19.مرعاة المفاتيح
قليلا من الهم فيما لابد منه
في أمر المعاش مرخص فيه بل مستحب بل واجب ( ولا مبلغ علمنا ) ، أي غاية علمنا ، أي
لا تجعلنا بحيث لا نعلم ولا نتفكر إلا في أمور الدنيا بل اجعلنا متفكرين في أحوال
الآخرة متفحصين عن العلوم التي تتعلق بالله تعالى وبالدار الآخرة والمبلغ بفتح
الميم واللام بينهما موحدة ساكنة . الغاية التي يبلغه الماشي والمحاسب فيقف عنده (
ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ) أي : لا تجعلنا مغلوبين للكفار والظلمة أو لا تجعل
الظالمين علينا حاكمين فإن الظالم لا يرحم الرعية . وقيل : المراد ملائكة العذاب
في القبر وفي النار ولا مانع من إرادة معنى الجمع هذا وقد أطال الشوكاني في شرح
هذا الدعاء وأطاب في بيان فوائده في تحفة الذاكرين (ص300 ، 301) فارجع إليه ( رواه
الترمذي ) في الدعوات ، وأخرجه أيضا النسائي ، وابن السني (ص143) ، والحاكم (ج1 :
ص528) ، والبغوي (ج5 : ص171) ( وقال : هذا حديث حسن غريب ) . وقال الحاكم : صحيح
على شرط البخاري
2517- (12) وعن أبي هريرة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني ، وزدني علما . الحمد لله على كل حال ،
وأعوذ بالله من حال أهل النار . رواه الترمذي ، وابن ماجة ، وقال الترمذي : هذا
حديث غريب إسنادا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأقره الذهبي ، وفي إسناده عبيد الله بن زحر وقد ضعفوه بما يقتضي أن لا يكون حديثه
صحيحا ، بل غاية رتبة هذا الحديث أن يكون حسنا كما قال الترمذي . فقد قال أبو زرعة
: أنه صدوق . وقال النسائي : لا بأس به . قال في المنار : فالحديث لأجله حسن لا
صحيح .
(17/17)
2517- قوله : ( اللهم انفعني بما علمتني ) أي : في الأزمنة السابقة يعني بالعمل بمقتضاه خالصا لوجهك ( وعلمني ) أي : فيما بعد ( ما ينفعني ) أي : علما ينفعني ، فيه أنه لا يطلب من العلم إلا النافع والنافع ما يتعلق بأمر الدين والدنيا فيما يعود فيها على نفع الدين وإلا فما عدا هذا العلم فإنه ممن قال الله فيه : ? ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ? ( 2 : 102) أي : بأمر الدين فإنه نفى العلم عن علم السحر لعدم نفعه في الآخرة بل لأنه ضار فيها وقد ينفعهم في الدنيا لكنه لم يعد نفعا ( وزدني علما ) مضافا إلى ما علمتنيه . وقال السندي : أي : نافعا بقرينة السياق أو هو مبني على تنزيل غير النافع بمنزلة الجهل . قال الطيبي : طلب أولا النفع بما رزق من العلم وهو العمل بمقتضاه ثم توخى علما زائدا عليه ليترقى منه إلى عمل زائد على ذلك ، وفيه إشارة إلى أن من عمل بما علم ورثه الله علما لا يعلم ، ثم قال : (( رب زدني علما )) يشير إلى طلب الزيادة في السير والسلوك إلى أن يوصله إلى مخدع الوصال فظهر من هذا أن العلم وسيلة إلى العمل وهما متلازمان . ومن ثم قيل : ما أمر الله ورسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم بقوله تعالى : ? وقل رب زدني علما ? (20 : 114) وهذا من جامع الدعاء الذي لا مطمع وراءه ( الحمد لله على كل حال ) من أحوال السراء والضراء فيحمده تعالى لكونه لم ينزل به أشد من هذا البلاء الذي نزل به وكم يترتب على الضراء من عواقب حميدة ومواهب كريمة يستحق الحمد عليها : ? وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ? (2 : 216) قال في الحكم : من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذاك لقصور نظره . وقال الغزالي : لا شدة إلا وفي جنبها نعم لله فليلزم الحمد والشكر على تلك النعم المقترنة بها . وقوله : (( الحمد لله )) إلخ كذا وقع في الترمذي بغير عطف ووقع عند ابن ماجة ، والحمد لله أي
(17/18)
بزيادة الواو . قال السندي :
قوله : (( والحمد لله على كل حال )) أي : زيادة العلم وقيل : أن يزداد وظاهر العطف
يقتضي أن الجملة إنشائية فلذلك عطفت على إنشائية ( وأعوذ بالله من حال أهل النار )
من الكفر والفسوق في الدنيا والعذاب والعقاب في العقبى . ( رواه الترمذي ) في
الدعوات ، ( وابن ماجة ) في السنة ، والدعاء ، وأخرجه أيضا البغوي (ج5 : ص123) ،
وابن أبي شيبة كما في الحصن ، والبزار كما في تفسير الحافظ ابن كثير ( وقال
الترمذي : هذا حديث غريب إسنادا ) في سنده عندهم موسى بن عبيدة الربذي عن محمد بن
ثابت عن أبي هريرة وموسى ضعفه النسائي وغيره ومحمد بن ثابت لم يروه عنه غير موسى .
قال الذهبي (( مجهل )) ذكره المناوي ، وقال الحافظ في التقريب : محمد بن ثابت عن
أبي هريرة مجهول
2518- (13) وعن عمر بن الخطاب قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أنزل
عليه الوحي سمع عند وجهه دوي كدوي النحل ، فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة ، فسري عنه
، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ،
وأعطنا ولا تحرمنا ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل : هو محمد بن ثابت بن شرحبيل ، وقال فيه : إنه مقبول . وفي الباب عن أنس
أخرجه النسائي ، والحاكم (ج1 : ص510) .
(17/19)
2518- قوله : ( سمع ) على بناء الماضي المجهول ، وهذا لفظ الترمذي ، وفي المسند (( يسمع )) أي : بلفظ المضارع المجهول وكذا نقله الشوكاني في فتح القدير ، وفي المستدرك وشرح السنة (( نسمع )) بصيغة المضارع المتكلم المعلوم ، ونقله الذهبي في تلخيصه بلفظ : (( يسمع )) أي : كرواية المسند ( عند وجهه ) أي : عند قرب وجهه بحذف المضاف ( دوي كدوي النحل ) كذا وقع في أكثر نسخ المشكاة وهكذا في المسند ووقع في بعض نسخ المشكاة (( سمع عند وجهه كدوي النحل )) أي : بإسقاط (( دوي )) وهكذا عند الترمذي ، والبغوي وكذا نقله المناوي في فيض القدير والشوكاني في تحفة الذاكرين وفتح القدير . والدوي بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء وهو صوت لا يفهم منه شيء ، وهذا هو صوت جبريل عليه السلام يبلغ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي ولا يفهم الحاضرون من صوته شيئا . وقال الطيبي : أي : سمع من جانب وجهه وجهته صوت خفي كأن الوحي يؤثر فيهم وينكشف لهم انكشافا غير تام فصاروا كمن يسمع دوي صوت ولا يفهمه لما سمعوه من غطيطه وشدة تنفسه عند نزول الوحي - انتهى . وقال في اللمعات : وهذا الدوي إما صوت الوحي يسمعها الصحابة ولا ينكشف لهم انكشافا تاما ، أو ما كانوا يسمعونه من النبي - صلى الله عليه وسلم - من شدة تنفسه من ثقل الوحي ، والأول أظهر لأنه قد وصف الوحي بأنه كان تارة مثل صلصة الجرس - انتهى . ( فأنزل عليه يوما ) أي : نهارا أو وقتا ( فمكثنا ) بفتح الكاف وضمها أي : لبثنا ( ساعة ) أي : زمنا يسيرا ننتظر الكشف عنه ( فسرى عنه ) بصيغة المجهول من التسرية وهو الكشف والإزالة أي : كشف عنه وأزيل ما اعتراه من برحاء الوحي وشدته ( اللهم زدنا ) أمر من الزيادة أي : من الخير والترقي أو كثرنا ( ولا تنقصنا ) بفتح حرف المضارعة وضم القاف من نقص المتعتدى أي : لا تنقص خيرنا ومرتبتنا وعددنا وعددنا . قال القاضي والطيبي : عطفت هذه
(17/20)
النواهي على الأوامر للمبالغة
والتأكيد وحذف ثواني المفعولات في بعض الألفاظ للتعميم والمبالغة كقولك فلان يعطي
ويمنع ( وأكرمنا ) بقضاء مآربنا في الدنيا ورفع منازلنا في العقبى ( ولا تهنا )
بضم تاء وكسرها وتشديد نون على أنه نهى من الإهانة وأصله ولا تهوننا ، نقلت كسرة
الواو إلى الهاء فالتقت ساكنة مع النون الأولى الساكنة فحذفت وأدغمت النون الأولى
في الثانية أي : لا تذلنا ( وأعطنا ) من الإعطاء ( ولا تحرمنا ) بفتح التاء وكسر
الراء . وفي القاموس : حرمه
وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا ، ثم قال : أنزل علي عشر آيات من أقامهن
دخل الجنة ، ثم قرأ : ? قد أفلح المؤمنون ? حتى ختم عشر آيات . رواه أحمد ،
والترمذي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/21)
الشيء كضربه وعلمه حرمانا بالكسر منعه حقه وأحرمه لغية ، أي لا تمنعنا ولا تجعلنا محرومين ( وآثرنا بالمد وكسر المثلثة أمر من الإيثار ، أي اخترنا برحمتك وإكرامك وعنايتك ( ولا تؤثر علينا ) ، أي غيرنا بلطفك وحمايتك ، وقيل لا تغلب علينا أعداءنا ( وأرضنا ) أمر من الإرضاء ، أي أرضنا عنك بمعنى اجعلنا راضين بما قضيت لنا أو علينا بإعطاء الصبر وتوفيق الشكر وتحمل الطاعة والتقنع بما قسمت لنا ( وارض عنا ) بهمزة وصل وفتح ضاد أمر من الرضاء ، أي كن راضيا عنا بالطاعة اليسيرة الحقيرة التي في جهدنا ولا تؤاخذنا بسوء أعمالنا ( ثم قال : انزل علي ) ، أي آنفا ( من أقامهن ) ، أي حافظ وداوم عليهن وعمل بهن ( دخل الجنة ) ، أي دخولا أوليا ، هذا وارجع للبسط في شرح الحديث إلى فيض القدير (ج2 ص107 ، 108) ، وتحفة الذاكراين (ص 298) ( رواه أحمد ) (ج1 ص34) عن عبد الرزاق عن يونس بن سليم قال : أملى علي يونس بن يزيد الأبلي عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر بن الخطاب . ومن هذا الطريق أخرجه البغوي (ج5 ، 177) ، ( والترمذي ) في الدعوات من طريق عبد الرزاق عن يونس بن سليم عن الزهري . ثم رواه الترمذي من طريق عبد الرزاق أيضا عن يونس بن سليم عن يونس بن يزيد عن الزهري . ثم قال : هذا أصح من الحديث الأول سمعت إسحاق بن منصور يقول : روى أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن يونس بن سليم عن يونس بن يزيد عن الزهري هذا الحديث . قال أبو عيسى : ومن سمع من عبد الرزاق قديما فإنهم إنما يذكرون فيه عن يونس بن يزيد ، وبعضهم لا يذكر فيه عن يونس بن يزيد . ومن ذكر فيه عن يونس بن يزيد فهو أصح ، وكان عبد الرزاق ربما ذكر في هذا الحديث يونس بن يزيد وربما لم يذكره ، وإذا لم يذكر فيه يونس فهو مرسل - انتهى . وذكر نحو هذا الكلام البغوي في شرح السنة . والحديث نسبه السيوطي في الدر
(17/22)
المنثور (ج5 ص2) والشوكاني في
فتح القدير (ج3 ص460) لعبد الرزاق وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن المنذر ،
والعقيلي ، والحاكم ، والبيهقي في الدلائل ، والضياء في المختارة وفي سنده عندهم
جميعا يونس بن سليم الصنعاني . قال الحافظ في التقريب : مجهول . وقال الذهبي : في
الميزان في ترجمته : حدث عنه عبد الرزاق وتكلم فيه ولم يعتمد في الرواية ومشاه
غيره . وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلا به - انتهى . وقال في
تهذيب التهذيب : قال النسائي : هذا حديث منكر لا نعلم أحدا رواه غير يونس ، ويونس
لا نعرفه ، وذكره ابن حبان في الثقات - انتهى . ورواه الحاكم (ج1 ص535) بإسنادين
أحدهما من طريق المسند وصححه ووافقه الذهبي فهذا موافقة من الحاكم والذهبي على
توثيق يونس بن سليم ، وهو يدل على أن توثيق ابن حبان ليونس بن سليم صحيح ولذا حسن
هذا الحديث البغوي في شرح السنة وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند .
( الفصل الثالث )
2519- (14) عن عثمان بن حنيف قال : إن رجلا ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه
وسلم - فقال : ادع الله أن يعافيني . فقال : إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت فهو خير
لك . قال : فادعه . قال : فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء : اللهم
إني أسألك ، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، إني توجهت بك إلى ربي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/23)
2519- قوله : ( عن عثمان بن حنيف ) بالحاء المهملة والنون مصغرا ابن واهب الأنصاري الأوسي المدني صحابي شهير شهد أحدا والمشاهد بعدها ، واستعمله عمر على مساحة سواد العراق ، واستعمله علي على البصرة فبقي عليها إلى أن قدمها طلحة والزبير مع عائشة رضي الله عنهم في نوبة وقعة الجمل فأخرجوه منها ، ثم قدم علي إليها فكانت وقعة الجمل فلما ظفر بهم علي استعمل على البصرة عبد الله بن عباس وسكن عثمان بن حنيف الكوفة . روى عنه ابن أخيه أبو أمامة بن سهل بن حنيف وعمارة بن خزيمة بن ثابت وهانئ بن معاوية الصدفي وغيرهم ، مات في خلافة معاوية ( إن رجلا ضرير البصر ) ، أي ضعيف النظر أو أعمى ، قاله القاري . قلت : في رواية النسائي (( أن أعمى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - )) وفي رواية لأحمد (( إن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذهب بصره )) وللطبراني ، وابن السني (( أتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ( ادع الله أن يعافيني ) ، أي من ضرري في نظري ( فقال ) ، في الترمذي (( قال )) ، أي بدون الفاء ( إن شئت ) ، أي اخترت الدعاء ( دعوت ) ، أي لك ( وإن شئت ) ، أي أردت الصبر والرضا ( فهو ) ، أي الصبر ( خير لك ) ، فإن الله تعالى قال : إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة ( قال ) ، أي الرجل ( فادعه ) بالضمير ، أي ادع الله واسأل العافية ، ويحتمل أن تكون الهاء للسكت ، قال الطيبي : أسند النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء إلى نفسه وكذا طلب الرجل أن يدعو هو?- صلى الله عليه وسلم -?ثم أمره?- صلى الله عليه وسلم -?أن يدعو هو ، أي الرجل كأنه?- صلى الله عليه وسلم -?لم يرتض منه اختياره الدعاء بعد قوله (( الصبر خير لك )) ، ولذلك أمره أن يدعو هو لنفسه ، لكن في جعله شفيعا له ووسيلة في استجابة الدعاء ما يفهم أنه - صلى الله عليه وسلم - شريك فيه ( قال ) ، أي عثمان ( فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ) أي يأتي
(17/24)
بكمالاته من سننه وآدابه ،
وزاد في رواية أحمد وابن ماجة والحاكم (( ويصلي ركعتين )) وفي رواية للنسائي ((
قال ( أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ) فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين )) ( اللهم
إني أسالك ) أي أطلب منك حاجتي وقال القاري : أي أطلبك مقصودي ، فالمفعول مقدر (
وأتوجه إليك بنبيك ) الباء للتعدية ، أو المعنى أتوجه إليك بدعاء نبيك وشفاعته (
محمد نبي الرحمة ) أي المبعوث رحمة للعالمين ( إني توجهت بك ) ، أي استشفعت بك ،
والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - على طريق الالتفات ، ففي رواية أحمد وابن
ماجة (( يا محمد إني قد توجهت بك )) ، وفي رواية لأحمد أيضا والنسائي والحاكم ((
يا محمد إني أتوجه بك )) وفيه إن إحضاره في القلب وتصوره في أثناء الدعاء ،
والخطاب معه فيه جائز كإحضاره في أثناء التشهد في
ليقضي لي في حاجتي هذه اللهم فشفعه في .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/25)
الصلاة ، والخطاب فيه وسيأتي
الكلام فيه وفيه قصر السؤال الذي هو أصل الدعاء على الملك المتعال ولكنه توسل به
عليه الصلاة والسلام ، أي بدعائه كما قال عمر : كنا نتوسل إليك بنبيك عليه الصلاة
والسلام ، فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد ، ولذا قال في آخره ((
اللهم فشفعه في )) إذ شفاعته لا تكون إلا بدعاء ربه وقطعا ، ولو كان المراد بذاته
الشريفة لم يكن لذلك التعقيب معنى ، إذ التوسل بقوله (( بنبيك )) كاف في إفادة هذا
المعنى وأيضا قول الأعمى للنبي- صلى الله عليه وسلم - (( أدع الله تعالى أن
يعافيني )) وجوابه عليه الصلاة والسلام له (( إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك
)) وقول الأعمى (( فادعه )) دليل واضح وبرهان راجح على أن التوسل كان بدعائه لا
بنفس ذاته المطهرة عليه الصلاة والسلام ، وقوله (( إني توجهت بك إلى ربي )) قال
الطيبي : الباء في (( بك )) للاستعانة ، أي استعنت بدعائك إلى ربي ، وسيأتي مزيد
توضيح ذلك إنشاء الله تعالى فانتظر ( ليقضي ) بالغيبة أي ربي ، وقيل بالخطاب أي
لتوقع القضاء ( لي في حاجتي هذه ) وجعلها مكانا له على طريقة قوله ? وأصلح لي في
ذريتي ? (- 46 : 15) قال الطيبي : إن قلت : ما معنى (( لي )) و (( في )) ؟ قلت :
معنى (( لي )) كما في قوله تعالى ? رب اشرح لي صدري ? (- 20 : 25) أجمل أولا ثم
فصل ليكون أوقع في النفس ، ومعنى (( في )) كما في قول الشاعر :
يجرح في عراقيبها نصلي
(17/26)
أي أوقع القضاء في حاجتي
واجعلها مكانا له ، ونظيره قوله تعالى ? وأصلح لي في ذريتي ? (- 46 : 15) انتهى .
قلت : ولفظ الترمذي (( إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي )) وهو بصيغة
المجهول أي لتقضى لي حاجتي بشفاعتك يعنى ليقضيها ربي لي بشفاعتك ( اللهم ) التفات
ثان ( فشفعه ) بتشديد الفاء ، أي اقبل شفاعته ( في ) أي في حقي . قال المناوي :
والعطف بالفاء على معطوف عليه مقدر ، أي اجعله شفيعا لي فشفعه فيكون قوله : اللهم
معترضة ، سأل الله أولا بطريق الخطاب أن يأذن لنبيه أن يشفع له ، ثم أقبل على
النبي - صلى الله عليه وسلم - ملتمسا شفاعته له ثم كر مقبلا على ربه طالبا منه أن
يقبل شفاعته في حقه . والحديث قد استدل به على جواز التوسل والسؤال بذوات الأنبياء
والصالحين والميتين لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر الضرير أن يقول في دعائه ((
وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة ، إني توجهت بك إلى ربي )) وإذا جاز السؤال به جاز
السؤال بذاته وحقه وجاهه وحرمته وكرامته ، وإذا جاز التوسل والسؤال بهذا كله من
النبي - صلى الله عليه وسلم -جاز التوسل والسؤال بغيره من الأنبياء والصالحين ،
ولا فرق . واستدل به أيضا على دعاء غير الله من الأموات والغائبين حيث أنه - صلى
الله عليه وسلم - أمر الضرير بعد الوضوء والصلاة أن يدعو ويقول في دعائه : يا محمد
إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى . ففي قوله (( يا محمد )) جواز دعوة
الغائبين لأن الرسول أمره أن يدعو بهذا الدعاء وهو عنه غائب ، وإذا جاز دعاء الغائبين
جاز دعاء الميتين . قال الشيخ محمد عابد السندي في رسالته التي أفردها لمسألة
التوسل : والحديث يدل على جواز التوسل والاستشفاع بذاته
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/27)
المكرم في حياته ، وأما بعد مماته فقد روى البيهقي والطبراني في الصغير (ص 103) عن عثمان بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف : ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد?- صلى الله عليه وسلم -?نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي ، وتذكر حاجتك ورح إلى حتى أروح معك . فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال : ما حاجتك ؟ فذكر حاجته فقضاها له ، ثم قال : ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فأتنا ، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له : جزاك الله خيرا ، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في . فقال عثمان بن حنيف : والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فذكر الحديث . وزادا فيه هما وابن السني والحاكم (( فقال عثمان بن حنيف : فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل عليه الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط )) . قال الطبراني بعد ذكر طرقه التي روى بها : والحديث صحيح . وقال الشوكاني في (( تحفة الذاكرين )) (ص 138) : وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى وأنه المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . وقال فيه أيضا (ص 37) في شرح قول العدة (( ويتوسل إلى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين )) ما نصه : من التوسل بالأنبياء ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث عثمان بن حنيف أن أعمى أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث . ثم قال : وأما
(17/28)
التوسل بالصالحين فمنه ما ثبت
في الصحيح أن الصحابة استسقوا بالعباس رضي الله عنه عم رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ، وقال عمر رضي الله عنه : اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا ، ألخ - انتهى .
وقال العز بن عبد السلام حينما سئل عن التوسل بالذوات الفاضلة ما لفظه : إن صح
حديث الأعمى فهو مقصور على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون من خصوصياته .
وتعقبه المجوزون بقياس غيره عليه - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أدلتهم أنه قد أوجب
الله تعالى تعظيم أمره وتوقيره والزم إكرامه وقد كانت الصحابة تتبرك بآثاره وشعره
ولا شك أن حرمته - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته وتوقيره لازم كما كان حال حياته
كذا في (( جلاء العينين )) (ص 438) للسيد نعمان خير الدين الشهير بابن الآلوسي
البغدادي وقال الشوكاني في رسالته (( الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد )) لا
يخفاك أنه قد ثبت التوسل به - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، وثبت التوسل بغيره
بعد موته بإجماع الصحابة إجماعا سكوتيا لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضي الله عنه
في توسله بالعباس رضي الله عنه ، وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي -
صلى الله عليه وسلم - كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين : الأول ما
عرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، والثاني أن التوسل إلى الله بأهل
الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة ، إذا لا يكون
الفاضل فاضلا إلا بأعماله ، فإذا قال القائل : اللهم إني أتوسل إليك بالعالم
الفلاني فهو
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/29)
باعتبار ما قام به من العلم . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله تعالى بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة ، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركا لم تحصل الإجابة لهم ولا سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم - انتهى . قلت : الحق والصواب عندنا أن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته بمعنى التوسل بدعائه وشفاعته جائز وهذا هو الذي وقع في حديث الأعمى الذي نحن في شرحه كما تقدم وسيأتي أيضا ، وكذا التوسل بغيره - صلى الله عليه وسلم - من أهل الخير والصلاح في حياتهم بمعنى التوسل بدعائهم وشفاعتهم جائز أيضا ، وأما التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته وكذا التوسل بغيره من أهل الخير والصلاح بعد مماتهم فلا يجوز سواء كان بذواتهم أو جاههم أو حرمتهم أو كرامتهم أو حقهم أو نحو ذلك من الأمور المحدثة في الإسلام ، وكذا لا يجوز دعاء غير الله من الأموات والغائبين ، وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية في رسالته في التوسل والوسيلة ، وقد أشبع الكلام في تحقيقه وأجاد فعليك أن تراجعها . وحديث الأعمى هو العمدة في الاستدلال عند المجوزين لأن غيره من الأحاديث إما أن يكون ضعيفا لا يصلح للاستدلال كما بين ذلك حديثا حديثا العلامة السهسواني في (( صيانة الإنسان )) والعلامة السويدي الشافعي في (( العقد الثمين )) وذكره ملخصا العلامة ابن الآلوسي في (( جلاء العينين )) أو أنه دليل على المجوزين لا لهم كحديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما ، وقد ذكرنا في (ص339) من الجزء الثاني وجه فساد الاستدلال بذلك على جواز التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي أيضا ، وكقصة أصحاب الغار التي ذكرها الشوكاني في أثناء الاستدلال لذلك فإن فيها توسل الإنسان بعمل
(17/30)
نفسه لا بعمل غيره أو بذات
غيره ، لأن أصحاب الغار إنما توسلوا بأعمالهم لا بأعمال غيرهم فلا يتم التقريب بل
توسل الإنسان بعبادة غيره ومزاياه غير مشروع ولا مأثور ولا معقول ، وتوسل الإنسان
بعمل نفسه مما لا ينكره أحد من الأئمة وفيه أيضا ما قال العلامة السهسواني في ((
صيانة الإنسان )) : إنا لا نسلم أن الفاضل إذا كان فضله بالأعمال كان التوسل به
توسلا بأعماله الصالحة لم لا يجوز أن يكون التوسل به توسلا بذاته ، بل هو الظاهر
فإن حقيقة التوسل بالشيء التوسل بذاته والتوسل بالأعمال أمر خارج زائد على الحقيقة
ولا يصرف عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمانع . قال صاحب المنار : إن المعلوم من حال
هؤلاء المتوسلين بالأشخاص أنهم يتوسلون بذواتهم الممتازة بصفاتهم وأعمالهم
المعروفة عنهم لاعتقاد أن لهم تأثيرا في حصول المطلوب بالتوسل إما بفعل الله تعالى
لأجلهم وإما بفعلهم أنفسهم مما يعدونه كرامة لهم . وقد سمعنا الأمرين منهم وممن
يدافع عنهم وكل من الأمرين باطل . وفيه أيضا أنه لو سلم أن مراد القائل : اللهم
إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني هو التوسل بأعماله لا التوسل بذاته فاللفظ محتمل للتوسل
بالذات أيضا وهذا مما لا شك فيه وقد نهانا الله تعالى عن استعمال لفظ موهم لأمر
غير جائز فقال في سورة البقرة ? يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا
انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ? (- 2 : 104) قال الإمام العلامة القنوجي
البوفالي في تفسيره (( فتح البيان )) : وفي ذلك
رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/31)
دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسب والنقص وإن لم يقصد المتكلم بها هذا المعنى المفيد للشتم سدا للذريعة وقطعا لمادة المفسدة والتطرق إليه - انتهى . وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي القصيمي : في تفسيره (ج1 ص58) فيه الأدب واستعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا الحسن وعدم الفحش وترك الألفاظ القبيحة أو التي فيها نوع تشويش واحتمال لأمر غير لائق - انتهى . قلت : وكذلك ما قال بعض الحنفية من أن المراد به التوسل بصفة من صفات الله تعالى مثل أن يراد به التوسل بمحبة الله تعالى لعباده الكاملين التامة المستدعية عدم رده وأن يراد به التوسل برحمته الخاصة الشاملة لهم لأجل أعمالهم الفاضلة ولا شك في جواز التوسل بصفة الله تعالى هذا أيضا مخدوش ومحل نظر فإن إرجاع ذلك إلى التوسل بصفة من صفاته تعالى ، فيه تكلف وتعسف جدا ولذلك لا يستشعر بذلك عامة المتوسلين بالأشخاص كما لا يخفى ، ولو سلم فاللفظ محتمل للتوسل بالذات أيضا ، واستعمال الألفاظ المحتملة للأمر الغير المشروع منهي عنه بدليل الآية المتقدمة . وأما حديث الأعمى فالجواب عنه من ناحيتين : ناحية الإسناد وناحية المعنى . فإذا صح الإسناد أو حسن وكان المعنى في متنه ولفظه ما ذكره المجوزون قامت حجتهم ونهضت دعواهم وإلا فلا ، ونحن سنورد ما نستطيع الكلام في الناحيتين إن شاء الله تعالى ( رواه الترمذي ) في (( أحاديث شيء )) من أبواب الدعوات ، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص138) وزاد (( ففعل الرجل فبرأ )) ، والنسائي في الكبرى وزاد (( فرجع وقد كشف الله عن بصره )) ، وابن ماجة في (( صلاة الحاجة )) ، وابن السني (ص202) ، وابن خزيمة في صحيحه ، والحاكم (ج1 ص313 ، 519 ، 526) ، والبيهقي في دلائل النبوة ، وابن أبي خيثمة في تاريخه والطبراني في الصغير (ص103) ( وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب ) في الترمذي بعد هذا (( لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير
(17/32)
الخطمي )) انتهى . قلت : وقال
الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي وصححه أيضا الطبراني كما
تقدم ، وأبو عبد الله المقدسي كما في التوسل والوسيلة (ص81) وفي تصحيحهم للحديث
عندي نظر والراجح أنه حديث ضعيف لا يبلغ درجة الحسن فضلا أن يكون صحيحا ، فإن
إسناد هذا الحديث في جميع طرقه عند جميع رواته قد انفرد به راو واحد ، هذا الراوي
هو أبو جعفر الذي رواه عنه شعبة عند أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ،
والحاكم (ج1 ص 313 ، 519) ، والبيهقي ، وابن أبي خيثمة ، والذي رواه عند هؤلاء
السبعة عن عمارة بن خزيمة بن ثابت ، وقد قال الترمذي كما تقدم بعد رواية الحديث :
غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر ، أما الذين رووه عن أبي جعفر هذا فشعبة عند
هؤلاء السبعة ، وروح بن القاسم عند ابن السني (ص202) ، والحاكم (ج1 ص526) ،
والبيهقي أيضا ، والطبراني في الصغير (ص 103) ، وحماد بن سلمة عند ابن أبي خيثمة ،
وهشام الدستوائي عند ابن السني على ما ذكر الإمام ابن تيمية في رسالته (ص 78)
والحديث إلى أبي جعفر هذا صحيح السند لا بأس به وهذا
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/33)
ظاهر لمن تفحص عن رجاله بين أبي جعفر وبين من أخرج هذا الحديث فلا كلام للناقد في إسناده حتى يصل أبا جعفر الذي قيل أنه الخطمي ، وقيل : أنه غير الخطمي ، وروى أبو جعفر هذا عند السبعة عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف الصحابي شاهدا لقصة . وعمارة هذا ثقة لا كلام فيه وعثمان بن حنيف صحابي جليل لا كلام فيه أيضا ، وقد تابع عمارة بن خزيمة في روايته عن ابن حنيف أبو أمامة واسمه أسعد بن سهل بن حنيف ابن أخي عثمان بن حنيف رواه عن عمه عثمان عند البيهقي وابن السني والحاكم والطبراني فيكون أبو جعفر هذا رواه عن عمارة بن خزيمة وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، فالحديث إذا لا يكون غريبا إلا عند أبي جعفر المذكور ، ولا ينفرد به سواه وسوى الصحابي عثمان بن حنيف ، أما ما بين ذلك فالرواة متعددون وانفراد عثمان بن حنيف لا يضير الخبر لأنه صحابي جليل ، فالكلام هنا يجب أن يقصر على أبي جعفر هذا ، والترمذي كما تقدم يقول : إنه غير الخطمي . وسائر العلماء يقولون : أنه الخطمي ، والغريب أن اسمه لم يقع مصرحا به في واحد من الروايات فمن الخطمي إذا كان هو إياه ومن هو إذا كان سواه ؟ أما أبو جعفر الخطمي فهو عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب الأنصاري المدني ثم البصري وهو ثقة من رجال الأربعة ، روى عن أبيه وعمارة بن خزيمة وآخرين ، وعنه هشام الدستوائي وشعبة وروح بن القاسم وحماد بن سلمة ويحيى القطان وآخرون ، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب : وثقه ابن معين والنسائي ، وابن نمير والعجلي والطبراني ، وذكره ابن حبان في الثقات وأثنى عليه ابن مهدي . وقال الحافظ وقال أبو الحسن المديني : وهو مدني ، قدم البصرة وليس لأهل المدنية عنه أثر ولا يعرفونه - انتهى . فأبو جعفر هذا إن كان هو الخطمي كما ظنه غير الترمذي فالحديث في درجة متوسطة في الصحة والجودة لا يبلغ مكانة أحاديث الصحيحين ولا ينزل إلى أن يكون ضعيفا باطلا مردودا ، وإنما هو كالأحاديث
(17/34)
التي يصححها أمثال الترمذي
وابن خزيمة وابن حبان والحاكم ونحوهم ممن عندهم نحو تساهل في التصحيح ونقد الأخبار
، هذا إن كان أبو جعفر هذا هو الخطمي ، ولكن وقع اختلاف كما تقدم ، فالترمذي يقول
في جامعه إنه غير الخطمي ، والحافظ ابن حجر يميل في التقريب إلى أنه غير الخطمي
كالترمذي ويرجح أنه أبو جعفر عيسى بن ماهان الرازي التميمي . قال الحافظ في الكنى
من التقريب : أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة قال الترمذي : ليس هو الخطمي فلعله الذي
بعده يريد به أبا جعفر عيسى بن ماهان الرازي التميمي الذي قال الحافظ فيه : إنه
صدوق سيئ الحفظ . وفي تهذيب التهذيب أيضا ما يدل على أنه يرجح كونه غير الخطمي ،
وذلك أنه قال في الكنى من التهذيب (ج12 ص58 ) : أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة وعنه
شعبة ، قال الترمذي : ليس هو الخطمي ولم يزد على ذلك ولم ينكر على الترمذي ما حكاه
عنه فكأنه يميل إلى الأخذ بقوله وعند ما ذكر ترجمة الخطمي من التهذيب لم يتعرض
لذلك الخلاف ولم يقل إنه الذي روى ذلك الخبر عن عمارة مع أنه معروف التنقيب على ما
يراه يستحق ذلك ، فالظاهر من مجموع ذلك أنه يميل إلى موافقة الترمذي في القول بأنه
غير الخطمي . هذا قول الترمذي ومن في جانبه ، وأما الأكثرون فقد ذكروا أنه الخطمي
بعينه وقد وقع ذلك في كثير
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/35)
من الكتب التي روي الحديث فيها ، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك الرأي الأخير ، إذا فالخلاف قائم بين أهل الحديث في أبي جعفر راوي الحديث وقد يقول قائل إنه يجب إسقاط خلاف الترمذي ومن معه في هذا الخلاف لأنه قائم على الظن والتوهم فلا حجة فيه وإنما الحجة في قول سواهم وهم الذين صرحوا بأنه هو الخطمي كما وقع مصرحا به عند ابن أبي خيثمة في التاريخ وعند الطبراني في المعجم الصغير وعند الحاكم في المستدرك ، وعند ابن السني في عمل اليوم والليلة ، فإن هؤلاء قد صرحوا بأن راوي الحديث هو الخطمي عينه وهم ما قالوا ذلك إلا لأنهم علموا أو حدثوا أنه هو نصا لا توهما ، وذلك يقتضي ترجيح رأيهم على رأى الترمذي فيجب المصير إليه علما وبحثا وتحقيقا . قيل في الجواب : كلا إنه لا يجب بل لا يجوز إطراح قول الترمذي اعتباطا ولا الذهاب إلى تخطئته جزافا إذ لو صح لنا أن نقول إنه ظن محض بلا دليل لصح لنا أن نقول إن هؤلاء الذين صرحوا في كتبهم أنه هو الخطمي نفسه ليس لهم دليل أيضا سوى التوهم والظن وهذا قريب جدا ، وذلك أنهم وجدوا أبا جعفر في الإسناد مجردا مطلقا مما يمكن أن يعينه فوثب إلى توهمهم وأوهامهم أنه الخطمي فصرحوا بما توهموه لا بما علموه . وهذا يحتمل في الترمذي كما يحتمل في الآخرين المخالفين له وإن كان يبدو للمتأمل جيدا تقديم ما ذهب إليه الترمذي وترجيحه وذلك أنه يبعد جدا أن يصرح عالم بالحديث مثله بأن هذا ليس هو الخطمي بمجرد الظن المحض لأنه إذا لم يكن لديه سوى التوهم كانت منطقة السكوت أرحب وأوسع وما أبعد أن يقع اسم أو كنية بين يدي ناقد بصير مثل الترمذي فيقول مبادرا إن صاحب ذلك الاسم أو تلك الكنية ليس هو فلانا ممن يسمون ذلك الاسم بلا حجة ولا برهان سوى الظن البحت ، أما من قالوا إنه الخطمي فمن القريب للغاية أن يسمعوا الراوي يقول حدثني أبو جعفر فينساق بسرعة إلى أذهانهم أنه هو الخطمي أو غيره ممن يكنون
(17/36)
تلك الكنية ، وإذا لا يسوغ لنا
شد المعرفة والحقيقة أن يبادر إلى الحكم بتخطئة الترمذي زاعما أنه الخطمي قولا
واحدا بل يجب على الأقل التريث والتوقف ما لم ينبثق له في تلك الظلمة شعاع من نور
ولا سيما أن ذلك الراوي المختلف فيه لم يتابعه أحد على روايته الحديث عن عمارة بن
خزيمة وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف بل انفرد به في جميع الأسانيد والروايات وهذا
ما يزيد الباحث الحريص على الحقيقة والمعرفة توقفا وتريثا . ولا سيما والحديث وارد
في مسألة كهذه لها من الخطورة ما لها وإذ وصلنا إلى ذلك الدور من التحقيق وجدنا
أمامنا أمرين لا مندوحة لنا من اختيار أحدهما : الأول أن نذهب قولا واحدا إلى أن
ذلك الراوي ليس هو الخطمي كما قال الترمذي وكما رجح الحافظ ابن حجر على ما سبق .
الثاني أن نلتزم التوقف وتجويز كلا الاحتمالين والقولين ريثما يقدر لنا قبس من نور
في تلك الدجنة نتلمس به حقيقة ما غم علينا وعلى الباحثين وعلى الاحتمالين والقولين
لا يصح لنا أن نبادر إلى القول بصحة الحديث وإلى الأخذ به حتى نأمن من أن يكون ذلك
الراوي راويا ضعيفا متروكا أو ممن لا يحتج به إذا انفراد برواية الحديث ، وما دمنا
جوزنا أن يكون الخطمي وأن يكون سواه فلا سبيل إلى الضمان من أن يكون ضعيفا حتى
نعلم أن جميع من يكنون تلك الكنية ممن هم في تلك الطبقة ثقات
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/37)
أثبات أما إذا ذهبنا إلى القطع بأنه غير الخطمي فقد يحتمل أن يكون راويا ضعيفا ، وكذلك إذا جوزنا أن يكون إياه وأن يكون سواه لأنه لا سبيل إلى القطع بأنه هو قولا واحدا إلا لمن كان متسرعا إلى ما يجب التأني والبطء فيه ، ومادام ذلك الاحتمال موجودا فلا شك أن العمل بالحديث غير جائز ، ومن ثم ذهب المحدثون إلى أن رواية المجهول مردودة لاحتمال أن يكون ضعيفا وأجمعوا على أنه إذا جاءت رواية باسم مشترك بين ثقات وضعفاء فاحتمل أن تكون الرواية رواية ضعيف ، واحتمل أن تكون رواية ثقة وجب طرح تلك الرواية والتوقف في العمل بها ، ثم نقول إن أبا جعفر هذا إذا لم يكن الخطمي فيحتمل أن يكون هو أبا جعفر عيسى بن ما هان الرازي التميمي ، وقد تقدم أنه سيء الحفظ ، وقد تفرد برواية هذا الحديث لم يتابعه أحد ولا شاهد له فلا يصح الاحتجاج بروايته ، واعترض على هذا التجويز والاحتمال بأنه وقع في بعض الروايات نسبة أبي جعفر هذا إلى المدينة فجاء في سنن ابن ماجة عن أبي جعفر المدني وكذا جاء في مسند أحمد وعند البيهقي والحاكم والطبراني ، وابن السني وهذا في الظاهر يأبى احتمال أن يكون أبو جعفر هذا هو عيسى بن ماهان الرازي لأنه ليس مدنيا بل مروزي الأصل سكن الري وقيل أصله من البصرة ومتجره إلى الري فنسب إليها كذا في تهذيب التهذيب ، وهناك رواة آخرون يكنون تلك الكنية منهم الثقات ومنهم الضعفاء ويجوز أن يكون أبو جعفر الذي في الخبر أحدهم ويجوز العكس وأن يكون رجلا مجهولا ليس له إلا ذلك الحديث ولم يرو عنه شعبة وروح بن القاسم سواه ولم يروه عن عمارة غيره ، وقد يفهم هذا من صنع الحافظ ابن حجر ، وذلك أنه قال فيمن يكنون بأبي جعفر أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة وعنه شعبة ، قال الترمذي ليس هو الخطمي - انتهى . وقد يشهد لهذا أيضا قول الترمذي أنه غير الخطمي ولم يزد على ذلك القول شيئا فلم يسمه ولم يصفه ولم ينسبه فكأنه ما يعرف عنه شيئا وإنما
(17/38)
صحح حديثه اعتمادا على رواية
شعبة عنه لأن شعبة لا يروى إلا عن الثقات غالبا وألا فقد روى عن غير الثقات ، علا
أن الترمذي معروف بالتساهل واللين في التحسين والتصحيح وقد اتضح بهذا البيان
للمنصف أن حديث الأعمى ليس من الصحاح ولا الحسان وأنه لا يسوغ لمن لا يرضى لنفسه
وعقيدته إلا الصحة واليقين أن يعمل به . أو إلزام الناس به فإن أبا جعفر المنفرد
بروايته رجل مجهول لا نعرف حاله ولا يدرى مكانه من الصحة والقوة والضعف على وجه
اليقين فيجب التوقف في روايته بل يجب ردها ، وأما تصحيح من صححوه فليس بحجة وفي
سنده ما ذكرناه من النقد والقدح ، والذين صححوه كلهم من المتساهلين في التصحيح
أمثال الترمذي والحاكم . وأما رواية ابن خزيمة في صحيحه فلا تقتضي الصحة مطلقا كما
بينه الأمير اليماني في توضح الأفكار (ج1 ص64) ويحتمل أن يكون الذين صححوه اعتمدوا
في ذلك على رواية شعبة بن الحجاج له عن أبي جعفر المختلف فيه ، وذلك أن شعبة قد
عهد منه كثيرا اجتناب الضعفاء واجتناب حديثهم والرواية عنهم ولكن هذا ليس بلازم
فقد روى شعبة عن قوم ضعفاء ، ولعلهم أيضا صححوه حاسبين أن أبا جعفر الراوي هو
الخطمي لأن الخطمي ثقة ولم يعلموا أنه سواه كما علم الترمذي
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/39)
فكأن التصحيح قائم على هذا الوهم الذي فطن إليه الترمذي فرده ، ومنشأ هذا الوهم والظن اتفاق الكنى وتحصل من هذا كله أن حديث الأعمى هذا ضعيف لا يحل الاحتجاج به ، أما أولا فلجهالة أبي جعفر المنفرد به عن عمارة بن خزيمة وعن أبي أمامة بن سهل ، واختلاف الناس فيه ، إذ زعم فريق أنه الخطمي وزعم فريق آخر أنه سواه ، ولم يظهر لنا أصح القولين فوجدنا أن التوقف في ذلك هو المصير الصحيح ، وأما ثانيا فلتفرد ذلك الراوي المجهول المختلف فيه به دون غيره من أقرانه وممن هم أكثر منه حديثا وتحديثا وأكثر اجتماعا بعمارة وبأبي أمامة وقد كان المظنون أن يرويه سواه إذا كان صحيحا ، وأما ثالثا فلغرابة معنى الحديث وشذوذه عما عرفه الخاص والعام من أصول الإسلام وفروعه وعما علم بالضرورة منه فإن سؤال الله بخلقه كأن يقال يا الله أسألك بفلان أو أتوجه إليك بعبدك فلان أو نبيك فلان ونحو ذلك لم يعهد مثله في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة أو الأئمة وما نقل شيء من هذا النوع إلا ما جاء في الأخبار الواهية الباطلة ، ومثل تلك الروايات لا يحل بها حكم من أحكام المياه والوضوء والطهارة فضلا عن أن يثبت بها قاعدة من قواعد الإسلام ومناجاة الله وسؤاله ، أما الروايات الصحيحة فلم يجئ في شيء منها من ذلك هذا ، وأما الكلام على الحديث من جهة المعنى على افتراض كونه حسنا أو صحيحا فيقال إنه دليل جلي على بطلان ما ذهب إليه المجوزون وذلك أن المراد بقوله أتوجه إليك بنبيك التوجه بدعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا بذاته ولا بشخصه ، والدليل على ذلك أن أصل المسألة كان في الدعاء وفي طلبه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن أصلها في سؤال الله بجاهه أو بذاته حتى يصح ما زعمه المجوزون . ومن الدليل عليه أيضا قوله في خاتمة الحديث (( اللهم شفعه في )) فالأمر إذا أمر شفاعة . ومن الدليل عليه قوله أيضا ((
(17/40)
وإن شئت دعوت )) وقد شاء بلا
خلاف ، ولا شك فقد دعا أيضا بلا خلاف ، ولا شك قد علق الدعاء بالمشيئة والمشيئة قد
وقعت فالدعاء كذلك قد وقع وهو مثل حديث الاستسقاء بالعباس . ومثل قول الفاروق رضي
الله عنه : اللهم كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا
. وهم كانوا يتوسلون بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته لا بذاته وشخصه ،
وهذا ظاهر في الشرع وفي اللسان إلا عمن حجب الله بصيرته فإن قيل : إن هذا عدول عن
ظاهر الخبر وهو لا يجوز الذهاب إليه إلا بدليل ملجئ ولا دليل على هذا العدول قلنا
: إن من الكذب القول بأن ما ذهب إليه المجوزون هو ظاهر الخبر بل الظاهر هو ما ذهب
إليه المانعون وهو مقتضى اللغة العربية فإنه لا يفهم من قوله عليه الصلاة والسلام
في تعليمه الدعاء (( اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بنبيك )) وقوله (( توجهت بك ))
إلا التوجه بالعمل لا بالذات والعمل هنا هو الدعاء والشفاعة بلا ريب . فإن قيل :
إن هذا يقضي بأن يكون في الحديث كلمة محذوفة وهي كلمة الدعاء والشفاعة التي تزعمون
أن التوجه والسؤال بها لا بالذات فيقدر في قوله (( أتوجه إليك بنبيك )) بدعاء نبيك
، وفي قوله (( توجهت بك )) بدعائك ، وهذا تقدير وادعاء في الحديث لا دليل عليه ولا
ملجأ إليه أجيب أن التقدير في الحديث يجب على قول المجوزين وقول المانعين وعلى كل
قول ، فالمجوزون يقولون التقدير : اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بذات نبيك أو
بحرمته أو بجاهه أو بكرامته عليه أو مكانته لديك ونحو ذلك من
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/41)
المحذوفات ، ولا دليل في الحديث على واحد منها ، وأما المانعون فهم يقدرون الدعاء فقط ، والدعاء مذكور فيه مدلول عليه بأول الخبر وآخره فكان تقديره سائغا بل واجبا بل هو في حكم المذكور المنصوص عليه فالعلم به لا يحتاج إلى تفكير ولا إلى دلالة ولا إلى شيء غير الفهم والإنصاف بل هذا ما يتبادر إلى فهم كل قارئ له ما عدا أهل الهوى والجدل والعناد وإننا نتحدى المجوزين ونطلب إليهم جميعا أن يذكروا كلمة واحدة في الشرع وفي اللسان جاء استعمالها كاستعمال الحديث وكان التفسير لها كما ذكروا ، فإن جاءوا بشيء من ذلك قلنا : صدقوا وألا فلا مهرب لهم من اقتحام الحقيقة والرضاء بالأمر الوقع والحق الذي لا غضاضة على قابله ، قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (ص50) : حديث الأعمى لا حجة لهم ، أي لمجوزي التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته وهو طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء وقد أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول (( اللهم شفعه في )) ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك يعد من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار ، وقوله : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا . يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته إذ لو كان هذا مشروعا لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس - انتهى . وأما رواية الطبراني التي استدلوا بها على جواز التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته فيجاب عنها بما قال أيضا شيخ الإسلام (ص83) من أنه لا حجة فيها إذ الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على ما
(17/42)
فهمه بل على خلافه ، ومعلوم أن
الواحد بعد موته إذا قال (( اللهم فشفعه في وشفعني فيه )) مع أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - لم يدع له كان هذا كلاما باطلا مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل
النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ولا أن يقول (( فشفعه في )) ولم يأمره بالدعاء
على وجهه وإنما أمره ببعضه ، وليس هناك من النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعة ولا
ما يظن أنه شفاعة فلو قال بعد موته (( فشفعه في )) لكان كلاما لا معنى له ، ولهذا
لم يأمر به عثمان ، والدعاء المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر به ،
والذي أمر به ليس مأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومثل هذا لا تثبت به
شريعة كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في حسن العبادات أو الإباحات أو الايجابات أو
التحريمات إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه ، وكان ما ثبت عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - يخالفه لا يوافقه لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين إتباعها ، بل
غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد ومما تنازعت فيه الأمة فيجب رده إلى الله
والرسول ، ولهذا نظائر كثيرة ثم ذكرها ، ثم قال (ص86) : يجب فيما تنازع فيه
الصحابة الرد إلى الله والرسول فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ، ومن قال من العلماء (( إن قول الصحابي حجة )) فإنما قاله إذا
لم يخالفه غيره من الصحابة ولا عرف نص يخالفه ، ثم إذا اشتهر ولم ينكروه كان
إقرارا على القول فقد يقال هذا إجماع إقراري إذا عرف أنهم أقروه ولم ينكره أحد
منهم وهم لا يقرون على باطل ، وأما إذا لم يشتهر فهذا إن عرف أن غيره لم يخالفه
فقد يقال هو حجة ، وأما إذا عرف أنه خالفه فليس بحجة
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/43)
بالاتفاق ، وأما إذا لم يعرف هل وافقه غيره أو خالفه لم يجزم بأحدهما ، ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا فيما يخالفها بلا ريب عند أهل العلم ، وإذا كان كذلك فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته من غير أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - داعيا له ولا شافعا فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعا بعد مماته كما كان يشرع في حياته بل كانوا في الاستسقاء في حياته يتوسلون به فلما مات لم يتوسلوا به بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهورة لما اشتدت بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل سمنا حتى يخصب الناس ، ثم لما استسقي بالناس قال : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا . فيسقون ، وهذا دعاء أقره عليه جمع الصحابة ، لم ينكره أحد مع شهرته ، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية ، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته لما استسقى بالناس فلو كان توسلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا : كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما ؟ ونعدل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله ، فلما لم يقل ذلك أحد منهم وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته ، وحديث الأعمى حجة لعمر وعامة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، فإنه إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى الله بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاته لا بذاته ، وقال له في الدعاء : قل (( اللهم فشفعه في )) . وإذا قدر أن
(17/44)
بعض الصحابة أمر غيره أن يتوسل
بذاته لا بشفاعته يأمر بالدعاء المشروع بل ببعضه وترك سائره المتضمن التوسل
بشفاعته كان ما فعله عمر بن الخطاب هو الموافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وكان المخالف محجوجا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان الحديث
الذي رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة عليه لا له والله أعلم . وقال في
(ص74) : وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود ما يدل على أنه سائغ في الشريعة فإن
كثيرا من الناس يدعون من دون الله من الكواكب والمخلوقين ويحصل ما يحصل من غرضهم ،
وبعض الناس يقصد الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك ، ويدعو التماثيل التي في
الكنائس ، ويحصل ما يحصل من غرضه ، وبعض الناس يدعو بأدعية محرمة باتفاق المسلمين
ويحصل ما يحصل من غرضه . وقال في (ص109) : حديث الأعمى فيه التوسل بالنبي - صلى
الله عليه وسلم - إلى الله في الدعاء فمن الناس من يقول : هذا يقضي جواز التوسل به
مطلقا حيا وميتا وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه ويظن هؤلاء أن
توسل الأعمى والصحابة في حياته كان بمعنى الإقسام به على الله أو بمعنى أنهم سألوا
الله بذاته أن يقضي حوائجهم ويظنون أن التوسل به لا يحتاج إلى أن يدعو هو لهم ولا
إلى أن يطيعوه فسواء عند هؤلاء دعا الرسول لهم أو لم يدع ، الجميع عندهم توسل به ،
وسواء أطاعوه أو لم يطيعوه ، ويظنون أن الله تعالى يقضي حاجة هذا الذي توسل به
بزعمهم ولم يدع له الرسول كما يقضي حاجة هذا الذي توسل بدعائه ودعا له الرسول -
صلى الله عليه وسلم - إذ
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/45)
كلاهما متوسل به عندهم ويظنون أن كل من سأل الله بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد توسل به كما توسل به ذلك الأعمى ، وأن ما أمر به الأعمى مشروع لهم وقول هؤلاء باطل شرعا وقدرا ، فلا هم موافقون لشرع الله ولا ما يقولون مطابق لخلق الله . ومن الناس من يقولون هذه قضية عين يثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها . والفرق ثابت شرعا وقدرا بين من دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين من لم يدع له ، ولا يجوز أن يجعل أحدهما كالآخر ، وهذا الأعمى شفع له النبي - صلى الله عليه وسلم - فلهذا قال في دعائه : (( اللهم فشفعه في )) فعلم أنه شفيع فيه ولفظه (( إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك ، فقال : ادع لي )) فهو طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي وأن يدعو هو أيضا لنفسه ويقول في دعاته : (( اللهم فشفعه في )) فدل ذلك على أن معنى قوله (( أسالك وأتوجه إليك بنبيك محمد )) ، أي بدعائه وشفاعته كما قال عمر (( اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا )) فالحديثان معناهما واحد فهو - صلى الله عليه وسلم - علم رجلا أن يتوسل به في حياته كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا ، ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلا عنه ، فلو كان التوسل به حيا وميتا سواء والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له الرسول لم يعدلوا عن التوسل به وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه وأقربهم إليه وسيلة إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله ، وكذلك لو كان أعمى توسل به ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى كان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى ، فعدو لهم عن هذا إلى هذا مع إنهم السابقون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فإنهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله وما يشرع من الدعاء
(17/46)
وينفع وما لم يشرع ولا ينفع وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن دليل على أن المشروع ما سألوه دون ما تركوه ، وذلك أن التوسل به حيا هو من جنس مسألته أن يدعو لهم وهذا مشروع ، فما زال المسلمون يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته أن يدعو لهم ، وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه الدعاء لا عند قبره ولا عند غير قبره كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين ، يسأل أحدهم حاجته أو يقسم على الله به ، ونحو ذلك وإن كان روى في ذلك حكايات عن بعض المتأخرين - انتهى . وأما ما استدل بالحديث على جواز دعاء غير الله وندائه من الأموات والغائبين فيجاب عنه بعد افتراض كون الحديث حسنا بما قال الطيبي من أن قوله (( إني توجهت بك إلى ربي )) بعد قوله (( أتوجه إليك بنبيك )) فيه معنى قوله تعالى ? من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ? ( - 2 : 255 ) فيكون خطابا لحاضر معاين في قلبه مرتبط بما توجه به عند ربه من سؤال نبيه عليه الصلاة السلام الذي هو عين شفاعته ولذلك أتى بالصيغة الماضوية بعد الصيغة المضارعية المفيد كل ذلك أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه عليه الصلاة والسلام فكأنه استحضر وقت ندائه ومثل ذلك كثير في المقامات الخطابية والقرائن الاعتبارية كما يقول المصلي في تشهده (( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته )) . ونقل السويدي عن اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية : أن الإنسان يفعل مثل هذا كثيرا يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع
(17/47)
2520- (15) وعن أبي الدرداء
قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كان من دعاء داود يقول : اللهم إني
أسالك حبك ، وحب من يحبك ، والعمل الذي يبلغني حبك ، اللهم اجعل حبك أحب إلي من
نفسي ومالي وأهلي ، ومن الماء البارد قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إذا ذكر داود يحدث عنه يقول : كان أعبد البشر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخطاب وقد تقدم بسط ذلك في شرح حديث ابن مسعود (ج2 ص 472 ، 473) فنذكر ، وقد علم
بما ذكرنا أن النداء المذكور ليس مما يدعيه ويفعله أهل البدع من دعاء الأنبياء
وندائهم وخطابهم معتقدين حضورهم في الخارج للاستعانة والاستعانة بهم في تفريج
الكرب وقضاء الحوائج ، وهذا ظاهر جلي إلا لأهل الجدل والعناد .
(17/48)
2520- قوله ( يقول ) اسم كان بحذف أن ، أي قوله (( اللهم إني أسالك حبك )) من إضافة المصدر إلى الفاعل أو المفعول ، أي حبك إياي أو حبي إياك والأول أظهر إذ فيه تلميح إلى قوله تعالى : ? يحبهم ويحبونه ? ( - 5 : 54 ) قاله القاري : (( وحب من يحبك )) كما سبق ، أما الإضافة إلى المفعول فهو ظاهر كمحبتك للعلماء والصلحاء ، وأما الإضافة إلى الفاعل فهو مطلوب أيضا كما ورد في الدعاء (( حببنا إلى أهلها وحبب صالحي أهلها إلينا )) ( والعمل ) بالنصب عطف على المفعول الثاني ويحتمل الجر عطفا على من يحبك ، أي وحب العمل من إضافة المصدر إلى مفعوله فقط ، ويؤيده حديث معاذ بن جبل عند الترمذي في تفسير ص بلفظ : وأسالك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك ( الذي يبلغني ) بتشديد اللام ، أي يوصلني ويحصل لي ( حبك ) يحتمل لاحتمالين ( اللهم اجعل حبك ) أي حبي إياك ( أحب إلي من نفسي ومالي ) أي من حبهما حتى أوثره عليهما (( وأهلي )) كذا وقع في نسخ المشكاة الحاضرة عندنا (( من نفسي ومالي وأهلي )) وهكذا في جامع الأصول (ج5 ص110) وجمع الفوائد (ج2 ص658) ، وفي الترمذي (( من نفسي وأهلي )) ، أي بدون لفظة (( ومالي )) وهكذا عند الحاكم (ج2 ص433) ، وكذا ذكر ابن الجزري في الحصن . قال في اللمعات قوله (( من نفسي )) ، أي من حب نفسي ، والمراد اجعل حب نفسك أحب إلي من نفسي لكنه لم يقل كذلك وإن جاز إطلاقه عليه مشاكلة لغاية التأدب - انتهى . قلت : وقع إطلاقه عليه في الحديث من غير مشاكلة أيضا (( أنت كما أثنيت على نفسك )) ( ومن الماء البارد ) أعاد (( من )) ها هنا ليدل على استقلال الماء البارد في كونه محبوبا وذلك في بعض الأحيان فإنه يعدل بالروح . قال في اللمعات : فيه مبالغة لأن حب الماء البارد طبيعي لا اختيار فيه ، ففيه إشارة إلى سراية المحبة إلى الطبيعة أيضا وذلك أكمل مراتب المحبة ( قال ) أي أبو الدرداء : ( إذا ذكر ) ،
(17/49)
أي هو ( داود يحدث عنه ) أي
يحكي ( يقول ) بدل من يحدث ذكره الطيبي . قال القاري : والأظهر أنه حال من الضمير
في يحدث ، وفي الترمذي (( قال )) مكان (( يقول )) وفي المستدرك (( وكان إذا ذكر
داود وحدث عنه قال )) وهذا يدل على أن قوله (( يحدث )) في رواية الترمذي حال من
الضمير في (( ذكر )) وقوله (( يقول )) أو (( قال )) جزاء للشرط ، وعلى قول الطيبي
والقاري يكون (( يحدث )) جزاء للشرط ولا يخفي ما فيه ( كان ) أي داود ( أعبد البشر
) أي أكثرهم عبادة في زمانه كذا قيد الطيبي . قال القاري : وعلى تقدير الإطلاق لا
محذور فيه إذ لا يلزم من الأعبدية الأعلمية فضلا عن الأفضلية .
رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب .
2521- (16) وعن عطاء بن السائب عن أبيه قال : صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز
فيها ، فقال له بعض القوم : لقد خففت وأوجزت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/50)
وقيل : أي أشكر شكرا ، قال تعالى : ? اعملوا آل داوود شكرا ? ( - 34 : 13 ) أي بالغ في شكر وابذل وسعك فيه كذا ذكره الطيبي ، وتعقبه القاري ( رواه الترمذي ) في جامع الدعوات ، وأخرجه أيضا الحاكم في تفسير سورة ص (ج2 ص433) كلاهما من رواية محمد بن سعد الأنصاري عن عبد الله بن ربيعة الدمشقي عن عائذ الله أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء ( وقال : هذا حديث حسن غريب ) وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه فرده الذهبي بأن عبد الله هذا قال أحمد : أحاديثه موضوعة - انتهى . وقال الحافظ : في التقريب عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي ، وقيل ابن يزيد بن ربيعة مجهول ، وروى البخاري قوله : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر داود قال : كان أعبد البشر ، من هذا الطريق في التاريخ الكبير (1/3/228) ، في ترجمة عبد الله بن يزيد بن ربيعة الدمشقي ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ، وذكره ابن حبان في الثقات كما يظهر من التهذيب (ج5 ص208) وعلى كل حال لا يخلو تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم لهذا الحديث عن النظر .
(17/51)
2521- قوله : ( وعن عطاء بن
السائب ) الثقفي الكوفي يكنى أبا محمد ، وقيل : أبا السائب . قال الحافظ في
التقريب : صدوق اختلط ، مات سنة ست وثلاثين ومائة . قلت : من سمع منه قديما فهو
صحيح الحديث منهم الثوري وشعبة وزائدة وحماد بن زيد ، فأما من سمع منه بآخره ففي
حديثهم نظر ، ومنهم جرير وهشيم وابن علية ، واختلف حماد بن سلمة فقيل سمع منه قبل
الاختلاط وقيل بعده . وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7 ص207) بعد ذكر أقوال أئمة
الجرح والتعديل في ذلك فيحصل لنا من مجموع كلامهم أن سفيان الثوري وشعبة وزهيرا
وزائدة وحماد بن زيد وأيوب عنه صحيح ، ومن عداهم يتوقف فيه إلا حماد بن سلمة
فاختلف قولهم والظاهر أنه سمع منه مرتين مرة مع أيوب كما يؤمى إليه كلام الدارقطني
حيث قال : دخل عطاء البصرة مرتين فسماع أيوب وحماد بن سلمة في الرحلة الأولى صحيح
- انتهى . ومرة بعد ذلك لما دخل إليهم البصرة وسمع منه جرير وذويه ، والله أعلم (
عن أبيه ) أي السائب بن مالك أو ابن زيد أو ابن يزيد أبي يحيى ويقال أبو كثير
ويقال أبو عطاء الثقفي الكوفي ثقة من كبار التابعين ، روى عن علي وسعد وعمار بن
ياسر وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم ، وعنه ابنه عطاء وأبو إسحاق السبيعي وأبو
البختري ( فأوجز ) أي اقتصر ( فيها ) ، أي مع إتمام أركانها وسننها ( فقال له بعض
القوم ) ، أي ممن حضرها ( لقد خففت ) بالتشديد ، قال القاري : أي الأركان بأن فعلت
ما يطلق عليها الركن ( وأوجزت ) أي اقتصرت بأن أتيت بأقل ما يؤدي به السنن ، وقوله
الصلاة ، فقال : أما على ذلك ، لقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فلما قام تبعه رجل من القوم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/52)
( الصلاة ) تنازع فيه الفعلان . قلت : قوله (( وأوجزت )) كذا وقع في جميع نسخ المشكاة أي بواو العطف ، والذي في النسائي (( أو أوجزت )) أي بأو بدل الواو . قال في اللمعات : قوله (( وأوجزت الصلاة )) يشبه أن يكون بتخفيف الدعاء فيه كما ينظر إليه سياق الحديث ، ويحتمل أن يكون بإيجاز القراءة ويكون المعنى وإن أوجزت الصلاة بتخفيف القراءة فيها لكني دعوت بدعوات تجبر النقصان كما قيل إن النوافل تكمل الفرائض - انتهى . ولأحمد والنسائي من طريق أبي مجلز عن عطاء قال : صلى بنا عمار صلاة فأوجز فيها فأنكروا ذلك فقال : ألم أتم الركوع والسجود ؟ قالوا : بلي . قال الشوكاني : قوله : (( فأوجز فيها )) لعله لم يصاحب هذا الإيجاز تمام الصلاة على الصفة التي عهدوا عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألا لم يكن للإنكار عليه وجه ، فقد ثبت من حديث أنس في مسلم وغيره أنه قال : ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تمام . وقوله (( فأنكروا ذلك )) فيه جواز الإنكار على من أخف الصلاة من دون استكمال ، وقوله (( ألم أتم الركوع والسجود ؟ قالوا : بلى )) فيه إشعار بأنه لم يتم غيرهما ولذلك أنكروا عليه ( فقال : أما ) بالتخفيف ( علي ) بالتشديد ( ذلك ) وجه الطيبي هذه العبارة بثلاثة وجوه : أحدها أن الهمزة يحتمل أن تكون للإنكار كأنه قال : أتقول هذا وتنكرون علي ؟ وما علي ضرر من ذلك ، قال الشيخ الدهلوي : يعنى قوله (( ما علي ذلك )) جملة حالية والواو مقدرة ولا حاجة إلى تقديرها فقد يقع حالا بدون الواو نحو كلمته فوه إلى في ، وكان تقديره الواو إشارة إلى كونها حالا ، وقوله (( ضرر من ذلك )) بيان لحاصل المعنى . وثانيها أن يكون الهمزة لنداء القريب ، والمنادي محذوف ، أي يا فلان ليس علي ضرر من ذلك . وثالثها أن يكون أما للتنبيه ، ثم قال علي بيان ذلك فتدبر - انتهى . وفي المستدرك (( ما علي في ذلك ))
(17/53)
أي بدون الهمزة وبزيادة في قبل
ذلك ( لقد دعوت ) كذا في جميع النسخ ، وللنسائي (( أما علي ذلك فقد دعوت )) قال
السندي : أي أما مع التخفيف والإيجاز فقد دعوت ، ألخ . وأما على تقدير اعتراضكم
بالتخفيف فأقول قد دعوت ، ألخ . والظاهر أن أما هذه لمجرد التأكيد وليس لها عديل
في الكلام كأما الواقع في أوائل الخطب في الكتب بعد ذكر الحمد والصلاة من قولهم
أما بعد فكذا ( فيها ) أي في أواخرها أو سجودها ، قاله القاري . ومال النسائي إلى
الأول حيث أورد هذا الحديث في أثناء أبواب الدعاء بعد التشهد والصلاة على النبي -
صلى الله عليه وسلم - ( بدعوات ) قال السندي : جمع الدعوات باعتبار أن كل كلمة
دعوة بفتح الدال ، أي مرة من الدعاء فإن الدعوة للمرة كالجلسة ( سمعتهن من رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ) قال القاري : أي داخلها أو خارجها ، وفي المسند
وكذا في رواية للنسائي (( أما إني قد دعوت فيها بدعاء كان رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يدعو به )) قال الشوكاني : يحتمل أنه كان يدعو به في الصلاة ويكون فعل
عمار قرينة تدل على ذلك ويحتمل أنه كان يدعو به من غير تقييد بحال الصلاة كما هو
الظاهر من كلام ( فلما قام ) أي عمار ( تبعه رجل من القوم ) إلى هنا قول السائب
عبر عن نفسه
هو أبي غير أنه كنى عن نفسه فسأله عن الدعاء ثم جاء فأخبر به القوم : اللهم بعلمك
الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة
خيرا لي اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب
وأسألك القصد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/54)
برجل من القوم ولذا فسره عطاء بقوله ( هو أبي ) ، أي ذلك الرجل الذي تبع عمارا هو أبي أي السائب ( غير أنه ) ، أي أبي ( كنى عن نفسه ) ، أي برجل فقال : تبعه رجل ولم يقل تبعته ، ثم قال السائب ( فسأله ) أي الرجل عمارا ( عن الدعاء ) ، أي فأخبره ( ثم جاء ) ، أي الرجل ( فأخبر به ) ، أي بالدعاء ( اللهم ) ، أي وهو هذا ( بعلمك الغيب ) ، أي المغيبات عن خلقك فضلا عن المشاهدات ، والباء للاستعطاف والتذلل ، أي أنشدك بحق علمك ما خفي على خلقك مما استأثرت به ( وقدرتك على الخلق ) أي بقدرتك على خلق كل شيء تتعلق به مشيئك أو على جميع المخلوقات بأن تفعل فيهم ما تقضي إرادتك ، وفيه دليل على جواز التوسل إليه تعالى بصفات كماله وخصال جلاله ( أحيني ) أي أمدني بالحياة ( ما علمت الحياة ) ما مصدرية ظرفية ( خيرا لي ) بأن يغلب خيري على شري (( وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي )) بأن تغلب سيئاتي على حسناتي أو بأن تقع الفتن ما ظهر منها وما بطن ، قاله القاري وعبر بما في الحياة لاتصافه بالحياة حالا وبإذا الشرطية في الوفاء لانعدامها حال التمني إذا آل الحال إلى أن تكون الوفاة بهذا الوصف فتوفني ، قلت قوله (( أحيني )) إلى قوله (( خيرا لي )) ثابت في الصحيحين من حديث أنس بلفظ (( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي )) وهو يدل على جواز الدعاء بهذا لكن عند نزول الضرر كما وقع التقييد بذلك في حديث أنس المذكور وقد تقدم في (ج2 ص438) ( اللهم وأسألك ) عطف على (( أنشدك )) المقدر ، أي وأطلب منك و (( اللهم )) معترضة . وقال القاري : والظاهر أن اللهم عطف على الأول بحذف العاطف كما في كثير من الدعوات الحديثية ومنه تكرار (( ربنا )) من غير عاطف في الآيات القرآنية ، ولا يضره الواو في قوله (( وأسالك )) لأنها نظيرة الواو في قوله تعالى (( ربنا وآتنا )) ( خشيتك ) ، أي خوفك ( في الغيب والشهادة ) أي في
(17/55)
السر والعلانية أو في الحالين
من الخلوة والجلوة أو في الباطن والظاهر ، والمراد استيعابها في جميع الأوقات فإن
الخشية رأس كل خير والشأن في الخشية في الغيب لمدحه تعالى من يخافه بالغيب ، وقال
الشوكاني : أي في مغيب الناس وحضورهم لأن الخشية بين الناس فقط ليست من الخشية لله
بل من خشية الناس ( وأسألك كلمة الحق ) ، أي النطق بالحق ( في الرضا والغضب ) ، أي
في حالتي رضا الخلق مني وغضبهم علي فيما أقوله فلا أداهن ولا أنافق ، أو في حالتي
رضاي وغضبي بحيث لا تلجئني شدة الغضب إلى النطق بخلاف الحق ككثير من الناس إذا
اشتد غضبه أخرجه من الحق إلى الباطل ، والمعنى أسألك أن أكون مستمرا على النطق
بالحق في جميع أحوالي وأوقاتي . قال الشوكاني : جمع بين الحالتين لأن الغضب ربما
حال بين الإنسان وبين الصدع بالحق ، وكذلك الرضا ربما قاد في بعض الحالات إلى
المداهنة وكتم كلمة الحق ( القصد ) أي الاقتصاد
في الفقر والغنى ، وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضاء
بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى
لقائك في غير ضراء مضرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/56)
وهو التوسط بلا إفراط وتفريط ( في الفقر والغنى ) لأن المختار أن الكفاف أفضل من الفقر ومن الغنى قاله في اللمعات ، وقال المناوي : القصد أي التوسط في الفقر والغنى هو الذي ليس معه إسراف ولا تقتير ، فإن الغنى يبسط اليد ويطغي النفس ، والفقر يكاد أن يكون كفرا ، فالتوسط هو المحبوب المطلوب . وقال الشوكاني : القصد في كتب اللغة بمعنى استقامة الطريق والاعتدال ، وبمعنى ضد التفريط وهو المناسب هنا لأن بطر الغني ربما جر إلى الإفراط وعدم الصبر على الفقر ربما أوقع في التفريط فالقصد فيهما هو الطريقة القويمة ( لا ينفد ) بفتح الفاء وبالدال المهملة أي لا يفنى ولا ينقضي ولا ينقص ، وذلك ليس إلا نعيم الآخرة ، وأما غيره فكل نعيم لا محالة زائل ( قرة عين لا تنقطع ) يحتمل أن يراد الذرية التي لا تنقطع بعده ، بل تستمر ما بقيت الدنيا . ولعله مأخوذ من قوله تعالى { ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } ( 25 : 74) وقيل : أراد المداومة على الصلاة والمحافظة عليها لقوله (( وجعلت قرة عيني في الصلاة )) أو المراد ثواب الجنة الذي لا ينقطع فيكون تأكيدا لقوله (( نعيما لا ينفد )) فيكون بعد تخصيصا بعد تعميم ، وقيل : أراد قرة عينه أي بدوام ذكر الله وكمال محبته والأنس به ( وأسألك الرضاء ) بالمد ، وفي المستدرك الرضى أي بالقصر . قال الجوهري : الرضى مقصورا مصدر محض والاسم الرضاء ممدودا ( بعد القضاء ) وفي رواية للنسائي الرضاء بالقضاء أي بما قدرته لي في الأزل لأتلقاه بوجه منبسط وخاطر منشرح وأعلم أن كل قضاء قضيته لي فلي فيه خير ، قيل في وجه الأول : كأنه طلب الرضاء بعد تحقق القضاء وتقرره ( برد العيش ) أي طيبه وحسنه ( بعد الموت ) برفع الروح إلى منازل السعداء ومقامات المقربين ، والعيش في هذه الدار لا يبرد لأحد بل محشو بالغصص والكدر والنكد ممحوق بالآلام الباطنة والأسقام الظاهرة ( لذة النظر
(17/57)
إلى وجهك ) قال الطيبي : قيد
النظر باللذة لأن النظر إلى الله تعالى إما نظر هيبة وجلال في عرصات القيامة ،
وإما نظر لطف وجمال في الجنة ليؤذن بأن المراد هذا ، وفيه أعظم دليل على رؤية الله
تعالى في الدار الآخرة كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ( والشوق إلى لقاءك ) أي
الاشتياق إلى ملاقاتك في دار المجازاة . قال الشوكاني : إنما سأله ع لأنه من
موجبات محبة الله تعالى للقاء عبده لحديث (( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ))
ومحبة الله تعالى من أسباب المغفرة . وقال ابن القيم : جمع في هذا الدعاء بين أطيب
ما في الدنيا وهو الشوق إلى لقاءه ، وأطيب ما في الآخرة وهو النظر إليه ، ولما كان
كلامه موقوفا على عدم ما يضر في الدنيا ويفتن في الآخرة قال ( في غير ضراء ) أي
شدة ، وقيل : أي الحالة التي تضر وهي نقيض السراء وهما بناءان للمؤنث ولا مذكر
لهما ( مضرة ) اسم فاعل من أضر والجار إما متعلق بقوله (( والشوق إلى لقاءك )) أي
أسألك شوقا لا يؤثر في سيري وسلوكي بحيث يمنعني عن ذلك وأن يضرني مضرة ، وإما
متعلق بأحيني ، الثاني أظهر معنى وأقرب لفظا
ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين . رواه النسائي .
2522- (17) وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر الفجر :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/58)
ويؤيد الثاني ما وقع عند أحمد والنسائي أيضا بلفظ : أعوذ بك من ضراء مضرة . وقال الطيبي متعلق الظرف مشكل ولعله متصل بالقرينة الأخيرة وهي (( الشوق إلى لقاءك )) ، سأل شوقا إليه بحيث يكون في ضراء غير مضرة أي شوقا لا يضر في سيري وسلوكي ، وإن ضرني مضرة ما ، فإن الشوق قد يفضي إلى ذلك عند غلبة الحال وتهيج السكر وهو المراد بفتنة مضلة ، ويجوز أن يتصل بقوله : أحيني ... إلى آخره حتى يتعلق بالكل أي أحيني متلبسا بنعمك المذكورة حال عدم كوني في ضراء مضرة وهي البلية لا أصبر عليها ( ولا فتنة مضلة ) أي موقعة في الحيرة والضلال ومفضية إلى الهلاك ، وقد وقع عند أحمد والنسائي في رواية : وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنة مضلة . قال الشوكاني : إنما قيد ضراء بمضرة لأن الضراء ربما كانت نافعة آجلا أو عاجلا فلا يليق الاستعاذة منها أي مطلقا ، ووصف الفتنة بالمضلة لأن من الفتن ما يكون من أسباب الهداية ، وهي بهذا الاعتبار مما لا يستعاذ منه . قال أهل اللغة : الفتنة الامتحان والاختبار ( زينا ) بتشديد الياء المكسورة والنون ( بزينة الإيمان ) أي بثباته وتوفيق الطاعة وحيلة الإحسان . قال المناوي : وهي زينة الباطن ولا معول إلا عليها لأن الزينة زينتان زينة البدن وزينة القلب وهي أعظمها قدرا وإذا حصلت زينة البدن على أكمل وجه في العقبى ، ولما كان كمال العبد في كونه عالما بالحق متبعا له معلما لغيره قال ( واجعلنا هداة ) جمع هاد أي هادين إلى الدين ( مهتدين ) أي ثابتين على الهداية وطريق اليقين . قال الطيبي : وصف الهداة بالمهتدين لأن الهادي إذا لم يكن مهتديا في نفسه لم يصلح أن يكون هاديا لغيره لأنه يوقع الناس في الضلال من حيث لا يشعر . قلت : ومن حيث لا يشعرون ( رواه النسائي ) في الصلاة من طريق حماد عن عطاء بن السائب عن أبيه . وأخرجه أيضا الحاكم ( ج1 : ص524) من هذا الطريق ، وسماه حماد بن زيد ، وقال : حديث صحيح
(17/59)
الإسناد ووافقه الذهبي ،
وأخرجه أحمد (ج4 : ص264) من طريق أبي هاشم عن أبي مجلز ، قال : صلى بنا عمار صلاة
فأوجز فيها ، والنسائي أيضا من طريق أبي مجلز عن قيس بن عباد قال : صلى عمار ابن
ياسر بالقوم صلاة أخفها ، وهذا يدل على أن طريق أحمد فيها انقطاع ، والله أعلم ،
ورواه أبو يعلى أيضا قال الهيثمي (ج10 : ص177) ورجاله ثقات إلا أن عطاء بن السائب
اختلط . انتهى . قلت : ولا يضر ذلك فإن الحديث رواه الحاكم من طريق حماد بن زيد
وروايته عن عطاء قبل الاختلاط كما تقدم .
2522- قوله ( كان يقول في دبر الفجر ) أي في دبر صلاة الفجر ، ولفظ أحمد (ج6 :
318) (( كان يقول في دبر الفجر إذا صلى )) وفي رواية له (( كان يقول إذا صلى الصبح
حين سلم )) وفي رواية (( حين يسلم )) وكذا وقع عند ابن ماجه وللطبراني (( كان يقول
بعد صلاة الفجر )) ووقع في بعض نسخ المشكاة (( في دبر صلاة الفجر )) ولم يرد بهذا
اللفظ
اللهم إني أسألك علما نافعا وعملا متقبلا ورزقا طيبا . رواه أحمد ، وابن ماجة ،
والبيهقي في الدعوات الكبير .
2523- (18) وعن أبي هريرة قال : دعاء حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
أدعه : اللهم اجعلني أعظم شكرك ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/60)
في الكتب التي أخرجها أصحابها ولا في جامع الأصول ( علما نافعا ) أي بالعمل به فيكون حجة لي لا علي . وقال في الحرز : أي شرعيا أعمل به ( وعملا ومتقبلا ) بفتح الموحدة أي مقبولا بأن يكون مقرونا بالإخلاص ( ورزقا طيبا ) أي حلالا ملائما للقوة معينا على الطاعة . في مختصر الطيبي : فإنه أس لهما ولا يعتد بهما دونه . قال الشوكاني : إنما قيد العلم بالنافع والرزق بالطيب والعمل بالمتقبل لأن كل علم لا ينفع فليس من عمل الآخرة ، وربما كان ذرائع الشقاوة ولهذا كان ع يتعوذ من علم لا ينفع ، وكل رزق غير طيب موقع في ورطة العقاب ، وكل عمل غير متقبل إتعاب للنفس . انتهى . وقوله (( اللهم إني أسألك علما نافعا )) إلخ . كذا وقع بتقديم العلم والعمل على الرزق عند أحمد ( ج6 : ص294 ، 319) وهكذا عند ابن السني ، ووقع عند أحمد أيضا (ج6 : ص305 ، 322) ، وابن ماجة بتقديم الرزق على العمل وتأخيره عن العلم ، وعند الطبراني في الصغير بتقديم الرزق على العلم والعمل وهذا الترتيب هو الظاهر ، وأما ما وقع في الروايات الأخرى فلعله من تصرف الرواة ، والحديث دليل صريح على مشروعية الدعاء بعد السلام من الصلاة المكتوبة ( رواه أحمد ) ( ج6 : ص294 ، 305 ، 319 ، 322) ( وابن ماجة ) في الصلاة ( والبيهقي في الدعوات الكبير ) وأخرجه أيضا ابن السني (ص38) وابن أبي شيبة كما في النيل ( ج2 : ص204) كلهم من رواية موسى بن أبي عائشة عن مولى لأم سلمة عن أم سلمة . قال الشوكاني : رجاله ثقات لولا جهالة مولى أم سلمة . ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد : رجال إسناده ثقات خلا مولى أم سلمة فإنه لم يعرف ولم أر أحدا ممن صنف في المبهمات ذكره ولا أدري ما حاله - انتهى . ورواه الطبراني في معجمه الصغير (ص152) من طريق عامر بن إبراهيم بن واقد الأصبهاني عن النعمان ابن عبد السلام عن الثوري عن منصور عن الشعبي عن أم سلمة . وهذا سند جيد . قال
(17/61)
الهيثمي بعد ذكر الحديث (ج10:
ص111) : رواه الطبراني في الصغير ورجاله ثقات .
2523- قوله ( دعاء ) مبتدأ ( حفظته من رسول الله ع ) صفة للمبتدأ مسوغ وخبره قوله
( لا أدعه ) أي لا أتركه لنفاسته ، ولأحمد (ج2 : ص311) : دعوات سمعتها من رسول
الله ع لا أتركها ما عشت حيا سمعته يقول : اللهم ، إلخ ( اللهم اجعلني أعظم )
بالتخفيف والتشديد ورفع الميم وهو مفعول ثان بتقدير أن أو بغيره أي معظما ( شكرك )
أي وفقني لإكثاره والدوام على استحضاره لأكون قائما بما وجب علي من شكر نعمائك
التي لا تحصى . قال الطيبي :
وأكثر ذكرك ، وأتبع نصحك ، وأحفظ وصيتك . رواه الترمذي .
2524- (19) وعن عبد الله بن عمرو قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول
: اللهم إني أسألك الصحة والعفة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/62)
اجعلني بمعنى صيرني ولذلك أتى بالمفعول الثاني فعلا لأن صار من دواخل المبتدأ والخبر ( وأكثر ) مخففا ومشددا ( ذكرك ) أي لسانا وجنانا وهو يحتمل أن يكون تخصيصا بعد تعميم وقيل إن بينهما عموما وخصوصا من وجه ( وأتبع ) بتشديد التاء وكسر الموحدة من الإتباع وبسكون الأولى وفتح الثانية ( نصحك ) بضم النون كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في جامع الأصول ، والذي في الترمذي والمسند (( نصيحتك )) أي بامتثال ما يقربني إلى رضاك ويبعدني عن غضبك . وقال شيخنا : النصيحة هي الخلوص وإرادة الخير للمنصوح له والإضافة يحتمل أن يكون إلى الفاعل وإلى المفعول والأول أظهر ( وأحفظ وصيتك ) بملازمة فعل المأمورات وتجنب المنهيات أو المذكورة في قوله تعالى ? ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ? ( - 4 : 131 ) فإنها للأولين والآخرين وهي التقوى ، أو بالتسليم لله العظيم في جميع الأمور والرضا بالمقدور على ممر الدهور . وقال الطيبي : النصيحة هي إرادة الخير للمنصوح له فيراد بها حقوق العباد وبالوصية متابعة الأمر والنهي من حقوق الله تعالى والله أعلم ( رواه الترمذي ) في الدعوات من طريق الفرج بن فضالة عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة ، وقال حديث غريب ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص311) من رواية الفرج عن أبي سعيد المديني عن أبي هريرة قال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند : إسناده ضعيف جدا الفرج بن فضالة ضعيف منكر الحديث ، وأبو سعيد المديني ذكر الحافظ ابن كثير في جامع المسانيد والسنن أنه (( مولي عبد الله بن عامر بن كريز )) وقد يكون هو وقد يكون غيره من اضطراب الفرج بن فضالة ، فإن الحديث سيأتي أي في المسند عن وكيع عن الفرج بن فضالة عن (( أبي سعيد الحمصي )) وكذلك ذكره الحافظ ابن كثير في ترجمة أبي سعيد الحمصي دون أن يبين من هو ، ورواية وكيع أيضا في الترمذي وفيها
(17/63)
(( عن أبي سعيد المقبري ))
وعندنا أن هذا كله تخليط من الفرج بن فضالة وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10
ص172) وقال : رواه أحمد من طريق أبي يزيد المديني ، وفي رواية (( عن أبي سعيد
الحمصي ولم أعرفهما ، وبقية رجالهما ثقات )) وهكذا قال الهيثمي ، فأما أولا فإن
الحديث ليس من الزوائد على الكتب الستة ، وقد رواه الترمذي ، وثانيا ليس في المسند
(( عن أبي يزيد المديني )) بل هو كما ترى (( حدثنا أبو سعيد المديني )) فإما أن
يكون الهيثمي سها ، وإما أن يكون خطأ في النسخة التي كانت معه من المسند ، وثالثا
ليس بقية رجالهما ثقات وفي الإسنادين الفرج بن فضالة وهو ضعيف - انتهى .
2524- قوله ( وعن عبد الله بن عمرو ) بالواو ( اللهم إني أسالك الصحة ) أي العافية
من الأمراض والعاهات وقال القاري : أي صحة البدن من سيء الأسقام أو صحة الأحوال
والأقوال والأعمال ( والعفة ) هي بمعنى العفاف
والأمانة ، وحسن الخلق ، والرضى بالقدر .
2525- (20) وعن أم معبد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/64)
والعفاف هو التنزه عما لا يباح والكف عنه ، وقال المناوي : أي عن المحرمات والمكروهات وما يخل بكمال المروءة ( والأمانة ) ضد الخيانة والمراد حفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده ( وحسن الخلق ) بضم اللام وسكونها أي مع الخلق بالصبر على أذاهم وكف الأذى عنهم والتلطف بهم . وقال القاري : أي حسن المعاشرة مع أهل الإسلام ( والرضى بالقدر ) أي بما قدرته علي في الأزل ، وهذا تعليم لأمته وتمرين للنفس على الرضاء بالقضاء وذلك لأمرين الأول : أن يتفرغ العبد للعبادة لأنه إذا لم يرض بالقضاء يكون مهموما مشغول القلب أبدا بأنه لم كان كذا ؟ ولماذا لا يكون كذا ؟ فإذا اشتغل القلب بشيء من هذه الهموم كيف يتفرغ للعبادة إذ ليس له إلا قلب واحد وقد امتلأ من الهموم وما كان وما يكون فأي محل فيه لذكر العبادة وفكر الآخرة ولقد صدق شقيق في قوله : حسرة الأمور الماضية وتدبير الآتية ذهبت ببركة الساعات . الثاني : خطر ما في السخط من مقت الله وغضبه مع أنه لا فائدة لذلك ، إذ القضاء نافذ ولا بد منه رضي العبد أم سخط . والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 ص173) وقال : رواه الطبراني ( في الكبير ) والبزار ( في مسنده ) وقال : أسألك العصمة بدل الصحة ، وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف الحديث وقد وثق وبقية رجال أحد الإسنادين رجال الصحيح .
(17/65)
2525- قوله ( وعن أم معبد )
بفتح الميم والموحدة - قال الحافظ في الإصابة (ج4 ص476) : أم معبد غير منسوبة ،
وقيل إنها أنصارية روى حديثها عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن مولى لأم معبد عن أم
معبد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو ويقول : (( اللهم طهر قلبي من
النفاق )) ، إلخ . وأخرجه أبو نعيم وأفردها عن أم معبد الخزاعية الكعبية عاتكة بنت
خالد التي نزل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة وتبع أبا
نعيم أبو موسى ، وأما ابن السكن فذكر الحديث في ترجمة الخزاعة في الأسماء في عاتكة
فقال روى عن مولي لأم معبد عن أم معبد حديث في الدعاء فذكره ، ثم قال في الكنى :
أم معبد الأنصارية وليست صاحبة الخيمتين يعني الخزاعية ، ثم ساق الحديث عن شيخ آخر
بالسند والمتن بعينه ، ثم قال : لم أجد لأم معبد هذه حديثا غير هذا . وفي إسناده
نظر وهو كما قال ، ثم قال : وقد روى عن ابن الحارث عن أم معبد مولاة قرظة حديث في
الظروف ولست أدرى هي هذه أو غيرها فتناقض في ذلك مع جلالته في الحظ وإتقانه -
انتهى . وقال ابن عبد البر : أم معبد الأنصارية روى عنها مولاها عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - حديثها في الدعاء وهي غير التي قبلها يعني بها أم معبد زوجة كعب بن
مالك الأنصاري السلمي التي روت عن النبي في الخليطين وروت (( البذاذة من الإيمان
)) وقال الجزري في أسد الغابة (ج5 ص620) : أم معبد غير منسوبة قاله أبو نعيم ،
وقال أبو عمر : أنصارية ، ثم روى
اللهم طهر قلبي من النفاق ، وعملي من الرياء ولساني من الكذب ، وعيني من الخيانة ،
فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . رواهما البيهقي في الدعوات الكبير .
2526- (21) وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلا من المسلمين قد
خفت ، فصار مثل الفرخ ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل كنت تدعو
الله بشيء أو
(17/66)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزري هذا الحديث من طريق أبي نعيم ثم قال : أخرجها أبو نعيم وأبو عمر وأبو موسى
- انتهى . وتحصل من هذا كله أن أم معبد راوية حديث الدعاء المذكور صحابية أخرى غير
الخزاعية وغير زوجة كعب بن مالك راوية حديث الخليطين وغير مولاة قرظة بن كعب راوية
حديث الظروف ( اللهم طهر قلبي من النفاق ) أي بتحصيل اليقين في الدين وتسوية السر
والعلانية بين المسلمين ، قاله القاري . وقال العزيزي : أي من إظهار خلاف ما في
الباطن وهذا وما بعده قاله تعليما لأمته كيف تدعو وألا فهو معصوم من ذلك ( وعملي
من الرياء ) بمثناة تحتية أي حب إطلاع الناس على عملي ، وقيل : أي من الرياء
والسمعة بتوفيق الإخلاص ( ولساني من الكذب ) أي ونحوه من الغيبة والنميمة . وقال
القاري : الكذب بفتح الكاف وكسر الذال ويجوز بكسر الكاف وسكون الذال وخص من معاصي
اللسان لأنه أعظمها وأقبحها عند الله وعند الخلق ( وعيني ) بالتثنية والإفراد قاله
المناوي ( من الخيانة) أي بأن ينظر بها إلى ما لا يجوز النظر إليه أو يشير بها إلى
ما يترتب الفساد عليه ( فإنك تعلم خائنة الأعين ) مصدر بمعنى الخيانة أي الرمز بها
أو النظرة إلى المحرم بعد النظرة أو مسارقة النظر إلى ما نهى عنه ، أو هو من إضافة
الصفة إلى الموصوف ، أي الأعين الخائنة ( وما تخفي الصدور) أي القلوب الحالة في
الصدور من الوسوسة أو ما تضمر من أمانة أو خيانة ( رواهما ) أي الحديثين السابقين
( البيهقي في الدعوات الكبير ) قد تقدم تخريج عبد الله بن عمرو وأما حديث أم معبد
فذكره السيوطي في الجامع الصغير وعزاه للحكيم الترمذي في النوادر (ص202) والخطيب
في التاريخ وقد تقدم أنه رواه أيضا أبو نعيم وأبو موسى وابن السكن وقال : في
إسناده نظر . قال الحافظ : وهو كما قال فإنه من رواية فرج بن فضالة عن ابن أنعم
وهما ضعيفان - انتهى . وفيه أيضا مولى أم معبد وهو مجهول ،
(17/67)
وقال الحافظ العراقي في تخريج
الإحياء : بسنده ضعيف .
2526- قوله ( عاد ) من العيادة ( رجلا ) أي مريضا ( قد خفت ) بفتح الفاء من باب
نصر أي ضعف من خفت الصوت إذا ضعف وسكن . وفي الترمذي (( قد جهد )) وهو بصيغة
المجهول . قال في القاموس : جهد المرض فلانا هزله ( مثل الفرخ ) بفتح الفاء وسكون
الراء ، ولد الطير عند خروجه من البيضة ، يعني أضعفه المرض حتى صار ضعيفا مثل
الفرخ لضعفه وكثرة نحافته ، وفي الأدب المفرد (( دخل على رجل قد جهد من المرض
فكأنه فرخ منتوف )) أي ولد الطائر الذي استوصل ريشه ، وفي شرح السنة (( عاد رجلا
قد صار مثل الفرخ المنتوف )) ( هل كنت تدعو الله بشيء أو
تسأله إياه ؟ قال : نعم ، كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فجعله لي
في الدنيا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سبحان الله لا تطيقه ولا
تستطيعه ، أفلا قلت : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
؟ قال : فدعا الله به فشفاه الله . رواه مسلم .
2527- (22) وعن حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا ينبغي
للمؤمن أن يذل نفسه . قالوا : وكيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/68)
تسأله إياه ) ؟ قيل : هو شك من الراوي . وقال الطيبي : والظاهر أنه من كلامه - صلى الله عليه وسلم - أي هل كنت تدعو الله بشيء من الأدعية التي يسئل فيها مكروه ؟ أو هل سألت الله البلاء الذي أنت فيه ؟ وعلى هذا فالضمير المنصوب عائد إلى البلاء الذي دل عليه الحال ، وينبئ عنه (( خفت )) فيكون قد عم أولا وخص ثانيا ، وفي الترمذي : أما كنت تدعو ، أما كنت تسأل ربك العافية ؟ ( قال : نعم ) فيه دلالة على أن أو للشك من الراوي لا للترديد منه - صلى الله عليه وسلم - ، قاله القاري . ( ما كنت معاقبي به ) ما شرطية أو موصولة ( فعجله لي في الدنيا ) يعني فاستجاب الله دعاءه وابتلاه بالمرض حتى ضعف وصار مثل الفرخ كما تقدم ( سبحان الله ) تعجب من الداعي في هذا المطلب ( لا تطيقه ) أي في الدنيا ( ولا تستطيعه ) أي في العقبى أو كرر للتأكد ، قاله القاري . قلت : كذا في جميع النسخ من المشكاة أي بواو العطف وهكذا وقع في مسند الإمام أحمد وفي جامع الأصول وجمع الفوائد ، والذي في مسلم والترمذي ، وشرح السنة (( لا تطيقه أو لا تستطيعه )) أي بأو للشك من الراوي ، والظاهر أن ما في المشكاة سهو من الناسخ أو تبع المؤلف في ذلك صاحب جامع الأصول ( أفلا قلت ) أي بدل ما قلت ( اللهم آتنا في الدنيا حسنة ) ألخ ، معناه أنه لو قال ذلك لغفر الله له ذنوبه وعافاه من المرض ( قال ) أي أنس ( فدعا الله به ) أي دعا الرجل بهذا الدعاء الجامع ( فشفاه الله ) وفي مسلم (( قال : فدعا الله له فشفاه )) قال النووي : في هذا الحديث النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة ، وفيه فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وفيه جواز التعجب بقول : سبحان الله ، وقد سبقت نظائره ، فيه استحباب عيادة المريض والدعاء له ، وفيه كراهة تمني البلاء لئلا يتضجر منه ويسخطه وربما شكا . وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة في الدنيا أنها العبادة والعافية ، وفي
(17/69)
الآخرة الجنة والمغفرة ، وقيل
: الحسنة نعم الدنيا والآخرة ( رواه مسلم ) في الدعوات ، وأخرجه أيضا أحمد (ج ص )
، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 ص191) ، والترمذي في الدعوات ، والبغوي (ج5 ص181 ،
182) وانتهت روايتهما عند قوله (( عذاب النار )) .
2527- قوله ( لا ينبغي للمؤمن ) أي لا يجوز له ( أن يذل ) بضم الياء وكسر الذال
المعجمة من الإذلال ( قالوا : وكيف يذل يا نفسه ) وجه استبعادهم أن الإنسان مجبول
على حب إعزاز نفسه ، قاله القاري . ( قال : يتعرض ) أي
من البلاء لما لا يطيق . رواه الترمذي ، وابن ماجة ، والبيهقي في شعب الإيمان ،
وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
2528- (23) وعن عمر رضي الله عنه قال : علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال : قل : اللهم اجعل سريرتي خيرا من علانيتي ، واجعل علانيتي صالحة ، اللهم إني
أسألك من صالح ما تؤتي الناس من الأهل ، والمال ، والولد غير الضال ولا المضل .
رواه الترمذي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتصدى ( من البلاء) إما بالدعاء على نفسه به أو بأن يأتي بأسبابه العادية ، وهو
بيان مقدم لقوله (( لما لا يطيق )) . ( رواه الترمذي ، وابن ماجة ) كلاهما في
الفتن ، ( والبيهقي في شعب الإيمان ) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص405) ، ( وقال الترمذي
: هذا حديث حسن غريب ) في سنده عندهم علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف ، وإنما حسن
حديثه الترمذي لأنه صدوق عنده .
(17/70)
2528- قوله ( علمني رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - ) أي دعاء ( قال ) بيان لقوله علمني ( اللهم اجعل سريرتي )
هي والسر بمعنى وهو ما يكتم ( خيرا من علانيتي ) بالتخفيف ( واجعل علانيتي صالحة )
طلب أولا سريرة خيرا من العلانية ثم عقب بطلب علانية صالحة لدفع توهم أن السريرة
ربما تكون خيرا من علانية غير صالحة ( اللهم إني أسألك من صالح ما تؤتي الناس )
قيل : من زائدة كما هو مذهب الأخفش وقوله ( من الأهل والمال والولد ) لبيان ما
ويجوز أن تكون للتبعيض ، وقوله (( من الأهل والمال )) كذا في جميع النسخ من
المشكاة وهكذا في جامع الأصول ، ووقع في الترمذي ، (( من المال والأهل )) أي
بتقديم المال على الأهل ( غير الضال ) أي بنفسه ( ولا المضل ) أي لغيره . قال
الطيبي : مجرور بدل من كل واحد من الأهل والمال والولد ، ويجوز أن يكون الضال
بمعنى النسبة أي غير ذي ضلال ( رواه الترمذي ) في الدعوات عن محمد بن حميد عن علي
بن أبي بكر عن الجراح بن الضحاك عن أبي شيبة عن عبد الله بن عكيم عن عمر . وقال :
هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي - انتهى . قلت : محمد
بن حميد بن حيان ضعيف ، وأبو شيبة قال في التقريب : أبو شيبة عن عبد الله بن عكيم
يحتمل أن يكون أحد هؤلاء وإلا فمجهول من السادسة . والمراد بهؤلاء المكنون بأبي
شيبة المذكور قبله وفيهم ثقات وضعفاء ولا يدري من هذا منهم ، ولذلك ضعف الترمذي
هذا الحديث .
(10) كتاب المناسك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/71)
( كتاب المناسك ) أي مناسك
الحج وهكذا عقد النسائي في سننه والطحاوي في شرح معاني الآثار ، وهو جمع المنسك
بفتح السين وكسرها وقرئ بهما في السبعة قوله تعالى : ? لكل أمة جعلنا منسكا ? (-
22 : 34) وهو مصدر ميمي من نسك ينسك إذا تعبد ثم سميت أفعال الحج كلها مناسك ،
قاله القاري . وقال ابن جرير : أصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي
يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شر ، يقال : إن لفلان منسكا يعتاده ، وإنما سميت
مناسك الحج بذلك لتردد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحج والعمرة ،
وقال العيني : المناسك جمع منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ويقع على المصدر
والزمان والمكان ، ثم سميت أمور الحج كلها مناسك ، والمنسك المذبح ، وقد نسك ينسك
نسكا إذا ذبح والنسيكة الذبيحة وجمعها نسك ، والنسك أيضا الطاعة والعبادة وكل ما
تقرب به إلى الله عز وجل ، والنسك ما أمرت به الشريعة والورع وما نهت عنه ،
والناسك العابد وسئل ثعلب عن الناسك ما هو ؟ فقال : هو مأخوذ من النسكية وهي سبيكة
الفضة المصفاة كأن الناسك صفي نفسه لله تعالى - انتهى . والحج بفتح الحاء وكسرها
لغتان قرئ بهما قوله تعالى ? ولله على الناس حج البيت ? (- 3 : 97) في السبع وأكثر
السبعة على الفتح ، وفي أمالي الهجري أكثر العرب يكسرون الحاء فقط ، ونقل الطبري
أن الفتح لغة أهل نجد والكسر لغيرهم . والحجة فيها لغتان أيضا فتح الحاء وكسرها
فمعناه على الفتح الفعلة من الحج ، أي المرة وعلى الكسر الحالة والهيئة كالتلبية
والإجابة . وقال الجوهري : والحجة بالكسر المرة الواحدة وهو من الشواذ لأن القياس
بالفتح وهو مبني على اختياره أنه بالفتح الاسم . ومعنى الحج في اللغة القصد هكذا
أطلقه أئمة اللغة ، وقيده بعضهم بكثرة القصد إلى معظم ، واستدل بقول المخبل السعدي
:
وأشهد من عوف حلولا ( ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا (
(17/72)
يقول : يأتونه مرة بعد أخرى
لسؤدده وارجع لشرح البيت إلى هامش القرى لقاصد أم القرى (ص35) . وقيل : هو إطالة
الاختلاف إلى الشيء واختاره ابن جرير ، وقال الحافظ : أصل الحج في اللغة القصد .
وقال الخليل : كثرة القصد إلى معظم ، وفرق بعضهم بين فتح الحاء وكسرها فنقل الطبري
عن حسين الجعفي أن الفتح الاسم والكسر المصدر وعن غيره عكسه . وقال النووي : الحج
بالفتح هو المصدر وبالفتح والكسر جميعا الاسم منه . وقال سيبوبه : المكسور مصدر
واسم للفعل ، والمفتوح مصدر فقط . وقال ابن السكيت : بفتح الحاء القصد وبالكسر
القوم الحجاج ، والحاج الذي يحج ، وربما يظهرون التضعيف في ضرورة الشعر ، قال :
بكل شيخ عامر أو حاجج
ويجمع على حجاج وحجيج وحجج بضم الحاء كبازل وبزل ونازل ونزل وعائذ وعوذ ومعناه في
عرف الشرع القصد إلى زيارة البيت الحرام على وجه التعظيم في وقت مخصوص بأفعال
مخصوصة كالطواف والسعي والوقوف بعرفة وغيرها
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/73)
بإحرام ، وقيل : هو زيارة مكان مخصوص وهو البيت العتيق في زمان مخصوص وهو أشهر الحج لعمل مخصوص وهو الطواف والسعي والوقوف محرما وهو فرض بالكتاب والسنة والإجماع وجاحده كافر عند الكل بلا نزاع ، وقال الحافظ : وجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة ، وقال ابن قدامة : والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع وأما سبب الحج فهو البيت لأنه يضاف إليه ولذا لا يجب في العمرة إلا مرة واحدة لعدم تكرار السبب ، قال الحافظ : أجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر - انتهى . وفي شرح الإقناع : وكالقضاء عند إفساد التطوع ، وأما ما رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما وأبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والطبراني في الأوسط والبيهقي في سننه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا (( يقول الله تبارك وتعالى : إن عبدا صححت له جسمه وأوسعت له في رزقه يأتي عليه خمس سنين لا يفد إلي لمحروم )) فهو محمول على الندب يدل على ذلك حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثاني : الحج مرة فمن زاد فهو تطوع واختلف هل هو على الفور أو التراخي فقال بالأول مالك وأحمد وأبو يوسف والمزني من أصحاب الشافعي ، وقال بالثاني الشافعي والثوري والأوزاعي ومحمد بن الحسن ونقله الماوردي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس ، واختلفت الرواية فيه عن أبي حنيفة قال ابن قدامة : من وجب عليه الحج وأمكنه فعله وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره ، أي فيأثم إن أخره بلا عذر وبهذا قال أبو حنيفة ومالك ، وقال الشافعي : يجب الحج وجوبا موسعا وله تأخيره لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر على الحج وتخلف بالمدينة لا محاربا ولا مشغولا بشيء وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج ، ولأنه إذا أخره ثم فعله في السنة الأخرى لم يكن قاضيا له دل على أن وجوبه على التراخي ، ثم بسط ابن قدامة في الاستدلال على وجوبه على الفور ، والجواب عما استدل به القائلون بالتراخي ، وقال
(17/74)
النووي في مناسكه : إذا وجدت
شرائط الوجوب وجب على التراخي فله تأخيره ما لم يخش العضب فإن خشيه حرم عليه
التأخير على الأصح ، وإذا أخر فمات تبين أنه مات عاصيا على الأصح لتفريطه ، وقال
الزبيدي في شرح الإحياء (ص ) : اختلف فيه عند أصحابنا فقال أبو يوسف : هو في أول
أوقات الإمكان فمن أخره عن العام الأول أثم ، وهو أصح الروايتين عن أبي حنيفة كما
في المحيط والخانية وشرح المجمع ، وفي القنية أنه المختار . قال القدوري : وهو قول
مشائخنا وبالتراخي قال محمد . لكن جوازه مشروط بأن لا يفوته حتى لو مات ولم يحج
أثم عنده أيضا ، ووقت الحج عند الأصوليين يسمى مشكلا لوجهين . الوجه الأول أنه
يشبه المعيار ، لأنه لا يصح في عام واحد إلا حج واحد ، ويشبه الظرف لأن أفعاله لا
تستغرق أوقاته . والوجه الثاني أن أبا يوسف لما قال بتعيين أشهر الحج من العام
الأول جعله كالمعيار ومحمد لما قال بعدمه جعله كالظرف ولم يجزم كل منهما بما قال
فإن أبا يوسف لو جزم بكونه معيارا لقال من أخره عن العام الأول يكون قضاء لا أداء
مع أنه لا يقول به ، بل يقول إنه يكون أداء ، ولقال إن التطوع في العام الأول لا
يجوز مع أنه لا يقول به بل يقول إنه يجوز ، وإن محمدا لو جزم بكونه ظرفا لقال إن
من أخره عن العام الأول لا يأثم أصلا لا في مدة حياته ولا
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/75)
في آخر عمره مع أنه لا يقول به بل يقول : إن مات ولم يحج أثم في آخر عمره فحصل الإشكال ، ثم إن القائل بالفور لا يجزم بالمعيارية ، والقائل بالتراخي لم يجزم بالظرفية بل كل منهما يجوز الجهتين لكن القائل بالفور يرجح جهة المعيارية ويوجب أداءه في العام الأول حتى لو أخره عنه بلا عذر أثم لتركه الواجب لكن لو أداه في العام الثاني كان أداء لا قضاء ، والقائل بالتراخي يرجح جهة الظرفية حتى لو أداه بعد العام الأول لا يأثم بالتأخير لكن لو أخره فمات ولم يحج أثم في آخر عمره ، وقال بعض أصحابنا المتأخرين : والمعتمد أن الخلاف في هذه المسألة ابتدائي فأبو يوسف عمل بالاحتياط لأن الموت في سنته غير نادر فيأثم ، ومحمد حكم بالتوسع لظاهر الحال في بقاء الإنسان - انتهى . قال الشوكاني في السيل الجرار (ج2 ص159) : أما الخلاف في كون الحج على الفور أو التراخي فمرجعه ما وقع في الأصول من الخلاف في صيغة الإيجاب هل هي للفور أو للتراخي ، وقد دل على الفور عند الاستطاعة الأحاديث الواردة في الوعيد لمن وجد زادا ولم يحج وهي وإن كان فيها مقال فمجموع طرقها منتهض . واستدل القائلون بالتراخي بما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - من تأخير حجه إلى سنة عشر مع كون فرض الحج نزل في سنة خمس أو ست على خلاف في ذلك - انتهى . قلت : استدل لأحمد ومالك ومن وافقهما بقوله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? (- 2 : 196) والأمر يقتضي الفور ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - تعجلوا الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدرى ما يعرض له . وأخرجه أحمد ، والبيهقي من حديث ابن عباس ، وبما سيأتي في الفصل الثاني من حديث ابن عباس (( من أراد الحج فليعجل )) ومن حديث علي (( فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا )) وفي الفصل الثالث من حديث أبي أمامة (( من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة )) ألخ وبقوله صلى الله عليه وسلم (( حجوا قبل أن لا تحجوا )) الحديث
(17/76)
أخرجه الدارقطني من حديث أبي
هريرة ، وارجع للجواب عن ذلك إلى القرى لقاصد أم القرى (ص 37) وإلى الفتح الرباني
(ج11 ص21) وكيف ما كان الأمر التسارع إلى أدائه مطلوب والأحوط هو التعجيل للمستطيع
بقدر الإمكان لأن الأجل غير معلوم وحينئذ يشكل تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم -
في حجه إلى العاشرة مع فرضيته قبل ذلك سنة خمس أو ست أو سبع أو ثمان على اختلاف في
ذلك والقائلون بالفور أشد احتياجا إلى الاعتذار عن ذلك ، والتخلص من هذا الإشكال
وقد أجيب بأنه اختلف في الوقت الذي فرض فيه الحج على أقوال ومن جملتها أنه فرض سنة
تسع حكاه النووي في الروضة وصححه القاضي عياض والقرطبي ، ومنها أنه تأخر نزوله إلى
أواخر تسع أو إلى سنة عشر حكاه العيني عن أمام الحرمين ، وبه جزم ابن القيم في
الهدي (ج1 ص180) ، وعلى هذا فلا تأخير لأنه لما فرض الحج بقوله تعالى : ? ولله على
الناس حج البيت ? ( - 3 : 97 ) في أواخر السنة التاسعة وهي سنة الوفود أو في
العاشرة بادر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج من غير تأخير ، وأما قوله
تعالى :
?وأتموا الحج والعمرة لله ? ( - 2 : 196 ) فإنه وإن نزل سنة ست عام الحديبية فليس
فيه فريضة الحج وإنما فيه الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيها وذلك لا
يقتضي
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/77)
وجوب الابتداء ولو سلم أنه فرض من قبل العاشرة سنة خمس لما وقع في قصة ضمام بن ثعلبة من ذكر الأمر بالحج وكان قدومه على ما ذكر الواقدي ومحمد بن حبيب سنة خمس ، أو فرض سنة ست كما هو المشهور عند الجمهور بناء على أنها نزل فيها قوله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? وأن المراد بالإتمام ابتداء الفرض لما ورد في قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ : (( وأقيموا )) أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم فكان تراخيه - صلى الله عليه وسلم - لعذر مع علمه ببقاء حياته ليكمل التبليغ وسيأتي بيان العذر في ذلك والإشكال إنما هو في التراخي مع عدم العذر . قال ابن الهمام : إن تأخيره عليه الصلاة والسلام ليس يتحقق فيه تعريض الفوات وهو الموجب للفور لأنه كان يعلم أنه يعيش حتى يحج ويعلم الناس مناسكهم تكميلا للتبليغ . قال القاري : والأظهر أنه عليه الصلاة والسلام أخره عن سنة خمس أو ست لعدم فتح مكة ، وأما تأخيره عن سنة ثمان فلأجل النسيء وأما تأخيره عن سنة تسع فلما ذكرنا في رسالة مسماة بالتحقق في موقف الصديق وقال ابن رشد في مقدماته : أما قول من قال إن حجة أبي بكر كانت تطوعا لأنه حج في ذي القعدة قبل وقت الحج على النسيء وإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أخر إلى عام عشر ليوقعه في وقته فليس ذلك عندي بصحيح بل حج أبي بكر في ذي القعدة هو وقته حينئذ شرعا ودينا قبل أن ينسخ النسيء ثم حج النبي في ذي الحجة من العام المقبل وأنزل الله ? إنما النسيء زيادة في الكفر ? (9 : 37) فنسخ ذلك النسيء ولو كان في الحج فرض في ذي الحجة ونسخ النسيء عند فرض الحج قبل حج أبي بكر لما حج أبو بكر في ذلك العام إلا في ذي الحجة ولا مكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في ذلك العام لو شاء فيه فالصحيح أنه إنما أخر الحج في ذلك العام للعراة الذين كانوا يطوفون بالبيت من المشركين حتى يعهد إليهم في ذلك ما جاء في
(17/78)
الحديث لا ليوقعه في ذي الحجة
إذ كان قادرا على أن يوقعه في ذلك العام في ذي الحجة - انتهى . وقال التوربشتي في
شرح المصابيح : قد ذهب قوم إلى أن تأخير الحج بعد الفتح إنما كان للنسيء المذكور
في كتاب الله وهو تأخير الأشهر عن مواضعها حتى عاد الحساب في الأشهر إلى أن أصله
الموضع الذي بدأ الله به في أمر الزمان يوم خلق السماوات والأرض وإليه أشار النبي
- صلى الله عليه وسلم - بقوله : إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض
. وهذا التأويل في سنة عتاب بن أسيد ( أي في سنة ثمان بعد الفتح ) محتمل ، وفي
العام الذي بعث أبا بكر أميرا على أهل الموسم غير المحتمل لأن النبي - صلى الله
عليه وسلم - لم يكن ليأمر بالحج في غير وقته المعلوم ، وقد ذكر بعض أهل العلم
بالسير أن الحج عام الفتح وقع في ذي القعدة على الحساب الذي ابتدعوه وكانوا ينسأون
في كل عامين من شهر إلى شهر وكان الحج عام حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذي
الحجة على الحساب القويم وإنما وجه استينائه بالحج إلى السنة العاشرة - والله أعلم
- هو أن لم يرض أن يحضر الموسم وأهل الشرك حضور هناك ، لأنه لو تركهم على ما
يتدينون به من هديهم المخالف لدين الحق لكان ذلك وهنا في الدين ، ولو منعهم لأفضى
ذلك إلى التشاغل إلى ما أرادوه من النسك بالقتال ثم إلى استحلال حرمة الحرم ، وقد
كان أخبر يوم الفتح أن حرمتها عادت إلى ما كانت عليه ، وأنه لم يحل له إلا ساعة من
النهار فرأى أن يبعث الناس إلى الحج وينادي في أهل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/79)
الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ليكون حجه خاليا عن العوارض التي ذكرناها ، وقد ذكرنا لذلك وجوها غيرها في كتاب المناسك واكتفينا ها هنا بالقول الوجيز إيثارا للاختيار - انتهى . قال الأبي المالكي في شرح صحيح مسلم : والقول بالتراخي إنما هو ما لم يخف الفوات وخوفه يكون بعلو السن وخوف تعاهد الأمراض ، وعلو السن حده ابن رشد بالستين . والله أعلم . واختلف في أن الحج كان واجبا على الأمم قبلنا أم وجوبه مختص بنا ؟ قال القاري : الأظهر الثاني ، واختار ابن حجر الأول مستدلا بقوله : (( ما من نبي إلا وحج )) فهو من الشرائع القديمة ، وجاء أن آدم عليه السلام حج أربعين سنة من الهند ماشيا . قال القاري : وهذا كما ترى لا دلالة فيه على إثباته ولا على نفيه وإنما يدل على أنه مشروع فيما بين الأنبياء ولا يلزم من كونه مشروعا أن يكون واجبا مع أن الكلام إنما هو في الأمم قبلنا ، ولا يبعد أن يكون واجبا على الأنبياء دون أممهم ، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام لما بلغ عسفان في حجة الوداع قال : لقد مر به هود وصالح على بكرين أحمرين خطهما الليف وأزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت العتيق رواه أحمد - انتهى . وأما فضل الحج فمشهور قد وردت فيه النصوص الحديثية الكثيرة الصحيحة وسيأتي بعضها في الكتاب وأما حكمه وأسراره وفوائده ومصالحه المرعية فيه فهي أكثر من أن تحصى ولا يوفيها بيانا إلا التصانيف المستقلة وقد نوه بها حكماء الإسلام وأشادوا بها في مؤلفاتهم ولنلم بنبذة منها ليقف القارئ على قل من كثر من أسرار شريعته الرشيدة وأهدافها الحميدة فيرى أن له دينا يهدف بعبادته إلى صلاح الدين والدنيا . قال صاحب تيسير العلام شرح عمدة الأحكام : هذا المؤتمر الإسلامي العظيم وهذا الاجتماع الحاشد فيه من المنافع الدينية والدنيوية والثقافية والاجتماعية والسياسية ما يفوت الحصر والعد ، أما الدينية فما يقوم به الحاج من هذه
(17/80)
العبادة الجليلة التي تشتمل
على أنواع من التذلل والخضوع بين يدي الله تعالى فمنها تقحم الأسفار وإنفاق
الأموال والخروج من ملاذ الحياة بخلع الثياب واستبدالها بإزار ورداء حاسر الرأس
وترك الطيب والنساء وترك الترفة بأخذ الشعور والأظفار ثم التنفل بين هذه المشاعر .
كل هذا بقلوب خاشعة وأعين دامعة وألسنة مكبرة ملبية قد حدا بهم الشوق إلى بيت ربهم
ناسين في سبيل ذلك الأهل والأوطان والأموال والنفس النفيس . وأما الثقافية فقد أمر
الله بالسير في الأرض للاستبصار والاعتبار ففيه من معرفة أحوال الناس والاتصال بهم
والتعرف على شئون الوفود التي تمثل أصقاع العالم كله ما يزيد الإنسان بصيرة وعلما
إذا تحاك بعلمائهم واتصل بنبهائهم فيجد لكل علم وفن طائفة تمثله . وأما الاجتماعية
والسياسية فإن الحج مؤتمر عظيم يضم وفودا متنوعة العلوم مختلفة الثقافات متباينة
الاتجاهات والنزعات فإذا كل حزب بحزبه وطائفة بشبيهتها ومثلوا (( لجان الحكومة
الواحدة )) ودرسوا وضعهم الغابر والحاضر والمستقبل . ورأوا ما الذي أخرهم وما الذي
يقدمهم وما هي أسباب الفرقة بينهم وما أسباب الائتلاف والاجتماع وتوحيد الكلمة ؟
وبحثوا شئونهم الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/81)
على أساس المحبة والوئام وبروح الوحدة والالتئام وأصبحوا يدا واحدة ضد عدوهم وقوة مرهوبة في وجه المعتدي عليهم وبهذا يصير لهم كيان مستقل خاص له مميزاته وأهدافه ومقاصده يسمع صوته ويصغى إلى كلمته ويحسب له ألف حساب وبهذا يعود للمسلمين عزهم ويرجع إليهم سؤددهم ويبنون دولة إسلامية دستورها كتاب الله وسنة رسوله وشعارها العدل والمساواة وهدفها الصالح العام وغايتها الأمن والسلام حينئذ تتجه إليهم أنظار الدنيا وتسلم الزمام بأيديهم فيقوضون مجالس بنيت على الظلم والبغي ويبنون على أنقاضها العدل والإحسان وبهذا يقر السلام ويستتب الأمن وتتجه المصانع النهوج التي تصنع للموت الذريع أسلحة الدمار والخراب إلى أن تخترع المعدات التي تساعد على التثمير والتصنيع وإخراج خيرات الأرض فتحقق حكمة الله بخلقه حيث يحل الخصب والرخاء والأمن والسلام ، مكان الجدب والغلاء والخوف والدماء ، وإذا علم المسلم المؤمن ثمرات هذه الاجتماعيات الإسلامية فهم جيدا أن له دينا عظيما جليل القدر يقصد منها بعد عبادة الله صلاح الكون واتساقه لأن الاجتماع هو أعظم وسيلة لجمع الأمة وتوحيد الكلمة ، ولذا فإنه عني بالاجتماعات عناية عظيمة تحقيقا للمقاصد الكريمة ، ففرض على أهل المحلة الاجتماع في مسجدهم كل يوم خمس مرات ، وفرض على أهل البلد عامة الاجتماع للجمعة في كل أسبوع ، وفرض على المسلمين الاجتماع في كل عام - انتهى . وقال الشيخ مصطفى السقاء في مقدمته على القرى لقاصد أم القرى : لفريضة الحج من الفضائل النفسية والاجتماعية ما لا يخفى على المتأمل فمن أول تلك الفضائل تعظيم ذلك البيت المقدس وعمارته إذ هو الرمز الباقي لقيام ديانة التوحيد في الأرض ، وخلاص الإنسان من فوضى الوثنية والنحل الزائغة الضالة ? إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ? (3 : 96) ومن ذلك تعمير الأرض المقدسة التي حضنت ذلك
(17/82)
الدين الجديد دين التوحيد إلى
أن ترعرع وقوى ، ونما وانتشر وقضى على الأوثان والأصنام في جزيرة العرب أولا ،
فلولا هذه البيئة البعيدة عن معترك الحياة الصاخبة بتيارات المدنيات وغطرسة الملوك
والجبابرة لم يتح لهذا الدين أن ينمو ويذيع ، وحسبنا دليلا على هذا ما لقيه إبراهيم
من اضطهاد بين قومه وعشيرته حتى اضطروا إلى الهجرة بدينه من بلاده ، والآية
الكريمة ? ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا
الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ? (14 :
37) مفصحة بهذا المعنى أي إفصاح . ثم بسط في ذكر المنافع السياسية والاجتماعية
بنحو ما تقدم ، ثم قال : أما الفائدة التهذيبية التي يجنيها الحاج من رحلته فهي
رياضة النفس وتذليلها فإن أعمال الحج منذ يشرع الحاج في توجيه النية والنطق
بالتلبية تدخل في نفسه شعورا قلبيا بالقرب من الله ولا يزال هذا الشعور ينمو ويزيد
كلما اقترب من الأماكن المقدسة حتى إذا حل تلك الرحاب النضرة والساحات المطهرة
وانغمس في أداء الأعمال شعر بسمو روحي وفيض إلهي يدب في نفسه وينتقل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/83)
به من حال إلى حال حتى ينتهي إلى احتقار سلطان المادة وتأثيره في النفس ، وهذا الفيض الشعوري تمتزج فيه العناصر الروحية بعضها ببعض وتتجاوب في النفس وتتبين آثارها في الإرادة والعمل من تعظيم للدين وحب شديد للرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح من الأمة وغيرة على المجتمع الإسلامي ورغبة في إسعاده ، ومن ندم على ما سبق من التفريط في جنب الله ورغبة في استدراك ما فات في أزمان الغفلة وغرة الشباب من الطاعات والقربات وهذه الرياضة النفسية هي ثمرة الحج الكبرى حتى إذا انتهت أعماله وعاد الحاج إلى وطنه وأهله لم يفارقه ذلك الشعور الرباني ولا ريب أن كثيرا ممن حجوا مخلصين لله تتأثر حياتهم بذلك الشعور الفياض الذي كسبوه في أثناء ارتحالهم في الأراضي المقدسة وتلمح في أخلاقهم الاستقامة والإقلاع عن كثير من المساوي التي كانت تشوب حياتهم قبل الحج ومثل هذا يسمى الحج المبرور الذي يتقبله الله ويعظم الثواب عليه ، كما جاء في الحديث . ثم ذكر ما يحصل في هذا السفر الطويل الشاق من فائدة تعويد المسافر خلال تلك الرحلة احتمال كثير من المشقات بالتنقل المستمر لأداء المناسك ونقل الأمتعة والأزواد ونصب الخيام أو تقويضها وإعداد الرواحل أو السيارات وغير ذلك من الأعمال الشاقة ، ثم قال : وبعض الحجاج يلتمسون مع أداء فريضة الحج في هذا الموسم ضروبا من النفع المادي فينقلون المتاجر من شتى البلاد إلى الحجاز ويبيعونها هناك ويتزودون لبلادهم وأهليهم من طرائف الحجاز ومما يحمله إليه الناس من سائر البقاع والأصقاع ، وليس هذا العمل محرما في الدين تقول الآية الكريمة ? ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ? (2 : 198) وتقول آية أخرى ? وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ? (22 : 27 ، 28) ومن هذه
(17/84)
المنافع التجارة التي يقوم
عليها الموسم ويمكن أن تجعل البلاد المقدسة سوقا إسلامية للتجارة ( بدل أن تكون
سوقا تجارية لمصنوعات : أوربا ، وروسيا ، وأمريكا ، ، واليابان ، والصين . وغير
ذلك من بلاد الشرق والغرب ) كما كانت في القرون الإسلامية الأولى سوقا من أعظم
الأسواق بين الممالك الإسلامية الشرقية والغربية ومن أعظم الأسباب لنشر الحضارة
والثقافة في أحقاب طويلة ، فقد كان التجار يتحينون موسم الحج لينقلوا حاصلات
بلادهم وثمرات اجتهادهم إلى مكة والمدينة حيث يجتمع العديد الأكبر فيقبل الناس على
اقتناء الطرف والنفائس من الثياب والحلي والطنافس والأواني النحاسية وأنواع الطيب
ونحو ذلك ويتخذون منها الهدايا للأهل والأصحاب ، وكان العلماء وأصحاب الفنون
يلتقون في الموسم فيأخذ بعضهم عن بعض ويتبادلون الكتب والآثار العلمية والفنية
وخاصة علماء الحديث الذين يجدون في هذا الموسم أحسن الفرص للرواية والإجازة وكان
هذا التبادل التجاري والثقافي في جميع مظاهره من أحسن الوسائل لتعميم الحضارة وبعث
روح التنافس الجدي بين المسلمين في الممالك والأقطار المختلفة - انتهى . وقال
الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (ج2 : ص42) : المصالح المرعية في الحج
أمور منها تعظيم البيت فإنه من شعائر الله وتعظيمه هو تعظيم الله تعالى ومنها
تحقيق معنى العرضة فإن لكل دولة أو ملة اجتماعا يتوارده الأقاصي والأداني ليعرف
فيه بعضهم بعضا ويستفيدوا أحكام
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/85)
الملة ويعظموا شعائرها ، والحج عرضة المسلمين وظهور شوكتهم واجتماع جنودهم وتنويه ملتهم وهو قوله تعالى : ? وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ? (2 : 125) ومنها موافقة ما توارث الناس عن سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فإنهما إماما الملة الحنيفية ومشرعاها للعرب والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث لتظهر به الملة الحنيفية وتعلو به كلمتها وهو قوله تعالى : ? ملة أبيكم إبراهيم ? (22 : 78) فمن الواجب المحافظة على ما استفاض عن إماميها كخصال الفطرة ومناسك الحج وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم ومنها الاصطلاح على حال يتحقق بها الرفق لعامتهم وخاصتهم كنزول منى والمبيت بمزدلفة فإنه لو لم يصطلح على مثل هذا لشق عليهم ولو لم يسجل عليه لم تجتمع كلمتهم عليه مع كثرتهم وانتشارهم . ومنها الأعمال التي تعلن بأن صاحبها موحد تابع للحق متدين بالملة الحنيفية شاكر لله على ما أنعم على أوائل هذه الملة كالسعي بين الصفا والمروة ، ومنها أن أهل الجاهلية كانوا يحجون وكان الحج أصل دينهم ولكنهم خلطوا أعمالا ما هي مأثورة عن إبراهيم عليه السلام وإنما هي اختلاق منهم وفيها إشراك لغير الله كتعظيم أساف ونائله وكالإهلال لمناة الطاغية وكقولهم في التلبية : لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، ومن حق هذه الأعمال أن ينهي عنها ويؤكد في ذلك ، وأعمالا انتحلوها فخرا وعجبا كقول حمس : نحن قطان الله فلا نخرج من حرم الله فنزل : ? ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ? ومنها أنهم ابتدعوا قياسات فاسدة هي من باب التعمق في الدين ، وفيها حرج للناس ومن حقها أن تنسخ وتهجر كقولهم : يجتنب المحرم دخول البيوت من أبوابها وكانوا يستورون من ظهورها ظنا منهم أن الدخول من الباب ارتفاق ينافي هيئة الإحرام فنزل : ? وليس البر بأن تأتوا
(17/86)
البيوت من ظهورها ? (2 : 189)
وككراهيتهم في التجارة موسم الحج ظنا منهم أنها تخل بإخلاص العمل لله فنزل : ? ليس
عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ? (2 : 198) وكاستحبابهم أن يحجوا بلا زاد
ويقولون : نحن المتوكلون وكانوا يضيقون على الناس ويعتدون فنزل : ? وتزودوا فإن
خير الزاد التقوى ? (2 : 197) انتهى باختصار يسير . قلت : شرع الحج لجميع هذه
الفوائد والمصالح المذكورة وغيرها مما نعلم منها الكثير ونجهل منها الكثير ، وربما
كان ما نجهله ونتمتع به أكثر مما نعرفه فقد قال الله تعالى : ? ليشهدوا منافع لهم
? (22 : 28) فأطلق المنافع ونكرها وأبهمها ودل هذا التعبير البليغ على كثرتها
وتنوعها وتجددها في كل زمان وأنها أكثر من أن يأتي عليها الإحصاء والاستقصاء
ويحيطها المحيطون ولكن من أوضح ملامح الحج والروح المسيطرة على جميع أعماله
ومناسكه هو الحب والهيام والوله والتفاني وإعطاء زمام الجسم والفكر للقلب والعاطفة
وتقليد العشاق والمحبين إمامهم وزعيمهم إبراهيم الخليل فحينا طواف الحب والهيام
حول البيت الحرام وحينا تقبيل الحجر الأسود والاستلام وحينا سعى بين غايتين وتقليد
ومحاكاة للأم الحنون حتى في تؤدتها ووقارها وفي جريها وهرولتها . ثم قصد لمنى في
يوم معين هو يوم التروية ، ثم قصد
( الفصل الأول )
2529- (1) عن أبي هريرة ، قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا
أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/87)
إلى عرفات ووقوف بساحتها ودعاء وابتهال ثم بيتوتة في المزدلفة وعودة إلى منى فرمي ونحر وحلق اقتداء بسنة إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم قلت : وزعم بعض المتنورين أن الحج مؤتمر سياسي ثقافي فحسب وليس كذلك فإنه لو كانت هذه هي الحكمة التي شرع لها الحج استقرار وساده جو من الهدوء يساعد على ذلك ولكنه اضطراب وانتقال من مكان إلى مكان ومن نسك إلى نسك ، ولكانت دعوة مقصورة على العلماء والزعماء والأذكياء والنبهاء وعلى الخاصة من المسلمين ، إنها لا شك ثمرة من ثمرات الحج ولكن ليست هي الغاية التي شرعت لها هذه الفريضة العظيمة وفرضت على المسلمين فقال : ? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ? (3 : 97) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا . ولكان له وضع غير هذا الوضع ومكان غير هذا المكان القاحل النائي ، إنه عبادة ونسك ، وطاعة وانقياد وحب وهيام واتصال بمؤسس هذه الملة وتجديد العهد بالمركز الروحي والمنبع الأصيل وتقليد للمحبين وتمثيل لما جرى لهم وتذكير للرحيل من دار الفناء إلى دار القرار والبقاء ويتبع ذلك فوائد وحكم وأسرار لا يحصيها إلا الله ، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء منها .
(17/88)
2529- قوله ( خطبنا رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - ) ، أي خطب لنا عام فرض الحج فيه أو ذكر لنا أثناء خطبة له
. قال الأبي : يمنع أن يكون هذه الخطبة في الحج لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما
حج في العاشرة وفرض الحج كان سابقا ، قيل سنة خمس وقيل تسع إلا أن يكون قاله أيضا
في حجة الوداع ( قد فرض ) بصيغة المجهول ( فحجوا ) بضم الحاء المهملة صيغة الأمر (
فقال رجل ) هو الأقرع بن حابس كما في حديث ابن عباس أول أحاديث الفصل الثاني ( أكل
عام ؟ ) بالنصب لمقدر ، أي أتأمرنا أن نحج كل عام ؟ أو أفرض علينا أن نحج كل عام ؟
وفي النسائي : فقال رجل : في كل عام ؟ أي هو مفروض على كل إنسان مكلف في كل سنة أو
هو مفروض عليه مرة واحدة ؟ قال النووي : واختلف الأصوليون في أن الأمر هل يقتضي
التكرار ؟ والصحيح عند أصحابنا لا يقتضيه ، والثاني يقتضيه ، والثالث يتوقف فيما
زاد على مرة على البيان فلا يحكم باقتضاءه ولا بمنعه ، وهذا الحديث قد يستدل به من
يقول بالتوقف لأنه سأل فقال أكل عام ؟ ولو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لم
يسأل ولقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا حاجة إلى السؤال بل مطلقه محمول
على كذا وقد يجيب الآخرون عنه بأنه سأل استظهارا واحتياطا ، وقوله : ذروني ما
تركتكم ، ظاهر في أنه لا يقتضي التكرار . قال المازري : ويحتمل أنه
فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم . ثم قال : ذروني ما
تركتم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/89)
إنما احتمل التكرار عنده من وجه آخر ، لأن الحج في اللغة قصد فيه تكرار فاحتمل عنده التكرار من جهة الاشتقاق لا من مطلق الأمر - انتهى . قال القاري بعد ذكر هذا الاحتمال بلفظة قيل : والأظهر أن مبني السؤال قياسه على سائر الأعمال من الصلاة والصوم وزكاة الأموال ولم يدر أن تكراره كل عام بالنسبة إلى جميع المكلفين من جملة المحال كما لا يخفى ( فسكت ) ، أي عن جوابه ( حتى قالها ) ، أي قال الرجل السائل الكلمة التي تكلمها ( ثلاثا ) قال التوربشتي : إنما سكت زجرا له عن السؤال الذي كان السكوت عنه أولى لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث لبيان الشريعة فلم يكن ليسكت عن بيان أمر علم أن بالأمة حاجة إلى الكشف عنه ، فالسؤال عن مثله تقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نهوا عنه ، والإقدام عليه ضرب من الجهل وشر فيه احتمال أن يعاقبوا بزيادة التكليف ، وإليه أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله (( لو قلت نعم لوجبت )) قال القاري : ثم لما رآه - صلى الله عليه وسلم - لا ينزجر ولا يقنع إلا بالجواب الصريح صرح به ( فقال لو قلت نعم ) ، أي فرضا وتقديرا ، ولا يبعد أن يكون سكوته عليه الصلاة والسلام انتظار للوحي أو الإلهام . وقال السندي : وهذا بظاهره يقتضي أن أمر افتراض الحج كل عام كان مفوضا إليه حتى لو قال نعم لحصل وليس بمستبعد إذ يجوز أن يأمر الله تعالى بالإطلاق ويفوض أمر التقييد إلى الذي فوض إليه البيان فهو إن أراد أن يبقيه على الإطلاق يبقيه عليه وإن أراد أن يقيده بكل عام يقيده به ، ثم فيه إشارة إلى كراهة السؤال في النصوص المطلقة والتفتيش عن قيودها بل ينبغي العمل على إطلاقها حتى يظهر فيها قيد ، وقد جاء القرآن موافقا لهذه الكراهة - انتهى . وقال الحافظ : استدل به على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يجتهد في الأحكام لقوله : (( لو قلت : نعم لوجبت )) ولا يشترط في حكمه أن يكون بوحي ،
(17/90)
وأجاب من منع باحتمال أن يكون
أوحي إليه ذلك في الحال ( لوجبت ) ، أي هذه العبادة أو فريضة الحج المدلول عليها
بقوله فرض ، أو الحجة كل عام أو حجج كثيرة على كل أحد ( ولما استطعتم ) ، أي وما
قدرتم كلكم إتيان الحج في كل عام ، ? لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ? ( ذروني ) ،
وفي رواية البخاري (( دعوني )) ، قال السندي : أي اتركوني من السؤال عن القيود في
المطلقات . قال في القاموس : ذره ، أي دعه ، يذره تركا ولا تقل وذرا وأصله وذره
يذره كوسعه يسعه لكن ما نطقوا بماضيه ولا بمصدره ولا باسم الفاعل ، أو قيل وذرته شاذا
( ما تركتكم ) ، أي لأني مبعوث لبيان الشرائع وتبليغ الأحكام ، فما كان مشروعا
أبينه لكم لا محالة ولا حاجة إلى السؤال . قال السندي : ما مصدرية ظرفية ، أي مدة
تركي إياكم عن التكليف بالقيود فيها ، وليس المراد لا تطلبوا مني العلم ما دام لا
أبين لكم بنفسي - انتهى . وقال الحافظ : قوله (( ما تركتكم )) ، أي مدة تركي إياكم
بغير أمر بشيء ولا نهي عن شيء وإنما غاير بين اللفظين لأنهم أماتوا الماضي واسم
الفاعل منهما واسم مفعولهما وأثبتوا الفعل المضارع وهو يذر ، وفعل الأمر وهو ذر
ومثله دع ويدع ولكن سمع ودع كما قرئ به في الشاذ في قوله تعالى : ? ما ودعك ربك
وما قلى ? (93 : 3) وقال الشاعر :
فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونحن ودعنا آل عمرو بن عامر ( ... فرائس أطراف المثقفة السمر (
(17/91)
ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على سبيل التفنن في العبارة وإلا لقال : اتركوني . قال : والمراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع خشية أن ينزل به وجوبه أو تحريمه وعن كثرة السؤال لما فيه غالبا من التعنت وخشية أن تقع الإجابة بأمر يستثقل فقد يؤدي لترك الامتثال فتقع المخالفة . قال ابن فرج : معنى قوله (( ذروني ما تركتكم )) لا تكثروا من الاستفسار عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظهر ولو كانت صالحة لغيره ، كما أن قوله (( حجوا )) وإن كان صالحا للتكرار فينبغي أن يكتفي بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة فإن الأصل عدم الزيادة ولا تكثروا التنقيب عن ذلك لأنه قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل إذ أمروا أن يذبحوا البقرة فلو ذبحوا ، أي بقرة كانت لامتثلوا ولكنهم شددوا فشدد عليهم وبهذا تظهر مناسبة قوله : (( فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم )) بقوله : (( ذروني ما تركتكم )) قال النووي : وهو دليل على أن لا حكم قبل ورود الشرع ، وأن الأصل في الأشياء عدم الوجوب وهذا هو الصحيح عند محققي الأصوليين . ( فإنما هلك من كان قبلكم ) ، أي من اليهود والنصارى ، ( بكثرة سؤالهم ) كسؤال الرؤية والكلام وقضية البقرة . قال الأبي : وفيه مرجوحية كثرة السؤال ، ومنه ما اتفق لأسد بن الفرات مع مالك حين أكثر السؤال بقوله : فإن كان كذا ، فإن كان كذا ؟ فقال له مالك : هذه سلسلة بنت أخرى ، إن أردت هذا فعليك بأهل العراق ، إلا أن يقال لا يلزم من المنع هنا المنع في غيره لما أشار إليه - صلى الله عليه وسلم - من أنه في مقام التشريع فخاف الافتراض فيما يشق ولا يقدر عليه - انتهى . وقال الحافظ : استدل به على النهى عن كثرة المسائل والتعمق في ذلك . قال البغوي : في شرح السنة : المسائل على وجهين : أحدهما : ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمر الدين فهو جائز بل مأمور به لقوله تعالى : ? فاسألوا أهل الذكر ? (16 : 45 . و 21 ،
(17/92)
6) الآية ، وعلى ذلك تنزل
أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما ، ثانيهما : ما كان على وجه التعنت
والتكلف ، وهو المراد في هذا الحديث والله أعلم . ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن
ذلك وذم السلف ، فعند أحمد من حديث معاوية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن
الأغلوطات . قال الأوزاعي : هي شداد المسائل ، وقال الأوزاعي أيضا : إن الله إذا
أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط فلقد رأيتهم أقل الناس علما
. وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل
. وقال ابن العربي : كان النهي عن السؤال في العهد النبوي خشية أن ينزل ما يشق
عليهم فأما بعد فقد أمن ذلك لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل
التي لم تقع . قال : وإنه لمكروه إن لم يكن حراما إلا للعلماء فإنهم فرعوا ومهدوا
فنفع الله من بعدهم بذلك ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم - انتهى ملخصا .
وينبغي أن يكون محل الكراهة للعالم إذا شغله ذلك عما هو أهم منه وكان ينبغي تلخيص
ما يكثر وقوعه مجردا عما يندر ولا سيما في المختصرات ليسهل تناوله والله المستعان
– انتهى كلام الحافظ .
واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/93)
( واختلافهم ) عطف على كثرة السؤال لا السؤال ، إذ الاختلاف وإن قل يؤدي إلى الهلاك ، ويحتمل أنه عطف على سؤالهم هو إخبار عمن تقدم بأنه كثر اختلافهم في الواقع فأداهم إلى الهلاك وهو لا ينافي أن القليل من الاختلاف مؤد إلى الفساد ، قاله السندي ( على أنبيائهم ) ، يعني إذا أمرهم الأنبياء بعد السؤال أو قبله اختلفوا عليهم فهلكوا واستحقوا الإهلاك . قال الأبي : قوله (( واختلافهم على أنبيائهم )) هو زيادة على ما وقع فإن الذي وقع إنما هو إلحاح في السؤال لا الاختلاف ( فإذا أمرتكم بشيء ) ، أي من الفرائض وفي رواية بأمر : ( فأتوا منه ما استطعتم ) ، أي افعلوا قدر استطاعتكم . قال السندي : يريد أن الأمر المطلق لا يقتضي دوام الفعل وإنما يقتضي جنس المأمور به وأنه طاعة مطلوبة ينبغي أن يأتي كل إنسان منه على قدر طاقته ، وأما النهي فيقتضي دوام الترك - انتهى . وقال : في اللمعات قوله : (( فأتوا منه ما استطعتم )) يجوز أن يكون تأكيدا ومبالغة في إتيان ما أمر به وبذل الطاقة فيه ، وأن يكون إشارة إلى التيسير ورفع الحرج كما في الصلاة وأركانها وشرائطها إذا عجز عن بعضها أتى بما استطاع ، وهذا الأمر وأما في النهي فينبغي أن يحتاط في تركه ويبذل المجهود بالغا ما بلغ . وقال النووي : هذا من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها - صلى الله عليه وسلم - ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها ، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي ، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن ، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن ، وأشباه هذا غير منحصرة ، وأما قوله : (( وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه )) فهو على إطلاقه ، فإن وجد عذر يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة أو شرب الخمر عند الإكراه أو التلفظ بكلمة الكفر إذا أكره ونحو ذلك ، فهذا ليس منهيا عنه في هذا الحال . قال وهذا
(17/94)
الحديث موافق لقول الله تعالى
: ? فاتقوا الله ما استطعتم ? (64 : 16) وأما قوله تعالى : ? حق تقاته ? ففيها
مذهبان : أحدهما : أنها منسوخة بقوله تعالى : ? فاتقوا الله ما استطعتم ? والثاني
وهو الصحيح أو الصواب وبه جزم المحققون : أنها ليست منسوخة بل قوله تعالى : ?
فاتقوا الله ما استطعتم ? مفسرة لها ومبينة للمراد بها . قالوا : و ? حق تقاته ? هو
امتثال أمره واجتناب نهيه ، أي مع القدرة لا مع العجز ولم يأمر الله تعالى إلا
بالمستطاع . قال تعالى : ? لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ? (2 : 286) انتهى . قال
الحافظ : في الحديث إشارة إلى الاشتغال بالأهم المحتاج إليه عاجلا عما لا يحتاج
إليه في الحال فكأنه قال : عليكم بفعل الأوامر واجتناب النواهي فاجعلوا اشتغالكم
بها عوضا عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن الله
ورسوله ثم يجتهد في تفهم ذلك والوقوف على المراد به ثم يتشاغل بالعمل به ، فإن كان
من العمليات يتشاغل بتصديقه واعتقاد حقيته ، وإن كان من العمليات بذل وسعه في
القيام به فعلا وتركا فإن وجد وقتا زائدا على ذلك فلا بأس أن يصرفه في الاشتغال
بتعرف حكم ما سيقع على قصد العمل به إن لو وقع ، فأما إن كانت
وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه . رواه مسلم .
2530- (2) وعنه قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أفضل ؟ قال :
إيمان بالله ورسوله .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/95)
الهمة مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع مع الإعراض عن القيام بمقتضي ما سمع فإن هذا مما يدخل في النهي فالتفقه في الدين إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدل وسيأتي بسط ذلك قريبا ، أي في باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه من كتاب الاعتصام - انتهى . ( وإذا نهيتكم عن شيء ) ، أي من المحرمات ( فدعوه ) ، أي اتركوه كله ، قال الحافظ : استدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتناءه بالمأمورات لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ، ولو مع المشقة في الترك ، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة ، وهذا منقول عن الإمام أحمد . فإن قيل : إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا إذا لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين كذا قيل . والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدل على المدعي من الاعتناء به بل هو من جهة الكف إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا ، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف بل كل مكلف قادر على الترك بخلاف الفعل ، فإن العجز عن تعاطيه محسوس ، فمن ثم قيد في الأمر بالاستطاعة دون النهي ، وادعى بعضهم أن قوله تعالى : ? فاتقوا الله ما استطعتم ? يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي ، وقد قيد بالاستطاعة واستويا فحينئذ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار - انتهى ( رواه مسلم ) في الحج من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة ، وكذا النسائي ، وأحمد ، وابن حبان ، والطبري ، والبيهقي (ج4 : ص326) ، والدارقطني ، وفي الباب عن ابن عباس ، وسيأتي في الفصل الثاني ، وعن علي عند الترمذي ، وعن أبي أمامة عند الطبري ، وعن أنس عند ابن ماجة ، والحديث رواه البخاري من طريق آخر مختصرا . أي من غير ذكر السبب
(17/96)
في باب الإقتداء بسنن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الاعتصام ، ومسلم أيضا في الفضائل ، وأحمد
(ج2 : ص312) ، والترمذي في العلم ، وابن ماجة في السنة .
2530- قوله ( سئل ) بالبناء للمفعول ، أبهم السائل وهو أبو ذر الغفاري وحديثه في
العتق عند البخاري ، ( أي العمل ) ، وفي رواية أي الأعمال وهو مبتدأ خبره ( أفضل )
، أي أكثر ثوابا عند الله تعالى ( قال ) ، أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو
( إيمان بالله ورسوله ) نكر الإيمان ليشعر بالتعظيم والتفخيم ، أي التصديق المقارن
بالإخلاص المستتبع للأعمال الصالحة قال النووي : فيه تصريح بأن العمل يطلق على
الإيمان والمراد به - والله أعلم - الإيمان الذي يدخل به في ملة الإسلام وهو
التصديق بقلبه والنطق بالشهادتين ، فالتصديق عمل القلب والنطق عمل اللسان ولا يدخل
في الإيمان هنا الأعمال بسائر الجوارح : كالصوم ، والصلاة ، والحج ، والجهاد
وغيرها . لكونه جعل قسيما للجهاد والحج ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : إيمان
بالله
قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله . قيل : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/97)
ورسوله . ولا يقال هذا في الأعمال ولا يمنع من تسمية الأعمال المذكورة إيمانا فقد قدمنا دلائله - انتهى ( قيل ) القائل هو السائل في الأول ( ثم ماذا ؟ ) كلمة ثم للعطف مع الترتيب الذكرى ، وما مبتدأ وذا خبره والمعنى ثم ، أي شيء أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله ؟ ( قال الجهاد في سبيل الله ) ، أي قتال الكفار لإعلاء كلمة الله ، ( قيل ثم ماذا ؟ ) أفضل ( قال : حج مبرور ) ، أي مقبول من البر وهو القبول ومن علامات القبول أن يزداد بعده خيرا ، أي يكون حاله بعد الرجوع خيرا مما قبله ولا يعاود المعاصي ، وهو مفعول من بر المتعدي يقال : بر الله حجه ، أي قبله ويبني للمفعول . فيقال بر حجه فهو مبرور ويستعمل لازما . فيقال بر حجه ، ويقال أيضا أبر الله حجه إبرار ، قال الجزري : يقال بر حجه وبر حجه وبر الله حجه ، وأبره برا بالكسر في الجميع وإبرارا ، وقيل : المبرور المقابل بالبر وهو الثواب ، وقيل : هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ، وقيل : الذي لا يعقبه معصية ، وقيل : هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم مأخوذ من البر وهو الطاعة ، ومنه برت يمينه إذا سلم من الحنث وبر بيعه إذا سلم من الخداع ورجح هذا المعنى النووي . وقال القرطبي : الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى ، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه فوقع موقعا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل ، ولأحمد والحاكم من حديث جابر قالوا : يا رسول الله ما بر الحج ؟ قال : إطعام الطعام وإفشاء السلام . قال في الفتح : وفي إسناده ضعف ، ولو ثبت كان هو المتعين دون غيره - انتهى . قلت حديث جابر هذا قال الحاكم : إنه صحيح الإسناد ولم يخرجاه لأنه لم يحتجا بأيوب بن سويد لكنه حديث له شواهد كثيرة . وقال الذهبي في تلخيصه : صحيح . وحسن سنده المنذري في الترغيب ، والهيثمي في مجمع الزوائد ، ولفظ الطبراني (( إطعام الطعام وطيب الكلام )) . قيل المراد أن هذه الخصال من علامات الحج
(17/98)
المبرور وليست علاماته قاصرة
على هذه ، والظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - أجاب السائل بذلك لكونه رأى منه
التقصير في هذه الخصال لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب كل إنسان على حسب
حاله ثم إنه عرف الجهاد باللام دون الإيمان والحج لأن المعرف بلام الجنس كالنكرة
في المعنى فيوافق تنكير قسيميه . وقيل لأن الإيمان والحج لا يتكرر وجوبهما فناسبهما
التنكير ليدل على الإفراد الشخصي بخلاف الجهاد فإنه قد يتكرر فعرف والتعريف للكمال
إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل كذا قيل . وقد
تعقبه الحافظ في الفتح واعترضه العيني حسب عادته بما لا طائل تحته . قال الحافظ :
وقع في مسند الحارث بن أبي أسامة (( ثم جهاد )) ، أي بالتنكير فقد ظهر من هذه
الرواية أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة لأن مخرجه واحد فالإطالة في طلب
الفرق في مثل هذا غير طائلة ثم أنه قدم الجهاد على الحج مع أنه فرض كفاية ، والحج
فرض عين وذلك لأنه كان أول الإسلام ومحاربة أعداءه والجد في إظهاره ، وقيل : هو
محمول على الجهاد في وقت الزحف الملجئ والنفير العام فإنه حينئذ يجب الجهاد
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/99)
على الجميع . وإذا كان هكذا فالجهاد أولى بالتحريض والتقديم من الحج لأنه يكون حينئذ فرض عين ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر فكان أهم منه . وقيل : قدم لأن نفع الجهاد متعد لما فيه من المصلحة العامة للمسلمين مع بذل النفس فيه بخلاف الحج فيهما ، لأن نفعه قاصر ولا يكون فيه بذل النفس . وقيل (( ثم )) ها هنا للترتيب في الذكر كقوله تعالى : ? ثم كان من الذين آمنوا ? (90 : 17) فإنه من المعلوم أنه ليس المراد ها هنا الترتيب في الفعل وفي الحديث دليل على أن الإيمان بالله ورسوله أفضل من الجهاد والجهاد أفضل من الحج ، وقد اختلفت الأحاديث المشتملة على بيان فاضل الأعمال من مفضولها فتارة تجعل الأفضل الإيمان كما في الحديث الذي نحن في شرحه ، وتارة الصلاة لوقتها كما في حديث ابن مسعود ، وتارة إطعام الطعام وقراءة السلام كما في حديث ابن عمرو ، وتارة السلامة من اليد واللسان كما في حديث أبي موسى ، وتارة الجهاد كما في حديث أبي سعيد ، وتارة ذكر الله كما في حديث أبي الرداء ، وتارة غير ذلك ، واستشكلت للمعارضة الظاهرة ، أي تباين الأجوبة واختلافها مع اتحاد السؤال . وأجيب بأنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المفاضلة في الأعمال عدة مرات وكان يجيب على ذلك بما يناسب المقام والوقت ويصلح لحال السائل والمخاطب ، فإن لكل إنسان عملا يصلح له ولا ينجح إلا به فينبغي توقيفه على ما خفى عليه وتوجيهه إليه ، وكذلك الوقت يختلف ، فوقت تكون الصدقة أفضل من غيرها كوقت المجاعات والحاجة ، وتارة يكون الجهاد أفضل من غيره كوقت الزحف الملجئ والنفير العام ، وتارة يكون طلب العلم الشرعي أنفع للحاجة إليه والانصراف عنه ، وكذلك وظائف اليوم والليلة ، فساعة يكون الاستغفار والتوبة والدعاء أولى من القراءة ، وساعة أخرى تكون الصلاة وهكذا . وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله (ج2 : ص43) : الفضل يختلف باختلاف الاعتبار والمقصود هنا ، أي في
(17/100)
حديث أبي هريرة الذي نحن في
شرحه بيان الفضل باعتبار تنويه دين الله وظهور شعار الله ، وليس بهذا الاعتبار بعد
الإيمان كالجهاد والحج - انتهى . وقال القفال الشافعي الكبير : إن ذلك اختلاف جواب
جرى على حسب اختلاف الأحوال والأشخاص فإنه قد يقال (( خير الأشياء كذا )) ولا يراد
به خير جميع الأشياء من جميع الوجوه والحيثيات والاعتبارات وفي جميع الأحوال
والأوقات ولجميع الأشخاص والأفراد بل في حال دون حال ولواحد دون واحد ومن وجه دون
وجه وفي وقت دون وقت ، قال : ويجوز أن يكون المراد من أفضل الأعمال كذا أو من
خيرها أو من خيركم من فعل كذا فحذفت من وهي مرادة كما يقال فلان أعقل الناس
وأفضلهم ويراد أنه من أعقلهم وأفضلهم . ومن ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - : خيركم خيركم لأهله ، ومعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس مطلقا . قال
النووي : وعلى هذا الجواب يكون الإيمان أفضلها مطلقا ، والباقيات متساويات في
كونها من أفضل الأعمال والأحوال ، ويعرف فضل بعضها على بعض بدلائل تدل عليها
وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص انتهى . وقد تقدم شيء من الكلام في هذا في الفصل
الثاني من باب الذكر ، وإن شئت
متفق عليه .
2531- (3) وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حج لله فلم يرفث ولم
يفسق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مزيد التفضيل فارجع إلى شرح عمدة الأحكام (ج1 : ص132) ، وفتح الملهم شرح صحيح مسلم
(ج1 : ص214 ، 215) ( متفق عليه ) رواه البخاري في الإيمان ، والحج ، ومسلم في
الإيمان ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص264 ، 268 ، 269 ، 287) ، والترمذي في فضائل
الجهاد ، والنسائي في الحج ، والبيهقي (ج5 : ص262) وأخرج أيضا بنحوه ابن خزيمة ،
وابن حبان في صحيحيهما والطيالسي .
(17/101)
2531- قوله ( من حج لله ) ، أي لابتغاء وجه الله تعالى ، والمراد الإخلاص ، وفي رواية للبخاري من حج هذا البيت ، أي قصد البيت الحرام لحج أو عمرة ، ولمسلم في رواية (( من أتى هذا البيت )) قال الحافظ : وهو أعم من قوله : (( من حج )) يعني أنه يشمل الحج والعمرة ، ويجوز حمل لفظ حج على ما هو أعم من الحج والعمرة فتساوي رواية (( من أتى )) من حيث أن الغالب أن إتيانه إنما هو للحج والعمرة ، وللدارقطني (ص282) بسند فيه ضعف : (( من حج أو اعتمر )) ( فلم يرفث ) بتثليث الفاء والضم المشهور في الرواية واللغة . قال الحافظ : فاء الرفث مثلثة في الماضي والمضارع ، والأفصح الفتح في الماضي والضم في المستقبل ، قال : والرفث الجماع ويطلق على التعريض به وعلى الفحش من القول . وقال الأزهري : الرفث اسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة ، وكان ابن عمر يخصه بما خوطب به النساء . وقال عياض : هذا من قول الله تعالى : ? فلا رفث ولا فسوق ? (2 : 193) والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع - انتهى . والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك وإليه نحا القرطبي وهو المراد بقوله في الصيام (( فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث )) - انتهى . قلت : روى البغوي في شرح السنة (ج6 : ص) عن ابن عباس أنه أنشد شعرا فيه ذكر الجماع فقيل : أتقول الرفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما ووجه ، أي روجع وخوطب به النساء ، فكأنه يرى الرفث المنهي عنه في الآية ما خوطب به المرأة دون ما يتكلم به من غير أن تسمع المرأة . وقال سعيد ابن جبير في قوله تعالى ? فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ? (2 : 193) : الرفث إتيان النساء ، والفسوق السباب ، والجدال المراء يعني مع الرفقاء والمكارين ( ولم يفسق ) بضم السين ، أي لم يأت بسيئة ولا معصية . وقيل : أي لم يخرج عن حدود الشرع وأصله انفسقت الرطبة إذا خرجت فسمي الخارج عن الطاعة
(17/102)
فاسقا ، قال في القاموس :
الفسق بالكسر الترك لأمر الله تعالى ، والعصيان والخروج عن طريق الحق أو الفجور
كالفسوق ، فسق كنصر وضرب وكرم فسقا وفسوقا . وإنه لفسق خروج عن الحق ، وفسق جار ،
وعن أمر ربه خرج ، والرطبة عن قشرها خرجت كانفسقت قيل : ومنه الفاسق لانسلاخه عن
الخير والفويسقة الفارة لخروجها من حجرها على الناس - انتهى . والفاء في قوله ((
فلم )) والواو في قوله
رجع كيوم ولدته أمه . متفق عليه .
2532- (4) وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العمرة إلى العمرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/103)
(( ولم )) عطف على الشرط في قوله من حج وجوابه قوله : ( رجع ) أي صار أو رجع من ذنوبه أو حجته أو فرغ من أعمال الحج وحمله على معنى رجع إلى بيته بعيد ، وقوله ( كيوم ولدته أمه ) خير على الأول وحال على الوجهين الأخيرين بتأويل مشابها في البراءة من الذنوب لنفسه في يوم ولدته أمه فيه ، إذ لا معنى لتشبيه الشخص باليوم ، أو المعنى مشابها يومه بيوم ولادته في خلوه من الذنوب ، وقوله (( كيوم )) يحتمل الإعراب ، أي كسر الميم والبناء على الفتح والإضافة لقوله : ولدته أمه . وهو المختار في مثل هذا لأن صدر الجملة المضاف إليها مبني . وفي رواية للبخاري ، ومسلم : كما ولدته أمه ، وفي رواية أحمد (ج2 : ص229) ، والدراقطني (ص282) : كهيئته يوم ولدته أمه . وظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر والتبعات ، وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس الآتي المصرح بذلك وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري ، وإليه ذهب القرطبي وعياض لكن قال الطبري : وهو محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها . قال الحافظ : وذكر لنا بعض الناس أن الطيبي أفاد أن الحديث إنما لم يذكر فيه الجدال كما ذكر في الآية على طريق الاكتفاء بذكر البعض وترك ما دل عليه ما ذكر . ويحتمل أن يقال إن ذلك يختلف بالقصد لأن وجوده لا يؤثر في ترك مغفرة ذنوب الحاج إذا كان المراد به المجادلة في أحكام الحج لما يظهر من الأدلة أو المجادلة بطريق التعميم فلا يؤثر أيضا فإن الفاحش منها داخل في عموم الرفث ، والحسن منها ظاهر في عدم التأثير ، والمستوى الطرفين لا يؤثر أيضا . قيل : ذكر الفسق في الحديث والنهي عنه في الحج مع كونه ممنوعا في كل حال وفي كل حين هو لزيادة التقيح والتشنيع ولزيادة التأكيد في النهي عنه في الحج وللتنبيه على أن الحج أبعد الأعمال عن الفسق والله أعلم ( متفق عليه ) رواه البخاري في موضعين من كتاب الحج : في باب فضل الحج المبرور ، وقبل
(17/104)
جزاء الصيد ، ورواه مسلم في
أواخر الحج ، وأخرجه أيضا أحمد ، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجة ، والدراقطني
(ص282) ، والبيهقي (ج5 : ص65) ، والدارمي كلهم في الحج ، وفي رواية الترمذي (( غفر
له ما تقدم من ذنبه )) بدل قوله : (( كيوم ولدته أمه )) .
2532- قوله ( العمرة ) بضم العين مع ضم الميم وإسكانها ، وهي في اللغة الزيادة ،
وقيل : القصد إلى مكان عامر ، وقيل : إنها مشتقة من عمارة المسجد الحرام ، وفي
الشريعة زيادة البيت الحرام وقصده بكيفية مخصوصة وشروط مخصوصة ذكرت في كتب الحديث
والفقه ، وقيل : هي في الشرع إحرام وسعي وطواف وحلق أو تقصير ، سميت بذلك لأنه
يزار بها البيت ويقصد ، وقال الراغب : العمارة نقيض الخراب ، والاعتمار والعمرة
الزيارة فيها عمارة الود ، وجعل في الشريعة للقصد المخصوص - انتهى . ( إلى العمرة
) ، أي منتهية إلى العمرة ، قال القاري : قوله : (( العمرة إلى العمرة )) ، أي
العمرة
كفارة لما بينهما ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/105)
المنضمة أو العمرة الموصولة أو المنتهية إلى العمرة ، وقال المناوي : أي العمرة حال كون الزمن بعدها ينتهي إلى العمرة ، فإلى للانتهاء على أصلها ، وقال الباجي وتبعه ابن التين : إن إلى يحتمل أن تكون بمعنى مع كقوله تعالى : ? ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ? (4 : 2) وكقوله : ? من أنصاري إلى الله ? (61 : 14) فيكون التقدير : العمرة مع العمرة مكفرة لما بينهما ، فإذا كانت للغاية كان المكفر هو العمرة الأولى ، وإذا كانت بمعنى مع كان المكفر العمرتين ، ويدل للثاني حديث (( العمرتان تكفران ما بينهما )) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة . قال المناوي : فيه من لم أعرفهم ولم أرهم في كتب الرجال ، وقال السندي : قيل : يحتمل أن تكون إلى بمعنى مع أي العمرة مع العمرة أو بمعناها متعلقة بكفارة ، أي تكفر إلى العمرة ولازمه أنها تكفر الذنوب المتأخرة ( كفارة لما بينهما ) هذا ظاهر في فضل العمرة وأنها مكفرة للخطايا الواقعة بين العمرتين ، قال في المطامح : نبه بهذا الحديث على فضل العمرة الموصولة بعمرة ، قال العيني (ج10 : ص 108 ، 109) : ظاهر الحديث أن الأولى هي المكفرة لأنها هي التي وقع الخبر عنها أنها تكفر ولكن الظاهر من جهة المعنى أن العمرة الثانية هي التي تكفر ما قبلها إلى العمرة التي قبلها فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر - انتهى . وقال الأبي : الأظهر أن الحديث خرج مخرج الحث على تكرير العمرة والإكثار منها لأنه إذا حمل على غير ذلك يشكل بما إذا اعتمر مرة واحدة فإنه يلزم عليه أن لا فائدة لها لأن فائدتها وهو التكفير مشروطة بفعلها ثانية إلا أن يقال : لم تنحصر فائدة العبادة في تكفير السيئات بل يكون فيها وفي ثبوت الحسنات ورفع الدرجات كما ورد في بعض الأحاديث (( من فعل كذا وكتب له كذا حسنة ومحيت عنه كذا كذا سيئة ، ورفعت له كذا كذا درجة )) فتكون فائدتها إذا لم تكرر
(17/106)
ثبوت الحسنات ورفع الدرجات .
وقال شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة : إذا لم تكرر كفر بعض ما وقع بعدها لا كله
- والله أعلم - بقدر ذلك البعض ، وكذا في شرح الموطأ للزرقاني (ج2 : ص269) قال ابن
عبد البر : المراد تكفير الصغائر دون الكبائر ، وذهب بعض علماء عصرنا إلى تعميم
ذلك ، ثم بالغ في الإنكار عليه ، وكأنه يعني الباجي فإنه قال : ما من ألفاظ العموم
فتقضي من جهة اللفظ تكفير جميع ما يقع بينهما إلا ما خصه الدليل واستشكل بعضهم كون
العمرة كفارة للصغائر فقط مع أن اجتناب الكبار مكفر لها لقوله تعالى : ? إن تجتنبوا
كبآئر ما تنهون عنه ? (4 : 31) الآية فماذا تكفر العمرة ؟ وأجيب بأن تكفير العمرة
مقيد بزمنها وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد فتغايرا من هذه الحيثية وقال
السندي : هذا الاستشكال ليس بشيء لأن الذي لا يجتنب الكبائر فصغائره يكفرها العمرة
، ومن ليس له صغيرة أو صغائره مكفرة بسبب آخر فالعمرة له فضيلة - انتهى . قال
الحافظ : وفي الحديث دلالة على استحباب الاستكثار من الاعتمار خلافا لقول من قال :
يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة
والحج المبرور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/107)
كالمالكية ولمن قال مرة في الشهر من غيرهم واستدل لهم بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة ، وأفعاله على الوجوب أو الندب وتعقب بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله فقد كان يترك الشيء وهو يستحب فعله لرفع المشقة عن أمته وقد ندب إلى ذلك بلفظه فثبت الاستحباب من غير تقييد . وقال عياض : احتج به الجمهور وكثير من أصحاب مالك على جواز تكرير العمرة في السنة الواحدة وكرهه مالك لأنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر كل واحدة في سنة مع تمكنه من التكرير وتقدم كلام الأبي المالكي أن الحديث خرج مخرج الحث على تكرير العمرة والإكثار منها ، قال الحافظ : واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسا بأعمال الحج إلا ما نقل عن الحنفية أنه يكره في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق ، ونقل الأثرم عن أحمد : إذا اعتمر فلا بد أن يحلق أو يقصر فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام ليمكن حلق الرأس فيها . قال ابن قدامة : هذا يدل على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام ، وارجع لتفصيل الكلام في مسألة تكرار العمرة وتفضيل الطواف على العمرة إلى شفاء الغرام (ج1 : ص179 ، 180) ، والقرى (ص297 ، 298) ( والحج المبرور ) قال ابن العربي : قيل هو الذي لا معصية بعده . قال الأبي : وهو الظاهر لقوله في الحديث الآخر : (( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق )) إذ المعنى حج ثم لم يفعل شيئا من ذلك ، ولهذا عطفها بالفاء المشعرة بالتعقيب ، وإذا فسر بذلك كان الحديثان بمعنى واحد وتفسير الحديث بالحديث أولى . فإن قلت : المرتب على المبرور غير المرتب على عدم الرفث والفسق ، لأن المرتب على المبرور هو دخول الجنة وهو أخص من الرجوع بلا ذنب لأن المراد بدخولها الدخول الأول والدخول الأول لا يكون إلا مع مغفرة كل الذنوب السابقة واللاحقة والرجوع بلا ذنب إنما هو في تكفير السابقة . قلت : إذا فسر المبرور بذلك فسر الرجوع بلا ذنب بأنه
(17/108)
كناية عن دخول الجنة الدخول
الأول المذكور - انتهى . تنبيه قال ابن بزيزة : قال العلماء : شرط الحج المبرور
حلية النفقة فيه ، وقيل لمالك رجل سرق فتزوج به أيضارع الزنا ؟ قال : أي والذي لا
إله إلا هو . وسئل عمن حج بمال حرام فقال : حجه مجزئ وهو آثم بسبب جنايته ،
وبالحقيقة لا يرقى إلى العالم المطهر إلا المطهر - انتهى . وقال الدردير : صح الحج
فرضا أو نفلا بالحرام من المال فيسقط عنه الفرض والنفل وعصى إذ لا منافاة بين
الصحة والعصيان - انتهى . وبه قالت الحنفية كما في رد المحتار عن البحر حيث قال :
يجتهد في تحصيل نفقة حلال فإنه لا يقبل بالنفقة الحرام كما ورد في الحديث مع أنه
يسقط الفرض عنه معها ولا تنافي في سقوطه وعدم قبولها - انتهى . وذلك لأن القبول
أخص من الإجزاء ، فإن القبول عبارة عن ترتيب الثواب على الفعل والإجزاء عبارة عن
سقوط القضاء ، وقال النووي في مناسكه : ليحرص أن تكون نفقته حلالا خالصة عن الشبهة
فإن خالف وحج بما فيه شبهة أو بمال مغصوب صح حجه في ظاهر الحكم لكنه ليس حجا
مبرورا ويبعد قبوله ، وهذا هو مذهب الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة ، وجماهير
العلماء من السلف والخلف . وقال أحمد بن
ليس له جزاء إلا الجنة . متفق عليه .
2523- (5) وعن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن عمرة في
رمضان تعدل حجة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/109)
حنبل : لا يجزيه الحج بمال حرام - انتهى . ( ليس له جزاء ) ، أي ثواب ( إلا الجنة ) بالرفع أو النصب وهو نحو (( ليس الطيب إلا المسك )) بالرفع فإن بني تميم يرفعونه حملا لها على ما في الإهمال عند انتقاض النفي كما حمل أهل الحجاز (( ما )) على (( ليس )) في الإعمال عند استيفاء شروطها كذا في مغني اللبيب (ج1 : ص227) قال النووي : (( ليس له جزاء إلا الجنة )) معناه أنه لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه بل لابد أن يدخل الجنة . وقال السندي : أي ابتداء وإلا فأصل الدخول فيها يكفي الإيمان ولازمه أن يغفر له الذنوب كلها صغائرها وكبائرها بل المتقدمة منها والمتأخرة - انتهى . قال في المطامح : وقضية جعل العمرة مكفرة والحج جزاءه الجنة أنه أكمل . وقال ابن القيم : في الحديث دليل على التفريق بين الحج والعمرة في التكرار إذ لو كانت العمرة كالحج لا يفعله في السنة إلا مرة لسوى بينهما ولم يفرق ( متفق عليه ) ، وأخرجه أيضا أحمد (ج : ص) ، ومالك ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، والدارمي ، وابن الجارود (ص178) ، والبيهقي (ج4 : ص473 ، و ج5 : ص261) .
(17/110)
2533- قوله ( إن عمرة في رمضان
) ، أي كائنة ، وسبب الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع عن حجة
الوداع قال لأم سنان الأنصارية ما منعك أن تحجي معنا ، قالت : لم يكن لنا ناضحان
فحج أبو ولدها وابنها على ناضح وترك لنا ناضحا ننضح عليه قال فإذا جاء رمضان
فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة ( تعدل حجة ) ، أي تعادلها وتماثلها في الثواب لأن
الثواب يفضل بفضيلة الوقت ذكره المظهر . قال الطيبي : وهذا من باب المبالغة وإلحاق
الناقص بالكامل ترغيبا وبعثا عليه وإلا كيف يعدل ثواب العمرة ثواب الحج انتهى .
وقال ابن خريمة في هذا الحديث : إن الشيء يشبه بالشيء ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض
المعاني لا جميعها لأن العمرة لا يقضى بها فرض الحج ولا النذر انتهى . ووقع في
رواية لمسلم : (( فعمرة في رمضان تقضي حجة أو معي )) ، أي بالشك ، وفي رواية
البخاري في باب حج النساء : (( فإن عمرة في رمضان تقضي حجة معي )) بالجزم من غير
شك ، وفي رواية لأبي داود والحاكم (ج1 : ص484) : (( أنها تعدل حجة معي )) وهكذا وقع
عند ابن حبان في قصة أم سليم من حديث ابن عباس وفي حديث أنس عند الطبراني في
الكبير (( عمرة في رمضان كحجة معي )) وفي حديث أبي طليق في قصة له ولامرأته عند
الطبراني في الكبير والبزار (( قلت : فما يعدل الحج معك ؟ قال : عمرة في رمضان ))
وفي هذه الروايات ما يدل على أن المرأة المذكورة جعلت على نفسها حجة مع النبي -
صلى الله عليه وسلم - لتحوز بذلك شرف المعية وكثرة الثواب فأجابها - صلى الله عليه
وسلم - بأن ذلك يحصل لها بالاعتمار في رمضان واختلف العلماء في معنى حديث الباب
فقال بعهضم : إن الحجة التي فاتت هذه المرأة كانت تطوعا لإجماع الأمة على أن
العمرة لا تجزئ عن حجة الفريضة
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/111)
إذ لا مانع من أن تكون حجت مع أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة فسقط عنها الفرض ثم أرادت أن تحج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوادع في السنة العاشرة فمنعها عدم تيسر الراحلة ، وقال بعضهم : إن الحجة التي فاتت هذه المرأة هي حجة الوداع وكانت أول حجة أقيمت في الإسلام فرضا لأن حج أبي بكر كان إنذارا فعلى هذا يستحيل أن تكون تلك المرأة كانت قامت بوظيفة الحج بعد ، لأن أول حج لم تحضره هي ، ولم يأت زمان حج ثان عند قوله عليه الصلاة والسلام لها ذلك ، وما جاء الحج الثاني إلا والرسول عليه الصلاة والسلام قد توفي فإنما أراد عليه الصلاة والسلام أن يستحثها على استدراك ما فاتها من البدار ولا سيما الحج معه عليه الصلاة والسلام لأن فيه مزية على غيره قلت : وهذا مبني على أن الحج إنما فرض في السنة العاشرة ولكنه غير متفق عليه وقد تقدم ذكر الخلاف فيه ، وعلى كل حال فإن كان ما فاتها حجة الفرض فيكون المراد من الحديث بيان فضل العمرة في رمضان وإعلامها أن ثوابها كثواب حجة لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن فرض الحج ، فالعمرة في رمضان لا تسقط الحجة المفروضة بل من الإتيان بها من قابل ، وإن كان ما فاتها تطوعا فالعمرة في رمضان تقوم مقام الحجة في التطوع ونقل الترمذي عن إسحاق ابن راهويه أن معنى الحديث نظير ما جاء أن ? قل هو الله أحد ? تعدل ثلث القرآن وقال ابن العربي : حديث العمرة هذا صحيح وهو فضل من الله ونعمة فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها ، وهكذا قال أبو بكر المعافري ، كما في (( القرى )) وقد تقدم ما قال الطيبي وابن خزيمة في معنى الحديث وتوجيهه ، وقال ابن الجوزي : فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القلب ، وقال غيره يحتمل أن يكون المراد عمرة فريضة في رمضان كحجة فريضة ، وعمرة نافلة في رمضان كحجة نافلة
(17/112)
وقال ابن التين : قوله كحجة
يحتمل أن يكون على بابه ويحتمل أن يكون لبركة رمضان ، ويحتمل أن يكون مخصوصا بهذه
المرأة . قال الحافظ : الثالث قال به بعض المتقدمين ففي رواية أحمد بن منيع قال
سعيد بن جبير : ولا نعلم هذا إلا لهذه المرأة وحدها ، ووقع عند أبي داود من حديث
أم معقل فكانت تقول الحج حجة ، والعمرة عمرة ، وقد قال هذا لي رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ما أدري ألي خاصة تعني أو للناس عامة ، قال الحافظ : والظاهر
حمله على العموم كما تقدم ، والسبب في التوقف استشكال ظاهره وقد صح جوابه . تنبيه
لما ثبت أن عمره - صلى الله عليه وسلم - كانت كلها في ذي القعدة وقع تردد لبعض أهل
العلم في أن أفضل أوقات العمرة أشهر الحج أو رمضان فحديث الباب يدل على الثاني ،
أي كون رمضان أفضل أوقات العمرة لكن فعله عليه الصلاة والسلام لما لم يقع إلا في
أشهر الحج كان ظاهرا أنه أفضل إذ لم يكن الله سبحانه وتعالى يختار لنبيه إلا ما هو
الأفضل أو أن رمضان أفضل لتنصيصه عليه الصلاة والسلام على ذلك فتركه لاقترانه بأمر
يخصه كاشتغاله بعبادات أخرى في رمضان تبتلا ، وأن لا يشق على أمته فإنه لو اعتمر
في رمضان لبادروا إلى ذلك وخرجوا مع ما هم عليه من المشقة في
متفق عليه .
2534- (6) وعنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبا بالروحاء ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/113)
الجمع بين العمرة والصوم ، ولقد كان بهم رؤوفا رحيما ، وقد كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته وخوفا من المشقة عليهم كالقيام في رمضان بهم ، ومحبته لأن يستقي بنفسه مع سقاة زمزم كيلا يغلبهم الناس على سقايتهم . وقال الحافظ : والذي يظهر أن العمرة في رمضان لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل ، وأما في حقه فما صنعه هو أفضل لأن فعله لبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه ، فأراد الرد عليهم بالقول والفعل وهو لو كان مكروها لغيره لكان في حقه أفضل - انتهى . تنبيه آخر قد استدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( عمرة في رمضان تعدل حجة )) على استحباب تكرار العمرة والإكثار منها . قال المحب الطبري في القرى (ص566) : فيه دليل على استحباب تكرار العمرة من وجهين الأول : أن النكرة في سياق التفضيل ، الظاهر منها إرادة العموم ، فإنك إذا قلت : رجل من بني تيم يعدل قبيلة من غيرها ، لم يتبادر إلى الفهم إلا أن كل واحد منها كذلك ، فكذلك ، كل عمرة في رمضان ، والثاني : المراد بعمرة في رمضان إما أن يقال : كل عمرة لكل أحد أو عمرة لكل أحد أو عمرة لواحد لا بعينه ، والأول هو المطلوب ، والثالث غير مراد بالاتفاق ، والثاني لازم للأول فيتعدى الحكم ، بيان الملازمة أن اتصاف الفعل بالفضل إنما نشأ من جهة الزمان لا محالة ، فإذا ثبت لفعل لزم ثبوته لمثله ، وإن تكرر لقيام موجب الصفة ولعدم جواز تخلف الحكم عن مقتضيه ، ومن ادعى تخصصها بعدم التكرار أو تخصيصها بالمخاطبة أو بميقات دون غيره أو معارضا فعليه البيان - انتهى . قلت : قد ذهب إلى جواز تكرار العمرة واستحباب الإكثار منها الشافعي ، وأبو حنيفة . وكرهه مالك إلا مرة في سنة ، وأحمد في دون عشرة أيام كما تقدم في كلام ابن قدامة ، ويؤيده ما أخرجه الشافعي عن أنس رضي الله عنه أنه كان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر ، وقوله : (( حمم )) بالحاء المهملة ، أي اسود بعد الحلق
(17/114)
في الحج بنبات الشعر ، والمعنى
أنه كان لا يؤخر العمرة إلى المحرم ، بل كان يخرج إلى الميقات ، ويعتمر في ذي
الحجة ، وهكذا ذكره الجوهري ، وابن الأثير وقيد بالمهملة ( متفق عليه ) واللفظ
لمسلم . وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص229 ، 308) ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ،
والدارمي ، وابن الجارود (ص179) ، والبيهقي وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر
أحاديثهم العيني (ج10 : ص117) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 : ص280) .
2534- قوله ( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي ركبا ) بفتح الراء وسكون الكاف
جمع راكب أو اسم جمع كصاحب وصحب وهم العشرة فما فوقها من أصحاب الإبل في السفر دون
بقية الدواب ، ثم اتسع فيه فأطلق على كل جماعة ( بالروحاء ) بفتح الراء وسكون
الواو بعدها حاء مهملة ثم ألف ممدودة . قال عياض : في المشارق هي من أعمال الفرع
بينها وبين المدنية
فقال : من القوم ؟ قالوا : المسلمون ، فقالوا : من أنت ؟ قال : رسول الله . فرفعت
إليه امرأة صبيا ، فقالت : ألهذا حج ؟ قال : نعم ولك أجر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/115)
نحو أربعين ميلا ، وفي صحيح مسلم ستة وثلاثون ، وفي كتاب ابن أبي شيبة ثلاثون ميلا ، زاد في رواية أحمد وأبي داود : (( فسلم عليهم )) وكان ذلك اللقاء كما قال ابن حبان حين رجوعه من مكة إلى المدينة ففي رواية النسائي عن ابن عباس (( قال صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما كان بالروحاء لقي قوما )) الحديث . وفي رواية الشافعي في مسنده (ج1 : ص289) وكذا عند البيهقي (ج5 : ص155) من طريق الشافعي ، (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قفل ، فلما كان بالروحاء لقي ركبا )) الحديث ، وبه جزم ابن القيم في الهدي حيث قال : ثم ارتحل - صلى الله عليه وسلم - راجعا إلى المدينة فلما كان بالروحاء لقي ركبا فذكر قصة الصبي ، وقيل وقعت هذه القصة في مقدمه إلى بيت الله ، والمراد بالصدور والقفول صدوره من المدينة للحج ولا يخفى ما فيه ، وارجع إلى (( القرى )) (ص49 ، 50) ( فقال : من القوم ؟ ) بالاستفهام ( قالوا ) ، أي بعضهم ( المسلمون ) ، أي نحن المسلمون ( فقالوا : من أنت ؟ ) يعني أن الذي أجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل بعد ذلك ليعرف من يخاطب ( قال ) ، أي النبي ( رسول الله ) أي أنا رسول الله فلفظ رسول الله خبر مبتدأ محذوف . قال عياض : يحتمل أن هذا اللقاء كان ليلا فلم يعرفوه - صلى الله عليه وسلم - ، ويحتمل كونه نهارا لكنهم لم يروه - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك لعدم هجرتهم فأسلموا في بلدانهم ولم يهاجروا قبل ذلك ، وسيأتي في حديث جابر في قصة حجة الوداع أنه أذن في الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاج فقدم المدينة بشر كثير ليأتموا به ، فلعل هؤلاء ممن قدم فلم يلقوه إلا هنالك ، وفي رواية مالك في موطأه ، (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بامرأة وهي في محفتها ( بكسر الميم وفتح المهملة وتشديد الفاء - مركب للنساء كالهودج إلا أنها لا تقبب كما تقبب الهوادج ) فقيل لها (( هذا رسول الله ))
(17/116)
الحديث . قال الباجي : فقد
كانت المرأة فيمن آمن به ولم تره ولم تعرف عينه فلذلك أخبرت به ( فرفعت إليه امرأة
صبيا ) ، أي أخرجته من المحفة رافعة له على يديها ، وفي رواية أحمد وأبي داود : ((
ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي فأخرجته من محفتها )) ( فقالت : ألهذا ؟ ) ، أي يحصل
لهذا الصغير ( حج ) ، أي ثوابه ، قيل : قوله : (( حج )) فاعل الظرف لاعتماده على
الهمزة ، ويجوز أن يكون مبتدأ مؤخرا و (( لهذا )) خبر مقدم ، وفي رواية أحمد ،
وأبي داود : (( هل لهذا حج ؟ )) ( قال ) في الجواب ( نعم ) ، أي له حج ( ولك أجر )
زادها على السؤال ترغيبا لها . قال القاري : أي أجر السببية وهو تعليمه إن كان
مميزا أو أجر النيابة في الإحرام والرمي والإيقاف والحمل في الطواف والسعي إن لم
يكن مميزا ، وقال عياض : وأجرها فيما تتكلفه في أمره في ذلك وتعليمه وتجنيبه ما
يجتنب المحرم . وقال النووي : معناه : بسبب حملها وتجنيبها إياه ما يجتنبه المحرم
وفعل ما يفعله المحرم ، وقال الأمير اليماني : قوله : (( لك أجر )) ، أي بسبب
حملها وحجها به ، أو بسبب سؤالها عن ذلك الحكم ، أو بسبب الأمرين ، وفي الحديث
دليل على مشروعية الحج بالصبيان وجوازه ، ولا خلاف فيه بين العلماء
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/117)
قال الأمير اليماني : الحديث دليل على أنه يصح حج الصبي وينعقد سواء كان مميزا أم لا حيث فعل عنه وليه ما يفعل الحجاج وإلى ذلك ذهب الجمهور . واعلم أن في مسألة حج الصبي عدة أبحاث ينبغي التنبيه عليها . الأول : جواز الحج ومشروعيته بالصغار ، وإليه ذهب الجمهور منهم الأمة الأربعة . قال الزرقاني : في الحديث مشروعية الحج بالصغار وبه قالت الأمة . قال عياض : لا خلاف بين العلماء في جواز الحج بالصبيان ، وإنما منعه طائفة من أهل البدع ولا يلتفت إلى قولهم بل هو مردود بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وإجماع الأمة ، وقال الطبري : لا خلاف بي أهل العلم في جواز الحج بالصبي إلا قوما من أهل العراق منعوه وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله وإجماع الأمة يرد قولهم ، وإنما الخلاف في أنه هل ينعقد حكم الحج عليهم ؟ وفائدة الخلاف تظهر في وجوب الفدية ، فأبو حنيفة لا يلزمهم شيا إنما يجتنبون ذلك على وجه التمرين والتعليم ، وفي ما تقدم من قول عطاء : يفعل بالصغير ما يفعل بالكبير ويشهد به المناسك كلها إلا أنه لا يصلي عنه وإن شاءوا قمصوه موافقة له ، وباقي الأئمة يرون وجوب الفدية - انتهى . وقال ابن البر في التمهيد : في الحديث الحج بالصبيان الصغار واختلف العلماء في ذلك فأجازه مالك والشافعي وسائر فقهاء الحجاز من أصحابنا وغيرهم وأجازه الثوري ، وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة ، وأجازه الأوزاعي والليث فيمن سلك مسلكهما من أهل الشام ومصر وكل من ذكرناه يستحب الحج بالصبيان ويأمر به ويستحسنه ، وعلى ذلك جمهور العلماء في كل قرن . وقالت طائفة : لا يحج بالصبيان ، وهو قول لا يشتغل به ولا يعرج عليه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج بأغيلمة بني عبد المطلب وحج السلف بصبيانهم ولحديث الباب . وروينا عن أبي بكر الصديق أنه طاف بعبد الله بن الزبير في خرقة ، وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال
(17/118)
: كانوا يحبون إذا حج الصبي أن
يجردوه وأن يجنبوه عن الطيب وأن يلبي عنه إذا كان لا يحسن التلبية - انتهى . وقال
ابن حزم في المحلى (ج7 : ص276) : ونستحب الحج بالصبي وإن كان صغيرا جدا أو كبيرا
وله أجر وحج وهو تطوع وللذي يحج به أجر ، وكذلك ينبغي أن يدربوا ويعلموا الشراع من
الصلاة والصوم إذا أطاقوا ذلك - انتهى . وقال الباجي : الصبيان على ضربين : ضرب يفهم
ما يؤمر به ، وضرب يصغر عن ذلك فلا يفهم ما يؤمر به ولا ينتهي عما نهي عنه . فأما
الأول فروى ابن المواز وابن وهب عن مالك لا يحج بالرضيع ، وأما ابن أربع سنين وخمس
فنعم . وهذا إنما هو على الاستحباب ، فإن أحرم به وألزم الإحرام لزمه ، وإن كان
صغيرا جدا لا يفهم - انتهى . وقال الأبي في الإكمال : اختلف قول مالك في الحج
بالرضيع ومن لا يفهم ، وحمل أصحابنا قوله بالمنع على الكراهة ، وفي المدونة : يحج
بالصبي وإن لم يبلغ أن يتكلم ، وفي كتاب محمد : لا يحج بالرضيع ، وأما ابن أربع
فنعم اللخمي ، ولا أرى أن يحج إلا بمن يعقل القربة ، وأما الرضيع فهو كالبهيمة ،
قال وعلى هذا فلا يحج بالمجنون - انتهى . وقال ابن رشد في البداية (ج1 : ص252) :
اختلف أصحاب مالك في صحة
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/119)
وقوعه من الطفل الرضيع وينبغي أن لا يختلف في صحة وقوعه ممن يصح وقوع الصلاة منه ، وهو كما قال عليه الصلاة والسلام من السبع إلى العشر - انتهى . الثاني : هل ينعقد حجه أم لا ؟ قال النووي : في الحديث حجة للشافعي ، ومالك ، وأحمد ، وجماهير العلماء : أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزئه عن حجة الإسلام ، بل يقع تطوعا . وقال أبو حنيفة : لا يصح حجه ، قال أصحابه وإنما فعلوه تمرينا له ليعتاده فيفعله إذا بلغ . قال : وإنما خلاف أبي حنيفة في أنه هل ينعقد حجه ويجري عليه أحكام الحج ويجب فيه الفدية ودم الجبران وسائر أحكام البالغ ، فأبو حنيفة يمنع ذلك كله ويقول : إنما يجنب ذلك تمرينا على التعليم ، والجمهور يقولون يجري عليه أحكام الحج في ذلك وحجه منعقد يقع نقلا - انتهى . قلت : هكذا نقل غير واحد من شراح الحديث وأصحاب كتب الفقه الجامع مذهب الحنفية في ذلك ، منهم الحافظ في الفتح ، وابن قدامة في المغني (ج3 : ص252) ، وابن رشد في البداية (ج1: ص253) قال الحافظ : قال ابن بطال : أجمع أئمة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي حتى يبلغ إلا أنه إذا حج به كان له تطوعا عند الجمهور ، وقال أبو حنيفة : لا يصح إحرامه ولا يلزمه شيء من محظورات الإحرام ، وإنما يحج به على جهة التدريب - انتهى . والذي يظهر من كتب الفقه الحنفي المعتبرة أن قول أبي حنيفة مثل قول الجمهور يعني أن الصبي ينعقد نقلا ، وإنما خلافه في وجوب الفدية والكفارات ، ففي المبسوط : الصبي لو أحرم بنفسه وهو يعقل أو أحرم عنه أبوه صار محرما - انتهى . وفي العالمكيرية : لو أن الصبي حج قبل البلوغ لا يكون من حجة الإسلام ويكون تطوعا - انتهى . وقال في الدر المختار : لو أحرم صبي عاقل أو أحرم عنه أبوه صار محرما وينبغي أن يجرده قبله ويلبسه إزارا ورداء ، وقال القاري : في شرح اللباب ينعقد إحرام الصبي المميز للنفل لا للفرض ويصح أداءه بنفسه ولا يصح من
(17/120)
غيره في الأداء ولا الإحرام بل
يصحان من وليه له نيابة ، وهذا كله مبني على انعقاده نفلا . لكن في شرح المجمع :
وعندنا إذا أهل الصبي أو وليه لم ينعقد فرضا ولا نفلا . وفي الهداية ما يدل على
انعقاده نفلا ، ثم قال صاحب الهداية : واختلف المتأخرون فمنع بعضهم انعقاده أصلا ،
وقيل ينعقد ويكون حج تمرين واعتياد - انتهى . ويمكن الجمع بأنه لا ينعقد انعقادا
ملزما وينعقد نقلا غير ملزم لأنه غير مكلف ويتفرع عليه لو أنه لم يفعل شيا من
المأمورات أو ارتكب شيئا من المحظورات لا يجب عليه شيء من القضاء والكفارات ويقوي
ما ذكرنا في اختلاف المسائل : اختلفوا في حج الصبي ، قال أبو حنيفة : لا يصح منه .
قال يحيى بن محمد : معنى قول أبي حنيفة (( لا يصح منه )) على ما ذكره أصحابه : أنه
لا يصح صحة يتعلق بها وجوب الكفارات ، لا أنه يخرجه من ثواب الحج ، وكذا يؤيد ما
قلنا ما في الغاية من أن اعتكاف الصبي وصومه وحجه صحيح شرعي بلا خلاف - انتهى. ما
في شرح اللباب ، وقد صرح بانعقاد حجه نقلا صاحب الهداية والغنية وابن نجيم ، وابن
عابدين ، وغيرهم أيضا . وقال الطحاوي : أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
هذا الحديث ، أي الحديث الذي نحن في شرحه أن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/121)
للصبي حجا وهذا مما قد أجمع الناس جميعا عليه ولم يختلفوا أن للصبي حجا كما أن له صلاة - انتهى . وقد تبين مما ذكرنا أن حج الصبي يصح وينعقد نفلا عند الحنفية أيضا وأن خلافهم إنما هو في وجوب القضاء والكفارات ، الثالث : هل يجب عليه الجزاء والفدية والكفارة والقضاء أم لا ؟ وقد تقدم في كلام النووي من مذهب الجمهور وجوب ذلك خلافا لأبي حنيفة . وقال الزرقاني : في حديث انعقاد حج الصبي وصحة وقوعه نفلا وأنه مثاب عليه فيجتنب ما يجتنبه الكبير مما يمنعه الإحرام ويلزمه من الفدية والهدي ما يلزمه ، وبه قال الأئمة الثلاثة والجمهور خلافا لأبي حنيفة . وقال ابن عبد البر : قال مالك : ما أصاب الصبي من صيد أو لباس أو طيب فدى عنه ، وبذلك قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا جزاء عليه ولا فدية - انتهى . وقال الخطابي في المعالم (ج2 : ص281) : وفي ذلك دليل على أن حجه إذا فسد أو دخله نقص فإن جبرانه واجب عليه كالكبير ، وإن اصطاد صيدا لزمه الفداء كما يلزم الكبير . وفي وجوب هذه الغرامات عليه في ماله كما يلزمه لو أتلف مالا لإنسان فيكون غرمه في ماله أو وجوبها على وليه إذ كان هو الحامل له على الحج والنائب عنه وفي ذلك نظر وفيه اختلاف بين الفقهاء - انتهى . قلت : في وجوب الكفارة والجزاء والقضاء عند أتباع الأئمة الثلاثة تفاصيل ، اختلفوا فيها وأسقط بعهم في بعض الصور الكفارة والقضاء ، وهي مبسوطة في كتب فروعهم ، من شاء الوقوف عليها رجع إلى المغني لابن قدامة (ج2 : ص255) ، ومناسك الحج والمجموع للنووي ، والدسوقي على الشرح الكبير للدردير المالكي . وقال في شرح اللباب من فروع الحنفية : ولو أفسد أي الصبي نسكه أو ترك شيئا من أركانه وواجباته لا جزاء عليه ولا قضاء حيث شروعه ليس بملزم له لأنه غيره مكلف في فعله - انتهى . وقد وافق ابن حزم الحنفية في ذلك حيث قال في المحلى (ج7 : ص276 ، 277) : وإذا الصبي قد رفع عنه القلم فلا
(17/122)
جزاء عليه في صيد إن قتله في
الحرم أو في إحرامه ولا في حلق رأسه لأذى به عن تمتعه ولا لإحصاره لأنه غير مخاطب
بشيء من ذلك ولو لزمه هدى للزمه أن يعوض منه الصيام وهو في المتعة وحلق الرأس
وجزاء الصيد وهم لا يقولون بذلك . هذا ولا يفسد حجه بشيء مما ذكرنا إنما هو ما عمل
، أو عمل به أجر وما لم يعمل فلا إثم عليه - انتهى . قلت : واستدل الحنفية بالحديث
المشهور بين الفقهاء وأئمة الحديث (( رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتى يبلغ ))
الحديث أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، والحاكم ، وابن حبان من
حديث عائشة . وأحمد وأبو داود ، والنسائي ، والدارقطني ، والحاكم ، وابن خزيمة ،
وابن حبان من حديث علي . والطبراني بسنده عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - : ثوبان ، ومالك بن شداد وغيرهما . قال الحافظ : الرفع مجاز عن
عدم التكليف لأنه يكتب لهم فعل الخير قاله ابن حبان : قلت : والراجح عندنا هو ما
ذهب إليه الحنفية وابن حزم ، لأنه لا نص لمن ذهب إلى خلاف ذلك ولا حجة لهم فيما
قالوه ، هذا ما عندي والعلم عند الله تعالى . والرابع : هل يثاب الصبي على حسناته
من الصلاة والصوم
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/123)
والحج وغيرها ؟ قال العيني : استدل بالحديث بعضهم على أن الصبي يثاب على طاعته ويكتب له حسناته وهو قول أكثر أهل العلم ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب فيما حكاه المحب الطبري وحكاه النووي في شرح مسلم عن مالك ، والشافعي ، وأحمد والجمهور - انتهى . وقال الخطابي : إنما كان للصبي الحج من ناحية الفضيلة من دون أن يكون محسوبا عن فرضه لو بقي حتى يبلغ ويدرك مدرك الرجال ، وهذا كالصلاة يؤمر بها إذا أطاقها وهي غير واجبة عليه وجوب فرض ، ولكن يكتب له أجرها تفضلا من الله ، ويكتب لمن يأمره بها ويرشده إليها أجر . فإذا كان له حج فقد علم أن من سنته أن يوقف به في الموقف ويطاف به حول البيت محمولا إن لم يطق المشي ، وكذلك السعي بين الصفا والمروة ونحوه من أعمال الحج - انتهى . وقال الطبري : قد قال كثير من أهل العلم إن الصبي يثاب على طاعته وتكتب له حسناته دون سيئاته ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وقد تقدم ما يدل عليه في باب تسمية الحج جهادا ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : جهاد الكبير والصغير والمرأة : الحج والعمرة . أخرجه النسائي . قال : ففيه دلالة على أن ثواب عبادة الصغير لنفسه ، ثم إن كان الصبي يعقل عقل مثله أحرم بنفسه ، وإن لم يعقل أحرم عنه . وفي التمهيد : قال أبو عمر : فإن قيل : فما معنى الحج بالصغير وهو عندكم غير مجزئ عنه من حجة الإسلام وليس ممن تجري الأقلام له وعليه ؟ قيل : أما جري القلم له بالعمل الصالح فغير منكر أن تكتب للصبي درجة وحسنة في الآخرة بصلاته وزكاته وحجه وسائر أعمال البر التي يعملها على سنتها تفضلا من الله عز وجل كما تفضل على الميت بأن يؤجر لصدقة الحي عنه ويلحقه ثواب ما لم يقصده ولم يعمله مثل الدعاء والصلاة عليه ونحو ذلك . ألا ترى أنهم أجمعوا على أن الصبي إذا عقل الصلاة يصلي ، وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنس واليتيم معه وأكثر السلف على إيجاب الزكاة في أموال اليتامى
(17/124)
ويستحيل أن لا يؤجروا على ذلك
، وللذي يقوم بذلك عنهم أجر كما للذي يحجهم أجر فضلا من الله عز وجل ونعمة ، فلا
شيء يحرم الصغير التعرض لفضل الله ، وقد روي عن عمر بن الخطاب معنى ما ذكرنا ، ولا
مخالف له أعلمه ممن يجب إتباع قوله ، ثم ذكر بسنده إلى عمر قال : تكتب للصغير
حسناته ولا تكتب عليه سيئاته - انتهى . وقال ابن حزم في المحلى (ج7 : ص276) :
والله تعالى يتفضل بأن يأجرهم ولا يكتب عليهم إثما حتى يبلغوا ، فإن قيل : لا نية
للصبي ، قلنا : نعم ولا تلزمه ، إنما تلزم النية المخاطب المأمور المكلف والصبي
ليس مخاطبا ولا مكلفا ، وإنما أجره تفضل من الله تعالى مجرد عليه كما يتفضل على
الميت بعد موته ولا نية له ولا عمل بأن يأجره بدعاء ابنه له بعد موته وبما يعمله
غيره عنه من حج أو صيام أو صدقة ولا فرق ، ويفعل الله ما يشاء - انتهى . وفي شرح
اللباب : اتفقت الأئمة الأربعة على أن الصبي يثاب على طاعته وتكتب له حسناته سواء
كان مميزا أو غير مميز ، لكن اختلف أصحابنا هل تكون حسناته له دون أبويه أو يكون
الأجر لوالديه من غير أن ينقص من أجر الولد شيء ؟ ففي قاضي خان : قال أبو بكر
الإسكاف : حسناته تكون له دون أبويه ، وإنما يكون للوالد من ذلك
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/125)
أجر التعليم والإرشاد إذا فعل ذلك . وفي الغاية : أن اعتكاف الصبي وصومه وحجه صحيح شرعي بلا خلاف وأجره له دون أبويه - انتهى . وقال بعضهم : تكون حسناته لأبويه أيضا بناء على التسبب ، والأحاديث تدل عليه فقد روي عن أنس أنه قال : من جملة ما ينتفع به المرء بعد موته إن ترك ولدا تعلم القرآن والعلم فيكون لوالده أجر ذلك من غير أن ينقص من أجر الولد شيء - انتهى . الخامس : هل يجزئ الصبي عن حجة الإسلام ، أي الحجة الفريضة ؟ قال العيني : وفي أحكام ابن بزيزة : أما الصبي فاختلف القائلون بانعقاد حجه هل يجزيه عن حجة الفريضة ؟ فقال داود وغيره يجزيه وقال مالك ، والشافعي وغيرهما لا يجزيه ، وقال ابن البر في التمهيد : اختلف العلماء أيضا هل يجزئه عن حجة الإسلام فالذي عليه فقهاء الأمصار الذين قدمنا ذكرهم في هذا الباب أن ذلك لا يجزيه ، وذكر أبو جعفر الطحاوي في معاني الآثار حديث الباب ثم قال : فذهب قوم إلى أن الصبي إذا حج قبل بلوغه أجزأه عن حجة الإسلام ، واحتجوا بهذا الحديث وخالفهم آخرون فقالوا : لا يجزيه عن حجة الإسلام ، وعليه بعد بلوغه حجة أخرى ، وكان لهم من الحجة على أهل المقالة الأولى أن في هذا الحديث أن للصبي حجا ، وهذا مما قد أجمع الناس عليه ، ولم يختلفوا في أن للصبي حجا وليس ذلك عليه بفريضة ومن جهة القياس فكما له صلاة وليست بفريضة فكذلك قد يجوز أن يكون له حج وليس بفريضة ، وإنما هذا الحديث حجة على من زعم أنه لا حج له ، وأما من يقول إن له حجا وأنه غير فريضة فلم يخالف شيئا من هذا الحديث ، وهذا ابن عباس هو الذي روى هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قد صرف حج الصبي إلى غير الفريضة ثم ذكر ابن عبد البر بسند الطحاوي قول ابن عباس بلفظ : أيما غلام حج به أهله فمات فقد قضى حجة الإسلام وإن أدرك فعليه الحج . قال أبو عمر : على هذا جماعة فقهاء الأمصار وأئمة الأثر . وقال الشوكاني : وشذ
(17/126)
بعضهم فقال : إذا حج الصبي
أجزاه ذلك عن حجة الإسلام لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( نعم )) في جواب
قوله : (( ألهذا حج ؟ )) وقال الطحاوي : لا حجة في قوله - صلى الله عليه وسلم - :
(( نعم )) على أنه يجزيه عن حجة الإسلام بل فيه حجة على من زعم أنه لا حج له . قال
لأن ابن عباس راوى الحديث قال أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى ، ثم
ساقه بإسناد صحيح وقد أخرج هذا الحديث مرفوعا الحاكم (ج1: ص481) وقال : صحيح على
شرطهما ، والبيهقي (ج5 : ص156) ، وابن حزم (ج7 : ص44) وصححه . وقال ابن خزيمة :
الصحيح موقوف ، وأخرجه كذلك ، قال البيهقي : تفرد برفعه محمد بن المنهال . ورواه
الثوري عن شعبة موقوفا ولكنه قد تابع محمد بن المنهال على رفعه الحارث بن شريح ،
أخرجه كذلك الإسماعيلي والخطيب ، ويؤيد صحة رفعه ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس
: قال احفظوا عني ولا تقولوا . قال ابن عباس فذكره . وهو ظاهر في الرفع وقد أخرج
ابن عدي من حديث جابر بلفظ (( لو حج صغير حجة لكان عليه حجة أخرى )) ومثل هذا حديث
محمد بن كعب القرظي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أيما صبي حج به أهله
فمات أجزأت عنه ، فإن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/127)
أدرك فعليه الحج - الحديث ، أورده صاحب المنتقي وقال : ذكره أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله هكذا مرسلا . قال صاحب الفتح الرباني : لم أقف على هذا الحديث في المسند ، ولعله في كتاب آخر من كتب الإمام أحمد ، ولا سيما لم يعزه صاحب المنتقي إلى المسند ، قال الشوكاني : وأخرجه أبو داود في المراسيل ، وفيه راو لم يسم . قلت : وأخرجه أيضا ابن حزم في المحلى (ج7 : ص44) ، وقال : هو مرسل وعن شيخ لا يدري اسمه ولا من هو ؟ قال الشوكاني : فيؤخذ من مجموع هذه الأحاديث أنه يصح حجه ولا يجزئه عن حجة الإسلام إذا بلغ وهذا هو الظاهر فيتعين المصير إليه . قال القاضي عياض : أجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن فريضة الإسلام إلا فرقة شذت فقالت يجزئه لقوله نعم ، وظاهره استقامة كون حج الصبي مطلقا ، والحج إذا أطلق تبادر منه إسقاط الواجب . ولكن العلماء ذهبوا إلى خلافه محتجين بحديث ابن عباس المذكور يعني الذي رواه الحاكم ، والطحاوي ، والبيهقي وابن حزم ، وغيرهم . السادس : فيمن يحرم عن الصبي ، واختلفوا فيه أيضا ، والحديث دليل على أن الأم يجوز لها أن تحرم عنه ، خلافا للشافعية . قال الطبري : واختلف أصحابنا في من يحرم عنه ، فأكثرهم ذهب إلى أن ذلك منوط بالولاية في ماله ، فمن ثبت له الولاية فيه أحرم عنه ، والمعنى بالإحرام عنه أنه ينوي بقلبه أنه جعله محرما ، وذهب بعضهم إلى أن أمه مقدمة في ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ولك أجر )) والأولون يحملون ذلك على ما ذكرناه من أن معناه ، أي فيما تتكلفين من أمره بالحج وتعليمه إياه والقيام بأمره - انتهى . وقال النووي : في شرح مسلم أما الولي الذي يحرم عن الصبي فالصحيح عند أصحابنا أنه الذي يلي ماله وهو أبوه أو جده أو الوصي أو القيم من جهة القاضي أو القاضي أو الإمام ، وأما الأم فلا يصح إحرامها عنه إلا أن تكون وصية أو قيمة من جهة القاضي ، وقيل : إنه يصح إحرامها وإحرام
(17/128)
العصبة وإن لم يكن لهم ولاية
المال ، وهذا كله إن كان صغيرا لا يميز ، فإن كان مميزا أذن له الولي فأحرم ، فلو
أحرم بغير إذن الولي أو أحرم الولي عنه لم ينعقد على الأصح ، وصفة إحرام الولي من
غير المميز أن يقول بقلبه : (( جعلته محرما )) - انتهى . وقال في مناسكه : إن كان
مميزا أحرم بإذن وليه ، فإن أحرم بغير إذنه لم يصح على الأصح ولو أحرم عنه وليه صح
على الأصح ، فإن لم يكن مميزا أحرم عنه وليه وهو الأب وكذا الجد عند عدم الأب ،
ولا يتولاه عند وجوده ، والوصي والقيم كالأب على الصحيح ، ولا يتولاه الأخ والعم
والأم على الأصح إذا لم يكن له وصية ولا ولاية من الحاكم . قال ابن حجر : قوله :
(( وهو الأب )) ويشرط في الأب كما قاله الأذرعي شروط ولاية المال من العدالة
وغيرها ، فإن انتفى عنه بعضها انتقلت إلى الجد ، وقوله : (( عند عدم الأب )) ، أي
أو وجوده لا بصفة الولاية ، قوله : (( والأم )) اعترض بما في مسلم (( أن امرأة
رفعت صبيا )) الحديث . ورد بأنه ليس في الحديث أنها أحرمت عنه ، وبتقديره يحتمل
كونها وصية أو قيمة ، أو أن الأجر الحاصل إنما هو أجر الحمل والنفقة - انتهى .
وقال الشيخ ولي الدين : لا يصح الاستدلال بهذا الحديث على صحة الإحرام عنه مطلقا
لاحتمال أن هذا الصبي كان مميزا فأحرم هو عن نفسه ، وعلى تقدير أنه لم يميز فلعل
له وليا
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/129)
أحرم عنه ، وعلى تقدير أنها التي أحرمت فلعلها ولية مال - انتهى . وقال ابن قدامة (ج3 : ص253) : إن كان مميزا أحرم بإذن وليه ، وإن أحرم بدون إذنه لم يصح ، لأن هذا عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد من الصبي بنفسه كالبيع ، وإن كان غير مميز فأحرم عنه من له ولاية على ماله كالأب والوصي وأمين الحاكم صح ، قال : فإن أحرمت أمه عنه صح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( ولك أجر )) ولا يضاف الأجر إليها إلا لكونه تبعا لها في الإحرام . وقال الإمام أحمد : في رواية حنبل : يحرم عنه أبوه أو وليه ، واختاره ابن عقيل ، وقال : المال الذي يلزم بالإحرام لا يلزم الصبي وإنما يلزم من أدخله في الإحرام في أحد الوجهين . وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنه لا يحرم عنه إلا وليه لأنه لا ولاية للأم على ماله ، والإحرام يتعلق به إلزام مال فلا يصح من غير ذي ولاية ، أما غير الأم والولي من الأقارب كالأخ والعم وابنه فيخرج فيهم وجهان بناء على القول في الأم ، أما الأجانب فلا يصح إحرامهم عنه وجها واحدا - انتهى . وقال الدردير : يحرم ولي أب أو غيره عن رضيع قرب الحرم ، أي مكة لا من الميقات للمشقة ، ويحرم الصبي المميز وهو الذي يفهم الخطاب ويحسن رد الجواب بإذن الولي من الميقات ، وألا يحرم بإذنه بل بغيره فله تحليله إن رآه مصلحة ولا قضاء عليه إذا حلله . قال الدسوقي : قوله : أب أو غيره كوصي ومقدم وقاض ، وأم وعاصب وإن لم يكن لهم نظر في المال كما نقله الأبي في شرح مسلم وأقره ، وخلافا للشافعية حيث قالوا : الولي الذي يحرم عنه إنما هو الولي الذي له النظر في المال ، وقوله (( عن رضيع )) المراد به الصغير المميز - انتهى . وقال في شرح اللباب : ينعقد إحرام الصبي المميز للنقل ويصح أداؤه بنفسه دون غيره ولا يصح من غير الميز في الأداء ولا الإحرام بل يصحان من وليه فيحرم عنه من كان أقرب إليه في النسب فلو اجتمع أخ أو والد يحرم له الوالد على
(17/130)
ما في فتاوى قاضي خان ،
والظاهر أنه شرط الأولوية - انتهى . وفي الغنية : ينعقد إحرام الصبي المميز للنقل
إذا أحرم بنفسه ، وكذا غير المميز إذا أحرم عنه وليه ، فالمميز لا يصح النيابة عنه
في الإحرام ولا في أداء الأفعال إلا فيما لم يقدر عليه فيحرم بنفسه ويقضي المناسك
كلها بنفسه ويفعل كما يفعل البالغ ، وأما غير المميز فلا يصح أن يحرم بنفسه لأنه
لا يعقل النية ولا يقدر التلفظ بالتلبية ، وهما شرطان في الإحرام فيحرم له وليه
والأقرب أولى - انتهى . قال ابن عابدين : المراد من كان أقرب إليه بالنسب ، فلو
اجتمع والد وأخ يحرم له الوالد كما في الخانية ، والظاهر أنه شرط الأولوية - انتهى
. السابع : إذا أحرم الصبي فبلغ قبل الوقوف بعرفة ماذا يفعل وهل يجزئه عن حجة
الإسلام ؟ قال ابن عبد البر : في التمهيد اختلف الفقهاء في المراهق والعبد يحرمان
بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة ، فقال مالك وأصحابه : لا سبيل إلى
رفض الإحرام لهذين ولا لأحد ويتماديان على إحرامهما ولا يجزيهما حجهما ذلك عن حجة
الإسلام . وقال أبو حنيفة : إن جدد الصبي إحراما بعد ما بلغ أجزأه ، وقال الشافعي
: إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه عن حجة الإسلام ،
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/131)
وكذلك العبد إذا أحرم ثم عتق قبل الوقوف فوقف بها محرما أجزأه عن حجة الإسلام ولم يحتج إلى تجديد إحرام واحد منهما - انتهى . وقال النووي في مناسكه : إذا بلغ الصبي بعد خروج الوقت للوقوف أو قبل خروجه وبعد مفارقة عرفات ولم يعد إليها بعد البلوغ لم يجز عن حجة الإسلام وإن بلغ في حال الوقوف أو بعده فعاد ووقف في الوقت أجزأه عن حجة الإسلام - انتهى . وقال ابن قدامة : في المغني (ج3 : ص248) : أجمع أهل العلم إلا من شذ عنهم ممن لا يعتد بخلافه على أن الصبي إذا حج في صغره والعبد إذا حج في رقه ثم بلغ أو عتق أن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليها سبيلا . كذلك قال ابن عباس ، وعطاء ، والحسن والنخعي ، والثوري ، ومالك ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور وأصحاب الرأي . قال الترمذي : وقد أجمع أهل العلم عليه . وقال الإمام أحمد عن محمد بن كعب القرظي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين عهدا ، أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه ، فإن أدرك فعليه الحج ، وأيما مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه ، فإن عتق فعليه الحج . رواه سعيد بن منصور في سننه ، والشافعي في مسنده عن ابن عباس من قوله ، فإن بلغ الصبي أو عتق العبد بعرفة أو قبلها غير محرمين فأحرما ووقفا بعرفة وأتما المناسك ، أجزأهما عن حجة الإسلام ، لا نعلم فيه خلافا لأنه لم يفتهما شيء من أركان الحج ، ولا فعلا شيئا منها قبل وجوبه ، وإن كان البلوغ والعتق وهما محرمان أجزأهما أيضا عن حجة الإسلام ، وكذلك قال ابن عباس ، وهو مذهب الشافعي ، وإسحاق . وقاله الحسن في العبد . وقال مالك لا يجزئهما ، اختاره ابن المنذر . وقال أصحاب الرأي : لا يجزئ العبد ، فأما الصبي فإن جدد إحراما بعد أن احتلم قبل الوقوف أجزأه وإلا فلا لأن إحرامهما لم ينعقد واجبا فلا يجزي عن الواجب كما لو بقيا على حالهما . قال ابن قدامة : ولنا أنه أدرك الوقوف حرا
(17/132)
بالغا فأجزأه كما لو أحرم تلك
الساعة ، قال أحمد : قال طاوس عن ابن عباس : إذا عتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته ،
فإن عتق بجمع لم تجزئ عنه ، وهؤلاء يقولون : لا تجزئ ، ومالك يقوله أيضا ، والحكم
فيما إذا أعتق العبد وبلغ الصبي بعد خروجهما من عرفة فعادا إليها قبل طلوع الفجر
ليلة النحر كالحكم فيما إذا كان ذلك فيها لأنهما قد أدركا من الوقت ما يجزئ ، ولو
كان لحظة ، وإن لم يعود أو كان ذلك قبل طلوع الفجر من يوم النحر لم يجزئهما عن حجة
الإسلام ويتمان حجهما تطوعا لفوات الوقوف المفروض ولا دم عليها لأنهما حجا تطوعا
بإحرام صحيح من الميقات فأشبها البالغ الذي يحج تطوعا ، وإذا بلغ الصبي أو عتق
العبد قبل الوقوف أو في وقته وأمكنهما الإتيان بالحج لزمهما ذلك لأن الحج واجب على
الفور فلا يجوز تأخيره مع إمكانه كالبالغ الحر ، وإن فاتهما الحج لزمتهما العمرة
لأنها واجبة أمكن فعلها فأشبهت الحج ، ومتى أمكنهما ذلك فلم يفعلا استقر الوجوب
عليهما سواء كانا معسرين أو موسرين لأن ذلك وجب عليهما بإمكانه في موضعه فلم يسقط
بفوات القدرة بعده - انتهى . وقال في الهداية : إذا بلغ الصبي بعد ما أحرم أو أعتق
العبد فمضيا لم يجزهما
رواه مسلم .
2535- (7) وعنه قال :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/133)
عن حجة الإسلام لأن إحرامهما انعقد لأداء النفل فلا ينقلب لأداء الفرض ، ولو جدد الصبي الإحرام قبل الوقوف ونوى حجة الإسلام جاز ، والعبد لو فعل ذلك لم يجز لأن إحرام الصبي غير لازم لعدم الأهلية ، وأما إحرام العبد فلازم فلا يمكنه الخروج منه بالشروع في غيره - انتهى . ويتضح وجه الفرق بين الصبي والعبد عند الحنفية إذ يكفي تجديد الأول إحرامه دون الثاني بما ذكره القاري حيث قال لا يجب الحج على صبي فلو حج فهو نفل لا فرض لكونه غير مكلف فلو أحرم ثم بلغ فلو جدد إحرامه يقع عن فرضه وإلا لا ، وإنما جوز له التجديد لكون شروعه غير ملزم ، بخلاف العبد البالغ إذا عتق ، فإنه ليس له أن يجدد إحرامه بالفرض للزوم الإحرام الأول في حقه بشروعه فليس له أن يخرج عنه إلا بأدائه - انتهى . هذا واختلفت الحنفية في صحة تجديد الإحرام بعد الوقوف فذهب بعضهم إلى أنه معتبر وقال بعضهم لا يعتبر لأن بالوقوف ولو لحظة تم حج النفل ولا يصح في سنة حجتان إجماعا . ( رواه مسلم ) هو من إفراد مسلم ، لم يخرجه البخاري في صحيحه ، ومن عزاه إليهما كابن رشد في البداية ومحب الدين الطبري في القرى فقد سها ، وقد أخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص219) ، والشافعي وأبو داود والنسائي والحاكم (ج1 : ص484) ، وابن الجارود (ص147) ، والبيهقي (ج5 : ص155 ، 156) وأخرجه مالك مرسلا . وفي الباب عن جابر أخرجه أحمد ، وابن ماجة ، وابن أبي شيبة ، وعن السائب بن يزيد أخرجه أحمد والبخاري والترمذي . وعن عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال (( بعثني أو قدمني النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثقل من جمع بليل )) أخرجه البخاري . ووجه دخول هذا الحديث في الباب أن ابن عباس كان دون البلوغ إذ ذاك .
(17/134)
2535- قوله ( وعنه ) ، أي عن
ابن عباس ، كذا قال مالك وأكثر الرواة عن الزهري عن سليمان عند الشيخين وغيرهما أن
الحديث من مسند عبد الله بن عباس ، وخالفهم ابن جريج عن الزهري في الصحيحين أيضا
فقال عن ابن عباس عن الفضل أن امرأة فذكره فجعله من مسند الفضل ، وتابعه معمر ،
وروى ابن ماجة من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس أخبرني حصين بن عوف
الخثعمي ، قال : قلت : يا رسول الله إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع أن يحج - الحديث
. قال الترمذي : سألت محمدا يعني البخاري عن هذا فقال أصح شيء فيه ما روي عن ابن
عباس عن الفضل . قال محمد : ويحتمل أن يكون ابن عباس سمعه من الفضل ومن غيره ثم
رواه بغير واسطة - انتهى . قال الحافظ : وإنما رجح البخاري الرواية عن الفضل لأنه
كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ وكان عبد الله بن عباس قد تقدم من
المزدلفة إلى منى مع الضعفة ، وأخرج البخاري في باب التلبيلة والتكبير من طريق
عطاء عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أردف الفضل فأخبر الفضل أنه لم
إن امرأة من خثعم ، قالت : يا رسول الله ! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت
أبي شيخا كبيرا ، لا يثبت على الراحلة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/135)
يزل يلبي حتى رمى الجمرة . فكان الفضل حدث أخاه بما شاهده في تلك الحالة ، ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة فحضره ابن عباس فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة ، وتارة عما شاهده ويؤيد ذلك ما وقع عند الترمذي وأحمد (ج1 : ص75 ، 76) ، وابنه عبد الله (ج1 : ص76) ، والطبري من حديث علي مما يدل على أن السؤال المذكور وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي ، وأن العباس كان شاهدا ، ولفظ أحمد من طريق عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال : وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فقال : هذا الموقف وعرفة كلها موقف , فذكر الحديث ، وفيه (( ثم أتى المنحر فقال هذا المنحر ومنى كلها )) ، قال : (( واستفتته )) ، وفي رواية ابنه عبد الله : ثم جاءته امرأة شابة من خثعم فقالت : إن أبي شيخ كبير قد أفند وقد أدركته فريضة الله في الحج ، أفيجزئ عنه أن أؤدي عنه ؟ قال : نعم فأدي عن أبيك . قال : وقد لوى عنق الفضل ، فقال العباس : يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك ؟ قال : رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان . وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك ، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضا كان معه - انتهى . ( إن امرأة ) قال الحافظ : لم تسم ( من خثعم ) قال القسطلاني : بفتح الخاء المعجمة وسكون المثلثة وفتح العين المهملة غير مصروف للعلمية والتأنيث باعتبار القبيلة لا العلمية ووزن الفعل ، وهي قبيلة مشهورة ، أي من اليمن . وقال السندي : غير منصرف للعلمية ووزن الفعل أو التأنيث لكونه اسم قبيلة . وقال القاري : أو قبيلة من اليمن سموا به ، ويجوز صرفه ومنعه . قال الزرقاني : قبيلة مشهورة سميت باسم جدها واسمه : أفتل بن أنمار . قال الكلبي : إنما سمي خثعم بجمل يقال له : خثعم ، ويقال أنه لما تحالف ولد أفتل على إخوته نحروا بعيرا ثم تخثعموا بدمه ، أي تلطخوا به بلغتهم ( إن فريضة الله على عباده في الحج ) ، أي في أمره وشأنه
(17/136)
، ويمكن في بمعنى من للبيانية
قاله القاري . ( أدركت ) ، أي الفريضة ( أبي ) لم يسم أيضا وهو مفعول ( شيخنا )
حال ( كبيرا ) نعت له ، قال السندي : قوله (( أدركت أبي شيخنا كبيرا )) إلخ ، يفيد
أن افتراض الحج لا يشترط له القدرة على السفر وقد قرر - صلى الله عليه وسلم - ذلك
فهو يؤيد أن الاستطاعة المعتبرة في افتراض الحج ليست بالبدن ، وإنما هي بالزاد
والراحلة ، والله تعالى أعلم . ( لا يثبت على الراحلة ) نعت آخر ويحتمل أن يكون
حالا أيضا ويكون من الأحوال المتداخلة أو شيخا بدل لكونه موصوفا ، أي وجب عليه
الحج بأن أسلم وهو شيخ كبير وله المال أو حصل له المال في هذه الحالة ، والأول
أوجه . قال الطيبي : وفي رواية : (( لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره )) وفي
رواية : (( لا يستمسك على الرحل )) وفي رواية من الزيادة : (( إن شددته خشيت أن
يموت )) ، وحديث أبي هريرة عند ابن خزيمة بلفظ : (( وإن شددت بالحبل على الراحلة
خشيت أن أقتله )) قال الحافظ : وهذا يفهم منه على أن من قدر على هذين الأمرين من
الثبوت على الراحلة أو الأمن عليه من
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/137)
الأذى لو ربط لم يرخص له في الحج عنه كمن يقدر على محمل موطأ كالمحفة . وقال الأمير اليماني : ظاهر الحديث مع الزيادة المذكورة أنه لا بد في صحة التحجيج عنه من الأمرين عدم ثباته على الراحلة والخشية من الضرر عليه من شده فمن لا يضره الشد كالذي يقدر على المحفة لا يجزئه حج الغير إلا أنه ادعى في البحر الإجماع على أن الصحة وهي التي يستمسك معها قاعدا شرط بالإجماع فإن صح الإجماع فذاك وإلا فالدليل مع من ذكرنا - انتهى . وهذا وقد اختلف هل المسئول عنه رجل أو امرأة كما وقع الاختلاف في الروايات في السائل ففي بعض الروايات أنه امرأة ، وفي بعضها أنه رجل ، وقد بسط ذلك في الفتح (ج7 : ص221) ، وفي باب حج المرأة عن الرجل فقال : اتفقت الروايات كلها عن ابن شهاب عن سليمان على أن السائلة كانت امرأة ، وأنها سألت عن أبيها ، وخالفه يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان فاتفق الرواة على أن السائل رجل . ثم اختلفوا عليه في إسناده ومتنه فذكر الاختلاف في الإسناد ثم قال : وأما المتن فقال هشيم عن يحيى عن سليمان : أن رجلا سأل فقال : إن أبي مات ، وقال ابن سيرين عنه فجاء رجل فقال : إن أمي عجوز كبيرة ، وقال ابن علية عنه فجاء رجل فقال : إن أبي أو أمي ، وخالف الجميع معمر عن يحي فقال : إن امرأة سألت عن أمها . وهذا الاختلاف كله عن سليمان بن يسار فأحببنا أن ننظر في سياق غيره ، فإذا كريب قد رواه عن ابن عباس عن حصين بن عوف الخثعمي ، قال قلت : يا رسول الله إن أبي أدركه الحج . وإذا عطاء الخراساني روى عن أبي الغوث بن حصين الخثعمي أنه استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حجة كانت على أبيه . أخرجهما ابن ماجة ، والرواية الأولى أقوى إسنادا ، وهذا يوافق رواية هشيم في أن السائل عن ذلك رجل سأل عن أبيه ويوافقه ما روى الطبراني من طريق عبد الله بن شداد عن الفضل بن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير ، ويوافقهما مرسل الحسن عند
(17/138)
ابن خزيمة وقد جمع بعض العلماء
وهو الحافظ زين الدين العراقي شيخ الحافظ والعيني بين هذه الروايات بتعدد القضية
إذ قال : إن السؤال وقع مرات : مرة من امرأة عن أبيها ومرة من امرأة عن أمها ،
ومرة من رجل عن أبيه ومرة في السؤال عن الشيخ الكبير ، ومرة في الحج عن الميت لكن
قال الحافظ : والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق أن السائل رجل وكانت ابنته معه
فسألت أيضا والمسئول عنه أبو الرجل وأمه جميعا ، ويقرب ذلك ما رواه أبو يعلي
بإسناد قوى من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل بن عباس ، قال : كنت ردف
النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعرابي معه بنت له حسناء ، فجعل الأعرابي يعرضها
لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يتزوجها وجعلت ألتفت إليها ويأخذ النبي
- صلى الله عليه وسلم - برأسي فيلويه ، فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة . فعلى هذا
فقول الشابة : (( إن أبي )) لعلها لأرادت به جدها ، لأن أباها كان معها ، وكأنه
أمرها أن تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسمع كلامها ويراها رجاء أن يتزوجها
، فلما لم يرضها سأل أبوها عن أبيه ، ولا مانع أن يسأل عن أمه ، وتحصل من هذا الروايات
أن اسم الرجل حصين بن عوف الخثعمي ، وأما ما وقع في الرواية الأخرى أنه أبو الغوث
بن
أفأحج عنه ؟ قال : نعم . وذلك في حجة الوداع .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/139)
حصين ، فإن إسنادها ضعيف ، ولعله كان فيه عن أبي الغوث حصين فزيد في الرواية ابن أو أن أبا الغوث كان مع أبيه حصين فسأل كما سأل أبوه وأخته والله أعلم - انتهى . وقيل : الأحسن في الجمع بين ذلك أن يقال : إن البنت المذكورة في رواية أبي يعلى كانت مع عم لها لا مع أبيها ، فإن التجوز في رواية أبي يعلى من لفظ : (( معه بنت له )) أهون من التجوز في جميع الروايات المختلفة الواردة بلفظ : (( إن أبي شيخ كبير )) فالابنة سألت عن أبيها ، والعم سأل عن أبيه ، وأيضا على ما أفاد الحافظ لم يبق الحاجة إلى سؤاله عن أبيه بعد ما سألت هي عنه ( أفأحج عنه ) ، أي أيجوز لي أن أنوب عنه فأحج عنه لأن ما بعد الفاء الداخلة عليها الهمزة معطوف على مقدر ، والمعنى : أيصح مني أن أكون نائبة عنه في الحج فأحج عنه ( قال : نعم ) وعند أحمد (ج1 : ص212) (( فحجي عن أبيك )) ( وذلك ) أي جميع ما ذكر جرى ( في حج الوداع ) بمنى ، الوداع بفتح الواو وقيل بكسرها سميت بذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - ودع الناس فيها ولم يحج بعد الهجرة غيرها ، وكانت في سنة عشر من الهجرة وفي الحديث دليل على جواز حج المرأة عن الرجل وبالعكس ، وذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز حج المرأة عن الرجل ، قالوا : لأن المرأة تلبس في الإحرام ما لا يلبسه الرجل فلا يحج عنه إلا رجل مثله . وحديث الباب يرد هذا القول . قال ابن بطال : لا خلاف في جواز حج الرجل عن المرأة و المرأة عن الرجل ، ولم يخالف في جواز حج الرجل عن المرأة ، والمرأة عن الرجل إلا الحسن بن صالح - انتهى . وقال ابن قدامة في المغني (ج3 : ص233) : يجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة ، والمرأة عن الرجل و المرأة في الحج في قول عامة أهل العلم ، لا نعلم فيه مخالفا إلا الحسن بن صالح ، فإنه كره حج المرأة عن الرجل ، قال ابن المنذر : هذه غفلة عن ظاهر السنة ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المرأة أن تحج عن أبيها ،
(17/140)
وعليه يعتمد من أجاز حج المرأ
عن غيره . وفي الباب حديث أبي رزين ( يعني الذي يأتي في الفصل الثاني ) أحاديث
سواه - انتهى . وفيه دليل على وجوب الحج على العاجز الذي يجد الاستطاعة بالغير ،
قال الخطابي : فيه دليل على أن فرض الحج يلزم من استفاد مالا في حال كبره وزمانته
إذا كان قادرا به على أن يأمر غيره في حج عنه كما لو قدر على ذلك بنفسه - انتهى .
قلت : واختلف العلماء فيه قال ابن رشد : أما وجوبه باستطاعة النيابة مع العجز عن
المباشرة فعند مالك وأبي حنيفة لا تلزم ، وعند الشافعي تلزم ، فيلزم على مذهبه
الذي عنده مال بقدر أن يحج به عنه غيره إذا لم يقدره هو ببدنه أن يحج عنه غيره ،
وهى المسألة التي يعرفونها بالمعضوب وهو الذي لا يثبت على الراحلة - انتهى . وقال
ابن قدامة (ج3 : ص227) : من وجدت فيه شرائط وجوب الحج وكان عاجزا عنه لمانع مأيوس
من زواله كزمانة أو مرض لا يرجى زواله والشيخ الفاني متى وجد من ينوب عنه في الحج
ومالا يستنيبه به لزمه الحج ، وبهذا قال أبو حنيفة ، والشافعي
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/141)
وقال مالك : لا حج عليه إلا أن يستطيع بنفسه لأنه تعالى قال : ? من استطاع إليه سبيلا ? ( - 3 : 91 ) وهذا غير مستطيع ، ولنا حديث أبي رزين وحديث ابن عباس في المرأة الخثعمية . وسئل علي رضي الله عنه عن شيخ لا يجد الاستطاعة قال : يجهز عنه - انتهى . وقال الخطابي : استدل الشافعي بخبر الخثعمية على وجوب الحج على المعضوب الزمن إذا وجد من يبذل له طاعته من ولده وولد ولده . ووجه ما استدل به من هذا الحديث أنها ذكرت وجوب فرض الحج على أبيها في حال الزمانة ولا بد من تعلق وجوبه بأحد أمور إما بمال أو بقوة بدن أو وجود طاعة من ذي قوة ، وقد علمنا عجزه ببدنه ولم يجز للمال ذكر وإنما جرى الذكر لطاعتها وبذلها نفسها عنه فدل على أن الوجوب تعلق به ، ومعلوم في اللسان أن يقال : فلان مستطيع لأن يبني داره إذا كان يجد من يطيعه في ابتنائها كما إذا وجد مالا ينفقه في بنائها وكما لو قدر عليه بنفسه - انتهى . قال صاحب القرى : ولقائل أن يقول : استفسارها عن جواز الحج عنه وقع بعد إخبارها بإدراك الفرض له ، فدل على تعلق الوجوب بأمر آخر غير الطواعية ، فإن من لم يعلم جواز حجه عن أبيه لا يعلم وجوب الحج على أبيه بطواعيته وهذا ظاهر لمن تأمله ، وليس ذلك الأمر الآخر إلا المال لتعذر القسمين الآخرين ، أما الطواعية فلما ذكرناه ، وأما القوة في البدن فلإخبارها أن الفرض أدركه وهو بحالة العجز ، هذا هو الظاهر ولا وجه لصرف اللفظ عن ظاهره ، وتكون هي قد علمت أن الاستطاعة بالمال كالاستطاعة بالبدن . وعلى هذا يكون الحديث حجة على وجوب الحج على المعضوب بسبب الاستطاعة بالمال أو بطواعية الولد قياسا عليه ، وأما غير الولد فيمكن إلحاقه به لوجود مطلق الاستطاعة - انتهى . وقال الحافظ : استدل بالحديث على أن الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس ، وعكس بعض المالكية فقال : من لم يستطع بنفسه لم يلاقه الوجوب قلت : فسر المالكية الاستطاعة
(17/142)
بإمكان الوصول إلى البيت من
غير خروج عن عادة خلافا للأئمة الثلاثة فإنهم فسروها بالزاد والراحلة كما سيأتي .
قال ابن التين : الاستطاعة أن يقدر على الوصول إلى البيت من غير خروج عن عادة ،
فمن كان عادته السفر ماشيا ، أي وأمكن وصوله ماشيا لزمه أن يمشي وإن لم يجد راحلة
، ومن كان عادته تكفف الناس وأمكنه التوصل به لزمه وإن لم يجد زادا ، ومن كان
عادته الركوب والغناء عن الناس لم يلزمه الحج إلا بوجدان ذلك ، وصرح الدردير أنه
يجب الحج على الأعمى القادر على المشي بقائد ولو بأجرة . وقال عياض : الاستطاعة
عند مالك هي القدرة ولو على رجليه دون مشقة فادحة . وقال الأكثر : هي الزاد
والراحلة ، وجاء فيه حديث وتأويله عندنا أنه أحد أنواع الاستطاعة لا كلها وما وقع
من الاختلاف في نقل مذهب أبي حنيفة بين ابن قدامة وابن رشد فهو مبني على اختلاف
الروايات عنه كما سيأتي . قال القاري في شرح اللباب في شرائط وجوب الأداء : الأول
منها سلامة البدن عن الأمراض والعلل . فقيل : الصحيح أنه شرط الوجوب فحسب على ما
في النهاية . وقال في البحر : هو المذهب الصحيح . وقيل : إنه من شرط
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/143)
الأداء على ما صححه قاضي خان في شرح الجامع ، واختاره كثير من المشايخ ، منهم ابن الهمام ، فعلى الأول لا يجب على الأعمى والمقعد والمعضوب ، أي : الضعيف والزمن الذي لا حراك به على ما في القاموس ، والمراد هنا الشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة . قال ابن الهمام : ففي المشهور عن أبي حنيفة أنه لا يلزمهم الحج . قال في البحر : وهذا عند أبي حنيفة في ظاهر الرواية وهو رواية عنهما . وقالا في ظاهر روايتهما وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه يجب على هؤلاء إذا ملكوا الزاد والراحلة ومؤنة من يرفعهم ويضعهم . والخلاف المذكور في من وجد الاستطاعة وهو معذور ، أما إن وجدها وهو صحيح ثم طرأ عليه العذر فالاتفاق على الوجوب - انتهى مختصرا . واستدل بحديث الباب على وجوب الاستنابة على العاجز عن الحج الفرض ، وقال عياض : لا حجة فيه لذلك ، لأن قولها (( إن فريضة الله على عباده )) ألخ ، لا يوجب دخول أبيها في هذا الفرض ، وإنما الظاهر من الحديث أنها أخبرت أن فرض الحج بالاستطاعة نزل وأبوها غير مستطيع فسألت هل يباح لها أن تحج عنه له ويكون له في ذلك أجر ؟ يعني أن معنى قولها المذكور أن إلزام الله عباده بالحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف أبي بصفة من لا يستطيع فهل أحج عنه هل يجوز لي ذلك أو هل فيه أجر ومنفعة ؟ فقال : نعم . ولا يخالفه . قوله (( فحجي عنه )) لأنه أمر ندب وإرشاد ورخصة لها أن تعمل لما رأى من حرصها على تحصيل الخير لأبيها . قال الحافظ وتعقب بأن في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء فيتم الاستدلال ، وفي بعض طرق مسلم (( إن أبي عليه فريضة الله في الحج )) ولأحمد في رواية (( والحج مكتوب عليه )) - انتهى . قلت : قولها (( أدركت أبي )) يرد التأويل الذي ذكره عياض فأنه صريح في إدراك الفرض له ، والظاهر من إدراك الفرض للإنسان اللزوم وصرف اللفظ عن ظاهره خلاف الأصل وادعى بعض المالكية أن هذه القصة مختصة بالخثعمية كما اختص
(17/144)
سالم مولى أبي حذيفة بجواز
إرضاع الكبير حكاه عنه ابن عبد البر وتعقب بأن الأصل عدم الخصوصية واحتج بعضهم
لذلك بما رواه عبد الملك بن حبيب صاحب الواضحة بإسنادين مرسلين فزاد في الحديث ((
حج عنه وليس لأحد بعده )) ولا حجة فيه لضعف الإسناد مع إرسالهما ، وقد عارضه قوله
في حديث الجهنية في باب الحج والنذر عن الميت عند البخاري (( اقضوا الله فالله أحق
بالوفاء )) وادعى آخرون منهم أن ذلك خاص بالابن يحج عن أبيه ولا يخفى أنه جمود .
واستدل بحديث الباب على جواز الحج عن غيره إذا كان لا يستطيع الحج بنفسه وأنه ليس
كالصلاة والصوم وسائر الأعمال البدنية وأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك أن الله
عز وجل إنما أراد بقوله : ?وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ? ( - 53 : 39 ) بعض
الأعمال دون بعض . قال ابن العربي : حديث الخثعمية حديث متفق على صحته في الحج
خارج عن القاعدة المستقرة في الشريعة من أن ليس للإنسان إلا ما سعي ، رفقا من الله
في استدراك ما فرط فيه المرء بولده وماله ، وتعقب بأنه يمكن أن يدخل في عموم السعي
وبأن عموم السعي
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/145)
في الآية مخصوص اتفاقا وقال الخطابي : في هذا الحديث بيان جواز حج الإنسان عن غيره حيا وميتا وأنه ليس كالصلاة والصيام وسائر الأعمال البدنية التي لا تجرى فيها النيابة ، وإلى هذا ذهب الشافعي ، وكان مالك لا يرى ذلك وقال : لا يجزئه إن فعل وهو الذي روى حديث ابن عباس ، وكان يقول في الحج عن الميت : إن لم يوص به الميت أن تصدق عنه وأعتق أحب إلي من أن يحج عنه ، وكان إبراهيم النخعي ، وابن أبي ذئب يقولان : لا يحج أحد عن أحد والحديث حجة على جماعتهم - انتهى . وقال العيني : في الحديث جواز الحج عن غيره إذا كان معضوبا ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وقال مالك ، والليث ، والحسن بن صالح : لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام ، وحاصل ما في مذهب مالك ثلاثة أقوال ، مشهورها : لا يجوز ، ثانيها : يجوز من الولد ، ثالثها : يجوز إن أوصى به . وعن النخعي وبعض السلف : لا يصح الحج عن ميت ولا عن غيره . وهي رواية عن مالك وإن أوصى به قال القرطبي : رأى مالك أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن يعني قوله تعالى : ? ليس للإنسان إلا ما سعى ? (- 53 : 39) فرجع ظاهر القرآن ، ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره ومن جهة أن القول المذكور قول امرأة ظنت ظنا ، قال : ولا يقال قد أجابها النبي - صلى الله عليه وسلم - على سؤالها ، ولو كان ظنها غلطا لبينه لها ، لأنا نقول : إنما أجابها عن قولها (( أفاجع عنه ؟ قال : حجى عنه )) لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها - انتهى . وتعقب بأن في تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لها على ذلك حجة ظاهرة ، وأما ما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس فزاد في الحديث (( حج عن أبيك ، فإن لم يزده خيرا لم يزده شرا )) فقد جزم الحفاظ بأنها رواية شاذة وعلى تقدير صحتها فلا حجة فيها للمخالف ، كذا في الفتح ، وذكر ابن حزم في
(17/146)
المحلى (ج7 ص 58) حديث ابن
عباس هذا من طريق عبد الرزاق ثم أجاب عنه وقد أحسن في الجواب فارجع إليه . وأجاب
بعض المالكية عن حديث الخثعمية بأن ذلك وقع من السائل على جهة التبرع وليس في شيء
من طرقه تصريح بالوجوب ، وبأنها عبادة بدنية فلا تصح النيابة فيها كالصلاة وقد نقل
الطبري وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل في الصلاة ، قالوا : ولأن العبادات
فرضت على جهة الابتلاء وهو لا يوجد في العبادات البدنية إلا بإتعاب البدن فيه يظهر
الانقياد أو النفور بخلاف الزكاة فإن الابتلاء فيها بنقص المال وهو حاصل بالنفس
وبالغير . وأجيب بأن قياس الحج على الصلاة لا يصح لأن عبادة الحج مالية بدنية معا
فلا يترجح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة ، ولهذا قال المازري : من غلب حكم
البدن في الحج ألحقه بالصلاة ، ومن غلب حكم المال ألحقه بالصدقة ، وقد أجاز
المالكية الحج عن الميت إذا أوصى به ، ولم يجيزوا ذلك في الصلاة ، وبأن حصر
الابتلاء في المباشرة ممنوع لأنه يوجد في الآمر من بذله المال في الأجرة كذا في
الفتح . قلت : ويعتضد تغليب حكم المال بحديث الخثعمية وغيره من الأحاديث الواردة
في الحج عن الغير حيا وميتا ، وسيأتي مزيد الكلام في مسألة المستطيع بغيره في
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/147)
شرح حديث ابن عمر سادس أحاديث الفصل الثاني وللمسألة فروع مفيدة جدا يجب معرفتها منها : أنه لا فرق عند الجمهور بين من وجد الاستطاعة وهو معذور ومن وجدها وهو صحيح ثم طرأ عليه العذر لظاهر حديث الخثعمية خلافا لما هو المشهور عن أبي حنيفة . فإن قيل فلم لا يجوز أن يكون الحج مستقرا في ذمته قبل العضب ؟ لما طرأ العضب سألت عن أداء ما كان واجبا عليه ويدل عليه رواية أخرى عند مسلم بلفظ (( إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره )) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فحجي عنه ، وكذلك رواية أحمد (( والحج مكتوب عليه )) قلنا لا دلالة في الحديث على وقت الإدراك بل هو مجمل والحديث الأول مبين له ، وهو قولها : (( أدركت أبي شيخا كبيرا )) ، أي في هذه الحالة ويكون هذا السؤال وقع منها مرتين ذكرت في إحداهما وقت الإدراك وفي الأخرى أخبرت أن عليه الفرض ، وتريد الذي أدركه في تلك الحال فيجمع بين الحديثين إذ لا تضاد بينهما . ومنها : أنهم اختلفوا فيما إذا عوفي المعضوب فقال الجمهور : لا يجزئه لأنه تبين أنه لم يكن ميئوسا منه ، وقال أحمد وإسحاق : لا تلزمه الإعادة كذا في الفتح وقال النووي في مناسكه : ولو استناب المعضوب من يحج عنه فحج عنه ثم زال العضب وشفي لم يجزه على الأصح بل عليه أن يحج . وقال ابن قدامة (ج3 ص228) : ومتى أحج هذا ، ( أي العاجز عن الحج لمانع مأيوس من زواله كزمانة ) عن نفسه ثم عوفي لم يجب عليه حج آخر ، وهذا قول إسحاق ، وقال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر : يلزمه لأن هذا بدل إياس فإذا برأ تبين أنه لم يكن مأيوسا منه فلزمه الأصل . ولنا أنه أتى بما أمر به فخرج عن العهدة كما لو لم يبرأ ، أو نقول أدى حجة الإسلام بأمر الشارع فلم يلزمه حج ثان كما لو حج بنفسه ، ولأن هذا يفضي إلى إيجاب حجتين عليه ، ولم يوجب الله عليه إلا حجة واحدة - انتهى . وقال في الهداية :
(17/148)
والشرط العجز الدائم إلى وقت
الموت ، لأن الحج فرض العمر . قال ابن الهمام : وإنما شرط دوامه إلى الموت لأن
الحج فرض العمر فحيث تعلق به خطابه لقيام الشروط وجب عليه أن يقوم هو بنفسه في أول
أعوام الإمكان ، فإذا لم يفعل أثم ، وتقرر القيام بها بنفسه في ذمته في مدة عمره ،
وإن كان غير متصف بالشروط فإذا عجز عن ذلك بعينه وهو أن يعجز عنه في مدة عمره رخص
له الاستنابة رحمة وفضلا منه فحيث قدر عليه وقتا ما من عمره بعد ما استناب فيه
لعجز لحقه ظهر انتفاء شرط الرخصة . ومنها : ما قال ابن قدامة (ج3 : ص229) : من
يرجى زوال مرضه والمحبوس ونحوه ليس له أن يستنيب فإن فعل لم يجزئه وإن لم يبرأ ،
وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة له ذلك ، ويكون ذلك مراعى ، فإن قدر على الحج
بنفسه لزمه وإلا أجزأه ذلك لأنه عاجز عن الحج بنفسه أشبه المأيوس من برئه ، ولنا
أنه يرجو القدرة على الحج بنفسه فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه أن فعل كالفقير ،
وفارق المأيوس من برئه لأنه عاجز على الإطلاق آيس من القدرة على الأصل فأشبه الميت
، ولأن النص إنما ورد في الحج عن الشيخ الكبير وهو ممن لا يرجى منه الحج بنفسه فلا
يقاس عليه إلا من كان مثله فعلى هذا إذا استناب من يرجو
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/149)
القدرة على الحج بنفسه ثم صار مأيوسا من برئه فعليه أن يحج عن نفسه مرة أخرى لأنه استناب في حال لا تجوز له الاستنابة فيها فأشبه الصحيح - انتهى . وفي الغنية (ص172) : في شرائط النيابة في الحج الفرض دوام العجز إن كان لعذر يرجى زواله عادة كالحبس والمرض فلو عجز فأحج عنه فرضا كان أمره موقوفا ، فإن دام عجزه حتى مات ظهر أنه وقع مجزئا عن فرضه وإن قدر عليه وقتا ما ظهر أنه وقع نفلا له ، وإن كان لعذر لا يرجى زواله عادة كالزمانة والعمى لا يشترط دوامه إلى الموت ، إلى آخر ما قال ، وارجع لمزيد التفصيل إلى رد المحتار. وقال الحافظ : في الفتح واتفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضب ، فلا يدخل المريض لأنه يرجى برئه ، ولا المجنون لأنه ترجى إفاقته ، ولا المحبوس لأنه يرجى خلاصه ، ولا الفقير لأنه يمكن استغناءه . ومنها : ما قال النووي : أما المعضوب فلا يصح الحج عنه بغير إذنه يعني في الفرض لأنه قال بعد ذلك : وتجوز الاستنابة في حج التطوع للميت والمعضوب على الأصح - انتهى . وقال ابن قدامة (ج3 : ص234) : ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه فرضا كان أو تطوعا لأنها عبادة تدخلها النيابة فلم تجز عن البالغ العاقل إلا بإذنه ، فأما الميت فتجوز عنه بغير إذن واجبا كان أو تطوعا ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالحج عن الميت وقد علم أنه لا إذن له ، وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة - انتهى . وعند الحنفية فيه تفصيل كما في شرح اللباب والغنية ومنها : أنه نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب ، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافا للشافعي ، وعن أحمد روايتان كذا في الفتح . وقال ابن قدامة (ج3 : ص230) : لا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعا . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من عليه حجة
(17/150)
الإسلام وهو قادر على أن يحج
لا يجزئ أن يحج غيره عنه ، والحج المنذور كحجة الإسلام في إباحة الاستنابة عند
العجز والمنع منها مع القدرة لأنها حجة واجبة فأما حج التطوع فينقسم أقساما ثلاثة
أحدها : أن يكون ممن لم يؤد حجة الإسلام فلا يجوز أن يستنيب في حجة التطوع .
الثاني : أن يكون ممن قد أدى حجة الإسلام وهو عاجز عن الحج بنفسه فيصح أن يستنيب
في التطوع ، والثالث أن يكون قد أدى حجة الإسلام وهو قادر على الحج بنفسه فهل له
أن يستنيب في حج التطوع ؟ فيه روايتان . إحداهما : يجوز وهو قول أبي حنيفة .
والثانية : لا يجوز وهو مذهب الشافعي لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يستنيب
فيه كالفرض - انتهى . وفي الهداية : تجوز الإنابة في الحج النقل حالة القدرة ، لأن
باب النفل أوسع ومنها : أن من حج عن غيره وقع الحج . عن المستنيب خلافا لمحمد بن
الحسن فقال : يقع عن المباشر وللمحجوج عنه أجر النفقة . قال العيني : ظاهر المذهب
أن الحج يقع عن المحجوج عنه لحديث الخثعمية ، وعند محمد أن الحج يقع عن الحاج
وللآخر ثواب النفقة - انتهى . وقال القاري : في الحديث دليل على أن الحج يقع عن
الآمر وهو مختار شمس الأئمة السرخسي وجمع من المحققين وهو ظاهر المذهب . ومنها :
أنه استدل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/151)
الحنفية بعموم حديث الخثعمية على جواز صحة حج من لم يحج نيابة عن غيره ، وخالفهم الجمهور فخصوه بمن حج عن نفسه ، واستدلوا بحديث ابن عباس في شبرمة الآتي في الفصل الثاني . قال العيني : فيه أي في حديث الخثعمية ما يدل على أنه يجوز للرجل أن يحج عن غيره إن لم يكن حج عن نفسه لإطلاق الحديث ولم يسألها أحججت عن نفسك أم لا وهو مذهب أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد في رواية . ويحكى كذلك عن الحسن ، وإبراهيم ، وأيوب ، وجعفر بن محمد . وقال الأوزاعي والشافعي ( وأحمد في روايته المشهورة عند أصحابه ) وإسحاق : ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام . وقال أبو بكر عبد العزيز : يقع الحج باطلا ولا يصح عنه ولا عن غيره وروي ذلك عن ابن عباس - انتهى . وأجاب الحنفية عن حديث شبرمة بأنه مضطرب معلول ، وبأنه محمول على الندب بدليل إطلاقه عليه الصلاة والسلام قوله للخثعمية حجي عن أبيك من غير استخبارها عن حجها لنفسها قبل ذلك ، وترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم الخطاب فيفيد جوازه عن الغير مطلقا ، وحديث شبرمة يفيد استحباب تقديم حجة لنفسه وبذلك يحصل الجمع . قلت : حديث شبرمة حديث صحيح أو حسن صالح للاحتجاج ، وكل ما ذكروه في تعليله مدفوع ومردود كما سترى عند شرحه ، وأما ما ذكروه من حمله على الاستحباب متمسكين على ذلك بحديث الخثعمية فقد تعقبه صاحب فتح الملهم (ج3 : ص372) بأن سؤال الخثعمية إنما وقع بعد دفعه - صلى الله عليه وسلم - من المزدلفة إلى منى حين كان الفضل رديفه فكيف يتصور استفسارها عن مسألة النيابة في تلك الحجة بعد فراغها من الوقوف بعرفة فالظاهر أنها حجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم سألت هل تحج عن أبيها ، أي فيما يستقبل من الزمان إذا أرادت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : نعم حجي عنه ، ولما كان حجها عن نفسها معلوما مشهودا لم يحتج - صلى الله عليه وسلم - إلى
(17/152)
استخبارها عنه حتى يقال : إن
ترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم الأحوال ، وحينئذ ارتفع التعارض
بين حديث الخثعمية وبين حديث شبرمة رأسا - انتهى . وفي حديث الخثعمية من الفوائد :
جواز كلام المرأة وسماع صوتها للأجانب عند الضرورة كالاستفتاء عن العلم والترافع
في الحكم والمعاملة . وفيه أن المرأة تكشف وجهها في الإحرام وهو إجماع حكاه ابن
عبد البر ، ويدل له قوله - صلى الله عليه وسلم - : ولا تنتقب المرأة . وفيه بيان
ما ركب في الآدمي من الشهوة وجبلت طباعة عليه من النظر إلى الصور الحسنة . قال
القرطبي : كان هذا النظر ، أي نظر الفضل إلى المرأة ونظرها إلى الفضل بمقتضى الطباع
البشرية فإنها مجبولة على النظر إلى الصورة الحسنة ففي نظر أحدهما إلى الآخر
مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الشهوات . وفيه منع النظر إلى
الأجنبيات ووجوب غض البصر خوف الفتنة في حق الرجال والنساء جميعا لأنه لا فرق في
ذلك بين الرجل والمرأة ، وكان الفضل أبيض حسن الشعر وسيما ، وكذا المرأة كانت
حسناء ، وفي صرف وجه الفضل بل عنقه ووضع يده عليه مبالغة في منعه فإن المنع بالفعل
أبلغ من القول ، وروى أحمد وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عباس أن
متفق عليه .
2536- (8) وعنه قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أختي نذرت أن
تحج ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/153)
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للفضل حين غطى وجهه يوم عرفة : (( هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له )) . ولم ينقل أنه نهى المرأة عن النظر فيحتمل أنه اجتزأ بمنع الفضل لما رأى أنها تعلم بذلك منع نظرها إليه لأن حكمهما واحد أو تنبهت لذلك ، أو كان ذلك الموضع هو محل نظره الكريم فلم يصرف نظرها , واستدل ابن حزم بهذا الحديث على أن وجه المرأة ليس بعورة إذ قال لو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها على كشفه بحضرة الناس ولأمرها أن تسبل عليه من فوق ولو كان وجهها مغطي ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء - انتهى . ولا يخفى على المتأمل المنصف ما في هذا الاستدلال . ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج ، والمغاري ، والاستئذان ، ومسلم في الحج ، وأخرجه أحمد (ج1 : ص219) ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، ومالك ، والدارمي ، وابن الجارود (ص177) ، والبيهقي (ج4 : ص328 ، 329 ، وج5 : ص179) ، وابن حزم (ج 7 : ص56 ، 57) ، والشافعي (ج1 : ص287) ، وفي الباب عن بريدة عند أحمد ومسلم والترمذي والحاكم ، وعن عبد الله بن الزبير عند أحمد والنسائي والبيهقي ، وعن سودة بنت زمعه عند أحمد والطبراني والبيهقي ، وعن أبي رزين وسيأتي في الفصل الثاني . وعن أنس عند البزار والطبراني في الكبير والأوسط ، وعن عقبة بن عامر عند الطبراني في الكبير والأوسط ، وعن علي عند أحمد ، وعن الفضل بن عباس عند أحمد والشيخين والأربعة والبيهقي وغيرهم .
(17/154)
2536- قوله : ( أتى رجل النبي
- صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أختي ) إلخ ، كذا وقع في النذور عند البخاري من
رواية آدم عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ووقع في الحج والاعتصام
عنده من طريق أبي عوانة عن أبي بشر بلفظ (( إن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أمي نذرت أن تحج )) ورجح الحافظ في النذور هذه
الرواية ، أي كون السائل امرأة ، وقال في الحج بعد ذكر رواية شعبة : فإن كان
محفوظا احتمل أن يكون كل من الأخ سأل عن أخته ، والبنت سألت عن أمها ، وقال
الشوكاني : لا منافاة بين الروايتين لأنه يحتمل أن تكون القصة متعددة وأن تكون
متحدة ، ولكن النذر وقع من الأخت والأم فسأل الأخ عن نذر أخته والبنت عن نذر الأم
- انتهى . وسمى الحافظ في المقدمة (ص391) الرجل السائل عن الأخت : عقبة بن عامر إذ
قال : حديث ابن عباس (( قال أتى رجل فقال إن أختي نذرت )) هو عقبة بن عامر ولم تسم
أخته . وقال في المرأة الجهنية إنها امرأة سنان بن سلمة الجهني كما في النسائي
ولأحمد (( سنان بن عبد الله )) وهو أصح , وفي الطبراني أنها عمته ولم تسم أمها .
وقال في الفتح : إن ما في النسائي لا يفسر به المبهم في حديث ابن عباس في المرأة
الجهنية لأن فيه أن المرأة سألت بنفسها وفي النسائي أن زوجها سأل لها ، ويمكن
وإنها ماتت . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟
قال : نعم . قال : فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/155)
الجمع بأن نسبة السؤال إليها مجازية ، وإنما الذي تولى لها السؤال زوجها . قال : ولم أقف على اسمها ولا على اسم أبيها لكن في حرف الغين المعجمة من الصحابيات لابن مندة عن ابن وهب عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه ، أن غاثية أو غايثة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أمي ماتت وعليها نذر أن تمشي إلى الكعبة . وجزم ابن طاهر في المبهمات بأنه اسم الجهنية المذكورة في حديث ابن عباس لكن قال الذهبي أرسله عطاء ولا يثبت ، ثم ذكر الحافظ رواية ابن عباس عن سنان بن عبد الله الجهني أن عمته حدثته أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أمي توفيت وعليها مشي إلى الكعبة نذرا . الحديث . ثم قال فإن كان محفوظا حمل على واقعتين بأن تكون امرأته سألت على لسانه عن حجة أمها المفروضة وبأن تكون عمته سألت بنفسها عن حجة أمها المنذورة ، ويفسر (( من )) في حديث الجهنية بأنها عمة سنان واسمها غاثية كما تقدم ، ثم إنه قيل : أن حديث الجهنية مضطرب لأنه قد روى أن هذه المرأة قالت : إن أمي ماتت وعليها صوم شهر ، وأجيب بأنه محمول على أن المرأة سألت عن كل من الصوم والحج ، ويؤيد ذلك ما عند مسلم عن بريدة قالت : إن أمي ، وفيه (( يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال : صومي عنها ، قالت : إنها لم تحج أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها )) ( وأنها ماتت ) ، أي ولم تف بنذرها ( لو كان عليها دين ) لمخلوق ( أكنت قاضيه ) بالنصب ، أي الدين عنها ( فاقض دين الله ) ، كذا في جميع نسخ المشكاة ، وفي المصابيح وهكذا وقع في نسخة العيني للبخاري ، وكذا ذكره الحافظ في الفتح ، ووقع في متن القسطلاني ومتن الفتح طبعة الهند ، وفي جامع الأصول (ج4 : ص198) : فاقض الله ، أي حقه أو دينه ( فهو أحق بالقضاء ) ، أي فدين الله أحق بالأداء من غيره . وفي الحديث دليل على صحة النذر بالحج ممن لم يحج ، فإذا حج أجزأه عن حجة الإسلام عند الجمهور ،
(17/156)
وعليه الحج عن النذر ، وقيل :
يجزئ عن النذر ثم يحج عن حجة الإسلام ، وقيل : يجزئ عنهما ، وارجع إلى القرى لقاصد
أم القرى (ص62) وفيه أيضا دليل على أن من مات وفي ذمته حق لله تعالى من حج أو
كفارة أو نذر فإنه يجب قضاءه ، وفيه دليل أيضا على أن الناذر بالحج إذا مات ولم
يحج أجزأه إن يحج عنه الوارث أو غيره لعدم استفصاله - صلى الله عليه وسلم - للأخ
هل هو وارث أولا ، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال
كما تقرر في الأصول ويدل على ذلك أيضا قوله : (( فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء ))
وقوله في حديث الجهنية : (( اقضوا الله فالله أحق بالوفاء )) وفيه مشروعية القياس
وضرب المثل ليكون أوضح وأوقع في نفس السامع وأقرب إلى سرعة فهمه ، وفيه تشبيه ما
اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه ، وفيه تشبيه المجهول حكمه بالمعلوم ، فإنه دل على
أن قضاء الدين المالي عن الميت كان معلوما
متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/157)
عندهم متقررا ولهذا حسن الإلحاق به ، وفيه أنه يستحب للمفتي التنبيه على وجه الدليل إذا ترتب على ذلك مصلحة وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعى لإذعانه ، وفيه دليل على جواز الحج عن الميت وإن لم يوص لإلحاقه وتشبيهه بالدين , وقال مالك : إنما يحج عنه إذا أوصى ، و إذا أوصى حج من الثلث قال الأمير اليماني : دل الحديث على وجوب التحجيج عن الميت سواء أوصى أم لم يوص ، لأن الدين يجب قضاءه مطلقا ، وكذا سائر الحقوق المالية من كفارة ونحوها ، وإلى هذا ذهب ابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة والشافعي ، ويجب إخراج الأجرة من رأس المال عندهم ، أي مقدما على الوصايا والميراث كدين الآدمي . وقال الحافظ : في هذا الحديث أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك . وفي قوله : (( فالله أحق بالوفاء )) دليل على أنه مقدم على دين الآدمي وهو أحد أقوال الشافعي ، وقيل : بالعكس ، وقيل : هما سواء - انتهى . وقال العيني : قيل إذا اجتمع حق الله وحق العباد يقدم حق العباد فما معنى (( فهو أحق )) ؟ أجيب بأن معناه إذا كنت تراعي حق الناس فلأن تراعي حق الله كان أولى ولا دخل فيه للتقديم والتأخير إذ ليس معناه أحق بالتقديم - انتهى . قال الطيبي : في الحديث إشعار بأن المسئول عنه خلف مالا فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حق الله مقدم على حق العباد واجب عليه الحج عنه . والجامع علة المالية ، وتعقبه الحافظ والعيني بأنه لا يتحتم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالا كما زعم لأن قوله : (( أكنت قاضيه )) أعم من أن يكون المراد مما خلفه أو تبرعا - انتهى . قلت : ووافق الشافعي أحمد في التحجيج عن الميت من رأس المال . قال ابن قدامة (ج3 : ص242) : متى توفي من وجب عليه
(17/158)
الحج ولم يحج وجب أن يخرج من
جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريط ، أو بغير تفريط ، وبهذا قال
الشافعي ، وقال أبو حنيفة ومالك : يسقط بالموت ، فإن أوصي بها فهي من الثلث ،
وبهذا قال الشعبي والنخعي - انتهى . وعند الحنفية في ذلك تفصيل كما في شرح اللباب
والغنية (ص 173) قالوا : إذا تبرع أحد بدون الوصية أجزأ إن شاء الله . وقال النووي
: تجب الاستنابة عن الميت إذا كان قد استطاع في حياته ولم يحج ، هذا إذا كان له
تركة ، وإلا فلا يجب على الوارث ، ويجوز للوارث والأجنبي الحج عنه سواء أوصي به
أولم يوص - انتهى . وأستدل بالحديث على أنه يصح ممن لم يحج أن يحج نيابة عن غيره
لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسأله حج عن نفسه أم لا ؟ ولأنه - صلى الله عليه
وسلم - شبهه بالدين . ورد بأنه سيأتي في حديث شبرمة ما يدل على عدم إجزاء حج من لم
يحج عن نفسه ، وأما مسألة الدين فإنه لا يجوز له أن يصرف ماله إلى دين غيره وهو
مطالب بدين نفسه ( متفق عليه ) هذا وهم من المصنف فإن الحديث من أفراد البخاري ،
وأخرجه في النذور ، وأخرجه بقصة الجهنية في الحج ، وفي الاعتصام ، وأما مسلم فلم
يخرجه أصلا ، ولعل المصنف قلد في ذلك صاحب جامع الأصول ، والله أعلم . والحديث
2537- (9) وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يخلون رجل بامرأة
، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه أيضا أحمد (ج1 ص240) ، والنسائي في الحج ، وابن الجارود (ص 178) ، وابن حزم
(ج7 ص63) ، والبيهقي (ج5 ص179) .
(17/159)
2537- قوله : ( لا يخلون ) أكد النهي مبالغة ( رجل بامرأة ) أي أجنبية . فيه حرمة اختلاء الأجنبي مع المرأة وهو إجماع كما قال في الفتح . وقد ورد في حديث (( فإن ثالثهما الشيطان )) واختلفوا هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا بأن يكون معهما من يزيل معنى الخلوة كالنسوة الثقات مثلا فقيل إنه يقوم لضعف التهمة به لأن المعنى المناسب للنهي إنما هو خشية أن يوقع بينهما الشيطان الفتنة ، وقال القفال : لا يجوز بل لا بد من المحرم عملا بلفظ الحديث . قال الشوكاني : وهو ظاهر الحديث ، قلت : وكذلك يحرم الخلوة بالأجنبية لو كان معهما من لا يستحي منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك فإن وجوده كالعدم (( ولا تسافرن امرأة )) أي شابة أو عجوز سفرا طويلا أو قصيرا للحج أو غيره (( إلا ومعها محرم )) بفتح الميم وتخفيف الراء أي من يحرم عليه نكاحها من الأقارب كأب وأخ وعم وخال ومن يجري مجراهم كزوج كما جاء مصرحا في رواية للشيخين من حديث أبي سعيد (( إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها )) ، وفي أخرى (( إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها )) ، قال ابن دقيق العيد : لم يتعرض هنا للزوج وهو موجود في رواية أخرى ولا بد من إلحاقه بالحكم بالمحرم في جواز السفر معه ( وكذا الخلوة بها ) اللهم إلا أن يستعمل لفظة الحرمة في إحدى الروايتين في غير معنى المحرمية استعمالا لغويا فيما يقضي الاحترام فيدخل فيه الزوج لفظا - انتهى . قال الحافظ : وفي آخر حديث ابن عباس هذا ما يشعر بأن الزوج يدخل في مسمى المحرم فإنه لما استثنى المحرم فقال القائل : إن امرأتي حاجة . فكأنه فهم إدخال الزوج في المحرم ولم يرد عليه ما فهمه بل قيل له أخرج معها . والاستثناء من الجملتين كما هو مذهب الشافعي لا من الجملة الأخيرة لكنه منقطع لأنه متى كان معها محرم لم يبق خلوة فتقدير الحديث لا يقعدن رجل مع امرأة إلا ومعها محرم ، والواو في (( ومعها ))
(17/160)
للحال ، أي لا يخلون في حال
إلا في هذه الحال ، ووقع في رواية للبخاري لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ، ولا
يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم . قال القسطلاني : أي لها . وقال النووي : يحتمل أن
يريد محرما لها ، أو له . وهذا الاحتمال الثاني هو الجاري على قواعد الفقهاء فإنه
لا فرق بين أن تكون معها محرم لها كأبيها وابنها وأخيها وأمها وأختها أو يكون
محرما له كأخته وبنته وأمه وعمته وخالته فيجوز القعود معها في هذه الأحوال . قال :
وحقيقة المحرم ، أي عند الشافعية من النساء التي يجوز له النظر إليها والخلوة بها
والمسافرة معها كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها . فخرج بالتأبيد
أخت الزوجة وعمتها وخالتها ونحوهن ، وخرجت
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/161)
بسبب مباح أم الموطوءة بشبهة وبنتها فإنهما تحرمان على التأبيد وليستا محرمين ، لأن وطئ الشبهة لا يوصف بالإباحة لأنه ليس بفعل المكلف ، وخرج بقوله لحرمتها الملاعنة ، لأن تحريمها ليس لحرمتها بل عقوبة وتغليظا ، والمحرم عام فيشمل محرم النسب كأبيها وابنها وأخيها وابن أختها وابن أختها وخالها وعمها ، ومحرم الرضاع كأخيها من الرضاع وابن أخيها وابن أختها منه ونحوهم ، ومحرم المصاهرة كأبي زوجها وابن زوجها ، فيجوز لكل هؤلاء السفر بها والخلوة بها والنظر إليها من غير حاجة لكن لا يحل النظر بشهوة لأحد منهم هذا مذهب الشافعي والجمهور ووافق مالك على ذلك كله إلا ابن زوجها فكره سفرها معه لفساد الناس بعد العصر الأول ولأن كثيرا من الناس لا ينزل زوجة الأب في النفرة عنها منزلة محارم النسب والمرأة فتنة إلا فيما جبل الله النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب . قال النووي : وعموم هذا الحديث يرد على مالك ، وقال ابن دقيق العيد : الحديث عام ، فإن عنى بالكراهة التحريم مع محرمية ابن الزوج فهو مخالف لظاهر الحديث بعيد ، وإن عنى كراهة التنزيه للمعنى المذكور فهو أقرب تشوفا إلى المعنى ، وقد فعلوا مثل ذلك في غير هذا الموضع ، ومما يقويه ها هنا قوله (( لا يحل )) ( في حديث ابن عمر عند الشيخين وحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره ) استثنى منه السفر مع المحرم فيصير التقدير (( إلا مع ذي محرم )) فيحل ويبقي النظر في قولنا (( يحل )) هل يتناول المكروه أم لا بناء على أن لفظة (( يحل )) يقتضي الإباحة المتساوية الطرفين ، فإن قلنا : لا يتناول المكروه . فالأمر قريب مما قاله إلا أنه تخصيص يحتاج إلى دليل شرعي عليه ، وإن قلنا : يتناول . فهو أقرب لأن ما قاله لا يكون حينئذ منافيا لما دل عليه اللفظ - انتهى . وفي الحديث دليل على تحريم سفر المرأة من غير محرم وهو مطلق في قليل السفر وكثيره وفي سفر الحج وغيره ، وقد وردت أحاديث مقيدة لهذا
(17/162)
الإطلاق إلا أنها اختلف
ألفاظها ففي لفظ (( لا تسافر ثلاثا )) وفي آخر (( فوق ثلاث )) وفي آخر (( يومين ))
وفي آخر (( يوما وليلة )) وفي آخر (( يوما )) وفي آخر (( ليلة )) وفي آخر (( بريدا
)) وهو عند أبي داود والحاكم والبيهقي ، وفي آخر (( ثلاثة أميال )) وهو عند
الطبراني ، قال الحافظ : وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات
. وقال العيني : في هذا الحديث أن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم ، وعموم اللفظ
يتناول عموم السفر فيقتضي أن يحرم سفرها بدون ذي محرم معها سواء كان سفرها قليلا
أو كثيرا للحج أو غيره ، وإلى هذا ذهب إبراهيم النخعي والشعبي وطاوس والظاهرية ،
واحتج هؤلاء أيضا بحديث أبي هريرة الآتي - انتهى . قال عياض بعد ذكر الألفاظ
المختلفة في التقييد : هذا كله ليس يتنافر ولا يختلف ، وقد يكون هذا في مواطن
مختلفة ونوازل متفرقة فحدث كل من سمعها بما بلغه منها وشاهد ، وإن حدث بها واحد
فحدث مرات بها على اختلاف ما سمعها - انتهى . وقال النووي : اختلاف هذه الألفاظ
لاختلاف السائلين واختلاف المواطن . قال البيهقي : كأنه - صلى الله عليه وسلم -
سئل عن المرأة تسافر ثلاثا بغير محرم فقال : لا ، وسئل عن سفرها يومين بغير محرم
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/163)
فقال : لا ، وسئل عن سفرها يوما فقال : لا ، وكذلك البريد ، فأدى كل منهم ما سمعه ، وما جاء منها مختلفا عن راو واحد فسمعه في مواطن فروى تارة هذا وتارة هذا وكله صحيح ، وليس في كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر ، ولم يرد - صلى الله عليه وسلم - تحديد أقل ما يسمى سفرا ، فالحاصل أن كل ما يسمى سفرا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوما أو بريدا أو غير ذلك لرواية ابن عباس المطلقة فإنها تتناول جميع ما يسمى سفرا - انتهى . وقد يمكن أن يجمع بينها بأن اليوم المذكور مفردا والليلة المذكورة مفردة بمعنى اليوم والليلة المجموعين فمن أطلق يوما أراد بليلته أو ليلة أراد بيومها ، وهكذا عادة العرب يطلقون الليالي ويريدون بعددها من الأيام ، ويكون ذكره يومين مدة مغيبها في هذا السفر في الذهاب والإياب يعنى أشار عند جمعهما إلى مدة الذهاب والرجوع ، وعند إفرادهما أشار إلى قدر ما تقضي فيه الحاجة ، والثالث ، أي الوسط بين السير والرجوع لقضاء الحاجة في المقصد فأشار مرة إلى مسافة السفر ومرة إلى مدة الغيبة ، وهكذا ذكر الثلاث فقد يكون اليوم الوسط بين الذهاب والرجوع الذي يقضي حاجتها بحيث سافرت له ويحتمل أن يكون هذا كله تمثيلا لأقل الأعداد وأوائلها إذا الواحد أول العدد وأقله والاثنان أول الكثير وأقله والثلاث أول الجمع وأقله ، فكأنه أشار إلى أن مثل هذا في قلة الزمن لا يحل لها السفر فيه مع غير ذي محرم فكيف بما زاد عليه ، ولهذا قال في الحديث الآخر (( ثلاثة أيام فصاعدا )) وحاصله أنه نبه بمنع الخروج أقل كل عدد على منع خروجها من البلد مطلقا إلا بمحرم أو زوج ويحتمل أن يكون ذكر الثلاث قبل ذكر ما دونها فيؤخذ بأقل ما ورد في ذلك ، وأقله الرواية التي فيها ذكر البريد فعلى هذا يتناول السفر طويل السير وقصيره ، ولا يتوقف امتناع سير المرأة على مسافة القصر خلافا للحنفية كذا في الفتح .
(17/164)
وقال الشوكاني : قد ورد من
حديث ابن عباس عند الطبراني ما يدل على اعتبار المحرم فيما دون البريد ، ولفظه :
لا تسافر المرأة ثلاثة أميال إلا مع زوج أو ذي محرم . وهذا هو الظاهر أعني الأخذ
بأقل ما ورد لأن ما فوقه منهي عنه بالأولى ، والتنصيص على ما فوقه كالتنصيص على
الثلاث واليوم والليلة واليومين والليلتين لا ينافيه لأن الأقل موجود في ضمن
الأكثر ، وغاية الأمر أن النهى عن الأكثر يدل بمفهومه على أن ما دونه غير منهي عنه
، والنهي عن الأقل منطوق وهو أرجح من المفهوم . وقالت الحنفية : إن المنع المقيد
بالثلاث متحقق ، وما عداه مشكوك فيه فيؤخذ بالمتيقن ونوقض بأن الرواية المطلقة
شاملة لكل سفر فينبغي الأخذ بها وطرح ما سواها ، فإنه مشكوك فيه ، ومن قواعد
الحنفية تقديم الخبر العام على الخاص ، وقد خالفوا ذلك هنا . والاختلاف إنما وقع
في الأحاديث التي وقع فيها التقييد بخلاف حديث ابن عباس فإنه لم يختلف فيه عليه ،
فهو سالم من الاضطراب ، فالأخذ به أولى وقيل : ليس هذا من المطلق والمقيد الذي وردت
فيه قيود متعددة وإنما هو من العام لأنه نكرة في سياق النفي فيكون من العام الذي
ذكرت بعض أفراده ولا تخصيص بذلك على الراجح في الأصول . وأعلم أنهم اختلفوا في
اشتراط المحرم أو الزوج
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/165)
لوجوب الحج على المرأة . قال ابن رشد : اختلفوا هل من شروط وجوب الحج على المرأة أن يكون معها زوج أو محرم منها ؟ فقال مالك والشافعي : ليس من شرط الوجوب ذلك ، وتخرج المرأة إلى الحج إذا وجدت رفقة مأمونة . وقال أبو حنيفة وأحمد وجماعة : وجود ذي المحرم ومطاوعته لها شرط في الوجوب ، وسبب الخلاف معارضة الأمر بالحج للنهي عن سفر المرأة إلا مع ذي محرم ، فمن غلب عموم الأمر قال : تسافر للحج وإن لم يكن معها ذو محرم ، ومن خصص العموم بأحاديث النهي ورأى أنه من باب تفسير الاستطاعة قال : لا تسافر إلا مع ذي محرم - انتهى . وقال ابن دقيق العيد : هذه المسألة تتعلق بالنصين إذا تعارضا وكان كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه ، بيانه أن قوله تعالى : ? ولله على الناس حج البيت ? ( 3 : 91) الآية . عام في الرجال والنساء فمقتضاه أن الاستطاعة على السفر إذا وجدت وجب الحج على الجميع ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم )) خاص بالنساء ، عام في كل سفر فيدخل فيه الحج ، فمن أخرجه عنه خص الحديث بعموم الآية ، ومن أدخله فيه خص الآية بعموم الحديث فيحتاج إلى الترجيح من خارج - انتهى . قال الشوكاني : ويمكن أن يقال إن أحاديث النهي عن السفر من غير محرم لا تعارض الآية لأنها تضمنت أن المحرم في حق المرأة من جملة الاستطاعة على السفر التي أطلقها القرآن وليس فيها إثبات أمر غير الاستطاعة المشروطة حتى تكون من تعارض العمومين . لا يقال : الاستطاعة المذكورة قد بينت بالزاد والراحلة كما سيأتي ، لأنا نقول : قد تضمنت أحاديث النهي زيادة على ذلك البيان باعتبار النساء غير منافية فيتعين قبولها على أن التصريح باشتراط المحرم في سفر الحج بخصوصه كما في حديث ابن عباس عند البزار والدارقطني وحديث أبي أمامة عند الطبراني مبطل لدعوى التعارض - انتهى . وقال النووي : أجمعت الأمة على أن المرأة يلزمها حجة
(17/166)
الإسلام إذا استطاعت لعموم
قوله تعالى : ? ولله على الناس حج البيت ? واستطاعتها كاستطاعة الرجل ، لكن
اختلفوا في اشتراط المحرم لها ، فأبو حنيفة يشترطه لوجوب الحج عليها إلا أن يكون
بينها وبين مكة دون ثلاث مراحل ، ووافقه جماعة من أصحاب الحديث وأصحاب الرأي وحكي
ذلك عن الحسن البصري والنخعي ، وقال عطاء وسعيد بن جبير ، وابن سيرين ومالك
والأوزاعي والشافعي في المشهور عنه : لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها .
قال أصحابنا : يحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقات ولا يلزمها الحج عندنا إلا
بأحد هذه الأشياء ، فلو وجدت امرأة واحدة ثقة لم يلزمها لكن يجوز لها الحج معها
هذا هو الصحيح . وقال بعض أصحابنا : يلزمها بوجود نسوة أو امرأة واحدة ، وقد يكثر
الأمن ولا تحتاج إلى أحد بل تسير وحدها في جملة القافلة وتكون آمنة ، والمشهور من
نصوص الشافعي وجماهير أصحابه هو الأول ، واختلف أصحابنا في خروجها لحج التطوع وسفر
الزيارة والتجارة ونحو ذلك من الأسفار التي ليست واجبة فقال بعضهم : يجوز لها
الخروج فيها مع نسوة ثقات كحجة الإسلام . وقال الجمهور : لا يجوز إلا مع زوج أو
محرم وهذا هو الصحيح للأحاديث
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/167)
الصحيحة . وقال القاضي : واتفق العلماء أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم إلا الهجرة من دار الحرب فاتفقوا على أن تهاجر منها إلى دار الإسلام وإن لم يكن معها محرم ، والفرق بينهما أن إقامتها في دار الكفر . حرام إذا لم تستطع إظهار الدين وتخشى على دينها ونفسها وليس كذلك التأخر عن الحج فإنهم اختلفوا في الحج هل هو على الفور أم على التراخي - انتهى . وقال الخرقي : وحكم المرأة إذا كان لها محرم كحكم الرجل . قال ابن قدامة (ج3 ص236) : ظاهره أن الحج لا يجب على التي لا محرم لها ، وقد نص عليه أحمد فقال أبو داود : قلت لأحمد : امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل يجب عليها الحج ؟ قال : لا ، وقال أيضا : المحرم من السبيل . وهذا قول الحسن والنخعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي ، وعن أحمد أن المحرم من شرائط لزوم السعي دون الوجوب ، فمتي فاتها الحج بعد كمال الشرائط بموت أو مرض لا يرجى برؤه أخرج عنها حجة ، لأن شروط الحج المختصة به قد كملت وإنما المحرم لحفظها . وعنه رواية ثالثة : أن المحرم ليس بشرط في الحج الواجب . قال الأثرم : سمعت أحمد يسأل : هل يكون الرجل محرما لأم امرأته يخرجها إلى الحج ؟ فقال : أما في فريضة الحج فأرجو لأنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته ، وأما في غيرها فلا والمذهب الأول ، وعليه العمل ، وقال ابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي : ليس المحرم شرطا في حجها بحال ، قال ابن سيرين : تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به . وقال مالك : تخرج مع جماعة النساء ، وقال الشافعي : تخرج مع حرة مسلمة ثقة ، وقال الأوزاعي : تخرج مع قوم عدول . قال ابن المنذر : تركوا القول بظاهر الحديث واشترط كل واحد منهم شرطا لا حجة معه ، واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة . وقال لعدي بن حاتم : يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها لا تخاف إلا
(17/168)
الله . ولأنه سفر واجب فلم
يشترط له المحرم كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار ، ولنا ما روى أبو هريرة
مرفوعا : لا يحل لامرأه تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو
محرم . ثم ذكر حديث ابن عباس الذي نحن في شرحه ، ثم قال : وروى ابن عمر وأبو سعيد
نحوا من حديث أبي هريرة . قال أبو عبد الله : أما أبو هريرة فيقول (( يوما وليلة
)) ويروى عن أبي هريرة (( لا تسافر سفرا )) أيضا ، وأما حديث أبي سعيد (( يقول
ثلاثة أيام ، قلت : ما تقول أنت ؟ قال : لا تسافر سفرا قليلا ولا كثيرا إلا مع ذي
محرم )) . وروى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال : لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم . وهذا صريح في الحكم ، ولأنها أنشأت سفرا
في دار الإسلام فلم يجز بغير محرم كحج التطوع ، وحديثهم محمول على الرجل بدليل
أنهم اشترطوا خروج غيرها معها ، فجعل ذلك الغير المحرم الذي بينه النبي - صلى الله
عليه وسلم - في أحاديثنا أولى مما اشترطوه بالتحكم من غير دليل ، ويحتمل أنه أراد
أن الزاد والراحلة يوجب الحج مع كمال بقية الشروط ، ولذلك اشترطوا تخلية الطريق
وإمكان المسير وقضاء الدين ونفقة العيال واشتراط كل واحد منهم في محل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/169)
النزاع شرطا من عند نفسه لا من كتاب ولا من سنة ، فما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالاشتراط ، ولو قدر التعارض فحديثنا أخص وأصح وأولى بالتقدم ، وحديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه ولذلك لم يجز في غير الحج المفروض ، ولم يذكر فيه خروج غيرها معها ، وقد اشترطوا ها هنا خروج غيرها معها ، وأما الأسيرة إذا تخلصت من أيدي الكفار فإن سفرها سفر ضرورة لا يقاس عليه حالة الاختيار ولذلك تخرج فيه وحدها ، ولأنها تدفع ضررا متيقنا بتحمل الضرر المتوهم فلا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلا - انتهى كلام ابن قدامة . وقال الطبري في القرى (ص 44) : وافق أبا حنيفة في اشتراط المحرم أو الزوج أصحاب الحديث ، وهو قول النخعي والحسن البصري ، وبه قال أحمد وإسحاق وهو أحد قولي الشافعي ، قال البغوي في شرح السنة : والقول باشتراط المحرم أولى لظاهر الحديث ، ولم يختلفوا أنها ليس لها الخروج في غير الفرض إلا مع محرم إلا في كافرة أسلمت في دار الحرب أو أسيرة تخلصت فيلزمها الخروج بلا محرم . وقال (ص 45) : ووجه دلالة حديث عدي على عدم ذلك اعتبار المحرم أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن خروج المرأة وحدها عند أمانها على نفسها فوجب وقوعه لا محالة . ودل ذلك على الجواز إذ لو حرم لبينه فإنه وقت حاجة لأنه كالواقع وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ، وهذا القائل يحمل أحاديث اشتراط المحرم على حال الخوف والخطر جمعا بينهما وعملا بهما وذلك أولى من إهمال بعضها ويمكن أن يقال : الحديث دل على الوقوع لا على الجواز لا بطريق المطابقة ولا بالاستلزام لأنه ورد في معرض الثناء على حال الزمان بالأمن والعدل ، وذكر خروج المرأة وحدها في معرض الاستدلال على ذلك سواء كان جائزا أو غير جائز ، فالجواز وعدمه مسكوت عنه ولا إشعار للفظ الخبر بهما لا نفيا ولا إثباتا ، إذ لو قال عقيب كلامه : وارتحالها لذلك جائز لها لم يعد ذلك تكرارا لما
(17/170)
فهم من الأول ولا مؤكدا للفظه
، أو قال : وارتحالها محرم عليها لم يعد ذلك نقضا له ، كيف وفي قوله لا تخاف أحدا
إلا الله إشعار بالحرمة إذ لو يحرم عليها ذلك لما خافت الله تعالى ، وأما قوله ((
وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز )) فمسلم ولم يتأخر ، فإن أحاديث اشتراط
المحرم إن ثبت الخطاب بها قبل هذا الحديث ، فالتحريم ثابت عندهم ، وليس في لفظ هذا
الحديث ما يناقضه فيحمل على ما ذكرناه وإن كان الخطاب بها متأخرا عن هذا الحديث
فقد بين - صلى الله عليه وسلم - ما سكت فيه عنه مما احتمل إرادته قبل موته فلم
يتأخر البيان عن وقت الحاجة على الحالين ، وهذا هو الظاهر عندي وإن كان الصحيح من
مذهب الشافعي خلافه – انتهى . قال الحافظ : ومن الأدلة على جواز سفر المرأة مع
النسوة الثقات إذا أمن الطريق أول أحاديث باب حج النساء ( يعني به حديث إبراهيم بن
سعد عن أبيه عن جده قال : أذن عمر لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجة
حجها فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف ) لاتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمن
بن عوف ونساء النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، وعدم نكير غيرهم من الصحابة
عليهن في ذلك ، ومن أبى ذلك من
فقال رجل : يا رسول الله ! اكتتبت في غزوة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/171)
أمهات المؤمنين فإنما أباه من جهة خاصة لا من جهة توقف السفر على المحرم . وأجيب بأن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهن أمهات المؤمنين وهم محارم لهن ، لأن المحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد ، فكذلك أمهات المؤمنين حرام على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة ثم إنه اختلف القائلون باشتراط المحرم للمرأة أن وجود الزوج أو المحرم شرط الوجوب أو شرط وجوب الأداء فللحنفية فيه قولان ، والذي اختاره في فتح القدير أنه مع الصحة وأمن الطريق شرط وجوب الأداء فيجب الإيصاء إن منع المرض أو خوف الطريق أو لم يوجد زوج ولا محرم ويجب عليها التزوج عند فقد المحرم ، وعلى الأول لا يجب شيء من ذلك كما في البحر وفي النهر ، وصحح الأول في البدائع ورجع الثاني ففي النهاية تبعا لقاضي خان ، لكن جزم في اللباب أنه لا يجب عليها التزوج مع أنه مشى على جعل المحرم أو الزوج شرط أداء ، ورجع هذا في الجوهرة وابن أمير الحاج في المناسك ووجهه أنه لا يحصل غرضها بالتزوج لأن للزوج أن يمتنع من الخروج معها بعد أن يملكها ، ولا تقدر على الخلاص منه ، وربما لا يوافقها فتضرر منه بخلاف المحرم ، فإنه إن وافقها أنفقت عليه ، وإن امتنع أمسكت نفقتها وتركت الحج وقال المرداوي من الحنابلة : المحرم من شرائط الوجوب كالاستطاعة وغيرها وعليه أكثر الأصحاب ، ونقله الجماعة عن الإمام أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي وقدمه في المحرم والفروع والحاويين والرعايتين وجزم به في المنهاج والإفادات . قال ابن منجا في شرحه : هذا المذهب وهو من المفردات ، وعنه أن المحرم من شرائط لزوم أداء الحج ( فلا يمنع الوجوب والاستقرار في الذمة ) ، وجزم به في الوجيز وأطلقه الزركشي – انتهى . وفائدة الخلاف تظهر في وجوب الإيصاء به ثم لفظ (( امرأة )) في الحديث عام يشمل الشابة والعجوز لكن خص أبو الوليد الباجي المنع بغير العجوز التي لا تشتهى ، أما هي فتسافر كيف شاءت في كل
(17/172)
الأسفار بلا زوج ولا محرم
وتعقب بأن المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ، ولو كانت كبيرة . وقد قالوا :
لكل ساقطة لاقطة ، ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يرتفع عن
الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومروته وخيانته ونحو ذلك . وأجيب
بأن الكلام إنما هي فيمن لا تشتهى أصلا ورأسا ولا نسلم أن من هي بهذه المثابة مظنة
الطمع والميل إليها بوجه . قال ابن دقيق العيد : والذي قاله الباجي تخصيص العموم
بالنظر إلى المعنى يعنى مراعاة الأمر الأغلب والمتعقب راعى الأمر النادر وهو
الاحتياط . قال : والمتعقب على الباجي يرى جواز سفر المرأة وحدها في الأمن وسيرها
في جملة القافلة فقد نظر أيضا إلى المعنى مع كونه مخالفا لظاهر الحديث يعنى فليس
له أن ينكر على الباجي ، وهذا الذي قاله من جواز سفرها وحدها هو قول للشافعي ،
نقله الكرابيسي ، ولكن المشهور عن الشافعية اشتراط الزوج أو المحرم أو النسوة
الثقات ولا يشترط أن يخرج معهن محرم أو زوج لإحداهن لانقطاع الأطماع باجتماعهن (
فقال رجل ) قال الحافظ : لم أقف على اسم الرجل ولا امرأته ولا على تعيين الغزوة
المذكورة ( اكتتبت ) بصيغة المجهول المتكلم من باب الافتعال ( في غزوة
كذا وكذا ، وخرجت امرأتي حاجة . قال : اذهب فحج مع امرأتك . متفق عليه .
2538- (10) وعن عائشة قالت : استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد .
فقال : جهادكن الحج .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/173)
كذا وكذا ) ، أي كتبت نفسي في أسماء من عين لتلك الغزوة ، وقيل : كتب وأثبت اسمي فيمن يخرج إلى غزوة كذا ( وخرجت امرأتي حاجة ) أي أرادت أن تخرج محرمة للحج أو قاصدة له ، يعني وليس معها أحد من المحارم ، وفي رواية للبخاري : إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا ، وامرأتي تريد الحج ( اذهب فاحجج ) بضم الجيم الأولى ( مع امرأتك ) قال الحافظ : أخذ بظاهرة بعض أهل العلم فأوجب على الزوج السفر مع امرأته إذا لم يكن لها غيره ، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية ، والمشهور أنه لا يلزمه كالولي في الحج عن المريض فلو امتنع إلا بأجرة لزمها لأنه من سبيلها فصار في حقها كالمؤنة ، واستدل به على أنه ليس للزوج منع امرأته من حج الفرض ، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية ، والأصح عندهم أن له منعها لكون الحج على التراخي وأما ما رواه الدارقطني من طريق إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر مرفوعا في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج فليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها ، فأجيب عنه بأنه محمول على حج التطوع عملا بالحديثين ونقل ابن المنذر الإجماع على أن للزوج المنع من الخروج في الأسفار كلها ، وإنما اختلفوا فيما كان واجبا - انتهى . وعند الحنفية ليس لزوجها منعها عن حجة الإسلام إذا كان معها محرم ، وألا فله منعها ، ولو خرج معها زوجها فلا نفقة له عليها بل هي لها عليه النفقة وإن لم يخرج معها فكذلك عند أبي يوسف ، وقال محمد : لا نفقة لها لأنها مانعة نفسها بفعلها ، وارجع إلى المغني (ج3 ص240) قال النووي : وفي الحديث تقديم الأهم فالأهم من الأمور المتعارضة لأنه لما تعارض سفره في الغزو وفي الحج معها رجح الحج معها ، لأن الغزو يقوم غيره في مقامه بخلاف الحج معها فإنه لا يقوم غيره مقامه في السفر معها إذا لم يكن لها محرم ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي النكاح ، ومسلم في الحج واللفظ للبخاري في الجهاد ، وأخرجه أيضا
(17/174)
أحمد (ج1 ص222) ، والشافعي (ج1
ص290 ، 291) .
2538- قوله ( وعن عائشة قالت : استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد
فقال : جهادكن الحج ) أي لا جهاد عليكن وعليكن الحج إذا استطعتن ، وسماه جهادا لما
فيه من مجاهدة النفس ومشقة السفر وأتعاب البدن ومفارقة الأهل والوطن . والحديث
رواه البخاري بألفاظ ، واللفظ المذكور له في باب جهاد النساء من كتاب الجهاد
والسير ، وفي رواية له في الباب المذكور (( عن عائشة أم المؤمنين عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - سأله نساءه عن الجهاد فقال : نعم الجهاد الحج )) ورواه في باب
فضل الحج المبرور من أوائل كتاب الحج وفي أول الجهاد بلفظ (( عن عائشة أنها قالت :
يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ قال : لكن أفضل الجهاد حج مبرور
)) ورواه بنحوه أيضا في باب حج النساء ، وزاد (( فقالت عائشة : فلا أدع
متفق عليه .
2539- (11) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسافر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/175)
الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ورواه النسائي بلفظ (( ألا نخرج فنجاهد معك فإني لا أري عملا في القرآن أفضل من الجهاد ، قال : لا ، ولكن أفضل الجهاد وأجمله حج البيت حج مبرور )) . ورواه ابن ماجة بلفظ (( قلت : يا رسول الله على النساء جهاد ؟ قال : نعم ، جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة )) وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث ، وفي رواية للبيهقي (( عن عائشة قالت : استأذنه نساءه في الجهاد فقال - صلى الله عليه وسلم - : يكفيكن الحج ، أو جهادكن الحج )) . قال ابن بطال : دل حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء وإنهمن غير داخلات في قوله تعالى : ? انفروا خفافا وثقالا ? ( - 9 : 41 ) وهو إجماع ولكن ليس في قوله (( جهادكن الحج )) إنه ليس أن يتطوعن بالجهاد ، وإنما فيه أن الحج أفضل لهن ، وإنما لم يكن الجهاد عليهن واجبا لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال والحج يمكنهن فيه مجانبة الرجال والاستتار فلذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد . قال : وزعم بعض من ينقص عائشة في قصة الجمل أن قوله تعالى : ? وقرن في بيوتكن ? ( - 33 : 33 ) يقتضي تحريم السفر عليهن ، قال : وهذا الحديث يرد عليهم لأنه قال : (( لكن أفضل الجهاد )) فدل على أن لهن جهادا غير الحج ، والحج أفضل منه - انتهى . قال الحافظ : ويحتمل أن يكون المراد بقوله (( لا )) في جواب قولهن (( ألا نخرج فنجاهد معك )) ؟ أي ليس ذلك واجبا عليكن كما وجب على الرجال ، ولم يرد بذلك تحريمه عليهن ، فقد ثبت في حديث أم عطية أنهن كن يخرجن فيداوين الجرحى ، وفهمت عائشة ومن وافقها من هذا الترغيب في الحج إباحة تكريره لهن كما أبيح للرجال تكرير الجهاد ، وخص به عموم قوله في حديث أبي واقد عند أحمد وأبي داود وغيرهما : (( هذه ثم ظهور الحصر )) وقوله تعالى ? وقرن في بيوتكن ? وكان عمر متوقفا في ذلك ثم
(17/176)
ظهر له قوة دليلها ، فأذن لهن
في آخر خلافته ثم كان عثمان بعد يحج بهن في خلافته أيضا ، وقد وقف بعضهن عند ظاهر
النهي . وقال البيهقي : في حديث عائشة هذا دليل على أن المراد بحديث أبي واقد وجوب
الحج عليهن مرة واحدة كما بين وجوبه على الرجال مرة لا المنع من الزيادة . وفيه
دليل على أن الأمر بالقرار في البيوت ليس على سبيل الوجوب ( متفق عليه ) هذا وهم
من المصنف فإن الحديث من أفراد البخاري لم يخرجه مسلم في صحيحه أصلا ، ولم يعزه
لمسلم أحد غير المصنف فيما أعلم ، وأخرجه أحمد ، والنسائي ، وابن ماجة كلاهما في
الحج ، وأخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي (ج4 ص326) وله شاهد من حديث أبي
هريرة ، أخرجه النسائي بإسناد صحيح بلفظ : (( جهاد الكبير أي العاجز والصغير
والضعيف والمرأة الحج والعمرة )) .
2539- قوله ( لا تسافر ) للحج أو غيره سواء كان بالسيارة أو بالطيارة أو بالقطار ،
وهو نفي معناه نهي .
امرأة مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم . متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/177)
قال القاري : وفي نسخة ، أي من المشكاة بصيغة النهي ( امرأة ) أي شابة أو عجوز ، وقوله : (( لا تسافر امرأة )) كذا وقع في المشكاة والمصابيح ، وفي الصحيحين (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر )) ( مسيرة يوم وليلة ) مصدر ميمي بمعنى السير كالمعيشة بمعنى العيش ، واختلف الرواية عن أبي هريرة أيضا في ذكر المدة ففي رواية للشيخين مسيرة يوم وليلة وهي المذكورة في الكتاب ، وفي أخرى لمسلم (( مسيرة يوم )) وفي أخرى له (( مسيرة ليلة )) وفي أخرى له أيضا (( أن تسافر ثلاثا )) وفي رواية لأبي داود (( بريدا )) وقد تقدم الكلام في ذلك ، وأنه ليس المراد التحديد بل المدار على ما يسمى سفرا ، والاختلاف إنما وقع لاختلاف السائل والمواطن ، وليس هو من المطلق والمقيد بل من العام الذي ذكرت بعض أفراده وذا لا يخصص على الأصح ( إلا ومعها ذو محرم ) ، وفي مسلم (( إلا مع ذي محرم عليها )) ولفظ البخاري (( ليس معها حرمة )) وفي أخرى لمسلم (( إلا ومعها رجل ذو حرمة منها )) وقوله (( ذو محرم )) هكذا وقع في الروايات ، قيل : والظاهر أن لفظ (( ذو )) مقحم فإن المحرم للمرأة هو من لا يحل له نكاحها ، وقيل : المراد (( ذو رحم محرم )) أي ذو قرابة محرم تزوجها . قال في القاموس : ورحم محرم ، محرم تزوجها . قال صاحب تسير العلام : المرأة مظنة الشهوة والطمع وهي لا تكاد تقي نفسها لضعفها ونقصها ولا يغار عليها مثل محارمها الذين يرون أن النيل منها نيل من شرفهم وعرضهم ، والرجل الأجنبي حينما يخلو بالأجنبية يكون معرضا لفتن الشيطان ووساوسه ، لهذه المحاذير التي هي وسيلة في وقوع الفاحشة وانتهاك الأعراض حرم الشارع على المرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم . قال : واختلفوا هل المرأة مستطيعة الحج بدون المحرم إذا كانت ذات مال أم أن وجود المحرم شرط في الاستطاعة ؟ الصحيح أنه لا يحل له خروجها بدون محرم لأي سفر فتكون معذورة غير مستطيعة ،
(17/178)
واختلفوا في الكبيرة التي لا
تميل إليها النفس هل تسافر بدون محرم ؟ أم لا بد من المحرم ؟ الصحيح الأخير ، لأن
الحديث عام في كل امرأة ولا يخلو الأمر من محذور فلكل ساقطة لاقطة . واختلفوا هل
يكفي أن تكون مع رفقة أمينة أو تسافر مع امرأة مسلمة ثقة أم لا ؟ الصحيح أنه لا بد
من المحرم لعموم الحديث ، ولأن غيرة المحرم ونظره مفقودان . واختلفوا في تحديد
السفر تبعا لاختلاف الأحاديث ، والأحوط أن يؤخذ بأقلها لأنه لا ينافي ما فوقه ،
ويكون ما فوقه قضايا عين حسب حال السائل ، والله أعلم . قال : وإذا قارنت حال
المسلمين اليوم بهذه النصوص الصحيحة والآداب العالية والغيرة الكريمة والشهامة
النبيلة والمحافظة على الفروج والأعراض وحفظ الأنساب وجدت كثيرا من المسلمين قد
نبذوا دينهم وراءهم ظهريا ومرقوا منه وصار التصون والحياء ضربا من الرجعية والجمود
. أما الانحلال الخلقي وخلع رداء الحياء والعفاف فهو التقدم والرقي فإنا لله وإنا
إليه راجعون ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة ، ومسلم في الحج .
وأخرجه أيضا أحمد مرارا ومالك في كتاب الجامع من الموطأ والشافعي في
2540- (12) وعن ابن عباس قال : وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسند (ج1 ص291) ، والترمذي في الرضاع وأبو داود ، وابن ماجة في الحج ، والحاكم
(ج1 ص442) والبيهقي (ج5 ص227) .
(17/179)
2540- قوله ( وقت ) أي حدد وعين المواضع الآتية للإحرام وجعلها ميقاتا ، وإن كان مأخوذا من الوقت وهو المقدار من الزمان إلا أن العرف يستعمله في مطلق التحديد اتساعا . قال الحافظ : أصل التوقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به ، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان أيضا . وقال ابن الأثير في النهاية : التوقيت والتأقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به ، وهو بيان مقدار المدة ، يقال : وقت الشيء بالتشديد يوقته ووقت بالتخفيف يقته إذا بين مدته ، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان فقيل للموضع ميقات . وقال ابن دقيق العيد : قيل إن التوقيت في الأصل ذكر الوقت ، والصواب أن يقال : تعليق الحكم بالوقت ثم استعمل في التحديد للشيء مطلقا لأن التوقيت تحديد بالوقت فيصير التحديد من لوازم التوقيت فيطلق عليه التوقيت ، وقوله ها هنا (( وقت )) يحتمل أن يراد به التحديد أي حد هذه المواضع للإحرام ويحتمل أن يراد بذلك تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بالشرط المعتبر . وقال عياض : وقت أي حدد وجعل لهم ميقاتا ، وحد الحد الذي يحرمون منه والمواقيت كلها حدود للعبادات ، وقد يكون وقت بمعنى أوجب عليهم الإحرام منه ، ومنه قوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ? ( - 4 : 103 ) ويؤيده حديث ابن عمر عند البخاري بلفظ فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الولي العراقي : معنى التوقيت بهذه المواقيت أنه لا يجوز لمريد النسك أن يجاوزها غير محرم ، والدليل على وجوب ذلك من أوجه ( أحدها ) أنه عليه الصلاة والسلام جعلها ميقاتا للإحرام وقال : (( خذوا عني مناسككم )) فلزمنا الوقوف عند ذلك ( ثانيها ) أنه قال في الرواية الأخرى (( يهل أهل المدنية من ذي الحليفة )) إلى آخر الحديث ، فأتى به بلفظ الخبر ، وهو هنا بمعنى الأمر ، وإنما يستعمل الأمر بصيغة الخير لتأكده ، والأمر المتأكد للوجوب ( ثالثها ) أنه قد ورد الأمر
(17/180)
صريحا في قوله في رواية
البخاري وغيره (( من أين تأمرنا أن نهل )) وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على
ذلك وبين له مواضع الإهلال المأمور بها ، وفي قوله في رواية مسلم من حديث عبد الله
بن دينار عن ابن عمر (( أمر رسول الله أهل المدنية أن يهلوا من ذي الحليفة ))
الحديث ( رابعها ) أن في صحيح البخاري من حديث ابن عمر (( فرضها رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - )) وذكر الحديث . وافتراض المواقيت صريح فيما ذكرناه ، ولذلك بوب
عليه البخاري (( فرض مواقيت الحج والعمرة )) وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي
وأحمد والجمهور . وقالوا : لو تركها لزمه دم . قال الشيخ تقي الدين : وإيجاب الدم
من غير هذا الحديث ، وكأنه
لأهل المدينة ذا الحليفة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/181)
يحتاج إلى مقدمة أخرى . ثم قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وآخرون : متى عاد إلى الميقات قبل التلبس بنسك سقط عنه الدم . وقال أبو حنيفة : إنما يسقط عنه الدم إذا عاد إليه ملبيا ، فإن عاد غير ملب استمر لزوم الدم . وقال عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وزفر : لا يسقط الدم بعوده إليه مطلقا . وقال مالك : إن عاد إليه قبل أن يبعد عنه وهو حلال سقط ، وإن عاد بعد البعد والإحرام لم يسقط ، وأعلم أنه حكى الأثرم عن الإمام أحمد أنه سئل في أي سنة وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - المواقيت ؟ فقال : عام حج – انتهى ، كذا ذكره الحافظ وغيره من الشراح واكتفوا بذكره في مبدأ المواقيت . وروى البخاري في العلم من حديث ابن عمر (( أن رجلا قام في المسجد فقال : يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة )) الحديث . ويشكل على ذلك أنهم تصدوا جميعا للاعتذار عن مجاوزة أبي قتادة عام الحديبية عن المواقيت بغير إحرام وذكروا لذلك توجيهات مختلفة ، وإذا كان التوقيت عام حجة الوداع لم يكن حاجة إلى الجواب والاعتذار عنه ( لأهل المدينة ) النبوية ، أي سكانها ومن سلك طريق سفرهم ومر على ميقاتهم ( ذا الحليفة ) مفعول وقت ، والحليفة بضم الحاء المهملة وفتح اللام تصغير الحلفة بفتحات نبت معروف ، وذو الحليفة موضع معروف بقرب المدينة بينه وبينها ستة أميال قاله النووي وقبله الغزالي والقاضي عياض والشافعي كما في المعرفة ، وكذا قال المجد في القاموس وياقوت الحموي في المعجم ، وزادا كالقاضي أنه من مياه بني جشم بالجيم والشين المعجمة بين بني خفاجة من عقيل وقال ابن حزم : هو على أربعة أميال من المدينة ، وقال السمهودي في وفاء الوفاء (ص 1194) : وقد اختبرت ذلك بالمساحة فكان من عتبة باب المسجد النبوي المعروف ببات السلام إلى عتبة باب مسجد الشجرة بذي الحليفة تسعة عشر ألف ذراع وسبعمائة
(17/182)
ذراع واثنين وثلاثين ذراعا
ونصف ذراع بذراع اليد ( وذراع اليد على ما ذكره المحب الطبري والنووي وغيرهما
أربعة وعشرون إصبعا ، كل إصبع ست شعيرات مضمومة بعضها إلى بعض ) وذلك خمسة أميال
وثلثا ميل ينقص مائة ذراع - انتهى . وقيل : ذلك دون خمسة أميال ، فإن الميل عند
الحنفية أربعة آلاف ذراع بذراع الحديد المستعمل الآن . وقال الحافظ : ذو الحليفة
مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين ، قاله ابن حزم (ج7 ص70) وقال غيره
: بينهما عشر مراحل ، قال : وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة خراب وبها بئر يقال لها
بئر علي - انتهى . وعلي هذا ليس بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه . وقال العيني :
وبذي الحليفة عدة آبار ومسجدان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، المسجد الكبير
الذي يحرم منه الناس ، والمسجد الآخر مسجد المعرس - انتهى . وقال صاحب تيسير
العلام : ذو الحليفة تسمى الآن آبار علي ، وتبعد عن مكة بالمراحل (10) وبالفراسخ
(80) وبالأميال (240) وبالكيلوات (430) والمرحلة هي مسيرة يوم وليلة بسير الإبل
المحملة بالأثقال سيرا معتادا
ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/183)
ويقدر بها العرب الأوائل فأخذها عنهم العلماء ( ولأهل الشام ) ، أي ومن سلك طريقهم فمر بميقاتهم ، والشام بلاد معروفة وهي من العريش إلى بالس ، وقيل إلى الفرات قاله النووي في شرح أبي داود ، قال القاري : قوله (( ولأهل الشام )) أي من طريقهم القديم لأنهم الآن يمرون على مدينة النبي الكريم - انتهى . وقال ابن حجر المكي الهيتمي : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ولأهل الشام الجحفة )) ، أي إذا لم يمروا بطريق المدينة وإلا لزمهم الإحرام من الحليفة إجماعا على ما قاله النووي ، قال القاري : وهذا غريب منه وعجيب ، فإن المالكية وأبا ثور ( وابن المنذر وهما من الشافعية ) يقولون بأن له التأخير إلى الجحفة ، وعندنا معشر الحنفية يجوز للمدني أيضا تأخيره إلى الجحفة ، فدعوى الإجماع باطلة مع وقوع النزاع - انتهى . قلت : وسيأتي الكلام في هذا مفصلا ووقع في حديث عائشة عند النسائي (( ولأهل الشام ومصر الجحفة )) قال الولي العراقي : هذه زيادة يجب الأخذ بها وعليها العمل . وروى الشافعي بسنده عن عطاء مرسلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل المغرب ( الجحفة ) بضم الجيم وإسكان الحاء المهملة وفتح الفاء قرية كبيرة كانت عامرة ذات منبر وهي الآن خربة بينها وبين البحر الأحمر بالأميال (6) وبالكيلوات (10) قال ابن حزم : وهي فيما بين المغرب والشمال من مكة ، ومنها إلى مكة اثنان وثمانون ميلا . وقال صاحب التيسير : تبعد عن مكة بالمراحل (5) وبالفراسخ (40) وبالأميال (120) وبالكيلوات (201) ويحرم منها أهل مصر والشام والمغرب ومن ورائهم من أهل الأندلس والروم والتكرور . قيل : إنها ذهبت أعلامها ولم يبق إلا رسوم خفية لا يكاد يعرفها إلا سكان بعض البوادي ، فلذا - والله تعالى أعلم - اختار الناس الإحرام احتياطا من المكان المسمى برابغ براء وموحدة وغين معجمة بوزن فاعل لأنها قرية قبل حذائها بقليل ، وقيل :
(17/184)
لا يحرمون من الجحفة لوخمها
وكثرة حماها فلا ينزلها أحد إلا حم . وسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
حديث ابن عمر عند الشيخين (( مهيعة )) بفتح الميم وإسكان الهاء وفتح التحتية
والعين المهملة بوزن علقمة ، وقيل : بكسر الهاء مع إسكان الياء على وزن لطيفة ،
والصحيح المشهور الأول . وسميت الجحفة لأن السيل أجحف بها ، قال ابن الكلبي : كان
العماليق يسكنون يثرب فوقع بينهم وبين بني عبيل - بفتح المهملة وكسر الموحدة ، وهم
إخوة عاد - حرب فأخرجوهم من يثرب فنزلوا مهيعة فجاء سيل فاجتحفهم أي : استأصلهم
فسميت الجحفة ( ولأهل نجد ) أي : ساكنيها ومن سلك طريق سفرهم فمر بمياقتهم . ونجد
بفتح النون وإسكان الجيم وآخره دال مهملة . قال الحافظ : هو كل مكان مرتفع ، وهو
اسم لعشرة مواضع ، والمراد منها هنا التي أعلاها تهامة واليمن وأسفلها الشام
والعراق . وقال ياقوت : نجد تسعة مواضع ، ونجد المشهور فيها اختلاف كثير ، والأكثر
أنها اسم للأرض التي أعلاها تهامة وأسفلها العراق والشام . وقال الخطابي : نجد
ناحية المشرق ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها وهي مشرق أهلها ،
وذكر في المنتهى : نجد من بلاد العرب وهو خلاف الغور أعني تهامة ، وكل ما ارتفع من
تهامة إلى أرض
قرن المنازل ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العراق فهو نجد . وقال عياض في المشارق وأبو عمر : نجد ما بين الجرش إلى سواد
الكوفة . وحده مما يلي لمغرب الحجاز وعن يسار الكعبة اليمن . ونجد كلها من عمل
اليمامة . قال السمهودي : والصواب أن الذي من عمل اليمامة موضع مخصوص من نجد لا
كله . وقال في النهاية : النجد ما ارتفع من الأرض وهو اسم خاص لما دون الحجاز مما
يلي العراق - انتهى . وهو مذكر ، قال الشاعر :
ألم تر أن الليل يقصر طوله ( ... بنجد ويزداد النطاف به نجدا (
(17/185)
ولو أنثه أحد ورده على البلاد لجاز له ذلك ( قرن المنازل ) بلفظ : جمع المنزل والمركب الإضافي هو اسم المكان ويقال له قرن أيضا بلا إضافة كما ورد في رواية للشيخين ، وأحمد ، ومالك وغيرهم ، وهو بفتح القاف وسكون الراء بعدها نون ، وضبطه صاحب الصحاح بفتح الراء وغلطوه . وبالغ النووي فحكى الاتفاق على تخطئته في ذلك ، لكن حكى عياض عن تعليق القابسي : أن من قاله بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع ، ومن قال بالفتح أراد الطريق الذي يفترق منه فإنه موضع فيه طريق متفرق . والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان . وحكى الرؤياني عن بعض قدماء الشافعية أن المكان الذي يقال له قرن موضعان : أحدهما في هبوط وهو الذي يقال له قرن المنازل ، والآخر في صعود وهو الذي يقال له قرن الثعالب ، والمعروف الأول ، وفي أخبار مكة للفاكهي : إن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى بينه وبين مسجد منى ألف وخمسمائة ذراع ، وقيل له قرن الثعالب لكثرة ما كان يأوى إليه من الثعالب ، فظهر أن قرن الثعالب ليس من المواقيت ، وقد وقع ذكره في حديث عائشة في إتيان النبي - صلى الله عليه وسلم - الطائف يدعوهم إلى الإسلام وردهم عليه ، قال : فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، الحديث . وذكره ابن إسحاق في السيرة النبوية ، ووقع في مرسل عطاء عند الشافعي في الأم (ج2 : ص117) ولأهل نجد قرنا ولمن سلك نجدا من أهل اليمن وغيرهم قرن المنازل ، ووقع في عبارة القاضي حسين في سياقه لحديث ابن عباس هذا (( ولأهل نجد اليمن ونجد الحجاز قرن )) ، وهذا لا يوجد في شيء من طرق حديث ابن عباس ، وإنما يوجد ذلك من مرسل عطاء وهو المعتمد ، فإن لأهل اليمن إذا قصدوا مكة طريقين إحداهما طريق أهل الجبال وهم يصلون إلى قرن أو يحاوذنه وهو ميقاتهم كما هو ميقات أهل المشرق ، والأخرى طريق أهل تهامة ، فيمرون بيلملم أو يحاوذنه وهو ميقاتهم لا يشاركهم فيه إلا من أتى عليه من غيرهم
(17/186)
كذا في الفتح . وقال المحب
الطبري : قرن المنازل وقرن الثعالب واحد وهو تلقاء ذات عرق على مرحلتين من مكة وهو
ميقات أهل النجدين نجد الحجاز ونجد تهامة واليمن وقال ابن حزم : قرن شرق من مكة
ومنها إلى مكة اثنان وأربعون ميلا . وقال صاحب التيسير : وقرن لها معان أحدها أعلى
الجبل ويسمى هذا المحرم الآن السير الكبير ويبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ
(16) وبالأميال (48) وبالكيلوات (80) ويحرم منه أهل الطائف وأهل نجد نجد اليمن
ونجد الحجاز وأهل الكويت فائدة
ولأهل اليمن يلملم ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/187)
قال ابن جاسر في (( مفيد الأنام )) : إذا ركب إنسان طائرة من نجد قاصدا مكة لأداء نسكه فميقاته الشرعي (( قرن )) المعروف بالسيل وحيث أنه لا يتمكن من النزول بالطائرة في الميقات المذكور وقصد جدة لينزل في مطارها فإن الواجب عليه - والحالة ما ذكر - نية الإحرام في الطائرة إذا أتى على الميقات - قرن -المذكور أو على ما يحاذيه ، فإذا نزل بجدة محرما قصد مكة لأداء نسكه ، ولا يجوز له ترك الإحرام إذا أتى على الميقات أو حاذاه بقصد الإحرام من جدة لأن الإحرام من الميقات أو ما يحاذيه واجب ، وتجاوزه بغير إحرام محرم ، وفيه دم ، ومثله إذا ركب طائرة من المدينة ونحوها قاصدا مكة ، والله أعلم - انتهى . ( ولأهل اليمن ) إذا مروا بطريق تهامة ومن سلك طريق سفرهم ومر على ميقاتهم . قال في المواهب اللطيفة : أراد به بعض أهل اليمن ممن يسكن تهامة فإن اليمن يشمل نجدا وتهامة ، وقوله فيما تقدم لأهل نجد عام يشمل نجد الحجاز ونجد اليمن . وقال الولي العراقي : قال أصحابنا وغيرهم : المراد بكون يلملم ميقات أهل اليمن بعض اليمن وهو تهامة ، فأما نجد فإن ميقاته قرن ، وذلك لأن اليمن يشمل نجدا وتهامة فأطلق اليمن وأريد بعضه وهو تهامة منه خاصة ، وقوله فيما تقدم (( نجد )) تناول نجد الحجاز ونجد اليمن وكلاهما ميقات أهله قرن ( يلملم ) بفتح التحتانية واللام وسكون الميم بعدها لام مفتوحة ثم ميم ، وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة ، وقال ابن حزم : هو جنوب من مكة ، ومنه إلى مكة ثلاثون ميلا . وفي شرح المهذب يصرف ولا يصرف . قال العيني : إن أريد الجبل فمنصرف ، وإن أريد البقعة فغير منصرف البتة بخلاف قرن ، فإنه على تقدير إرادة البقعة يجوز صرفه لأجل سكون وسطه . ويقال فيه (( ألملم )) بالهمزة وهو الأصل والياء تسهيل لها ، وحكى ابن سيده فيه (( يرموم )) براءين بدل اللامين . قال العيني : ووزن يلملم فعمعل كصمحمح ، وليس هو من لملمت لأن
(17/188)
ذوات الأربعة لا يلحقها
الزيادة في أولها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها نحو مدحرج ، قال : فلأجل هذا
حكمنا بأن الميم الأولى واللام الثانية زائدتان ، ولهذا قال الجوهري في باب الميم
وفصل الباء : يلم ثم قال (( يلملم )) لغة في الملم وهو ميقات أهل اليمن - انتهى .
وقال صاحب التيسير : وتبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ (16) وبالأميال (48)
وبالكليوات (80) ويحرم منه أهل اليمن وأهل جاوه وأهل الهند والصين - انتهى . قلت :
قد جرى عمل حجاج الهند والباكستان الذين يسافرون للحج من طريق البحر أنهم إذا وصلت
باخرتهم قريبا من بعض سواحل اليمن وكانوا على يوم وليلة أو أكثر من ميناء جدة
يحرمون هناك في البحر بناء على زعمهم أنهم يحاذون إذ ذاك جبل (( يلملم )) الذي هو
ميقات أهل اليمن ومن سلك طريقهم في البر إلى الحرم المكي ، والذي هو على مرحلتين
من مكة ، أي على بعد ثمان وأربعين ميلا منها ، وعندي عملهم هذا محل نظر وبحث ، بل
الصواب عندي أنه لا يجب عليهم الإحرام في البحر في أي محل كانوا ، أي قبل وصولهم
إلى جدة بل لهم أن يؤخروا الإحرام حتى ينزلوا في ميناء جدة فيحرموا منها ، وهذا
يحتاج إلى شيء من البسط والتوضيح ، فاعلم أن الأرض حول مكة في
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/189)
جهاتها الأربع قد جعلت حرما وحدث لذلك حدود عينها إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأمر الله تعالى ، ثم قررها نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، فحرم مكة ما أحاط وأطاف بها من جوانبها الأربع ، ومسافة تلك الحدود من الكعبة المشرفة والمسجد الحرام ليست متساوية بل متفاوتة ، فهي تنتهي على بعد عشرة أميال في جهة الحديبية وجدة وكذا في جهة الطائف ، وتسعة في أخرى ، أي الجعرانة ، وسبعة في ناحية ، أي في جهة عرفات والعراق ، وكذا في جهة اليمن ، وثلاثة فقط في أخرى ، أي في جهة التنعيم . وقد نصبت علامات لانتهاء الحرم في الجهات المذكورة ، وإذا وصلت هذه العلامات بخطوط مستقيمة بينها تحدث من ذلك خارطة تشبه شكلا مخمسا ويكون طول الحرم حول مكة سبعة وثلاثين ميلا وهي التي تدور بأنصاب الحرم المبنية في جميع جوانبه ، وقد جعل الله تعالى هذه المنطقة المحاطة بالخطوط حرما يجب تكريمه واحترامه ، وشرع له أحكاما يختص به ، فمثلا لا يقتل صيدها ولا يختلى خلاه ولا يعضد شجرها وغير ذلك من الأحكام ، وحرمة هذه القطعة من الأرض ليست إلا لأن لها علاقة ونسبة ببيت الله الحرام وهو في الحقيقة تكريم للكعبة وإجلال للبيت . ثم إن خارج تلك الحدود على بعد عشرات من الأميال قد وقتت خمس أماكن للقادمين إلى مكة للحج والعمرة يقال لها المواقيت جمع الميقات ، وهي خمسة : ذو الحليفة ، الجحفة ، قرن المنازل ، يلملم ، ذات عرق . قد عين النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأمكنة ميقاتا للحجاج القادمين من طرفها ، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز لأحد يمر على واحد من هذه المواقيت الخمسة المنصوصة وهو يريد الحج أو العمرة أن يتجاوزه بدون الإحرام ، فإن جاوزه غير محرم فقد أساء الأدب ببيت الله الحرام وعليه دم عند الجمهور ، وإن سلك أحد طريقا لا يقع فيها أي واحد من هذه المواقيت فإنه لا بد أن يمر بمحاذاته في محل ما فعليه أن يحرم قبل أن يتجاوز محل محاذاته ، فإن
(17/190)
لم يستطع أن يعرف محل المحاذاة
فعليه أن يحرم قبل مرحلتين من مكة المكرمة . وبعد هذا فاعلم أن في الزمن القديم
حينما كان السفر في البحر بالسفن الشراعية كان الحجاج القادمون من الهند والبلاد
الشرقية ينزلون على واحدة من موانئ اليمن مثل الحديدة أو غيرها ثم يسافرون منها
إلى مكة المكرمة في البر من طريق اليمن ، ولذا كان الواجب عليهم أن يحرموا من
يلملم )) لأن ميقات أهل اليمن ومن أتي من طريقهم يلملم ، ولكن في زمننا هذا لا
ترسي بواخر حجاج الهند والباكستان في موانئ اليمن بل تقطع طريقها في البحر رأسا
إلى جدة وترسي في مينائها ، ولذا لا يقع يلملم في طريقهم ولا يمرون على خط
محاذاتها أيضا فليس هناك وجه معقول لا يجاب الإحرام عليهم في البحر قبل وصول
باخرتهم إلى جدة ، ولكن قد جرى العمل على أن ربان باخرة الحجاج القادمة من الهند
أو الباكستان يعلن قبل الوصول إلى جدة بيوم وليلة أو أكثر بأن الباخرة ستمر قريبا
من جبل يلملم في الوقت الفلاني فعلى الحجاج أن يتأهبوا ويحرموا قبل ذلك ، فالحجاج
يحرمون في ذاك المحل من البحر عملا بهذا الإعلان ، فإن كان معناه أن جبل يلملم يرى
بالتلسكوب ( المنظار ) وأمثالها من الآلات من ذلك المحل الذي يبعد منه
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/191)
أكثر من خمسين ميلا يقينا فلا علاقة لهذه الرؤية بمسألة المحاذاة المعتبرة . وإن كان معناه أنه يمكن أن يخط خط مستقيم إلى جبل يلملم من ذلك المحل فهذا الإمكان متحقق من كل محل ولا يختص بمحل دون آخر ، وعلى كل حال فإن المسألة ما زالت غير واضحة لي مع أني وافقتهم في الإحرام في ذاك المحل سنة 75 ، وسنة 82 من الهجرة ، فأحرمت حيثما أحرموا وذلك لأنه لا شبهة في جواز الإحرام قبل الميقات عند الجمهور ، وبما أنه لا يقع ، أي ميقات في طريق بواخر الحجاج القادمة من الهند أو الباكستان ولا يحاذي أي واحد منها بل تقطع طريقها في البحر في حدود الآفاق ، أي إلى غير جهة الحرم بعيدة عن يلملم الذي هو جبل من جبال تهامة وقريب من مكة المكرمة فلا يمكن لأية باخرة أو سفينة أن تتجاوزه أو تتجاوز خط محاذاته إلى جهة الحرم قبل وصولها إلى جدة ولو كانت تجرى على الساحل ، وقد ذكرنا فيما سبق أن الحدود التي حدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحرم إذا أحطناها بالخطوط الممتدة من حد إلى حد تحدث منه صور مخمسة ، ثم إنه قد وقتت خمس أماكن مواقيت للحج والعمرة على بعد عشرات من الميل ( بل على نحو أكثر من مأتي ميل إلى جهة المدينة ) وقد مر تفصيله فيما سبق ، وإذا أحطنا تلك المواقيت الخمسة بالخطوط تظهر منها أيضا صورة مخمسة ممتدة الأطراف . وإذا أتضح لك هذا فاعلم أن المنطقة الواقعة ما بين خارج حدود الحرم ، أي خارج الخطوط المحيطة بحدود الحرم إلى المواقيت يقال لها الحل الصغير لأنه يحل فيها الصيد لكن يحرم المرور والدخول فيها بغير إحرام لمن يسكن وراء الميقات ، مثلا المنطقة الواقعة ما بين مكة والتنعيم في جهة المدينة حرم ومنها إلى ذي الحليفة حل صغير وسائر الأرض خارج حدود المواقيت الخمسة يقال لها الآفاق أو الحل الكبير ، فالذين يسكنون خارج حدود الحرم دون حدود المواقيت ( أي في الحل الصغير ) يجب عليهم الإحرام قبل دخولهم حدود الحرم إذا أرادوا
(17/192)
الحج والعمرة ، مثلا الذين
يسكنون في شمال مكة بين التنعيم وذي الحليفة يجب عليهم أن يحرموا من التنعيم قبل
الدخول في حدود الحرم ، والذين يسكنون في الآفاق خارج المواقيت يجب عليهم الإحرام
من مواقيتهم قبل أن يتجاوزوا حدود الميقات ( أي قبل دخولهم في الحل الصغير ) ،
فالذي يمر على أحد هذه المواقيت الخمسة حكمه واضح أنه يحرم من ذلك الميقات قبل أن
يتجاوزه إلى الحل الصغير أو إلى جهة الحرم . أما الذي لا يمر على واحد من هذه
المواقيت فيجب عليه الإحرام قبل تجاوزه الخط الذي يمتد من ميقات إلى آخر ويكون حدا
فاصلا بين الحل الصغير والآفاق ، أي الحل الكبير ، وإن هذا الخط في الأصل هو خط
محاذاة الميقات ، فالحاج ما دام خارج الخط المذكور فهو في الآفاق ، وإذا جاوز هذا
الخط فقد دخل حدود الحل الصغير ، ولا يجوز لآفاقي أن يدخل الحل الصغير بدون
الإحرام وقد ذكرنا فيما سبق أنه إن جاء أحد من طريق لا يقع أي ميقات فيه ولا يمكن
له معرفة حد الحل الصغير بالضبط أعني خط محاذاة الميقات فعليه أن يحرم قبل مرحلتين
من مكة . فإذا كانت باخرة الحجاج القادمين من
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/193)
البلاد الشرقية - الهند أو الباكستان وغيرهما - لا تمر في البحر بيلملم أو بمحاذاتها بل تقطع طريقها في الآفاق ، أي في الحل الكبير إلى غير جهة الحرم متوجهة إلى جدة وترسي في مينائها يجوز للحجاج المسافرين في تلك البواخر أن يؤخروا الإحرام إلى جدة ويحرموا منها ، لأنها على مرحلتين من مكة ، والمسافة بين مكة ويلملم أيضا مثله كما قال الهيتمي في تحفة المحتاج بشرح المنهاج (ج 4 ص 45) : وخرج بقولنا (( إلى جهة الحرم )) ما لو جاوزه يمنة أو يسرة فله أن يؤخر إحرامه لكن بشرط أن يحرم من محل مسافته إلى مكة مثل مسافة ذلك الميقات كما قاله الماوردي وجزم به غيره ، وبه يعلم أن الجائي من اليمن في البحر له أن يؤخر إحرامه من محاذاة يلملم إلى جدة لأن مسافتها إلى مكة كمسافة يلملم كما صرحوا به بخلاف الجائي فيه من مصر ليس له أن يؤخر إحرامه عن محاذاة الجحفة لأن كل محل من البحر بعد الجحفة أقرب إلى مكة منها فتنبه لذلك ، هذا بالنسبة للحجاج المسافرين بالباخرة ، أما الحجاج المسافرون بالطائرة فإن طائراتهم تقطع طريقها في أجواء البر وتمر على قرن المنازل عموما وتدخل أول الحل مارة على واحد من الميقاتين : قرن المنازل أو ذات عرق ، ثم تصل جدة وتنزل بها ، ولذا يجب عليهم الإحرام قبل مرورهم على قرن المنازل ، وبما أنه يتعذر علم الساعة التي تمر فيها الطائرة على الميقات بالضبط فالأحوط لهم أن يحرموا عند ركوبهم الطائرة ، لأنهم إن جاوزوا الميقات بدون الإحرام ووصلوا جدة غير محرمين يأثمون ويجب عليهم الدم عند الجمهور ، وسيأتي مزيد الكلام في هذا في شرح حديث جابر في المواقيت . تنبيه قال النووي : أقرب المواقيت إلى مكة قرن المنازل ميقات أهل نجد وفي ذلك نظر لأن ابن حزم ذكر كما تقدم أن بين قرن ومكة اثنين وأربعين ميلا وأن بين يلملم ومكة ثلاثين ميلا فتكون يلملم حينئذ أقرب المواقيت إلى مكة وعلى ما ذكر صاحب التيسير يكون قرن ويلملم على حد
(17/194)
سواء من مكة . قال الحافظ :
أبعد المواقيت من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة ، فقيل : الحكمة في ذلك أن
تعظم أجور أهل المدينة . وقيل رفقا بأهل الآفاق لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى
مكة أي : ممن له ميقات معين - انتهى . وقال في حجة الله البالغة : لما كان الإتيان
إلى مكة شعثا تفلا تاركا لغلواء نفسه مطلوبا ، وكان في تكليف الإنسان أن يحرم من
بلده حرج ظاهر ، فإن منهم من يكون قطره على مسيرة شهر وشهرين وأكثر وجب أن يخص
أمكنة معلومة حول مكة يحرمون منها ولا يؤخرون الإحرام بعدها ، واختار لأهل المدينة
أبعد المواقيت لأنها مهبط الوحي ومأرز الإيمان ودار الهجرة وأول قرية آمنت بالله ورسوله
، فأهلها أحق أن يبالغوا في إعلاء كلمة الله وأن يخصوا بزيادة تعظيم الله ، وأيضا
فهي أقرب الأقطار التي آمنت في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - انتهى .
قلت : لبيت الله الحرام من التكريم والتعظيم والتقديس والإجلال ما لا يخفى على
مسلم ، ومن آثار ذلك أن جعل له حمى وحدودا لا يتجاوزها قاصده بحج أو عمرة إلا وقد
أحرم وأتى في حال خشوع وخضوع وتقديس وإجلال عبادة لله واحتراما لهذا البيت المطهر
، ومن رحمة الله بخلقه أنه لم يجعل لهم ميقاتا واحدا في إحدى
فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/195)
جهاته بل جعل لكل جهة محرما وميقاتا يكون في طريق سالكه إلى مكة سواء كان من أهل تلك الجهة أو لا وذلك لئلا تلحقهم المشقة بقصدهم ميقاتا ليس في طريقهم حتى جعل ميقات من داره دون المواقيت مكانه الذي هو فيه ، حتى أهل مكة يحرمون بالحج من مكة فلا يلزمهم الخروج إلى الحل . وفي تقدير النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المواقيت وتحديدها معجزة من معجزاته الدالة على صدق نبوته ، فقد حددها ووقتها وأهلها لم يسلموا غير أهل المدينة إشعارا منه بأن أهل تلك الجهات سيسلمون ويحجون ويحرمون منها ، وقد كان ولله الحمد والمنة ( فهن ) أي : المواقيت المذكورة ( لهن ) بضمير المؤنثات ، وكان مقتضى الظاهر أن يكون (( لهم )) بضمير المذكرين ، فأجاب ابن مالك بأنه عدل إلى ضمير المؤنثات لقصد التشاكل وكأنه يقول ناب ضمير عن ضمير بالقرينة لطلب التشاكل وأجاب غيره بأنه على حذف مضاف أي : هن لأهلهن أي : هذه المواقيت لأهل هذه البلدان بدليل قوله الآتي : (( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) فصرح بالأهل ثانيا . قال النووي : الضمير في (( لهن )) عائد على المواضع والأقطار المذكورة وهي المدينة ، والشام ، واليمن ونجد أي : هذه المواقيت لهذه الأقطار ، والمراد لأهلها ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه . وفي رواية للبخاري (( هن لهم )) بضمير المذكرين وهو واضح . قال الحافظ : أي : المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة . ووقع في رواية أخرى أي : للبخاري في باب دخول مكة بغير إحرام بلفظ : (( هن لهن )) أي : المواقيت للجماعات المذكورة أو لأهلهن على حذف المضاف ، والأول أي : (( لهم )) بضمير المذكرين هو الأصل ، ووقع في باب مهل أهل اليمن بلفظ : (( هن لأهلهن )) وقوله : (( هن )) ضمير جماعة المؤنث وأصله لمن يعقل ، وقد استعمل فيما لا يعقل لكن فيما دون العشرة - انتهى . وقال القرطبي : أما جمعه من لا يعقل بالهاء والنون في قوله : (( فهن لهم )) فمستعملة
(17/196)
عند العرب وأكثر ذلك في العشرة
فما دونها فإذا جاوزها قالوا بهاء المؤنث لا غير كما قال الله تعالى : ? إن عدة
الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ? (- 9 : 36) ثم قال ? منها أربعة حرم ? (-9 : 36)
أي : من الإثنى عشر ، ثم قال : ? فلا تظلموا فيهن أنفسكم ?(- 9 : 36) أي : في هذه
الأربعة وقد قيل في الجميع وهو ضعيف شاذ - انتهى . ( ولمن أتى ) أي : مر ( عليهن )
أي : على المواقيت ( من غير أهلهن ) أي : من غير أهل البلاد المذكورة ، وهذا يقتضي
أن المواقيت المذكورة مواقيت أيضا لمن أتى عليها وإن لم يكن من أهل تلك المواقيت
المعينة ، فإنه يلزمه الإحرام منها إذا أتى عليها قاصدا لإتيان مكة لأحد النسكين ،
فيدخل في ذلك ما إذا ورد الشامي مثلا إلى ذي الحليفة فإنه يجب عليه الإحرام منها
ولا يتركه حتى يصل الجحفة ، فإن آخر أساء ولزمه دم ، هذا عند الجمهور . وقالت
المالكية والحنفية : يجوز له التأخير إلى ميقاته وإن كان الأفضل له أن يحرم من
ميقات المدينة أي : من ذي الحليفة . قال الحافظ : الشامي إذا أراد الحج فدخل
المدينة فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها ولا يؤخره حتى يأتي الجحفة التي هي
ميقاته الأصلي ، فإن أخر أساء ولزمه دم عند الجمهور وأطلق النووي الاتفاق ونفى
الخلاف في
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/197)
شرحيه لمسلم والمهذب في هذه المسألة فلعله أراد في مذهب الشافعي ، وإلا فالمعروف عند المالكية أن الشامي مثلا إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى ميقاته الأصلي وهو الجحفة جاز له ذلك وإن كان الأفضل خلافه وبه قال الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية . . وقال الأبي المالكي بعد ذكر قول النووي (( وهذا لا خلاف فيه )) لعله يعني عندهم وأما عندنا فإنما ذلك لمن ليس ميقاته بين يديه كاليمني والعراقي والنجدي يمر أحدهم بذي الحليفة فإنه يحرم منها ولا يؤخره لأن ميقاته ليس بين يديه ، وأما الشامي يمر بها فإنه يؤخر إلى الجحفة ، لأنها ميقاته وهي بين يديه ، نعم الأفضل له ذو الحليفة . قلت : فلا يصح الاعتذار الذي ذكره الحافظ والأبي مع وجود قول أبي ثور ، وابن المنذر من الشافعية موافقا للحنفية ، والمالكية وقال ابن دقيق العيد : قوله : (( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) عام فيمن أتى ، يدخل تحته من ميقاته بين يدي هذه المواقيت التي مر بها ومن ليس ميقاته بين يديها . وقوله : (( ولأهل الشام الجحفة )) عام بالنسبة إلى من يمر بميقات آخر أولا ، فإذا قلنا بالعموم الأول دخل تحته هذا الشامي الذي مر بذي الحليفة ، فيكون له التجاوز إليها ، فلكل واحد منهما عموم من وجه ( لاجتماعهما فيمن مر وهو من أهلها وافتراقهما في شامي مر بميقاته لا غير فأحرم منه ولم يأت غيره ، وفي شامي مثلا أتى ميقات أهل المدينة ولم يأت غيره ) فكما يحتمل أن يقال (( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) مخصوص بمن ليس ميقاته بين يديه يحتمل أن يقال (( ولأهل الشام الجحفة ، مخصوص بمن لم يمر بشيء من هذه المواقيت - انتهى . وقال الحافظ : قال ابن دقيق العيد : قوله (( ولأهل الشام الجحفة )) يشمل من مر من أهل الشام بذي الحليفة ومن لم يمر ، وقوله : (( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) يشمل الشامي إذا مر بذي الحليفة وغيره . فها هنا عمومان قد تعارضا – انتهى ملخصا . ثم
(17/198)
أجاب الحافظ عن هذا التعارض
فقال : ويحصل الانفكاك عنه بأن قوله (( هن لهن )) مفسر لقوله مثلا (( وقت لأهل
المدينة ذا الحليفة )) وأن المراد بأهل المدينة ساكنوها ومن سلك طريق سفرهم فمر
على ميقاتهم ، ويؤيده (( عراقي خرج من المدينة فليس له مجاوزة ميقات أهل المدينة
غير محرم )) ويترجح بهذا قول الجمهور وينتفي التعارض . وقال الولي العراقي بعد ذكر
كلام ابن دقيق العيد : لو سلك ( أي : ابن دقيق العيد ) ما ذكرته أولا من أن المراد
بأهل المدينة من سلك طريق سفرهم ومر على ميقاتهم ، لم يرد هذا الإشكال ولم يتعارض
هنا دليلان ، ومن المعلوم أن من ليس بين يديه ميقات لأهل بلدته التي هي محل سكنه
كاليمني يحج من المدينة ليس له مجاوزة ميقات أهل المدينة غير محرم ، وذلك يدل على
ما ذكرناه أنه ليس المراد بأهل المدينة سكانها وإنما المراد بأهلها من حج منها
وسلك طريق أهلها ، ولو حملناه على سكانها لوردت هذه الصورة وحصل الاضطراب في هذا
فنفرق في الغريب الطارئ على المدينة مثلا بين أن يكون بين يديه ميقات لأهل بلده أم
لا ، فنحمل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/199)
أهل المدينة تارة سكانها وتارة على سكانها والواردين عليها ، ويصير هذا تفريقا بغير دليل ، وإذا حملنا أهل المدينة على ما ذكرناه لم يحصل في ذلك اضطراب ومشى اللفظ على مدلول واحد في الأحوال كلها ، والله أعلم - انتهى كلام الولي العراقي فتأمل . وقال الأمير اليماني : إن صح ما قد روي من حديث عرو أنه - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المدينة ومن مر بهم ذا الحليفة تبين أن الجحفة إنما هي ميقات للشامي إذا لم يأت المدينة ، ولأن هذه المواقيت محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم فكل من مر بجانب من جوانبه لزمه تعظيم حرمته وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض - انتهى . ووقع في رواية (( هن لهن ولكل آت أتى عليهن من غيرهن )) قال السندي : أي لكل مار مر عليهن من غير أهلهن الذين قررت لأجلهم ، قيل : هذا يقتضي أن الشامي إذا مر بذي الحليفة فميقاته ذو الحليفة ، وعموم (( ولأهل الشام الجحفة )) يقتضي أن ميقاته الجحفة فهما عمومان متعارضان ، قلت : أنه لا تعارض إذ حاصل العمومين أن الشامي المار بذي الحليفة له ميقاتان أصلي وميقات بواسطة المرور بذي الحليفة ، وقد قرروا أن الميقات ما يحرم مجاوزته بلا إحرام لا ما لا يجوز تقديم الإحرام عليه فيجوز أن يقال : ذلك الشامي ليس له مجاوزة شيء منهما بلا إحرام فيجب عليه أن يحرم من أولهما ، ولا يجوز التأخير إلى آخرهما فإنه إذا أحرم من أولهما لم يجاوز شيئا منهما بلا إحرام ، وإذا أخر إلى آخرهما فقد جاوز الأول منهما بلا إحرام وذلك غير جائز له ، وعلى هذا فإذا جاوزهما بلا إحرام فقد ارتكب حرامين بخلاف صاحب ميقات واحد فإنه إذا جاوزه بلا إحرام فقد ارتكب حراما واحدا ، والحاصل أنه لا تعارض في ثبوت ميقاتين لواحد ، نعم لو كان معنى الميقات ما لا يجوز تقديم الإحرام عليه لحصل التعارض - انتهى . وقد علم مما ذكرنا أن ها هنا ثلاثة صور أو ثلاثة مسائل : إحداها أن يمر من ليس ميقاته بين يديه كاليمنى
(17/200)
والعراقي والنجدي يمر أحدهم
بذي الحليفة ، وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة أنه يلزمه الإحرام من ذي الحليفة ، ولا
يجوز له المجاوزة عنها بغير إحرام لأنه ليس ميقاته بين يديه وعليه حملت المالكية
(( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) . والثانية أن يمر من ميقاته بين يديه كالشامي
مثلا بذي الحليفة ، واختلفوا فيه فقالت الشافعية والحنابلة وإسحاق : يلزمه الإحرام
من ذي الحليفة ولا يجوز له التأخير إلى ميقاته ، أي الجحفة لظاهر الحديث خلافا
للمالكية والحنفية وأبي ثور وابن المنذر من الشافعية . والثالثة أن المدني إذا
جاوز عن ميقاته إلى الجحفة فهل يجوز له ذلك أم لا ؟ وبالأول قالت الحنفية كما في
كتب فروعهم ، وبالثاني قال الجمهور وهو القول الراجح المعول عليه عندنا قلت :
واستدل الحنفية بما روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أهل من الفرع ، قال محمد
في موطأه : أما إحرام عبد الله بن عمر من الفرع وهو دون ذي الحليفة إلى مكة فإن
أمامها وقت آخر وهو الجحفة ، وقد رخص لأهل المدينة أن يحرموا من الجحفة لأنها وقت
من المواقيت ( يعني أن الواجب أن لا يتجاوز عن مطلق الميقات لا عن الميقات الأول )
، ثم روى محمد عن أبي يوسف عن إسحاق بن راشد عن محمد بن علي عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه
لمن كان يريد الحج والعمرة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/201)
قال : من أحب منكم أن يستمتع بثيابه إلى الجحفة فليفعل - انتهى . قال القاري في شرح النقاية : لو لم يحرم المدني ومن بمعناه من ذي الحليفة وأحرم من الجحفة فلا شيء عليه وكره وفاقا ، وعن أبي حنيفة يلزمه دم ، وبه قال الشافعي ، لكن الظاهر هو الأول لما روي في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم - (( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) فمن جاوز إلى الميقات الثاني صار ميقاتا له - انتهى . وقال ابن الهمام : المدني إذا جاوز إلى الجحفة فأحرم بها فلا بأس ، والأفضل أن يحرم من ذي الحليفة ، ومقتضى كون فائدة التوقيت المنع من التأخير أن لا يجوز التأخير عن ذي الحليفة ، ولذا روى عن أبي حنيفة أن عليه دما لكن الظاهر عنه هو الأول لما روي من تمام الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم - (( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) فمن جاوز إلى الميقات الثاني صار من أهله ، وروي عن عائشة أنها كانت إذا أرادت أن تحج أحرمت من ذي الحليفة ، وإذا أرادت أن تعتمر أحرمت من الجحفة ، ومعلوم أن لا فرق في الميقات بين الحج والعمرة ، فلو لم تكن الجحفة ميقاتا لهما لما أحرمت بالعمرة منها ، فبفعلها يعلم أن المنع من التأخير مقيد بالميقات الأخير - انتهى . وقال ابن نحيم : قوله : أي : الماتن (( أن هذه المواقيت لأهلها ولمن مر بها )) قد أفاد أنه لا يجوز مجاوزة الجميع إلا محرما فلا يجب على المدني أن يحرم من ميقاته وإن كان هو الأفضل ، وإنما يجب عليه أن يحرم من آخرها عندنا - انتهى . قلت : فعل ابن عمر رضي الله عنهما مخالف لتوقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة فلا بد من تأويله ، ولذا قال ابن عبد البر : محمله عند العلماء أنه مر بميقات لا يريد إحراما ثم بدا له فأهل منه أو جاء إلى الفرع من مكة أو غيرها ثم بدا له في الإحرام كما قاله الشافعي وغيره ، وقد روى حديث الميقات ومحال أن يتعداه مع علمه به فيوجب على نفسه
(17/202)
دما ، وهذا لا يظنه عالم -
انتهى . وقال الباجي : يجوز أن يكون عبد الله بن عمر ترك ظاهره أي : الأمر
بالمواقيت لرأي رآه أو تأويل تأوله . قال : وفي كتاب محمد : قال مالك : كان خروج
عبد الله بن عمر إلى الفرع لحاجة ثم بدا له فأحرم منها - انتهى . ويمكن أن يأول أن
ابن عمر لم يمر في طريقه على ذي الحليفة بل ذهب إلى الفرع من طريق آخر . قال ابن
قدامة في المغني (ج3 : ص264) : فإن مر من غير طريق ذي الحليفة فميقاته الحجفة سواء
كان شاميا أو مدنيا لما روى أبو الزبير أنه سمع جابر يسأل عن المهل فقال : سمعته
أحسبه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : مهل أهل المدينة من ذي
الحليفة ، والطريق الآخر من الجحفة . رواه مسلم ، ولأنه مر على أحد المواقيت دون
غيره فلم يلزمه الإحرام قبله كسائر المواقيت ، ويمكن حمل حديث عائشة في تأخيرها
إحرام العمرة إلى الجحفة على هذا ، وأنها لا تمر في طريقها إلى ذي الحليفة لئلا
يكون فعلها مخالفا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولسائر أهل العلم -
انتهى . وأما الحديث المرفوع الذي ذكره محمد في موطأه فهو مرسل ولا حجة في المرسل
عند الجمهور لاسيما وهو معارض لأحاديث التوقيت الموصولة الصحيحة ( لمن كان ) بدل
مما قبله بإعادة الجار ، وفي رواية (( من كان )) ( يريد الحج والعمرة ) الواو
بمعنى
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/203)
أو ، أو المراد إرادتها معا على جهة القران . وفيه دلالة على أنه لا يلزم الإحرام إلا من أراد دخول مكة لأحد النسكين ، فلو لم يرد ذلك جاز له دخولها من غير إحرام وعليه بوب البخاري قال (( باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام )) ودخل ابن عمر حلالا ، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة ، قلت : استدل البخاري بمفهوم قوله في حديث الباب لمن كان يريد الحج والعمرة على أن الإحرام يختص بمن أراد الحج والعمرة فمفهومه أن المتردد إلى مكة بغير قصد الحج والعمرة لا يلزمه الإحرام ، وقد اختلف العلماء في هذا قال العيني : مذهب الزهري والحسن البصري والشامي في قول ومالك في رواية ، وابن وهب وداود بن علي وأصحابه الظاهرية أنه لا بأس بدخول الحرم بغير إحرام ومذهب عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد والثوري وأبي حنيفة وأصحابه ومالك في رواية وهي قوله الصحيح والشافعي في المشهور عنه وأحمد وأبي ثور والحسن بن حيي لا يصلح لأحد كان منزله من وراء الميقات إلى الأمصار أن يدخل مكة إلا بالإحرام فإن لم يفعل أساء ولا شيء عليه عند الشافعي وأبي ثور وعند أبي حنيفة عليه حجة أو عمرة . وقال أبو عمر : لا أعلم خلافا بين فقهاء الأمصار في الحطابين ومن يدمن الاختلاف إلى مكة ويكثره في اليوم والليلة أنهم لا يؤمرون بذلك لما عليهم فيه من المشقة - انتهى . وقال الحافظ : المشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا ، وفي قول يجب مطلقا . قال : والمشهور عن الأئمة الثلاثة الوجوب وفي رواية عن كل منهم لا يجب ، وهو قول ابن عمر والزهري والحسن وأهل الظاهر ، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة ، واستثني الحنفية من كان داخل الميقات وزعم ابن عبد البر أن أكثر الصحابة والتابعين على القول بالوجوب قلت : مذهب الحنفية على ما في الدر المختارة وغيره أنه يحرم تأخير الإحرام عن المواقيت لآفاقي قصد دخول مكة ولو لحاجة غير الحج
(17/204)
كمجرد الرؤية والنزهة أو
التجارة ، وألحق بالآفاقي في هذا الحكم الحرمي والحلي إذا خرجا إلى الميقات بخلاف
ما إذا بقيا في مكانهما فلا يحرم ، أما لو قصد الآفاقي موضعا من الحل كخليص وجدة
قصدا أوليا عند المجاوزة حل له مجاوزته بلا إحرام ، فإذا دخل به التحق بأهله فله
دخول مكة بلا إحرام ، وحل لأهل داخلها يعني لكل من وجد في داخل المواقيت دخول مكة
غير محرم ما لم يرد نسكا للحرج وقال النووي في شرح مسلم : في حديث الباب دليل لمن
يقول بجواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد نسكا سواء كان دخوله لحاجة تتكرر
كالحطاب والحشاش والسقاء والصياد وغيرهم أم لم يتكرر كالتاجر والزائر وغيرهما ،
وسواء كان آمنا أو خائفا وهذا أصح القولين للشافعي ، وبه يفتي أصحابه ، والقول
الثاني : لا يجوز دخوله بغير إحرام إن كانت حاجته لا تتكرر إلا أن يكون مقاتلا أو
خائفا من قتال أو ظالم . ونقل القاضي نحو هذا عن أكثر العلماء - انتهى . وقال
الباجي (ج3 ص80) : دخول مكة على ثلاثة أضرب : الضرب الأول : أن يريد دخولها للنسك
في حج أو عمرة فهذا لا يجوز أن يدخلها إلا محرما . فإن تجاوز الميقات غير محرم
فعليه دم . والضرب
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/205)
الثاني أن يدخلها غير مريد للنسك وإنما يدخلها لحجة تتكرر كالحاطبين وأصحاب الفواكه فهؤلاء لا يجوز لهم دخولها غير محرمين لأن الضرورة كانت تلحقهم بالإحرام متى احتاجوا إلى دخولها لتكرر ذلك . والضرب الثالث أن يدخلها لحاجته وهي مما لا تتكرر فهذا لا يجوز له أن يدخلها إلا محرما لأنه لا ضرر عليه في إحرامه ، وإن دخلها غير محرم فهل عليه دم أو لا الظاهر من المذهب أنه لا شيء عليه وقد أساء - انتهى . وقال ابن قدامة : من جاوز الميقات مريدا للنسك غير محرم فعليه أن يرجع إليه ليحرم منه إن أمكنه سواء تجاوزه عالما به أو جاهلا ، علم تحريم ذلك أو جهله ، فإن رجع إليه فأحرم منه فلا شيء عليه لا نعلم في ذلك خلافا ، وإن أحرم من دون الميقات فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع ، وبهذا قال مالك وابن المبارك . قال : وأما المجاوز للميقات ممن لا يريد النسك فعلى قسمين أحدهما : لا يريد دخول الحرم بل يريد حاجة فيما سواه فهذا لا يلزمه الإحرام بغير خلاف ولا شيء عليه في ترك الإحرام ، وقد أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بدرا مرتين وكانوا يسافرون للجهاد وغيره فيمرون بذي الحليفة فلا يحرمون ولا يرون بذلك بأسا ثم متى بدا لهذا الإحرام وتجدد له العزم عليه أحرم من موضعه ولا شيء عليه ، هذا ظاهر كلام الخرقي ، وبه يقول مالك والثوري والشافعي وصاحبا أبي حنيفة ، وحكى ابن المنذر عن أحمد في الرجل يخرج لحاجة وهو لا يريد الحج فجاوز ذا الحليفة ثم أراد الحج يرجع إلى ذي الحليفة فيحرم ، وبه قال أبو إسحاق والأول أصح . القسم الثاني من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها فهم على ثلاثة أضرب أحدها من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة كالحطاب والحشاش وناقل الميرة والفيح ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها فهؤلاء لا إحرام عليهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح مكة حلالا وعلى رأسه المغفر
(17/206)
وكذلك أصحابه ولم نعلم أحدا
منهم أحرم يومئذ ولو أوجبنا الإحرام على كل من يتكرر دخوله أفضى إلى أن يكون جميع
زمانه محرما فسقط للحرج وبهذا قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يجوز لأحد دخول
الحرم بغير إحرام إلا من كان دون الميقات ، ولنا ما ذكرناه ، وقد روى الترمذي أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح مكة وعلى رأسه عمامة سوداء وقال : هذا
حديث حسن صحيح . ومتى أراد هذا النسك بعد مجاوزة الميقات أحرم من موضعه كالقسم
الذي قبله ، وفيه من الخلاف ما فيه . النوع الثاني : من لا يكلف الحج كالعبد
والصبي والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات أو عتق العبد وبلغ الصبي وأرادوا
الإحرام فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم وبهذا قال عطاء ومالك والثوري
والأوزاعي وإسحاق وهو قول أصحاب الرأي في الكافر يسلم والصبي يبلغ ، وقالوا في
العبد : عليه دم . وقال الشافعي في جميعهم : على كل واحد منهم دم ، وعن أحمد في
الكافر يسلم كقوله ، ويتخرج في الصبي والعبد كذلك قياسا على الكافر يسلم . النوع
الثالث : المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة فلا يجوز له تجاوز الميقات
غير محرم . وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي ، وقال بعضهم : لا يجب الإحرام
عليه ، وعن أحمد ما يدل على ذلك ، وقد روي عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام ،
ولأنه أحد
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/207)
الحرمين فلم يلزم الإحرام كدخوله حرم المدينة ، ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل فبقى على الأصل . إذا ثبت هذا فمتى أراد هذا الإحرام بعد تجاوز الميقات رجع فأحرم منه فإن أحرم من دونه فعليه دم كالمريد للنسك - انتهى كلام ابن قدامة . وقد علم مما تقدم أن الإمام الشافعي ذهب في المشهور عنه إلى جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد الحج أو العمرة وهو مذهب الظاهرية ، ونصره ابن حزم في المحلى ، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وأبو البقاء ابن عقيل ، قال ابن مفلح في الفروع وهي ظاهرة واستدلوا على ذلك بقوله في هذا الحديث لمن كان يريد الحج والعمرة ، واستدلوا أيضا بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح حلالا وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه ، وبما روى مالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر دخل مكة بغير إحرام ، وبأنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج والعمرة عند من أوجبها إنما يجب مرة واحدة ، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة ، وبأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل فبقي على الأصل . واستدل لأبي حنفية ومالك وأحمد بقوله - صلى الله عليه وسلم - في مكة أنها حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي إنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما كحرمتها بالأمس . قال الطحاوي وابن الهمام وغيرهما يعنى في الدخول بغير إحرام لإجماع المسلمين على حل الدخول بعده للقتال وأجيب عن ذلك بأن الحديث ليس له دخل في الإحرام ، وإنما هو في تحريم القتال في مكة ، قال الشيخ محمد عابد السندي في المواهب اللطيفة : وأما ما زعم الطحاوي بأن ذلك مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي شريح وغيره أنها لم تحل له إلا ساعة من نهار وأن المراد بذلك جواز دخولها بغير إحرام لا تحريم القتل والقتال فيها لأنهم أجمعوا على أن
(17/208)
المشركين لو غلبوا - والعياذ
بالله - على مكة حل للمسلمين قتالهم وقتلهم فيها - انتهى . فقد دفعه الشيخ أبو
الحسن السندي بأن ذلك مخالف لصريح الحديث ، فإن في حديث أبي شريح عند الشيخين :
فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا : (( إن الله تعالى
أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار )) فهذا صريح في أن الساعة
إنما أبيحت له في القتال لا في دخول مكة بغير إحرام ، ولذلك قال النووي : في حديث
أبي شريح دلالة على أن مكة تبقى دار الإسلام إلى يوم القيامة ، ونهى المترخص إذا
قاتل في رئاسة دنيوية ، وفي دعواه الإجماع نظر فقد حكى القفال والماوردي وغيرهما
القول بعدم حل القتال أصلا في مكة ونقلوا في ذلك عن محققي الشافعية والمالكية -
انتهى كلامه . وأشار الطحاوي إلى حديث أبي شريح في القتال والدخول بلا إحرام
كليهما ، فكان الأمران خاصة له في ذلك اليوم ، ولا يخفى ما فيه ، فإن قوله في
الحديث (( فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) ألخ . نص بأنه
في تحرم القتال في مكة خاصة واستدل لهم أيضا بحديث ابن عباس مرفوعا (( لا يجاوز
أحد الميقات إلا محرما )) أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني ، وفي إسناده خصيف بن عبد
الرحمن عن سعيد بن جبير ، وقد
فمن كان دونهن فمهله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/209)
ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وابن خزيمة وأبو أحمد الحاكم والأزدي ، ووثقه ابن معين وابن سعد . وقال الحافظ : صدوق سيء الحفظ خلط بآخره . ورواه ابن عدي من وجهين ضعيفين وروى الشافعي عنه بإسناد صحيح أنه كان يرد من جاوز الميقات غير محرم . وأجيب عن هذا بأنه موقوف ، وهو أيضا معارض لما رواه مالك في الموطأ أن ابن عمر جاوز الميقات غير محرم ، ولا يحتج بما روي عن ابن عباس مرفوعا لضعف طرقها واستدل لهم أيضا بأن الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة ، فإن الله جعل البيت معظما وجعل المسجد الحرام فناء ، وجعل مكة فناء للمسجد الحرام ، وجعل المواقيت فناء للحرم والشرع ورد بكيفية تعظيمه وهو الإحرام على هيئة مخصوصة فيستوي فيه الحاج والمعتمر وغيرهما ولا يجوز تركه لأحد ممن يريد دخول مكة ، وفيه أن هذا تعليل في معرض النص ، والأصل عدم الخصوصية وهي لا تثبت إلا بدليل فتأمل وقد أجاب هؤلاء عن حديث الباب بوجوه منها أنه استدلال بمفهوم القيد الغالبي وهو ضعيف عند الحنفية ومنطوق حديث ابن عباس المرفوع والموقوف أولى من المفهوم المخالف في قوله لمن كان يريد الحج والعمرة ومنها أن دخوله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح بغير إحرام حكم مخصوص له ولأصحابه بذلك الوقت . وقد تقدم ما فيه ومنها ما ذكره ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج3 ص6) ، وقد تركنا ذكره لطول كلامه ، من شاء الوقوف عليه رجع إلى شرح العمدة ومنها أن قوله (( لمن كان يريد الحج والعمرة )) يحتمل أن يقدر فيه مضاف ، أي لمن كان يريد مكان الحج والعمرة كما قال القاري : (( يريد الحج والعمرة )) أي مكان أحد النسكين وهو الحرم - انتهى . أو يكون كناية عن إرادة دخول مكة ، والنكتة في اختيار هذا التعبير التنبيه على أنه ليس من شأن المسلم قصد دخول مكة مع تركه فريضة الحج والعمرة . قالوا : ويؤيد لصحة هذا التأويل حديث ابن عباس المتقدم قلت : حديث الباب نص فيما ذهب إليه الشافعية ، وقد اعترف
(17/210)
بذلك صاحب فيض الباري (ج3 ص64)
، ولم يقم على إيجاب الإحرام على من أراد مجاوزة الميقات لغير النسكين دليل ، وقد
كان المسلمون في عصره - صلى الله عليه وسلم - يختلفون إلى مكة لحوائجهم ولم ينقل
أنه أمر أحدا منهم بإحرام فلا حاجة إلى تأويل حديث الباب بما يخالف ظاهره ، ويخالف
فعل ابن عمر رضي الله عنه . قال صاحب تيسير العلام : ما ذكر من الخلاف في حق غير
المتردد إلى الحرم لجلب الفاكهة أو الحطب وغيرهما أو له بستان في الحل يتردد عليه
أو له وظيفة أو عمل في مكة وأهله في جدة أو بالعكس فهؤلاء ونحوهم لا يجب عليهم
الإحرام عند عامة العلماء فيما اطلعت عليه من كلام فقهاء المذاهب إلا ما ذهب إليه
أبو حنفية من التحريم على كل داخل إلى مكة من غير إحرام ، والعمل على خلافه -
انتهى . ( فمن كان دونهن ) أي دون المواقيت يعني من كان بين الميقات ومكة ( فمهله
) بصيغة المفعول من الإهلال ، أي موضع إحرامه . قال الحافظ : المهل بضم الميم وفتح
الهاء وتشديد اللام موضع الإهلال ، وأصله رفع الصوت لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم
بالتلبية عند الإحرام ، ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعا . قال ابن الجوزي : وإنما
من أهله وكذاك وكذاك ، حتى أهل مكة يهلون منها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/211)
يقوله بفتح الميم من لا يعرف . وقال أبو البقاء العكبري : هو مصدر بمعني الإهلال كالمدخل والمخرج بمعنى الإدخال والإخراج . قال البدر الدماميني : جعله هنا مصدرا يحتاج إلى حذف أو تأويل ولا داعي إليه ( من أهله ) أي من محل أهله . قال القاري : أي من بيته ولو كان قريبا من المواقيت ولا يلزمه الذهاب إليها . وفي رواية للشيخين (( ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ )) قال العيني : الفاء جواب الشرط ، أي فمهله من حيث قصد الذهاب إلى مكة يعني يهل من ذلك الموضع . وقال الحافظ : أي فميقاته من حيث أنشأ الإحرام إذا سافر من مكانه إلى مكة ، وهذا متفق عليه إلا ما روي عن مجاهد أنه قال : ميقات هؤلاء نفس مكة . قال ابن عبد البر : أنه قول شاذ ، وقال السندي : أي يهل حيث ينشئ السفر من (( أنشأ )) إذا أحدث ، يفيد أنه ليس لمن كان داخل الميقات أن يؤخر الإحرام عن أهله - انتهى . قال الحافظ : ويؤخذ من الحديث أن من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات ثم بدا له بعد ذلك أنه يحرم من حيث تجدد له القصد ، ولا يجب عليه الرجوع إلى الميقات لقوله (( فمن حيث أنشأ )) قال القاري : ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم أهل المواقيت نفسها ، والجمهور على أن حكمها حكم داخل المواقيت خلافا للطحاوي حيث جعل حكمها حكم الآفاق ( وكذاك وكذاك ) بإسقاط اللام فيهما وهي رواية أبي ذر للبخاري وعند غيره (( وكذاك )) أي مرة ، يعني وكذا من كان أقرب من هذا الأقرب ، وكأنه منزل منزلة قولك وهكذا ، أي الأقرب فالأقرب . وقال القاري : أي الأدون فالأدون إلى آخر الحل ( حتى أهل مكة ) وغيرهم ممن هو بها ( يهلون ) أي يحرمون ( منها ) أي من مكة ، ولفظ أهل بالرفع على أن حتى ابتدائية ، وقوله (( أهل مكة )) مبتدأ وخبره (( يهلون منها )) والجملة لا محل لها من الإعراب . وذكر الكرماني أنه روي فيه الجر أيضا . وفي رواية (( حتى أهل مكة من مكة )) قال العيني : يجوز في لفظ ((
(17/212)
أهل )) الجر لأن (( حتى ))
تكون حرفا جارا بمنزلة إلى ، ويجوز فيه الرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره ((
حتى أهل مكة يهلون من مكة )) كما في قولك جاء القوم حتى المشاة ، أي حتى المشاة
جاءوا . قال الحافظ : قوله (( أهل مكة من مكة )) ، أي لا يحتاجون إلى الخروج إلى
الميقات للإحرام منه بل يحرمون من مكة كالآفاقي الذي بين الميقات ومكة فإنه يحرم
من مكانه ولا يحتاج إلى الرجوع إلى الميقات ليحرم منه ، وهذا خاص بالحج ، وأما
المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل يعني لقضية عائشة رضي الله عنها حين
أرسلها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أخيها عبد الرحمن إلى التنعيم لتحرم منه ،
وكذا قال غيره من أصحاب المذاهب الأربعة كالعيني والولي العراقي والمحب الطبري
والقسطلاني وابن قدامة والشيخ محمد عابد السندي وغيرهم وادعوا الإجماع على ذلك قلت
: حديث ابن عباس هذا نص في أن هذه المواقيت للحج والعمرة جميعا لا للحج فقط فيلزم
أن تكون مكة ميقاتا لأهلها للحج والعمرة كليهما لا للحج فقط خلافا للجمهور ، ولهذا
بوب البخاري عليه بقوله (( باب مهل أهل مكة للحج والعمرة )) ففيه إشعار بأن مكة عنده
ميقات لأهلها للعمرة أيضا قال الأمير اليماني : أعلم أن قوله (( حتى أهل مكة من
مكة )) يدل على أن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/213)
ميقات عمرة أهل مكة كحجهم ، وكذلك القارن منهم ميقاته مكة ، ولكن قال المحب الطبري : إنه لا يعلم أحدا جعل مكة ميقاتا للعمرة في حق المكي . قال : فعليه أن يخرج من الحرم إلى أدني الحل يدل عليه أمره - صلى الله عليه وسلم - عائشة أن تخرج إلى التنعيم وانتظاره مع جملة الحجيج لها ، ثم فعل من جاور بمكة من الصحابة ثم تتابع التابعين وتابعيهم إلى اليوم ، وذلك إجماع في كل عصر . قال الأمير اليماني : وجوابه أنه - صلى الله عليه وسلم - جعلها ميقاتا لها بهذا الحديث ، وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال (( يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر )) ، يعنى إذا أحرم بها من ناحية المزدلفة . وقال أيضا : من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم ويجاوز الحرم . فآثار موقوفة لا تقاوم المرفوع ، وأما ما ثبت من أمره - صلى الله عليه وسلم - لعائشة بالخروج إلى التنعيم لتحرم بعمرة فلم يرد إلا تطييب قلبها بدخولها إلى مكة معتمرة كصواحباتها ، لأنها أحرمت بالعمرة معه ثم حاضت فدخلت مكة ولم تطف بالبيت كما طفن كما يدل له قولها (( قلت : يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد ، قال : انتظري فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه )) الحديث . فإنه محتمل أنها إنما أرادت أن تشابه الداخلين من الحل إلى مكة بالعمرة ، ولا يدل أنها لا تصح العمرة إلا من الحل لمن صار في مكة ، ومع الاحتمال لا يقاوم حديث الباب . قال : وعند أصحاب أحمد أن المكي إذا أحرم للعمرة من مكة كانت عمرة صحيحة . قالوا : ويلزمه دم لما ترك من الإحرام من الميقات . قال الأمير اليماني : ويأتيك أن إلزامه الدم لا دليل عليه . وقال الشوكاني في السيل الجرار (ج2 ص 216 ) : وقع التصريح في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما بعد ذكر المواقيت لأهل كل محل أنه قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فهي لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد
(17/214)
الحج والعمرة )) فصرح في هذا
الحديث بالعمرة يعني ففيه تعيين ميقات للعمرة والحج كليهما لأهل هذه المواقيت
ولأهل مكة جميعا وقال أبو الحسن السندي في حاشيته على الصحيح : قول البخاري (( باب
مهل أهل مكة للحج والعمرة )) كأنه نبه بذلك على أن سوق الحديث لميقات الحج والعمرة
جميعا لا لميقات الحج فقط ، ولذلك قال : ممن أراد الحج والعمرة ، فمقتضاه أن ما
جعل ميقاتا لأهل مكة يكون ميقاتا لهم للحج والعمرة جميعا لا للحج فقط ، وإن ذهب
الجمهور إلى الثاني وجعلوا ميقات العمرة لأهل مكة أدني الحل بحديث إحرام عائشة
بالعمرة من التنعيم ، وذلك لأن عائشة ما كانت مكية حقيقة فيجوز أن يكون ميقات
مثلها التنعيم للعمرة وإن كان ميقات المكي نفس مكة ، وكذا يجوز إحرامها من التنعيم
لأنها أرادت العمرة الآفاقية حيث أرادت المساواة لسائر المعتمرين في ذلك السفر ،
فحديث عائشة لا يعارض هذا الحديث ، فكأنه بهذه الترجمة أراد الاعتراض على الجمهور
، والله تعالى أعلم - انتهى . وقد ظهر بهذا كله أن كل ما استدل به الجمهور هو قضية
عائشة في اعتمارها من التنعيم وآثار موقوفة عن ابن سيرين وعطاء وابن عباس . قالوا
: قضية عائشة مع أثر ابن عباس مخصصة لحديث الباب ، وفيه أن قضية عائشة واقعة جزئية
محتملة ، وحديث الباب فيه بيان ضابطه وقانون عام فيقدم على حديث عائشة ، والآثار
الموقوفة لا تعارض المرفوع ، والعبرة لما روى الصحابي لا لرأيه
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/215)
تنبيه : قال الطحاوي ذهب قوم ( أي من الذين فرقوا بين ميقات المكي للحج وميقاته للعمرة ) إلى أنه لا ميقات للعمرة لمن كان من مكة إلا التنعيم ، ولا ينبغي مجاوزته كما لا ينبغي مجاوزة المواقيت التي للحج ، وخالفهم آخرون فقالوا : مواقيت العمرة الحل وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة بالإحرام من التنعيم لأنه كان أقرب الحل من مكة وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء ، ويؤيد ذلك ما رواه الطحاوي من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة في حديثها ، قال : فكان أدنانا من الحرم التنعيم فاعتمرت منه . قال : فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل - انتهى . وقال ابن قدامة بعد ذكر أثر ابن عباس المتقدم : إنما لزم الإحرام أي إحرام المكي للعمرة من الحل ليجمع في النسك بين الحل والحرام فإنه لو أحرم من الحرم لما جمع بينهما فيه لأن أفعال العمرة كلها في الحرم بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الخروج إلى عرفة فيجتمع له الحل والحرم والعمرة بخلاف ذلك ( فبالخروج إلى الحل يتحقق فيها نوع سفر ويصح به كونه وافدا على البيت الحرام ) قال : ومن أي الحل أحرم جاز ، وإنما أعمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة من التنعيم لأنها أقرب الحل إلى مكة - انتهى . تنبيه ثان : قال السندي في حاشيته على الصحيح قوله (( ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة )) مقتضاه أنه ليس لمن كان داخل المواقيت أن يؤخر الإحرام من أهله ، وكذا ليس لأهل مكة أن يؤخروه من مكة ، ويشكل عليه قول علمائنا الحنفية حيث جوزوا لمن كان داخل المواقيت التأخير إلى آخر الحل ، ولأهل مكة إلى آخر الحرم من حيث أنه مخالف للحديث ، ومن حيث أن المواقيت ليست مما يثبت بالرأي ، والله تعالى أعلم - انتهى . قلت : اختلفوا في تعيين الإحرام بالحج لمن هو بمكة من مكة . قال الولي العراقي (ج2 ص 15 ، 16 ) : أما من هو بمكة فميقاته نفس مكة لا يجوز له تركها والإحرام خارجها ولو كان في الحرم ، هذا
(17/216)
هو الصحيح عند أصحابنا (
الشافعية ) وغيرهم ، قال بعض أصحابنا : الإحرام من الحرم كله جائز ، والحديث
بخلافه . وقال المالكية : لو خرج إلى الحل جاز على الأشهر ولا دم لأنه زاد وما نقص
. قال أصحابنا : ويجوز أن يحرم من جميع نواحي مكة بحيث لا يخرج عن نفس البلد ، وفي
الأفضل قولان أصحهما من باب داره ، والثاني من المسجد الحرام تحت الميزاب - انتهى
. وقال المحب الطبري ( ص 73 ) : ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - (( حتى أهل مكة
يهلون منها )) يدل على تعيين الإحرام بالحج من مكة حتى لو حرج وأحرم خارجا منها
كان مسيئا وعليه دم . وفي المسألة خلاف ، ثم قال : حجة من قال يجوز الإهلال بالحج لأهل
مكة من الحرم خارجا عن مكة وذكر فيه ما روي عن جابر في حديث فسخ الحج (( حتى إذا
كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج )) وما روي عنه أيضا قال : (( أمرنا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أهللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى ، قال :
فأهللنا من الأبطح )) أخرجهما الشيخان . قال الطبري : والقائل بهذا يقول إطلاق مكة
جائز على جميع الحرم ، ومنه الحديث (( إن الله حرم مكة لا يختلي خلاها )) وهذا هو
الأظهر عندي ، وعليه بوب البخاري فقال (( باب الإهلال من البطحاء وغيرها للمكي ،
والحاج إذا خرج إلى منى )) ثم ذكر الحديثين - انتهى . وقال النووي : ميقات من بمكة
من أهلها أو غيرهم نفس مكة
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/217)
على الصحيح ، وقيل : مكة وسائر الحرم - انتهى . قال الحافظ : والثاني مذهب الحنفية . واختلف في الأفضل فاتفق المذهبان على أنه من باب المنزل ، وفي قول للشافعي من المسجد ، وحجة الصحيح ما في حديث ابن عباس (( حتى أهل مكة يهلون منها )) وقال مالك وأحمد وإسحاق : يهل من جوف مكة ولا يخرج إلى الحل إلا محرما - انتهى . وقال ابن قدامة (ج3 ص261) : من أي الحرم أحرم المكي بالحج جاز لأن المقصود من الإحرام به الجمع في النسك بين الحل والحرم ، وهذا يحصل بالإحرام من أي موضع كان فجاز كما يجوز أن يحرم بالعمرة من أي موضع كان من الحل ، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في حجة الوداع : إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من البطحاء . ولأن ما اعتبر فيه الحرم استوت فيه البلدة وغيرها كالنحر تنبيه ثالث : اختلف العلماء في تقديم الإحرام على الميقات ، قال العيني في شرح البخاري : قال ابن حزم : لا يحل لأحد أن يحرم بالحج أو العمرة قبل المواقيت ، فإن أحرم أحد قبلها وهو يمر عليها فلا إحرام له ولا حج ولا عمرة له إلا أن ينوي إذا صار في الميقات تجديد الإحرام فذاك جائز وإحرامه حينئذ تام . وقال في شرح الهداية : تقديم الإحرام على هذه المواقيت جائز بالإجماع . وقال داود الظاهري : إذا أحرم قبل هذه المواقيت لا حج له ولا عمرة . قلت : وكذا نقل الإجماع في ذلك الخطابي والنووي وغيرهما . قال الحافظ : وفيه نظر ، فقد نقل عن إسحاق وداود وغيرهما عدم الجواز ، وهو ظاهر جواب ابن عمر ، يشير إلى ما رواه البخاري في باب فرض مواقيت الحج والعمرة من طريق زيد بن جبير أنه أتى عبد الله بن عمر في منزله فسألته ( فيه التفات ) ، من أين يجوز أن أعتمر ؟ قال : فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجد من قرن ، الحديث . قال الحافظ : ويؤيده القياس على الميقات الزماني فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز التقديم عليه ، وفرق الجمهور بين الزماني
(17/218)
والمكاني فلم يجيزوا التقدم
على الزماني وأجازوا في المكاني . وذهب طائفة كالحنفية وبعض الشافعية إلى ترجيح
التقديم ، وقال مالك يكره . قال الحافظ : وظاهر نص البخاري ، أي تبويبه المذكور
أنه لا يجيز الإحرام بالحج والعمرة من قبل الميقات ، ويزيد ذلك وضوحا ما سيأتي بعد
قليل حيث قال : باب ميقات أهل المدينة ولا يهلون قبل ذي الحليفة . قال الحافظ :
استنبط البخاري من إيراد الخبر أي حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قال : يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، إلخ بصيغة الخبر مع إرادة الأمر تعين ذلك
، وأيضا فلم ينقل عن أحد ممن حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أحرم قبل ذي
الحليفة ، ولولا تعين الميقات لبادروا إليه لأنه يكون أشق فيكون أكثر أجرا - انتهى
. وقال العيني : هذه العبارة أي عبارة الترجمة تشير إلى أن البخاري ممن لا يرى
تقديم الإهلال قبل المواقيت ، وقال العيني أيضا : اختلفوا أي القائلون بجواز
التقديم هل الأفضل التزام الحج من المواقيت أو من منزله فقال مالك وأحمد وإسحاق :
إحرامه من المواقيت أفضل . وقال الثوري ، وأبو حنيفة والشافعي وآخرون : الإحرام من
المواقيت رخصة ، واعتمدوا في ذلك على فعل الصحابة فإنهم أحرموا من قبل المواقيت
قالوا : وهم أعرف بالسنة وهم فقهاء الصحابة ، أي وشهدوا إحرام
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/219)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلموا أن إحرامه - صلى الله عليه وسلم - من الميقات كان تيسيرا على أصحابة ورخصة لهم ، وابن عمر كان أشد الناس إتباعا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأصول أهل الظاهر تقتضي أنه لا يجوز الإحرام إلا من الميقات ، إلا أن يصح إجماع على خلافه ، وقال أبو عمر : كره مالك أن يحرم أحد قبل الميقات ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة ، وأنكر عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات ، وفي تعليق البخاري : (( كره عثمان أن يحرم من خراسان وكرمان ، وكره الحسن وعطاء بن أبي رباح الإحرام من الموضع البعيد )) وقال ابن بزيزة : في هذا ثلاثة أقوال ، منهم من جوزه مطلقا ، ومنهم من كرهه مطلقا ، ومنهم من أجازه في البعيد دون القريب . قلت : وتقدم آنفا من قال بالكراهة من البعيد فهو قول رابع في المسألة ، والقول الثالث : رواية للمالكية . قال الباجي : في أثر ابن عمر أنه أهل من إيلياء تقديم الإحرام قبل الميقات ، وقد روى ابن المواز عن مالك جواز ذلك وكراهيته فيما قرب من الميقات ، وروى العراقيون كراهيته على الإطلاق وإذا قلنا برواية ابن المواز فالفرق بين القريب والبعيد أن من أحرم بقرب الميقات فإنه لا يقصد إلا مخالفة التوقيت لأنه لم يستدم إحراما ، وأما من أحرم على البعد منه فإن له غرضا في استدامة الإحرام كما قلنا أن من كان في شعبان لم يجز له أن يتقدم صيام رمضان بصيام يوم أو يومين ، ومن استدام الصوم من أول شعبان جاز له استدامة ذلك حتى يصله برمضان - انتهى . وقال الأبي : إن أحرم قبلها بيسير كره ، وإن أحرم قبلها بكثير فظاهر المدونة الكراهة ، وظاهر المختصر الجواز . ونقل اللخمي قولا بعدم كراهة القريب - انتهى . وقال الولي العراقي في طرح التثريب (ج5 : ص5) : قد بينا أن معنى التوقيت بهذه المواقيت منع مجاوزتها بلا إحرام إذا كان مريدا
(17/220)
للنسك ، أما الإحرام قبل
الوصول إليها فلا مانع منه عند الجمهور . ونقل غير واحد الإجماع عليه ، بل ذهب
طائفة من العلماء إلى ترجيح الإحرام من دويرة أهله على التأخير إلى الميقات وهو
أحد قولي الشافعي ورجحه من أصحابه القاضي أبو الطيب والروياني ، والغزالي ،
والرافعي ، وهو مذهب أبي حنفية ، وروي عن عمر وعلي أنهما قالا في قوله تعالى : ?
وأتموا الحج والعمرة لله ? (2 : 196) إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك . وقال
ابن المنذر : ثبت أن ابن عمر أهل من إيلياء يعني بيت المقدس ، وكان الأسود ،
وعلقمة ، وعبد الرحمن ، وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم انتهى . لكن الأصح عند النووي
من قولي الشافعي أن الإحرام من الميقات أفضل . ونقل تصحيحه عن الأكثرين والمحققين
، وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وحكى ابن المنذر فعله عن عوام أهل العلم بل زاد مالك عن
ذلك فكره تقدم الإحرام على الميقات . قال ابن المنذر : وروينا عن عمر أنه أنكر على
عمران بن حصين إحرامه من البصرة وكره الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح ، ومالك
الإحرام من المكان البعيد - انتهى . وعن أبي حنيفة رواية أنه إن كان يملك نفسه عن
الوقوع في محظور فالإحرام من دويرة أهله أفضل وإلا فمن الميقات . وبه قال بعض
الشافعية - انتهى . وقال العيني : وقال الشافعي ، وأبو حنفية : الإحرام من قبل هذه
المواقيت أفضل لمن قوي على ذلك . وقد صح أن علي بن أبي طالب
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/221)
وابن مسعود ، وعمران بن حصين ، وابن عباس ، وابن عمر : أحرموا من المواضع البعيدة وعند ابن أبي شيبة أن عثمان بن العاص أحرم من المنجشانية وهي قرية من البصرة . وعن ابن سيرين أنه أحرم هو وحميد بن عبد الرحمن ، ومسلم بن يسار من الدارات ، وأحرم أبو مسعود من السيلحين . وقال أبو داود : يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس ، وأحرم ابن سيرين مع أنس من العقيق ، ومعاذ من الشام ومعه كعب الحبر . وقال الأمير اليماني (ج2 : ص189) : قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم ، وهل يكره ؟ قيل : نعم ، لأن قول الصحابة : وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة . يقتضي بالإهلال من هذه المواقيت ويقضي بنفي النقص والزيادة ، فإن لم تكن الزيادة محرمة فلا أقل من أن تكون تركها أفضل ، ولولا ما قيل من الإجماع بجواز ذلك لقلنا بتحريمه لأدلة التوقيت ، ولأن الزيادة على المقدرات من المشروعات كإعداد الصلاة ورمي الجمار لا تشرع كالنقص منها وإنما لم نجزم بتحريم ذلك لما ذكرنا من الإجماع ، ولأنه روى عن عدة من الصحابة تقديم الإحرام على الميقات ، فأحرم ابن عمر من بيت المقدس ، وأحرم أنس من العقيق ، وأحرم ابن عباس من الشام ، وأهل عمران بن حصين من البصرة وأهل ابن مسعود من القادسية . وورد في تفسير الآية أن الحج والعمرة تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك عن علي وابن مسعود وإن كان قد تؤول بأن مرادهما أن ينشأ لهما سفرا مفردا من بلده كما أنشأ - صلى الله عليه وسلم - لعمرة الحديبية والقضاء سفرا من بلده ويدل لهذا التأويل أن عليا لم يفعل ذلك ولا أحد من الخلفاء الراشدين ولم يحرموا بحج ولا عمرة إلا من الميقات بل لم يفعله - صلى الله عليه وسلم - فكيف يكون ذلك تمام الحج ولم يفعله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من الخلفاء ولا جماهير الصحابة نعم الإحرام من بيت المقدس بخصوصه ورد فيه حديث أم
(17/222)
سلمة سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقول : من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من
ذنبه . رواه أحمد ، وفي لفظ : (( من أحرم من بيت المقدس غفر له ما تقدم من ذنبه ))
ورواه أبو داود ولفظه : (( من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد
الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة )) شك من الراوي ، ورواه
ابن ماجة بلفظ : (( من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ))
فيكون هذا مخصوصا ببيت المقدس فيكون الإحرام منه خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت
، ويدل له إحرام ابن عمر منه ، ولم يفعل ذلك من المدينة على أن منهم من ضعف الحديث
، ومنهم من تأوله بأن المراد ينشئ لهما السفر من هنالك - انتهى كلام الأمير
اليماني . وقال ابن قدامة (ج3 : ص264) : لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير
محرما تثبت في حقه أحكام الإحرام ، قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من
أحرم قبل الميقات أنه محرم ، ولكن الأفضل الإحرام من الميقات ، ويكره قبله . روي
نحو ذلك عن عمر وعثمان ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، ومالك ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة
: الأفضل الإحرام من بلده وعن الشافعي كالمذهبين . وكان علقمة ، والأسود ، وعبد
الرحمن ، وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم . واحتجوا بما روت أم سلمة زوج النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/223)
أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة . شك عبد الله أيهما قال . رواه أبو داود . وفي لفظ رواه ابن ماجة : من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له . وأحرم ابن عمر من إيلياء ، وروى النسائي ، وأبو داود بإسناديهما عن الصبي بن معبد ، قال : أهللت بالحج والعمرة معا فلما أتيت العذيب لقيني سليمان بن ربيعة ، وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما جمعيا فقال أحدهما : ما هذا بأفقه من بعيره ، فأتيت عمر فذكرت له ذلك ، فقال : هديت لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا إحرام به قبل الميقات . وروي عن عمر ، وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك . ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أحرموا من الميقات ولا يفعلون إلا الأفضل فإن قيل : إنما فعل هذا لتبيين الجواز ، قلنا : قد حصل بيان الجواز بقوله كما في سائر المواقيت ، ثم لو كان كذلك لكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه يحرمون من بيوتهم ولما تواطؤا على ترك الأفضل واختيار الأدنى ، وهم أهل التقوى والفضل ، وأفضل الخلق ، لهم من الحرص على الفضائل والدرجات ما لهم ، وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أيوب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه . وروى الحسن أن عمران بن حصين أحرم من مصره فبلغ ذلك عمر فغضب ، وقال : يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرم من مصره . وقال : إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان ، فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه له ، رواهما سعيد والأثرم . قال البخاري : كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان ، ولأنه أحرم قبل الميقات فكره كالإحرام بالحج قبل أشهره ، ولأنه تغرير بالإحرام ، وتعرض
(17/224)
لفعل محظوراته ، وفيه مشقة على
النفس فكره كالوصال في الصوم . قال عطاء : انظروا هذه المواقيت التي وقتت لكم
فخذوا برخصة الله فيها ، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في إحرامه فيكون أعظم لوزره
فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك ، فأما حديث الإحرام من بيت المقدس ففيه ضعف
يرويه ابن أبي فديك ، ومحمد بن إسحاق وفيهما مقال ، ويحتمل اختصاص هذا ببيت المقدس
دون غيره ليجمع بين الصلاة في المسجدين في إحرام واحد ، ولذلك أحرم ابن عمر منه ،
ولم يكن يحرم من غيره إلا من الميقات ، وقول عمر للصبي : هديت لسنة نبيك يعني في
القران فالجمع بين الحج والعمرة لا في الإحرام من قبل الميقات فإن سنة النبي - صلى
الله عليه وسلم - الإحرام من الميقات بين ذلك بفعله وقوله ، وأما قول عمر ، وعلي
فإنهما قالا : (( إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك )) ومعناه أن تنشئ لها سفرا من
بلدك تقصد له ، ليس أن تحرم بها من أهلك ، قال أحمد : كان سفيان يفسره بهذا وكذلك
فسره به أحمد . ولا يصح أن يفسر بنفس الإحرام فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم ، وقد أمرهم الله بإتمام العمرة ، فلو حمل قولهم
على ذلك لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تاركين لأمر الله ، ثم إن عمر
وعليا ما كانا يحرمان إلا من الميقات ، أفتراهما يريان أن ذلك ليس بإتمام لها
ويفعلانه ؟ هذا لا ينبغي أن يتوهمه أحد ولذلك أنكر عمر على عمران إحرامه من مصره
واشتد عليه ، وكره أن يتسامع الناس مخافة أن يؤخذ
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/225)
به ، أفتراه كره إتمام العمرة واشتد عليه أن يأخذ الناس بالأفضل ، هذا لا يجوز فيتعين حمل قولهما في ذلك على ما حمله عليه الأئمة ، والله أعلم - انتهى كلام ابن قدامة . قلت : القول الراحج عندنا قول من قال : بكراهة تقديم الإحرام قبل الميقات ، وقد روي ذلك عن عمر ، وعثمان رضي الله عنهما كما تقدم ، وهو الموافق لحكمة تشريع المواقيت ، وما أحسن ما ذكر الشاطبي في الاعتصام (ج1 : ص167) ومن قبله الهروي في ذم الكلام عن الزبير بن بكار : قال حدثني ابن عيينة قال سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله من أين أحرم ؟ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر ، قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة ، فقال : فأي فتنة في هذه ؟ إنما هي أميال أزيدها . قال : وأي فتنة أعظم من أن تري أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني سمعت الله يقول : ? فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ? (24 : 63) انتهى . وأما حديث : (( من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك )) فهو حديث منكر أخرجه البيهقي (ج5 : ص31) من طريق جابر بن نوح عن محمد بن عمرو عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله عز وجل : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? قال : فذكره . قال الشيخ ناصر الدين الألباني : هذا سند ضعيف ، ضعفه البيهقي بقوله : فيه نظر ووجهه أن جابرا هذا متفق على تضعيفه ، وأورد له ابن عدي (50/2) هذا الحديث وقال : لا يعرف إلا بهذا الإسناد ، ولم أر له أنكر من هذا - انتهى . وقد خفى هذا على الشوكاني فقال في نيل الأوطار (ج4 : ص180) : ثبت هذا مرفوعا من حديث أبي هريرة أخرجه ابن عدي والبيهقي - انتهى . وقد رواه البيهقي من طريق عبد الله بن سلمة المرادي عن
(17/226)
علي موقوفا ، ورجاله ثقات إلا
أن المرادي هذا كان تغير حفظه ، وعلى كل حال هذا الموقوف أصح من المرفوع - انتهى .
وأما حديث أم سلمة في الإحرام من المسجد الأقصى ففي صحته نظر وإن سكت عليه أبو
داود . وقد أخرجه أيضا أحمد (ج6 : ص299) ، وابن ماجة ، والدارقطني ، والبيهقي (ج5
: ص30) ، وابن حبان في صحيحه بألفاظ مختلفة كلهم من طريق حكيمة عن أم سلمة مرفوعا
. قال ابن القيم : في تهذيب السنن (ج2 : ص 284) : قال غير واحد من الحافظ إسناده
ليس بالقوي ، وأعله المنذري بالاضطراب فقال في مختصر السنن (ج2 : ص285) : وقد
اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافا كثيرا وكذا أعله بالاضطراب الحافظ ابن كثير
كما في نيل الأوطار (ج4 : ص178) ، ثم إن المنذري كأنه نسى هذا فقال في الترغيب
والترهيب : (( رواه ابن ماجة بإسناد صحيح )) وأنى له الصحة وفيه ما ذكره من
الاضطراب ، وسيأتي شيء من الكلام عليه في آخر الفصل الثاني ، وفي الاستدلال به على
جواز تقديم الإحرام على الميقات مطلقا نظر لأن دلالته أخص من ذلك أعني أنه إنما
يدل على أن الإحرام من بيت المقدس خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت ، وأما غيره
من البلاد فالأصل الإحرام من المواقيت المعروفة وهو الأفضل كما قرره الأمير
اليماني في سبل السلام وابن قدامة في المغني وهذا على فرض صحة الحديث أما وهو لم
يصح كما رأيت فبيت المقدس كغيره في هذا الحكم لما سبق بيانه ، وقد
متفق عليه .
2541- (13) وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/227)
روى ما يدل عليه بعمومه وهو ما روى الهيثم بن كليب وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما والبيهقي في سننه من طريق واصل ابن السائب الرقاشي عن أبي سورة عن عمه أبي أيوب الأنصاري مرفوعا : ليستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه . قال البيهقي : هذا إسناد ضعيف ، واصل بن السائب منكر الحديث ، قاله البخاري وغيره ، ثم رواه البيهقي من طريق الشافعي : أنا مسلم عن ابن رباح عن عطاء مرفوعا نحوه . وأعله بقوله : (( هذا مرسل )) قلت : ومسلم شيخ الشافعي هو ابن خالد الزنجي الفقيه ، وهو صدوق كثير الأوهام كما في التقريب ، وابن جريج مدلس وقد عنعنه واستدل أيضا لأبي حنيفة ومن وافقه بما رواه أحمد والثقفي في مشيخته النيسابوريين (184 ، 185 ، 335/4) من طريق الحسن بن هادية قال : لقيت ابن عمر فقال لي : ممن أنت ؟ قلت : من أهل عمان . قال : من أهل عمان ؟ قلت : نعم . قال : أفلا أحدثك ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قلت بلى . فقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أني لأعلم أرضا يقال لها عمان ينزح بجانبها البحر ، والحجة منها أفضل من حجتين من غيرها . قال الشيخ الألباني : رجاله كلهم ثقات معروفون غير ابن هادية هذا فقد ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ، وأما ابن حبان فقد ذكره في الثقات (ج1 : ص14) وهذا منه على عادته في توثيق المجهولين ( المستورين ) وتوثيق ابن حبان هذا هو عمدة الهيثمي حين قال في المجمع (ج3 : ص217) : (( رواه أحمد ورجاله ثقات )) وحجة الشيخ الفاضل أحمد محمد شاكر في قوله في تعليقه على المسند (( إسناد صحيح )) وهذا غير صحيح لما سبق ، وكم له في هذا التعليق وغيره من مثل هذه الصحيحات المبنية على هذه التوثيقات التي لا يعتمد عليها لضعف مستندها - انتهى . ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص238 ، 249 ، 252 ، 332 ، 339) ، وأبو داود ،
(17/228)
والنسائي ، والدارمي ، وابن
الجارود (ص148) ، والدارقطني ، والشافعي ، والبيهقي (ج5 : ص29) .
2541- قوله : ( عن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ) كذا وقع في
المشكاة والمصابيح ، وهو يدل على أن الحديث عند مسلم مجزوم في رفعه إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - والأمر ليس كذلك ، فإن مسلما رواه أولا من طريق روح بن عبادة
عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل فقال :
سمعت ثم انتهى فقال : أراه يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولم يذكر مسلم
لفظه ، ومعنى هذا الكلام أن أبا الزبير سمع بعض الناس يسأل جابرا عن مواضع إحرام
الحجاج من جميع الجهات فقال جابر : سمعت ، ثم وقف عن الكلام ورفع الحديث إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - ثم قال أراه ( بضم الهمزة ) ، أي أظن أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال : (( مهل أهل المدينة )) ، وأما قوله : (( يعني النبي - صلى الله
عليه وسلم - )) فهو من كلام أبي الزبير يفسر به رجوع الضمير إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - في قول جابر أراه يعني مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال النووي : معناه أن أبا الزبير قال سمعت
مهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، والطريق الآخر الجحفة ، ومهل أهل العراق من ذات
عرق ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/229)
جابرا ثم انتهى أي : وقف عن رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : أراه أي أظنه رفع الحديث فقال : أراه يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال في الرواية الأخرى أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . ثم رواه مسلم من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل فقال سمعت أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال مهل أهل المدينة من ذي الحليفة إلخ . والطريقان تدلان على أن الحديث مشكوك في رفعه . قال النووي : لم يثبت رفع الحديث لكونه لم يجزم برفعه ، وأجيب بأن قوله أراه أو أحسبه معناه أظنه ، والظن في باب الرواية يتنزل منزلة اليقين وليس ذلك قادحا في رفعه ، وأيضا فلو لم يصرح برفعه لا يقينا ولا ظنا فهو منزل منزلة المرفوع ، لأن هذا لا يقال من قبل الرأي وإنما يؤخذ توقيفا من الشارع لا سيما وقد ضمه جابر إلى المواقيت المنصوص عليها يقينا باتفاق ، وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة وابن ماجة من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي كلاهما عن أبي الزبير ولم يشكا في رفعه ( مهل أهل المدينة ) بضم الميم من الإهلال ، أي موضع إحرامهم اسم مكان ( والطريق الآخر ) ، أي مهل الطريق الآخر لهم . قاله القاري . ( الجحفة ) قال ابن مالك : أي إذا جاءوا من طريق الجحفة فهي مهلهم ، وقال ابن حجر : أي ومهل أهل الطريق الآخر الذي لا يمر سالكه بذي الحليفة ولا يجاوزها يمنة أو يسرة هو الجحفة ( ومهل أهل العراق من ذات عرق ) بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف سمي الموضع بذلك لأن فيه عرقا وهو : الجبل الصغير . وهي : أرض سبخة تنبت الطرفاء ، وقيل : العرق من الأرض السبخة تنبت الطرفاء ويسمى الآن الضريبة بفتح الضاد وكسر الراء بعدها ياء ثم باء وهي الحد الفاصل بين تهامة ونجد وتبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ (16) وبالأميال (48) وبالكيلوات (80) ويحرم منه أهل العراق
(17/230)
وبلاد إيران وحاج الشرق كله .
والحديث صريح في أن ذات عرق ميقات أهل العراق بنص النبي - صلى الله عليه وسلم -
وتوقيته لكن قال النووي : لا يحتج بهذا الحديث مرفوعا لكونه لم يجزم برفعه ، وقد
سبق الجواب عن ذلك ويشهد لكون ذات عرق ميقات أهل العراق بالنص ما وقع في حديث
عائشة عند أحمد ، وأبي داود ، والنسائي ، والطحاوي ، والدارقطني بإسناد صحيح كما
قاله النووي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات عرق ، ويأتي
الكلام عليه في الفصل الثاني . ويشهد له أيضا حديث الحارث بن عمرو السهمي عند أحمد
، والنسائي ، وأبي داود ، والطبراني ، وحديث ابن عباس عند ابن عبد البر في التمهيد
، والبزار في مسنده ، وحديث ابن عمر عند ابن راهوية في مسنده وحديث أنس عند
الطحاوي ، والطبراني ، وحديث عبد الله بن عمرو عند أحمد ، والدارقطني . وهذه
الأحاديث وإن كان في كل منها ضعف ولا تخلو عن مقال فمجموعها لا يقتصر عن بلوغ درجة
الاحتجاج به ، وبها يرد على ابن خزيمة حيث قال : في ذات عرق أخبار لا يثبت منها
شيء عند أهل الحديث. وعلي ابن المنذر حيث يقول : لم نجد في ذات عرق حديثا يثبت .
واعلم أنه قد اتفق العلماء على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نص على
المواقيت الأربعة المذكورة في حديثي ابن عباس ، وجابر وهي ذو الحليفة والجحفة وقرن
ويلملم . واختلفوا في ذات عرق
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/231)
هل صارت ميقاتا لأهل العراق بتوقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ونصه أم باجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وممن قال إنه مجتهد فيه من السلف طاوس ، وابن سيرين ، وأبو الشعثاء ، وجابر بن زيد حكاه البيهقي وغيره . وممن قال من السلف أنه منصوص عليه عطاء بن أبي رباح ، وحكاه ابن الصباغ عن أحمد وأصحاب أبي حنيفة ، واختلف قول الشافعي فيه فقال في موضع : هو منصوص عليه ، وفي موضع : ليس منصوصا عليه ، وكذلك اختلف فيه الشافعية وأكثرهم على أنه منصوص عليه . ويدل لذلك الأحاديث السابقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي نص فيها أن ذات عرق ميقات العراق . قال النووي : قالوا : وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوي بعضها بعضا ويصير الحديث حسنا ويحتج به ، ويحمل تحديد عمر باجتهاده على أنه لم يبلغه تحديد النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدده باجتهاده فوافق النص - انتهى . واستدل من قال إنه مجتهد فيه بما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال : لما فتح هذان المصران ( أي الكوفة والبصرة ، والمراد بفتحهما غلبة المسلمين على مكان أرضهما ) ، أتوا عمر فقالوا : يا أمير المؤمنين إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حد لأهل نجد قرنا ، وهو جور ، أي ميل عن طريقنا ، وإنا إن أردنا قرن شق علينا . قال : فانظروا حذوها من طريقكم ، فحد لهم ذات عرق . قالوا : فهذا الحديث الصحيح صريح في أن توقيت ذات عرق باجتهاد من عمر ، وقد جاءت بذلك أيضا آثار عن بعض السلف قال الحافظ بعد ذكرها : هذا كله يدل على أن ميقات ذات عرق ليس منصوصا ، وبه قطع الغزالي ، والرافعي في شرح المسند ، يعني مسند الشافعي ، والنووي في شرح مسلم ، وكذا وقع في المدونة لمالك ، وصحح الحنفية ، والحنابلة ، وجمهور الشافعية ، والرافعي في الشرح الصغير ، والنووي في شرح المهذب : أنه منصوص . وقد وقع ذلك في حديث جابر عند مسلم إلا أنه مشكوك في رفعه . وقد أخرجه
(17/232)
أحمد من رواية ابن لهيعة ،
وابن ماجة من رواية إبراهيم بن يزيد كلاهما عن أبي الزبير فلم يشكا في رفعه ، ووقع
في حديث عائشة وفي حديث الحارث بن عمرو السهمي كلاهما عند أحمد ، وأبي داود ،
والنسائي ، وهذا يدل على أن للحديث أصلا ، فلعل من قال إنه غير منصوص لم يبلغه ،
أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق لا يخلو عن مقال ، ولهذا قال ابن خزيمة :
رويت في ذات عرق أخبار لا يثبت شيء منها عند أهل الحديث وقال ابن المنذر : لم نجد
في ذات عرق حديثا ثابتا . قال الحافظ : لكن الحديث بمجموع الطرق يقوى كما ذكرنا . قلت
: أظهر القولين عندي وأرجحهما أن ذات عرق وقتها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل
العراق لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث ، منها ما هو صحيح
الإسناد ومنها ما في إسناده كلام ، وبعضها يقوي يعضا ، ولا يعارض ذلك حديث ابن عمر
عند البخاري الذي يدل على أن توقيت ذات عرق لأهل العراق باجتهاد من عمر ، لاحتمال
أن عمر لم يبلغه ذلك فاجتهد فوافق اجتهاده توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ،
وهو رضي الله عنه معروف أنه وافقه الوحي في مسائل متعددة ، فلا مانع من أن تكون
هذه منها لا شرعا ولا عقلا ولا عادة . قال ابن قدامة : ويجوز أن يكون عمر ومن سأله
لم يعلموا توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/233)
عرق فقال ذلك برأيه فأصاب ووافق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كان كثير الإصابة - انتهى . وأما إعلال بعضهم حديث ذات عرق بأن العراق لم تكن فتحت يومئذ فقال ابن عبد البر : هي غفلة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح لكنه علم أنها ستفتح ، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق - انتهى . وبهذا أجاب الماوردي وآخرون فإن قلت : ما الجمع بين حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المشرق العقيق ، وبقية الأحاديث في التوقيت من ذات عرق ؟ قلت : في ذلك أوجه : أحدها : ضعف حديث ابن عباس ، فإنه تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو سيئ الحفظ ، وبتقدير صحته أحاديث التوقيت من ذات عرق أصح وأكثر وأرجح . الثاني : أن ذات عرق ميقات الوجوب ، والعقيق ميقات الاستحباب لأنه أبعد من ذات عرق فالإحرام من العقيق أفضل ، فإن جاوزه وأحرم من ذات عرق جاز ، وبهذا صرح الشافعية ، الثالث : أن ذات عرق ميقات لبعض أهل العراق وهم أهل البصرة ، والعقيق ميقات للبعض منهم وهم أهل المدائن ، وقع ذلك في حديث لأنس عند الطبراني في الكبير ، وفيه أبو ظلال هلال بن زيد ، وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور . الرابع : أن ذات عرق كانت أولا في موضع العقيق الآن ثم حولت وقربت إلى مكة ، وعلى هذا فذات عرق هو العقيق ، واللفظان متواردان على شيء واحد ، ومقتضى هذا الجواب وجوب الإحرام من العقيق ، والجمهور على خلافه ، فإنه لم يقل أحد : بتعيين الإحرام من العقيق ، وإنما قالوا : يستحب احتياطا . قال ابن المنذر : واختلفوا في المكان الذي يحرم منه من أتى من العراق على ذات عرق ، فكان أنس يحرم من العقيق ، واستحب ذلك الشافعي ، وكان مالك ، وإسحاق ، وأحمد ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي يرون الإحرام من ذات عرق ، وقال أبو بكر : الإحرام من ذات عرق يجزئ وهو من العقيق أحوط . اعلم أن من سلك طريقا إلى الحرم
(17/234)
لا ميقات فيها فميقاته المحل
المحاذي لأقرب المواقيت إليه كما يدل عليه ما قدمنا نقلا عن صحيح البخاري من توقيت
عمر ذات عرق لأهل العراق لمحاذاتها قرن المنازل ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم
. قال المحب الطبري : في حديث ابن عمر عند البخاري دلالة على أن من مر على طريق لا
ميقات فيه أحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه نزولا على قضاء عمر . وقال الولي
العراقي : سكت في حديث ابن عباس عند الشيخين عن قاصد مكة للنسك من غير أن يمر على
شيء من هذه المواقيت ، وقد قال الجمهور : يلزمه الإحرام إذا حاذى أقرب المواقيت
إليه ، وبه قال الأئمة الأربعة ، وتمسكوا في ذلك بقول عمر رضي الله عنه لما شكى
إليه أهل العراق جور قرن عن طريقهم : (( انظروا حذوها من طريقكم )) والإحرام من
محاذاة الميقات أقرب الأمور إلى النص ، لأن القصد البعد عن مكة بهذه المسافة ،
فلزم إتباعه - انتهى . وحاصل مذهب الحنابلة في ذلك على ما في (( مفيد الأنام ))
للشيخ ابن جاسر النجدي : من لم يمر بميقات من المواقيت الخمسة ، أحرم بحج أو عمرة
وجوبا إذا علم أنه حاذى أقرب المواقيت منه لقول عمر رضي الله عنه : (( انظروا حذوها
من طريقكم )) رواه البخاري ، وسن له أن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/235)
يحتاط ليخرج من عهدة الواجب ، فإن لم يعلم حذو الميقات أحرم من بعد ، إذ الإحرام قبل الميقات جائز وتأخيره عنه حرام ، فإن تساويا قربا منه فإنه يحرم من حذو أبعدهما من مكة من طريق ، لأنه أحوط ، فإن لم يحاذ ميقاتا كالذي يجيء من (( سواكن )) إلى (( جدة )) من غير أن يمر (( برابغ )) ولا (( يلملم )) لأنهما أمامه ، فيصل (( جدة )) قبل محاذاتهما أحرم من مكة بقدر مرحلتين ، فيحرم في المثال من (( جدة )) لأنها على مرحلتين من مكة لأنه أقل المواقيت - انتهى . وقال ابن قدامة : من سلك طريقا بين ميقاتين فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات الذي هو إلى طريقه أقرب لما روينا أن أهل العراق قالوا لعمر : إن قرنا جور عن طريقنا ، فقال : انظروا حذوها من طريقكم ، فوقت لهم ذات عرق فإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه احتاط فأحرم من بعد بحيث تيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا محرما ، لأن الإحرام قبل الميقات جائز وتأخيره عنه لا يجوز ، فالاحتياط فعل ما لاشك فيه ، ولا يلزمه الإحرام حتى يعلم أنه قد حاذاه ، لأن الأصل عدم وجوبه ، فلا يجب بالشك ، فإن أحرم ثم علم أنه قد جاوز ما يحاذيه من المواقيت غير محرم فعليه دم وإن شك في أقرب الميقاتين إليه فالحكم في ذلك على ما ذكرنا في المسألة قبلها ، وإن كانتا متساويتين في القرب إليه أحرم من حذو أبعدهما - انتهى . وقال الحافظ : قد نقل النووي في شرح المهذب : من ليس له ميقات ولا يحاذي ميقاتا يلزمه أن يحرم على مرحلتين اعتبارا بقول عمر : هذا في توقيته ذات عرق ، وتعقب بأن عمر إنما حدها لأنها تحاذي قرنا وهذه الصورة إنما هي حيث يجهل المحاذاة ، فلعل القائل بالمرحلتين أخذ بالأقل ، لأن ما زاد عليه مشكوك فيه ، لكن مقتضى الأخذ بالاحتياط أن يعتبر الأكثر الأبعد - انتهى . قلت : مذهب الشافعية : أن من سلك البحر أو طريقا ليس فيه شيء من المواقيت الخمسة ، أحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه ،
(17/236)
فإذا كان عند محاذاة ذي
الحليفة على ميلين منها وعند محاذاة الجحفة على ميل كان ميقاته الجحفة ، وإن
استويا في القرب إليه أحرم عند محاذاة الأبعد من مكة ، فإن لم يحاذ شيئا - كالآتي
من غربي جدة في البحر - أحرم على مرحلتين من مكة قال ابن حجر الهيتمي المكي في (( تحفة
المحتاج بشرح المنهاج )) : ( من سلك طريقا ) في بر أو بحر ( لا ينتهي إلى ميقات ،
فإن حاذى ميقاتا ) ، أي سامته بأن كان على يمينه أو يساره ولا عبرة بما أمامه أو
خلفه ( أحرم من محاذاته ) فإن اشتبه عليه موضع المحاذاة اجتهد ويسن أن يستظهر
ليتيقن المحاذاة ، فإن لم يظهر له شيء تعين الاحتياط ( أو ) حاذى ( ميقاتين ) بأن
كان إذا مر على كل تكون المسافة منه إليه واحدة ( فالأصح أن يحرم من محاذاة
أبعدهما ) من مكة وإن حاذى الأقرب إليها أولا وليس له انتظار الوصول إلى محاذاة
الأقرب إليها ، كما ليس للمار على ذي الحليفة أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة ، فإن
استوت مسافتهما في القرب إلى طريقه وإلى مكة أحرم من محاذاتهما ، ما لم يحاذ
أحدهما قبل الآخر ، وإلا فمنه ، أما إذا لم تستو مسافتهما إليه بأن كان بين طريقه
وأحدهما إذا مر عليه ميلان ، والآخر إذا مر عليه فهذا هو ميقاته ، وإن كان
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/237)
أقرب إلى مكة . قال الشرواني : في حاشيته والحاصل أن العبرة أولا بالقرب إليه ثم بالبعد من مكة ، ثم بالمحاذاة أولا ؛ فإن انتفى جميع ذلك فمن محاذاتهما - انتهى . قال ابن حجر : ( وإن لم يحاذ ) شيئا من المواقيت ( أحرم على مرحلتين من مكة ) لأنه لا ميقات دونهما . قال : والإحرام من المرحلتين هنا بدل عن أقرب ميقات إلى مكة ، وأقرب ميقات إليها على مرحلتين منها ، لا من الحرم ، فاعتبرت المسافة من مكة لذلك . لا يقال : المواقيت مستغرقة لجهات مكة فكيف يتصور عدم محاذاته لميقات ؟ فينبغي أن المراد عدم المحاذاة في ظنه دون نفس الأمر ، لأنا نقول يتصور بالجائي من (( سواكن )) (( إلى جدة )) من غير أن يمر برابغ أو بيلملم لأنهما حينئذ أمامه ، فيصل جدة قبل محاذاتهما ؛ وهي على مرحلتين من مكة ، فتكون هي ميقاته . قال النووي : ( وإن بلغ الميقات مريدا ) للنسك ( لم تجز مجاوزته ) إلى جهة الحرم ( بغير إحرام ) قال ابن حجر : خرج بقولنا : (( إلى جهة الحرم )) ما لو جاوزه يمنة أو يسرة فله أن يؤخر إحرامه لكن بشرط أن يحرم من محل مسافته إلى مكة مثل مسافة ذلك الميقات كما قاله الماوردي . وجزم به غيره . وبه يعلم أن الجائي من اليمن في البحر له أن يؤخر إحرامه من محاذاة يلملم إلى جدة ، لأن مسافتها إلى مكة كمسافة يلملم كما صرحوا به - انتهى . ومذهب الحنفية أن من سلك طريقا ليس فيه ميقات معين برا أو بحرا اجتهد وأحرم إذا حاذى ميقاتا منها ، ومن حذو الأبعد أولى . وإن لم يعلم المحاذاة فعلى مرحلتين من مكة ، كجدة . قال صاحب البحر : قد قالوا : من كان في بر أو بحر لا يمر بواحد من هذه المواقيت المذكورة ، عليه أن يحرم إذا حاذى آخرها ، ويعرف بالاجتهاد ، وعليه أن يجتهد فإذا لم يكن بحيث يحاذي فعلى مرحلتين إلى مكة . ولعل مراده بالمحاذاة المحاذاة القريبة من الميقات ، وإلا فآخر المواقيت باعتبار المحاذاة (( قرن المنازل )) وقال القاري
(17/238)
في شرح المناسك : وعين هذه
المواقيت ليست بشرط ولهذا يصح الإحرام قبلها ، بل الواجب عينها أو حذوها ، أي
محاذاتها ومقابلتها ، فمن سلك غير ميقات ، أي طريقا ليس فيه ميقات معين برا أو
بحرا اجتهد ، وأحرم إذا حاذى ميقاتا منها ، أي من المواقيت المعروفة ومن حذو
الأبعد أولى ، فإن الأفضل أن يحرم من أول الميقات وهو الطرف الأبعد عن مكة ، حتى
لا يمر بشيء مما يقال ميقاتا غير محرم ، ولو أحرم من الطرف الأقرب إلى مكة جاز
باتفاق الأربعة ، وإن لم يعلم المحاذاة فإنه لا يتصور عدم المحاذاة فعلى مرحلتين
من مكة ، كجدة المحروسة من طرف البحر . وقال في حاشية قوله : (( كجدة )) فإنها على
مرحلتين عرفيتين من مكة ، وثلاث مراحل شرعية ووجهه أن المرحلتين أوسط المسافات
وإلا فالاحتياط الزيادة ، كذا في شرح نظم الكنز . وأقول : لعل وجهه أيضا أن أقرب
المواقيت إلى مكة على مرحلتين عرفيتين من مكة ، فقدر بذلك - انتهى . وقال في غنية
الناسك : ومن كان في بر أو بحر لا يمر بواحد من المواقيت الخمس تحرى إذا لم يجد من
يستخبره ، وأحرم إذا غلب على ظنه أنه حاذى آخرها ، قربت المحاذاة من الميقات أو
بعدت كما في رد المحتار عن النهر ، ومن حذو الأبعد أولى ، وإن لم يعلم المحاذاة
فعلى مرحلتين عرفيتين من مكة كجدة من طرف البحر ، فإنها على مرحلتين عرفيتين من
ومهل أهل نجد قرن ، ومهل أهل اليمن يلملم . رواه مسلم .
2542- (14) وعن أنس قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي
القعدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/239)
مكة وثلاث مراحل شرعية ( طوالع ) - انتهى . وفي منسك الشيخ يحيى الحطاب من المالكية (( قال مالك )) : ومن حج في البحر من أهل مصر والشام وشبههما أحرم إذا حاذى الجحفة . قال شارحه الشيخ محمد البناني : أي ولا يؤخره إلى البر ، وعليه درج الخرشي في شرحه حيث قال : إن من سافر في البحر فإنه يحرم إذا حاذى الميقات ولا يؤخره إلى البر - انتهى . فعليه إذا لم يحرم عند محاذاة الميقات ببحر وأخره إلى البر أساء وعليه دم عندهم تنبيه : قد اتضح مما ذكرنا من كلام ابن حجر المكي ، وعلي القاري وغيرهما أنه لا يجب على الحاج الهنود والباكستانيين القادمين بالباخرة للحج أو العمرة أن يحرموا في أي محل من البحر قبل وصولهم إلى جدة ، بل يجوز لهم أن يؤخروا الإحرام في البحر ويحرموا بعد نزولهم على ميناء جدة من جدة ، لأنه لا يقع ميقات من المواقيت الخمسة في طريق بواخر الحجاج القادمين من الهند أو الباكستان ولا تحاذي شيئا منها بل تقطع طريقها في البحر في حدود الآفاق بعيدة عن يلملم التي هي جبل من جبال نهامة وقريبة من مكة ، فلا يمكن لأية باخرة أو سفينة قادمة من الهند والباكستان أن تتجاوزها أو تتجاوز خط محاذاتها إلى الحل الصغير ولو كانت تجري على الساحل فإن المواقيت الخمسة والخطوط الممتدة من ميقات إلى آخر الموصلة بعضها ببعض المحددة لحدودها كلها في البر ، وأقرب المواقيت إلى مكة على مرحلتين منها ، وجدة أيضا على مرحلتين من مكة ، فيجب عليهم أن يحرموا منها ، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا فتذكر . ( رواه مسلم ) ، قد تقدم أن مسلما رواه مشكوكا في رفعه وكذا أخرجه أبو عوانة في مستخرجه ، والشافعي ، وأحمد ، والدارقطني ، والبيهقي ، وأخرجه أيضا أحمد ، وابن أبي شيبة ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو يعلى والدارقطني ، والبيهقي من طريق الحجاج بن أرطاة عن عطاء بن جابر ، وأحمد من طريق ابن لهيعة ، والحجاج ، وابن ماجة من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي ،
(17/240)
الثلاثة عن أبي الزبير عن جابر
، فلم يشكوا في رفعه إلا أن الحجاج مدلس . وابن لهيعة ضعفوه لاختلاطه بعد احتراق
كتبه ، وإبراهيم ابن يزيد غير محتج به ، لكن لحديث جابر في توقيت ذات عرق لأهل
العراق شواهد مرفوعة جياد حسان يجب العمل بمثلها مع تعددها ومجيئها مسندة ومرسلة
من وجوه شتى .
2542- قوله : ( أربع عمر ) بضم ففتح جمع عمرة ( كلهن ) ، أي بعد الهجرة ( في ذي
القعدة ) بفتح القاف وبكسر بناء على أنه من المرة أو الهيئة ، سمي بذلك لأنهم
كانوا يقعدون فيه عن الأسفار ، وإنما اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه
العمر في ذي القعدة لفضيلة هذا الشهر ولبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه ،
فإنهم كانوا يرون الاعتمار في أشهر الحج من أفجر الفجور ففعله - صلى الله عليه
وسلم - مرات في ذي القعدة وهو من أشهر الحج ليكون أبلغ في بيان جوازه ، وأبلغ في
إبطال ما كانت الجاهلية
إلا التي كانت مع حجته ، عمرة من الحديبية في ذي القعدة ، وعمرة من العام المقبل
في ذي القعدة ،
وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/241)
عليه ( إلا التي كانت مع حجته ) بفتح الحاء وكسرها والمراد أي انتهاء وإلا فهي بالنظر إلى الابتداء كانت في ذي القعدة واستشكل ابن التين هذا الاستثناء فقال : هو كلام زائد والصواب حذفه لأنه عد التي مع حجته فكيف يستثنيها أولا ؟ وأجاب عياض بأن الرواية صواب ، وكأنه قال في ذي القعدة منها ثلاث والرابعة عمرته في حجته ، أو المعنى كلها في ذي القعدة إلا التي اعتمر في حجته ، لأن التي في حجته كانت في ذي الحجة ( عمرة ) بالنصب على البدلية وبالرفع على أنه مبتدأ موصوف بقوله : ( من الحديبية ) بحاء مضمومة فمهملة مفتوحة فتحتية ساكنة فموحدة مكسورة فتحتية ثانية مخففة ، وقيل مشددة ، أحد حدود الحرم على تسعة أميال من مكة . والخبر قوله : ( في ذي القعدة ) والحديبية قيل : اسم لبئر في طريق جدة سميت بشجرة حدباء هناك . قال الفاسي : يقال : إنها المعروفة الآن ببئر شمس ، وقيل : شميس بالتصغير . وقال أبو علي البغدادي : في كتاب النوادر الحديبية مخففة الياء ، موضع بين الحل والحرم . وقال أبو عمر ابن عبد البر : الحديبية آخر الحل وأول الحرم ، وقيل : بعضها في الحل وبعضها في الحرم ، وقيل : أكثرها في الحرم ، وقال البخاري : الحديبية خارج من الحرم - انتهى . ووقع في رواية لمسلم : (( أو زمن الحديبية )) وهو شك من الراوي ، والمعنى واحد ، وفي رواية للبخاري : (( عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون )) وكان توجهه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة يوم الاثنين مستهل ذي القعدة سنة ست ، فخرج قاصدا إلى العمرة وأحرم في ذي الحليفة ، ولما بلغ الحديبية صده قريش عن الوصول إلى البيت ، ووقعت بينهم المصالحة على أن يدخل مكة في العام المقبل وتحلل هو وأصحابه من العمرة بالنحر ، ثم الحلق ورجع إلى المدينة ، وعدوها من العمر مع عدم الطواف والسعي لترتب أحكامها من نحر الهدي ، والحلق ، أي الخروج من الإحرام ، وقيل : باعتبار النية المترتب عليه
(17/242)
المثوبة . وقال الكرماني :
عمرة المحصر عن الطواف محسوبة بعمرة وإن لم تتم مناسكها ، وعمرة الحديبية هي :
العمرة الأولى من الأربع والثانية ( عمرة ) بالنصب والرفع كما مر ( من العام
المقبل في ذي القعدة ) وهي : عمرة القضاء أو القضية سنة سبع ( وعمرة من الجعرانة )
بكسر الجيم وسكون العين المهملة وتخفيف الراء وبكسر العين وتشديد الراء لغتان ،
والأول ذهب إليه الأصمعي وصوبه الخطابي . قال ابن المديني : أهل المدينة يثقلون
وأهل العراق يخففون ، وبالتخفيف قيدها المتقنون . وقال الخطابي في (( تصحيف
المحدثين )) : إن هذا مما ثقلوه وهو مخفف وهي موضع قريب من مكة معروف ، بينها وبين
الطائف وهي إلى مكة أقرب . قال القاري : وهو على ستة أميال أو تسعة أميال وهو
الأصح ، وسمي هذا الموضع باسم امرأة كانت تلقب بالجعرانة ، وهي ريطة بنت سعد بن زيد
بن عبد مناف ، وقيل : كانت من قريش ، وهي المشار إليها في قوله تعالى : ? كالتي
نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ? (16 : 92) كانت تغزل من أول النهار إلى نصفه ثم
تنقضه ، فضربت بها العرب مثلا في الحمق ونقض ما أحكم من العقود وأبرم من العهود (
حيث قسم غنائم حنين ) بعد فتح مكة ،
في ذي القعدة ، وعمرة مع حجته ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/243)
وحنين بالتصغير واد بينه وبين مكة ثلاثة أميال ( في ذي القعدة ) ، وهي العمرة الثالثة ، وكانت في سنة ثمان بعد فتح مكة غزوة هوازن وغزوة الطائف . ويوم حنين هو : غزوة هوازن لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطائف ، نزل الجعرانة فقسم بها غنائم هوازن ، ثم اعتمر منها فدخل مكة بهذه العمرة ليلا ، فقضى عمرته ثم خرج منها تحت ليلته إلى الجعرانة فبات بها ، فلما أصبح وزالت الشمس خرج منها في بطن سرف حتى جامع الطريق طريق المدينة بسرف ، ومن ثم خفيت هذه العمرة على كثير من الناس ، ( وعمرة مع حجته ) أي مقرونة مع حجته وهي : الرابعة التي قرنها بحجة الوداع سنة عشر ، وهي أيضا باعتبار إحرامها كانت في ذي القعدة ، وفي الباب عن ابن عباس عند أحمد (ج1 : ص246 ، 276) ، والترمذي و، أبي داود ، وابن ماجة ، وسكت عنه أبو داود ، والمنذري . ورجاله كلهم ثقات . وعن عائشة عند أحمد ، وأبي داود ، والنسائي : (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع )) وقد سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، وعن ابن عمر أنه سئل : كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : أربع . الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما . وهذه الأحاديث تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر : ( الأولى ) : عمرة الحديبية سنة ست من الهجرة ( والثانية ) : عمرة القضاء في السنة السابعة ( والثالثة ) : عمرة الجعرانة في السنة الثامنة بعد فتح مكة ( والرابعة ) : كانت مع حجته سنة عشرة ، وكلها كانت في ذي القعدة إلا الرابعة فكانت في ذي الحجة ، هذا هو الصحيح الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة . وذهب إليه المحققون من المحدثين والفقهاء . وقد ورد ما يخالف ذلك في العدد كحديث البراء التالي وحديث ابن عمر أنه سئل : كم اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : مرتين . أخرجه أحمد (ج2 : ص70) ، وأبو داود ، والنسائي ، وحديث عروة
(17/244)
عن عائشة أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة ، وعمرة في شوال . أخرجه أبو
داود ، وسكت عنه هو والمنذري . وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر كل ذلك في ذي القعدة . أخرجه أحمد (ج2 : ص180) ،
وفيه الحجاج بن أرطاة ، وفيه كلام وقد وثق ، وحديث عائشة عند أحمد بإسناد صحيح :
(( ما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة ، ولقد اعتمر ثلاث
عمر )) وحديث عروة عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر ، عمرتين
في ذي القعدة ، وعمرة في شوال . أخرجه سعيد بن منصور في سننه ، والبيهقي (ج4 :
ص346) ، وقوى الحافظ إسناده وحديث أبي هريرة (( قال : اعتمر رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ثلاث عمر كلها في ذي القعدة )) أخرجه البيهقي (ج4 : ص345) ، وحديث
جابر بمثل حديث أبي هريرة عند البزار ، والطبراني في الأوسط . قال الهيثمي :
ورجاله رجال الصحيح . وحديث عمر بن الخطاب قال : اعتمر رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ثلاثا قبل حجه في ذي القعدة . أخرجه الطبراني في الأوسط . قال الهيثمي :
ورجاله ثقات إلا أن سعيد بن المسيب اختلف في سماعه من عمر . والجمع بين حديث أنس
ومن وافقه وبين أحاديث هؤلاء الصحابة أن من قال مرتين لم يعد العمرة التي كانت مع
حجته لأنها كانت مقرونة بحجه ، وكانت في ذي الحجة كما تقدم ، وكأنه لم يعد أيضا
العمرة الأولى
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/245)
وهي عمرة الحديبية لكونها لم تتم ، وإن كانت وقعت في ذي القعدة ، أو عدها ولم يعد عمرة الجعرانة لخفائها عليه ، لكونها ليلا ، ومن قال : ثلاثا . لم يحسب العمرة التي قرنها بحجته لأن حديثه مقيد بكون ذلك في القعدة ، والتي في حجته كانت في ذي الحجة وقال ابن حزم : صدقت عائشة ، وصدق ابن عمر ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر مذ هاجر إلى المدينة عمرة كاملة إلا اثنتين كما قال ابن عمر - وهما عمرة القضاء وعمرة الجعرانة عام حنين - وعدت عائشة إلى هاتين العمرتين عمرة الحديبية التي صد عنها - صلى الله عليه وسلم - ، فأحل بالحديبية ونحر الهدي . والعمرة التي قرن مع حجة الوداع لم يكمل أفعالها ، فتألف قولاهما ، وعلى ذلك يحمل قول أنس : (( أربع عمر )) ولا خلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر : عمرة الحديبية ، وعمرة القضاء وعمرة الجعرانة ، والصحيح أن الثلاث كانت في القعدة . واختلفوا هل اعتمر الرابعة ؟ فمن قال : إنه كان قارنا أو متمتعا في حجته عدها أربعا ، ومن قال إنه كان مفردا عدها ثلاثا . ويجوز على هذا نسبة الرابعة إليه ، لأنه أمر الناس بها وعملت بحضرته . وأما ما ورد مخالفا لذلك في الزمن كحديث ابن عمر عند الشيخين : (( أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربعا إحداهن في رجب )) فيحمل على النسيان كما صرحت بذلك عائشة فقالت : (( يغفر الله لأبي عبد الرحمن نسى )) وكذلك قال غير واحد من المحدثين المحققين . وأما ما وقع في رواية عائشة عند أبي داود ، وسعيد بن منصور ، والبيهقي أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر عمرة في شوال ، فيجمع بينه وبين ما ورد في الأحاديث الصحيحة أن الثلاثة كانت في ذي القعدة ، بأن يكون ذلك وقع في آخر شوال وأول ذي القعدة ، ويؤيده ما وقع في رواية عائشة نفسها عند أحمد ، وابن ماجة بإسناد صحيح : (( أنه ما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة )) وأما
(17/246)
ما رواه الدارقطني عن عائشة
قالت : خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر
وأتمت ، الحديث . وقد قدمنا الكلام عليه في قصر الصلاة (ج2 : ص265) فقال ابن القيم
: هذا الحديث غلط فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رمضان قط
وعمره مضبوطة العدد والزمان ، ويرحم الله أم المؤمنين ، ما اعتمر رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - في رمضان قط ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها : لم يعتمر رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة . رواه ابن ماجة وغيره . ولا خلاف
أن عمره لم تزد على أربع ، فلو كان قد اعتمر في رجب لكانت خمسا ، ولو كان قد اعتمر
في رمضان لكانت ستا إلا أن يقال : بعضهن في رجب ، وبعضهن في رمضان ، وبعضهن في ذي
القعدة ، وهذا لم يقع . وإنما الواقع اعتماره - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة
كما قال أنس ، وابن عباس ، وعائشة رضي الله عنهم - انتهى . وقال القسطلاني : قد
حكم الحافظ بغلط هذا الحديث يعني حديث عائشة عند الدارقطني ، إذ لا خلاف أن عمره
لم تزد على أربع . وقد عينها أنس وعدها ، وليس فيها ذكر شيء منها في غير ذي القعدة
سوى التي مع حجته ، ولو كانت له عمرة في رجب ، وأخرى في رمضان لكانت ستا ، ولو
كانت أخرى في شوال - كما هو في سنن أبي داود عن عائشة ، أنه عليه الصلاة والسلام
اعتمر في شوال - كانت سبعا . والحق في ذلك أن ما أمكن فيه الجمع وجب ارتكابه دفعا
للمعارضة ، وما لم يمكن فيه ، حكم بمقتضى الأصح والأثبت .
متفق عليه .
2543- (15) وعن البراء بن عازب قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي
القعدة قبل أن يحج مرتين . رواه البخاري .
( الفصل الثاني )
2544- (16) عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أيها
الناس إن الله كتب عليكم الحج ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/247)
وهذا أيضا يمكن الجمع بإرادة
عمرة الجعرانة ، فإنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى حنين في شوال ، والإحرام بها في
ذي القعدة ، فكان مجازا للقرب ، وهذا إن صح وحفظ ، وإلا فالمعول عليه الثابت .
والله أعلم . ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج ، وفي المغازي ، ومسلم في الحج
واللفظ للبخاري في المغازي ، وأخرجه أيضا أحمد ، وأبو داود والترمذي ، والدارمي ،
والبيهقي (ج4 : ص345) .
2543- قوله : ( اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة قبل أن يحج
مرتين ) لا ينافي ما تقدم من حديث أنس وغيره كما سبق . قال القسطلاني : هذا لا يدل
على نفي غيره ، لأن مفهوم العدد لا اعتبار له . وقيل : إن البراء لم يعد الحديبية
لأنها لم تتم ، والتي مع حجته لكونها دخلت في أفعال الحج ، وكلهن أي الأربعة في
القعدة في أربعة أعوام على ما هو الحق ، كما ثبت عن عائشة ، وابن عباس رضي الله
عنهم : لم يعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة ، ولا ينافيه
كون عمرته التي مع حجته في ذي الحجة ، لأن مبدأها كان في ذي القعدة ، لأنهم خرجوا
لخمس بقين من ذي القعدة ، كما في الصحيح ، وكان إحرامه بها في وادي العقيق قبل أن
يدخل ذو الحجة ، وفعلها كان في ذي الحجة ، فصح طريقا الإثبات والنفي . ( رواه
البخاري ) من طريق يوسف بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن البراء ، وروى أحمد (ج4 :
ص297) من طريق زكريا عن أبي إسحاق عن البراء قال : اعتمر رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قبل أن يحج . واعتمر قبل أن يحج فقالت عائشة : لقد علم أنه اعتمر أربع
عمر بعمرته التي حج فيها . وليس في رواية البراء هذه ما يدل نصا على عدد عمره ،
ولا ما يدل على وقت عمرته من أي شهر . وروى أيضا أحمد (ج4 : ص298) ، والترمذي من
حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر في ذي
القعدة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وليس فيه ما
(17/248)
يدل على عدد عمره في ذي القعدة
هل اعتمر فيه مرة أو مرتين أو ثلاثا ، لكن الظاهر أن المراد بيان عمرة الحديبية
وعمرة القضاء كما وقع في رواية أحمد أيضا (ج4 : ص298) من طريق حجين عن إسرائيل عن
أبي إسحاق عن البراء . والله أعلم .
2544- قوله : ( يا أيها الناس ) خطاب عام يخرج منه غير المكلف ( كتب عليكم الحج )
أي : فرض بقوله تعالى :
فقام الأقرع بن حابس ، فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ قال : لو قلتها نعم لوجبت
، ولو وجبت
لم تعملوا بها ، ولم تستطيعوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/249)
? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ? (3 : 97) ( فقام الأقرع بن حابس ) بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي المجاشعي الدارمي وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهد فتح مكة وحنينا والطائف وهو من المؤلفة قلوبهم وقد حسن إسلامه . قال ابن إسحاق : قدم الأقرع بن حابس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عطارد بن حاجب بن زرارة ، والزبرقان بن بدر ، وقيس بن عاصم وغيرهم من أشراف تميم بعد فتح مكة وقد كان الأقرع وعيينة بن حصن الفزاري شهدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة وحنينا والطائف ، فلما قدم وفد تميم كانا معه ، فلما قدم وفد بني تميم المدينة ودخلوا المسجد نادوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من وراء حجرته : أن اخرج علينا يا محمد ، فآذى ذلك من صياحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهم فقالوا : يا محمد جئناك نفاخرك ، ونزل فيهم القرآن : ? إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ? (49 : 4) والأقرع بن حابس هو القائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن مدحي زين وإن ذمي شين )) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ذلكم الله سبحانه . قال بن دريد : اسم الأقرع فراس ، ولقب الأقرع لقرع كان به في رأسه ، والقرع انحصاص الشعر . وكان شريفا في الجاهلية والإسلام ، وشهد مع خالد بن الوليد حرب أهل العراق وكان على مقدمته . واستعمله عبد الله بن عامر على جيش سيره إلى خراسان فأصيب هو والجيش بالجوزجان وذلك في زمن عثمان ( أفي كل عام ؟ ) أي أكتب في كل عام قياسا على الصوم ، والزكاة فإن الأول : عبادة بدنية . والثاني : طاعة مالية والحج مركب منهما ( لو قلتها ) أي في جواب كلمة الأقرع ( نعم ) أي بالوحي أو الاجتهاد ، قاله القاري . وقال ابن حجر : قوله : (( لو قلتها نعم )) إنه بدل من الضمير الراجع لما
(17/250)
علم مما قبله وهو حجة كل عام .
قلت : الحديث رواه أحمد ثمان مرات وليس في موضع منها : (( لو قلتها نعم )) فلفظه
في الموضع الأول والثاني (ج1 : ص255 ، 290 ، 291) : (( لو قلتها لوجبت )) أي بدون
لفظة نعم . وهكذا ذكره البغوي في المصابيح ، والمجد في المنتقى ، وكذا وقع في
رواية الدارمي ، والبيهقي ، وفي الموضع السابع (ج1 : ص371) ، والثامن (ج1 : ص372)
: (( لو قلت : نعم )) أي بدون ضمير المؤنث وهكذا في رواية النسائي والحاكم
والدارقطني ، وفي الموضع الثالث (ج1 : ص292) ، والخامس (ج1 : ص323) ، والسادس (ج1
: ص325) : (( لو قلت : كل عام لكان )) وفي الموضع الرابع (ج1 : ص301) : (( لو قلت
: نعم كل عام لكان كل عام )) فالظاهر أن ما وقع في نسخ المشكاة (( لو قلتها نعم ))
أي بالجمع بين ضمير المؤنث وقوله نعم خطأ من الناسخ ، والعلم عند الله تعالى (
لوجبت ) أي الحجة في كل عام ( ولو وجبت ) أي بالفرض والتقدير ابتداء أو بناء على
الجواب ( لم تعملوا بها ) أي لكمال المشقة فيها ( ولم تستطيعوا ) قال القاري : أي
ولم تطيقوا لها ولم تقدروا عليها فهو إما عطف تفسير والخطاب إجمالي للأمة أو
والحج مرة فمن زاد فتطوع . رواه أحمد ، والنسائي ، والدارمي .
2545- (17) وعن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من ملك زادا
وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم
يحج ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/251)
للحاضرين والباقون على التبعية ، ويؤيده أنه في رواية : (( ولم تستطيعوا أن تعملوا بها )) أي كلكم من حيث المجموع ، وإما عطف تغاير وعدم الاستطاعة مختص بمن يكون بعيدا عن الحرم وهذه الاستطاعة أريد بها القدرة على الفعل ، والاستطاعة في الآية إنما هي الزاد والراحلة فلا تنافي بينهما - انتهى . قلت : وقع في رواية أحمد (ج1 : ص291) : (( لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها )) أي بواو العطف وكذا عند البيهقي ، وفي أخرى لأحمد (ج1 : ص255) : (( لم تعملوا بها أو لم تستطيعوا أن تعملوا بها )) أي بحرف (( أو )) وهكذا عند الحاكم (ج2 : ص293) ( والحج ) وفي بعض النسخ الحج أي بدون الواو وهكذا وقع عند أحمد (ج1 : ص291) ، والدارمي ، والحاكم ، والبيهقي ، وكذا ذكره المجد في المنتقى والبغوي في المصابيح ، والزيلعي ، وابن كثير ( مرة ) مبتدأ وخبر أي وجوب الحج مرة واحدة ( فمن زاد فتطوع ) كذا في جميع النسخ وهكذا في المصابيح ، والسنن للبيهقي ، والمستدرك للحاكم (ج2 : ص293) ، وفي المسند : (( فهو تطوع )) وهكذا عند أبي داود أي من زاد على مرة فحجته أو فزيادته تطوع . ( رواه أحمد ) في مسنده ثمان مرات مطولا ومختصرا ( والنسائي ، والدارمي ) وأخرجه أيضا أبو داود ، وابن ماجة ، والدارقطني (ص255 ، 280) ، والحاكم (ج1 : ص441 ، 470 ، وج2 : ص293) ، وابن الجارود (ص147) ، والبيهقي (ج4 ص326) ، والطيالسي (ص348) وهو حديث صحيح . قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، وأقره الذهبي .
(17/252)
2545- قوله : ( من ملك زادا
وراحلة ) أي ولو بالإجازة و (( الزاد )) ما يتخذ من الطعام للسفر والجمع أزودة
وأزواد و (( الراحلة )) من الإبل ما كان منها صالحا لأن يرحل للذكر والأنثى ، والتاء
للمبالغة أي : لا للتأنيث ، وقيل للنقل من الوصفية إلى الاسمية والجمع رواحل ، وفي
معنى الراحلة ما حدث من المراكب البرية والبحرية والهوائية الجوية ( تبلغه )
بتشديد اللام وتخفيفها أي : توصله ( إلى بيت الله ) ترك ذكر نفقة العود للظهور (
ولم يحج ) بفتح الجيم المشددة ويجوز ضمها وكسرها ( فلا عليه ) أي : فلا بأس ولا
مبالاة ولا تفاوت عليه ( أن يموت ) أي : في أن يموت أو بين أن يموت ( يهوديا أو
نصرانيا ) في الكفر إن اعتقد عدم الوجوب ، وفي العصيان إن اعتقد الوجوب ، وقيل :
هذا من باب التغليظ الشديد والمبالغة في الوعيد لمن اعتقد وجوبه وتساهل في الأداء
وهو قادر عليه ، والأظهر أن وجه تخصيص الطائفتين بالذكر كونهما من أهل الكتاب غير
عاملين به فشبه بهما من ترك الحج حيث لم يعمل بكتاب الله تعالى ونبذه وراء ظهره
قاله القاري . وقال الطيبي : قوله : (( فلا عليه )) إلخ . أي : لا يتفاوت عليه أن
يموت يهوديا أو نصرانيا ، والمعنى أن وفاته في
وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول : ? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
? .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/253)
هذه الحالة ووفاته على اليهودية والنصرانية سواء فيما فعله من كفران نعمة الله تعالى وترك ما أمر به والانهماك في معصيته وهو من باب المبالغة والتشديد والإيذان لعظمة شأن الحج ، ونظيره قوله تعالى : ? ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ? (3 : 97) فإنه وضع فيه (( ومن كفر )) موضع (( ومن لم يحج )) تعظيما للحج وتغليظا على تاركه - انتهى . وقال الشيخ ولي الله الدهلوي في حجة الله : ترك ركن من أركان الإسلام يشبه الخروج عن الملة ، وإنما شبه تارك الحج باليهودي والنصراني ، وتارك الصلاة بالمشرك لأن اليهود والنصارى يصلون ولا يحجون ، ومشركوا العرب يحجون ولا يصلون - انتهى . وقال المحب الطبري : الإجماع منعقد على أن هذا ليس على ظاهره ، وأن من مات من المسلمين ولم يحج وكان قادرا عليه لا يكون تركه الحج مخرجا له عن الإسلام ، وهو محمول على المستحل لذلك فيكفر به ، أو أن فعله أشبه فعل اليهودي والنصراني ( وذلك أن الله ) أي ما ذكر من شرط الزاد والراحلة والوعيد على ترك هذه العبادة لأن الله ( تبارك ) تكاثر خير وبره ( وتعالى ) عظمته وغناه ( يقول ) أي في كتابه : ? ولله على الناس ? أي واجب عليهم ? حج البيت ? بفتح الحاء وكسرها لغتان وقراءتان سبعيتان في مصدر حج بمعنى قصد ? من استطاع ? منهم ? إليه ? أي إلى حج البيت الحرام لأنه المحدث عنه وإن كان يحتمل رجوع الضمير للبيت لكن الأول أولى ، والناس عام مخصوص بالمستطيع قد خصص ببدل البعض وهو قوله : ? من استطاع ? لأنه من المخصصات عند الأصوليين ، فالحج فرض على المكلف إليه سبيلا ، وهو الذي يقدر على الوصول إليه بأي مركوب يناسبه وزاد يتزوده ولهذا أتى بهذا اللفظ الذي يمكن تطبيقه على جميع المركوبات الحادثة والتي ستحدث وهذا من آيات القرآن حيث كانت أحكامه صالحة لكل زمان وكل حال ولا يمكن الصلاح التام بدونها ? سبيلا ? أي
(17/254)
طريقا وفسر - صلى الله عليه
وسلم - استطاعة الطريق بالزاد والراحلة ، رواه عنه غير واحد من الصحابة وسيأتي
الكلام عليه في شرح حديث ابن عمر . قال الشوكاني : اللام في قوله : ? لله ? هي
التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف ? على ? فإنه من
أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب كما إذا قال القائل : لفلان على كذا . فذكر
الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته ، وهذا
الخطاب شامل لجميع الناس ، لا يخرج منه إلا من خصصه الدليل كالصبي والعبد . وقوله
: ? من استطاع ? في محل جر على أنه بدل بعض من الناس ، وبه قال أكثر النحويين
-انتهى . والحديث مع الآية صريح في تشديد الوعيد على من ملك زادا وراحلة ولم يحج
وقد استدل بظاهره من ذهب إلى وجوب الحج على الفور وقال : لو كان على التراخي لما
كان للتوعد معنى وأجاب عنه من ذهب إلى أن الحج على التراخي بأنه لا حجة فيه إما
على تأويل أنه محمول على المستحل لذلك فيكفر به فظاهر ، وإما على تأويل أن فعله
أشبه فعل اليهودي والنصراني فغايته أن يدل على تأثيمه ، ونحن نقول
رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث غريب ، وفي إسناده مقال ، وهلال بن عبد الله مجهول
والحارث يضعف في الحديث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/255)
بذلك وهو أصح قولي الشافعي ، والتأخير إنما جاز بشرط سلامة العاقبة . وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث ابن عباس الآتي ( رواه الترمذي ) وأخرجه أيضا ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب كلهم من طريق هلال أبي هاشم الخراساني عن أبي إسحاق الهمداني عن الحارث عن علي ( وفي إسناده مقال وهلال بن عبد الله ) الراوي للحديث عن أبي إسحاق ( مجهول ) وسئل إبراهيم الحربي عنه فقال من هلال ؟ وقال بن عدي : يعرف بهذا الحديث ، وليس الحديث بمحفوظ ، وقال العقيلي : لا يتابع عليه ، وذكر الذهبي حديث علي هذا في ترجمة هلال بن عبد الله المذكور وقال : قال البخاري : منكر الحديث . وقال الترمذي : مجهول ، وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه ، وقال الحافظ في التقريب في ترجمته متروك ، وقد روي عن علي موقوفا ولم يرو مرفوعا من طريق أحسن من هذا ، وقال المنذري : طريق أبي أمامة على ما فيها أصلح من هذه . ( والحارث يضعف في الحديث ) الحارث هذا هو بن عبد الله الأعور الهمداني الحوتي الكوفي وقد تقدم ترجمته في (ج3 : ص67) . اعلم أنه ورد في ترهيب من قدر على الحج فلم يحج أحاديث منها حديث علي وقد عرفت حاله ومنها حديث أبي أمامة وهو ثالث أحاديث الفصل الثالث وقد أخرجه الدارمي ، وسعيد بن منصور في السنن ، وأحمد ، وأبو يعلى ، والبيهقي من طريق عن شريك عن ليث بن أبي سليم عن ابن سابط عن أبي أمامة بلفظ : (( من لم يحسبه مرض أو حاجة ظاهرة ، أو سلطان جائز ، فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا )) لفظ البيهقي ، ولفظ أحمد : (( من كان ذا يسار فمات ولم يحج )) الحديث ، وليث ضعيف وشريك سيئ الحفظ وقد خالفه سفيان الثوري فأرسله ، رواه أحمد في كتاب الإيمان له ، عن وكيع عن سفيان عن ليث عن بن سابط ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة )) فذكره مرسلا
(17/256)
، وكذا ذكره ابن أبي شيبة عن
أبي الأحوص عن ليث مرسلا ، وأرده أبو يعلي من طريق أخرى عن شريك مخالفة للإسناد
الأول ، وراويها عن شريك عمار بن مطرف ضعيف . وقال الذهبي في الميزان بعد أن ذكر
طريق أبي يعلى هذه في ترجمة عمار بن مطر الرهاوي المذكور الراوي عن شريك : هذا
منكر عن شريك . ومنها حديث أبي هريرة رفعه : (( من مات ولم يحج حجة الإسلام في غير
وجع حابس أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فليمت أي الميتتين شاء إما يهوديا أو
نصرانيا )) رواه ابن عدي من حديث عبد الرحمن القطامي عن أبي المهزم وهما متروكان
عن أبي هريرة . قال الحافظ في التلخيص (ص203) بعد ذكر هذه الروايات : وللحديث طريق
صحيحة إلا أنها موقوفة رواها سعيد بن منصور والبيهقي (ج4 : ص334) عن عمر بن الخطاب
قال : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى أهل الأمصار فينظروا كل
2546- (18) وعن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا صرورة
في الإسلام .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/257)
من كان له جدة ولم يحتج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين . لفظ سعيد ، ولفظ البيهقي : أن عمر قال: (( ليمت يهوديا أو نصرانيا لها ثلاث مرات ، رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة وخليت سبيله )) قال الحافظ : وإذا انضم هذا الموقف إلى مرسل بن سابط علم أن لهذا الحديث أصلا ومحله على من استحل الترك وتبين بذلك خطأ من ادعى ( يريد به ابن الجوزي فإنه ذكره في الموضوعات ) أنه موضوع - انتهى . وقال البيهقي بعد رواية حديث أبي أمامة : وهذا وإن كان إسناده غير قوي فله شاهد من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقال الشوكاني في النيل بعد أن ساق طرق هذه الأحاديث : وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا وبذلك تتبين مجازفة ابن الجوزي في عده لهذه الأحاديث من الموضوعات فإن مجموع تلك الطرق لا يقصر عن كون الحديث حسنا لغيره وهو محتج به عند الجمهور ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني (( لا يصح في الباب شيء )) لأن نفي الصحة لا يستلزم نفي الحسن - انتهى . وقد استدل بهذه الأحاديث على وجوب الحج على الفور لأنها تصرح أنه لا يمنعه من الإثم إلا مانع يمنعه من المبادرة إلى الحج كالمرض أو الحاجة الظاهرة أو السلطان الجائز فلو كان تراخيه لغير العذر المذكور لكان قد مات وهو آثم بالتأخير فدل على أن الوجوب الحج على الفور وأنه لا يجوز التأخير فيه إلا لعذر .
(17/258)
2546- قوله ( لا صرورة في
الإسلام ) الصرورة بفتح الصاد وضم الراء المهملتين وإسكان الواو وفتح الراء على
وزن الضرورة من الصر بفتح الضاد وهو الحبس والمنع . قال اللحياني : رجل صرورة لا
يقال إلا بالهاء . وقال ابن الجني : رجل صرورة ، امرأة صرورة ليست الهاء لتأنيث
الموصوف بما هي فيه وإنما لحقت لإعلام السامع أن هذا الموصوف بما هي فيه قد بلغ
الغاية والنهاية ، فجعل تأنيث الصفة أمارة لما أريد من تأنيث الغاية والمبالغة -
انتهى . قال في المصباح المنير : الصرورة بالفتح الذي لم يحج ، وهذه الكلمة من
النوادر التي وصف بها المذكر والمؤنث مثل ملوكة وفروقة ، ويقال أيضا : صروري على
النسبة وصارورة ورجل صرورة لم يأت النساء . سمي الأول بذلك لصره على نفقته لأنه لم
يخرجها في الحج ، وسمي الثاني بذلك لصره على ماء ظهره وإمساكه - انتهى . قلت : قد
فسر الصرورة في الحديث بثلاثة معان ، الأول : أنه الذي لم يحج قط وهو نفي معناه
النهي . أي لا يترك الحج في الإسلام من استطاعه ، فمن ترك الحج مع الاستطاعة فقد
منع عن نفسه الخير . وقال القاري : أي من لم يحج بعد أن يكون عليه لا يكون في
الإسلام . قال الطيبي : فدل ظاهره على أن من يستطيع الحج ولم يحج ليس بمسلم كامل .
وقال القاضي : ظاهر الكلام يدل على أن تارك الحج ليس بمسلم ، والمراد منه أنه لا
ينبغي أن يكون في الإسلام أحد يستطيع الحج ولا يحج فعبر عنه بهذه العبارة للتشديد
والتغليظ - انتهى . وقيل : معناه لا يطلق على من لم يحج صرورة في الإسلام ، كان
يطلق عليه في الجاهلية
رواه أبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/259)
يدل عليه ما روى البيهقي (ج5 :
ص165) ، والطبراني في الكبير عن ابن مسعود ، قال : لا يقولن أحدكم إني صرورة فإن
المسلم ليس بصرورة ، وما روى الدارقطني (ص286) ، والبيهقي (ج5 : ص164 ، 165) عن
ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقال للمسلم صرورة . الثاني :
أنه الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل على مثل رهبانية النصارى فنهى عن ذلك ، قال
الزرقاني : ويسمى من لم ينزوج صرورة أيضا لأنه صر الماء في ظهره وتبتل على مذهب
الرهابنية - انتهى . وقال القاري : وقيل المراد بالصرورة التبتل وترك النكاح ، أي
ليس في الإسلام بل هو في الرهبانية ، وأصل الكلمة من الصر وهو الحبس . الثالث : أن
المراد من قتل في الحرم قتل ، ولا يقبل قوله : إني صرورة ما حججت ولا عرفت حرمة
الحرم كان الرجل في الجاهلية إذا أحدث حدثا فلجأ إلى الكعبة لم يهج ، فكان إذا
لقيه ولي الدم في الحرم ، قيل هو صرورة فلا تهجه ، قال الخطابي في المعالم (ج2 :
ص278) : الصرورة تفسر تفسيرين : أحدهما : أن الصرورة هو الرجل الذي قد انقطع عن
النكاح وتبتل على مذهب رهبانية النصارى ، ومنه قول النابغة :
لو أنها عرضت لأشمط راهب ( ... عبد الإله صرورة متلبد (
(17/260)
والوجه الآخر أن الصرورة هو :
الرجل الذي لم يحج ، فمعناه على هذا أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من الناس يستطيع
الحج فلا يحج حتى لا يكون صرورة في الإسلام - انتهى . قال ابن الأثير (ج1 : ص281)
: حديث (( لا صرورة في الإسلام )) قال أبو عبيد : هو في الحديث التبتل وترك النكاح
، أي ليس ينبغي لأحد أن يقول : لا أتزوج لأنه ليس من أخلاق المؤمنين وهو فعل
النصارى . والصرورة أيضا : الذي لم يحج قط ، وأصله من الصر الحبس والمنع ، وقيل :
أراد من قتل في الحرم قتل ، إلى آخر ما ذكرنا في بيان المعنى الثالث ، والظاهر أن
أبا داود ، والحاكم ، والبيهقي رجحوا أن الصرورة في الحديث هو الذي لم يحج فأخرجوا
الحديث في أبواب الحج ( رواه أبو داود ) ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص312) ، والحاكم
(ج1 : ص448) ، والبيهقي (ج5 : ص164) كلهم من طريق ابن جريج عن عمر بن عطاء عن
عكرمة عن ابن عباس وقد سكت عنه أبو داود ، وقال الحاكم : حديث صحيح الإسناد ولم
يخرجاه ووافقه الذهبي ، وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على هذا الحديث في
شرح المسند (ج4 : ص303) : إسناده صحيح عمر بن عطاء ( راوي الحديث عن عكرمة ) هو
عمر بن عطاء بن أبي الخوار بضم الخاء وتخفيف الواو وآخره راء ، ثقة وثقه ابن معين
وأبو زرعة وغيرهما ، وأعل بعضهم هذا الحديث وضعفه بأن عمر بن عطاء فيه هو عمر بن
عطاء بن وراز بفتح الواو وتشديد الراء وآخره زاي وهو ضعيف لقول الإمام أحمد : كل
شيء روى ابن جريج عن عمر بن عطاء عن عكرمة فهو ابن وراز ، وكل شيء روى ابن جريج عن
عمر بن عطاء عن ابن عباس فهو ابن أبي الخوار ، كان كبيرا ، قيل له : أيروي ابن أبي
الخوار عن عكرمة ؟ قال لا . وكذا جاء نحو هذا عن ابن معين . قال : عمر بن عطاء
الذي يروي عنه ابن جريج
2547- (19) وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أراد الحج فليعجل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/261)
يحدث عن عكرمة ليس هو بشيء ، وهو ابن وراز ، وهم يضعفونه ، كل شيء عن عكرمة فهو ابن وراز وعمر بن عطاء بن أبي الخوار ثقة . وأما ابن حبان فقد جمعهما رجلا واحدا فوهم . ذكره في الثقات باسم (( عمر بن عطاء بن وراز بن أبي الخوار )) وأما أن ابن أبي الخوار كبير يروي عن ابن عباس ، فلا يمنع أن يروي عن عكرمة الذي من طبقته ، وقد بين أبو داود أن هذا الرواي هو ابن أبي الخوار ، فروى الحديث من طريق أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان عن ابن جريج عن عمر بن عطاء يعني ابن أبي الخوار عن عكرمة . وأخطأ المنذري خطأ شديدا فقال : (( في إسناده عمر بن عطاء وهو ابن أبي الخوار وقد ضعفه غير واحد من الأئمة )) . وقد تبع في هذا الخطأ أبا دواد فقد قال الآجري : سألت أبا دواد عن عمر ابن عطاء الذي روى عنه ابن جرير . فقال : هذا عمر بن عطاء بن أبي الخوار بلغني عن يحيى أنه ضعفه . قال الحافظ : كذا قال ، والمحفوظ عن يحيى أنه وثقه وضعف الذي بعده . يعني ابن وراز . انظر ترجمتيهما في التهذيب : (ج7 : ص483 ، 484) والحديث رواه الحاكم أيضا ، وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي . وفي الباب عن ابن أخي جبير بن مطعم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا صرورة في الإسلام . ذكره الحافظ في المطالب العالية (ج1 : ص312) وعزاه لأبي بكر ، وأحمد بن منيع .
(17/262)
2547- قوله ( من أراد الحج )
أي قدر على أدائه ، لأن الإرادة مبدأ الفعل والفعل مسبوق بالقدرة ، فأطلق أحد سببي
الفعل على الآخر ، والعلاقة الملابسة لأن معنى قوله : ( فليعجل ) فليغتنم الفرصة
إذا وجد الاستطاعة من القوة والزاد والراحلة ، والمراد قبل عروض مانع ، وقوله : ((
فليعجل )) بتشديد الجيم من التعجيل كذا في جميع النسخ ، وكذا وقع في المصابيح ،
والذي في السنن لأبي داود ، والدارمي فليتعجل أي من التعجل ، وهكذا ذكره ابن كثير
في التفسير ، والسيوطي في الجامع الصغير والمجد في المنتقى ، والجزري في جامع
الأصول (ج3 : ص383) ، وكذا وقع عند أحمد (ج1 : ص225) ، والحاكم (ج1 : ص448) ،
والبيهقي (ج4 : ص339 ، 340) وفي بعض نسخ الدارمي (( فليستعجل )) أي من الاستعجال .
قال الطيبي : التفعيل الاستفعال غير عزيز ، ومنه التعجل بمعنى الاستعجال ، والتأخر
بمعنى الاستئخار - انتهى . وزاد في رواية أحمد (ج1 : ص214 : 323) ، وابن ماجة ،
والطحاوي ، والبيهقي (ج4 : ص340) : (( فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض
الحاجة )) ( أي التي تمنعه عن أداء النسك ) ومعنى (( يمرض المريض )) أي من قدر له
المرض يمرض فيمنعه ذلك عن الحج ، قال الحفني : أي قد يطرأ المرض على الصحيح الذي
يؤل أمره إلى كونه مريضا ففيه مجاز الأول ، وقال الزمخشري : هذا من قبيل المجاز
باعتبار الأول إذا المريض لا يمرض بل الصحيح ، فسمي المشارف للمرض والضلال مريضا
وضالة ، كما سمي المشارف للموت ميتا ، ومنه ? ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ? (71 :
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/263)
27) أي صائرا إلى الفجور والكفر - انتهى . والقصد الحث على الاهتمام بتعجيل الحج قبل العوارض والموانع ، وفيه دليل على أن الحج واجب على الفور ، وقد اختلف العلماء هل الحج واجب على الفور أم على التراخي ؟ فممن قال : إنه واجب على الفور الإمام أحمد ، وأبو يوسف ، وجمهور أصحاب أبي حنيفة ، والمزني من أصحاب الشافعي . قال النووي : ولا نص في ذلك لأبي حنيفة ، وكان الكرخي يقول : هو مذهب أبي حنيفة . وقال صاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي : إن القول بأنه على الفور قول أبي يوسف ، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه ، فإن ابن شجاع روى عنه أن الرجل إذا وجد ما يحج به وقد قصد التزوج قال يحج ولا يتزوج ، لأن الحج فريضة أوجبها الله على عبده ، وهذا يدل على أنه على الفور - انتهى . وقال القاري : الأصح عندنا أن الحج واجب على الفور ، وهو قول أبي يوسف ، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه فذكر رواية ابن شجاع عنه ، وأما مذهب مالك فعنه في المسألة قولان مشهوران كلاهما شهره بعض علماء المالكية أحدهما على الفور ، والثاني : أنه على التراخي . ومحل الخلاف المذكور ما لم يحس الفوات بسبب من أسباب الفوات ، فإن خشيه وجب عندهم فورا اتفاقا . وممن قال إن وجوبه على التراخي : الشافعي وأصحابه . قال النووي وبه قال الأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن ونقله الماوردي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس . قال القاري : وقال محمد : وهو رواية عن أبي حنيفة ، وقول الشافعي : إنه على التراخي إلا أن يظن فواته لو أخره لأن الحج وقته العمر نظرا إلى ظاهر الحال في بقاء الإنسان فكان كالصلاة في وقتها يجوز تأخيره إلى آخر العمر كما يجوز تأخيرها إلى آخر وقتها ، إلا أن جواز تأخيره مشروط عند محمد بأن لا يفوت يعني لو مات ولم يحج أثم . ولأبي يوسف : إن الحج في وقت معين من السنة والموت فيها ليس بنادر فيضيق عليه للاحتياط لا لانقطاع التوسع بالكلية فلو حج في العام الثاني كان
(17/264)
مؤديا بإتفاقهما ، ولو مات قبل
العام الثاني كان آثم بإتفاقهما ، وثمرة الخلاف بينهما إن ما تظهر في حق تفسيق
المؤخر ، ورد شهادته عند من يقول بالفور وعدم ذلك عند من يقول بالتراخي كذا حققه
الشمني - انتهى . واحتج من قال إنه على التراخي بأدلة منها أنهم قالوا : إن الحج
فرض عام ست من الهجرة ، وقيل سنة تسع ولا خلاف أن آية ? وأتموا الحج والعمرة لله ?
الآية ، نزلت عام ست من الهجرة في شأن ما وقع من الحديبية من إحصار المشركين رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم محرمون بعمرة وذلك في ذي القعدة سنة ست
وإذا كان الحج فرض عام ست وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج إلا عام عشر
فذلك دليل على أنه على التراخي ، إذ لو كان على الفور لما أخره عن أول وقت للحج
بعد نزول الآية . قالوا : ولاسيما إنه عام ثمان من الهجرة فتح مكة في رمضان واعتمر
عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان ثم رجع إلى المدينة ولم يحج . قالوا :
واستخلف عتاب بن أسيد فأقام الناس الحج سنة ثمان بأمر رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيم بالمدينة هو وأزواجه وعامة
أصحابه ولم يحجوا . قالوا : ثم غزا غزوة تبوك في عام تسع وانصرف عنها قبل الحج
فبعث أبا بكر رضي الله عنه فأقام الناس الحج سنة تسع ورسول الله - صلى الله عليه
وسلم - هو وأزواجه وعامة أصحابه
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/265)
قادرون على الحج ، غير مشتغلين بقتال ولا غيره ولم يحجوا ، ثم حج - صلى الله عليه وسلم - هو وأزواجه وأصحابه كلهم سنة عشر حجة الوداع ، قالوا : فتأخيره الحج المذكور إلى سنة عشر دليل على أن الحج ليس وجوبه على الفور بل على التراخي ، قال المحب الطبري : وما يتكلف من عذر في حقه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان خلاف الأصل والظاهر فهو معدوم في حقهم ، ولو وجب عليهم على الفور لبينه لهم - صلى الله عليه وسلم - ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ، والعذر بصد المشركين قد زال بالفتح سنة ثمان ، وما قيل من أن التأخير كان لأن لا يرى منكرا من حج المشركين وطواف العراة فلذلك دليل على الجواز ، إذ لو لم يجز التأخير لما كان هذا عذرا في إسقاط واجب تعين ، ثم ينتقض بمن تخلف من الصحابة وليسوا بأفضل ممن بعثه ، ومنها ما جاء في حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة السعدي أخرجه مسلم في أول كتاب الإيمان ، وروى البخاري أصله ، وفيه (( زعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا ، قال صدق )) وقدوم ضمام بن ثعلبة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كان سنة خمس من الهجرة ، قاله محمد بن حبيب وآخرون . وقد صرح في هذا الحديث بوجوب الحج فتأخيره - صلى الله عليه وسلم - الحج إلى عام عشر دليل على أنه على التراخي لا على الفور ، ومنها أنه إن أخر الحج من سنة إلى أخرى أو إلى سنين ثم فعله فإنه يسمى مؤديا لحج لا قاضيا له بإجماع المسلمين ، قالوا : ولو حرم التأخير لكان قضاء لا أداء . ومنها ما هو مقرر في أصول الشافعية وهو أن المختار عندهم أن الأمر المجرد عن القرائن لا يقتضي الفور ، وإنما المقصود منه الامتثال المجرد فوجوب الفور يحتاج إلى دليل خاص زائد على مطلق الأمر ، ومنها أنهم قاسوا الحج على الصلاة الفائتة ، قالوا : فهي على التراخي ويقاس الحج عليها بجامع أن كلا منهما واجب ليس له وقت معين ، ومنها أنهم قاسوه على قضاء رمضان في
(17/266)
كونها على التراخي بجامع أن
كليهما واجب ليس له وقت معين ، قالوا : ولكن تثبتت آثار أن قضاء رمضان غاية زمنه
مدة السنة ، واحتج من ذهب إلى أنه على الفور بأدلة أيضا ، منها آيات من كتاب الله
تعالى يفهم منها ذلك وهي على قسمين ، قسم منها فيه الدلالة على وجوب المبادرة إلى
امتثال أوامره جل وعلا ، والثناء على من فعل ذلك . كقوله تعالى : ? وسارعوا إلى
مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ? (3 : 133) قوله تعالى :
? سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ? (57 : 21) الآية ،
فقوله : ? وسارعوا ? و ? سابقوا ? فيه الأمر بالمسارعة والمسابقة إلى مغفرته وجنته
جل وعلا وذلك بالمبادرة والمسابقة إلى امتثال أوامره ، ولا شك أن المسارعة
والمسابقة كلتاهما على الفور لا التراخي . وكقوله : ? فاستبقوا الخيرات ? (2 : 148
- 5 : 48) الآية . ويدخل فيه الاستباق إلى الامتثال ، وصيغ الأمر في قوله : ?
وسارعوا ? وقوله : ? سابقوا ? وقوله : ? فاستبقوا ? تدل على الوجوب ، لأن الصحيح
المقرر في الأصول أن صيغة (( افعل )) إذا تجردت عن القرائن اقتضت الوجوب ، وذلك
بدل على أن قوله : ? سابقوا ? وقوله : ? وسارعوا ? يدل على وجوب المبادرة إلى
امتثال أوامر الله فورا . ومن الآيات التي فيها الثناء
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/267)
على المبادرين إلى امتثال أوامر ربهم قوله تعالى : ? إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ? (21 : 90) الآية . وقوله تعالى : ? أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ? (23 : 61) والقسم الثاني من الآيات يدل على توبيخ من لم يبادر وتخويفه من أن يدركه الموت قبل أن يتمثل لأنه قد يكون اقترب أجله وهو لا يدري ، فقد أمر الله تعالى خلقه أن ينظروا في غرائب صنعه وعجائبه كخلقه السماوات والأرض ونحو ذلك في آيات من كتابه كقوله : ? قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ? (10 : 101) الآية . وقوله تعالى : ? أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ? (50 : 6) الآية . ثم ذكر في آية أخرى ما يدل على أن ذلك النظر مع لزومه يجب معه النظر في اقتراب الأجل ، فقد يقرب أجله ويضيع عليه أجر الامتثال بمعاجلة الموت ، وذلك في قوله تعالى : ? أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ? (7 : 184) إذا المعنى : أو لم ينتظروا في أنه عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ، فيضيع عليهم الأجر بعدم المبادرة قبل الموت . وفي الآية دليل واضح على أن الإنسان يجب عليه أن يبادر إلى امتثال الأمر ، خشية أن يعالجه الموت قبل ذلك ، ومنها أحاديث جاءت دالة على وجوب الحج على الفور كحديث ابن عباس ( الذي نحن في شرحه ) وهو حديث حسن وسيأتي تخريجه ، وكحديث ابن عباس مرفوعا : تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة ، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ، أخرجه أحمد (ج1 : ص314) بسند ضعيف ووجه الدلالة من هذين الحديثين على وجوب الحج على الفور ظاهر . وكحديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل . قال عكرمة : سألت ابن
(17/268)
عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا
: صدق . أخرجه أحمد ، وأصحاب السنن ، وابن خزيمة ، والحاكم ، والبيهقي . وسيأتي في
باب الإحصار وفوت الحج . ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - :
(( وعليه الحج من قابل )) لأنه لو كان على التراخي لم يعين العام القابل ، وهو
دليل على أن الوجوب على الفور ، ومن الأحاديث الدالة على ذلك أيضا ما تقدم من حديث
علي ، وأبي أمامة وأبي هريرة ، وعمر بن الخطاب ، وقد سبق بيان وجه الدلالة من هذه
الأحاديث في شرح حديث علي ، ومنها أن الله أمر به وأن جماعة من أهل الأصول قالوا :
إن الشرع واللغة والعقل كلها دال على اقتضاء الأمر الفور أما الشرع فقد قدمنا
الآيات القرآنية الدالة على المبادرة فورا لامتثال أوامر الله كقوله : ? وسارعوا
إلى مغفرة من ربكم ? الآية . وكقوله : ? سابقوا إلى مغفرة من ربكم ? الآية . وأما
اللغة فإن أهل اللسان العربي مطبقون على أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء فلم
يفعل فأدبه ، فليس للعبد أن يقول له : صيغة افعل في قولك : (( اسقني ماء )) تدل
على التراخي ، وكنت سأمتثل بعد زمن متراخ عن الأمر ، بل يقولون : إن الصيغة ألزمتك
فورا ، ولكنك عصيت أمر سيدك بالتواني والترخي ، وأما العقل فإنا لو قلنا : إن وجوب
الحج على التراخي فلا يخلو من أحد أمرين : إما أن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/269)
يكون ذلك التراخي له غاية معينة ينتهي عندها وإما لا ، والقسم الأول ممنوع ، لأن الحج لم يعين له زمن يتحتم فيه دون غيره من الأزمنة ، بل العمر كله تستوي أجزاؤه بالنسبة إليه ، إن قلنا : إنه ليس على الفور ، والحاصل أنه ليس لأحد تعيين غاية له لم يعينها الشرع . والقسم الثاني هو أن تراخيه ليس له غاية يقتضي عدم وجوبه ، لأن ما جاز تركه جوازا لم تعين له غاية ينتهي إليها فإن تركه جائز إلى غير غاية ، وهذا يقتضي عدم وجوبه ، والمفروض وجوبه . فإن قيل : غايته الوقت الذي يغلب على الظن بقاؤه إليه . فالجواب أن البقاء إلى زمن متأخر ليس لأحد أن يظنه ، لأن الموت يأتي بغتة فكم من إنسان يظن أنه يبقى سنين فيخترمه الموت فجاءة ، وقد قدمنا قوله تعالى في ذلك : ? وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ? ولا ينتهي إلى حالة يتقين الموت فيها إلا عند عجزه عن العبادات ، ولاسيما العبادات الشاقة كالحج ، والإنسان طويل الأمل يهرم ويشب أمله . وتحديد وجوبه بستين سنة تحديد لا دليل عليه ، فهذه جملة أدلة القائلين بأن وجوب الحج على الفور ، ومنعوا أدلة المخالفين ، قالوا : إن قولكم إن الحج فرض سنة خمس بدليل قصة ضمام بن ثعلبة المتقدمة ، فإن قدومه سنة خمس ، وقد ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوب الحج ، وأن قوله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? الآية . نزلت عام ست في عمرة الحديبية ، فدلت على أن الحج مفروض عام ست وأنه - صلى الله عليه وسلم - أخره بعد فرضه إلى عام عشر ، كل ذلك مردود ، بل الحج إنما فرض عام تسع ، قالوا : والصحيح أن قدوم ضمام بن ثعلبة السعدي كان سنة تسع . وقال الحافظ في الإصابة في ترجمة ضمام بن ثعلبة المذكور ما نصه : وزعم الواقدي أن قدومه كان سنة خمس ، وفيه نظر . وذكر ابن هشام عن أبي عبيد أن قدومه كان سنة تسع ، وهذا عندي أرجح ، إلخ . وانظر ترجيح الحافظ لكون قدومه عام تسع .
(17/270)
وذكر ابن كثير قدوم ضمام
المذكور في حوادث سنة تسع مع أنه ذكر قول من قال : إن قدومه كان قبل عام خمس ، هذا
وجه ردهم للاحتجاج بقصة ضمام ، وأما وجه ردهم للاحتجاج بآية ? وأتموا الحج والعمرة
لله ? فهو أنها لم يذكر فيها إلا وجوب الإتمام بعد الشروع ، فلا دليل فيها على
ابتداء الوجوب ، وقد أجمع أهل العلم على من أحرم بحج أو عمرة وجب عليه الإتمام ،
ووجوب الإتمام بعد الشروع لا يستلزم ابتداء الوجوب . قال ابن القيم في زاد المعاد
نصه : وأما قوله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? فإنها وإن نزلت سنة ست عام
الحديبية فليس فيها فريضة الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه العمرة بعد الشروع
فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء . فإن قيل فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى
التاسعة أو العاشرة ؟ قيل : لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود ، وفيه قدم وفد
نجران على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصالحهم على أداء الجزية ، والجزية
إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عمران ، وناظر أهل الكتاب
ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة ، ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم على ما
فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا إنما
المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/271)
بعد عامهم هذا ? (9 : 28) فأعاضهم الله تعالى من ذلك الجزية ، ونزل هذه الآيات ، والمناداة بها إنما كان عام تسع ، وبعث الصديق رضي الله عنه بذلك في مكة في موسم الحج ، وأردفه بعلي رضي الله عنه ، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السف والله أعلم - انتهى من زاد المعاد . فتحصل أن آية : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? لم تدل على وجوب الحج ابتداء ، وإنما دلت على وجوب إتمامه بعد الشروع فيه كما هو ظاهر اللفظ ، ولو كان يتعين كونه يدل على ابتداء الوجوب لما حصل خلاف بين أهل العلم في وجوب العمرة ، والحلاف في وجوبها معروف وسيأتي إن شاء الله إيضاحه ، بل الذي أجمعوا عليه وهو وجوب إتمامها بعد الشروع فيها ، كما هو ظاهر الآية ، وأن قصة ضمام بن ثعلبة كانت عام تسع كما رجحه الحافظ وغيره ، فظهر سقوط الاستدلال بها وبالآية الكريمة ، وأن الحج إنما فرض عام تسع كما أوضحه ابن القيم في كلامه المذكور آنفا ، لأن آية ? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ? هي الآية التي فرض بها الحج ، وهي من صدر سورة آل عمران ، وقد نزل عام الوفود وفيه وفد نجران ، وصالحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أداء الجزية ، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع كما تقدم قريبا ، وعلى كون الحج إنما فرض عام تسع غير واحد من العلماء ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى . وبه تعلم أنه لا حجة في تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج عام فتح مكة ، لأنه انصراف من مكة والحج قريب ولم يحج ، لأنه لم يفرض ، فإن قيل : سلمنا تسليما جدليا أن سبب تأخيره الحج عام فتح مكة مع تمكنه منه ، وقدرته عليه أن الحج لم يكن مفروضا في ذلك الوقت وقد اعترفتم بأن الحج فرض عام تسع ، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يحج عام تسع ، بل أخر حجه إلى عام عشر ، وهذا يكفينا في الدلالة على أن وجوبه على التراخي ، إذ لو
(17/272)
كان على الفور لما أخره بعد
فرضه إلى عام عشر فالجواب والله تعالى أعلم : أن عام تسع لم يتمكن فيه النبي
وأصحابه من منع المشركين من الطواف بالبيت وهم عراة ، وقد بين الله تعالى في كتابه
أن منعهم من قربان المسجد الحرام إنما هو بعد ذلك العام الذي هو عام تسع ، وذلك في
قوله تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام
بعد عامهم هذا ? وعامهم هذا هو عام تسع ، فدل على أنه لم يمكن منعهم عام تسع ،
ولذا أرسل عليا رضي الله عنه بعد أبي بكر ينادي ببراءة ، وأن لا يحج بعد العام
مشرك ولا عريان ، فلو بادر - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج عام تسع لأدى ذلك إلى
رؤيته المشركين يطوفون بالبيت وهم عراة ، وهو لا يمكنه أن يحضر ذلك ، ولاسيما في
حجة الوداع التي يريد أن يبين للناس فيها مناسك حجهم ، فأول وقت أمكنه فيه الحج
صافيا من الموانع والعوائق بعد وجوبه عام عشر ، وقد بادر بالحج فيه . وأجابوا عن
قولهم : (( إنه لو أخره من سنة إلى أخرى ، أو إلى سنين ، ثم فعله بعد ذلك فإنه
يسمى مؤديا لا قاضيا بالإجماع ، ولو حرم التأخير لكان قضاء )) بأن القضاء لا يكون
إلا في العبادة المؤقتة بوقت معين ، ثم خرج ذلك الوقت المعين لها كما هو مقرر في
الأصول ، والحج لم يؤقت بزمن معين ، والعمر كله وقت له ، وذلك لا ينافي وجوب
بالمبادرة خوفا من طرو العوائق أو نزول الموت قبل الأداء كما تقدم إيضاحه ،
وأجابوا عن قولهم : (( إن من تمكن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/273)
من أداء الحج ثم أخره ثم فعله لا ترد شهادته فيما بين فعله وتأخيره ولو كان التأخير حراما لردت شهادته لارتكابه ما لا يجوز )) بأنه ما كل من ارتكب ما لا يجوز ترد شهادته بل لا ترد إلى بما يؤدي إلى الفسق وهنا قد يمنع من الحكم بتفسيقه مراعاة الخلاف . وقول من قال : (( إنه لم يرتكب حراما )) وشبهت الأدلة التي أقاموها على ذلك وأجاب القائلون بالتراخي عن الاحتجاج بأن الأمر يقتضي الفور من وجهين : أحدهما : أن أكثر الشافعية قالوا : إن الأمر المطلق المجرد عن القرائن لا يقتضي الفور بل هو على التراخي ، هذا هو المعروف في كتب الشافعية في الأصول ، ونقله القاضي أبو الطيب في تعليقه في هذه المسألة عن أكثر الشافعية ، والثاني : أنه يقتضي الفور ، وهنا قرينة ودليل يصرفه إلى التراخي ، وهو ما تقدم من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثر أصحابه أنهم أخروا الحج إلى عام عشر ، وأما حديث (( من أراد الحج فليتعجل )) فجوابه من وجهين : أحدهما : أنه حجة لنا لأنه فوض فعله إلى إرادته واختياره ، ولو كان على الفور لم يفوض تعجيله إلى اختياره . والثاني : أنه ندب جمعا بين الروايتين . قال المحب الطبري : الأمر في حديث ابن عباس (( تعجلوا الحج )) وفي حديث أبي هريرة (( حجوا قبل أن لا تحجوا )) أخرجه الدار قطني ، محمول على الندب ، ويؤيد ذلك قوله : (( من أراد الحج فليتعجل )) فقوله : (( فليتعجل )) محمول على الندب لا محالة ، ولا يجوز حمله على الوجوب لأن الخطاب لا يخلوا إما أن يكون لمن وجب عليه الحج أو لمن لم يجب عليه ، فإن كان الثاني فظاهر ما ذكرناه ، وإن كان الأول وهو الأظهر بدليل الحديث الآخر يعني الفريضة كان فيه دلالة على أن الخطاب الأول ما اقتضى الفورية ، وإلا لزم التكرار لا لفائدة مع قبحه من حيث ربطه بالإرادة ، فإن من قال لعبده : افعل كذا الساعة على وجه الإلزام ، ثم قال : إن أردت أن تفعل كذا فافعله الساعة . عد هذا
(17/274)
مناقضا للأول وكل من قال إنه
على التراخي حمل هذا على الاستحباب ولا يلزم على ذلك تناقض ، فإن من قال لعبده :
افعل كذا في جميع النهار . ثم قال : إن أردت فعل هذا الواجب عليك على وجه الأولوية
فافعله الساعة . كان هذا الكلام جاريا على نهج الاستقامة ولا يعد مناقضا للأول ،
فكان حمل الكلام الفصيح عليه أولى – انتهى . قالوا : وأما الجواب عن حديث (( فليمت
إن شاء يهوديا )) فمن أوجه : أحدها : أنه ضعيف ، والثاني : أن الذم لمن أخره إلى
الموت . ونحن نوافق على تحريم تأخيره إلى الموت ، والذي نقول بجوازه هو التأخير
بحيث يفعل قبل الموت . الثالث : أنه محمول على من تركه معتقدا عدم وجوبه مع
الاستطاعة فهذا كافر ، ويؤيد هذا التأويل أنه قال : (( فليمت إن شاء يهوديا أو
نصرانيا )) وظاهره أنه يموت كافر ولا يكون ذلك إلا إذا اعتقد عدم وجوبه مع
الاستدامة ، وإلا فقد أجمعت الأمة على أن من تمكن من الحج فلم يحج ومات لا يحكم
بكفره بل هو عاص ، فوجب تأويل الحديث لو صح ، هكذا ذكر الشنقيطي في أضواء البيان
أدلة الفريقين وأجوبتهم . والراحج عندنا هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه لقوة أدلته
، قال الشنقيطي : أظهر القولين عندي وألقيهما بعظمة خالق السماوات والأرض وهو أن
وجوب أوامره جل وعلى كالحج على الفور على التراخي لما قدمنا من النصوص الدالة على
الأمر بالمبادرة ، وللخوف من مباغتة الموت كقوله : ? وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ?
الآية ، وما قدمنا معها من الآيات ،
رواه أبو داود ، والدارمي .
2548- (20) وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تابعوا
بين الحج والعمرة فإنهما
ينفيان الفقر والذنوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/275)
وكقوله : ? أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ? ولما قدمنا من أن الشرع واللغة والعقل كلها يدل على أن أوامر الله تجب على الفور ، وقد بينا أوجه الجواب عن كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يحج حجة الإسلام إلا سنة عشر ، والعلم عند الله تعالى . ( رواه أبو داود ، والدارمي ) ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص225) ، والحاكم (ج1 : ص448) ، والبيهقي (ج4 : ص339 ، 340) ، والدولابي في الكنى (ج2 : ص12) كلهم من طريق أبي معاوية عن الحسن بن عمرو الفقيمي عن مهران أبي صفوان عن ابن عباس ، وهذا إسناد جيد قد سكت عنه أبو داود . وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي ، وأخرج أيضا أحمد (ج1 : ص214 : 323 ، 355) ، وابن ماجة ، والطحاوي ، والبيهقي (ج4 : ص340) من طريق أبي إسرائيل الملائي عن فضيل بن عمرو عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس أو عن الفضل بن عباس أو عن أحدهما عن صاحبه بلفظ : (( من أراد أن يحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة )) وفي رواية لأحمد (ج1 : ص314) عن ابن عباس : (( تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة ، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له )) وهذا إسناد ضعيف لضعف أبي إسرائيل الملائي ، وهو إسماعيل الكوفي ، وللتردد بين ابن عباس وأخيه الفضل ، فإن سعيد بن جبير سمع عبد الله بن عباس ، ولكنه لم يدرك الفضل .
(17/276)
2548- قوله ( تابعوا بين الحج
والعمرة ) أي أوقعوا المتابعة بينهما بأن تجعلوا كلا منهما تابعا للآخر . قال
السندي : أي اجعلوا أحدهما تابعا للآخر واقعا على عقبه ، أي إذا حججتم فاعتمروا ،
وإذا اعتمرتم فحجوا فإنهما متتابعان . وقال الحفني : أي ائتوا بهما متتابعين من
غير طول فصل جدا ، وليس المراد بالمتابعة تعاقبهما من غير فاصل بل المراد كون
الثاني بعد الأول بدون فاصل كبير بحيث ينسب للأول عرفا ، وقال المحب الطبري : يجوز
أن يراد به التتابع المشار إليه في قوله تعالى : ? فصيام شهرين متتابعين ? (4 : 92
- 58 : 4) فيأتي بكل واحد من النسكين عقيب الآخر بحيث لا يتخلل بينهما زمان يصح
إيقاع الثاني فيه يعني يأتي بكل منهما عقب الآخر بلا فصل ، وهو الظاهر من لفظ
المتابعة ، ويحتمل أن يراد به إتباع أحدهما الآخر ولو تخلل بينهما زمان بحيث يظهر
مع ذلك الاهتمام بهما ، ويطلق عليه عرفا أنه ردفه وتبعه وهذا الاحتمال أظهر إذ
القصد الاهتمام بهما وعدم الإهمال وذلك يحصل بما ذكرناه وسواء تقدمت العمرة أو
تأخرت لأن اللفظ يصدق على الحالين - انتهى . ( فإنهما ) أي الحج والاعتمار (
ينفيان ) أي كل منهما ( الفقر ) أي يزيلانه وهو يحتمل الفقر الظاهر بحصول غنى اليد
والفقر الباطن بحصول غنى القلب ( والذنوب ) أي يمحوانها ، وفي
كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة .
رواه
الترمذي ، والنسائي .
2549- (21) ورواه أحمد ، وابن ماجة عن عمر إلى قوله : (( خبث الحديد )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/277)
حديث عامر بن ربيعة عند أحمد (ج3 : ص446) (( فإن متابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب )) وفي أخرى له (ج3 : ص447) وللطبراني في الكبير (( فإن متابعة بينهما تزيد في العمر والرزق وتنفيان الفقر والذنوب )) وحديث عامر يدل على أن الله تعالى أعلم نبيه بأنه يترتب على تتابعهما ذلك لأمر علمه الشارع فذلك خصوصية للتتابع لا تحصل بدونه ، قيل المراد بالذنوب الصغائر ولكن يأباه قوله : ( كما ينفي الكير ) بكسر الكاف وهو ما ينفخ فيه الحداد من الزق لاشتعال النار للتصفية ، وأما الموضع الذي يوقد فيه الفحم من حانوت الحداد فهو الكور ، بضم الكاف ، وقيل : بالعكس ، وقيل : لا فرق بينهما ( خبث الحديد والذهب والفضة ) أي وسخها ، والخبث : بفتحتين الوسخ والردئ الخبيث ، مثل متابعتهما في إزالة الذنوب بإزالة النار الخبث ، لأن الإنسان مركوز في جبلته القوة الشهوية والغضبية محتاج لرياضة تزيلها والحج جامع لأنواع الرياضات من إنفاق المال وجهد النفس بالجوع والظمأ والسهر واقتحام المهالك ومفارقة الوطن ومهاجرة الإخوان والخلان وغير ذلك . والحديث قد استدل به على وجوب العمرة فإن ظاهره التسوية بين أصل الحج والعمرة ، وفيه أن هذا استدلال بمجرد الاقتران ، ومجرد اقتران العمرة بالحج لا يكون دليلا على وجوبها لما تقرر في الأصول من ضعف دلالة الاقتران لاسيما وقد عارضها ما ورد من الأدلة القاضية بعدم الوجوب وأما الأمر بالمتابعة فهو مصروف عن معناه الحقيقي بما سلف ، وسيأتي الكلام في هذه المسألة في شرح حديث أبي رزين العقيلي ( وليس للحجة المبرورة ) قيل : المراد بها الحج المقبول المقابل بالبر وهو الثواب ومن علامات القبول أن يرجع خيرا مما كان ولا يعاود المعاصي . وقيل : هي التي لا يخالطها شيء من الإثم ، مأخوذ من البر وهو الطاعة ، ورجحه النووي . وقيل : هي التي لا رياء فيها وقيل : هي التي لا يعقبها معصية ، وهما داخلان فيما قبلهما وقال القرطبي :
(17/278)
الأقوال في تفسير الحج المبرور
متقاربة المعنى وحاصلها أنه الحج الذي وفيت أحكامه فوقع موافقا لما طلب من المكلف
على الوجه الأكمل ( ثواب إلا الجنة ) بالرفع والنصب أي لا يقتصر لصاحبها من الجزاء
على تكفير ذنوبه بل لا بد أن يدخل الجنة مع السابقين ، وقوله : (( إلا الجنة )) هو
للترمذي فقط ، وفي السنن للنسائي : (( دون الجنة )) وكذا وقع في المسند وصحيح ابن
حبان كما في الموارد ( رواه الترمذي ) وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب ( والنسائي )
وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص387) ، وابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحيهما .
2549- قوله : ( رواه أحمد ) (ج1 : ص25، وج3 : ص447) ( وابن ماجة عن عمر ) إلخ ،
وأخرجه أيضا
2550- (22) وعن ابن عمر قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا
رسول الله ! ما يوجب الحج ؟
قال : الزاد والراحلة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابن أبي خثيمة في تاريخه ، وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن ، وهو : حديث ضعيف ،
لأن مداره على عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف لكن المتن صحيح من حديث عبد الله بن
مسعود ، وفي الباب عن عامر بن ربيعة ، أخرجه أحمد ، والطبراني في الكبير ، وفيه
أيضا عاصم بن عبيد الله ، وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير ، والدارقطني في
الأفراد ، ورمز السيوطي لضعفه ، وقال الهيثمي بعد عزوه للطبراني : وفيه حجاج بن
نصير ، وثقه ابن حبان وغيره ، وضعفه النسائي وغيره ، وعن جابر عند البزار ، وعن
ابن عباس عند الطبراني في الأوسط ، ذكرهما الهيثمي مع الكلام فيهما .
(17/279)
2550- قوله : ( ما يوجب الحج ؟ ) أي : ما شرط وجوب الحج ؟ ( قال : الزاد والراحلة ) يعني أن الحج واجب على من وجدهما ذهابا وإيابا . واقتصر من بين سائر الشروط عليه لأنه الأصل والأهم المقدم قاله القاري . اعلم : أن الحج إنما يجب بخمس شروط : الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والاستطاعة ، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم ، فأما الكافر فإنه غير مخاطب بفروع الدين خطابا يلزمه أداء ولا يوجب قضاء ، وأما الصبي والمجنون فليسا بمكلفين بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يشب ، وعن المعتوه حتى يعقل . رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، وقال الترمذي : حديث حسن . وأما العبد فلا يجب عليه لأنه عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة فتضيع حقوق سيده المتعلقة به فلم يجب عليه كالجهاد ، ولما روى ابن عباس مرفوعا : أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام ، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام . أخرجه ابن خزيمة ، والإسماعيلي في مسند الأعمش ، والحاكم ، والبيهقي ، وابن حزم وصححه . والخطيب في التاريخ . رواه بعضهم موقوفا على ابن عباس ولا يضر ذلك فإن رواية المرفوع قوية ، فالحديث لا يقل عن درجة الاحتجاج . ووجه الدلالة منه على أن الحرية شرط في وجوب الحج أنه لو حج وهو مملوك ثم أعتق بعد ذلك لزمته حجة الإسلام ، فلو كان واجبا عليه في حال كونه مملوكا أجزأه عن حجة الإسلام كما هو ظاهر وأما غير المستطيع فإنه لا يجب عليه لقوله تعالى : ? لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ? (2 : 286) وقال سبحانه وتعالى : ? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ? فخص المستطيع بالوجوب فيدل على نفيه عن غيره . قال ابن قدامة : وهذه الشروط الخمسة تنقسم أقساما ثلاثة منها : ما هو شرط للوجوب والصحة
(17/280)
وهو : الإسلام ، والعقل . فلم
يجب على كافر ولا مجنون ولا تصح منهما ، لأنهما ليسا من أهل العبادات ، ومنها : ما
هو شرط للوجوب والإجزاء . وهو : البلوغ ، والحرية . وليس بشرط للصحة فلو حج الصبي
والعبد صح حجهما ولم يجزئهما عن حجة الإسلام ، ومنها : ما هو شرط للوجوب فقط وهو
الاستطاعة ، فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد وراحلة فحج كان حجه صحيحا
مجزئا ، كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام من يسقط
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/281)
عنه أجزأه . قال : واختلفت الرواية أي عن أحمد في شرطين وهما تخلية الطريق وهو : أن لا يكون في الطريق مانع من : عدو ونحوه وإمكان المسير ، وهو : أن تكمل فيه هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إليه ، فروى أنهما من شرائط الوجوب فلا يجب الحج بدونهما ، لأن الله تعالى إنما فرض الحج على المستطيع وهذا غير مستطيع ، ولأن هذا يتعذر معه فعل الحج فكان شرطا كالزاد والراحلة ، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ، وروى أنهما ليسا من شرائط الوجوب وإنما يشترطان للزوم السعي فلو كملت هذه الشروط الخمسة ثم مات قبل وجود هذين الشرطين حج عنه بعد موته ، وإن أعسر قبل وجودهما بقى في ذمته وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يذكرهما ، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل ما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والراحلة . قال الترمذي : هذا حديث حسن - انتهى . وقال الشنقيطي بعد ذكر الشرائط الخمسة : أما العقل فكونه شرطا في وجوب كل تكليف واضح لأن غير العاقل لا يصح تكليفه بحال ، وأما اشتراط البلوغ فواضح ، لأن الصبي مرفوع عنه القلم حتى يحتلم ، فالبلوغ والعقل كلاهما شرط وجوب ، وأما الإسلام فالظاهر أنه على القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة فهو شرط صحة لا شرط وجوب ، وعلى أنهم غير مخاطبين بها فهو شرط وجوب ، والأصح خطاب الكفار بفروع الشريعة كما أوضحنا أدلته في غير هذا الموضع فيكون الإسلام شرط صحة في حقهم ، ومعلوم أنه على أنه شرط وجوب فهو شرط صحة أيضا ، لأن بعض شرط الوجوب يكون شرطا في الصحة أيضا ، كالوقت للصلاة ، فإنه شرط لوجوبها وصحتها أيضا ، وقد يكون شرط الوجوب ليس شرطا في الصحة كالبلوغ والحرية ، فإن الصبي لا يجب عليه الحج مع أنه يصح منه لو فعله ، وكذلك العبد إلا أنه لا يجزئ عن حجة الإسلام إلا إذا كان بعد البلوغ وبعد الحرية ، وأما الحرية فهي شرط وجوب فلا يجب الحج على العبد ، واستدل العلماء على عدم وجوب الحج على العبد
(17/282)
بأمرين : الأول إجماع أهل
العلم على ذلك ولكنه إذا حج صح حجه ولم يجزئه عن حجة الإسلام فإن عتق بعد ذلك
فعليه حجة الإسلام ، قال النووي في شرح المهذب : أجمعت الأمة على أن العبد لا
يلزمه الحج لأن منافعه مستحقة لسيده ، فليس هو مستطيعا ويصح منه الحج بإذن سيده
وبغير إذنه بلا خلاف عندنا . قال القاضي أبو الطيب : وبه قال الفقهاء : كافة .
وقال داود : لا يصح بغير إذنه . والأمر الثاني حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال : أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام ، وأيما عبد حج ثم
عتق فعليه حجة الإسلام ، ثم ذكر تخريجه عن التلخيص للحافظ وبسط الكلام في تقويته
ثم قال : وأما الاستطاعة فقد نص تعالى على اشتراطها في قوله : ? ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا ? ومعنى الاستطاعة في اللغة العربية معروف ، وتفسير
الاستطاعة في الآية اختلف فيه العلماء فالاستطاعة في مشهور مذهب مالك الذي به
الفتوى هي إمكان الوصول بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية مع الأمن على
النفس والمال ولا يشترط عندهم الزاد والراحلة ، بل يجب الحج عندهم على القادر على
المشي إن كانت له صنعة يحصل منها قوته في الطريق : كالجمال ، والخراز ، والنجار ،
ومن أشبههم .
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/283)
واشترط بعض المالكية في الصنعة المذكورة أن لا تكون مرزية به . واعلم أن المالكية اختلفوا في الفقير الذي عادته سؤال الناس في بلده وعادة الناس إعطاؤه ، وذلك السؤال هو الذي منه عيشته إذا علم أنه إن خرج حاجا وسأل أعطاه الناس ما يعيش به كما كانوا يعطونه في بلده ، هل سؤاله الناس وإعطاؤهم إياه يكون بسببه مستطيعا لقدرته على الزاد بذلك فيجب عليه الحج بذلك أو لا يجب عليه بذلك ؟ فذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجب عليه به الحج ولا يعد استطاعة ، وذهب أكثر المالكية إلى أن الفقير الذي عادته السؤال في بلده وعادة الناس إعطاؤه إذا كانت عادتهم إعطاؤه في سفر الحج كما كانوا يعطونه في بلده أنه يعد بذلك مستطيعا ، وأن تحصيله زاده بذلك السؤال يعد استطاعة . قال الشنقيطي : والذي يظهر لي رجحانه بالدليل من هذين القولين في هذه المسألة هو : القول الأول ، وهو أن الحج لا يجب على من يعيش في طريقه بتكفف الناس ، وأن سؤال الناس لا يعد استطاعة . ومن الأدلة الدالة على ذلك عموم قوله جل وعلا : ? ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ? (9 : 92) الآية . وقد قدمنا مرارا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب فقد صرح تعالى في هذه الآية برفع الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقون ، ولا شك أن الذي يتكفف الناس لشدة فقره داخل في عموم ? الذين لا يجدون ما ينفقون ? وقد صرح تعالى بنفي الحرج عنهم ، فيلزم من ذلك نفي الحرج عنه في وجوب الحج وهو واضح ، ولكن كثيرا من متأخري علماء المالكية خصصوا هذه الآية بمن ليس عادته السؤال في بلده قالوا : فلم تتناول محل النزاع . قال الشنقيطي : ظاهر الآية العموم في جميع ? الذين لا يجدون ما ينفقون ? ، فتخصيصها بمن ليس عادته السؤال بدون دليل من كتاب أو سنة لا يصح ولا يعول عليه ، وقد تقرر في الأصول أنه لا يمكن تخصيص العام إلا بدليل يجب الرجوع إليه سواء كان
(17/284)
من المخصصات المتصلة أو
المنفصلة ، ومما يؤيد هذا في الجملة ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس . قال :
كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن المتوكلون ، فإذا قدموا المدينة
سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى : ? وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ? (2 : 197) قال
الحافظ في الفتح في الكلام على هذا الحديث : قال المهلب : في هذا الحديث من الفقه
أن ترك السؤال من التقوى ، ويؤيده أن الله مدح من لم يسأل الناس إلحافا ، فإن قوله
: ? فإن خير الزاد التقوى ? أي : تزودوا واتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم والإثم في
ذلك - انتهى . قال الشنقيطي : وفيه دليل ظاهر على حرمة خروج الإنسان حاجا بلا زاد
ليسأل الناس ، وظاهرها العموم في كل حاج يسأل الناس فقيرا كان أو غنيا كانت عادته
السؤال في بلده أولا وحمل النصوص على ظواهرها يجب إلا بدليل يجب الرجوع إليه ،
ومما يؤيد هذا أن الذين مدحهم الله في كتابه بتركهم سؤال الناس كانوا من أفقر
الفقراء كما هو معلوم ، وقد صرح تعالى بأنهم فقراء وأشار لشدة فقرهم وذلك في قوله
تعالى : ? للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم
الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم ? ( أي بظهور آثار الفقر والحاجة عليهم )
? لا يسألون الناس إلحافا ? (2 : 273) الآية . فصرح بأنهم فقراء ، وأثنى عليهم
بالتعفف وعدم السؤال . قال : فالآية الكريمة
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/285)
تدل بمنطوقها على الثناء على الفقير الصابر المتعفف عن مسألة الناس وتدل بمفهومها على ذم سؤال الناس ، والأحاديث الواردة في ذم السؤال مطلقا كثيرة جدا ، وبذلك كله تعلم أن سؤال الناس ليس استطاعة على ركن من أركان الإسلام وأن قول بعض المالكية (( أنه لا يعد استطاعة )) هو الصواب ، وهو قول جمهور أهل العلم ، وممن ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، ونقله ابن المنذر عن الحسن البصري ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأحمد ، وإسحاق ، وبه قال بعض أصحاب مالك . قال البغوي : وهو قول العلماء - انتهى . والاستطاعة عند أبي حنيفة الزاد والراحلة . فلو كان يقدر على المشي وعادته سؤال الناس لم يجب عليه الحج عنده ، وحاصل مذهب الحنيفة أن مقدار ما يتعلق به وجوب الحج ملك مال يبلغه إلى مكة ذاهبا وراجعا ، راكبا في جميع السفر لا ماشيا بنفقة متوسطة ، فاضلا عن : مسكنه ، وخادمه ، وفرسه ، وسلاحه ، وآلات حرفته ، وثيابه ، وأثاثه ، ونفقة من عليه نفقته ، وكسوته ، وقضاء ديونه ولو مؤجلة إلى حين عوده . ولا يشترط نفقة لما بعد إيابه لا سنة ولا شهرا ولا يوما . والاستطاعة في مذهب الشافعي : الزاد والراحلة بشرط أن يجدهما بثمن المثل ، فإن لم يجدهما إلا بأكثر من ثمن المثل سقط عنه وجوب الحج ، ويشترط عند الشافعية في الزاد ما يكفيه لذهابه ورجوعه فاضلا عما يحتاج إليه لنفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتهم مدة ذهابه ورجوعه وفاضلا عن مسكن وخادم يحتاج إليهما وعن قضاء دين يكون عليه حالا كان أو مؤجلا . ويشترط عندهم أيضا أن يكون صحيحا لا مريضا ، ولا ينبغي أن يختلف في أن المرض القوي الذي يشق معه السفر مشقة فاضحة مسقط لوجوب الحج . ويشترط عندهم أيضا أن يكون الطريق آمنا من غير خفارة ، والخفارة مثلثة الخاء : هي المال الذي يؤخذ على الحاج ، ويشترط عندهم أيضا أن يكون عليه من الوقت ما يتمكن فيه من السير والأداء ، فإن كان بينه وبين مكة مسافة
(17/286)
تقصر فيها الصلاة وكان قادرا
على المشي على رجليه ولم يجد راحلة أو وجدها بأكثر من ثمن المثل أو أجرة المثل لم
يجب عليه الحج عندهم ، ولا يعد قدرته على المشي استطاعة عندهم لحديث : الزاد
والراحلة في تفسير الاستطاعة ، وإن لم يجد ما يصرفه في الزاد والماء ولكنه كسوب ذو
صنعة يكتسب بصنعته ما يكفيه ففي ذلك عندهم تفصيل ، وهو أنه إن كان لا يكتسب في
اليوم إلا كفاية يوم واحد لم يجب عليه الحج ، لأنه ينقطع عن الكسب في أيام الحج ،
وإن كان يكتسب في اليوم كفاية أيام لزمه الحج . وقال إمام الحرمين : وفيه احتمال
يعني أنه يحتمل عدم وجوب الحج بذلك مطلقا ، فإن القدرة على الكسب يوم العيد لا تجعل
كملك الصاع في وجوب الفطرة . والاستطاعة عند أحمد هي الزاد والراحلة . قال ابن
قدامة في المغني : والاستطاعة المشترطة ملك الزاد والراحلة وبه قال الحسن ، ومجاهد
، وسعيد بن جبير ، والشافعي ، وإسحاق . قال الترمذي : والعمل عليه عند أهل العلم .
وقال عكرمة : هي الصحة . قال ابن قدامة : ويختص اشتراط الراحلة بالبعيد الذي بينه
وبين البيت مسافة القصر ، فأما القريب الذي يمكنه المشي إلى مكة وبينه وبينها
مسافة دون القصر فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه لأنها مسافة قريبة يمكنه المشي
إليها فلزمه ، وإن كان ممن لا يمكنه المشي ( كشيخ كبير ) اعتبر وجود الحمولة في
حقه لأنه عاجز
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/287)
عن المشي فهو كالبعيد ، وأما الزاد فلا بد منه ، قربت المسافة أو بعدت مع الحاجة إليه . فإن لم يجد زادا ولا قدر على كسبه لم يلزمه الحج . والزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة ، إلى أن قال : وأما الراحلة فيشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله إما بشراء أو كراء لذهابه ورجوعه . وإن كان ممن لا يقدر على خدمة نفسه والقيام بأمره اعتبرت القدرة على من يخدمه لأنه من سبيله ، ويعتبر أن يكون هذا فاضلا عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مئونتهم في مضيه ورجوعه ، لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين وهم أحوج وحقهم آكد ، وقد روى عبد لله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت . رواه أبو داود ، ويعتبر أن يكون فاضلا عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم ، وما لا بد منه ، وأن يكون فاضلا عن قضاء دينه ، لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية ويتعلق به حقوق الآدميين فهو آكد ، وسواء كان الدين لآدمي معين أو من حقوق الله تعالى - كزكاة في ذمته أو كفارات ونحوها - وهل يعتبر في الاستطاعة أن يكون له إذا رجع من حجه ما يقوم بكفايته وكفاية عياله على الدوام أولا يعتبر ذلك ؟ بل يكفي لوجوب الحج أن يكون عنده من النفقة ما يقوم بكفايته وكفاية عياله على الدوام أو لا يعتبر ذلك ؟ بل يكفي لوجوب الحج أن يكون عنده من النفقة ما يقوم بكفايته وكفاية عياله مدة ذهابه للحج ورجوعه فقط وفاقا : للحنفية ، والمالكية ، والشافعية . وهما روايتان عند الحنابلة ، والمقدم عندهم اعتبارا هي الرواية الأولى يعني : أن يكون فاضلا عن مئونته ومؤنت عياله على الدوام حتى بعد رجوعه من عقار أو بضاعة يتجر فيها أو صناعة ونحوها . وقال ابن جاسر في مفيد الأنام : والرواية الثانية أقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى ، لأن القول بأن الإنسان لا يكون مستطيعا للحج إلا إذا كان عنده
(17/288)
من النفقة بعد رجوعه من الحج
ما يكفيه ويكفي عياله على الدوام أي دوام حياته يقضي بأن لا يكون غالب الأغنياء
مستطيعين للحج لأنه قل من يثق من الأغنياء أن عنده من المال ما يكفيه ويكفي عياله
على الدوام ، هذا ما ظهر لي والله أعلم . قال ابن قدامة : ومن له عقار يحتاج إليه
لسكناه أو سكنى عياله أو يحتاج إلى أجرته لنفقة نفسه أو عياله ، أو بضاعة متى
نقصها اختل ربحها فلم يكفيهم ، أو سائمة يحتاجون إليها لم يلزمه الحج ، وإن كان من
ذلك شيء فاضل عن حاجته وأمكنه بيعه وشراء ما يكفيه ويفضل قدر ما يحج به لزمه ، وإن
كانت له كتب يحتاج إليها لم يلزمه بيعها في الحج ، وإن كانت مما لا يحتاج إليها أو
كان له بكتاب نسختان يستغني بأحدهما باع ما لا يحتاج إليه ، فإن كان له دين على
ملئ باذل له يكفيه للحج لزمه لأنه قادر ، وإن كان على معسر أو تعذر استيفاؤه عليه
لم يلزمه – انتهى . وإذا علمت أقوال أهل العلم ففي معنى الاستطاعة المذكورة في
قوله تعالى : ? من استطاع إليه سبيلا ? وعرفت مذاهبهم في ذلك فاعلم أن الأكثرين
الذين فسروا الاستطاعة بالزاد والراحلة احتجوا لذلك بما ورد عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - من تفسير الاستطاعة في الآية بالزاد والراحلة ، وقد روى عنه ذلك غير
واحد من الصحابة ، منهم ابن عمر رضي الله عنه ، أخرج حديثه الترمذي وغيره وهو الذي
نحن في شرحه ، وهو حديث ضعيف كما ستعرف ، ومنهم ابن عباس رواه عنه ابن ماجة
والدارقطني ، وهو حديث صالح للاحتجاج ، ومنهم أنس روى حديثه
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/289)
الحاكم والدارقطني ، وهو حديث صحيح ، صححه الحاكم ، وأقره الذهبي . ومنهم عائشة ، رواه الدارقطني ، والبيهقي في السنن ، والعقيلي في الضعفاء وأعله بعتاب بن أعين . ومنهم علي بن أبي طالب ، وجابر ، وابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، أخرج أحاديثهم الدارقطني أيضا ، وكلها ضعيفة ورواه سعيد بن منصور في سننه والبيهقي عن الحسن مرسلا وسنده صحيح ، ومن شاء الوقوف على تفصيل الكلام في هذه الأحاديث رجع إلى (( أضواء البيان )) للشنقيطي فإنه قد بسط الكلام فيها أخذا عن (( نصب الراية )) وغيره . ثم قال : قال غير واحد : إن هذا الحديث لا يثبت مسندا وأنه ليس له طريق صحيحة إلا الطريق التي أرسلها الحسن . قال الشنقطي : والذي يظهر لي - والله أعلم - أن حديث الزاد والراحلة المذكور ثابت لا يقل عند درجة الاحتجاج لأن الطريقين اللتين أخرجهما به الحاكم في المستدرك عن أنس قال : كلتاهما صحيحة الإسناد ، وأقر تصحيحهما الحافظ الذهبي ولم يتعقبه بشيء ، والدعوى على سعيد بن أبي عروبة ، وحماد بن سلمة في روايتهما الحديث عن قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها غلط ، وأن الصحيح عن قتادة عن الحسن مرسلا دعوى لا مستند لها ، بل هي تغليط وتوهيم للعدول المشهورين من غير استناد إلى دليل ، والصحيح عند المحققين من الأصوليين والمحدثين أن الحديث إذا جاء من طريق صحيحة وجاء من طرق أخرى غير صحيحة فلا تكون الطرق علة في الصحيحة إذا كان رواتها لم يخالفوا جميع الحفاظ ، بل انفراد الثقة العدل بما لم يخالف فيه غيره مقبول عند المحققين ، فرواية سعيد بن أبي عروبة ، وحماد بن سلمة الحديث المذكورة عن قتادة عن أنس مرفوعا لم يخالفوا فيها غيرهم بل حفظوا ما لم يحفظه غيرهم ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ فادعاء الغلط عليهما بلا دليل غلط . وقول النووي في شرح المهذب : وروى الحاكم حديث أنس وقال : هو صحيح ، ولكن الحاكم متساهل ، والله أعلم
(17/290)
- يجاب عنه : بأنا لو سلمنا أن
الحاكم متساهل في التصحيح ، لا يلزم من ذلك أنه لا يقبل له تصحيح مطلقا ، ورب
تصحيح للحاكم مطابق للواقع في نفس الأمر ، وتصحيحه لحديث أنس المذكور لم يتساهل
فيه ، ولذا لم يبد النووي وجها لتساهله فيه ، ولم يتكلم في أحد من رواته بل هو
تصحيح مطابق . فإن قيل : متابعة حماد بن سلمة لسعيد بن أبي عروبة المذكورة راويها
عن حماد هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني وهو متروك لا يحتج بحديثه ، كما
جزم به غير واحد من العلماء بالرجال ، وقال فيه ابن حجر في التقريب : متروك فقد
تساهل الحاكم في قوله : إن هذه الطريق على شرط مسلم مع أن في إسنادها أبا قتادة
المذكور . فالجواب أن أبا قتادة المذكور وإن ضعفه الأكثرون فقد وثقه الإمام أحمد
وأثنى عليه وناهيك بتوثيق الإمام أحمد وثنائه ، وذكر ابن حجر والذهبي أن عبد الله
بن أحمد قال لأبيه : إن يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أن أبا قتادة المذكور كان
يكذب ، فعظم ذلك عنده جدا وأثنى عليه ، وقال : إنه يتحرى الصدق . قال : ولقد رأيته
يشبه أصحاب الحديث . وقال أحمد في موضع آخر : ما به بأس ، رجل صالح ، يشبه أهل
النسك ربما أخطأ . وفي
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/291)
إحدى الروايتين عن ابن معين أنه قال : أبو قتادة الحراني ثقة ، ذكرها عنه ابن حجر والذهبي . وقول من قال : لعله كبر فاختلط ، تخمين وظن لا يثبت به اختلاطه ، ومعلوم أن المقرر في الأصول وعلوم الحديث : أن الصحيح أن التعديل يقبل مجملا ، والتجريح لا يقبل إلا مفصلا ، مع أن رواية سعيد بن أبي عروبة عن أنس ليس في أحد من رواتها كلام . ومما يؤيد ذلك موافقة الحافظ النقادة الذهبي للحاكم على تصحيح متابعة حماد ، مع أن حديث أنس الصحيح المذكور معتضد بمرسل الحسن ، ولاسيما على قول من يقول : إن مراسيله صحاح إذا روتها عنه الثقات كابن المديني وغيره ، ويؤيد ذلك أن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد الاحتجاج بالمراسيل ويؤيده أيضا الأحاديث المتعددة التي ذكرنا ، وإن كانت ضعافا لأنها تقوي غيرها ولاسيما حديث ابن عباس ، فإنا قد ذكرنا سنده وبينا أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج . وقال الشوكاني في نيل الأوطار : ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج ومما يؤيد الحديث المذكور أن أكثر أهل العلم على العمل به كما قدمنا عن أبي عيسى الترمذي أنه قال في حديث (( الزاد والراحلة )) : والعمل عليه عند أهل العلم ، وقد بينا أنه قول الأكثرين منهم الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة والشافعي وأحمد ، فالحاصل أن حديث الزاد والراحلة لا يقل بمجموع طرقه عن درجة القبول والاحتجاج . ثم قال الشنقيطي : الذي يظهر لي - والله أعلم - أن حديث الزاد والراحلة وإن كان صالحا لاحتجاج لا يلزم منه أن القادر على المشي على رجليه بدون مشقة فادحة لا يلزمه الحج إن كان عاجزا عن تحصيل الراحلة ، بل يلزمه الحج لأنه لا يستطيع إليه سبيلا كما أن صاحب الصنعة التي يحصل منه قوته في سفر الحج يحب عليه الحج ، لأن قدرته على تحصيل الزاد في طريقه كتحصيله بالفعل فإن قيل : كيف قلتم بوجوبه على القادر على المشي على رجليه دون الراحلة مع اعترافكم بقبول تفسير النبي -
(17/292)
صلى الله عليه وسلم - ((
السبيل )) بالزاد والراحلة ؟ وذلك يدل على أن المشي على الرجلين ليس من السبيل
المذكور في الآية فالجواب من وجهين الأول : أن الظاهر المتبادر أنه - صلى الله
عليه وسلم - فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة ، لأن الغالب أن أكثر الحجاج آفاقيون
قادمون من بلاد بعيدة ، والغالب عجز الإنسان عن المشي على رجليه في المسافات
الطويلة وعدم إمكان سفره بلا زاد ، ففسر - صلى الله عليه وسلم - الآية بالأغلب ،
والقاعدة المقررة في الأصول : أن النص إذا كان جاريا على الأمر الغالب لا يكون له
مفهوم مخالفة ، ولأجل هذا منع جماهير العلماء تزويج الرجل ربيبته التي لم تكن في
حجره قائلين : إن قوله تعالى : ? اللاتي في حجوركم ? (4 : 27) جرى على العادة ، فلا
مفهوم مخالفة له ، فيجب الحج على القادر على المشي على رجليه ، إما لعدم طول
المسافة وإما لقوة ذلك الشخص على المشي ، وكذلك يجب على ذي الصنعة التي يحصل منها
قوته في سفره ، لأنه في حكم واجد الزاد في المعنى ، والعلم عند الله تعالى ،
والوجه الثاني : أن الله جل وعلا سوى في كتابه بين الحاج الراكب والحاج الماشي على
رجليه ، وقدم الماشي على الراكب ، وذلك في قوله تعالى : ? وأذن في الناس بالحج
يأتوك رجالا وعلى كل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/293)
ضامر يأتين من كل فج عميق ? (22 : 28) انتهى . وقال ابن تيمية : في شرح العمدة بعد سرده لما ورد في ذلك : فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة موقوفة تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة مع علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كثيرا من الناس يقدرون على المشي ، وأيضا فإن الله قال في الحج : ? من استطاع إليه سبيلا ? إما أن يعني القدرة المعتبرة في جميع العبادات وهو مطلق المكنة أو قدرا زائدا على ذلك ، فإن كان المعتبر هو الأول لم يحتج إلى هذا التقييد كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة ، فعلم أن المعتبر قدر زائد في ذلك وليس هو إلا المال ، وأيضا فإن الحج عبادة مفتقرة إلى مسافة فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد ، ودليل الأصل قوله : ? ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ? إلى قوله : ? ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ? (9 : 92) الآية - انتهى . قلت : الراجح عندنا أن العاجز عن تحصيل الراحلة أو ما يقوم مقامها القادر على المشي على رجليه لا يلزمه الحج لتفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - استطاعة السبيل المذكورة في الآية بالزاد والراحلة ، وهو يدل على اعتبار الراحلة للزوم الحج ، وأما حمل ذلك على أنه - صلى الله عليه وسلم - فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة فلا دليل عليه ، والاستشهاد لذلك بقوله تعالى : ? وربائبكم اللاتي في حجوركم ? فيه نظر لأن ها هنا قرينة تدل على أن الخطاب في هذه الآية خرج مخرج الغالب ، وهي ما ورد في رواية للبخاري في قصة عرض أم حبيبة أختها عزة بنت أبي سفيان على النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي أي بنت أبي سلمة ، فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة وحكم بالتحريم بذلك . وأما قوله تعالى : ? وأذن في الناس بالحج يأتوك
(17/294)
رجالا وعلى كل ضامر يأتين من
كل فج عميق ? فلا دليل فيه على وجوب الحج على القادر على المشي العاجز عن الراحلة
، وأما أكثر ما فيه أنه استدل به بعض العلماء على أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل
من الحج راكبا ، لأنه قدمهم في الذكر ، خلافا لما ذهب إليه الأكثرون من أن الحج
راكبا أفضل إقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه حج راكبا مع كمال
قوته وقدرته على المشي . وقال ابن قدامة : ومن تكلف الحج ممن لا يلزمه فإن أمكنه
ذلك من غير ضرر يلحق بغيره مثل أن يمشي ويكتسب بصناعة كالخرز ، أو معاونة من ينفق
عليه ، أو يكتري لزاده ، ولا يسأل الناس استحب له الحج لقول الله تعالى : ? يأتوك
رجالا وعلى كل ضامر ? فقدم ذكر الرجال ، ولأن في ذلك مبالغة في طاعة الله عز وجل
وخروجا من الخلاف وإن كان يسأل الناس كره له الحج لأنه يضيق على الناس ويحصل كلا
عليهم في التزام ما لا يلزمه - انتهى . قلت : وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد
وأكثر أهل العلم . وقال مالك : ليستا أي الزاد والراحلة من شرط وجوبه ، فإذا قدر
راجلا وله صنعة أو من عادته السؤال فهو مستطيع كما ذكرنا في بيان مذهبه وما عليه
الجمهور هو مقتضى القواعد الشرعية . قال ابن تيمية : كل عبادة اعتبر فيها المال
فالمعتبر ملكه لا القدرة على ملكه كتحصيله بصنعة أو قبول هبة أو مسألة أو أخذ من
صدقة أو بيت مال - انتهى . وهذا كله يتعلق بالمستطيع بنفسه ، وأما ما يسمونه
المستطيع بغيره فقد تقدم الكلام فيه في شرح حديث الخثعمية وهو نوعان : الأول منهما
هو من لا يقدر على الحج بنفسه لكونه زمنا ،
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/295)
أو هرما ونحو ذلك ، ولكنه له مال يدفعه إلى من يحج عنه ، فهل يلزمه الحج نظرا إلى أنه مستطيع بغيره فيدخل في عموم قوله : ? من استطاع إليه سبيلا ? أو لا يجب عليه الحج لأنه عاجز غير مستطيع بالنظر إلى نفسه فلا يدخل في عموم الآية ، وبالقول الأول قال الشافعي وأصحابه ، فيلزمه عندهم أجرة أجير يحج عنه بشرط أن يجد ذلك بأجرة المثل . قال النووي : وبه قال جمهور العلماء منهم علي بن أبي طالب ، والحسن البصري ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق، وابن المنذر ، وداود . وقال مالك : لا يجب عليه ذلك ، ولا يجب إلا أن يقدر على الحج بنفسه . واحتج لذلك بقوله تعالى : ? ليس للإنسان إلا ما سعى ? (53 : 40) وبقوله تعالى : ? من استطاع إليه سبيلا ? وهذا لا يستطيع بنفسه فيصدق عليه اسم غير المستطيع ، وبأنها عبادة لا تصح فيها النيابة مع القدرة ، فكذلك مع العجز كالصلاة ، واحتج الأكثرون القائلون بوجوب الحج عليه بأحاديث رواها الجماعة ، منها : حديث ابن عباس في قصة استفتاء الخثعمية وقد تقدم في الفصل الأول . ومنها : حديث أبي رزين العقيلي الآتي ، ومنها : حديث علي في قصة الخثعمية أيضا عند أحمد (ج : ص ) ، والترمذي ، والبيهقي (ج4 : ص329) . ومنها : حديث عبد الله بن الزبير عند أحمد (ج4 : ص5) ، والنسائي . ومنها حديث ابن عباس أيضا عند النسائي كلاهما بنحو قصة الخثعمية . والنوع الثاني من نوعي المستطيع بغيره هو من لا يقدر على الحج بنفسه وليس له المال يدفعه إلى من يحج عنه ، ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج ، والولد مستطيع ، فهل يجب الحج على الولد ويلزمه أمر الولد بالحج عنه لأنه مستطيع بغيره ؟ فيه خلاف بين أهل العلم . قال النووي في شرح المهذب : فرع في مذاهبهم في المعضوب إذا لم يجد مالا يحج به غيره فوجد من يطيعه ، قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الحج عليه ، وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد :
(17/296)
لا يجب عليه ، وقد علمت أن مالكا احتج في مسألة العاجز الذي له مال بقوله تعالى : ? وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ? وبأنه عاجز بنفسه فهو غير مستطيع إلى الحج سبيلا ، وبأن سعيد بن منصور وغيره رووا عن ابن عمر بإسناد صحيح : أنه لا يحج أحد عن أحد ، ونحوه عن الليث ومالك ، وأن الذين خالفوه احتجوا بالأحاديث التي أشرنا إليها وفيها ألفاظ ظاهرها الوجوب ، كتشبيهه بدين الآدمي ، وكقول السائل : يجزئ عنه أن تحج عنه ، والإجزاء دليل المطالبة ، وفي بعض رواياتها أن السائل يقول : إن عليه فريضة الحج ، ويستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج عنه وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يبين له أن الحج سقط عنه بزمانته وعجزه عن الثبوت على الراحلة ، وبقوله للولد (( أنت أكبر ولده )) وأمره بالحج عنه ، وأما الذين فرقوا بين وجود