنة. وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع،

(12/151)


أي الصدقة أعجب إليك (قال الماء) وفي رواية أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان. قال: سقى الماء أي في ذلك الوقت لقلته بالمدينة يومئذ، أو على الدوام، لأنه أحوج الأشياء عادة قال القاري: إنما كان الماء أفضل، لأنه أعم نفعا في الأمور الدينية والدنيوية خصوصا في تلك البلاد الحارة ولذلك من الله تعالى: ?وأنزل من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتة ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا?[الفرقان: 48، 49] كذا ذكره الطيبي. وفي الأزهار الأفضلية من الأمور النسبية، وكان هناك أفضل لشدة الحر والحاجة وقلة الماء (فحفر) أي سعد وفي بعض النسخ. قال: أي الراوي عن سعد فحفر، وهكذا وقع في أبي داود (بئر) بالهمز ويبذل (وقال) أي سعد (هذه لأم سعد) أي هذا البئر صدقة لها أو ثواب هذه البئر لها، وفيه فضيلة سقى الماء، وفضيلة الصدقة عن الميت، وإن ثواب الصدقة المالية يصل إلى الميت وهو أمر مجمع عليه، لاختلاف فيه عند أهل السنة (رواه أبوداود) في أواخر الزكاة (والنسائي) في الوصايا. واللفظ لأبي داود، وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص285و ج7 ص6) وابن ماجه في الأدب، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. والحاكم (ج1 ص414) والبيهقي (ج4 ص185) وقد سكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وتعقبه الذهبي في تلخيصه، والمنذري في ترغيبه. قال الذهبي بعد ذكر كلام الحاكم قلت: لا، فإنه غير متصل. وقال المنذري: بل هو منقطع الإسناد عند الكل فإنهم كلهم رووه عن سعيد بن المسيب عن سعد ولم يدركه سعيد، فإن سعدا توفي بالشام سنة خمس عشرة. وقيل سنة إحدى عشرة ومولد سعيد بن المسيب سنة خمس عشرة، ورواه أبوداود والنسائي والحاكم أيضا. وأحمد عن الحسن البصري عن سعد ولم يدركه أيضا، فإن مولد الحسن سنة إحدى وعشرين، ورواه أبوداود أيضا وغيره عن أبي إسحاق السبيعي عن رجل عن سعد- انتهى كلام المنذري. وقد ذكر نحو ذلك في مختصر السنن.

(12/152)


1930- قوله: (أيما مسلم) "ما" زائدة وأي مرفوع على الابتداء (كسا) أي ألبس (على عرى) بضم فسكون أي على حالة عرى أو لأجل عرى أو لدفع عرى، وهو يشمل عرى العورة وسائر الأعضاء (كساه الله من خضر الجنة( بضم الخاء وسكون الضاد المعجمتين، جمع أخضر أي من الثياب الخضر فيها من باب إقامة الصفة مقام الموصوف، وخصها لأنها أحسن ألوانا (أطعم مسلما) متصفا بكونه (على جوع) يعني مسلما جائعا
أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى على ظمأ، سقاه الله من الرحيق المختوم)). رواه أبوداود والترمذي.
1931-(29) وعن فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في المال لحقا سوى الزكاة،

(12/153)


(أطعمه الله) يوم القيامة (من ثمار الجنة) فيه إشارة إلى أن ثمارها أفضل أطعمتها (على ظمأ) بفتحتين مقصورا وقد يمد أي عطش (من الرحيق المختوم) أي يسقيه من خمر الجنة الذي ختم عليه بمسك جزاء وفاقا، إذ الجزاء من جنس العمل. قال القاري الرحيق صفوة لخمر، والشراب الخالص الذي لا غش فيه، والمختوم هو المصون الذي لم ينبذل لأجل ختامه ولم يصل إليه غير أصحابه، وهو عبارة عن نفاسته- انتهى. قال المناوي: والمراد أنه يخص بنوع من ذلك أعلى وإلا فكل من دخل الجنة كساه الله من ثيابها، وأطعمه وسقاه من ثمارها وخمرها. وفي الحديث الحث على أنواع البر وإعطاءها من هو مفتقر إليها وكون الجزاء عليها من جنس العمل (رواه أبوداود) في أواخر الزكاة (والترمذي) في أواخر الزهد وأخرجه أيضا البيهقي من طريق أبي داود (ج4 ص185) قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد روى هذا عن عطية عن أبي سعيد الخدري موقوفا، وهو أصح عندنا وأشبه- انتهى. قلت: في سند المرفوع عند الترمذي أبوالجارود الأعمى الكوفي. ورواه عن عطية العوفي عن أبي سعيد وأبوالجارود. قال الحافظ: فيه رافضي كذبه يحيى بن معين وعطية العوفي صدوق، لكنه يخطيء كثيرا شيعي مدلس، والحديث رواه أبوداود أيضا بسند آخر أي من طريق أبي خالد الدالاني عن نبيح عن أبي سعيد. وقد سكت عنه هو، وقال المنذري: في مختصر السنن في إسناده أبوخالد يزيد بن عبدالرحمن المعروف. بالدالاني، وقد أثنى عليه غير واحد وتكلم فيه غير واحد، وقال في الترغيب حديثه حسن- انتهى.

(12/154)


1931-قوله: (وعن فاطمة بنت قيس) هي فاطمة ابنة قيس بن خالد القرشية الفهرية أخت الضحاك بن قيس الأمير يقال: كانت أكبر منه بعشر سنين صحابية مشهورة، وكانت من المهاجرات الأول، وكانت ذات جمال وعقل وكمال، وفي بيتها اجتمع أصحاب الشورى عند قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وخطبوا خطبتهم المأثورة، وكانت عند أبي عمر بن حفص المخزومي، وطلقها فتزوجت بعده أسامة بن زيد. وهي التي روت قصة الجساسة بطولها فانفردت بها مطولة رواها عنها الشعبي، لما قدمت الكوفة على أخيها، وهو أميرها وفي طلاقها ونكاحها بعد سنن كثيرة مستعملة، روى عنها جماعة منهم الشعبي والنخعي وأبوسلمة (إن في المال لحقا سوى الزكاة) عند الترمذي عن فاطمة قالت: سألت أو سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الزكاة فقال: إن في المال الخ
ثم تلا الآية ?ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب?

(12/155)


وفي رواية الدارقطني قلت: يا رسول الله في المال حق سوى الزكاة قال نعم ثم قرأ ?وآتى المال على حبه? [البقرة:177] وفي رواية البيهقي عن فاطمة بنت قيس أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قالت: سئل عن هذه الآية: ?وفي أموالهم حق معلوم?[المعارج:24] قال إن في هذا المال حقا سوى الزكاة وتلا هذه الآية ?ليس البر أن تولوا وجوهكم?[البقرة:177] قال المناوي: قوله إن في المال لحقا سوى الزكاة كفكاك أسير وإطعام مضطر وإنقاذ محترم فهذه حقوق واجبة غيرها، لكن وجوبها عارض فلا تدافع بينه وبين خبر "ليس" في المال حق سوى الزكاة- انتهى. وقال القاري: وذلك مثل أن لا يحرم السائل والمستقرض وأن لا يمنع متاع بيته من المستعير كالقدر والقصة وغيرهما ولا يمنع أحد الماء والملح والنار وكذا ذكره الطيبي وغيره- انتهى. قلت: حديث ليس في المال حق سوى الزكاة لا يعرف له إسناد يثبت. قال البيهقي: والذي يرويه أصحابنا في التعاليق ليس في المال حق سوى الزكاة، فلست أحفظ فيه إسنادا- انتهى. نعم روى في معناه عن أبي هريرة مرفوعا إذا أديت الزكاة فقد قضيت ما عليك أخرجه الترمذي وحسنه، وابن ماجه والحاكم، وصححه والبيهقي: ورواه أبوداود في المراسيل، عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا. وروى الحاكم وصححه، والبيهقي من طريقة عن جابر مرفوعا إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره. ورجح أبوزرعة والبيهقي، وغيرهما وقفه كما عند البزار. وأما ما وقع في سنن ابن ماجه في باب ما أدى زكاته فليس بكنز، من حديث فاطمة بنت قيس إنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس في المال حق سوى الزكاة. فالظاهر إنه خطأ من الناسخ، أو من الراوي كما سيأتي وقال أبوالطيب السندي في شرح الترمذي: قوله فقد قضيت ما عليك أي من حقوق المال. وهذا يقتضي أنه ليس عليه واجب مالي غير الزكاة، وباقي الصدقات كلها تطوع. وهو يشكل بصدقة الفطر والنفقات الواجبة إلا أن يقال

(12/156)


الكلام في حقوق المال، وليس شيء من هذه الأشياء من حقوق المال، بمعنى أنه يوجبه المال، بل يوجبه أسباب أخر كالفطر والقرابة والزوجية وغير ذلك. فالحقوق التي يوجبها المال فقط، تقتضي بالزكاة- انتهى. وقيل المراد بقوله فقد قضيت ما عليك أي قضيت أعظم ما عليك من الحق. وقيل: المراد بقوله ليس "في المال حق سوى الزكاة أي ليس في المال حق مثل الزكاة سواها (ثم تلا) أي قرأ استشهادا (ليس البر) بالرفع والنصب ?أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب? [الآية] أي ?ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة?[البقرة:177] قال الطيبي وجه الاستشهاد أنه تعالى ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه، ثم قفاه بإيتاء الزكاة فدل ذلك على أن في المال حقا سوى الزكاة. قيل: الحق حقان: حق يوجبه الله تعالى على عباده. وحق
رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي.

(12/157)


يلتزمه العبد على نفسه الزكية الموقاة من الشح، الذي جبلت عليه. وعليه إشارة بقوله: على حبه أي حب الله أو حب رسوله الإيتاء - انتهى. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: وحاصل الاستدلال إن الآية قد جمع فيها بين إيتاء المال على حبه وبين إيتاء الزكاة بالعطف المقتضى للمغايرة. وهذا دليل على أن في المال حقا سوى الزكاة لتصح المغايرة (رواه الترمذي) الخ وأخرجه أيضا البيهقي كلهم من طريق شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة. قال الترمذي: هذا حديث إسناده ليس بذلك. وأبوحمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصح - انتهى. وقال البيهقي: هذا حديث يعرف بأبي حمزة وميمون الأعور، وقد جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فمن بعدهما من حفاظ الحديث- انتهى. ونسب الشوكاني هذا الحديث في فتح القدير (ج1 ص151) لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي والدارقطني وابن مردويه أيضا، وفي سنده عند الدارقطني نصر بن مزاحم وأبوبكر الهذلي وكلاهما متروك الحديث. تنبيه عزا المصنف حديث فاطمة باللفظ الذي ذكره إلى ابن ماجه أيضا، وكذا صنع المزي في الأطراف كما قال المناوي في الكشف، ونسبه الشوكاني أيضا في فتح القدير (ج1 ص151) لابن ماجه وهذا مبني على ما وقع في أكثر نسخ ابن ماجه أو في كثير منها بلفظ: في المال حق سوى الزكاة. وقد وقع في بعض نسخة في الباب المذكور مكانه بلفظ: ليس في المال حق سوى الزكاة. قال الولي العراقي في طرح التثريب (ج1 ص11) في شرح قوله "ومن حقها حلبها يوم وردها" في هذا دليل لمن يرى في المال حقوقا غير الزكاة وهو مذهب أبي ذر غير واحد من التابعين. وفي جامع الترمذي عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في المال حقا سوى الزكاة) وهو عند ابن ماجه بلفظ: في المال حق سوى الزكاة، وفي بعض نسخه ليس في المال حق سوى الزكاة. واقتصر والدي يعني الزين العراقي رحمه الله في

(12/158)


شرح الترمذي على نقل هذا اللفظ الثاني. وقال: قال البيهقي في السنن الكبرى (ج4 ص84) إن هذا الحديث يرويه أصحابنا في التعاليق ولست أحفظ فيه إسنادا، ثم اعترض عليه والدي رواية ابن ماجه له، وقد عوفت ما في ذلك - انتهى. قلت: وكذا أعترض عليه الحافظ في التلخيص (ص173) هذه الرواية وهذا كله كما ترى يدل على اختلاف نسخ ابن ماجه في ذلك، ويدل على ذلك أيضا إن الجزري ذكر في جامع الأصول (ج7 ص298) اللفظ الأول. واقتصر في تخريجه على ذكر الترمذي، ولم يذكر ابن ماجه، وبين اللفظين تخالف وتباين ظاهر. والصواب عندي ما وقع في أكثر نسخ ابن ماجه بلفظ: في المال حق سوى الزكاة لأن هذا موافق لرواية الترمذي والدارمي والدارقطني وابن جرير وغيرهم. وأما ما وقع في بعض نسخه بلفظ، ليس في المال حق سوى الزكاة فهو خطأ من الناسخ، وجنح من لم يقف على اختلاف النسخ في
1932- (30) وعن بهيسة، عن أبيها، قالت: قال: يا رسول الله! ما الشيء الذي يحل منعه؟ قال: ((الماء،
ذلك وقد رأى في نسخته اللفظ الثاني إلى أن رواية ابن ماجه خطأ من الراوي ووهم منه، وأن المحفوظ هي رواية الترمذي والدارمي وغيرهما، لأن مدار رواية ابن ماجه على يحيى بن آدم عن شريك، وقد خالفه الأسود ابن عامر المعروف بشاذ أن عند الترمذي والبيهقي ومحمد بن الطفيل عند الدارمي والترمذي كلاهما روياه عن شريك بلفظ إن في المال حقا سوى الزكاة. وتطرق الوهم إلى الواحد. أقرب منه إلى الاثنين، ويدل على ذلك أيضا الاستشهاد بالآية في رواية الترمذي والدارقطني والبيهقي كما لا يخفى على المتأمل. قال السندي في حاشية ابن ماجه من نظر بين روايتين يرى أن رواية المصنف يعني ابن ماجه أقرب إلى الخطأ من رواية الترمذي لقوة رواية الترمذي بالدليل الموافق لها فيتأمل - انتهى.

(12/159)


1933- قوله: (وعن بهيسة) بضم الموحدة وفتح الهاء وسكون الياء التحتية بعدها سين مهملة. قال في التقريب: بهيسة بالمهملة مصغرا الفزارية لا تعرف من الثالثة ( وهي الطبقة الوسطى من التابعين) ويقال لها إن صحبة. وقال في تهذيب التهذيب: بهيسة الفزارية عن أبيها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن حبان لها صحبة. وقال ابن القطان قال عبدالحق: مجهولة، وهي كذلك. وقال في الإصابة: في ترجمة بهيسة لولا قول ابن حبان إن لها صحبة لما كان في الخبر ما يدل على صحبتها لأن سياق ابن مندة إن أباها استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في قميصه، وسياق أبي داود والنسائي عن أبيها إنه استأذن وهو المعتمد - انتهى. وقال الذهبي: في التجريد، بهيسة أدركت النبي - صلى الله عليه وسلم - وروت عن أبيها، روى سيار بن منظور عن أبيه عنها، وعلم عليها د، ع وذكرها ابن الأثير في أسد الغابة. وقال أدركت النبي صلى الله عليه وسلم وروت عن أبيها ثم ذكر حديث الباب (عن أبيها) اسمه عمير بالتصغير صحابي، قال الحافظ: في تهذيب التهذيب أبوبهيسة الفزاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: وعنه بنته بهيسة، ترجم له ابن مندة وغيره في الكنى، وسماه ابن عبدالبر في الاستيعاب عميرا. وقال في الأسماء من الإصابة: عمير الفزاري والد بهيسة ذكره أبوعمر فسماه عميرا، ولم أره لغيره ويأتي في الكنى- انتهى. وقال في الكنى أبوبهيسة الفزاري ذكره أبوالبشر الدولابي في الكنى، وأورد له من طريق كهمس عن سيار بن منظور عن أبيه هذا الحديث. ثم قال بعد بيان الاختلاف فيه، وذكر ابن عبدالبر اسم والد بهيسة عمير- انتهى. وذكره الذهبي في تجريده في الأسماء والكنى. وقال لم يصح حديثه (قالت قال) أي أبوها (ما الشيء الذي لا يحل منعه: قال الماء) أي عند عدم احتياج صاحب الماء إليه وإنما أطلق بناء على وسعه عادة. وقيل: المراد إن الماء من الأشياء المحقرة التي لا ينبغي للإنسان منعها من

(12/160)


المحتاج والجار، وسيأتي بسط الكلام عليه في باب المنهي عنها من
قال يا نبي الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الملح، قال: يا نبي الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه، قال: أن تفعل الخير لك)) رواه أبوداود.
1933- (31) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العافية
البيوع، وفي باب إحياء الموات والشرب . (قال يا نبي الله) تفنن في العبارة (قال الملح) لكثرة احتياج الناس إليه وبذله عرفا. قال الشوكاني: ظاهر الحديث عدم الفرق بين ما كان في معدنه أو قد انفصل عنه ولا فرق بين جميع أنواعه الصالحة للانتفاع بها. وقال الخطابي: معنى هذا الحديث الملح إذا كان في معدنه في أرض أو جبل غير مملوك، فإن أحدا لا يمنع من أخذه. وأما إذا صار في حيز مالكه فهو أولى به، وله منعه ويبعه والتصرف فيه كسائر أملاكه - انتهى. (إن تفعل الخير) مصدرية أي فعل الخير جميعه (خير لك) يعنى فعل الخير الذي تدعو إليه نفسك الزكية خير لك لا يحل لك منعه، فهذه القرينة أعم من الأوليين فهي كالتذييل لهما. قال القاري: قوله إن تفعل الخير لك لقوله تعالى: ?فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره?[الزلزال: 7] والخير لا يحل منعه فهذا تعميم بعد تخصيص وإيماء إلى أن قوله لا يحل بمعنى لا ينبغي (رواه أبوداود) في الزكاة وفي البيوع وأخرجه أيضا الدارمي في البيوع بلفظ: ما الشيء الذي لا يحل منعه. فقال: الملح والماء فقال ما الشيء الذي لا يحل منعه قال إن تفعل الخير خير لك قال ما الشيء الذي لا يحل منعه. قال إن تفعل الخير خير لك_ وانتهى إلى الملح والماء - انتهى. ونسبه المجد بن تيمية في المنتقى لأحمد وأبي داود والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري وأعله عبدالحق وابن قطان بأن بهيسة لا تعرف. قال الشوكاني وتعقب: بأنه ذكرها ابن حبان وغيره في الصحابة، ولحديثها شواهد يريد بها، ما روى في الباب من حديث أبي هريرة عند ابن ماجه

(12/161)


بسند صحيح، ثلاث لا يمنعن. الماء والكلأ، والنار. ومن حديث عائشة عند ابن ماجه أيضا قالت: يا رسول الله: ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الماء، والملح، والنار- الحديث. وإسناده ضعيف، ومن حديث أنس عند الطبراني. في الصغير خصلتان لا يحل منعهما. الماء والنار، قال أبوحاتم في العلل هذا حديث منكر ومن حديث عبدالله بن سرجس عند العقيلي في الضعفاء نحو حديث بهيسة. ومن حديث ابن عباس عند ابن ماجه. ومن حديث ابن عمر عند الطبراني بلفظ: المسلمون شركاء في ثلاث. في الماء، والكلأ، والنار.
1933- قوله: (من أحياء أرضا ميتة) أي زرع أرضا يابسة شبهها بالميت بجامع عدم النفع، وشبه تعميرها بالسقي والزرع أو الغرس بالإحياء بجامع النفع (فله فيها) أي في نفس أحيائها (أجر وما أكلت العافية)
منة فهو له صدقة)) رواه الدارمي.
1934-(32) وعن البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من منح منحة لبن أو ورق، أو هدى زقاقا، كان له مثل عتق رقبة)).

(12/162)


أي كل طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طائر من عفوته أي أتيته أطلب معروفة وعافية الماء واردته. وفي بعض الروايات العوافي أي طلاب الرزق (منه) أي من حاصل الأرض وريعها أو من المأكول أو من النبات وفي سنن الدارمي منها (فهو له صدقة) أي إذا كان له راضيا أو متحملا صابرا (رواه الدارمي) في البيوع. وأخرجه أيضا أحمد والنسائي في الكبرى، وابن حبان والضياء في المختارة، كلهم من رواية هشام بن عروة عن عبدالله بن عبدالرحمن بن رافع عن جابر، وهذا إسناد صحيح. قال الحافظ في التلخيص: صرح عند ابن حبان بسماع هشام من عبيدالله وبسماعه من جابر، ورواه أيضا من طريق وهب بن كيسان عن جابر الجملة الأولى. واستدل به ابن حبان على أن الذمي لا يملك الموات. لأن لأجر إنما يكون للمسلم وتعقبه المحب الطبري بأن الكافر يتصدق ويجازي عليه في الدنيا كما ورد به الحديث: قلت (قائلة الحافظ) وقول ابن حبان أقرب للصواب، وظاهر الحديث معه، والمتبادر إلى الفهم منه، إن إطلاق الأجر إنما يراد به الأخروي.

(12/163)


1934-قوله: (وعن البراء) أي ابن عازب (من منح) أي أعطى (منحة لبن) في الترمذي منيحة لبن، وقد سبق معناهما، والإضافة فيها بيانية. قال القاري: والأظهر إن في المنحة تجريدا بمعنى مطلق العطية ليصح العطف بقوله (أو ورق) بكسر الراء وسكونها، وهي قرض الدراهم. لأن المنحة مردودة- انتهى. وقال في اللمعات: المنحة العطية فإضافته إلى اللبن ظاهر، ثم ذكر المراد من منحة اللبن. ثم قال: وعطف الورق على اللبن، إن كان المنحة بمعنى العطية، فظاهر. وإن كان بمعنى الناقة أو الشاة المعطاة فمجاز، ومشاكلة. والمراد من منحة الورق، قرض الدراهم، وإنما فسروه به، لأن المنحة من شأنها إن ترد على صاحبها. وقال الجزري: منحة الورق القرض، ومنحة اللبن أن يعطيه ناقة، أو شأة ينتفع بلبنها ويعيدها، وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زمانا، ثم يردها. ومنه الحديث المنحة مردودة- انتهى. (أو هدى زقاقا) قال الجزري: الزقاق بالضم الطريق، يريد من دل الضال أو الأعمى على طريقة. وقيل: أراد من تصدق بزقاق من النخل وهي السكة منها. والأول أشبه لأن هدى من الهداية لا من الهدية- انتهى. قلت: وقع في حديث النعمان بن بشير عند أحمد أهدى زقاقا من الإهداء، فالمراد بالزقاق في هذا الحديث هو السكة أي الصف والسطر من النخل، وبالإهداء التصدق (كان له) أي ثبت له (مثل عتق رقبة) أي كان ما ذكر له مثل إعتاق رقبة، ووجه الشبه نفع الخلق والإحسان إليهم
رواه الترمذي.
1935-(33) وعن أبي جرى جابر بن سليم، قال: ((أتيت المدينة، فرأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئا إلا صدورا عنه. قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله. قال: قلت: عليك السلام يا رسول الله! مرتين. قال لا تقل عليك السلام. عليك السلام تحية الميت،

(12/164)


(رواه الترمذي) في البر والصلة. وقال: هذا حديث صحيح غريب. وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان في صحيحه، والبغوي في شرح السنة، وفي الباب عن النعمان بن بشير عند أحمد (ج4 ص272) بلفظ: من منح منيحة ورقا أو ذهبا أو سقي لبنا أو أهدى زقاقا فهو كعدل رقبة.
1935- قوله: (وعن أبي جرى) بضم الجيم وفتح الراء وتشديد الياء (جابر بن سليم) بالتصغير. ويقال: سليم بن جابر الهجيمي بالتصغير التميمي من بلهجيم ابن عمرو بن تميم صحابي معروف، روى عنه جماعة. منهم أبوتميمة الهجيمى ومحمد بن سيرين. قال الحافظ: قال البخاري جابر بن سليم أصح، وكذا ذكر البغوي والترمذي وابن حبان وغيرهم (يصدر الناس) أي يرجعون (عن رأية) يعني يعملون بقوله ورأيه والصدور الرجوع عن المنهل بعد الري قال الطيبي وغيره: أي ينصرفون عما رآه ويستصوبونه شبه المنصرفين عن حضرته بعد توجههم إليه ليسألوا عن مصالح معادهم ومعاشهم وأمور دينهم. واغترافهم من بحار علمه وفضله بالصادرين عن ورودهم على المنهل وارتوائهم (لا يقول شيئا إلا صدروا عنه) أي يأخذون منه كل ما حكم به ويقبلون حكمه وقوله (لا تقل عليك السلام) أي ابتداء وهو نهي تنزيه قاله القاري (عليك السلام) في أبي داود فإن عليك السلام (تحية الميت) أي في زمان الجاهلية. قال الخطابي: هذا يوهم إن السنة في تحية الميت أن يقال له عليك السلام كما يفعله كثير من العامة. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دخل المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، فقدم الدعاء على اسم المدعو له كهو في تحية الإحياء، وإنما كان ذلك القول منه إشارة إلى ما جرت به العادة، منهم في تحية الأموات إذ كانوا يقدمون اسم الميت على الدعاء، وهو مذكور في إشعارهم كقول الشاعر:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته إن شاء أن يترحما
وكقول الشماخ:
عليك سلام من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق

(12/165)


والسنة لا تختلف في تحية الإحياء والأموات بدليل حديث أبي هريرة الذي ذكرناه والله أعلم- انتهى. وقال ابن القيم في زاد المعاد: وكان هديه في ابتداء السلام، أن يقول السلام عليكم ورحمة الله وكان يكره أن يقول
قل: السلام عليك. قلت: أنت رسول الله، فقال: أنا رسول الله، الذي إن أصابك ضر فدعوته كشفه عنك. وإن أصابك عام سنة، فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك. قلت: أعهد إلي. قال: لا تسبن أحدا. قال: فما سببت بعده
المبتدي عليك السلام، ثم ذكر ابن القيم حديث أبي جرى هذا. ثم قال: وقد أشكل هذا الحديث على طائفة وظنوه معارضا لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في السلام على الأموات بلفظ: السلام عليكم بتقديم السلام فظنوا إن قوله فإن عليك السلام تحية الموتى إخبار عن المشروع وغلطوا في ذلك غلطا أوجب لهم ذلك ظن التعارض، وإنما معنى قوله فإن عليك السلام تحية الموتى إخبار عن الواقع لا المشروع أي إن الشعراء وغيرهم يحيون الموتى بهذه اللفظة كقول قائلهم:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
فما كان هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما

(12/166)


فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحي بتحية الأموات ومن كراهته لذلك لم يرد على المسلم، وكان يرد على المسلم، وعليك السلام بالواو. وبتقديم عليك على لفظ السلام - انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: في قوله ومن كراهته لذلك لم يرد على المسلم نظر. فإنه قد وقع في رواية الترمذي، ثم رد على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وعليك ورحمة الله انتهى. (الذي) صفة لله تعالى يدل عليه رواية أحمد قلت: يا رسول الله! إلى ما تدعو قال أدعو إلى الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك، والذي إن ضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت عليك (إن أصابك) وفي أبي داود الذي إذا أصابك (ضر) بضم الضاد ويفتح (فدعوته) بصيغة الخطاب (كشفه عنك) أي دفع ذلك الضر وإزالة عنك (عام سنة) أي قحط وجدب. قال المنذري: السنة هي العام المقحط الذي لم تنبت فيه الأرض شيئا، سواء نزل غيث، أو لم ينزل (أنبتها لك) أي صيرها ذات نبات لك أي بدلها خصبا (بأرض قفر) قال القاري: وفي نسخة بالإضافة والقفر بفتح القاف وسكون الفاء، أي خالية عن الشجر، والماء. قال أهل اللغة القفر الخلاء من الأرض لا ماء فيه ولا ناس ولا كلأ يقال: أرض قفر وأرض قفار (أو فلاة) بفتح الفاء وهي المفازة والصحراء الواسعة، وأو للشك. وقيل: للتنويع على أن المراد بالقفر المفازة المهلكة، وبالفلاة المفازة الخطرة (فضلت راحلتك) أي غابت عنك (أعهد إلي) بفتح الهاء أي أوصني بما ينفعني (لا تسبن أحدا) بضم السين أي لا تشمته (فما سبب بعده) أي بعد عهده أحدا

(12/167)


حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شأة، قال: ولا تحقرن شيئا من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك، فلا تعيره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه)). رواه أبوداود، وروى الترمذي منه حديث السلام. وفي رواية: فيكون لك أجر ذلك ووباله عليه.

(12/168)


(حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شأة) أي لا إنسانا ولا حيوانا (وإن تكلم أخاك) قيل: أي وكلم أخاك تكليما فحذف الفعل العامل، وأضيف المصدر إلى الفاعل أي تكليمك أخاك ثم وضع الفعل، مع أن موضع المصدر وهو معطوف على النهي كذا في الشرح، وهو تكلف ذكره الطيبي. وقال غيره: قوله "وإن تكلم أخاك" إما عطف على شيء وإن ذلك من المعروف مستأنف علة له، أو مبتدأ وإن ذلك خبره (وأنت منبسط إليه وجهك) بالرفع على أنه فاعل منبسط والجملة حال (إن ذلك) بكسر الهمزة على الاستئناف التغليبي، وفي بعض النسخ بفتحها للعلة. والمعنى إن ما ذكر من التكليم مع انبساط الوجه وطلاقته (من) جملة (المعروف) وفي رواية لأحمد ولا تحقرن من المعروف شيئا ولو إن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط (فإن أبيت) رفع إزارك إلى نصف الساق (فإلى الكعبين) أي فأرفعه إليهما ولا تتجاوز عنهما (وإياك وإسبال الإزار) أي اجتنب وأحذر إرسال الإزار وإرخاءه نازلا عن الكعبين (فإنها) أي أي هذه الفعلة أو الخصلة التي هي تسبيل الإزار (من المخيلة) بفتح الميم وكسر الخاء وسكون الياء من الاختيال، وهو الكبر واستحقار الناس (وإن امرأ شتمك) أي سبك (وعيرك) أي وبخك عيبك (بما يعلم فيك) أي لأمك وعذلك لما يعلم فيك من عيبك (فلا تعيره بما تعلم فيه) أي فضلا عما لا تعلم فيه (فإنما وبال ذلك) أي آثم ما ذكر من الشتم والتعيير (عليه) أي على ذلك المرء ولا يضرك شيء وفي رواية لأحمد فإن أجر ذلك لك ووباله عليه (رواه أبوداود) في اللباس (وروى الترمذي) في الاستئذان (منه) أي من الحديث (حديث السلام) أي صدر الحديث وهو ما يتعلق بالسلام (وفي رواية فيكون لك أجر ذلك ووباله عليه) لم أقف على هذه الرواية وروى أحمد بنحوها، والحديث أخرجه أحمد (ج3 ص482- 483) (وج5 ص63- 64) وابن حبان في صحيحه، وابن عبدالبر في الاستيعاب مطولا، والنسائي في الكبرى مختصرا وسكت عنه أبوداود وصححه الترمذي، والنووي، ونقل المنذري

(12/169)


تصحيح الترمذي وأقره.
1936-(34) وعن عائشة، أنهم ذبحوا شأة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: بقي كلها غير كتفها)). رواه الترمذي، وصححه.
1937-(35) وعن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من مسلم كسا مسلما ثوبا إلا كان في حفظ من الله مادام عليه منه خرقة)). رواه أحمد، والترمذي.
1936- قوله: (إنهم ذبحوا) أي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أهل بيت رضي الله عنهم وهو الظاهر (ما بقي منها) على الاستفهام أي أي شيء بقي من الشاة (قالت ما بقي منها إلا كتفها) أي التي لم يتصدق بها (قال بقي كلها غير كتفها) بالنصب والرفع أي ما تصدقت به فهو باق، وما بقي عندك فهو غير باق. إشارة إلى قوله تعالى: ?ما عندكم ينفد وما عند الله باق?[النحل:96] وقال المنذري: معناه إنهم تصدقوا بها إلا كتفها (رواه الترمذي) في الزهد (وصححه) نقل المنذري في الترغيب تصيح الترمذي وأقره، وفي الباب عن أبي هريرة عند البزار ذكره الهيثمي (ج3 ص109) وقال: رجاله ثقات.

(12/170)


1937-قوله: (إلا كان في حفظ) قال الطيبي: أي في حفظ أي حفظ (من الله) قال ابن الملك: وإنما لم يقل في حفظ الله ليدل التنكير على نوع تفخيم وشيوع، وهذا في الدنيا، وأما في الآخرة فلا حصر ولا عدل لثوابه- انتهى. قلت: قوله "في حفظ من الله" هكذا في جميع النسخ، وكذا وقع في المصابيح والذي في جامع الترمذي في حفظ الله أي بالإضافة، وهكذا نقله المنذري في الترغيب والسيوطي في الجامع الصغير، والجزري في جامع الأصول (ج10ص 319) (ما دام عليه) أي على من كساه (منه) أي من الثوب (خرقة) أي قطعة. قال المناوي: يعني حتى يبلي. وقال: ومفهوم هذا الحديث إنه لو كسا ذميا لا يكون له هذا الوعد (رواه أحمد) لم أجده في مسنده عبدالله بن عباس ولعله ذكره في أثناء مسند غيره من الصحابة، أو هذا سهو من المصنف ويقوى ذلك إنه لم ينسبه المنذري في الترغيب والسيوطي في الجامع الصغير لأحمد والله أعلم (والترمذي) في الزهد وأخرجه الحاكم (ج4 ص196) بلفظ: من كسا مسلما ثوبا لم يزل في ستر الله ما دام عليه منه خيط أو سلك، والحديث حسنه الترمذي. وقال الحاكم: صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي. فقال خالد ضعيف- انتهى. قلت: في سند هذا الحديث خالد بن طهمان أبوالعلاء الخفاف الكوفي. قال في تهذيب التهذيب. قال ابن معين: ضعيف خلط قبل موته بعشر سنين، وكان قبل ذلك ثقة وكان في تخليطه كلما جاؤا به يقر به. وقال أبوحاتم: هو من عتق الشيعة محله الصدق وذكره ابن حبان في الثقات وقال يخطئ ويهم. وقال في التقريب: صدوق رمى بالتشيع ثم اختلط.
1938-(36) وعن عبد الله بن مسعود، يرفعه، قال: ((ثلاثة يحبهم الله: رجل قام من الليل يتلو كتاب الله، ورجل يتصدق بصدقة بيمينه يخفيها أراه قال: من شماله، ورجل كان في سرية فانهزم أصحابه، فاستقبل العدو)). رواه الترمذي. وقال: هذا حديث غير محفوظ، أحد رواته أبوبكر بن عياش، كثير الغلط.

(12/171)


1938- قوله: (يرفعه) أي يرفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يقل هذا لأوهم أن يكون الحديث موقرفا على ابن مسعود لقوله بعده (قال ثلاثة) ولم ينسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (رجل قام من الليل) أي للتهجد فيه (يتلو كتاب الله) أي القرآن في صلاته وخارجها (بيمينه) فيه إيماء إلى الأدب في العطاء بأن يكون باليمين، رعاية للأدب وتفاؤلا باليمين والبركة (يخفيها) أي يخفى تلك الصدقة غاية الإخفاء خوفا من السمعة والرياء مبالغة في قصد المحبة والرضاء (أراه) بضم الهمزة من الإراءة أي أظنه (من شماله) أي يخفيها من شماله أريد به كمال المبالغة (ورجل كان في سرية) أي جيش صغير (فانهزم أصحابه) دونه (فاستقبل العدو) وحده أي وقاتلهم لتكون كلمة الله هي العليا (رواه الترمذي) في آخر صفة الجنة من حديث أبي بكر بن عياش عن منصور بن المعتمر عن ربعى بن حراش عن عبدالله بن مسعود (هذا حديث غير محفوظ) في نسخ الترمذي الموجودة عندنا، هذا حديث غريب غير محفوظ وقال الترمذي: بعده هذا، والصحيح ما روى شعبة وغيره عن منصور عن ربعي بن حراش عن زيد بن ظبيان عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (وأبوبكر بن عياش) بتحتانية مشددة وشين معجمة (كثير الغلط) أي في الحديث مع كونه إماما في القراءة. قال في التقريب: أبوبكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي المقري الحناط بمهملة ونون مشهور بكنيته، والأصح إنها اسمه يعنى أنه مختلف في اسمه (على عشرة أقوال) والصحيح إنه لا اسم له إلا كنيته، ثقة عابد إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابه صحيح. وقال في مقدمة الفتح: قال أحمد ثقة وربما غلط وقال أبو نعيم: لم يكن في شيوخنا أكثر غلطا منه، وسئل أبو حاتم عنه وعن شريك فقال: هما في الحفظ سواء، غير أن أبا بكر بن عياش أصح كتابا منه. وقال ابن حبان: كان يحيى القطان وعلي بن المديني يسيئان الرأي فيه وذلك أنه لما كبر ساء حفظه فكان يهم، وقال ابن

(12/172)


سعد: كان ثقة صدوقا عالما بالحديث، إلا أنه كثير الغلط. وقال يعقوب بن شيبة: كان له علم وفقه، ورواية. وفي حديثه اضطراب. قلت: لم يرو له مسلم إلا في مقدمة صحيحة، وروى له البخاري أحاديث أكثرها بمتابعة غيره. وأعلم أن مقصود الترمذي أن أبا بكر بن عياش غلط في شيخ منصور، واسم الصحابي أيضا. وأراد بحديث شعبة بإسناده عن أبي ذر- الحديث، الذي بعده. وهو حديث صحيح أخرجه الترمذي وغيره.

1939-(37) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، فأما الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوما فسآلهم بالله ولم يسألهم لقرابة بينه وبينهم فمنعوه، فتخلف رجل بأعيانهم، فأعطاه سرا، لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه. وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به، فوضعوا رؤوسهم، فقام يتملقنى ويتلو آياتي. ورجل كان في سرية، فلقي العدو، فهزموا، فأقبل بصدره

(12/173)


1939- قوله: (ثلاثة يحبهم الله) أي أكثر من غيرهم (فأما الذين يحبهم الله فرجل) ظاهره إن السائل أحد الثلاثة الذين يحبهم الله وليس كذلك بل معطيه، فلا بد من تقدير مضاف أي فأحدهم معطى رجل، وكذا قوله "وقوم" بتقدير مضاف أي والثاني عابد قوم (أتى قوما فسألهم بالله) أي مستعطفا بالله قائلا أنشدكم بالله أعطوني (ولم يسألهم لقرابة) أي ولم يقل أسألكم أو أعطوني بحق قرابة بيني وبينكم، قال في المفاتيح: يعنى إذا سأل بالله وجب إجابته تعظيما لاسم الله تعالى فإذا منعوه فقد اجترموا جرما عظيما فإذا أعطاه واحد سرا فله فضيلتان إحداهما أنه أعظم اسم الله تعالى. والثانية إنه تصدق سرا وصدقة السر له فضيلة (فمنعوه) أي الرجل العطاء (فتخلف رجل بأعيانهم) قال القاري: الباء للتعدية أي بأشخاصهم وتقدم. وقيل: أي تأخر رجل من بينهم إلى جانب حتى لا يروه بأعيانهم من أشخاصهم. وقال الطيبي أي ترك القوم المسؤول عنهم خلفه فتقدم فأعطاه سرا، والمراد من الأعيان الأشخاص. ويحتمل أن يكون المراد أنه سبقهم بهذا الخير فجعلهم خلفه، وفي رواية الطبراني فتخلف رجل عن أعيانهم وهذا أشبه وأسد من طريق المعنى، وإن كانت الرواية الأولى أوثق من طريق السند. والمعنى أنه تخلف أي تأخر عن أصحابه حتى خلا بالسائل فأعطاه سرا، وفي رواية للنسائي فتخلفهم رجل بأعقابهم. قال السندي: أي فخرج من بينهم بحيث صار خلفهم في ظهورهم فقوله "بأعقابهم" بمعنى في ظهورهم بمنزلة التأكيد لما يدل عليه تخلفهم (لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه) تقرير لمعنى السر (وقوم) أي الثاني قائم قوم أو قاري قوم (أحب إليهم) أي ألذ وأطيب (مما يعدل به) على بناء المفعول أي من كل شيء يقابل ويساوي بالنوم. وقيل: أي مما يجعل عديلا له، ومثلا ومساويا في العادة (فوضعوا رؤوسهم) أي فناموا وفي رواية نزلوا فوضعوا رؤوسهم (فقام) وفي بعض نسخ الترمذي قام رجل أي منهم (يتملقني) هذا على حكاية

(12/174)


كلام الله تعالى في شأن ذلك الرجل لا على الالتفات والملق بفتحتين الزيادة في التودد، والدعاء والتضرع أي يتواضع لدى ويتضرع إلى (ويتلوا آياتي) أي يقرأ ألفاظها ويتبعها بالتأمل في معانيها (ورجل) أي والثالث رجل (فهزموا) أي أصحابه (فأقبل بصدره) أي خلاف من ولى
حتى يقتل أو يفتح أو يفتح له، والثلاثة الذين يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم)). رواه الترمذي. والنسائي.
1940-(38) وعن أنس، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((لما خلق الله الأرض، جعلت تميد، فخلق الجبال، فقال: بها علليها، فاستقرت، فعجبت الملائكة من شدة الجبال. فقالوا يا رب! هل من خلقك
دبره بتوليه ظهره، وقوله "بصدره" تأكيد الإقبال فإنه لا يكون إلا بالصدر وقيل: هذا أبلغ في الإقبال والجرأة من أن يقابل بوجهه (حتى يقتل أو يفتح له) على بناء المفعول فيهما أي حتى يفوز بإحدى الحسنين، وفي رواية أحمد والنسائي حتى يقتل أو يفتح الله له (الشيخ الزاني) قال القاري: يحتمل أن يراد بالشيخ الشيبة ضد الشاب، وأن يراد به المحصن ضد البكر كما في الآية المنسوخة التلاوة الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما (والفقير المختال) أي المكبر (والغني الظلوم) أي كثير الظلم في المطل وغيره، وفي رواية لأحمد والمكثر البخيل، بدل والغني الظلوم وإنما خص الشيخ وأخويه بالذكر لأن هذه الخصال فيهم أشد مذمة وأكثر نكرة (رواه الترمذي) في آخر صفة الجنة. وقال: هذا حديث صحيح، وهذا أصح من حديث أبي بكر بن عياش عن منصور عن ربعي عن ابن مسعود (والنسائي) في صلاة الليل، وفي الزكاة، وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص153) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1 ص416) وصححه ووافقه الذهبي.

(12/175)


1940-قوله: (لما خلق الله الأرض) أي أرض الكعبة ودحيت وبسطت من جوانبها وبقيت كلوحة على وجه الماء (جعلت تميد) بالدال المهملة أي شرعت تميل وتتحرك وتضطرب شديدة ولا تستقر حتى قالت الملائكة لا ينتفع الإنس بها (فخلق الجبال) قيل: أولها أبوقيس (فقال بها عليها) أي امرؤ أشار يكون الجبال واستقرارها على الأرض (فاستقرت) أي الجبال عليها أو فثبتت الأرض في مكانها أو ما مادت ولا مالت من حالها ومحلها. قال الطيبي: قد مر مرارا أن القول يعبر به عن كل فعل وقرينة اختصاصه اقتضاء المقام، فالتقدير ألقى بالجبال على الأرض. كما قال تعالى: ?وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم?[النحل: 15] فالباء زائدة على المفعول كما في قوله تعالى: ?ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة?[البقرة:195] وإيثار القول على الإلقاء والإرسال لبيان العظمة والكبرياء، وإن مثل هذا الأمر العظيم يتأتي من عظيم قدرته بمجرد القول. وقيل: ضمن القول معنى الأمر أي أمر الجبال قائلا أرسى عليها. وقيل: أي ضرب بالجبال على الأرض حتى استقرت (هل من خلقك) أي من
شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم الحديد. فقالوا: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار. فقالوا: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال نعم؟ ألماء. فقالوا: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم ، الريح. فقالوا: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم تصدق صدقة بيمينه يخفيها من شماله)). رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب. وذكر حديث معاذ: الصدقة تطفئ الخطيئة، في كتاب الإيمان.
?الفصل الثالث?
1941-(39) عن أبي ذر، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((ما من عبد مسلم ينفق من كل مال له زوجين …

(12/176)


مخلوقاتك (قال نعم الحديد) فإنه يكسر به الحجر ويقلع به الجبال (قال نعم النار) فإنها تلين الحديد وتذيبه (قال نعم الماء) لأنه يطفىء النار (قال نعم الريح) من أجل أنها تفرق الماء وتنشفه. وقال الطيبي: فإن الريح تسوق السحاب الحامل للماء (نعم ابن آدم تصدق صدقة الخ) أي التصدق من بني آدم أشد من الريح ومن كل ما ذكر وذلك. لأن فيه مخالفة النفس وقهر الطبيعة والشيطان، ولا يحصل ذلك من شيء مما ذكر، أو لأن صدقته تطفئ غضب الرب وغضب الله تعالى لا يقابله شيء في الصعوبة والشدة وإذا فرض نزول عذاب الله بالريح على أحد، وتصدق في السر على أحد تدفع العذاب المذكور. فكان أشد من الريح قاله في اللمعات. وقال الطيبي: فإن من جبلة ابن آدم والقبض البخل الذي هو من طبيعة الأرض، ومن جبلته الإستعلاء وطلب انتشار الصيت، وهما من طبيعتي النار والريح، فإذا راغم بالإعطاء جبلته الأرضية وبالإخفاء جبلته النارية، والريحية كان أشد من الكل - انتهى. (رواه الترمذي) في آخر أبواب التفسير من طريق العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس وسليمان هذا قال الذهبي فيه لا يكاد يعرف وقال ابن معين لا أعرفه والحديث ذكره المنذري في باب الترغيب في صدقة السر. وقال: رواه الترمذي والبيهقي وغيرهما (وقال: هذا حديث غريب) وتمام كلامه لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه (وذكر) بصيغة المجهول (حديث معاذ الصدقة تطفئ الخطيئة) أي تزيل الذنوب وتمحوها كما قال إن الحسنات يذهبن السيئات (في كتاب الإيمان) أي في حديث طويل هناك فيكون من باب إسقاط المكرر.
1941- قوله: (ينفق) أي يتصدق (من كل مال له) أي من أي مال له كان (زوجين) أي اثنين
في سبيل الله، إلا استقبلته حجبة الجنة، كلهم يدعوه إلى ما عنده. قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن كانت إبلا فبعيرين، وإن كانت بقرة فبقرتين)). رواه النسائي.

(12/177)


1942-(40) وعن مرثد بن عبدالله قال حدثني بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن ظل المؤمن يوم القيامة صدقته)).
(في سبيل الله) أي ابتغاء وجهه ومرضاة ربه (حجبة الجنة) بفتحتين جمع حاجب أي بوابو أبوابها (كلهم يدعوه) أي كل واحد منهم. وقال القاري: أفرد الضمير للفظ كل، أو المعنى كل واحد منهم يدعوه (إلى ما عنده) أي من النعم العظام والمنح الفخام أو إلى باب هو واقف عنده بالاستدعاء والعرض والغرض أن يتشرف بدخوله منه (وكيف ذلك) أي كيف ينفق زوجين مما يتملكه بالعدد المخصوص (إن كانت إبلا) الضمير راجع إلى كل مال باعتبار الجماعة أو باعتبار الخبر فإن الإبل مؤنث. وزاد في رواية لأحمد قبله إن كانت رجلان فرجلان وإن كانت خيلا ففرسان (وإن كانت بقرة) كذا في النسخ الموجودة عندنا، والذي في النسائي، وإن كانت بقرا. وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10 ص320) وهكذا وقع عند أحمد (ج5 ص151) والحاكم (ج2 ص86) (فبقرتين) زاد في رواية حتى عد أصناف المال كله (رواه النسائي) في باب فضل النفقة في سبيل الله من كتاب الجهاد وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص151، 153، 159) وابن حبان والحاكم (ج2 ص86) وصححه ووافقه الذهبي.
1942-قوله: (بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لعله عقبة بن عامر رضي الله عنه فإن الحديث روى أحمد وغيره نحوه من رواية مرثد بن عبدالله عن عقبة بن عامر أيضا (إن ظل المؤمن يوم القيامة صدقته) قال الطيبي: هذا من التشبيه المقلوب المحذوف الأداة، لأن الأصل إن الصدقة كالظل في أنها تحميه عن أذى الحر يوم القيامة، فجعل المشبه مشبها به مبالغة كقول الشاعر:
وبدا الصباح كأن غرته وجه الخليفة حين يمتدح

(12/178)


قال القاري: والأظهر إن معناه ظل المؤمن يوم القيامة صدقته، الكائنة في الدنيا أي إحسانه إلى الناس، وهو إما بأن تجسد صدقته أو يجسم ثوابها. وقد تخص الصدقة بمالها ظل حقيقي كثوب وخيمة كما ورد في بعض الأخبار- انتهى. قلت: ويؤيد هذا المعنى ما روى عن عقبة بن عامر عند أحمد (ج4 ص147) وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1 ص416) كل امرىء في ظل صدقته حتى يقضي بين الناس، أو قال يحكم بين الناس. قال الأمير اليماني: كون الرجل في ظل صدقته يحتمل الحقيقة، وأنها تأتي أعيان الصدقة فتدفع عنه حر الشمس،
رواه أحمد.
1943 - (41) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((من وسع على عياله في النفقة يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته)). قال سفيان: إنا قد جربناه فوجدناه كذلك. رواه رزين.
1944، 1945، 1946، - (42، 43، 44) وروى البيهقي، في شعب الإيمان عنه، وعن أبي هريرة،
أو المراد في كنفها وحمايتها - انتهى. قلت الحمل على الحقيقة هو المعتمد (رواه أحمد) وأخرجه أيضا ابن خزيمة كما في الترغيب.

(12/179)


1943- قوله: (من وسع) بتشديد السين (على عياله) أي أهل بيته الذين تجب نفقتهم عليه (يوم عاشوراء) بالمد عاشر المحرم (وسع الله عليه) دعاء أو خبر (سائر سنته) أي باقيها أو جميعها. وفي رواية جابر عند البيهقي طول سنته، وفي حديث أبي سعيد عند الطبراني سنته كلها، وفي حديث ابن عمر عند الخطيب إلى رأس السنة المقبلة (قال سفيان) أي الثوري فإنه المراد عند الإطلاق في الاصطلاح المحدثين (أنا) أي نحن وأصحابنا (قد جربناه) أي الحديث لنعلم صحته أو جربنا الوسع (فوجدناه) أي جزاءه (كذلك) أي على توسيع الطعام. والحديث رواه ابن عبدالبر في الاستذكار من طريق شعبة عن أبي الزبير عن جابر وزاد في آخره قال جابر جربناه فوجدناه كذلك. وقال أبو الزبير: مثله وقال شعبة مثله (رواه رزين) أي عن ابن مسعود وحده قال في التنقيح: الحديث ذكره رزين في جامعة وليس في شيء من أصوله.

(12/180)


1944- 1945- 1946- قوله: (وروى البيهقي في شعب الإيمان عنه) أي عن ابن مسعود، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير، كلاهما من حديث الهيصم بن شداخ عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله ابن مسعود. قال البيهقي في الشعب تفرد به الهيصم عن الأعمش. وقال العقيلي: الهيصم مجهول، والحديث غير محفوظ. وقال ابن حبان: الهيصم يروي الطامات لا يجوز أن يحتج به. وقال الهيثمي: هو ضعيف جدا. وقال الحافظ ابن حجر: في أمالية: اتفقوا على ضعف الهيصم وعلى تفرد به (وعن أبي هريرة) وأخرجه أيضا ابن عدي وفي سنده عندهما سليمان بن أبي عبدالله التابعي الراوي عن أبي هريرة. قال العقيلي: سليمان مجهول. والحديث غير محفوظ قال السيوطي في التعقبات: واللآلى بعد ذكر كلام العقيلي قال الحافظ أبوالفضل العراقي في أمالية: حديث أبي هريرة قد ورد من طرق صحح بعضها الحافظ أبوالفضل بن ناصر وسليمان الذكور ذكره ابن حبان في الثقات، فالحديث حسن على رأيه - انتهى. قلت: سليمان هذا من رجال أبي داود روى له هو حديثا في حرم
وأبي سعيد، وجابر وضعفه.

(12/181)


المدينة. قال أبوحاتم: ليس بالمشهور فيعتبر بحديثه. وقال البخاري: وأبوحاتم أدرك المهاجرين والأنصار. وقال في التقريب: هو مقبول. قلت: وفي سنده أيضا عند ابن عدي حجاج بن نصير عن محمد بن ذكوان الأزدي الجهضمي وهما ضعيفان. قال البخاري وأبوحاتم والنسائي: محمد بن ذكوان منكر الحديث. ولأبي هريرة حديث آخر نحوه ذكره السيوطي في اللآلئ (ج2 ص62- 63) روى من وجه آخر ضمن حديث طويل. قال السيوطي: بعد ذكره موضوع ورجاله ثقات. والظاهر إن بعض المتأخرين وضعه وركبه على هذا الإسناد (وأبي سعيد) وأخرجه أيضا إسحاق بن راهويه في مسنده كلاهما من طريق عبدالله بن نافع عن أيوب بن سليمان ابن ميناء عن رجل عن أبي سعيد الخدري. قال الحافظ ابن حجر في أماليه: لو لا الرجل المبهم لكان إسنادا جيدا لكنه يقوي بما أخرجه الطبراني في الأوسط، من طريق محمد بن إسماعيل الجعفري عن عبدالله بن سلمة الربعي عن محمد بن عبدالله بن عبدالرحمن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد. قال الحافظ ابن حجر: الجعفري ضعفه أبوحاتم وشيخه، ضعفه أبوزرعة ورجال الإسناد كلهم مدنيون معروفون - انتهى. قلت: محمد بن إسماعيل الجعفري قال أبوحاتم إنه منكر الحديث، يتكلمون فيه. وقال أبونعيم الأصبهاني: متروك. وذكره ابن حبان في الثقات، وشيخه عبدالله بن سلمة الربعي. قال العقيلي وأبوزرعة: منكر الحديث. وقال أبوزرعة مرة متروك. (وجابر) أخرجه من طريق محمد بن يونس عن عبدالله بن إبراهيم الغفاري عن عبدالله بن أبي بكر ابن أخي محمد بن المنكدر عن محمد بن المنكدر عن جابر. قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف. وقال العراقي: ولحديث جابر طريق آخر على شرط مسلم أخرجها ابن عبدالبر في الاستذكار، من رواية محمد بن معاوية عن الفضل بن الحباب عن هشام ابن عبدالملك الطيالسي، عن شعبة عن أبي الزبير عن جابر. قال العراقي: هذا أصح طرق الحديث. وقال الحافظ في لسان الميزان (ج4 ص439- 440) هذا الحديث منكر جدا. ما

(12/182)


أدري من الآفة فيه. وشيوخ ابن عبدالبر الثلاثة موثوقون، وشيخهم محمد بن معاوية هو ابن الأحمر راوي السنن عن النسائي وثقه ابن حزم وغيره والظاهر إن الغلط فيه من أبي خليفة الفضل بن الحباب فلعل ابن الأحمر سمعه منه بعد احتراق كتبه - انتهى. وقد روى أيضا هذا من حديث ابن عمر عند الدارقطني في الأفراد. وقد ورد أيضا موقوفا على عمر أخرجه ابن عبدالبر بسند رجاله ثقات، لكنه من رواية ابن المسيب عنه. وقد اختلف في سماعه منه، ورواه البيهقي في الشعب من رواية إبراهيم بن محمد بن المنتشر. قال كان يقال من وسع على عياله - الحديث (وضعفه) أي البيهقي هذا الحديث. قلت: اختلفت العلماء في حديث التوسعة على العيال يوم عاشوراء فحكم جمع بالوضع، ومنهم ابن الجوزي وابن تيمية والعقيلي والزكشي، وحسنه بعضهم بكثرة طرقه مع القول بضعف أفرادها. ومنهم البيهقي ومن حذا حذوه. قال البيهقي في الشعب: بعد ذكر الحديث من رواية ابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر
1947-(45) وعن أبي أمامة: قال: قال أبو ذر: يا نبي الله! أرأيت الصدقة ماذا هي؟ قال: ((أضعاف مضاعفة، وعند الله المزيد)). رواه أحمد.
(7) باب أفضل الصدقة
?الفصل الأول?
1948، 1949- (1، 2) عن أبي هريرة، وحكيم بن حزام، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الصدقة ما كان عن ظهر غني،

(12/183)


فهذه الأسانيد وإن كانت ضعيفة، فهي إذا ضم بعضها إلى بعض أحدثت قوة- انتهى. وقد تقدم إن العراقي قد حسن حديث أبي هريرة من طريق سليمان بن أبي عبدالله، وصحح بعض طرقه أبوالفض بن ناصر وسبق أيضا إن العراقي قال: في حديث جابر عند ابن عبدالبر أنه على شرط مسلم. وإنه أصح طرقه، وحكم الحافظ ابن حجر بكوه منكرا. ومال السخاوي في المقاصد الحسنة إلى تحسين هذا الحديث. والسيوطي إلى أنه ثابت صحيح كما صرح به القاري في موضوعاته الكبير. والمعتمد عندي هو ما ذهب إليه البيهقي إن له طرقا بعضها بعضا، إن أسانيده الضعيفة أحدثت قوة بإلتضام والله تعالى أعلم.
1947- قوله: (أرأيت) أي أخبرني (الصدقة) بالرفع مبتدأ والخبر جملة (ماذا هي) أي أي شيء ثوابها (أضعاف) أي هي يعني ثوابها أضعاف أي من عشرة (مضاعفة) أي إلى سبعمائة (وعند الله المزيد) أي الزيادة تفضلا كما قال تعالى: ?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة?[يونس: 26] ونظيره قوله تعالى: ?وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما?[النساء:40] فقوله "من لدنه" أي من عنده تفضلا على تفضل. قال الطيبي: الجملة الاستفهامية خبر بالتأويل أي الصدقة أقول فيها ماذا هي، والسؤال عن حقيقة الصدقة لا يطابق الجواب بقوله أضعاف. لكنه وارد على أسلوب الحكيم أي لا تسأل عن حقيقتها، فإنها معلومة. وأسأل عن ثوابها ليرغبك فيها- انتهى. (رواه أحمد) (ج5 ص265) في حديث طويل وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير، وفي إسناده عندهما علي بن يزيد الإلهاني. وفيه كلام وثقه أحمد وابن حبان. قال البخاري: منكر الحديث. وقال الدارقطني: متروك. وقال أبوزرعة: ليس بقوى. ورواه أحمد أيضا عن أبي ذر نفسه (ج5 ص178- 179) وفيه أبوعمر الدمشقي وهو متروك. قاله الهيثمي.
(باب أفضل الصدقة)
1948- 1949-قوله: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غني) أي ما كان عفوا قد فضل عن غني والظهر
................................

(12/184)


قد يزاد في مثل هذا تمكينا وأشباعا للكلام كأن صدقته مستندة إلى ظهر قوى من المال. والمعنى أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غني يعتمده صاحبها ويستظهر به على مصالحه ونوائبه التي تنوبه لقوله في رواية أخرى أفضل الصدقة، ما ترك غني. وفي أخرى خير الصدقة ما أبقت غني، ونحوه قولهم ركب متن السلامة والتنكير في قوله غني للتعظيم. وقيل المعنى أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده وأبدأ بمن تعول، والمقصود إن خير الصدقة ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه أو لمن تلزمه نفقته. وقال القرطبي في المفهم: المختار إن معنى الحديث أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال، بحيث لا يصير المتصدق محتاجا بعد صدقته إلى أحد. فمعنى الغني في هذا الحديث، حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى وما هذا سبيله، فلا يجوز الإيثار به، بل يحرم وذلك إنه إذا آثر غيره به أدى إلى إهلاك نفسه أو الإضرار بها، أو كشف عورته، فمراعاة حقه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار، وكانت صدقته هي الأفضل لأجل ما يتحمله من مضض الفقر، وشدة مشقته فهذا تندفع به التعارض بين الأدلة - انتهى. وقيل ظهر غنى عبارة عن تمكن المتصدق عن غنى ما مثل قولهم هو على ظهر سير أي متمكن منه، وتنكير غنى ليفيد أن لا بد للمتصدق من غنى ما، أما غنى النفس وهو الاستغناء عما بذل بسخاوة النفس ثقة بالله تعالى كما كان من أبي بكر رضي الله عنه. وأما غنى المال الحاصل في يده، والأول أفضل اليسارين لقوله عليه الصلاة والسلام ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس. وإلا لا يستحب له أن يتصدق بجميع ماله، ويترك نفسه وعياله في الجوع والشدة. وقيل من للسببية والظهر زائد أي خير الصدقة ما كان سببها غنى في المتصدق. وقيل المراد خير

(12/185)


الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة أي أفضل الصدقة ما ترك غنى في المتصدق عليه بأن تجزل له العطية. وأعلم أنه أختلف العلماء في الصدقة بجميع المال. قال النووي: مذهبنا أنه مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال، لا يصبرون بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم يجتمع هذه الشروط فهو مكروه قال الطبري وغيره: قال الجمهور من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دين عليه، وكان صبورا على الإضافة ولا عيال له، أو له عيال يصبرون أيضا فهو جائز فإن فقد شيء من هذه الشروط كره. وقال بعضهم: هو مردود، وروى عن عمر حيث رد على غيلان الثقفي قسمة ماله، ويمكن أن يحتج له بقصة المدبر فإنه صلى الله عليه وسلم باعه وأرسل ثمنه إلى الذي دبره لكونه كان محتاجا، وقال آخرون: يجوز من الثلث، ويرد عليه الثلثان، وهو قول الأوزاعي ومكحول. وعن مكحول أيضا يرد ما زاد على النصف. قال الطبري: والصواب
وأبدأ بمن تعول)). رواه البخاري، ورواه مسلم عن حكيم وحده.
1950-(3) وعن أبي مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفق المسلم نفقة على أهله، وهو يحتسبها كانت له صدقة)).

(12/186)


عندنا الأول من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث جمعا بين قصة أبي بكر حيث تصدق بماله كله. وحديث كعب بن مالك حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك (وأبدأ بمن تعول) أي ابتدئ في الإنفاق والإعطاء بمن يلزمك نفقته من العيال، فإن فضل شيء فليكن للأجانب. يقال عال الرجل أهله إذا مانهم أي قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة، وهو أمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب. قال الحافظ: فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم وفيه الابتداء بالأهم فالأهم في الأمور الشرعية. وقال ابن المنذر: اختلف في نفقة من بلغ من الأولاد، ولا مال له ولا كسب، فأوجبت طائفة النفقة لجميع الأولاد، أطفالا كانوا، أو بالغين، إناثا وذكرانا. إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها. وذهب الجمهور إلى أن الواجب أن ينفق عليهم حتى يبلغ الذكر أو تتزوج الأنثى ثم لا نفقة على الأب إلا أن كانوا زمني. فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على الأب. والحق الشافعي ولد الولد، وإن سفل بالولد في ذلك- انتهى. (رواه البخاري) أي عنهما في الزكاة وروى عن أبي هريرة أيضا في النفقات، وأخرجه عنه أيضا أحمد وأبوداود، والنسائي والدارمي (ورواه مسلم) في الزكاة (عن حكيم وحده) وأخرجه أيضا أحمد (ج3 ص402- 434) والنسائي والدارمي.

(12/187)


1950- قوله: (إذا أنفق المسلم نفقة) حذف المقدار ليفيد التعميم أي أي نفقة كانت كبيرة أو صغيرة (على أهله) أي زوجته وولده، وأقاربه أو زوجته فقط. قال الحافظ: قوله "على أهله" يحتمل أن يشمل الزوجة والأقارب، ويحتمل أن يختص بالزوجة، ويلحق به من عداها بطريق الأولى، لأن الثواب إذا ثبت فيما هو واجب فثبوته فيما ليس بواجب أولى (وهو) أي والحال أنه (يحتسبها) أي يريد بها وجه الله تعالى بأن يتذكر أنه يجب عليه الإنفاق فينفق بنية أداء ما أمر به. قال الحافظ: المراد بالاحتساب القصد إلى طلب الأجر. وقال القرطبي: قوله "يحتسبها" أفاد بمنطوقه إن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة، سواء كانت واجبة، أو مباحة. وأفاد بمفهومه إن من لم يقصد القربة لم يؤجر لكن تبرأ ذمته من النفقة الواجبة. لأنها معقولة المعنى (كانت) أي النفقة (له صدقة) أي كالصدقة في الثواب لا حقيقة قال الحافظ: المراد بالصدقة الثواب، وإطلاقها على النفقة مجاز، وقرينته الإجماع على جواز الإنفاق على الزوجة الهاشمية مثلا، وهو من مجاز التشبيه. والمراد
متفق عليه.
1951-(4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك)). رواه مسلم.
1952-(5) وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله،

(12/188)


به أصل الثواب لا في كميته ولا كيفيته، ويستفاد منه إن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقرونا بالنية. وقال الطبري: ما ملخصه الإنفاق على الأهل واجب، والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة، وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوع. وقال المهلب: النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا إن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر فعرفهم أنها لهم صدقة، حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفرهم المؤنة ترغيبا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع. وقال ابن المنير: تسمية النفقة صدقة من جنس تسمية الصداق نحلة، فلما كان احتياج المرأة إلى الرجل كاحتياجه إليها في اللذة والتأنيس والتحصن، وطلب الولد كان الأصل أن لا يجب لها عليه شيء إلا أن الله تعالى خص الرجل بالفضل على المرأة وبالقيام عليها ورفعه عليها بذلك درجة، فمن ثم جاز إطلاق النحلة على الصداق والصدقة على النفقة (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان والمغازي والنفقات، ومسلم في الزكاة، واللفظ للبخاري في النفقات، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص120، 122، وج 5 ص273) والترمذي في البر، والنسائي في الزكاة، والدارمي في الاستئذان.
1951- قوله: (دينار) مبتدأ صفته (أنفقته) بصيغة الخطاب (في سبيل الله) أي في الغزو أو المراد به العموم يعني في سبيل الخير (في رقبة) أي في فكها أو إعتاقها. قال الطيبي: دينار وما عطف عليه مبتدأ، وخبره الجملة التي هي (أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك) فيه دليل على أن إنفاق الرجل على أهله أفضله من الإنفاق في سبيل الله، ومن الإنفاق في الرقاب ومن التصدق على المساكين. وإنما كان الإنفاق على الأهل، أفضل، لأنه فرض، والفرض أفضل من النفل، أو لأنه صدقة وصلة (رواه مسلم) في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد.

(12/189)


1952- قوله: (أفضل دينار) يراد به العموم أي أكثر الدنانير ثوابا إذا أنفقت (دينار بنفقة على عياله)…
ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله)). رواه مسلم.
1953-(6) وعن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله! إلي أجران أنفق على بني أبي سلمة، إنما بني. فقال: ((أنفقي عليهم فلك أجر ما أنفقت عليهم)). متفق عليه.
أي من يعوله وتلزمه مؤنته من نحو زوجة وولد وخادم، وهذا إذا نوى به وجه الله كما تقدم (على دابته) أي دابة مرطوبة (في سبيل الله) يعني التي أعدها للغزو عليها، وفي رواية ابن ماجه على فرس في سبيل الله (على أصحابه) أي حال كونهم مجاهدين (في سبيل الله) يعني على رفقته الغزاة. وقيل: المراد بسبيله كل طاعة. قال القاري: يعني الإنفاق على هؤلاء الثلاثة على الترتيب أفضل من الإنفاق على غيرهم ذكره ابن الملك. ولا دلالة في الحديث على الترتيب، لأن الواو لمطلق الجمع، إلا أن يقال الترتيب الذكرى الصادر من الحكيم لا يخلو عن حكمة، فالأفضل ذلك إلا أن يوجد مخصص. ولذا قال عليه الصلاة والسلام: إبدؤا بما بدأ الله تعالى: ?إن الصفا والمروة من شعائر الله?[البقرة:158]- انتهى. (رواه مسلم) في الزكاة، وفي آخره. قال أبوقلابة: (أي راوي الحديث) بدأ بالعيال، ثم قال أبوقلابة: وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم الله به ويغنيهم، وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص277، 279، 284) والترمذي في البر وابن ماجه في الجهاد.

(12/190)


1953- قوله: (وعن أم سلمة) بفتح السين واللام أم المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - (إلى) بسكون الياء وفتحها أي هل لي (أجر إن أنفق) بفتح الهمزة أي في إنفاقي (على بني أبي سلمة) أبوسلمة هذا هو عبدالله بن عبدالأسد، وكان زوج أم سلمة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده، ولها من أبي سلمة أولاد سلمة، وعمر، ومحمد، وزينب، ودرة (إنما هم بني) منه بفتح الموحدة وكسر النون وتشديد الياء، وأصله بنون، فلما أضيف إلى ياء المتكلم سقطت نون الجمع فصار بنوى، فاجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بسكون فأدغمت الواو بعد قلبها ياء في الياء، فصار بني بضم النون وتشديد الياء، ثم أبدلت الضمة كسرة لأجل الياء فصار بني (أنفقي عليهم) بفتح الهمزة وكسر الفاء (فلك أجر ما أنفقت عليهم) قال الحافظ: رواه الأكثر بالإضافة على أن تكون "ما" موصولة وجوز أبوجعفر الغزناطي نزيل حلب تنوين أجر على أن تكون "ما" ظرفية – انتهى. والحديث ترجم له البخاري باب الزكاة على الزوج، والأيتام في الحجر. قال الحافظ: ليس في حديث أم سلمة تصريح بأن الذي كانت تنفقه عليهم من الزكاة، فكان القدر المشترك من الحديث حصول الإنفاق على الأيتام- انتهى. (متفق عليه) أخرجاه في الزكاة واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا أحمد (ج6 ص292، 310، 314) .

(12/191)


1954-(7) وعن زينب امرأة عبدالله بن مسعود، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تصدقن يا معشر النساء! ولو من حليكن. قالت: فرجعت إلى عبدالله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالصدقة. فأته فأسأله، فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفتها إلى غيركم؟ قالت: فقال لي عبدالله: بل إئتيه أنت. قالت: فانطلقت، فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حاجتي حاجتها قالت: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألقيت عليه المهابة، فقالت: فخرج علينا بلال، فقلنا له: إئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أن أمرأتين بالباب تسألانك: أتجزيء الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟

(12/192)


1954- قوله: (يا معشر النساء) أي جماعتهن (ولو من حليكن) بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء جمعا ويجوز فتح الحاء وسكون اللام مفردا (فرجعت إلى) زوجي (عبدالله) بن مسعود (إنك رجل خفيف ذات اليد) كناية عن الفقر أي قليل المال (قد أمرنا بالصدقة) أي بإعطاءها أو بالتصدق (فأته) أي فأحضره (فأسأله) وفي بعض النسخ فسله، وفي رواية للبخاري، وكانت زينب تنفق على عبدالله، وأيتام في حجرها. فقالت: لعبدالله سل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيجزئ عني أن أنفق عليك، وعلى أيتام في حجري من الصدقة. قال الحافظ: لم أقف على تسمية الأيتام الذين كانوا في حجرها (فإن كان ذلك) أي التصدق عليك (يجزئ) بضم الياء وآخره همزة أي يكفي، وفي بعض النسخ يجزي بفتح الياء وكسر الزاي وسكون الياء أي يغني ويقضي (عني) أي تصدقت عليكم (وإلا) أي وإن لم تجزئني (صرفتها) أي عنكم (إلى غيركم) من المستحقين (بل إئتيه أنت) قيل: لعل امتناعه لأن سؤاله ينبئ عن الطمع (فإذا امرأة من الأنصار) أي واقفة وحاضرة (بباب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قيل: اسم هذه المرأة الأنصارية زينب امرأة أبي مسعود يعني عقبة بن عمرو الأنصاري كما عند ابن الأثير في أسد الغابة، وفي رواية النسائي فإذا امرأة من الأنصار يقال لها زينب (حاجتي حاجتها) مبتدأ وخبر أي عينها أو تشبيه بليغ وفي رواية للبخاري حاجتها مثل حاجتي (قالت) أي زينب (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألقيت) بصيغة المجهول (عليه المهابة) بفتح الميم أي أعطى الله رسوله هيبة وعظمة يهابه الناس ويعظمونه، ولذا ما كان أحد يجترئ على الدخول عليه. قال الطيبي: كان دل على الاستمرار، ومن ثم كان أصحابه في مجلسه كأن على رؤوسهم الطير، وذلك عزة منه عليه الصلاة والسلام لأكبر وسوء خلقه، وإن تلك العزة ألبسها الله تعالى إياه - صلى الله عليه وسلم - لا من تلقاء نفسه (فخرج علينا بلال) المؤذن (في حجورهما) بضم الحاء حجر

(12/193)


بالفتح والكسر
ولا تخبره من نحن. قالت: فدخل بلال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من هما؟ قال: امرأة من الأنصار وزينب. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الزيانب؟ قال امرأة عبدالله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لهما أجران أجر القرابة، وأجر الصدقة)).
يقال فلان في حجر فلان أي في كنفه ومنعه، والمعنى في تربيتهما. وفي رواية الطيالسي أنهم بنو أخيها وبنو أختها (ولا تخبره) بجزم الراء (من نحن) أي لا تعين اسمنا بل قل تسألك امرأتان إرادة الإخفاء مبالغة في نفي الرياء أو رعاية للأفضل، وهذا أيضا يصلح أن يكون وجها لعدم دخولهما. وقيل: المعنى لا تخبره أي بلا سؤال وإلا فعند السؤال يجب الإخبار فلا يمكن المنع عنه ولذلك أخبر بلال بعد السؤال (من هما) أي المرأتان (قال) أي بلال مخبرا عنهما ومعينا لإحداهما لوجوبه عليه بطلب الرسول، واستخباره عليه الصلاة والسلام (امرأة من الأنصار وزينب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الزيانب) أي أي زينب منهن فعرف باللام مع كونه علما لما نكر حتى جمع. قال ابن الملك: وإنما لم يقل آية لأنه يجوز التذكير والتأنيث. قال الله تعالى: ?وما تدري نفس بأي أرض تموت?[لقمان:34] انتهى. (قال) بلال زينب (امرأة عبدالله) بن مسعود ولم يذكر بلال في الجواب معها زينب امرأة أبي مسعود الأنصاري اكتفاء باسم من هي أكبر وأعظم (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) نعم يجزي عنهما (لهما) أي لكل منهما (أجران أجر القرابة) أي أجر، وصلها (وأجر الصدقة) أي أجر منفعة الصدقة وهذا ظاهره إن زينب امرأة عبدالله لم تشافهه بالسؤال ولا شافهها بالجواب، وحديث أبي سعيد عند البخاري في باب الزكاة على الأقارب يدل على أنها شافهته وشافهها لقولها فيه يا نبي الله!! إنك أمرت، وقوله فيه صدق زوجك. فقيل: تحمل هذه المراجعة على المجاز، وإنما كانت

(12/194)


على لسان بلال، ويحتمل أن تكونا قضيتين إحداهما في سؤالهما عن تصدقها بحيلها على زوجها وولده، والأخرى في سؤالها عن النفقة واستدل بهذا الحديث على جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها وهو قول الشافعي والثوري وصاحبي أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وعن أحمد، ومنعه أبوحنيفة ومالك وأحمد في رواية. والحديث إنما يتم دليلا للقول الأول بعد تسليم إن هذه الصدقة صدقة واجبة. وبذلك جزم المازري، ويؤيد ذلك قولها أيجزئ عني، وعليه يدل تبويب البخاري بلفظ: باب الزكاة على الزوج والأيتام وقد تعقب القاضي عياض المازري بأن قوله ولو من حليكن، وقوله فيما ورد في بعض الروايات عند الطحاوي وغيره إنها كانت امرأة صنعاء اليدين فكانت تنفق عليه وعلى ولده، يدلان على أنها صدقة
متفق عليه، واللفظ لمسلم.

(12/195)


تطوع، وبه جزم النووي وغيره وتألوا قوله أيجزئ عني أي في الوقاية من النار كأنها خافت إن صدقتها على زوجها لا تحصل لها المقصود. قال ابن الهمام: الأجزاء وإن كان في عرف الفقهاء الحادث لا يستعمل غالبا إلا في الواجب لكن كان في ألفاظهم لما هو أعم من النفل لأنه لغة الكفاية فالمعنى، هل يكفي التصدق عليه في تحقيق مسمى الصدقة، وتحقيق مقصودها من التقرب إلى الله تعالى. واحتجوا أيضا على أنها صدقة تطوع بما في البخاري من حديث أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: لها زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم. قالوا: لأن الولد لا يعطي من الزكاة الواجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره فعلم أنها صدقة تطوع وتعقب هذا بأن الذي يمتنع إعطاءه من الصدقة الواجبة من تلزم المعطى نفقته والأم لا يلزمها نفقة ابنها مع وجود أبيه. وبأن قوله وولدك محمول على أن الإضافة للتربية لا للولادة فكأنه ولدها من غيرها كما يشعر به ما وقع في رواية أخرى على زوجها وأيتام في حجرها وسموا أيتاما، باعتبار اليتم من الأم وأجيب عن الأول بأن الأم يلزمها نفقة ولدها إذا كان أبوه فقيرا عاجزا عن التكسب جدا عند الحنفية، وعن الثاني بأنه خلاف الظاهر وأما الرواية الأخرى فالظاهر إنها قضية أخرى كما تقدم واحتج لأبي حنيفة على منع إعطاءها زكاتها لزوجها بأنها تعود إليها بالنفقة فكأنها ما خرجت عنها ورد هذا بأنه يلزمه منع صرفها صدقة التطوع في زوجها الاحتمال الرجوع مع أنه يجوز صرفها فيه اتفاقا. والظاهر عندي أنه يجوز لها دفع زكاتها إلى زوجها لدخول الزوج في عموم الأصناف المسلمين في الزكاة، وليس في المنع نص، ولا إجماع ولا قياس صحيح. قال الشوكاني: الظاهر أنه يجوز صرف زكاتها إلى زوجها. وأما أولا، فلعدم المانع من ذلك ومن قال أنه لا يجوز فعليه الدليل. وأما ثانيا، فلأن ترك استفصاله - صلى الله عليه وسلم - لها ينزل منزلة العموم فلما لم يستفصلها عن

(12/196)


الصدقة هل هي تطوع أو واجب، فكأنه قال يجزئ عنك فرضا كان أو تطوعا- انتهى. وهكذا ذكر الحافظ في الفتح. ثم قال: وأما ولدها فليس في الحديث تصريح بأنها تعطي ولدها من زكاتها بل معناه إنها إذا أعطت زوجها فأنفقه على ولدها كانوا أحق من الأجانب فالإجزاء يقع بالإعطاء للزوج، والوصول إلى الولد بعد بلوغ الزكاة محلها- انتهى. وأما الزوج فاتفقوا على أنه لا يجوز له صرف صدقة واجبة في زوجته. قالوا: لأن نفقتها واجبة عليه فتستغني بها عن الزكاة ذكره ابن المنذر كما في المغني والفتح. قال الأمير اليماني: وعندي فيه توقف لأن غنى المرأة بوجوب النفقة على زوجها لا يصيرها غنية الغني الذي يمنع من الزكاة لها- انتهى. وقوله وولدك في حديث أبي سعيد يدل على أجزاء الزكاة في الولد إلا أنه أدعي ابن المنذر الإجماع على عدم جواز صرفها إلى الولد. وحملوا الحديث على أنه في غير الواجبة أو إن الصرف إلى الزوج وهو المنفق على الأولاد أو أنهم لم يكونوا منها من غيرها، والإضافة إليها للتربية (متفق عليه) أخرجاه في الزكاة وأخرجه
1955-(8) وعن ميمونة بنت الحارث: أنها أعتقت وليدة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)). متفق عليه.
1956-(9) وعن عائشة، قالت: يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: ((إلى أقربهما منك
أيضا أحمد (ج6 ص363) والنسائي في الزكاة، وأخرجه ابن ماجه فيه مختصرا جدا.

(12/197)


1955- قوله: (وعن ميمونة بنت الحارث) أم المؤمنين الهلالية (إنها أعتقت وليدة) أي أمة وللنسائي إنها كانت لها جارية سوداء. قال الحافظ: ولم أقف على إسمها (في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ولم تستأذنه (فذكرت ذلك) أي الاعتقاق (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) هذا لفظ مسلم، وفي رواية البخاري فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت يا رسول الله! إني أعتقت وليدتي قال أو فعلت قالت نعم (لو أعطيتها) بكسر التاء (أخوالك) باللام جمع الخال وأخوالها كانوا من بني هلال أيضا وإسم أمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث. قال العيني: وقع في رواية الأصيلي للبخاري أخواتك بالتاء بدل اللام. قال عياض: ولعله أصح من رواية أخوالك بدليل رواية مالك في المؤطا فلو أعطيتها أختيك ولا تعارض فيحتمل أنه عليه الصلاة والسلام. قال: ذلك كله (كان) إعطائك لهم (أعظم لأجرك) من عتقها ومفهومه إن الهبة لذوي الرحم أفضل من العتق كما قاله ابن بطال، ويؤيده حديث سلمان بن عامر الآتي لكن ليس ذلك على إطلاقه بل يختلف باختلاف الأحوال. وقد وقع في رواية النسائي بيان وجه الأفضلية في إعطاء الأخوال، وهو احتياجهم إلى من يخدمهم. ولفظه أفلا فديت بها بنت أختك من رعاية الغنم على أنه ليس في حديث الباب نص على أن صلة الرحم أفضل من العتق؛ لأنها واقعة عين فالحق إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال كما قررنا. وفي الحديث فضيلة صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب وفيه الإعتناء بالأقارب الأم إكراما لحقها، وهو زيادة في برها، وفيه جواز تبرع المرأة بمالها بغير إذن زوجها إذا كانت رشيدة (متفق عليه) أخرجه البخاري في الهبة ومسلم في الزكاة، واللفظ لمسلم وأخرجه أيضا أحمد (ج6 ص332) وأبوداود في الزكاة والحاكم (ج1 ص415) والنسائي في الكبرى.

(12/198)


1956- قوله: (فإلى أيهما أهدي) بضم الهمزة من الإهداء يعني أولا، وفي رواية أبي داود بأيهما ابدأ (إلى أفقربهما منك) من متعلقة بالقرب في أقرب لا صلة التفضيل؛ لأن أفعل التفضيل قد أضيف فلا يجمع بين الإضافة،
بابا)). رواه البخاري.
1957 -(10) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك)). رواه مسلم.
و"من" المتعلقة بأفعل التفضيل (بابا) نصب على التمييز أي أشدهما قربا.قيل: الحكمة فيه إن الأقرب يرى ما يدخل في بيت جاره من هدية وغيرها يعني أنه أكثر اختلاطا أو أظهر إطلاعا فيتشوف لها بخلاف إلا بعد، وإن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات وينوبه من النوائب، ولاسيما في أوقات الغفلة بديء به على من بعد. وفي الحديث الاعتبار في الجوار بقرب الباب لأقرب الجدار. قال ابن أبي جمرة: الإهداء إلى الأقرب مندوب، لأن الهدية في الأصل ليست واجبة، فلا يكون الترتيب فيها واجبا. ويؤخذ منه إن العمل بما هو أعلى أولى. قلت: ليس المراد من الحديث إنحصار الإهداء إلى الأقرب كما هو ظاهر الحديث، بل المراد إن الجار الأقرب أنسب بالإبتداء أو بمزيد الإحسان، لقوله تعالى: ?والجار ذي القربى والجار الجنب?[النساء:36] ولحديث أبي ذر الآتي واختلف في حد الجوار فجاء عن علي رضي الله عنه: من سمع النداء فهو جار، وعن عائشة: حد الجوار أربعون دارا من كل جانب، وعن كعب بن مالك عند الطبراني بسند ضعيف مرفوعا إلا أن الأربعين دارا جار، وأخرج ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أربعون دارا عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه. وهذا يحتمل كالأولى ويحتمل أن يريد التوزيع فيكون من كل جانب عشرة (رواه البخاري) في الشفعة وفي الهبة وفي الأدب، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود في الأدب.

(12/199)


1957- قوله: (إذا طبخت) بفتح الباء (مرقة) أي فيها لحم أو لا والمرقة بالتحريك وكذا المرق الماء الذي أغلي فيه اللحم أو غيره كالسلق وغيره (فأكثر) أمر من الإكثار (ماءها) أي على المعتاد لنفسك (وتعاهد جيرانك) بكسر الجيم وسكون الياء جمع الجار يعني أعط جيرانك من ذلك الطبيخ نصيبا يعني لا تجعل ماء قدرك قليلا فإنك حينئذ لا تقدر على تعهد جيرانك بل اجعل ماء قدرك كثير التبلغ نصيبا منه إلى جيرانك، وإن لم يكن لذيذا قاله المظهر. وقال التوربشتي: قوله تعهد جيرانك أي تفقدهم بزيادة طعامك وجدد عهدك بذلك، وتحفظ به حق الجوار. والتعهد التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، والتعاهد ما كان بين اثنين من ذلك، يقال تعاهد الشيء وتعهده واعتهده، أي تحفظ به وتفقده وجدد العهد به (رواه مسلم) في البر وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص149) والترمذي وابن ماجه في الأطعمة وابن حبان بألفاظ مختلفة متقاربة.
?الفصل الثاني?
1958-(11) عن أبي هريرة، قال: يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقل، وابدأ بمن تعول)). رواه أبوداود.
1959-(12) وعن سليمان بن عامر،

(12/200)


1958- قوله: (أي الصدقة أفضل قال جهد المقل) بضم الميم وكسر القاف من الإقلال أي قليل المال يقال أقل الرجل أي قل ماله وافتقر. قال في النهاية: الجهد بالضم الوسع والطاقة، وبالفتح المشقة. وقيل: المبالغة والغاية. وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة. فأما في المشقة والغاية فالفتح لا غير، ومن المضموم حديث الصدقة أي الصدقة أفضل. قال: جهد المقل أي قدر ما يحتمله حال القليل المال - انتهى. والجمع بينه وبين ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، إن الفضيلة متفاوتة بحسب الأشخاص وقوة التوكل وضعف اليقين. قال البيهقي (ج4 ص180) يختلف ذلك باختلاف أحوال الناس في الصبر على الشدة والفاقة والاكتفاء بأقل الكفاية، وساق أحاديث تدل على ذلك. وقال ابن الملك: أي أفضل الصدقة ما قدر عليه الفقير الصابر على الجوع أن يعطيه، والمراد بالغني في قوله خير الصدقة ما كان عن ظهر عني من لا يصبر على الجوع والشدة توفيقا بينهما، فمن يصبر فالإعطاء في حقه أفضل، ومن لا يصبر فالأفضل في حقه أن يمسك قوته، ثم يتصدق بما فضل - انتهى. وقال الشوكاني: بعد ذكر المعارضة بين الحديثين، ويؤيد هذا المعنى أي حديث جهد المقل قوله تعالى: ?ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة?[الحشر:9] ويؤيد الأول حديث الظهر قوله تعالى: ?ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط?[الإسراء:29] ويمكن الجمع بأن الأفضل لمن كان يتكفف الناس إذا تصدق بجميع ماله أن يتصدق عن ظهر غني، والأفضل لمن يصبر على الفاقة أن يكون متصدقا بما يبلغ إليه جهده، وإن لم يكن مستغنيا عنه. ويمكن أن يكون المراد بالغني غني النفس، كما في حديث أبي هريرة عند الشيخين ليس الغني عن كثرة العرض ولكن الغني عن النفس - انتهى. (رواه أبوداود) في الزكاة وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي، وأخرجه البيهقي (ج4 ص180) من طريق

(12/201)


الحاكم.
1959- قوله: (وعن سليمان بن عامر) كذا في جميع النسخ الحاضرة مصغرا وهو خطأ من النساخ، والصواب سلمان مكبرا، هكذا وقع في جميع الأصول وكتب الرجال وليس في الصحابة أحد اسمه سليمان بن عامر بالتصغير، وسلمان هذا هو سلمان بن عامر بن أوس بن حجر بن عمرو بن الحارث الضبي صحابي، سكن البصرة،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة)). رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي.
1960- (13) وعن أبي هريرة، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عندي دينار قال: ((أنفقه على نفسك، قال عندي آخر. قال: أنفقه على ولدك،

(12/202)


وكان في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - شيخا عاش إلى خلافة معاوية. قال الدولابي: قتل يوم الجمل وهو ابن مائة سنة، روى عنه محمد وحفصة ابنا سيرين وابنة أخيه الرباب أم الرائح بنت صليع بن عامر، وحفيده عبدالعزيز بن بشر بن سلمان. قال مسلم: ليس في الصحابة ضبي غيره كذا نقله ابن الأثير وأقره هو ومن تبعه، وقد وجد في الصحابة جماعة ممن لهم صحبة، أو اختلف في صحتهم من بني ضبة، منهم يزيد بن نعامة الضبي جزم البخاري بأن له صحبة وكدير الضبي مختلف في صحبته وحنظلة بن ضرار الضبي. قال ميرك: قوله سليمان بن عامر صوابه سلمان مكبرا، بلا ياء، وسليمان سهو من الكتاب أو من صاحب الكتاب والله أعلم بالصواب - انتهى. قلت: الظاهر إن الخطأ من الكتاب فإن المؤلف قال في الصحابة: سلمان بن عامر هو سلمان بن عامر الضبي عداده في البصريين. قال بعض أهل العلم: ليس في الصحابة من الرواة ضبي غيره - انتهى كلامه. وقد ذكره بعد سلمان الفارسي فدل على أن السهو ههنا من الكتاب، لأنه لو كان من صاحب الكتاب لذكره في عداد سليمان قبل سلمة بن الأكوع (الصدقة على المسكين الخ) إطلاقه يشمل الفرض والندب فيدل على جواز أداء الزكاة إلى القرابة مطلقا. قال الشوكاني: قد استدل بالحديث على جواز صرف الزكاة إلى الأقارب سواء كان ممن تلزم لهم النفقة أم لا، لأن الصدقة المذكورة فيد لم تقيد بصدقة التطوع، ولكنه قد تقدم عن ابن المنذر أنه حكى الإجماع على عدم جواز صرف الزكاة إلى الأولاد - انتهى. (صدقة) أي واحدة (وهي على ذي الرحم) أي ذي القرابة (ثنتان) أي صدقتان اثنتان يعني ففيهما أجران فهذا حث على التصدق على الرحم والاهتمام به. (صدقة وصلة) يعني إن الصدقة على الأقارب أفضل؛ لأنه خيران، ولا شك أنهما أفضل من واحد. قال العزيزي: لكن هذا غالبي، وقد يقتضي الحال العكس (رواه أحمد) (ج4 ص17، 18، 214) (والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي) أخرجوه في الزكاة (ج3 ص116،

(12/203)


117).
1960- قوله: (جاء رجل) لم يعرف اسمه (عندي دينار) أي وأريد أن أنفقه (أنفقه على نفسك) وفي رواية: تصدق بدل أنفق، وكذا فيما بعده أي أقض به حوائج نفسك (قال عندي آخر قال أنفقه على ولدك) فيه دليل على أنه يلزم الأب نفقة ولده المعسر، فإن كان الولد صغيرا فذلك إجماع، وإن كان كبيرا ففيه اختلاف
قال عندي آخر، قال: أنفقه على أهلك، قال عندي آخر، قال: أنفقه على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أعلم)). رواه أبوداود، والنسائي.
1961-(14) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم

(12/204)


كما تقدم (قال عندي آخر قال أنفقه على أهلك) أي زوجتك كما في رواية قال الطيبي: إنما قدم الولد على الزوجة لشدة افتقاره إلى النفقة بخلافها، فإنه لو طلقها لأمكنها أن تتزوج بآخر. وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص81) هذا الترتيب إذا تأملته علمت أنه - صلى الله عليه وسلم - قدم الأولى فالأولى والأقرب. وهو أنه أمره بأن يبدأ بنفسه ثم بولده؛ لأن ولده كبعضه فإذا ضيعه هلك، ولم يجد من ينوب عنه في الإنفاق عليه، ثم ثلث بالزوجة وأخرها عن درجة الولد؛ لأنه إذ لم يجد ما ينفق عليها فرق بينهما، وكان لها من يمونها من زوج أو ذي رحم تجب نفقتها عليه. ثم ذكر الخادم؛ لأنه يباع عليه إذا عجز عن نفقته فتكون النفقة على من يبتاعه ويملكه. ثم قال له فيما بعد أنت أبصر أي أن شئت تصدقت وإن شئت أمسكت - انتهى. قلت: اختلفت الرواية في تقديم الولد على الزوجة فقدمه عليها في رواية الشافعي، وأبي داود والحاكم، وقدم الزوجة على الولد في رواية أحمد والنسائي وابن حبان قال ابن حزم: اختلف يحيى القطان والثوري (عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة) فقدم يحيى الزوجة على الولد، وقدم سفيان الولد على الزوجة فينبغي أن لا يقدم أحدهما على الأخر بل يكونان سواء، لأنه قدم صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تكلم تكلم ثلاثا، فيحتمل أن يكون في إعادته إياه، مرة قدم الولد، ومرة قدم الزوجة، فسار سواء. قال الحافظ في التلخيص: (ص334) بعد ذكر كلام ابن حزم. قلت: وفي صحيح مسلم من رواية جابر تقديم الأهل على الولد من غير تردد فيمكن أن ترجح به إحدى الروايتين - انتهى. ولفظ حديث جابر عند مسلم قال: إبدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلا هلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك الخ. قال الشوكاني: يمكن ترجيح تقديم الزوجة على الولد بما وقع من تقديمها. في حديث جابر (أنت أعلم) بحال من يستحق الصدقة من أقاربك وجيرانك وأصحابك (رواه أبوداود والنسائي) في

(12/205)


الزكاة لكن اللفظ المذكور ليس لواحد منهما ولم أجد هذا اللفظ في مسند الإمام أحمد والمستدرك للحاكم أيضا، نعم ذكره بهذا اللفظ البغوي في المصابيح، وتبعه المصنف في ذلك. والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج2 ص251، 471) والشافعي وابن حبان والحاكم (ج1 ص451) وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في إسناده محمد بن عجلان، وقد تقدم الكلام عليه وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي وسكت عليه الحافظ في التلخيص وبلوغ المرام.
1961- قوله: (ألا) حرف تنبيه (أخبركم) استئناف ويحتمل أن يكون "ألا" مركبا من "لا"
بخير الناس؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، ألا أخبركم بالذي يتلوه؟ رجل معتزل في غنيمة له يؤدي حق الله فيها.

(12/206)


النافية واستفهام التقرير، ويكون لفظ بلى مقدرا. قال الباجي: وقد علن أنهم يوردون ذلك على سبيل التنبيه لهم على الإصغاء إليه والإقبال على ما يخبر به والتفرغ لفهمه (بخير الناس) أي بمن هو من خير الناس، وكذلك قوله "بشر الناس" أي بمن هو من شر الناس. وقيل: أطلق للمبالغة في الحث على الأول والتحذير الثاني، وفي الموطأ ألا أخبركم بخير الناس منزلا. قال الباجي: أي أكثرهم ثوابا وأرفعهم درجة. قال عياض: وهذا عام مخصوص وتقديره من خير الناس، وإلا فالعلماء الذين حملوا الناس على الشرائع والسنن وقادوهم إلى الخير أفضل وكذا الصديقون كما جاءت به الأحاديث ويؤيده إن في رواية للنسائي: إن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله على ظهر فرسه بمن التي للتبعيض - انتهى. قال الحافظ وفي رواية للحاكم (ج2 ص71) سئل أي المؤمنين أكمل إيمانا، قال: الذي يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله الخ. وكأن المراد بالمؤمن من قام بما تعين عليه القيام به، ثم حصل هذه الفضيلة، وليس المراد من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية، وحينئذ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى، ولما فيه من النفع المتعدي (رجل) بالرفع على تقدير هو وبالجر على البدلية (ممسك) صفة رجل (بعنان) بكسر العين لجام (فرسه) وفي رواية آخذ برأس فرسه (في سبيل الله) وفي الموطأ رجل آخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله. قال الباجي: يريد والله أعلم أنه مواظب على ذلك ووصفه بأنه آخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله بمعنى أنه لا يخلو في الأغلب من ذلك راكبا له، أو قائدا معظم أمره ومقصوده من تصرفه فوصف بذلك جميع أحواله، وإن لم يكن آخذا بعنان فرسه في كثير منها - انتهى. (بالذي يتلوه) أي يتبعه ويقربه في الخيرية، وفي رواية بالذي يليه، وفي الموطأ ألا أخبركم بخير الناس منزلا بعده. قال الباجي وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل المنازل ونص عليها ورغب فيها من قوى

(12/207)


عليها وأخبر بعد ذلك من قصر عن هذه الفضيلة وضعف عنها، فليس كل الناس يستطيع الجهاد ولا يقدر على أن يكون آخذا بعنان فرسه فيه، ففي الناس ضعيف والكبير وذو الحاجة والفقير (رجل معتزل) أي متباعد عن الناس منفرد عنهم إلى موضع خال من البوادي والصحاري (في غنيمة له) أي مثلا وهو تصغير غنم وهو مؤنث سماعي ولذلك صغرت بالتاء، والمراد قطعة غنم (يؤدي حق الله فيها) وفي رواية مالك: يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا. وللدارمي والنسائي: معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس. قال الباجي: فمنزلة هذا منزلة بعد منزلة المجاهد من أفضل المنازل لأداء الفرائض وإخلاصه لله تعالى العبادة وبعده عن الرياء والسمعة. إذا خفي ولم يكن ذلك شهرة له، ولأنه لا يؤذي أحدا ولا يذكره ولا تبلغ درجته درجة المجاهد، لأن المجاهد يذب عن المسلمين
ألا أخبركم بشر الناس؟ يسأل بالله ولا يعطي به)). رواه الترمذي، والنسائي، والدارمي.
1962-(15) وعن أم بجيد، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ردوا السائل ولو بظلف محرق

(12/208)


ويجاهد الكافرين حتى يدخلهم في الدين فيتعدى فضله إلى غيره ويكثر الانتفاع به، وهذا المعتزل لا يتعدى نفعه إلى غيره. وفي حديث أبي سعيد عند البخاري. قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، قالوا: ثم من؟ قال مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله، ويدع الناس من شره قال الحافظ: وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة، لأن الذي يخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا، ففيه فضل العزلة والإنفراد لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك. لكن قال الجمهور محل ذلك عند وقوع الفتن، لحديث الترمذي مرفوعا: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم. ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: يأتي الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير، رواه مسلم، وللترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي هريرة، إن رجلا مر بشعب فيه عيينة من ماء عذبة أعجبته فقال: لو أعتزلت ثم استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقال لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما. وقال النووي: في الحديث دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الخلة، وفي ذلك خلاف مشهور، فمذهب الشافعي وأكثر العلماء إن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف من الزهاد إن إلاعتزال أفضل. واستدلوا بالحديث. وأجاب الجمهور بأنه محمول على زمان الفتن والحروب أو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر على أذاهم، وقد كانت الأنبياء صلوات الله عليهم. وجماهير الصحابة والتابعين، والعلماء والزهاد، مختلطين، ويحصلون منافع الاختلاط بشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المريض وحلق الذكر وغير ذلك

(12/209)


- انتهى. قال ابن عبدالبر: إنما وردت الأحاديث بذكر الشعب والجبل؛ لأن ذلك في الأغلب يكون خاليا من الناس، فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في المعنى (رجل يسأل بالله ولا يعطي به) سبق بيان معناه في الفصل الثالث من باب الإنفاق (رواه الترمذي) أخرجه الترمذي في فضائل الجهاد وحسنه والنسائي في الزكاة والدارمي في الجهاد. واللفظ للترمذي وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص237، 319، 322) وابن حبان في صحيحه، كلهم من حديث عطاء بن يسار عن ابن عباس، ورواه مالك في الجهاد عن عبدالله بن عبدالرحمن بن معمر الأنصاري عن عطاء بن يسار مرسلا.
1962- قوله: (ردوا) بضم الراء أمر من الرد أي أعطوا (السائل) هذا لفظ النسائي، وفي الموطأ ردوا المسكين (ولو بظلف محرق) أي لا تجعلوا السائل محروما بل أعطوه ولو كان ظلفا محرقا يعني تصدقوا
رواه مالك، والنسائي، وروى الترمذي، وأبوداود معناه.
1963- (16) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من استعاذ منكم بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوا فادعوها له حتى تروا
بما تيسر وإن قل (رواه مالك) في باب المساكين من كتاب الجامع من الموطأ، عن زيد بن أسلم عن ابن بجيد الأنصاري ثم الحارثي (اسمه محمد) عن جدته (والنسائي) في باب رد السائل من كتاب الزكاة من طريق مالك، وكذا أحمد (ج6 ص435) (وروى الترمذي وأبوداود معناه) وكذا الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي، وقد تقدم في الفصل الثالث من باب الإنفاق.

(12/210)


1963- قوله: (من استعاذ منكم بالله) كذا في جميع النسخ الحاضرة، ووقع في المصابيح من استعاذكم بالله، وهكذا في مسند الإمام أحمد (ج2 ص99) وسنن أبي داود في الأدب والمستدرك للحاكم (ج1 ص412) والبيهقي في الزكاة (ج4 ص199) ولأبي داود فيه وللنسائي من استعاذ بالله، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10 ص318) وكذا وقع في المسند (ج1 ص68، 127) (فأعيذوه) أي إذا طلب أحد منكم أن تدفعوا عنه شركم أو غيركم بالله، مثل أن يقول يا فلان بالله عليك، أو أسألك بالله أن تدفعني شر فلان أو أحفظني من فلان، فأجيبوه واحفظوه لتعظيم اسم الله. قال الطيبي: أي من استعاذ بكم وطلب منكم دفع شركم أو شر غيركم عنه قائلا بالله أن تدفع عني شرك، فأجيبوه وادفعوا عنه الشر تعظيما لاسم الله تعالى، فالتقدير من استعاذ منكم متوسلا بالله مستعطفا به، ويحتمل أن تكون الباء صلة استعاذ أي من استعاذ بالله فلا تتعرضوا له، بل أعيذوه وادفعوا عنه الشر فوضع أعيذوا موضع أدفعوا ولا تتعرضوا مبالغة (ومن سأل) هذا لفظ أبي داود وفي رواية أحمد والنسائي والحاكم ومن سألكم (بالله فأعطوه) أي إن وجدتم يعني تعظيما لاسم الله وشفقة على خلق الله، وزاد النسائي ومن استجار بالله فأجيروه (ومن دعاكم فأجيبوه) وجوبا إن كان لوليمة عرس، وندبا في غيرها. وقيل: يجب الإجابة مطلقا، وهذا إن لم يكن مانع شرعي (ومن صنع إليكم معروفا) أي أحسن إليكم إحسانا قوليا أو فعليا (فكافئوه) بمثله أو خير منه من المكافأة مهموز اللام وهي المجازاة أي أحسنوا إليه مثل ما أحسن إليكم أو خيرا منه (فإن لم تجدوا ما تكافئوه) أي بالمال، والأصل تكافئون فسقط النون بلا ناصب وجازم تخفيفا (فأدعوا له) أي للمحسن يعني فكافئوه بالدعاء له (حتى تروا) بضم التاء أي تظنوا وبفتحها أي
أن قد كافأتموه)). رواه أحمد وأبوداود، والنسائي.

(12/211)


4196-(17) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يسأل بوجه الله إلا الجنة)). رواه أبوداود.
تعلموا. وتحسبوا، قلت: وقع في رواية أحمد حتى تعلموا (أن قد كافأتموه) أي كرروا الدعاء وبالغوا له فيه جهدكم حتى تعلموا قد أديتم حقه. وقد جاء من حديث أسامة مرفوعا من صنع إليه معروفا فقال لفاعله جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء، أخرجه الترمذي وغيره، فدل هذا الحديث على أن من قال لأحد جزاك الله خيرا مرة واحدة فقد أدى العوض وإن كان حقه كثيرا (رواه أحمد) (ج2 ص68، 96، 99، 127) (وأبوداود) في الزكاة وفي الأدب (والنسائي) في الزكاة واللفظ لأبي داود وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1 ص412- 413) والبيهقي (ج4 ص199) وسكت عنه أبوداود والمنذري وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقال النووي: في رياضة حديث صحيح وفي الباب عن ابن عباس أخرجه أبوداود,.

(12/212)


1964- قوله: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) والجنة لا يسأل عن الناس فلزم أن يكون. فيه وجهان: أحدهما: المنع عن السؤال لوجه الله؛ لأنه لما قال لا يسأل الخ فلا يسأل عنهم شيء لوجه الله تعالى. وثانيهما: لا يسأل من الله تعالى من متاع الدنيا لحقارتها، وإنما يسأل الجنة، والمقصود المبالغة قاله في اللمعات. وقال الطيبي: أي لا تسألوا من الناس شيئا بوجه الله، مثل أن تقولوا أعطني شيئا بوجه الله تعالى أو بالله، فإن اسم الله أعظم من أن يسأل به متاع الدنيا بل أسألوا به الجنة أو لا تسألوا الله متاع الدنيا بل رضاه، والجنة والوجه يعبر به عن الذات - انتهى. وقال في فتح الودود: قوله "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة" إذ كل شيء حقير دون عظمته تعالى والتوسل بالعظيم في الحقير تحقير له نعم الجنة أعظم مطلب للإنسان فصار التوسل به تعالى فيها مناسبا- انتهى. وأرجع إلى فتح القدير للمناوي. قال القاري: قوله "إلا الجنة" بالرفع أي لا يسأل بوجه الله شيء إلا الجنة مثل أن يقال: اللهم إنا نسألك بوجه الكريم أن تدخلنا جنة نعيم، ولا يسأل روى غائبا نفيا ونهيا مجهولا ورفع الجنة، ونهيا مخاطبا معلوما مفردا ونصب الجنة (رواه أبوداود) في الزكاة وسكت عنه. وقال المنذري: في إسناده سليمان بن معاذ. قال الدارقطني: سليمان بن معاذ هو سليمان بن قرم، وذكر ابن عدي هذا الحديث في ترجمة سليمان بن قرم. هذا الحديث لا أعرفه إلا من طريق أبي العباس القلوري أحمد بن عمرو (الذي روى عنه أبوداود) عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي عن سليمان بن قرم عن محمد بن المنكدر عن جابر، هذا آخر كلامه. وسليمان بن قرم
?الفصل الثالث?
1965-(18) عن أنس، قال: ((كان أبوطلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء،

(12/213)


تكلم فيه غير واحد - انتهى. قلت: قد فرق بين سليمان بن قرم وسليمان بن معاذ الضبي ابن حبان تبعا للبخاري ثم ابن قطان وابن عدي، وقال غير واحد إن سليمان بن معاذ هو سليمان بن قرم، منهم أبوحاتم والدارقطني والطبراني وعبدالغني بن سعيد. قال أحمد: سليمان بن قرم ثقة، وقال مرة: لا أرى به بأسا لكنه كان يفرط في التشيع، وضعفه النسائي وابن معين. وقال أبوزرعة: ليس بذلك. وقال أبوحاتم: ليس بالمتين، وقال ابن عدي: له أحاديث حسان إفراد. وقال ابن حبان: كان رافضيا غاليا في الرفض ويقلب الأخبار مع ذلك، وذكره الحاكم في باب من عيب على مسلم إخراج حديثهم. وقال: غمزوه في التشيع وسوء الحفظ جميعا. وقال الحافظ: سيء الحفظ يتشيع، والحديث أخرجه أيضا البيهقي (ج4 ص199) والضياء المقدسي في المختار كما في الجامع الصغير.

(12/214)


1965- قوله: (كان أبوطلحة) زيد بن سهل الخزرجي زوج أم سليم أم أنس (أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل) بنصب أكثر خبر كان ومالا تميز أي من حيث المال والجار للبيان. قال الباجي: هذا يقتضي أنه يجوز للرجل الصالح الاستكثار من المال الحلال (وكان أحب أمواله إليه) بنصب أحب خبر كان وبيرحاء اسمه ويجوز العكس، والمراد بأمواله الحوائط. قال ابن عبدالبر: كانت دار أبي جعفر والدار التي تلها إلى قصر بني حديلة حوائط لأبي طلحة. قال: وكان قصر بني حديلة حائطا لأبي طلحة يقال لها بيرحاء فذكر الحديث. ومراده بدار أبي جعفر التي صارت إليه بعد ذلك وعرفت به، وهو أبوجعفر المنصور الخليفة المشهور العباسي. وأما قصر بني حديلة فنسب إليهم بسبب المجاورة، وإلا فالذي بناه هو معاوية بن أبي سفيان وبنو حديلة بطن من الأنصار، وكانوا بتلك البقعة فعرفت بهم. فلما اشترى معاوية حصة حسان، بنى فيها هذا قصر فعرف بقصر بني حديلة. وفيه جواز إضافة حب المال إلى الرجل العالم الفاضل ولا نقص عليه في ذلك، وقد أخبر تعالى عن الإنسان ?وإنه لحب الخير لشديد? [العاديات:8] والخير هنا المال اتفاقا كذا في الفتح. وقال الباجي: هذا يقتضي جواز حب الرجل الصالح المال. قال عز اسمه: ?زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين?[آل عمران:14] الآية. قال عمر رضي الله عنه: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نحب ما زينت لنا فاجعلنا ممن يأخذه بحقه فينفقه في وجهه (بيرحاء) بفتح الموحدة وسكون التحتية وفتح الراء وبالمهملة والمد وفي ضبطه اضطراب كثير. فنقل الحافظ في
وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت هذه الآية ?لن تنالوا البر

(12/215)


الفتح وتبعه العيني عن نهاية ابن الأثير الجزري فتح الموحدة وكسرها، وفتح الراء وضمها مع المد، والقصر. قال: فهذه ثمان لغات - انتهى. والذي في النهاية بيرحاء بفتح الفاء وكسرها، وبفتح الراء وضمها والمد فيهما، وبفتحهما والقصر، هذا نصه بحروفه، ونقله عنه الطيبي كذلك بلفظه. وعلى هذا فتكون خمسة لا ثمانية. قال الحافظ: وفي رواية حماد بن سلمة يعني عند مسلم بريحا بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية، وفي سنن أبي داود بأريحا مثله لكن بزيادة ألف. وقال الباجي: أفصحها بفتح الباء وسكون الياء، وفتح الراء مقصورا وكذا جزم به الصنعاني. وقال: إنه اسم أرض كانت لأبي طلحة، وهي فيعلى من البراح، وهو المكان المتسع الظاهر. قال: ومن ذكره بكسر الموحدة وظن أنها بئر من آبار المدينة فقد صحف، وكذا قال الزمخشري في الفائق والمجد في القاموس وقال في اللامع: لا تنافي بين ذلك فإن الأرض أو البستان تسمى باسم البئر التي فيه. وقال الحافظ: أيضا وقع عند مسلم بريحا بفتح الموحدة وكسر الراء وتقديمها على التحتانية الساكنة ثم حاء مهملة ورجحها صاحب الفائق. وقال: هي وزن فعيلاء من البراح وهي الأرض الظاهرة المنكشفة، وعند أبي داود بأريحاء وهو بإشباع الموحدة والباقي مثله. ووهم من ضبطه بكسر الموحدة وفتح الهمزة فإن أريحاء من الأرض المقدسة، ويحتمل إن كان محفوظا أن تكون سميت بإسمها. قال عياض: رواية المغاربة إعراب الراء والقصر في حاء، وخطأ هذا الصوري. وقال الباجي: أدركت أهل العلم بالمشرق، ومنهم أبوذر يفتحون الراء في كل حال، أي في الرفع والنصب والخفض زاد الصوري، وكذلك الباء أي أوله. قال: واتفق أبوذر وغيره من الحفاظ على أن من رفع الراء حال الرفع فقد غلط، ونقل أبوعلي الصدفي عن أبي ذر الهروي أنه جزم إنها مركبة من كلمتين. بير كلمة وحاء كلمة ثم صارت كلمة واحدة، واختلف في حاء هل هي اسم رجل أو امرأة أو مكان أضيفت إليه البئر أو هي كلمة

(12/216)


زجر للإبل، لأن الإبل كانت ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة، فأضيفت البئر إلى اللفظة المذكورة - انتهى. (وكانت) أي بيرحاء (مستقبلة المسجد) أي مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعناه إن المسجد في جهة قبلتها، فلا ينافي بعدها عنه على هذه المسافة الموجودة اليوم (يدخلها) زاد في رواية ويستظل بها (ويشرب من ماء فيها) أي بيرحاء (طيب) بالجر صفة للمجرور السابق أي حلو الماء. قال الباجي: يريد عذبا. وهذا يقتضى تبسط الرجل في مال من يعرف رضاه بذلك، وإن لم يستأمره. وقال الحافظ: فيه استعذاب الماء وتفضيل بعضه على بعض، وإباحة الشرب من دار الصديق، ولو لم يكن حاضرا إذا علم طيب نفسه واتخاذ الحوائط والبساتين، ودخول أهل العلم والفضل فيها والاستظلال بظلها. والراحة والتنزه فيها. وقد يكون ذلك مستحبا يثاب عليه إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها في الطاعة (لن تنالوا البر) أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير، أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضا
حتى تنفقوا مما تحبون? قام أبوطلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: ?لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون? وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجوا برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله! حيث أراك الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بخ بخ، ذلك مال رابح،

(12/217)


والجنة (حتى تنفقوا مما تحبون) أي من بعض ما تحبون من أموالكم (قام أبوطلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) زاد في رواية عند ابن عبدالبر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر (وإن أحب أموالي إلي) بتشديد الياء (بيرحاء) بالرفع خبران (وإنها صدقة لله تعالى) وفي رواية لمسلم: لما نزلت الآية: قال أبوطلحة: أرى ربنا يسألنا عن أموالنا فاستشهدك يا رسول الله! إني جعلت أرضي بيرحاء لله. قال الحافظ: في قوله: إن أحب أموالي إلي بيرحاء لله تعالى الخ فضيلة لأبي طلحة؛ لأن الآية تضمنت الحث على الإنفاق من المحبوب فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب فصوب - صلى الله عليه وسلم - رأيه وشكر عن ربه فعله، ثم أمره أن يخص بها أهله وكنى عن رضاه بذلك بقوله بخ. وقال الباجي: هذا يدل على أن أباطلحة تأول هذه الآية على أنها تقتضي أنه إنما ينال البر بصدقة ما يحب الإنسان من ماله، وقد فعل ذلك زيد بن حارثة جاء بفرسه. وقال: هذا أحب أموالي إلي فتصدق به، وكان الربيع بن خثيم إذا سمع سائلا يقول: أعطوه سكرا فإن الربيع يحب السكر (أرجو برها) أي خيرها (وذخرها) بضم الذال المعجمة أي أجرها يعني أقدمها فادخرها لأجدها (عند الله) يعني لا أريد ثمرتها العاجلة الدنيوية الفانية، بل أطلب مثوبتها الآجلة الأخروية الباقية (فضعها) أمر من وضع يصنع أي أصرفها (حيث أراك الله) أي في مصرف علمك الله إياه ففوض أبوطلحة تعيين مصرفها إليه عليه الصلاة والسلام لا وقفيتها (بخ بخ) بفتح الباء وسكون المعجمة فيهما كهل وبل وكسرها مع التنوين فيهما وبالتنوين في الأول والسكون في الثاني وهو الاختيار. وبالضم مع التنوين فيهما، وبالتشديد مع كسر وضم فيهما لغات، كرر للمبالغة وهي كلمة تقال لتفخيم الأمر والتعجب من حسنه وعند مدحه والرضاء به. قال في القاموس: قل في الأفراد بخ ساكنة وبخ مكسورة وبخ منونة وبخ منونة مضمومة، وتكرر بخ بخ للمبالغة، الأولى منون، والثاني

(12/218)


مسكن. ويقال: بخ بخ مسكنين، وبخ بخ منونين، وبخ بخ مشددين، كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء أو الفخر والمدح - انتهى. فمن نونه شبهه بأسماء الأفعال كصه ومه (ذلك) أي ما ذكرته أو التذكير لأجل الخبر وهو قوله (مال رابح) بالموحدة من الربح أي ذو ربح كلا بن وتامر أي يربح صاحبة في الآخرة. وقيل: هو فاعل بمعنى مفعول أي هو مال مربوح فيه. ويروى رائح بالياء التحتية من الرواح نقيض الغدو، أي رائح عليك أجره ونفعه في الآخرة يعني أنه قريب الفائدة يصل نفعه إليك كل رواح لا تحتاج
وقد سمعت ما قلت: وإني أرى تجعلها في الأقربين. فقال أبوطلحة: أفعل يا رسول الله! فقسما أبوطلحة في أقاربه وبني عمه)).

(12/219)


أن تتكلف فيه إلى مشقة وسير. وقيل: معناه يروح بالأجر ويغدو به. واكتفى بالرواح عن الغدو لعلم السامع أو من شأنه الرواح، وهو الذهاب والفوات فإذا ذهب في الخير فهو أولى. وأدعى الإسماعيلي إن رواية التحتية تصحيف. (وقد سمعت) بصيغة المتكلم (ما قلت) بصيغة الخطاب (وإني أرى) زيادة الفضل والأجر (في أن تجعلها) صدقة (في الأقربين) وفي رواية أجعله لفقراء أقاربك أي ليكون جمعا بين الصلة والصدقة (أفعل) برفع اللام فعلا مستقبلا (فقسمها) أي بيرحاء (في أقاربه وبني عمه) من عطف الخاص على العام. والمراد أقارب أبي طلحة، وفي رواية فقسمها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب، وفي رواية فجعلها أبوطلحة في ذي رحمه، وكان منهم حسان وأبي بن كعب. وهذا يدل على أنه أعطى غيرهما معهما. وفي مرسل أبي بكر بن حزم عند ابن أبي زبالة فرده على أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه، أو ابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر، فتقاوموه فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم. قال النووي: فيه إن القرابة يراعى حقها في صلة الأرحام وإن لم يجتمعوا إلا في أب بعيد لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أباطلحة أن يجعل صدقته في الأقربين فجعلها في أبي بن كعب وحسان بن ثابت، وإنما يجتمعان معه في الجد السابع - انتهى. قلت: يجتمع حسان مع أبي طلحة في الأب الثالث وهو حرام، وأما أبي فيجتمع معه في الأب السادس وهو عمرو بن مالك بن النجار فعمرو هذا يجمع حسان وأباطلحة وأبيا. قال الحافظ: هذا أي بيع حسان حصته منه من معاوية يدل على أن أباطلحة ملكهم الحديقة المذكورة ولم يقفها عليهم، إذ لو وقف لما ساغ لحسان أن يبيعها فيعكر على من استدل بشيء من قصة أبي طلحة في مسائل الوقف، إلا فيما لا تخالف فيه الصدقة الوقف، ويحتمل أن يقال شرط أبوطلحة عليهم لما وقفها عليهم أن من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها، وقد قال بجواز هذا بعض أهل العلم كعلي رضي الله عنه وغيره - انتهى. وفي

(12/220)


المحلى شرح الموطأ: ظاهره جواز بيع الوقف، وقد أجمعوا على خلافه وأجاب عنه الكرماني بأن التصدق على معين تمليك له. وقال العسقلاني: وتبعه العيني أنه يجوز أن يقال إن أباطلحة شرط عند وقفه عليهم أنه يجوز لمن أحتاج أن يبيع حصته وذلك جائز عند بعضهم - انتهى. قال الحافظ: وفي الحديث أنه لا يعتبر في القرابة من يجمعه، والواقف أب معين لا رابع ولا غيره؛ لأن أبيا إنما يجتمع مع أبي طلحة في الأب السادس، وأنه لا يجب تقديم القريب على القريب إلا بعد. لأن حسانا وأخاه إلى أبي طلحة من أبي ونبيط، ومع ذلك فقد أشرك معهما أبيا ونبيط بن جابر. وفيه أنه لا يجب الاستيعاب؛ لأن بني حرام الذي اجتمع فيه أبوطلحة وحسان كانوا بالمدينة كثيرا فضلا عن عمرو بن مالك الذي يجمع أباطلحة وأبيا - انتهى. وفي الحديث فوائد غير
متفق عليه.
1966-(19) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصدقة أن تشبع كبدا جائعا)). رواه البيهقي، في شعب الإيمان.
تقدم ذكرها الحافظ وغيره، منها زيادة صدقة التطوع على نصاب الزكاة خلافا لمن قيدها به، وصدقة الصحيح بأكثر من ثلثة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل أباطلحة عن قدر ما تصدق به. وقال لسعد بن أبي وقاص: الثلث والثلث كثير، وإن الآية تعم الإنفاق الواجب والمستحب. ومنها مشاورة أهل الفضل في كيفية الصدقة والطاعة، ومنها أنه إذا تصدق بأرض مشهورة متميزة ولم يبين حدودها جاز. ومنها أنه تتم الصدقة قبل تعيين جهة مصرفها ثم يعين بعد ذلك فيما شاء إلى غير ذلك من الفوائد. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والوصايا والوكالة والأشربة والتفسير، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد، ومالك في الجامع من الموطأ وأبوداود في الزكاة والنسائي في الوقف والطيالسي وابن خزيمة والطحاوي والدارقطني والبيهقي وأبوحاتم وغيرهم مطولا ومختصرا بألفاظ متقاربة ذكر بعضها الجزري في جامع الأصول (ج7 ص306- 307- 308).

(12/221)


1966- قوله: (أفضل الصدقة أن تشبع) بضم التاء (كبدا جائعا) قال الطيبي: وصف الكبد بصفة صاحبة على الإسناد المجازي، وهو من جعل الوصف المناسبة علة للحكم، وفائدته العموم ليتناول أنواع الحيوان سواء كان مؤمنا أو كافرا ناطقا أو غير ناطق، والله تعالى أعلم - انتهى. وتقدم المستثنى (رواه البيهقي) وأخرجه أيضا أبوالشيخ في الثواب والأصبهاني كلهم من رواية زربي (بفتح أوله وسكون الراء بعدها موحدة ثم تحتانية مشددة) ابن عبدالله الأزدي البصري إمام مسجد هشام بن حسان عن أنس. ولفظ أبي الشيخ والأصبهاني قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ما من عمل أفضل من إشباع كبد جائعة. والحديث. أدخله ابن الجوزي في الموضوعات. وقال الصغاني: موضوع. قال ابن حبان: فيه زربي منكر الحديث على قلته. ويروي عن أنس ما لا أصل له فلا يحتج به. قلت زربي هذا روى له الترمذي وابن ماجه وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه، لكن قال إن ثبت الخبر. وقال الترمذي: له أحاديث مناكير عن أنس وغيره. وقال ابن عدي: أحاديثه وبعض متونها منكرة وذكره العقيلي في الضعفاء. وقال البخاري: فيه نظر. وقال السيوطي في تعقباته على ابن الجوزي: للحديث شواهد كثيرة تقتضي تحسينه، منها حديث جابر إن من موجبات المغفرة إطعام المسلم الشبعان أخرجه البيهقي في الشعب - انتهى. وقال العزيزي في شرح الجامع الصغير: رمز المصنف يعني السيوطي أي لحسن حديث أنس ولعله لاعتضاده.
(8) باب صدقة المرأة من مال الزوج
?الفصل الأول?
1967-(1) عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة. كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك،
(باب صدقة المرأة من مال الزوج) وفي بعض النسخ باب ما تنفقه المرأة من مال زوجها ووقع في بعضها لفظ باب فقط.

(12/222)


1967- قوله: (إذا أنفقت المرأة) أي تصدقت كما في رواية (من طعام بيتها) أي من طعام زوجها الذي في بيتها المتصرفة فيه (غير مفسدة) نصب على الحال أي غير مسروفة في التصدق بأن لا تتعدى إلى الكثرة المؤدية إلى النقص الظاهر، وهذا محمول على إذن الزوج لها بذلك صريحا أو دلالة. وقيل: هذا جار على عادة أهل الحجاز، فإن عادتهم أن يأذنوا لزوجاتهم وخدمهم بأن يضيفوا الأضياف ويطعموا السائل والمسكين والجيران، فحرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته على هذه العادة الحسنة والخصلة المستحسنة. وهذا الحديث ليس فيه دلالة صريحا على جواز تصدق المرأة من مال الزوج بغير إذنه. قال البغوي: عامة العلماء على أنه لا يجوز لها التصدق من مال زوجها بغير إذنه، وكذلك الخادم. والحديث الدال على الجواز أخرج على مادة أهل الحجاز أنهم يطلقون الأمر للأهل والخادم في التصدق والإنفاق مما حضر في البيت عند حضور السائل ونزول الضيف، كما قال عليه الصلاة والسلام: لا توعى فيوعى الله عليك - انتهى. وكذلك قال الخطابي في المعالم: (ج2 ص78) وخص الطعام بالذكر لغلبة المسامحة به عادة وإلا فغيره مثله إذا الغرض إن المالك إذن في ذلك صريحا أو دلالة (كان لها أجرها بما أنفقت) أي بسبب إنفاقها (ولزوجها أجره بما كسب) أي بسبب كسبه وتحصيله (وللخازن) أي الذي يكون بيده حفظ الطعام المتصدق منه من خادم وقهرمان وقيم لأهل المنزل (مثل ذلك) أي الأجر أي بالشروط المذكورة في حديث أبي الآتي، وفي رواية للبخاري لها أجرها وله مثله (أي مثله أجرها) وللخازن مثل ذلك. قال الحافظ: ظاهره يقتضي تساويهم في الأجر، ويحتمل أن يكون المراد بالمثل حصول الأجر في الجملة وإن كان أجر الكاسب، أوفر لكن التعبير في حديث أبي هريرة الآتي بقوله: فلها نصف أجره يشعر بالتساوي. قال: والمراد بقوله: لا ينقص بعضهم أجر بعض، عدم المساهمة والمزاحمة في الأجر. ويحتمل أن يراد مساواة بعضهم بعضا والله أعلم -

(12/223)


انتهى. وقال النووي: معنى هذه الأحاديث (يعني حديث عائشة هذا وحديث
لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا)). متفق عليه.
1968-(2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره. فلها نصف أجره)).
أبي هريرة وحديث أبي موسى الآتيين) إن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر، ومعنى المشاركة إن له أجرا كما لصاحبه أجر ـ وليس معناه أن يزاحمه في أجره. والمراد المشاركة في أصل الثواب فيكون لهذا ثواب، ولهذا ثواب، وإن كان أحدهما أكثر. ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء. بل قد يكون ثواب هذا أكثر وقد يكون عكسه - انتهى. (لا ينقص بعضهم أجر بعض) أي من أجر بعض (شيئا) نصب مفعول ينقص أو ينقص كيزيد يتعدى إلى مفعولين الأول أجر والثاني شيئا كزادهم الله مرضا. قاله القسطلاني، وقال القاري: شيئا أي من النقص أو من الأجر، والمراد أنهم في أصل الأجر سواء. وإن اختلف قدره. قال الحافظ قال ابن العربي: اختلف السلف فيما إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها فمنهم من أجازه لكن في الشيء اليسير الذي لا يؤبه به ولا يظهر به النقصان، ومنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج ولو بطريق الإجمال وهو اختيار البخاري. ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على العادة. وأما النقييد بغير الإفساد فمتفق عليه، ومنهم من قال المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن، النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه وليس ذلك بأن يفتاتوا على رب البيت بالإنفاق على الفقراء بغير إذن، ومنهم من فرق بين المرأة والخادم. فقال: المرأة لها حق في مال الزوج والنظر في بيتها فجاز لها أن تتصدق بخلاف الخادم فليس به تصرف في متاع مولاه، فيشترط الإذن فيه وهو متعقب بأن المرأة إذا استوفت حقها فتصدقت منه فقد تخصصت به وإن تصدقت من غير حقها رجعت المسألة كما كانت والله أعلم. ويأتي مزيد الكلام في شرح الحديث الذي يليه (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي البيوع،

(12/224)


ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي وأبوداود والنسائي في الزكاة، وابن ماجه في النجارات وابن حبان والبيهقي وغيرهم.
1968- قوله: (إذا أنفقت المرأة) أي تصدقت (من كسب زوجها) أي من ماله (من غير أمره) أي الصريح في ذلك القدر المعين (فلها نصف أجره) قيل: هذا مفسر بما إذا أخذت من مال زوجها أكثر من نفقتها وتصدقت به، فعليها غرم ما أخذت أكثر منها، فإذا علم الزوج ورضي بذلك فلها نصف أجره بما تصدقت من نفقتها ونصف أجره له بما تصدقت به أكثر من نفقتها، لأن الأكثر حق الزوج كذا ذكره القاري: وقال الحافظ: الأولى أن يحمل على ما إذا أنفقت من الذي يخصها به إذا تصدقت به بغير استئذانه، فإنه يصدق كونه من كسبه فيؤجر عليه، وكونه بغير أمره يعني يحمل التصنيف على المال الذي يعطيه الرجل في نفقة المرأة، فإذا
متفق عليه.
1969-(3) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الخازن المسلم الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا مؤفرا طيبة به نفسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به،

(12/225)


أنفقت منه بغير علمه كان الأجر بينهما للرجل لكونه الأصل في إكتسابه، ولكونه يؤجر على ما ينفقه على أهله وللمرأة لكونه من النفقة التي تختص بها. قال: ويحتمل أن يكون إذن لها بطريق الإجمال، لكن المنفي ما كان بطريق التفصيل، ولابد من الحمل على أحد هذين المعنيين، وإلا فحيث كان من ماله بغير إذنه لا إجمالا ولا تفصيلا فهي مأزورة بذلك لا مأجورة. قال النووي: قوله من غير أمره معناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين ولا ينفي ذلك وجود إذن سابق عام يتناول هذا القدر وغيره، إما بالصريح، وإما بالعرف. قال: ويتعين هذا التأويل لجمل الأجر بينهما نصفين، ومعلوم إنها إذا أنفقت من ماله بغير إذنه لا الصريح ولا المأخوذ من العرف لا يكون لها أجر بل عليها وزر فيتعين تأويله - انتهى. وقيل: في الجمع بين هذا وبين حديث عائشة إنه إذا أنفقت المرأة مع إذنه تستحق به الأجر كاملا، ومع عدم الإذن نصف الأجر، يعني إذا عرفت منه السماحة بذلك والرضا به جاز لها الإنفاق من غير إذنه ولها نصف أجره وقيل: معنى النصف إن أجره وأجرها إذا جمعا كان لها النصف من ذلك، فلكل منهما أجر كامل، وهما اثنان فكأنهما نصفان. وقيل: إنه بمعنى الجزء، والمراد المشاركة في أصل الثواب وإن كان أحدهما أكثر بحسب الحقيقة (متفق عليه) أخرجه البخاري في البيوع وفي أواخر النكاح وفي النفقات، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضا فيه أبوداود والبيهقي.

(12/226)


1969- قوله: (الخازن) أي خادم المالك في الخزن (المسلم الأمين الذي يعطي ما أمر به) من الصدقة من غير زيادة ونقصان فيه بهوى (كاملا) حال من المفعول أو صفة لمصدر محذوف (موفرا) بفتح الفاء المشددة أي تاما فهو تأكيد وبكسرها حال من الفاعل أي مكملا عطاءه (طيبة) أي راضية غير شحيحة (به) أي بالعطاء (نفسه) مرفوع على الفاعلية وطيبة بالنصب على الحال. وقال: ذلك إذ كثيرا مالا يرضي الإنسان بخروج شيء من يده، وإن كان ملكا لغيره. قال الحافظ: قيد الخازن بكونه مسلما فأخرج الكافر لأنه لا نية له وبكونه أمينا فأخرج الخائن لأنه مأزور، ورتب الأجر على إعطاءه ما يؤمر به غير ناقص لكونه خائنا أيضا، ويكون نفسه طيبة بذلك، لئلا يعدم النية فيفقد الأجر وهي قيود لابد منها (فيدفعه) عطف على يعطي (إلى الذي أمر له) بضم الهمزة مبنيا للمفعول أي إلى الشخص الذي أمر ذلك الخازن له (به) أي بالدفع والإعطاء، وفيه شروط أربعة: شرط الإذن لقوله ما أمر به وعدم نقصان ما أمر به لقوله كاملا موفرا وطيب النفس
أحد المتصدقين)). متفق عليه.
1970-(4) وعن عائشة، قالت: إن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أمي أفتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت،

(12/227)


بالتصدق، لأن بعض الخزان والخدان لا يرضون بما أمروا به من التصدق وإعطاء من أمر له لا إلى مسكين آخر. فالخازن مبتدأ وما بعده صفات له وخبره (أحد المتصدقين) أي يشارك صاحب المال في الصدقة فيصير إن متصدقين، ويكون هو أحدهما هذا على أن الرواية بفتح القاف وهو الذي صرحوا به، نعم جوز الكسر على أن اللفظ جمع أي هو متصدق من المتصدقين قال الحافظ: ضبط في جميع الروايات الصحيحين بفتح القاف على التثنية. قال القرطبي: ويجوز الكسر على الجمع أي هو متصدق من المتصدقين - انتهى. وقال الشيخ زكريا الأنصاري: بفتح القاف أي هو ورب الصدقة في أصل الأجر سواء وإن اختلف مقداره فيهما فلو أعطي المالك خادمة مائة دينار ليدفعها إلى فقير على باب داره فأجر المالك أكثر، ولو أعطاه رغيفا ليدفعه إلى الفقير في مكان بعيد، فإن كانت أجرة مشي الخادم تزيد على قيمة الرغيف فأجر الخادم أكثر وإن كانت تساويها فمقدار أجرهما سواء (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والوكالة والإجارة، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي في الزكاة.

(12/228)


1970- قوله: (إن رجلا) قيل: هو سعد بن عبادة. قال الزرقاني: وجزم به غير واحد. وقيل: هو رجل آخر غير سعد بن عبادة وإليه مال العيني (إن أمي) عمرة بنت مسعود (أفتلتت) بالفاء الساكنة والمثناة المضمومة وكسر اللام بعد فوفيتان، أولاهما مفتوحة مبنيا للمفعول افتعال من فلت، يقال، أفتلت فلان أي ماتت فجأة، وأفتلت بأمر كذا إذا فوجيء به قبل إن يستعد له، وأفتلت الشيء إذا أخذ منه فلته أي بغتة، قال الباجي: تقول العرب رأيت الهلال فلته إذا رأيته من غير قصد إليه (نفسها) بالنصب بمعنى أفتلتها الله نفسها أي روحها يعدي إلى مفعولين كاختلسه الشيء واستلبه إياه فبني الفعل للمفعول فصار الأول مضمرا وبقي الثاني منصوبا. وقيل: نفسها منصوب على التمييز. وقيل: بإسقاط حرف الجر أي من نفسها، ويروي بالرفع على أنه متعد إلى واحد ناب عن الفاعل أي أخذت نفسها فلتة يعني ماتت بغتة دون تقدم مرض ولا سبب (وأظنها) أي لعلمي بحرصها على الخير (لو تكلمت) أي لو قدرت على الكلام (تصدقت) أي من مالها بشيء أو أوصت بتصدق شيء من مالها. قال الحافظ: وظاهره إنها لم تتكلم فلم تتصدق لكن في الموطأ والنسائي والحاكم عن سعيد ابن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد عبادة عن أبيه عن جده. قال: خرج سعد بن عبادة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -
فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم)). متفق عليه.

(12/229)


في بعض مغازيه وحضرت أمه الوفاة بالمدينة فقيل لها أوصي: فقالت: فبم أووصي المال، مال سعد فتوفيت قبل أن يقدم سعد فلما قدم سعد بن عبادة ذكر ذلك له فقال سعد: يا رسول الله! هل ينفعها أن أتصدق عنها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم. فقال سعد: حائط كذا وكذا صدقة عنها لحائط سماه، وهذا نص في التكلم فيمكن أن يأول رواية الكتابة بأن المراد إنها لم تتكلم أي بالصدقة، ولو تكلمت تصدقت أي فكيف أمضى ذلك. أو يحمل على أن سعدا ما عرف بما وقع منها فإن الذي روى هذا الكلام في الموطأ هو سعيد بن عبادة. أو ولده شرحبيل مرسلا، فعلى التقديرين لم يتحد راوي الإثبات، وراوي النفي. فيمكن الجمع بينهما بذلك - انتهى. وبسط العيني في إثبات المنافاة بين الراويتين، وبنى على ذلك إن الرجل المبهم في حديث عائشة رجل آخر غير سعد بن عبادة فلا حاجة على هذا إلى الجمع (فهل لها أجر إن تصدقت عنها) بكسر الهمزة إن على أنها شرطية. قال الزركشي: وهي الرواية الصحيحة ولا يصح قول من فتحها؛ لأنه إنما سأل عما لم يفعل، لكن قال البدر الدماميني: إن ثبتت لنا رواية بفتح الهمزة من أن أمكن تخريجها على مذهب الكوفيين في صحة مجيء إن المفتوحة الهمزة شرطية كان المكسورة ورجحه ابن هشام، والمعنى حينئذ صحيح بلا شك ذكره القسطلاني (قال نعم) لها أجر إن تصدقت عنها، وقد بين النسائي من وجه آخر جهة الصدقة المذكورة فأخرج من طريق سعيد بن المسيب عن سعد بن عبادة. قال: قلت يا رسول الله! إن أمي ماتت أفاتصدق عنها. قال: نعم. قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء. وقد سبق هذا الحديث في فضل الصدقة ومر قريبا إنه تصدق عنها بحائط، وطريق الجمع إنه تصدق عنها بالحائط من تلقاء نفسه، وبالماء بأمره - صلى الله عليه وسلم - بعد سؤاله عنه والله تعالى أعلم. وفي الحديث جواز الصدقة عن الميت وإن ذلك ينفعه بوصول الثواب الصدقة إليه، ولاسيما إن كان من الولد وكذا حكم الدعاء وهو

(12/230)


مخصص لعموم قوله تعالى: ?وأن ليس للإنسان إلا ما سعى?[النجم:39] وقد اختلف في غير الصدقة من أعمال البر هل تصل إلى الميت كالصلاة وتلاوة القرآن؟ والمختار عند الحنفية نعم قياسا على الدعاء، وعندي فيه تأمل. وفيه أنه يستحب لمن يتوفى فجأة. أن يتصدق عنه أهله وترجم البخاري على هذا الحديث باب موت الفجاءة. قيل أشار بهذا إلى أن موت الفجاءة ليس بمكروه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يظهر منه كراهة حين أخبره الرجل بانفلات نفس أمه وهو محمول على المتهيئ للموت والمتأهب والمراقب له دون غيره، وعلى ذلك يحمل خبر ابن أبي شيبة عن عائشة وابن مسعود موت الفجاءة راحة للمؤمن وأسف على الفاجر، وخبر أبي داود موت الفجاءة أخذة أسف. ولأحمد من حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - مر بجدار مائل فأسرع. وقال: أكره موت الفوات. قال ابن بطال: وكان ذلك والله أعلم لما في موت الفجاءة من خوف حرمان الوصية، وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة
?الفصل الثاني?
1971-(5) عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: ((لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها! قيل: يا رسول الله! ولا طعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا)). رواه الترمذي.
1972-(6) وعن سعد، قال: لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مضر، فقالت: ((يا نبي الله؟ إنا كل على آبائنا وأبنائنا وأزواجنا،
وغيرها من الأعمال الصالحة. وقال ابن المنير: لعل البخاري أراد بهذه الترجمة إن من مات فجاءة فليستدرك ولده من أعمال البر ما أمكنه مما يقبل النيابة كما وقع في الحديث - انتهى. وقد مر الكلام في ذلك في الجنائز فليراجع (متفق عليه) أخرجه البخاري في أواخر الجنائز وفي الوصايا، ومسلم في الزكاة وأخرجه أيضا أحمد ومالك في أواخر الأقضية والنسائي في الوصايا.

(12/231)


1971- قوله: (لا تنفق) نفي، وقيل نهي (امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها) أي صريحا أو دلالة كما سبق، وللبيهقي: ألا لا يحل لامرأة أن تعطى من مال زوجها شيئا إلا بإذنه (ذلك أفضل أموالنا) ولابن ماجه: من أفضل أموالنا يعني فإذا لم تجز الصدقة بما هو أقل قدرا من الطعام بغير إذن الزوج، فكيف تجوز بالطعام الذي هو أفضل (رواه الترمذي) في الزكاة وأخرجه أيضا ابن ماجه في التجارات والبيهقي في الزكاة جميعهم من طريق إسماعيل بن عياش الحمصي وهو صدوق في روايته عن أهل بلده عن شرحبيل بن مسلم الخولاني الشامي عن أبي أمامة، وحسنه الترمذي وسكت عليه الحافظ في الفتح.
1972- قوله: (وعن سعد) بن أبي وقاص (جليلة) أي عظيمة القدر كبيرة، وقيل: أو طويلة القامة. وقال الخطابي: الجليلة تكون بمعنيين أحدهما تكون خليقة جسيمة. يقال: امرأة خليقة وخليقاء، كذلك والآخر أن تكون بمعنى المسنة. يقال: جل الرجل إذا كبر وأسن، وجلت المرأة إذا عجزت (كأنها من نساء مضر) وهو أبوقبيلة (إنا كل) بفتح الكاف وتشديد اللام أي ثقل وعيال (على أبائنا وأبنائنا وأزواجنا) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في المصابيح، والذي في أبي داود يدل على عدم الجزم بلفظ: الأزواج ولفظه على أبائنا وأبنائنا. قال أبوداود: وأرى فيه وأزواجنا، والحديث رواه البيهقي من طريق أبي داود، هكذا رواه أيضا من طريقين آخرين. قال: في أحدهما على آبائنا وأزواجنا وفي الآخر على آبنائنا وإخواننا ونقل الخطابي في المعالم (ج2
فما يحل لنا من أموالهم! قال: الرطب تأكلنه وتهدينه)). رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
1973-(7) عن عمير مولى آبى الحم، قال: ((أمرني مولاي أن أقدد لحما، فجاءني مسكين، فأطعمته منه،

(12/232)


ص79) بدون لفظ الأزواج وبني عليه شرحه ففرق بين الآباء والأبناء وبين الأزواج في الحكم المذكور (فما يحل لنا من أموالهم) أي من غير أمرهم (قال الرطب) بفتح الراء وسكون الطاء المهملة أراد به اللبن والفاكهة والبقول والمرق ونحو ذلك مما يسرع إليه الفساد من الأطعمة ولا يتقوى على الخزن، وقع فيها المسامحة بترك الاستئذان جريا على العادة المستحسنة بخلاف اليابس من الطعام؛ لأنه يبقى على الخزن والادخار ذكره الطيبي أخذا عن التوربشتي. وكذا قال الخطابي في المعالم (ج2 ص79) (تأكلنه وتهدينه) أي ترسلنه هدية. قال الحافظ: بعد ذكر حديث أبي أمامة المتقدم، وحديث سعد هذا ما لفظه وظاهرهما التعارض، ويمكن الجمع بأن المراد بالرطب ما يتسارع إليه الفساد فأذن فيه بخلاف غيره، ولو كان طعاما - انتهى. وقال العيني: أخذا عن شرح الترمذي للعراقي: فإن قلت: أحاديث هذا الباب جاءت مختلفة فمنها ما يدل على منع المرأة عن أن تنفق من بيت زوجها إلا بإذنه وهو حديث أبي أمامة، ومنها ما يدل على الإباحة بحصول الأجر لها في ذلك، وهو حديث عائشة السابق في أول الباب، ومنها ما قيد الترغيب في الإنفاق بكونه بطيب نفس منها، وبكونها غير مفسدة وهو عائشة أيضا، ومنها ما مقيد بكونها غير مفسدة وإن كان من غير أمره وهو حديث أبي هريرة المتقدم وفيه وعد نصف الأجر، ومنها ما قيد الحكم فيه بكونه رطبا وهو حديث سعد بن أبي وقاص. قلت: كيفية الجمع بينها إن ذلك يختلف عادات باختلاف عادات البلاد وباختلاف حال الزوج من مسامحته ورضاه بذلك أو كراهته لذلك وباختلاف الحال في الشيء المنفق بين أن يكون شيئا يسيرا يتسامح به، وبين أن يكون له خطر في نفس الزوج يبخل بمثله، وبين أن يكون ذلك رطبا يخشى فساده أن تأخر وبين أن يكون يدخر ولا يخشى عليه الفساد (رواه أبوداود) في الزكاة، وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه والبغوي في شرح السنة والبيهقي في الزكاة

(12/233)


(ج4 ص193).
1973- قوله: (عن عمير) بالتصغير (مولى آبى اللحم) بهمزة ممدودة وكسر الباء أي مملوكه وقد تقدم ترجمتهما (أقدد لحما) أي أقطعه بضم الهمزة وكسر الدال المشددة من القد وهو الشق طولا (فأطعمته) أي أعطيته
فعلم بذلك مولاي، فضربني، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فدعاه، فقال: لم ضربته؟ قال: يعطي طعامي بغير أن آمره. فقال: الأجر بينكما)). وفي رواية قال: كنت مملوكا، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصدق من مال موالي بشيء؟ قال: نعم، والأجر بينكما نصفان)). رواه مسلم.

(12/234)


(يعطي طعامي من غير أن آمره) أي بغير إذني إياه (فقال الأجر بينكما) أي إن رضيت بذلك يحل له إعطاء مثل هذا مما يجري فيه المسامحة، وليس المراد تقرير العبد على أن يعطي بغير رضى المولى. قال الطيبي: أخذا من التوربشتي لم يرد به إطلاق بد العبد بل كره صنيع مولاه في ضربه على أمر تبين رشده فيه، فحث السيد على اغتنام الأجر والصفح عنه، فهذا تعليم وإرشاد لآبى اللحم لا تقرير لفعل العبد - انتهى. وقال النووي: هذا محمول على أن عمير تصدق بشيء ظن إن مولاه يرضي به ولم يرض به مولاه فلعمير أجر؛ لأنه فعل شيئا يعتقده طاعة بنية الطاعة ولمولاه أجر، لأن ماله أتلف عليه وقوله: "الأجر بينكما" ليس معناه إن الأجر الذي لأحدهما يزدحمان فيه، وإن أجر نفس المال يتقاسمانه بل معناه أي لكل منكما أجر يعني إن هذه الصدقة التي أخرجها المملوك بإذن المالك يترتب على جملتها ثواب على قدر المال والعمل، فيكون ذلك مقسوما بينهما لهذا نصيب بماله، ولهذا نصيب بعمله، فلا يزاحم صاحب المال العامل في نصيب عمله ولا يزاحم العامل صاحب المال في نصيب ماله (وفي رواية) أي لمسلم (قال) أي عمير (كنت مملوكا فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتصدق) كذا في جميع النسخ وكذا نقله الجزري في جامع الأصول وفي صحيح مسلم، أأتصدق بزيادة همزة الاستفهام (من مال موالي) بتشديد الياء وفي بعض النسخ من صحيح مسلم مولاي بفتح الياء وبلفظ: الأفراد وكذا وقع في جامع الأصول (بشيء) أي تافه أو مأذون فيه عادة. قال النووي: هذا محمول على أنه استأذن في الصدقة بقدر يعلم رضا سيده به (قال نعم والأجر بينكما نصفان) قال النووي: معناه قسمان وإن كان أحدهما أكثر كما قال الشاعر:
إذا مت كان الناس نصفان شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع

(12/235)


وأشار القاضي إلى أنه يحتمل أيضا أن يكون سواء؛ لأن الأجر فضل من الله تعالى ولا يدرك بالقياس ولا هو بحسب الأعمال وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والمختار الأول - انتهى (رواه مسلم) في الزكاة والرواية الأولى أخرجها النسائي أيضا في الزكاة، وأخرج البيهقي فيه الروايتين.
(9) باب من لا يعود في الصدقة
?الفصل الأول?
1974-(1) عن عمر بن الخطاب، قال: ((حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص،
(باب من لا يعود في الصدقة) أي لا حقيقة ولا صورة.

(12/236)


1974- قوله: (حملت) بتخفيف الميم أي أركبت رجلا (على فرس) يعني تصدقت به عليه ليغزو عليه (في سبيل الله) قال الطيبي: أي جعلت فرسا حمولة من لم يكن المجاهدين وتصدقت بها عليه. وقال الباجي: الحمل عليها في سبيل الله على وجهين، أحدهما: أن يعلم من فيه النجدة والفروسية فيهبه له ويملكه إياده لما يعلم من نجدته ونكايته للعدو، فهذا يملكه الموهوب له ويتصرف فيه بنا يشاء من بيع وغيره، والوجه الثاني: وهو الأظهر أن يكون دفعه إلى من يعلم من حاله مواظبة الجهاد في سبيل الله التحبيس له فهذا ليس للموهوب له أن يبيعه - انتهى. وفي رواية ابن عمر عند البخاري وغيره: إن عمر تصدق بفرس في سبيل الله.قال الحافظ: أي حمل عليه رجلا في سبيل الله كما في الراوية الأخرى، والمعنى أنه ملكه له ولذلك ساغ له بيعه، ومنهم من كان عمر قد حبسه، وإنما ساغ للرجل بيعه؛ لأنه حصل فيه هزال عجز لآجله عن اللحاق وضعف عن ذلك وانتهى إلى حالة الانتفاع به، وأجاز ذلك ابن القاسم ويدل على أنه حمل تمليك قوله: ولا تعد في صدقتك ولو كان حبسا لعلله به. وقال ابن عبدالبر: أي حمله على فرس حمل تمليك فله أن يفعل فيه ما شاء في سائر أمواله - انتهى. وكان اسم هذا الفرس فيما ذكره ابن سعد في الطبقات الورد، وكان لتميم الداري فأهداه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه لعمر، ولم يعرف الحافظ اسم الرجل الذي حمله عليه (فأضاعه) أي الفرس الرجل (الذي كان عنده) بترك القيام عليه بالخدمة والعلف والسقي وإرساله للرعي حتى صار كالشيء الضائع الهالك. قال الباجي: قوله "أضاعه" يحتمل أمرين أحدهما: أنه أضاعه بأن لم يحسن القيام عليه وقصر في مؤنته وخدمته ويبعد مثل هذا في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يوجب هذا أمر، ويحتمل أن يريد به صيره ضائعا من الهزال لفرط مباشرة الجهاد ولا تعابه له في سبيل الله تعالى. قال الحافظ: وقيل: لم يعرف مقداره فأراد بيعه بدون قيمته.

(12/237)


وقيل: معناه استعمله في غير ما جعل له، والأول أظهر لرواية مسلم، فوجده قد أضاعه وكان قليل المال (وظننت أنه يبيعه برخص) بضم الراء وسكون الخاء مصدر رخص الشيء من كرم ضد غلا فهو رخيص، وهذا إما لتغير الفرس وضياعه أو؛ لأنه حان الرخص في سوق
فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئة)).
الفرس أو لكونه منعما عليه (فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي عن ذلك (لا تشتره) بهاء الضمير أو السكت وظاهر النهي التحريم، لكن الجمهور على أنه للتنزيه وأشار عليه الصلاة والسلام إلى العلة في نهيه عن الابتياع بقوله (ولا تعد في صدقتك) أي لا تعد فيها لا بشراء ولا بغيره من سائر التملكات كالهبة فهو من عطف العام على الخاص (وإن أعطاكه بدرهم) هو مبالغة في رخصة وهو الحامل له على شراءه وهذا متعلق بقوله: لا تشتره أي ى ترغب فيه البتة ولا تنظر إلى رخصه، ولكن أنظر إلى أنه صدقتك. قال ابن الملك: ذهب بعض العلماء إلى أن شراء المتصدق صدقته حرام لظاهر الحديث، والأكثرون على أنها كراهة تنزيه لكون القبح فيه لغيره وهو أن المتصدق عليه ربما يسامح المتصدق في الثمن بسبب تقدم إحسانه فيكون كالعائد في صدقته في ذلك المقدار الذي سومح فيه. وقال الحافظ: سمي شراءه برخص عودا في الصدقة من حيث إن الغرض منها ثواب الآخرة فإذا اشتراها برخص فكأنه اختار عرض الدنيا على الآخرة مع أن العادة تقتضي بيع مثل ذلك برخص لغير المتصدق فكيف بالمتصدق فيصير راجعا في ذلك المقدار الذي سومح فيه - انتهى. قال النووي: قوله "لا تشتره ولا تعد في صدقتك" هذا نهي تنزيه لا تحريم فيكره لمن تصدق بشيء، أو أخرجه في زكاة أو كفارة أو نذر أو نحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه، أو يتهبه أو يتملكه باختياره منه. فأما إذا ورثه منه فلا كراهة فيه، وكذا لو انتقل إلى ثالث ثم اشتراه منه

(12/238)


المتصدق فلا كراهة، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال جماعة من العلماء: النهي عن شراء صدقته للتحريم - انتهى. قلت: قد حكى العراقي في شرح الترمذي كراهة شراءه من ثالث انتقل إليه من المتصدق به عليه عن بعضهم لرجوعه فيما تركه لله كما حرم على المهاجرين سكنى مكة بعد هجرتهم منها لله تعالى. وقال ابن قدامة (ج2 ص651): ليس لمخرج الزكاة شراءها ممن نقض البيع صارت إليه، وروى ذلك عن الحسن وهو قول قتادة ومالك. قال أصحاب مالك: فإن اشتراها لم ينقض البيع. وقال الشافعي وغيره: يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة رجل ابتاعها بماله، ولنا ما روى عمر أنه قال حملت على فرس في سبيل الله - الحديث. وحديثهم عام، وحديثنا خاص صحيح فالعمل به. أولى من كل وجه - انتهى. مختصرا، وقد تقدم كلامه بتمامة في شرح حديث عطاء بن يسار في الفصل الثاني، من باب من لا تحل له الصدقة (فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئة) شبه العائد في صدقته باخس الحيدان في أخس أحواله تصويرا للتهجين وتنفيرا منه، قال في المصابيح: وفي ذلك دليل على المنع من الرجوع في الصدقة لما أشتمل عليه من التنفير الشديد من حيث شبه الراجع بالكلب والمرجوع فيه بالقيء والرجوع في الصدقة برجوع الكلب في
وفي رواية: ((لا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئة)). متفق عليه.
1975-(2) عن بريدة، قال: كنت جاسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أتته امرأة، فقالت: يا رسول الله! إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت. قال: ((وجب أجرك، وردها عليك الميراث.

(12/239)


قيئة - انتهى. وجزم بعضهم بالمحرمة: قال قتادة: لا نعلم القيء إلا حراما. قال القسطلاني: والصحيح إنه للتنزيه؛ لأن فعل الكلب لا يوصف بتحريم إذا لا تكليف عليه فالمراد التنفير من العود بتشبيه بهذا المستقذر - انتهى. قلت: القول الراجح عندي هو ما ذهب إليه بعض العلماء من تحريم الرجوع في الصدقة، لأن الحديث ظاهر في التحريم، والتأويل المذكور بعيد جدا منافر لسياق الحديث. لاسيما الرواية الثانية وعرف الشرع في مثل هذه العبارة الزجر الشديد كما ورد النهي في الصلاة عن إقعاء الكلب ونقر الغراب والتفات الثعلب ونحو ذلك ولا يفهم من المقام إلا التحريم والتأويل البعيد مما لا يلتفت إليه (وفي رواية لا تعد في صدقتك فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئة) الفاء للتعليل أي كما يقبح أن يقيء ثم يأكل كذلك يقبح أن يتصدق بشيء ثم يجره إلى نفسه. قال الحافظ: استدل به على تحريم ذلك؛ لأن القيء حرام. قال القرطبي: وهذا هو الظاهر من سياق الحديث ويحتمل أن يكون التشبيه للتنفير خاصة لكون القيء مما يستقذر وهو قول الأكثر. وقال في موضع آخر: حمل الجمهور هذا النهي في صورة الشراء على التنزيه، وحمله قوم على التحريم. قال القرطبي وغيره: وهو الظاهر ثم الزجر المذكور مخصوص بالصورة المذكورة وما أشبهها لا ما إذا رده إليه الميراث مثلا كما سيأتي (متفق عليه) ظاهره إن الروايتين عند الشيخين وليس الأمر كذلك فإن الرواية الثانية من أفراد البخاري لم يخرجها مسلم، والحديث أخرجه البخاري في الزكاة والهبة والجهاد، ومسلم في الهبة وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص25، 37، 40، 54) ومالك والترمذي والنسائي في الزكاة، وابن ماجه في الهبة كلهم من حديث زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر وأخرج هذه القصة الجماعة من حديث ابن عمر أيضا.

(12/240)


1975- قوله: (إذا أتته امرأة) لم يعرف اسمها (تصدقت على أمي بجارية) أي ملكتها لها صدقة (وإنها) أي أمي (ماتت) وتركت تلك الجارية فهل أخذها وتعود في ملكي بالميراث، أم لا؟ (وجب أجرك) أي ثبت أجرك عند الله بالصلة (وردها) أي الجارية (عليك الميراث) أي رجع عليك بسبب لا دخل لك فيه فلا يكون سببا لنقصان الأجر في الصدقة. وقال القاري: النسبة مجازية أي ردها الله عليك بالميراث وصارت الجارية ملكا بالإرث وعادت لك بالوجه الحلال، والمعنى إن ليس هذا من باب العود في الصدقة، لأنه ليس أمرا اختياريا. قال النووي: في الحديث إن من تصدق بشيء ثم ورثه لم يكره له أخذه والتصرف فيه بخلاف ما إذا
قالت: يا رسول الله! إنه كان عليها صوم شهر، أفاصوم عنها؟ قال: صومي عنها. قالت: إنها لم تحج قط، أفاحج عنها؟ قال: نعم. حجي عنها)). رواه مسلم.

(12/241)


أراد شراءه، فإنه يكره لحديث فرس عمر رضي الله عنه - انتهى. وقال ابن الملك أكثر العلماء على أن الشخص إذا تصدق بصدقة على قريبة ثم ورثها حلت له وقيل: يجب صرفها إلى فقير؛ لأنها صارت حقا لله تعالى انتهى وتعليل في معرض النص فلا يقبل ولا يعقل (إنه) الشأن (كان عليها صوم شهر) لم يبين إنه صوم رمضان أو نذر أو كفارة (أفاصوم عنها) وفي رواية لأحمد فيجزئ إن أصوم عنها (قال صومي عنها) فيه دليل على أنه يصوم الولي عن الميت إذا مات، وعليه صوم كان، وبه قال أصحاب الحديث وجماعة من محدثي الشافعية وأبوثور خلافا للجمهور. قال السندي: قوله "وعليها صوم" إطلاقه يشمل الفرض والنذر وخصه الإمام أحمد بالنذر، وقد أخذ بعض أهل العلم بإطلاقه، منهم طاووس وقتادة والحسن والزهري وأبوثور في رواية داود، وهو قول الشافعي القديم. قال النووي: وهو المختار ورجحه البيهقي، وقال لو أطلع الشافعي على جميع الطرق الحديث لم يخالف إنشاء الله تعالى ومن يقول به يدعي النسخ بأدلة غير تامة، ومنهم من يقول معنى أفأصوم عنها أم أفدي عنها تسمية الفداء صوما لكونه بدلا عن الصوم وكل ذلك غير تام والله أعلم - انتهى. وسيأتي بسط الكلام في هذه المسألة في باب القضاء من كتاب الصوم (قال نعم حجي عنها) أي سواء وجب عليها أم لا، أوصت به أم لا، قال ابن الملك: يجوز أن يحج أحد عن الميت بالاتفاق. وقال النووي: فيه دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي والجمهور إن النيابة في الحج جائزة عن الميت وسيجيء مزيد الكلام في أوائل كتاب المناسك (رواه مسلم) في الصيام وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص349- 351- 359- 361) والترمذي في الزكاة وأبوداود فيه وفي الوصايا وابن ماجه في الصوم وفي الصدقات مقطعا. هذا آخر كتاب الزكاة.
(7) كتاب الصوم

(12/242)


(كتاب الصوم) الصوم والصيام في اللغة: الإمساك مطلقا، قال أهل اللغة: صام صوم وصياما واصطام أي أمسك عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير وغير ذلك. ويقال: صام النهار إذا وقف سير الشمس، وصامت الريح إذا ركدت، وماء صائم أي ساكن راكد. وقال الله تعالى: إخبار عن مريم: ?إني نذرت للرحمن صوما? [مريم:26] أي صمتا وإمساكا عن الكلام وكان مشروعا عندهم ألا ترى إلى قولها: ?فلن أكلم اليوم إنسيا? وقال النابغة الذبياني:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاح وأخرى تعلك اللجما

(12/243)


يعني بالصائمة الممسكة عن السير قاله ابن فارس. وقيل: الممسكة عن الاعتلاف أي القائمة على غير علف. وقيل: الممسكة عن الصهيل. وفي الشرع على ما قاله النووي والحافظ إمساك مخصوص في زمن مخصوص عن شيء مخصوص بشرائط مخصوصة. وقال الراغب: هو إمساك المكلف بالنية من الخيط الأبيض أي الفجر الثاني إلى المغرب عن تناول الأطيبين، والاستمناء والاستسقاء. قال الطيبي: فهو مصف سلبي وإطلاق العمل عليه تجوز. وقيل: هو إمساك عن المفطرات حقيقة أو حكما في وقت مخصوص من شخص مخصوص مع النية. وقال الأمير اليماني: الصوم في الشرع، إمساك مخصوص، وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وغيرهما، مما ورد به الشرع في النهار على الوجه المشروع، ويتبع ذلك الإمساك عن اللغو والرفث وغيرهما من الكلام المحرم والمكروه لورود الأحاديث بالنهي عنها في الصوم، زيادة على غيره في وقت مخصوص بشروط مخصوصة تفصلها الأحاديث انتهى. وللصوم فوائد كثيرة ومصالح معقولة جليلة، لا تخفى على العاقل البصير وقد بسطها العلماء حسب ما سنح لهم من شاء الوقف عليها رجع إلى حجة الله، والحصون الحميدية وشرح الموطأ للزرقاني وغير ذلك من الكتب التي ذكرت فيها أسرار الأحكام الشرعية ومصالحها. وقال في حجة الله (ج2 ص37) بعد ذكر أسرار الصوم وحكمة تقدير مدته بالشهر وإذا وقع التصدي لتشريع عام وإصلاح جماهير الناس وطوائف العرب والعجم، أن لا يخير في ذلك الشهر ليختار كل واحدا شهرا يسهل عليه صومه، لأن في ذلك فتحا لباب الاعتذار والتسلل وسدا لباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإخمالا لما هو من أعظم طاعات الإسلام، وأيضا فإن اجتماع طوائف عظيمة من المسلمين على شيء واحد في زمان واحد، يرى بعضهم بعضا معونة لهم على الفعل ميسر لهم ومشجع إياهم، وأيضا فإن اجتماعهم هذا سبب لنزول البركات الملكية على خاصتهم وعامتهم، وأدنى أن ينعكس أنوار كملهم على من دونهم وتحيط دعوتهم من ورائهم وإذا وجب

(12/244)


تعيين ذلك الشهر فلا أحق من شهر نزل فيه
?الفصل الأول?
1976-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء
القرآن وأرتسخت فيه الملة المصطفوية وهو مظنة ليلة القدر - انتهى. وكان مبدأ فرض صوم رمضان بعد ما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان وفي رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة.
1976 – قوله: (إذا دخل رمضان) أي في شهر رمضان، وهو مأخوذ من الرمضاء، يقال: رمض النهار كفرح اشتد حره وقدمه احترقت من الرمضاء للأرض الشديد الحرارة وسمي شهر رمضان به، إما لارتماض الصائمين فيه من حر الجوع والعطش، أو لارتماض الذنوب فيه، أو لرمض الحر وشدة وقوعه فيه حال التسمية، لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور من اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها. فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر أي شدته، أو من رمض الطائر إذا جوفه من شدة العطش وقيل: سمي بذلك لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وهو لا ينصرف للعلمية والألف والنون وفيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من أنه يجوز أن يقال رمضان بدون إضافة لفظ الشهر إليه، ومنعه أصحاب مالك لحديث لا تقولوا رمضان. فإن رمضان اسم من أسماء الله ولكن قولوا شهر رمضان، أخرجه ابن عدي في الكامل عن أبي هريرة مرفوعا، وضعفه بأبي معشر نجيح المدني: وذهب كثير من الشافعية إلى أنه إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة، وإلا فيكره فلا يقال: جاء رمضان. ويجوز أن يقال صمت رمضان، وإلى هذا الفرق مال ابن قدامة في المغنى. وقد رد النووي هذين القولين في شرح مسلم، وفي المجموع بأن الصواب ما ذهب إليه المحققون أن لا كراهة في إطلاق رمضان بقرينة وبلا قرينة لعدم ثبوت نهي فيه، وصوابه الباجي أيضا وبوب البخاري في صحيحه هل يقال رمضان أو شهر رمضان؟، ومن رأى كله واسعا واحتج للجواز بعده أحاديث، وترجم النسائي لذلك أيضا فقال باب الرخصة في أن يقال لشهر رمضان رمضان (فتحت) بضم الفاء وتخفيف

(12/245)


التاء وروى بتشديد التاء. وقال الزرقاني: بتشديد الفوقية ويجوز تخفيفها. وقال القاري: بالخفيف وهو أكثر كما في التنزيل وبالتشديد لتكثير المفعول (أبواب السماء) قيل: هذا من تصرف الرواة وكذا قوله أبواب الرحمة. والأصل أبواب الجنة بدليل ما يقابله وهو غلق أبواب النار. وقال ابن بطال: المراد من السماء الجنة بقرينة ذكر جهنم في مقابلة. وقال العيني: أخذا من ابن العربي لا تعارض في ذلك فأبواب السماء يصعد منها إلى الجنة؛ لأنها فوق السماء وسقفها عرش الرحمن، كما ثبت في الصحيح. وأبواب الرحمة تطلق على أبواب الجنة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح احتجت الجنة والنار - الحديث. وفيه
وفي رواية فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين.

(12/246)


وقال الله للجنة أنت رحمتي أرحم من أشاء من عبادي - الحديث. وقال التوربشتي: كلا الروايتين متقاربان في المعنى (وفي رواية فتحت أبواب الجنة) أي حقيقة لمن مات في رمضان أو عمل عملا لا يفسد عليه أو مجازا؛ لأن العمل فيه يؤدي إلى ذلك أو لكثرة الثواب والمغفرة والرحمة، بدليل رواية أبواب الرحمة، قال السندي: قوله: فتحت أبواب الجنة أي تقريبا للرحمة إلى العباد ولهذا جاء في بعض الروايات أبواب الرحمة، وفي بعضها أبواب السماء، وهذا يدل على أن أبواب الجنة كانت مغلقة ولا ينافيه قوله تعالى: ?جنات عدن?[الرعد:23] مفتحة لهم الأبواب إذ ذلك لا يقتضى دوام كونها مفتحة (وغلقت) بالشديد أكثر قاله القاري (أبواب جهنم) حقيقة أو مجازا نظير ما مر. وقال السندي: أي تبعيدا للعقاب عن العباد، وهذا يقتضي إن أبواب النار كانت مفتوحة ولا ينافيه قوله تعالى: ?حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها?[الزمر:71]لجواز أن يكون هناك غلق قبيل ذلك، وغلق أبواب النار لا ينافي موت الكفرة في رمضان وتعذيبهم بالنار فيه، إذ يكفي في تعذيبهم فتح باب صغير من القبر إلى النار غير الأبواب المعهودة الكبار - انتهى. (وسلسلت الشياطين) أي شدت بالسلاسل حقيقة، والمراد مسترقوا السمع منهم أو هو مجاز على العموم أي يقل إغواءهم فيصيرون كالمسلسلين أو المراد بالشياطين بعضهم وهم المردة منهم كما سيأتي قال الحافظ. قال عياض: يحتمل أنه (أي تفتيح أبواب الجنة وتغليق أبواب جهنم وسلسلة الشياطين) على ظاهره وحقيقته وإن ذلك كله علامة الملائكة لدخول الشهر وتعظيم لحرمته ولمنع الشياطين من إيذاء المؤمنين، ويحتمل أن يكون المراد المجاز ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وإن الشياطين يقل إغواءهم وإيذاءهم فيصيرون كالمصفدين ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء ولناس دون ناس. قال ويؤيد هذا الاحتمال الثاني قوله في رواية عند مسلم: فتحت أبواب الرحمة، وجاء في حديث صفدت مردة الشياطين. قال

(12/247)


ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفحته الله لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموما، وذلك أسباب لدخول الجنة وأبواب لها، وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار وتصفيد الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات. قال الزين بن المنير: والأول أوجه ولا ضرورة تدعوا إلى صرف اللفظ عن ظاهره. وأما الرواية التي فيها أبواب الرحمة وأبواب السماء فمن تصرف الرواة، والأصل أبواب الجنة بدليل ما يقابله وهو غلق أبواب النار. وجزم التوربشتي شارح المصابيح بالاحتمال الأخير، وعبارته فتح أبواب السماء كناية عن تنزيل الرحمة وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد تارة ببذل التوفيق، وأخرى بحسن القبول والمن عليهم بتضعيف الثواب وغلق أبواب جهنم كناية عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش، والتخلص
.......................

(12/248)


من البواعث على المعاصي بقمع الشهوات. وقال القرطبي: يصح حمله على الحقيقة ويكون معناه إن الجنة قد فتحت وزخرفت لمن مات في رمضان لفضل هذه العبادة الواقعة فيه، وغلقت أبواب النار فلا يدخلها منهم أحد مات فيه، وصفدت الشياطين لئلا تفسد على الصائمين. قال الطيبي: فائدة فتح أبواب السماء توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وإن ذلك من الله بمنزلة عظيمة، وأيضا فيه إنه إذا علم المكلف المعتقد ذلك بإخبار الصادق يزيد في نشاطه ويتلقاه بإربحته - انتهى. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: أعلم أن هذا الفضل إنما هو بالنسبة إلى جماعة المسلمين فإن الكفار في رمضان أشد عمها وأكثر ضلالا منهم في غيره لتماديهم في هتك شعائر الله ولكن المسلمين إذا صاموا وقاموا وغاص، كملهم في لجة الأنوار وأحاطت دعوتهم من رواتهم وانعكست أضوائهم على من دونهم وشملت بركاتهم جميعهم فئتهم، وتقرب كل حسب استعداده من المنجيات، وتباعد من المهلكات. صدق إن أبواب الجنة تفتح عليهم وإن أبواب جهنم تغلق عنهم، لأن أصلهما الرحمة واللعنة ولأن اتفاق أهل الأرض في صفة تجلب ما يناسبها من جود الله كما ذكرنا في الاستسقاء والحج، وصدق إن الشياطين تسلسل عنهم، وإن الملائكة تنشر فيهم، لأن الشياطين لا يؤثر إلا فيمن استعدت نفسه لأثر، وإنما استعدادها له لغلواء البهيمة، وقد انقهرت. وإن الملك لا يقرب إلا ممن استعد له، وإنما استعداده بظهور الملكية. وقد ظهرت، وأيضا فرمضان مظنة الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم فلا جرم إن الأنوار المثالية والملكية تنتشر حينئذ، وإن أضدادها تنقبض - انتهى. قال القرطبي: بعد أن رجح حمله ظاهره. فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعه في رمضان كثيرا فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه يعني إن ذلك في حق الصائمين الذين حافظوا على شروط الصوم وراعوا آدبه. أو المصفد بعض

(12/249)


الشياطين وهو المردة لأكلهم. وترجم لذلك ابن خزيمة في صحيحه، وأورد حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني. أو المقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية، لأن لذلك أسبابا الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيصة والشياطين الأنسية، وقريب من هذا المعنى ما قيل إن صدور المعاصي في رمضان ليس من أثر الشيطان بل من أثر النفس الإمارة التي تشربت من أثر الشيطان في سائر السنة، فإن النفس لما تصبغت بلونه تصدر منها أفعاله، والفائدة إذ ذاك في تصفيد الشيطان ضعف التأثير في ارتكاب المعاصي فمن أراد التجنب عن ذلك يسهل عليه. وقال السندي: لا ينافيه وقوع المعاصي إذ يكفي في وجود المعاصي شرار النفس وخباثتها، ولا يلزم أن تكون كل معصية بواسطة شيطان وإلا لكان لكل شيطان شيطان ويتسلسل، وأيضا
وفي رواية فتحت أبواب الرحمة)). متفق عليه.
1977-(2) وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في الجنة ثمانية أبواب، منها:

(12/250)


معلوم أنه ما سبق إبليس شيطان آخر فمعصيته ما كانت إلا من قبل نفسه - انتهى. وقيل المراد من الشياطين مسترق السمع منهم فإنهم كانوا منعوا زمن نزل القرآن من استراق السمع فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ. وقيل يستثنى منهم في التصفيد صاحب دعوتهم وزعيم زمرتهم لمكان الأنظار الذي سأله من الله فأجيب إليه فيقع ما يقع من المعاصي بتسويلة وإغراءه، فائدة التصفيد فض جموحه وكسر شوكته وتسكين نائرته ولو لم يكن الأمر على ذلك لم يكن لإستظهارة بالأعوان والجنود معنى. وقال ابن العربي: لا يتعين في المعاصي والمخالفة أن تكون من وسوسة الشيطان إذ يكون من النفس وشهواتها سلمنا أنه من الشيطان فليس من شرط وسوسته التي يجدها الإنسان في نفسه إتصالها بالنفس، إذ قد يكون مع بعده عنها لأنها من فعل الله فكما يوجد الألم في جسد المسحور والمعيون عند تكلم الساحر أو العاين فكذلك يوجد وسوسة من خارج، وقريب منه ما قال الباجي أنه يحتمل إن الشياطين تصفد حقيقة فتمتنع من بعض الأفعال التي لا تطيقها إلا مع الإنطلاق، وليس في ذلك دليل على امتناع تصرفها جملة، لأن المصفد هو المغلول اليد إلى العنق يتصرف بالكلام والرأي وكثير من السعي - انتهى. وقيل في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له قد كفت الشياطين عنك، فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية (وفي رواية فتحت أبواب الرحمة) أي وغلقت أبواب جهنم إلى آخره (متفق عليه) إلا رواية أبواب السماء فإنها من أفراد البخاري رواها في الصيام ورواها أيضا في صفة إبليس في رواية أبي ذر، وأخرجها أيضا الدارمي وإلا رواية أبواب الرحمة فإنها من أفراد مسلم، وأخرجها النسائي والرواية المتفق عليها فتحت أبواب الجنة أخرجها البخاري في الصيام، وفي صفة إبليس في رواية غير أبي ذر. ورواها أيضا مالك والنسائي والبيهقي (ج4 ص202، 303) فكان حق المصنف إن يجعل الرواية المتفق عليها أصلا. ثم يقول:

(12/251)


وفي رواية فتحت أبواب السماء وفي رواية فتحت أبواب الرحمة ثم يذكر وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين لكنه قلد البغوي، والجزري، ونقل من غير تصرف، والحديث أخرجه أحمد (ج2 ص281)أيضا.
1977- قوله: (في الجنة ثمانية أبواب) أي في سور الجنة ثمانية أبواب، وقد سبق بيان الأبواب الثمانية في شرح حديث إنفاق الزوجين في أوائل باب فضل الصدقة (منها باب) كذا في جميع النسخ، وهكذا في المصابيح والذي في البخاري "فيها باب" وهكذا نقله السيوطي في الجامع الصغير ورواه الجوزقي والبيهقي (ج4
باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون)). متفق عليه.

(12/252)


ص305) بلفظ: إن للجنة ثمانية أبواب. منها باب يسمى الريان - الحديث. ورواية البخاري أصح وأصوب (يسمى الريان) إما لأنه بنفسه ريان لكثرة الأنهار الجارية إليه والأزهار والأثمار الطرية لديه، أو لأن وصل إليه يزول عنه عطش يوم القيامة ويدوم له الطراوة في دار المقامة. قال الزركشي: الريان، فعلان كثير الري ضد العطش سمي به لأنه جزاء الصائمين على عطشهم وجوعهم، وأكتفى بذكر الري عن الشبع لأنه يدل عليه من حيث أنه يسلتزمه. وقيل لأنه أشق على الصائم من الجوع إذ كثيرا ما يصبر على الجوع دون العطش، والريان أصله الرويان اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء، ثم أدغمت في الياء من رويت من الماء بالكسر أروى ريا وريا وروى مثل رضي (لا يدخله) أي لا يدخل منه أي من ذلك الباب (إلا الصائمون) مجازاة لهم لما كان يصيبهم من العطش في صيامهم، والمراد بهم من غلب عليهم الصوم من بين العبادات. قال القاري: قيل: المراد به المقتصر على شهر رمضان بل ملازمة النوافل من ذلك وكثرتها قال السندي: قوله الصائمون، أي المكثرون الصيام كالعادل والظالم يقال لمن يعتاد ذلك لا لمن يفعل مرة، والظاهر إن الإكثار لا يحصل بصوم رمضان وحده بل بأن يزيد عليه ما جاء فيه إنه صيام الدهر والله أعلم - انتهى. قال العراقي: وقد استشكل بعضهم الجمع بين حديث الريان وبين الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم من حديث عمر مرفوعا، ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء، ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء قالوا فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -إنه يدخل من أيها شاء، وقد لا يكون فاعل هذا الفعل من أهل الصيام بأن لا يبلغ وقت الصيام الواجب أو لا يتطوع بالصيام، والجواب عنه بوجهين أحدهما أنه يصرف عن أن يشاء باب الصيام فلا يشاء الدخول منه ويدخل من أي باب شاء غير الصيام فيكون

(12/253)


قد دخل من الباب الذي شاءه. والثاني إن حديث عمر قد اختلفت ألفاظه فعند الترمذي فتحت له ثمانية أبواب من الجنة، يدخل من أيها شاء فهذه الرواية تدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية. منها وقد لا يكون باب الصيام من هذه الثمانية ولا تعارض حينئذ ذكره العيني. وقال السندي: لا ينافيه ما جاء في بعض الأعمال أن صاحبه يفتح له تمام أبواب الجنة إذ يجوز أن لا يدخل من هذا الباب إن لم يكن من الصائمين ويجوز أن لا يفعل أحد ذلك العمل إلا وفقه الله لإكثار الصوم بحيث يصير من الصائمين - انتهى. (متفق عليه) الحديث بهذا اللفظ من أفراد البخاري أورده في باب صفة أبواب الجنة من بدأ الخلق، ولفظ مسلم إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، ولا يدخل معهم أحد غيرهم. يقال: أين الصائمون فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أغلق، فلم يدخل منه أحد. وهذه الرواية أخرجها البخاري في الصيام،
1978-(3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.
فكان حق المصنف أن يقول رواه البخاري، ثم يشير إلى الرواية المتفق عليها، وهذه الرواية أخرجها أيضا أحمد (ج5 ص333، 335) والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن ماجه والبيهقي وغيرهم بألفاظ متقاربة، وزاد بعضهم ومن دخله لم يظمأ أبدا.

(12/254)


1978 – قوله: (من صام رمضان) بنصبه على الظرفية أي فيه بأن صامه كله عند القدرة عليه أو بعضه عند عجزة ونيته الصوم لولا العجز (إيمانا) تصديقا بأنه فرض عليه حق وأنه من أركان الإسلام ومما وعدالله عليه من الأجر والثواب قاله السيوطي. قيل نصبه على أنه مفعول لأجله أي لأجل الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بما جاء به في فضل رمضان والأمر بصيامه أي الحامل له على ذلك، والداعي إليه هو الإيمان بالله، أو بما ورد في فضله وفرضية صومه. وقيل: نصبه على الحال بأن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل أي مؤمنا يعني مصدقا بأنه حق وطاعة، أو مصدقا بما ورد في فضله وقيل: نصبه على التمييز أو على المصدرية أي صوم إيمان أو صوم مؤمن وكذا قوله (واحتسابا) أي طلبا للثواب منه تعالى في الآخرة أو إخلاصا أي باعثه على الصوم ما ذكر لا الخوف من الناس ولا الإستحياء منهم ولا قصد السمعة والرياء عنهم. وقال الخطابي: احتسابا أي نية وعزيمة وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير كاره له ولا مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه ولكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب. وقال البغوي: قوله: احتسابا أي طلبا لوجه الله تعالى وثوابه، يقال فلان يحتسب الأخبار ويتحسسها أي يتطلبها - انتهى. وفي العباب أحتسبت بكذا أجرا عند الله أي أعتددته أنوى به وجه الله تعالى ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: من صام رمضان إيمانا واحتسابا (غفر له ما تقدم من ذنبه) اسم جنس مضاف فيتناول جميع الذنوب إلا أنه مخصوص عند الجمهور بالصغائر، وقد تقدم البحث في ذلك في كتاب الطهارة، وقوله " من ذنبه" يتعلق بقوله غفر أي غفر من ذنبه ما تقدم، ويجوز أن تكون من البيانية لما تقدم وهو منصوب المحل على المفعولية على الوجه الأول، ومرفوع المحل على أنه مفعول لما يسم فاعله على الوجه الثاني وزاد النسائي في السنن الكبرى من طريق قتيبة بن سفيان وما تأخر، وقد تابع قتيبة على هذه

(12/255)


الزيادة جماعة ذكرها الحافظ في أوائل الصيام وأواخره من الفتح، وفيه رد على من أدعى تفرد قتيبة بهذه الزيادة كالمنذري أو استنكرها كابن عبدالبر. وقد استشكلت هذه الزيادة بأن المغفرة تستدعى سبق ذنب والمتأخر من الذنوب لم يأت بعد فكيف يغفر. وأجيب بأن معناه إن ذنوبهم تقع مغفورة. وقيل هو كناية عن حفظ الله إياهم في المستقبل من الكبائر
ومن قام إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له من تقدم من ذنبه)). متفق عليه.
1979-(4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف،

(12/256)


فلا تقع منهم كبيرة بعد ذلك (ومن قام رمضان) أي لياليه أو معظمها أو بعض كل ليلة بصلاة التراويح وغيرها من التلاوة والذكر والطواف ونحوها. وقال ابن الملك: غير ليلة القدر تقديرا أي لما سيأتي التصريح بها تحريرا أو معناه أدى التراويح فيها ذكره القاري. وقال الحافظ: قام رمضان أي قام لياليه مصليا، والمراد من قيام الليل ما يحصل به مطلق القيام. وذكر النووي إن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها. وأغرب الكرماني فقال: اتفقوا على أن المراد قيام رمضان صلاة التراويح (ومن قام ليلة القدر) أي أحياها سواء علم بها أو لا، وليلة القدر منصوب على أنه مفعول به، لا فيه إذ المعنى من أحيي ليلة القدر. ويجوز نصبه بأنه مفعول فيه أي من أطاع الله فيها. قيل: ويكفي في ذلك ما يسمى قياما حتى أن من أدى العشاء بجماعة فقد قام لكن الظاهر من الحديث عرفا، كما قال الكرماني أنه لا يقال قام الليلة إلا إذا قام جميعها أو أكثرها (غفر له ما تقدم من ذنبه) قد سبق في كتاب الطهارة إن المكفرات إن صادفت السيئات تمحوها إذا كانت صغائر وتخففها إذا كانت كبائر وألا تكون موجبة لرفع الدرجات في الجنات. وقال الطيبي: رتب على كل من الأمور الثلاثة أمرا واحدا وهو الغفران، تنبيها على أنه نتيجة الفتوحات الإلهية ومستتبع للعواطف الربانية وذكر الولي العراقي توجيها آخر لذلك، وأرجع إلى شرح التقريب (ج4 ص164) (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان والصوم، ومسلم في باب الترغيب في قيام رمضان من كتاب الصلاة، وأخرجه أيضا أحمد، ومالك في الصلاة. والترمذي في الصوم، وأبوداود في الصلاة. والنسائي في الصوم، وابن ماجه فيه وفي الصلاة، والدارمي والبيهقي وغيرهم مختصرا ومطولا.

(12/257)


1979- قوله: (كل عمل ابن آدم) قال القاري: أي كل عمل صالح لابن آدم (يضاعف) أي ثوابه فضلا منه تعالى (الحسنة) مبتدأ وخبر جنس الحسنات الشامل لأنواع الطاعات مضاف ومقابل (بعشر أمثالها) لقوله تعالى: ?من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها?[الأنعام:161] وهذا أقل المضاعفة وإلا فقد يزاد (إلى سبع مأة ضعف) بكسر الضاد أي مثل بل إلى أضعاف كثيرة كما في التنزيل: ?من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا?[البقرة:245] وكما وقع في رواية بعد ذلك زيادة قوله إلى ما شاء الله تعالى. وقال بعضهم: التقدير حسنة
قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به،

(12/258)


واللام عوض عن العائد إلى المبتدأ، وهو كل أو العائد محذوف أي الحسنة منه، وقال القاضي البيضاوي: أراد بكل عمل الحسنات من الأعمال فلذلك وضع الحسنة في الخبر موضع الضمير الراجع إلى المبتدأ وقوله (إلا الصوم) مستثنى من كلام غير محكى دل عليه ما قبله، والمعنى إن الحسنات يضاعف أجرها من عشر أمثالها إلى سبع مأة ضعف إلا الصوم فلا يضاعف إلى هذا القدر بل ثوابه لا يقدر قدره، ولا يحصيه إلا الله تعالى. ولذلك يتولى الله جزاءه بنفسه ولا يكله إلى غيره - انتهى. وفيه أنه يحتمل أن يكون أول الكلام حكاية إلا أنه لم يصرح بذلك في صدره بل في وسطه قال الحافظ: أما قول البيضاوي إن الاستثناء من كلام غير محكى، ففيه نظر. فقد يقال هو مستثنى من كل عمل وهو مروي عن الله لقوله في أثناء الحديث قال الله تعالى، ولما لم يذكره في صدر الكلام أورده في أثناءه بيانا وفائدته تفخيم شأن الكلام وأنه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى - انتهى. (فإنه لي وأنا أجزي به) بفتح الهمزة وكسر الزاي يعني إن الصوم سر بيني وبين عبدي يفعله خالصا لوجهي لا يطلع عليه العباد؛ لأن الصوم لا صورة له في الوجود بخلاف سائر العبادات وأنا العالم بجزاءه أتولى بنفسي إعطاء جزاءه لا أكله إلى غيري، وفيه إشارة إلى تفخيم العطاء وتعظيم الجزاء وإن مضاعفة جزاء الصوم من غير عدد ولا حساب. قال السندي: قد ذكروا لقوله: فإنه لي وأنا أجزي به معاني (بلغها أبوالخير الطالقاني في حظائر القدس له إلى خمسة وخمسين قولا) لكن الموافق للأحاديث أنه كناية عن تعظيم جزاءه وأنه لا حد له، وهذا هو الذي تفيده المقابلة بما قبله في هذا الحديث وهو الموافق لقوله تعالى: ?إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب?[الزمر:15] وذلك لأن اختصاصه من بين سائر الأعمال بأنه مخصوص بعظيم لا نهاية لعظمته ولا حد لها، وإن ذلك العظم هو المستولى لجزاءه مما ينساق الذهن منه إلى أن جزاءه مما لا حد له. ويمكن أن

(12/259)


يقال على هذا معنى قوله "لي أي أنا منفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيفه، وبه تظهر المقابلة بينه وبين ما جاء في بعض الأحاديث من قوله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام هو لي أي كل عمله له بإعتبار أنه عالم بجزاءه ومقدار تضعيفه إجمالا لما بين الله تعالى فيه إلا الصوم، فإنه الصبر الذي ما حد لجزاءه حدا. بل قال: ?إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب?[الزمر:10] انتهى. وقال الحافظ: قد اختلف العلماء في المراد بهذا مع أن الأعمال كلها الله تعالى وهو الذي يجزي بها على أقوال، ثم ذكر الحافظ عشرة أقوال. أحدها إن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره حكاه المأزري ونقله عياض عن أبي عبيد. قال أبوعبيد: في غريبة إن أعمال البر كلها لله وهو الذي يجزي بها فنرى والله أعلم. إنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله، وإنما هو شيء في القبل. ويؤيد هذا التأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ليس في الصيام رياء حدثنية شبابة عن عقيل عن الزهري فذكره مرسلا. قال: وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا
..........................

(12/260)


بالحركات إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفي عن الناس هذا وجه الحديث عندي - انتهى. قال الحافظ: وقد روى الحديث المذكور البيهقي في الشعب من وجه آخر عن الزهري موصولا عن أبي سلمة عن أبي هريرة وإسناده ضعيف، ولفظه الصيام لا رياء فيه قال الله عزوجل هو لي وأنا أجزي به. قال الحافظ: وهذا لو صح لكان قاطعا للنزاع. وقال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فإضافة الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث يدع شهوته من أجلي. وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها وقل أن يسلم ما يظهر من شوب بخلاف الصوم وارتضى هذا الجواب المازري وقرره القرطبي، بأن أعمال بني آدم لما كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم بخلاف الصوم فإن حال الممسك شبعا مثل حال الممسك تقربا يعني في الصورة الظاهرة. قلت: (قائله الحافظ) معنى النفي في قوله لا رياء في الصوم أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية فدخول الرياء في الصوم، إنما يقع من جهة الإخبار بخلاف بقية الأعمال فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها. ثانيها إن المراد بقوله: وأنا أجزي به إني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. وأما غيره من العبادات فقد أطلع عليها بعض الناس. قال القرطبي: معناه إن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس، وإنها تضاعف من عشرة إلى سبع مأة إلى ما شاء الله إلا الصيام، فإن الله يثيب عليه بغير تقدير ويشهد لهذا المعنى رواية الموطأ وكذلك رواية الأعمش عن أبي صالح (عند ابن ماجه) حيث قال: كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمأة ضعف إلى ما شاء الله قال الله إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به أي أجازي عليه جزاء كثيرا من غير تعيين لمقداره وهذا كقوله تعالى: ?إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب?[الزمر:10]- انتهى: والصابرون

(12/261)


الصائمون في أكثر الأقوال. وسبق إلى هذا أبوعبيد في غريبة، فقال بلغني عن ابن عيينة أنه قال: ذلك واستدل له بأن الصوم هو الصبر؛ لأن الصائم يصبر نفسه عن الشهوات: وقد قال تعالى: ?(إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب?انتهى. ثم أورد الحافظ روايات تشهد لهذا المعنى ثم ذكر باقي الأقوال وقال واتفقوا على أن المراد بالصيام صيام من سلم صيامه عن المعاصي قولا وفعلا، ونقل ابن العربي عن بعض الزهاد إنه مخصوص بصيام خواص الخواص. فقال: إن الصوم على أربعة أنواع: صيام العوام: وهو الصوم عن الأكل والشرب والجماع. وصيام خواص العوام: و هو هذا مع اجتناب المحرمات من قول و فعل. وصيام الخواص: وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته. وصيام خواص الخواص: وهو الصوم عن غير الله فلا فطر لهم إلى يوم القيامة يعني لا يفطرون إلا برؤيته ولقائه. قال الحافظ: وهذا مقام عال لكن في حصر المراد من الحديث في هذا النوع نظر لا يخفى
يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم

(12/262)


وأقرب الأقوال التي ذكرتها إلى الصواب الأول والثاني - انتهى. (يدع شهوته) أي يترك ما اشتهته نفسه من محظورات الصوم وهو تعليل لاختصاصه بعظم الجزاء. قال الطيبي: جملة مستأنفة وقعت موقع البيان لموجب الحكم المذكور (وطعامه) تخصيص بعد تعميم أو الشهوة كناية عن الجماع، والطعام عبارة عن سائر المفطرات، وفي رواية قدم الطعام على الشهوة ولابن خزيمة يدع الطعام والشراب من أجلي ويدع لذته من أجلي ويدع زوجته من أجلي وهذا صريح في أن المراد بالشهوة شهوة الجماع. وأصرح منه ما وقع عند الحافظ سموية يترك شهوته من الطعام والشراب والجماع (من أجلي) أي من جهة امتثال أمري وقصد رضائي وأجري. وفي الموطأ: إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. قال الحافظ: قد يفهم من الإنيان بصيغة الحصر التنبيه على الجهة التي بها يستحق الصائم ذلك وهو الإخلاص الخاص به، حتى لو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتخمة لا يحصل الصائم الفضل المذكور (للصائم فرحتان) أي مرتان من الفرح عظيمان إحداهما في الدنيا والأخرى في الأخرى (فرحة عند فطره) أي إفطاره بالخروج عن عهدة المأمورة أو بوجدان التوفيق لإتمام الصوم أو بخلوص الصوم وسلامته من المفسدات والرفث واللغو، أو بما يرجوه من حصول الثواب أو بالأكل والشرب بعد الجوع والعطش. قال القرطبي: معناه يفرح بزوال جوعه وعطشه حيث أبيح له الفطر وهذا الفرح طبيعي وهو السابق للفهم. وقيل: إن فرحه بفطره إنما هو من حيث أنه تمام صومه وخاتمة عبادته وتخفيف من ربه ومعونة على مستقبل صومه. قال الحافظ: ولا مانع من الحمل على ما هو أعم مما ذكر ففرح كل أحد بحسبه لاختلاف مقامات الناس في ذلك، فمنهم من يكون فرحة مباحا وهو الطبيعي، ومنهم من يكون مستحبا وهو من يكون سببه شيئا مما ذكر (وفرحة عند لقاء ربه) أي بنيل الجزاء أو الفوز باللقاء. وقيل: هو السرور بقبول صومه وترتب الجزاء الوافر عليه (ولخلوف فم الصائم) بفتح لام الابتداء

(12/263)


تأكيدا، وبضم الخاء المعجمة واللام وسكون الواو وبعدها فاء، من خلف فمه إذا تغيرت رائحة فمه يخلف خلوفا بالضم لا غير. قال عياض: هذه الرواية الصحيحة وبعض الشيوخ يقوله بفتح الخاء. قال الخطابي: وهو خطأ وحكى الفارسي: الوجهين، وصوب الضم. وبالغ النووي في شرح المهذب. فقال لا يجوز فتح الخاء. واحتج غيره لذلك بأن المصادر التي جاءت على فعول بفتح أوله قليلة ذكرها سيبوية وغيره وليس هذا منها. واتفقوا على أن المراد به تغير رائحة فم الصائم بسبب الصيام كذا في الفتح. قال الباجي: الخلوف تغير رائحة فم الصائم وإنما يحدث من خلو المعدة بترك الأكل ولا يذهب بالسواك؛ لأنها رائحة النفس الخارج من المعدة. وإنما يذهب بالسواك
أطيب عند الله من ريح المسك،

(12/264)


ما كان في الأسنان من التغير. وقال البرقي: هو تغير طعم الفم وريحه لتأخر الطعام. وقال عياض: هو ما يخلف بعد الطعام في الفم من ريحه كريهة لخلاء المعدة من الطعام (أطيب عند الله من ريح المسك) أي صاحب الخلوف عند الله أطيب وأكثر قبولا ووجاهة وأزيد قربا منه تعالى من صاحب المسك بسبب ريحه عندكم وهو تعالى أكثر إقبالا عليه بسببه من إقبالكم على صاحب المسك بسببه. وفي لفظ لمسلم والنسائي أطيب عند الله يوم القيامة، وقد وقع خلاف بين ابن الصلاح وابن عبدالسلام في أن أطيب رائحة الخلوف هل هو في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط. فذهب ابن عبدالسلام إلى أنه في الآخرة كما في دم الشهيد. واستدل برواية مسلم والنسائي هذه. وروى أبوالشيخ بإسناد فيه ضعف عن أنس مرفوعا يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح أفواههم أفواههم أطيب عندالله من ريح المسك وذهب ابن الصلاح إلى أن ذلك في الدنيا والآخرة جميعا، واستدل بحديث ولخلوف فم الصائم حين يخلف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك. قال الولي العراقي: هذه الرواية ظاهرة في أن طيبة في تلك الحالة، وحمله على أنه سبب للطيب في حالة مستقبلة تأويل مخالف للظاهر، ويؤيده ما روى الحسن بن سفيان في مسنده والبيهقي في الشعب من حديث جابر في أثناء حديث مرفوع في فضل هذه الأمة في رمضان. وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك. قال المنذري: إسناده مقارب وحسنه أبوبكر السمعاني في أمالية قال وذهب جمهور العلماء إلى ذلك كالخطابي وابن عبدالبر والبغوي في شرح السنة والقدوري من الحنفية، والداودي من قدماء المالكية وأبي عثمان الصابوني وأبي بكر السمعاني وأبي حفص الصفار الشافعيين في أماليهم وأبي بكر بن العربي. قال فهؤلاء أئمة المسلمين شرقا وغربا لم يذكروا سوى ما ذكرته ولم يذكر أحد وجها تخصيصا بالآخرة بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا والقبول ونحوهما مما هو ثابت في الدنيا

(12/265)


والآخرة. قال: وأما ذكر يوم القيامة في تلك الرواية فلأنه يوم الجزاء. وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة طلبا لرضا الله تعالى حيث يؤمر بإجتنابها فقيده بيوم القيامة في رواية، وأطلق في باقي الروايات نظرا إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين وهو كقوله إن ربهم بهم يومئذ لخبير وهو خير بهم في كل يوم - انتهى. واستشكل كون الخلوف أطيب عندالله من ريح المسك من جهة أن الله تعالى منزه عن استطابة الروائح الطيبة واستقذار الروائح الخبيثة فإن ذلك من صفات الحيوان مع أن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه وأجيب عن ذلك بوجوه منها إنه مجاز واستعارة؛ لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة منا، فاستعير ذلك في الصوم لتقريبه من الله. قال المازري: فيكون المعنى إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك عندكم أي يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم وذكر ابن عبدالبر نحوه ومنها إن المراد الله تعالى يجزيه في الآخرة فتكون نكهته أطيب
والصيام جنة،

(12/266)


من ريح المسك كما سيأتي المكلوم وريح جرحه تفوحه مسكا. ومنها أن المراد أن صاحب الخلوف ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عندنا لاسيما بالإضافة إلى الخلوف وهما ضدان حكى القولين عياض. ومنها أن ذلك في حق الملائكة وأنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك فالمراد بعند الله عند ملائكته ومنها أنه يعتد برائحة الخلوف ويدخر على ما هي عليه أكثر مما يعتد بريح المسك وإن كانت عندنا نحن بخلافه حكاه عياض أيضا. ومنها أن الخلوف أكثر ثوابا من المسك المندوب إليه في الجمع والأعياد ومجالس الحديث والذكر وسائر مجامع الخير قاله الداودي وأبوبكر بن العربي والقرطبي. وقال النووي: هو الأصح وحاصله حمل معنى الطيب على القبول والرضا ومنها إن الغرض نهي الناس عن تقذر مكالمة الصائمين بسبب الخلوف هذا، وإنما كان أثر الصوم أطيب من أثر الجهاد حيث وصف خلوف فم الصائم بأنه أطيب من ريح المسك، ودم الشهيد شبه ريحه بريح المسك مع ما فيه من المخاطرة بالنفس وبذل الروح، لأن الصوم أحد أركان الإسلام بخلاف الجهاد، ولأن الجهاد فرض كفاية، والصوم فرض عين، وفرض العين أفضل من فرض الكفاية، كما نص عليه الشافعي ذكره القسطلاني، واستدل به على كراهة السواك للصائم بعد الزوال لما فيه من إزالة الخلوف المشهود له بأنه أطيب من ريح المسك، وسيأتي الكلام فيه في شرح حديث عامر بن ربيعة في باب تنزيه الصوم (والصيام جنة) بضم الجيم وتشديد النون وهي الوقاية والستر. قال المنذري: هو ما يجنك أي يسترك ويقيك مما تخاف ومعنى الحديث إن الصوم يستر صاحبه ويحفظه من الوقوع في المعاصي - انتهى. قلت: زاد الترمذي وسعيد بن منصور جنة من النار وللنسائي من حديث عثمان بن أبي العاص جنة من النار كجنة أحدكم من القتال، ولأحمد من حديث أبي هريرة جنة وحصين حصين من النار، ولأحمد والنسائي والبيهقي من حديث أبي عبيدة بن الجراح الصيام جنة ما لم يخرقها زاد الدارمي

(12/267)


بالغيبة. قال الحافظ: بعد ذكر هذه الروايات قد تبن بها متعلق هذا الستر وإنه من النار وبهذا جزم ابن عبدالبر. وأما صاحب النهاية فقال معنى كونه جنة أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات. وقال القرطبي: جنة أي سترة بحسب مشروعيته فينبغي للصائم أن يصونه مما يفسده وينقص ثوابه، وإليه الإشارة بقوله: فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث إلى آخره، ويصح أن يراد أنه سترة بحسب فائدته وهو أضعاف شهوات النفس. وإليه الإشارة بقوله: يدع شهوته إلى آخره، ويصح أن يراد أنه سترة بحسب ما يحصل من الثواب وتضعيف الحسنات. وقال عياض: في الإكمال معناه سترة من الآثام أو من النار من جميع ذلك وبالأخير جزم النووي. وقال ابن العربي: إنما كان الصوم جنة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بالشهوات، فالحاصل إنه إذا كف نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساترا له من النار في الآخرة. وقال الشاه ولي الله الدهلوي:
وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله.

(12/268)


"الصيام جنة، لأنه يقى شر الشيطان والنفس ويبعد الإنسان من تأثيرهما ويخالفه عليهما فلذلك كان من حقه تكميل معنى الجنة بتنزيه لسانه عن الأقوال والأفعال الشهوية، وإليه أشار بقوله: فلا يرفث والسبعية وإليه الإشارة في قوله: ولا يصخب وإلى الأقوال بقوله سابه وإلى الأفعال بقوله قاتله - انتهى. قال الحافظ: وفي زيادة أبي عبيدة إشارة إلى أن الغيبة تضر بالصوم، وقد حكى عن عائشة وبه قال الأوزاعي إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم وأفرط ابن حزم فقال يبطله كل معصية متعمد لها ذاكر لصومه سواء كانت فعلا أو قولا لعموم قوله "فلا يرفث ولا يجهل" ولقوله في الحديث الآتي (في باب تنزيه الصوم) من لم يدع قول الزور والعمل به الخ. والجمهور وإن حملوا النهي على التحريم إلا أنهم خصوا الفطر بالأكل والشرب والجماع - انتهى. كلام الحافظ (وإذا) وفي بعض النسخ فإذا كما في صحيح مسلم أي إذا عرفت ما في الصوم من الفضائل الكاملة والفوائد الشاملة (كان يوم صوم أحدكم) برفع يوم على أن كان تامة. وقيل: بالنصب فالتقدير إذا كان الوقت يوم صوم أحدكم (فلا يرفث) بالمثلثة وبتثليث الفاء قاله الزركشي والقسطلاني والعيني وكذلك في القاموس. والرفث، بفتح الراء، والفاء يطلق، ويراد به الجماع. ومقدماته، ويطلق. ويراد به الفحش. ويطلق ويراد به خطاب الرجل والمرأة، فيما يتعلق بالجماع. وقال كثير من العلماء: إن المراد به في هذا الحديث الفحش وردى الكلام وقبيحه. وقيل: يحتمل أن يكون النهي لما هو أعم من ذلك (ولا يصخب) بالصاد المهملة والخاء المعجمة المفتوحة أي لا يصيح ولا يخاصم. وقيل: أي لا يرفع صوته بالهذيان وفي رواية للشيخين ولا يجهل مكان قوله ولا يصخب أي لا يفعل شيئا من أفعال أهل الجهل كالصياح والسفه والسخرية ونحو ذلك، وفي رواية سعيد بن منصور ولا يجادل وهذا كله ممنوع على الإطلاق لكنه يتأكد بالصوم. ولذا قال القرطبي: لا يفهم من هذا إن غير

(12/269)


يوم الصوم يباح فيه ما ذكر وإنما المراد إن المنع من ذلك يتأكد بالصوم (فإن سابه أحد) وفي رواية للشيخين شاتمة أي خاصمة باللسان (أو قاتله) قال عياض: قاتله أي دافعه ونازعه ويكون بمعنى شاتمة ولاعنه وقد جاء القتل بمعنى اللعن وفي رواية سعيد بن منصور أو ما رأه أي جادله ولأبي قرة وإن شتمه إنسان فلا يكلمه وقد استشكل ظاهر لفظ الكتاب؛ لأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين والصائم مأمور. بأن يكف نفسه عن ذلك، ولا تصدر منه الأفعال التي رتب عليها الجواب خصوصا المقاتلة والجواب عن ذلك إن المراد بالمفاعلة التهيؤ لها أي إن تهيأ أحد لمقاتلته أو مشاتمته فليقل إني صائم فإنه إذا قال ذلك أمكن أن يكف عنه، فإن أصر دفعه بالأخف فالأخف كالصائل هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة، فإن كان المراد بقوله قاتله لاعنه، فالمراد بالحديث إنه لا يعامله بمثل
فليقل: إني امرؤ صائم)). متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1980-(5) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان

(12/270)


عمله بل يقتصر على قوله إني صائم كذا في الفتح. وقال الباجي: يحتمل هذا ثلاثة أوجه يحتمل أنه يريد إن أراد أن يشاتمه أو يقاتله فليمتنع من ذلك، وليقل إني صائم. والثاني: إن لفظ المفاعلة وإن كانت أظهر في فعل الإثنين إلا أنها قد تستعمل في فعل الواحد، فيقال: سافر الرجل وعالج الطبيب المريض وعافاه الله وبارك له. والثالث: أن يريد إن وجدت المشاتمة منهما جميعا فليذكر الصائم نفسه بصومه ولا يستديم المشاتمة والمقاتلة واستبعده الحافظ لما تقدم من رواية فإن شتمه (فليقل إني امرؤ صائم) أي فليعتذر عنده من عدم المقابلة بأن حاله لا يساعد المقابلة بمثله أو فليذكر في نفسه أنه صائم ليمنعه ذلك عن المقابلة بمثله. قال الحافظ: اتفق الروايات كلها على أنه يقول إني صائم فمنهم من ذكرها مرتين، ومنهم من اقتصر على واحدة. واختلف في المراد بهذا القول هل يخاطب بها الذي يكلمه أو يقولها في نفسه وبالثاني جزم المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة، ورجح النووي الأول في الأذكار. وقال في شرح المهذب: كل منهما حسن والقول باللسان أقوى ولو جمعهما لكان حسنا. وقال الرؤياتي أن كان رمضان فليقل بلسانه وإن كان غيره فليقله في نفسه وأدعى ابن العربي إن موضع الخلاف في التطوع. وأما في الفرض فيقول بلسانه قطعا. وفائدة قوله إني صائم أنه يمكن أن يكف عنه بذلك فإن أصر دفعه بالأخف فالأخف كالصائل هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة، فإن كان المراد بقاتله لاعنه فالمراد من الحديث أنه لا يعامله بمثل عمله بل يقتصر على قوله إني صائم. وأما تكرير قوله إني صائم فليتأكد الانزجار منه ممن يخاطبه بذلك. ونقل الزركشي إن المراد بقوله مرتين في بعض الروايات يقوله مرة بقلبه ومرة بلسانه فيستفيد بقوله بقلبه كف لسانه عن خصمه وبقوله بلسانه كف خصمه عنه. وتعقب بأن القول حقيقة باللسان، وأجيب بأنه لا يمنع المجاز (متفق عليه) والسياق المذكور لمسلم. والحديث أخرجه البخاري في الصيام

(12/271)


واللباس والتوحيد مختصرا ومطولا ومسلم في الصوم. وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وغيرهم بألفاظ متقاربة مختصرا ومطولا, قد ذكر الجزري في جامع الأصول والمنذري في الترغيب شيئا من اختلاف ألفاظه.
1980- قوله: (إذا كان) أي وجد وتحقق على أن الكون تام وإذا كان الزمان أول ليلة على أن
صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة يغلق منها باب، وينادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ?

(12/272)


الكون ناقص (صفدت) بضم الصاد المهملة وكسر الفاء المشددة أي شدت وأوثقت بالأصفاد وهي الأغلال وهو بمعنى سلسلت (الشياطين) وفي الحديث الذي يليه وتغل فيه مردة الشياطين، وفي حديث رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أحمد والنسائي ويصفد فيه كل شيطان مريد (ومردة الجن) جمع مارد كطلبة وجهلة وهو العاتي الشديد وقال القاري: هو المتجرد للشر ومنه إلا مرد لتجرده عن الشعر وهو تخصيص بعد تعميم أو عطف تفسير وبيان كالتتميم. وقال المنذري في الترغيب: ولابن خزيمة صفدت الشياطين مردة الجن بغير واو (فلم يفتح منها باب) هو كالتأكيد لما قبله (وينادى مناد) قيل: يحتمل أنه ملك أو المراد أنه يلقي في قلوب من يريد الله إقباله على الخير كذا في قوت المغتدى. قال السندي: إن قلت أي فائدة في هذا النداء مع أنه غير مسموع للناس. قلت: قد علم الناس به بإخبار الصادق وبه يحصل المطلوب بأن يتذكر الإنسان كل ليلة بأنها ليلة المناداة فيتعظ بها (يا باغي الخير) أي طالب الخير (أقبل) أي على فعل الخير فهذا أو إنك فإنك تعطي جزيلا بعمل قليل، وذلك لشرف الشهر. قال القاري: أي طالب العمل والثواب أقبل إلى الله تعالى وطاعته بزيادة الاجتهاد في عبادته، وهو أمر من الإقبال أي تعال فإن هذا أو إنك فإنك تعطى الثواب الجزيل بالعمل القليل أو معناه يا طالب الخير المعرض عنا وعن طاعتنا أقبل إلينا وعلى عبادتنا فإن الخير كله تحت قدرتنا وإرادتنا. قال العراقي: ظن ابن العربي إن قوله في الشقين يا باغي من البغي فنقل عن أهل العربية إن أصل البغي في الشر وأقله ما جاء في طلب الخير. ثم ذكر قوله تعالى: ?غير باغ ولا عاد?[البقرة:173] وقوله: ?يبغون في الأرض بغير الحق?[يونس:23] والذي وقع في الآيتين هو بمعنى التعدي، وأما في هذا الحديث فمعناه الطلب، والمصدر منه بغي وبغاية بضم الباء فيهما قال الجوهري: بغيته أي طلبته - انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: بعد ذكره

(12/273)


قلت الأمر كما قال العراقي وكذلك في قوله تعالى: ?ذلك ما كنا نبغ?[الكهف:64] معناه الطلب (ويا باغي الشر أقصر) بفتح الهمزة وكسر الصاد من الإقصار وهو الكف عن الشيء مع القدرة عليه، فإن عجز عنه يقول قصرت عنه بلا آلف أي يأمن يسرع ويسعى في المعاصي. وقال القاري: أي يأمر يد المعصية أمسك عن المعاصي وأرجع إلى الله تعالى فهذا أو إن قبول التوبة وزمان الاستعداد للمغفرة ولعل طاعة المطيعين وتوبة المذنبين ورجوع المقصرين في رمضان من أثر الندائين ونتيجة إقبال الله تعالى على الطالبين، ولهذا ترى أكثر المسلمين صائمين حتى الصغار والجوار بل غالبهم الذين يتركون الصلاة يكونون حينئذ مصلين مع أن الصوم أصعب من الصلاة، وهو يوجب ضعف البدن الذي يقتضي الكسل عن العبادة وكثرة النوم عادة ومع ذلك ترى المساجد معمورة وبإحياء الليل مغمورة والحمد لله
ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)). رواه الترمذي، وابن ماجه.
1981-(6) ورواه أحمد عن رجل،

(12/274)


ولا حول ولا قوة إلا بالله - انتهى. (ولله عتقاء من النار) أي ولله عتقاء كثيرون من النار فلعلك تكون من زمرتهم (وذلك) أي المذكور من النداء والعتق. وقال الطيبي: الإشارة إما للنداء لبعده أو للعتق وهو القريب. وقال السيوطي: قلت الثاني أرجح بدليل الحديث وأما ونادى (هكذا وقع بلفظ الماضي عند ابن ماجه والحاكم والبيهقي في هذا الحديث) فإنه معطوف على صفدت الذي هو جواب إذا كان أول ليلة - انتهى. يريد أن النداء يكون ليلة واحدة لا في كل ليلة وحديث الرجل عند أحمد والنسائي فيه تصريح بوقوع النداء في كل ليلة كما سيأتي (كل ليلة) أي في كل ليلة من ليالي رمضان (رواه الترمذي وابن ماجه) وأخرجه أيضا ابن خزيمة والحاكم (ج1 ص421) والبيهقي (ج4 ص303) كلهم من رواية أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، والحديث صحه الحاكم عن شرط الشيخين وسكت عليه الذهبي في تلخيصه. وقال الجزري: هذا إسناد صحيح. قال ميرك: بعد نقل كلام الجزري وهذا لا يخلو عن تأمل فإن أبابكر بن عياش مختلف فيه والأكثر على أنه كثير الغلط وهو ضعيف عن الأعمش. ولذا قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من رواية أبي بكر وسألت محمد بن إسماعيل يعني البخاري عن هذا الحديث. فقال نا الحسن بن الربيع نا أبوالأحوص عن الأعمش عن مجاهد قوله قال إذا كان أول ليلة من شهر رمضان فذكر الحديث. قال محمد: وهذا أصح عندي من حديث أبي بكر بن عياش يعني كونه موقوفا عن مجاهد انتهى كلام الترمذي. لكن يفهم من كلام الشيخ ابن حجر العسقلاني إن الحديث المرفوع أخرجه ابن خزيمة والترمذي والنسائي (لعله في الكبرى) وابن ماجه والحاكم. قال ونحوه للبيهقي من حديث ابن مسعود. وقال فيه فتحت أبواب الجنة فلم يغلق باب منها الشهر كله - انتهى كلامه. قال ميرك: ويقوي رفع الحديث إن مثل هذا لا يقال بالرأي فهو مرفوع حكما والله أعلم تم كلام ميرك كذا نقل القاري كلام الجزري وكلام ميرك. ثم تعقب على ميرك

(12/275)


بوجوه لا يخلو بعضها عن كلام. وقال العيني: بعد ذكر ما حكى الترمذي عن البخاري، وقال شيخنا يعني الحافظ العراقي لم يحكم الترمذي على حديث أبي هريرة المذكور بصحة ولا حسن مع كون رجاله رجال الصحيح وكأن ذلك لتفرد أبي بكر بن عياش به، وإن كان احتج به البخاري فإنه ربما غلط كما قال أحمد ولمخالفة أبي الأحوص له في روايته عن الأعمش فإنه جعله مقطوعا من قول مجاهد، ولذلك أدخله الترمذي في كتاب العلل وذكر أنه سأل البخاري عنه وذكر إن كونه عن مجاهد أصح عنده. وأما الحاكم فأخرجه في المستدرك وصححه وكذلك صححه ابن حبان - انتهى.
1981- قوله: (ورواه أحمد) (ج4 ص311- 312) (عن رجل) أي من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
?الفصل الثالث?
1982-(7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)).
لم يسم، ورواه النسائي أيضا كلاهما من رواية عطاء بن السائب عن عرفجة. قال كنت في بيت فيه عتبة بن فرقد فأردت أن أحدث بحديث. قال: فكان رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كأنه أولى بالحديث فحدث الرجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في رمضان تفتح أبواب السماء وتغلق أبواب النار، ويصفد فيه كل شيطان مريد، وينادى مناد كل ليلة يا طالب الخير هلم ويا طالب الشر أمسك (وقال الترمذي هذا حديث غريب) أي إسنادا كما تقدم.

(12/276)


1982- قوله: (أتاكم) أي جاءكم (رمضان) أي زمانه وفي رواية أحمد لما حضر رمضان. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جاءكم رمضان (شهر مبارك) بدل أو بيان والتقدير هو شهر مبارك وظاهره الأخبار أي كثر خيره الحسي والمعنوي كما هو مشاهد فيه (تفتح فيه) استئناف بيان وهو بصيغة المجهول وبالتأنيث في الأفعال الثلاثة وبتخفيف الفعلين ويشددان (أبواب السماء) وفي رواية أحمد المذكورة أبواب الجنة (وتغل) بتشديد اللام من الأغلال. قال في القاموس: أغل فلانا أدخل في عنقه أو يده الغل وهو مفرد جمعه أغلال (فيه مردة الشياطين) يفهم من هذا الحديث إن المقيدين هم المردة فقط، فيكون عطف المردة على الشياطين في الحديث المتقدم عطف تفسير وبيان، ويحتمل أن يكون تقييد عامة الشياطين بغير الأغلال والله أعلم. (لله فيه) أي في ليالي رمضان على حذف مضاف أو في العشر الأخير منه (ليلة خير من ألف شهر) أي العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر (من حرم) بتخفيف الراء على بناء المفعول (خيرها) بالنصب وهو يتعدى إلى مفعولين يقال حرمة الشيء كضربه وعمله حرمانا أي منعه إياه والمحروم الممنوع أي من منع خيرها بأن لم يوفق لا حياء والعبادة فيها (فقد حرم) أي منع الخير كله كما سيجيء صريحا ففيه مبالغة عظيمة. والمراد حرمان الثواب الكامل أو الغفران الشامل الذي يفوز به القائم في أحياء ليلها. قال الطيبي: إتحد الشرط والجزاء دلالة على فخامة الجزاء
رواه أحمد، والنسائي.
1983-(8) وعن عبدالله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه. ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان)).

(12/277)


أي فقد حرم خيرا لا يقادر قدره (رواه أحمد) (ج2 ص230) (والنسائي) كلاهما من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة. قال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج12 ص134): إسناده صحيح. وقال المنذري في الترغيب: ولم يسمع أبوقلابة منه فيما أعلم، وفي تهذيب التهذيب يقال أنه لم يسمع من أبي هريرة، وتعقب هذا الشيخ أحمد شاكر فقال لم أجد ما يؤيد هذا أي القول بعدم سماعه منه، وأبوقلابة لم يعرف بتدليس والمعاصرة كافية في الحكم بوصل الإسناد- انتهى.

(12/278)


1983- قوله: (وعن عبدالله بن عمرو) بالواو رضي الله عنهما (الصيام) أي صيام رمضان. وقيل: مطلقا (والقرآن) أي قراءة القرآن. قال الطيبي: القرآن ههنا عبارة عن التهجد والقيام بالليل كما عبر به عن الصلاة في قوله تعالى: ?وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا?[الإسراء:78] وإليه الإشارة بقوله: "ويقول القرآن منعته النوم بالليل- انتهى. (يشفعان) بفتح الياء وسكون المعجمة وفتح الفاء. قيل: يحتمل تجسيدهما وخلق النطق فيهما فإن المعاني والأعمال تتجسم يوم القيامة، ويحتمل إرسال ملك ينطق على لسانهما، ويحتمل المجاز والتمثيل أي يشفعان بلسان الحال. قال الطيبي: الشفاعة والقول من الصيام والقرآن إما أن يؤل أو يجري على ما عليه النص وهذا هو المنهج القويم والصراط المستقيم، فإن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل عن إدراك العوالم الإلهية. ولا سبيل لنا إلا الأذعان له والإيمان به، ومن تأول ذهب إلى أنه استعيرت الشفاعة والقول للصيام والقرآن لإطفاء غضب الله وإعطاء الكرامة ورفع الدرجات والزلفى عند الله - انتهى. قلت: من تأول الحديث وحمله على المجاز والاستعارة والتمثيل إنما ذهب إلى ذلك لما زعم إن الأعمال أعراض، والعرض لا يكون قائما بالذات بل بالغير وهو أمرآني لا يبقى بل يفنى فلا يمكن أن يؤذن أو يكال وهذا شيء قد أبطله الفسلفة الحديثة اليوم، وحققت إن الأعمال والأصوات والأنوار تبقى، ويمكن أن تحفظ وتخزن وتوزن وتكال فالحق والصواب، أن يحمل الحديث ظاهره. ويقال : إن الصيام والقرآن يشفعان بالقول حقيقة (أي رب) أي يا رب! (والشهوات) من عطف الأعم (بالنهار) كله (فشفعني) بالتشديد أي أقبل شفاعتي (فيه) أي في حقه (ويقول القرآن) لما كان القرآن كلامه تعالى غير مخلوق لم يقل أي رب (فيشفعان) بضم أوله وشدة الفاء المفتوحة مجهولا أي يشفعهما الله
رواه البيهقي في شعب الإيمان.

(12/279)


1984-(9) وعن أنس بن مالك قال: دخل رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا كل محروم)). رواه ابن ماجه.
فيه أي يقبل شفاعتهما ويدخله الجنة. وقال القاري: ولعل شفاعة رمضان في محو السيئات وشفاعة القرآن في علو الدرجات (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أحمد (ج2 ص174) وفي سنده ابن لهيعة والحاكم (ج1 ص554) وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي والطبراني في الكبير. قال الهيثمي(ج3 ص181): رجاله رجال الصحيح. وقال المنذري: رجاله محتج بهم في الصحيح وأبونعيم في الحلية (ج8 ص161) وفيه رشدين بن سعد وابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيره بإسناد حسن كما في الترغيب.

(12/280)


1984- قوله: (إن هذا الشهر) الإشارة للتعظيم (قد حضركم) أي فاغتنموا حضوره بالصيام في نهاره والقيام في ليلة (وفيه ليلة) أي واحدة مبهمة من لياليه العشر الأواخر (خير من ألف شهر) أي فالتمسوه في كل ليلة رجاء أن تدركوها (من حرمها) على بناء المفعول وكذا الأفعال الباقية. قيل: المراد إنه حرم لطف الله وتوفيقه ومنع من الطاعة فيها. والقيام بها ولعل هذا هو الذي فأته العشاء تلك الليلة أيضا قاله السندي. وقال القاري: أي حرم خيرها وتوفيق العبادة فيها ومنع عن القيام ببعضها (ولا يحرم خيرها إلا كل محروم) قال القاري: برفع كل على البدلية ويجوز نصبه على الاستثناء أي كل ممنوع من الخير لا حظ من السعادة ولا ذوق له من العبادة. قلت: قوله "إلا كل محروم" هكذا وقع في جميع وفي السنن لابن ماجه إلا محروم أي بإسقاط لفظ كل، وكذا نقله المنذري في الترغيب. قال السندي: وهو الذي لاحظ له في السعادة (رواه ابن ماجه) قال في الزوائد: في إسناده عمران ابن داور أبوالعوام القطان فيه ومشاه الإمام أحمد، ووثقه عفان والعجلي وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به وباقي رجال الإسناد ثقات - انتهى. قلت: عمران هذا قال البخاري صدوق يهم. وقال المنذري: في الترغيب إسناده إن شاء الله تعالى، وروى الطبراني في الأوسط عنه أي عن أنس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا رمضان قد جاء تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتغل فيه الشياطين بعدا لمن أدرك رمضان فلم يغفر له إذا لم يغفر له فمتى؟- انتهى. قال الهيثمي: فيه الفضل بن عيسى الرقاشي وهو ضعيف.

(12/281)


1985- (10) وعن سلمان الفارسي، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر من شعبان فقال: ((يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليلة تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن،
1985- قوله: (الفارسي) بكسر الراء (خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يحتمل خطبة الجمعة وخطبة الموعظة (فقال) أي بعد أن حمد الله وأثنى عليه كما هو المعهود من حاله في خطبة وكأن سلمان حذف ذلك اختصارا. قلت: ما اختصره بل اقتصره وبينه وأظهره بقوله خطبنا فإن الخطبة هي الحمد والثناء كما هو مشهور عند العلماء كذا في المرقاة (يا أيها الناس) وفي بعض النسخ أيها الناس (قد أظلكم) بالظاء المشالة أي أشرف عليكم وقرب منكم. قال في النهاية: أظلكم رمضان بالمعجمة أي أقبل عليكم ودنا منكم كأنه ألقى عليكم ظله (شهر عظيم) أي قدره لأنه سيد الشهور (صيامه) أي صيام نهاره (فريضة) أي فرضا قطعيا (وقيام ليلة) أي أحياءه بالتراويح ونحوها (تطوعا) أس سنة مؤكدة فمن فعله فاز بعظيم ثوابه ومن تركه حرم الخير وعوقب بعتابه قاله القاري: (من تقرب) أي إلى الله (فيه) أي في نهاره أو ليلة (بخصلة من الخير) أي من أنواع النفل (كان كمن) أي ثوابه كثواب من (أدى فريضة فيما سواه) أي من الأشهر (وهو شهر الصبر) لأن صيامه بالصبر عن المأكول والمشروب ونحوهما، وقيامه بالصبر على محنة السهر، ولذا أطلق الصبر على الصوم في قوله تعالى: ?واستعينوا بالصبر والصلاة? [البقرة:153] (الصبر) أي كماله المتضمن للشكر كما حرره الغزالي من أن وجوهما على وجه الكمال متلازمان، وبكل طاعة وخصلة حميدة متعلقان، فإن الإيمان نصفان، نصفه صبر، ونصفه شكر. فترك المعصية صبر

(12/282)


وامتثال الطاعة شكر (ثوابه الجنة) أو يقال الصبر على الطاعة وعن المعصية جزاءه الجنة لمن قام به مع الناجين: وقال ابن حجر: أي من غير مقاساة لشدائد الموقف (وشهر المواساة) أي المساهمة والمشاركة في المعاش والرزق، وأصله الهمزة فقلبت واوا تخفيفا يقال آسى الرجل في ماله أي جعله أسوته فيه، وفيه تنبيه على الجود والإحسان على جميع أفراد الإنسان لاسيما على الفقراء والجيران (وشهر يزاد فيه رزق المؤمن) وفي بعض النسخ يزاد في رزق المؤمن فيه أي سواء كان غنيا أو فقيرا وهذا أمر مشاهد فيه، ويحتمل تعميم الرزق بالحسي والمعنوي
من فطر فيه صائما كان له مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير إن ينتقص من أجره شيء قلنا: يا رسول الله! ليس كلنا نجد ما نفطر به الصائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على مذقة لبن، أو تمرة أو شربة من ماء ومن أشبع صائما. سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة. وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.

(12/283)


(من فطر) بتشديد الطاء ( فيه صائما) أي أطعمه أو سقاه عند إفطاره من كسب حلال كما سيجيء (كان) أي التفطير (له) أي للمفطر (مغفرة لذنوبه وعتق رقبته) أي المفطر (من النار) أي سببا لحصولهما وفي نسخة برفع المغفرة والعتق فالمعنى حصل له مغفرة وعتق (وكان له مثل أجره) أي حصل للمفطر مثل ثواب الصائم (من غير أن ينتقص) من باب الافتعال وفي الترغيب ينقص، وكذا نقله العيني (من أجره) أي من أجر الصائم (شيء) وهو زيادة إيضاح وإفادة تأكيد للعلم بعدم النقص من لفظ مثل أجره أولا (ليس كلنا نجد ما نفطر) بالتكلم في الفعلين وفي نسخة بالغيبة فيهما قاله القاري، وذكره المنذري والعيني بالتكلم في الأول وبالغيبة في الثاني (به الصائم) كذا في بعض النسخ ووقع في بعضها بدون لفظة به وهكذا في الترغيب والعيني: قال القاري: أي لا يجد كلنا ما يشبعه وإنما الذي يجد ذلك بعضها فما حكم من لا يجد ذلك (يعطي الله هذا الثواب) أي من جنس هذا الثواب أو هذا الثواب كاملا عند العجز عن الإشباع (على مذقة لبن) بفتح الميم وسكون الذال المعجمة أي شربة لبن يخلط بالماء يقال مذق اللبن من باب نصر أي مزجه بالماء والمذق والمذقة اللبن الممزوج بالماء (أو تمرة أو شربة من ماء) أو للتنويع في الموضعين (من حوضي) أي الكوثر في القيامة (شربة لا يظمأ) أي بعدها (حتى يدخل الجنة) أي إلى أن يدخلها، ومن المعلوم أن لا ظمأ في الجنة لقوله تعالى: ?وأنك لا تظمؤ فيها?[طه:119] فكأنه قال لا يظمأ أبدا (وهو) أي رمضان (شهر أوله رحمة) أي وقت رحمة نازلة من عند الله عامة ولو لا حصول رحمته ما صام ولا قام أحد من خليقته،
لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

(12/284)


وقيل أي أول الشهر سبب لنزول رحمة الله التي يكون بها مستعد لظهور الأنوار الإلهية والأسرار الربانية ويخرج من ظلمات الذنوب والمعاصي (وأوسطه مغفرة) أي زمان مغفرته المترتبة على رحمته فإن الأجير قد يتعجل بعض أجره قرب فراغه منه (وآخره) وهو وقت الأجر الكامل (عتق) أي لرقابهم (من النار) والكل
ومن خفف عن مملوكه فيه. غفر الله له وأعتقه من النار)).
1986-(11) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير

(12/285)


بفضل الجبار وتوفيق الغفار للمؤمنين الأبرار للأعمال الموجبة للرحمة والمغفرة والعتق من النار، ولما وفقوا للطاعات وغفر ذنوبهم واعتقوا من النار صاروا أهلا لدخول الجنة (ومن خفف) أي في الخدمة (عن مملوكه فيه) أي في رمضان رحمة عليه وإعانة له بتيسير الصيام إليه (غفر الله) أي لما فعله قبل ذلك من الأوزار (وأعتقه من النار) جزاء لاعتاقه المملوك من شدة العمل، والحديث ذكره العيني في شرح البخاري (ج10 ص278- 279) وقال رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن سلمان الفارسي ولا يصح إسناده وفي سنده إياس. قال شيخنا (يعني العراقي) الظاهر إنه ابن أبي إياس. قال صاحب الميزان: إياس بن أبي إياس عن سعيد بن المسيب لا يعرف والخبر منكر- انتهى. قلت: وقال الحافظ في اللسان (ج1 ص475) في ترجمته وذكره العقيلي فقال مجهول، وحديثه غير محفوظ وساق له الحديث بطوله في فضل شهر رمضان. وقال: ليس يروي هذا من وجه يثبت- انتهى. وقال المنذري في الترغيب: رواه ابن خزيمة في صحيحه ثم قال إن صح الخبر، ورواه من طريقه البيهقي: ورواه أبوالشيخ ابن حبان في الثواب باختصار عنهما وفي رواية لأبي الشيخ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فطر صائما في شهر رمضان من كسب حلال صلت عليه الملائكة ليالي رمضان كلها، وصافحه جبريل ليلة القدر، ومن صافحه جبريل عليه السلام يرق قلبه وتكثر دموعه. قال: فقلت يا رسول الله! أفرأيت من لم يكن عنده، قال فقبضة من طعام قلت: أفرأيت إن لم يكن عنده لقمة خبز قال: فمذقة لبن قلت أفرأيت إن لم يكن عنده قال فشربة من ماء. قال المنذري، وفي أسانيدهم علي بن زيد بن جدعان. ورواه ابن خزيمة أيضا والبيهقي باختصار عنه من حديث أبي هريرة وفي إسناده كثير بن زيد- انتهى. قلت: ابن جدعان هذا ضعيف سيء الحفظ. وقال الترمذي: صدوق. وكثير بن زيد مختلف فيه. وقال في التقريب: صدوق يخطىء. وحديث سلمان ذكره علي المتقي في كنز العمال وقال: أخرجه ابن

(12/286)


خزيمة وقال إن صح الخبر والبيهقي والأصبهاني في الترغيب وابن النجار. وقال الحافظ ابن حجر في أطرافه، مداره على علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف ويوسف بن زياد الراوي عنه ضعيف جدا، وتابعه إياس عن علي بن زيد عند البيهقي. قال ابن حجر وإياس ما عرفنه- انتهى.
1986- قوله: (أطلق كل أسير) أي محبوس ممن يستحق الحبس لحق الله أو لحق العبد بتخليصه منه قاله القاري. وقال ابن حجر: أي محبوس على كفره بعد أسره ليختار فيه - صلى الله عليه وسلم - المن أو القتل مثلا.
وأعطى كل سائل)).
1987-(12) وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الجنة تزخرف لرمضان من رأس الحول إلى حول قابل، قال إذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح تحت العرش من ورق الجنة على الحور العين، فيقلن: يا رب. اجعل لنا من عبادك
وقال في اللمعات: فإن قلت كيف يجوز إطلاق كل أسير، وقد يكون على بعض الأسرار حق لأحد قلنا لم يكن إسراءه - صلى الله عليه وسلم - إلا الكفار أسراء الغزوات وهو مخير فيهم بعد الأسر بين المن والإطلاق، وأخذ الفداء والاسترقاق عند أكثر الأئمة وتعين القتل أو الاسترقاق عند الحنفية ولم يكن بينهم من عليه حقوق الناس من الديون ونحوها ولو كانت فلعله صلى الله عليه وسلم كان يرضي أهلها ويطلق والله أعلم (وأعطى كل سائل) أي زيادة على معتاده فإنه حينئذ أجود من الريح المرسلة، وفيه ندب العتق في رمضان والتوسعة على الفقراء فيه والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص150) ونسبه إلى البزار وقال فيه أبوبكر الهذلي وهو ضعيف- انتهى. وقال السيوطي في الجامع الصغير: رواه البيهقي في الشعب عن ابن عباس وابن سعد عن عائشة. قال العزيزي: وهو حديث ضعيف- انتهى. قلت أبوبكر الهذلي هذا من رجال ابن ماجه. قيل: اسمه سلمى بن عبدالله. وقيل: روح أخباري منكر الحديث متروك.

(12/287)


1987- قوله: (تزخرف) أي تزين بالذهب ونحوه (لرمضان) أي لأجل قدومه (من رأس الحول إلى الحول قابل) أي يبتدأ التزين من أول السنة منتهيا إلى سنة آتية أول الحول غرة المحرم، وحاصله إن الجنة في جميع السنة من أولها إلى آخرها مزينة لأجل رمضان وما يترتب عليه من كثرة الغفران ورفع درجات الجنان ما قبله وما بعده من الزمان، ولا يبعد أن يجعل رأس الحول مما بعد رمضان ولعله إصطلاح أهل الجنة ويناسبه كونه يوم عيد وسرور. ووقت زينة وحبور قاله القاري. قال ابن حجر: لعل المراد هنا بالحول بأن تبديء الملائكة في تزيينها أول شوال وتستمر إلى أول رمضان فتفتح أبوابها حينئذ ليطلع الملائكة على ما لا يطلعون عليه قبل، إعلاما لهم بعظم شرف رمضان وشرف هذه الأمة ومجازاتهم على صومهم بمثل هذا النعيم المقيم الظاهر الباهر- انتهى. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (هبت) أي هاجت (ريح تحت العرش) أي من تحت العرش فنثرت رائحة عطرة طيبة. قال ابن حجر: تحت العرش أي في الجنة لأن سقف الجنة عرش الرحمن كما في الحديث. وقيل: الظاهر إن الريح تنزل من تحت العرش مبتدأ باعتبار ظهورها في الجنة (من ورق الجنة) أي من ورق شجرها مبتدأ (على الحور العين) أي منتشرة على رؤسهن. والحور جمع حوراء من الحور بفتحتين شدة بياض العين في شدة سوادها، والعين بكسر العين جمع عيناء بفتحها من عين يعين عينا أي عظم سواد عينه في سعة (من عبادك) أي
أزواجا تقر بهم أعيننا، وتقر أعينهم بنا)). روى البيهقي الأحاديث الثلاثة. في شعب الإيمان.
1988-(13) وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يغفر لأمته في آخر ليلة في رمضان،

(12/288)


الصالحين الصائمين القائمين (تقر) بفتح القاف وتشديد الراء أي تتلذذ (بهم) أي بطلعتهم وصحبتهم (أعيننا) أي أبصارنا قال الطيبي: هو من القر بمعنى البرد، وحقيقة قولك قر الله عينه جعل دمع عينه باردا وهو كناية عن السرور فإن دمعته باردة. أو من القرار فيكون كناية عن الفوز بالبغيبة، فإن من فاز بها قر نفسه ولا يستشرف عينه إلى مطلوبه لحصوله. والحديث ذكره العيني (ج10 ص269) والهيثمي (ج3 ص142) نسباه إلى الطبراني في الكبير. وقالا: فيه الوليد بن الوليد القلانسي الدمشقي ضعفه الدارقطني وغيره ووثقه أبوحاتم بقوله صدوق، ونسبه على المتقي في الكنز إلى الطبراني وأبي نعيم في الحلية، والدارقطني في الأفراد. والبيهقي في الشعب، وتمام في فوائده. وابن عساكر، وقال فيه الوليد بن الوليد الدمشقي. قال أبوحاتم: صدوق. وقال الدارقطني وغيره: متروك- انتهى. وله شاهد من حديث أبي مسعود الغفاري أخرجه ابن خزيمة: في صحيحه، وأشار إلى ضعفه كما سيأتي والبيهقي من طريقه وضعفه، وأبوالشيخ في الثواب وأبويعلى والطبراني، وفي سنده جرير بن أيوب البجلي. قال ابن خزيمة: في القلب من جرير بن أيوب شيء. وقال المنذري: جرير بن أيوب هذا واه - انتهى. وقال العيني (ج10 ص268) بعد ذكر هذا الحديث: هذا حديث منكر وباطل، وفي سنده جرير بن أيوب البجلي كوفي كان يضع الحديث، قاله وكيع وأبونعيم الفضل بن دكين. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري وأبوزرعة: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث - انتهى. قلت: أورد هذا الحديث ابن الجوزي في الموضوعات، وقال هو موضوع آفته جرير بن أيوب، واستدرك عليه السيوطي. وقال صاحب الكنز: لم يصب ابن الجوزي، وقال الشوكاني: بعد ذكر كلام ابن الجوزي المتقدم: وسياقه مما يشهد العقل بأنه موضوع فلا معنى لاستدراك السيوطي له على ابن الجوزي، بأنه قد رواه غير من رواه عنه ابن الجوزي، فإن الموضوع لا يخرج عن كونه موضوعا برواية الرواة -

(12/289)


انتهى. ولحديث الباب شاهد آخر من حديث ابن عباس ذكره المنذري ونسبه للبيهقي، وأبي الشيخ ابن حبان، وقال: ليس في إسناده من أجمع على ضعفه.
1988- قوله: (يغفر لأمته) أي لجميع الصائمين منهم. قال الطيبي: هذا حكاية معنى ما تلفظ به - صلى الله عليه وسلم - لا لفظه أي الذي هو يغفر لأمتي. قلت: الذي في مسند الإمام أحمد يغفر لهم، وهكذا وقع عند غيره ممن خرج هذا الحديث، فقوله لأمته من تصرف المصنف. والأولى أن يقول لأمتي كما يدل عليه أول الحديث (في آخر ليلة في رمضان) قال القاري: وفي نسخة "من رمضان". قلت: هذا اللفظ ههنا من زيادة المصنف زادها لتعيين الليلة.
قيل يا رسول الله! أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله)). رواه أحمد.
(1) باب رؤية الهلال
?الفصل الأول?
1989- (1) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا

(12/290)


ولدلالة السياق عليها والمراد مغفرته الكاملة ورحمته الشاملة فلا ينافي ما سبق من أن أوسطه مغفرة (قيل يا رسول الله! أهي ليلة القدر؟ قال لا) أي ليس سبب المغفرة كونها ليلة القدر بل سببها كونها آخر ليلة، ويمكن أن تكون غيرها من بقية ليالي العشر الأخير (ولكن)بالتشديد ويخفف (العامل) أي ولكن سببها إن العامل (إنما يوفى) من التوفية أي يعطي وافيا (أجره) بالنصب على أنه مفعول ثان وفي نسخة بالرفع على أنه نائب الفاعل والمفعول الثاني مقدر أي إياه (إذا قضى عمله) أي فرغ منه. وقال الطيبي: قوله ولكن العامل الخ. استدرك لسؤالهم عن سبب المغفرة كأنهم ظنوا أن الليلة الأخيرة هي ليلة القدر سبب للغفران فبيين - صلى الله عليه وسلم - إن سببها فراغ العبد من العمل وهو مطرد في كل عمل والله أعلم - انتهى. (رواه أحمد) هو طرف من حديث طويل أخرجه أحمد (ج2 ص292) والبزار والبيهقي ومحمد بن نصر في قيام الليل (ص108) وأبوالشيخ بن حبان في كتاب الثواب من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطها أمة قبلهم. خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا ويزين الله عزوجل كل يوم جنته ثم يقول يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليك ويصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصوا إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره ويغفر لهم في آخر ليلة - الحديث. قال الهيثمي (ج3 ص140): فيه هشام بن أبوالمقدام وهو ضعيف وأشار المنذري إلى ضعف إسناده بتصديره بلفظة: روى، وإهمال الكلام عليه في آخره. وله شاهد من حديث جابر عند البيهقي ذكره المنذري بعد حديث أبي هريرة هذا. وقال إسناده مقارب أصلح مما قبله.

(12/291)


(باب رؤية الهلال) أي الأحكام المتعلقة بها. قال الزرقاني الأكثر على أن الهلال القمر في حالة خاصة. قال الأزهري: يسمى القمر لليلتين من أول الشهر هلالا، وفي ليلة ست وسبع وعشرين أيضا هلالا وما بين ذلك يسمى قمرا وقال الجوهري: الهلال لثلاث ليال من أول الشهر ثم هو قمر بعد ذلك. وقيل: الهلال هو الشهر بعينه. قال الراغب: الهلال القمر في أول ليلة، والثانية، ثم يقال له القمر ولا يقال له هلال - انتهى.
1989- قوله: (لا تصوموا) أي في ثلاثي شعبان عن رمضان ففي رؤية إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذكر رمضان
حتى تروا الهلال،

(12/292)


فقال لا تصوموا (حتى تروا الهلال) أي هلال رمضان وهذا إذا لم يكمل شعبان ثلاثين يوما فيجب الصوم عن رمضان، وإن لم يروا هلاله، ثم إنه يتعلق بالحديث أمور يجب التنبيه عليها. الأول إن ظاهره اشتراط رؤية الجميع من المخاطبين، لكن قام الإجماع على عدم وجوب ذلك، بل المراد رؤية بعضهم وهو من يتحقق به الرؤية ويثبت. والمعنى حتى يثبت عندكم رؤية الهلال. قال الحافظ: ليس المراد تعليق الصوم بالرؤية بعضهم، وهو من يثبت به ذلك. أما واحد على رأي الجمهور أو اثنان على رأي أخرين، ووافق الحنفية على الأول إلا أنهم خصوا ذلك بما إذا كان في السماء علة من غيم وغيره، وإلا متى كان صحو لم يقبل إلا من جميع كثير يقع العلم بخبرهم - انتهى. وسيأتي بسط الكلام فيه. الثاني إن ظاهره الصوم من وقت الرؤية لكن ليس ذلك بمراد كما أنه ليس المراد الإفطار من وقت الرؤية، حتى يلزم أن يفطر قبل الغروب، إذا رأى الهلال في ذلك الوقت. بل المراد الإفطار والصوم على الوجه المشروع، فلا بد في كل منهما من معرفة ذلك الوقت. قال الحافظ: ظاهر الحديث إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلا أو نهارا، لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل. وبعض العلماء، فرق بين ما قبل الزوال أو بعده، خالف الشيعة الإجماع فأوجبوه مطلقا - انتهى. قلت: فرق بين ما قبل الزوال وبعده الثوري وأبويوسف وروى ذلك عن عمر. قال الباجي: لا خلاف بين الناس إنه إذا رؤى بعد الزوال فإنه لليلة القادمة. وأما إذا رؤى قبل الزوال فإن مالكا والشافعي وأباحنيفة وجمهور الفقهاء يقولون: إنه لليلة القادمة لحديث أبي وائل أتانا كتاب عمر أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهدو رجلان أنهما أهلاه بالأمس. وقال الثوري وابن وهب وأبويوسف وابن حبيب للماضية لما رواه النخعي عن عمر إذا رأيتم الهلال قبل الزوال فافطروا، وإذا رأيتموه بعده فلا تفطروا وهذا مفصل والأول مجمل لأنه قال

(12/293)


نهارا، لكن قال ابن عبدالبر والأول أصح لأنه متصل والثاني منقطع فالنخعي لم يدرك عمر. قال الباجي: قال أبوبكر بن الجهم هذا لا يثبت عن عمر رواه شباك وهو مجهول قال وهذا الخلاف إنما هو إذا رؤي في يوم ثلاثين ولا يصح أن يصح أن يكون قبل ذلك - انتهى. وبسط الكلام في ذلك الشامي في رد المختار (ج2 ص130) وابن رشد في البداية (ج1 ص194) وابن قدامة في المغنى (ج3 ص168). الثالث إنه جعل تحقق الرؤية غاية لعدم الصوم فلو ثبتت الرؤية لليلة الماضية وجبت الصوم من حين ثبوتها. قال ابن قدامة (ج3 ص133) إذا أصبح مفطرا يعتقد أنه من شعبان فقامت البينة بالرؤية لزمه الإمساك والقضاء في قول عامة الفقهاء، إلا ما روى
................................

(12/294)


عن عطاء أنه يأكل بقية يومه. قال ابن عبدالبر: لا نعلم أحدا قاله غير عطاء، الرابع إن الحديث ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال أي إذا لم يكمل عدد الشعبان ثلاثين يوما فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها قال الحافظ: ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى ذلك لمن تمسك به أي على منع الصوم في كل صورة لم ير فيها الهلال لكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة وهو قوله "فإن غم عليكم فاقدروا له" فاحتمل أن يكون المراد التفرقة بين حكم الصحو والغيم فيكون التعليق على الرؤية متعلقا بالصحو. وأما الغيم فله حكم آخر ويحتمل أن لا تفرقة ويكون الثاني مؤكدا للأول وإلى الأول، ذهب أكثر الحنابلة وإلى الثاني ذهب الجمهور. فقالوا: المراد بقوله فاقدروا له قدورا له تمام العدد ثلاثين يوما أي أنظروا في أول الشهر وأحسبوه تمام الثلاثين ويرجح هذا التأويل الروايات الأخر المصرحة بالمراد، وهي ما سيأتي من قوله فأكملوا العدة ثلاثين ونحوها، وأولى ما فسر الحديث بالحديث - انتهى. وحاصل ذلك أن النهي عن الصوم في ثلاثي شعبان حتى يروا الهلال عند الجمهور مطلق يعم الصحو والغيم وعند الحنابلة مقيد بحال الصحو. قال ابن قدامة (ج3 ص90) النهي عن صوم الشك محمول على حال الصحو وفي الجملة لا يجب الصوم إلا برؤية الهلال أو كمال شعبان ثلاثين يوما أو يحول دون منظر الهلال غيم أو قتر - انتهى. وقد أشبع الكلام في ذلك الولي العراقي في طرح التثريب (ج4 ص107، 110) وسيأتي البسط منافي صوم يوم الشك في شرح حديث عمار. الخامس قد استدل بهذا الحديث من ذهب إلى أنه إذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم، لأنه ليس المراد رؤية جميع المسلمين بحيث يحتاج كل فرد إلى رؤيته بل المعتبر رؤية بعضهم كما تقدم، والمعنى لا تصوموا حتى توجد فيما بينكم الرؤية وتتحقق، فيدل هذا على أن رؤية بلد رؤية لجميع أهل البلاد فيلزم الحكم. قال الحافظ: قد تمسك

(12/295)


بتعليق الصوم بالرؤية من ذهب إلى إلزام أهل البلد برؤية أهل بلد غيرها، ومن لم يذهب إلى ذلك قال: لأن قوله حتى تروه خطاب لأناس مخصوصين فلا يلزم غيرهم ولكنه مصروف عن ظاهره فلا يتوقف الحال على رؤية كل واحد فلا يتقيد بالبلد.وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب. أحدها لأهل كل بلده رؤيتهم وفي صحيح مسلم من حديث كريب عن ابن عباس ما يشهد له، وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه وحكاه الماوردى وجها للشافعية. ثانيها مقابلة إذا رؤى ببلدة لزم أهل البلاد كلها وهو المشهور عند المالكية، لكن حكى ابن عبدالبر الإجماع على خلافة وقال: أجمعوا على أنه لا ترعى الرؤية فيما بعد من البلاد كخراسان والأندلس. قال القرطبي: قد قال شيوخنا إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصوم. وقال ابن الماجشون: لا يلزمهم بالشهادة إلا لأهل البلد الذي يثبت
.................................

(12/296)


فيه الشهادة إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم، لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في الجميع. وقال بعض الشافعية إن تقاربت البلاد كان الحكم واحدا وإن تباعدت فوجهان لا يجب عند الأكثر واختار أبوالطيب وطائفة الوجوب وحكاه البغوي عن الشافعي وفي ضبط البعد أوجه أحدها: اختلاف المطالع قطع به العراقيون والصيدلاني وصححه النوي في الروضة وشرح المهذب. ثانيها: مسافة القصر قطع به الإمام والبغوي وصححه الرافعي في الصغير والنووي في شرح مسلم. ثالثها: الاختلاف الأقاليم. رابعها حكاه السرخسي فقال: يلزم كل بلد لا يتصور خفاءه عنهم بلا عارض دون غيرهم. خامسها: قول ابن الماجشون المتقدم انتهى كلام الحافظ. قلت الإجماع الذي حكاه ابن عبدالبر غير مسلم كيف، وقد ذهبت الحنابلة وأكثر الحنفية والمالكية وبعض الشافعية إلى إلزام جميع البلاد الصوم والإفطار برؤية أهل البلد وإلى عدم اعتبار القرب والبعد بينها في ذلك، وإلى عدم اعتبار اختلاف المطالع فيلزم أهل المشرق الصوم والإفطار برؤية أهل المغرب إذا ثبت عندهم رؤية أولئك بطريق موجب. وقال المحققون من الحنفية والمالكية وعامة الشافعية: إن كان بين البلدين مسافة قريبة لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة مثلا لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في أحدهما وإن كان بينهما بعد كالعراق والحجاز والشام فلكل أهل بلد رؤيتهم. قال في الدر المختار: اختلاف المطالع غير معتبر على ظاهر المذهب وعليه أكثر المشائخ وعليه الفتوى فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب إذا ثبت عندهم رؤية أولئك بطريق موجب (كأن يتحمل اثنان الشهادة أو يشهدا على حكم القاضي أو يستفيض الخبر) وقال الزيلعي (شارح الكنز) الأشبه أنه يعتبر لكن قال الكمال، الأخذ بظاهر الرواية أحوط - انتهى. وهكذا في النهر الفائق. وقال في مراقي الفلاح: إذا ثبت الهلال في بلدة لزم سائر الناس في ظاهر المذهب وعليه الفتوى وهو قول

(12/297)


أكثر المشائخ فيلزم قضاء يوم على أهل بلدة صاموا تسعة وعشرين يوما لعموم الخطاب وهو صوموا لرؤيته. وقيل: يختلف (أي الحكم) باختلاف المطالع واختاره صاحب التجريد وغيره كما إذا زالت الشمس عند قوم وغربت عند غيرهم فالظهر على الأولين لا المغرب لعدم انعقاد السبب في حقهم- انتهى ملخصا. وقال المفتي أبوالسعود في شرح مراقي الفلاح: قوله كما ذهب إليه صاحب التجريد وهو الأشبه لأن انفصال الهلال من شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار كما في دخول الوقت وخروجه، وهذا مثبت في علمك الأفلاك والهيئات، وأقل ما تختلف به المطالع مسيرة شهر كما في الجواهر- انتهى ملخصا. وفي التتار خانية: الأهل بلدة إذا رأوا الهلال هل يلزم في حق كل بلدة؟ اختلف المشائخ في فبعضهم قالوا: لا يلزمه. فإنما المعتبر في حق أهل بلدة رؤيتهم وفي الخانية لا عبرة باختلاف المطالع في ظاهر الرواية وفي القدوري إن كان بين البلدتين تفاوت تختلف
...............................

(12/298)


به المطالع لا يلزمه وذكر الشيخ شمس الأئمة الحلواني أنه الصحيح من مذهب أصحابنا - انتهى. وقال الزيلعي في شرح الكنز: أكثر المشائخ على أنه لا يعتبر باختلاف المطالع. والأشبه أن يعتبر لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم. وانفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار. والدليل على اعتباره ما روى عن كريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية - الحديث انتهى. وقال في مختارات النوازل أهل بلدة صاموا تسعة وعشرين يوما بالرؤية وأهل بلدة أخرى صاموا ثلاثين يوما بالرؤية، فعلى الأولين قضاء يوم إذا لم تختلف المطالع بينهما. وأما إذا اختلفت لا يجب القضاء- انتهى. وقال ابن عابدين: أعلم أن نفس اختلاف المطلع لا نزاع فيه بمعنى أنه قد يكون بين البلدتين بعد بحيث يطلع الهلال ليلة كذا في إحدى البلدتين دون الأخرى وكذا مطالع الشمس، لأن انفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار حتى إذا زالت الشمس في المشرق لا يلزم أن تزول في المغرب وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لبعض، ونصف ليل لغيرهم كما في الزيلعي. وقدر البعد الذي تختلف فيه المطالع مسيرة شهر فأكثر على ما في القهستاني عن الجواهر، وإنما الخلاف في اعتبار المطالع بمعنى أنه هل يجب على كل قوم مطلعهم ولا يلزم أحدا العمل بمطلع غيره أم لا يعتبر اختلافها، بل يجب العمل بالأسبق رؤية حتى لو رؤى في المغرب ليلة الجمعة، وفي المشرق ليلة السبت، وجب على أهل المشرق العمل بما رآه أهل المغرب. فقيل: بالأول واعتمده الزيلعي وصاحب الفيض وهو الصحيح عند الشافعية، لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم كما في أوقات الصلاة وأيده في الدرر بما مر من عدم وجوب العشاء والوتر على فاقد وقتهما، وظاهر الرواية الثاني وهو المعتمد عندنا وعند المالكية والحنابلة لتعلق الخطاب عاما بمطلق الرؤية في حديث صوموا لرؤيته بخلاف أوقات الصلاة - انتهى. قلت:

(12/299)


لا مناص من اعتبار اختلاف المطالع في باب الصوم أيضا وقد أضطر إلى الاعتراف به صاحب فتح الملهم حيث قال: بعد تقوية مذهب عامة الحنفية أي القول بعدم اعتباره ما لفظه، نعم! ينبغي أن يعتبر اختلافها إن لزم منه التفاوت بين البلدتين بأكثر من يوم واحد، لأن النصوص مصرحة بكون الشهر تسعة وعشرين أو ثلاثين فلا تقبل الشهادة ولا يعمل بها فيما دون أقل العدد ولا في أزيد من أكثره - انتهى. وقال صاحب العرف الشذى: في عامة كتبنا أنه لا عبرة لاختلاف المطالع في الصوم. وأما في فطر كل يوم والصلوات الخمس (وكذا الحج والأضحية) فيعتبر اختلاف المطالع. وقال الزيلعي. شارح الكنز. إن عدم عبرة اختلاف المطالع إنما هو في البلاد المتقاربة لا النائية. وقال كذلك في تجريد القدوري وقال به الجرجاني. أقول لا بد من تسليم قول الزيلعي وإلا فيلزم وقوع العيد يوم السابع والعشرين، أو الثامن والعشرين، أو الحادي والثلاثين أو الثاني والثلاثين. فإن هلال بلاد قسطنطينية ربما يتقدم على هلالنا بيومين فإذا صمنا على هلالنا ثم بلغنا رؤية هلال بلاد قسطنطينة يلزم تقديم العيد،
..................................

(12/300)


أو يلزم تأخير العيد. إذا صام رجل من بلاد قسطنطينية ثم جاءنا قبل العيد- انتهى. وقال في حاشية شرح الإقناع من فروع الشافعية: وتثبت رؤيته في حق من لم يره ممن مطلعه موافق مطلع محل الرؤية بأن يكون غروب الشمس والكواكب وطلوعها في البلدين في وقت واحد، فإن غرب شيء من ذلك أو طلع في أحد البلدين قبله في الآخر لم يجب على من لم يره برؤية البلد الآخر وهذا أمر مرجعه إلى طول البلد وعرضها، سواء قربت المسافة أو بعدت. نعم! متى حصلت الرؤية للبلد الشرقي لزم رؤيته في البلد الغربي دون عكسه. كما في مكة المشرفة ومصر، فيلزم من رؤيته بمكة في مصر لا عكسه. لأن رؤية الهلال من أفراد الغروب - انتهى. قلت: قد استدل من اعتبر اختلاف المطالع في باب الصوم بما روى أحمد ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي وغيرهم عن كريب إن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل على رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبدالله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال فقال رأيناه ليلة الجمعة فقال: أنت رأيته فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال النووي: هذا الحديث ظاهر الدلالة على أنهم إذا رأوا، الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم. قال: وقال بعض أصحابنا تعم الرؤية في موضع جميع أهل الأرض، وعلى هذا إنما لم يعمل ابن عباس بخبر كريب لأنه شهادة فلا تثبت بواحد لكن ظاهر حديثه إنه لم يرده لهذا أو إنما رده، لأن الرؤية لا يثبت حكمها في حق البعيد - انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي: قوله هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أن المراد به أنه أمرنا أن لا نقبل شهادة الواحد في حق الإفطار أو أمرنا

(12/301)


أن نعتمد على رؤية أهل بلدنا ولا نعتمد على رؤية غيرهم، وإلى المعنى الثاني تميل ترجمة المصنف "اختلاف أهل الآفاق في الرؤية" وغيره (كالترمذي وأبي داود والمجد بن تيمية) لكن المعنى الأول محتمل فلا يستقيم الاستدلال وكأنهم رأوا أن المتبادر هو الاحتمال الثاني فبنوا عليه الاستدلال والله تعالى أعلم. وأطال الشوكاني الكلام في الجواب عن هذا الاستدلال، وتعقبه بوجوه من شاء الوقوف عليها رجع إلى النيل، وقد ذكر كلامه شيخنا في شرح الترمذي وسكت عليه، وعندي كلام الشوكاني مبني على التحامل يرده ظاهر سياق الحديث. والشام في جهة الشمالية من المدينة مائلا إلى المشرق وبينهما قريب من سبعمائة ميل، فالظاهر إن ابن عباس رضي الله عنه إنما لم يعتمد على رؤية أهل الشام، واعتبر اختلاف المطالع لأجل هذا البعد الشاسع. واختلف القائلون باعتبار اختلاف المطالع في تحديد المسافة التي يعتبر فيها اختلاف المطالع وأكثر الفقهاء على أنها مسيرة شهر كما تقدم، وفي تحديد هذه المسافة بالميل إشكال لا يخفى وينبغي أن يرجع لذلك إلى علم الهيئة الجديدة ويعتمد على الجغرافيا الحديثة. وقد قالوا: إن كان الهلال في بلد على ارتفاع ثمان درجات من الأفق عند الغروب
ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم

(12/302)


الشمس يعني إن كان ارتفاعه من الأفق عند غروبها بحيث أنه لا يغرب إلا في اثنتين وثلاثين دقيقة فلا بد أن يكون فوق الأفق في جميع البلاد الشرقية إلى خمس مائة ميل وستين ميلا من ذلك البلد، ويرى في جميع هذه البلاد الشرقية الكائنة في هذه المسافة الطويلة لو لا المانع من الغيم والقتر ونحوهما قالوا: يزيد أو ينقص درجة واحدة على كل سبعين ميلا فيكون الهلال على ارتفاع سبع درجات في موضع هو على سبعين ميلا في المشرق من بلد الرؤية، وعلى تسع درجات في موضع هو على سبعين ميلا في المغرب من بلد الرؤية، فإذا حصلت رؤية الهلال في بلد وثبتت يكون تحقق الرؤية في البلاد الواقعة في المغرب من ذلك البلد من مسلمات علم الهيئة. وقد ظهر بهذا أن الهلال إذا رؤى في بلد عربي ينبغي أن تعتبر هذه الرؤية إلى خمس مائة ميل وستين ميلا في جهة المشرق من ذلك البلد، وأما في البلاد الغربية منه فتعتبر مطلقا أي من غير تقييد بمسافة معينة والله تعالى أعلم (ولا تفطروا) أي من صومه (حتى تروه) أي هلال شوال. قال الحافظ: استدل بالحديث على وجوب الصوم والفطر على من رأى الهلال وحده وإن لم يثبت بقوله وهو قول الأئمة الأربعة في الصوم. واختلفوا في الفطر. فقال الشافعي: يفطر ويخفيه أي لئلا يتهم. وقال الأكثر يستمر صائما احتياطا - انتهى. وقال في المغنى: (ج3 ص160) ولا يفطر إذ رآه وحده، وروى هذا عن مالك والليث. وقال الشافعي: يحل له أن يأكل حيث لا يراه أحد لأنه تيقنه من شوال فجاز له الأكل كما لو قامت به بينة. ولنا ما روى أبورجاء عن أبي قلابة أن رجلين قدما المدينة، وقد رأيا الهلال وقد أصبح الناس صياما فأتيا عمر فذكرا ذلك له فقال: لأحدهما أصائم أنت؟ قال: بل مفطر، قال ما حملك على هذا قال لم أكن لأصوم، وقد رأيت الهلال. وقال: للآخر، قال أنا صائم ما حملك على هذا. قال: لم أكن لأفطر والناس صيام فقال للذي أفطر لو لا مكان هذا لأوجعت رأسك ثم نودي في

(12/303)


الناس أن أخرجوا، أخرجه سعيد بن منصور عن ابن علية عن أيوب عن أبي رجاء. وإنما أراد ضربه لإفطاره برؤيته، ودفع عنه الضرب لكمال الشهادة به وبصاحبه ولو جاز له الفطر لما أنكر عليه ولا توعده. وقالت عائشة: إنما يفطر يوم يفطر الإمام وجماعة المسلمين ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فكان إجماعا، ولأنه يوم محكوم به رمضان فلم يجز الفطر فيه كاليوم الذي قبله، وفارق ما إذا قامت البينة فإنه محكوم به من شوال بخلاف مسألتنا، وقولهم إنه تيقن أنه من شوال. قلنا لا يثبت اليقين لأنه يحتمل أن يكون الرائي خيل إليه. كما روى أن رجلا في زمن عمر قال لقد رأيت الهلال فقال له أمسح عينك فمسحها ثم قال له تراه قال لا، قال لعل شعرة من حاجبتك تقوست على عينك فظننتها هلالا أو ما هذا معناه - انتهى. وقال الحنفية: يصوم في الصورتين احتياطا كما في الهداية. قلت: يؤيد قول الجمهور ما روى عن عائشة مرفوعا الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس أخرجه الترمذي وصححه والدارقطني. وقال الصواب وقفه (فإن غم عليكم) بضم المعجمة وتشديد الميم أي غطى الهلال في ليلة الثلاثين. قال الجزري في النهاية: يقال
فاقدروا له،

(12/304)


غم علينا الهلال إذا حال دون رؤيته غيم أو نحوه من غممت الشيء إذا غطيته وفي غم ضمير الهلال، ويجوز أن يكون غم مسندا إلى الظروف أي الجار والمجرور أي فإن كنتم مغموما فأكملوا العدة - انتهى. وهذا لفظ البخاري، وعند مسلم أغمي عليكم. قال الحافظ: أغمى وغم وغمي بتشديد الميم وتخفيفها فهو مغموم الكل بمعنى. وقال الجزري في جامع الأصول (ج7 ص538) يقال غم الهلال واغمي وغمي إذ أغطاه شيء من غيم أو غيره فلم يظهر- انتهى. وقال ابن العربي: بناء غم للستر والتغطية ومنه الغم فإنه يغطى القلب عن استرساله في آماله ومنه الغمام وهي السحابة (فاقدروا له) بهمزة الوصل وضم الدال وكسرها. قال الشوكاني قال أهل اللغة: يقال قدرت الشيء أقدره وأقدره بكسر الدال وضمها وقدرته وأقدرته كلها بمعنى واحد وهي من التقدير. وقال الجزري في جامع الأصول. يقال: قدرت الأمر أقدره وأقدره إذا نظرت فيه ودبرته، والمعنى قدروا عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوما. وقال الخطابي في المعالم: معناه التقدير له بإكمال العدد ثلاثين يقال قدرت الشيء أقدره قدرا بمعنى قدرته تقديرا ومنه قوله تعالى: ?فقدرنا فنعم القادرون?[المرسلات:23]- انتهى. واختلف في معنى هذا اللفظ على ثلاثة أقوال. الأول إن معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما أي أقدروا عدد الشهر الذي كنتم فيه ثلاثين يوما يعني أنظروا في أول الشهر واحسبوا ثلاثين يوما كما جاء مفسرا في الرواية اللاحقة، وفي حديث أبي هريرة الذي يليها، ولذا أخرهما المؤلف لأنهما مفسران وأولى ما فسر الحديث بالحديث. وهذا مذهب الجمهور كما تقدم في كلام الحافظ. وقال العيني: وهو مذهب جمهور فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمغرب، منهم مالك والشافعي والأوزاعي والثوري وأبوحنيفة وأصحابه وعامة أهل الحديث إلا أحمد ومن قاله بقوله – انتهى. الثاني إن معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب. قال ابن قدامة: (ج3 ص90)

(12/305)


معنى قوله أقدروا له أي ضيقوا له العدد من قوله تعالى: ?ومن قدر عليه رزقه?[الطلاق:7] أي ضيق عليه وقوله ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوما. وقد فسره ابن عمر بفعله (يعني لأنه كان يصوم ذلك اليوم) وهو راويه. وأعلم بمعناه - انتهى. واختار هذا التفسير أكثر الحنابلة وغيرهم ممن يجوز الصوم يوم ليلة الغيم عن رمضان كما في المغنى (ج3 ص89) ويكفي في رد ذلك الأحاديث المفسرة المبينة والروايات المصرحة بالثلاثين وقد سردها الولي العراقي (ج4 ص106، 109) والعيني (ج10 ص272) وأشار إلى بعضها الحافظ كما سيأتي وفعل ابن عمر اجتهاد منه مخالف لأحاديث إكمال العدة ثلاثين يوما. الثالث معناه فاقدروه بحساب المنازل قاله أبوالعباس بن سريج من الشافعية ومطرف بن عبدالله من التابعين وابن قتيبة. قال ابن عبدالبر: لا يصح عن مطرف، وأو صح ما وجب إتباعه عليه لشذوذه فيه ولمخالفة الحجة له وأما ابن قتيبة فلا يعرج إليه في مثل هذا. ونقل
وفي رواية قال: ((الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)). متفق عليه.

(12/306)


ابن العربي عن ابن سريج إن قوله فاقدروا له خطاب لمن خصه الله تعالى بهذا العلم وإن قوله فأكملوا العدة خطاب للعامة. قال ابن العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد قال وهذا بعيد عن النبلاء وبسط الكلام في الرد على هذا القول. قال المازري: احتج من قال معناه بحساب المنجمين بقوله تعالى: ?وبالنجم هم يهتدون?[النحل:17] والآية عند الجمهور محمولة على الاهتداء في السير في البر والبحر. قال النووي: عدم البناء على حساب المنجمين لأنه حدس وتخمين وإنما يعتبر منه ما يعرف به القبلة والوقت - انتهى. قلت: ويرد هذا القول حديث ابن عمر الآتي إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب وقوله - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب العام صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وقوله في نفس الحديث لا تصوموا حتى تروه (وفي رواية قال الشهر تسع وعشرون ليلة) ظاهره حصر الشهر في تسع وعشرين مع أنه لا ينحصر فيه بل قد يكون ثلاثين. وأجيب بما قال الخطابي في المعالم: (ج2 ص93) يريد أن الشهر قد يكون تسعا وعشرين وليس يريد أن كل شهر تسعة وعشرون. وإنما احتاج إلى بيان ما كان موهوما أن يخفى عليهم لأن الشهر في العرف وغالب العادة ثلاثون، فوجب أن يكون البيان فيه مصروفا إلى النادر دون المعروف منه - انتهى. وقال الحافظ: واللام للعهد والمراد شهر بعينه أو هو محمول على الأكثر الأغلب لقول ابن مسعود ما صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين أخرجه أبوداود والترمذي ومثله عن عائشة عند أحمد بإسناد جيد. ويؤيد قول الخطابي قوله في حديث أم سلمة في الإيلاء إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما. وقال ابن العربي: قوله الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا معناه حصره من جهة أحد طرفيه أي أنه يكون تسعة وعشرين وهو أقلة ويكون ثلاثين وهو أكثره فلا تأخذوا أنفسكم بصوم الأكثر احتياطا ولا تقتصروا على الأقل تخفيفا ولكن

(12/307)


اجعلوا عبادتكم مرتبطة ابتداء وانتهاء باستهلاله - انتهى. وفيه حث على طلب الهلال ليلة الثلاثين وتنبيه على ترائية لتسع وعشرين (فلا تصوموا) أي على قصد رمضان (حتى تروه) أي هلاله (فإن غم) أي هلاله (عليكم) بغيم ونحوه (فأكملوا) أي أتموا (العدة) مفعول به أي عدة شعبان كما في حديث أبي هريرة الآتي (ثلاثين) أي يوما وهو منصوب على الظرف. وقيل: التقدير أكملوا هذه العدة وثلاثين بدل منه بدل الكل كذا في المرقاة (متفق عليه) الرواية الأولى أخرجها الشيخان وأخرجها أيضا أحمد (ج2 ص63) ومالك والنسائي والدارمي والبيهقي والرواية الثانية تفرد بها البخاري وأخرجها مسلم وأحمد (ج2 ص5، 13) ومالك أيضا وأبوداود والبيهقي والدارمي. وقالوا: فإن غم عليكم فاقدروا له. ورواها الدارقطني وقال: فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين. والحديث أخرجه
1990- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم

(12/308)


ابن ماجه والحاكم أيضا. قال الحافظ: حديث ابن عمر اتفق الرواة عن مالك عن نافع فيه على قوله فاقدروا له، وجاء من وجه آخر عن نافع بلفظ: فاقدروا ثلاثين كذلك أخرجه مسلم من طريق عبيدالله بن عمر عن نافع، وهكذا أخرجه عبدالرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع. قال عبدالرزاق: وأخبرنا عبدالعزيز بن أبي رواد عن نافع. وقال: فعدوا ثلاثين واتفق الرواة عن مالك عن عبدالله بن دينار أيضا فيه على قوله فاقدروا له، وكذلك رواه الزعفراني وغيره عن الشافعي وكذا رواه إسحاق الحربي وغيره في الموطأ عن القعنبي، وأخرجه الربيع بن سليمان والمزني عن الشافعي فقال فيه كما قاله البخاري هنا عن القعنبي، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين. قال البيهقي في المعرفة: (وفي السنن الكبرى ج4 ص205) إن كانت رواية الشافعي والقعنبي من هذين الوجهين محفوظة فيكون مالك، قد رواه على الوجهين. قلت: (قائلة الحافظ) ومع غرابة هذا اللفظ من هذا الوجه فله متابعات منها ما رواه الشافعي أيضا من طريق سالم عن ابن عمر بتعيين الثلاثين، ومنها ما رواه ابن خزيمة من طريق عاصم ابن محمد بن زيد عن أبيه عن ابن عمر بلفظ: فإن غم عليكم فكملوا ثلاثين، وله شواهد من حديث حذيفة عند ابن خزيمة، وأبي هريرة وابن عباس عند أبي داود والنسائي وغيرهما، وعن أبي بكر وطلق بن علي عند البيهقي وأخرجه من طرق عنهم وعن غيرهم- انتهى كلام الحافظ.

(12/309)


1990- قوله: (صوموا) أي أنووا الصيام وبيتوا على ذلك أو صوموا إذا دخل وقت الصوم وهو من فجر الغد (لرؤيته) أي لأجل رؤية الهلال فاللام للتعليل ولا يلزم تقديم الصوم على الرؤية كما زعمت الروافض كما لا يقتضي قوله أكرم زيدا لدخوله تقديم الإكرام على الدخول، والضمير للهلال وإن لم يسبق له ذكر لدلالة السياق عليه على حد قوله حتى توارت بالحجاب. وقيل: اللام للتوقيت كهي في قوله: ?أقم الصلاة لدلوك الشمس?[الإسراء:78] أي وقت دلوكها. وفيه أن الصوم بعد الرؤية بزمان طويل يتحقق، وأن الإقامة بعد تحقق الدلوك فلا جامع بينهما وفيه أيضا إنه لا بد حينئذ من احتمال تجوز، وخروج عن الحقيقة لأن وقت الرؤية وهو الليل ليس محلا للصوم. وأجيب عن هذا بأن المراد بقوله صوموا أي أنووا الصيام والليل كله ظرف للنية - انتهى. وفيه نظر لأن فيه المجاز الذي فر منه لأن الناوي ليس صائما حقيقة بدليل أنه يجوز له الأكل والشرب بعد النية إلى أن يطلع الفجر. وقال ابن مالك وابن هشام: اللام في الآية والحديث بمعنى بعد أي بعد زوالها وبعد رؤية الهلال (وأفطروا) أي اجعلوا عيد الفطر (لرؤيته) أي لأجلها أو بعدها أو وقتها (فإن غم عليكم) قال الحافظ: وقع في حديث أبي هريرة من طريق المستملى فإن غم أي بضم المعجمة
فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)).

(12/310)


وتشديد الميم ومن طريق الكشمهيني أغمى ومن رواية السرخسي غبي بفتح الغين المعجمة وتخفيف الموحدة وأغمى وغم وغمى بتشديد الميم وتخفيفها وبضم المعجمة فيهما الكل بمعنى. وأما غبي فمأخوذ من الغباوة وهي عدم الفطنة وهي استعارة لخفاء الهلال. ونقل ابن العربي أنه روى عمى بالعين المهملة من العمى. قال وهو بمعناه لأنه ذهاب البصر عن المشاهدات أو ذهاب البصيرة عن المعقولات- انتهى. وقال القسطلاني: غبى بضم المعجمة وتشديد الموحدة المكسورة مبنيا للمفعول وللحموي فإن غبي بفتح المعجمة وكسر الموحدة كعلم. وقال عياض: غبي بفتح الغين وتخفيف الباء لأبي ذر وعند القابسي بضم الغين وشد الباء المكسورة وكذا قيده الأصيلي والأول أبين، ومعناه خفي عليكم وهو من الغباوة وهو عدم الفطنة استعارة لخفاء الهلال وللكشمهيني أغمى بضم الهمزة مبنيا للمفعول من الإغماء يقال أغمي عليه الخبر إذا استعجم وللمستملي غم بضم المعجمة وتشديد الميم - انتهى. (فأكملوا عدة شعبان) أي أتموا عدده (ثلاثين) أي فكذا رمضان بطريق الأولى وفيه تصريح بأن عدة الثلاثين المأمور بها في حديث ابن عمر المتقدم تكون من شعبان، لكن قد وقع الاختلاف في هذه الزيادة فرواها البخاري كما ترى بلفظ: فأكملوا عدة شعبان ثلاثين، وهذا أصرح ما ورد في ذلك. وقد قيل: إن آدم شيخه انفرد بذلك. قال الإسماعيلي في صحيحه الذي أخرجه على البخاري تفرد به البخاري عن آدم عن شعبة فقال: فيه فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما، وقد رويناه عن غندر وعبدالرحمن بن مهدي وابن علية وعيسى بن يونس وشبابة وعاصم بن علي والنضر ابن شميل ويزيد بن هارون كلهم عن شعبة لم يذكر أحد منهم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما. وإنما قالوا فيه فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين. قال الإسماعيلي: فيجوز أن يكون آدم رواه على التفسير من عنده وإلا فليس لانفراد البخاري عنه بهذا اللفظ من رواه عنه وجه - انتهى. قال الحافظ في الفتح: الذي ظنه

(12/311)


الإسماعيلي صحيح فقد رواه البيهقي (ج4 ص205) من طريق إبراهيم بن يزيد عن آدم بلفظ: فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما يعني عدوا شعبا ثلاثين (وكذا رواه الدارقطني من طريق علي بن داود عن آدم ص230) فوقع للبخاري إدراج التفسير في نفس الخبر ويؤيده رواية أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين فإنه يشعر بأن المأمور بعدده هو شعبان. وقد رواه مسلم من طريق الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد بلفظ: فأكملوا العدد وهو يتناول كل شهر فدخل فيه شعبان وروى الدارقطني وصححه وابن خزيمة في صحيحه من حديث عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوما، ثم صام وأخرجه أبوداود وغيره أيضا. وروى أبوداود والنسائي وابن خزيمة من طريق ربعى عن حذيفة مرفوعا لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو
متفق عليه.
1991-(3) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنا أمة أمية،

(12/312)


تكملوا العدة- انتهى. وقال صاحب التنقيح: أي ابن عبدالهادي المقدسي الحنبلي ما ذكره الإسماعيلي من أن آدم ابن أبي أياس يجوز أن يكون رواه على التفسير من عنده للخير فغير قادح في صحة الحديث لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أما أن يكون قال اللفظين هو ظاهر اللفظ، وأما أن يكون قال: أحدهما وذكر الراوي اللفظ الآخر بالمعنى فإن اللام في قوله"فأكملوا العدة" للعهد أي عدة الشهر والنبي عليه الصلاة والسلام لم يخص بالإكمال شهرا دون شهر، إذا غم فلا فرق بين شعبان وغيره إذ لو كان شعبان غير مراد من هذا الإكمال لبينه، لأن ذكر الإكمال عقيب قوله صوموا وأفطروا فشعبان وغيره مراد من قوله فأكملوا العدة فلا تكون رواية فأكملوا عدة شعبان مخالفة لرواية فأكملوا العدة بل مبينة لها. أحدهما: أطلق لفظا يقتضي العموم في الشهر، والثاني ذكر فردا من الأفراد قال ويشهد له حديث أخرجه أبوداود والترمذي (وأحمد والطحاوي والنسائي) عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا قال الترمذي: حديث حسن صحيح ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ورواه الطيالسي (ومن طريقه البيهقي) حدثنا أبوعوانة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة فأكملوا شهر شعبان ثلاثين ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان. قال: وبالجملة فهذا الحديث نص في المسألة وهو صحيح كما قال الترمذي. قال: والذي دلت عليه الأحاديث في هذه المسألة وهو مقتضى القواعد إن كل شهر غم أكمل ثلاثين سواء في ذلك شعبان ورمضان وغيرهما وعلى هذا فقوله، فأكملوا العدة يرجع إلى الجملتين وهما قوله صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة أي غم عليكم في صومكم أو فطركم هذا هو الظاهر من اللفظ وباقي الأحاديث تدل على ذلك كقوله فإن

(12/313)


غم عليكم فاقدروا له- انتهى. وذكر نحو ذلك الولي العراقي في طرح التثريب (ج4 ص108- 109) (متفق عليه) واللفظ للبخاري كما عرفت، ورواه مسلم بلفظ: فصوموا ثلاثين يوما وفي رواية له فأكملوا العدد وفي أخرى فعدوا ثلاثين والحديث أخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي والدارقطني والبيهقي.
1991- قوله: (إنا) أي معاشر العرب. وقيل: أراد نفسه القدسية (أمة) أي جماعة. قال الجوهري: الأمة الجماعة. وقال الجزري: في جامع الأصول (ج7 ص539) الأمة الجيل من الناس (أمية) أي التي لا تكتب ولا تقرأ. قيل: هو منسوب إلى أمة العرب فإنهم غالبا لا يكتبون ولا يقرءون والكاتب فيهم نادر وقيل: منسوب إلى الأم لأن هذه صفة النساء غالبا أو باقون على الحالة التي ولدتنا عليها الأمهات لم نتعلم قراءة
لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة. ثم قال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين.

(12/314)


ولا كتابة أي فلذلك ما كلفنا الله تعالى بحساب أهل النجوم ولا بالشهور الشمسية الخفية بل كلفنا بالشهور القمرية الجلية لكنها مختلفة كما بين بالإشارة مرتين فالعبرة حينئذ للرؤية. وقيل: منسوب إلى أم القرى وهي مكة أي أنا أمة مكية (لا نكتب ولا نحسب) بضم السين من باب نصر، وهذا تفسير وبيان لكونهم أمة أمية أي لا نعرف حساب النجوم وتسييرها فلم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة إنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة لائحة يستوي في معرفة الحساب وغيرهم. قال الحافظ: قيل للعرب أميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة قال الله تعالى: ?هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم? [الجمعة:2] ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة. والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضا إلا النذر اليسير فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التيسير، واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلا، ويوضحه قوله في الحديث الماضي فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ولم يقل فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم، وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض، ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم. قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حجة عليهم. وقال ابن بزيزة: هو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب مع أنه لو أربط الأمر بها لضاق إذ لا يعرفها إلا القليل - انتهى. ثم تمم عليه الصلاة والسلام المعنى المذكور بإشارته بيده من غير لفظ إشارة يفهمها الأخرس والأعجمي (الشهر) مبتدأ (هكذا) مشار بها إلى نشر الأصابع العشر (وهكذا) ثانيا (وهكذا)

(12/315)


ثالثا خبره بالربط بعد العطف (وعقد الإبهام) أي أحد الإبهامين أو التقدير من إحدى اليدين أو إبهام اليمين على أن اللام عوض عن المضاف إليه (في الثالثة) أي في المرة الثالثة من فعله هكذا فصار الجملة تسعة وعشرين (ثم قال الشهر) أي تارة أخرى (هكذا وهكذا وهكذا) قال الطيبي: أي عقد الإبهام في المرة الأولى في الثالثة ليكون العدد تسعا وعشرين، ولم يعقد الإبهام في المرة الثانية ليكون العدد ثلاثين. وقال الحافظ: أي أشار أولا بأصابع يديه العشر جميعا مرتين وقبض الإبهام في المرة الثالثة، وهذا المعبر عنه بقوله (وفي الرواية الأخرى) تسع وعشرون. وأشار مرة أخرى بهما ثلاث مرات وهو المعبر عنه بقوله ثلاثون (يعني تمام الثلاثين) تفسير من الراوي لفعله عليه الصلاة والسلام هكذا وهكذا وهكذا في المرة الأخيرة. والتقدير قال الراوي يعني أي يريد - صلى الله عليه وسلم - بكونه هنا لم يعقد
يعني مرة تسعا وعشرين، ومرة ثلاثين)). متفق عليه.
1992- (4) وعن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شهرا عيد لا ينقصان

(12/316)


الإبهام تمام الثلاثين، ثم زاد البيان فبين الكيفية في المرتين جميعا والتقدير قال الراوي أيضا زيادة في الإيضاح تأسيا به - صلى الله عليه وسلم -. (يعني) أي يريد صلى الله عليه وسلم بمجموع ما ذكره أن الشهر يكون (مرة تسعا وعشرين ومرة ثلاثين) قال ابن حجر: وإنما بالغ في البيان بما ذكر مع الإشارة المذكورة ليبطل الرجوع إلى ما عليه الحساب والمنجمون وبه يبطل ما مر عن ابن سريج ومن وافقه - انتهى. قال ابن بطال: في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف ولا شك إن مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف. وفي الحديث مستدل لمن رأى الحكم بالإشارة المفهمة وأعمال أدلة الإيماء في النكاح والطلاق ونحوهما (متفق عليه) أي على أصل الحديث وإلا فقوله الشهر هكذا وهكذا إلى قوله تمام ثلاثين لفظ مسلم، ولفظ البخاري الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعا وعشرين ومرة ثلاثين. قال الحافظ: هكذا ذكره آدم شيخ البخاري مختصرا، وفيه اختصار عما رواه غندر عن شعبة أخرجه مسلم عن ابن المثنى وغيره عن غندر ثم ذكر اللفظ المذكور عن مسلم وفي رواية للبخاري الشهر هكذا وهكذا وخنس الإبهام في الثالثة والمصنف تبع في ذلك البغوي فإنه ذكر في المصابيح كذلك ولا يخفى ما فيه والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج2 ص23، 52، 122و 129) وأبوداود والنسائي والبيهقي.

(12/317)


1992- قوله: (شهرا عيد) أي شهر رمضان وشهر ذي الحجة وإنما سمي شهر رمضان شهر عيد بطريق المجاورة. قال السندي: عد شهر رمضان شهر عيد مع أن العيد بعده، والجواب أن المقارنة مجوزة للإضافة. وقال الحافظ: أطلق على رمضان أنه شهر عيد لقربه من العيد ونظيره قوله - صلى الله عليه وسلم -: المغرب وتر النهار. أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر وصلاة المغرب ليلية جهرية وأطلق كونها وتر النهار لقربها (لا ينقصان) اختلف في معناه على أقوال فقيل: أي لا ينقصان في الفضيلة إن كانا تسعة وعشرين أو ثلاثين قاله إسحاق بن راهويه. والمراد أنه لا يكونان ناقصين في الثواب وإن وجدا ناقصين في عدد الحساب. فثواب تسع وعشرين كثواب ثلاثين منهما، وحاصله أنه لا يتفاوت أجر ثلاثين وتسعة عشرين كأنه أراد سد أن يخطر ذلك في قلب أحد. قال النووي: الأصح إن معناه لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليها وإن نقص عددهما هذا هو الصواب المعتمد، والمعنى إن كل ما ورد عنهما من الفضائل والأحكام حاصل، سواء كان رمضان ثلاثين أو تسعا وعشرين، سواء صادف الوقوف اليوم التاسع أو غيره. قال الحافظ: ولا يخفى أن محل ذلك إذا لم يحصل تقصير في ابتغاء الهلال، وفائدة
...................................

(12/318)


الحديث رفع ما يقع في القلوب من شك لمن صام تسعا وعشرين أو وقف في غير يوم عرفة، وقد استشكل بعض العلماء إمكان الوقوف في الثاني اجتهادا وليس مشكلا لأنه ربما ثبتت الرؤية بشاهدين لأن أول ذي الحجة الخميس مثلا فوقفوا يوم الجمعة ثم تبين أنهما شهدا زورا - انتهى. وقال الكرماني: استشكل ذكر ذي الحجة لأنه إنما يقع الحج في العشر الأول منه فلا دخل لنقصان الشهر وتمامه، وأجيب بأنه مؤول بأن الزيادة والنقص إذا وقعا في ذي القعدة يلزم منهما نقص عشر ذي الحجة الأول أو زيادته فيقفون الثامن أو العشر فلا ينقص أجر وقوفهم عما لا غلط فيه ذكره القسطلاني. وقال الطيبي: ظاهر سياق الحديث في بيان اختصاص الشهرين بمزية ليست في سائرها ليس المراد أن ثواب الطاعة في سائرها قد ينقص دونهما فينبغي أن يحمل على الحكم ورفع الحرج والجناح عما عسى أن يقع فيه خطأ في الحكم لاختصاصهما بالعيدين وجواز احتمال وقوع الخطأ فيها، ومن ثم لم يقتصر على قوله رمضان وذو الحجة بل قال: شهرا عيد- انتهى. وقال الزين بن المنير: أقرب الأقوال إن المراد أن النقص الحسي باعتبار العدد ينجبر بأن كلا منهما شهر عيد عظيم فلا ينبغي وصفهما بالنقصان بخلاف غيرهما من الشهور. قال الحافظ: وحاصله يرجع إلى تأييد قول إسحاق وقيل: معناه لا ينقصان معا في سنة واحدة على طريق الأكثر الأغلب، وإن ندر وقوع ذلك. وحاصله إنهما غالبا لا يجتمعان في سنة واحدة على النقص، بل إن كان أحدهما ناقصا كان الآخر وافيا، وهذا أكثري لا كلي فقد جاء وجودهما ناقصين معا وقيل: معناه لا ينقصان في نفس الأمر لكن ربما حال دون رؤية الهلال مانع وهذا أشار إليه ابن حبان ولا يخفى بعده وقيل معناه لا ينقصان في عام بعينه وهو العام الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم تلك المقالة، وهذا حكاه ابن بزيزة ومن قبله أبوالوليد بن رشد، ونقله المحب الطبري عن أبي بكر بن فورك وقيل: المعنى لا ينقصان في الأحكام وبهذا

(12/319)


جزم البيهقي وقبله الطحاوي، فقال: معنى لا ينقصان إن الأحكام فيهما وإن كانا تسعة وعشرين متكاملة غير ناقصة عن حكمها إذا كانا ثلاثين وقيل: المراد أنهما في الفضل سواء لقوله في الحديث الآخر: (ما من أيام العمل فيها أفضل من عشر ذي الحجة)، فالمعنى أنه لا ينقص ثواب العمل في أحدهما عن العمل في الآخر ويقرب منه ما ذكره الخطابي والتوربشتي من أنه أراد تفضيل العمل في عشر ذي الحجة وأنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان لأن فيه المناسك والعشر وقيل: المراد إن شهرا عيد لا ينقصان عند الله أجرا وثوابا بل الأجر والثواب فيهما على الأعمال دائما على حد واحد لا يتفاوت ذلك بالسنين والأعوام مثلا لأن رمضان أحيانا يكون في الشتاء، وأحيانا يكون في الصيف، وكذا الحجة الخ. فبين إن الأجر في الكل سواء، وفي الحديث حجة لمن قال أن الثواب ليس مرتبا
رمضان وذو الحجة)). متفق عليه.
1993- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صوما، فليصم ذلك اليوم)).
على وجود المشقة دائما بل لله أن يتفضل بالحق الناقص بالتام في الثواب (رمضان وذوالحجة) بدلان أو بيانان أو هما خبر مبتدأ محذوف أي أحدهما رمضان، والآخر ذوالحجة (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص38و47- 48، 51) وأبوداود والترمذي وابن ماجه والطحاوي والبيهقي.

(12/320)


1993- قوله: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم) الخ وعند الإسماعيلي (لا تقدموا بين يدي رمضان بصوم) وفي رواية لأحمد (لا تقدموا قبل رمضان بصوم)، وللترمذي في رواية ( لا تقدموا شهر رمضان بصيام قبله). قال الحافظ: أي لا يتقدم رمضان بصوم يوم يعد منه بقصد الاحتياط له فإن صومه مرتبط بالرؤية فلا حاجة إلى التكلف. قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان. قال الترمذي: لما أخرجه العمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول شهر رمضان لمعنى رمضان - انتهى. وقال السيوطي: في قوت المغتذي إنما نهى عن فعل ذلك لئلا يصوم احتياطا لاحتمال أن يكون من رمضان وهو معنى قول الترمذي لمعنى رمضان وإنما ذكر اليومين لأنه قد يحصل الشك في يومين بحصول الغيم والظلمة في شهرين أو ثلاثة فلذا عقب ذكر اليوم باليومين - انتهى. قلت: وعندي في تقييد هذا النهي بنية الاحتياط لرمضان نظر كما سيأتي (إلا أن يكون رجل) كان تامة أي إلا أن يوجد رجل قاله الحافظ (كان يصوم صوما) أي نفلا معتادا كذا لأبي ذر عن الحموي والمستملي وفي رواية الكشمهيني يصوم صومه (فليصم ذلك اليوم) أي ذلك الوقت فإنه مأذون له فيه وللترمذي، وفي رواية إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم وفي رواية للنسائي إن رجل كان يصوم صياما أتى ذلك اليوم على صيامه، يعني آتى يوم عادته مع صيام رمضان متصلا به وفي رواية لأحمد إلا رجل كان يصوم صياما فليصله به. قال الخطابي: معنى الاستثناء أن يكون قد اعتاد صوم الاثنين والخميس (مثلا) فيوافق صوم اليوم المعتاد فيصومه ولا يتعمد صومه إن لم تكن له عادة قال السندي: قوله (لا يتقدمن أحدكم رمضان) الخ أي لا يستقبلنه بصوم يوم أو يومين (يعني تعظيم لرمضان) وحمله كثير من العلماء على أن بنية رمضان أو لتكثير عدد صيامه أو لزيادة احتياطه بأمر رمضان أو على صوم يوم الشك ولا يخفى إن قوله أو يومين لا

(12/321)


يناسب الحمل على صوم الشك إذ لا يقع الشك عادة في يومين والاستثناء بقوله (إلا أن يكون رجل) الخ لا يناسب التأويلات الأول إذ لازمه جواز صوم يوم أو يومين قبل رمضان لمن يعتاده بنية رمضان مثلا وهذا فاسد. والوجه أن يحمل النهي
.......................................
على الدوام أي لا تداوموا على التقدم لما فيه من إبهام لحوق هذا الصوم برمضان إلا لمن يعتاد المداومة على صوم آخر الشهر مثلا فإنه لو داوم عليه لا يتوهم في صومه اللحوق برمضان والله تعالى أعلم. انتهى كلام السندي. وقال الأمير اليماني: الحديث دليل على تحريم صوم يوم أو يومين قبل رمضان. ثم ذكر كلام الترمذي المتقدم ثم قال وقوله لمعنى رمضان تقييد للنهي بأنه مشروط بكون الصوم احتياطا، لا، لو كان الصوم صوما مطلقا كالنفل المطلق والنذر ونحوه، قلت: (قائله الأمير اليماني) ولا يخفى أنه بعد هذا التقييد يلزم منه جواز تقدم رمضان بأي صوم كان وهو خلاف ظاهر النهي فإنه عام لم يستثن منه إلا صوم من اعتاد صوم أيام معلومة ووافق ذلك آخر يوم من شعبان، ولو أراد صلى الله عليه وسلم الصوم المقيد بما ذكر لقال إلا متنفلا أو نحوه هذا اللفظ، وإنما نهى عن تقدم رمضان لأن الشارع قد علق الدخول في صوم رمضان برؤية هلاله فالمتقدم عليه مخالف للنص أمرا ونهيا _ انتهى. وقال الحافظ: وفي الحديث رد على من قال بجواز صوم النفل المطلق وأبعد من قال المراد بالنهي التقدم بنية رمضان واستدل بلفظ التقدم لأن التقدم على الشيء بالشيء إنما يتحقق إذا كان من جنسه فعلى هذا يجوز الصيام بنية النفل المطلق لكن السياق يأبى هذا التأويل ويدفعه - انتهى. وقد اختلف في الحكمة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين فقيل: هي الخوف من أن يزاد في رمضان ما ليس منه كما نهى عن صيام يوم العيد لذلك حذرا مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم، فزادوا فيه بآرائهم وأهوائهم وقيل: هي التقوى على صيام رمضان

(12/322)


ليدخل فيه بقوة ونشاط فإن مواصله الصيام تضعف عن صيام الفرض، وفيه نظر لأن مقتضى الحديث إنه لو تقدمه بصوم ثلاثة أيام فصاعدا جاز وسنذكر ما فيه. وقيل: الحكمة فيه خشية اختلاط النفل بالفرض، وفيه نظر أيضا لأنه يجوز لمن له عادة كما في الحديث. وقيل لزوم التقدم بين يدي الله ورسوله، فإنه عليه الصلاة والسلام قد علق الصوم بالرؤية فهو كالعلة للحكم فمن تقدمه بصوم يوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم. قال الحافظ: وهذا هو المعتمد. ومعنى الاستثناء إن من كان له ورد فقد أذن له فيه لأنه اعتاده وألفه، وترك المألوف شديد وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء ويلتحق بذلك القضاء والنذر لوجوبهما. قال بعض العلماء يستثنى القضاء والنذر بالأدلة القطعية على وجوب الوفاء بهما فلا يبطل القطعي بالظني. وفي الحديث إبطال لما يفعله الرافضة والباطنية من تقدم الصوم بيوم أو يومين قبل رؤية هلال رمضان، وزعمهم إن اللام في قوله (صوموا لرؤيته) في معنى مستقبلين لها، وذلك لأن الحديث يفيد أن اللام لا يصح حملها على هذا المعنى وإن وردت له في مواضع. ومفهوم الحديث جواز الصوم إذا كان التقدم بأكثر من يومين. وقيل: يمتد المنع لما قبل ذلك، وبه قطع
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1994- (6) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)).

(12/323)


كثير من الشافعية. وأجابوا عن الحديث بأن المراد منه التقدم بالصوم، فحيث وجد منع. وإما اقتصر على يوم أو يومين لأنه الغالب ممن يقصد ذلك. وقالوا: ابتداء المنع من أول السادس عشر من شعبان لحديث أبي هريرة التالي وقال الرؤياني من الشافعية: يحرم التقدم بيوم أو يومين للحديث الذي نحن في شرحه، ويكره التقدم من نصف شعبان للحديث الآخر. وقيل: يجوز من بعد انتصافه ويحرم قبل رمضان بيوم أو يومين. أما جواز الأول فلأنه الأصل، وحديث أبي هريرة الآتي ضعيف. قال أحمد وابن معين: إنه منكر. وأما تحريم الثاني فلحديث الباب. قال الأمير اليماني: وهو جمع حسن، وقال جمهور العلماء: يجوز الصوم تطوعا بعد النصف من شعبان وضعفوا الحديث الوارد فيه. واستدل البيهقي بحديث الباب على ضعفه. فقال الرخصة في ذلك بما هو أصح من حديث الانتصاف. وكذا صنع قبله الطحاوي واستظهر بحديث ثابت عن أنس مرفوعا أفضل الصيام بعد رمضان شعبان، لكن إسناده ضعيف. واستظهر أيضا بحديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (هل صمت من سرر شعبان شيئا، قال: لا، قال: فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين). والمراد بالسرر (بفتحتين) عند الجمهور هنا آخر الشهر سميت بذلك لاستسرار القمر فيها. وهي ليلة ثمانية وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين. ثم جمع الطحاوى بين حديث الانتصاف وحديث التقدم بيوم أو يومين بأن حديث الانتصاف محمول على من يضعفه الصوم، وحديث التقدم مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان. قال الحافظ: وهو جمع حسن. قلت: الظاهر عندي أنه يحرم التقدم بيوم أو يومين مطلقا إلا لمن يكون له الصوم معتاد فيأتي ذلك على صيامه فيجوز له أن يصوم ذلك، ويتقدم قبل رمضان بيوم أو يومين، وفي حكم المعتاد النذر والقضاء كما تقدم، وعلى هذا يحمل حديث السرر كما سيأتي في باب صوم التطوع. وأما حديث الانتصاف وهو حديث صحيح كما ستعرف فهو محمول على من يضعفه الصوم، أو على من صامه بلا سبب، أو

(12/324)


على من لم يصله بما قبله أي لم يصم قبل نصف الشهر والله تعالى أعلم. وسيأتي مزيد الكلام فيه عند شرحه (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص224- 281) والترمذي، وأبوداود والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، والدارقطني والبيهقي، والطحاوي وغيرهم.
1994- قوله: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) هذا لفظ أبي داود، وللترمذي إذا بقي نصف من
رواه أبوداود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
شعبان فلا تصوموا، وللدارمي إذا كان النصف من شعبان فامسكوا عن الصوم، وعند ابن ماجه (فلا صوم حتى يجيء رمضان). قال ابن القطان في كتابه: روى فأمسكوا كما تقدم، وروى فكفوا (عند النسائي في الكبرى) وبين هذين اللفظين ولفظ الترمذي وأبي داود فرق، فإن هذين اللفظين لمن كان صائما عن التمادي في الصوم. ولفظ الترمذي نهى لمن كان صائما ولمن لم يكن صائما عن الصوم بعد النصف ذكره الزيلعي. قال القاري: والنهي للتنزيه رحمة على الأمة أن يضعفوا عن حق القيام بصيام رمضان على وجه النشاط، وأما من صام شعبان كله فيتعود بالصوم ويزول عنه الكلفة. ولذا قيد بالإنتصاف أو نهي عنه لأنه نوع من التقدم والله أعلم. قال القاضي: المقصود استجمام من لا يقوى على تتابع الصيام فاستجب الإفطار كما استحب إفطار عرفة ليتقوى على الدعاء. فأما من قدر فلا نهي له ولذا جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الشهرين في الصوم - انتهى. قال القاري: وهو كلام حسن لكن يخالف مشهور مذهبه أن الصيام بلا سبب بعد نصف شعبان مكروه. وقال المنذري: من قال إن النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان لأجل التقوى على صيام رمضان والاستجمام له، فقد أبعد. فإن نصف شعبان إذا أضعف كان كل شعبان أحرى أن يضعف، وقد جوز العلماء صيام جميع شعبان. وفي شرح ابن حجر المكي. قال بعض أئمتنا: يجوز بلا كراهة الصوم بعد النصف مطلقا تمسكا بأن الحديث غير ثابت أو محمول على من يخاف الضعف بالصوم ورده المحققون بما تقرر بأن الحديث ثابت

(12/325)


بل صحيح، وبأنه مظنة للضعف وما نيط بالمظنة لا يشترط فيه تحققها - انتهى. (رواه أبوداود) الخ وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي كلهم من حديث العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ - انتهى. وصححه ابن حبان أيضا. وقال أحمد وابن معين: إنه منكر كما تقدم. وقال أبوداود، في سننه: وكان عبدالرحمن يعني ابن مهدي لا يحدث به. قلت: لأحمد لم قال لأنه كان عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصل شعبان برمضان، وقال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافة. قال أبوداود: وليس هذا عندي خلافة ولم يجيء به غير العلاء عن أبيه - انتهى. وقال المنذري في تلخيصه: حكى أبوداود عن الإمام أحمد أنه قال هذا حديث منكر. قال: وكان عبدالرحمن يعني ابن المهدي لا يحدث به، ويحتمل أن يكون الإمام أحمد إنما أنكره من جهة العلاء بن عبدالرحمن فإن فيه مقالا لائمة هذا الشأن قال، والعلاء بن عبدالرحمن وإن كان فيه مقال فقد حدث عنه الإمام مالك مع شدة انتقاده للرجال وتحريه في ذلك، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وذكر له أحاديث انفرد بها رواتها. وكذلك فعل البخاري أيضا وللحفاظ في الرجال مذاهب فعل كل منهم ما أدى إليه اجتهاده من القبول والرد رضي الله عنهم انتهى كلام المنذري. قال شيخنا في شرح الترمذي: الحق عندي إن الحديث صحيح والله تعالى أعلم.
1995-(7) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحصوا هلال شعبان لرمضان)) رواه الترمذي.

(12/326)


1995- قوله: (أحصوا) بفتح الهمزة وضم الصاد المهملة أمر من الإحصاء. قال تعالى: ?وأحصوا العدة? [الطلاق:1] قال القاري: والإحصاء، في الأصل العد بالحصا، أي عدوا (هلال شعبان) أي أيامه (لرمضان) أي لأجل رمضان أو للمحافظة على صوم رمضان. وقال في المفاتيح: يقال أحصى الرجل إذا علم وعد عددا، يعني أطلبوا هلال شعبان وأعلموه وعدوا أيامه لتعلموا دخول رمضان، وقال الطيبي: الإحصاء أبلغ من العد في الضبط لما فيه من أنواع الجهد في العد. ومن ثم كنى عنه بالطاقة في قوله استقيموا ولن تحصوا- انتهى. وقال ابن حجر: أي اجتهدوا في إحصاءه وضبطه بأن تتحروا مطالعه وتتراؤا منازله لأجل تكونوا على بصيرة في إدراك هلال رمضان على حقيقة حتى لا يفوتكم منه شيء. وقال العراقي: يحتمل أن المراد أحصوا استهلاله حتى تكملوا العدة إن غم عليكم، أو المراد تحروا هلال شعبان وأحصوه لرمضان ليترتب عليه الاستكمال أو بالرؤية - انتهى. وهذا الحديث مختصر من حديث، وقد رواه الدارقطني بتمامه (ص230) فزاد ولا تخلطوا برمضان إلا أن يوافق ذلك صياما كان يصومه أحدكم وصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فإنها ليست تغمى عليكم العدة- انتهى. (رواه الترمذي) قال: حدثنا مسلم بن حجاج نا يحيى بن يحيى نا أبومعاوية عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومسلم بن حجاج هذا هو صاحب الصحيح. قال العراقي: لم يرو الترمذي في كتابه شيئا عن مسلم صاحب الصحيح إلا هذا الحديث وهو من رواية الأقران فإنهما اشتركا في كثير من شيوخهما - انتهى. والحديث أخرجه الحاكم (ج1 ص25) عن أبي بكر بن إسحاق الفقيه عن إسماعيل بن قتيبة عن يحيى عن أبي معاوية مختصرا. بلفظ الترمذي وأخرجه الدارقطني عن محمد بن مخلد عن مسلم بن حجاج مطولا كما تقدم، وأخرجه البيهقي (ج4 ص206) من طريق الحاكم مختصرا، ومن طريق الدارقطني مطولا، وصححه الحاكم ثم الذهبي على شرط مسلم. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة

(12/327)


لا نعرفه مثل هذا إلا من حديث أبي معادية والصحيح ما روى عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تقوموا شهر رمضان بيوم ولا يومين، وهكذا روى عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحو الحديث محمد بن عمرو - انتهى. وقد تعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأن حديث أبي معاوية عن محمد بن عمرو. بلفظ أحصوا هلال شعبان. وما روى عن محمد بن عمرو بلفظ: لا تقوموا شهر رمضان الخ. حديثان يدلان على معنيين فالأول يدل على إحصاء هلال شعبان والتحفظ به. وقد روى أبوداود عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره- الحديث. والحديث الآخر يدل على النهي عن تقدم رمضان بيوم أو بيومين. فالظاهر أن محمد
1996-(8) وعن أم سلمة، قالت: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان)). رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
1997-(9) وعن عمار بن ياسر، قال: ((من صام اليوم الذي يشك فيه
ابن عمرو يروي هذين الحديثين عن أبي سلمة عن أبي هريرة فروى عنه أبومعاوية الحديث الأول، وروى عنه غيره الحديث الآخر فعلى هذا يكون الحديثان صحيحين فتفكر والله تعالى أعلم.

(12/328)


1996- قوله: (وعن أم سلمة) بفتح اللام أم المؤمنين (ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان) أي فإنه كان يصوم شعبان كله أو معظمه أي أكثره، وهذا لفظ الترمذي. ولأبي داود لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصله برمضان. وعند النسائي في رواية ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم شهرين متتابعين إلا أنه كان يصل شعبان برمضان وله في أخرى ولابن ماجه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصل شعبان برمضان. قال السندي: أي فيصومهما جميعا ظاهره أنه يصوم شعبان كله كما في حديث عائشة (عند الشيخين وغيرهما) إنه كان يصوم شعبان كله لكن قد جاء من حديث عائشة أيضا ما يدل على خلافه، فلذلك حمل على أنه كان يصوم غالبه فكأنه يصوم كله وإنه يصله برمضان - انتهى. وسيأتي بسط معنى هذا الحديث في باب صيام التطوع إن شاءالله تعالى، وسبب إيراده ههنا أنه يوهم بظاهره التعارض بينه وبين ما روى من النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ومن النهي عن الصوم بعد نصف شعبان الأول وهذا الوهم ليس بشيء. قال الشوكاني: لا تعارض بين ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - من صوم كل شعبان أو أكثره، ووصله برمضان وبين أحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين. وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني فإن الجمع بينها ظاهر بأن يحمل النهي على من يدخل تلك الأيام في صيام يعتاده، وقد تقدم تقييد أحاديث النهي عن التقدم بقوله - صلى الله عليه وسلم -إلا أن يكون شيئا يصومه أحدكم- انتهى. (رواه أبوداود الخ.) قد تقدم بيان ألفاظهم وقد أخرجه أيضا الترمذي في شمائله والدارمي والطحاوي والبيهقي، وحسنه الترمذي وسكت عنه أبوداود والمنذري.

(12/329)


1997- قوله: (من صام اليوم الذي يشك) على بناء المجهول مسندا إلى (فيه) قال الطيبي: إنما أتى بالموصول ولم يقل يوم الشك للمبالغة تنبيها على أن صوم يوم فيه أدنى شك سبب لعصيان صاحب الشرع فكيف بمن صام يوم أشك فيه قائم وثابت ونحوه قوله تعالى: ?ولا تركنوا إلى الذين ظلموا?[هود:113] أي الذين أونس منهم أدنى ظلم فكيف بالظالم المستمر عليه - انتهى. قلت: الحديث رواه الحاكم ومن طريقه البيهقي بلفظ من صام يوم الشك وكذا ذكره البخاري في صحيحه تعليقا. وقال الحافظ بعد ذكر كلام الطيبي: قلت: قد وقع في
فقد عصى أباالقاسم صلى الله عليه وسلم)).

(12/330)


كثير من الطريق بلفظ: يوم الشك- انتهى. والمراد من اليوم الذي يشك فيه يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليلته بغيم ساتر أو نحوه فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان وهذا عندنا وسيأتي بيان الاختلاف في تعريفه (فقد عصى أباالقاسم - صلى الله عليه وسلم -) هو كنيته رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قيل: فائدة تخصيص ذكر هذه الكنية الإشارة إلى أنه هو الذي يقسم بين عباد الله أحكامه زمانا ومكانا وغير ذلك. قال الحافظ: استدل به على تحريم صوم يوم الشك لأن الصحابي لا يقول ذلك من قبل رأيه فيكون من قبيل المرفوع. قال ابن عبدالبر: هو مسند عندهم لا يختلفون في ذلك، وخالفهم أبوالقاسم الجوهري المالكي فقال: هو موقوف. والجواب إنه موقوف لفظا مرفوع حكما - انتهى. قال الخطابي في المعالم (ج2 ص99) اختلف الناس في معنى النهي عن صيام يوم الشك. فقال قوم إنما نهي عن صيامه إذا نوى به أن يكون عن رمضان. فأما من نوى به صوم يوم من شعبان فهو جائز، هذا قول مالك بن أنس والأوزاعي وأصحاب الرأي ورخص فيه على هذا الوجه أحمد وإسحاق وقالت طائفة لا يصام ذلك اليوم عن فرض ولا تطوع للنهي فيه وليقع الفصل بذلك بين شعبان ورمضان هكذا. قال عكرمة: وروى معناه عن أبي هريرة وابن عباس وكانت عائشة وأسماء تصومان ذلك اليوم وكانت عائشة تقول لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان. وكان مذهب عبدالله بن عمر بن الخطاب صوم يوم الشك إذا كان من ليلة في السماء سحاب أو قترة فإن كان صحوا ولم ير الناس الهلال أفطر مع الناس وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وقال الشافعي: إن وافق يوم الشك يوما كان يصومه صامه، وإلا لم يصمه- انتهى. وقال ابن الجوزي في التحقيق لأحمد في هذه المسألة: وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان ثلاثة أقوال: أحدها: يجب صومه على أنه من رمضان، ثانيها: لا يجوز فرضا ولا نفلا مطلقا بل قضاء

(12/331)


وكفارة ونذرا ونفلا يوافق عادة وبه قال الشافعي. وقال مالك وأبوحنيفة: لا يجوز عن فرض رمضان ويجوز عما سوى ذلك. ثالثها: المرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر كذا ذكر الحافظ في الفتح قلت: اختلف الأئمة في تعريف يوم الشك وحكم صومه وفيما إذا صامه بنية رمضان أو واجب آخر أو نية التطوع وتوضيح المقام أن السماء إذا كانت مصحية ليلة الثلاثين من شعبان ولم يروا الهلال فصبيحة هذه الليلة هي مصداق يوم الشك في المشهور عن الإمام أحمد ولا يجوز صومه: قال ابن قدامة (ج3 ص86) إن لم يروا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان وكانت السماء مصحية لم يكن لهم صيام ذلك اليوم إلا أن يوافق صوما كانوا يصومونه لما روى عن أبي هريرة من النهي عن تقدم صوم رمضان بيوم أو يومين. وقال عمار: من صام اليوم الذي يشك
......................................

(12/332)


فيه فقد عصى أباالقاسم - صلى الله عليه وسلم -: قال ابن قدامة: والنهي عن صوم يوم الشك محمول على حال الصحو- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: المشهور عن أحمد إنه خص يوم الشك بما إذا تقاعد الناس عن رؤية الهلال أو شهد برؤيته من لا يقبل الحاكم شهادته، فأما إذا حال دون منظره شيء فلا يسمى شكا- انتهى. وإن كانت السماء في ليلة الثلاثين مغيمة فعن أحمد في ذلك ثلاث روايات. قال الخرقي: إن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه، وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان. قال ابن قدامة: (ج3 ص89) اختلف الرواية عن أحمد في هذه المسألة فروى عنه مثل ما نقل الخرقي اختارها أكثر شيوخ أصحابنا وروى عنه أن الناس تبع للإمام، فإن صام صاموا، وإن أفطر أفطروا. وعن أحمد رواية ثالثة لا يجب صومه ولا يجزئه عن رمضان إن صامه، وهو قول أكثر أهل العلم - انتهى مختصرا. وفي الروض المربع من فروع الحنابلة إن لم ير الهلال مع الصحو ليلة الثلاثين من شعبان أصبحوا مفطرين، وكره الصوم لأنه يوم الشك المنهي عنه وإن حال دونه غيم أو قتر، فظاهر المذهب يجب صومه حكما ظنيا احتياطا بنية رمضان. قال في الأنصاف: وهو المذهب عند الأصحاب ونصروه وصنفوا فيه التصانيف وردوا حجج المخالف. قالوا نصوص أحمد تدل عليه - انتهى. وفي شرح الإقناع للشافعية ويكره صوم يوم الشك كراهة تنزيه. قال الأسنوي: وهو المعروف المنصوص الذي عليه الأكثرون والمعتمد في المذهب تحريمه كما في الروضة والمنهاج والمجموع إلا أن يوافق عادة له في تطوعه وله صومه عن قضاء أو نذر فلو صامه بلا سبب لم يصح كيوم العيد بجامع التحريم، فإن قيل: هلا استحب صوم يوم الشك إذا أطبق الغيم خروجا من خلاف الإمام أحمد حيث قال بوجوب صومه حينئذ. أجيب بأنا لا نراعي الخلاف إذا خالف سنة صريحة، وهي ههنا خبر، إذا غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ويوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا تحدث الناس برؤيته (أي بلا ثبت) أو شهد

(12/333)


بها عدد ترد شهادتهم كصبيان أو نساء أو عبيد أو فسقة وظن صدقهم. وإنما لم يصح صومه عن رمضان لأنه لم يثبت كونه منهم- انتهى. وقال الدردير من المالكية: وإن غيمت السماء ليلة الثلاثين ولم ير الهلال فصبيحته يوم الشك الذي نهي عن صومه على أنه من رمضان. وأما لو كانت السماء مصحية لم يكن يوم الشك لأنه إن لم ير كان من شعبان جزما وصيم يوم الشك عادة وتطوعا أي ابتداء بلا عادة وقضاء ولنذر صادف لا أحتياطا على أنه إن كان من رمضان احتسب به وإلا كان تطوعا فلا يجوز. قال الدسوقي وإذا صامه وصادف أنه من رمضان فلا يجزئه لتزلزل النية - انتهى. وعند الحنفية على المشهور في مذهبهم يوم الشك هو الثلاثين من شعبان وإن لم يكن في السماء علة من الغيم، ونحوه لعدم اعتبار اختلاف المطالع ظاهر المذهب، وجواز تحقق الرؤية في بلدة أخرى هكذا في الدر المختار وشرحه. وقال في الهداية: لا يصومون
......................................

(12/334)


يوم الشك إلا تطوعا، وهذه المسألة على وجوه. أحدها: أن ينوي صوم رمضان وهو مكروه (أي تحريما وهذا هو محمل النهي عن صوم يوم الشك عندهم) ثم إن ظهر أن اليوم من رمضان يجزئه وإن ظهر أنه من شعبان كان تطوعا، وإن أفطر (أي أفسده) لم يقضه. والثاني: أن ينوي عن واجب آخر (كنذر وكفارة وقضاء) وهو مكروه أيضا إلا أن هذا دون الأول في الكراهة (يعني أنه مكروه تنزيها) ثم إن ظهر أنه من رمضان يجزيه لأصل النية، وإن ظهر أنه من شعبان فقد قيل يكون تطوعا، وقيل: يجزيه عن الذي نواه وهو الأصح. والثالث: أن ينوي التطوع وهو غير مكروه، والمراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - لا تتقدموا رمضان بصوم يوم ولا بصوم يومين نهي التقدم بصوم رمضان، لأنه يؤديه قبل أوانه. ثم إن وافق صوما كان يصومه فالصوم أفضل بالإجماع، وكذا إذا صام ثلاثة أيام من آخر الشهر فصاعدا وإن افرده، فقيل الفطر أفضل احترازا عن ظاهر النهي. وقيل: الصوم أفضل إقتداء بعلي وعائشة فإنهما كان يصومانه. والمختار أن يصوم المفتي بنفسه أخذا بالإحتياط ويفتي العامة بالتلوم إلى وقت الزوال ثم بالإفطار نفيا للتهمة - انتهى مختصرا. وقال السندي: حمل حديث عمار هذا علماءنا الحنفية على أن يصوم بنية رمضان شكا أو جزما. وأما إذا جزم بأنه نفل فلا كراهة، وبعضهم قال بالكراهة مطلقا، والحكم بأنه عصى تغليظ على تقدير القول بالكراهة - انتهى. قلت والراجح عندي: إن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء مغيمة في ليلته ولم ير الهلال أو تحدث الناس برؤيته بلا ثبت أو شهد بها من لم تقبل شهادته، ولا يجوز صومه لا بنية رمضان شكا أو جزما ولا بنية النفل إلا أن يوافق صوما كان يصومه وله صومه عن قضاء أو كفارة أو نذر، وإذا صامه بنية رمضان وصادف أنه من رمضان لم يجزئه وكذا إذا صامه عن واجب آخر أو تطوعا والله تعالى أعلم. قال الشوكاني في النيل: قد استدل بهذه الأحاديث (أي بحديث

(12/335)


عمار، وبأحاديث الأمر بالصوم برؤية الهلال، وبأحاديث النهي عن استقبال رمضان بالصوم، وبأحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين) على المنع من صوم يوم الشك. قال: وذهب جماعة من الصحابة إلى صومه، منهم علي وعائشة وعمر وابن عمر وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر وأبوهريرة ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم. وجماعة من التابعين، فذكر أسماءهم وذكر أدلة المجوزين لصومه وتكلم عليها، وليس فيها ما يفيد مطلوبهم ثم قال: قال ابن عبدالبر: وممن روى عن كراهة صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبوهريرة وأنس بن مالك. ثم قال والحاصل أن الصحابة مختلفون في ذلك. وليس قول بعضهم بحجة على أحد، والحجة ما جاءنا عن الشارع وقد استوفيت الكلام على هذه المسألة في الأبحاث التي كتبتها على رسالة الجلال. وقال
رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي وابن ماجه والدارمي.

(12/336)


في السيل الجرار: الوارد في هذه الشريعة المطهرة الصوم للرؤية أو لكمال العدة ثم زاد الشارع هذا أيضاحا وبيانا، فقال فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما، فهذا بمجرده يدل على المنع من صوم يوم الشك فكيف، وقد انضم إلى ذلك ما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما من نهيه - صلى الله عليه وسلم - لأمته عن أن يتقدموا رمضان بيوم أو يومين فإذا لم يكن هذا نهيا عن صوم يوم الشك فلسنا ممن يفهم كلام العرب ولا ممن يدري بواضحة فضلا عن غامضة: ثم انضم إلى ذلك حديث عمار فذكره وذكر تصحيحه عن الترمذي وابن خزيمة وابن حبان قلت: ولابن الجوزي تصنيف مستقل في هذه المسألة سماه "درء اللوم والضيم في صوم يوم الغيم" حكى فيه عن الصحابة الذين تقدم ذكرهم في كلام الشوكاني القول بصوم يوم الشك. قال الولي العراقي في طرح التثريب (ج4 ص110) قد رد والدي رحمه الله يعني الزين العراقي على ابن الجوزي في حكايته هذا القول عن هؤلاء الصحابة فذكره مفصلا ثم قال: قال والدي فلم يقل به أحد من العشرة الذين ذكرهم ابن الجوزي ألا ابن عمر وأسماء وعائشة. واختلف عن أبي هريرة. قال البيهقي: ومتابعه السنة الثابتة وما عليه أكثر الصحابة وعوام أهل العلم أولى بنا - انتهى. (رواه أبوداود الخ) وأخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة والحاكم والدارقطني والطحاوي والبيهقي من طريق الحاكم وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم أخرجوه من رواية عمرو بن قيس الملائي عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن زفر، قال: كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه فأتى بشأة مصلية، فقال كلوا فتنحى بعض القوم فقال إني صائم، فقال عمار من صام الخ وقد صححه الترمذي وسكت عليه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وصححه ابن حبان وابن خزيمة. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقال الدارقطني: حديث صحيح ورواته كلهم ثقات. وقال العراقي في شرح الترمذي: جمع الصاعاني في تصنيف له

(12/337)


الأحاديث الموضوعة فذكر فيه حديث عمار المذكور، وما أدري ما وجه الحكم عليه بالوضع وليس في إسناده من يتهم بالكذب وكلهم ثقات. وقال: قد كتبت على الكتاب المذكور كراسة في الرد عليه في أحاديث، منها هذا الحديث قال نعم في اتصاله نظر. فقد ذكر المزي في الأطراف أنه روى عن أبي إسحاق السبيعي أنه قال حدثت عن صلة بن زفر، لكن جزم البخاري بصحته إلى صلة، فقال في صحيحه. وقال صلة وهذا يقتضي صحته عنده. وقال البيهقي في المعرفة: إن إسناده صحيح - انتهى. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه البزار وفي سنده عبدالله بن سعيد المقبري وهو ضعيف. وأخرجه أيضا الدارقطني وفي سنده الواقدي والبيهقي (ج4 ص208) وفي سنده أبوعباد وهو عبدالله بن سعيد المقبري المتقدم، وعن ابن عباس أخرجه الخطيب في تاريخه ورواه إسحاق بن راهويه فلم يجاوز به عكرمة.
1998-(10) وعن ابن عباس، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيت الهلال- يعني هلال رمضان - فقال: ((أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا)). رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه والدارمي.

(12/338)


1998- قوله: (جاء أعرابي) أي واحد من الأعراب، وهم سكان البادية. وجاء الأعرابي من الحرة كما في رواية لأبي داود والدارقطني والحاكم (إني رأيت الهلال) وفي رواية ابن خزيمة وابن حبان إني رأيت الهلال الليلة ولابن ماجه وأبي يعلى الموصلي أبصرت الهلال الليلة، وللدارقطني والحاكم جاء ليلة هلال رمضان. وفيه دليل على أن الأخبار كاف ولا يحتاج إلى لفظ الشهادة ولا إلى الدعوى (يعني هلال رمضان) أي قال الحسن بن علي الخلال شيخ أبي داود في حديثه يعني هلال رمضان (فقال أتشهد أن لا إله إلا الله الخ.) قال ابن الملك: دل على أن الإسلام شرط في الشهادة (أذن في الناس) من الإيذان أو التأذين، والمراد مطلق النداء والأعلام أي ناد فيهم وأعلمهم (أن يصوموا غدا) وفي رواية فليصوموا غدا، وفيه دليل على العمل بخبر الواحد وقبوله في الصوم دخولا فيه. قال السندي: قبول خبر الواحد محمول على ما إذا كان بالسماء علة تمنع أبصار الهلال وقوله - صلى الله عليه وسلم - له أتشهد أن لا إلا الله تحقيق لإسلامه. وفيه أنه إذا تحقق إسلامه وفي السماء غيم يقبل خبره في هلال رمضان مطلقا سواء كان عدلا أم لا، حرا أم لا، وقد يقال كان المسلمون يومئذ كلهم عدولا فلا يلزم قبول شهادة غير العدول إلا أن يمنع ذلك قوله تعالى: ?وإن جاءكم فاسق بنبأ?[الحجرات:6] الآية والله تعالى أعلم. وقال المظهر: دل الحديث على أن من لم يعرف منه فسق تقبل شهادته - انتهى. وأنت تعلم إن الصحابة كلهم عدول. وقال ابن الهمام: قد يتمسك بهذا الحديث لقبول شهادة المستور لكن الحق أن لا يتمسك به بالنسبة إلى هذا الزمان لأن ذكره الإسلام بحضرته عليه الصلاة والسلام حين سأله عن الشهادتين إن كان هذا أول إسلامه فلا شك في ثبوت عدالته، لأن الكافر إذا أسلم أسلم عدلا إلى أن يظهر خلافه منه، وإن كان أخبارا عن حاله السابق فكذلك لأن عدالته قد ثبتت بإسلامه فيجب الحكم ببيقاءها ما لم يظهر الخلاف

(12/339)


ولم يكن الفسق غالبا على أهل الإسلام في زمانه عليه الصلاة والسلام فتعارض الغلبة ذلك الأصل، فيجب التوقف إلى ظهورها كذا في المرقاة. وقال الشوكاني: أجيب عن الاستدلال بحديث الأعرابي على عدم اشتراط العدالة بأنه أسلم في ذلك الوقت والإسلام يجب ما قبله فهو عدل بمجرد تكلمه بكلمة الإسلام، وإن لم ينضم إليها عمل في تلك الحال (رواه أبوداود الخ) وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والطبراني وأبويعلى الموصلي والبيهقي
1999-(11) وعن ابن عمر، قال: ((ترأي الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه)).
كلهم من حديث سماك ابن حرب عن عكرمة عن ابن عباس. قال الترمذي: هذا حديث فيه اختلاف وأكثر أصحاب سماك يروونه عن عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا، ورواه النسائي مسندا ومرسلا وذكر أن المرسل أولى بالصواب وإن سماكا إذا تفرد بشيء لم يكن حجة، لأنه كان يلقن فليتلقن- انتهى. وقال في المرقاة: وذكر البيهقي أن الحديث جاء من طرق موصولا، ومن طرق مرسلا، وإن كانت طرق الاتصال صحيحة- انتهى. وقال الحافظ في بلوغ المرام: صححه ابن خزيمة وابن حبان- انتهى. وقال الحاكم: هذا الحديث صحيح قد احتج البخاري بأحاديث عكرمة، واحتج مسلم بأحاديث سماك. وقال ابن حبان: ومن زعم أن هذا الخبر تفرد به سماك وإن رفعه غير محفوظ فهو مردود بحديث ابن عمر يعني الذي يلي هذا.

(12/340)


1999- قوله: (تراأي الناس الهلال) قال المظهر في المفاتيح. الترائي أن يرى بعض القوم بعضا، والمراد به ههنا إنه اجتمع الناس لطلب الهلال ورؤيته لقوله (فأخبرت) أي وحدي (إني رأيته) أي الهلال (فصام) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وأمر الناس بصيامه) أي بصيام رمضان. وفيه دليل كحديث ابن عباس على قبول خبر الواحد في رؤية هلال شهر رمضان. قال الخطابي: وإليه ذهب الشافعي في أحد قوليه (قال النووي وهو الأصح وقال الولي العراقي: هو أشهر قولي الشافعي عند أصحابه وأصححهما لكن آخر قوليه إنه لا بد من عدلين. ففي الأم، قال الربيع قال الشافعي: بعد لا يجوز على رمضان إلا شاهدان) هو قول أحمد بن حنبل، وكان أبوحنيفة وأبويوسف يجيزان على هلال شهر رمضان شهادة الرجل الواحد العدل وإن كان عبدا، وكذلك المرأة الواحد وإن كانت أمة، ولا يجيزان في هلال الفطر إلا رجلين أو رجلا وامرأتين وكان الشافعي لا يجيز في ذلك شهادة النساء، وكان مالك والأوزاعي وإسحاق بن راهويه (والليث والثوري والشافعي في أحد قولية) يقولان لا يقبل على هلال شهر رمضان ولا على هلال الفطر أقل من شاهدين عدلين - انتهى. قلت: مذهب الحنفية في هذه المسألة ما في الدر المختار قيل بلا دعوى وبلا لفظ أشهد وبلا حكم ومجلس قضاء. لأنه خبر لا شهادة للصوم مع علة كغيم وغبار خبر عدل ومستور لا فاسق، ولو كان العدل قنا أو أنثى أو محدودا في قذف تاب وشرط للفطر مع العدالة والعلة نصاب الشهادة. ولفظ أشهد وعدم الحد في قذف لتعلق نفع العبد لكن لا تشترط الدعوى، وقبل بلا علة جمع عظيم يقع العلم بخبرهم (لعبد خفاءه عما سوى الواحد) وهو مفوض إلى رأي الإمام من غير تقدير بعدد- انتهى. واستدل للجمهور على قبول خبر الواحد في هلال رمضان بحديث ابن عباس المتقدم، وحديث ابن عمر ولأنه خبر عن وقت الفريضة فيما طريقة المشاهدة فقبل من واحد كالخبر بدخول وقت الصلاة، ولأنه خبر

(12/341)


................................
ديني يشترك فيه المخبر. والمخبر فقبل من واحد عدل كالرواية: واستدل لمالك ومن وافقه على أنه لا يقبل في هلال رمضان إلا شهادة اثنين بما روى عن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب، أنه خطب في اليوم الذي شك فيه، فقال ألا إني جالست أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسألتهم، وأنهم حدثوني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوما، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا أخرجه أحمد، وأخرجه النسائي ولم يقل فيه مسلمان، وأخرجه أيضا الدارقطني وذكره الحافظ في التلخيص (ص187) ولم يذكر فيه قدحا وقال الشوكاني في النيل والسيل: إسناده لا بأس به. واستدل لهم أيضا بحديث أمير مكة الحارث بن حاطب قال عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننسك للرؤية فإن لم نره، وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما أخرجه أبوداود والدارقطني. وقال هذا إسناد متصل صحيح وأجاب الجمهور عن هذين الحديثين، بأن التصريح بالاثنين غاية ما فيه المنع من قبول الواحد بالمفهوم، وحديث ابن عباس وحديث ابن عمر المذكوران يدلان على قبوله بالمنطوق، ودلالة المنطوق أرجح من دلالة المفهوم، فيجب تقديمهما. كذا قال الشيخ في شرح الترمذي. والشوكاني في السيل الجرار. وابن قدامة في المغنى (ج3 ص158): وأما هلال شوال فلا يقبل فيه إلا شهادة اثنين عدلين في قول الفقهاء جميعهم إلا أباثور فإنه قال يقبل قول واحد وإليه ذهب ابن حزم ورجحه الشوكاني في النيل وغيره واحتج الجمهور بحديث عبدالرحمن بن زيد وحديث الحارث بن حاطب أمير مكة المتقدمين وبحديث ربعى بن حراش عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال اختلف الناس: في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله أنها رأيا الهلال أمس عشية فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس

(12/342)


أن يفطروا. أخرجه أحمد وأبوداود وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه الدارقطني. وقال: إسناده حسن ثابت. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح - انتهى. قالوا: هذه الأحاديث تدل على أن الأصل في أمر الهلال شهادة عدلين، وإن المدار فيه على شاهدي عدل، لكن استثنى منه هلال رمضان لحديثي ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، فإنهما نصان في قبول شهادة العدل الواحد في رؤية هلال رمضان. واحتج لهم أيضا بما روى الدارقطني والطبراني في الأوسط والبيهقي من طريق طاووس. قال: شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس فجاء رجل إلى واليها فشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته، فأمراه أن يجيزه. قالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة واحد على رؤية الهلال رمضان، وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين. قال الدارقطني: تفرد به حفص بن عمر الأيلي وهو ضعيف الحديث - انتهى. وأما ما ذهب إليه الحنفية من الفرق بين الغيم والصحو أي باشتراط الجم الغفير في الصحو ففيه نظر، لأنه لا دليل على هذا، لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله ولا من قول صحابي. قال السندي في حاشية النسائي: قوله فإن شهد شاهدان (في حديث
رواه أبوداود، والدارمي.
?الفصل الثالث?
2000-(12) عن عائشة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ من شعبان مالا يتحفظ من غيره. ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام)). رواه أبوداود.

(12/343)


عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب) أي ولو بلا علة وإلا فمع العلة يكفي الواحد في رمضان كما تقدم (أي من حديث ابن عباس) وقد قال بهذا الإطلاق بعض المتأخرين من أصحابنا كالجمهور وهو الوجه، واشتراط الجم الغفير بلا غيم لا يخلو عن خفاء من حيث الدليل والله تعالى أعلم - انتهى. وبسط في الرد عليهم الخطابي في المعالم (ج2 ص103) وابن قدامة في المغنى (ج3 ص158) فارجع إليهما (رواه أبوداود والدارمي) وأخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي وابن حزم، وسكت عنه أبوداود وصححه ابن حبان وابن حزم. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وسكت عنه الذهبي. وقال النووي: إسناده على شرط مسلم.

(12/344)


2000- قوله: (يتحفظ من شعبان) أي يتكلف في عد أيامه لمحافظة صوم رمضان ويحصيها ولا يهملها (ما لا يتحفظ من غيره) لعدم تعلق أمر شرعي لغيره إلا شهر الحج وهو لا يحتاج إليه كل أحد في كل سنة قاله القاري (ثم يصوم لرؤية رمضان) أي إذا رؤى الهلال ليلة ثلاثين من شعبان (فإن غم عليه الهلال ليلة الثلاثين من شعبان (عد) أي شعبان (ثلاثين يوما ثم صام) أي بعد إكمال شعبان ثلاثين يوما (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا الحاكم والدارقطني والبيهقي كلهم من طريق معاوية بن صالح عن عبدالله بن أبي قيس عن عائشة، وقد سكت عنه أبوداود وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في تلخيص: إسناده صحيح وفي الدراية هو على شرط مسلم. وقال الدارقطني: إسناده حسن صحيح. وقال المنذري: بعد نقل كلام الدارقطني ما لفظه، ورجال إسناده كلهم محتج بهم في الصحيحين على الاتفاق والإنفراد، ومعاوية بن صالح الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس، وإن كان قد تكلم فيه بعضهم فقد احتج به مسلم في صحيحه. وقال البخاري: قال علي بن المديني كان عبدالرحمن بن مهدي يوثقه. وقال أحمد بن حنبل: كان ثقة. وقال أبوزرعة الرازي ثقة- انتهى. وقال ابن الجوزي: هذه عصبية من الدارقطني كان يحيى بن سعيد لا يرضى معاوية بن صالح. وقال أبوحاتم: لا يحتج به. قال في التنقيح: ليست العصبية من الدارقطني، وإنما العصبية منه فإن معاوية بن صالح ثقة صدوق وثقه أحمد وابن مهدي وأبوزرعة، واحتج به مسلم في صحيحه ولم يرو شيئا خالف فيه الثقات وكون يحيى بن سعيد

(12/345)


2001-(13) وعن أبي البختري، قال: ((خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة، ترآينا الهلال. فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين، فلقينا ابن عباس، فقلنا: إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين، فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قلنا: ليلة كذا وكذا. فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدة للرؤية فهو لليلة رأيتموه)).
لا يرضاه غير قادح فيه، فإن يحيى شرطه في الرجال، وكذلك قال لو لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت إلا عن خمسة وقول أبي حاتم لا يحتج به غير قادح أيضا فإنه لم يذكر السبب وقد تكررت هذه اللفظة منه في رجال كثيرين من أصحاب الصحاح الثقات الإثبات من غير بيان السبب كخالد الحذاء وغيره والله تعالى أعلم. ذكره الزيلعي (ج2 ص439).

(12/346)


2001- قوله: (وعن أبي البختري) بفتح الموحدة والتاء المثناة بينهما خاء معجمة ساكنة، واسمه سعيد ابن فيروز، وهو ابن أبي عمران الطائي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فيه تشيع قليل، كثير الإرسال من أوساط التابعين. قال أبونعيم: مات في الجماجم سنة (83) وقال ابن سعد: قتل بدجيل مع ابن الأشعث سنة (83) (ببطن نخلة) بفتح نون وسكون المعجمة غير منصرف. قال ابن حجر: قرية مشهورة شرقية مكة تسمى الآن بالمضيق (ترأينا الهلال) أي اجتمعنا لرؤيته. وقال النووي: أي تكلفنا النظر إلى جهته لنراه (هو ابن ثلاث) أي صاحب ثلاث ليال لعلوم درجته. قال السندي: وهذا بعيد إلا وأن يكون أول الشهر مشتبها فافهم (فلقينا) أي نحن (ابن عباس) بالنصب. قال السندي: يحتمل أن يكون مجازا عن لقاء رسولهم. ويحتمل أنهم لقوه بعد أن أرسلوا إليه الرسول وعلى الوجهين لا منافاة بين هذه الرواية الآتية والله تعالى (أنا) أي معشر القوم (رأينا الهلال) أي مرتفعا جدا (أي ليلة) قال القاري: بالرفع وفي نسخة صحيحة بالنصب وهو أفصح من أية ليلة (رأيتموه) أي الهلال فيها (ليلة كذا) أي رأيناه ليلة كذا وهو الاثنين مثلا (وكذا) يعني عينوا الليلة التي رأوه فيها ولم يظهر لي وجه تكرير كذا (فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مده). قال النووي: هكذا هو في بعض النسخ من صحيح مسلم وفي بعضها فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله مده (للرؤية) قال النووي: جميع النسخ من صحيح مسلم متفقة على مده من غير ألف في هذه الرواية. قال الطيبي:أي جعل مدة رمضان رؤية الهلال (فهو) أي رمضان (لليلة رأيتموه) قال ابن حجر: بإضافة ليلة إلى الجملة. قال القاري: وفي النسخ المصححة بالتنوين، ويدل عليه ما سبق من قوله،

(12/347)


وفي رواية عنه. قال: ((أهللنا رمضان ونحن بذات عرق، فأرسلنا رجلا إلى ابن عباس يسأله، فقال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى قد أمده لرؤيته، فإن أغمى عليكم فأكملوا العدة)). رواه مسلم.
(2) باب
أي ليلة رأيتموه غايته أنه يقدر فيها فيهما. والمعنى رمضان حاصل لأجل رؤية الهلال في تلك الليلة ولا عبرة بكبره. وأما قول ابن حجر فهو حاصل فهو حاصل وقت ليلة الرؤية فغير صحيح لإضافة الوقت إلى الليلة وهي الوقت أيضا - انتهى. فتأمل (وفي رواية عنه) أي عن أبي البختري (أهللنا هلال رمضان) في النهاية أهل المحرم بالحج إذ لبى ورفع صوته ومنه إهلال الهلال واستهلاله إذا رفع الصوت بالتكبير عند رؤيته - انتهى. فمعناه رأيناه هلال رمضان (ونحن بذات عرق) بكسر العين وسكون الراء. قال ابن حجر: فوق بطن نخلة بنحو يوم إذ هي على مرحلتين من مكة وبطن نخلة على مرحلة (يسأله) أي عما وقع بيننا مما تقدم (قد أمده لرؤيته) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ أمده بألف في أوله. قال القاضي: قال بعضهم الوجه أن يكون أمده بتشديد الميم من الأمد أو أمده من الإمداد. قال القاضي والصواب عندي: بقاء الرواية على وجهها ومعناه أطال مدته إلى الرؤية (أي أطال مدة شعبان إلى رؤية هلال رمضان) يقال منه مد وأمد قال الله تعالى: ?وإخوانهم يمدونهم في الغي? [الأعراف:202]قرئ بالوجهين أي يطيلون لهم. قال: وقد يكون أمده من المدة التي جعلت له. قال صاحب الأفعال: أمددتك مدة أي أعطيتكما - انتهى. قال الأبي الهاء في أمده عائد على الشهر بمعنى أن الله قد حكم بمد الشهر الأول إلى رؤية هلال الشهر الثاني (فإن أغمى عليكم) أي أخفى عليكم بنحو غيم (فأكملوا العدة) أي عدة شعبان ثلاثين يوما كما في رواية للدارقطني. فيه أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره وإنما العبرة بالرؤية أو بالكمال العدة ثلاثين. قال ابن حجر: لا ينافي هذه الرواية ما قبلها

(12/348)


لاحتمال أنهم تراءوه بذات عرق وتنازعوا فيه فأرسلوا يسألونه فأجابهم بذلك. فلما وصلوا بطن نخلة رأوه فسألوه شفاها، فأجابهم بما يطابق الجواب الأول. وحاصلهما أنه لا بد في الحكم بدخول رمضان ليلة ثلاثي شعبان من رؤية هلاله ذكره القاري (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الدارقطني وأخرج البيهقي الرواية الثانية.
(باب): أي في مسائل متفرقة من كتاب الصوم.
?الفصل الأول?
2002- (1) عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تسحروا فإن في السحور بركة)).

(12/349)


2002- قوله: (تسحروا) تفعل من السحر بفتحتين وهو قبيل الصبح والمراد الأكل في ذلك الوقت أي تناولوا شيئا ما وقت السحر لما روى عن أنس مرفوعا تسحروا ولو بجرعة من ماء أخرجه أبويعلى بسند ضعيف. قال الحافظ: يحصل السحور بأكل ما يتناوله المرأ من مأكول ومشروب. وقد أخرج أحمد (ج3 ص12، 44) من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: السحور بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكة يصلون على المتسحرين، ولسعيد بن منصور من طريق أخرى مرسلة تسحروا ولو بلقمة- انتهى. وظاهر الأمر وجوب التسحر ولكنه صرفه عنه إلى الندب ما من مواصلته - صلى الله عليه وسلم - ومواصلة أصحابه ونقل ابن المنذر الإجماع على أن التسحر مندوب (فإن في السحور بركة) بالنصب اسم "إن" والسحور بفتح السين اسم ما يتسحر به من الطعام والشراب، وبالضم أكله أي المصدر والفعل نفسه. قال السندي: الوجهان جائزان ههنا, والبركة في الطعام باعتبار ما في أكله من الأجر والثواب والتقوية على الصوم وما يتضمنه من الذكر والدعاء في ذلك الوقت والفتح هو المشهور رواية. وقال الجزري: في النهاية أكثر ما يروي بالفتح. وقيل: الصواب بالضم لأنه المصدر والأجر في الفعل لا في الطعام يعني إن الأكل هو محل البركة لا نفس الطعام والحق جواز الوجهين كما عرفت. قال ابن دقيق العيد: البركة محتملة لأن تضاف إلى كل واحد من الفعل والمتسحر به معا. وقال الحافظ: السحور بفتح السين وبضمها لأن المراد بالبركة الأجر والثواب فيناسب الضم لأنه مصدر بمعنى التسحر أو البركة لكونه يقوي على الصوم وينشط له ويخفف المشقة فيه فيناسب الفتح لأنه ما يتسحر به. وقيل: البركة ما يتضمن من الاستيقاظ والدعاء في السحر والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة وهي إتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب والتقوى به على العبادة، والزيادة في النشاط ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك

(12/350)


أو يجتمع معه على الأكل والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام. قال ابن دقيق العيد (ج2 ص208) هذه البركة يجوز أن تعود إلى الأمور الأخروية فإن إقامة السنة توجب الأجر وزيادته، ويحتمل أن تعود إلى الأمر الدنيوية كقوة البدن على الصوم وتيسيره من غير إضرار بالصائم. قال: ومما يعلل به استحباب السحور المخالفة لأهل الكتاب فإنه يمتنع عندهم السحور وهذا أحد الوجوه المقتضية للزيادة في الأجور الأخروية وقال (ج2 ص209- 210)
متفق عليه.
2003-(2) وعن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)). رواه مسلم.
2004-(3) وعن سهل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الناس بخير
أيضا، وللمتصوفة في هذا يعني مسألة السحور كلام من جهة اعتبار معنى الصوم. وحكمته وهي كسر شهوة البطن والفرج والسحور قد يباين ذلك. قال والصواب: أن يقال ما زاد في المقدار حتى تنعدم هذه الحكمة بالكلية لا يستحب كعادة المترفين في التأنق في المآكل والمشارب وكثرة الاستعداد لها وما لا ينتهي إلى ذلك فهو مستحب على وجه الإطلاق. وقد يختلف مراتب هذا الاستحباب باختلاف مقاصد الناس وأحوالهم واختلاف مقدار ما يستعملون- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي والبيهقي. وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة عند النسائي وأبي سعيد أحمد والطبراني في الأوسط بنحو حديث أنس.

(12/351)


2003- قوله: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب) "ما" زائدة أضيف إليها الفصل بمعنى الفرق قاله القاري وقال السندي: الفصل بمعنى الفاصل و"ما" موصولة وإضافته من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي الفارق الذي بين صيامنا وصيام أهل الكتاب (أكلة السحر) قال النووي: الأكلة بفتح الهمزة هكذا ضبطناه وهكذا ضبطه الجمهور وهو المشهور في روايات بلادنا، وهي عبارة عن المرة الواحدة من الأكل كالغدوة والعشوة، وإن كثر المأكول فيها. وأما الأكلة بالضم فهي اللقمة الواحدة، وادعى القاضي عياض أن الرواية فيه بالضم، ولعله أراد رواية فيها بالضم. قال: والصواب الفتح لأنه المقصود هنا - انتهى كلام النووي. وقال القرطبي في ضبطه: بالضم بعد لأن الأكلة بالضم هي اللقمة وليس المراد إن المتسحر يأكل لقمة واحدة. قال: ويصح أن يقال عبر عما يتسحر به باللقمة لقلته- انتهى. وقال السندي: الأكلة بالضم لا تخلوا عن إشارة إلى أنه يكفي اللقمة في حصول الفرق- انتهى. والسحر بفتحتين آخر الليل. قال التوربشتي: والمعنى إن السحور هو الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب لأن الله تعالى أباحه لنا إلى الصبح بعد ما كان حراما علينا أيضا في بدء الإسلام وحرمه عليهم بعد أن يناموا، أو مطلقا، ومخالفتنا إياهم في ذلك تقع موقع الشكر لتلك النعمة (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص202) والترمذي وأبوداود والنسائي والدارمي والبيهقي.
2004- قوله: (لا يزال الناس بخير) قال الحافظ: في حديث أبي هريرة يعني الآتي في الفصل الثالث لا يزال الدين ظاهرا وظهور الدين مستلزم لدوام الخير. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: هذا إشارة إلى أن هذه المسألة
ما عجلوا الفطر)). متفق عليه.
2005-(4) وعن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس

(12/352)


دخل فيها التحريف من أهل الكتاب فبمخالفتهم ورد تحريفهم قيام الملة (ما عجلوا الفطر) أي ما داموا على هذه السنة. قال السندي: أي مدة تعجيلهم "فما" ظرفية والمراد ما لم يؤخروا عن أول وقته بعد تحقق الوقت - انتهى. قال النووي: معناه لا يزال أمر الأمة منتظما وهم بخير ماداموا محافظين على هذه السنة وإذا أخروه كان ذلك علامة على فساد يقعون فيه - انتهى. وقال الحافظ: زاد أبوذر في حديثه وأخروا السحور أخرجه أحمد "وما" ظرفية أي مدة فعلهم ذلك إمتثالا للسنة واقفين عند حدها غير متنطعين بعقولهم ما يغير قواعدها، زاد أبوهريرة في حديثه لأن اليهود والنصارى يؤخرون أخرجه أبوداود وغيره. وتأخير أهل الكتاب له أمد وهو ظهر النجم. وقد روى ابن حبان والحاكم من حديث سهل أيضا بلفظ: لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم، وفيه بيان العلة في ذلك. قال المهلب: والحكمة في ذلك أن لا يزاد في النهار من الليل ولأنه أرفق بالصائم وأقوى له على العبادة. واتفق العلماء على أن محل ذلك إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية أو بإخبار عدلين وكذا عدل واحد في الأرجح - انتهى كلام الحافظ. قال التوربشتي: ولو أن بعض الناس أخر الفطر وقصده في ذلك تأديب النفس ودفع جماحها أو مواصلة العشاءين بالنوافل غير معتقد وجوب التأخير لم يضره ذلك. قال القاري: بل يضره حيث يفوته السنة وتعجيل الإفطار بشربة ماء لا ينافي في التأديب. والمواصلة مع أن في التعجيل إظهار العجز المناسب للعبودية ومبادرة إلى قبول الرخصة من الحضرة الربوبية- انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج5:ص231-234- 246-237-239) والترمذي ومالك وابن ماجه والدارمي والبيهقي، وأخرج ابن حبان وابن خزيمة والحاكم بنحوه.

(12/353)


2005- قوله: (إذا أقبل الليل) أي ظلامه (من ههنا) أي من جهة المشرق ففي حديث عبدالله بن أبي أوفى عند البخاري إذا رأيتم الليل أقبل من ههنا وأشارة بأصبعه قبل المشرق (وأدبر النهار) أي ضياءه فكل على حذف مضاف (من ههنا) أي من جهة المغرب (وغربت) بفتح الراء أي غابت (الشمس) أي كلها. قال الطيبي: وإنما قال غربت الشمس مع الاستغناء عنه لبيان كمال الغروب، كيلا يظن أنه يجوز الإفطار لغروب بعضها- انتهى. وقال الحافظ: ذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور، لأنها وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة، فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقة، بل لوجود أمر يغطي ضوء
فقد أفطر الصائم)). متفق عليه.
2006 - (5) وعن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عن الوصال في الصوم. ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.كتاب المزهر في معرفة اللغة للسيوطي الجزء الثالث والاخير{من النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي الي الخاتمة}

  النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي  أول ما يلزمه الإخلاص وتصحيح النية لقوله ﷺ: « الأعمال بالنيات » ثم التحري في الأخذ عن الثقات لق...