19.مرعاة المفاتيح
قليلا من الهم فيما لابد منه
في أمر المعاش مرخص فيه بل مستحب بل واجب ( ولا مبلغ علمنا ) ، أي غاية علمنا ، أي
لا تجعلنا بحيث لا نعلم ولا نتفكر إلا في أمور الدنيا بل اجعلنا متفكرين في أحوال
الآخرة متفحصين عن العلوم التي تتعلق بالله تعالى وبالدار الآخرة والمبلغ بفتح
الميم واللام بينهما موحدة ساكنة . الغاية التي يبلغه الماشي والمحاسب فيقف عنده (
ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ) أي : لا تجعلنا مغلوبين للكفار والظلمة أو لا تجعل
الظالمين علينا حاكمين فإن الظالم لا يرحم الرعية . وقيل : المراد ملائكة العذاب
في القبر وفي النار ولا مانع من إرادة معنى الجمع هذا وقد أطال الشوكاني في شرح
هذا الدعاء وأطاب في بيان فوائده في تحفة الذاكرين (ص300 ، 301) فارجع إليه ( رواه
الترمذي ) في الدعوات ، وأخرجه أيضا النسائي ، وابن السني (ص143) ، والحاكم (ج1 :
ص528) ، والبغوي (ج5 : ص171) ( وقال : هذا حديث حسن غريب ) . وقال الحاكم : صحيح
على شرط البخاري
2517- (12) وعن أبي هريرة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني ، وزدني علما . الحمد لله على كل حال ،
وأعوذ بالله من حال أهل النار . رواه الترمذي ، وابن ماجة ، وقال الترمذي : هذا
حديث غريب إسنادا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأقره الذهبي ، وفي إسناده عبيد الله بن زحر وقد ضعفوه بما يقتضي أن لا يكون حديثه
صحيحا ، بل غاية رتبة هذا الحديث أن يكون حسنا كما قال الترمذي . فقد قال أبو زرعة
: أنه صدوق . وقال النسائي : لا بأس به . قال في المنار : فالحديث لأجله حسن لا
صحيح .
(17/17)
2517- قوله : ( اللهم انفعني بما علمتني ) أي : في الأزمنة السابقة يعني بالعمل بمقتضاه خالصا لوجهك ( وعلمني ) أي : فيما بعد ( ما ينفعني ) أي : علما ينفعني ، فيه أنه لا يطلب من العلم إلا النافع والنافع ما يتعلق بأمر الدين والدنيا فيما يعود فيها على نفع الدين وإلا فما عدا هذا العلم فإنه ممن قال الله فيه : ? ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ? ( 2 : 102) أي : بأمر الدين فإنه نفى العلم عن علم السحر لعدم نفعه في الآخرة بل لأنه ضار فيها وقد ينفعهم في الدنيا لكنه لم يعد نفعا ( وزدني علما ) مضافا إلى ما علمتنيه . وقال السندي : أي : نافعا بقرينة السياق أو هو مبني على تنزيل غير النافع بمنزلة الجهل . قال الطيبي : طلب أولا النفع بما رزق من العلم وهو العمل بمقتضاه ثم توخى علما زائدا عليه ليترقى منه إلى عمل زائد على ذلك ، وفيه إشارة إلى أن من عمل بما علم ورثه الله علما لا يعلم ، ثم قال : (( رب زدني علما )) يشير إلى طلب الزيادة في السير والسلوك إلى أن يوصله إلى مخدع الوصال فظهر من هذا أن العلم وسيلة إلى العمل وهما متلازمان . ومن ثم قيل : ما أمر الله ورسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم بقوله تعالى : ? وقل رب زدني علما ? (20 : 114) وهذا من جامع الدعاء الذي لا مطمع وراءه ( الحمد لله على كل حال ) من أحوال السراء والضراء فيحمده تعالى لكونه لم ينزل به أشد من هذا البلاء الذي نزل به وكم يترتب على الضراء من عواقب حميدة ومواهب كريمة يستحق الحمد عليها : ? وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ? (2 : 216) قال في الحكم : من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذاك لقصور نظره . وقال الغزالي : لا شدة إلا وفي جنبها نعم لله فليلزم الحمد والشكر على تلك النعم المقترنة بها . وقوله : (( الحمد لله )) إلخ كذا وقع في الترمذي بغير عطف ووقع عند ابن ماجة ، والحمد لله أي
(17/18)
بزيادة الواو . قال السندي :
قوله : (( والحمد لله على كل حال )) أي : زيادة العلم وقيل : أن يزداد وظاهر العطف
يقتضي أن الجملة إنشائية فلذلك عطفت على إنشائية ( وأعوذ بالله من حال أهل النار )
من الكفر والفسوق في الدنيا والعذاب والعقاب في العقبى . ( رواه الترمذي ) في
الدعوات ، ( وابن ماجة ) في السنة ، والدعاء ، وأخرجه أيضا البغوي (ج5 : ص123) ،
وابن أبي شيبة كما في الحصن ، والبزار كما في تفسير الحافظ ابن كثير ( وقال
الترمذي : هذا حديث غريب إسنادا ) في سنده عندهم موسى بن عبيدة الربذي عن محمد بن
ثابت عن أبي هريرة وموسى ضعفه النسائي وغيره ومحمد بن ثابت لم يروه عنه غير موسى .
قال الذهبي (( مجهل )) ذكره المناوي ، وقال الحافظ في التقريب : محمد بن ثابت عن
أبي هريرة مجهول
2518- (13) وعن عمر بن الخطاب قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أنزل
عليه الوحي سمع عند وجهه دوي كدوي النحل ، فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة ، فسري عنه
، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ،
وأعطنا ولا تحرمنا ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل : هو محمد بن ثابت بن شرحبيل ، وقال فيه : إنه مقبول . وفي الباب عن أنس
أخرجه النسائي ، والحاكم (ج1 : ص510) .
(17/19)
2518- قوله : ( سمع ) على بناء الماضي المجهول ، وهذا لفظ الترمذي ، وفي المسند (( يسمع )) أي : بلفظ المضارع المجهول وكذا نقله الشوكاني في فتح القدير ، وفي المستدرك وشرح السنة (( نسمع )) بصيغة المضارع المتكلم المعلوم ، ونقله الذهبي في تلخيصه بلفظ : (( يسمع )) أي : كرواية المسند ( عند وجهه ) أي : عند قرب وجهه بحذف المضاف ( دوي كدوي النحل ) كذا وقع في أكثر نسخ المشكاة وهكذا في المسند ووقع في بعض نسخ المشكاة (( سمع عند وجهه كدوي النحل )) أي : بإسقاط (( دوي )) وهكذا عند الترمذي ، والبغوي وكذا نقله المناوي في فيض القدير والشوكاني في تحفة الذاكرين وفتح القدير . والدوي بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء وهو صوت لا يفهم منه شيء ، وهذا هو صوت جبريل عليه السلام يبلغ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي ولا يفهم الحاضرون من صوته شيئا . وقال الطيبي : أي : سمع من جانب وجهه وجهته صوت خفي كأن الوحي يؤثر فيهم وينكشف لهم انكشافا غير تام فصاروا كمن يسمع دوي صوت ولا يفهمه لما سمعوه من غطيطه وشدة تنفسه عند نزول الوحي - انتهى . وقال في اللمعات : وهذا الدوي إما صوت الوحي يسمعها الصحابة ولا ينكشف لهم انكشافا تاما ، أو ما كانوا يسمعونه من النبي - صلى الله عليه وسلم - من شدة تنفسه من ثقل الوحي ، والأول أظهر لأنه قد وصف الوحي بأنه كان تارة مثل صلصة الجرس - انتهى . ( فأنزل عليه يوما ) أي : نهارا أو وقتا ( فمكثنا ) بفتح الكاف وضمها أي : لبثنا ( ساعة ) أي : زمنا يسيرا ننتظر الكشف عنه ( فسرى عنه ) بصيغة المجهول من التسرية وهو الكشف والإزالة أي : كشف عنه وأزيل ما اعتراه من برحاء الوحي وشدته ( اللهم زدنا ) أمر من الزيادة أي : من الخير والترقي أو كثرنا ( ولا تنقصنا ) بفتح حرف المضارعة وضم القاف من نقص المتعتدى أي : لا تنقص خيرنا ومرتبتنا وعددنا وعددنا . قال القاضي والطيبي : عطفت هذه
(17/20)
النواهي على الأوامر للمبالغة
والتأكيد وحذف ثواني المفعولات في بعض الألفاظ للتعميم والمبالغة كقولك فلان يعطي
ويمنع ( وأكرمنا ) بقضاء مآربنا في الدنيا ورفع منازلنا في العقبى ( ولا تهنا )
بضم تاء وكسرها وتشديد نون على أنه نهى من الإهانة وأصله ولا تهوننا ، نقلت كسرة
الواو إلى الهاء فالتقت ساكنة مع النون الأولى الساكنة فحذفت وأدغمت النون الأولى
في الثانية أي : لا تذلنا ( وأعطنا ) من الإعطاء ( ولا تحرمنا ) بفتح التاء وكسر
الراء . وفي القاموس : حرمه
وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا ، ثم قال : أنزل علي عشر آيات من أقامهن
دخل الجنة ، ثم قرأ : ? قد أفلح المؤمنون ? حتى ختم عشر آيات . رواه أحمد ،
والترمذي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/21)
الشيء كضربه وعلمه حرمانا بالكسر منعه حقه وأحرمه لغية ، أي لا تمنعنا ولا تجعلنا محرومين ( وآثرنا بالمد وكسر المثلثة أمر من الإيثار ، أي اخترنا برحمتك وإكرامك وعنايتك ( ولا تؤثر علينا ) ، أي غيرنا بلطفك وحمايتك ، وقيل لا تغلب علينا أعداءنا ( وأرضنا ) أمر من الإرضاء ، أي أرضنا عنك بمعنى اجعلنا راضين بما قضيت لنا أو علينا بإعطاء الصبر وتوفيق الشكر وتحمل الطاعة والتقنع بما قسمت لنا ( وارض عنا ) بهمزة وصل وفتح ضاد أمر من الرضاء ، أي كن راضيا عنا بالطاعة اليسيرة الحقيرة التي في جهدنا ولا تؤاخذنا بسوء أعمالنا ( ثم قال : انزل علي ) ، أي آنفا ( من أقامهن ) ، أي حافظ وداوم عليهن وعمل بهن ( دخل الجنة ) ، أي دخولا أوليا ، هذا وارجع للبسط في شرح الحديث إلى فيض القدير (ج2 ص107 ، 108) ، وتحفة الذاكراين (ص 298) ( رواه أحمد ) (ج1 ص34) عن عبد الرزاق عن يونس بن سليم قال : أملى علي يونس بن يزيد الأبلي عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر بن الخطاب . ومن هذا الطريق أخرجه البغوي (ج5 ، 177) ، ( والترمذي ) في الدعوات من طريق عبد الرزاق عن يونس بن سليم عن الزهري . ثم رواه الترمذي من طريق عبد الرزاق أيضا عن يونس بن سليم عن يونس بن يزيد عن الزهري . ثم قال : هذا أصح من الحديث الأول سمعت إسحاق بن منصور يقول : روى أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن يونس بن سليم عن يونس بن يزيد عن الزهري هذا الحديث . قال أبو عيسى : ومن سمع من عبد الرزاق قديما فإنهم إنما يذكرون فيه عن يونس بن يزيد ، وبعضهم لا يذكر فيه عن يونس بن يزيد . ومن ذكر فيه عن يونس بن يزيد فهو أصح ، وكان عبد الرزاق ربما ذكر في هذا الحديث يونس بن يزيد وربما لم يذكره ، وإذا لم يذكر فيه يونس فهو مرسل - انتهى . وذكر نحو هذا الكلام البغوي في شرح السنة . والحديث نسبه السيوطي في الدر
(17/22)
المنثور (ج5 ص2) والشوكاني في
فتح القدير (ج3 ص460) لعبد الرزاق وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن المنذر ،
والعقيلي ، والحاكم ، والبيهقي في الدلائل ، والضياء في المختارة وفي سنده عندهم
جميعا يونس بن سليم الصنعاني . قال الحافظ في التقريب : مجهول . وقال الذهبي : في
الميزان في ترجمته : حدث عنه عبد الرزاق وتكلم فيه ولم يعتمد في الرواية ومشاه
غيره . وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلا به - انتهى . وقال في
تهذيب التهذيب : قال النسائي : هذا حديث منكر لا نعلم أحدا رواه غير يونس ، ويونس
لا نعرفه ، وذكره ابن حبان في الثقات - انتهى . ورواه الحاكم (ج1 ص535) بإسنادين
أحدهما من طريق المسند وصححه ووافقه الذهبي فهذا موافقة من الحاكم والذهبي على
توثيق يونس بن سليم ، وهو يدل على أن توثيق ابن حبان ليونس بن سليم صحيح ولذا حسن
هذا الحديث البغوي في شرح السنة وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند .
( الفصل الثالث )
2519- (14) عن عثمان بن حنيف قال : إن رجلا ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه
وسلم - فقال : ادع الله أن يعافيني . فقال : إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت فهو خير
لك . قال : فادعه . قال : فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء : اللهم
إني أسألك ، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، إني توجهت بك إلى ربي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/23)
2519- قوله : ( عن عثمان بن حنيف ) بالحاء المهملة والنون مصغرا ابن واهب الأنصاري الأوسي المدني صحابي شهير شهد أحدا والمشاهد بعدها ، واستعمله عمر على مساحة سواد العراق ، واستعمله علي على البصرة فبقي عليها إلى أن قدمها طلحة والزبير مع عائشة رضي الله عنهم في نوبة وقعة الجمل فأخرجوه منها ، ثم قدم علي إليها فكانت وقعة الجمل فلما ظفر بهم علي استعمل على البصرة عبد الله بن عباس وسكن عثمان بن حنيف الكوفة . روى عنه ابن أخيه أبو أمامة بن سهل بن حنيف وعمارة بن خزيمة بن ثابت وهانئ بن معاوية الصدفي وغيرهم ، مات في خلافة معاوية ( إن رجلا ضرير البصر ) ، أي ضعيف النظر أو أعمى ، قاله القاري . قلت : في رواية النسائي (( أن أعمى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - )) وفي رواية لأحمد (( إن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذهب بصره )) وللطبراني ، وابن السني (( أتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ( ادع الله أن يعافيني ) ، أي من ضرري في نظري ( فقال ) ، في الترمذي (( قال )) ، أي بدون الفاء ( إن شئت ) ، أي اخترت الدعاء ( دعوت ) ، أي لك ( وإن شئت ) ، أي أردت الصبر والرضا ( فهو ) ، أي الصبر ( خير لك ) ، فإن الله تعالى قال : إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة ( قال ) ، أي الرجل ( فادعه ) بالضمير ، أي ادع الله واسأل العافية ، ويحتمل أن تكون الهاء للسكت ، قال الطيبي : أسند النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء إلى نفسه وكذا طلب الرجل أن يدعو هو?- صلى الله عليه وسلم -?ثم أمره?- صلى الله عليه وسلم -?أن يدعو هو ، أي الرجل كأنه?- صلى الله عليه وسلم -?لم يرتض منه اختياره الدعاء بعد قوله (( الصبر خير لك )) ، ولذلك أمره أن يدعو هو لنفسه ، لكن في جعله شفيعا له ووسيلة في استجابة الدعاء ما يفهم أنه - صلى الله عليه وسلم - شريك فيه ( قال ) ، أي عثمان ( فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ) أي يأتي
(17/24)
بكمالاته من سننه وآدابه ،
وزاد في رواية أحمد وابن ماجة والحاكم (( ويصلي ركعتين )) وفي رواية للنسائي ((
قال ( أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ) فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين )) ( اللهم
إني أسالك ) أي أطلب منك حاجتي وقال القاري : أي أطلبك مقصودي ، فالمفعول مقدر (
وأتوجه إليك بنبيك ) الباء للتعدية ، أو المعنى أتوجه إليك بدعاء نبيك وشفاعته (
محمد نبي الرحمة ) أي المبعوث رحمة للعالمين ( إني توجهت بك ) ، أي استشفعت بك ،
والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - على طريق الالتفات ، ففي رواية أحمد وابن
ماجة (( يا محمد إني قد توجهت بك )) ، وفي رواية لأحمد أيضا والنسائي والحاكم ((
يا محمد إني أتوجه بك )) وفيه إن إحضاره في القلب وتصوره في أثناء الدعاء ،
والخطاب معه فيه جائز كإحضاره في أثناء التشهد في
ليقضي لي في حاجتي هذه اللهم فشفعه في .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/25)
الصلاة ، والخطاب فيه وسيأتي
الكلام فيه وفيه قصر السؤال الذي هو أصل الدعاء على الملك المتعال ولكنه توسل به
عليه الصلاة والسلام ، أي بدعائه كما قال عمر : كنا نتوسل إليك بنبيك عليه الصلاة
والسلام ، فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد ، ولذا قال في آخره ((
اللهم فشفعه في )) إذ شفاعته لا تكون إلا بدعاء ربه وقطعا ، ولو كان المراد بذاته
الشريفة لم يكن لذلك التعقيب معنى ، إذ التوسل بقوله (( بنبيك )) كاف في إفادة هذا
المعنى وأيضا قول الأعمى للنبي- صلى الله عليه وسلم - (( أدع الله تعالى أن
يعافيني )) وجوابه عليه الصلاة والسلام له (( إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك
)) وقول الأعمى (( فادعه )) دليل واضح وبرهان راجح على أن التوسل كان بدعائه لا
بنفس ذاته المطهرة عليه الصلاة والسلام ، وقوله (( إني توجهت بك إلى ربي )) قال
الطيبي : الباء في (( بك )) للاستعانة ، أي استعنت بدعائك إلى ربي ، وسيأتي مزيد
توضيح ذلك إنشاء الله تعالى فانتظر ( ليقضي ) بالغيبة أي ربي ، وقيل بالخطاب أي
لتوقع القضاء ( لي في حاجتي هذه ) وجعلها مكانا له على طريقة قوله ? وأصلح لي في
ذريتي ? (- 46 : 15) قال الطيبي : إن قلت : ما معنى (( لي )) و (( في )) ؟ قلت :
معنى (( لي )) كما في قوله تعالى ? رب اشرح لي صدري ? (- 20 : 25) أجمل أولا ثم
فصل ليكون أوقع في النفس ، ومعنى (( في )) كما في قول الشاعر :
يجرح في عراقيبها نصلي
(17/26)
أي أوقع القضاء في حاجتي
واجعلها مكانا له ، ونظيره قوله تعالى ? وأصلح لي في ذريتي ? (- 46 : 15) انتهى .
قلت : ولفظ الترمذي (( إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي )) وهو بصيغة
المجهول أي لتقضى لي حاجتي بشفاعتك يعنى ليقضيها ربي لي بشفاعتك ( اللهم ) التفات
ثان ( فشفعه ) بتشديد الفاء ، أي اقبل شفاعته ( في ) أي في حقي . قال المناوي :
والعطف بالفاء على معطوف عليه مقدر ، أي اجعله شفيعا لي فشفعه فيكون قوله : اللهم
معترضة ، سأل الله أولا بطريق الخطاب أن يأذن لنبيه أن يشفع له ، ثم أقبل على
النبي - صلى الله عليه وسلم - ملتمسا شفاعته له ثم كر مقبلا على ربه طالبا منه أن
يقبل شفاعته في حقه . والحديث قد استدل به على جواز التوسل والسؤال بذوات الأنبياء
والصالحين والميتين لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر الضرير أن يقول في دعائه ((
وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة ، إني توجهت بك إلى ربي )) وإذا جاز السؤال به جاز
السؤال بذاته وحقه وجاهه وحرمته وكرامته ، وإذا جاز التوسل والسؤال بهذا كله من
النبي - صلى الله عليه وسلم -جاز التوسل والسؤال بغيره من الأنبياء والصالحين ،
ولا فرق . واستدل به أيضا على دعاء غير الله من الأموات والغائبين حيث أنه - صلى
الله عليه وسلم - أمر الضرير بعد الوضوء والصلاة أن يدعو ويقول في دعائه : يا محمد
إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى . ففي قوله (( يا محمد )) جواز دعوة
الغائبين لأن الرسول أمره أن يدعو بهذا الدعاء وهو عنه غائب ، وإذا جاز دعاء الغائبين
جاز دعاء الميتين . قال الشيخ محمد عابد السندي في رسالته التي أفردها لمسألة
التوسل : والحديث يدل على جواز التوسل والاستشفاع بذاته
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/27)
المكرم في حياته ، وأما بعد مماته فقد روى البيهقي والطبراني في الصغير (ص 103) عن عثمان بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف : ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد?- صلى الله عليه وسلم -?نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي ، وتذكر حاجتك ورح إلى حتى أروح معك . فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال : ما حاجتك ؟ فذكر حاجته فقضاها له ، ثم قال : ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فأتنا ، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له : جزاك الله خيرا ، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في . فقال عثمان بن حنيف : والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فذكر الحديث . وزادا فيه هما وابن السني والحاكم (( فقال عثمان بن حنيف : فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل عليه الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط )) . قال الطبراني بعد ذكر طرقه التي روى بها : والحديث صحيح . وقال الشوكاني في (( تحفة الذاكرين )) (ص 138) : وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى وأنه المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . وقال فيه أيضا (ص 37) في شرح قول العدة (( ويتوسل إلى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين )) ما نصه : من التوسل بالأنبياء ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث عثمان بن حنيف أن أعمى أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث . ثم قال : وأما
(17/28)
التوسل بالصالحين فمنه ما ثبت
في الصحيح أن الصحابة استسقوا بالعباس رضي الله عنه عم رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ، وقال عمر رضي الله عنه : اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا ، ألخ - انتهى .
وقال العز بن عبد السلام حينما سئل عن التوسل بالذوات الفاضلة ما لفظه : إن صح
حديث الأعمى فهو مقصور على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون من خصوصياته .
وتعقبه المجوزون بقياس غيره عليه - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أدلتهم أنه قد أوجب
الله تعالى تعظيم أمره وتوقيره والزم إكرامه وقد كانت الصحابة تتبرك بآثاره وشعره
ولا شك أن حرمته - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته وتوقيره لازم كما كان حال حياته
كذا في (( جلاء العينين )) (ص 438) للسيد نعمان خير الدين الشهير بابن الآلوسي
البغدادي وقال الشوكاني في رسالته (( الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد )) لا
يخفاك أنه قد ثبت التوسل به - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، وثبت التوسل بغيره
بعد موته بإجماع الصحابة إجماعا سكوتيا لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضي الله عنه
في توسله بالعباس رضي الله عنه ، وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي -
صلى الله عليه وسلم - كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين : الأول ما
عرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، والثاني أن التوسل إلى الله بأهل
الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة ، إذا لا يكون
الفاضل فاضلا إلا بأعماله ، فإذا قال القائل : اللهم إني أتوسل إليك بالعالم
الفلاني فهو
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/29)
باعتبار ما قام به من العلم . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله تعالى بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة ، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركا لم تحصل الإجابة لهم ولا سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم - انتهى . قلت : الحق والصواب عندنا أن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته بمعنى التوسل بدعائه وشفاعته جائز وهذا هو الذي وقع في حديث الأعمى الذي نحن في شرحه كما تقدم وسيأتي أيضا ، وكذا التوسل بغيره - صلى الله عليه وسلم - من أهل الخير والصلاح في حياتهم بمعنى التوسل بدعائهم وشفاعتهم جائز أيضا ، وأما التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته وكذا التوسل بغيره من أهل الخير والصلاح بعد مماتهم فلا يجوز سواء كان بذواتهم أو جاههم أو حرمتهم أو كرامتهم أو حقهم أو نحو ذلك من الأمور المحدثة في الإسلام ، وكذا لا يجوز دعاء غير الله من الأموات والغائبين ، وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية في رسالته في التوسل والوسيلة ، وقد أشبع الكلام في تحقيقه وأجاد فعليك أن تراجعها . وحديث الأعمى هو العمدة في الاستدلال عند المجوزين لأن غيره من الأحاديث إما أن يكون ضعيفا لا يصلح للاستدلال كما بين ذلك حديثا حديثا العلامة السهسواني في (( صيانة الإنسان )) والعلامة السويدي الشافعي في (( العقد الثمين )) وذكره ملخصا العلامة ابن الآلوسي في (( جلاء العينين )) أو أنه دليل على المجوزين لا لهم كحديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما ، وقد ذكرنا في (ص339) من الجزء الثاني وجه فساد الاستدلال بذلك على جواز التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي أيضا ، وكقصة أصحاب الغار التي ذكرها الشوكاني في أثناء الاستدلال لذلك فإن فيها توسل الإنسان بعمل
(17/30)
نفسه لا بعمل غيره أو بذات
غيره ، لأن أصحاب الغار إنما توسلوا بأعمالهم لا بأعمال غيرهم فلا يتم التقريب بل
توسل الإنسان بعبادة غيره ومزاياه غير مشروع ولا مأثور ولا معقول ، وتوسل الإنسان
بعمل نفسه مما لا ينكره أحد من الأئمة وفيه أيضا ما قال العلامة السهسواني في ((
صيانة الإنسان )) : إنا لا نسلم أن الفاضل إذا كان فضله بالأعمال كان التوسل به
توسلا بأعماله الصالحة لم لا يجوز أن يكون التوسل به توسلا بذاته ، بل هو الظاهر
فإن حقيقة التوسل بالشيء التوسل بذاته والتوسل بالأعمال أمر خارج زائد على الحقيقة
ولا يصرف عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمانع . قال صاحب المنار : إن المعلوم من حال
هؤلاء المتوسلين بالأشخاص أنهم يتوسلون بذواتهم الممتازة بصفاتهم وأعمالهم
المعروفة عنهم لاعتقاد أن لهم تأثيرا في حصول المطلوب بالتوسل إما بفعل الله تعالى
لأجلهم وإما بفعلهم أنفسهم مما يعدونه كرامة لهم . وقد سمعنا الأمرين منهم وممن
يدافع عنهم وكل من الأمرين باطل . وفيه أيضا أنه لو سلم أن مراد القائل : اللهم
إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني هو التوسل بأعماله لا التوسل بذاته فاللفظ محتمل للتوسل
بالذات أيضا وهذا مما لا شك فيه وقد نهانا الله تعالى عن استعمال لفظ موهم لأمر
غير جائز فقال في سورة البقرة ? يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا
انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ? (- 2 : 104) قال الإمام العلامة القنوجي
البوفالي في تفسيره (( فتح البيان )) : وفي ذلك
رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/31)
دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسب والنقص وإن لم يقصد المتكلم بها هذا المعنى المفيد للشتم سدا للذريعة وقطعا لمادة المفسدة والتطرق إليه - انتهى . وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي القصيمي : في تفسيره (ج1 ص58) فيه الأدب واستعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا الحسن وعدم الفحش وترك الألفاظ القبيحة أو التي فيها نوع تشويش واحتمال لأمر غير لائق - انتهى . قلت : وكذلك ما قال بعض الحنفية من أن المراد به التوسل بصفة من صفات الله تعالى مثل أن يراد به التوسل بمحبة الله تعالى لعباده الكاملين التامة المستدعية عدم رده وأن يراد به التوسل برحمته الخاصة الشاملة لهم لأجل أعمالهم الفاضلة ولا شك في جواز التوسل بصفة الله تعالى هذا أيضا مخدوش ومحل نظر فإن إرجاع ذلك إلى التوسل بصفة من صفاته تعالى ، فيه تكلف وتعسف جدا ولذلك لا يستشعر بذلك عامة المتوسلين بالأشخاص كما لا يخفى ، ولو سلم فاللفظ محتمل للتوسل بالذات أيضا ، واستعمال الألفاظ المحتملة للأمر الغير المشروع منهي عنه بدليل الآية المتقدمة . وأما حديث الأعمى فالجواب عنه من ناحيتين : ناحية الإسناد وناحية المعنى . فإذا صح الإسناد أو حسن وكان المعنى في متنه ولفظه ما ذكره المجوزون قامت حجتهم ونهضت دعواهم وإلا فلا ، ونحن سنورد ما نستطيع الكلام في الناحيتين إن شاء الله تعالى ( رواه الترمذي ) في (( أحاديث شيء )) من أبواب الدعوات ، وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص138) وزاد (( ففعل الرجل فبرأ )) ، والنسائي في الكبرى وزاد (( فرجع وقد كشف الله عن بصره )) ، وابن ماجة في (( صلاة الحاجة )) ، وابن السني (ص202) ، وابن خزيمة في صحيحه ، والحاكم (ج1 ص313 ، 519 ، 526) ، والبيهقي في دلائل النبوة ، وابن أبي خيثمة في تاريخه والطبراني في الصغير (ص103) ( وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب ) في الترمذي بعد هذا (( لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير
(17/32)
الخطمي )) انتهى . قلت : وقال
الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي وصححه أيضا الطبراني كما
تقدم ، وأبو عبد الله المقدسي كما في التوسل والوسيلة (ص81) وفي تصحيحهم للحديث
عندي نظر والراجح أنه حديث ضعيف لا يبلغ درجة الحسن فضلا أن يكون صحيحا ، فإن
إسناد هذا الحديث في جميع طرقه عند جميع رواته قد انفرد به راو واحد ، هذا الراوي
هو أبو جعفر الذي رواه عنه شعبة عند أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ،
والحاكم (ج1 ص 313 ، 519) ، والبيهقي ، وابن أبي خيثمة ، والذي رواه عند هؤلاء
السبعة عن عمارة بن خزيمة بن ثابت ، وقد قال الترمذي كما تقدم بعد رواية الحديث :
غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر ، أما الذين رووه عن أبي جعفر هذا فشعبة عند
هؤلاء السبعة ، وروح بن القاسم عند ابن السني (ص202) ، والحاكم (ج1 ص526) ،
والبيهقي أيضا ، والطبراني في الصغير (ص 103) ، وحماد بن سلمة عند ابن أبي خيثمة ،
وهشام الدستوائي عند ابن السني على ما ذكر الإمام ابن تيمية في رسالته (ص 78)
والحديث إلى أبي جعفر هذا صحيح السند لا بأس به وهذا
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/33)
ظاهر لمن تفحص عن رجاله بين أبي جعفر وبين من أخرج هذا الحديث فلا كلام للناقد في إسناده حتى يصل أبا جعفر الذي قيل أنه الخطمي ، وقيل : أنه غير الخطمي ، وروى أبو جعفر هذا عند السبعة عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف الصحابي شاهدا لقصة . وعمارة هذا ثقة لا كلام فيه وعثمان بن حنيف صحابي جليل لا كلام فيه أيضا ، وقد تابع عمارة بن خزيمة في روايته عن ابن حنيف أبو أمامة واسمه أسعد بن سهل بن حنيف ابن أخي عثمان بن حنيف رواه عن عمه عثمان عند البيهقي وابن السني والحاكم والطبراني فيكون أبو جعفر هذا رواه عن عمارة بن خزيمة وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، فالحديث إذا لا يكون غريبا إلا عند أبي جعفر المذكور ، ولا ينفرد به سواه وسوى الصحابي عثمان بن حنيف ، أما ما بين ذلك فالرواة متعددون وانفراد عثمان بن حنيف لا يضير الخبر لأنه صحابي جليل ، فالكلام هنا يجب أن يقصر على أبي جعفر هذا ، والترمذي كما تقدم يقول : إنه غير الخطمي . وسائر العلماء يقولون : أنه الخطمي ، والغريب أن اسمه لم يقع مصرحا به في واحد من الروايات فمن الخطمي إذا كان هو إياه ومن هو إذا كان سواه ؟ أما أبو جعفر الخطمي فهو عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب الأنصاري المدني ثم البصري وهو ثقة من رجال الأربعة ، روى عن أبيه وعمارة بن خزيمة وآخرين ، وعنه هشام الدستوائي وشعبة وروح بن القاسم وحماد بن سلمة ويحيى القطان وآخرون ، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب : وثقه ابن معين والنسائي ، وابن نمير والعجلي والطبراني ، وذكره ابن حبان في الثقات وأثنى عليه ابن مهدي . وقال الحافظ وقال أبو الحسن المديني : وهو مدني ، قدم البصرة وليس لأهل المدنية عنه أثر ولا يعرفونه - انتهى . فأبو جعفر هذا إن كان هو الخطمي كما ظنه غير الترمذي فالحديث في درجة متوسطة في الصحة والجودة لا يبلغ مكانة أحاديث الصحيحين ولا ينزل إلى أن يكون ضعيفا باطلا مردودا ، وإنما هو كالأحاديث
(17/34)
التي يصححها أمثال الترمذي
وابن خزيمة وابن حبان والحاكم ونحوهم ممن عندهم نحو تساهل في التصحيح ونقد الأخبار
، هذا إن كان أبو جعفر هذا هو الخطمي ، ولكن وقع اختلاف كما تقدم ، فالترمذي يقول
في جامعه إنه غير الخطمي ، والحافظ ابن حجر يميل في التقريب إلى أنه غير الخطمي
كالترمذي ويرجح أنه أبو جعفر عيسى بن ماهان الرازي التميمي . قال الحافظ في الكنى
من التقريب : أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة قال الترمذي : ليس هو الخطمي فلعله الذي
بعده يريد به أبا جعفر عيسى بن ماهان الرازي التميمي الذي قال الحافظ فيه : إنه
صدوق سيئ الحفظ . وفي تهذيب التهذيب أيضا ما يدل على أنه يرجح كونه غير الخطمي ،
وذلك أنه قال في الكنى من التهذيب (ج12 ص58 ) : أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة وعنه
شعبة ، قال الترمذي : ليس هو الخطمي ولم يزد على ذلك ولم ينكر على الترمذي ما حكاه
عنه فكأنه يميل إلى الأخذ بقوله وعند ما ذكر ترجمة الخطمي من التهذيب لم يتعرض
لذلك الخلاف ولم يقل إنه الذي روى ذلك الخبر عن عمارة مع أنه معروف التنقيب على ما
يراه يستحق ذلك ، فالظاهر من مجموع ذلك أنه يميل إلى موافقة الترمذي في القول بأنه
غير الخطمي . هذا قول الترمذي ومن في جانبه ، وأما الأكثرون فقد ذكروا أنه الخطمي
بعينه وقد وقع ذلك في كثير
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/35)
من الكتب التي روي الحديث فيها ، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك الرأي الأخير ، إذا فالخلاف قائم بين أهل الحديث في أبي جعفر راوي الحديث وقد يقول قائل إنه يجب إسقاط خلاف الترمذي ومن معه في هذا الخلاف لأنه قائم على الظن والتوهم فلا حجة فيه وإنما الحجة في قول سواهم وهم الذين صرحوا بأنه هو الخطمي كما وقع مصرحا به عند ابن أبي خيثمة في التاريخ وعند الطبراني في المعجم الصغير وعند الحاكم في المستدرك ، وعند ابن السني في عمل اليوم والليلة ، فإن هؤلاء قد صرحوا بأن راوي الحديث هو الخطمي عينه وهم ما قالوا ذلك إلا لأنهم علموا أو حدثوا أنه هو نصا لا توهما ، وذلك يقتضي ترجيح رأيهم على رأى الترمذي فيجب المصير إليه علما وبحثا وتحقيقا . قيل في الجواب : كلا إنه لا يجب بل لا يجوز إطراح قول الترمذي اعتباطا ولا الذهاب إلى تخطئته جزافا إذ لو صح لنا أن نقول إنه ظن محض بلا دليل لصح لنا أن نقول إن هؤلاء الذين صرحوا في كتبهم أنه هو الخطمي نفسه ليس لهم دليل أيضا سوى التوهم والظن وهذا قريب جدا ، وذلك أنهم وجدوا أبا جعفر في الإسناد مجردا مطلقا مما يمكن أن يعينه فوثب إلى توهمهم وأوهامهم أنه الخطمي فصرحوا بما توهموه لا بما علموه . وهذا يحتمل في الترمذي كما يحتمل في الآخرين المخالفين له وإن كان يبدو للمتأمل جيدا تقديم ما ذهب إليه الترمذي وترجيحه وذلك أنه يبعد جدا أن يصرح عالم بالحديث مثله بأن هذا ليس هو الخطمي بمجرد الظن المحض لأنه إذا لم يكن لديه سوى التوهم كانت منطقة السكوت أرحب وأوسع وما أبعد أن يقع اسم أو كنية بين يدي ناقد بصير مثل الترمذي فيقول مبادرا إن صاحب ذلك الاسم أو تلك الكنية ليس هو فلانا ممن يسمون ذلك الاسم بلا حجة ولا برهان سوى الظن البحت ، أما من قالوا إنه الخطمي فمن القريب للغاية أن يسمعوا الراوي يقول حدثني أبو جعفر فينساق بسرعة إلى أذهانهم أنه هو الخطمي أو غيره ممن يكنون
(17/36)
تلك الكنية ، وإذا لا يسوغ لنا
شد المعرفة والحقيقة أن يبادر إلى الحكم بتخطئة الترمذي زاعما أنه الخطمي قولا
واحدا بل يجب على الأقل التريث والتوقف ما لم ينبثق له في تلك الظلمة شعاع من نور
ولا سيما أن ذلك الراوي المختلف فيه لم يتابعه أحد على روايته الحديث عن عمارة بن
خزيمة وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف بل انفرد به في جميع الأسانيد والروايات وهذا
ما يزيد الباحث الحريص على الحقيقة والمعرفة توقفا وتريثا . ولا سيما والحديث وارد
في مسألة كهذه لها من الخطورة ما لها وإذ وصلنا إلى ذلك الدور من التحقيق وجدنا
أمامنا أمرين لا مندوحة لنا من اختيار أحدهما : الأول أن نذهب قولا واحدا إلى أن
ذلك الراوي ليس هو الخطمي كما قال الترمذي وكما رجح الحافظ ابن حجر على ما سبق .
الثاني أن نلتزم التوقف وتجويز كلا الاحتمالين والقولين ريثما يقدر لنا قبس من نور
في تلك الدجنة نتلمس به حقيقة ما غم علينا وعلى الباحثين وعلى الاحتمالين والقولين
لا يصح لنا أن نبادر إلى القول بصحة الحديث وإلى الأخذ به حتى نأمن من أن يكون ذلك
الراوي راويا ضعيفا متروكا أو ممن لا يحتج به إذا انفراد برواية الحديث ، وما دمنا
جوزنا أن يكون الخطمي وأن يكون سواه فلا سبيل إلى الضمان من أن يكون ضعيفا حتى
نعلم أن جميع من يكنون تلك الكنية ممن هم في تلك الطبقة ثقات
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/37)
أثبات أما إذا ذهبنا إلى القطع بأنه غير الخطمي فقد يحتمل أن يكون راويا ضعيفا ، وكذلك إذا جوزنا أن يكون إياه وأن يكون سواه لأنه لا سبيل إلى القطع بأنه هو قولا واحدا إلا لمن كان متسرعا إلى ما يجب التأني والبطء فيه ، ومادام ذلك الاحتمال موجودا فلا شك أن العمل بالحديث غير جائز ، ومن ثم ذهب المحدثون إلى أن رواية المجهول مردودة لاحتمال أن يكون ضعيفا وأجمعوا على أنه إذا جاءت رواية باسم مشترك بين ثقات وضعفاء فاحتمل أن تكون الرواية رواية ضعيف ، واحتمل أن تكون رواية ثقة وجب طرح تلك الرواية والتوقف في العمل بها ، ثم نقول إن أبا جعفر هذا إذا لم يكن الخطمي فيحتمل أن يكون هو أبا جعفر عيسى بن ما هان الرازي التميمي ، وقد تقدم أنه سيء الحفظ ، وقد تفرد برواية هذا الحديث لم يتابعه أحد ولا شاهد له فلا يصح الاحتجاج بروايته ، واعترض على هذا التجويز والاحتمال بأنه وقع في بعض الروايات نسبة أبي جعفر هذا إلى المدينة فجاء في سنن ابن ماجة عن أبي جعفر المدني وكذا جاء في مسند أحمد وعند البيهقي والحاكم والطبراني ، وابن السني وهذا في الظاهر يأبى احتمال أن يكون أبو جعفر هذا هو عيسى بن ماهان الرازي لأنه ليس مدنيا بل مروزي الأصل سكن الري وقيل أصله من البصرة ومتجره إلى الري فنسب إليها كذا في تهذيب التهذيب ، وهناك رواة آخرون يكنون تلك الكنية منهم الثقات ومنهم الضعفاء ويجوز أن يكون أبو جعفر الذي في الخبر أحدهم ويجوز العكس وأن يكون رجلا مجهولا ليس له إلا ذلك الحديث ولم يرو عنه شعبة وروح بن القاسم سواه ولم يروه عن عمارة غيره ، وقد يفهم هذا من صنع الحافظ ابن حجر ، وذلك أنه قال فيمن يكنون بأبي جعفر أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة وعنه شعبة ، قال الترمذي ليس هو الخطمي - انتهى . وقد يشهد لهذا أيضا قول الترمذي أنه غير الخطمي ولم يزد على ذلك القول شيئا فلم يسمه ولم يصفه ولم ينسبه فكأنه ما يعرف عنه شيئا وإنما
(17/38)
صحح حديثه اعتمادا على رواية
شعبة عنه لأن شعبة لا يروى إلا عن الثقات غالبا وألا فقد روى عن غير الثقات ، علا
أن الترمذي معروف بالتساهل واللين في التحسين والتصحيح وقد اتضح بهذا البيان
للمنصف أن حديث الأعمى ليس من الصحاح ولا الحسان وأنه لا يسوغ لمن لا يرضى لنفسه
وعقيدته إلا الصحة واليقين أن يعمل به . أو إلزام الناس به فإن أبا جعفر المنفرد
بروايته رجل مجهول لا نعرف حاله ولا يدرى مكانه من الصحة والقوة والضعف على وجه
اليقين فيجب التوقف في روايته بل يجب ردها ، وأما تصحيح من صححوه فليس بحجة وفي
سنده ما ذكرناه من النقد والقدح ، والذين صححوه كلهم من المتساهلين في التصحيح
أمثال الترمذي والحاكم . وأما رواية ابن خزيمة في صحيحه فلا تقتضي الصحة مطلقا كما
بينه الأمير اليماني في توضح الأفكار (ج1 ص64) ويحتمل أن يكون الذين صححوه اعتمدوا
في ذلك على رواية شعبة بن الحجاج له عن أبي جعفر المختلف فيه ، وذلك أن شعبة قد
عهد منه كثيرا اجتناب الضعفاء واجتناب حديثهم والرواية عنهم ولكن هذا ليس بلازم
فقد روى شعبة عن قوم ضعفاء ، ولعلهم أيضا صححوه حاسبين أن أبا جعفر الراوي هو
الخطمي لأن الخطمي ثقة ولم يعلموا أنه سواه كما علم الترمذي
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/39)
فكأن التصحيح قائم على هذا الوهم الذي فطن إليه الترمذي فرده ، ومنشأ هذا الوهم والظن اتفاق الكنى وتحصل من هذا كله أن حديث الأعمى هذا ضعيف لا يحل الاحتجاج به ، أما أولا فلجهالة أبي جعفر المنفرد به عن عمارة بن خزيمة وعن أبي أمامة بن سهل ، واختلاف الناس فيه ، إذ زعم فريق أنه الخطمي وزعم فريق آخر أنه سواه ، ولم يظهر لنا أصح القولين فوجدنا أن التوقف في ذلك هو المصير الصحيح ، وأما ثانيا فلتفرد ذلك الراوي المجهول المختلف فيه به دون غيره من أقرانه وممن هم أكثر منه حديثا وتحديثا وأكثر اجتماعا بعمارة وبأبي أمامة وقد كان المظنون أن يرويه سواه إذا كان صحيحا ، وأما ثالثا فلغرابة معنى الحديث وشذوذه عما عرفه الخاص والعام من أصول الإسلام وفروعه وعما علم بالضرورة منه فإن سؤال الله بخلقه كأن يقال يا الله أسألك بفلان أو أتوجه إليك بعبدك فلان أو نبيك فلان ونحو ذلك لم يعهد مثله في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة أو الأئمة وما نقل شيء من هذا النوع إلا ما جاء في الأخبار الواهية الباطلة ، ومثل تلك الروايات لا يحل بها حكم من أحكام المياه والوضوء والطهارة فضلا عن أن يثبت بها قاعدة من قواعد الإسلام ومناجاة الله وسؤاله ، أما الروايات الصحيحة فلم يجئ في شيء منها من ذلك هذا ، وأما الكلام على الحديث من جهة المعنى على افتراض كونه حسنا أو صحيحا فيقال إنه دليل جلي على بطلان ما ذهب إليه المجوزون وذلك أن المراد بقوله أتوجه إليك بنبيك التوجه بدعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا بذاته ولا بشخصه ، والدليل على ذلك أن أصل المسألة كان في الدعاء وفي طلبه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن أصلها في سؤال الله بجاهه أو بذاته حتى يصح ما زعمه المجوزون . ومن الدليل عليه أيضا قوله في خاتمة الحديث (( اللهم شفعه في )) فالأمر إذا أمر شفاعة . ومن الدليل عليه قوله أيضا ((
(17/40)
وإن شئت دعوت )) وقد شاء بلا
خلاف ، ولا شك فقد دعا أيضا بلا خلاف ، ولا شك قد علق الدعاء بالمشيئة والمشيئة قد
وقعت فالدعاء كذلك قد وقع وهو مثل حديث الاستسقاء بالعباس . ومثل قول الفاروق رضي
الله عنه : اللهم كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا
. وهم كانوا يتوسلون بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته لا بذاته وشخصه ،
وهذا ظاهر في الشرع وفي اللسان إلا عمن حجب الله بصيرته فإن قيل : إن هذا عدول عن
ظاهر الخبر وهو لا يجوز الذهاب إليه إلا بدليل ملجئ ولا دليل على هذا العدول قلنا
: إن من الكذب القول بأن ما ذهب إليه المجوزون هو ظاهر الخبر بل الظاهر هو ما ذهب
إليه المانعون وهو مقتضى اللغة العربية فإنه لا يفهم من قوله عليه الصلاة والسلام
في تعليمه الدعاء (( اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بنبيك )) وقوله (( توجهت بك ))
إلا التوجه بالعمل لا بالذات والعمل هنا هو الدعاء والشفاعة بلا ريب . فإن قيل :
إن هذا يقضي بأن يكون في الحديث كلمة محذوفة وهي كلمة الدعاء والشفاعة التي تزعمون
أن التوجه والسؤال بها لا بالذات فيقدر في قوله (( أتوجه إليك بنبيك )) بدعاء نبيك
، وفي قوله (( توجهت بك )) بدعائك ، وهذا تقدير وادعاء في الحديث لا دليل عليه ولا
ملجأ إليه أجيب أن التقدير في الحديث يجب على قول المجوزين وقول المانعين وعلى كل
قول ، فالمجوزون يقولون التقدير : اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بذات نبيك أو
بحرمته أو بجاهه أو بكرامته عليه أو مكانته لديك ونحو ذلك من
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/41)
المحذوفات ، ولا دليل في الحديث على واحد منها ، وأما المانعون فهم يقدرون الدعاء فقط ، والدعاء مذكور فيه مدلول عليه بأول الخبر وآخره فكان تقديره سائغا بل واجبا بل هو في حكم المذكور المنصوص عليه فالعلم به لا يحتاج إلى تفكير ولا إلى دلالة ولا إلى شيء غير الفهم والإنصاف بل هذا ما يتبادر إلى فهم كل قارئ له ما عدا أهل الهوى والجدل والعناد وإننا نتحدى المجوزين ونطلب إليهم جميعا أن يذكروا كلمة واحدة في الشرع وفي اللسان جاء استعمالها كاستعمال الحديث وكان التفسير لها كما ذكروا ، فإن جاءوا بشيء من ذلك قلنا : صدقوا وألا فلا مهرب لهم من اقتحام الحقيقة والرضاء بالأمر الوقع والحق الذي لا غضاضة على قابله ، قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (ص50) : حديث الأعمى لا حجة لهم ، أي لمجوزي التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته وهو طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء وقد أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول (( اللهم شفعه في )) ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك يعد من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار ، وقوله : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا . يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته إذ لو كان هذا مشروعا لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس - انتهى . وأما رواية الطبراني التي استدلوا بها على جواز التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته فيجاب عنها بما قال أيضا شيخ الإسلام (ص83) من أنه لا حجة فيها إذ الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على ما
(17/42)
فهمه بل على خلافه ، ومعلوم أن
الواحد بعد موته إذا قال (( اللهم فشفعه في وشفعني فيه )) مع أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - لم يدع له كان هذا كلاما باطلا مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل
النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ولا أن يقول (( فشفعه في )) ولم يأمره بالدعاء
على وجهه وإنما أمره ببعضه ، وليس هناك من النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعة ولا
ما يظن أنه شفاعة فلو قال بعد موته (( فشفعه في )) لكان كلاما لا معنى له ، ولهذا
لم يأمر به عثمان ، والدعاء المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر به ،
والذي أمر به ليس مأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومثل هذا لا تثبت به
شريعة كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في حسن العبادات أو الإباحات أو الايجابات أو
التحريمات إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه ، وكان ما ثبت عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - يخالفه لا يوافقه لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين إتباعها ، بل
غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد ومما تنازعت فيه الأمة فيجب رده إلى الله
والرسول ، ولهذا نظائر كثيرة ثم ذكرها ، ثم قال (ص86) : يجب فيما تنازع فيه
الصحابة الرد إلى الله والرسول فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ، ومن قال من العلماء (( إن قول الصحابي حجة )) فإنما قاله إذا
لم يخالفه غيره من الصحابة ولا عرف نص يخالفه ، ثم إذا اشتهر ولم ينكروه كان
إقرارا على القول فقد يقال هذا إجماع إقراري إذا عرف أنهم أقروه ولم ينكره أحد
منهم وهم لا يقرون على باطل ، وأما إذا لم يشتهر فهذا إن عرف أن غيره لم يخالفه
فقد يقال هو حجة ، وأما إذا عرف أنه خالفه فليس بحجة
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/43)
بالاتفاق ، وأما إذا لم يعرف هل وافقه غيره أو خالفه لم يجزم بأحدهما ، ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا فيما يخالفها بلا ريب عند أهل العلم ، وإذا كان كذلك فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته من غير أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - داعيا له ولا شافعا فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعا بعد مماته كما كان يشرع في حياته بل كانوا في الاستسقاء في حياته يتوسلون به فلما مات لم يتوسلوا به بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهورة لما اشتدت بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل سمنا حتى يخصب الناس ، ثم لما استسقي بالناس قال : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا . فيسقون ، وهذا دعاء أقره عليه جمع الصحابة ، لم ينكره أحد مع شهرته ، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية ، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته لما استسقى بالناس فلو كان توسلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا : كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما ؟ ونعدل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله ، فلما لم يقل ذلك أحد منهم وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته ، وحديث الأعمى حجة لعمر وعامة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، فإنه إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى الله بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاته لا بذاته ، وقال له في الدعاء : قل (( اللهم فشفعه في )) . وإذا قدر أن
(17/44)
بعض الصحابة أمر غيره أن يتوسل
بذاته لا بشفاعته يأمر بالدعاء المشروع بل ببعضه وترك سائره المتضمن التوسل
بشفاعته كان ما فعله عمر بن الخطاب هو الموافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وكان المخالف محجوجا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان الحديث
الذي رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة عليه لا له والله أعلم . وقال في
(ص74) : وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود ما يدل على أنه سائغ في الشريعة فإن
كثيرا من الناس يدعون من دون الله من الكواكب والمخلوقين ويحصل ما يحصل من غرضهم ،
وبعض الناس يقصد الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك ، ويدعو التماثيل التي في
الكنائس ، ويحصل ما يحصل من غرضه ، وبعض الناس يدعو بأدعية محرمة باتفاق المسلمين
ويحصل ما يحصل من غرضه . وقال في (ص109) : حديث الأعمى فيه التوسل بالنبي - صلى
الله عليه وسلم - إلى الله في الدعاء فمن الناس من يقول : هذا يقضي جواز التوسل به
مطلقا حيا وميتا وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه ويظن هؤلاء أن
توسل الأعمى والصحابة في حياته كان بمعنى الإقسام به على الله أو بمعنى أنهم سألوا
الله بذاته أن يقضي حوائجهم ويظنون أن التوسل به لا يحتاج إلى أن يدعو هو لهم ولا
إلى أن يطيعوه فسواء عند هؤلاء دعا الرسول لهم أو لم يدع ، الجميع عندهم توسل به ،
وسواء أطاعوه أو لم يطيعوه ، ويظنون أن الله تعالى يقضي حاجة هذا الذي توسل به
بزعمهم ولم يدع له الرسول كما يقضي حاجة هذا الذي توسل بدعائه ودعا له الرسول -
صلى الله عليه وسلم - إذ
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/45)
كلاهما متوسل به عندهم ويظنون أن كل من سأل الله بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد توسل به كما توسل به ذلك الأعمى ، وأن ما أمر به الأعمى مشروع لهم وقول هؤلاء باطل شرعا وقدرا ، فلا هم موافقون لشرع الله ولا ما يقولون مطابق لخلق الله . ومن الناس من يقولون هذه قضية عين يثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها . والفرق ثابت شرعا وقدرا بين من دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين من لم يدع له ، ولا يجوز أن يجعل أحدهما كالآخر ، وهذا الأعمى شفع له النبي - صلى الله عليه وسلم - فلهذا قال في دعائه : (( اللهم فشفعه في )) فعلم أنه شفيع فيه ولفظه (( إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك ، فقال : ادع لي )) فهو طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي وأن يدعو هو أيضا لنفسه ويقول في دعاته : (( اللهم فشفعه في )) فدل ذلك على أن معنى قوله (( أسالك وأتوجه إليك بنبيك محمد )) ، أي بدعائه وشفاعته كما قال عمر (( اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا )) فالحديثان معناهما واحد فهو - صلى الله عليه وسلم - علم رجلا أن يتوسل به في حياته كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا ، ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلا عنه ، فلو كان التوسل به حيا وميتا سواء والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له الرسول لم يعدلوا عن التوسل به وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه وأقربهم إليه وسيلة إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله ، وكذلك لو كان أعمى توسل به ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى كان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى ، فعدو لهم عن هذا إلى هذا مع إنهم السابقون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فإنهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله وما يشرع من الدعاء
(17/46)
وينفع وما لم يشرع ولا ينفع وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن دليل على أن المشروع ما سألوه دون ما تركوه ، وذلك أن التوسل به حيا هو من جنس مسألته أن يدعو لهم وهذا مشروع ، فما زال المسلمون يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته أن يدعو لهم ، وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه الدعاء لا عند قبره ولا عند غير قبره كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين ، يسأل أحدهم حاجته أو يقسم على الله به ، ونحو ذلك وإن كان روى في ذلك حكايات عن بعض المتأخرين - انتهى . وأما ما استدل بالحديث على جواز دعاء غير الله وندائه من الأموات والغائبين فيجاب عنه بعد افتراض كون الحديث حسنا بما قال الطيبي من أن قوله (( إني توجهت بك إلى ربي )) بعد قوله (( أتوجه إليك بنبيك )) فيه معنى قوله تعالى ? من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ? ( - 2 : 255 ) فيكون خطابا لحاضر معاين في قلبه مرتبط بما توجه به عند ربه من سؤال نبيه عليه الصلاة السلام الذي هو عين شفاعته ولذلك أتى بالصيغة الماضوية بعد الصيغة المضارعية المفيد كل ذلك أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه عليه الصلاة والسلام فكأنه استحضر وقت ندائه ومثل ذلك كثير في المقامات الخطابية والقرائن الاعتبارية كما يقول المصلي في تشهده (( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته )) . ونقل السويدي عن اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية : أن الإنسان يفعل مثل هذا كثيرا يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع
(17/47)
2520- (15) وعن أبي الدرداء
قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كان من دعاء داود يقول : اللهم إني
أسالك حبك ، وحب من يحبك ، والعمل الذي يبلغني حبك ، اللهم اجعل حبك أحب إلي من
نفسي ومالي وأهلي ، ومن الماء البارد قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إذا ذكر داود يحدث عنه يقول : كان أعبد البشر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخطاب وقد تقدم بسط ذلك في شرح حديث ابن مسعود (ج2 ص 472 ، 473) فنذكر ، وقد علم
بما ذكرنا أن النداء المذكور ليس مما يدعيه ويفعله أهل البدع من دعاء الأنبياء
وندائهم وخطابهم معتقدين حضورهم في الخارج للاستعانة والاستعانة بهم في تفريج
الكرب وقضاء الحوائج ، وهذا ظاهر جلي إلا لأهل الجدل والعناد .
(17/48)
2520- قوله ( يقول ) اسم كان بحذف أن ، أي قوله (( اللهم إني أسالك حبك )) من إضافة المصدر إلى الفاعل أو المفعول ، أي حبك إياي أو حبي إياك والأول أظهر إذ فيه تلميح إلى قوله تعالى : ? يحبهم ويحبونه ? ( - 5 : 54 ) قاله القاري : (( وحب من يحبك )) كما سبق ، أما الإضافة إلى المفعول فهو ظاهر كمحبتك للعلماء والصلحاء ، وأما الإضافة إلى الفاعل فهو مطلوب أيضا كما ورد في الدعاء (( حببنا إلى أهلها وحبب صالحي أهلها إلينا )) ( والعمل ) بالنصب عطف على المفعول الثاني ويحتمل الجر عطفا على من يحبك ، أي وحب العمل من إضافة المصدر إلى مفعوله فقط ، ويؤيده حديث معاذ بن جبل عند الترمذي في تفسير ص بلفظ : وأسالك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك ( الذي يبلغني ) بتشديد اللام ، أي يوصلني ويحصل لي ( حبك ) يحتمل لاحتمالين ( اللهم اجعل حبك ) أي حبي إياك ( أحب إلي من نفسي ومالي ) أي من حبهما حتى أوثره عليهما (( وأهلي )) كذا وقع في نسخ المشكاة الحاضرة عندنا (( من نفسي ومالي وأهلي )) وهكذا في جامع الأصول (ج5 ص110) وجمع الفوائد (ج2 ص658) ، وفي الترمذي (( من نفسي وأهلي )) ، أي بدون لفظة (( ومالي )) وهكذا عند الحاكم (ج2 ص433) ، وكذا ذكر ابن الجزري في الحصن . قال في اللمعات قوله (( من نفسي )) ، أي من حب نفسي ، والمراد اجعل حب نفسك أحب إلي من نفسي لكنه لم يقل كذلك وإن جاز إطلاقه عليه مشاكلة لغاية التأدب - انتهى . قلت : وقع إطلاقه عليه في الحديث من غير مشاكلة أيضا (( أنت كما أثنيت على نفسك )) ( ومن الماء البارد ) أعاد (( من )) ها هنا ليدل على استقلال الماء البارد في كونه محبوبا وذلك في بعض الأحيان فإنه يعدل بالروح . قال في اللمعات : فيه مبالغة لأن حب الماء البارد طبيعي لا اختيار فيه ، ففيه إشارة إلى سراية المحبة إلى الطبيعة أيضا وذلك أكمل مراتب المحبة ( قال ) أي أبو الدرداء : ( إذا ذكر ) ،
(17/49)
أي هو ( داود يحدث عنه ) أي
يحكي ( يقول ) بدل من يحدث ذكره الطيبي . قال القاري : والأظهر أنه حال من الضمير
في يحدث ، وفي الترمذي (( قال )) مكان (( يقول )) وفي المستدرك (( وكان إذا ذكر
داود وحدث عنه قال )) وهذا يدل على أن قوله (( يحدث )) في رواية الترمذي حال من
الضمير في (( ذكر )) وقوله (( يقول )) أو (( قال )) جزاء للشرط ، وعلى قول الطيبي
والقاري يكون (( يحدث )) جزاء للشرط ولا يخفي ما فيه ( كان ) أي داود ( أعبد البشر
) أي أكثرهم عبادة في زمانه كذا قيد الطيبي . قال القاري : وعلى تقدير الإطلاق لا
محذور فيه إذ لا يلزم من الأعبدية الأعلمية فضلا عن الأفضلية .
رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب .
2521- (16) وعن عطاء بن السائب عن أبيه قال : صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز
فيها ، فقال له بعض القوم : لقد خففت وأوجزت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/50)
وقيل : أي أشكر شكرا ، قال تعالى : ? اعملوا آل داوود شكرا ? ( - 34 : 13 ) أي بالغ في شكر وابذل وسعك فيه كذا ذكره الطيبي ، وتعقبه القاري ( رواه الترمذي ) في جامع الدعوات ، وأخرجه أيضا الحاكم في تفسير سورة ص (ج2 ص433) كلاهما من رواية محمد بن سعد الأنصاري عن عبد الله بن ربيعة الدمشقي عن عائذ الله أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء ( وقال : هذا حديث حسن غريب ) وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه فرده الذهبي بأن عبد الله هذا قال أحمد : أحاديثه موضوعة - انتهى . وقال الحافظ : في التقريب عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي ، وقيل ابن يزيد بن ربيعة مجهول ، وروى البخاري قوله : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر داود قال : كان أعبد البشر ، من هذا الطريق في التاريخ الكبير (1/3/228) ، في ترجمة عبد الله بن يزيد بن ربيعة الدمشقي ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ، وذكره ابن حبان في الثقات كما يظهر من التهذيب (ج5 ص208) وعلى كل حال لا يخلو تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم لهذا الحديث عن النظر .
(17/51)
2521- قوله : ( وعن عطاء بن
السائب ) الثقفي الكوفي يكنى أبا محمد ، وقيل : أبا السائب . قال الحافظ في
التقريب : صدوق اختلط ، مات سنة ست وثلاثين ومائة . قلت : من سمع منه قديما فهو
صحيح الحديث منهم الثوري وشعبة وزائدة وحماد بن زيد ، فأما من سمع منه بآخره ففي
حديثهم نظر ، ومنهم جرير وهشيم وابن علية ، واختلف حماد بن سلمة فقيل سمع منه قبل
الاختلاط وقيل بعده . وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7 ص207) بعد ذكر أقوال أئمة
الجرح والتعديل في ذلك فيحصل لنا من مجموع كلامهم أن سفيان الثوري وشعبة وزهيرا
وزائدة وحماد بن زيد وأيوب عنه صحيح ، ومن عداهم يتوقف فيه إلا حماد بن سلمة
فاختلف قولهم والظاهر أنه سمع منه مرتين مرة مع أيوب كما يؤمى إليه كلام الدارقطني
حيث قال : دخل عطاء البصرة مرتين فسماع أيوب وحماد بن سلمة في الرحلة الأولى صحيح
- انتهى . ومرة بعد ذلك لما دخل إليهم البصرة وسمع منه جرير وذويه ، والله أعلم (
عن أبيه ) أي السائب بن مالك أو ابن زيد أو ابن يزيد أبي يحيى ويقال أبو كثير
ويقال أبو عطاء الثقفي الكوفي ثقة من كبار التابعين ، روى عن علي وسعد وعمار بن
ياسر وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم ، وعنه ابنه عطاء وأبو إسحاق السبيعي وأبو
البختري ( فأوجز ) أي اقتصر ( فيها ) ، أي مع إتمام أركانها وسننها ( فقال له بعض
القوم ) ، أي ممن حضرها ( لقد خففت ) بالتشديد ، قال القاري : أي الأركان بأن فعلت
ما يطلق عليها الركن ( وأوجزت ) أي اقتصرت بأن أتيت بأقل ما يؤدي به السنن ، وقوله
الصلاة ، فقال : أما على ذلك ، لقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فلما قام تبعه رجل من القوم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/52)
( الصلاة ) تنازع فيه الفعلان . قلت : قوله (( وأوجزت )) كذا وقع في جميع نسخ المشكاة أي بواو العطف ، والذي في النسائي (( أو أوجزت )) أي بأو بدل الواو . قال في اللمعات : قوله (( وأوجزت الصلاة )) يشبه أن يكون بتخفيف الدعاء فيه كما ينظر إليه سياق الحديث ، ويحتمل أن يكون بإيجاز القراءة ويكون المعنى وإن أوجزت الصلاة بتخفيف القراءة فيها لكني دعوت بدعوات تجبر النقصان كما قيل إن النوافل تكمل الفرائض - انتهى . ولأحمد والنسائي من طريق أبي مجلز عن عطاء قال : صلى بنا عمار صلاة فأوجز فيها فأنكروا ذلك فقال : ألم أتم الركوع والسجود ؟ قالوا : بلي . قال الشوكاني : قوله : (( فأوجز فيها )) لعله لم يصاحب هذا الإيجاز تمام الصلاة على الصفة التي عهدوا عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألا لم يكن للإنكار عليه وجه ، فقد ثبت من حديث أنس في مسلم وغيره أنه قال : ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تمام . وقوله (( فأنكروا ذلك )) فيه جواز الإنكار على من أخف الصلاة من دون استكمال ، وقوله (( ألم أتم الركوع والسجود ؟ قالوا : بلى )) فيه إشعار بأنه لم يتم غيرهما ولذلك أنكروا عليه ( فقال : أما ) بالتخفيف ( علي ) بالتشديد ( ذلك ) وجه الطيبي هذه العبارة بثلاثة وجوه : أحدها أن الهمزة يحتمل أن تكون للإنكار كأنه قال : أتقول هذا وتنكرون علي ؟ وما علي ضرر من ذلك ، قال الشيخ الدهلوي : يعنى قوله (( ما علي ذلك )) جملة حالية والواو مقدرة ولا حاجة إلى تقديرها فقد يقع حالا بدون الواو نحو كلمته فوه إلى في ، وكان تقديره الواو إشارة إلى كونها حالا ، وقوله (( ضرر من ذلك )) بيان لحاصل المعنى . وثانيها أن يكون الهمزة لنداء القريب ، والمنادي محذوف ، أي يا فلان ليس علي ضرر من ذلك . وثالثها أن يكون أما للتنبيه ، ثم قال علي بيان ذلك فتدبر - انتهى . وفي المستدرك (( ما علي في ذلك ))
(17/53)
أي بدون الهمزة وبزيادة في قبل
ذلك ( لقد دعوت ) كذا في جميع النسخ ، وللنسائي (( أما علي ذلك فقد دعوت )) قال
السندي : أي أما مع التخفيف والإيجاز فقد دعوت ، ألخ . وأما على تقدير اعتراضكم
بالتخفيف فأقول قد دعوت ، ألخ . والظاهر أن أما هذه لمجرد التأكيد وليس لها عديل
في الكلام كأما الواقع في أوائل الخطب في الكتب بعد ذكر الحمد والصلاة من قولهم
أما بعد فكذا ( فيها ) أي في أواخرها أو سجودها ، قاله القاري . ومال النسائي إلى
الأول حيث أورد هذا الحديث في أثناء أبواب الدعاء بعد التشهد والصلاة على النبي -
صلى الله عليه وسلم - ( بدعوات ) قال السندي : جمع الدعوات باعتبار أن كل كلمة
دعوة بفتح الدال ، أي مرة من الدعاء فإن الدعوة للمرة كالجلسة ( سمعتهن من رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ) قال القاري : أي داخلها أو خارجها ، وفي المسند
وكذا في رواية للنسائي (( أما إني قد دعوت فيها بدعاء كان رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يدعو به )) قال الشوكاني : يحتمل أنه كان يدعو به في الصلاة ويكون فعل
عمار قرينة تدل على ذلك ويحتمل أنه كان يدعو به من غير تقييد بحال الصلاة كما هو
الظاهر من كلام ( فلما قام ) أي عمار ( تبعه رجل من القوم ) إلى هنا قول السائب
عبر عن نفسه
هو أبي غير أنه كنى عن نفسه فسأله عن الدعاء ثم جاء فأخبر به القوم : اللهم بعلمك
الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة
خيرا لي اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب
وأسألك القصد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/54)
برجل من القوم ولذا فسره عطاء بقوله ( هو أبي ) ، أي ذلك الرجل الذي تبع عمارا هو أبي أي السائب ( غير أنه ) ، أي أبي ( كنى عن نفسه ) ، أي برجل فقال : تبعه رجل ولم يقل تبعته ، ثم قال السائب ( فسأله ) أي الرجل عمارا ( عن الدعاء ) ، أي فأخبره ( ثم جاء ) ، أي الرجل ( فأخبر به ) ، أي بالدعاء ( اللهم ) ، أي وهو هذا ( بعلمك الغيب ) ، أي المغيبات عن خلقك فضلا عن المشاهدات ، والباء للاستعطاف والتذلل ، أي أنشدك بحق علمك ما خفي على خلقك مما استأثرت به ( وقدرتك على الخلق ) أي بقدرتك على خلق كل شيء تتعلق به مشيئك أو على جميع المخلوقات بأن تفعل فيهم ما تقضي إرادتك ، وفيه دليل على جواز التوسل إليه تعالى بصفات كماله وخصال جلاله ( أحيني ) أي أمدني بالحياة ( ما علمت الحياة ) ما مصدرية ظرفية ( خيرا لي ) بأن يغلب خيري على شري (( وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي )) بأن تغلب سيئاتي على حسناتي أو بأن تقع الفتن ما ظهر منها وما بطن ، قاله القاري وعبر بما في الحياة لاتصافه بالحياة حالا وبإذا الشرطية في الوفاء لانعدامها حال التمني إذا آل الحال إلى أن تكون الوفاة بهذا الوصف فتوفني ، قلت قوله (( أحيني )) إلى قوله (( خيرا لي )) ثابت في الصحيحين من حديث أنس بلفظ (( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي )) وهو يدل على جواز الدعاء بهذا لكن عند نزول الضرر كما وقع التقييد بذلك في حديث أنس المذكور وقد تقدم في (ج2 ص438) ( اللهم وأسألك ) عطف على (( أنشدك )) المقدر ، أي وأطلب منك و (( اللهم )) معترضة . وقال القاري : والظاهر أن اللهم عطف على الأول بحذف العاطف كما في كثير من الدعوات الحديثية ومنه تكرار (( ربنا )) من غير عاطف في الآيات القرآنية ، ولا يضره الواو في قوله (( وأسالك )) لأنها نظيرة الواو في قوله تعالى (( ربنا وآتنا )) ( خشيتك ) ، أي خوفك ( في الغيب والشهادة ) أي في
(17/55)
السر والعلانية أو في الحالين
من الخلوة والجلوة أو في الباطن والظاهر ، والمراد استيعابها في جميع الأوقات فإن
الخشية رأس كل خير والشأن في الخشية في الغيب لمدحه تعالى من يخافه بالغيب ، وقال
الشوكاني : أي في مغيب الناس وحضورهم لأن الخشية بين الناس فقط ليست من الخشية لله
بل من خشية الناس ( وأسألك كلمة الحق ) ، أي النطق بالحق ( في الرضا والغضب ) ، أي
في حالتي رضا الخلق مني وغضبهم علي فيما أقوله فلا أداهن ولا أنافق ، أو في حالتي
رضاي وغضبي بحيث لا تلجئني شدة الغضب إلى النطق بخلاف الحق ككثير من الناس إذا
اشتد غضبه أخرجه من الحق إلى الباطل ، والمعنى أسألك أن أكون مستمرا على النطق
بالحق في جميع أحوالي وأوقاتي . قال الشوكاني : جمع بين الحالتين لأن الغضب ربما
حال بين الإنسان وبين الصدع بالحق ، وكذلك الرضا ربما قاد في بعض الحالات إلى
المداهنة وكتم كلمة الحق ( القصد ) أي الاقتصاد
في الفقر والغنى ، وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضاء
بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى
لقائك في غير ضراء مضرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/56)
وهو التوسط بلا إفراط وتفريط ( في الفقر والغنى ) لأن المختار أن الكفاف أفضل من الفقر ومن الغنى قاله في اللمعات ، وقال المناوي : القصد أي التوسط في الفقر والغنى هو الذي ليس معه إسراف ولا تقتير ، فإن الغنى يبسط اليد ويطغي النفس ، والفقر يكاد أن يكون كفرا ، فالتوسط هو المحبوب المطلوب . وقال الشوكاني : القصد في كتب اللغة بمعنى استقامة الطريق والاعتدال ، وبمعنى ضد التفريط وهو المناسب هنا لأن بطر الغني ربما جر إلى الإفراط وعدم الصبر على الفقر ربما أوقع في التفريط فالقصد فيهما هو الطريقة القويمة ( لا ينفد ) بفتح الفاء وبالدال المهملة أي لا يفنى ولا ينقضي ولا ينقص ، وذلك ليس إلا نعيم الآخرة ، وأما غيره فكل نعيم لا محالة زائل ( قرة عين لا تنقطع ) يحتمل أن يراد الذرية التي لا تنقطع بعده ، بل تستمر ما بقيت الدنيا . ولعله مأخوذ من قوله تعالى { ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } ( 25 : 74) وقيل : أراد المداومة على الصلاة والمحافظة عليها لقوله (( وجعلت قرة عيني في الصلاة )) أو المراد ثواب الجنة الذي لا ينقطع فيكون تأكيدا لقوله (( نعيما لا ينفد )) فيكون بعد تخصيصا بعد تعميم ، وقيل : أراد قرة عينه أي بدوام ذكر الله وكمال محبته والأنس به ( وأسألك الرضاء ) بالمد ، وفي المستدرك الرضى أي بالقصر . قال الجوهري : الرضى مقصورا مصدر محض والاسم الرضاء ممدودا ( بعد القضاء ) وفي رواية للنسائي الرضاء بالقضاء أي بما قدرته لي في الأزل لأتلقاه بوجه منبسط وخاطر منشرح وأعلم أن كل قضاء قضيته لي فلي فيه خير ، قيل في وجه الأول : كأنه طلب الرضاء بعد تحقق القضاء وتقرره ( برد العيش ) أي طيبه وحسنه ( بعد الموت ) برفع الروح إلى منازل السعداء ومقامات المقربين ، والعيش في هذه الدار لا يبرد لأحد بل محشو بالغصص والكدر والنكد ممحوق بالآلام الباطنة والأسقام الظاهرة ( لذة النظر
(17/57)
إلى وجهك ) قال الطيبي : قيد
النظر باللذة لأن النظر إلى الله تعالى إما نظر هيبة وجلال في عرصات القيامة ،
وإما نظر لطف وجمال في الجنة ليؤذن بأن المراد هذا ، وفيه أعظم دليل على رؤية الله
تعالى في الدار الآخرة كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ( والشوق إلى لقاءك ) أي
الاشتياق إلى ملاقاتك في دار المجازاة . قال الشوكاني : إنما سأله ع لأنه من
موجبات محبة الله تعالى للقاء عبده لحديث (( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ))
ومحبة الله تعالى من أسباب المغفرة . وقال ابن القيم : جمع في هذا الدعاء بين أطيب
ما في الدنيا وهو الشوق إلى لقاءه ، وأطيب ما في الآخرة وهو النظر إليه ، ولما كان
كلامه موقوفا على عدم ما يضر في الدنيا ويفتن في الآخرة قال ( في غير ضراء ) أي
شدة ، وقيل : أي الحالة التي تضر وهي نقيض السراء وهما بناءان للمؤنث ولا مذكر
لهما ( مضرة ) اسم فاعل من أضر والجار إما متعلق بقوله (( والشوق إلى لقاءك )) أي
أسألك شوقا لا يؤثر في سيري وسلوكي بحيث يمنعني عن ذلك وأن يضرني مضرة ، وإما
متعلق بأحيني ، الثاني أظهر معنى وأقرب لفظا
ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين . رواه النسائي .
2522- (17) وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر الفجر :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/58)
ويؤيد الثاني ما وقع عند أحمد والنسائي أيضا بلفظ : أعوذ بك من ضراء مضرة . وقال الطيبي متعلق الظرف مشكل ولعله متصل بالقرينة الأخيرة وهي (( الشوق إلى لقاءك )) ، سأل شوقا إليه بحيث يكون في ضراء غير مضرة أي شوقا لا يضر في سيري وسلوكي ، وإن ضرني مضرة ما ، فإن الشوق قد يفضي إلى ذلك عند غلبة الحال وتهيج السكر وهو المراد بفتنة مضلة ، ويجوز أن يتصل بقوله : أحيني ... إلى آخره حتى يتعلق بالكل أي أحيني متلبسا بنعمك المذكورة حال عدم كوني في ضراء مضرة وهي البلية لا أصبر عليها ( ولا فتنة مضلة ) أي موقعة في الحيرة والضلال ومفضية إلى الهلاك ، وقد وقع عند أحمد والنسائي في رواية : وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنة مضلة . قال الشوكاني : إنما قيد ضراء بمضرة لأن الضراء ربما كانت نافعة آجلا أو عاجلا فلا يليق الاستعاذة منها أي مطلقا ، ووصف الفتنة بالمضلة لأن من الفتن ما يكون من أسباب الهداية ، وهي بهذا الاعتبار مما لا يستعاذ منه . قال أهل اللغة : الفتنة الامتحان والاختبار ( زينا ) بتشديد الياء المكسورة والنون ( بزينة الإيمان ) أي بثباته وتوفيق الطاعة وحيلة الإحسان . قال المناوي : وهي زينة الباطن ولا معول إلا عليها لأن الزينة زينتان زينة البدن وزينة القلب وهي أعظمها قدرا وإذا حصلت زينة البدن على أكمل وجه في العقبى ، ولما كان كمال العبد في كونه عالما بالحق متبعا له معلما لغيره قال ( واجعلنا هداة ) جمع هاد أي هادين إلى الدين ( مهتدين ) أي ثابتين على الهداية وطريق اليقين . قال الطيبي : وصف الهداة بالمهتدين لأن الهادي إذا لم يكن مهتديا في نفسه لم يصلح أن يكون هاديا لغيره لأنه يوقع الناس في الضلال من حيث لا يشعر . قلت : ومن حيث لا يشعرون ( رواه النسائي ) في الصلاة من طريق حماد عن عطاء بن السائب عن أبيه . وأخرجه أيضا الحاكم ( ج1 : ص524) من هذا الطريق ، وسماه حماد بن زيد ، وقال : حديث صحيح
(17/59)
الإسناد ووافقه الذهبي ،
وأخرجه أحمد (ج4 : ص264) من طريق أبي هاشم عن أبي مجلز ، قال : صلى بنا عمار صلاة
فأوجز فيها ، والنسائي أيضا من طريق أبي مجلز عن قيس بن عباد قال : صلى عمار ابن
ياسر بالقوم صلاة أخفها ، وهذا يدل على أن طريق أحمد فيها انقطاع ، والله أعلم ،
ورواه أبو يعلى أيضا قال الهيثمي (ج10 : ص177) ورجاله ثقات إلا أن عطاء بن السائب
اختلط . انتهى . قلت : ولا يضر ذلك فإن الحديث رواه الحاكم من طريق حماد بن زيد
وروايته عن عطاء قبل الاختلاط كما تقدم .
2522- قوله ( كان يقول في دبر الفجر ) أي في دبر صلاة الفجر ، ولفظ أحمد (ج6 :
318) (( كان يقول في دبر الفجر إذا صلى )) وفي رواية له (( كان يقول إذا صلى الصبح
حين سلم )) وفي رواية (( حين يسلم )) وكذا وقع عند ابن ماجه وللطبراني (( كان يقول
بعد صلاة الفجر )) ووقع في بعض نسخ المشكاة (( في دبر صلاة الفجر )) ولم يرد بهذا
اللفظ
اللهم إني أسألك علما نافعا وعملا متقبلا ورزقا طيبا . رواه أحمد ، وابن ماجة ،
والبيهقي في الدعوات الكبير .
2523- (18) وعن أبي هريرة قال : دعاء حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
أدعه : اللهم اجعلني أعظم شكرك ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/60)
في الكتب التي أخرجها أصحابها ولا في جامع الأصول ( علما نافعا ) أي بالعمل به فيكون حجة لي لا علي . وقال في الحرز : أي شرعيا أعمل به ( وعملا ومتقبلا ) بفتح الموحدة أي مقبولا بأن يكون مقرونا بالإخلاص ( ورزقا طيبا ) أي حلالا ملائما للقوة معينا على الطاعة . في مختصر الطيبي : فإنه أس لهما ولا يعتد بهما دونه . قال الشوكاني : إنما قيد العلم بالنافع والرزق بالطيب والعمل بالمتقبل لأن كل علم لا ينفع فليس من عمل الآخرة ، وربما كان ذرائع الشقاوة ولهذا كان ع يتعوذ من علم لا ينفع ، وكل رزق غير طيب موقع في ورطة العقاب ، وكل عمل غير متقبل إتعاب للنفس . انتهى . وقوله (( اللهم إني أسألك علما نافعا )) إلخ . كذا وقع بتقديم العلم والعمل على الرزق عند أحمد ( ج6 : ص294 ، 319) وهكذا عند ابن السني ، ووقع عند أحمد أيضا (ج6 : ص305 ، 322) ، وابن ماجة بتقديم الرزق على العمل وتأخيره عن العلم ، وعند الطبراني في الصغير بتقديم الرزق على العلم والعمل وهذا الترتيب هو الظاهر ، وأما ما وقع في الروايات الأخرى فلعله من تصرف الرواة ، والحديث دليل صريح على مشروعية الدعاء بعد السلام من الصلاة المكتوبة ( رواه أحمد ) ( ج6 : ص294 ، 305 ، 319 ، 322) ( وابن ماجة ) في الصلاة ( والبيهقي في الدعوات الكبير ) وأخرجه أيضا ابن السني (ص38) وابن أبي شيبة كما في النيل ( ج2 : ص204) كلهم من رواية موسى بن أبي عائشة عن مولى لأم سلمة عن أم سلمة . قال الشوكاني : رجاله ثقات لولا جهالة مولى أم سلمة . ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد : رجال إسناده ثقات خلا مولى أم سلمة فإنه لم يعرف ولم أر أحدا ممن صنف في المبهمات ذكره ولا أدري ما حاله - انتهى . ورواه الطبراني في معجمه الصغير (ص152) من طريق عامر بن إبراهيم بن واقد الأصبهاني عن النعمان ابن عبد السلام عن الثوري عن منصور عن الشعبي عن أم سلمة . وهذا سند جيد . قال
(17/61)
الهيثمي بعد ذكر الحديث (ج10:
ص111) : رواه الطبراني في الصغير ورجاله ثقات .
2523- قوله ( دعاء ) مبتدأ ( حفظته من رسول الله ع ) صفة للمبتدأ مسوغ وخبره قوله
( لا أدعه ) أي لا أتركه لنفاسته ، ولأحمد (ج2 : ص311) : دعوات سمعتها من رسول
الله ع لا أتركها ما عشت حيا سمعته يقول : اللهم ، إلخ ( اللهم اجعلني أعظم )
بالتخفيف والتشديد ورفع الميم وهو مفعول ثان بتقدير أن أو بغيره أي معظما ( شكرك )
أي وفقني لإكثاره والدوام على استحضاره لأكون قائما بما وجب علي من شكر نعمائك
التي لا تحصى . قال الطيبي :
وأكثر ذكرك ، وأتبع نصحك ، وأحفظ وصيتك . رواه الترمذي .
2524- (19) وعن عبد الله بن عمرو قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول
: اللهم إني أسألك الصحة والعفة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/62)
اجعلني بمعنى صيرني ولذلك أتى بالمفعول الثاني فعلا لأن صار من دواخل المبتدأ والخبر ( وأكثر ) مخففا ومشددا ( ذكرك ) أي لسانا وجنانا وهو يحتمل أن يكون تخصيصا بعد تعميم وقيل إن بينهما عموما وخصوصا من وجه ( وأتبع ) بتشديد التاء وكسر الموحدة من الإتباع وبسكون الأولى وفتح الثانية ( نصحك ) بضم النون كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في جامع الأصول ، والذي في الترمذي والمسند (( نصيحتك )) أي بامتثال ما يقربني إلى رضاك ويبعدني عن غضبك . وقال شيخنا : النصيحة هي الخلوص وإرادة الخير للمنصوح له والإضافة يحتمل أن يكون إلى الفاعل وإلى المفعول والأول أظهر ( وأحفظ وصيتك ) بملازمة فعل المأمورات وتجنب المنهيات أو المذكورة في قوله تعالى ? ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ? ( - 4 : 131 ) فإنها للأولين والآخرين وهي التقوى ، أو بالتسليم لله العظيم في جميع الأمور والرضا بالمقدور على ممر الدهور . وقال الطيبي : النصيحة هي إرادة الخير للمنصوح له فيراد بها حقوق العباد وبالوصية متابعة الأمر والنهي من حقوق الله تعالى والله أعلم ( رواه الترمذي ) في الدعوات من طريق الفرج بن فضالة عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة ، وقال حديث غريب ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 ص311) من رواية الفرج عن أبي سعيد المديني عن أبي هريرة قال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند : إسناده ضعيف جدا الفرج بن فضالة ضعيف منكر الحديث ، وأبو سعيد المديني ذكر الحافظ ابن كثير في جامع المسانيد والسنن أنه (( مولي عبد الله بن عامر بن كريز )) وقد يكون هو وقد يكون غيره من اضطراب الفرج بن فضالة ، فإن الحديث سيأتي أي في المسند عن وكيع عن الفرج بن فضالة عن (( أبي سعيد الحمصي )) وكذلك ذكره الحافظ ابن كثير في ترجمة أبي سعيد الحمصي دون أن يبين من هو ، ورواية وكيع أيضا في الترمذي وفيها
(17/63)
(( عن أبي سعيد المقبري ))
وعندنا أن هذا كله تخليط من الفرج بن فضالة وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10
ص172) وقال : رواه أحمد من طريق أبي يزيد المديني ، وفي رواية (( عن أبي سعيد
الحمصي ولم أعرفهما ، وبقية رجالهما ثقات )) وهكذا قال الهيثمي ، فأما أولا فإن
الحديث ليس من الزوائد على الكتب الستة ، وقد رواه الترمذي ، وثانيا ليس في المسند
(( عن أبي يزيد المديني )) بل هو كما ترى (( حدثنا أبو سعيد المديني )) فإما أن
يكون الهيثمي سها ، وإما أن يكون خطأ في النسخة التي كانت معه من المسند ، وثالثا
ليس بقية رجالهما ثقات وفي الإسنادين الفرج بن فضالة وهو ضعيف - انتهى .
2524- قوله ( وعن عبد الله بن عمرو ) بالواو ( اللهم إني أسالك الصحة ) أي العافية
من الأمراض والعاهات وقال القاري : أي صحة البدن من سيء الأسقام أو صحة الأحوال
والأقوال والأعمال ( والعفة ) هي بمعنى العفاف
والأمانة ، وحسن الخلق ، والرضى بالقدر .
2525- (20) وعن أم معبد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/64)
والعفاف هو التنزه عما لا يباح والكف عنه ، وقال المناوي : أي عن المحرمات والمكروهات وما يخل بكمال المروءة ( والأمانة ) ضد الخيانة والمراد حفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده ( وحسن الخلق ) بضم اللام وسكونها أي مع الخلق بالصبر على أذاهم وكف الأذى عنهم والتلطف بهم . وقال القاري : أي حسن المعاشرة مع أهل الإسلام ( والرضى بالقدر ) أي بما قدرته علي في الأزل ، وهذا تعليم لأمته وتمرين للنفس على الرضاء بالقضاء وذلك لأمرين الأول : أن يتفرغ العبد للعبادة لأنه إذا لم يرض بالقضاء يكون مهموما مشغول القلب أبدا بأنه لم كان كذا ؟ ولماذا لا يكون كذا ؟ فإذا اشتغل القلب بشيء من هذه الهموم كيف يتفرغ للعبادة إذ ليس له إلا قلب واحد وقد امتلأ من الهموم وما كان وما يكون فأي محل فيه لذكر العبادة وفكر الآخرة ولقد صدق شقيق في قوله : حسرة الأمور الماضية وتدبير الآتية ذهبت ببركة الساعات . الثاني : خطر ما في السخط من مقت الله وغضبه مع أنه لا فائدة لذلك ، إذ القضاء نافذ ولا بد منه رضي العبد أم سخط . والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10 ص173) وقال : رواه الطبراني ( في الكبير ) والبزار ( في مسنده ) وقال : أسألك العصمة بدل الصحة ، وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف الحديث وقد وثق وبقية رجال أحد الإسنادين رجال الصحيح .
(17/65)
2525- قوله ( وعن أم معبد )
بفتح الميم والموحدة - قال الحافظ في الإصابة (ج4 ص476) : أم معبد غير منسوبة ،
وقيل إنها أنصارية روى حديثها عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن مولى لأم معبد عن أم
معبد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو ويقول : (( اللهم طهر قلبي من
النفاق )) ، إلخ . وأخرجه أبو نعيم وأفردها عن أم معبد الخزاعية الكعبية عاتكة بنت
خالد التي نزل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة وتبع أبا
نعيم أبو موسى ، وأما ابن السكن فذكر الحديث في ترجمة الخزاعة في الأسماء في عاتكة
فقال روى عن مولي لأم معبد عن أم معبد حديث في الدعاء فذكره ، ثم قال في الكنى :
أم معبد الأنصارية وليست صاحبة الخيمتين يعني الخزاعية ، ثم ساق الحديث عن شيخ آخر
بالسند والمتن بعينه ، ثم قال : لم أجد لأم معبد هذه حديثا غير هذا . وفي إسناده
نظر وهو كما قال ، ثم قال : وقد روى عن ابن الحارث عن أم معبد مولاة قرظة حديث في
الظروف ولست أدرى هي هذه أو غيرها فتناقض في ذلك مع جلالته في الحظ وإتقانه -
انتهى . وقال ابن عبد البر : أم معبد الأنصارية روى عنها مولاها عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - حديثها في الدعاء وهي غير التي قبلها يعني بها أم معبد زوجة كعب بن
مالك الأنصاري السلمي التي روت عن النبي في الخليطين وروت (( البذاذة من الإيمان
)) وقال الجزري في أسد الغابة (ج5 ص620) : أم معبد غير منسوبة قاله أبو نعيم ،
وقال أبو عمر : أنصارية ، ثم روى
اللهم طهر قلبي من النفاق ، وعملي من الرياء ولساني من الكذب ، وعيني من الخيانة ،
فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . رواهما البيهقي في الدعوات الكبير .
2526- (21) وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلا من المسلمين قد
خفت ، فصار مثل الفرخ ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل كنت تدعو
الله بشيء أو
(17/66)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزري هذا الحديث من طريق أبي نعيم ثم قال : أخرجها أبو نعيم وأبو عمر وأبو موسى
- انتهى . وتحصل من هذا كله أن أم معبد راوية حديث الدعاء المذكور صحابية أخرى غير
الخزاعية وغير زوجة كعب بن مالك راوية حديث الخليطين وغير مولاة قرظة بن كعب راوية
حديث الظروف ( اللهم طهر قلبي من النفاق ) أي بتحصيل اليقين في الدين وتسوية السر
والعلانية بين المسلمين ، قاله القاري . وقال العزيزي : أي من إظهار خلاف ما في
الباطن وهذا وما بعده قاله تعليما لأمته كيف تدعو وألا فهو معصوم من ذلك ( وعملي
من الرياء ) بمثناة تحتية أي حب إطلاع الناس على عملي ، وقيل : أي من الرياء
والسمعة بتوفيق الإخلاص ( ولساني من الكذب ) أي ونحوه من الغيبة والنميمة . وقال
القاري : الكذب بفتح الكاف وكسر الذال ويجوز بكسر الكاف وسكون الذال وخص من معاصي
اللسان لأنه أعظمها وأقبحها عند الله وعند الخلق ( وعيني ) بالتثنية والإفراد قاله
المناوي ( من الخيانة) أي بأن ينظر بها إلى ما لا يجوز النظر إليه أو يشير بها إلى
ما يترتب الفساد عليه ( فإنك تعلم خائنة الأعين ) مصدر بمعنى الخيانة أي الرمز بها
أو النظرة إلى المحرم بعد النظرة أو مسارقة النظر إلى ما نهى عنه ، أو هو من إضافة
الصفة إلى الموصوف ، أي الأعين الخائنة ( وما تخفي الصدور) أي القلوب الحالة في
الصدور من الوسوسة أو ما تضمر من أمانة أو خيانة ( رواهما ) أي الحديثين السابقين
( البيهقي في الدعوات الكبير ) قد تقدم تخريج عبد الله بن عمرو وأما حديث أم معبد
فذكره السيوطي في الجامع الصغير وعزاه للحكيم الترمذي في النوادر (ص202) والخطيب
في التاريخ وقد تقدم أنه رواه أيضا أبو نعيم وأبو موسى وابن السكن وقال : في
إسناده نظر . قال الحافظ : وهو كما قال فإنه من رواية فرج بن فضالة عن ابن أنعم
وهما ضعيفان - انتهى . وفيه أيضا مولى أم معبد وهو مجهول ،
(17/67)
وقال الحافظ العراقي في تخريج
الإحياء : بسنده ضعيف .
2526- قوله ( عاد ) من العيادة ( رجلا ) أي مريضا ( قد خفت ) بفتح الفاء من باب
نصر أي ضعف من خفت الصوت إذا ضعف وسكن . وفي الترمذي (( قد جهد )) وهو بصيغة
المجهول . قال في القاموس : جهد المرض فلانا هزله ( مثل الفرخ ) بفتح الفاء وسكون
الراء ، ولد الطير عند خروجه من البيضة ، يعني أضعفه المرض حتى صار ضعيفا مثل
الفرخ لضعفه وكثرة نحافته ، وفي الأدب المفرد (( دخل على رجل قد جهد من المرض
فكأنه فرخ منتوف )) أي ولد الطائر الذي استوصل ريشه ، وفي شرح السنة (( عاد رجلا
قد صار مثل الفرخ المنتوف )) ( هل كنت تدعو الله بشيء أو
تسأله إياه ؟ قال : نعم ، كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فجعله لي
في الدنيا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سبحان الله لا تطيقه ولا
تستطيعه ، أفلا قلت : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
؟ قال : فدعا الله به فشفاه الله . رواه مسلم .
2527- (22) وعن حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا ينبغي
للمؤمن أن يذل نفسه . قالوا : وكيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/68)
تسأله إياه ) ؟ قيل : هو شك من الراوي . وقال الطيبي : والظاهر أنه من كلامه - صلى الله عليه وسلم - أي هل كنت تدعو الله بشيء من الأدعية التي يسئل فيها مكروه ؟ أو هل سألت الله البلاء الذي أنت فيه ؟ وعلى هذا فالضمير المنصوب عائد إلى البلاء الذي دل عليه الحال ، وينبئ عنه (( خفت )) فيكون قد عم أولا وخص ثانيا ، وفي الترمذي : أما كنت تدعو ، أما كنت تسأل ربك العافية ؟ ( قال : نعم ) فيه دلالة على أن أو للشك من الراوي لا للترديد منه - صلى الله عليه وسلم - ، قاله القاري . ( ما كنت معاقبي به ) ما شرطية أو موصولة ( فعجله لي في الدنيا ) يعني فاستجاب الله دعاءه وابتلاه بالمرض حتى ضعف وصار مثل الفرخ كما تقدم ( سبحان الله ) تعجب من الداعي في هذا المطلب ( لا تطيقه ) أي في الدنيا ( ولا تستطيعه ) أي في العقبى أو كرر للتأكد ، قاله القاري . قلت : كذا في جميع النسخ من المشكاة أي بواو العطف وهكذا وقع في مسند الإمام أحمد وفي جامع الأصول وجمع الفوائد ، والذي في مسلم والترمذي ، وشرح السنة (( لا تطيقه أو لا تستطيعه )) أي بأو للشك من الراوي ، والظاهر أن ما في المشكاة سهو من الناسخ أو تبع المؤلف في ذلك صاحب جامع الأصول ( أفلا قلت ) أي بدل ما قلت ( اللهم آتنا في الدنيا حسنة ) ألخ ، معناه أنه لو قال ذلك لغفر الله له ذنوبه وعافاه من المرض ( قال ) أي أنس ( فدعا الله به ) أي دعا الرجل بهذا الدعاء الجامع ( فشفاه الله ) وفي مسلم (( قال : فدعا الله له فشفاه )) قال النووي : في هذا الحديث النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة ، وفيه فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وفيه جواز التعجب بقول : سبحان الله ، وقد سبقت نظائره ، فيه استحباب عيادة المريض والدعاء له ، وفيه كراهة تمني البلاء لئلا يتضجر منه ويسخطه وربما شكا . وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة في الدنيا أنها العبادة والعافية ، وفي
(17/69)
الآخرة الجنة والمغفرة ، وقيل
: الحسنة نعم الدنيا والآخرة ( رواه مسلم ) في الدعوات ، وأخرجه أيضا أحمد (ج ص )
، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 ص191) ، والترمذي في الدعوات ، والبغوي (ج5 ص181 ،
182) وانتهت روايتهما عند قوله (( عذاب النار )) .
2527- قوله ( لا ينبغي للمؤمن ) أي لا يجوز له ( أن يذل ) بضم الياء وكسر الذال
المعجمة من الإذلال ( قالوا : وكيف يذل يا نفسه ) وجه استبعادهم أن الإنسان مجبول
على حب إعزاز نفسه ، قاله القاري . ( قال : يتعرض ) أي
من البلاء لما لا يطيق . رواه الترمذي ، وابن ماجة ، والبيهقي في شعب الإيمان ،
وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
2528- (23) وعن عمر رضي الله عنه قال : علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال : قل : اللهم اجعل سريرتي خيرا من علانيتي ، واجعل علانيتي صالحة ، اللهم إني
أسألك من صالح ما تؤتي الناس من الأهل ، والمال ، والولد غير الضال ولا المضل .
رواه الترمذي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتصدى ( من البلاء) إما بالدعاء على نفسه به أو بأن يأتي بأسبابه العادية ، وهو
بيان مقدم لقوله (( لما لا يطيق )) . ( رواه الترمذي ، وابن ماجة ) كلاهما في
الفتن ، ( والبيهقي في شعب الإيمان ) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص405) ، ( وقال الترمذي
: هذا حديث حسن غريب ) في سنده عندهم علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف ، وإنما حسن
حديثه الترمذي لأنه صدوق عنده .
(17/70)
2528- قوله ( علمني رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - ) أي دعاء ( قال ) بيان لقوله علمني ( اللهم اجعل سريرتي )
هي والسر بمعنى وهو ما يكتم ( خيرا من علانيتي ) بالتخفيف ( واجعل علانيتي صالحة )
طلب أولا سريرة خيرا من العلانية ثم عقب بطلب علانية صالحة لدفع توهم أن السريرة
ربما تكون خيرا من علانية غير صالحة ( اللهم إني أسألك من صالح ما تؤتي الناس )
قيل : من زائدة كما هو مذهب الأخفش وقوله ( من الأهل والمال والولد ) لبيان ما
ويجوز أن تكون للتبعيض ، وقوله (( من الأهل والمال )) كذا في جميع النسخ من
المشكاة وهكذا في جامع الأصول ، ووقع في الترمذي ، (( من المال والأهل )) أي
بتقديم المال على الأهل ( غير الضال ) أي بنفسه ( ولا المضل ) أي لغيره . قال
الطيبي : مجرور بدل من كل واحد من الأهل والمال والولد ، ويجوز أن يكون الضال
بمعنى النسبة أي غير ذي ضلال ( رواه الترمذي ) في الدعوات عن محمد بن حميد عن علي
بن أبي بكر عن الجراح بن الضحاك عن أبي شيبة عن عبد الله بن عكيم عن عمر . وقال :
هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي - انتهى . قلت : محمد
بن حميد بن حيان ضعيف ، وأبو شيبة قال في التقريب : أبو شيبة عن عبد الله بن عكيم
يحتمل أن يكون أحد هؤلاء وإلا فمجهول من السادسة . والمراد بهؤلاء المكنون بأبي
شيبة المذكور قبله وفيهم ثقات وضعفاء ولا يدري من هذا منهم ، ولذلك ضعف الترمذي
هذا الحديث .
(10) كتاب المناسك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/71)
( كتاب المناسك ) أي مناسك
الحج وهكذا عقد النسائي في سننه والطحاوي في شرح معاني الآثار ، وهو جمع المنسك
بفتح السين وكسرها وقرئ بهما في السبعة قوله تعالى : ? لكل أمة جعلنا منسكا ? (-
22 : 34) وهو مصدر ميمي من نسك ينسك إذا تعبد ثم سميت أفعال الحج كلها مناسك ،
قاله القاري . وقال ابن جرير : أصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي
يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شر ، يقال : إن لفلان منسكا يعتاده ، وإنما سميت
مناسك الحج بذلك لتردد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحج والعمرة ،
وقال العيني : المناسك جمع منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ويقع على المصدر
والزمان والمكان ، ثم سميت أمور الحج كلها مناسك ، والمنسك المذبح ، وقد نسك ينسك
نسكا إذا ذبح والنسيكة الذبيحة وجمعها نسك ، والنسك أيضا الطاعة والعبادة وكل ما
تقرب به إلى الله عز وجل ، والنسك ما أمرت به الشريعة والورع وما نهت عنه ،
والناسك العابد وسئل ثعلب عن الناسك ما هو ؟ فقال : هو مأخوذ من النسكية وهي سبيكة
الفضة المصفاة كأن الناسك صفي نفسه لله تعالى - انتهى . والحج بفتح الحاء وكسرها
لغتان قرئ بهما قوله تعالى ? ولله على الناس حج البيت ? (- 3 : 97) في السبع وأكثر
السبعة على الفتح ، وفي أمالي الهجري أكثر العرب يكسرون الحاء فقط ، ونقل الطبري
أن الفتح لغة أهل نجد والكسر لغيرهم . والحجة فيها لغتان أيضا فتح الحاء وكسرها
فمعناه على الفتح الفعلة من الحج ، أي المرة وعلى الكسر الحالة والهيئة كالتلبية
والإجابة . وقال الجوهري : والحجة بالكسر المرة الواحدة وهو من الشواذ لأن القياس
بالفتح وهو مبني على اختياره أنه بالفتح الاسم . ومعنى الحج في اللغة القصد هكذا
أطلقه أئمة اللغة ، وقيده بعضهم بكثرة القصد إلى معظم ، واستدل بقول المخبل السعدي
:
وأشهد من عوف حلولا ( ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا (
(17/72)
يقول : يأتونه مرة بعد أخرى
لسؤدده وارجع لشرح البيت إلى هامش القرى لقاصد أم القرى (ص35) . وقيل : هو إطالة
الاختلاف إلى الشيء واختاره ابن جرير ، وقال الحافظ : أصل الحج في اللغة القصد .
وقال الخليل : كثرة القصد إلى معظم ، وفرق بعضهم بين فتح الحاء وكسرها فنقل الطبري
عن حسين الجعفي أن الفتح الاسم والكسر المصدر وعن غيره عكسه . وقال النووي : الحج
بالفتح هو المصدر وبالفتح والكسر جميعا الاسم منه . وقال سيبوبه : المكسور مصدر
واسم للفعل ، والمفتوح مصدر فقط . وقال ابن السكيت : بفتح الحاء القصد وبالكسر
القوم الحجاج ، والحاج الذي يحج ، وربما يظهرون التضعيف في ضرورة الشعر ، قال :
بكل شيخ عامر أو حاجج
ويجمع على حجاج وحجيج وحجج بضم الحاء كبازل وبزل ونازل ونزل وعائذ وعوذ ومعناه في
عرف الشرع القصد إلى زيارة البيت الحرام على وجه التعظيم في وقت مخصوص بأفعال
مخصوصة كالطواف والسعي والوقوف بعرفة وغيرها
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/73)
بإحرام ، وقيل : هو زيارة مكان مخصوص وهو البيت العتيق في زمان مخصوص وهو أشهر الحج لعمل مخصوص وهو الطواف والسعي والوقوف محرما وهو فرض بالكتاب والسنة والإجماع وجاحده كافر عند الكل بلا نزاع ، وقال الحافظ : وجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة ، وقال ابن قدامة : والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع وأما سبب الحج فهو البيت لأنه يضاف إليه ولذا لا يجب في العمرة إلا مرة واحدة لعدم تكرار السبب ، قال الحافظ : أجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر - انتهى . وفي شرح الإقناع : وكالقضاء عند إفساد التطوع ، وأما ما رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما وأبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والطبراني في الأوسط والبيهقي في سننه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا (( يقول الله تبارك وتعالى : إن عبدا صححت له جسمه وأوسعت له في رزقه يأتي عليه خمس سنين لا يفد إلي لمحروم )) فهو محمول على الندب يدل على ذلك حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثاني : الحج مرة فمن زاد فهو تطوع واختلف هل هو على الفور أو التراخي فقال بالأول مالك وأحمد وأبو يوسف والمزني من أصحاب الشافعي ، وقال بالثاني الشافعي والثوري والأوزاعي ومحمد بن الحسن ونقله الماوردي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس ، واختلفت الرواية فيه عن أبي حنيفة قال ابن قدامة : من وجب عليه الحج وأمكنه فعله وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره ، أي فيأثم إن أخره بلا عذر وبهذا قال أبو حنيفة ومالك ، وقال الشافعي : يجب الحج وجوبا موسعا وله تأخيره لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر على الحج وتخلف بالمدينة لا محاربا ولا مشغولا بشيء وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج ، ولأنه إذا أخره ثم فعله في السنة الأخرى لم يكن قاضيا له دل على أن وجوبه على التراخي ، ثم بسط ابن قدامة في الاستدلال على وجوبه على الفور ، والجواب عما استدل به القائلون بالتراخي ، وقال
(17/74)
النووي في مناسكه : إذا وجدت
شرائط الوجوب وجب على التراخي فله تأخيره ما لم يخش العضب فإن خشيه حرم عليه
التأخير على الأصح ، وإذا أخر فمات تبين أنه مات عاصيا على الأصح لتفريطه ، وقال
الزبيدي في شرح الإحياء (ص ) : اختلف فيه عند أصحابنا فقال أبو يوسف : هو في أول
أوقات الإمكان فمن أخره عن العام الأول أثم ، وهو أصح الروايتين عن أبي حنيفة كما
في المحيط والخانية وشرح المجمع ، وفي القنية أنه المختار . قال القدوري : وهو قول
مشائخنا وبالتراخي قال محمد . لكن جوازه مشروط بأن لا يفوته حتى لو مات ولم يحج
أثم عنده أيضا ، ووقت الحج عند الأصوليين يسمى مشكلا لوجهين . الوجه الأول أنه
يشبه المعيار ، لأنه لا يصح في عام واحد إلا حج واحد ، ويشبه الظرف لأن أفعاله لا
تستغرق أوقاته . والوجه الثاني أن أبا يوسف لما قال بتعيين أشهر الحج من العام
الأول جعله كالمعيار ومحمد لما قال بعدمه جعله كالظرف ولم يجزم كل منهما بما قال
فإن أبا يوسف لو جزم بكونه معيارا لقال من أخره عن العام الأول يكون قضاء لا أداء
مع أنه لا يقول به ، بل يقول إنه يكون أداء ، ولقال إن التطوع في العام الأول لا
يجوز مع أنه لا يقول به بل يقول إنه يجوز ، وإن محمدا لو جزم بكونه ظرفا لقال إن
من أخره عن العام الأول لا يأثم أصلا لا في مدة حياته ولا
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/75)
في آخر عمره مع أنه لا يقول به بل يقول : إن مات ولم يحج أثم في آخر عمره فحصل الإشكال ، ثم إن القائل بالفور لا يجزم بالمعيارية ، والقائل بالتراخي لم يجزم بالظرفية بل كل منهما يجوز الجهتين لكن القائل بالفور يرجح جهة المعيارية ويوجب أداءه في العام الأول حتى لو أخره عنه بلا عذر أثم لتركه الواجب لكن لو أداه في العام الثاني كان أداء لا قضاء ، والقائل بالتراخي يرجح جهة الظرفية حتى لو أداه بعد العام الأول لا يأثم بالتأخير لكن لو أخره فمات ولم يحج أثم في آخر عمره ، وقال بعض أصحابنا المتأخرين : والمعتمد أن الخلاف في هذه المسألة ابتدائي فأبو يوسف عمل بالاحتياط لأن الموت في سنته غير نادر فيأثم ، ومحمد حكم بالتوسع لظاهر الحال في بقاء الإنسان - انتهى . قال الشوكاني في السيل الجرار (ج2 ص159) : أما الخلاف في كون الحج على الفور أو التراخي فمرجعه ما وقع في الأصول من الخلاف في صيغة الإيجاب هل هي للفور أو للتراخي ، وقد دل على الفور عند الاستطاعة الأحاديث الواردة في الوعيد لمن وجد زادا ولم يحج وهي وإن كان فيها مقال فمجموع طرقها منتهض . واستدل القائلون بالتراخي بما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - من تأخير حجه إلى سنة عشر مع كون فرض الحج نزل في سنة خمس أو ست على خلاف في ذلك - انتهى . قلت : استدل لأحمد ومالك ومن وافقهما بقوله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? (- 2 : 196) والأمر يقتضي الفور ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - تعجلوا الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدرى ما يعرض له . وأخرجه أحمد ، والبيهقي من حديث ابن عباس ، وبما سيأتي في الفصل الثاني من حديث ابن عباس (( من أراد الحج فليعجل )) ومن حديث علي (( فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا )) وفي الفصل الثالث من حديث أبي أمامة (( من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة )) ألخ وبقوله صلى الله عليه وسلم (( حجوا قبل أن لا تحجوا )) الحديث
(17/76)
أخرجه الدارقطني من حديث أبي
هريرة ، وارجع للجواب عن ذلك إلى القرى لقاصد أم القرى (ص 37) وإلى الفتح الرباني
(ج11 ص21) وكيف ما كان الأمر التسارع إلى أدائه مطلوب والأحوط هو التعجيل للمستطيع
بقدر الإمكان لأن الأجل غير معلوم وحينئذ يشكل تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم -
في حجه إلى العاشرة مع فرضيته قبل ذلك سنة خمس أو ست أو سبع أو ثمان على اختلاف في
ذلك والقائلون بالفور أشد احتياجا إلى الاعتذار عن ذلك ، والتخلص من هذا الإشكال
وقد أجيب بأنه اختلف في الوقت الذي فرض فيه الحج على أقوال ومن جملتها أنه فرض سنة
تسع حكاه النووي في الروضة وصححه القاضي عياض والقرطبي ، ومنها أنه تأخر نزوله إلى
أواخر تسع أو إلى سنة عشر حكاه العيني عن أمام الحرمين ، وبه جزم ابن القيم في
الهدي (ج1 ص180) ، وعلى هذا فلا تأخير لأنه لما فرض الحج بقوله تعالى : ? ولله على
الناس حج البيت ? ( - 3 : 97 ) في أواخر السنة التاسعة وهي سنة الوفود أو في
العاشرة بادر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج من غير تأخير ، وأما قوله
تعالى :
?وأتموا الحج والعمرة لله ? ( - 2 : 196 ) فإنه وإن نزل سنة ست عام الحديبية فليس
فيه فريضة الحج وإنما فيه الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيها وذلك لا
يقتضي
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/77)
وجوب الابتداء ولو سلم أنه فرض من قبل العاشرة سنة خمس لما وقع في قصة ضمام بن ثعلبة من ذكر الأمر بالحج وكان قدومه على ما ذكر الواقدي ومحمد بن حبيب سنة خمس ، أو فرض سنة ست كما هو المشهور عند الجمهور بناء على أنها نزل فيها قوله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? وأن المراد بالإتمام ابتداء الفرض لما ورد في قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ : (( وأقيموا )) أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم فكان تراخيه - صلى الله عليه وسلم - لعذر مع علمه ببقاء حياته ليكمل التبليغ وسيأتي بيان العذر في ذلك والإشكال إنما هو في التراخي مع عدم العذر . قال ابن الهمام : إن تأخيره عليه الصلاة والسلام ليس يتحقق فيه تعريض الفوات وهو الموجب للفور لأنه كان يعلم أنه يعيش حتى يحج ويعلم الناس مناسكهم تكميلا للتبليغ . قال القاري : والأظهر أنه عليه الصلاة والسلام أخره عن سنة خمس أو ست لعدم فتح مكة ، وأما تأخيره عن سنة ثمان فلأجل النسيء وأما تأخيره عن سنة تسع فلما ذكرنا في رسالة مسماة بالتحقق في موقف الصديق وقال ابن رشد في مقدماته : أما قول من قال إن حجة أبي بكر كانت تطوعا لأنه حج في ذي القعدة قبل وقت الحج على النسيء وإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أخر إلى عام عشر ليوقعه في وقته فليس ذلك عندي بصحيح بل حج أبي بكر في ذي القعدة هو وقته حينئذ شرعا ودينا قبل أن ينسخ النسيء ثم حج النبي في ذي الحجة من العام المقبل وأنزل الله ? إنما النسيء زيادة في الكفر ? (9 : 37) فنسخ ذلك النسيء ولو كان في الحج فرض في ذي الحجة ونسخ النسيء عند فرض الحج قبل حج أبي بكر لما حج أبو بكر في ذلك العام إلا في ذي الحجة ولا مكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في ذلك العام لو شاء فيه فالصحيح أنه إنما أخر الحج في ذلك العام للعراة الذين كانوا يطوفون بالبيت من المشركين حتى يعهد إليهم في ذلك ما جاء في
(17/78)
الحديث لا ليوقعه في ذي الحجة
إذ كان قادرا على أن يوقعه في ذلك العام في ذي الحجة - انتهى . وقال التوربشتي في
شرح المصابيح : قد ذهب قوم إلى أن تأخير الحج بعد الفتح إنما كان للنسيء المذكور
في كتاب الله وهو تأخير الأشهر عن مواضعها حتى عاد الحساب في الأشهر إلى أن أصله
الموضع الذي بدأ الله به في أمر الزمان يوم خلق السماوات والأرض وإليه أشار النبي
- صلى الله عليه وسلم - بقوله : إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض
. وهذا التأويل في سنة عتاب بن أسيد ( أي في سنة ثمان بعد الفتح ) محتمل ، وفي
العام الذي بعث أبا بكر أميرا على أهل الموسم غير المحتمل لأن النبي - صلى الله
عليه وسلم - لم يكن ليأمر بالحج في غير وقته المعلوم ، وقد ذكر بعض أهل العلم
بالسير أن الحج عام الفتح وقع في ذي القعدة على الحساب الذي ابتدعوه وكانوا ينسأون
في كل عامين من شهر إلى شهر وكان الحج عام حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذي
الحجة على الحساب القويم وإنما وجه استينائه بالحج إلى السنة العاشرة - والله أعلم
- هو أن لم يرض أن يحضر الموسم وأهل الشرك حضور هناك ، لأنه لو تركهم على ما
يتدينون به من هديهم المخالف لدين الحق لكان ذلك وهنا في الدين ، ولو منعهم لأفضى
ذلك إلى التشاغل إلى ما أرادوه من النسك بالقتال ثم إلى استحلال حرمة الحرم ، وقد
كان أخبر يوم الفتح أن حرمتها عادت إلى ما كانت عليه ، وأنه لم يحل له إلا ساعة من
النهار فرأى أن يبعث الناس إلى الحج وينادي في أهل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/79)
الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ليكون حجه خاليا عن العوارض التي ذكرناها ، وقد ذكرنا لذلك وجوها غيرها في كتاب المناسك واكتفينا ها هنا بالقول الوجيز إيثارا للاختيار - انتهى . قال الأبي المالكي في شرح صحيح مسلم : والقول بالتراخي إنما هو ما لم يخف الفوات وخوفه يكون بعلو السن وخوف تعاهد الأمراض ، وعلو السن حده ابن رشد بالستين . والله أعلم . واختلف في أن الحج كان واجبا على الأمم قبلنا أم وجوبه مختص بنا ؟ قال القاري : الأظهر الثاني ، واختار ابن حجر الأول مستدلا بقوله : (( ما من نبي إلا وحج )) فهو من الشرائع القديمة ، وجاء أن آدم عليه السلام حج أربعين سنة من الهند ماشيا . قال القاري : وهذا كما ترى لا دلالة فيه على إثباته ولا على نفيه وإنما يدل على أنه مشروع فيما بين الأنبياء ولا يلزم من كونه مشروعا أن يكون واجبا مع أن الكلام إنما هو في الأمم قبلنا ، ولا يبعد أن يكون واجبا على الأنبياء دون أممهم ، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام لما بلغ عسفان في حجة الوداع قال : لقد مر به هود وصالح على بكرين أحمرين خطهما الليف وأزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت العتيق رواه أحمد - انتهى . وأما فضل الحج فمشهور قد وردت فيه النصوص الحديثية الكثيرة الصحيحة وسيأتي بعضها في الكتاب وأما حكمه وأسراره وفوائده ومصالحه المرعية فيه فهي أكثر من أن تحصى ولا يوفيها بيانا إلا التصانيف المستقلة وقد نوه بها حكماء الإسلام وأشادوا بها في مؤلفاتهم ولنلم بنبذة منها ليقف القارئ على قل من كثر من أسرار شريعته الرشيدة وأهدافها الحميدة فيرى أن له دينا يهدف بعبادته إلى صلاح الدين والدنيا . قال صاحب تيسير العلام شرح عمدة الأحكام : هذا المؤتمر الإسلامي العظيم وهذا الاجتماع الحاشد فيه من المنافع الدينية والدنيوية والثقافية والاجتماعية والسياسية ما يفوت الحصر والعد ، أما الدينية فما يقوم به الحاج من هذه
(17/80)
العبادة الجليلة التي تشتمل
على أنواع من التذلل والخضوع بين يدي الله تعالى فمنها تقحم الأسفار وإنفاق
الأموال والخروج من ملاذ الحياة بخلع الثياب واستبدالها بإزار ورداء حاسر الرأس
وترك الطيب والنساء وترك الترفة بأخذ الشعور والأظفار ثم التنفل بين هذه المشاعر .
كل هذا بقلوب خاشعة وأعين دامعة وألسنة مكبرة ملبية قد حدا بهم الشوق إلى بيت ربهم
ناسين في سبيل ذلك الأهل والأوطان والأموال والنفس النفيس . وأما الثقافية فقد أمر
الله بالسير في الأرض للاستبصار والاعتبار ففيه من معرفة أحوال الناس والاتصال بهم
والتعرف على شئون الوفود التي تمثل أصقاع العالم كله ما يزيد الإنسان بصيرة وعلما
إذا تحاك بعلمائهم واتصل بنبهائهم فيجد لكل علم وفن طائفة تمثله . وأما الاجتماعية
والسياسية فإن الحج مؤتمر عظيم يضم وفودا متنوعة العلوم مختلفة الثقافات متباينة
الاتجاهات والنزعات فإذا كل حزب بحزبه وطائفة بشبيهتها ومثلوا (( لجان الحكومة
الواحدة )) ودرسوا وضعهم الغابر والحاضر والمستقبل . ورأوا ما الذي أخرهم وما الذي
يقدمهم وما هي أسباب الفرقة بينهم وما أسباب الائتلاف والاجتماع وتوحيد الكلمة ؟
وبحثوا شئونهم الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/81)
على أساس المحبة والوئام وبروح الوحدة والالتئام وأصبحوا يدا واحدة ضد عدوهم وقوة مرهوبة في وجه المعتدي عليهم وبهذا يصير لهم كيان مستقل خاص له مميزاته وأهدافه ومقاصده يسمع صوته ويصغى إلى كلمته ويحسب له ألف حساب وبهذا يعود للمسلمين عزهم ويرجع إليهم سؤددهم ويبنون دولة إسلامية دستورها كتاب الله وسنة رسوله وشعارها العدل والمساواة وهدفها الصالح العام وغايتها الأمن والسلام حينئذ تتجه إليهم أنظار الدنيا وتسلم الزمام بأيديهم فيقوضون مجالس بنيت على الظلم والبغي ويبنون على أنقاضها العدل والإحسان وبهذا يقر السلام ويستتب الأمن وتتجه المصانع النهوج التي تصنع للموت الذريع أسلحة الدمار والخراب إلى أن تخترع المعدات التي تساعد على التثمير والتصنيع وإخراج خيرات الأرض فتحقق حكمة الله بخلقه حيث يحل الخصب والرخاء والأمن والسلام ، مكان الجدب والغلاء والخوف والدماء ، وإذا علم المسلم المؤمن ثمرات هذه الاجتماعيات الإسلامية فهم جيدا أن له دينا عظيما جليل القدر يقصد منها بعد عبادة الله صلاح الكون واتساقه لأن الاجتماع هو أعظم وسيلة لجمع الأمة وتوحيد الكلمة ، ولذا فإنه عني بالاجتماعات عناية عظيمة تحقيقا للمقاصد الكريمة ، ففرض على أهل المحلة الاجتماع في مسجدهم كل يوم خمس مرات ، وفرض على أهل البلد عامة الاجتماع للجمعة في كل أسبوع ، وفرض على المسلمين الاجتماع في كل عام - انتهى . وقال الشيخ مصطفى السقاء في مقدمته على القرى لقاصد أم القرى : لفريضة الحج من الفضائل النفسية والاجتماعية ما لا يخفى على المتأمل فمن أول تلك الفضائل تعظيم ذلك البيت المقدس وعمارته إذ هو الرمز الباقي لقيام ديانة التوحيد في الأرض ، وخلاص الإنسان من فوضى الوثنية والنحل الزائغة الضالة ? إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ? (3 : 96) ومن ذلك تعمير الأرض المقدسة التي حضنت ذلك
(17/82)
الدين الجديد دين التوحيد إلى
أن ترعرع وقوى ، ونما وانتشر وقضى على الأوثان والأصنام في جزيرة العرب أولا ،
فلولا هذه البيئة البعيدة عن معترك الحياة الصاخبة بتيارات المدنيات وغطرسة الملوك
والجبابرة لم يتح لهذا الدين أن ينمو ويذيع ، وحسبنا دليلا على هذا ما لقيه إبراهيم
من اضطهاد بين قومه وعشيرته حتى اضطروا إلى الهجرة بدينه من بلاده ، والآية
الكريمة ? ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا
الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ? (14 :
37) مفصحة بهذا المعنى أي إفصاح . ثم بسط في ذكر المنافع السياسية والاجتماعية
بنحو ما تقدم ، ثم قال : أما الفائدة التهذيبية التي يجنيها الحاج من رحلته فهي
رياضة النفس وتذليلها فإن أعمال الحج منذ يشرع الحاج في توجيه النية والنطق
بالتلبية تدخل في نفسه شعورا قلبيا بالقرب من الله ولا يزال هذا الشعور ينمو ويزيد
كلما اقترب من الأماكن المقدسة حتى إذا حل تلك الرحاب النضرة والساحات المطهرة
وانغمس في أداء الأعمال شعر بسمو روحي وفيض إلهي يدب في نفسه وينتقل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/83)
به من حال إلى حال حتى ينتهي إلى احتقار سلطان المادة وتأثيره في النفس ، وهذا الفيض الشعوري تمتزج فيه العناصر الروحية بعضها ببعض وتتجاوب في النفس وتتبين آثارها في الإرادة والعمل من تعظيم للدين وحب شديد للرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح من الأمة وغيرة على المجتمع الإسلامي ورغبة في إسعاده ، ومن ندم على ما سبق من التفريط في جنب الله ورغبة في استدراك ما فات في أزمان الغفلة وغرة الشباب من الطاعات والقربات وهذه الرياضة النفسية هي ثمرة الحج الكبرى حتى إذا انتهت أعماله وعاد الحاج إلى وطنه وأهله لم يفارقه ذلك الشعور الرباني ولا ريب أن كثيرا ممن حجوا مخلصين لله تتأثر حياتهم بذلك الشعور الفياض الذي كسبوه في أثناء ارتحالهم في الأراضي المقدسة وتلمح في أخلاقهم الاستقامة والإقلاع عن كثير من المساوي التي كانت تشوب حياتهم قبل الحج ومثل هذا يسمى الحج المبرور الذي يتقبله الله ويعظم الثواب عليه ، كما جاء في الحديث . ثم ذكر ما يحصل في هذا السفر الطويل الشاق من فائدة تعويد المسافر خلال تلك الرحلة احتمال كثير من المشقات بالتنقل المستمر لأداء المناسك ونقل الأمتعة والأزواد ونصب الخيام أو تقويضها وإعداد الرواحل أو السيارات وغير ذلك من الأعمال الشاقة ، ثم قال : وبعض الحجاج يلتمسون مع أداء فريضة الحج في هذا الموسم ضروبا من النفع المادي فينقلون المتاجر من شتى البلاد إلى الحجاز ويبيعونها هناك ويتزودون لبلادهم وأهليهم من طرائف الحجاز ومما يحمله إليه الناس من سائر البقاع والأصقاع ، وليس هذا العمل محرما في الدين تقول الآية الكريمة ? ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ? (2 : 198) وتقول آية أخرى ? وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ? (22 : 27 ، 28) ومن هذه
(17/84)
المنافع التجارة التي يقوم
عليها الموسم ويمكن أن تجعل البلاد المقدسة سوقا إسلامية للتجارة ( بدل أن تكون
سوقا تجارية لمصنوعات : أوربا ، وروسيا ، وأمريكا ، ، واليابان ، والصين . وغير
ذلك من بلاد الشرق والغرب ) كما كانت في القرون الإسلامية الأولى سوقا من أعظم
الأسواق بين الممالك الإسلامية الشرقية والغربية ومن أعظم الأسباب لنشر الحضارة
والثقافة في أحقاب طويلة ، فقد كان التجار يتحينون موسم الحج لينقلوا حاصلات
بلادهم وثمرات اجتهادهم إلى مكة والمدينة حيث يجتمع العديد الأكبر فيقبل الناس على
اقتناء الطرف والنفائس من الثياب والحلي والطنافس والأواني النحاسية وأنواع الطيب
ونحو ذلك ويتخذون منها الهدايا للأهل والأصحاب ، وكان العلماء وأصحاب الفنون
يلتقون في الموسم فيأخذ بعضهم عن بعض ويتبادلون الكتب والآثار العلمية والفنية
وخاصة علماء الحديث الذين يجدون في هذا الموسم أحسن الفرص للرواية والإجازة وكان
هذا التبادل التجاري والثقافي في جميع مظاهره من أحسن الوسائل لتعميم الحضارة وبعث
روح التنافس الجدي بين المسلمين في الممالك والأقطار المختلفة - انتهى . وقال
الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (ج2 : ص42) : المصالح المرعية في الحج
أمور منها تعظيم البيت فإنه من شعائر الله وتعظيمه هو تعظيم الله تعالى ومنها
تحقيق معنى العرضة فإن لكل دولة أو ملة اجتماعا يتوارده الأقاصي والأداني ليعرف
فيه بعضهم بعضا ويستفيدوا أحكام
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/85)
الملة ويعظموا شعائرها ، والحج عرضة المسلمين وظهور شوكتهم واجتماع جنودهم وتنويه ملتهم وهو قوله تعالى : ? وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ? (2 : 125) ومنها موافقة ما توارث الناس عن سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فإنهما إماما الملة الحنيفية ومشرعاها للعرب والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث لتظهر به الملة الحنيفية وتعلو به كلمتها وهو قوله تعالى : ? ملة أبيكم إبراهيم ? (22 : 78) فمن الواجب المحافظة على ما استفاض عن إماميها كخصال الفطرة ومناسك الحج وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم ومنها الاصطلاح على حال يتحقق بها الرفق لعامتهم وخاصتهم كنزول منى والمبيت بمزدلفة فإنه لو لم يصطلح على مثل هذا لشق عليهم ولو لم يسجل عليه لم تجتمع كلمتهم عليه مع كثرتهم وانتشارهم . ومنها الأعمال التي تعلن بأن صاحبها موحد تابع للحق متدين بالملة الحنيفية شاكر لله على ما أنعم على أوائل هذه الملة كالسعي بين الصفا والمروة ، ومنها أن أهل الجاهلية كانوا يحجون وكان الحج أصل دينهم ولكنهم خلطوا أعمالا ما هي مأثورة عن إبراهيم عليه السلام وإنما هي اختلاق منهم وفيها إشراك لغير الله كتعظيم أساف ونائله وكالإهلال لمناة الطاغية وكقولهم في التلبية : لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، ومن حق هذه الأعمال أن ينهي عنها ويؤكد في ذلك ، وأعمالا انتحلوها فخرا وعجبا كقول حمس : نحن قطان الله فلا نخرج من حرم الله فنزل : ? ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ? ومنها أنهم ابتدعوا قياسات فاسدة هي من باب التعمق في الدين ، وفيها حرج للناس ومن حقها أن تنسخ وتهجر كقولهم : يجتنب المحرم دخول البيوت من أبوابها وكانوا يستورون من ظهورها ظنا منهم أن الدخول من الباب ارتفاق ينافي هيئة الإحرام فنزل : ? وليس البر بأن تأتوا
(17/86)
البيوت من ظهورها ? (2 : 189)
وككراهيتهم في التجارة موسم الحج ظنا منهم أنها تخل بإخلاص العمل لله فنزل : ? ليس
عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ? (2 : 198) وكاستحبابهم أن يحجوا بلا زاد
ويقولون : نحن المتوكلون وكانوا يضيقون على الناس ويعتدون فنزل : ? وتزودوا فإن
خير الزاد التقوى ? (2 : 197) انتهى باختصار يسير . قلت : شرع الحج لجميع هذه
الفوائد والمصالح المذكورة وغيرها مما نعلم منها الكثير ونجهل منها الكثير ، وربما
كان ما نجهله ونتمتع به أكثر مما نعرفه فقد قال الله تعالى : ? ليشهدوا منافع لهم
? (22 : 28) فأطلق المنافع ونكرها وأبهمها ودل هذا التعبير البليغ على كثرتها
وتنوعها وتجددها في كل زمان وأنها أكثر من أن يأتي عليها الإحصاء والاستقصاء
ويحيطها المحيطون ولكن من أوضح ملامح الحج والروح المسيطرة على جميع أعماله
ومناسكه هو الحب والهيام والوله والتفاني وإعطاء زمام الجسم والفكر للقلب والعاطفة
وتقليد العشاق والمحبين إمامهم وزعيمهم إبراهيم الخليل فحينا طواف الحب والهيام
حول البيت الحرام وحينا تقبيل الحجر الأسود والاستلام وحينا سعى بين غايتين وتقليد
ومحاكاة للأم الحنون حتى في تؤدتها ووقارها وفي جريها وهرولتها . ثم قصد لمنى في
يوم معين هو يوم التروية ، ثم قصد
( الفصل الأول )
2529- (1) عن أبي هريرة ، قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا
أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/87)
إلى عرفات ووقوف بساحتها ودعاء وابتهال ثم بيتوتة في المزدلفة وعودة إلى منى فرمي ونحر وحلق اقتداء بسنة إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم قلت : وزعم بعض المتنورين أن الحج مؤتمر سياسي ثقافي فحسب وليس كذلك فإنه لو كانت هذه هي الحكمة التي شرع لها الحج استقرار وساده جو من الهدوء يساعد على ذلك ولكنه اضطراب وانتقال من مكان إلى مكان ومن نسك إلى نسك ، ولكانت دعوة مقصورة على العلماء والزعماء والأذكياء والنبهاء وعلى الخاصة من المسلمين ، إنها لا شك ثمرة من ثمرات الحج ولكن ليست هي الغاية التي شرعت لها هذه الفريضة العظيمة وفرضت على المسلمين فقال : ? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ? (3 : 97) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا . ولكان له وضع غير هذا الوضع ومكان غير هذا المكان القاحل النائي ، إنه عبادة ونسك ، وطاعة وانقياد وحب وهيام واتصال بمؤسس هذه الملة وتجديد العهد بالمركز الروحي والمنبع الأصيل وتقليد للمحبين وتمثيل لما جرى لهم وتذكير للرحيل من دار الفناء إلى دار القرار والبقاء ويتبع ذلك فوائد وحكم وأسرار لا يحصيها إلا الله ، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء منها .
(17/88)
2529- قوله ( خطبنا رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - ) ، أي خطب لنا عام فرض الحج فيه أو ذكر لنا أثناء خطبة له
. قال الأبي : يمنع أن يكون هذه الخطبة في الحج لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما
حج في العاشرة وفرض الحج كان سابقا ، قيل سنة خمس وقيل تسع إلا أن يكون قاله أيضا
في حجة الوداع ( قد فرض ) بصيغة المجهول ( فحجوا ) بضم الحاء المهملة صيغة الأمر (
فقال رجل ) هو الأقرع بن حابس كما في حديث ابن عباس أول أحاديث الفصل الثاني ( أكل
عام ؟ ) بالنصب لمقدر ، أي أتأمرنا أن نحج كل عام ؟ أو أفرض علينا أن نحج كل عام ؟
وفي النسائي : فقال رجل : في كل عام ؟ أي هو مفروض على كل إنسان مكلف في كل سنة أو
هو مفروض عليه مرة واحدة ؟ قال النووي : واختلف الأصوليون في أن الأمر هل يقتضي
التكرار ؟ والصحيح عند أصحابنا لا يقتضيه ، والثاني يقتضيه ، والثالث يتوقف فيما
زاد على مرة على البيان فلا يحكم باقتضاءه ولا بمنعه ، وهذا الحديث قد يستدل به من
يقول بالتوقف لأنه سأل فقال أكل عام ؟ ولو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لم
يسأل ولقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا حاجة إلى السؤال بل مطلقه محمول
على كذا وقد يجيب الآخرون عنه بأنه سأل استظهارا واحتياطا ، وقوله : ذروني ما
تركتكم ، ظاهر في أنه لا يقتضي التكرار . قال المازري : ويحتمل أنه
فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم . ثم قال : ذروني ما
تركتم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/89)
إنما احتمل التكرار عنده من وجه آخر ، لأن الحج في اللغة قصد فيه تكرار فاحتمل عنده التكرار من جهة الاشتقاق لا من مطلق الأمر - انتهى . قال القاري بعد ذكر هذا الاحتمال بلفظة قيل : والأظهر أن مبني السؤال قياسه على سائر الأعمال من الصلاة والصوم وزكاة الأموال ولم يدر أن تكراره كل عام بالنسبة إلى جميع المكلفين من جملة المحال كما لا يخفى ( فسكت ) ، أي عن جوابه ( حتى قالها ) ، أي قال الرجل السائل الكلمة التي تكلمها ( ثلاثا ) قال التوربشتي : إنما سكت زجرا له عن السؤال الذي كان السكوت عنه أولى لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث لبيان الشريعة فلم يكن ليسكت عن بيان أمر علم أن بالأمة حاجة إلى الكشف عنه ، فالسؤال عن مثله تقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نهوا عنه ، والإقدام عليه ضرب من الجهل وشر فيه احتمال أن يعاقبوا بزيادة التكليف ، وإليه أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله (( لو قلت نعم لوجبت )) قال القاري : ثم لما رآه - صلى الله عليه وسلم - لا ينزجر ولا يقنع إلا بالجواب الصريح صرح به ( فقال لو قلت نعم ) ، أي فرضا وتقديرا ، ولا يبعد أن يكون سكوته عليه الصلاة والسلام انتظار للوحي أو الإلهام . وقال السندي : وهذا بظاهره يقتضي أن أمر افتراض الحج كل عام كان مفوضا إليه حتى لو قال نعم لحصل وليس بمستبعد إذ يجوز أن يأمر الله تعالى بالإطلاق ويفوض أمر التقييد إلى الذي فوض إليه البيان فهو إن أراد أن يبقيه على الإطلاق يبقيه عليه وإن أراد أن يقيده بكل عام يقيده به ، ثم فيه إشارة إلى كراهة السؤال في النصوص المطلقة والتفتيش عن قيودها بل ينبغي العمل على إطلاقها حتى يظهر فيها قيد ، وقد جاء القرآن موافقا لهذه الكراهة - انتهى . وقال الحافظ : استدل به على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يجتهد في الأحكام لقوله : (( لو قلت : نعم لوجبت )) ولا يشترط في حكمه أن يكون بوحي ،
(17/90)
وأجاب من منع باحتمال أن يكون
أوحي إليه ذلك في الحال ( لوجبت ) ، أي هذه العبادة أو فريضة الحج المدلول عليها
بقوله فرض ، أو الحجة كل عام أو حجج كثيرة على كل أحد ( ولما استطعتم ) ، أي وما
قدرتم كلكم إتيان الحج في كل عام ، ? لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ? ( ذروني ) ،
وفي رواية البخاري (( دعوني )) ، قال السندي : أي اتركوني من السؤال عن القيود في
المطلقات . قال في القاموس : ذره ، أي دعه ، يذره تركا ولا تقل وذرا وأصله وذره
يذره كوسعه يسعه لكن ما نطقوا بماضيه ولا بمصدره ولا باسم الفاعل ، أو قيل وذرته شاذا
( ما تركتكم ) ، أي لأني مبعوث لبيان الشرائع وتبليغ الأحكام ، فما كان مشروعا
أبينه لكم لا محالة ولا حاجة إلى السؤال . قال السندي : ما مصدرية ظرفية ، أي مدة
تركي إياكم عن التكليف بالقيود فيها ، وليس المراد لا تطلبوا مني العلم ما دام لا
أبين لكم بنفسي - انتهى . وقال الحافظ : قوله (( ما تركتكم )) ، أي مدة تركي إياكم
بغير أمر بشيء ولا نهي عن شيء وإنما غاير بين اللفظين لأنهم أماتوا الماضي واسم
الفاعل منهما واسم مفعولهما وأثبتوا الفعل المضارع وهو يذر ، وفعل الأمر وهو ذر
ومثله دع ويدع ولكن سمع ودع كما قرئ به في الشاذ في قوله تعالى : ? ما ودعك ربك
وما قلى ? (93 : 3) وقال الشاعر :
فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونحن ودعنا آل عمرو بن عامر ( ... فرائس أطراف المثقفة السمر (
(17/91)
ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على سبيل التفنن في العبارة وإلا لقال : اتركوني . قال : والمراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع خشية أن ينزل به وجوبه أو تحريمه وعن كثرة السؤال لما فيه غالبا من التعنت وخشية أن تقع الإجابة بأمر يستثقل فقد يؤدي لترك الامتثال فتقع المخالفة . قال ابن فرج : معنى قوله (( ذروني ما تركتكم )) لا تكثروا من الاستفسار عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظهر ولو كانت صالحة لغيره ، كما أن قوله (( حجوا )) وإن كان صالحا للتكرار فينبغي أن يكتفي بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة فإن الأصل عدم الزيادة ولا تكثروا التنقيب عن ذلك لأنه قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل إذ أمروا أن يذبحوا البقرة فلو ذبحوا ، أي بقرة كانت لامتثلوا ولكنهم شددوا فشدد عليهم وبهذا تظهر مناسبة قوله : (( فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم )) بقوله : (( ذروني ما تركتكم )) قال النووي : وهو دليل على أن لا حكم قبل ورود الشرع ، وأن الأصل في الأشياء عدم الوجوب وهذا هو الصحيح عند محققي الأصوليين . ( فإنما هلك من كان قبلكم ) ، أي من اليهود والنصارى ، ( بكثرة سؤالهم ) كسؤال الرؤية والكلام وقضية البقرة . قال الأبي : وفيه مرجوحية كثرة السؤال ، ومنه ما اتفق لأسد بن الفرات مع مالك حين أكثر السؤال بقوله : فإن كان كذا ، فإن كان كذا ؟ فقال له مالك : هذه سلسلة بنت أخرى ، إن أردت هذا فعليك بأهل العراق ، إلا أن يقال لا يلزم من المنع هنا المنع في غيره لما أشار إليه - صلى الله عليه وسلم - من أنه في مقام التشريع فخاف الافتراض فيما يشق ولا يقدر عليه - انتهى . وقال الحافظ : استدل به على النهى عن كثرة المسائل والتعمق في ذلك . قال البغوي : في شرح السنة : المسائل على وجهين : أحدهما : ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمر الدين فهو جائز بل مأمور به لقوله تعالى : ? فاسألوا أهل الذكر ? (16 : 45 . و 21 ،
(17/92)
6) الآية ، وعلى ذلك تنزل
أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما ، ثانيهما : ما كان على وجه التعنت
والتكلف ، وهو المراد في هذا الحديث والله أعلم . ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن
ذلك وذم السلف ، فعند أحمد من حديث معاوية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن
الأغلوطات . قال الأوزاعي : هي شداد المسائل ، وقال الأوزاعي أيضا : إن الله إذا
أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط فلقد رأيتهم أقل الناس علما
. وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل
. وقال ابن العربي : كان النهي عن السؤال في العهد النبوي خشية أن ينزل ما يشق
عليهم فأما بعد فقد أمن ذلك لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل
التي لم تقع . قال : وإنه لمكروه إن لم يكن حراما إلا للعلماء فإنهم فرعوا ومهدوا
فنفع الله من بعدهم بذلك ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم - انتهى ملخصا .
وينبغي أن يكون محل الكراهة للعالم إذا شغله ذلك عما هو أهم منه وكان ينبغي تلخيص
ما يكثر وقوعه مجردا عما يندر ولا سيما في المختصرات ليسهل تناوله والله المستعان
– انتهى كلام الحافظ .
واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/93)
( واختلافهم ) عطف على كثرة السؤال لا السؤال ، إذ الاختلاف وإن قل يؤدي إلى الهلاك ، ويحتمل أنه عطف على سؤالهم هو إخبار عمن تقدم بأنه كثر اختلافهم في الواقع فأداهم إلى الهلاك وهو لا ينافي أن القليل من الاختلاف مؤد إلى الفساد ، قاله السندي ( على أنبيائهم ) ، يعني إذا أمرهم الأنبياء بعد السؤال أو قبله اختلفوا عليهم فهلكوا واستحقوا الإهلاك . قال الأبي : قوله (( واختلافهم على أنبيائهم )) هو زيادة على ما وقع فإن الذي وقع إنما هو إلحاح في السؤال لا الاختلاف ( فإذا أمرتكم بشيء ) ، أي من الفرائض وفي رواية بأمر : ( فأتوا منه ما استطعتم ) ، أي افعلوا قدر استطاعتكم . قال السندي : يريد أن الأمر المطلق لا يقتضي دوام الفعل وإنما يقتضي جنس المأمور به وأنه طاعة مطلوبة ينبغي أن يأتي كل إنسان منه على قدر طاقته ، وأما النهي فيقتضي دوام الترك - انتهى . وقال : في اللمعات قوله : (( فأتوا منه ما استطعتم )) يجوز أن يكون تأكيدا ومبالغة في إتيان ما أمر به وبذل الطاقة فيه ، وأن يكون إشارة إلى التيسير ورفع الحرج كما في الصلاة وأركانها وشرائطها إذا عجز عن بعضها أتى بما استطاع ، وهذا الأمر وأما في النهي فينبغي أن يحتاط في تركه ويبذل المجهود بالغا ما بلغ . وقال النووي : هذا من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها - صلى الله عليه وسلم - ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها ، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي ، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن ، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن ، وأشباه هذا غير منحصرة ، وأما قوله : (( وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه )) فهو على إطلاقه ، فإن وجد عذر يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة أو شرب الخمر عند الإكراه أو التلفظ بكلمة الكفر إذا أكره ونحو ذلك ، فهذا ليس منهيا عنه في هذا الحال . قال وهذا
(17/94)
الحديث موافق لقول الله تعالى
: ? فاتقوا الله ما استطعتم ? (64 : 16) وأما قوله تعالى : ? حق تقاته ? ففيها
مذهبان : أحدهما : أنها منسوخة بقوله تعالى : ? فاتقوا الله ما استطعتم ? والثاني
وهو الصحيح أو الصواب وبه جزم المحققون : أنها ليست منسوخة بل قوله تعالى : ?
فاتقوا الله ما استطعتم ? مفسرة لها ومبينة للمراد بها . قالوا : و ? حق تقاته ? هو
امتثال أمره واجتناب نهيه ، أي مع القدرة لا مع العجز ولم يأمر الله تعالى إلا
بالمستطاع . قال تعالى : ? لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ? (2 : 286) انتهى . قال
الحافظ : في الحديث إشارة إلى الاشتغال بالأهم المحتاج إليه عاجلا عما لا يحتاج
إليه في الحال فكأنه قال : عليكم بفعل الأوامر واجتناب النواهي فاجعلوا اشتغالكم
بها عوضا عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن الله
ورسوله ثم يجتهد في تفهم ذلك والوقوف على المراد به ثم يتشاغل بالعمل به ، فإن كان
من العمليات يتشاغل بتصديقه واعتقاد حقيته ، وإن كان من العمليات بذل وسعه في
القيام به فعلا وتركا فإن وجد وقتا زائدا على ذلك فلا بأس أن يصرفه في الاشتغال
بتعرف حكم ما سيقع على قصد العمل به إن لو وقع ، فأما إن كانت
وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه . رواه مسلم .
2530- (2) وعنه قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أفضل ؟ قال :
إيمان بالله ورسوله .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/95)
الهمة مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع مع الإعراض عن القيام بمقتضي ما سمع فإن هذا مما يدخل في النهي فالتفقه في الدين إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدل وسيأتي بسط ذلك قريبا ، أي في باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه من كتاب الاعتصام - انتهى . ( وإذا نهيتكم عن شيء ) ، أي من المحرمات ( فدعوه ) ، أي اتركوه كله ، قال الحافظ : استدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتناءه بالمأمورات لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ، ولو مع المشقة في الترك ، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة ، وهذا منقول عن الإمام أحمد . فإن قيل : إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا إذا لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين كذا قيل . والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدل على المدعي من الاعتناء به بل هو من جهة الكف إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا ، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف بل كل مكلف قادر على الترك بخلاف الفعل ، فإن العجز عن تعاطيه محسوس ، فمن ثم قيد في الأمر بالاستطاعة دون النهي ، وادعى بعضهم أن قوله تعالى : ? فاتقوا الله ما استطعتم ? يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي ، وقد قيد بالاستطاعة واستويا فحينئذ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار - انتهى ( رواه مسلم ) في الحج من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة ، وكذا النسائي ، وأحمد ، وابن حبان ، والطبري ، والبيهقي (ج4 : ص326) ، والدارقطني ، وفي الباب عن ابن عباس ، وسيأتي في الفصل الثاني ، وعن علي عند الترمذي ، وعن أبي أمامة عند الطبري ، وعن أنس عند ابن ماجة ، والحديث رواه البخاري من طريق آخر مختصرا . أي من غير ذكر السبب
(17/96)
في باب الإقتداء بسنن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الاعتصام ، ومسلم أيضا في الفضائل ، وأحمد
(ج2 : ص312) ، والترمذي في العلم ، وابن ماجة في السنة .
2530- قوله ( سئل ) بالبناء للمفعول ، أبهم السائل وهو أبو ذر الغفاري وحديثه في
العتق عند البخاري ، ( أي العمل ) ، وفي رواية أي الأعمال وهو مبتدأ خبره ( أفضل )
، أي أكثر ثوابا عند الله تعالى ( قال ) ، أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو
( إيمان بالله ورسوله ) نكر الإيمان ليشعر بالتعظيم والتفخيم ، أي التصديق المقارن
بالإخلاص المستتبع للأعمال الصالحة قال النووي : فيه تصريح بأن العمل يطلق على
الإيمان والمراد به - والله أعلم - الإيمان الذي يدخل به في ملة الإسلام وهو
التصديق بقلبه والنطق بالشهادتين ، فالتصديق عمل القلب والنطق عمل اللسان ولا يدخل
في الإيمان هنا الأعمال بسائر الجوارح : كالصوم ، والصلاة ، والحج ، والجهاد
وغيرها . لكونه جعل قسيما للجهاد والحج ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : إيمان
بالله
قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله . قيل : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/97)
ورسوله . ولا يقال هذا في الأعمال ولا يمنع من تسمية الأعمال المذكورة إيمانا فقد قدمنا دلائله - انتهى ( قيل ) القائل هو السائل في الأول ( ثم ماذا ؟ ) كلمة ثم للعطف مع الترتيب الذكرى ، وما مبتدأ وذا خبره والمعنى ثم ، أي شيء أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله ؟ ( قال الجهاد في سبيل الله ) ، أي قتال الكفار لإعلاء كلمة الله ، ( قيل ثم ماذا ؟ ) أفضل ( قال : حج مبرور ) ، أي مقبول من البر وهو القبول ومن علامات القبول أن يزداد بعده خيرا ، أي يكون حاله بعد الرجوع خيرا مما قبله ولا يعاود المعاصي ، وهو مفعول من بر المتعدي يقال : بر الله حجه ، أي قبله ويبني للمفعول . فيقال بر حجه فهو مبرور ويستعمل لازما . فيقال بر حجه ، ويقال أيضا أبر الله حجه إبرار ، قال الجزري : يقال بر حجه وبر حجه وبر الله حجه ، وأبره برا بالكسر في الجميع وإبرارا ، وقيل : المبرور المقابل بالبر وهو الثواب ، وقيل : هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ، وقيل : الذي لا يعقبه معصية ، وقيل : هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم مأخوذ من البر وهو الطاعة ، ومنه برت يمينه إذا سلم من الحنث وبر بيعه إذا سلم من الخداع ورجح هذا المعنى النووي . وقال القرطبي : الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى ، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه فوقع موقعا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل ، ولأحمد والحاكم من حديث جابر قالوا : يا رسول الله ما بر الحج ؟ قال : إطعام الطعام وإفشاء السلام . قال في الفتح : وفي إسناده ضعف ، ولو ثبت كان هو المتعين دون غيره - انتهى . قلت حديث جابر هذا قال الحاكم : إنه صحيح الإسناد ولم يخرجاه لأنه لم يحتجا بأيوب بن سويد لكنه حديث له شواهد كثيرة . وقال الذهبي في تلخيصه : صحيح . وحسن سنده المنذري في الترغيب ، والهيثمي في مجمع الزوائد ، ولفظ الطبراني (( إطعام الطعام وطيب الكلام )) . قيل المراد أن هذه الخصال من علامات الحج
(17/98)
المبرور وليست علاماته قاصرة
على هذه ، والظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - أجاب السائل بذلك لكونه رأى منه
التقصير في هذه الخصال لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب كل إنسان على حسب
حاله ثم إنه عرف الجهاد باللام دون الإيمان والحج لأن المعرف بلام الجنس كالنكرة
في المعنى فيوافق تنكير قسيميه . وقيل لأن الإيمان والحج لا يتكرر وجوبهما فناسبهما
التنكير ليدل على الإفراد الشخصي بخلاف الجهاد فإنه قد يتكرر فعرف والتعريف للكمال
إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل كذا قيل . وقد
تعقبه الحافظ في الفتح واعترضه العيني حسب عادته بما لا طائل تحته . قال الحافظ :
وقع في مسند الحارث بن أبي أسامة (( ثم جهاد )) ، أي بالتنكير فقد ظهر من هذه
الرواية أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة لأن مخرجه واحد فالإطالة في طلب
الفرق في مثل هذا غير طائلة ثم أنه قدم الجهاد على الحج مع أنه فرض كفاية ، والحج
فرض عين وذلك لأنه كان أول الإسلام ومحاربة أعداءه والجد في إظهاره ، وقيل : هو
محمول على الجهاد في وقت الزحف الملجئ والنفير العام فإنه حينئذ يجب الجهاد
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/99)
على الجميع . وإذا كان هكذا فالجهاد أولى بالتحريض والتقديم من الحج لأنه يكون حينئذ فرض عين ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر فكان أهم منه . وقيل : قدم لأن نفع الجهاد متعد لما فيه من المصلحة العامة للمسلمين مع بذل النفس فيه بخلاف الحج فيهما ، لأن نفعه قاصر ولا يكون فيه بذل النفس . وقيل (( ثم )) ها هنا للترتيب في الذكر كقوله تعالى : ? ثم كان من الذين آمنوا ? (90 : 17) فإنه من المعلوم أنه ليس المراد ها هنا الترتيب في الفعل وفي الحديث دليل على أن الإيمان بالله ورسوله أفضل من الجهاد والجهاد أفضل من الحج ، وقد اختلفت الأحاديث المشتملة على بيان فاضل الأعمال من مفضولها فتارة تجعل الأفضل الإيمان كما في الحديث الذي نحن في شرحه ، وتارة الصلاة لوقتها كما في حديث ابن مسعود ، وتارة إطعام الطعام وقراءة السلام كما في حديث ابن عمرو ، وتارة السلامة من اليد واللسان كما في حديث أبي موسى ، وتارة الجهاد كما في حديث أبي سعيد ، وتارة ذكر الله كما في حديث أبي الرداء ، وتارة غير ذلك ، واستشكلت للمعارضة الظاهرة ، أي تباين الأجوبة واختلافها مع اتحاد السؤال . وأجيب بأنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المفاضلة في الأعمال عدة مرات وكان يجيب على ذلك بما يناسب المقام والوقت ويصلح لحال السائل والمخاطب ، فإن لكل إنسان عملا يصلح له ولا ينجح إلا به فينبغي توقيفه على ما خفى عليه وتوجيهه إليه ، وكذلك الوقت يختلف ، فوقت تكون الصدقة أفضل من غيرها كوقت المجاعات والحاجة ، وتارة يكون الجهاد أفضل من غيره كوقت الزحف الملجئ والنفير العام ، وتارة يكون طلب العلم الشرعي أنفع للحاجة إليه والانصراف عنه ، وكذلك وظائف اليوم والليلة ، فساعة يكون الاستغفار والتوبة والدعاء أولى من القراءة ، وساعة أخرى تكون الصلاة وهكذا . وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله (ج2 : ص43) : الفضل يختلف باختلاف الاعتبار والمقصود هنا ، أي في
(17/100)
حديث أبي هريرة الذي نحن في
شرحه بيان الفضل باعتبار تنويه دين الله وظهور شعار الله ، وليس بهذا الاعتبار بعد
الإيمان كالجهاد والحج - انتهى . وقال القفال الشافعي الكبير : إن ذلك اختلاف جواب
جرى على حسب اختلاف الأحوال والأشخاص فإنه قد يقال (( خير الأشياء كذا )) ولا يراد
به خير جميع الأشياء من جميع الوجوه والحيثيات والاعتبارات وفي جميع الأحوال
والأوقات ولجميع الأشخاص والأفراد بل في حال دون حال ولواحد دون واحد ومن وجه دون
وجه وفي وقت دون وقت ، قال : ويجوز أن يكون المراد من أفضل الأعمال كذا أو من
خيرها أو من خيركم من فعل كذا فحذفت من وهي مرادة كما يقال فلان أعقل الناس
وأفضلهم ويراد أنه من أعقلهم وأفضلهم . ومن ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - : خيركم خيركم لأهله ، ومعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس مطلقا . قال
النووي : وعلى هذا الجواب يكون الإيمان أفضلها مطلقا ، والباقيات متساويات في
كونها من أفضل الأعمال والأحوال ، ويعرف فضل بعضها على بعض بدلائل تدل عليها
وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص انتهى . وقد تقدم شيء من الكلام في هذا في الفصل
الثاني من باب الذكر ، وإن شئت
متفق عليه .
2531- (3) وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حج لله فلم يرفث ولم
يفسق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مزيد التفضيل فارجع إلى شرح عمدة الأحكام (ج1 : ص132) ، وفتح الملهم شرح صحيح مسلم
(ج1 : ص214 ، 215) ( متفق عليه ) رواه البخاري في الإيمان ، والحج ، ومسلم في
الإيمان ، وأخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص264 ، 268 ، 269 ، 287) ، والترمذي في فضائل
الجهاد ، والنسائي في الحج ، والبيهقي (ج5 : ص262) وأخرج أيضا بنحوه ابن خزيمة ،
وابن حبان في صحيحيهما والطيالسي .
(17/101)
2531- قوله ( من حج لله ) ، أي لابتغاء وجه الله تعالى ، والمراد الإخلاص ، وفي رواية للبخاري من حج هذا البيت ، أي قصد البيت الحرام لحج أو عمرة ، ولمسلم في رواية (( من أتى هذا البيت )) قال الحافظ : وهو أعم من قوله : (( من حج )) يعني أنه يشمل الحج والعمرة ، ويجوز حمل لفظ حج على ما هو أعم من الحج والعمرة فتساوي رواية (( من أتى )) من حيث أن الغالب أن إتيانه إنما هو للحج والعمرة ، وللدارقطني (ص282) بسند فيه ضعف : (( من حج أو اعتمر )) ( فلم يرفث ) بتثليث الفاء والضم المشهور في الرواية واللغة . قال الحافظ : فاء الرفث مثلثة في الماضي والمضارع ، والأفصح الفتح في الماضي والضم في المستقبل ، قال : والرفث الجماع ويطلق على التعريض به وعلى الفحش من القول . وقال الأزهري : الرفث اسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة ، وكان ابن عمر يخصه بما خوطب به النساء . وقال عياض : هذا من قول الله تعالى : ? فلا رفث ولا فسوق ? (2 : 193) والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع - انتهى . والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك وإليه نحا القرطبي وهو المراد بقوله في الصيام (( فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث )) - انتهى . قلت : روى البغوي في شرح السنة (ج6 : ص) عن ابن عباس أنه أنشد شعرا فيه ذكر الجماع فقيل : أتقول الرفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما ووجه ، أي روجع وخوطب به النساء ، فكأنه يرى الرفث المنهي عنه في الآية ما خوطب به المرأة دون ما يتكلم به من غير أن تسمع المرأة . وقال سعيد ابن جبير في قوله تعالى ? فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ? (2 : 193) : الرفث إتيان النساء ، والفسوق السباب ، والجدال المراء يعني مع الرفقاء والمكارين ( ولم يفسق ) بضم السين ، أي لم يأت بسيئة ولا معصية . وقيل : أي لم يخرج عن حدود الشرع وأصله انفسقت الرطبة إذا خرجت فسمي الخارج عن الطاعة
(17/102)
فاسقا ، قال في القاموس :
الفسق بالكسر الترك لأمر الله تعالى ، والعصيان والخروج عن طريق الحق أو الفجور
كالفسوق ، فسق كنصر وضرب وكرم فسقا وفسوقا . وإنه لفسق خروج عن الحق ، وفسق جار ،
وعن أمر ربه خرج ، والرطبة عن قشرها خرجت كانفسقت قيل : ومنه الفاسق لانسلاخه عن
الخير والفويسقة الفارة لخروجها من حجرها على الناس - انتهى . والفاء في قوله ((
فلم )) والواو في قوله
رجع كيوم ولدته أمه . متفق عليه .
2532- (4) وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العمرة إلى العمرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/103)
(( ولم )) عطف على الشرط في قوله من حج وجوابه قوله : ( رجع ) أي صار أو رجع من ذنوبه أو حجته أو فرغ من أعمال الحج وحمله على معنى رجع إلى بيته بعيد ، وقوله ( كيوم ولدته أمه ) خير على الأول وحال على الوجهين الأخيرين بتأويل مشابها في البراءة من الذنوب لنفسه في يوم ولدته أمه فيه ، إذ لا معنى لتشبيه الشخص باليوم ، أو المعنى مشابها يومه بيوم ولادته في خلوه من الذنوب ، وقوله (( كيوم )) يحتمل الإعراب ، أي كسر الميم والبناء على الفتح والإضافة لقوله : ولدته أمه . وهو المختار في مثل هذا لأن صدر الجملة المضاف إليها مبني . وفي رواية للبخاري ، ومسلم : كما ولدته أمه ، وفي رواية أحمد (ج2 : ص229) ، والدراقطني (ص282) : كهيئته يوم ولدته أمه . وظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر والتبعات ، وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس الآتي المصرح بذلك وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري ، وإليه ذهب القرطبي وعياض لكن قال الطبري : وهو محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها . قال الحافظ : وذكر لنا بعض الناس أن الطيبي أفاد أن الحديث إنما لم يذكر فيه الجدال كما ذكر في الآية على طريق الاكتفاء بذكر البعض وترك ما دل عليه ما ذكر . ويحتمل أن يقال إن ذلك يختلف بالقصد لأن وجوده لا يؤثر في ترك مغفرة ذنوب الحاج إذا كان المراد به المجادلة في أحكام الحج لما يظهر من الأدلة أو المجادلة بطريق التعميم فلا يؤثر أيضا فإن الفاحش منها داخل في عموم الرفث ، والحسن منها ظاهر في عدم التأثير ، والمستوى الطرفين لا يؤثر أيضا . قيل : ذكر الفسق في الحديث والنهي عنه في الحج مع كونه ممنوعا في كل حال وفي كل حين هو لزيادة التقيح والتشنيع ولزيادة التأكيد في النهي عنه في الحج وللتنبيه على أن الحج أبعد الأعمال عن الفسق والله أعلم ( متفق عليه ) رواه البخاري في موضعين من كتاب الحج : في باب فضل الحج المبرور ، وقبل
(17/104)
جزاء الصيد ، ورواه مسلم في
أواخر الحج ، وأخرجه أيضا أحمد ، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجة ، والدراقطني
(ص282) ، والبيهقي (ج5 : ص65) ، والدارمي كلهم في الحج ، وفي رواية الترمذي (( غفر
له ما تقدم من ذنبه )) بدل قوله : (( كيوم ولدته أمه )) .
2532- قوله ( العمرة ) بضم العين مع ضم الميم وإسكانها ، وهي في اللغة الزيادة ،
وقيل : القصد إلى مكان عامر ، وقيل : إنها مشتقة من عمارة المسجد الحرام ، وفي
الشريعة زيادة البيت الحرام وقصده بكيفية مخصوصة وشروط مخصوصة ذكرت في كتب الحديث
والفقه ، وقيل : هي في الشرع إحرام وسعي وطواف وحلق أو تقصير ، سميت بذلك لأنه
يزار بها البيت ويقصد ، وقال الراغب : العمارة نقيض الخراب ، والاعتمار والعمرة
الزيارة فيها عمارة الود ، وجعل في الشريعة للقصد المخصوص - انتهى . ( إلى العمرة
) ، أي منتهية إلى العمرة ، قال القاري : قوله : (( العمرة إلى العمرة )) ، أي
العمرة
كفارة لما بينهما ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/105)
المنضمة أو العمرة الموصولة أو المنتهية إلى العمرة ، وقال المناوي : أي العمرة حال كون الزمن بعدها ينتهي إلى العمرة ، فإلى للانتهاء على أصلها ، وقال الباجي وتبعه ابن التين : إن إلى يحتمل أن تكون بمعنى مع كقوله تعالى : ? ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ? (4 : 2) وكقوله : ? من أنصاري إلى الله ? (61 : 14) فيكون التقدير : العمرة مع العمرة مكفرة لما بينهما ، فإذا كانت للغاية كان المكفر هو العمرة الأولى ، وإذا كانت بمعنى مع كان المكفر العمرتين ، ويدل للثاني حديث (( العمرتان تكفران ما بينهما )) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة . قال المناوي : فيه من لم أعرفهم ولم أرهم في كتب الرجال ، وقال السندي : قيل : يحتمل أن تكون إلى بمعنى مع أي العمرة مع العمرة أو بمعناها متعلقة بكفارة ، أي تكفر إلى العمرة ولازمه أنها تكفر الذنوب المتأخرة ( كفارة لما بينهما ) هذا ظاهر في فضل العمرة وأنها مكفرة للخطايا الواقعة بين العمرتين ، قال في المطامح : نبه بهذا الحديث على فضل العمرة الموصولة بعمرة ، قال العيني (ج10 : ص 108 ، 109) : ظاهر الحديث أن الأولى هي المكفرة لأنها هي التي وقع الخبر عنها أنها تكفر ولكن الظاهر من جهة المعنى أن العمرة الثانية هي التي تكفر ما قبلها إلى العمرة التي قبلها فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر - انتهى . وقال الأبي : الأظهر أن الحديث خرج مخرج الحث على تكرير العمرة والإكثار منها لأنه إذا حمل على غير ذلك يشكل بما إذا اعتمر مرة واحدة فإنه يلزم عليه أن لا فائدة لها لأن فائدتها وهو التكفير مشروطة بفعلها ثانية إلا أن يقال : لم تنحصر فائدة العبادة في تكفير السيئات بل يكون فيها وفي ثبوت الحسنات ورفع الدرجات كما ورد في بعض الأحاديث (( من فعل كذا وكتب له كذا حسنة ومحيت عنه كذا كذا سيئة ، ورفعت له كذا كذا درجة )) فتكون فائدتها إذا لم تكرر
(17/106)
ثبوت الحسنات ورفع الدرجات .
وقال شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة : إذا لم تكرر كفر بعض ما وقع بعدها لا كله
- والله أعلم - بقدر ذلك البعض ، وكذا في شرح الموطأ للزرقاني (ج2 : ص269) قال ابن
عبد البر : المراد تكفير الصغائر دون الكبائر ، وذهب بعض علماء عصرنا إلى تعميم
ذلك ، ثم بالغ في الإنكار عليه ، وكأنه يعني الباجي فإنه قال : ما من ألفاظ العموم
فتقضي من جهة اللفظ تكفير جميع ما يقع بينهما إلا ما خصه الدليل واستشكل بعضهم كون
العمرة كفارة للصغائر فقط مع أن اجتناب الكبار مكفر لها لقوله تعالى : ? إن تجتنبوا
كبآئر ما تنهون عنه ? (4 : 31) الآية فماذا تكفر العمرة ؟ وأجيب بأن تكفير العمرة
مقيد بزمنها وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد فتغايرا من هذه الحيثية وقال
السندي : هذا الاستشكال ليس بشيء لأن الذي لا يجتنب الكبائر فصغائره يكفرها العمرة
، ومن ليس له صغيرة أو صغائره مكفرة بسبب آخر فالعمرة له فضيلة - انتهى . قال
الحافظ : وفي الحديث دلالة على استحباب الاستكثار من الاعتمار خلافا لقول من قال :
يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة
والحج المبرور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/107)
كالمالكية ولمن قال مرة في الشهر من غيرهم واستدل لهم بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة ، وأفعاله على الوجوب أو الندب وتعقب بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله فقد كان يترك الشيء وهو يستحب فعله لرفع المشقة عن أمته وقد ندب إلى ذلك بلفظه فثبت الاستحباب من غير تقييد . وقال عياض : احتج به الجمهور وكثير من أصحاب مالك على جواز تكرير العمرة في السنة الواحدة وكرهه مالك لأنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر كل واحدة في سنة مع تمكنه من التكرير وتقدم كلام الأبي المالكي أن الحديث خرج مخرج الحث على تكرير العمرة والإكثار منها ، قال الحافظ : واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسا بأعمال الحج إلا ما نقل عن الحنفية أنه يكره في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق ، ونقل الأثرم عن أحمد : إذا اعتمر فلا بد أن يحلق أو يقصر فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام ليمكن حلق الرأس فيها . قال ابن قدامة : هذا يدل على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام ، وارجع لتفصيل الكلام في مسألة تكرار العمرة وتفضيل الطواف على العمرة إلى شفاء الغرام (ج1 : ص179 ، 180) ، والقرى (ص297 ، 298) ( والحج المبرور ) قال ابن العربي : قيل هو الذي لا معصية بعده . قال الأبي : وهو الظاهر لقوله في الحديث الآخر : (( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق )) إذ المعنى حج ثم لم يفعل شيئا من ذلك ، ولهذا عطفها بالفاء المشعرة بالتعقيب ، وإذا فسر بذلك كان الحديثان بمعنى واحد وتفسير الحديث بالحديث أولى . فإن قلت : المرتب على المبرور غير المرتب على عدم الرفث والفسق ، لأن المرتب على المبرور هو دخول الجنة وهو أخص من الرجوع بلا ذنب لأن المراد بدخولها الدخول الأول والدخول الأول لا يكون إلا مع مغفرة كل الذنوب السابقة واللاحقة والرجوع بلا ذنب إنما هو في تكفير السابقة . قلت : إذا فسر المبرور بذلك فسر الرجوع بلا ذنب بأنه
(17/108)
كناية عن دخول الجنة الدخول
الأول المذكور - انتهى . تنبيه قال ابن بزيزة : قال العلماء : شرط الحج المبرور
حلية النفقة فيه ، وقيل لمالك رجل سرق فتزوج به أيضارع الزنا ؟ قال : أي والذي لا
إله إلا هو . وسئل عمن حج بمال حرام فقال : حجه مجزئ وهو آثم بسبب جنايته ،
وبالحقيقة لا يرقى إلى العالم المطهر إلا المطهر - انتهى . وقال الدردير : صح الحج
فرضا أو نفلا بالحرام من المال فيسقط عنه الفرض والنفل وعصى إذ لا منافاة بين
الصحة والعصيان - انتهى . وبه قالت الحنفية كما في رد المحتار عن البحر حيث قال :
يجتهد في تحصيل نفقة حلال فإنه لا يقبل بالنفقة الحرام كما ورد في الحديث مع أنه
يسقط الفرض عنه معها ولا تنافي في سقوطه وعدم قبولها - انتهى . وذلك لأن القبول
أخص من الإجزاء ، فإن القبول عبارة عن ترتيب الثواب على الفعل والإجزاء عبارة عن
سقوط القضاء ، وقال النووي في مناسكه : ليحرص أن تكون نفقته حلالا خالصة عن الشبهة
فإن خالف وحج بما فيه شبهة أو بمال مغصوب صح حجه في ظاهر الحكم لكنه ليس حجا
مبرورا ويبعد قبوله ، وهذا هو مذهب الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة ، وجماهير
العلماء من السلف والخلف . وقال أحمد بن
ليس له جزاء إلا الجنة . متفق عليه .
2523- (5) وعن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن عمرة في
رمضان تعدل حجة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/109)
حنبل : لا يجزيه الحج بمال حرام - انتهى . ( ليس له جزاء ) ، أي ثواب ( إلا الجنة ) بالرفع أو النصب وهو نحو (( ليس الطيب إلا المسك )) بالرفع فإن بني تميم يرفعونه حملا لها على ما في الإهمال عند انتقاض النفي كما حمل أهل الحجاز (( ما )) على (( ليس )) في الإعمال عند استيفاء شروطها كذا في مغني اللبيب (ج1 : ص227) قال النووي : (( ليس له جزاء إلا الجنة )) معناه أنه لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه بل لابد أن يدخل الجنة . وقال السندي : أي ابتداء وإلا فأصل الدخول فيها يكفي الإيمان ولازمه أن يغفر له الذنوب كلها صغائرها وكبائرها بل المتقدمة منها والمتأخرة - انتهى . قال في المطامح : وقضية جعل العمرة مكفرة والحج جزاءه الجنة أنه أكمل . وقال ابن القيم : في الحديث دليل على التفريق بين الحج والعمرة في التكرار إذ لو كانت العمرة كالحج لا يفعله في السنة إلا مرة لسوى بينهما ولم يفرق ( متفق عليه ) ، وأخرجه أيضا أحمد (ج : ص) ، ومالك ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، والدارمي ، وابن الجارود (ص178) ، والبيهقي (ج4 : ص473 ، و ج5 : ص261) .
(17/110)
2533- قوله ( إن عمرة في رمضان
) ، أي كائنة ، وسبب الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع عن حجة
الوداع قال لأم سنان الأنصارية ما منعك أن تحجي معنا ، قالت : لم يكن لنا ناضحان
فحج أبو ولدها وابنها على ناضح وترك لنا ناضحا ننضح عليه قال فإذا جاء رمضان
فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة ( تعدل حجة ) ، أي تعادلها وتماثلها في الثواب لأن
الثواب يفضل بفضيلة الوقت ذكره المظهر . قال الطيبي : وهذا من باب المبالغة وإلحاق
الناقص بالكامل ترغيبا وبعثا عليه وإلا كيف يعدل ثواب العمرة ثواب الحج انتهى .
وقال ابن خريمة في هذا الحديث : إن الشيء يشبه بالشيء ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض
المعاني لا جميعها لأن العمرة لا يقضى بها فرض الحج ولا النذر انتهى . ووقع في
رواية لمسلم : (( فعمرة في رمضان تقضي حجة أو معي )) ، أي بالشك ، وفي رواية
البخاري في باب حج النساء : (( فإن عمرة في رمضان تقضي حجة معي )) بالجزم من غير
شك ، وفي رواية لأبي داود والحاكم (ج1 : ص484) : (( أنها تعدل حجة معي )) وهكذا وقع
عند ابن حبان في قصة أم سليم من حديث ابن عباس وفي حديث أنس عند الطبراني في
الكبير (( عمرة في رمضان كحجة معي )) وفي حديث أبي طليق في قصة له ولامرأته عند
الطبراني في الكبير والبزار (( قلت : فما يعدل الحج معك ؟ قال : عمرة في رمضان ))
وفي هذه الروايات ما يدل على أن المرأة المذكورة جعلت على نفسها حجة مع النبي -
صلى الله عليه وسلم - لتحوز بذلك شرف المعية وكثرة الثواب فأجابها - صلى الله عليه
وسلم - بأن ذلك يحصل لها بالاعتمار في رمضان واختلف العلماء في معنى حديث الباب
فقال بعهضم : إن الحجة التي فاتت هذه المرأة كانت تطوعا لإجماع الأمة على أن
العمرة لا تجزئ عن حجة الفريضة
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/111)
إذ لا مانع من أن تكون حجت مع أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة فسقط عنها الفرض ثم أرادت أن تحج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوادع في السنة العاشرة فمنعها عدم تيسر الراحلة ، وقال بعضهم : إن الحجة التي فاتت هذه المرأة هي حجة الوداع وكانت أول حجة أقيمت في الإسلام فرضا لأن حج أبي بكر كان إنذارا فعلى هذا يستحيل أن تكون تلك المرأة كانت قامت بوظيفة الحج بعد ، لأن أول حج لم تحضره هي ، ولم يأت زمان حج ثان عند قوله عليه الصلاة والسلام لها ذلك ، وما جاء الحج الثاني إلا والرسول عليه الصلاة والسلام قد توفي فإنما أراد عليه الصلاة والسلام أن يستحثها على استدراك ما فاتها من البدار ولا سيما الحج معه عليه الصلاة والسلام لأن فيه مزية على غيره قلت : وهذا مبني على أن الحج إنما فرض في السنة العاشرة ولكنه غير متفق عليه وقد تقدم ذكر الخلاف فيه ، وعلى كل حال فإن كان ما فاتها حجة الفرض فيكون المراد من الحديث بيان فضل العمرة في رمضان وإعلامها أن ثوابها كثواب حجة لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن فرض الحج ، فالعمرة في رمضان لا تسقط الحجة المفروضة بل من الإتيان بها من قابل ، وإن كان ما فاتها تطوعا فالعمرة في رمضان تقوم مقام الحجة في التطوع ونقل الترمذي عن إسحاق ابن راهويه أن معنى الحديث نظير ما جاء أن ? قل هو الله أحد ? تعدل ثلث القرآن وقال ابن العربي : حديث العمرة هذا صحيح وهو فضل من الله ونعمة فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها ، وهكذا قال أبو بكر المعافري ، كما في (( القرى )) وقد تقدم ما قال الطيبي وابن خزيمة في معنى الحديث وتوجيهه ، وقال ابن الجوزي : فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القلب ، وقال غيره يحتمل أن يكون المراد عمرة فريضة في رمضان كحجة فريضة ، وعمرة نافلة في رمضان كحجة نافلة
(17/112)
وقال ابن التين : قوله كحجة
يحتمل أن يكون على بابه ويحتمل أن يكون لبركة رمضان ، ويحتمل أن يكون مخصوصا بهذه
المرأة . قال الحافظ : الثالث قال به بعض المتقدمين ففي رواية أحمد بن منيع قال
سعيد بن جبير : ولا نعلم هذا إلا لهذه المرأة وحدها ، ووقع عند أبي داود من حديث
أم معقل فكانت تقول الحج حجة ، والعمرة عمرة ، وقد قال هذا لي رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ما أدري ألي خاصة تعني أو للناس عامة ، قال الحافظ : والظاهر
حمله على العموم كما تقدم ، والسبب في التوقف استشكال ظاهره وقد صح جوابه . تنبيه
لما ثبت أن عمره - صلى الله عليه وسلم - كانت كلها في ذي القعدة وقع تردد لبعض أهل
العلم في أن أفضل أوقات العمرة أشهر الحج أو رمضان فحديث الباب يدل على الثاني ،
أي كون رمضان أفضل أوقات العمرة لكن فعله عليه الصلاة والسلام لما لم يقع إلا في
أشهر الحج كان ظاهرا أنه أفضل إذ لم يكن الله سبحانه وتعالى يختار لنبيه إلا ما هو
الأفضل أو أن رمضان أفضل لتنصيصه عليه الصلاة والسلام على ذلك فتركه لاقترانه بأمر
يخصه كاشتغاله بعبادات أخرى في رمضان تبتلا ، وأن لا يشق على أمته فإنه لو اعتمر
في رمضان لبادروا إلى ذلك وخرجوا مع ما هم عليه من المشقة في
متفق عليه .
2534- (6) وعنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبا بالروحاء ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/113)
الجمع بين العمرة والصوم ، ولقد كان بهم رؤوفا رحيما ، وقد كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته وخوفا من المشقة عليهم كالقيام في رمضان بهم ، ومحبته لأن يستقي بنفسه مع سقاة زمزم كيلا يغلبهم الناس على سقايتهم . وقال الحافظ : والذي يظهر أن العمرة في رمضان لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل ، وأما في حقه فما صنعه هو أفضل لأن فعله لبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه ، فأراد الرد عليهم بالقول والفعل وهو لو كان مكروها لغيره لكان في حقه أفضل - انتهى . تنبيه آخر قد استدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( عمرة في رمضان تعدل حجة )) على استحباب تكرار العمرة والإكثار منها . قال المحب الطبري في القرى (ص566) : فيه دليل على استحباب تكرار العمرة من وجهين الأول : أن النكرة في سياق التفضيل ، الظاهر منها إرادة العموم ، فإنك إذا قلت : رجل من بني تيم يعدل قبيلة من غيرها ، لم يتبادر إلى الفهم إلا أن كل واحد منها كذلك ، فكذلك ، كل عمرة في رمضان ، والثاني : المراد بعمرة في رمضان إما أن يقال : كل عمرة لكل أحد أو عمرة لكل أحد أو عمرة لواحد لا بعينه ، والأول هو المطلوب ، والثالث غير مراد بالاتفاق ، والثاني لازم للأول فيتعدى الحكم ، بيان الملازمة أن اتصاف الفعل بالفضل إنما نشأ من جهة الزمان لا محالة ، فإذا ثبت لفعل لزم ثبوته لمثله ، وإن تكرر لقيام موجب الصفة ولعدم جواز تخلف الحكم عن مقتضيه ، ومن ادعى تخصصها بعدم التكرار أو تخصيصها بالمخاطبة أو بميقات دون غيره أو معارضا فعليه البيان - انتهى . قلت : قد ذهب إلى جواز تكرار العمرة واستحباب الإكثار منها الشافعي ، وأبو حنيفة . وكرهه مالك إلا مرة في سنة ، وأحمد في دون عشرة أيام كما تقدم في كلام ابن قدامة ، ويؤيده ما أخرجه الشافعي عن أنس رضي الله عنه أنه كان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر ، وقوله : (( حمم )) بالحاء المهملة ، أي اسود بعد الحلق
(17/114)
في الحج بنبات الشعر ، والمعنى
أنه كان لا يؤخر العمرة إلى المحرم ، بل كان يخرج إلى الميقات ، ويعتمر في ذي
الحجة ، وهكذا ذكره الجوهري ، وابن الأثير وقيد بالمهملة ( متفق عليه ) واللفظ
لمسلم . وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص229 ، 308) ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ،
والدارمي ، وابن الجارود (ص179) ، والبيهقي وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر
أحاديثهم العيني (ج10 : ص117) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 : ص280) .
2534- قوله ( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي ركبا ) بفتح الراء وسكون الكاف
جمع راكب أو اسم جمع كصاحب وصحب وهم العشرة فما فوقها من أصحاب الإبل في السفر دون
بقية الدواب ، ثم اتسع فيه فأطلق على كل جماعة ( بالروحاء ) بفتح الراء وسكون
الواو بعدها حاء مهملة ثم ألف ممدودة . قال عياض : في المشارق هي من أعمال الفرع
بينها وبين المدنية
فقال : من القوم ؟ قالوا : المسلمون ، فقالوا : من أنت ؟ قال : رسول الله . فرفعت
إليه امرأة صبيا ، فقالت : ألهذا حج ؟ قال : نعم ولك أجر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/115)
نحو أربعين ميلا ، وفي صحيح مسلم ستة وثلاثون ، وفي كتاب ابن أبي شيبة ثلاثون ميلا ، زاد في رواية أحمد وأبي داود : (( فسلم عليهم )) وكان ذلك اللقاء كما قال ابن حبان حين رجوعه من مكة إلى المدينة ففي رواية النسائي عن ابن عباس (( قال صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما كان بالروحاء لقي قوما )) الحديث . وفي رواية الشافعي في مسنده (ج1 : ص289) وكذا عند البيهقي (ج5 : ص155) من طريق الشافعي ، (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قفل ، فلما كان بالروحاء لقي ركبا )) الحديث ، وبه جزم ابن القيم في الهدي حيث قال : ثم ارتحل - صلى الله عليه وسلم - راجعا إلى المدينة فلما كان بالروحاء لقي ركبا فذكر قصة الصبي ، وقيل وقعت هذه القصة في مقدمه إلى بيت الله ، والمراد بالصدور والقفول صدوره من المدينة للحج ولا يخفى ما فيه ، وارجع إلى (( القرى )) (ص49 ، 50) ( فقال : من القوم ؟ ) بالاستفهام ( قالوا ) ، أي بعضهم ( المسلمون ) ، أي نحن المسلمون ( فقالوا : من أنت ؟ ) يعني أن الذي أجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل بعد ذلك ليعرف من يخاطب ( قال ) ، أي النبي ( رسول الله ) أي أنا رسول الله فلفظ رسول الله خبر مبتدأ محذوف . قال عياض : يحتمل أن هذا اللقاء كان ليلا فلم يعرفوه - صلى الله عليه وسلم - ، ويحتمل كونه نهارا لكنهم لم يروه - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك لعدم هجرتهم فأسلموا في بلدانهم ولم يهاجروا قبل ذلك ، وسيأتي في حديث جابر في قصة حجة الوداع أنه أذن في الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاج فقدم المدينة بشر كثير ليأتموا به ، فلعل هؤلاء ممن قدم فلم يلقوه إلا هنالك ، وفي رواية مالك في موطأه ، (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بامرأة وهي في محفتها ( بكسر الميم وفتح المهملة وتشديد الفاء - مركب للنساء كالهودج إلا أنها لا تقبب كما تقبب الهوادج ) فقيل لها (( هذا رسول الله ))
(17/116)
الحديث . قال الباجي : فقد
كانت المرأة فيمن آمن به ولم تره ولم تعرف عينه فلذلك أخبرت به ( فرفعت إليه امرأة
صبيا ) ، أي أخرجته من المحفة رافعة له على يديها ، وفي رواية أحمد وأبي داود : ((
ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي فأخرجته من محفتها )) ( فقالت : ألهذا ؟ ) ، أي يحصل
لهذا الصغير ( حج ) ، أي ثوابه ، قيل : قوله : (( حج )) فاعل الظرف لاعتماده على
الهمزة ، ويجوز أن يكون مبتدأ مؤخرا و (( لهذا )) خبر مقدم ، وفي رواية أحمد ،
وأبي داود : (( هل لهذا حج ؟ )) ( قال ) في الجواب ( نعم ) ، أي له حج ( ولك أجر )
زادها على السؤال ترغيبا لها . قال القاري : أي أجر السببية وهو تعليمه إن كان
مميزا أو أجر النيابة في الإحرام والرمي والإيقاف والحمل في الطواف والسعي إن لم
يكن مميزا ، وقال عياض : وأجرها فيما تتكلفه في أمره في ذلك وتعليمه وتجنيبه ما
يجتنب المحرم . وقال النووي : معناه : بسبب حملها وتجنيبها إياه ما يجتنبه المحرم
وفعل ما يفعله المحرم ، وقال الأمير اليماني : قوله : (( لك أجر )) ، أي بسبب
حملها وحجها به ، أو بسبب سؤالها عن ذلك الحكم ، أو بسبب الأمرين ، وفي الحديث
دليل على مشروعية الحج بالصبيان وجوازه ، ولا خلاف فيه بين العلماء
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/117)
قال الأمير اليماني : الحديث دليل على أنه يصح حج الصبي وينعقد سواء كان مميزا أم لا حيث فعل عنه وليه ما يفعل الحجاج وإلى ذلك ذهب الجمهور . واعلم أن في مسألة حج الصبي عدة أبحاث ينبغي التنبيه عليها . الأول : جواز الحج ومشروعيته بالصغار ، وإليه ذهب الجمهور منهم الأمة الأربعة . قال الزرقاني : في الحديث مشروعية الحج بالصغار وبه قالت الأمة . قال عياض : لا خلاف بين العلماء في جواز الحج بالصبيان ، وإنما منعه طائفة من أهل البدع ولا يلتفت إلى قولهم بل هو مردود بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وإجماع الأمة ، وقال الطبري : لا خلاف بي أهل العلم في جواز الحج بالصبي إلا قوما من أهل العراق منعوه وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله وإجماع الأمة يرد قولهم ، وإنما الخلاف في أنه هل ينعقد حكم الحج عليهم ؟ وفائدة الخلاف تظهر في وجوب الفدية ، فأبو حنيفة لا يلزمهم شيا إنما يجتنبون ذلك على وجه التمرين والتعليم ، وفي ما تقدم من قول عطاء : يفعل بالصغير ما يفعل بالكبير ويشهد به المناسك كلها إلا أنه لا يصلي عنه وإن شاءوا قمصوه موافقة له ، وباقي الأئمة يرون وجوب الفدية - انتهى . وقال ابن البر في التمهيد : في الحديث الحج بالصبيان الصغار واختلف العلماء في ذلك فأجازه مالك والشافعي وسائر فقهاء الحجاز من أصحابنا وغيرهم وأجازه الثوري ، وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة ، وأجازه الأوزاعي والليث فيمن سلك مسلكهما من أهل الشام ومصر وكل من ذكرناه يستحب الحج بالصبيان ويأمر به ويستحسنه ، وعلى ذلك جمهور العلماء في كل قرن . وقالت طائفة : لا يحج بالصبيان ، وهو قول لا يشتغل به ولا يعرج عليه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج بأغيلمة بني عبد المطلب وحج السلف بصبيانهم ولحديث الباب . وروينا عن أبي بكر الصديق أنه طاف بعبد الله بن الزبير في خرقة ، وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال
(17/118)
: كانوا يحبون إذا حج الصبي أن
يجردوه وأن يجنبوه عن الطيب وأن يلبي عنه إذا كان لا يحسن التلبية - انتهى . وقال
ابن حزم في المحلى (ج7 : ص276) : ونستحب الحج بالصبي وإن كان صغيرا جدا أو كبيرا
وله أجر وحج وهو تطوع وللذي يحج به أجر ، وكذلك ينبغي أن يدربوا ويعلموا الشراع من
الصلاة والصوم إذا أطاقوا ذلك - انتهى . وقال الباجي : الصبيان على ضربين : ضرب يفهم
ما يؤمر به ، وضرب يصغر عن ذلك فلا يفهم ما يؤمر به ولا ينتهي عما نهي عنه . فأما
الأول فروى ابن المواز وابن وهب عن مالك لا يحج بالرضيع ، وأما ابن أربع سنين وخمس
فنعم . وهذا إنما هو على الاستحباب ، فإن أحرم به وألزم الإحرام لزمه ، وإن كان
صغيرا جدا لا يفهم - انتهى . وقال الأبي في الإكمال : اختلف قول مالك في الحج
بالرضيع ومن لا يفهم ، وحمل أصحابنا قوله بالمنع على الكراهة ، وفي المدونة : يحج
بالصبي وإن لم يبلغ أن يتكلم ، وفي كتاب محمد : لا يحج بالرضيع ، وأما ابن أربع
فنعم اللخمي ، ولا أرى أن يحج إلا بمن يعقل القربة ، وأما الرضيع فهو كالبهيمة ،
قال وعلى هذا فلا يحج بالمجنون - انتهى . وقال ابن رشد في البداية (ج1 : ص252) :
اختلف أصحاب مالك في صحة
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/119)
وقوعه من الطفل الرضيع وينبغي أن لا يختلف في صحة وقوعه ممن يصح وقوع الصلاة منه ، وهو كما قال عليه الصلاة والسلام من السبع إلى العشر - انتهى . الثاني : هل ينعقد حجه أم لا ؟ قال النووي : في الحديث حجة للشافعي ، ومالك ، وأحمد ، وجماهير العلماء : أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزئه عن حجة الإسلام ، بل يقع تطوعا . وقال أبو حنيفة : لا يصح حجه ، قال أصحابه وإنما فعلوه تمرينا له ليعتاده فيفعله إذا بلغ . قال : وإنما خلاف أبي حنيفة في أنه هل ينعقد حجه ويجري عليه أحكام الحج ويجب فيه الفدية ودم الجبران وسائر أحكام البالغ ، فأبو حنيفة يمنع ذلك كله ويقول : إنما يجنب ذلك تمرينا على التعليم ، والجمهور يقولون يجري عليه أحكام الحج في ذلك وحجه منعقد يقع نقلا - انتهى . قلت : هكذا نقل غير واحد من شراح الحديث وأصحاب كتب الفقه الجامع مذهب الحنفية في ذلك ، منهم الحافظ في الفتح ، وابن قدامة في المغني (ج3 : ص252) ، وابن رشد في البداية (ج1: ص253) قال الحافظ : قال ابن بطال : أجمع أئمة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي حتى يبلغ إلا أنه إذا حج به كان له تطوعا عند الجمهور ، وقال أبو حنيفة : لا يصح إحرامه ولا يلزمه شيء من محظورات الإحرام ، وإنما يحج به على جهة التدريب - انتهى . والذي يظهر من كتب الفقه الحنفي المعتبرة أن قول أبي حنيفة مثل قول الجمهور يعني أن الصبي ينعقد نقلا ، وإنما خلافه في وجوب الفدية والكفارات ، ففي المبسوط : الصبي لو أحرم بنفسه وهو يعقل أو أحرم عنه أبوه صار محرما - انتهى . وفي العالمكيرية : لو أن الصبي حج قبل البلوغ لا يكون من حجة الإسلام ويكون تطوعا - انتهى . وقال في الدر المختار : لو أحرم صبي عاقل أو أحرم عنه أبوه صار محرما وينبغي أن يجرده قبله ويلبسه إزارا ورداء ، وقال القاري : في شرح اللباب ينعقد إحرام الصبي المميز للنفل لا للفرض ويصح أداءه بنفسه ولا يصح من
(17/120)
غيره في الأداء ولا الإحرام بل
يصحان من وليه له نيابة ، وهذا كله مبني على انعقاده نفلا . لكن في شرح المجمع :
وعندنا إذا أهل الصبي أو وليه لم ينعقد فرضا ولا نفلا . وفي الهداية ما يدل على
انعقاده نفلا ، ثم قال صاحب الهداية : واختلف المتأخرون فمنع بعضهم انعقاده أصلا ،
وقيل ينعقد ويكون حج تمرين واعتياد - انتهى . ويمكن الجمع بأنه لا ينعقد انعقادا
ملزما وينعقد نقلا غير ملزم لأنه غير مكلف ويتفرع عليه لو أنه لم يفعل شيا من
المأمورات أو ارتكب شيئا من المحظورات لا يجب عليه شيء من القضاء والكفارات ويقوي
ما ذكرنا في اختلاف المسائل : اختلفوا في حج الصبي ، قال أبو حنيفة : لا يصح منه .
قال يحيى بن محمد : معنى قول أبي حنيفة (( لا يصح منه )) على ما ذكره أصحابه : أنه
لا يصح صحة يتعلق بها وجوب الكفارات ، لا أنه يخرجه من ثواب الحج ، وكذا يؤيد ما
قلنا ما في الغاية من أن اعتكاف الصبي وصومه وحجه صحيح شرعي بلا خلاف - انتهى. ما
في شرح اللباب ، وقد صرح بانعقاد حجه نقلا صاحب الهداية والغنية وابن نجيم ، وابن
عابدين ، وغيرهم أيضا . وقال الطحاوي : أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
هذا الحديث ، أي الحديث الذي نحن في شرحه أن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/121)
للصبي حجا وهذا مما قد أجمع الناس جميعا عليه ولم يختلفوا أن للصبي حجا كما أن له صلاة - انتهى . وقد تبين مما ذكرنا أن حج الصبي يصح وينعقد نفلا عند الحنفية أيضا وأن خلافهم إنما هو في وجوب القضاء والكفارات ، الثالث : هل يجب عليه الجزاء والفدية والكفارة والقضاء أم لا ؟ وقد تقدم في كلام النووي من مذهب الجمهور وجوب ذلك خلافا لأبي حنيفة . وقال الزرقاني : في حديث انعقاد حج الصبي وصحة وقوعه نفلا وأنه مثاب عليه فيجتنب ما يجتنبه الكبير مما يمنعه الإحرام ويلزمه من الفدية والهدي ما يلزمه ، وبه قال الأئمة الثلاثة والجمهور خلافا لأبي حنيفة . وقال ابن عبد البر : قال مالك : ما أصاب الصبي من صيد أو لباس أو طيب فدى عنه ، وبذلك قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا جزاء عليه ولا فدية - انتهى . وقال الخطابي في المعالم (ج2 : ص281) : وفي ذلك دليل على أن حجه إذا فسد أو دخله نقص فإن جبرانه واجب عليه كالكبير ، وإن اصطاد صيدا لزمه الفداء كما يلزم الكبير . وفي وجوب هذه الغرامات عليه في ماله كما يلزمه لو أتلف مالا لإنسان فيكون غرمه في ماله أو وجوبها على وليه إذ كان هو الحامل له على الحج والنائب عنه وفي ذلك نظر وفيه اختلاف بين الفقهاء - انتهى . قلت : في وجوب الكفارة والجزاء والقضاء عند أتباع الأئمة الثلاثة تفاصيل ، اختلفوا فيها وأسقط بعهم في بعض الصور الكفارة والقضاء ، وهي مبسوطة في كتب فروعهم ، من شاء الوقوف عليها رجع إلى المغني لابن قدامة (ج2 : ص255) ، ومناسك الحج والمجموع للنووي ، والدسوقي على الشرح الكبير للدردير المالكي . وقال في شرح اللباب من فروع الحنفية : ولو أفسد أي الصبي نسكه أو ترك شيئا من أركانه وواجباته لا جزاء عليه ولا قضاء حيث شروعه ليس بملزم له لأنه غيره مكلف في فعله - انتهى . وقد وافق ابن حزم الحنفية في ذلك حيث قال في المحلى (ج7 : ص276 ، 277) : وإذا الصبي قد رفع عنه القلم فلا
(17/122)
جزاء عليه في صيد إن قتله في
الحرم أو في إحرامه ولا في حلق رأسه لأذى به عن تمتعه ولا لإحصاره لأنه غير مخاطب
بشيء من ذلك ولو لزمه هدى للزمه أن يعوض منه الصيام وهو في المتعة وحلق الرأس
وجزاء الصيد وهم لا يقولون بذلك . هذا ولا يفسد حجه بشيء مما ذكرنا إنما هو ما عمل
، أو عمل به أجر وما لم يعمل فلا إثم عليه - انتهى . قلت : واستدل الحنفية بالحديث
المشهور بين الفقهاء وأئمة الحديث (( رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتى يبلغ ))
الحديث أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، والحاكم ، وابن حبان من
حديث عائشة . وأحمد وأبو داود ، والنسائي ، والدارقطني ، والحاكم ، وابن خزيمة ،
وابن حبان من حديث علي . والطبراني بسنده عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - : ثوبان ، ومالك بن شداد وغيرهما . قال الحافظ : الرفع مجاز عن
عدم التكليف لأنه يكتب لهم فعل الخير قاله ابن حبان : قلت : والراجح عندنا هو ما
ذهب إليه الحنفية وابن حزم ، لأنه لا نص لمن ذهب إلى خلاف ذلك ولا حجة لهم فيما
قالوه ، هذا ما عندي والعلم عند الله تعالى . والرابع : هل يثاب الصبي على حسناته
من الصلاة والصوم
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/123)
والحج وغيرها ؟ قال العيني : استدل بالحديث بعضهم على أن الصبي يثاب على طاعته ويكتب له حسناته وهو قول أكثر أهل العلم ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب فيما حكاه المحب الطبري وحكاه النووي في شرح مسلم عن مالك ، والشافعي ، وأحمد والجمهور - انتهى . وقال الخطابي : إنما كان للصبي الحج من ناحية الفضيلة من دون أن يكون محسوبا عن فرضه لو بقي حتى يبلغ ويدرك مدرك الرجال ، وهذا كالصلاة يؤمر بها إذا أطاقها وهي غير واجبة عليه وجوب فرض ، ولكن يكتب له أجرها تفضلا من الله ، ويكتب لمن يأمره بها ويرشده إليها أجر . فإذا كان له حج فقد علم أن من سنته أن يوقف به في الموقف ويطاف به حول البيت محمولا إن لم يطق المشي ، وكذلك السعي بين الصفا والمروة ونحوه من أعمال الحج - انتهى . وقال الطبري : قد قال كثير من أهل العلم إن الصبي يثاب على طاعته وتكتب له حسناته دون سيئاته ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وقد تقدم ما يدل عليه في باب تسمية الحج جهادا ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : جهاد الكبير والصغير والمرأة : الحج والعمرة . أخرجه النسائي . قال : ففيه دلالة على أن ثواب عبادة الصغير لنفسه ، ثم إن كان الصبي يعقل عقل مثله أحرم بنفسه ، وإن لم يعقل أحرم عنه . وفي التمهيد : قال أبو عمر : فإن قيل : فما معنى الحج بالصغير وهو عندكم غير مجزئ عنه من حجة الإسلام وليس ممن تجري الأقلام له وعليه ؟ قيل : أما جري القلم له بالعمل الصالح فغير منكر أن تكتب للصبي درجة وحسنة في الآخرة بصلاته وزكاته وحجه وسائر أعمال البر التي يعملها على سنتها تفضلا من الله عز وجل كما تفضل على الميت بأن يؤجر لصدقة الحي عنه ويلحقه ثواب ما لم يقصده ولم يعمله مثل الدعاء والصلاة عليه ونحو ذلك . ألا ترى أنهم أجمعوا على أن الصبي إذا عقل الصلاة يصلي ، وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنس واليتيم معه وأكثر السلف على إيجاب الزكاة في أموال اليتامى
(17/124)
ويستحيل أن لا يؤجروا على ذلك
، وللذي يقوم بذلك عنهم أجر كما للذي يحجهم أجر فضلا من الله عز وجل ونعمة ، فلا
شيء يحرم الصغير التعرض لفضل الله ، وقد روي عن عمر بن الخطاب معنى ما ذكرنا ، ولا
مخالف له أعلمه ممن يجب إتباع قوله ، ثم ذكر بسنده إلى عمر قال : تكتب للصغير
حسناته ولا تكتب عليه سيئاته - انتهى . وقال ابن حزم في المحلى (ج7 : ص276) :
والله تعالى يتفضل بأن يأجرهم ولا يكتب عليهم إثما حتى يبلغوا ، فإن قيل : لا نية
للصبي ، قلنا : نعم ولا تلزمه ، إنما تلزم النية المخاطب المأمور المكلف والصبي
ليس مخاطبا ولا مكلفا ، وإنما أجره تفضل من الله تعالى مجرد عليه كما يتفضل على
الميت بعد موته ولا نية له ولا عمل بأن يأجره بدعاء ابنه له بعد موته وبما يعمله
غيره عنه من حج أو صيام أو صدقة ولا فرق ، ويفعل الله ما يشاء - انتهى . وفي شرح
اللباب : اتفقت الأئمة الأربعة على أن الصبي يثاب على طاعته وتكتب له حسناته سواء
كان مميزا أو غير مميز ، لكن اختلف أصحابنا هل تكون حسناته له دون أبويه أو يكون
الأجر لوالديه من غير أن ينقص من أجر الولد شيء ؟ ففي قاضي خان : قال أبو بكر
الإسكاف : حسناته تكون له دون أبويه ، وإنما يكون للوالد من ذلك
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/125)
أجر التعليم والإرشاد إذا فعل ذلك . وفي الغاية : أن اعتكاف الصبي وصومه وحجه صحيح شرعي بلا خلاف وأجره له دون أبويه - انتهى . وقال بعضهم : تكون حسناته لأبويه أيضا بناء على التسبب ، والأحاديث تدل عليه فقد روي عن أنس أنه قال : من جملة ما ينتفع به المرء بعد موته إن ترك ولدا تعلم القرآن والعلم فيكون لوالده أجر ذلك من غير أن ينقص من أجر الولد شيء - انتهى . الخامس : هل يجزئ الصبي عن حجة الإسلام ، أي الحجة الفريضة ؟ قال العيني : وفي أحكام ابن بزيزة : أما الصبي فاختلف القائلون بانعقاد حجه هل يجزيه عن حجة الفريضة ؟ فقال داود وغيره يجزيه وقال مالك ، والشافعي وغيرهما لا يجزيه ، وقال ابن البر في التمهيد : اختلف العلماء أيضا هل يجزئه عن حجة الإسلام فالذي عليه فقهاء الأمصار الذين قدمنا ذكرهم في هذا الباب أن ذلك لا يجزيه ، وذكر أبو جعفر الطحاوي في معاني الآثار حديث الباب ثم قال : فذهب قوم إلى أن الصبي إذا حج قبل بلوغه أجزأه عن حجة الإسلام ، واحتجوا بهذا الحديث وخالفهم آخرون فقالوا : لا يجزيه عن حجة الإسلام ، وعليه بعد بلوغه حجة أخرى ، وكان لهم من الحجة على أهل المقالة الأولى أن في هذا الحديث أن للصبي حجا ، وهذا مما قد أجمع الناس عليه ، ولم يختلفوا في أن للصبي حجا وليس ذلك عليه بفريضة ومن جهة القياس فكما له صلاة وليست بفريضة فكذلك قد يجوز أن يكون له حج وليس بفريضة ، وإنما هذا الحديث حجة على من زعم أنه لا حج له ، وأما من يقول إن له حجا وأنه غير فريضة فلم يخالف شيئا من هذا الحديث ، وهذا ابن عباس هو الذي روى هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قد صرف حج الصبي إلى غير الفريضة ثم ذكر ابن عبد البر بسند الطحاوي قول ابن عباس بلفظ : أيما غلام حج به أهله فمات فقد قضى حجة الإسلام وإن أدرك فعليه الحج . قال أبو عمر : على هذا جماعة فقهاء الأمصار وأئمة الأثر . وقال الشوكاني : وشذ
(17/126)
بعضهم فقال : إذا حج الصبي
أجزاه ذلك عن حجة الإسلام لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( نعم )) في جواب
قوله : (( ألهذا حج ؟ )) وقال الطحاوي : لا حجة في قوله - صلى الله عليه وسلم - :
(( نعم )) على أنه يجزيه عن حجة الإسلام بل فيه حجة على من زعم أنه لا حج له . قال
لأن ابن عباس راوى الحديث قال أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى ، ثم
ساقه بإسناد صحيح وقد أخرج هذا الحديث مرفوعا الحاكم (ج1: ص481) وقال : صحيح على
شرطهما ، والبيهقي (ج5 : ص156) ، وابن حزم (ج7 : ص44) وصححه . وقال ابن خزيمة :
الصحيح موقوف ، وأخرجه كذلك ، قال البيهقي : تفرد برفعه محمد بن المنهال . ورواه
الثوري عن شعبة موقوفا ولكنه قد تابع محمد بن المنهال على رفعه الحارث بن شريح ،
أخرجه كذلك الإسماعيلي والخطيب ، ويؤيد صحة رفعه ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس
: قال احفظوا عني ولا تقولوا . قال ابن عباس فذكره . وهو ظاهر في الرفع وقد أخرج
ابن عدي من حديث جابر بلفظ (( لو حج صغير حجة لكان عليه حجة أخرى )) ومثل هذا حديث
محمد بن كعب القرظي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أيما صبي حج به أهله
فمات أجزأت عنه ، فإن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/127)
أدرك فعليه الحج - الحديث ، أورده صاحب المنتقي وقال : ذكره أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله هكذا مرسلا . قال صاحب الفتح الرباني : لم أقف على هذا الحديث في المسند ، ولعله في كتاب آخر من كتب الإمام أحمد ، ولا سيما لم يعزه صاحب المنتقي إلى المسند ، قال الشوكاني : وأخرجه أبو داود في المراسيل ، وفيه راو لم يسم . قلت : وأخرجه أيضا ابن حزم في المحلى (ج7 : ص44) ، وقال : هو مرسل وعن شيخ لا يدري اسمه ولا من هو ؟ قال الشوكاني : فيؤخذ من مجموع هذه الأحاديث أنه يصح حجه ولا يجزئه عن حجة الإسلام إذا بلغ وهذا هو الظاهر فيتعين المصير إليه . قال القاضي عياض : أجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن فريضة الإسلام إلا فرقة شذت فقالت يجزئه لقوله نعم ، وظاهره استقامة كون حج الصبي مطلقا ، والحج إذا أطلق تبادر منه إسقاط الواجب . ولكن العلماء ذهبوا إلى خلافه محتجين بحديث ابن عباس المذكور يعني الذي رواه الحاكم ، والطحاوي ، والبيهقي وابن حزم ، وغيرهم . السادس : فيمن يحرم عن الصبي ، واختلفوا فيه أيضا ، والحديث دليل على أن الأم يجوز لها أن تحرم عنه ، خلافا للشافعية . قال الطبري : واختلف أصحابنا في من يحرم عنه ، فأكثرهم ذهب إلى أن ذلك منوط بالولاية في ماله ، فمن ثبت له الولاية فيه أحرم عنه ، والمعنى بالإحرام عنه أنه ينوي بقلبه أنه جعله محرما ، وذهب بعضهم إلى أن أمه مقدمة في ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ولك أجر )) والأولون يحملون ذلك على ما ذكرناه من أن معناه ، أي فيما تتكلفين من أمره بالحج وتعليمه إياه والقيام بأمره - انتهى . وقال النووي : في شرح مسلم أما الولي الذي يحرم عن الصبي فالصحيح عند أصحابنا أنه الذي يلي ماله وهو أبوه أو جده أو الوصي أو القيم من جهة القاضي أو القاضي أو الإمام ، وأما الأم فلا يصح إحرامها عنه إلا أن تكون وصية أو قيمة من جهة القاضي ، وقيل : إنه يصح إحرامها وإحرام
(17/128)
العصبة وإن لم يكن لهم ولاية
المال ، وهذا كله إن كان صغيرا لا يميز ، فإن كان مميزا أذن له الولي فأحرم ، فلو
أحرم بغير إذن الولي أو أحرم الولي عنه لم ينعقد على الأصح ، وصفة إحرام الولي من
غير المميز أن يقول بقلبه : (( جعلته محرما )) - انتهى . وقال في مناسكه : إن كان
مميزا أحرم بإذن وليه ، فإن أحرم بغير إذنه لم يصح على الأصح ولو أحرم عنه وليه صح
على الأصح ، فإن لم يكن مميزا أحرم عنه وليه وهو الأب وكذا الجد عند عدم الأب ،
ولا يتولاه عند وجوده ، والوصي والقيم كالأب على الصحيح ، ولا يتولاه الأخ والعم
والأم على الأصح إذا لم يكن له وصية ولا ولاية من الحاكم . قال ابن حجر : قوله :
(( وهو الأب )) ويشرط في الأب كما قاله الأذرعي شروط ولاية المال من العدالة
وغيرها ، فإن انتفى عنه بعضها انتقلت إلى الجد ، وقوله : (( عند عدم الأب )) ، أي
أو وجوده لا بصفة الولاية ، قوله : (( والأم )) اعترض بما في مسلم (( أن امرأة
رفعت صبيا )) الحديث . ورد بأنه ليس في الحديث أنها أحرمت عنه ، وبتقديره يحتمل
كونها وصية أو قيمة ، أو أن الأجر الحاصل إنما هو أجر الحمل والنفقة - انتهى .
وقال الشيخ ولي الدين : لا يصح الاستدلال بهذا الحديث على صحة الإحرام عنه مطلقا
لاحتمال أن هذا الصبي كان مميزا فأحرم هو عن نفسه ، وعلى تقدير أنه لم يميز فلعل
له وليا
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/129)
أحرم عنه ، وعلى تقدير أنها التي أحرمت فلعلها ولية مال - انتهى . وقال ابن قدامة (ج3 : ص253) : إن كان مميزا أحرم بإذن وليه ، وإن أحرم بدون إذنه لم يصح ، لأن هذا عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد من الصبي بنفسه كالبيع ، وإن كان غير مميز فأحرم عنه من له ولاية على ماله كالأب والوصي وأمين الحاكم صح ، قال : فإن أحرمت أمه عنه صح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( ولك أجر )) ولا يضاف الأجر إليها إلا لكونه تبعا لها في الإحرام . وقال الإمام أحمد : في رواية حنبل : يحرم عنه أبوه أو وليه ، واختاره ابن عقيل ، وقال : المال الذي يلزم بالإحرام لا يلزم الصبي وإنما يلزم من أدخله في الإحرام في أحد الوجهين . وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنه لا يحرم عنه إلا وليه لأنه لا ولاية للأم على ماله ، والإحرام يتعلق به إلزام مال فلا يصح من غير ذي ولاية ، أما غير الأم والولي من الأقارب كالأخ والعم وابنه فيخرج فيهم وجهان بناء على القول في الأم ، أما الأجانب فلا يصح إحرامهم عنه وجها واحدا - انتهى . وقال الدردير : يحرم ولي أب أو غيره عن رضيع قرب الحرم ، أي مكة لا من الميقات للمشقة ، ويحرم الصبي المميز وهو الذي يفهم الخطاب ويحسن رد الجواب بإذن الولي من الميقات ، وألا يحرم بإذنه بل بغيره فله تحليله إن رآه مصلحة ولا قضاء عليه إذا حلله . قال الدسوقي : قوله : أب أو غيره كوصي ومقدم وقاض ، وأم وعاصب وإن لم يكن لهم نظر في المال كما نقله الأبي في شرح مسلم وأقره ، وخلافا للشافعية حيث قالوا : الولي الذي يحرم عنه إنما هو الولي الذي له النظر في المال ، وقوله (( عن رضيع )) المراد به الصغير المميز - انتهى . وقال في شرح اللباب : ينعقد إحرام الصبي المميز للنقل ويصح أداؤه بنفسه دون غيره ولا يصح من غير الميز في الأداء ولا الإحرام بل يصحان من وليه فيحرم عنه من كان أقرب إليه في النسب فلو اجتمع أخ أو والد يحرم له الوالد على
(17/130)
ما في فتاوى قاضي خان ،
والظاهر أنه شرط الأولوية - انتهى . وفي الغنية : ينعقد إحرام الصبي المميز للنقل
إذا أحرم بنفسه ، وكذا غير المميز إذا أحرم عنه وليه ، فالمميز لا يصح النيابة عنه
في الإحرام ولا في أداء الأفعال إلا فيما لم يقدر عليه فيحرم بنفسه ويقضي المناسك
كلها بنفسه ويفعل كما يفعل البالغ ، وأما غير المميز فلا يصح أن يحرم بنفسه لأنه
لا يعقل النية ولا يقدر التلفظ بالتلبية ، وهما شرطان في الإحرام فيحرم له وليه
والأقرب أولى - انتهى . قال ابن عابدين : المراد من كان أقرب إليه بالنسب ، فلو
اجتمع والد وأخ يحرم له الوالد كما في الخانية ، والظاهر أنه شرط الأولوية - انتهى
. السابع : إذا أحرم الصبي فبلغ قبل الوقوف بعرفة ماذا يفعل وهل يجزئه عن حجة
الإسلام ؟ قال ابن عبد البر : في التمهيد اختلف الفقهاء في المراهق والعبد يحرمان
بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة ، فقال مالك وأصحابه : لا سبيل إلى
رفض الإحرام لهذين ولا لأحد ويتماديان على إحرامهما ولا يجزيهما حجهما ذلك عن حجة
الإسلام . وقال أبو حنيفة : إن جدد الصبي إحراما بعد ما بلغ أجزأه ، وقال الشافعي
: إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه عن حجة الإسلام ،
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/131)
وكذلك العبد إذا أحرم ثم عتق قبل الوقوف فوقف بها محرما أجزأه عن حجة الإسلام ولم يحتج إلى تجديد إحرام واحد منهما - انتهى . وقال النووي في مناسكه : إذا بلغ الصبي بعد خروج الوقت للوقوف أو قبل خروجه وبعد مفارقة عرفات ولم يعد إليها بعد البلوغ لم يجز عن حجة الإسلام وإن بلغ في حال الوقوف أو بعده فعاد ووقف في الوقت أجزأه عن حجة الإسلام - انتهى . وقال ابن قدامة : في المغني (ج3 : ص248) : أجمع أهل العلم إلا من شذ عنهم ممن لا يعتد بخلافه على أن الصبي إذا حج في صغره والعبد إذا حج في رقه ثم بلغ أو عتق أن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليها سبيلا . كذلك قال ابن عباس ، وعطاء ، والحسن والنخعي ، والثوري ، ومالك ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور وأصحاب الرأي . قال الترمذي : وقد أجمع أهل العلم عليه . وقال الإمام أحمد عن محمد بن كعب القرظي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين عهدا ، أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه ، فإن أدرك فعليه الحج ، وأيما مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه ، فإن عتق فعليه الحج . رواه سعيد بن منصور في سننه ، والشافعي في مسنده عن ابن عباس من قوله ، فإن بلغ الصبي أو عتق العبد بعرفة أو قبلها غير محرمين فأحرما ووقفا بعرفة وأتما المناسك ، أجزأهما عن حجة الإسلام ، لا نعلم فيه خلافا لأنه لم يفتهما شيء من أركان الحج ، ولا فعلا شيئا منها قبل وجوبه ، وإن كان البلوغ والعتق وهما محرمان أجزأهما أيضا عن حجة الإسلام ، وكذلك قال ابن عباس ، وهو مذهب الشافعي ، وإسحاق . وقاله الحسن في العبد . وقال مالك لا يجزئهما ، اختاره ابن المنذر . وقال أصحاب الرأي : لا يجزئ العبد ، فأما الصبي فإن جدد إحراما بعد أن احتلم قبل الوقوف أجزأه وإلا فلا لأن إحرامهما لم ينعقد واجبا فلا يجزي عن الواجب كما لو بقيا على حالهما . قال ابن قدامة : ولنا أنه أدرك الوقوف حرا
(17/132)
بالغا فأجزأه كما لو أحرم تلك
الساعة ، قال أحمد : قال طاوس عن ابن عباس : إذا عتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته ،
فإن عتق بجمع لم تجزئ عنه ، وهؤلاء يقولون : لا تجزئ ، ومالك يقوله أيضا ، والحكم
فيما إذا أعتق العبد وبلغ الصبي بعد خروجهما من عرفة فعادا إليها قبل طلوع الفجر
ليلة النحر كالحكم فيما إذا كان ذلك فيها لأنهما قد أدركا من الوقت ما يجزئ ، ولو
كان لحظة ، وإن لم يعود أو كان ذلك قبل طلوع الفجر من يوم النحر لم يجزئهما عن حجة
الإسلام ويتمان حجهما تطوعا لفوات الوقوف المفروض ولا دم عليها لأنهما حجا تطوعا
بإحرام صحيح من الميقات فأشبها البالغ الذي يحج تطوعا ، وإذا بلغ الصبي أو عتق
العبد قبل الوقوف أو في وقته وأمكنهما الإتيان بالحج لزمهما ذلك لأن الحج واجب على
الفور فلا يجوز تأخيره مع إمكانه كالبالغ الحر ، وإن فاتهما الحج لزمتهما العمرة
لأنها واجبة أمكن فعلها فأشبهت الحج ، ومتى أمكنهما ذلك فلم يفعلا استقر الوجوب
عليهما سواء كانا معسرين أو موسرين لأن ذلك وجب عليهما بإمكانه في موضعه فلم يسقط
بفوات القدرة بعده - انتهى . وقال في الهداية : إذا بلغ الصبي بعد ما أحرم أو أعتق
العبد فمضيا لم يجزهما
رواه مسلم .
2535- (7) وعنه قال :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/133)
عن حجة الإسلام لأن إحرامهما انعقد لأداء النفل فلا ينقلب لأداء الفرض ، ولو جدد الصبي الإحرام قبل الوقوف ونوى حجة الإسلام جاز ، والعبد لو فعل ذلك لم يجز لأن إحرام الصبي غير لازم لعدم الأهلية ، وأما إحرام العبد فلازم فلا يمكنه الخروج منه بالشروع في غيره - انتهى . ويتضح وجه الفرق بين الصبي والعبد عند الحنفية إذ يكفي تجديد الأول إحرامه دون الثاني بما ذكره القاري حيث قال لا يجب الحج على صبي فلو حج فهو نفل لا فرض لكونه غير مكلف فلو أحرم ثم بلغ فلو جدد إحرامه يقع عن فرضه وإلا لا ، وإنما جوز له التجديد لكون شروعه غير ملزم ، بخلاف العبد البالغ إذا عتق ، فإنه ليس له أن يجدد إحرامه بالفرض للزوم الإحرام الأول في حقه بشروعه فليس له أن يخرج عنه إلا بأدائه - انتهى . هذا واختلفت الحنفية في صحة تجديد الإحرام بعد الوقوف فذهب بعضهم إلى أنه معتبر وقال بعضهم لا يعتبر لأن بالوقوف ولو لحظة تم حج النفل ولا يصح في سنة حجتان إجماعا . ( رواه مسلم ) هو من إفراد مسلم ، لم يخرجه البخاري في صحيحه ، ومن عزاه إليهما كابن رشد في البداية ومحب الدين الطبري في القرى فقد سها ، وقد أخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص219) ، والشافعي وأبو داود والنسائي والحاكم (ج1 : ص484) ، وابن الجارود (ص147) ، والبيهقي (ج5 : ص155 ، 156) وأخرجه مالك مرسلا . وفي الباب عن جابر أخرجه أحمد ، وابن ماجة ، وابن أبي شيبة ، وعن السائب بن يزيد أخرجه أحمد والبخاري والترمذي . وعن عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال (( بعثني أو قدمني النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثقل من جمع بليل )) أخرجه البخاري . ووجه دخول هذا الحديث في الباب أن ابن عباس كان دون البلوغ إذ ذاك .
(17/134)
2535- قوله ( وعنه ) ، أي عن
ابن عباس ، كذا قال مالك وأكثر الرواة عن الزهري عن سليمان عند الشيخين وغيرهما أن
الحديث من مسند عبد الله بن عباس ، وخالفهم ابن جريج عن الزهري في الصحيحين أيضا
فقال عن ابن عباس عن الفضل أن امرأة فذكره فجعله من مسند الفضل ، وتابعه معمر ،
وروى ابن ماجة من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس أخبرني حصين بن عوف
الخثعمي ، قال : قلت : يا رسول الله إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع أن يحج - الحديث
. قال الترمذي : سألت محمدا يعني البخاري عن هذا فقال أصح شيء فيه ما روي عن ابن
عباس عن الفضل . قال محمد : ويحتمل أن يكون ابن عباس سمعه من الفضل ومن غيره ثم
رواه بغير واسطة - انتهى . قال الحافظ : وإنما رجح البخاري الرواية عن الفضل لأنه
كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ وكان عبد الله بن عباس قد تقدم من
المزدلفة إلى منى مع الضعفة ، وأخرج البخاري في باب التلبيلة والتكبير من طريق
عطاء عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أردف الفضل فأخبر الفضل أنه لم
إن امرأة من خثعم ، قالت : يا رسول الله ! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت
أبي شيخا كبيرا ، لا يثبت على الراحلة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/135)
يزل يلبي حتى رمى الجمرة . فكان الفضل حدث أخاه بما شاهده في تلك الحالة ، ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة فحضره ابن عباس فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة ، وتارة عما شاهده ويؤيد ذلك ما وقع عند الترمذي وأحمد (ج1 : ص75 ، 76) ، وابنه عبد الله (ج1 : ص76) ، والطبري من حديث علي مما يدل على أن السؤال المذكور وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي ، وأن العباس كان شاهدا ، ولفظ أحمد من طريق عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال : وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فقال : هذا الموقف وعرفة كلها موقف , فذكر الحديث ، وفيه (( ثم أتى المنحر فقال هذا المنحر ومنى كلها )) ، قال : (( واستفتته )) ، وفي رواية ابنه عبد الله : ثم جاءته امرأة شابة من خثعم فقالت : إن أبي شيخ كبير قد أفند وقد أدركته فريضة الله في الحج ، أفيجزئ عنه أن أؤدي عنه ؟ قال : نعم فأدي عن أبيك . قال : وقد لوى عنق الفضل ، فقال العباس : يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك ؟ قال : رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان . وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك ، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضا كان معه - انتهى . ( إن امرأة ) قال الحافظ : لم تسم ( من خثعم ) قال القسطلاني : بفتح الخاء المعجمة وسكون المثلثة وفتح العين المهملة غير مصروف للعلمية والتأنيث باعتبار القبيلة لا العلمية ووزن الفعل ، وهي قبيلة مشهورة ، أي من اليمن . وقال السندي : غير منصرف للعلمية ووزن الفعل أو التأنيث لكونه اسم قبيلة . وقال القاري : أو قبيلة من اليمن سموا به ، ويجوز صرفه ومنعه . قال الزرقاني : قبيلة مشهورة سميت باسم جدها واسمه : أفتل بن أنمار . قال الكلبي : إنما سمي خثعم بجمل يقال له : خثعم ، ويقال أنه لما تحالف ولد أفتل على إخوته نحروا بعيرا ثم تخثعموا بدمه ، أي تلطخوا به بلغتهم ( إن فريضة الله على عباده في الحج ) ، أي في أمره وشأنه
(17/136)
، ويمكن في بمعنى من للبيانية
قاله القاري . ( أدركت ) ، أي الفريضة ( أبي ) لم يسم أيضا وهو مفعول ( شيخنا )
حال ( كبيرا ) نعت له ، قال السندي : قوله (( أدركت أبي شيخنا كبيرا )) إلخ ، يفيد
أن افتراض الحج لا يشترط له القدرة على السفر وقد قرر - صلى الله عليه وسلم - ذلك
فهو يؤيد أن الاستطاعة المعتبرة في افتراض الحج ليست بالبدن ، وإنما هي بالزاد
والراحلة ، والله تعالى أعلم . ( لا يثبت على الراحلة ) نعت آخر ويحتمل أن يكون
حالا أيضا ويكون من الأحوال المتداخلة أو شيخا بدل لكونه موصوفا ، أي وجب عليه
الحج بأن أسلم وهو شيخ كبير وله المال أو حصل له المال في هذه الحالة ، والأول
أوجه . قال الطيبي : وفي رواية : (( لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره )) وفي
رواية : (( لا يستمسك على الرحل )) وفي رواية من الزيادة : (( إن شددته خشيت أن
يموت )) ، وحديث أبي هريرة عند ابن خزيمة بلفظ : (( وإن شددت بالحبل على الراحلة
خشيت أن أقتله )) قال الحافظ : وهذا يفهم منه على أن من قدر على هذين الأمرين من
الثبوت على الراحلة أو الأمن عليه من
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/137)
الأذى لو ربط لم يرخص له في الحج عنه كمن يقدر على محمل موطأ كالمحفة . وقال الأمير اليماني : ظاهر الحديث مع الزيادة المذكورة أنه لا بد في صحة التحجيج عنه من الأمرين عدم ثباته على الراحلة والخشية من الضرر عليه من شده فمن لا يضره الشد كالذي يقدر على المحفة لا يجزئه حج الغير إلا أنه ادعى في البحر الإجماع على أن الصحة وهي التي يستمسك معها قاعدا شرط بالإجماع فإن صح الإجماع فذاك وإلا فالدليل مع من ذكرنا - انتهى . وهذا وقد اختلف هل المسئول عنه رجل أو امرأة كما وقع الاختلاف في الروايات في السائل ففي بعض الروايات أنه امرأة ، وفي بعضها أنه رجل ، وقد بسط ذلك في الفتح (ج7 : ص221) ، وفي باب حج المرأة عن الرجل فقال : اتفقت الروايات كلها عن ابن شهاب عن سليمان على أن السائلة كانت امرأة ، وأنها سألت عن أبيها ، وخالفه يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان فاتفق الرواة على أن السائل رجل . ثم اختلفوا عليه في إسناده ومتنه فذكر الاختلاف في الإسناد ثم قال : وأما المتن فقال هشيم عن يحيى عن سليمان : أن رجلا سأل فقال : إن أبي مات ، وقال ابن سيرين عنه فجاء رجل فقال : إن أمي عجوز كبيرة ، وقال ابن علية عنه فجاء رجل فقال : إن أبي أو أمي ، وخالف الجميع معمر عن يحي فقال : إن امرأة سألت عن أمها . وهذا الاختلاف كله عن سليمان بن يسار فأحببنا أن ننظر في سياق غيره ، فإذا كريب قد رواه عن ابن عباس عن حصين بن عوف الخثعمي ، قال قلت : يا رسول الله إن أبي أدركه الحج . وإذا عطاء الخراساني روى عن أبي الغوث بن حصين الخثعمي أنه استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حجة كانت على أبيه . أخرجهما ابن ماجة ، والرواية الأولى أقوى إسنادا ، وهذا يوافق رواية هشيم في أن السائل عن ذلك رجل سأل عن أبيه ويوافقه ما روى الطبراني من طريق عبد الله بن شداد عن الفضل بن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير ، ويوافقهما مرسل الحسن عند
(17/138)
ابن خزيمة وقد جمع بعض العلماء
وهو الحافظ زين الدين العراقي شيخ الحافظ والعيني بين هذه الروايات بتعدد القضية
إذ قال : إن السؤال وقع مرات : مرة من امرأة عن أبيها ومرة من امرأة عن أمها ،
ومرة من رجل عن أبيه ومرة في السؤال عن الشيخ الكبير ، ومرة في الحج عن الميت لكن
قال الحافظ : والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق أن السائل رجل وكانت ابنته معه
فسألت أيضا والمسئول عنه أبو الرجل وأمه جميعا ، ويقرب ذلك ما رواه أبو يعلي
بإسناد قوى من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل بن عباس ، قال : كنت ردف
النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعرابي معه بنت له حسناء ، فجعل الأعرابي يعرضها
لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يتزوجها وجعلت ألتفت إليها ويأخذ النبي
- صلى الله عليه وسلم - برأسي فيلويه ، فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة . فعلى هذا
فقول الشابة : (( إن أبي )) لعلها لأرادت به جدها ، لأن أباها كان معها ، وكأنه
أمرها أن تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسمع كلامها ويراها رجاء أن يتزوجها
، فلما لم يرضها سأل أبوها عن أبيه ، ولا مانع أن يسأل عن أمه ، وتحصل من هذا الروايات
أن اسم الرجل حصين بن عوف الخثعمي ، وأما ما وقع في الرواية الأخرى أنه أبو الغوث
بن
أفأحج عنه ؟ قال : نعم . وذلك في حجة الوداع .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/139)
حصين ، فإن إسنادها ضعيف ، ولعله كان فيه عن أبي الغوث حصين فزيد في الرواية ابن أو أن أبا الغوث كان مع أبيه حصين فسأل كما سأل أبوه وأخته والله أعلم - انتهى . وقيل : الأحسن في الجمع بين ذلك أن يقال : إن البنت المذكورة في رواية أبي يعلى كانت مع عم لها لا مع أبيها ، فإن التجوز في رواية أبي يعلى من لفظ : (( معه بنت له )) أهون من التجوز في جميع الروايات المختلفة الواردة بلفظ : (( إن أبي شيخ كبير )) فالابنة سألت عن أبيها ، والعم سأل عن أبيه ، وأيضا على ما أفاد الحافظ لم يبق الحاجة إلى سؤاله عن أبيه بعد ما سألت هي عنه ( أفأحج عنه ) ، أي أيجوز لي أن أنوب عنه فأحج عنه لأن ما بعد الفاء الداخلة عليها الهمزة معطوف على مقدر ، والمعنى : أيصح مني أن أكون نائبة عنه في الحج فأحج عنه ( قال : نعم ) وعند أحمد (ج1 : ص212) (( فحجي عن أبيك )) ( وذلك ) أي جميع ما ذكر جرى ( في حج الوداع ) بمنى ، الوداع بفتح الواو وقيل بكسرها سميت بذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - ودع الناس فيها ولم يحج بعد الهجرة غيرها ، وكانت في سنة عشر من الهجرة وفي الحديث دليل على جواز حج المرأة عن الرجل وبالعكس ، وذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز حج المرأة عن الرجل ، قالوا : لأن المرأة تلبس في الإحرام ما لا يلبسه الرجل فلا يحج عنه إلا رجل مثله . وحديث الباب يرد هذا القول . قال ابن بطال : لا خلاف في جواز حج الرجل عن المرأة و المرأة عن الرجل ، ولم يخالف في جواز حج الرجل عن المرأة ، والمرأة عن الرجل إلا الحسن بن صالح - انتهى . وقال ابن قدامة في المغني (ج3 : ص233) : يجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة ، والمرأة عن الرجل و المرأة في الحج في قول عامة أهل العلم ، لا نعلم فيه مخالفا إلا الحسن بن صالح ، فإنه كره حج المرأة عن الرجل ، قال ابن المنذر : هذه غفلة عن ظاهر السنة ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المرأة أن تحج عن أبيها ،
(17/140)
وعليه يعتمد من أجاز حج المرأ
عن غيره . وفي الباب حديث أبي رزين ( يعني الذي يأتي في الفصل الثاني ) أحاديث
سواه - انتهى . وفيه دليل على وجوب الحج على العاجز الذي يجد الاستطاعة بالغير ،
قال الخطابي : فيه دليل على أن فرض الحج يلزم من استفاد مالا في حال كبره وزمانته
إذا كان قادرا به على أن يأمر غيره في حج عنه كما لو قدر على ذلك بنفسه - انتهى .
قلت : واختلف العلماء فيه قال ابن رشد : أما وجوبه باستطاعة النيابة مع العجز عن
المباشرة فعند مالك وأبي حنيفة لا تلزم ، وعند الشافعي تلزم ، فيلزم على مذهبه
الذي عنده مال بقدر أن يحج به عنه غيره إذا لم يقدره هو ببدنه أن يحج عنه غيره ،
وهى المسألة التي يعرفونها بالمعضوب وهو الذي لا يثبت على الراحلة - انتهى . وقال
ابن قدامة (ج3 : ص227) : من وجدت فيه شرائط وجوب الحج وكان عاجزا عنه لمانع مأيوس
من زواله كزمانة أو مرض لا يرجى زواله والشيخ الفاني متى وجد من ينوب عنه في الحج
ومالا يستنيبه به لزمه الحج ، وبهذا قال أبو حنيفة ، والشافعي
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/141)
وقال مالك : لا حج عليه إلا أن يستطيع بنفسه لأنه تعالى قال : ? من استطاع إليه سبيلا ? ( - 3 : 91 ) وهذا غير مستطيع ، ولنا حديث أبي رزين وحديث ابن عباس في المرأة الخثعمية . وسئل علي رضي الله عنه عن شيخ لا يجد الاستطاعة قال : يجهز عنه - انتهى . وقال الخطابي : استدل الشافعي بخبر الخثعمية على وجوب الحج على المعضوب الزمن إذا وجد من يبذل له طاعته من ولده وولد ولده . ووجه ما استدل به من هذا الحديث أنها ذكرت وجوب فرض الحج على أبيها في حال الزمانة ولا بد من تعلق وجوبه بأحد أمور إما بمال أو بقوة بدن أو وجود طاعة من ذي قوة ، وقد علمنا عجزه ببدنه ولم يجز للمال ذكر وإنما جرى الذكر لطاعتها وبذلها نفسها عنه فدل على أن الوجوب تعلق به ، ومعلوم في اللسان أن يقال : فلان مستطيع لأن يبني داره إذا كان يجد من يطيعه في ابتنائها كما إذا وجد مالا ينفقه في بنائها وكما لو قدر عليه بنفسه - انتهى . قال صاحب القرى : ولقائل أن يقول : استفسارها عن جواز الحج عنه وقع بعد إخبارها بإدراك الفرض له ، فدل على تعلق الوجوب بأمر آخر غير الطواعية ، فإن من لم يعلم جواز حجه عن أبيه لا يعلم وجوب الحج على أبيه بطواعيته وهذا ظاهر لمن تأمله ، وليس ذلك الأمر الآخر إلا المال لتعذر القسمين الآخرين ، أما الطواعية فلما ذكرناه ، وأما القوة في البدن فلإخبارها أن الفرض أدركه وهو بحالة العجز ، هذا هو الظاهر ولا وجه لصرف اللفظ عن ظاهره ، وتكون هي قد علمت أن الاستطاعة بالمال كالاستطاعة بالبدن . وعلى هذا يكون الحديث حجة على وجوب الحج على المعضوب بسبب الاستطاعة بالمال أو بطواعية الولد قياسا عليه ، وأما غير الولد فيمكن إلحاقه به لوجود مطلق الاستطاعة - انتهى . وقال الحافظ : استدل بالحديث على أن الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس ، وعكس بعض المالكية فقال : من لم يستطع بنفسه لم يلاقه الوجوب قلت : فسر المالكية الاستطاعة
(17/142)
بإمكان الوصول إلى البيت من
غير خروج عن عادة خلافا للأئمة الثلاثة فإنهم فسروها بالزاد والراحلة كما سيأتي .
قال ابن التين : الاستطاعة أن يقدر على الوصول إلى البيت من غير خروج عن عادة ،
فمن كان عادته السفر ماشيا ، أي وأمكن وصوله ماشيا لزمه أن يمشي وإن لم يجد راحلة
، ومن كان عادته تكفف الناس وأمكنه التوصل به لزمه وإن لم يجد زادا ، ومن كان
عادته الركوب والغناء عن الناس لم يلزمه الحج إلا بوجدان ذلك ، وصرح الدردير أنه
يجب الحج على الأعمى القادر على المشي بقائد ولو بأجرة . وقال عياض : الاستطاعة
عند مالك هي القدرة ولو على رجليه دون مشقة فادحة . وقال الأكثر : هي الزاد
والراحلة ، وجاء فيه حديث وتأويله عندنا أنه أحد أنواع الاستطاعة لا كلها وما وقع
من الاختلاف في نقل مذهب أبي حنيفة بين ابن قدامة وابن رشد فهو مبني على اختلاف
الروايات عنه كما سيأتي . قال القاري في شرح اللباب في شرائط وجوب الأداء : الأول
منها سلامة البدن عن الأمراض والعلل . فقيل : الصحيح أنه شرط الوجوب فحسب على ما
في النهاية . وقال في البحر : هو المذهب الصحيح . وقيل : إنه من شرط
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/143)
الأداء على ما صححه قاضي خان في شرح الجامع ، واختاره كثير من المشايخ ، منهم ابن الهمام ، فعلى الأول لا يجب على الأعمى والمقعد والمعضوب ، أي : الضعيف والزمن الذي لا حراك به على ما في القاموس ، والمراد هنا الشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة . قال ابن الهمام : ففي المشهور عن أبي حنيفة أنه لا يلزمهم الحج . قال في البحر : وهذا عند أبي حنيفة في ظاهر الرواية وهو رواية عنهما . وقالا في ظاهر روايتهما وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه يجب على هؤلاء إذا ملكوا الزاد والراحلة ومؤنة من يرفعهم ويضعهم . والخلاف المذكور في من وجد الاستطاعة وهو معذور ، أما إن وجدها وهو صحيح ثم طرأ عليه العذر فالاتفاق على الوجوب - انتهى مختصرا . واستدل بحديث الباب على وجوب الاستنابة على العاجز عن الحج الفرض ، وقال عياض : لا حجة فيه لذلك ، لأن قولها (( إن فريضة الله على عباده )) ألخ ، لا يوجب دخول أبيها في هذا الفرض ، وإنما الظاهر من الحديث أنها أخبرت أن فرض الحج بالاستطاعة نزل وأبوها غير مستطيع فسألت هل يباح لها أن تحج عنه له ويكون له في ذلك أجر ؟ يعني أن معنى قولها المذكور أن إلزام الله عباده بالحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف أبي بصفة من لا يستطيع فهل أحج عنه هل يجوز لي ذلك أو هل فيه أجر ومنفعة ؟ فقال : نعم . ولا يخالفه . قوله (( فحجي عنه )) لأنه أمر ندب وإرشاد ورخصة لها أن تعمل لما رأى من حرصها على تحصيل الخير لأبيها . قال الحافظ وتعقب بأن في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء فيتم الاستدلال ، وفي بعض طرق مسلم (( إن أبي عليه فريضة الله في الحج )) ولأحمد في رواية (( والحج مكتوب عليه )) - انتهى . قلت : قولها (( أدركت أبي )) يرد التأويل الذي ذكره عياض فأنه صريح في إدراك الفرض له ، والظاهر من إدراك الفرض للإنسان اللزوم وصرف اللفظ عن ظاهره خلاف الأصل وادعى بعض المالكية أن هذه القصة مختصة بالخثعمية كما اختص
(17/144)
سالم مولى أبي حذيفة بجواز
إرضاع الكبير حكاه عنه ابن عبد البر وتعقب بأن الأصل عدم الخصوصية واحتج بعضهم
لذلك بما رواه عبد الملك بن حبيب صاحب الواضحة بإسنادين مرسلين فزاد في الحديث ((
حج عنه وليس لأحد بعده )) ولا حجة فيه لضعف الإسناد مع إرسالهما ، وقد عارضه قوله
في حديث الجهنية في باب الحج والنذر عن الميت عند البخاري (( اقضوا الله فالله أحق
بالوفاء )) وادعى آخرون منهم أن ذلك خاص بالابن يحج عن أبيه ولا يخفى أنه جمود .
واستدل بحديث الباب على جواز الحج عن غيره إذا كان لا يستطيع الحج بنفسه وأنه ليس
كالصلاة والصوم وسائر الأعمال البدنية وأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك أن الله
عز وجل إنما أراد بقوله : ?وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ? ( - 53 : 39 ) بعض
الأعمال دون بعض . قال ابن العربي : حديث الخثعمية حديث متفق على صحته في الحج
خارج عن القاعدة المستقرة في الشريعة من أن ليس للإنسان إلا ما سعي ، رفقا من الله
في استدراك ما فرط فيه المرء بولده وماله ، وتعقب بأنه يمكن أن يدخل في عموم السعي
وبأن عموم السعي
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/145)
في الآية مخصوص اتفاقا وقال الخطابي : في هذا الحديث بيان جواز حج الإنسان عن غيره حيا وميتا وأنه ليس كالصلاة والصيام وسائر الأعمال البدنية التي لا تجرى فيها النيابة ، وإلى هذا ذهب الشافعي ، وكان مالك لا يرى ذلك وقال : لا يجزئه إن فعل وهو الذي روى حديث ابن عباس ، وكان يقول في الحج عن الميت : إن لم يوص به الميت أن تصدق عنه وأعتق أحب إلي من أن يحج عنه ، وكان إبراهيم النخعي ، وابن أبي ذئب يقولان : لا يحج أحد عن أحد والحديث حجة على جماعتهم - انتهى . وقال العيني : في الحديث جواز الحج عن غيره إذا كان معضوبا ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وقال مالك ، والليث ، والحسن بن صالح : لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام ، وحاصل ما في مذهب مالك ثلاثة أقوال ، مشهورها : لا يجوز ، ثانيها : يجوز من الولد ، ثالثها : يجوز إن أوصى به . وعن النخعي وبعض السلف : لا يصح الحج عن ميت ولا عن غيره . وهي رواية عن مالك وإن أوصى به قال القرطبي : رأى مالك أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن يعني قوله تعالى : ? ليس للإنسان إلا ما سعى ? (- 53 : 39) فرجع ظاهر القرآن ، ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره ومن جهة أن القول المذكور قول امرأة ظنت ظنا ، قال : ولا يقال قد أجابها النبي - صلى الله عليه وسلم - على سؤالها ، ولو كان ظنها غلطا لبينه لها ، لأنا نقول : إنما أجابها عن قولها (( أفاجع عنه ؟ قال : حجى عنه )) لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها - انتهى . وتعقب بأن في تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لها على ذلك حجة ظاهرة ، وأما ما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس فزاد في الحديث (( حج عن أبيك ، فإن لم يزده خيرا لم يزده شرا )) فقد جزم الحفاظ بأنها رواية شاذة وعلى تقدير صحتها فلا حجة فيها للمخالف ، كذا في الفتح ، وذكر ابن حزم في
(17/146)
المحلى (ج7 ص 58) حديث ابن
عباس هذا من طريق عبد الرزاق ثم أجاب عنه وقد أحسن في الجواب فارجع إليه . وأجاب
بعض المالكية عن حديث الخثعمية بأن ذلك وقع من السائل على جهة التبرع وليس في شيء
من طرقه تصريح بالوجوب ، وبأنها عبادة بدنية فلا تصح النيابة فيها كالصلاة وقد نقل
الطبري وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل في الصلاة ، قالوا : ولأن العبادات
فرضت على جهة الابتلاء وهو لا يوجد في العبادات البدنية إلا بإتعاب البدن فيه يظهر
الانقياد أو النفور بخلاف الزكاة فإن الابتلاء فيها بنقص المال وهو حاصل بالنفس
وبالغير . وأجيب بأن قياس الحج على الصلاة لا يصح لأن عبادة الحج مالية بدنية معا
فلا يترجح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة ، ولهذا قال المازري : من غلب حكم
البدن في الحج ألحقه بالصلاة ، ومن غلب حكم المال ألحقه بالصدقة ، وقد أجاز
المالكية الحج عن الميت إذا أوصى به ، ولم يجيزوا ذلك في الصلاة ، وبأن حصر
الابتلاء في المباشرة ممنوع لأنه يوجد في الآمر من بذله المال في الأجرة كذا في
الفتح . قلت : ويعتضد تغليب حكم المال بحديث الخثعمية وغيره من الأحاديث الواردة
في الحج عن الغير حيا وميتا ، وسيأتي مزيد الكلام في مسألة المستطيع بغيره في
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/147)
شرح حديث ابن عمر سادس أحاديث الفصل الثاني وللمسألة فروع مفيدة جدا يجب معرفتها منها : أنه لا فرق عند الجمهور بين من وجد الاستطاعة وهو معذور ومن وجدها وهو صحيح ثم طرأ عليه العذر لظاهر حديث الخثعمية خلافا لما هو المشهور عن أبي حنيفة . فإن قيل فلم لا يجوز أن يكون الحج مستقرا في ذمته قبل العضب ؟ لما طرأ العضب سألت عن أداء ما كان واجبا عليه ويدل عليه رواية أخرى عند مسلم بلفظ (( إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره )) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فحجي عنه ، وكذلك رواية أحمد (( والحج مكتوب عليه )) قلنا لا دلالة في الحديث على وقت الإدراك بل هو مجمل والحديث الأول مبين له ، وهو قولها : (( أدركت أبي شيخا كبيرا )) ، أي في هذه الحالة ويكون هذا السؤال وقع منها مرتين ذكرت في إحداهما وقت الإدراك وفي الأخرى أخبرت أن عليه الفرض ، وتريد الذي أدركه في تلك الحال فيجمع بين الحديثين إذ لا تضاد بينهما . ومنها : أنهم اختلفوا فيما إذا عوفي المعضوب فقال الجمهور : لا يجزئه لأنه تبين أنه لم يكن ميئوسا منه ، وقال أحمد وإسحاق : لا تلزمه الإعادة كذا في الفتح وقال النووي في مناسكه : ولو استناب المعضوب من يحج عنه فحج عنه ثم زال العضب وشفي لم يجزه على الأصح بل عليه أن يحج . وقال ابن قدامة (ج3 ص228) : ومتى أحج هذا ، ( أي العاجز عن الحج لمانع مأيوس من زواله كزمانة ) عن نفسه ثم عوفي لم يجب عليه حج آخر ، وهذا قول إسحاق ، وقال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر : يلزمه لأن هذا بدل إياس فإذا برأ تبين أنه لم يكن مأيوسا منه فلزمه الأصل . ولنا أنه أتى بما أمر به فخرج عن العهدة كما لو لم يبرأ ، أو نقول أدى حجة الإسلام بأمر الشارع فلم يلزمه حج ثان كما لو حج بنفسه ، ولأن هذا يفضي إلى إيجاب حجتين عليه ، ولم يوجب الله عليه إلا حجة واحدة - انتهى . وقال في الهداية :
(17/148)
والشرط العجز الدائم إلى وقت
الموت ، لأن الحج فرض العمر . قال ابن الهمام : وإنما شرط دوامه إلى الموت لأن
الحج فرض العمر فحيث تعلق به خطابه لقيام الشروط وجب عليه أن يقوم هو بنفسه في أول
أعوام الإمكان ، فإذا لم يفعل أثم ، وتقرر القيام بها بنفسه في ذمته في مدة عمره ،
وإن كان غير متصف بالشروط فإذا عجز عن ذلك بعينه وهو أن يعجز عنه في مدة عمره رخص
له الاستنابة رحمة وفضلا منه فحيث قدر عليه وقتا ما من عمره بعد ما استناب فيه
لعجز لحقه ظهر انتفاء شرط الرخصة . ومنها : ما قال ابن قدامة (ج3 : ص229) : من
يرجى زوال مرضه والمحبوس ونحوه ليس له أن يستنيب فإن فعل لم يجزئه وإن لم يبرأ ،
وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة له ذلك ، ويكون ذلك مراعى ، فإن قدر على الحج
بنفسه لزمه وإلا أجزأه ذلك لأنه عاجز عن الحج بنفسه أشبه المأيوس من برئه ، ولنا
أنه يرجو القدرة على الحج بنفسه فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه أن فعل كالفقير ،
وفارق المأيوس من برئه لأنه عاجز على الإطلاق آيس من القدرة على الأصل فأشبه الميت
، ولأن النص إنما ورد في الحج عن الشيخ الكبير وهو ممن لا يرجى منه الحج بنفسه فلا
يقاس عليه إلا من كان مثله فعلى هذا إذا استناب من يرجو
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/149)
القدرة على الحج بنفسه ثم صار مأيوسا من برئه فعليه أن يحج عن نفسه مرة أخرى لأنه استناب في حال لا تجوز له الاستنابة فيها فأشبه الصحيح - انتهى . وفي الغنية (ص172) : في شرائط النيابة في الحج الفرض دوام العجز إن كان لعذر يرجى زواله عادة كالحبس والمرض فلو عجز فأحج عنه فرضا كان أمره موقوفا ، فإن دام عجزه حتى مات ظهر أنه وقع مجزئا عن فرضه وإن قدر عليه وقتا ما ظهر أنه وقع نفلا له ، وإن كان لعذر لا يرجى زواله عادة كالزمانة والعمى لا يشترط دوامه إلى الموت ، إلى آخر ما قال ، وارجع لمزيد التفصيل إلى رد المحتار. وقال الحافظ : في الفتح واتفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضب ، فلا يدخل المريض لأنه يرجى برئه ، ولا المجنون لأنه ترجى إفاقته ، ولا المحبوس لأنه يرجى خلاصه ، ولا الفقير لأنه يمكن استغناءه . ومنها : ما قال النووي : أما المعضوب فلا يصح الحج عنه بغير إذنه يعني في الفرض لأنه قال بعد ذلك : وتجوز الاستنابة في حج التطوع للميت والمعضوب على الأصح - انتهى . وقال ابن قدامة (ج3 : ص234) : ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه فرضا كان أو تطوعا لأنها عبادة تدخلها النيابة فلم تجز عن البالغ العاقل إلا بإذنه ، فأما الميت فتجوز عنه بغير إذن واجبا كان أو تطوعا ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالحج عن الميت وقد علم أنه لا إذن له ، وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة - انتهى . وعند الحنفية فيه تفصيل كما في شرح اللباب والغنية ومنها : أنه نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب ، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافا للشافعي ، وعن أحمد روايتان كذا في الفتح . وقال ابن قدامة (ج3 : ص230) : لا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعا . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من عليه حجة
(17/150)
الإسلام وهو قادر على أن يحج
لا يجزئ أن يحج غيره عنه ، والحج المنذور كحجة الإسلام في إباحة الاستنابة عند
العجز والمنع منها مع القدرة لأنها حجة واجبة فأما حج التطوع فينقسم أقساما ثلاثة
أحدها : أن يكون ممن لم يؤد حجة الإسلام فلا يجوز أن يستنيب في حجة التطوع .
الثاني : أن يكون ممن قد أدى حجة الإسلام وهو عاجز عن الحج بنفسه فيصح أن يستنيب
في التطوع ، والثالث أن يكون قد أدى حجة الإسلام وهو قادر على الحج بنفسه فهل له
أن يستنيب في حج التطوع ؟ فيه روايتان . إحداهما : يجوز وهو قول أبي حنيفة .
والثانية : لا يجوز وهو مذهب الشافعي لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يستنيب
فيه كالفرض - انتهى . وفي الهداية : تجوز الإنابة في الحج النقل حالة القدرة ، لأن
باب النفل أوسع ومنها : أن من حج عن غيره وقع الحج . عن المستنيب خلافا لمحمد بن
الحسن فقال : يقع عن المباشر وللمحجوج عنه أجر النفقة . قال العيني : ظاهر المذهب
أن الحج يقع عن المحجوج عنه لحديث الخثعمية ، وعند محمد أن الحج يقع عن الحاج
وللآخر ثواب النفقة - انتهى . وقال القاري : في الحديث دليل على أن الحج يقع عن
الآمر وهو مختار شمس الأئمة السرخسي وجمع من المحققين وهو ظاهر المذهب . ومنها :
أنه استدل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/151)
الحنفية بعموم حديث الخثعمية على جواز صحة حج من لم يحج نيابة عن غيره ، وخالفهم الجمهور فخصوه بمن حج عن نفسه ، واستدلوا بحديث ابن عباس في شبرمة الآتي في الفصل الثاني . قال العيني : فيه أي في حديث الخثعمية ما يدل على أنه يجوز للرجل أن يحج عن غيره إن لم يكن حج عن نفسه لإطلاق الحديث ولم يسألها أحججت عن نفسك أم لا وهو مذهب أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد في رواية . ويحكى كذلك عن الحسن ، وإبراهيم ، وأيوب ، وجعفر بن محمد . وقال الأوزاعي والشافعي ( وأحمد في روايته المشهورة عند أصحابه ) وإسحاق : ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام . وقال أبو بكر عبد العزيز : يقع الحج باطلا ولا يصح عنه ولا عن غيره وروي ذلك عن ابن عباس - انتهى . وأجاب الحنفية عن حديث شبرمة بأنه مضطرب معلول ، وبأنه محمول على الندب بدليل إطلاقه عليه الصلاة والسلام قوله للخثعمية حجي عن أبيك من غير استخبارها عن حجها لنفسها قبل ذلك ، وترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم الخطاب فيفيد جوازه عن الغير مطلقا ، وحديث شبرمة يفيد استحباب تقديم حجة لنفسه وبذلك يحصل الجمع . قلت : حديث شبرمة حديث صحيح أو حسن صالح للاحتجاج ، وكل ما ذكروه في تعليله مدفوع ومردود كما سترى عند شرحه ، وأما ما ذكروه من حمله على الاستحباب متمسكين على ذلك بحديث الخثعمية فقد تعقبه صاحب فتح الملهم (ج3 : ص372) بأن سؤال الخثعمية إنما وقع بعد دفعه - صلى الله عليه وسلم - من المزدلفة إلى منى حين كان الفضل رديفه فكيف يتصور استفسارها عن مسألة النيابة في تلك الحجة بعد فراغها من الوقوف بعرفة فالظاهر أنها حجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم سألت هل تحج عن أبيها ، أي فيما يستقبل من الزمان إذا أرادت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : نعم حجي عنه ، ولما كان حجها عن نفسها معلوما مشهودا لم يحتج - صلى الله عليه وسلم - إلى
(17/152)
استخبارها عنه حتى يقال : إن
ترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم الأحوال ، وحينئذ ارتفع التعارض
بين حديث الخثعمية وبين حديث شبرمة رأسا - انتهى . وفي حديث الخثعمية من الفوائد :
جواز كلام المرأة وسماع صوتها للأجانب عند الضرورة كالاستفتاء عن العلم والترافع
في الحكم والمعاملة . وفيه أن المرأة تكشف وجهها في الإحرام وهو إجماع حكاه ابن
عبد البر ، ويدل له قوله - صلى الله عليه وسلم - : ولا تنتقب المرأة . وفيه بيان
ما ركب في الآدمي من الشهوة وجبلت طباعة عليه من النظر إلى الصور الحسنة . قال
القرطبي : كان هذا النظر ، أي نظر الفضل إلى المرأة ونظرها إلى الفضل بمقتضى الطباع
البشرية فإنها مجبولة على النظر إلى الصورة الحسنة ففي نظر أحدهما إلى الآخر
مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الشهوات . وفيه منع النظر إلى
الأجنبيات ووجوب غض البصر خوف الفتنة في حق الرجال والنساء جميعا لأنه لا فرق في
ذلك بين الرجل والمرأة ، وكان الفضل أبيض حسن الشعر وسيما ، وكذا المرأة كانت
حسناء ، وفي صرف وجه الفضل بل عنقه ووضع يده عليه مبالغة في منعه فإن المنع بالفعل
أبلغ من القول ، وروى أحمد وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عباس أن
متفق عليه .
2536- (8) وعنه قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أختي نذرت أن
تحج ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/153)
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للفضل حين غطى وجهه يوم عرفة : (( هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له )) . ولم ينقل أنه نهى المرأة عن النظر فيحتمل أنه اجتزأ بمنع الفضل لما رأى أنها تعلم بذلك منع نظرها إليه لأن حكمهما واحد أو تنبهت لذلك ، أو كان ذلك الموضع هو محل نظره الكريم فلم يصرف نظرها , واستدل ابن حزم بهذا الحديث على أن وجه المرأة ليس بعورة إذ قال لو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها على كشفه بحضرة الناس ولأمرها أن تسبل عليه من فوق ولو كان وجهها مغطي ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء - انتهى . ولا يخفى على المتأمل المنصف ما في هذا الاستدلال . ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج ، والمغاري ، والاستئذان ، ومسلم في الحج ، وأخرجه أحمد (ج1 : ص219) ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، ومالك ، والدارمي ، وابن الجارود (ص177) ، والبيهقي (ج4 : ص328 ، 329 ، وج5 : ص179) ، وابن حزم (ج 7 : ص56 ، 57) ، والشافعي (ج1 : ص287) ، وفي الباب عن بريدة عند أحمد ومسلم والترمذي والحاكم ، وعن عبد الله بن الزبير عند أحمد والنسائي والبيهقي ، وعن سودة بنت زمعه عند أحمد والطبراني والبيهقي ، وعن أبي رزين وسيأتي في الفصل الثاني . وعن أنس عند البزار والطبراني في الكبير والأوسط ، وعن عقبة بن عامر عند الطبراني في الكبير والأوسط ، وعن علي عند أحمد ، وعن الفضل بن عباس عند أحمد والشيخين والأربعة والبيهقي وغيرهم .
(17/154)
2536- قوله : ( أتى رجل النبي
- صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أختي ) إلخ ، كذا وقع في النذور عند البخاري من
رواية آدم عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ووقع في الحج والاعتصام
عنده من طريق أبي عوانة عن أبي بشر بلفظ (( إن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أمي نذرت أن تحج )) ورجح الحافظ في النذور هذه
الرواية ، أي كون السائل امرأة ، وقال في الحج بعد ذكر رواية شعبة : فإن كان
محفوظا احتمل أن يكون كل من الأخ سأل عن أخته ، والبنت سألت عن أمها ، وقال
الشوكاني : لا منافاة بين الروايتين لأنه يحتمل أن تكون القصة متعددة وأن تكون
متحدة ، ولكن النذر وقع من الأخت والأم فسأل الأخ عن نذر أخته والبنت عن نذر الأم
- انتهى . وسمى الحافظ في المقدمة (ص391) الرجل السائل عن الأخت : عقبة بن عامر إذ
قال : حديث ابن عباس (( قال أتى رجل فقال إن أختي نذرت )) هو عقبة بن عامر ولم تسم
أخته . وقال في المرأة الجهنية إنها امرأة سنان بن سلمة الجهني كما في النسائي
ولأحمد (( سنان بن عبد الله )) وهو أصح , وفي الطبراني أنها عمته ولم تسم أمها .
وقال في الفتح : إن ما في النسائي لا يفسر به المبهم في حديث ابن عباس في المرأة
الجهنية لأن فيه أن المرأة سألت بنفسها وفي النسائي أن زوجها سأل لها ، ويمكن
وإنها ماتت . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟
قال : نعم . قال : فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/155)
الجمع بأن نسبة السؤال إليها مجازية ، وإنما الذي تولى لها السؤال زوجها . قال : ولم أقف على اسمها ولا على اسم أبيها لكن في حرف الغين المعجمة من الصحابيات لابن مندة عن ابن وهب عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه ، أن غاثية أو غايثة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أمي ماتت وعليها نذر أن تمشي إلى الكعبة . وجزم ابن طاهر في المبهمات بأنه اسم الجهنية المذكورة في حديث ابن عباس لكن قال الذهبي أرسله عطاء ولا يثبت ، ثم ذكر الحافظ رواية ابن عباس عن سنان بن عبد الله الجهني أن عمته حدثته أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أمي توفيت وعليها مشي إلى الكعبة نذرا . الحديث . ثم قال فإن كان محفوظا حمل على واقعتين بأن تكون امرأته سألت على لسانه عن حجة أمها المفروضة وبأن تكون عمته سألت بنفسها عن حجة أمها المنذورة ، ويفسر (( من )) في حديث الجهنية بأنها عمة سنان واسمها غاثية كما تقدم ، ثم إنه قيل : أن حديث الجهنية مضطرب لأنه قد روى أن هذه المرأة قالت : إن أمي ماتت وعليها صوم شهر ، وأجيب بأنه محمول على أن المرأة سألت عن كل من الصوم والحج ، ويؤيد ذلك ما عند مسلم عن بريدة قالت : إن أمي ، وفيه (( يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال : صومي عنها ، قالت : إنها لم تحج أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها )) ( وأنها ماتت ) ، أي ولم تف بنذرها ( لو كان عليها دين ) لمخلوق ( أكنت قاضيه ) بالنصب ، أي الدين عنها ( فاقض دين الله ) ، كذا في جميع نسخ المشكاة ، وفي المصابيح وهكذا وقع في نسخة العيني للبخاري ، وكذا ذكره الحافظ في الفتح ، ووقع في متن القسطلاني ومتن الفتح طبعة الهند ، وفي جامع الأصول (ج4 : ص198) : فاقض الله ، أي حقه أو دينه ( فهو أحق بالقضاء ) ، أي فدين الله أحق بالأداء من غيره . وفي الحديث دليل على صحة النذر بالحج ممن لم يحج ، فإذا حج أجزأه عن حجة الإسلام عند الجمهور ،
(17/156)
وعليه الحج عن النذر ، وقيل :
يجزئ عن النذر ثم يحج عن حجة الإسلام ، وقيل : يجزئ عنهما ، وارجع إلى القرى لقاصد
أم القرى (ص62) وفيه أيضا دليل على أن من مات وفي ذمته حق لله تعالى من حج أو
كفارة أو نذر فإنه يجب قضاءه ، وفيه دليل أيضا على أن الناذر بالحج إذا مات ولم
يحج أجزأه إن يحج عنه الوارث أو غيره لعدم استفصاله - صلى الله عليه وسلم - للأخ
هل هو وارث أولا ، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال
كما تقرر في الأصول ويدل على ذلك أيضا قوله : (( فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء ))
وقوله في حديث الجهنية : (( اقضوا الله فالله أحق بالوفاء )) وفيه مشروعية القياس
وضرب المثل ليكون أوضح وأوقع في نفس السامع وأقرب إلى سرعة فهمه ، وفيه تشبيه ما
اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه ، وفيه تشبيه المجهول حكمه بالمعلوم ، فإنه دل على
أن قضاء الدين المالي عن الميت كان معلوما
متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/157)
عندهم متقررا ولهذا حسن الإلحاق به ، وفيه أنه يستحب للمفتي التنبيه على وجه الدليل إذا ترتب على ذلك مصلحة وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعى لإذعانه ، وفيه دليل على جواز الحج عن الميت وإن لم يوص لإلحاقه وتشبيهه بالدين , وقال مالك : إنما يحج عنه إذا أوصى ، و إذا أوصى حج من الثلث قال الأمير اليماني : دل الحديث على وجوب التحجيج عن الميت سواء أوصى أم لم يوص ، لأن الدين يجب قضاءه مطلقا ، وكذا سائر الحقوق المالية من كفارة ونحوها ، وإلى هذا ذهب ابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة والشافعي ، ويجب إخراج الأجرة من رأس المال عندهم ، أي مقدما على الوصايا والميراث كدين الآدمي . وقال الحافظ : في هذا الحديث أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك . وفي قوله : (( فالله أحق بالوفاء )) دليل على أنه مقدم على دين الآدمي وهو أحد أقوال الشافعي ، وقيل : بالعكس ، وقيل : هما سواء - انتهى . وقال العيني : قيل إذا اجتمع حق الله وحق العباد يقدم حق العباد فما معنى (( فهو أحق )) ؟ أجيب بأن معناه إذا كنت تراعي حق الناس فلأن تراعي حق الله كان أولى ولا دخل فيه للتقديم والتأخير إذ ليس معناه أحق بالتقديم - انتهى . قال الطيبي : في الحديث إشعار بأن المسئول عنه خلف مالا فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حق الله مقدم على حق العباد واجب عليه الحج عنه . والجامع علة المالية ، وتعقبه الحافظ والعيني بأنه لا يتحتم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالا كما زعم لأن قوله : (( أكنت قاضيه )) أعم من أن يكون المراد مما خلفه أو تبرعا - انتهى . قلت : ووافق الشافعي أحمد في التحجيج عن الميت من رأس المال . قال ابن قدامة (ج3 : ص242) : متى توفي من وجب عليه
(17/158)
الحج ولم يحج وجب أن يخرج من
جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريط ، أو بغير تفريط ، وبهذا قال
الشافعي ، وقال أبو حنيفة ومالك : يسقط بالموت ، فإن أوصي بها فهي من الثلث ،
وبهذا قال الشعبي والنخعي - انتهى . وعند الحنفية في ذلك تفصيل كما في شرح اللباب
والغنية (ص 173) قالوا : إذا تبرع أحد بدون الوصية أجزأ إن شاء الله . وقال النووي
: تجب الاستنابة عن الميت إذا كان قد استطاع في حياته ولم يحج ، هذا إذا كان له
تركة ، وإلا فلا يجب على الوارث ، ويجوز للوارث والأجنبي الحج عنه سواء أوصي به
أولم يوص - انتهى . وأستدل بالحديث على أنه يصح ممن لم يحج أن يحج نيابة عن غيره
لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسأله حج عن نفسه أم لا ؟ ولأنه - صلى الله عليه
وسلم - شبهه بالدين . ورد بأنه سيأتي في حديث شبرمة ما يدل على عدم إجزاء حج من لم
يحج عن نفسه ، وأما مسألة الدين فإنه لا يجوز له أن يصرف ماله إلى دين غيره وهو
مطالب بدين نفسه ( متفق عليه ) هذا وهم من المصنف فإن الحديث من أفراد البخاري ،
وأخرجه في النذور ، وأخرجه بقصة الجهنية في الحج ، وفي الاعتصام ، وأما مسلم فلم
يخرجه أصلا ، ولعل المصنف قلد في ذلك صاحب جامع الأصول ، والله أعلم . والحديث
2537- (9) وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يخلون رجل بامرأة
، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه أيضا أحمد (ج1 ص240) ، والنسائي في الحج ، وابن الجارود (ص 178) ، وابن حزم
(ج7 ص63) ، والبيهقي (ج5 ص179) .
(17/159)
2537- قوله : ( لا يخلون ) أكد النهي مبالغة ( رجل بامرأة ) أي أجنبية . فيه حرمة اختلاء الأجنبي مع المرأة وهو إجماع كما قال في الفتح . وقد ورد في حديث (( فإن ثالثهما الشيطان )) واختلفوا هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا بأن يكون معهما من يزيل معنى الخلوة كالنسوة الثقات مثلا فقيل إنه يقوم لضعف التهمة به لأن المعنى المناسب للنهي إنما هو خشية أن يوقع بينهما الشيطان الفتنة ، وقال القفال : لا يجوز بل لا بد من المحرم عملا بلفظ الحديث . قال الشوكاني : وهو ظاهر الحديث ، قلت : وكذلك يحرم الخلوة بالأجنبية لو كان معهما من لا يستحي منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك فإن وجوده كالعدم (( ولا تسافرن امرأة )) أي شابة أو عجوز سفرا طويلا أو قصيرا للحج أو غيره (( إلا ومعها محرم )) بفتح الميم وتخفيف الراء أي من يحرم عليه نكاحها من الأقارب كأب وأخ وعم وخال ومن يجري مجراهم كزوج كما جاء مصرحا في رواية للشيخين من حديث أبي سعيد (( إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها )) ، وفي أخرى (( إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها )) ، قال ابن دقيق العيد : لم يتعرض هنا للزوج وهو موجود في رواية أخرى ولا بد من إلحاقه بالحكم بالمحرم في جواز السفر معه ( وكذا الخلوة بها ) اللهم إلا أن يستعمل لفظة الحرمة في إحدى الروايتين في غير معنى المحرمية استعمالا لغويا فيما يقضي الاحترام فيدخل فيه الزوج لفظا - انتهى . قال الحافظ : وفي آخر حديث ابن عباس هذا ما يشعر بأن الزوج يدخل في مسمى المحرم فإنه لما استثنى المحرم فقال القائل : إن امرأتي حاجة . فكأنه فهم إدخال الزوج في المحرم ولم يرد عليه ما فهمه بل قيل له أخرج معها . والاستثناء من الجملتين كما هو مذهب الشافعي لا من الجملة الأخيرة لكنه منقطع لأنه متى كان معها محرم لم يبق خلوة فتقدير الحديث لا يقعدن رجل مع امرأة إلا ومعها محرم ، والواو في (( ومعها ))
(17/160)
للحال ، أي لا يخلون في حال
إلا في هذه الحال ، ووقع في رواية للبخاري لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ، ولا
يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم . قال القسطلاني : أي لها . وقال النووي : يحتمل أن
يريد محرما لها ، أو له . وهذا الاحتمال الثاني هو الجاري على قواعد الفقهاء فإنه
لا فرق بين أن تكون معها محرم لها كأبيها وابنها وأخيها وأمها وأختها أو يكون
محرما له كأخته وبنته وأمه وعمته وخالته فيجوز القعود معها في هذه الأحوال . قال :
وحقيقة المحرم ، أي عند الشافعية من النساء التي يجوز له النظر إليها والخلوة بها
والمسافرة معها كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها . فخرج بالتأبيد
أخت الزوجة وعمتها وخالتها ونحوهن ، وخرجت
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/161)
بسبب مباح أم الموطوءة بشبهة وبنتها فإنهما تحرمان على التأبيد وليستا محرمين ، لأن وطئ الشبهة لا يوصف بالإباحة لأنه ليس بفعل المكلف ، وخرج بقوله لحرمتها الملاعنة ، لأن تحريمها ليس لحرمتها بل عقوبة وتغليظا ، والمحرم عام فيشمل محرم النسب كأبيها وابنها وأخيها وابن أختها وابن أختها وخالها وعمها ، ومحرم الرضاع كأخيها من الرضاع وابن أخيها وابن أختها منه ونحوهم ، ومحرم المصاهرة كأبي زوجها وابن زوجها ، فيجوز لكل هؤلاء السفر بها والخلوة بها والنظر إليها من غير حاجة لكن لا يحل النظر بشهوة لأحد منهم هذا مذهب الشافعي والجمهور ووافق مالك على ذلك كله إلا ابن زوجها فكره سفرها معه لفساد الناس بعد العصر الأول ولأن كثيرا من الناس لا ينزل زوجة الأب في النفرة عنها منزلة محارم النسب والمرأة فتنة إلا فيما جبل الله النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب . قال النووي : وعموم هذا الحديث يرد على مالك ، وقال ابن دقيق العيد : الحديث عام ، فإن عنى بالكراهة التحريم مع محرمية ابن الزوج فهو مخالف لظاهر الحديث بعيد ، وإن عنى كراهة التنزيه للمعنى المذكور فهو أقرب تشوفا إلى المعنى ، وقد فعلوا مثل ذلك في غير هذا الموضع ، ومما يقويه ها هنا قوله (( لا يحل )) ( في حديث ابن عمر عند الشيخين وحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره ) استثنى منه السفر مع المحرم فيصير التقدير (( إلا مع ذي محرم )) فيحل ويبقي النظر في قولنا (( يحل )) هل يتناول المكروه أم لا بناء على أن لفظة (( يحل )) يقتضي الإباحة المتساوية الطرفين ، فإن قلنا : لا يتناول المكروه . فالأمر قريب مما قاله إلا أنه تخصيص يحتاج إلى دليل شرعي عليه ، وإن قلنا : يتناول . فهو أقرب لأن ما قاله لا يكون حينئذ منافيا لما دل عليه اللفظ - انتهى . وفي الحديث دليل على تحريم سفر المرأة من غير محرم وهو مطلق في قليل السفر وكثيره وفي سفر الحج وغيره ، وقد وردت أحاديث مقيدة لهذا
(17/162)
الإطلاق إلا أنها اختلف
ألفاظها ففي لفظ (( لا تسافر ثلاثا )) وفي آخر (( فوق ثلاث )) وفي آخر (( يومين ))
وفي آخر (( يوما وليلة )) وفي آخر (( يوما )) وفي آخر (( ليلة )) وفي آخر (( بريدا
)) وهو عند أبي داود والحاكم والبيهقي ، وفي آخر (( ثلاثة أميال )) وهو عند
الطبراني ، قال الحافظ : وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات
. وقال العيني : في هذا الحديث أن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم ، وعموم اللفظ
يتناول عموم السفر فيقتضي أن يحرم سفرها بدون ذي محرم معها سواء كان سفرها قليلا
أو كثيرا للحج أو غيره ، وإلى هذا ذهب إبراهيم النخعي والشعبي وطاوس والظاهرية ،
واحتج هؤلاء أيضا بحديث أبي هريرة الآتي - انتهى . قال عياض بعد ذكر الألفاظ
المختلفة في التقييد : هذا كله ليس يتنافر ولا يختلف ، وقد يكون هذا في مواطن
مختلفة ونوازل متفرقة فحدث كل من سمعها بما بلغه منها وشاهد ، وإن حدث بها واحد
فحدث مرات بها على اختلاف ما سمعها - انتهى . وقال النووي : اختلاف هذه الألفاظ
لاختلاف السائلين واختلاف المواطن . قال البيهقي : كأنه - صلى الله عليه وسلم -
سئل عن المرأة تسافر ثلاثا بغير محرم فقال : لا ، وسئل عن سفرها يومين بغير محرم
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/163)
فقال : لا ، وسئل عن سفرها يوما فقال : لا ، وكذلك البريد ، فأدى كل منهم ما سمعه ، وما جاء منها مختلفا عن راو واحد فسمعه في مواطن فروى تارة هذا وتارة هذا وكله صحيح ، وليس في كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر ، ولم يرد - صلى الله عليه وسلم - تحديد أقل ما يسمى سفرا ، فالحاصل أن كل ما يسمى سفرا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوما أو بريدا أو غير ذلك لرواية ابن عباس المطلقة فإنها تتناول جميع ما يسمى سفرا - انتهى . وقد يمكن أن يجمع بينها بأن اليوم المذكور مفردا والليلة المذكورة مفردة بمعنى اليوم والليلة المجموعين فمن أطلق يوما أراد بليلته أو ليلة أراد بيومها ، وهكذا عادة العرب يطلقون الليالي ويريدون بعددها من الأيام ، ويكون ذكره يومين مدة مغيبها في هذا السفر في الذهاب والإياب يعنى أشار عند جمعهما إلى مدة الذهاب والرجوع ، وعند إفرادهما أشار إلى قدر ما تقضي فيه الحاجة ، والثالث ، أي الوسط بين السير والرجوع لقضاء الحاجة في المقصد فأشار مرة إلى مسافة السفر ومرة إلى مدة الغيبة ، وهكذا ذكر الثلاث فقد يكون اليوم الوسط بين الذهاب والرجوع الذي يقضي حاجتها بحيث سافرت له ويحتمل أن يكون هذا كله تمثيلا لأقل الأعداد وأوائلها إذا الواحد أول العدد وأقله والاثنان أول الكثير وأقله والثلاث أول الجمع وأقله ، فكأنه أشار إلى أن مثل هذا في قلة الزمن لا يحل لها السفر فيه مع غير ذي محرم فكيف بما زاد عليه ، ولهذا قال في الحديث الآخر (( ثلاثة أيام فصاعدا )) وحاصله أنه نبه بمنع الخروج أقل كل عدد على منع خروجها من البلد مطلقا إلا بمحرم أو زوج ويحتمل أن يكون ذكر الثلاث قبل ذكر ما دونها فيؤخذ بأقل ما ورد في ذلك ، وأقله الرواية التي فيها ذكر البريد فعلى هذا يتناول السفر طويل السير وقصيره ، ولا يتوقف امتناع سير المرأة على مسافة القصر خلافا للحنفية كذا في الفتح .
(17/164)
وقال الشوكاني : قد ورد من
حديث ابن عباس عند الطبراني ما يدل على اعتبار المحرم فيما دون البريد ، ولفظه :
لا تسافر المرأة ثلاثة أميال إلا مع زوج أو ذي محرم . وهذا هو الظاهر أعني الأخذ
بأقل ما ورد لأن ما فوقه منهي عنه بالأولى ، والتنصيص على ما فوقه كالتنصيص على
الثلاث واليوم والليلة واليومين والليلتين لا ينافيه لأن الأقل موجود في ضمن
الأكثر ، وغاية الأمر أن النهى عن الأكثر يدل بمفهومه على أن ما دونه غير منهي عنه
، والنهي عن الأقل منطوق وهو أرجح من المفهوم . وقالت الحنفية : إن المنع المقيد
بالثلاث متحقق ، وما عداه مشكوك فيه فيؤخذ بالمتيقن ونوقض بأن الرواية المطلقة
شاملة لكل سفر فينبغي الأخذ بها وطرح ما سواها ، فإنه مشكوك فيه ، ومن قواعد
الحنفية تقديم الخبر العام على الخاص ، وقد خالفوا ذلك هنا . والاختلاف إنما وقع
في الأحاديث التي وقع فيها التقييد بخلاف حديث ابن عباس فإنه لم يختلف فيه عليه ،
فهو سالم من الاضطراب ، فالأخذ به أولى وقيل : ليس هذا من المطلق والمقيد الذي وردت
فيه قيود متعددة وإنما هو من العام لأنه نكرة في سياق النفي فيكون من العام الذي
ذكرت بعض أفراده ولا تخصيص بذلك على الراجح في الأصول . وأعلم أنهم اختلفوا في
اشتراط المحرم أو الزوج
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/165)
لوجوب الحج على المرأة . قال ابن رشد : اختلفوا هل من شروط وجوب الحج على المرأة أن يكون معها زوج أو محرم منها ؟ فقال مالك والشافعي : ليس من شرط الوجوب ذلك ، وتخرج المرأة إلى الحج إذا وجدت رفقة مأمونة . وقال أبو حنيفة وأحمد وجماعة : وجود ذي المحرم ومطاوعته لها شرط في الوجوب ، وسبب الخلاف معارضة الأمر بالحج للنهي عن سفر المرأة إلا مع ذي محرم ، فمن غلب عموم الأمر قال : تسافر للحج وإن لم يكن معها ذو محرم ، ومن خصص العموم بأحاديث النهي ورأى أنه من باب تفسير الاستطاعة قال : لا تسافر إلا مع ذي محرم - انتهى . وقال ابن دقيق العيد : هذه المسألة تتعلق بالنصين إذا تعارضا وكان كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه ، بيانه أن قوله تعالى : ? ولله على الناس حج البيت ? ( 3 : 91) الآية . عام في الرجال والنساء فمقتضاه أن الاستطاعة على السفر إذا وجدت وجب الحج على الجميع ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم )) خاص بالنساء ، عام في كل سفر فيدخل فيه الحج ، فمن أخرجه عنه خص الحديث بعموم الآية ، ومن أدخله فيه خص الآية بعموم الحديث فيحتاج إلى الترجيح من خارج - انتهى . قال الشوكاني : ويمكن أن يقال إن أحاديث النهي عن السفر من غير محرم لا تعارض الآية لأنها تضمنت أن المحرم في حق المرأة من جملة الاستطاعة على السفر التي أطلقها القرآن وليس فيها إثبات أمر غير الاستطاعة المشروطة حتى تكون من تعارض العمومين . لا يقال : الاستطاعة المذكورة قد بينت بالزاد والراحلة كما سيأتي ، لأنا نقول : قد تضمنت أحاديث النهي زيادة على ذلك البيان باعتبار النساء غير منافية فيتعين قبولها على أن التصريح باشتراط المحرم في سفر الحج بخصوصه كما في حديث ابن عباس عند البزار والدارقطني وحديث أبي أمامة عند الطبراني مبطل لدعوى التعارض - انتهى . وقال النووي : أجمعت الأمة على أن المرأة يلزمها حجة
(17/166)
الإسلام إذا استطاعت لعموم
قوله تعالى : ? ولله على الناس حج البيت ? واستطاعتها كاستطاعة الرجل ، لكن
اختلفوا في اشتراط المحرم لها ، فأبو حنيفة يشترطه لوجوب الحج عليها إلا أن يكون
بينها وبين مكة دون ثلاث مراحل ، ووافقه جماعة من أصحاب الحديث وأصحاب الرأي وحكي
ذلك عن الحسن البصري والنخعي ، وقال عطاء وسعيد بن جبير ، وابن سيرين ومالك
والأوزاعي والشافعي في المشهور عنه : لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها .
قال أصحابنا : يحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقات ولا يلزمها الحج عندنا إلا
بأحد هذه الأشياء ، فلو وجدت امرأة واحدة ثقة لم يلزمها لكن يجوز لها الحج معها
هذا هو الصحيح . وقال بعض أصحابنا : يلزمها بوجود نسوة أو امرأة واحدة ، وقد يكثر
الأمن ولا تحتاج إلى أحد بل تسير وحدها في جملة القافلة وتكون آمنة ، والمشهور من
نصوص الشافعي وجماهير أصحابه هو الأول ، واختلف أصحابنا في خروجها لحج التطوع وسفر
الزيارة والتجارة ونحو ذلك من الأسفار التي ليست واجبة فقال بعضهم : يجوز لها
الخروج فيها مع نسوة ثقات كحجة الإسلام . وقال الجمهور : لا يجوز إلا مع زوج أو
محرم وهذا هو الصحيح للأحاديث
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/167)
الصحيحة . وقال القاضي : واتفق العلماء أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم إلا الهجرة من دار الحرب فاتفقوا على أن تهاجر منها إلى دار الإسلام وإن لم يكن معها محرم ، والفرق بينهما أن إقامتها في دار الكفر . حرام إذا لم تستطع إظهار الدين وتخشى على دينها ونفسها وليس كذلك التأخر عن الحج فإنهم اختلفوا في الحج هل هو على الفور أم على التراخي - انتهى . وقال الخرقي : وحكم المرأة إذا كان لها محرم كحكم الرجل . قال ابن قدامة (ج3 ص236) : ظاهره أن الحج لا يجب على التي لا محرم لها ، وقد نص عليه أحمد فقال أبو داود : قلت لأحمد : امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل يجب عليها الحج ؟ قال : لا ، وقال أيضا : المحرم من السبيل . وهذا قول الحسن والنخعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي ، وعن أحمد أن المحرم من شرائط لزوم السعي دون الوجوب ، فمتي فاتها الحج بعد كمال الشرائط بموت أو مرض لا يرجى برؤه أخرج عنها حجة ، لأن شروط الحج المختصة به قد كملت وإنما المحرم لحفظها . وعنه رواية ثالثة : أن المحرم ليس بشرط في الحج الواجب . قال الأثرم : سمعت أحمد يسأل : هل يكون الرجل محرما لأم امرأته يخرجها إلى الحج ؟ فقال : أما في فريضة الحج فأرجو لأنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته ، وأما في غيرها فلا والمذهب الأول ، وعليه العمل ، وقال ابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي : ليس المحرم شرطا في حجها بحال ، قال ابن سيرين : تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به . وقال مالك : تخرج مع جماعة النساء ، وقال الشافعي : تخرج مع حرة مسلمة ثقة ، وقال الأوزاعي : تخرج مع قوم عدول . قال ابن المنذر : تركوا القول بظاهر الحديث واشترط كل واحد منهم شرطا لا حجة معه ، واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة . وقال لعدي بن حاتم : يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها لا تخاف إلا
(17/168)
الله . ولأنه سفر واجب فلم
يشترط له المحرم كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار ، ولنا ما روى أبو هريرة
مرفوعا : لا يحل لامرأه تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو
محرم . ثم ذكر حديث ابن عباس الذي نحن في شرحه ، ثم قال : وروى ابن عمر وأبو سعيد
نحوا من حديث أبي هريرة . قال أبو عبد الله : أما أبو هريرة فيقول (( يوما وليلة
)) ويروى عن أبي هريرة (( لا تسافر سفرا )) أيضا ، وأما حديث أبي سعيد (( يقول
ثلاثة أيام ، قلت : ما تقول أنت ؟ قال : لا تسافر سفرا قليلا ولا كثيرا إلا مع ذي
محرم )) . وروى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال : لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم . وهذا صريح في الحكم ، ولأنها أنشأت سفرا
في دار الإسلام فلم يجز بغير محرم كحج التطوع ، وحديثهم محمول على الرجل بدليل
أنهم اشترطوا خروج غيرها معها ، فجعل ذلك الغير المحرم الذي بينه النبي - صلى الله
عليه وسلم - في أحاديثنا أولى مما اشترطوه بالتحكم من غير دليل ، ويحتمل أنه أراد
أن الزاد والراحلة يوجب الحج مع كمال بقية الشروط ، ولذلك اشترطوا تخلية الطريق
وإمكان المسير وقضاء الدين ونفقة العيال واشتراط كل واحد منهم في محل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/169)
النزاع شرطا من عند نفسه لا من كتاب ولا من سنة ، فما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالاشتراط ، ولو قدر التعارض فحديثنا أخص وأصح وأولى بالتقدم ، وحديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه ولذلك لم يجز في غير الحج المفروض ، ولم يذكر فيه خروج غيرها معها ، وقد اشترطوا ها هنا خروج غيرها معها ، وأما الأسيرة إذا تخلصت من أيدي الكفار فإن سفرها سفر ضرورة لا يقاس عليه حالة الاختيار ولذلك تخرج فيه وحدها ، ولأنها تدفع ضررا متيقنا بتحمل الضرر المتوهم فلا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلا - انتهى كلام ابن قدامة . وقال الطبري في القرى (ص 44) : وافق أبا حنيفة في اشتراط المحرم أو الزوج أصحاب الحديث ، وهو قول النخعي والحسن البصري ، وبه قال أحمد وإسحاق وهو أحد قولي الشافعي ، قال البغوي في شرح السنة : والقول باشتراط المحرم أولى لظاهر الحديث ، ولم يختلفوا أنها ليس لها الخروج في غير الفرض إلا مع محرم إلا في كافرة أسلمت في دار الحرب أو أسيرة تخلصت فيلزمها الخروج بلا محرم . وقال (ص 45) : ووجه دلالة حديث عدي على عدم ذلك اعتبار المحرم أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن خروج المرأة وحدها عند أمانها على نفسها فوجب وقوعه لا محالة . ودل ذلك على الجواز إذ لو حرم لبينه فإنه وقت حاجة لأنه كالواقع وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ، وهذا القائل يحمل أحاديث اشتراط المحرم على حال الخوف والخطر جمعا بينهما وعملا بهما وذلك أولى من إهمال بعضها ويمكن أن يقال : الحديث دل على الوقوع لا على الجواز لا بطريق المطابقة ولا بالاستلزام لأنه ورد في معرض الثناء على حال الزمان بالأمن والعدل ، وذكر خروج المرأة وحدها في معرض الاستدلال على ذلك سواء كان جائزا أو غير جائز ، فالجواز وعدمه مسكوت عنه ولا إشعار للفظ الخبر بهما لا نفيا ولا إثباتا ، إذ لو قال عقيب كلامه : وارتحالها لذلك جائز لها لم يعد ذلك تكرارا لما
(17/170)
فهم من الأول ولا مؤكدا للفظه
، أو قال : وارتحالها محرم عليها لم يعد ذلك نقضا له ، كيف وفي قوله لا تخاف أحدا
إلا الله إشعار بالحرمة إذ لو يحرم عليها ذلك لما خافت الله تعالى ، وأما قوله ((
وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز )) فمسلم ولم يتأخر ، فإن أحاديث اشتراط
المحرم إن ثبت الخطاب بها قبل هذا الحديث ، فالتحريم ثابت عندهم ، وليس في لفظ هذا
الحديث ما يناقضه فيحمل على ما ذكرناه وإن كان الخطاب بها متأخرا عن هذا الحديث
فقد بين - صلى الله عليه وسلم - ما سكت فيه عنه مما احتمل إرادته قبل موته فلم
يتأخر البيان عن وقت الحاجة على الحالين ، وهذا هو الظاهر عندي وإن كان الصحيح من
مذهب الشافعي خلافه – انتهى . قال الحافظ : ومن الأدلة على جواز سفر المرأة مع
النسوة الثقات إذا أمن الطريق أول أحاديث باب حج النساء ( يعني به حديث إبراهيم بن
سعد عن أبيه عن جده قال : أذن عمر لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجة
حجها فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف ) لاتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمن
بن عوف ونساء النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، وعدم نكير غيرهم من الصحابة
عليهن في ذلك ، ومن أبى ذلك من
فقال رجل : يا رسول الله ! اكتتبت في غزوة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/171)
أمهات المؤمنين فإنما أباه من جهة خاصة لا من جهة توقف السفر على المحرم . وأجيب بأن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهن أمهات المؤمنين وهم محارم لهن ، لأن المحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد ، فكذلك أمهات المؤمنين حرام على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة ثم إنه اختلف القائلون باشتراط المحرم للمرأة أن وجود الزوج أو المحرم شرط الوجوب أو شرط وجوب الأداء فللحنفية فيه قولان ، والذي اختاره في فتح القدير أنه مع الصحة وأمن الطريق شرط وجوب الأداء فيجب الإيصاء إن منع المرض أو خوف الطريق أو لم يوجد زوج ولا محرم ويجب عليها التزوج عند فقد المحرم ، وعلى الأول لا يجب شيء من ذلك كما في البحر وفي النهر ، وصحح الأول في البدائع ورجع الثاني ففي النهاية تبعا لقاضي خان ، لكن جزم في اللباب أنه لا يجب عليها التزوج مع أنه مشى على جعل المحرم أو الزوج شرط أداء ، ورجع هذا في الجوهرة وابن أمير الحاج في المناسك ووجهه أنه لا يحصل غرضها بالتزوج لأن للزوج أن يمتنع من الخروج معها بعد أن يملكها ، ولا تقدر على الخلاص منه ، وربما لا يوافقها فتضرر منه بخلاف المحرم ، فإنه إن وافقها أنفقت عليه ، وإن امتنع أمسكت نفقتها وتركت الحج وقال المرداوي من الحنابلة : المحرم من شرائط الوجوب كالاستطاعة وغيرها وعليه أكثر الأصحاب ، ونقله الجماعة عن الإمام أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي وقدمه في المحرم والفروع والحاويين والرعايتين وجزم به في المنهاج والإفادات . قال ابن منجا في شرحه : هذا المذهب وهو من المفردات ، وعنه أن المحرم من شرائط لزوم أداء الحج ( فلا يمنع الوجوب والاستقرار في الذمة ) ، وجزم به في الوجيز وأطلقه الزركشي – انتهى . وفائدة الخلاف تظهر في وجوب الإيصاء به ثم لفظ (( امرأة )) في الحديث عام يشمل الشابة والعجوز لكن خص أبو الوليد الباجي المنع بغير العجوز التي لا تشتهى ، أما هي فتسافر كيف شاءت في كل
(17/172)
الأسفار بلا زوج ولا محرم
وتعقب بأن المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ، ولو كانت كبيرة . وقد قالوا :
لكل ساقطة لاقطة ، ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يرتفع عن
الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومروته وخيانته ونحو ذلك . وأجيب
بأن الكلام إنما هي فيمن لا تشتهى أصلا ورأسا ولا نسلم أن من هي بهذه المثابة مظنة
الطمع والميل إليها بوجه . قال ابن دقيق العيد : والذي قاله الباجي تخصيص العموم
بالنظر إلى المعنى يعنى مراعاة الأمر الأغلب والمتعقب راعى الأمر النادر وهو
الاحتياط . قال : والمتعقب على الباجي يرى جواز سفر المرأة وحدها في الأمن وسيرها
في جملة القافلة فقد نظر أيضا إلى المعنى مع كونه مخالفا لظاهر الحديث يعنى فليس
له أن ينكر على الباجي ، وهذا الذي قاله من جواز سفرها وحدها هو قول للشافعي ،
نقله الكرابيسي ، ولكن المشهور عن الشافعية اشتراط الزوج أو المحرم أو النسوة
الثقات ولا يشترط أن يخرج معهن محرم أو زوج لإحداهن لانقطاع الأطماع باجتماعهن (
فقال رجل ) قال الحافظ : لم أقف على اسم الرجل ولا امرأته ولا على تعيين الغزوة
المذكورة ( اكتتبت ) بصيغة المجهول المتكلم من باب الافتعال ( في غزوة
كذا وكذا ، وخرجت امرأتي حاجة . قال : اذهب فحج مع امرأتك . متفق عليه .
2538- (10) وعن عائشة قالت : استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد .
فقال : جهادكن الحج .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/173)
كذا وكذا ) ، أي كتبت نفسي في أسماء من عين لتلك الغزوة ، وقيل : كتب وأثبت اسمي فيمن يخرج إلى غزوة كذا ( وخرجت امرأتي حاجة ) أي أرادت أن تخرج محرمة للحج أو قاصدة له ، يعني وليس معها أحد من المحارم ، وفي رواية للبخاري : إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا ، وامرأتي تريد الحج ( اذهب فاحجج ) بضم الجيم الأولى ( مع امرأتك ) قال الحافظ : أخذ بظاهرة بعض أهل العلم فأوجب على الزوج السفر مع امرأته إذا لم يكن لها غيره ، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية ، والمشهور أنه لا يلزمه كالولي في الحج عن المريض فلو امتنع إلا بأجرة لزمها لأنه من سبيلها فصار في حقها كالمؤنة ، واستدل به على أنه ليس للزوج منع امرأته من حج الفرض ، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية ، والأصح عندهم أن له منعها لكون الحج على التراخي وأما ما رواه الدارقطني من طريق إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر مرفوعا في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج فليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها ، فأجيب عنه بأنه محمول على حج التطوع عملا بالحديثين ونقل ابن المنذر الإجماع على أن للزوج المنع من الخروج في الأسفار كلها ، وإنما اختلفوا فيما كان واجبا - انتهى . وعند الحنفية ليس لزوجها منعها عن حجة الإسلام إذا كان معها محرم ، وألا فله منعها ، ولو خرج معها زوجها فلا نفقة له عليها بل هي لها عليه النفقة وإن لم يخرج معها فكذلك عند أبي يوسف ، وقال محمد : لا نفقة لها لأنها مانعة نفسها بفعلها ، وارجع إلى المغني (ج3 ص240) قال النووي : وفي الحديث تقديم الأهم فالأهم من الأمور المتعارضة لأنه لما تعارض سفره في الغزو وفي الحج معها رجح الحج معها ، لأن الغزو يقوم غيره في مقامه بخلاف الحج معها فإنه لا يقوم غيره مقامه في السفر معها إذا لم يكن لها محرم ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي النكاح ، ومسلم في الحج واللفظ للبخاري في الجهاد ، وأخرجه أيضا
(17/174)
أحمد (ج1 ص222) ، والشافعي (ج1
ص290 ، 291) .
2538- قوله ( وعن عائشة قالت : استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد
فقال : جهادكن الحج ) أي لا جهاد عليكن وعليكن الحج إذا استطعتن ، وسماه جهادا لما
فيه من مجاهدة النفس ومشقة السفر وأتعاب البدن ومفارقة الأهل والوطن . والحديث
رواه البخاري بألفاظ ، واللفظ المذكور له في باب جهاد النساء من كتاب الجهاد
والسير ، وفي رواية له في الباب المذكور (( عن عائشة أم المؤمنين عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - سأله نساءه عن الجهاد فقال : نعم الجهاد الحج )) ورواه في باب
فضل الحج المبرور من أوائل كتاب الحج وفي أول الجهاد بلفظ (( عن عائشة أنها قالت :
يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ قال : لكن أفضل الجهاد حج مبرور
)) ورواه بنحوه أيضا في باب حج النساء ، وزاد (( فقالت عائشة : فلا أدع
متفق عليه .
2539- (11) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسافر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/175)
الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ورواه النسائي بلفظ (( ألا نخرج فنجاهد معك فإني لا أري عملا في القرآن أفضل من الجهاد ، قال : لا ، ولكن أفضل الجهاد وأجمله حج البيت حج مبرور )) . ورواه ابن ماجة بلفظ (( قلت : يا رسول الله على النساء جهاد ؟ قال : نعم ، جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة )) وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث ، وفي رواية للبيهقي (( عن عائشة قالت : استأذنه نساءه في الجهاد فقال - صلى الله عليه وسلم - : يكفيكن الحج ، أو جهادكن الحج )) . قال ابن بطال : دل حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء وإنهمن غير داخلات في قوله تعالى : ? انفروا خفافا وثقالا ? ( - 9 : 41 ) وهو إجماع ولكن ليس في قوله (( جهادكن الحج )) إنه ليس أن يتطوعن بالجهاد ، وإنما فيه أن الحج أفضل لهن ، وإنما لم يكن الجهاد عليهن واجبا لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال والحج يمكنهن فيه مجانبة الرجال والاستتار فلذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد . قال : وزعم بعض من ينقص عائشة في قصة الجمل أن قوله تعالى : ? وقرن في بيوتكن ? ( - 33 : 33 ) يقتضي تحريم السفر عليهن ، قال : وهذا الحديث يرد عليهم لأنه قال : (( لكن أفضل الجهاد )) فدل على أن لهن جهادا غير الحج ، والحج أفضل منه - انتهى . قال الحافظ : ويحتمل أن يكون المراد بقوله (( لا )) في جواب قولهن (( ألا نخرج فنجاهد معك )) ؟ أي ليس ذلك واجبا عليكن كما وجب على الرجال ، ولم يرد بذلك تحريمه عليهن ، فقد ثبت في حديث أم عطية أنهن كن يخرجن فيداوين الجرحى ، وفهمت عائشة ومن وافقها من هذا الترغيب في الحج إباحة تكريره لهن كما أبيح للرجال تكرير الجهاد ، وخص به عموم قوله في حديث أبي واقد عند أحمد وأبي داود وغيرهما : (( هذه ثم ظهور الحصر )) وقوله تعالى ? وقرن في بيوتكن ? وكان عمر متوقفا في ذلك ثم
(17/176)
ظهر له قوة دليلها ، فأذن لهن
في آخر خلافته ثم كان عثمان بعد يحج بهن في خلافته أيضا ، وقد وقف بعضهن عند ظاهر
النهي . وقال البيهقي : في حديث عائشة هذا دليل على أن المراد بحديث أبي واقد وجوب
الحج عليهن مرة واحدة كما بين وجوبه على الرجال مرة لا المنع من الزيادة . وفيه
دليل على أن الأمر بالقرار في البيوت ليس على سبيل الوجوب ( متفق عليه ) هذا وهم
من المصنف فإن الحديث من أفراد البخاري لم يخرجه مسلم في صحيحه أصلا ، ولم يعزه
لمسلم أحد غير المصنف فيما أعلم ، وأخرجه أحمد ، والنسائي ، وابن ماجة كلاهما في
الحج ، وأخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي (ج4 ص326) وله شاهد من حديث أبي
هريرة ، أخرجه النسائي بإسناد صحيح بلفظ : (( جهاد الكبير أي العاجز والصغير
والضعيف والمرأة الحج والعمرة )) .
2539- قوله ( لا تسافر ) للحج أو غيره سواء كان بالسيارة أو بالطيارة أو بالقطار ،
وهو نفي معناه نهي .
امرأة مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم . متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/177)
قال القاري : وفي نسخة ، أي من المشكاة بصيغة النهي ( امرأة ) أي شابة أو عجوز ، وقوله : (( لا تسافر امرأة )) كذا وقع في المشكاة والمصابيح ، وفي الصحيحين (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر )) ( مسيرة يوم وليلة ) مصدر ميمي بمعنى السير كالمعيشة بمعنى العيش ، واختلف الرواية عن أبي هريرة أيضا في ذكر المدة ففي رواية للشيخين مسيرة يوم وليلة وهي المذكورة في الكتاب ، وفي أخرى لمسلم (( مسيرة يوم )) وفي أخرى له (( مسيرة ليلة )) وفي أخرى له أيضا (( أن تسافر ثلاثا )) وفي رواية لأبي داود (( بريدا )) وقد تقدم الكلام في ذلك ، وأنه ليس المراد التحديد بل المدار على ما يسمى سفرا ، والاختلاف إنما وقع لاختلاف السائل والمواطن ، وليس هو من المطلق والمقيد بل من العام الذي ذكرت بعض أفراده وذا لا يخصص على الأصح ( إلا ومعها ذو محرم ) ، وفي مسلم (( إلا مع ذي محرم عليها )) ولفظ البخاري (( ليس معها حرمة )) وفي أخرى لمسلم (( إلا ومعها رجل ذو حرمة منها )) وقوله (( ذو محرم )) هكذا وقع في الروايات ، قيل : والظاهر أن لفظ (( ذو )) مقحم فإن المحرم للمرأة هو من لا يحل له نكاحها ، وقيل : المراد (( ذو رحم محرم )) أي ذو قرابة محرم تزوجها . قال في القاموس : ورحم محرم ، محرم تزوجها . قال صاحب تسير العلام : المرأة مظنة الشهوة والطمع وهي لا تكاد تقي نفسها لضعفها ونقصها ولا يغار عليها مثل محارمها الذين يرون أن النيل منها نيل من شرفهم وعرضهم ، والرجل الأجنبي حينما يخلو بالأجنبية يكون معرضا لفتن الشيطان ووساوسه ، لهذه المحاذير التي هي وسيلة في وقوع الفاحشة وانتهاك الأعراض حرم الشارع على المرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم . قال : واختلفوا هل المرأة مستطيعة الحج بدون المحرم إذا كانت ذات مال أم أن وجود المحرم شرط في الاستطاعة ؟ الصحيح أنه لا يحل له خروجها بدون محرم لأي سفر فتكون معذورة غير مستطيعة ،
(17/178)
واختلفوا في الكبيرة التي لا
تميل إليها النفس هل تسافر بدون محرم ؟ أم لا بد من المحرم ؟ الصحيح الأخير ، لأن
الحديث عام في كل امرأة ولا يخلو الأمر من محذور فلكل ساقطة لاقطة . واختلفوا هل
يكفي أن تكون مع رفقة أمينة أو تسافر مع امرأة مسلمة ثقة أم لا ؟ الصحيح أنه لا بد
من المحرم لعموم الحديث ، ولأن غيرة المحرم ونظره مفقودان . واختلفوا في تحديد
السفر تبعا لاختلاف الأحاديث ، والأحوط أن يؤخذ بأقلها لأنه لا ينافي ما فوقه ،
ويكون ما فوقه قضايا عين حسب حال السائل ، والله أعلم . قال : وإذا قارنت حال
المسلمين اليوم بهذه النصوص الصحيحة والآداب العالية والغيرة الكريمة والشهامة
النبيلة والمحافظة على الفروج والأعراض وحفظ الأنساب وجدت كثيرا من المسلمين قد
نبذوا دينهم وراءهم ظهريا ومرقوا منه وصار التصون والحياء ضربا من الرجعية والجمود
. أما الانحلال الخلقي وخلع رداء الحياء والعفاف فهو التقدم والرقي فإنا لله وإنا
إليه راجعون ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة ، ومسلم في الحج .
وأخرجه أيضا أحمد مرارا ومالك في كتاب الجامع من الموطأ والشافعي في
2540- (12) وعن ابن عباس قال : وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسند (ج1 ص291) ، والترمذي في الرضاع وأبو داود ، وابن ماجة في الحج ، والحاكم
(ج1 ص442) والبيهقي (ج5 ص227) .
(17/179)
2540- قوله ( وقت ) أي حدد وعين المواضع الآتية للإحرام وجعلها ميقاتا ، وإن كان مأخوذا من الوقت وهو المقدار من الزمان إلا أن العرف يستعمله في مطلق التحديد اتساعا . قال الحافظ : أصل التوقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به ، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان أيضا . وقال ابن الأثير في النهاية : التوقيت والتأقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به ، وهو بيان مقدار المدة ، يقال : وقت الشيء بالتشديد يوقته ووقت بالتخفيف يقته إذا بين مدته ، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان فقيل للموضع ميقات . وقال ابن دقيق العيد : قيل إن التوقيت في الأصل ذكر الوقت ، والصواب أن يقال : تعليق الحكم بالوقت ثم استعمل في التحديد للشيء مطلقا لأن التوقيت تحديد بالوقت فيصير التحديد من لوازم التوقيت فيطلق عليه التوقيت ، وقوله ها هنا (( وقت )) يحتمل أن يراد به التحديد أي حد هذه المواضع للإحرام ويحتمل أن يراد بذلك تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بالشرط المعتبر . وقال عياض : وقت أي حدد وجعل لهم ميقاتا ، وحد الحد الذي يحرمون منه والمواقيت كلها حدود للعبادات ، وقد يكون وقت بمعنى أوجب عليهم الإحرام منه ، ومنه قوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ? ( - 4 : 103 ) ويؤيده حديث ابن عمر عند البخاري بلفظ فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الولي العراقي : معنى التوقيت بهذه المواقيت أنه لا يجوز لمريد النسك أن يجاوزها غير محرم ، والدليل على وجوب ذلك من أوجه ( أحدها ) أنه عليه الصلاة والسلام جعلها ميقاتا للإحرام وقال : (( خذوا عني مناسككم )) فلزمنا الوقوف عند ذلك ( ثانيها ) أنه قال في الرواية الأخرى (( يهل أهل المدنية من ذي الحليفة )) إلى آخر الحديث ، فأتى به بلفظ الخبر ، وهو هنا بمعنى الأمر ، وإنما يستعمل الأمر بصيغة الخير لتأكده ، والأمر المتأكد للوجوب ( ثالثها ) أنه قد ورد الأمر
(17/180)
صريحا في قوله في رواية
البخاري وغيره (( من أين تأمرنا أن نهل )) وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على
ذلك وبين له مواضع الإهلال المأمور بها ، وفي قوله في رواية مسلم من حديث عبد الله
بن دينار عن ابن عمر (( أمر رسول الله أهل المدنية أن يهلوا من ذي الحليفة ))
الحديث ( رابعها ) أن في صحيح البخاري من حديث ابن عمر (( فرضها رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - )) وذكر الحديث . وافتراض المواقيت صريح فيما ذكرناه ، ولذلك بوب
عليه البخاري (( فرض مواقيت الحج والعمرة )) وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي
وأحمد والجمهور . وقالوا : لو تركها لزمه دم . قال الشيخ تقي الدين : وإيجاب الدم
من غير هذا الحديث ، وكأنه
لأهل المدينة ذا الحليفة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/181)
يحتاج إلى مقدمة أخرى . ثم قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وآخرون : متى عاد إلى الميقات قبل التلبس بنسك سقط عنه الدم . وقال أبو حنيفة : إنما يسقط عنه الدم إذا عاد إليه ملبيا ، فإن عاد غير ملب استمر لزوم الدم . وقال عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وزفر : لا يسقط الدم بعوده إليه مطلقا . وقال مالك : إن عاد إليه قبل أن يبعد عنه وهو حلال سقط ، وإن عاد بعد البعد والإحرام لم يسقط ، وأعلم أنه حكى الأثرم عن الإمام أحمد أنه سئل في أي سنة وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - المواقيت ؟ فقال : عام حج – انتهى ، كذا ذكره الحافظ وغيره من الشراح واكتفوا بذكره في مبدأ المواقيت . وروى البخاري في العلم من حديث ابن عمر (( أن رجلا قام في المسجد فقال : يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة )) الحديث . ويشكل على ذلك أنهم تصدوا جميعا للاعتذار عن مجاوزة أبي قتادة عام الحديبية عن المواقيت بغير إحرام وذكروا لذلك توجيهات مختلفة ، وإذا كان التوقيت عام حجة الوداع لم يكن حاجة إلى الجواب والاعتذار عنه ( لأهل المدينة ) النبوية ، أي سكانها ومن سلك طريق سفرهم ومر على ميقاتهم ( ذا الحليفة ) مفعول وقت ، والحليفة بضم الحاء المهملة وفتح اللام تصغير الحلفة بفتحات نبت معروف ، وذو الحليفة موضع معروف بقرب المدينة بينه وبينها ستة أميال قاله النووي وقبله الغزالي والقاضي عياض والشافعي كما في المعرفة ، وكذا قال المجد في القاموس وياقوت الحموي في المعجم ، وزادا كالقاضي أنه من مياه بني جشم بالجيم والشين المعجمة بين بني خفاجة من عقيل وقال ابن حزم : هو على أربعة أميال من المدينة ، وقال السمهودي في وفاء الوفاء (ص 1194) : وقد اختبرت ذلك بالمساحة فكان من عتبة باب المسجد النبوي المعروف ببات السلام إلى عتبة باب مسجد الشجرة بذي الحليفة تسعة عشر ألف ذراع وسبعمائة
(17/182)
ذراع واثنين وثلاثين ذراعا
ونصف ذراع بذراع اليد ( وذراع اليد على ما ذكره المحب الطبري والنووي وغيرهما
أربعة وعشرون إصبعا ، كل إصبع ست شعيرات مضمومة بعضها إلى بعض ) وذلك خمسة أميال
وثلثا ميل ينقص مائة ذراع - انتهى . وقيل : ذلك دون خمسة أميال ، فإن الميل عند
الحنفية أربعة آلاف ذراع بذراع الحديد المستعمل الآن . وقال الحافظ : ذو الحليفة
مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين ، قاله ابن حزم (ج7 ص70) وقال غيره
: بينهما عشر مراحل ، قال : وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة خراب وبها بئر يقال لها
بئر علي - انتهى . وعلي هذا ليس بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه . وقال العيني :
وبذي الحليفة عدة آبار ومسجدان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، المسجد الكبير
الذي يحرم منه الناس ، والمسجد الآخر مسجد المعرس - انتهى . وقال صاحب تيسير
العلام : ذو الحليفة تسمى الآن آبار علي ، وتبعد عن مكة بالمراحل (10) وبالفراسخ
(80) وبالأميال (240) وبالكيلوات (430) والمرحلة هي مسيرة يوم وليلة بسير الإبل
المحملة بالأثقال سيرا معتادا
ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/183)
ويقدر بها العرب الأوائل فأخذها عنهم العلماء ( ولأهل الشام ) ، أي ومن سلك طريقهم فمر بميقاتهم ، والشام بلاد معروفة وهي من العريش إلى بالس ، وقيل إلى الفرات قاله النووي في شرح أبي داود ، قال القاري : قوله (( ولأهل الشام )) أي من طريقهم القديم لأنهم الآن يمرون على مدينة النبي الكريم - انتهى . وقال ابن حجر المكي الهيتمي : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ولأهل الشام الجحفة )) ، أي إذا لم يمروا بطريق المدينة وإلا لزمهم الإحرام من الحليفة إجماعا على ما قاله النووي ، قال القاري : وهذا غريب منه وعجيب ، فإن المالكية وأبا ثور ( وابن المنذر وهما من الشافعية ) يقولون بأن له التأخير إلى الجحفة ، وعندنا معشر الحنفية يجوز للمدني أيضا تأخيره إلى الجحفة ، فدعوى الإجماع باطلة مع وقوع النزاع - انتهى . قلت : وسيأتي الكلام في هذا مفصلا ووقع في حديث عائشة عند النسائي (( ولأهل الشام ومصر الجحفة )) قال الولي العراقي : هذه زيادة يجب الأخذ بها وعليها العمل . وروى الشافعي بسنده عن عطاء مرسلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل المغرب ( الجحفة ) بضم الجيم وإسكان الحاء المهملة وفتح الفاء قرية كبيرة كانت عامرة ذات منبر وهي الآن خربة بينها وبين البحر الأحمر بالأميال (6) وبالكيلوات (10) قال ابن حزم : وهي فيما بين المغرب والشمال من مكة ، ومنها إلى مكة اثنان وثمانون ميلا . وقال صاحب التيسير : تبعد عن مكة بالمراحل (5) وبالفراسخ (40) وبالأميال (120) وبالكيلوات (201) ويحرم منها أهل مصر والشام والمغرب ومن ورائهم من أهل الأندلس والروم والتكرور . قيل : إنها ذهبت أعلامها ولم يبق إلا رسوم خفية لا يكاد يعرفها إلا سكان بعض البوادي ، فلذا - والله تعالى أعلم - اختار الناس الإحرام احتياطا من المكان المسمى برابغ براء وموحدة وغين معجمة بوزن فاعل لأنها قرية قبل حذائها بقليل ، وقيل :
(17/184)
لا يحرمون من الجحفة لوخمها
وكثرة حماها فلا ينزلها أحد إلا حم . وسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
حديث ابن عمر عند الشيخين (( مهيعة )) بفتح الميم وإسكان الهاء وفتح التحتية
والعين المهملة بوزن علقمة ، وقيل : بكسر الهاء مع إسكان الياء على وزن لطيفة ،
والصحيح المشهور الأول . وسميت الجحفة لأن السيل أجحف بها ، قال ابن الكلبي : كان
العماليق يسكنون يثرب فوقع بينهم وبين بني عبيل - بفتح المهملة وكسر الموحدة ، وهم
إخوة عاد - حرب فأخرجوهم من يثرب فنزلوا مهيعة فجاء سيل فاجتحفهم أي : استأصلهم
فسميت الجحفة ( ولأهل نجد ) أي : ساكنيها ومن سلك طريق سفرهم فمر بمياقتهم . ونجد
بفتح النون وإسكان الجيم وآخره دال مهملة . قال الحافظ : هو كل مكان مرتفع ، وهو
اسم لعشرة مواضع ، والمراد منها هنا التي أعلاها تهامة واليمن وأسفلها الشام
والعراق . وقال ياقوت : نجد تسعة مواضع ، ونجد المشهور فيها اختلاف كثير ، والأكثر
أنها اسم للأرض التي أعلاها تهامة وأسفلها العراق والشام . وقال الخطابي : نجد
ناحية المشرق ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها وهي مشرق أهلها ،
وذكر في المنتهى : نجد من بلاد العرب وهو خلاف الغور أعني تهامة ، وكل ما ارتفع من
تهامة إلى أرض
قرن المنازل ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العراق فهو نجد . وقال عياض في المشارق وأبو عمر : نجد ما بين الجرش إلى سواد
الكوفة . وحده مما يلي لمغرب الحجاز وعن يسار الكعبة اليمن . ونجد كلها من عمل
اليمامة . قال السمهودي : والصواب أن الذي من عمل اليمامة موضع مخصوص من نجد لا
كله . وقال في النهاية : النجد ما ارتفع من الأرض وهو اسم خاص لما دون الحجاز مما
يلي العراق - انتهى . وهو مذكر ، قال الشاعر :
ألم تر أن الليل يقصر طوله ( ... بنجد ويزداد النطاف به نجدا (
(17/185)
ولو أنثه أحد ورده على البلاد لجاز له ذلك ( قرن المنازل ) بلفظ : جمع المنزل والمركب الإضافي هو اسم المكان ويقال له قرن أيضا بلا إضافة كما ورد في رواية للشيخين ، وأحمد ، ومالك وغيرهم ، وهو بفتح القاف وسكون الراء بعدها نون ، وضبطه صاحب الصحاح بفتح الراء وغلطوه . وبالغ النووي فحكى الاتفاق على تخطئته في ذلك ، لكن حكى عياض عن تعليق القابسي : أن من قاله بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع ، ومن قال بالفتح أراد الطريق الذي يفترق منه فإنه موضع فيه طريق متفرق . والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان . وحكى الرؤياني عن بعض قدماء الشافعية أن المكان الذي يقال له قرن موضعان : أحدهما في هبوط وهو الذي يقال له قرن المنازل ، والآخر في صعود وهو الذي يقال له قرن الثعالب ، والمعروف الأول ، وفي أخبار مكة للفاكهي : إن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى بينه وبين مسجد منى ألف وخمسمائة ذراع ، وقيل له قرن الثعالب لكثرة ما كان يأوى إليه من الثعالب ، فظهر أن قرن الثعالب ليس من المواقيت ، وقد وقع ذكره في حديث عائشة في إتيان النبي - صلى الله عليه وسلم - الطائف يدعوهم إلى الإسلام وردهم عليه ، قال : فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، الحديث . وذكره ابن إسحاق في السيرة النبوية ، ووقع في مرسل عطاء عند الشافعي في الأم (ج2 : ص117) ولأهل نجد قرنا ولمن سلك نجدا من أهل اليمن وغيرهم قرن المنازل ، ووقع في عبارة القاضي حسين في سياقه لحديث ابن عباس هذا (( ولأهل نجد اليمن ونجد الحجاز قرن )) ، وهذا لا يوجد في شيء من طرق حديث ابن عباس ، وإنما يوجد ذلك من مرسل عطاء وهو المعتمد ، فإن لأهل اليمن إذا قصدوا مكة طريقين إحداهما طريق أهل الجبال وهم يصلون إلى قرن أو يحاوذنه وهو ميقاتهم كما هو ميقات أهل المشرق ، والأخرى طريق أهل تهامة ، فيمرون بيلملم أو يحاوذنه وهو ميقاتهم لا يشاركهم فيه إلا من أتى عليه من غيرهم
(17/186)
كذا في الفتح . وقال المحب
الطبري : قرن المنازل وقرن الثعالب واحد وهو تلقاء ذات عرق على مرحلتين من مكة وهو
ميقات أهل النجدين نجد الحجاز ونجد تهامة واليمن وقال ابن حزم : قرن شرق من مكة
ومنها إلى مكة اثنان وأربعون ميلا . وقال صاحب التيسير : وقرن لها معان أحدها أعلى
الجبل ويسمى هذا المحرم الآن السير الكبير ويبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ
(16) وبالأميال (48) وبالكيلوات (80) ويحرم منه أهل الطائف وأهل نجد نجد اليمن
ونجد الحجاز وأهل الكويت فائدة
ولأهل اليمن يلملم ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/187)
قال ابن جاسر في (( مفيد الأنام )) : إذا ركب إنسان طائرة من نجد قاصدا مكة لأداء نسكه فميقاته الشرعي (( قرن )) المعروف بالسيل وحيث أنه لا يتمكن من النزول بالطائرة في الميقات المذكور وقصد جدة لينزل في مطارها فإن الواجب عليه - والحالة ما ذكر - نية الإحرام في الطائرة إذا أتى على الميقات - قرن -المذكور أو على ما يحاذيه ، فإذا نزل بجدة محرما قصد مكة لأداء نسكه ، ولا يجوز له ترك الإحرام إذا أتى على الميقات أو حاذاه بقصد الإحرام من جدة لأن الإحرام من الميقات أو ما يحاذيه واجب ، وتجاوزه بغير إحرام محرم ، وفيه دم ، ومثله إذا ركب طائرة من المدينة ونحوها قاصدا مكة ، والله أعلم - انتهى . ( ولأهل اليمن ) إذا مروا بطريق تهامة ومن سلك طريق سفرهم ومر على ميقاتهم . قال في المواهب اللطيفة : أراد به بعض أهل اليمن ممن يسكن تهامة فإن اليمن يشمل نجدا وتهامة ، وقوله فيما تقدم لأهل نجد عام يشمل نجد الحجاز ونجد اليمن . وقال الولي العراقي : قال أصحابنا وغيرهم : المراد بكون يلملم ميقات أهل اليمن بعض اليمن وهو تهامة ، فأما نجد فإن ميقاته قرن ، وذلك لأن اليمن يشمل نجدا وتهامة فأطلق اليمن وأريد بعضه وهو تهامة منه خاصة ، وقوله فيما تقدم (( نجد )) تناول نجد الحجاز ونجد اليمن وكلاهما ميقات أهله قرن ( يلملم ) بفتح التحتانية واللام وسكون الميم بعدها لام مفتوحة ثم ميم ، وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة ، وقال ابن حزم : هو جنوب من مكة ، ومنه إلى مكة ثلاثون ميلا . وفي شرح المهذب يصرف ولا يصرف . قال العيني : إن أريد الجبل فمنصرف ، وإن أريد البقعة فغير منصرف البتة بخلاف قرن ، فإنه على تقدير إرادة البقعة يجوز صرفه لأجل سكون وسطه . ويقال فيه (( ألملم )) بالهمزة وهو الأصل والياء تسهيل لها ، وحكى ابن سيده فيه (( يرموم )) براءين بدل اللامين . قال العيني : ووزن يلملم فعمعل كصمحمح ، وليس هو من لملمت لأن
(17/188)
ذوات الأربعة لا يلحقها
الزيادة في أولها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها نحو مدحرج ، قال : فلأجل هذا
حكمنا بأن الميم الأولى واللام الثانية زائدتان ، ولهذا قال الجوهري في باب الميم
وفصل الباء : يلم ثم قال (( يلملم )) لغة في الملم وهو ميقات أهل اليمن - انتهى .
وقال صاحب التيسير : وتبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ (16) وبالأميال (48)
وبالكليوات (80) ويحرم منه أهل اليمن وأهل جاوه وأهل الهند والصين - انتهى . قلت :
قد جرى عمل حجاج الهند والباكستان الذين يسافرون للحج من طريق البحر أنهم إذا وصلت
باخرتهم قريبا من بعض سواحل اليمن وكانوا على يوم وليلة أو أكثر من ميناء جدة
يحرمون هناك في البحر بناء على زعمهم أنهم يحاذون إذ ذاك جبل (( يلملم )) الذي هو
ميقات أهل اليمن ومن سلك طريقهم في البر إلى الحرم المكي ، والذي هو على مرحلتين
من مكة ، أي على بعد ثمان وأربعين ميلا منها ، وعندي عملهم هذا محل نظر وبحث ، بل
الصواب عندي أنه لا يجب عليهم الإحرام في البحر في أي محل كانوا ، أي قبل وصولهم
إلى جدة بل لهم أن يؤخروا الإحرام حتى ينزلوا في ميناء جدة فيحرموا منها ، وهذا
يحتاج إلى شيء من البسط والتوضيح ، فاعلم أن الأرض حول مكة في
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/189)
جهاتها الأربع قد جعلت حرما وحدث لذلك حدود عينها إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأمر الله تعالى ، ثم قررها نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، فحرم مكة ما أحاط وأطاف بها من جوانبها الأربع ، ومسافة تلك الحدود من الكعبة المشرفة والمسجد الحرام ليست متساوية بل متفاوتة ، فهي تنتهي على بعد عشرة أميال في جهة الحديبية وجدة وكذا في جهة الطائف ، وتسعة في أخرى ، أي الجعرانة ، وسبعة في ناحية ، أي في جهة عرفات والعراق ، وكذا في جهة اليمن ، وثلاثة فقط في أخرى ، أي في جهة التنعيم . وقد نصبت علامات لانتهاء الحرم في الجهات المذكورة ، وإذا وصلت هذه العلامات بخطوط مستقيمة بينها تحدث من ذلك خارطة تشبه شكلا مخمسا ويكون طول الحرم حول مكة سبعة وثلاثين ميلا وهي التي تدور بأنصاب الحرم المبنية في جميع جوانبه ، وقد جعل الله تعالى هذه المنطقة المحاطة بالخطوط حرما يجب تكريمه واحترامه ، وشرع له أحكاما يختص به ، فمثلا لا يقتل صيدها ولا يختلى خلاه ولا يعضد شجرها وغير ذلك من الأحكام ، وحرمة هذه القطعة من الأرض ليست إلا لأن لها علاقة ونسبة ببيت الله الحرام وهو في الحقيقة تكريم للكعبة وإجلال للبيت . ثم إن خارج تلك الحدود على بعد عشرات من الأميال قد وقتت خمس أماكن للقادمين إلى مكة للحج والعمرة يقال لها المواقيت جمع الميقات ، وهي خمسة : ذو الحليفة ، الجحفة ، قرن المنازل ، يلملم ، ذات عرق . قد عين النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأمكنة ميقاتا للحجاج القادمين من طرفها ، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز لأحد يمر على واحد من هذه المواقيت الخمسة المنصوصة وهو يريد الحج أو العمرة أن يتجاوزه بدون الإحرام ، فإن جاوزه غير محرم فقد أساء الأدب ببيت الله الحرام وعليه دم عند الجمهور ، وإن سلك أحد طريقا لا يقع فيها أي واحد من هذه المواقيت فإنه لا بد أن يمر بمحاذاته في محل ما فعليه أن يحرم قبل أن يتجاوز محل محاذاته ، فإن
(17/190)
لم يستطع أن يعرف محل المحاذاة
فعليه أن يحرم قبل مرحلتين من مكة المكرمة . وبعد هذا فاعلم أن في الزمن القديم
حينما كان السفر في البحر بالسفن الشراعية كان الحجاج القادمون من الهند والبلاد
الشرقية ينزلون على واحدة من موانئ اليمن مثل الحديدة أو غيرها ثم يسافرون منها
إلى مكة المكرمة في البر من طريق اليمن ، ولذا كان الواجب عليهم أن يحرموا من
يلملم )) لأن ميقات أهل اليمن ومن أتي من طريقهم يلملم ، ولكن في زمننا هذا لا
ترسي بواخر حجاج الهند والباكستان في موانئ اليمن بل تقطع طريقها في البحر رأسا
إلى جدة وترسي في مينائها ، ولذا لا يقع يلملم في طريقهم ولا يمرون على خط
محاذاتها أيضا فليس هناك وجه معقول لا يجاب الإحرام عليهم في البحر قبل وصول
باخرتهم إلى جدة ، ولكن قد جرى العمل على أن ربان باخرة الحجاج القادمة من الهند
أو الباكستان يعلن قبل الوصول إلى جدة بيوم وليلة أو أكثر بأن الباخرة ستمر قريبا
من جبل يلملم في الوقت الفلاني فعلى الحجاج أن يتأهبوا ويحرموا قبل ذلك ، فالحجاج
يحرمون في ذاك المحل من البحر عملا بهذا الإعلان ، فإن كان معناه أن جبل يلملم يرى
بالتلسكوب ( المنظار ) وأمثالها من الآلات من ذلك المحل الذي يبعد منه
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/191)
أكثر من خمسين ميلا يقينا فلا علاقة لهذه الرؤية بمسألة المحاذاة المعتبرة . وإن كان معناه أنه يمكن أن يخط خط مستقيم إلى جبل يلملم من ذلك المحل فهذا الإمكان متحقق من كل محل ولا يختص بمحل دون آخر ، وعلى كل حال فإن المسألة ما زالت غير واضحة لي مع أني وافقتهم في الإحرام في ذاك المحل سنة 75 ، وسنة 82 من الهجرة ، فأحرمت حيثما أحرموا وذلك لأنه لا شبهة في جواز الإحرام قبل الميقات عند الجمهور ، وبما أنه لا يقع ، أي ميقات في طريق بواخر الحجاج القادمة من الهند أو الباكستان ولا يحاذي أي واحد منها بل تقطع طريقها في البحر في حدود الآفاق ، أي إلى غير جهة الحرم بعيدة عن يلملم الذي هو جبل من جبال تهامة وقريب من مكة المكرمة فلا يمكن لأية باخرة أو سفينة أن تتجاوزه أو تتجاوز خط محاذاته إلى جهة الحرم قبل وصولها إلى جدة ولو كانت تجرى على الساحل ، وقد ذكرنا فيما سبق أن الحدود التي حدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحرم إذا أحطناها بالخطوط الممتدة من حد إلى حد تحدث منه صور مخمسة ، ثم إنه قد وقتت خمس أماكن مواقيت للحج والعمرة على بعد عشرات من الميل ( بل على نحو أكثر من مأتي ميل إلى جهة المدينة ) وقد مر تفصيله فيما سبق ، وإذا أحطنا تلك المواقيت الخمسة بالخطوط تظهر منها أيضا صورة مخمسة ممتدة الأطراف . وإذا أتضح لك هذا فاعلم أن المنطقة الواقعة ما بين خارج حدود الحرم ، أي خارج الخطوط المحيطة بحدود الحرم إلى المواقيت يقال لها الحل الصغير لأنه يحل فيها الصيد لكن يحرم المرور والدخول فيها بغير إحرام لمن يسكن وراء الميقات ، مثلا المنطقة الواقعة ما بين مكة والتنعيم في جهة المدينة حرم ومنها إلى ذي الحليفة حل صغير وسائر الأرض خارج حدود المواقيت الخمسة يقال لها الآفاق أو الحل الكبير ، فالذين يسكنون خارج حدود الحرم دون حدود المواقيت ( أي في الحل الصغير ) يجب عليهم الإحرام قبل دخولهم حدود الحرم إذا أرادوا
(17/192)
الحج والعمرة ، مثلا الذين
يسكنون في شمال مكة بين التنعيم وذي الحليفة يجب عليهم أن يحرموا من التنعيم قبل
الدخول في حدود الحرم ، والذين يسكنون في الآفاق خارج المواقيت يجب عليهم الإحرام
من مواقيتهم قبل أن يتجاوزوا حدود الميقات ( أي قبل دخولهم في الحل الصغير ) ،
فالذي يمر على أحد هذه المواقيت الخمسة حكمه واضح أنه يحرم من ذلك الميقات قبل أن
يتجاوزه إلى الحل الصغير أو إلى جهة الحرم . أما الذي لا يمر على واحد من هذه
المواقيت فيجب عليه الإحرام قبل تجاوزه الخط الذي يمتد من ميقات إلى آخر ويكون حدا
فاصلا بين الحل الصغير والآفاق ، أي الحل الكبير ، وإن هذا الخط في الأصل هو خط
محاذاة الميقات ، فالحاج ما دام خارج الخط المذكور فهو في الآفاق ، وإذا جاوز هذا
الخط فقد دخل حدود الحل الصغير ، ولا يجوز لآفاقي أن يدخل الحل الصغير بدون
الإحرام وقد ذكرنا فيما سبق أنه إن جاء أحد من طريق لا يقع أي ميقات فيه ولا يمكن
له معرفة حد الحل الصغير بالضبط أعني خط محاذاة الميقات فعليه أن يحرم قبل مرحلتين
من مكة . فإذا كانت باخرة الحجاج القادمين من
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/193)
البلاد الشرقية - الهند أو الباكستان وغيرهما - لا تمر في البحر بيلملم أو بمحاذاتها بل تقطع طريقها في الآفاق ، أي في الحل الكبير إلى غير جهة الحرم متوجهة إلى جدة وترسي في مينائها يجوز للحجاج المسافرين في تلك البواخر أن يؤخروا الإحرام إلى جدة ويحرموا منها ، لأنها على مرحلتين من مكة ، والمسافة بين مكة ويلملم أيضا مثله كما قال الهيتمي في تحفة المحتاج بشرح المنهاج (ج 4 ص 45) : وخرج بقولنا (( إلى جهة الحرم )) ما لو جاوزه يمنة أو يسرة فله أن يؤخر إحرامه لكن بشرط أن يحرم من محل مسافته إلى مكة مثل مسافة ذلك الميقات كما قاله الماوردي وجزم به غيره ، وبه يعلم أن الجائي من اليمن في البحر له أن يؤخر إحرامه من محاذاة يلملم إلى جدة لأن مسافتها إلى مكة كمسافة يلملم كما صرحوا به بخلاف الجائي فيه من مصر ليس له أن يؤخر إحرامه عن محاذاة الجحفة لأن كل محل من البحر بعد الجحفة أقرب إلى مكة منها فتنبه لذلك ، هذا بالنسبة للحجاج المسافرين بالباخرة ، أما الحجاج المسافرون بالطائرة فإن طائراتهم تقطع طريقها في أجواء البر وتمر على قرن المنازل عموما وتدخل أول الحل مارة على واحد من الميقاتين : قرن المنازل أو ذات عرق ، ثم تصل جدة وتنزل بها ، ولذا يجب عليهم الإحرام قبل مرورهم على قرن المنازل ، وبما أنه يتعذر علم الساعة التي تمر فيها الطائرة على الميقات بالضبط فالأحوط لهم أن يحرموا عند ركوبهم الطائرة ، لأنهم إن جاوزوا الميقات بدون الإحرام ووصلوا جدة غير محرمين يأثمون ويجب عليهم الدم عند الجمهور ، وسيأتي مزيد الكلام في هذا في شرح حديث جابر في المواقيت . تنبيه قال النووي : أقرب المواقيت إلى مكة قرن المنازل ميقات أهل نجد وفي ذلك نظر لأن ابن حزم ذكر كما تقدم أن بين قرن ومكة اثنين وأربعين ميلا وأن بين يلملم ومكة ثلاثين ميلا فتكون يلملم حينئذ أقرب المواقيت إلى مكة وعلى ما ذكر صاحب التيسير يكون قرن ويلملم على حد
(17/194)
سواء من مكة . قال الحافظ :
أبعد المواقيت من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة ، فقيل : الحكمة في ذلك أن
تعظم أجور أهل المدينة . وقيل رفقا بأهل الآفاق لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى
مكة أي : ممن له ميقات معين - انتهى . وقال في حجة الله البالغة : لما كان الإتيان
إلى مكة شعثا تفلا تاركا لغلواء نفسه مطلوبا ، وكان في تكليف الإنسان أن يحرم من
بلده حرج ظاهر ، فإن منهم من يكون قطره على مسيرة شهر وشهرين وأكثر وجب أن يخص
أمكنة معلومة حول مكة يحرمون منها ولا يؤخرون الإحرام بعدها ، واختار لأهل المدينة
أبعد المواقيت لأنها مهبط الوحي ومأرز الإيمان ودار الهجرة وأول قرية آمنت بالله ورسوله
، فأهلها أحق أن يبالغوا في إعلاء كلمة الله وأن يخصوا بزيادة تعظيم الله ، وأيضا
فهي أقرب الأقطار التي آمنت في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - انتهى .
قلت : لبيت الله الحرام من التكريم والتعظيم والتقديس والإجلال ما لا يخفى على
مسلم ، ومن آثار ذلك أن جعل له حمى وحدودا لا يتجاوزها قاصده بحج أو عمرة إلا وقد
أحرم وأتى في حال خشوع وخضوع وتقديس وإجلال عبادة لله واحتراما لهذا البيت المطهر
، ومن رحمة الله بخلقه أنه لم يجعل لهم ميقاتا واحدا في إحدى
فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/195)
جهاته بل جعل لكل جهة محرما وميقاتا يكون في طريق سالكه إلى مكة سواء كان من أهل تلك الجهة أو لا وذلك لئلا تلحقهم المشقة بقصدهم ميقاتا ليس في طريقهم حتى جعل ميقات من داره دون المواقيت مكانه الذي هو فيه ، حتى أهل مكة يحرمون بالحج من مكة فلا يلزمهم الخروج إلى الحل . وفي تقدير النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المواقيت وتحديدها معجزة من معجزاته الدالة على صدق نبوته ، فقد حددها ووقتها وأهلها لم يسلموا غير أهل المدينة إشعارا منه بأن أهل تلك الجهات سيسلمون ويحجون ويحرمون منها ، وقد كان ولله الحمد والمنة ( فهن ) أي : المواقيت المذكورة ( لهن ) بضمير المؤنثات ، وكان مقتضى الظاهر أن يكون (( لهم )) بضمير المذكرين ، فأجاب ابن مالك بأنه عدل إلى ضمير المؤنثات لقصد التشاكل وكأنه يقول ناب ضمير عن ضمير بالقرينة لطلب التشاكل وأجاب غيره بأنه على حذف مضاف أي : هن لأهلهن أي : هذه المواقيت لأهل هذه البلدان بدليل قوله الآتي : (( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) فصرح بالأهل ثانيا . قال النووي : الضمير في (( لهن )) عائد على المواضع والأقطار المذكورة وهي المدينة ، والشام ، واليمن ونجد أي : هذه المواقيت لهذه الأقطار ، والمراد لأهلها ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه . وفي رواية للبخاري (( هن لهم )) بضمير المذكرين وهو واضح . قال الحافظ : أي : المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة . ووقع في رواية أخرى أي : للبخاري في باب دخول مكة بغير إحرام بلفظ : (( هن لهن )) أي : المواقيت للجماعات المذكورة أو لأهلهن على حذف المضاف ، والأول أي : (( لهم )) بضمير المذكرين هو الأصل ، ووقع في باب مهل أهل اليمن بلفظ : (( هن لأهلهن )) وقوله : (( هن )) ضمير جماعة المؤنث وأصله لمن يعقل ، وقد استعمل فيما لا يعقل لكن فيما دون العشرة - انتهى . وقال القرطبي : أما جمعه من لا يعقل بالهاء والنون في قوله : (( فهن لهم )) فمستعملة
(17/196)
عند العرب وأكثر ذلك في العشرة
فما دونها فإذا جاوزها قالوا بهاء المؤنث لا غير كما قال الله تعالى : ? إن عدة
الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ? (- 9 : 36) ثم قال ? منها أربعة حرم ? (-9 : 36)
أي : من الإثنى عشر ، ثم قال : ? فلا تظلموا فيهن أنفسكم ?(- 9 : 36) أي : في هذه
الأربعة وقد قيل في الجميع وهو ضعيف شاذ - انتهى . ( ولمن أتى ) أي : مر ( عليهن )
أي : على المواقيت ( من غير أهلهن ) أي : من غير أهل البلاد المذكورة ، وهذا يقتضي
أن المواقيت المذكورة مواقيت أيضا لمن أتى عليها وإن لم يكن من أهل تلك المواقيت
المعينة ، فإنه يلزمه الإحرام منها إذا أتى عليها قاصدا لإتيان مكة لأحد النسكين ،
فيدخل في ذلك ما إذا ورد الشامي مثلا إلى ذي الحليفة فإنه يجب عليه الإحرام منها
ولا يتركه حتى يصل الجحفة ، فإن آخر أساء ولزمه دم ، هذا عند الجمهور . وقالت
المالكية والحنفية : يجوز له التأخير إلى ميقاته وإن كان الأفضل له أن يحرم من
ميقات المدينة أي : من ذي الحليفة . قال الحافظ : الشامي إذا أراد الحج فدخل
المدينة فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها ولا يؤخره حتى يأتي الجحفة التي هي
ميقاته الأصلي ، فإن أخر أساء ولزمه دم عند الجمهور وأطلق النووي الاتفاق ونفى
الخلاف في
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/197)
شرحيه لمسلم والمهذب في هذه المسألة فلعله أراد في مذهب الشافعي ، وإلا فالمعروف عند المالكية أن الشامي مثلا إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى ميقاته الأصلي وهو الجحفة جاز له ذلك وإن كان الأفضل خلافه وبه قال الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية . . وقال الأبي المالكي بعد ذكر قول النووي (( وهذا لا خلاف فيه )) لعله يعني عندهم وأما عندنا فإنما ذلك لمن ليس ميقاته بين يديه كاليمني والعراقي والنجدي يمر أحدهم بذي الحليفة فإنه يحرم منها ولا يؤخره لأن ميقاته ليس بين يديه ، وأما الشامي يمر بها فإنه يؤخر إلى الجحفة ، لأنها ميقاته وهي بين يديه ، نعم الأفضل له ذو الحليفة . قلت : فلا يصح الاعتذار الذي ذكره الحافظ والأبي مع وجود قول أبي ثور ، وابن المنذر من الشافعية موافقا للحنفية ، والمالكية وقال ابن دقيق العيد : قوله : (( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) عام فيمن أتى ، يدخل تحته من ميقاته بين يدي هذه المواقيت التي مر بها ومن ليس ميقاته بين يديها . وقوله : (( ولأهل الشام الجحفة )) عام بالنسبة إلى من يمر بميقات آخر أولا ، فإذا قلنا بالعموم الأول دخل تحته هذا الشامي الذي مر بذي الحليفة ، فيكون له التجاوز إليها ، فلكل واحد منهما عموم من وجه ( لاجتماعهما فيمن مر وهو من أهلها وافتراقهما في شامي مر بميقاته لا غير فأحرم منه ولم يأت غيره ، وفي شامي مثلا أتى ميقات أهل المدينة ولم يأت غيره ) فكما يحتمل أن يقال (( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) مخصوص بمن ليس ميقاته بين يديه يحتمل أن يقال (( ولأهل الشام الجحفة ، مخصوص بمن لم يمر بشيء من هذه المواقيت - انتهى . وقال الحافظ : قال ابن دقيق العيد : قوله (( ولأهل الشام الجحفة )) يشمل من مر من أهل الشام بذي الحليفة ومن لم يمر ، وقوله : (( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) يشمل الشامي إذا مر بذي الحليفة وغيره . فها هنا عمومان قد تعارضا – انتهى ملخصا . ثم
(17/198)
أجاب الحافظ عن هذا التعارض
فقال : ويحصل الانفكاك عنه بأن قوله (( هن لهن )) مفسر لقوله مثلا (( وقت لأهل
المدينة ذا الحليفة )) وأن المراد بأهل المدينة ساكنوها ومن سلك طريق سفرهم فمر
على ميقاتهم ، ويؤيده (( عراقي خرج من المدينة فليس له مجاوزة ميقات أهل المدينة
غير محرم )) ويترجح بهذا قول الجمهور وينتفي التعارض . وقال الولي العراقي بعد ذكر
كلام ابن دقيق العيد : لو سلك ( أي : ابن دقيق العيد ) ما ذكرته أولا من أن المراد
بأهل المدينة من سلك طريق سفرهم ومر على ميقاتهم ، لم يرد هذا الإشكال ولم يتعارض
هنا دليلان ، ومن المعلوم أن من ليس بين يديه ميقات لأهل بلدته التي هي محل سكنه
كاليمني يحج من المدينة ليس له مجاوزة ميقات أهل المدينة غير محرم ، وذلك يدل على
ما ذكرناه أنه ليس المراد بأهل المدينة سكانها وإنما المراد بأهلها من حج منها
وسلك طريق أهلها ، ولو حملناه على سكانها لوردت هذه الصورة وحصل الاضطراب في هذا
فنفرق في الغريب الطارئ على المدينة مثلا بين أن يكون بين يديه ميقات لأهل بلده أم
لا ، فنحمل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/199)
أهل المدينة تارة سكانها وتارة على سكانها والواردين عليها ، ويصير هذا تفريقا بغير دليل ، وإذا حملنا أهل المدينة على ما ذكرناه لم يحصل في ذلك اضطراب ومشى اللفظ على مدلول واحد في الأحوال كلها ، والله أعلم - انتهى كلام الولي العراقي فتأمل . وقال الأمير اليماني : إن صح ما قد روي من حديث عرو أنه - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المدينة ومن مر بهم ذا الحليفة تبين أن الجحفة إنما هي ميقات للشامي إذا لم يأت المدينة ، ولأن هذه المواقيت محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم فكل من مر بجانب من جوانبه لزمه تعظيم حرمته وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض - انتهى . ووقع في رواية (( هن لهن ولكل آت أتى عليهن من غيرهن )) قال السندي : أي لكل مار مر عليهن من غير أهلهن الذين قررت لأجلهم ، قيل : هذا يقتضي أن الشامي إذا مر بذي الحليفة فميقاته ذو الحليفة ، وعموم (( ولأهل الشام الجحفة )) يقتضي أن ميقاته الجحفة فهما عمومان متعارضان ، قلت : أنه لا تعارض إذ حاصل العمومين أن الشامي المار بذي الحليفة له ميقاتان أصلي وميقات بواسطة المرور بذي الحليفة ، وقد قرروا أن الميقات ما يحرم مجاوزته بلا إحرام لا ما لا يجوز تقديم الإحرام عليه فيجوز أن يقال : ذلك الشامي ليس له مجاوزة شيء منهما بلا إحرام فيجب عليه أن يحرم من أولهما ، ولا يجوز التأخير إلى آخرهما فإنه إذا أحرم من أولهما لم يجاوز شيئا منهما بلا إحرام ، وإذا أخر إلى آخرهما فقد جاوز الأول منهما بلا إحرام وذلك غير جائز له ، وعلى هذا فإذا جاوزهما بلا إحرام فقد ارتكب حرامين بخلاف صاحب ميقات واحد فإنه إذا جاوزه بلا إحرام فقد ارتكب حراما واحدا ، والحاصل أنه لا تعارض في ثبوت ميقاتين لواحد ، نعم لو كان معنى الميقات ما لا يجوز تقديم الإحرام عليه لحصل التعارض - انتهى . وقد علم مما ذكرنا أن ها هنا ثلاثة صور أو ثلاثة مسائل : إحداها أن يمر من ليس ميقاته بين يديه كاليمنى
(17/200)
والعراقي والنجدي يمر أحدهم
بذي الحليفة ، وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة أنه يلزمه الإحرام من ذي الحليفة ، ولا
يجوز له المجاوزة عنها بغير إحرام لأنه ليس ميقاته بين يديه وعليه حملت المالكية
(( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) . والثانية أن يمر من ميقاته بين يديه كالشامي
مثلا بذي الحليفة ، واختلفوا فيه فقالت الشافعية والحنابلة وإسحاق : يلزمه الإحرام
من ذي الحليفة ولا يجوز له التأخير إلى ميقاته ، أي الجحفة لظاهر الحديث خلافا
للمالكية والحنفية وأبي ثور وابن المنذر من الشافعية . والثالثة أن المدني إذا
جاوز عن ميقاته إلى الجحفة فهل يجوز له ذلك أم لا ؟ وبالأول قالت الحنفية كما في
كتب فروعهم ، وبالثاني قال الجمهور وهو القول الراجح المعول عليه عندنا قلت :
واستدل الحنفية بما روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أهل من الفرع ، قال محمد
في موطأه : أما إحرام عبد الله بن عمر من الفرع وهو دون ذي الحليفة إلى مكة فإن
أمامها وقت آخر وهو الجحفة ، وقد رخص لأهل المدينة أن يحرموا من الجحفة لأنها وقت
من المواقيت ( يعني أن الواجب أن لا يتجاوز عن مطلق الميقات لا عن الميقات الأول )
، ثم روى محمد عن أبي يوسف عن إسحاق بن راشد عن محمد بن علي عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه
لمن كان يريد الحج والعمرة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/201)
قال : من أحب منكم أن يستمتع بثيابه إلى الجحفة فليفعل - انتهى . قال القاري في شرح النقاية : لو لم يحرم المدني ومن بمعناه من ذي الحليفة وأحرم من الجحفة فلا شيء عليه وكره وفاقا ، وعن أبي حنيفة يلزمه دم ، وبه قال الشافعي ، لكن الظاهر هو الأول لما روي في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم - (( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) فمن جاوز إلى الميقات الثاني صار ميقاتا له - انتهى . وقال ابن الهمام : المدني إذا جاوز إلى الجحفة فأحرم بها فلا بأس ، والأفضل أن يحرم من ذي الحليفة ، ومقتضى كون فائدة التوقيت المنع من التأخير أن لا يجوز التأخير عن ذي الحليفة ، ولذا روى عن أبي حنيفة أن عليه دما لكن الظاهر عنه هو الأول لما روي من تمام الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم - (( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) فمن جاوز إلى الميقات الثاني صار من أهله ، وروي عن عائشة أنها كانت إذا أرادت أن تحج أحرمت من ذي الحليفة ، وإذا أرادت أن تعتمر أحرمت من الجحفة ، ومعلوم أن لا فرق في الميقات بين الحج والعمرة ، فلو لم تكن الجحفة ميقاتا لهما لما أحرمت بالعمرة منها ، فبفعلها يعلم أن المنع من التأخير مقيد بالميقات الأخير - انتهى . وقال ابن نحيم : قوله : أي : الماتن (( أن هذه المواقيت لأهلها ولمن مر بها )) قد أفاد أنه لا يجوز مجاوزة الجميع إلا محرما فلا يجب على المدني أن يحرم من ميقاته وإن كان هو الأفضل ، وإنما يجب عليه أن يحرم من آخرها عندنا - انتهى . قلت : فعل ابن عمر رضي الله عنهما مخالف لتوقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة فلا بد من تأويله ، ولذا قال ابن عبد البر : محمله عند العلماء أنه مر بميقات لا يريد إحراما ثم بدا له فأهل منه أو جاء إلى الفرع من مكة أو غيرها ثم بدا له في الإحرام كما قاله الشافعي وغيره ، وقد روى حديث الميقات ومحال أن يتعداه مع علمه به فيوجب على نفسه
(17/202)
دما ، وهذا لا يظنه عالم -
انتهى . وقال الباجي : يجوز أن يكون عبد الله بن عمر ترك ظاهره أي : الأمر
بالمواقيت لرأي رآه أو تأويل تأوله . قال : وفي كتاب محمد : قال مالك : كان خروج
عبد الله بن عمر إلى الفرع لحاجة ثم بدا له فأحرم منها - انتهى . ويمكن أن يأول أن
ابن عمر لم يمر في طريقه على ذي الحليفة بل ذهب إلى الفرع من طريق آخر . قال ابن
قدامة في المغني (ج3 : ص264) : فإن مر من غير طريق ذي الحليفة فميقاته الحجفة سواء
كان شاميا أو مدنيا لما روى أبو الزبير أنه سمع جابر يسأل عن المهل فقال : سمعته
أحسبه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : مهل أهل المدينة من ذي
الحليفة ، والطريق الآخر من الجحفة . رواه مسلم ، ولأنه مر على أحد المواقيت دون
غيره فلم يلزمه الإحرام قبله كسائر المواقيت ، ويمكن حمل حديث عائشة في تأخيرها
إحرام العمرة إلى الجحفة على هذا ، وأنها لا تمر في طريقها إلى ذي الحليفة لئلا
يكون فعلها مخالفا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولسائر أهل العلم -
انتهى . وأما الحديث المرفوع الذي ذكره محمد في موطأه فهو مرسل ولا حجة في المرسل
عند الجمهور لاسيما وهو معارض لأحاديث التوقيت الموصولة الصحيحة ( لمن كان ) بدل
مما قبله بإعادة الجار ، وفي رواية (( من كان )) ( يريد الحج والعمرة ) الواو
بمعنى
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/203)
أو ، أو المراد إرادتها معا على جهة القران . وفيه دلالة على أنه لا يلزم الإحرام إلا من أراد دخول مكة لأحد النسكين ، فلو لم يرد ذلك جاز له دخولها من غير إحرام وعليه بوب البخاري قال (( باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام )) ودخل ابن عمر حلالا ، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة ، قلت : استدل البخاري بمفهوم قوله في حديث الباب لمن كان يريد الحج والعمرة على أن الإحرام يختص بمن أراد الحج والعمرة فمفهومه أن المتردد إلى مكة بغير قصد الحج والعمرة لا يلزمه الإحرام ، وقد اختلف العلماء في هذا قال العيني : مذهب الزهري والحسن البصري والشامي في قول ومالك في رواية ، وابن وهب وداود بن علي وأصحابه الظاهرية أنه لا بأس بدخول الحرم بغير إحرام ومذهب عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد والثوري وأبي حنيفة وأصحابه ومالك في رواية وهي قوله الصحيح والشافعي في المشهور عنه وأحمد وأبي ثور والحسن بن حيي لا يصلح لأحد كان منزله من وراء الميقات إلى الأمصار أن يدخل مكة إلا بالإحرام فإن لم يفعل أساء ولا شيء عليه عند الشافعي وأبي ثور وعند أبي حنيفة عليه حجة أو عمرة . وقال أبو عمر : لا أعلم خلافا بين فقهاء الأمصار في الحطابين ومن يدمن الاختلاف إلى مكة ويكثره في اليوم والليلة أنهم لا يؤمرون بذلك لما عليهم فيه من المشقة - انتهى . وقال الحافظ : المشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا ، وفي قول يجب مطلقا . قال : والمشهور عن الأئمة الثلاثة الوجوب وفي رواية عن كل منهم لا يجب ، وهو قول ابن عمر والزهري والحسن وأهل الظاهر ، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة ، واستثني الحنفية من كان داخل الميقات وزعم ابن عبد البر أن أكثر الصحابة والتابعين على القول بالوجوب قلت : مذهب الحنفية على ما في الدر المختارة وغيره أنه يحرم تأخير الإحرام عن المواقيت لآفاقي قصد دخول مكة ولو لحاجة غير الحج
(17/204)
كمجرد الرؤية والنزهة أو
التجارة ، وألحق بالآفاقي في هذا الحكم الحرمي والحلي إذا خرجا إلى الميقات بخلاف
ما إذا بقيا في مكانهما فلا يحرم ، أما لو قصد الآفاقي موضعا من الحل كخليص وجدة
قصدا أوليا عند المجاوزة حل له مجاوزته بلا إحرام ، فإذا دخل به التحق بأهله فله
دخول مكة بلا إحرام ، وحل لأهل داخلها يعني لكل من وجد في داخل المواقيت دخول مكة
غير محرم ما لم يرد نسكا للحرج وقال النووي في شرح مسلم : في حديث الباب دليل لمن
يقول بجواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد نسكا سواء كان دخوله لحاجة تتكرر
كالحطاب والحشاش والسقاء والصياد وغيرهم أم لم يتكرر كالتاجر والزائر وغيرهما ،
وسواء كان آمنا أو خائفا وهذا أصح القولين للشافعي ، وبه يفتي أصحابه ، والقول
الثاني : لا يجوز دخوله بغير إحرام إن كانت حاجته لا تتكرر إلا أن يكون مقاتلا أو
خائفا من قتال أو ظالم . ونقل القاضي نحو هذا عن أكثر العلماء - انتهى . وقال
الباجي (ج3 ص80) : دخول مكة على ثلاثة أضرب : الضرب الأول : أن يريد دخولها للنسك
في حج أو عمرة فهذا لا يجوز أن يدخلها إلا محرما . فإن تجاوز الميقات غير محرم
فعليه دم . والضرب
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/205)
الثاني أن يدخلها غير مريد للنسك وإنما يدخلها لحجة تتكرر كالحاطبين وأصحاب الفواكه فهؤلاء لا يجوز لهم دخولها غير محرمين لأن الضرورة كانت تلحقهم بالإحرام متى احتاجوا إلى دخولها لتكرر ذلك . والضرب الثالث أن يدخلها لحاجته وهي مما لا تتكرر فهذا لا يجوز له أن يدخلها إلا محرما لأنه لا ضرر عليه في إحرامه ، وإن دخلها غير محرم فهل عليه دم أو لا الظاهر من المذهب أنه لا شيء عليه وقد أساء - انتهى . وقال ابن قدامة : من جاوز الميقات مريدا للنسك غير محرم فعليه أن يرجع إليه ليحرم منه إن أمكنه سواء تجاوزه عالما به أو جاهلا ، علم تحريم ذلك أو جهله ، فإن رجع إليه فأحرم منه فلا شيء عليه لا نعلم في ذلك خلافا ، وإن أحرم من دون الميقات فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع ، وبهذا قال مالك وابن المبارك . قال : وأما المجاوز للميقات ممن لا يريد النسك فعلى قسمين أحدهما : لا يريد دخول الحرم بل يريد حاجة فيما سواه فهذا لا يلزمه الإحرام بغير خلاف ولا شيء عليه في ترك الإحرام ، وقد أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بدرا مرتين وكانوا يسافرون للجهاد وغيره فيمرون بذي الحليفة فلا يحرمون ولا يرون بذلك بأسا ثم متى بدا لهذا الإحرام وتجدد له العزم عليه أحرم من موضعه ولا شيء عليه ، هذا ظاهر كلام الخرقي ، وبه يقول مالك والثوري والشافعي وصاحبا أبي حنيفة ، وحكى ابن المنذر عن أحمد في الرجل يخرج لحاجة وهو لا يريد الحج فجاوز ذا الحليفة ثم أراد الحج يرجع إلى ذي الحليفة فيحرم ، وبه قال أبو إسحاق والأول أصح . القسم الثاني من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها فهم على ثلاثة أضرب أحدها من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة كالحطاب والحشاش وناقل الميرة والفيح ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها فهؤلاء لا إحرام عليهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح مكة حلالا وعلى رأسه المغفر
(17/206)
وكذلك أصحابه ولم نعلم أحدا
منهم أحرم يومئذ ولو أوجبنا الإحرام على كل من يتكرر دخوله أفضى إلى أن يكون جميع
زمانه محرما فسقط للحرج وبهذا قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يجوز لأحد دخول
الحرم بغير إحرام إلا من كان دون الميقات ، ولنا ما ذكرناه ، وقد روى الترمذي أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح مكة وعلى رأسه عمامة سوداء وقال : هذا
حديث حسن صحيح . ومتى أراد هذا النسك بعد مجاوزة الميقات أحرم من موضعه كالقسم
الذي قبله ، وفيه من الخلاف ما فيه . النوع الثاني : من لا يكلف الحج كالعبد
والصبي والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات أو عتق العبد وبلغ الصبي وأرادوا
الإحرام فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم وبهذا قال عطاء ومالك والثوري
والأوزاعي وإسحاق وهو قول أصحاب الرأي في الكافر يسلم والصبي يبلغ ، وقالوا في
العبد : عليه دم . وقال الشافعي في جميعهم : على كل واحد منهم دم ، وعن أحمد في
الكافر يسلم كقوله ، ويتخرج في الصبي والعبد كذلك قياسا على الكافر يسلم . النوع
الثالث : المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة فلا يجوز له تجاوز الميقات
غير محرم . وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي ، وقال بعضهم : لا يجب الإحرام
عليه ، وعن أحمد ما يدل على ذلك ، وقد روي عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام ،
ولأنه أحد
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/207)
الحرمين فلم يلزم الإحرام كدخوله حرم المدينة ، ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل فبقى على الأصل . إذا ثبت هذا فمتى أراد هذا الإحرام بعد تجاوز الميقات رجع فأحرم منه فإن أحرم من دونه فعليه دم كالمريد للنسك - انتهى كلام ابن قدامة . وقد علم مما تقدم أن الإمام الشافعي ذهب في المشهور عنه إلى جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد الحج أو العمرة وهو مذهب الظاهرية ، ونصره ابن حزم في المحلى ، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وأبو البقاء ابن عقيل ، قال ابن مفلح في الفروع وهي ظاهرة واستدلوا على ذلك بقوله في هذا الحديث لمن كان يريد الحج والعمرة ، واستدلوا أيضا بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح حلالا وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه ، وبما روى مالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر دخل مكة بغير إحرام ، وبأنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج والعمرة عند من أوجبها إنما يجب مرة واحدة ، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة ، وبأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل فبقي على الأصل . واستدل لأبي حنفية ومالك وأحمد بقوله - صلى الله عليه وسلم - في مكة أنها حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي إنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما كحرمتها بالأمس . قال الطحاوي وابن الهمام وغيرهما يعنى في الدخول بغير إحرام لإجماع المسلمين على حل الدخول بعده للقتال وأجيب عن ذلك بأن الحديث ليس له دخل في الإحرام ، وإنما هو في تحريم القتال في مكة ، قال الشيخ محمد عابد السندي في المواهب اللطيفة : وأما ما زعم الطحاوي بأن ذلك مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي شريح وغيره أنها لم تحل له إلا ساعة من نهار وأن المراد بذلك جواز دخولها بغير إحرام لا تحريم القتل والقتال فيها لأنهم أجمعوا على أن
(17/208)
المشركين لو غلبوا - والعياذ
بالله - على مكة حل للمسلمين قتالهم وقتلهم فيها - انتهى . فقد دفعه الشيخ أبو
الحسن السندي بأن ذلك مخالف لصريح الحديث ، فإن في حديث أبي شريح عند الشيخين :
فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا : (( إن الله تعالى
أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار )) فهذا صريح في أن الساعة
إنما أبيحت له في القتال لا في دخول مكة بغير إحرام ، ولذلك قال النووي : في حديث
أبي شريح دلالة على أن مكة تبقى دار الإسلام إلى يوم القيامة ، ونهى المترخص إذا
قاتل في رئاسة دنيوية ، وفي دعواه الإجماع نظر فقد حكى القفال والماوردي وغيرهما
القول بعدم حل القتال أصلا في مكة ونقلوا في ذلك عن محققي الشافعية والمالكية -
انتهى كلامه . وأشار الطحاوي إلى حديث أبي شريح في القتال والدخول بلا إحرام
كليهما ، فكان الأمران خاصة له في ذلك اليوم ، ولا يخفى ما فيه ، فإن قوله في
الحديث (( فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) ألخ . نص بأنه
في تحرم القتال في مكة خاصة واستدل لهم أيضا بحديث ابن عباس مرفوعا (( لا يجاوز
أحد الميقات إلا محرما )) أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني ، وفي إسناده خصيف بن عبد
الرحمن عن سعيد بن جبير ، وقد
فمن كان دونهن فمهله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/209)
ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وابن خزيمة وأبو أحمد الحاكم والأزدي ، ووثقه ابن معين وابن سعد . وقال الحافظ : صدوق سيء الحفظ خلط بآخره . ورواه ابن عدي من وجهين ضعيفين وروى الشافعي عنه بإسناد صحيح أنه كان يرد من جاوز الميقات غير محرم . وأجيب عن هذا بأنه موقوف ، وهو أيضا معارض لما رواه مالك في الموطأ أن ابن عمر جاوز الميقات غير محرم ، ولا يحتج بما روي عن ابن عباس مرفوعا لضعف طرقها واستدل لهم أيضا بأن الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة ، فإن الله جعل البيت معظما وجعل المسجد الحرام فناء ، وجعل مكة فناء للمسجد الحرام ، وجعل المواقيت فناء للحرم والشرع ورد بكيفية تعظيمه وهو الإحرام على هيئة مخصوصة فيستوي فيه الحاج والمعتمر وغيرهما ولا يجوز تركه لأحد ممن يريد دخول مكة ، وفيه أن هذا تعليل في معرض النص ، والأصل عدم الخصوصية وهي لا تثبت إلا بدليل فتأمل وقد أجاب هؤلاء عن حديث الباب بوجوه منها أنه استدلال بمفهوم القيد الغالبي وهو ضعيف عند الحنفية ومنطوق حديث ابن عباس المرفوع والموقوف أولى من المفهوم المخالف في قوله لمن كان يريد الحج والعمرة ومنها أن دخوله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح بغير إحرام حكم مخصوص له ولأصحابه بذلك الوقت . وقد تقدم ما فيه ومنها ما ذكره ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج3 ص6) ، وقد تركنا ذكره لطول كلامه ، من شاء الوقوف عليه رجع إلى شرح العمدة ومنها أن قوله (( لمن كان يريد الحج والعمرة )) يحتمل أن يقدر فيه مضاف ، أي لمن كان يريد مكان الحج والعمرة كما قال القاري : (( يريد الحج والعمرة )) أي مكان أحد النسكين وهو الحرم - انتهى . أو يكون كناية عن إرادة دخول مكة ، والنكتة في اختيار هذا التعبير التنبيه على أنه ليس من شأن المسلم قصد دخول مكة مع تركه فريضة الحج والعمرة . قالوا : ويؤيد لصحة هذا التأويل حديث ابن عباس المتقدم قلت : حديث الباب نص فيما ذهب إليه الشافعية ، وقد اعترف
(17/210)
بذلك صاحب فيض الباري (ج3 ص64)
، ولم يقم على إيجاب الإحرام على من أراد مجاوزة الميقات لغير النسكين دليل ، وقد
كان المسلمون في عصره - صلى الله عليه وسلم - يختلفون إلى مكة لحوائجهم ولم ينقل
أنه أمر أحدا منهم بإحرام فلا حاجة إلى تأويل حديث الباب بما يخالف ظاهره ، ويخالف
فعل ابن عمر رضي الله عنه . قال صاحب تيسير العلام : ما ذكر من الخلاف في حق غير
المتردد إلى الحرم لجلب الفاكهة أو الحطب وغيرهما أو له بستان في الحل يتردد عليه
أو له وظيفة أو عمل في مكة وأهله في جدة أو بالعكس فهؤلاء ونحوهم لا يجب عليهم
الإحرام عند عامة العلماء فيما اطلعت عليه من كلام فقهاء المذاهب إلا ما ذهب إليه
أبو حنفية من التحريم على كل داخل إلى مكة من غير إحرام ، والعمل على خلافه -
انتهى . ( فمن كان دونهن ) أي دون المواقيت يعني من كان بين الميقات ومكة ( فمهله
) بصيغة المفعول من الإهلال ، أي موضع إحرامه . قال الحافظ : المهل بضم الميم وفتح
الهاء وتشديد اللام موضع الإهلال ، وأصله رفع الصوت لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم
بالتلبية عند الإحرام ، ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعا . قال ابن الجوزي : وإنما
من أهله وكذاك وكذاك ، حتى أهل مكة يهلون منها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/211)
يقوله بفتح الميم من لا يعرف . وقال أبو البقاء العكبري : هو مصدر بمعني الإهلال كالمدخل والمخرج بمعنى الإدخال والإخراج . قال البدر الدماميني : جعله هنا مصدرا يحتاج إلى حذف أو تأويل ولا داعي إليه ( من أهله ) أي من محل أهله . قال القاري : أي من بيته ولو كان قريبا من المواقيت ولا يلزمه الذهاب إليها . وفي رواية للشيخين (( ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ )) قال العيني : الفاء جواب الشرط ، أي فمهله من حيث قصد الذهاب إلى مكة يعني يهل من ذلك الموضع . وقال الحافظ : أي فميقاته من حيث أنشأ الإحرام إذا سافر من مكانه إلى مكة ، وهذا متفق عليه إلا ما روي عن مجاهد أنه قال : ميقات هؤلاء نفس مكة . قال ابن عبد البر : أنه قول شاذ ، وقال السندي : أي يهل حيث ينشئ السفر من (( أنشأ )) إذا أحدث ، يفيد أنه ليس لمن كان داخل الميقات أن يؤخر الإحرام عن أهله - انتهى . قال الحافظ : ويؤخذ من الحديث أن من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات ثم بدا له بعد ذلك أنه يحرم من حيث تجدد له القصد ، ولا يجب عليه الرجوع إلى الميقات لقوله (( فمن حيث أنشأ )) قال القاري : ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم أهل المواقيت نفسها ، والجمهور على أن حكمها حكم داخل المواقيت خلافا للطحاوي حيث جعل حكمها حكم الآفاق ( وكذاك وكذاك ) بإسقاط اللام فيهما وهي رواية أبي ذر للبخاري وعند غيره (( وكذاك )) أي مرة ، يعني وكذا من كان أقرب من هذا الأقرب ، وكأنه منزل منزلة قولك وهكذا ، أي الأقرب فالأقرب . وقال القاري : أي الأدون فالأدون إلى آخر الحل ( حتى أهل مكة ) وغيرهم ممن هو بها ( يهلون ) أي يحرمون ( منها ) أي من مكة ، ولفظ أهل بالرفع على أن حتى ابتدائية ، وقوله (( أهل مكة )) مبتدأ وخبره (( يهلون منها )) والجملة لا محل لها من الإعراب . وذكر الكرماني أنه روي فيه الجر أيضا . وفي رواية (( حتى أهل مكة من مكة )) قال العيني : يجوز في لفظ ((
(17/212)
أهل )) الجر لأن (( حتى ))
تكون حرفا جارا بمنزلة إلى ، ويجوز فيه الرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره ((
حتى أهل مكة يهلون من مكة )) كما في قولك جاء القوم حتى المشاة ، أي حتى المشاة
جاءوا . قال الحافظ : قوله (( أهل مكة من مكة )) ، أي لا يحتاجون إلى الخروج إلى
الميقات للإحرام منه بل يحرمون من مكة كالآفاقي الذي بين الميقات ومكة فإنه يحرم
من مكانه ولا يحتاج إلى الرجوع إلى الميقات ليحرم منه ، وهذا خاص بالحج ، وأما
المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل يعني لقضية عائشة رضي الله عنها حين
أرسلها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أخيها عبد الرحمن إلى التنعيم لتحرم منه ،
وكذا قال غيره من أصحاب المذاهب الأربعة كالعيني والولي العراقي والمحب الطبري
والقسطلاني وابن قدامة والشيخ محمد عابد السندي وغيرهم وادعوا الإجماع على ذلك قلت
: حديث ابن عباس هذا نص في أن هذه المواقيت للحج والعمرة جميعا لا للحج فقط فيلزم
أن تكون مكة ميقاتا لأهلها للحج والعمرة كليهما لا للحج فقط خلافا للجمهور ، ولهذا
بوب البخاري عليه بقوله (( باب مهل أهل مكة للحج والعمرة )) ففيه إشعار بأن مكة عنده
ميقات لأهلها للعمرة أيضا قال الأمير اليماني : أعلم أن قوله (( حتى أهل مكة من
مكة )) يدل على أن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/213)
ميقات عمرة أهل مكة كحجهم ، وكذلك القارن منهم ميقاته مكة ، ولكن قال المحب الطبري : إنه لا يعلم أحدا جعل مكة ميقاتا للعمرة في حق المكي . قال : فعليه أن يخرج من الحرم إلى أدني الحل يدل عليه أمره - صلى الله عليه وسلم - عائشة أن تخرج إلى التنعيم وانتظاره مع جملة الحجيج لها ، ثم فعل من جاور بمكة من الصحابة ثم تتابع التابعين وتابعيهم إلى اليوم ، وذلك إجماع في كل عصر . قال الأمير اليماني : وجوابه أنه - صلى الله عليه وسلم - جعلها ميقاتا لها بهذا الحديث ، وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال (( يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر )) ، يعنى إذا أحرم بها من ناحية المزدلفة . وقال أيضا : من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم ويجاوز الحرم . فآثار موقوفة لا تقاوم المرفوع ، وأما ما ثبت من أمره - صلى الله عليه وسلم - لعائشة بالخروج إلى التنعيم لتحرم بعمرة فلم يرد إلا تطييب قلبها بدخولها إلى مكة معتمرة كصواحباتها ، لأنها أحرمت بالعمرة معه ثم حاضت فدخلت مكة ولم تطف بالبيت كما طفن كما يدل له قولها (( قلت : يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد ، قال : انتظري فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه )) الحديث . فإنه محتمل أنها إنما أرادت أن تشابه الداخلين من الحل إلى مكة بالعمرة ، ولا يدل أنها لا تصح العمرة إلا من الحل لمن صار في مكة ، ومع الاحتمال لا يقاوم حديث الباب . قال : وعند أصحاب أحمد أن المكي إذا أحرم للعمرة من مكة كانت عمرة صحيحة . قالوا : ويلزمه دم لما ترك من الإحرام من الميقات . قال الأمير اليماني : ويأتيك أن إلزامه الدم لا دليل عليه . وقال الشوكاني في السيل الجرار (ج2 ص 216 ) : وقع التصريح في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما بعد ذكر المواقيت لأهل كل محل أنه قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فهي لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد
(17/214)
الحج والعمرة )) فصرح في هذا
الحديث بالعمرة يعني ففيه تعيين ميقات للعمرة والحج كليهما لأهل هذه المواقيت
ولأهل مكة جميعا وقال أبو الحسن السندي في حاشيته على الصحيح : قول البخاري (( باب
مهل أهل مكة للحج والعمرة )) كأنه نبه بذلك على أن سوق الحديث لميقات الحج والعمرة
جميعا لا لميقات الحج فقط ، ولذلك قال : ممن أراد الحج والعمرة ، فمقتضاه أن ما
جعل ميقاتا لأهل مكة يكون ميقاتا لهم للحج والعمرة جميعا لا للحج فقط ، وإن ذهب
الجمهور إلى الثاني وجعلوا ميقات العمرة لأهل مكة أدني الحل بحديث إحرام عائشة
بالعمرة من التنعيم ، وذلك لأن عائشة ما كانت مكية حقيقة فيجوز أن يكون ميقات
مثلها التنعيم للعمرة وإن كان ميقات المكي نفس مكة ، وكذا يجوز إحرامها من التنعيم
لأنها أرادت العمرة الآفاقية حيث أرادت المساواة لسائر المعتمرين في ذلك السفر ،
فحديث عائشة لا يعارض هذا الحديث ، فكأنه بهذه الترجمة أراد الاعتراض على الجمهور
، والله تعالى أعلم - انتهى . وقد ظهر بهذا كله أن كل ما استدل به الجمهور هو قضية
عائشة في اعتمارها من التنعيم وآثار موقوفة عن ابن سيرين وعطاء وابن عباس . قالوا
: قضية عائشة مع أثر ابن عباس مخصصة لحديث الباب ، وفيه أن قضية عائشة واقعة جزئية
محتملة ، وحديث الباب فيه بيان ضابطه وقانون عام فيقدم على حديث عائشة ، والآثار
الموقوفة لا تعارض المرفوع ، والعبرة لما روى الصحابي لا لرأيه
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/215)
تنبيه : قال الطحاوي ذهب قوم ( أي من الذين فرقوا بين ميقات المكي للحج وميقاته للعمرة ) إلى أنه لا ميقات للعمرة لمن كان من مكة إلا التنعيم ، ولا ينبغي مجاوزته كما لا ينبغي مجاوزة المواقيت التي للحج ، وخالفهم آخرون فقالوا : مواقيت العمرة الحل وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة بالإحرام من التنعيم لأنه كان أقرب الحل من مكة وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء ، ويؤيد ذلك ما رواه الطحاوي من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة في حديثها ، قال : فكان أدنانا من الحرم التنعيم فاعتمرت منه . قال : فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل - انتهى . وقال ابن قدامة بعد ذكر أثر ابن عباس المتقدم : إنما لزم الإحرام أي إحرام المكي للعمرة من الحل ليجمع في النسك بين الحل والحرام فإنه لو أحرم من الحرم لما جمع بينهما فيه لأن أفعال العمرة كلها في الحرم بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الخروج إلى عرفة فيجتمع له الحل والحرم والعمرة بخلاف ذلك ( فبالخروج إلى الحل يتحقق فيها نوع سفر ويصح به كونه وافدا على البيت الحرام ) قال : ومن أي الحل أحرم جاز ، وإنما أعمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة من التنعيم لأنها أقرب الحل إلى مكة - انتهى . تنبيه ثان : قال السندي في حاشيته على الصحيح قوله (( ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة )) مقتضاه أنه ليس لمن كان داخل المواقيت أن يؤخر الإحرام من أهله ، وكذا ليس لأهل مكة أن يؤخروه من مكة ، ويشكل عليه قول علمائنا الحنفية حيث جوزوا لمن كان داخل المواقيت التأخير إلى آخر الحل ، ولأهل مكة إلى آخر الحرم من حيث أنه مخالف للحديث ، ومن حيث أن المواقيت ليست مما يثبت بالرأي ، والله تعالى أعلم - انتهى . قلت : اختلفوا في تعيين الإحرام بالحج لمن هو بمكة من مكة . قال الولي العراقي (ج2 ص 15 ، 16 ) : أما من هو بمكة فميقاته نفس مكة لا يجوز له تركها والإحرام خارجها ولو كان في الحرم ، هذا
(17/216)
هو الصحيح عند أصحابنا (
الشافعية ) وغيرهم ، قال بعض أصحابنا : الإحرام من الحرم كله جائز ، والحديث
بخلافه . وقال المالكية : لو خرج إلى الحل جاز على الأشهر ولا دم لأنه زاد وما نقص
. قال أصحابنا : ويجوز أن يحرم من جميع نواحي مكة بحيث لا يخرج عن نفس البلد ، وفي
الأفضل قولان أصحهما من باب داره ، والثاني من المسجد الحرام تحت الميزاب - انتهى
. وقال المحب الطبري ( ص 73 ) : ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - (( حتى أهل مكة
يهلون منها )) يدل على تعيين الإحرام بالحج من مكة حتى لو حرج وأحرم خارجا منها
كان مسيئا وعليه دم . وفي المسألة خلاف ، ثم قال : حجة من قال يجوز الإهلال بالحج لأهل
مكة من الحرم خارجا عن مكة وذكر فيه ما روي عن جابر في حديث فسخ الحج (( حتى إذا
كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج )) وما روي عنه أيضا قال : (( أمرنا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أهللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى ، قال :
فأهللنا من الأبطح )) أخرجهما الشيخان . قال الطبري : والقائل بهذا يقول إطلاق مكة
جائز على جميع الحرم ، ومنه الحديث (( إن الله حرم مكة لا يختلي خلاها )) وهذا هو
الأظهر عندي ، وعليه بوب البخاري فقال (( باب الإهلال من البطحاء وغيرها للمكي ،
والحاج إذا خرج إلى منى )) ثم ذكر الحديثين - انتهى . وقال النووي : ميقات من بمكة
من أهلها أو غيرهم نفس مكة
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/217)
على الصحيح ، وقيل : مكة وسائر الحرم - انتهى . قال الحافظ : والثاني مذهب الحنفية . واختلف في الأفضل فاتفق المذهبان على أنه من باب المنزل ، وفي قول للشافعي من المسجد ، وحجة الصحيح ما في حديث ابن عباس (( حتى أهل مكة يهلون منها )) وقال مالك وأحمد وإسحاق : يهل من جوف مكة ولا يخرج إلى الحل إلا محرما - انتهى . وقال ابن قدامة (ج3 ص261) : من أي الحرم أحرم المكي بالحج جاز لأن المقصود من الإحرام به الجمع في النسك بين الحل والحرم ، وهذا يحصل بالإحرام من أي موضع كان فجاز كما يجوز أن يحرم بالعمرة من أي موضع كان من الحل ، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في حجة الوداع : إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من البطحاء . ولأن ما اعتبر فيه الحرم استوت فيه البلدة وغيرها كالنحر تنبيه ثالث : اختلف العلماء في تقديم الإحرام على الميقات ، قال العيني في شرح البخاري : قال ابن حزم : لا يحل لأحد أن يحرم بالحج أو العمرة قبل المواقيت ، فإن أحرم أحد قبلها وهو يمر عليها فلا إحرام له ولا حج ولا عمرة له إلا أن ينوي إذا صار في الميقات تجديد الإحرام فذاك جائز وإحرامه حينئذ تام . وقال في شرح الهداية : تقديم الإحرام على هذه المواقيت جائز بالإجماع . وقال داود الظاهري : إذا أحرم قبل هذه المواقيت لا حج له ولا عمرة . قلت : وكذا نقل الإجماع في ذلك الخطابي والنووي وغيرهما . قال الحافظ : وفيه نظر ، فقد نقل عن إسحاق وداود وغيرهما عدم الجواز ، وهو ظاهر جواب ابن عمر ، يشير إلى ما رواه البخاري في باب فرض مواقيت الحج والعمرة من طريق زيد بن جبير أنه أتى عبد الله بن عمر في منزله فسألته ( فيه التفات ) ، من أين يجوز أن أعتمر ؟ قال : فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجد من قرن ، الحديث . قال الحافظ : ويؤيده القياس على الميقات الزماني فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز التقديم عليه ، وفرق الجمهور بين الزماني
(17/218)
والمكاني فلم يجيزوا التقدم
على الزماني وأجازوا في المكاني . وذهب طائفة كالحنفية وبعض الشافعية إلى ترجيح
التقديم ، وقال مالك يكره . قال الحافظ : وظاهر نص البخاري ، أي تبويبه المذكور
أنه لا يجيز الإحرام بالحج والعمرة من قبل الميقات ، ويزيد ذلك وضوحا ما سيأتي بعد
قليل حيث قال : باب ميقات أهل المدينة ولا يهلون قبل ذي الحليفة . قال الحافظ :
استنبط البخاري من إيراد الخبر أي حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قال : يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، إلخ بصيغة الخبر مع إرادة الأمر تعين ذلك
، وأيضا فلم ينقل عن أحد ممن حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أحرم قبل ذي
الحليفة ، ولولا تعين الميقات لبادروا إليه لأنه يكون أشق فيكون أكثر أجرا - انتهى
. وقال العيني : هذه العبارة أي عبارة الترجمة تشير إلى أن البخاري ممن لا يرى
تقديم الإهلال قبل المواقيت ، وقال العيني أيضا : اختلفوا أي القائلون بجواز
التقديم هل الأفضل التزام الحج من المواقيت أو من منزله فقال مالك وأحمد وإسحاق :
إحرامه من المواقيت أفضل . وقال الثوري ، وأبو حنيفة والشافعي وآخرون : الإحرام من
المواقيت رخصة ، واعتمدوا في ذلك على فعل الصحابة فإنهم أحرموا من قبل المواقيت
قالوا : وهم أعرف بالسنة وهم فقهاء الصحابة ، أي وشهدوا إحرام
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/219)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلموا أن إحرامه - صلى الله عليه وسلم - من الميقات كان تيسيرا على أصحابة ورخصة لهم ، وابن عمر كان أشد الناس إتباعا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأصول أهل الظاهر تقتضي أنه لا يجوز الإحرام إلا من الميقات ، إلا أن يصح إجماع على خلافه ، وقال أبو عمر : كره مالك أن يحرم أحد قبل الميقات ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة ، وأنكر عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات ، وفي تعليق البخاري : (( كره عثمان أن يحرم من خراسان وكرمان ، وكره الحسن وعطاء بن أبي رباح الإحرام من الموضع البعيد )) وقال ابن بزيزة : في هذا ثلاثة أقوال ، منهم من جوزه مطلقا ، ومنهم من كرهه مطلقا ، ومنهم من أجازه في البعيد دون القريب . قلت : وتقدم آنفا من قال بالكراهة من البعيد فهو قول رابع في المسألة ، والقول الثالث : رواية للمالكية . قال الباجي : في أثر ابن عمر أنه أهل من إيلياء تقديم الإحرام قبل الميقات ، وقد روى ابن المواز عن مالك جواز ذلك وكراهيته فيما قرب من الميقات ، وروى العراقيون كراهيته على الإطلاق وإذا قلنا برواية ابن المواز فالفرق بين القريب والبعيد أن من أحرم بقرب الميقات فإنه لا يقصد إلا مخالفة التوقيت لأنه لم يستدم إحراما ، وأما من أحرم على البعد منه فإن له غرضا في استدامة الإحرام كما قلنا أن من كان في شعبان لم يجز له أن يتقدم صيام رمضان بصيام يوم أو يومين ، ومن استدام الصوم من أول شعبان جاز له استدامة ذلك حتى يصله برمضان - انتهى . وقال الأبي : إن أحرم قبلها بيسير كره ، وإن أحرم قبلها بكثير فظاهر المدونة الكراهة ، وظاهر المختصر الجواز . ونقل اللخمي قولا بعدم كراهة القريب - انتهى . وقال الولي العراقي في طرح التثريب (ج5 : ص5) : قد بينا أن معنى التوقيت بهذه المواقيت منع مجاوزتها بلا إحرام إذا كان مريدا
(17/220)
للنسك ، أما الإحرام قبل
الوصول إليها فلا مانع منه عند الجمهور . ونقل غير واحد الإجماع عليه ، بل ذهب
طائفة من العلماء إلى ترجيح الإحرام من دويرة أهله على التأخير إلى الميقات وهو
أحد قولي الشافعي ورجحه من أصحابه القاضي أبو الطيب والروياني ، والغزالي ،
والرافعي ، وهو مذهب أبي حنفية ، وروي عن عمر وعلي أنهما قالا في قوله تعالى : ?
وأتموا الحج والعمرة لله ? (2 : 196) إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك . وقال
ابن المنذر : ثبت أن ابن عمر أهل من إيلياء يعني بيت المقدس ، وكان الأسود ،
وعلقمة ، وعبد الرحمن ، وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم انتهى . لكن الأصح عند النووي
من قولي الشافعي أن الإحرام من الميقات أفضل . ونقل تصحيحه عن الأكثرين والمحققين
، وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وحكى ابن المنذر فعله عن عوام أهل العلم بل زاد مالك عن
ذلك فكره تقدم الإحرام على الميقات . قال ابن المنذر : وروينا عن عمر أنه أنكر على
عمران بن حصين إحرامه من البصرة وكره الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح ، ومالك
الإحرام من المكان البعيد - انتهى . وعن أبي حنيفة رواية أنه إن كان يملك نفسه عن
الوقوع في محظور فالإحرام من دويرة أهله أفضل وإلا فمن الميقات . وبه قال بعض
الشافعية - انتهى . وقال العيني : وقال الشافعي ، وأبو حنفية : الإحرام من قبل هذه
المواقيت أفضل لمن قوي على ذلك . وقد صح أن علي بن أبي طالب
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/221)
وابن مسعود ، وعمران بن حصين ، وابن عباس ، وابن عمر : أحرموا من المواضع البعيدة وعند ابن أبي شيبة أن عثمان بن العاص أحرم من المنجشانية وهي قرية من البصرة . وعن ابن سيرين أنه أحرم هو وحميد بن عبد الرحمن ، ومسلم بن يسار من الدارات ، وأحرم أبو مسعود من السيلحين . وقال أبو داود : يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس ، وأحرم ابن سيرين مع أنس من العقيق ، ومعاذ من الشام ومعه كعب الحبر . وقال الأمير اليماني (ج2 : ص189) : قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم ، وهل يكره ؟ قيل : نعم ، لأن قول الصحابة : وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة . يقتضي بالإهلال من هذه المواقيت ويقضي بنفي النقص والزيادة ، فإن لم تكن الزيادة محرمة فلا أقل من أن تكون تركها أفضل ، ولولا ما قيل من الإجماع بجواز ذلك لقلنا بتحريمه لأدلة التوقيت ، ولأن الزيادة على المقدرات من المشروعات كإعداد الصلاة ورمي الجمار لا تشرع كالنقص منها وإنما لم نجزم بتحريم ذلك لما ذكرنا من الإجماع ، ولأنه روى عن عدة من الصحابة تقديم الإحرام على الميقات ، فأحرم ابن عمر من بيت المقدس ، وأحرم أنس من العقيق ، وأحرم ابن عباس من الشام ، وأهل عمران بن حصين من البصرة وأهل ابن مسعود من القادسية . وورد في تفسير الآية أن الحج والعمرة تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك عن علي وابن مسعود وإن كان قد تؤول بأن مرادهما أن ينشأ لهما سفرا مفردا من بلده كما أنشأ - صلى الله عليه وسلم - لعمرة الحديبية والقضاء سفرا من بلده ويدل لهذا التأويل أن عليا لم يفعل ذلك ولا أحد من الخلفاء الراشدين ولم يحرموا بحج ولا عمرة إلا من الميقات بل لم يفعله - صلى الله عليه وسلم - فكيف يكون ذلك تمام الحج ولم يفعله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من الخلفاء ولا جماهير الصحابة نعم الإحرام من بيت المقدس بخصوصه ورد فيه حديث أم
(17/222)
سلمة سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقول : من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من
ذنبه . رواه أحمد ، وفي لفظ : (( من أحرم من بيت المقدس غفر له ما تقدم من ذنبه ))
ورواه أبو داود ولفظه : (( من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد
الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة )) شك من الراوي ، ورواه
ابن ماجة بلفظ : (( من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ))
فيكون هذا مخصوصا ببيت المقدس فيكون الإحرام منه خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت
، ويدل له إحرام ابن عمر منه ، ولم يفعل ذلك من المدينة على أن منهم من ضعف الحديث
، ومنهم من تأوله بأن المراد ينشئ لهما السفر من هنالك - انتهى كلام الأمير
اليماني . وقال ابن قدامة (ج3 : ص264) : لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير
محرما تثبت في حقه أحكام الإحرام ، قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من
أحرم قبل الميقات أنه محرم ، ولكن الأفضل الإحرام من الميقات ، ويكره قبله . روي
نحو ذلك عن عمر وعثمان ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، ومالك ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة
: الأفضل الإحرام من بلده وعن الشافعي كالمذهبين . وكان علقمة ، والأسود ، وعبد
الرحمن ، وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم . واحتجوا بما روت أم سلمة زوج النبي - صلى
الله عليه وسلم - أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/223)
أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة . شك عبد الله أيهما قال . رواه أبو داود . وفي لفظ رواه ابن ماجة : من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له . وأحرم ابن عمر من إيلياء ، وروى النسائي ، وأبو داود بإسناديهما عن الصبي بن معبد ، قال : أهللت بالحج والعمرة معا فلما أتيت العذيب لقيني سليمان بن ربيعة ، وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما جمعيا فقال أحدهما : ما هذا بأفقه من بعيره ، فأتيت عمر فذكرت له ذلك ، فقال : هديت لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا إحرام به قبل الميقات . وروي عن عمر ، وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك . ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أحرموا من الميقات ولا يفعلون إلا الأفضل فإن قيل : إنما فعل هذا لتبيين الجواز ، قلنا : قد حصل بيان الجواز بقوله كما في سائر المواقيت ، ثم لو كان كذلك لكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه يحرمون من بيوتهم ولما تواطؤا على ترك الأفضل واختيار الأدنى ، وهم أهل التقوى والفضل ، وأفضل الخلق ، لهم من الحرص على الفضائل والدرجات ما لهم ، وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أيوب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه . وروى الحسن أن عمران بن حصين أحرم من مصره فبلغ ذلك عمر فغضب ، وقال : يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرم من مصره . وقال : إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان ، فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه له ، رواهما سعيد والأثرم . قال البخاري : كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان ، ولأنه أحرم قبل الميقات فكره كالإحرام بالحج قبل أشهره ، ولأنه تغرير بالإحرام ، وتعرض
(17/224)
لفعل محظوراته ، وفيه مشقة على
النفس فكره كالوصال في الصوم . قال عطاء : انظروا هذه المواقيت التي وقتت لكم
فخذوا برخصة الله فيها ، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في إحرامه فيكون أعظم لوزره
فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك ، فأما حديث الإحرام من بيت المقدس ففيه ضعف
يرويه ابن أبي فديك ، ومحمد بن إسحاق وفيهما مقال ، ويحتمل اختصاص هذا ببيت المقدس
دون غيره ليجمع بين الصلاة في المسجدين في إحرام واحد ، ولذلك أحرم ابن عمر منه ،
ولم يكن يحرم من غيره إلا من الميقات ، وقول عمر للصبي : هديت لسنة نبيك يعني في
القران فالجمع بين الحج والعمرة لا في الإحرام من قبل الميقات فإن سنة النبي - صلى
الله عليه وسلم - الإحرام من الميقات بين ذلك بفعله وقوله ، وأما قول عمر ، وعلي
فإنهما قالا : (( إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك )) ومعناه أن تنشئ لها سفرا من
بلدك تقصد له ، ليس أن تحرم بها من أهلك ، قال أحمد : كان سفيان يفسره بهذا وكذلك
فسره به أحمد . ولا يصح أن يفسر بنفس الإحرام فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم ، وقد أمرهم الله بإتمام العمرة ، فلو حمل قولهم
على ذلك لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تاركين لأمر الله ، ثم إن عمر
وعليا ما كانا يحرمان إلا من الميقات ، أفتراهما يريان أن ذلك ليس بإتمام لها
ويفعلانه ؟ هذا لا ينبغي أن يتوهمه أحد ولذلك أنكر عمر على عمران إحرامه من مصره
واشتد عليه ، وكره أن يتسامع الناس مخافة أن يؤخذ
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/225)
به ، أفتراه كره إتمام العمرة واشتد عليه أن يأخذ الناس بالأفضل ، هذا لا يجوز فيتعين حمل قولهما في ذلك على ما حمله عليه الأئمة ، والله أعلم - انتهى كلام ابن قدامة . قلت : القول الراحج عندنا قول من قال : بكراهة تقديم الإحرام قبل الميقات ، وقد روي ذلك عن عمر ، وعثمان رضي الله عنهما كما تقدم ، وهو الموافق لحكمة تشريع المواقيت ، وما أحسن ما ذكر الشاطبي في الاعتصام (ج1 : ص167) ومن قبله الهروي في ذم الكلام عن الزبير بن بكار : قال حدثني ابن عيينة قال سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله من أين أحرم ؟ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر ، قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة ، فقال : فأي فتنة في هذه ؟ إنما هي أميال أزيدها . قال : وأي فتنة أعظم من أن تري أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني سمعت الله يقول : ? فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ? (24 : 63) انتهى . وأما حديث : (( من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك )) فهو حديث منكر أخرجه البيهقي (ج5 : ص31) من طريق جابر بن نوح عن محمد بن عمرو عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله عز وجل : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? قال : فذكره . قال الشيخ ناصر الدين الألباني : هذا سند ضعيف ، ضعفه البيهقي بقوله : فيه نظر ووجهه أن جابرا هذا متفق على تضعيفه ، وأورد له ابن عدي (50/2) هذا الحديث وقال : لا يعرف إلا بهذا الإسناد ، ولم أر له أنكر من هذا - انتهى . وقد خفى هذا على الشوكاني فقال في نيل الأوطار (ج4 : ص180) : ثبت هذا مرفوعا من حديث أبي هريرة أخرجه ابن عدي والبيهقي - انتهى . وقد رواه البيهقي من طريق عبد الله بن سلمة المرادي عن
(17/226)
علي موقوفا ، ورجاله ثقات إلا
أن المرادي هذا كان تغير حفظه ، وعلى كل حال هذا الموقوف أصح من المرفوع - انتهى .
وأما حديث أم سلمة في الإحرام من المسجد الأقصى ففي صحته نظر وإن سكت عليه أبو
داود . وقد أخرجه أيضا أحمد (ج6 : ص299) ، وابن ماجة ، والدارقطني ، والبيهقي (ج5
: ص30) ، وابن حبان في صحيحه بألفاظ مختلفة كلهم من طريق حكيمة عن أم سلمة مرفوعا
. قال ابن القيم : في تهذيب السنن (ج2 : ص 284) : قال غير واحد من الحافظ إسناده
ليس بالقوي ، وأعله المنذري بالاضطراب فقال في مختصر السنن (ج2 : ص285) : وقد
اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافا كثيرا وكذا أعله بالاضطراب الحافظ ابن كثير
كما في نيل الأوطار (ج4 : ص178) ، ثم إن المنذري كأنه نسى هذا فقال في الترغيب
والترهيب : (( رواه ابن ماجة بإسناد صحيح )) وأنى له الصحة وفيه ما ذكره من
الاضطراب ، وسيأتي شيء من الكلام عليه في آخر الفصل الثاني ، وفي الاستدلال به على
جواز تقديم الإحرام على الميقات مطلقا نظر لأن دلالته أخص من ذلك أعني أنه إنما
يدل على أن الإحرام من بيت المقدس خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت ، وأما غيره
من البلاد فالأصل الإحرام من المواقيت المعروفة وهو الأفضل كما قرره الأمير
اليماني في سبل السلام وابن قدامة في المغني وهذا على فرض صحة الحديث أما وهو لم
يصح كما رأيت فبيت المقدس كغيره في هذا الحكم لما سبق بيانه ، وقد
متفق عليه .
2541- (13) وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/227)
روى ما يدل عليه بعمومه وهو ما روى الهيثم بن كليب وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما والبيهقي في سننه من طريق واصل ابن السائب الرقاشي عن أبي سورة عن عمه أبي أيوب الأنصاري مرفوعا : ليستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه . قال البيهقي : هذا إسناد ضعيف ، واصل بن السائب منكر الحديث ، قاله البخاري وغيره ، ثم رواه البيهقي من طريق الشافعي : أنا مسلم عن ابن رباح عن عطاء مرفوعا نحوه . وأعله بقوله : (( هذا مرسل )) قلت : ومسلم شيخ الشافعي هو ابن خالد الزنجي الفقيه ، وهو صدوق كثير الأوهام كما في التقريب ، وابن جريج مدلس وقد عنعنه واستدل أيضا لأبي حنيفة ومن وافقه بما رواه أحمد والثقفي في مشيخته النيسابوريين (184 ، 185 ، 335/4) من طريق الحسن بن هادية قال : لقيت ابن عمر فقال لي : ممن أنت ؟ قلت : من أهل عمان . قال : من أهل عمان ؟ قلت : نعم . قال : أفلا أحدثك ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قلت بلى . فقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أني لأعلم أرضا يقال لها عمان ينزح بجانبها البحر ، والحجة منها أفضل من حجتين من غيرها . قال الشيخ الألباني : رجاله كلهم ثقات معروفون غير ابن هادية هذا فقد ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ، وأما ابن حبان فقد ذكره في الثقات (ج1 : ص14) وهذا منه على عادته في توثيق المجهولين ( المستورين ) وتوثيق ابن حبان هذا هو عمدة الهيثمي حين قال في المجمع (ج3 : ص217) : (( رواه أحمد ورجاله ثقات )) وحجة الشيخ الفاضل أحمد محمد شاكر في قوله في تعليقه على المسند (( إسناد صحيح )) وهذا غير صحيح لما سبق ، وكم له في هذا التعليق وغيره من مثل هذه الصحيحات المبنية على هذه التوثيقات التي لا يعتمد عليها لضعف مستندها - انتهى . ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص238 ، 249 ، 252 ، 332 ، 339) ، وأبو داود ،
(17/228)
والنسائي ، والدارمي ، وابن
الجارود (ص148) ، والدارقطني ، والشافعي ، والبيهقي (ج5 : ص29) .
2541- قوله : ( عن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ) كذا وقع في
المشكاة والمصابيح ، وهو يدل على أن الحديث عند مسلم مجزوم في رفعه إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - والأمر ليس كذلك ، فإن مسلما رواه أولا من طريق روح بن عبادة
عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل فقال :
سمعت ثم انتهى فقال : أراه يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولم يذكر مسلم
لفظه ، ومعنى هذا الكلام أن أبا الزبير سمع بعض الناس يسأل جابرا عن مواضع إحرام
الحجاج من جميع الجهات فقال جابر : سمعت ، ثم وقف عن الكلام ورفع الحديث إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - ثم قال أراه ( بضم الهمزة ) ، أي أظن أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال : (( مهل أهل المدينة )) ، وأما قوله : (( يعني النبي - صلى الله
عليه وسلم - )) فهو من كلام أبي الزبير يفسر به رجوع الضمير إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - في قول جابر أراه يعني مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال النووي : معناه أن أبا الزبير قال سمعت
مهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، والطريق الآخر الجحفة ، ومهل أهل العراق من ذات
عرق ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/229)
جابرا ثم انتهى أي : وقف عن رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : أراه أي أظنه رفع الحديث فقال : أراه يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال في الرواية الأخرى أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . ثم رواه مسلم من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل فقال سمعت أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال مهل أهل المدينة من ذي الحليفة إلخ . والطريقان تدلان على أن الحديث مشكوك في رفعه . قال النووي : لم يثبت رفع الحديث لكونه لم يجزم برفعه ، وأجيب بأن قوله أراه أو أحسبه معناه أظنه ، والظن في باب الرواية يتنزل منزلة اليقين وليس ذلك قادحا في رفعه ، وأيضا فلو لم يصرح برفعه لا يقينا ولا ظنا فهو منزل منزلة المرفوع ، لأن هذا لا يقال من قبل الرأي وإنما يؤخذ توقيفا من الشارع لا سيما وقد ضمه جابر إلى المواقيت المنصوص عليها يقينا باتفاق ، وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة وابن ماجة من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي كلاهما عن أبي الزبير ولم يشكا في رفعه ( مهل أهل المدينة ) بضم الميم من الإهلال ، أي موضع إحرامهم اسم مكان ( والطريق الآخر ) ، أي مهل الطريق الآخر لهم . قاله القاري . ( الجحفة ) قال ابن مالك : أي إذا جاءوا من طريق الجحفة فهي مهلهم ، وقال ابن حجر : أي ومهل أهل الطريق الآخر الذي لا يمر سالكه بذي الحليفة ولا يجاوزها يمنة أو يسرة هو الجحفة ( ومهل أهل العراق من ذات عرق ) بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف سمي الموضع بذلك لأن فيه عرقا وهو : الجبل الصغير . وهي : أرض سبخة تنبت الطرفاء ، وقيل : العرق من الأرض السبخة تنبت الطرفاء ويسمى الآن الضريبة بفتح الضاد وكسر الراء بعدها ياء ثم باء وهي الحد الفاصل بين تهامة ونجد وتبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ (16) وبالأميال (48) وبالكيلوات (80) ويحرم منه أهل العراق
(17/230)
وبلاد إيران وحاج الشرق كله .
والحديث صريح في أن ذات عرق ميقات أهل العراق بنص النبي - صلى الله عليه وسلم -
وتوقيته لكن قال النووي : لا يحتج بهذا الحديث مرفوعا لكونه لم يجزم برفعه ، وقد
سبق الجواب عن ذلك ويشهد لكون ذات عرق ميقات أهل العراق بالنص ما وقع في حديث
عائشة عند أحمد ، وأبي داود ، والنسائي ، والطحاوي ، والدارقطني بإسناد صحيح كما
قاله النووي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات عرق ، ويأتي
الكلام عليه في الفصل الثاني . ويشهد له أيضا حديث الحارث بن عمرو السهمي عند أحمد
، والنسائي ، وأبي داود ، والطبراني ، وحديث ابن عباس عند ابن عبد البر في التمهيد
، والبزار في مسنده ، وحديث ابن عمر عند ابن راهوية في مسنده وحديث أنس عند
الطحاوي ، والطبراني ، وحديث عبد الله بن عمرو عند أحمد ، والدارقطني . وهذه
الأحاديث وإن كان في كل منها ضعف ولا تخلو عن مقال فمجموعها لا يقتصر عن بلوغ درجة
الاحتجاج به ، وبها يرد على ابن خزيمة حيث قال : في ذات عرق أخبار لا يثبت منها
شيء عند أهل الحديث. وعلي ابن المنذر حيث يقول : لم نجد في ذات عرق حديثا يثبت .
واعلم أنه قد اتفق العلماء على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نص على
المواقيت الأربعة المذكورة في حديثي ابن عباس ، وجابر وهي ذو الحليفة والجحفة وقرن
ويلملم . واختلفوا في ذات عرق
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/231)
هل صارت ميقاتا لأهل العراق بتوقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ونصه أم باجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وممن قال إنه مجتهد فيه من السلف طاوس ، وابن سيرين ، وأبو الشعثاء ، وجابر بن زيد حكاه البيهقي وغيره . وممن قال من السلف أنه منصوص عليه عطاء بن أبي رباح ، وحكاه ابن الصباغ عن أحمد وأصحاب أبي حنيفة ، واختلف قول الشافعي فيه فقال في موضع : هو منصوص عليه ، وفي موضع : ليس منصوصا عليه ، وكذلك اختلف فيه الشافعية وأكثرهم على أنه منصوص عليه . ويدل لذلك الأحاديث السابقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي نص فيها أن ذات عرق ميقات العراق . قال النووي : قالوا : وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوي بعضها بعضا ويصير الحديث حسنا ويحتج به ، ويحمل تحديد عمر باجتهاده على أنه لم يبلغه تحديد النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدده باجتهاده فوافق النص - انتهى . واستدل من قال إنه مجتهد فيه بما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال : لما فتح هذان المصران ( أي الكوفة والبصرة ، والمراد بفتحهما غلبة المسلمين على مكان أرضهما ) ، أتوا عمر فقالوا : يا أمير المؤمنين إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حد لأهل نجد قرنا ، وهو جور ، أي ميل عن طريقنا ، وإنا إن أردنا قرن شق علينا . قال : فانظروا حذوها من طريقكم ، فحد لهم ذات عرق . قالوا : فهذا الحديث الصحيح صريح في أن توقيت ذات عرق باجتهاد من عمر ، وقد جاءت بذلك أيضا آثار عن بعض السلف قال الحافظ بعد ذكرها : هذا كله يدل على أن ميقات ذات عرق ليس منصوصا ، وبه قطع الغزالي ، والرافعي في شرح المسند ، يعني مسند الشافعي ، والنووي في شرح مسلم ، وكذا وقع في المدونة لمالك ، وصحح الحنفية ، والحنابلة ، وجمهور الشافعية ، والرافعي في الشرح الصغير ، والنووي في شرح المهذب : أنه منصوص . وقد وقع ذلك في حديث جابر عند مسلم إلا أنه مشكوك في رفعه . وقد أخرجه
(17/232)
أحمد من رواية ابن لهيعة ،
وابن ماجة من رواية إبراهيم بن يزيد كلاهما عن أبي الزبير فلم يشكا في رفعه ، ووقع
في حديث عائشة وفي حديث الحارث بن عمرو السهمي كلاهما عند أحمد ، وأبي داود ،
والنسائي ، وهذا يدل على أن للحديث أصلا ، فلعل من قال إنه غير منصوص لم يبلغه ،
أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق لا يخلو عن مقال ، ولهذا قال ابن خزيمة :
رويت في ذات عرق أخبار لا يثبت شيء منها عند أهل الحديث وقال ابن المنذر : لم نجد
في ذات عرق حديثا ثابتا . قال الحافظ : لكن الحديث بمجموع الطرق يقوى كما ذكرنا . قلت
: أظهر القولين عندي وأرجحهما أن ذات عرق وقتها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل
العراق لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث ، منها ما هو صحيح
الإسناد ومنها ما في إسناده كلام ، وبعضها يقوي يعضا ، ولا يعارض ذلك حديث ابن عمر
عند البخاري الذي يدل على أن توقيت ذات عرق لأهل العراق باجتهاد من عمر ، لاحتمال
أن عمر لم يبلغه ذلك فاجتهد فوافق اجتهاده توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ،
وهو رضي الله عنه معروف أنه وافقه الوحي في مسائل متعددة ، فلا مانع من أن تكون
هذه منها لا شرعا ولا عقلا ولا عادة . قال ابن قدامة : ويجوز أن يكون عمر ومن سأله
لم يعلموا توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/233)
عرق فقال ذلك برأيه فأصاب ووافق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كان كثير الإصابة - انتهى . وأما إعلال بعضهم حديث ذات عرق بأن العراق لم تكن فتحت يومئذ فقال ابن عبد البر : هي غفلة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح لكنه علم أنها ستفتح ، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق - انتهى . وبهذا أجاب الماوردي وآخرون فإن قلت : ما الجمع بين حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المشرق العقيق ، وبقية الأحاديث في التوقيت من ذات عرق ؟ قلت : في ذلك أوجه : أحدها : ضعف حديث ابن عباس ، فإنه تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو سيئ الحفظ ، وبتقدير صحته أحاديث التوقيت من ذات عرق أصح وأكثر وأرجح . الثاني : أن ذات عرق ميقات الوجوب ، والعقيق ميقات الاستحباب لأنه أبعد من ذات عرق فالإحرام من العقيق أفضل ، فإن جاوزه وأحرم من ذات عرق جاز ، وبهذا صرح الشافعية ، الثالث : أن ذات عرق ميقات لبعض أهل العراق وهم أهل البصرة ، والعقيق ميقات للبعض منهم وهم أهل المدائن ، وقع ذلك في حديث لأنس عند الطبراني في الكبير ، وفيه أبو ظلال هلال بن زيد ، وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور . الرابع : أن ذات عرق كانت أولا في موضع العقيق الآن ثم حولت وقربت إلى مكة ، وعلى هذا فذات عرق هو العقيق ، واللفظان متواردان على شيء واحد ، ومقتضى هذا الجواب وجوب الإحرام من العقيق ، والجمهور على خلافه ، فإنه لم يقل أحد : بتعيين الإحرام من العقيق ، وإنما قالوا : يستحب احتياطا . قال ابن المنذر : واختلفوا في المكان الذي يحرم منه من أتى من العراق على ذات عرق ، فكان أنس يحرم من العقيق ، واستحب ذلك الشافعي ، وكان مالك ، وإسحاق ، وأحمد ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي يرون الإحرام من ذات عرق ، وقال أبو بكر : الإحرام من ذات عرق يجزئ وهو من العقيق أحوط . اعلم أن من سلك طريقا إلى الحرم
(17/234)
لا ميقات فيها فميقاته المحل
المحاذي لأقرب المواقيت إليه كما يدل عليه ما قدمنا نقلا عن صحيح البخاري من توقيت
عمر ذات عرق لأهل العراق لمحاذاتها قرن المنازل ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم
. قال المحب الطبري : في حديث ابن عمر عند البخاري دلالة على أن من مر على طريق لا
ميقات فيه أحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه نزولا على قضاء عمر . وقال الولي
العراقي : سكت في حديث ابن عباس عند الشيخين عن قاصد مكة للنسك من غير أن يمر على
شيء من هذه المواقيت ، وقد قال الجمهور : يلزمه الإحرام إذا حاذى أقرب المواقيت
إليه ، وبه قال الأئمة الأربعة ، وتمسكوا في ذلك بقول عمر رضي الله عنه لما شكى
إليه أهل العراق جور قرن عن طريقهم : (( انظروا حذوها من طريقكم )) والإحرام من
محاذاة الميقات أقرب الأمور إلى النص ، لأن القصد البعد عن مكة بهذه المسافة ،
فلزم إتباعه - انتهى . وحاصل مذهب الحنابلة في ذلك على ما في (( مفيد الأنام ))
للشيخ ابن جاسر النجدي : من لم يمر بميقات من المواقيت الخمسة ، أحرم بحج أو عمرة
وجوبا إذا علم أنه حاذى أقرب المواقيت منه لقول عمر رضي الله عنه : (( انظروا حذوها
من طريقكم )) رواه البخاري ، وسن له أن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/235)
يحتاط ليخرج من عهدة الواجب ، فإن لم يعلم حذو الميقات أحرم من بعد ، إذ الإحرام قبل الميقات جائز وتأخيره عنه حرام ، فإن تساويا قربا منه فإنه يحرم من حذو أبعدهما من مكة من طريق ، لأنه أحوط ، فإن لم يحاذ ميقاتا كالذي يجيء من (( سواكن )) إلى (( جدة )) من غير أن يمر (( برابغ )) ولا (( يلملم )) لأنهما أمامه ، فيصل (( جدة )) قبل محاذاتهما أحرم من مكة بقدر مرحلتين ، فيحرم في المثال من (( جدة )) لأنها على مرحلتين من مكة لأنه أقل المواقيت - انتهى . وقال ابن قدامة : من سلك طريقا بين ميقاتين فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات الذي هو إلى طريقه أقرب لما روينا أن أهل العراق قالوا لعمر : إن قرنا جور عن طريقنا ، فقال : انظروا حذوها من طريقكم ، فوقت لهم ذات عرق فإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه احتاط فأحرم من بعد بحيث تيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا محرما ، لأن الإحرام قبل الميقات جائز وتأخيره عنه لا يجوز ، فالاحتياط فعل ما لاشك فيه ، ولا يلزمه الإحرام حتى يعلم أنه قد حاذاه ، لأن الأصل عدم وجوبه ، فلا يجب بالشك ، فإن أحرم ثم علم أنه قد جاوز ما يحاذيه من المواقيت غير محرم فعليه دم وإن شك في أقرب الميقاتين إليه فالحكم في ذلك على ما ذكرنا في المسألة قبلها ، وإن كانتا متساويتين في القرب إليه أحرم من حذو أبعدهما - انتهى . وقال الحافظ : قد نقل النووي في شرح المهذب : من ليس له ميقات ولا يحاذي ميقاتا يلزمه أن يحرم على مرحلتين اعتبارا بقول عمر : هذا في توقيته ذات عرق ، وتعقب بأن عمر إنما حدها لأنها تحاذي قرنا وهذه الصورة إنما هي حيث يجهل المحاذاة ، فلعل القائل بالمرحلتين أخذ بالأقل ، لأن ما زاد عليه مشكوك فيه ، لكن مقتضى الأخذ بالاحتياط أن يعتبر الأكثر الأبعد - انتهى . قلت : مذهب الشافعية : أن من سلك البحر أو طريقا ليس فيه شيء من المواقيت الخمسة ، أحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه ،
(17/236)
فإذا كان عند محاذاة ذي
الحليفة على ميلين منها وعند محاذاة الجحفة على ميل كان ميقاته الجحفة ، وإن
استويا في القرب إليه أحرم عند محاذاة الأبعد من مكة ، فإن لم يحاذ شيئا - كالآتي
من غربي جدة في البحر - أحرم على مرحلتين من مكة قال ابن حجر الهيتمي المكي في (( تحفة
المحتاج بشرح المنهاج )) : ( من سلك طريقا ) في بر أو بحر ( لا ينتهي إلى ميقات ،
فإن حاذى ميقاتا ) ، أي سامته بأن كان على يمينه أو يساره ولا عبرة بما أمامه أو
خلفه ( أحرم من محاذاته ) فإن اشتبه عليه موضع المحاذاة اجتهد ويسن أن يستظهر
ليتيقن المحاذاة ، فإن لم يظهر له شيء تعين الاحتياط ( أو ) حاذى ( ميقاتين ) بأن
كان إذا مر على كل تكون المسافة منه إليه واحدة ( فالأصح أن يحرم من محاذاة
أبعدهما ) من مكة وإن حاذى الأقرب إليها أولا وليس له انتظار الوصول إلى محاذاة
الأقرب إليها ، كما ليس للمار على ذي الحليفة أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة ، فإن
استوت مسافتهما في القرب إلى طريقه وإلى مكة أحرم من محاذاتهما ، ما لم يحاذ
أحدهما قبل الآخر ، وإلا فمنه ، أما إذا لم تستو مسافتهما إليه بأن كان بين طريقه
وأحدهما إذا مر عليه ميلان ، والآخر إذا مر عليه فهذا هو ميقاته ، وإن كان
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/237)
أقرب إلى مكة . قال الشرواني : في حاشيته والحاصل أن العبرة أولا بالقرب إليه ثم بالبعد من مكة ، ثم بالمحاذاة أولا ؛ فإن انتفى جميع ذلك فمن محاذاتهما - انتهى . قال ابن حجر : ( وإن لم يحاذ ) شيئا من المواقيت ( أحرم على مرحلتين من مكة ) لأنه لا ميقات دونهما . قال : والإحرام من المرحلتين هنا بدل عن أقرب ميقات إلى مكة ، وأقرب ميقات إليها على مرحلتين منها ، لا من الحرم ، فاعتبرت المسافة من مكة لذلك . لا يقال : المواقيت مستغرقة لجهات مكة فكيف يتصور عدم محاذاته لميقات ؟ فينبغي أن المراد عدم المحاذاة في ظنه دون نفس الأمر ، لأنا نقول يتصور بالجائي من (( سواكن )) (( إلى جدة )) من غير أن يمر برابغ أو بيلملم لأنهما حينئذ أمامه ، فيصل جدة قبل محاذاتهما ؛ وهي على مرحلتين من مكة ، فتكون هي ميقاته . قال النووي : ( وإن بلغ الميقات مريدا ) للنسك ( لم تجز مجاوزته ) إلى جهة الحرم ( بغير إحرام ) قال ابن حجر : خرج بقولنا : (( إلى جهة الحرم )) ما لو جاوزه يمنة أو يسرة فله أن يؤخر إحرامه لكن بشرط أن يحرم من محل مسافته إلى مكة مثل مسافة ذلك الميقات كما قاله الماوردي . وجزم به غيره . وبه يعلم أن الجائي من اليمن في البحر له أن يؤخر إحرامه من محاذاة يلملم إلى جدة ، لأن مسافتها إلى مكة كمسافة يلملم كما صرحوا به - انتهى . ومذهب الحنفية أن من سلك طريقا ليس فيه ميقات معين برا أو بحرا اجتهد وأحرم إذا حاذى ميقاتا منها ، ومن حذو الأبعد أولى . وإن لم يعلم المحاذاة فعلى مرحلتين من مكة ، كجدة . قال صاحب البحر : قد قالوا : من كان في بر أو بحر لا يمر بواحد من هذه المواقيت المذكورة ، عليه أن يحرم إذا حاذى آخرها ، ويعرف بالاجتهاد ، وعليه أن يجتهد فإذا لم يكن بحيث يحاذي فعلى مرحلتين إلى مكة . ولعل مراده بالمحاذاة المحاذاة القريبة من الميقات ، وإلا فآخر المواقيت باعتبار المحاذاة (( قرن المنازل )) وقال القاري
(17/238)
في شرح المناسك : وعين هذه
المواقيت ليست بشرط ولهذا يصح الإحرام قبلها ، بل الواجب عينها أو حذوها ، أي
محاذاتها ومقابلتها ، فمن سلك غير ميقات ، أي طريقا ليس فيه ميقات معين برا أو
بحرا اجتهد ، وأحرم إذا حاذى ميقاتا منها ، أي من المواقيت المعروفة ومن حذو
الأبعد أولى ، فإن الأفضل أن يحرم من أول الميقات وهو الطرف الأبعد عن مكة ، حتى
لا يمر بشيء مما يقال ميقاتا غير محرم ، ولو أحرم من الطرف الأقرب إلى مكة جاز
باتفاق الأربعة ، وإن لم يعلم المحاذاة فإنه لا يتصور عدم المحاذاة فعلى مرحلتين
من مكة ، كجدة المحروسة من طرف البحر . وقال في حاشية قوله : (( كجدة )) فإنها على
مرحلتين عرفيتين من مكة ، وثلاث مراحل شرعية ووجهه أن المرحلتين أوسط المسافات
وإلا فالاحتياط الزيادة ، كذا في شرح نظم الكنز . وأقول : لعل وجهه أيضا أن أقرب
المواقيت إلى مكة على مرحلتين عرفيتين من مكة ، فقدر بذلك - انتهى . وقال في غنية
الناسك : ومن كان في بر أو بحر لا يمر بواحد من المواقيت الخمس تحرى إذا لم يجد من
يستخبره ، وأحرم إذا غلب على ظنه أنه حاذى آخرها ، قربت المحاذاة من الميقات أو
بعدت كما في رد المحتار عن النهر ، ومن حذو الأبعد أولى ، وإن لم يعلم المحاذاة
فعلى مرحلتين عرفيتين من مكة كجدة من طرف البحر ، فإنها على مرحلتين عرفيتين من
ومهل أهل نجد قرن ، ومهل أهل اليمن يلملم . رواه مسلم .
2542- (14) وعن أنس قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي
القعدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/239)
مكة وثلاث مراحل شرعية ( طوالع ) - انتهى . وفي منسك الشيخ يحيى الحطاب من المالكية (( قال مالك )) : ومن حج في البحر من أهل مصر والشام وشبههما أحرم إذا حاذى الجحفة . قال شارحه الشيخ محمد البناني : أي ولا يؤخره إلى البر ، وعليه درج الخرشي في شرحه حيث قال : إن من سافر في البحر فإنه يحرم إذا حاذى الميقات ولا يؤخره إلى البر - انتهى . فعليه إذا لم يحرم عند محاذاة الميقات ببحر وأخره إلى البر أساء وعليه دم عندهم تنبيه : قد اتضح مما ذكرنا من كلام ابن حجر المكي ، وعلي القاري وغيرهما أنه لا يجب على الحاج الهنود والباكستانيين القادمين بالباخرة للحج أو العمرة أن يحرموا في أي محل من البحر قبل وصولهم إلى جدة ، بل يجوز لهم أن يؤخروا الإحرام في البحر ويحرموا بعد نزولهم على ميناء جدة من جدة ، لأنه لا يقع ميقات من المواقيت الخمسة في طريق بواخر الحجاج القادمين من الهند أو الباكستان ولا تحاذي شيئا منها بل تقطع طريقها في البحر في حدود الآفاق بعيدة عن يلملم التي هي جبل من جبال نهامة وقريبة من مكة ، فلا يمكن لأية باخرة أو سفينة قادمة من الهند والباكستان أن تتجاوزها أو تتجاوز خط محاذاتها إلى الحل الصغير ولو كانت تجري على الساحل فإن المواقيت الخمسة والخطوط الممتدة من ميقات إلى آخر الموصلة بعضها ببعض المحددة لحدودها كلها في البر ، وأقرب المواقيت إلى مكة على مرحلتين منها ، وجدة أيضا على مرحلتين من مكة ، فيجب عليهم أن يحرموا منها ، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا فتذكر . ( رواه مسلم ) ، قد تقدم أن مسلما رواه مشكوكا في رفعه وكذا أخرجه أبو عوانة في مستخرجه ، والشافعي ، وأحمد ، والدارقطني ، والبيهقي ، وأخرجه أيضا أحمد ، وابن أبي شيبة ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو يعلى والدارقطني ، والبيهقي من طريق الحجاج بن أرطاة عن عطاء بن جابر ، وأحمد من طريق ابن لهيعة ، والحجاج ، وابن ماجة من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي ،
(17/240)
الثلاثة عن أبي الزبير عن جابر
، فلم يشكوا في رفعه إلا أن الحجاج مدلس . وابن لهيعة ضعفوه لاختلاطه بعد احتراق
كتبه ، وإبراهيم ابن يزيد غير محتج به ، لكن لحديث جابر في توقيت ذات عرق لأهل
العراق شواهد مرفوعة جياد حسان يجب العمل بمثلها مع تعددها ومجيئها مسندة ومرسلة
من وجوه شتى .
2542- قوله : ( أربع عمر ) بضم ففتح جمع عمرة ( كلهن ) ، أي بعد الهجرة ( في ذي
القعدة ) بفتح القاف وبكسر بناء على أنه من المرة أو الهيئة ، سمي بذلك لأنهم
كانوا يقعدون فيه عن الأسفار ، وإنما اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه
العمر في ذي القعدة لفضيلة هذا الشهر ولبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه ،
فإنهم كانوا يرون الاعتمار في أشهر الحج من أفجر الفجور ففعله - صلى الله عليه
وسلم - مرات في ذي القعدة وهو من أشهر الحج ليكون أبلغ في بيان جوازه ، وأبلغ في
إبطال ما كانت الجاهلية
إلا التي كانت مع حجته ، عمرة من الحديبية في ذي القعدة ، وعمرة من العام المقبل
في ذي القعدة ،
وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/241)
عليه ( إلا التي كانت مع حجته ) بفتح الحاء وكسرها والمراد أي انتهاء وإلا فهي بالنظر إلى الابتداء كانت في ذي القعدة واستشكل ابن التين هذا الاستثناء فقال : هو كلام زائد والصواب حذفه لأنه عد التي مع حجته فكيف يستثنيها أولا ؟ وأجاب عياض بأن الرواية صواب ، وكأنه قال في ذي القعدة منها ثلاث والرابعة عمرته في حجته ، أو المعنى كلها في ذي القعدة إلا التي اعتمر في حجته ، لأن التي في حجته كانت في ذي الحجة ( عمرة ) بالنصب على البدلية وبالرفع على أنه مبتدأ موصوف بقوله : ( من الحديبية ) بحاء مضمومة فمهملة مفتوحة فتحتية ساكنة فموحدة مكسورة فتحتية ثانية مخففة ، وقيل مشددة ، أحد حدود الحرم على تسعة أميال من مكة . والخبر قوله : ( في ذي القعدة ) والحديبية قيل : اسم لبئر في طريق جدة سميت بشجرة حدباء هناك . قال الفاسي : يقال : إنها المعروفة الآن ببئر شمس ، وقيل : شميس بالتصغير . وقال أبو علي البغدادي : في كتاب النوادر الحديبية مخففة الياء ، موضع بين الحل والحرم . وقال أبو عمر ابن عبد البر : الحديبية آخر الحل وأول الحرم ، وقيل : بعضها في الحل وبعضها في الحرم ، وقيل : أكثرها في الحرم ، وقال البخاري : الحديبية خارج من الحرم - انتهى . ووقع في رواية لمسلم : (( أو زمن الحديبية )) وهو شك من الراوي ، والمعنى واحد ، وفي رواية للبخاري : (( عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون )) وكان توجهه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة يوم الاثنين مستهل ذي القعدة سنة ست ، فخرج قاصدا إلى العمرة وأحرم في ذي الحليفة ، ولما بلغ الحديبية صده قريش عن الوصول إلى البيت ، ووقعت بينهم المصالحة على أن يدخل مكة في العام المقبل وتحلل هو وأصحابه من العمرة بالنحر ، ثم الحلق ورجع إلى المدينة ، وعدوها من العمر مع عدم الطواف والسعي لترتب أحكامها من نحر الهدي ، والحلق ، أي الخروج من الإحرام ، وقيل : باعتبار النية المترتب عليه
(17/242)
المثوبة . وقال الكرماني :
عمرة المحصر عن الطواف محسوبة بعمرة وإن لم تتم مناسكها ، وعمرة الحديبية هي :
العمرة الأولى من الأربع والثانية ( عمرة ) بالنصب والرفع كما مر ( من العام
المقبل في ذي القعدة ) وهي : عمرة القضاء أو القضية سنة سبع ( وعمرة من الجعرانة )
بكسر الجيم وسكون العين المهملة وتخفيف الراء وبكسر العين وتشديد الراء لغتان ،
والأول ذهب إليه الأصمعي وصوبه الخطابي . قال ابن المديني : أهل المدينة يثقلون
وأهل العراق يخففون ، وبالتخفيف قيدها المتقنون . وقال الخطابي في (( تصحيف
المحدثين )) : إن هذا مما ثقلوه وهو مخفف وهي موضع قريب من مكة معروف ، بينها وبين
الطائف وهي إلى مكة أقرب . قال القاري : وهو على ستة أميال أو تسعة أميال وهو
الأصح ، وسمي هذا الموضع باسم امرأة كانت تلقب بالجعرانة ، وهي ريطة بنت سعد بن زيد
بن عبد مناف ، وقيل : كانت من قريش ، وهي المشار إليها في قوله تعالى : ? كالتي
نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ? (16 : 92) كانت تغزل من أول النهار إلى نصفه ثم
تنقضه ، فضربت بها العرب مثلا في الحمق ونقض ما أحكم من العقود وأبرم من العهود (
حيث قسم غنائم حنين ) بعد فتح مكة ،
في ذي القعدة ، وعمرة مع حجته ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/243)
وحنين بالتصغير واد بينه وبين مكة ثلاثة أميال ( في ذي القعدة ) ، وهي العمرة الثالثة ، وكانت في سنة ثمان بعد فتح مكة غزوة هوازن وغزوة الطائف . ويوم حنين هو : غزوة هوازن لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطائف ، نزل الجعرانة فقسم بها غنائم هوازن ، ثم اعتمر منها فدخل مكة بهذه العمرة ليلا ، فقضى عمرته ثم خرج منها تحت ليلته إلى الجعرانة فبات بها ، فلما أصبح وزالت الشمس خرج منها في بطن سرف حتى جامع الطريق طريق المدينة بسرف ، ومن ثم خفيت هذه العمرة على كثير من الناس ، ( وعمرة مع حجته ) أي مقرونة مع حجته وهي : الرابعة التي قرنها بحجة الوداع سنة عشر ، وهي أيضا باعتبار إحرامها كانت في ذي القعدة ، وفي الباب عن ابن عباس عند أحمد (ج1 : ص246 ، 276) ، والترمذي و، أبي داود ، وابن ماجة ، وسكت عنه أبو داود ، والمنذري . ورجاله كلهم ثقات . وعن عائشة عند أحمد ، وأبي داود ، والنسائي : (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع )) وقد سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، وعن ابن عمر أنه سئل : كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : أربع . الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما . وهذه الأحاديث تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر : ( الأولى ) : عمرة الحديبية سنة ست من الهجرة ( والثانية ) : عمرة القضاء في السنة السابعة ( والثالثة ) : عمرة الجعرانة في السنة الثامنة بعد فتح مكة ( والرابعة ) : كانت مع حجته سنة عشرة ، وكلها كانت في ذي القعدة إلا الرابعة فكانت في ذي الحجة ، هذا هو الصحيح الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة . وذهب إليه المحققون من المحدثين والفقهاء . وقد ورد ما يخالف ذلك في العدد كحديث البراء التالي وحديث ابن عمر أنه سئل : كم اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : مرتين . أخرجه أحمد (ج2 : ص70) ، وأبو داود ، والنسائي ، وحديث عروة
(17/244)
عن عائشة أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة ، وعمرة في شوال . أخرجه أبو
داود ، وسكت عنه هو والمنذري . وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر كل ذلك في ذي القعدة . أخرجه أحمد (ج2 : ص180) ،
وفيه الحجاج بن أرطاة ، وفيه كلام وقد وثق ، وحديث عائشة عند أحمد بإسناد صحيح :
(( ما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة ، ولقد اعتمر ثلاث
عمر )) وحديث عروة عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر ، عمرتين
في ذي القعدة ، وعمرة في شوال . أخرجه سعيد بن منصور في سننه ، والبيهقي (ج4 :
ص346) ، وقوى الحافظ إسناده وحديث أبي هريرة (( قال : اعتمر رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ثلاث عمر كلها في ذي القعدة )) أخرجه البيهقي (ج4 : ص345) ، وحديث
جابر بمثل حديث أبي هريرة عند البزار ، والطبراني في الأوسط . قال الهيثمي :
ورجاله رجال الصحيح . وحديث عمر بن الخطاب قال : اعتمر رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ثلاثا قبل حجه في ذي القعدة . أخرجه الطبراني في الأوسط . قال الهيثمي :
ورجاله ثقات إلا أن سعيد بن المسيب اختلف في سماعه من عمر . والجمع بين حديث أنس
ومن وافقه وبين أحاديث هؤلاء الصحابة أن من قال مرتين لم يعد العمرة التي كانت مع
حجته لأنها كانت مقرونة بحجه ، وكانت في ذي الحجة كما تقدم ، وكأنه لم يعد أيضا
العمرة الأولى
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/245)
وهي عمرة الحديبية لكونها لم تتم ، وإن كانت وقعت في ذي القعدة ، أو عدها ولم يعد عمرة الجعرانة لخفائها عليه ، لكونها ليلا ، ومن قال : ثلاثا . لم يحسب العمرة التي قرنها بحجته لأن حديثه مقيد بكون ذلك في القعدة ، والتي في حجته كانت في ذي الحجة وقال ابن حزم : صدقت عائشة ، وصدق ابن عمر ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر مذ هاجر إلى المدينة عمرة كاملة إلا اثنتين كما قال ابن عمر - وهما عمرة القضاء وعمرة الجعرانة عام حنين - وعدت عائشة إلى هاتين العمرتين عمرة الحديبية التي صد عنها - صلى الله عليه وسلم - ، فأحل بالحديبية ونحر الهدي . والعمرة التي قرن مع حجة الوداع لم يكمل أفعالها ، فتألف قولاهما ، وعلى ذلك يحمل قول أنس : (( أربع عمر )) ولا خلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر : عمرة الحديبية ، وعمرة القضاء وعمرة الجعرانة ، والصحيح أن الثلاث كانت في القعدة . واختلفوا هل اعتمر الرابعة ؟ فمن قال : إنه كان قارنا أو متمتعا في حجته عدها أربعا ، ومن قال إنه كان مفردا عدها ثلاثا . ويجوز على هذا نسبة الرابعة إليه ، لأنه أمر الناس بها وعملت بحضرته . وأما ما ورد مخالفا لذلك في الزمن كحديث ابن عمر عند الشيخين : (( أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربعا إحداهن في رجب )) فيحمل على النسيان كما صرحت بذلك عائشة فقالت : (( يغفر الله لأبي عبد الرحمن نسى )) وكذلك قال غير واحد من المحدثين المحققين . وأما ما وقع في رواية عائشة عند أبي داود ، وسعيد بن منصور ، والبيهقي أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر عمرة في شوال ، فيجمع بينه وبين ما ورد في الأحاديث الصحيحة أن الثلاثة كانت في ذي القعدة ، بأن يكون ذلك وقع في آخر شوال وأول ذي القعدة ، ويؤيده ما وقع في رواية عائشة نفسها عند أحمد ، وابن ماجة بإسناد صحيح : (( أنه ما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة )) وأما
(17/246)
ما رواه الدارقطني عن عائشة
قالت : خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر
وأتمت ، الحديث . وقد قدمنا الكلام عليه في قصر الصلاة (ج2 : ص265) فقال ابن القيم
: هذا الحديث غلط فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رمضان قط
وعمره مضبوطة العدد والزمان ، ويرحم الله أم المؤمنين ، ما اعتمر رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - في رمضان قط ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها : لم يعتمر رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة . رواه ابن ماجة وغيره . ولا خلاف
أن عمره لم تزد على أربع ، فلو كان قد اعتمر في رجب لكانت خمسا ، ولو كان قد اعتمر
في رمضان لكانت ستا إلا أن يقال : بعضهن في رجب ، وبعضهن في رمضان ، وبعضهن في ذي
القعدة ، وهذا لم يقع . وإنما الواقع اعتماره - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة
كما قال أنس ، وابن عباس ، وعائشة رضي الله عنهم - انتهى . وقال القسطلاني : قد
حكم الحافظ بغلط هذا الحديث يعني حديث عائشة عند الدارقطني ، إذ لا خلاف أن عمره
لم تزد على أربع . وقد عينها أنس وعدها ، وليس فيها ذكر شيء منها في غير ذي القعدة
سوى التي مع حجته ، ولو كانت له عمرة في رجب ، وأخرى في رمضان لكانت ستا ، ولو
كانت أخرى في شوال - كما هو في سنن أبي داود عن عائشة ، أنه عليه الصلاة والسلام
اعتمر في شوال - كانت سبعا . والحق في ذلك أن ما أمكن فيه الجمع وجب ارتكابه دفعا
للمعارضة ، وما لم يمكن فيه ، حكم بمقتضى الأصح والأثبت .
متفق عليه .
2543- (15) وعن البراء بن عازب قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي
القعدة قبل أن يحج مرتين . رواه البخاري .
( الفصل الثاني )
2544- (16) عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أيها
الناس إن الله كتب عليكم الحج ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/247)
وهذا أيضا يمكن الجمع بإرادة
عمرة الجعرانة ، فإنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى حنين في شوال ، والإحرام بها في
ذي القعدة ، فكان مجازا للقرب ، وهذا إن صح وحفظ ، وإلا فالمعول عليه الثابت .
والله أعلم . ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج ، وفي المغازي ، ومسلم في الحج
واللفظ للبخاري في المغازي ، وأخرجه أيضا أحمد ، وأبو داود والترمذي ، والدارمي ،
والبيهقي (ج4 : ص345) .
2543- قوله : ( اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة قبل أن يحج
مرتين ) لا ينافي ما تقدم من حديث أنس وغيره كما سبق . قال القسطلاني : هذا لا يدل
على نفي غيره ، لأن مفهوم العدد لا اعتبار له . وقيل : إن البراء لم يعد الحديبية
لأنها لم تتم ، والتي مع حجته لكونها دخلت في أفعال الحج ، وكلهن أي الأربعة في
القعدة في أربعة أعوام على ما هو الحق ، كما ثبت عن عائشة ، وابن عباس رضي الله
عنهم : لم يعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ذي القعدة ، ولا ينافيه
كون عمرته التي مع حجته في ذي الحجة ، لأن مبدأها كان في ذي القعدة ، لأنهم خرجوا
لخمس بقين من ذي القعدة ، كما في الصحيح ، وكان إحرامه بها في وادي العقيق قبل أن
يدخل ذو الحجة ، وفعلها كان في ذي الحجة ، فصح طريقا الإثبات والنفي . ( رواه
البخاري ) من طريق يوسف بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن البراء ، وروى أحمد (ج4 :
ص297) من طريق زكريا عن أبي إسحاق عن البراء قال : اعتمر رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قبل أن يحج . واعتمر قبل أن يحج فقالت عائشة : لقد علم أنه اعتمر أربع
عمر بعمرته التي حج فيها . وليس في رواية البراء هذه ما يدل نصا على عدد عمره ،
ولا ما يدل على وقت عمرته من أي شهر . وروى أيضا أحمد (ج4 : ص298) ، والترمذي من
حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر في ذي
القعدة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وليس فيه ما
(17/248)
يدل على عدد عمره في ذي القعدة
هل اعتمر فيه مرة أو مرتين أو ثلاثا ، لكن الظاهر أن المراد بيان عمرة الحديبية
وعمرة القضاء كما وقع في رواية أحمد أيضا (ج4 : ص298) من طريق حجين عن إسرائيل عن
أبي إسحاق عن البراء . والله أعلم .
2544- قوله : ( يا أيها الناس ) خطاب عام يخرج منه غير المكلف ( كتب عليكم الحج )
أي : فرض بقوله تعالى :
فقام الأقرع بن حابس ، فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ قال : لو قلتها نعم لوجبت
، ولو وجبت
لم تعملوا بها ، ولم تستطيعوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/249)
? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ? (3 : 97) ( فقام الأقرع بن حابس ) بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي المجاشعي الدارمي وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهد فتح مكة وحنينا والطائف وهو من المؤلفة قلوبهم وقد حسن إسلامه . قال ابن إسحاق : قدم الأقرع بن حابس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عطارد بن حاجب بن زرارة ، والزبرقان بن بدر ، وقيس بن عاصم وغيرهم من أشراف تميم بعد فتح مكة وقد كان الأقرع وعيينة بن حصن الفزاري شهدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة وحنينا والطائف ، فلما قدم وفد تميم كانا معه ، فلما قدم وفد بني تميم المدينة ودخلوا المسجد نادوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من وراء حجرته : أن اخرج علينا يا محمد ، فآذى ذلك من صياحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهم فقالوا : يا محمد جئناك نفاخرك ، ونزل فيهم القرآن : ? إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ? (49 : 4) والأقرع بن حابس هو القائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن مدحي زين وإن ذمي شين )) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ذلكم الله سبحانه . قال بن دريد : اسم الأقرع فراس ، ولقب الأقرع لقرع كان به في رأسه ، والقرع انحصاص الشعر . وكان شريفا في الجاهلية والإسلام ، وشهد مع خالد بن الوليد حرب أهل العراق وكان على مقدمته . واستعمله عبد الله بن عامر على جيش سيره إلى خراسان فأصيب هو والجيش بالجوزجان وذلك في زمن عثمان ( أفي كل عام ؟ ) أي أكتب في كل عام قياسا على الصوم ، والزكاة فإن الأول : عبادة بدنية . والثاني : طاعة مالية والحج مركب منهما ( لو قلتها ) أي في جواب كلمة الأقرع ( نعم ) أي بالوحي أو الاجتهاد ، قاله القاري . وقال ابن حجر : قوله : (( لو قلتها نعم )) إنه بدل من الضمير الراجع لما
(17/250)
علم مما قبله وهو حجة كل عام .
قلت : الحديث رواه أحمد ثمان مرات وليس في موضع منها : (( لو قلتها نعم )) فلفظه
في الموضع الأول والثاني (ج1 : ص255 ، 290 ، 291) : (( لو قلتها لوجبت )) أي بدون
لفظة نعم . وهكذا ذكره البغوي في المصابيح ، والمجد في المنتقى ، وكذا وقع في
رواية الدارمي ، والبيهقي ، وفي الموضع السابع (ج1 : ص371) ، والثامن (ج1 : ص372)
: (( لو قلت : نعم )) أي بدون ضمير المؤنث وهكذا في رواية النسائي والحاكم
والدارقطني ، وفي الموضع الثالث (ج1 : ص292) ، والخامس (ج1 : ص323) ، والسادس (ج1
: ص325) : (( لو قلت : كل عام لكان )) وفي الموضع الرابع (ج1 : ص301) : (( لو قلت
: نعم كل عام لكان كل عام )) فالظاهر أن ما وقع في نسخ المشكاة (( لو قلتها نعم ))
أي بالجمع بين ضمير المؤنث وقوله نعم خطأ من الناسخ ، والعلم عند الله تعالى (
لوجبت ) أي الحجة في كل عام ( ولو وجبت ) أي بالفرض والتقدير ابتداء أو بناء على
الجواب ( لم تعملوا بها ) أي لكمال المشقة فيها ( ولم تستطيعوا ) قال القاري : أي
ولم تطيقوا لها ولم تقدروا عليها فهو إما عطف تفسير والخطاب إجمالي للأمة أو
والحج مرة فمن زاد فتطوع . رواه أحمد ، والنسائي ، والدارمي .
2545- (17) وعن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من ملك زادا
وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم
يحج ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/251)
للحاضرين والباقون على التبعية ، ويؤيده أنه في رواية : (( ولم تستطيعوا أن تعملوا بها )) أي كلكم من حيث المجموع ، وإما عطف تغاير وعدم الاستطاعة مختص بمن يكون بعيدا عن الحرم وهذه الاستطاعة أريد بها القدرة على الفعل ، والاستطاعة في الآية إنما هي الزاد والراحلة فلا تنافي بينهما - انتهى . قلت : وقع في رواية أحمد (ج1 : ص291) : (( لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها )) أي بواو العطف وكذا عند البيهقي ، وفي أخرى لأحمد (ج1 : ص255) : (( لم تعملوا بها أو لم تستطيعوا أن تعملوا بها )) أي بحرف (( أو )) وهكذا عند الحاكم (ج2 : ص293) ( والحج ) وفي بعض النسخ الحج أي بدون الواو وهكذا وقع عند أحمد (ج1 : ص291) ، والدارمي ، والحاكم ، والبيهقي ، وكذا ذكره المجد في المنتقى والبغوي في المصابيح ، والزيلعي ، وابن كثير ( مرة ) مبتدأ وخبر أي وجوب الحج مرة واحدة ( فمن زاد فتطوع ) كذا في جميع النسخ وهكذا في المصابيح ، والسنن للبيهقي ، والمستدرك للحاكم (ج2 : ص293) ، وفي المسند : (( فهو تطوع )) وهكذا عند أبي داود أي من زاد على مرة فحجته أو فزيادته تطوع . ( رواه أحمد ) في مسنده ثمان مرات مطولا ومختصرا ( والنسائي ، والدارمي ) وأخرجه أيضا أبو داود ، وابن ماجة ، والدارقطني (ص255 ، 280) ، والحاكم (ج1 : ص441 ، 470 ، وج2 : ص293) ، وابن الجارود (ص147) ، والبيهقي (ج4 ص326) ، والطيالسي (ص348) وهو حديث صحيح . قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، وأقره الذهبي .
(17/252)
2545- قوله : ( من ملك زادا
وراحلة ) أي ولو بالإجازة و (( الزاد )) ما يتخذ من الطعام للسفر والجمع أزودة
وأزواد و (( الراحلة )) من الإبل ما كان منها صالحا لأن يرحل للذكر والأنثى ، والتاء
للمبالغة أي : لا للتأنيث ، وقيل للنقل من الوصفية إلى الاسمية والجمع رواحل ، وفي
معنى الراحلة ما حدث من المراكب البرية والبحرية والهوائية الجوية ( تبلغه )
بتشديد اللام وتخفيفها أي : توصله ( إلى بيت الله ) ترك ذكر نفقة العود للظهور (
ولم يحج ) بفتح الجيم المشددة ويجوز ضمها وكسرها ( فلا عليه ) أي : فلا بأس ولا
مبالاة ولا تفاوت عليه ( أن يموت ) أي : في أن يموت أو بين أن يموت ( يهوديا أو
نصرانيا ) في الكفر إن اعتقد عدم الوجوب ، وفي العصيان إن اعتقد الوجوب ، وقيل :
هذا من باب التغليظ الشديد والمبالغة في الوعيد لمن اعتقد وجوبه وتساهل في الأداء
وهو قادر عليه ، والأظهر أن وجه تخصيص الطائفتين بالذكر كونهما من أهل الكتاب غير
عاملين به فشبه بهما من ترك الحج حيث لم يعمل بكتاب الله تعالى ونبذه وراء ظهره
قاله القاري . وقال الطيبي : قوله : (( فلا عليه )) إلخ . أي : لا يتفاوت عليه أن
يموت يهوديا أو نصرانيا ، والمعنى أن وفاته في
وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول : ? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
? .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/253)
هذه الحالة ووفاته على اليهودية والنصرانية سواء فيما فعله من كفران نعمة الله تعالى وترك ما أمر به والانهماك في معصيته وهو من باب المبالغة والتشديد والإيذان لعظمة شأن الحج ، ونظيره قوله تعالى : ? ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ? (3 : 97) فإنه وضع فيه (( ومن كفر )) موضع (( ومن لم يحج )) تعظيما للحج وتغليظا على تاركه - انتهى . وقال الشيخ ولي الله الدهلوي في حجة الله : ترك ركن من أركان الإسلام يشبه الخروج عن الملة ، وإنما شبه تارك الحج باليهودي والنصراني ، وتارك الصلاة بالمشرك لأن اليهود والنصارى يصلون ولا يحجون ، ومشركوا العرب يحجون ولا يصلون - انتهى . وقال المحب الطبري : الإجماع منعقد على أن هذا ليس على ظاهره ، وأن من مات من المسلمين ولم يحج وكان قادرا عليه لا يكون تركه الحج مخرجا له عن الإسلام ، وهو محمول على المستحل لذلك فيكفر به ، أو أن فعله أشبه فعل اليهودي والنصراني ( وذلك أن الله ) أي ما ذكر من شرط الزاد والراحلة والوعيد على ترك هذه العبادة لأن الله ( تبارك ) تكاثر خير وبره ( وتعالى ) عظمته وغناه ( يقول ) أي في كتابه : ? ولله على الناس ? أي واجب عليهم ? حج البيت ? بفتح الحاء وكسرها لغتان وقراءتان سبعيتان في مصدر حج بمعنى قصد ? من استطاع ? منهم ? إليه ? أي إلى حج البيت الحرام لأنه المحدث عنه وإن كان يحتمل رجوع الضمير للبيت لكن الأول أولى ، والناس عام مخصوص بالمستطيع قد خصص ببدل البعض وهو قوله : ? من استطاع ? لأنه من المخصصات عند الأصوليين ، فالحج فرض على المكلف إليه سبيلا ، وهو الذي يقدر على الوصول إليه بأي مركوب يناسبه وزاد يتزوده ولهذا أتى بهذا اللفظ الذي يمكن تطبيقه على جميع المركوبات الحادثة والتي ستحدث وهذا من آيات القرآن حيث كانت أحكامه صالحة لكل زمان وكل حال ولا يمكن الصلاح التام بدونها ? سبيلا ? أي
(17/254)
طريقا وفسر - صلى الله عليه
وسلم - استطاعة الطريق بالزاد والراحلة ، رواه عنه غير واحد من الصحابة وسيأتي
الكلام عليه في شرح حديث ابن عمر . قال الشوكاني : اللام في قوله : ? لله ? هي
التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف ? على ? فإنه من
أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب كما إذا قال القائل : لفلان على كذا . فذكر
الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته ، وهذا
الخطاب شامل لجميع الناس ، لا يخرج منه إلا من خصصه الدليل كالصبي والعبد . وقوله
: ? من استطاع ? في محل جر على أنه بدل بعض من الناس ، وبه قال أكثر النحويين
-انتهى . والحديث مع الآية صريح في تشديد الوعيد على من ملك زادا وراحلة ولم يحج
وقد استدل بظاهره من ذهب إلى وجوب الحج على الفور وقال : لو كان على التراخي لما
كان للتوعد معنى وأجاب عنه من ذهب إلى أن الحج على التراخي بأنه لا حجة فيه إما
على تأويل أنه محمول على المستحل لذلك فيكفر به فظاهر ، وإما على تأويل أن فعله
أشبه فعل اليهودي والنصراني فغايته أن يدل على تأثيمه ، ونحن نقول
رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث غريب ، وفي إسناده مقال ، وهلال بن عبد الله مجهول
والحارث يضعف في الحديث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/255)
بذلك وهو أصح قولي الشافعي ، والتأخير إنما جاز بشرط سلامة العاقبة . وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث ابن عباس الآتي ( رواه الترمذي ) وأخرجه أيضا ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب كلهم من طريق هلال أبي هاشم الخراساني عن أبي إسحاق الهمداني عن الحارث عن علي ( وفي إسناده مقال وهلال بن عبد الله ) الراوي للحديث عن أبي إسحاق ( مجهول ) وسئل إبراهيم الحربي عنه فقال من هلال ؟ وقال بن عدي : يعرف بهذا الحديث ، وليس الحديث بمحفوظ ، وقال العقيلي : لا يتابع عليه ، وذكر الذهبي حديث علي هذا في ترجمة هلال بن عبد الله المذكور وقال : قال البخاري : منكر الحديث . وقال الترمذي : مجهول ، وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه ، وقال الحافظ في التقريب في ترجمته متروك ، وقد روي عن علي موقوفا ولم يرو مرفوعا من طريق أحسن من هذا ، وقال المنذري : طريق أبي أمامة على ما فيها أصلح من هذه . ( والحارث يضعف في الحديث ) الحارث هذا هو بن عبد الله الأعور الهمداني الحوتي الكوفي وقد تقدم ترجمته في (ج3 : ص67) . اعلم أنه ورد في ترهيب من قدر على الحج فلم يحج أحاديث منها حديث علي وقد عرفت حاله ومنها حديث أبي أمامة وهو ثالث أحاديث الفصل الثالث وقد أخرجه الدارمي ، وسعيد بن منصور في السنن ، وأحمد ، وأبو يعلى ، والبيهقي من طريق عن شريك عن ليث بن أبي سليم عن ابن سابط عن أبي أمامة بلفظ : (( من لم يحسبه مرض أو حاجة ظاهرة ، أو سلطان جائز ، فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا )) لفظ البيهقي ، ولفظ أحمد : (( من كان ذا يسار فمات ولم يحج )) الحديث ، وليث ضعيف وشريك سيئ الحفظ وقد خالفه سفيان الثوري فأرسله ، رواه أحمد في كتاب الإيمان له ، عن وكيع عن سفيان عن ليث عن بن سابط ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة )) فذكره مرسلا
(17/256)
، وكذا ذكره ابن أبي شيبة عن
أبي الأحوص عن ليث مرسلا ، وأرده أبو يعلي من طريق أخرى عن شريك مخالفة للإسناد
الأول ، وراويها عن شريك عمار بن مطرف ضعيف . وقال الذهبي في الميزان بعد أن ذكر
طريق أبي يعلى هذه في ترجمة عمار بن مطر الرهاوي المذكور الراوي عن شريك : هذا
منكر عن شريك . ومنها حديث أبي هريرة رفعه : (( من مات ولم يحج حجة الإسلام في غير
وجع حابس أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فليمت أي الميتتين شاء إما يهوديا أو
نصرانيا )) رواه ابن عدي من حديث عبد الرحمن القطامي عن أبي المهزم وهما متروكان
عن أبي هريرة . قال الحافظ في التلخيص (ص203) بعد ذكر هذه الروايات : وللحديث طريق
صحيحة إلا أنها موقوفة رواها سعيد بن منصور والبيهقي (ج4 : ص334) عن عمر بن الخطاب
قال : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى أهل الأمصار فينظروا كل
2546- (18) وعن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا صرورة
في الإسلام .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/257)
من كان له جدة ولم يحتج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين . لفظ سعيد ، ولفظ البيهقي : أن عمر قال: (( ليمت يهوديا أو نصرانيا لها ثلاث مرات ، رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة وخليت سبيله )) قال الحافظ : وإذا انضم هذا الموقف إلى مرسل بن سابط علم أن لهذا الحديث أصلا ومحله على من استحل الترك وتبين بذلك خطأ من ادعى ( يريد به ابن الجوزي فإنه ذكره في الموضوعات ) أنه موضوع - انتهى . وقال البيهقي بعد رواية حديث أبي أمامة : وهذا وإن كان إسناده غير قوي فله شاهد من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقال الشوكاني في النيل بعد أن ساق طرق هذه الأحاديث : وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا وبذلك تتبين مجازفة ابن الجوزي في عده لهذه الأحاديث من الموضوعات فإن مجموع تلك الطرق لا يقصر عن كون الحديث حسنا لغيره وهو محتج به عند الجمهور ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني (( لا يصح في الباب شيء )) لأن نفي الصحة لا يستلزم نفي الحسن - انتهى . وقد استدل بهذه الأحاديث على وجوب الحج على الفور لأنها تصرح أنه لا يمنعه من الإثم إلا مانع يمنعه من المبادرة إلى الحج كالمرض أو الحاجة الظاهرة أو السلطان الجائز فلو كان تراخيه لغير العذر المذكور لكان قد مات وهو آثم بالتأخير فدل على أن الوجوب الحج على الفور وأنه لا يجوز التأخير فيه إلا لعذر .
(17/258)
2546- قوله ( لا صرورة في
الإسلام ) الصرورة بفتح الصاد وضم الراء المهملتين وإسكان الواو وفتح الراء على
وزن الضرورة من الصر بفتح الضاد وهو الحبس والمنع . قال اللحياني : رجل صرورة لا
يقال إلا بالهاء . وقال ابن الجني : رجل صرورة ، امرأة صرورة ليست الهاء لتأنيث
الموصوف بما هي فيه وإنما لحقت لإعلام السامع أن هذا الموصوف بما هي فيه قد بلغ
الغاية والنهاية ، فجعل تأنيث الصفة أمارة لما أريد من تأنيث الغاية والمبالغة -
انتهى . قال في المصباح المنير : الصرورة بالفتح الذي لم يحج ، وهذه الكلمة من
النوادر التي وصف بها المذكر والمؤنث مثل ملوكة وفروقة ، ويقال أيضا : صروري على
النسبة وصارورة ورجل صرورة لم يأت النساء . سمي الأول بذلك لصره على نفقته لأنه لم
يخرجها في الحج ، وسمي الثاني بذلك لصره على ماء ظهره وإمساكه - انتهى . قلت : قد
فسر الصرورة في الحديث بثلاثة معان ، الأول : أنه الذي لم يحج قط وهو نفي معناه
النهي . أي لا يترك الحج في الإسلام من استطاعه ، فمن ترك الحج مع الاستطاعة فقد
منع عن نفسه الخير . وقال القاري : أي من لم يحج بعد أن يكون عليه لا يكون في
الإسلام . قال الطيبي : فدل ظاهره على أن من يستطيع الحج ولم يحج ليس بمسلم كامل .
وقال القاضي : ظاهر الكلام يدل على أن تارك الحج ليس بمسلم ، والمراد منه أنه لا
ينبغي أن يكون في الإسلام أحد يستطيع الحج ولا يحج فعبر عنه بهذه العبارة للتشديد
والتغليظ - انتهى . وقيل : معناه لا يطلق على من لم يحج صرورة في الإسلام ، كان
يطلق عليه في الجاهلية
رواه أبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/259)
يدل عليه ما روى البيهقي (ج5 :
ص165) ، والطبراني في الكبير عن ابن مسعود ، قال : لا يقولن أحدكم إني صرورة فإن
المسلم ليس بصرورة ، وما روى الدارقطني (ص286) ، والبيهقي (ج5 : ص164 ، 165) عن
ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقال للمسلم صرورة . الثاني :
أنه الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل على مثل رهبانية النصارى فنهى عن ذلك ، قال
الزرقاني : ويسمى من لم ينزوج صرورة أيضا لأنه صر الماء في ظهره وتبتل على مذهب
الرهابنية - انتهى . وقال القاري : وقيل المراد بالصرورة التبتل وترك النكاح ، أي
ليس في الإسلام بل هو في الرهبانية ، وأصل الكلمة من الصر وهو الحبس . الثالث : أن
المراد من قتل في الحرم قتل ، ولا يقبل قوله : إني صرورة ما حججت ولا عرفت حرمة
الحرم كان الرجل في الجاهلية إذا أحدث حدثا فلجأ إلى الكعبة لم يهج ، فكان إذا
لقيه ولي الدم في الحرم ، قيل هو صرورة فلا تهجه ، قال الخطابي في المعالم (ج2 :
ص278) : الصرورة تفسر تفسيرين : أحدهما : أن الصرورة هو الرجل الذي قد انقطع عن
النكاح وتبتل على مذهب رهبانية النصارى ، ومنه قول النابغة :
لو أنها عرضت لأشمط راهب ( ... عبد الإله صرورة متلبد (
(17/260)
والوجه الآخر أن الصرورة هو :
الرجل الذي لم يحج ، فمعناه على هذا أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من الناس يستطيع
الحج فلا يحج حتى لا يكون صرورة في الإسلام - انتهى . قال ابن الأثير (ج1 : ص281)
: حديث (( لا صرورة في الإسلام )) قال أبو عبيد : هو في الحديث التبتل وترك النكاح
، أي ليس ينبغي لأحد أن يقول : لا أتزوج لأنه ليس من أخلاق المؤمنين وهو فعل
النصارى . والصرورة أيضا : الذي لم يحج قط ، وأصله من الصر الحبس والمنع ، وقيل :
أراد من قتل في الحرم قتل ، إلى آخر ما ذكرنا في بيان المعنى الثالث ، والظاهر أن
أبا داود ، والحاكم ، والبيهقي رجحوا أن الصرورة في الحديث هو الذي لم يحج فأخرجوا
الحديث في أبواب الحج ( رواه أبو داود ) ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص312) ، والحاكم
(ج1 : ص448) ، والبيهقي (ج5 : ص164) كلهم من طريق ابن جريج عن عمر بن عطاء عن
عكرمة عن ابن عباس وقد سكت عنه أبو داود ، وقال الحاكم : حديث صحيح الإسناد ولم
يخرجاه ووافقه الذهبي ، وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على هذا الحديث في
شرح المسند (ج4 : ص303) : إسناده صحيح عمر بن عطاء ( راوي الحديث عن عكرمة ) هو
عمر بن عطاء بن أبي الخوار بضم الخاء وتخفيف الواو وآخره راء ، ثقة وثقه ابن معين
وأبو زرعة وغيرهما ، وأعل بعضهم هذا الحديث وضعفه بأن عمر بن عطاء فيه هو عمر بن
عطاء بن وراز بفتح الواو وتشديد الراء وآخره زاي وهو ضعيف لقول الإمام أحمد : كل
شيء روى ابن جريج عن عمر بن عطاء عن عكرمة فهو ابن وراز ، وكل شيء روى ابن جريج عن
عمر بن عطاء عن ابن عباس فهو ابن أبي الخوار ، كان كبيرا ، قيل له : أيروي ابن أبي
الخوار عن عكرمة ؟ قال لا . وكذا جاء نحو هذا عن ابن معين . قال : عمر بن عطاء
الذي يروي عنه ابن جريج
2547- (19) وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أراد الحج فليعجل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/261)
يحدث عن عكرمة ليس هو بشيء ، وهو ابن وراز ، وهم يضعفونه ، كل شيء عن عكرمة فهو ابن وراز وعمر بن عطاء بن أبي الخوار ثقة . وأما ابن حبان فقد جمعهما رجلا واحدا فوهم . ذكره في الثقات باسم (( عمر بن عطاء بن وراز بن أبي الخوار )) وأما أن ابن أبي الخوار كبير يروي عن ابن عباس ، فلا يمنع أن يروي عن عكرمة الذي من طبقته ، وقد بين أبو داود أن هذا الرواي هو ابن أبي الخوار ، فروى الحديث من طريق أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان عن ابن جريج عن عمر بن عطاء يعني ابن أبي الخوار عن عكرمة . وأخطأ المنذري خطأ شديدا فقال : (( في إسناده عمر بن عطاء وهو ابن أبي الخوار وقد ضعفه غير واحد من الأئمة )) . وقد تبع في هذا الخطأ أبا دواد فقد قال الآجري : سألت أبا دواد عن عمر ابن عطاء الذي روى عنه ابن جرير . فقال : هذا عمر بن عطاء بن أبي الخوار بلغني عن يحيى أنه ضعفه . قال الحافظ : كذا قال ، والمحفوظ عن يحيى أنه وثقه وضعف الذي بعده . يعني ابن وراز . انظر ترجمتيهما في التهذيب : (ج7 : ص483 ، 484) والحديث رواه الحاكم أيضا ، وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي . وفي الباب عن ابن أخي جبير بن مطعم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا صرورة في الإسلام . ذكره الحافظ في المطالب العالية (ج1 : ص312) وعزاه لأبي بكر ، وأحمد بن منيع .
(17/262)
2547- قوله ( من أراد الحج )
أي قدر على أدائه ، لأن الإرادة مبدأ الفعل والفعل مسبوق بالقدرة ، فأطلق أحد سببي
الفعل على الآخر ، والعلاقة الملابسة لأن معنى قوله : ( فليعجل ) فليغتنم الفرصة
إذا وجد الاستطاعة من القوة والزاد والراحلة ، والمراد قبل عروض مانع ، وقوله : ((
فليعجل )) بتشديد الجيم من التعجيل كذا في جميع النسخ ، وكذا وقع في المصابيح ،
والذي في السنن لأبي داود ، والدارمي فليتعجل أي من التعجل ، وهكذا ذكره ابن كثير
في التفسير ، والسيوطي في الجامع الصغير والمجد في المنتقى ، والجزري في جامع
الأصول (ج3 : ص383) ، وكذا وقع عند أحمد (ج1 : ص225) ، والحاكم (ج1 : ص448) ،
والبيهقي (ج4 : ص339 ، 340) وفي بعض نسخ الدارمي (( فليستعجل )) أي من الاستعجال .
قال الطيبي : التفعيل الاستفعال غير عزيز ، ومنه التعجل بمعنى الاستعجال ، والتأخر
بمعنى الاستئخار - انتهى . وزاد في رواية أحمد (ج1 : ص214 : 323) ، وابن ماجة ،
والطحاوي ، والبيهقي (ج4 : ص340) : (( فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض
الحاجة )) ( أي التي تمنعه عن أداء النسك ) ومعنى (( يمرض المريض )) أي من قدر له
المرض يمرض فيمنعه ذلك عن الحج ، قال الحفني : أي قد يطرأ المرض على الصحيح الذي
يؤل أمره إلى كونه مريضا ففيه مجاز الأول ، وقال الزمخشري : هذا من قبيل المجاز
باعتبار الأول إذا المريض لا يمرض بل الصحيح ، فسمي المشارف للمرض والضلال مريضا
وضالة ، كما سمي المشارف للموت ميتا ، ومنه ? ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ? (71 :
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/263)
27) أي صائرا إلى الفجور والكفر - انتهى . والقصد الحث على الاهتمام بتعجيل الحج قبل العوارض والموانع ، وفيه دليل على أن الحج واجب على الفور ، وقد اختلف العلماء هل الحج واجب على الفور أم على التراخي ؟ فممن قال : إنه واجب على الفور الإمام أحمد ، وأبو يوسف ، وجمهور أصحاب أبي حنيفة ، والمزني من أصحاب الشافعي . قال النووي : ولا نص في ذلك لأبي حنيفة ، وكان الكرخي يقول : هو مذهب أبي حنيفة . وقال صاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي : إن القول بأنه على الفور قول أبي يوسف ، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه ، فإن ابن شجاع روى عنه أن الرجل إذا وجد ما يحج به وقد قصد التزوج قال يحج ولا يتزوج ، لأن الحج فريضة أوجبها الله على عبده ، وهذا يدل على أنه على الفور - انتهى . وقال القاري : الأصح عندنا أن الحج واجب على الفور ، وهو قول أبي يوسف ، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه فذكر رواية ابن شجاع عنه ، وأما مذهب مالك فعنه في المسألة قولان مشهوران كلاهما شهره بعض علماء المالكية أحدهما على الفور ، والثاني : أنه على التراخي . ومحل الخلاف المذكور ما لم يحس الفوات بسبب من أسباب الفوات ، فإن خشيه وجب عندهم فورا اتفاقا . وممن قال إن وجوبه على التراخي : الشافعي وأصحابه . قال النووي وبه قال الأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن ونقله الماوردي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس . قال القاري : وقال محمد : وهو رواية عن أبي حنيفة ، وقول الشافعي : إنه على التراخي إلا أن يظن فواته لو أخره لأن الحج وقته العمر نظرا إلى ظاهر الحال في بقاء الإنسان فكان كالصلاة في وقتها يجوز تأخيره إلى آخر العمر كما يجوز تأخيرها إلى آخر وقتها ، إلا أن جواز تأخيره مشروط عند محمد بأن لا يفوت يعني لو مات ولم يحج أثم . ولأبي يوسف : إن الحج في وقت معين من السنة والموت فيها ليس بنادر فيضيق عليه للاحتياط لا لانقطاع التوسع بالكلية فلو حج في العام الثاني كان
(17/264)
مؤديا بإتفاقهما ، ولو مات قبل
العام الثاني كان آثم بإتفاقهما ، وثمرة الخلاف بينهما إن ما تظهر في حق تفسيق
المؤخر ، ورد شهادته عند من يقول بالفور وعدم ذلك عند من يقول بالتراخي كذا حققه
الشمني - انتهى . واحتج من قال إنه على التراخي بأدلة منها أنهم قالوا : إن الحج
فرض عام ست من الهجرة ، وقيل سنة تسع ولا خلاف أن آية ? وأتموا الحج والعمرة لله ?
الآية ، نزلت عام ست من الهجرة في شأن ما وقع من الحديبية من إحصار المشركين رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم محرمون بعمرة وذلك في ذي القعدة سنة ست
وإذا كان الحج فرض عام ست وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج إلا عام عشر
فذلك دليل على أنه على التراخي ، إذ لو كان على الفور لما أخره عن أول وقت للحج
بعد نزول الآية . قالوا : ولاسيما إنه عام ثمان من الهجرة فتح مكة في رمضان واعتمر
عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان ثم رجع إلى المدينة ولم يحج . قالوا :
واستخلف عتاب بن أسيد فأقام الناس الحج سنة ثمان بأمر رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيم بالمدينة هو وأزواجه وعامة
أصحابه ولم يحجوا . قالوا : ثم غزا غزوة تبوك في عام تسع وانصرف عنها قبل الحج
فبعث أبا بكر رضي الله عنه فأقام الناس الحج سنة تسع ورسول الله - صلى الله عليه
وسلم - هو وأزواجه وعامة أصحابه
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/265)
قادرون على الحج ، غير مشتغلين بقتال ولا غيره ولم يحجوا ، ثم حج - صلى الله عليه وسلم - هو وأزواجه وأصحابه كلهم سنة عشر حجة الوداع ، قالوا : فتأخيره الحج المذكور إلى سنة عشر دليل على أن الحج ليس وجوبه على الفور بل على التراخي ، قال المحب الطبري : وما يتكلف من عذر في حقه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان خلاف الأصل والظاهر فهو معدوم في حقهم ، ولو وجب عليهم على الفور لبينه لهم - صلى الله عليه وسلم - ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ، والعذر بصد المشركين قد زال بالفتح سنة ثمان ، وما قيل من أن التأخير كان لأن لا يرى منكرا من حج المشركين وطواف العراة فلذلك دليل على الجواز ، إذ لو لم يجز التأخير لما كان هذا عذرا في إسقاط واجب تعين ، ثم ينتقض بمن تخلف من الصحابة وليسوا بأفضل ممن بعثه ، ومنها ما جاء في حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة السعدي أخرجه مسلم في أول كتاب الإيمان ، وروى البخاري أصله ، وفيه (( زعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا ، قال صدق )) وقدوم ضمام بن ثعلبة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كان سنة خمس من الهجرة ، قاله محمد بن حبيب وآخرون . وقد صرح في هذا الحديث بوجوب الحج فتأخيره - صلى الله عليه وسلم - الحج إلى عام عشر دليل على أنه على التراخي لا على الفور ، ومنها أنه إن أخر الحج من سنة إلى أخرى أو إلى سنين ثم فعله فإنه يسمى مؤديا لحج لا قاضيا له بإجماع المسلمين ، قالوا : ولو حرم التأخير لكان قضاء لا أداء . ومنها ما هو مقرر في أصول الشافعية وهو أن المختار عندهم أن الأمر المجرد عن القرائن لا يقتضي الفور ، وإنما المقصود منه الامتثال المجرد فوجوب الفور يحتاج إلى دليل خاص زائد على مطلق الأمر ، ومنها أنهم قاسوا الحج على الصلاة الفائتة ، قالوا : فهي على التراخي ويقاس الحج عليها بجامع أن كلا منهما واجب ليس له وقت معين ، ومنها أنهم قاسوه على قضاء رمضان في
(17/266)
كونها على التراخي بجامع أن
كليهما واجب ليس له وقت معين ، قالوا : ولكن تثبتت آثار أن قضاء رمضان غاية زمنه
مدة السنة ، واحتج من ذهب إلى أنه على الفور بأدلة أيضا ، منها آيات من كتاب الله
تعالى يفهم منها ذلك وهي على قسمين ، قسم منها فيه الدلالة على وجوب المبادرة إلى
امتثال أوامره جل وعلا ، والثناء على من فعل ذلك . كقوله تعالى : ? وسارعوا إلى
مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ? (3 : 133) قوله تعالى :
? سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ? (57 : 21) الآية ،
فقوله : ? وسارعوا ? و ? سابقوا ? فيه الأمر بالمسارعة والمسابقة إلى مغفرته وجنته
جل وعلا وذلك بالمبادرة والمسابقة إلى امتثال أوامره ، ولا شك أن المسارعة
والمسابقة كلتاهما على الفور لا التراخي . وكقوله : ? فاستبقوا الخيرات ? (2 : 148
- 5 : 48) الآية . ويدخل فيه الاستباق إلى الامتثال ، وصيغ الأمر في قوله : ?
وسارعوا ? وقوله : ? سابقوا ? وقوله : ? فاستبقوا ? تدل على الوجوب ، لأن الصحيح
المقرر في الأصول أن صيغة (( افعل )) إذا تجردت عن القرائن اقتضت الوجوب ، وذلك
بدل على أن قوله : ? سابقوا ? وقوله : ? وسارعوا ? يدل على وجوب المبادرة إلى
امتثال أوامر الله فورا . ومن الآيات التي فيها الثناء
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/267)
على المبادرين إلى امتثال أوامر ربهم قوله تعالى : ? إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ? (21 : 90) الآية . وقوله تعالى : ? أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ? (23 : 61) والقسم الثاني من الآيات يدل على توبيخ من لم يبادر وتخويفه من أن يدركه الموت قبل أن يتمثل لأنه قد يكون اقترب أجله وهو لا يدري ، فقد أمر الله تعالى خلقه أن ينظروا في غرائب صنعه وعجائبه كخلقه السماوات والأرض ونحو ذلك في آيات من كتابه كقوله : ? قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ? (10 : 101) الآية . وقوله تعالى : ? أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ? (50 : 6) الآية . ثم ذكر في آية أخرى ما يدل على أن ذلك النظر مع لزومه يجب معه النظر في اقتراب الأجل ، فقد يقرب أجله ويضيع عليه أجر الامتثال بمعاجلة الموت ، وذلك في قوله تعالى : ? أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ? (7 : 184) إذا المعنى : أو لم ينتظروا في أنه عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ، فيضيع عليهم الأجر بعدم المبادرة قبل الموت . وفي الآية دليل واضح على أن الإنسان يجب عليه أن يبادر إلى امتثال الأمر ، خشية أن يعالجه الموت قبل ذلك ، ومنها أحاديث جاءت دالة على وجوب الحج على الفور كحديث ابن عباس ( الذي نحن في شرحه ) وهو حديث حسن وسيأتي تخريجه ، وكحديث ابن عباس مرفوعا : تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة ، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ، أخرجه أحمد (ج1 : ص314) بسند ضعيف ووجه الدلالة من هذين الحديثين على وجوب الحج على الفور ظاهر . وكحديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل . قال عكرمة : سألت ابن
(17/268)
عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا
: صدق . أخرجه أحمد ، وأصحاب السنن ، وابن خزيمة ، والحاكم ، والبيهقي . وسيأتي في
باب الإحصار وفوت الحج . ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - :
(( وعليه الحج من قابل )) لأنه لو كان على التراخي لم يعين العام القابل ، وهو
دليل على أن الوجوب على الفور ، ومن الأحاديث الدالة على ذلك أيضا ما تقدم من حديث
علي ، وأبي أمامة وأبي هريرة ، وعمر بن الخطاب ، وقد سبق بيان وجه الدلالة من هذه
الأحاديث في شرح حديث علي ، ومنها أن الله أمر به وأن جماعة من أهل الأصول قالوا :
إن الشرع واللغة والعقل كلها دال على اقتضاء الأمر الفور أما الشرع فقد قدمنا
الآيات القرآنية الدالة على المبادرة فورا لامتثال أوامر الله كقوله : ? وسارعوا
إلى مغفرة من ربكم ? الآية . وكقوله : ? سابقوا إلى مغفرة من ربكم ? الآية . وأما
اللغة فإن أهل اللسان العربي مطبقون على أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء فلم
يفعل فأدبه ، فليس للعبد أن يقول له : صيغة افعل في قولك : (( اسقني ماء )) تدل
على التراخي ، وكنت سأمتثل بعد زمن متراخ عن الأمر ، بل يقولون : إن الصيغة ألزمتك
فورا ، ولكنك عصيت أمر سيدك بالتواني والترخي ، وأما العقل فإنا لو قلنا : إن وجوب
الحج على التراخي فلا يخلو من أحد أمرين : إما أن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/269)
يكون ذلك التراخي له غاية معينة ينتهي عندها وإما لا ، والقسم الأول ممنوع ، لأن الحج لم يعين له زمن يتحتم فيه دون غيره من الأزمنة ، بل العمر كله تستوي أجزاؤه بالنسبة إليه ، إن قلنا : إنه ليس على الفور ، والحاصل أنه ليس لأحد تعيين غاية له لم يعينها الشرع . والقسم الثاني هو أن تراخيه ليس له غاية يقتضي عدم وجوبه ، لأن ما جاز تركه جوازا لم تعين له غاية ينتهي إليها فإن تركه جائز إلى غير غاية ، وهذا يقتضي عدم وجوبه ، والمفروض وجوبه . فإن قيل : غايته الوقت الذي يغلب على الظن بقاؤه إليه . فالجواب أن البقاء إلى زمن متأخر ليس لأحد أن يظنه ، لأن الموت يأتي بغتة فكم من إنسان يظن أنه يبقى سنين فيخترمه الموت فجاءة ، وقد قدمنا قوله تعالى في ذلك : ? وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ? ولا ينتهي إلى حالة يتقين الموت فيها إلا عند عجزه عن العبادات ، ولاسيما العبادات الشاقة كالحج ، والإنسان طويل الأمل يهرم ويشب أمله . وتحديد وجوبه بستين سنة تحديد لا دليل عليه ، فهذه جملة أدلة القائلين بأن وجوب الحج على الفور ، ومنعوا أدلة المخالفين ، قالوا : إن قولكم إن الحج فرض سنة خمس بدليل قصة ضمام بن ثعلبة المتقدمة ، فإن قدومه سنة خمس ، وقد ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوب الحج ، وأن قوله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? الآية . نزلت عام ست في عمرة الحديبية ، فدلت على أن الحج مفروض عام ست وأنه - صلى الله عليه وسلم - أخره بعد فرضه إلى عام عشر ، كل ذلك مردود ، بل الحج إنما فرض عام تسع ، قالوا : والصحيح أن قدوم ضمام بن ثعلبة السعدي كان سنة تسع . وقال الحافظ في الإصابة في ترجمة ضمام بن ثعلبة المذكور ما نصه : وزعم الواقدي أن قدومه كان سنة خمس ، وفيه نظر . وذكر ابن هشام عن أبي عبيد أن قدومه كان سنة تسع ، وهذا عندي أرجح ، إلخ . وانظر ترجيح الحافظ لكون قدومه عام تسع .
(17/270)
وذكر ابن كثير قدوم ضمام
المذكور في حوادث سنة تسع مع أنه ذكر قول من قال : إن قدومه كان قبل عام خمس ، هذا
وجه ردهم للاحتجاج بقصة ضمام ، وأما وجه ردهم للاحتجاج بآية ? وأتموا الحج والعمرة
لله ? فهو أنها لم يذكر فيها إلا وجوب الإتمام بعد الشروع ، فلا دليل فيها على
ابتداء الوجوب ، وقد أجمع أهل العلم على من أحرم بحج أو عمرة وجب عليه الإتمام ،
ووجوب الإتمام بعد الشروع لا يستلزم ابتداء الوجوب . قال ابن القيم في زاد المعاد
نصه : وأما قوله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? فإنها وإن نزلت سنة ست عام
الحديبية فليس فيها فريضة الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه العمرة بعد الشروع
فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء . فإن قيل فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى
التاسعة أو العاشرة ؟ قيل : لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود ، وفيه قدم وفد
نجران على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصالحهم على أداء الجزية ، والجزية
إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عمران ، وناظر أهل الكتاب
ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة ، ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم على ما
فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا إنما
المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/271)
بعد عامهم هذا ? (9 : 28) فأعاضهم الله تعالى من ذلك الجزية ، ونزل هذه الآيات ، والمناداة بها إنما كان عام تسع ، وبعث الصديق رضي الله عنه بذلك في مكة في موسم الحج ، وأردفه بعلي رضي الله عنه ، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السف والله أعلم - انتهى من زاد المعاد . فتحصل أن آية : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? لم تدل على وجوب الحج ابتداء ، وإنما دلت على وجوب إتمامه بعد الشروع فيه كما هو ظاهر اللفظ ، ولو كان يتعين كونه يدل على ابتداء الوجوب لما حصل خلاف بين أهل العلم في وجوب العمرة ، والحلاف في وجوبها معروف وسيأتي إن شاء الله إيضاحه ، بل الذي أجمعوا عليه وهو وجوب إتمامها بعد الشروع فيها ، كما هو ظاهر الآية ، وأن قصة ضمام بن ثعلبة كانت عام تسع كما رجحه الحافظ وغيره ، فظهر سقوط الاستدلال بها وبالآية الكريمة ، وأن الحج إنما فرض عام تسع كما أوضحه ابن القيم في كلامه المذكور آنفا ، لأن آية ? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ? هي الآية التي فرض بها الحج ، وهي من صدر سورة آل عمران ، وقد نزل عام الوفود وفيه وفد نجران ، وصالحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أداء الجزية ، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع كما تقدم قريبا ، وعلى كون الحج إنما فرض عام تسع غير واحد من العلماء ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى . وبه تعلم أنه لا حجة في تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج عام فتح مكة ، لأنه انصراف من مكة والحج قريب ولم يحج ، لأنه لم يفرض ، فإن قيل : سلمنا تسليما جدليا أن سبب تأخيره الحج عام فتح مكة مع تمكنه منه ، وقدرته عليه أن الحج لم يكن مفروضا في ذلك الوقت وقد اعترفتم بأن الحج فرض عام تسع ، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يحج عام تسع ، بل أخر حجه إلى عام عشر ، وهذا يكفينا في الدلالة على أن وجوبه على التراخي ، إذ لو
(17/272)
كان على الفور لما أخره بعد
فرضه إلى عام عشر فالجواب والله تعالى أعلم : أن عام تسع لم يتمكن فيه النبي
وأصحابه من منع المشركين من الطواف بالبيت وهم عراة ، وقد بين الله تعالى في كتابه
أن منعهم من قربان المسجد الحرام إنما هو بعد ذلك العام الذي هو عام تسع ، وذلك في
قوله تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام
بعد عامهم هذا ? وعامهم هذا هو عام تسع ، فدل على أنه لم يمكن منعهم عام تسع ،
ولذا أرسل عليا رضي الله عنه بعد أبي بكر ينادي ببراءة ، وأن لا يحج بعد العام
مشرك ولا عريان ، فلو بادر - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج عام تسع لأدى ذلك إلى
رؤيته المشركين يطوفون بالبيت وهم عراة ، وهو لا يمكنه أن يحضر ذلك ، ولاسيما في
حجة الوداع التي يريد أن يبين للناس فيها مناسك حجهم ، فأول وقت أمكنه فيه الحج
صافيا من الموانع والعوائق بعد وجوبه عام عشر ، وقد بادر بالحج فيه . وأجابوا عن
قولهم : (( إنه لو أخره من سنة إلى أخرى ، أو إلى سنين ، ثم فعله بعد ذلك فإنه
يسمى مؤديا لا قاضيا بالإجماع ، ولو حرم التأخير لكان قضاء )) بأن القضاء لا يكون
إلا في العبادة المؤقتة بوقت معين ، ثم خرج ذلك الوقت المعين لها كما هو مقرر في
الأصول ، والحج لم يؤقت بزمن معين ، والعمر كله وقت له ، وذلك لا ينافي وجوب
بالمبادرة خوفا من طرو العوائق أو نزول الموت قبل الأداء كما تقدم إيضاحه ،
وأجابوا عن قولهم : (( إن من تمكن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/273)
من أداء الحج ثم أخره ثم فعله لا ترد شهادته فيما بين فعله وتأخيره ولو كان التأخير حراما لردت شهادته لارتكابه ما لا يجوز )) بأنه ما كل من ارتكب ما لا يجوز ترد شهادته بل لا ترد إلى بما يؤدي إلى الفسق وهنا قد يمنع من الحكم بتفسيقه مراعاة الخلاف . وقول من قال : (( إنه لم يرتكب حراما )) وشبهت الأدلة التي أقاموها على ذلك وأجاب القائلون بالتراخي عن الاحتجاج بأن الأمر يقتضي الفور من وجهين : أحدهما : أن أكثر الشافعية قالوا : إن الأمر المطلق المجرد عن القرائن لا يقتضي الفور بل هو على التراخي ، هذا هو المعروف في كتب الشافعية في الأصول ، ونقله القاضي أبو الطيب في تعليقه في هذه المسألة عن أكثر الشافعية ، والثاني : أنه يقتضي الفور ، وهنا قرينة ودليل يصرفه إلى التراخي ، وهو ما تقدم من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثر أصحابه أنهم أخروا الحج إلى عام عشر ، وأما حديث (( من أراد الحج فليتعجل )) فجوابه من وجهين : أحدهما : أنه حجة لنا لأنه فوض فعله إلى إرادته واختياره ، ولو كان على الفور لم يفوض تعجيله إلى اختياره . والثاني : أنه ندب جمعا بين الروايتين . قال المحب الطبري : الأمر في حديث ابن عباس (( تعجلوا الحج )) وفي حديث أبي هريرة (( حجوا قبل أن لا تحجوا )) أخرجه الدار قطني ، محمول على الندب ، ويؤيد ذلك قوله : (( من أراد الحج فليتعجل )) فقوله : (( فليتعجل )) محمول على الندب لا محالة ، ولا يجوز حمله على الوجوب لأن الخطاب لا يخلوا إما أن يكون لمن وجب عليه الحج أو لمن لم يجب عليه ، فإن كان الثاني فظاهر ما ذكرناه ، وإن كان الأول وهو الأظهر بدليل الحديث الآخر يعني الفريضة كان فيه دلالة على أن الخطاب الأول ما اقتضى الفورية ، وإلا لزم التكرار لا لفائدة مع قبحه من حيث ربطه بالإرادة ، فإن من قال لعبده : افعل كذا الساعة على وجه الإلزام ، ثم قال : إن أردت أن تفعل كذا فافعله الساعة . عد هذا
(17/274)
مناقضا للأول وكل من قال إنه
على التراخي حمل هذا على الاستحباب ولا يلزم على ذلك تناقض ، فإن من قال لعبده :
افعل كذا في جميع النهار . ثم قال : إن أردت فعل هذا الواجب عليك على وجه الأولوية
فافعله الساعة . كان هذا الكلام جاريا على نهج الاستقامة ولا يعد مناقضا للأول ،
فكان حمل الكلام الفصيح عليه أولى – انتهى . قالوا : وأما الجواب عن حديث (( فليمت
إن شاء يهوديا )) فمن أوجه : أحدها : أنه ضعيف ، والثاني : أن الذم لمن أخره إلى
الموت . ونحن نوافق على تحريم تأخيره إلى الموت ، والذي نقول بجوازه هو التأخير
بحيث يفعل قبل الموت . الثالث : أنه محمول على من تركه معتقدا عدم وجوبه مع
الاستطاعة فهذا كافر ، ويؤيد هذا التأويل أنه قال : (( فليمت إن شاء يهوديا أو
نصرانيا )) وظاهره أنه يموت كافر ولا يكون ذلك إلا إذا اعتقد عدم وجوبه مع
الاستدامة ، وإلا فقد أجمعت الأمة على أن من تمكن من الحج فلم يحج ومات لا يحكم
بكفره بل هو عاص ، فوجب تأويل الحديث لو صح ، هكذا ذكر الشنقيطي في أضواء البيان
أدلة الفريقين وأجوبتهم . والراحج عندنا هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه لقوة أدلته
، قال الشنقيطي : أظهر القولين عندي وألقيهما بعظمة خالق السماوات والأرض وهو أن
وجوب أوامره جل وعلى كالحج على الفور على التراخي لما قدمنا من النصوص الدالة على
الأمر بالمبادرة ، وللخوف من مباغتة الموت كقوله : ? وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ?
الآية ، وما قدمنا معها من الآيات ،
رواه أبو داود ، والدارمي .
2548- (20) وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تابعوا
بين الحج والعمرة فإنهما
ينفيان الفقر والذنوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/275)
وكقوله : ? أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ? ولما قدمنا من أن الشرع واللغة والعقل كلها يدل على أن أوامر الله تجب على الفور ، وقد بينا أوجه الجواب عن كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يحج حجة الإسلام إلا سنة عشر ، والعلم عند الله تعالى . ( رواه أبو داود ، والدارمي ) ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص225) ، والحاكم (ج1 : ص448) ، والبيهقي (ج4 : ص339 ، 340) ، والدولابي في الكنى (ج2 : ص12) كلهم من طريق أبي معاوية عن الحسن بن عمرو الفقيمي عن مهران أبي صفوان عن ابن عباس ، وهذا إسناد جيد قد سكت عنه أبو داود . وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي ، وأخرج أيضا أحمد (ج1 : ص214 : 323 ، 355) ، وابن ماجة ، والطحاوي ، والبيهقي (ج4 : ص340) من طريق أبي إسرائيل الملائي عن فضيل بن عمرو عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس أو عن الفضل بن عباس أو عن أحدهما عن صاحبه بلفظ : (( من أراد أن يحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة )) وفي رواية لأحمد (ج1 : ص314) عن ابن عباس : (( تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة ، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له )) وهذا إسناد ضعيف لضعف أبي إسرائيل الملائي ، وهو إسماعيل الكوفي ، وللتردد بين ابن عباس وأخيه الفضل ، فإن سعيد بن جبير سمع عبد الله بن عباس ، ولكنه لم يدرك الفضل .
(17/276)
2548- قوله ( تابعوا بين الحج
والعمرة ) أي أوقعوا المتابعة بينهما بأن تجعلوا كلا منهما تابعا للآخر . قال
السندي : أي اجعلوا أحدهما تابعا للآخر واقعا على عقبه ، أي إذا حججتم فاعتمروا ،
وإذا اعتمرتم فحجوا فإنهما متتابعان . وقال الحفني : أي ائتوا بهما متتابعين من
غير طول فصل جدا ، وليس المراد بالمتابعة تعاقبهما من غير فاصل بل المراد كون
الثاني بعد الأول بدون فاصل كبير بحيث ينسب للأول عرفا ، وقال المحب الطبري : يجوز
أن يراد به التتابع المشار إليه في قوله تعالى : ? فصيام شهرين متتابعين ? (4 : 92
- 58 : 4) فيأتي بكل واحد من النسكين عقيب الآخر بحيث لا يتخلل بينهما زمان يصح
إيقاع الثاني فيه يعني يأتي بكل منهما عقب الآخر بلا فصل ، وهو الظاهر من لفظ
المتابعة ، ويحتمل أن يراد به إتباع أحدهما الآخر ولو تخلل بينهما زمان بحيث يظهر
مع ذلك الاهتمام بهما ، ويطلق عليه عرفا أنه ردفه وتبعه وهذا الاحتمال أظهر إذ
القصد الاهتمام بهما وعدم الإهمال وذلك يحصل بما ذكرناه وسواء تقدمت العمرة أو
تأخرت لأن اللفظ يصدق على الحالين - انتهى . ( فإنهما ) أي الحج والاعتمار (
ينفيان ) أي كل منهما ( الفقر ) أي يزيلانه وهو يحتمل الفقر الظاهر بحصول غنى اليد
والفقر الباطن بحصول غنى القلب ( والذنوب ) أي يمحوانها ، وفي
كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة .
رواه
الترمذي ، والنسائي .
2549- (21) ورواه أحمد ، وابن ماجة عن عمر إلى قوله : (( خبث الحديد )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/277)
حديث عامر بن ربيعة عند أحمد (ج3 : ص446) (( فإن متابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب )) وفي أخرى له (ج3 : ص447) وللطبراني في الكبير (( فإن متابعة بينهما تزيد في العمر والرزق وتنفيان الفقر والذنوب )) وحديث عامر يدل على أن الله تعالى أعلم نبيه بأنه يترتب على تتابعهما ذلك لأمر علمه الشارع فذلك خصوصية للتتابع لا تحصل بدونه ، قيل المراد بالذنوب الصغائر ولكن يأباه قوله : ( كما ينفي الكير ) بكسر الكاف وهو ما ينفخ فيه الحداد من الزق لاشتعال النار للتصفية ، وأما الموضع الذي يوقد فيه الفحم من حانوت الحداد فهو الكور ، بضم الكاف ، وقيل : بالعكس ، وقيل : لا فرق بينهما ( خبث الحديد والذهب والفضة ) أي وسخها ، والخبث : بفتحتين الوسخ والردئ الخبيث ، مثل متابعتهما في إزالة الذنوب بإزالة النار الخبث ، لأن الإنسان مركوز في جبلته القوة الشهوية والغضبية محتاج لرياضة تزيلها والحج جامع لأنواع الرياضات من إنفاق المال وجهد النفس بالجوع والظمأ والسهر واقتحام المهالك ومفارقة الوطن ومهاجرة الإخوان والخلان وغير ذلك . والحديث قد استدل به على وجوب العمرة فإن ظاهره التسوية بين أصل الحج والعمرة ، وفيه أن هذا استدلال بمجرد الاقتران ، ومجرد اقتران العمرة بالحج لا يكون دليلا على وجوبها لما تقرر في الأصول من ضعف دلالة الاقتران لاسيما وقد عارضها ما ورد من الأدلة القاضية بعدم الوجوب وأما الأمر بالمتابعة فهو مصروف عن معناه الحقيقي بما سلف ، وسيأتي الكلام في هذه المسألة في شرح حديث أبي رزين العقيلي ( وليس للحجة المبرورة ) قيل : المراد بها الحج المقبول المقابل بالبر وهو الثواب ومن علامات القبول أن يرجع خيرا مما كان ولا يعاود المعاصي . وقيل : هي التي لا يخالطها شيء من الإثم ، مأخوذ من البر وهو الطاعة ، ورجحه النووي . وقيل : هي التي لا رياء فيها وقيل : هي التي لا يعقبها معصية ، وهما داخلان فيما قبلهما وقال القرطبي :
(17/278)
الأقوال في تفسير الحج المبرور
متقاربة المعنى وحاصلها أنه الحج الذي وفيت أحكامه فوقع موافقا لما طلب من المكلف
على الوجه الأكمل ( ثواب إلا الجنة ) بالرفع والنصب أي لا يقتصر لصاحبها من الجزاء
على تكفير ذنوبه بل لا بد أن يدخل الجنة مع السابقين ، وقوله : (( إلا الجنة )) هو
للترمذي فقط ، وفي السنن للنسائي : (( دون الجنة )) وكذا وقع في المسند وصحيح ابن
حبان كما في الموارد ( رواه الترمذي ) وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب ( والنسائي )
وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص387) ، وابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحيهما .
2549- قوله : ( رواه أحمد ) (ج1 : ص25، وج3 : ص447) ( وابن ماجة عن عمر ) إلخ ،
وأخرجه أيضا
2550- (22) وعن ابن عمر قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا
رسول الله ! ما يوجب الحج ؟
قال : الزاد والراحلة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابن أبي خثيمة في تاريخه ، وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن ، وهو : حديث ضعيف ،
لأن مداره على عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف لكن المتن صحيح من حديث عبد الله بن
مسعود ، وفي الباب عن عامر بن ربيعة ، أخرجه أحمد ، والطبراني في الكبير ، وفيه
أيضا عاصم بن عبيد الله ، وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير ، والدارقطني في
الأفراد ، ورمز السيوطي لضعفه ، وقال الهيثمي بعد عزوه للطبراني : وفيه حجاج بن
نصير ، وثقه ابن حبان وغيره ، وضعفه النسائي وغيره ، وعن جابر عند البزار ، وعن
ابن عباس عند الطبراني في الأوسط ، ذكرهما الهيثمي مع الكلام فيهما .
(17/279)
2550- قوله : ( ما يوجب الحج ؟ ) أي : ما شرط وجوب الحج ؟ ( قال : الزاد والراحلة ) يعني أن الحج واجب على من وجدهما ذهابا وإيابا . واقتصر من بين سائر الشروط عليه لأنه الأصل والأهم المقدم قاله القاري . اعلم : أن الحج إنما يجب بخمس شروط : الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والاستطاعة ، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم ، فأما الكافر فإنه غير مخاطب بفروع الدين خطابا يلزمه أداء ولا يوجب قضاء ، وأما الصبي والمجنون فليسا بمكلفين بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يشب ، وعن المعتوه حتى يعقل . رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، وقال الترمذي : حديث حسن . وأما العبد فلا يجب عليه لأنه عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة فتضيع حقوق سيده المتعلقة به فلم يجب عليه كالجهاد ، ولما روى ابن عباس مرفوعا : أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام ، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام . أخرجه ابن خزيمة ، والإسماعيلي في مسند الأعمش ، والحاكم ، والبيهقي ، وابن حزم وصححه . والخطيب في التاريخ . رواه بعضهم موقوفا على ابن عباس ولا يضر ذلك فإن رواية المرفوع قوية ، فالحديث لا يقل عن درجة الاحتجاج . ووجه الدلالة منه على أن الحرية شرط في وجوب الحج أنه لو حج وهو مملوك ثم أعتق بعد ذلك لزمته حجة الإسلام ، فلو كان واجبا عليه في حال كونه مملوكا أجزأه عن حجة الإسلام كما هو ظاهر وأما غير المستطيع فإنه لا يجب عليه لقوله تعالى : ? لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ? (2 : 286) وقال سبحانه وتعالى : ? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ? فخص المستطيع بالوجوب فيدل على نفيه عن غيره . قال ابن قدامة : وهذه الشروط الخمسة تنقسم أقساما ثلاثة منها : ما هو شرط للوجوب والصحة
(17/280)
وهو : الإسلام ، والعقل . فلم
يجب على كافر ولا مجنون ولا تصح منهما ، لأنهما ليسا من أهل العبادات ، ومنها : ما
هو شرط للوجوب والإجزاء . وهو : البلوغ ، والحرية . وليس بشرط للصحة فلو حج الصبي
والعبد صح حجهما ولم يجزئهما عن حجة الإسلام ، ومنها : ما هو شرط للوجوب فقط وهو
الاستطاعة ، فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد وراحلة فحج كان حجه صحيحا
مجزئا ، كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام من يسقط
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/281)
عنه أجزأه . قال : واختلفت الرواية أي عن أحمد في شرطين وهما تخلية الطريق وهو : أن لا يكون في الطريق مانع من : عدو ونحوه وإمكان المسير ، وهو : أن تكمل فيه هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إليه ، فروى أنهما من شرائط الوجوب فلا يجب الحج بدونهما ، لأن الله تعالى إنما فرض الحج على المستطيع وهذا غير مستطيع ، ولأن هذا يتعذر معه فعل الحج فكان شرطا كالزاد والراحلة ، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ، وروى أنهما ليسا من شرائط الوجوب وإنما يشترطان للزوم السعي فلو كملت هذه الشروط الخمسة ثم مات قبل وجود هذين الشرطين حج عنه بعد موته ، وإن أعسر قبل وجودهما بقى في ذمته وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يذكرهما ، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل ما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والراحلة . قال الترمذي : هذا حديث حسن - انتهى . وقال الشنقيطي بعد ذكر الشرائط الخمسة : أما العقل فكونه شرطا في وجوب كل تكليف واضح لأن غير العاقل لا يصح تكليفه بحال ، وأما اشتراط البلوغ فواضح ، لأن الصبي مرفوع عنه القلم حتى يحتلم ، فالبلوغ والعقل كلاهما شرط وجوب ، وأما الإسلام فالظاهر أنه على القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة فهو شرط صحة لا شرط وجوب ، وعلى أنهم غير مخاطبين بها فهو شرط وجوب ، والأصح خطاب الكفار بفروع الشريعة كما أوضحنا أدلته في غير هذا الموضع فيكون الإسلام شرط صحة في حقهم ، ومعلوم أنه على أنه شرط وجوب فهو شرط صحة أيضا ، لأن بعض شرط الوجوب يكون شرطا في الصحة أيضا ، كالوقت للصلاة ، فإنه شرط لوجوبها وصحتها أيضا ، وقد يكون شرط الوجوب ليس شرطا في الصحة كالبلوغ والحرية ، فإن الصبي لا يجب عليه الحج مع أنه يصح منه لو فعله ، وكذلك العبد إلا أنه لا يجزئ عن حجة الإسلام إلا إذا كان بعد البلوغ وبعد الحرية ، وأما الحرية فهي شرط وجوب فلا يجب الحج على العبد ، واستدل العلماء على عدم وجوب الحج على العبد
(17/282)
بأمرين : الأول إجماع أهل
العلم على ذلك ولكنه إذا حج صح حجه ولم يجزئه عن حجة الإسلام فإن عتق بعد ذلك
فعليه حجة الإسلام ، قال النووي في شرح المهذب : أجمعت الأمة على أن العبد لا
يلزمه الحج لأن منافعه مستحقة لسيده ، فليس هو مستطيعا ويصح منه الحج بإذن سيده
وبغير إذنه بلا خلاف عندنا . قال القاضي أبو الطيب : وبه قال الفقهاء : كافة .
وقال داود : لا يصح بغير إذنه . والأمر الثاني حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال : أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام ، وأيما عبد حج ثم
عتق فعليه حجة الإسلام ، ثم ذكر تخريجه عن التلخيص للحافظ وبسط الكلام في تقويته
ثم قال : وأما الاستطاعة فقد نص تعالى على اشتراطها في قوله : ? ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا ? ومعنى الاستطاعة في اللغة العربية معروف ، وتفسير
الاستطاعة في الآية اختلف فيه العلماء فالاستطاعة في مشهور مذهب مالك الذي به
الفتوى هي إمكان الوصول بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية مع الأمن على
النفس والمال ولا يشترط عندهم الزاد والراحلة ، بل يجب الحج عندهم على القادر على
المشي إن كانت له صنعة يحصل منها قوته في الطريق : كالجمال ، والخراز ، والنجار ،
ومن أشبههم .
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/283)
واشترط بعض المالكية في الصنعة المذكورة أن لا تكون مرزية به . واعلم أن المالكية اختلفوا في الفقير الذي عادته سؤال الناس في بلده وعادة الناس إعطاؤه ، وذلك السؤال هو الذي منه عيشته إذا علم أنه إن خرج حاجا وسأل أعطاه الناس ما يعيش به كما كانوا يعطونه في بلده ، هل سؤاله الناس وإعطاؤهم إياه يكون بسببه مستطيعا لقدرته على الزاد بذلك فيجب عليه الحج بذلك أو لا يجب عليه بذلك ؟ فذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجب عليه به الحج ولا يعد استطاعة ، وذهب أكثر المالكية إلى أن الفقير الذي عادته السؤال في بلده وعادة الناس إعطاؤه إذا كانت عادتهم إعطاؤه في سفر الحج كما كانوا يعطونه في بلده أنه يعد بذلك مستطيعا ، وأن تحصيله زاده بذلك السؤال يعد استطاعة . قال الشنقيطي : والذي يظهر لي رجحانه بالدليل من هذين القولين في هذه المسألة هو : القول الأول ، وهو أن الحج لا يجب على من يعيش في طريقه بتكفف الناس ، وأن سؤال الناس لا يعد استطاعة . ومن الأدلة الدالة على ذلك عموم قوله جل وعلا : ? ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ? (9 : 92) الآية . وقد قدمنا مرارا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب فقد صرح تعالى في هذه الآية برفع الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقون ، ولا شك أن الذي يتكفف الناس لشدة فقره داخل في عموم ? الذين لا يجدون ما ينفقون ? وقد صرح تعالى بنفي الحرج عنهم ، فيلزم من ذلك نفي الحرج عنه في وجوب الحج وهو واضح ، ولكن كثيرا من متأخري علماء المالكية خصصوا هذه الآية بمن ليس عادته السؤال في بلده قالوا : فلم تتناول محل النزاع . قال الشنقيطي : ظاهر الآية العموم في جميع ? الذين لا يجدون ما ينفقون ? ، فتخصيصها بمن ليس عادته السؤال بدون دليل من كتاب أو سنة لا يصح ولا يعول عليه ، وقد تقرر في الأصول أنه لا يمكن تخصيص العام إلا بدليل يجب الرجوع إليه سواء كان
(17/284)
من المخصصات المتصلة أو
المنفصلة ، ومما يؤيد هذا في الجملة ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس . قال :
كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن المتوكلون ، فإذا قدموا المدينة
سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى : ? وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ? (2 : 197) قال
الحافظ في الفتح في الكلام على هذا الحديث : قال المهلب : في هذا الحديث من الفقه
أن ترك السؤال من التقوى ، ويؤيده أن الله مدح من لم يسأل الناس إلحافا ، فإن قوله
: ? فإن خير الزاد التقوى ? أي : تزودوا واتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم والإثم في
ذلك - انتهى . قال الشنقيطي : وفيه دليل ظاهر على حرمة خروج الإنسان حاجا بلا زاد
ليسأل الناس ، وظاهرها العموم في كل حاج يسأل الناس فقيرا كان أو غنيا كانت عادته
السؤال في بلده أولا وحمل النصوص على ظواهرها يجب إلا بدليل يجب الرجوع إليه ،
ومما يؤيد هذا أن الذين مدحهم الله في كتابه بتركهم سؤال الناس كانوا من أفقر
الفقراء كما هو معلوم ، وقد صرح تعالى بأنهم فقراء وأشار لشدة فقرهم وذلك في قوله
تعالى : ? للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم
الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم ? ( أي بظهور آثار الفقر والحاجة عليهم )
? لا يسألون الناس إلحافا ? (2 : 273) الآية . فصرح بأنهم فقراء ، وأثنى عليهم
بالتعفف وعدم السؤال . قال : فالآية الكريمة
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/285)
تدل بمنطوقها على الثناء على الفقير الصابر المتعفف عن مسألة الناس وتدل بمفهومها على ذم سؤال الناس ، والأحاديث الواردة في ذم السؤال مطلقا كثيرة جدا ، وبذلك كله تعلم أن سؤال الناس ليس استطاعة على ركن من أركان الإسلام وأن قول بعض المالكية (( أنه لا يعد استطاعة )) هو الصواب ، وهو قول جمهور أهل العلم ، وممن ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، ونقله ابن المنذر عن الحسن البصري ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأحمد ، وإسحاق ، وبه قال بعض أصحاب مالك . قال البغوي : وهو قول العلماء - انتهى . والاستطاعة عند أبي حنيفة الزاد والراحلة . فلو كان يقدر على المشي وعادته سؤال الناس لم يجب عليه الحج عنده ، وحاصل مذهب الحنيفة أن مقدار ما يتعلق به وجوب الحج ملك مال يبلغه إلى مكة ذاهبا وراجعا ، راكبا في جميع السفر لا ماشيا بنفقة متوسطة ، فاضلا عن : مسكنه ، وخادمه ، وفرسه ، وسلاحه ، وآلات حرفته ، وثيابه ، وأثاثه ، ونفقة من عليه نفقته ، وكسوته ، وقضاء ديونه ولو مؤجلة إلى حين عوده . ولا يشترط نفقة لما بعد إيابه لا سنة ولا شهرا ولا يوما . والاستطاعة في مذهب الشافعي : الزاد والراحلة بشرط أن يجدهما بثمن المثل ، فإن لم يجدهما إلا بأكثر من ثمن المثل سقط عنه وجوب الحج ، ويشترط عند الشافعية في الزاد ما يكفيه لذهابه ورجوعه فاضلا عما يحتاج إليه لنفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتهم مدة ذهابه ورجوعه وفاضلا عن مسكن وخادم يحتاج إليهما وعن قضاء دين يكون عليه حالا كان أو مؤجلا . ويشترط عندهم أيضا أن يكون صحيحا لا مريضا ، ولا ينبغي أن يختلف في أن المرض القوي الذي يشق معه السفر مشقة فاضحة مسقط لوجوب الحج . ويشترط عندهم أيضا أن يكون الطريق آمنا من غير خفارة ، والخفارة مثلثة الخاء : هي المال الذي يؤخذ على الحاج ، ويشترط عندهم أيضا أن يكون عليه من الوقت ما يتمكن فيه من السير والأداء ، فإن كان بينه وبين مكة مسافة
(17/286)
تقصر فيها الصلاة وكان قادرا
على المشي على رجليه ولم يجد راحلة أو وجدها بأكثر من ثمن المثل أو أجرة المثل لم
يجب عليه الحج عندهم ، ولا يعد قدرته على المشي استطاعة عندهم لحديث : الزاد
والراحلة في تفسير الاستطاعة ، وإن لم يجد ما يصرفه في الزاد والماء ولكنه كسوب ذو
صنعة يكتسب بصنعته ما يكفيه ففي ذلك عندهم تفصيل ، وهو أنه إن كان لا يكتسب في
اليوم إلا كفاية يوم واحد لم يجب عليه الحج ، لأنه ينقطع عن الكسب في أيام الحج ،
وإن كان يكتسب في اليوم كفاية أيام لزمه الحج . وقال إمام الحرمين : وفيه احتمال
يعني أنه يحتمل عدم وجوب الحج بذلك مطلقا ، فإن القدرة على الكسب يوم العيد لا تجعل
كملك الصاع في وجوب الفطرة . والاستطاعة عند أحمد هي الزاد والراحلة . قال ابن
قدامة في المغني : والاستطاعة المشترطة ملك الزاد والراحلة وبه قال الحسن ، ومجاهد
، وسعيد بن جبير ، والشافعي ، وإسحاق . قال الترمذي : والعمل عليه عند أهل العلم .
وقال عكرمة : هي الصحة . قال ابن قدامة : ويختص اشتراط الراحلة بالبعيد الذي بينه
وبين البيت مسافة القصر ، فأما القريب الذي يمكنه المشي إلى مكة وبينه وبينها
مسافة دون القصر فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه لأنها مسافة قريبة يمكنه المشي
إليها فلزمه ، وإن كان ممن لا يمكنه المشي ( كشيخ كبير ) اعتبر وجود الحمولة في
حقه لأنه عاجز
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/287)
عن المشي فهو كالبعيد ، وأما الزاد فلا بد منه ، قربت المسافة أو بعدت مع الحاجة إليه . فإن لم يجد زادا ولا قدر على كسبه لم يلزمه الحج . والزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة ، إلى أن قال : وأما الراحلة فيشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله إما بشراء أو كراء لذهابه ورجوعه . وإن كان ممن لا يقدر على خدمة نفسه والقيام بأمره اعتبرت القدرة على من يخدمه لأنه من سبيله ، ويعتبر أن يكون هذا فاضلا عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مئونتهم في مضيه ورجوعه ، لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين وهم أحوج وحقهم آكد ، وقد روى عبد لله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت . رواه أبو داود ، ويعتبر أن يكون فاضلا عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم ، وما لا بد منه ، وأن يكون فاضلا عن قضاء دينه ، لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية ويتعلق به حقوق الآدميين فهو آكد ، وسواء كان الدين لآدمي معين أو من حقوق الله تعالى - كزكاة في ذمته أو كفارات ونحوها - وهل يعتبر في الاستطاعة أن يكون له إذا رجع من حجه ما يقوم بكفايته وكفاية عياله على الدوام أولا يعتبر ذلك ؟ بل يكفي لوجوب الحج أن يكون عنده من النفقة ما يقوم بكفايته وكفاية عياله على الدوام أو لا يعتبر ذلك ؟ بل يكفي لوجوب الحج أن يكون عنده من النفقة ما يقوم بكفايته وكفاية عياله مدة ذهابه للحج ورجوعه فقط وفاقا : للحنفية ، والمالكية ، والشافعية . وهما روايتان عند الحنابلة ، والمقدم عندهم اعتبارا هي الرواية الأولى يعني : أن يكون فاضلا عن مئونته ومؤنت عياله على الدوام حتى بعد رجوعه من عقار أو بضاعة يتجر فيها أو صناعة ونحوها . وقال ابن جاسر في مفيد الأنام : والرواية الثانية أقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى ، لأن القول بأن الإنسان لا يكون مستطيعا للحج إلا إذا كان عنده
(17/288)
من النفقة بعد رجوعه من الحج
ما يكفيه ويكفي عياله على الدوام أي دوام حياته يقضي بأن لا يكون غالب الأغنياء
مستطيعين للحج لأنه قل من يثق من الأغنياء أن عنده من المال ما يكفيه ويكفي عياله
على الدوام ، هذا ما ظهر لي والله أعلم . قال ابن قدامة : ومن له عقار يحتاج إليه
لسكناه أو سكنى عياله أو يحتاج إلى أجرته لنفقة نفسه أو عياله ، أو بضاعة متى
نقصها اختل ربحها فلم يكفيهم ، أو سائمة يحتاجون إليها لم يلزمه الحج ، وإن كان من
ذلك شيء فاضل عن حاجته وأمكنه بيعه وشراء ما يكفيه ويفضل قدر ما يحج به لزمه ، وإن
كانت له كتب يحتاج إليها لم يلزمه بيعها في الحج ، وإن كانت مما لا يحتاج إليها أو
كان له بكتاب نسختان يستغني بأحدهما باع ما لا يحتاج إليه ، فإن كان له دين على
ملئ باذل له يكفيه للحج لزمه لأنه قادر ، وإن كان على معسر أو تعذر استيفاؤه عليه
لم يلزمه – انتهى . وإذا علمت أقوال أهل العلم ففي معنى الاستطاعة المذكورة في
قوله تعالى : ? من استطاع إليه سبيلا ? وعرفت مذاهبهم في ذلك فاعلم أن الأكثرين
الذين فسروا الاستطاعة بالزاد والراحلة احتجوا لذلك بما ورد عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - من تفسير الاستطاعة في الآية بالزاد والراحلة ، وقد روى عنه ذلك غير
واحد من الصحابة ، منهم ابن عمر رضي الله عنه ، أخرج حديثه الترمذي وغيره وهو الذي
نحن في شرحه ، وهو حديث ضعيف كما ستعرف ، ومنهم ابن عباس رواه عنه ابن ماجة
والدارقطني ، وهو حديث صالح للاحتجاج ، ومنهم أنس روى حديثه
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/289)
الحاكم والدارقطني ، وهو حديث صحيح ، صححه الحاكم ، وأقره الذهبي . ومنهم عائشة ، رواه الدارقطني ، والبيهقي في السنن ، والعقيلي في الضعفاء وأعله بعتاب بن أعين . ومنهم علي بن أبي طالب ، وجابر ، وابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، أخرج أحاديثهم الدارقطني أيضا ، وكلها ضعيفة ورواه سعيد بن منصور في سننه والبيهقي عن الحسن مرسلا وسنده صحيح ، ومن شاء الوقوف على تفصيل الكلام في هذه الأحاديث رجع إلى (( أضواء البيان )) للشنقيطي فإنه قد بسط الكلام فيها أخذا عن (( نصب الراية )) وغيره . ثم قال : قال غير واحد : إن هذا الحديث لا يثبت مسندا وأنه ليس له طريق صحيحة إلا الطريق التي أرسلها الحسن . قال الشنقطي : والذي يظهر لي - والله أعلم - أن حديث الزاد والراحلة المذكور ثابت لا يقل عند درجة الاحتجاج لأن الطريقين اللتين أخرجهما به الحاكم في المستدرك عن أنس قال : كلتاهما صحيحة الإسناد ، وأقر تصحيحهما الحافظ الذهبي ولم يتعقبه بشيء ، والدعوى على سعيد بن أبي عروبة ، وحماد بن سلمة في روايتهما الحديث عن قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها غلط ، وأن الصحيح عن قتادة عن الحسن مرسلا دعوى لا مستند لها ، بل هي تغليط وتوهيم للعدول المشهورين من غير استناد إلى دليل ، والصحيح عند المحققين من الأصوليين والمحدثين أن الحديث إذا جاء من طريق صحيحة وجاء من طرق أخرى غير صحيحة فلا تكون الطرق علة في الصحيحة إذا كان رواتها لم يخالفوا جميع الحفاظ ، بل انفراد الثقة العدل بما لم يخالف فيه غيره مقبول عند المحققين ، فرواية سعيد بن أبي عروبة ، وحماد بن سلمة الحديث المذكورة عن قتادة عن أنس مرفوعا لم يخالفوا فيها غيرهم بل حفظوا ما لم يحفظه غيرهم ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ فادعاء الغلط عليهما بلا دليل غلط . وقول النووي في شرح المهذب : وروى الحاكم حديث أنس وقال : هو صحيح ، ولكن الحاكم متساهل ، والله أعلم
(17/290)
- يجاب عنه : بأنا لو سلمنا أن
الحاكم متساهل في التصحيح ، لا يلزم من ذلك أنه لا يقبل له تصحيح مطلقا ، ورب
تصحيح للحاكم مطابق للواقع في نفس الأمر ، وتصحيحه لحديث أنس المذكور لم يتساهل
فيه ، ولذا لم يبد النووي وجها لتساهله فيه ، ولم يتكلم في أحد من رواته بل هو
تصحيح مطابق . فإن قيل : متابعة حماد بن سلمة لسعيد بن أبي عروبة المذكورة راويها
عن حماد هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني وهو متروك لا يحتج بحديثه ، كما
جزم به غير واحد من العلماء بالرجال ، وقال فيه ابن حجر في التقريب : متروك فقد
تساهل الحاكم في قوله : إن هذه الطريق على شرط مسلم مع أن في إسنادها أبا قتادة
المذكور . فالجواب أن أبا قتادة المذكور وإن ضعفه الأكثرون فقد وثقه الإمام أحمد
وأثنى عليه وناهيك بتوثيق الإمام أحمد وثنائه ، وذكر ابن حجر والذهبي أن عبد الله
بن أحمد قال لأبيه : إن يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أن أبا قتادة المذكور كان
يكذب ، فعظم ذلك عنده جدا وأثنى عليه ، وقال : إنه يتحرى الصدق . قال : ولقد رأيته
يشبه أصحاب الحديث . وقال أحمد في موضع آخر : ما به بأس ، رجل صالح ، يشبه أهل
النسك ربما أخطأ . وفي
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/291)
إحدى الروايتين عن ابن معين أنه قال : أبو قتادة الحراني ثقة ، ذكرها عنه ابن حجر والذهبي . وقول من قال : لعله كبر فاختلط ، تخمين وظن لا يثبت به اختلاطه ، ومعلوم أن المقرر في الأصول وعلوم الحديث : أن الصحيح أن التعديل يقبل مجملا ، والتجريح لا يقبل إلا مفصلا ، مع أن رواية سعيد بن أبي عروبة عن أنس ليس في أحد من رواتها كلام . ومما يؤيد ذلك موافقة الحافظ النقادة الذهبي للحاكم على تصحيح متابعة حماد ، مع أن حديث أنس الصحيح المذكور معتضد بمرسل الحسن ، ولاسيما على قول من يقول : إن مراسيله صحاح إذا روتها عنه الثقات كابن المديني وغيره ، ويؤيد ذلك أن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد الاحتجاج بالمراسيل ويؤيده أيضا الأحاديث المتعددة التي ذكرنا ، وإن كانت ضعافا لأنها تقوي غيرها ولاسيما حديث ابن عباس ، فإنا قد ذكرنا سنده وبينا أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج . وقال الشوكاني في نيل الأوطار : ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج ومما يؤيد الحديث المذكور أن أكثر أهل العلم على العمل به كما قدمنا عن أبي عيسى الترمذي أنه قال في حديث (( الزاد والراحلة )) : والعمل عليه عند أهل العلم ، وقد بينا أنه قول الأكثرين منهم الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة والشافعي وأحمد ، فالحاصل أن حديث الزاد والراحلة لا يقل بمجموع طرقه عن درجة القبول والاحتجاج . ثم قال الشنقيطي : الذي يظهر لي - والله أعلم - أن حديث الزاد والراحلة وإن كان صالحا لاحتجاج لا يلزم منه أن القادر على المشي على رجليه بدون مشقة فادحة لا يلزمه الحج إن كان عاجزا عن تحصيل الراحلة ، بل يلزمه الحج لأنه لا يستطيع إليه سبيلا كما أن صاحب الصنعة التي يحصل منه قوته في سفر الحج يحب عليه الحج ، لأن قدرته على تحصيل الزاد في طريقه كتحصيله بالفعل فإن قيل : كيف قلتم بوجوبه على القادر على المشي على رجليه دون الراحلة مع اعترافكم بقبول تفسير النبي -
(17/292)
صلى الله عليه وسلم - ((
السبيل )) بالزاد والراحلة ؟ وذلك يدل على أن المشي على الرجلين ليس من السبيل
المذكور في الآية فالجواب من وجهين الأول : أن الظاهر المتبادر أنه - صلى الله
عليه وسلم - فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة ، لأن الغالب أن أكثر الحجاج آفاقيون
قادمون من بلاد بعيدة ، والغالب عجز الإنسان عن المشي على رجليه في المسافات
الطويلة وعدم إمكان سفره بلا زاد ، ففسر - صلى الله عليه وسلم - الآية بالأغلب ،
والقاعدة المقررة في الأصول : أن النص إذا كان جاريا على الأمر الغالب لا يكون له
مفهوم مخالفة ، ولأجل هذا منع جماهير العلماء تزويج الرجل ربيبته التي لم تكن في
حجره قائلين : إن قوله تعالى : ? اللاتي في حجوركم ? (4 : 27) جرى على العادة ، فلا
مفهوم مخالفة له ، فيجب الحج على القادر على المشي على رجليه ، إما لعدم طول
المسافة وإما لقوة ذلك الشخص على المشي ، وكذلك يجب على ذي الصنعة التي يحصل منها
قوته في سفره ، لأنه في حكم واجد الزاد في المعنى ، والعلم عند الله تعالى ،
والوجه الثاني : أن الله جل وعلا سوى في كتابه بين الحاج الراكب والحاج الماشي على
رجليه ، وقدم الماشي على الراكب ، وذلك في قوله تعالى : ? وأذن في الناس بالحج
يأتوك رجالا وعلى كل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/293)
ضامر يأتين من كل فج عميق ? (22 : 28) انتهى . وقال ابن تيمية : في شرح العمدة بعد سرده لما ورد في ذلك : فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة موقوفة تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة مع علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كثيرا من الناس يقدرون على المشي ، وأيضا فإن الله قال في الحج : ? من استطاع إليه سبيلا ? إما أن يعني القدرة المعتبرة في جميع العبادات وهو مطلق المكنة أو قدرا زائدا على ذلك ، فإن كان المعتبر هو الأول لم يحتج إلى هذا التقييد كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة ، فعلم أن المعتبر قدر زائد في ذلك وليس هو إلا المال ، وأيضا فإن الحج عبادة مفتقرة إلى مسافة فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد ، ودليل الأصل قوله : ? ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ? إلى قوله : ? ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ? (9 : 92) الآية - انتهى . قلت : الراجح عندنا أن العاجز عن تحصيل الراحلة أو ما يقوم مقامها القادر على المشي على رجليه لا يلزمه الحج لتفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - استطاعة السبيل المذكورة في الآية بالزاد والراحلة ، وهو يدل على اعتبار الراحلة للزوم الحج ، وأما حمل ذلك على أنه - صلى الله عليه وسلم - فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة فلا دليل عليه ، والاستشهاد لذلك بقوله تعالى : ? وربائبكم اللاتي في حجوركم ? فيه نظر لأن ها هنا قرينة تدل على أن الخطاب في هذه الآية خرج مخرج الغالب ، وهي ما ورد في رواية للبخاري في قصة عرض أم حبيبة أختها عزة بنت أبي سفيان على النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي أي بنت أبي سلمة ، فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة وحكم بالتحريم بذلك . وأما قوله تعالى : ? وأذن في الناس بالحج يأتوك
(17/294)
رجالا وعلى كل ضامر يأتين من
كل فج عميق ? فلا دليل فيه على وجوب الحج على القادر على المشي العاجز عن الراحلة
، وأما أكثر ما فيه أنه استدل به بعض العلماء على أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل
من الحج راكبا ، لأنه قدمهم في الذكر ، خلافا لما ذهب إليه الأكثرون من أن الحج
راكبا أفضل إقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه حج راكبا مع كمال
قوته وقدرته على المشي . وقال ابن قدامة : ومن تكلف الحج ممن لا يلزمه فإن أمكنه
ذلك من غير ضرر يلحق بغيره مثل أن يمشي ويكتسب بصناعة كالخرز ، أو معاونة من ينفق
عليه ، أو يكتري لزاده ، ولا يسأل الناس استحب له الحج لقول الله تعالى : ? يأتوك
رجالا وعلى كل ضامر ? فقدم ذكر الرجال ، ولأن في ذلك مبالغة في طاعة الله عز وجل
وخروجا من الخلاف وإن كان يسأل الناس كره له الحج لأنه يضيق على الناس ويحصل كلا
عليهم في التزام ما لا يلزمه - انتهى . قلت : وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد
وأكثر أهل العلم . وقال مالك : ليستا أي الزاد والراحلة من شرط وجوبه ، فإذا قدر
راجلا وله صنعة أو من عادته السؤال فهو مستطيع كما ذكرنا في بيان مذهبه وما عليه
الجمهور هو مقتضى القواعد الشرعية . قال ابن تيمية : كل عبادة اعتبر فيها المال
فالمعتبر ملكه لا القدرة على ملكه كتحصيله بصنعة أو قبول هبة أو مسألة أو أخذ من
صدقة أو بيت مال - انتهى . وهذا كله يتعلق بالمستطيع بنفسه ، وأما ما يسمونه
المستطيع بغيره فقد تقدم الكلام فيه في شرح حديث الخثعمية وهو نوعان : الأول منهما
هو من لا يقدر على الحج بنفسه لكونه زمنا ،
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/295)
أو هرما ونحو ذلك ، ولكنه له مال يدفعه إلى من يحج عنه ، فهل يلزمه الحج نظرا إلى أنه مستطيع بغيره فيدخل في عموم قوله : ? من استطاع إليه سبيلا ? أو لا يجب عليه الحج لأنه عاجز غير مستطيع بالنظر إلى نفسه فلا يدخل في عموم الآية ، وبالقول الأول قال الشافعي وأصحابه ، فيلزمه عندهم أجرة أجير يحج عنه بشرط أن يجد ذلك بأجرة المثل . قال النووي : وبه قال جمهور العلماء منهم علي بن أبي طالب ، والحسن البصري ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق، وابن المنذر ، وداود . وقال مالك : لا يجب عليه ذلك ، ولا يجب إلا أن يقدر على الحج بنفسه . واحتج لذلك بقوله تعالى : ? ليس للإنسان إلا ما سعى ? (53 : 40) وبقوله تعالى : ? من استطاع إليه سبيلا ? وهذا لا يستطيع بنفسه فيصدق عليه اسم غير المستطيع ، وبأنها عبادة لا تصح فيها النيابة مع القدرة ، فكذلك مع العجز كالصلاة ، واحتج الأكثرون القائلون بوجوب الحج عليه بأحاديث رواها الجماعة ، منها : حديث ابن عباس في قصة استفتاء الخثعمية وقد تقدم في الفصل الأول . ومنها : حديث أبي رزين العقيلي الآتي ، ومنها : حديث علي في قصة الخثعمية أيضا عند أحمد (ج : ص ) ، والترمذي ، والبيهقي (ج4 : ص329) . ومنها : حديث عبد الله بن الزبير عند أحمد (ج4 : ص5) ، والنسائي . ومنها حديث ابن عباس أيضا عند النسائي كلاهما بنحو قصة الخثعمية . والنوع الثاني من نوعي المستطيع بغيره هو من لا يقدر على الحج بنفسه وليس له المال يدفعه إلى من يحج عنه ، ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج ، والولد مستطيع ، فهل يجب الحج على الولد ويلزمه أمر الولد بالحج عنه لأنه مستطيع بغيره ؟ فيه خلاف بين أهل العلم . قال النووي في شرح المهذب : فرع في مذاهبهم في المعضوب إذا لم يجد مالا يحج به غيره فوجد من يطيعه ، قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الحج عليه ، وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد :
(17/296)
لا يجب عليه ، وقد علمت أن
مالكا احتج في مسألة العاجز الذي له مال بقوله تعالى : ? وأن ليس للإنسان إلا ما
سعى ? وبأنه عاجز بنفسه فهو غير مستطيع إلى الحج سبيلا ، وبأن سعيد بن منصور وغيره
رووا عن ابن عمر بإسناد صحيح : أنه لا يحج أحد عن أحد ، ونحوه عن الليث ومالك ،
وأن الذين خالفوه احتجوا بالأحاديث التي أشرنا إليها وفيها ألفاظ ظاهرها الوجوب ،
كتشبيهه بدين الآدمي ، وكقول السائل : يجزئ عنه أن تحج عنه ، والإجزاء دليل
المطالبة ، وفي بعض رواياتها أن السائل يقول : إن عليه فريضة الحج ، ويستأذن النبي
- صلى الله عليه وسلم - في الحج عنه وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يبين له أن
الحج سقط عنه بزمانته وعجزه عن الثبوت على الراحلة ، وبقوله للولد (( أنت أكبر
ولده )) وأمره بالحج عنه ، وأما الذين فرقوا بين وجود المعضوب مالا فأوجبوا عليه
الحج وبين وجوده ولدا يطيعه فلم يوجبوه ، فلأن المال ملكه فعليه أن يستأجر به ،
والولد مكلف آخر ليس ملزما بفرض على شخص آخر ، ولأنه وإن كان له ولد فليس بمستطيع
ببدن ولا بزاد وراحلة ، ولو وجد إنسانا غير الولد يطيعه في الحج عنه ، فهل يكون
حكمه حكم الولد ؟ فيه خلاف معروف ، وأظهر الأقوال أنه كالولد ،
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/297)
تنبيه : إذا مات الشخص ولم يحج وكان الحج قد وجب عليه لاستطاعته بنفسه أو بغيره عند من يقول بذلك وكان قد ترك مالا فهل يجب أن يحج ويعتمر عنه من ماله ؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم ، فقال بعضهم : يجب أن يحج ويعتمر عنه من تركته سواء مات مفرطا أو غير مفرط ، لكون الموت أعجله عن الحج فورا . وبهذا قال الشافعي وأحمد . قال ابن قدامة : وبهذا قال الحسن وطاوس والشافعي . وقال أبو حنيفة ومالك : يسقط بالموت ، فإن أوصى بذلك فهو في الثلث ، وبهذا قال الشعبي والنخعي لأنه عبادة بدنية فتسقط بالموت كالصلاة ، واحتجوا أيضا بأن ظاهر القرآن كقوله : ? وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ? مقدم على ظاهر الأحاديث بل على صريحها لأنه أصح منها ، وأجاب الأولون بأن الأحاديث مخصصة بعموم القرآن ، وبأن المعضوب وجب عليه الحج بسعيه بتقديم المال وأجرة من يحج عنه ، فهذا من سعيه ، وأجابوا عن قياسه على الصلاة بأنها لا تدخلها النيابة بخلاف الحج والذين قالوا : يجب أن يحج عنه من رأس ماله ، واستدلوا بأحاديث جاءت في ذلك تقتضي أن مات وقد وجب عليه الحج قبل موته أنه يحج عنه ، منها :حديث ابن عباس عند البخاري المتقدم في الفصل الأول ، ومنها : حديث ابن عباس عند البخاري أيضا : أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال : نعم حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله ، فالله أحق بالوفاء . والحج في هذين الحديثين وإن كان منذورا فإيجاب الله له على عباده في كتابه أقوى من إيجابه بالنذر مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقضائها وشبهها بدين الآدمي ، قال المجدي في المنتقى بعد أن أشار لحديث البخاري الأول : وهو يدل على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره حيث لم يستفصله أوارث هو أو لا ؟ وشبهه بالدين - انتهى . وقد تقرر في الأصول أن عدم
(17/298)
الاستفصال من النبي - صلى الله
عليه وسلم - أي طلب التفصيل في أحوال الواقعة ينزل منزلة العموم القولي ، وخالف في
هذا الأصل أبو حنيفة كما هو مقرر في الأصول . ومنها : ما رواه النسائي في سننه
بسند صالح للاحتجاج عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله ! إن أبي مات ولم
يحج ، أفأحج عنه ؟ قال أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه ؟ قال نعم ، قال : فدين
الله أحق . ومنها : ما رواه النسائي أيضا بسند صحيح أن ابن عباس قال : أمرت امرأة
سنان بن سلمة الجهني أن تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمها ماتت ولم
تحج أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها ؟ قال : نعم ، لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم
يكن يجزئ عنها ؟ فلتحج عن أمها . ومنها : ما رواه الدارقطني عن ابن عباس قال : أتى
النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال : إن أبي مات وعليه حجة الإسلام ، أفأحج
عنه ؟ قال : أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه ؟ قال : نعم ، قال فاحجج
عن أبيك . ومنها : حديث بريدة الأسلمي عند أحمد ، ومسلم وغيرهما أن امرأة أتت
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أمي قد ماتت ولم تحج فيجزئها أن أحج عنها
قال : نعم - الحديث . ومنها : حديث أنس بن مالك عند البزار والطبراني بنحو حديث
ابن عباس
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/299)
عند الدارقطني ومنها حديث عقبة بن عامر عند الطبراني بنحو حديث ابن عباس عند النسائي فهذه الأحاديث ليس فيها ذكر نذر الحج وهي مع ما تقدم حجة من قال : إن من وجب عليه الحج في الحياة وترك مالا وجب أن يحج عنه وهي ظاهرة في ذلك لتشبيهه بدين الآدمي وأجاب المخالفون بأن الحج أعمال بدنية وإن كانت تحتاج إلى مال ، والأعمال البدنية تسقط بالموت فلا وجوب لعمل بعد الموت ، والذي يحج عنه متطوع وفاعل خيرا . قالوا : ووجه تشبيهه بالدين انتفاع كل منهما بذلك الفعل ، فالمدين ينتفع بقضاء الدين عنه ، والميت ينتفع بالحج عنه ، ولا يلزم من قضاء الدين عن أحد أن القضاء عنه واجب ، بل يجوز أن يكون قضاءه عنه غير واجب عليه ، واحتجوا أيضا بأن جميع الأحاديث الواردة بالحج عن الميت واردة بعد الاستئذان في الحج عنه ، قالوا : والأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد الحظر فهو للإباحة ، لان الاستئذان والحظر الأول كلاهما قرينة على صرف الأمر عن الوجوب إلى الإباحة . ومن أمثلة كون الأمر بعد الاستئذان للإباحة أن الصحابة رضي الله عنهم لما سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عما اصطادوه بالجوارح واستأذنوه في أكله نزل في ذلك قوله تعالى : ? فكلوا مما أمسكن عليكم ? (5 : 4) فصار هذا الأمر بالأكل للإباحة لأنه وارد بعد سؤال واستئذان ، ومن أمثلته من السنة حديث مسلم : أأصلي في مرابض الغنم ؟ قال : نعم - الحديث . فإن معنى (( نعم )) هنا (( صل فيها )) وهذا الأمر بالصلاة فيها للإباحة ، لأنه بعد الاستئذان ، وخلاف أهل الأصول في المسألة معروف . قال الشنقيطي بعد سرد الأحاديث المذكورة : هذه الأحاديث تدل قطعا على مشروعية الحج عن المعضوب والميت ، وقد قدمنا أن الأظهر عندنا وجوب الحج فورا ، وعليه فلو فرط وهو قادر على الحج حتى مات مفرطا مع القدرة أنه يحج عنه من رأس ماله إن ترك مالا ، لأن فريضة الحج ترتبت في ذمته فكانت دينا عليه ،
(17/300)
وقضاء دين الله صرح النبي -
صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث المذكورة بأحقيته حيث قال : فدين الله أحق أن يقضى
. أما من عاجله الموت قبل التمكن فمات غير مفرط فالظاهر لنا أنه لا إثم عليه ، ولا
دين لله عليه لأنه لم يتمكن من أداء الفعل حتى يترتب في ذمته ، ولن يكلف الله نفسا
إلا وسعها ، وقد تقدم أن مالكا ومن وافقوه لم يعملوا بظاهر هذه الأحاديث المذكورة
مع كثرتها وصحتها لأنها مخالفة عندهم لظاهر القرآن في قوله : ? وأن ليس للإنسان
إلا ما سعى ? وقوله : ? من استطاع إليه سبيلا ? والمعضوب والميت ليس واحد منهما
بمستطيع لصدق قولك : إنه غير مستطيع بنفسه ، قال : وما اشتهر عن مالك أنه يقول :
لا يحج أحد عن أحد ، معناه عنده أن الصحيح القادر لا يصح الحج عنه في الفرض .
والمعضوب عنده ليس بقادر ، وأحرى الميت ، فالحج عنهما من مالهما لا يلزم عنده إلا
بوصية ، فأن أوصى به صح من الثلث وتطوع وليه بالحج عنه خلاف الأولى عنده بل مكروه
، والأفضل عنده أن يجعل ذلك المال الذي يحج به عنه في غير الحج كأن يتصدق به عنه
أو يعتق به عنه ونحو ذلك ، فإن أحرم بالحج عنه انعقد إحرامه وصح حجه عنه ، والحاصل
أن النيابة عن الصحيح في غير الفرض عنده مكروهة ، والعاجز عنده لا فرض عليه أصلا
للحج ، قال الشنقيطي : والأحاديث المذكورة حجة على مالك ومن وافقه ، قلت : القول الراجح
المعول عليه عندنا هو
رواه الترمذي ، وابن ماجة .
2551- (23) وعنه قال : سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما الحاج
؟ قال : الشعث التفل . فقام آخر فقال : يا رسول الله أي الحج أفضل ؟ قال : العج
والثج .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/301)
ما ذهب إليه الشافعي وأحمد ومن وافقهما للأحاديث التي ذكرنا وهي نص في ذلك ، هذا وقد تقدم شيء من الكلام في هذه المسألة في شرح حديث ابن عباس في قصة استفتاء الخثعمية ( رواه الترمذي ، وابن ماجة ) أخرجه الترمذي في الحج مختصرا كما ذكره المصنف وفى تفسير سورة آل عمران مطولا وهى الرواية الآتية بعد هذا ، وأخرجه ابن ماجة مطولا فقط في الحج ، ورواه البيهقي مختصرا في (ج4 : ص327) ، ومطولا في (ج4 : ص330 ) ، و (ج5: ص58) ، وروى الشافعي في الأم (ج2 : ص99) المطول فقط , والدارقطني (ص255) مطولا ومختصرا كلهم من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي عن ابن عمر قال الترمذي : هذا حديث حسن . وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه - انتهى . قلت : تحسين الترمذي لهذا الحديث لا وجه له لان إبراهيم بن يزيد الخوزي المذكور متروك لا يحتج به كما جزم به غير واحد بل ذكر الحافظ في التهذيب ما يدل على أنهم أجمعوا على تركه وتضعيفه ، ومنهم من كان يرميه بالكذب . ونقل المزي تحسين الترمذي وأقره ، وقال الحافظ في التلخيص بعد نقل تحسين الترمذي : هو من إبراهيم بن يزيد الخوزي , وقد قال : الظاهر أن الترمذي كان حسن الرأي فيه وكان هو الحديث عنده ولذلك حسن روايته هذه .
(17/302)
2551- قوله : ( ما الحاج ؟ )
أي الكامل ، والمعنى ما صفة الحاج الذي يحج ؟ أو يكون (( ما )) بمعنى (( من )) قال
الطيبي : يسأل بما عن الجنس وعن الوصف ، والمراد هنا الثاني بجوابه - صلى الله
عليه وسلم - . قلت : وقع عند الترمذي في التفسير بلفظ (( من الحاج ؟ )) وكذا ذكره
المنذري في ترغيبه وعزاه لابن ماجة والزيلعي في نصب الراية (ج3 : ص8) وعزاه
للترمذي ، وابن ماجة ( قال : الشعث ) بفتح الشين المعجمة وكسر العين المهملة ،
وبالثاء المثلثة وهو البعيد العهد بتسريح شعره وغسله ، وقال القاري : أي المغبر
الرأس من عدم الغسل ، مفرق الشعر من عدم المشط ، وحاصله تارك الزينة ( التفل )
بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الفاء ، وهو الذي ترك الطيب حتى تغيرت رائحته .
وقال القاري : أي تارك الطيب فيوجد منه رائحة كريهة ، من تفل الشيء من فيه إذا رمى
به متكرها له ( الحج ) أي أعماله أو خصاله بعد أركانه ( أفضل ؟ ) أي أكثر ثوابا (
قال : العج ، والثج ) الأول بفتح العين المهملة وبالجيم لمشددة ، وهو رفع الصوت
بالتلبية ، والثاني بفتح الثاء المثلثة وبالجيم المشددة وهو سيلانه دماء الهدي ،
وقيل دماء الأضاحي . قال وكيع في رواية ابن ماجة : يعني بالعج : العجيج بالتلبية ،
والثج : نحر البدن . قال الطيبي : ويحتمل أن يكون السؤال عن نفس الحج ، ويكون
المراد ما فيه العج
فقام آخر فقال : يا رسول الله ما السبيل ؟ قال : زاد وراحلة . رواه في شرح السنة ،
وروى ابن ماجة في سننه ، إلا أنه لم يذكر الفصل الأخير .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/303)
والثج . وقيل : على هذا يراد بهما الاستيعاب لأنه ذكر أوله الذي هو الإحرام وآخره الذي هو التحلل بإراقة الدم اقتصارا بالمبدأ والمنتهى عن سائر الأفعال ، أي الذي استوعب جميع أعماله من الأركان والمندوبات ( ما السبيل ؟ ) أي المذكور في قوله تعالى : ? من استطاع إليه سبيلا ? ( قال : زاد وراحلة ) أي بحسب ما يلقيان بكل أحد ، والظاهر أن المعتبر هو الوسط بالنسبة إلى حال الحاج . وقوله : (( زاد وراحلة )) كذا وقع في جميع نسخ المشكاة ، وهكذا وقع عند الشافعي ، والبيهقي (ج4: ص330) ووقع عند الترمذي ، وابن ماجة ، والدارقطني ، والبيهقي (ج5 : ص58) الزاد والراحلة أي معرفا باللام ، وكذا ذكره المنذري في الترغيب نقلا عن ابن ماجة ( رواه ) أي صاحب المصابيح ( في شرح السنة ) أي الحديث بكماله مسندا ( وروى ابن ماجة ) أي الحديث ، وكان حقه أن يقول : ورواه ابن ماجة ( في سننه إلا أنه ) أي ابن ماجة ( لم يذكر الفصل الأخير ) أي من الفصول الثلاثة في الحديث ، وهو الآخر من قوله : فقام آخر ، والفصل هنا بمعنى الفقرة في الكلام ، وهذا وهم من المصنف فإن الحديث رواه ابن ماجة بكماله مسندا ، وكذلك رواه الترمذي في التفسير ، والشافعي ، والدارقطني ، ثم البيهقي في سننهما كلهم من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر . وتقدم أن إبراهيم بن يزيد ضعيف متروك فهذا الحديث أيضا ضعيف كالأول ، ولكن حسنه المنذري وقال : رواه ابن ماجة بإسناد حسن . وقال الترمذي في التفسير بعد سياقه : هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم ابن يزيد الخوزي المكي وقد تكلم بعض أهل لعلم في إبراهيم بن يزيد من قبل حفظه - انتهى . ومقتضى ما نقل الزيلعي عن الترمذي أنه وصف الحديث في التفسير بالغرابة حيث قال : قال الترمذي : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم إلخ . قال الزيلعي : وله طريق آخر عند الدارقطني في سننه ، أخرجه عن
(17/304)
محمد بن الحجاج المضفر ثنا
جرير ابن حازم ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن ابن عمر مرفوعا ، ومحمد بن الحجاج
المضفر ضعيف - انتهى . وهو - كما قال الزيلعي - ضعيف . قال الذهبي في الميزان فيه
: روى عباس عن يحيى ليس بثقة . وقال أحمد : تركنا حديثه . وقال البخاري عن شعبة :
سكتوا عنه . وقال النسائي : متروك ثم ذكر بعض عجائبه ، وعلى كل حال فهو لا يحتج به
. واعلم أن إبراهيم بن يزيد الخوزي كما تابعه في هذه الرواية جرير بن حازم من طريق
محمد بن الحجاج المضفر الذي ذكرنا آنفا أنه لا يحتج به فقد تابعه أيضا فيها غيره
من الضعفاء . قال الزيلعي بعد أن ذكر حديث إبراهيم الخوزي المذكور عند الترمذي وابن
ماجة : ورواه الدارقطني (ج2 : ص255) ، ثم البيهقي (ج 4 : ص330) . قال الدارقطني :
وقد تابع إبراهيم بن يزيد عليه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، فرواه
عن محمد بن عباد عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك - انتهى . وهذا
الذي أشار إليه رواه ابن عدي في الكامل ، وأعله بمحمد بن عبد الله الليثي وأسند
تضعيفه
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/305)
عن النسائي وابن معين . ثم قال : والحديث معروف بإبراهيم بن يزيد الخوزي ، وهو من هذه الطريق غريب . ثم ذكر البيهقي تضعيف إبراهيم المذكور . قال : وروي من أوجه أخرى كلها ضعيفة . وروي عن ابن عباس من قوله ، ورويناه من أوجه صحيحة عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا وفيه قوة لهذا السند - انتهى . ثم قال الزيلعي : قال الشيخ في الإمام : قوله : (( فيه قوة )) فيه نظر لأن المعروف عندهم أن الطريق إذا كان واحد ورواه الثقات مرسلا وانفرد ضعيف برفعه ، أن يعللوا المسند بالمرسل ، ويحملوا الغلط على رواية الضعيف ، فإذا كان ذلك موجبا لضعف المسند فكيف يكون تقوية له ؟ - انتهى . وهو كما قال : كما هو معروف في الأصول وعلم الحديث . ثم قال الزيلعي : قال يعني الشيخ في الإمام : والذي أشار إليه من قول ابن عباس رواه أبو بكر بن المنذر حدثنا علان بن المغيرة ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح : حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : والمرسل رواه سعيد بن منصور في سننه حدثنا هشام : ثنا يونس عن الحسين قال : لما نزلت ? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ? قال رجل : يا رسول الله وما السبيل ؟ قال : زاد وراحلة - انتهى . حدثنا الهشيم : ثنا منصور عن الحسن مثله ، حدثنا خالد بن عبد الله عن يونس عن الحسن مثله . قال : وهذه أسانيد صحيحة إلا أنها مرسلة . وقال ابن المنذر : لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة مسندا ، والصحيح رواية الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا ، وأما المسند فإنما رواه إبراهيم بن يزيد وهو متروك ، ضعفه ابن معين وغيره - انتهى من نصب الراية . وبهذا تعلم أن حديث ابن عمر المذكور لم يسند من وجه صحيح ، لأن إبراهيم الخوزي متروك ، ومحمد بن الحجاج المضفر الذي ذكرنا أن إبراهيم تابعه عليه جرير بن حازم من طريقه لا يحتج به كما بيناه .
(17/306)
وقد بينا أن متابعة محمد بن
عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي لا تقويه لأنه ضعيف . ضعفه النسائي وأعل الحديث
به ابن عدي في الكامل . وقال الذهبي في الميزان : ضعفه ابن معين ، وقال البخاري :
منكر الحديث . وقال النسائي : متروك - انتهى . وأما مرسل الحسن البصري المذكور وإن
كان إسناده صحيحا إلى الحسن فلا يحتج به ، لان مراسيل الحسن لا يحتج بها . قال :
الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته وقال الدارقطني : مراسيله فيها ضعف . وقال فيه
أيضا : وقال محمد بن سعد : كان الحسن جامعا عالما رفيعا فقيها ، ثقة مأمونا ،
عابدا ناسكا ، كثير العلم ، فصيحا جميلا وسيما ، وكان ما أسند من حديثه وروى عمن
سمع منهم فهو حجة ، وما أرسل فليس بحجة . وقال السيوطى في التدريب (ص69) : وقال
أحمد بن حنبل : مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات ، ومرسلات إبراهيم النخعي لا
بأس بها ، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح ، فإهما كانا
يأخذان عن كل أحد ، ثم قال بعد ذلك : وقال العراقي : مراسيل الحسن عندهم شبه الريح
. وعدم الاحتجاج بمراسيل الحسن هو المشهور عند المحدثين . وقال بعض أهل العلم : هي
صحاح إذا رواها عنه الثقات . وقال الحافظ في تهذيب التهذيب : وقال ابن المدينى :
مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح ، ما أقل ما يسقط منها . وقال أبو زرعه :
كل شيء يقوله الحسن : (( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) وجدت له أصلا
2552- (24) وعن أبى رزين العقيلي ، أنه أتى النبي فقال : يا رسول الله : إن أبي
شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن . قال : حج عن أبيك واعتمر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/307)
ثابتا ما خلا أربعة أحاديث -
انتهى . وقد ظهر بهذا كله أن حديث ابن عمر المرفوع في تفسير الاستطاعة بالزاد
والراحلة لم يثبت بوجه صحيح بحسب صناعة علم الحديث ، لكن له شواهد بعضها صحيح
وبعضها حسن . وعلى هذا فلا شك أن حديث الزاد والراحلة بمجموع طرقه صالح للقبول
والاحتجاج كما قال الشوكانى وغيره .
2552- قوله : ( وعن أبي رزين ) بفتح الراء وكسر الزاي ( العقيلي ) بالتصغير واسمه
: لقيط بن عامر العامري وافد بني المنتفق . قال الترمذي بعد رواية حديثه : وأبو
رزين العقيلي اسمه لقيط بن عامر . وقال الحافظ في التقريب : لقيط بن صبرة ، بفتح
المهملة وكسر الموحدة صحابي مشهور ، ويقال : أنه أي صبرة جده ، واسم أبيه عامر ،
وهو أبو رزين العقيلي ، والأكثر على أنهما اثنان - انتهى . وقد تقدم ترجمة لقيط بن
صبرة في الفصل الثاني من باب سنن الوضوء ( أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقال : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير ) إلخ . قال الحافظ : هذه قصة أخرى ، أي غير
قصة الخثعمية . قال : ومن وحد بينها وبين حديث الخثعمية فقد أبعد وتكلف . ( ولا
الظعن ) بفتحتين أو سكون الثاني ، والأولى معجمة والثانية مهملة ، مصدر ظعن يظعن
بالضم - إذا سار . وفى المجمع : الظعن الراحلة . أي لا يقوى على السير ولا على
الركوب من كبر السن - انتهى . وقيل : يمكن أن يكنى به عن القوة ويراد بنفي الاستطاعة
عدم الزاد والراحلة ، كأنه قال : ليس له زاد ولا راحلة ولا قوة على السير والركوب
. وقال المظهر : يحتمل أن يريد بقوله : لا يستطيع الحج والعمرة ، الذهاب إليهما
راجلا ، وبالظعن ركوب الدابة ( قال : حج ) بالحركات في الجيم ، والفتح هو المشهور
( عن أبيك ) الذي كبر ، وفيه دليل على جواز حج الولد عن أبيه العاجز . وقال المحب
الطبري : فيه أبين البيان على جواز حج الإنسان عن الحي الذي لا يستطيع الحج بنفسه
، وأنه ليس كالصلاة والصوم وسائر الأعمال البدنية ،
(17/308)
وأنه - صلى الله عليه وسلم -
أخبر أن الله عز وجل إنما أراد بقوله : ? وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ? بعض
الأعمال دون بعض . وقيل : إن الآية عامة خصها هذا الحديث وأمثاله . وقيل : إن ولد
الرجل من كسبه كما ورد في بعض الآثار ، وعليه فالآية عامة ، وحج الولد عن أبيه
متناول لها ، وقد تقدم بسط الكلام في مسالة النيابة بالحج في شرح حديث الخثعمية
وفى شرح حديث الزاد والراحلة ( واعتمر ) استدل به من قال بوجوب العمرة ، وقد ذهب
إلى وجوبها جماعة من أهل الحديث ، وهو المشهور عن الشافعي وأحمد ، وبه قال إسحاق
والثوري ، والمزني . قال أحمد : لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا ولا
أصح منه ، وأجيب عنه بما قال السندي : لا يخفى أن الحج والعمرة عن الغير ليسا
بواجبين على الفاعل ، فالظاهر حمل الأمر على الندب وحينئذ دلالة الحديث على وجوب
العمرة خفاؤها لا يخفى - انتهى . وبما ذكر الشنقيطي أن صيغة
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/309)
الأمر في قوله : (( واعتمر )) واردة بعد سؤال أبى رزين وقد قرر جماعة من أهل الأصول أن صيغة الأمر الواردة بعد المنع أو السؤال إنما تقتضي الجواز ، لا الوجوب لأن وقوعها في جواب السؤال عن الجواز دليل صارف عن الوجوب إلى الجواز ، والخلاف في هذه المسألة معروف - انتهى . والمشهور عن المالكية أن العمرة ليست بواجبة وهو قول الحنفية . واستدل القائلون بالوجوب أيضا بما روي عن عمر في سؤال جبريل عن الإسلام ، وفيه : (( وأن تحج وتعتمر )) أخرجه ابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني وغيرهم ، وأجيب عن هذا بأن الأمر مجرد اقتران العمرة بالأمور الواجبة المذكورة في الحديث لا يكون دليلا على الوجوب لما تقرر في الأصول من ضعف دلالة الاقتران لاسيما وقد عارضه ما سيأتي من الأدلة القاضية بعدم الوجوب ، فإن قيل : إن وقوع العمرة في جواب من سأل عن الإسلام يدل على الوجوب . فيقال : ليس كل أمر من الإسلام واجبا ، والدليل على ذلك حديث شعب الإسلام والإيمان ، فإنه اشتمل على أمور ليست بواجبة بالإجماع ، واستدلوا أيضا بما رواه ابن عدي ، والبيهقي ، عن جابر مرفوعا : الحج والعمرة فريضتان . وفيه : ابن لهيعة وهو ضعيف . وقال ابن عدي : هو غير محفوظ عن عطاء عن جابر . وأخرجه أيضا الدارقطني من حديث زيد بن ثابت بزيادة (( لا يضرك بأيهما بدأت )) وأجيب عنه بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف . وفى الحديث أيضا انقطاع . ورواه البيهقي موقوفا على زيد . قال الحافظ : وإسناده أصح . واستدلوا أيضا بحديث عائشة عند أحمد ، وابن ماجة : (( قالت : يا رسول الله أعلى النساء جهاد ؟ قال : نعم عليهن جهاد لا قتال فيه ، الحج والعمرة )) وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث ، وأجيب عنه بأن لفظة : (( عليهن )) ليست صريحة في الوجوب فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة ، وإذا كان محتملا لإرادة الوجوب والسنة المؤكدة لزم طلب الدليل بأمر خارج ، وقد دل دليل خارج
(17/310)
على وجوب الحج ، ولم يدل دليل
خارج يجب الرجوع إليه على وجوب العمرة ، وبحديث الصبي بن معبد ، قال : أتيت عمر
فقلت : يا أمير المؤمنين إني أسلمت وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت
بهما ، فقال عمر : هديت لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - وبحديث عمرو بن حزم أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن كتابا ، وبعث به عمرو بن حزم ، وكان
في الكتاب : أن العمرة هي الحج الأصغر . أخرجه الدارقطني والأثرم . وبحديث ابن
مسعود المتقدم بلفظ : (( تابعوا بين الحج والعمرة )) وقد تقدم الجواب عنه ،
واستأنسوا بقوله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? قال ابن قدامة : ومقتضى
الأمر الوجوب ثم عطفها على الحج ، والأصل التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه . قال
ابن عباس : إنها لقرينة الحج في كتاب الله . وفيه : أن لفظ الإتمام مشعر بأنه إنما
يجب بعد الإحرام لا قبله . ويدل على ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن يعلى بن أمية
، قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة ، عليه جبة
وعليها خلوق فقال : كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ فنزلت : ? وأتموا الحج والعمرة
لله ? والسائل قد أحرم ، وإنما سأل كيف يصنع ؟ وقد انعقد الإجماع على وجوب إتمام
الحج والعمرة ولو أفسدهما . قال ابن القيم : وليس في الآية فرضها ، وإنما فيها
إتمام الحج
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/311)
والعمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء ، وأجمع أهل العلم على مشروعيتها كالحج ، واستدل القائلون بعدم الوجوب بما رواه الترمذي وصححه . وأحمد ، والبيهقي وغيرهم عن جابر أن أعرابيا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي ؟ فقال : لا وأن تعتمر خير لك . وفى رواية : أولى لك . وأجيب عنه بأن في إسناده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف . وتصحيح الترمذي له فيه نظر ، لأن الأكثر على تضعيف الحجاج ، واتفقوا على أنه مدلس على أن تصحيح الترمذي له إنما ثبت في رواية الكروخي فقط ، وقد نبه صاحب الإمام على أنه لم يزد على قوله حسن في جميع الروايات عنه إلا في رواية الكروخي . وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عفير عن يحيى بن أيوب عن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر بنحوه . ورواه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر ، ورواه ابن عدي من طريق أبى عصمة عن ابن المنكدر عن أبى صالح ، وأبو عصمة قد كذبوه . وفى الباب عن أبي هريرة عند الدارقطني ، وابن حزم ، والبيهقي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الحج جهاد والعمرة تطوع . وإسناده ضعيف كما قال الحافظ . وعن طلحة عند ابن ماجة بنحوه بإسناد ضعيف ، وعن ابن عباس عند البيهقي . قال الحافظ : ولا يصح من ذلك شيء . قال الشوكانى : وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره وهو محتج به عند الجمهور ، ويؤيده ما عند الطبراني عن أبي أمامة مرفوعا : من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة ، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة . قلت : ولما اختلفت الأدلة في إيجاب العمرة وعدمه اختلف العلماء في ذلك سلفا وخلفا ، فذهب عمرو ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وابن عمرو ، وسعيد ابن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي إلى وجوبها . وبه قال الثوري ، وإسحاق ، والشافعي ، وأحمد في أحد قوليهما . واختاره
(17/312)
البخاري في صحيحه . وروي عن
ابن مسعود : أن العمرة ليست واجبة . وبه قال مالك ، وأبو ثور ، وأبو حنيفة وهو أحد
قول الشافعي وأحمد واختيار ابن تيمية . وقال الشوكاني بعد ذكر أدلة الفريقين :
والحق عدم وجوب العمرة لأن البراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به
التكليف ، ولا دليل يصلح لذلك لا سيما مع اعتضادها بما تقد م من الأحاديث القاضية
بعدم الوجوب ، ويؤيد ذلك اقتصاره - صلى الله عليه وسلم - على الحج في حديث : ((
بني الإسلام على خمس )) واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله تعالى : ? ولله
على الناس حج البيت ? قلت : ويؤيده أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي قال :
(( لا أزيد عليهن ولا انقص )) لئن صدق ليدخلن الجنة . وقال شيخنا الأجل
المباركفوري بعد ذكر دلائل وجوب العمرة : والظاهر هو وجوب العمرة والله أعلم .
وقال الشنقيطي بعد ذكر كلام الشوكانى : الذي يظهر لي أن ما احتج به كل واحد من
الفريقين لا يقل عن درجة الحسن لغيره فيجب الترجيح بينهما ، وقد رأيت الشوكاني رجح
عدم الوجوب بموافقته للبراءة الأصلية ، والذي يظهر بمقتضى الصناعة الأصولية ترجيح
أدلة الوجوب على أدلة عدم الوجوب ، وذلك من ثلاثة أوجه : الأول أن أكثر أهل الأصول
يرجحون الخبر الناقل عن الأصل على الخبر المبقي على البراءة الأصلية . الثاني أن
جماعة من أهل الأصول
رواه الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
2553- (25) وعن ابن عباس ، قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سمع رجلا
يقول : لبيك عن شبرمة . قال : من شبرمة ؟ قال : أخ لي أو قريب لي . قال : أحججت عن
نفسك ؟ قال : لا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/313)
رجحوا الخبر الدال على الوجوب على الخبر الدال على عدمه . ووجه ذلك هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب . الثالث : أنك إن عملت بقول من أوجبها فأديتها على سبيل الوجوب برئت ذمتك بإجماع أهل العلم من المطالبة بها ولو مشيت على إنها غير واجبة فلم تؤدها على سبيل الوجوب بقيت مطالبا بواجب على قول جمع كثير من العلماء ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : دع ما يربيك إلى مالا يربيك . ويقول : فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه . وهذا المرجح راجع في الحقيقة لما قبله - انتهى . واستدل بإطلاق الحديث على صحة حجة من لم يحج نيابة عن غيره . ويأتي الكلام في هذا في شرح حديث ابن عباس الذي يليه ( رواه الترمذي ) إلخ ، وأخرجه أيضا ابن ماجة ، وابن حبان في صحيحه كما في موارد الظمآن (ص239) ، والدارقطني (ج2 : ص282) ، والحاكم (ج1 : 481) وصححه . والبيهقي (ج4 : ص350) ، ونقل المنذري في مختصر السنن (ج3: ص333) تصحيح الترمذي وأقره . وتقدم قول الإمام أحمد : لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا ولا أصح منه .
(17/314)
2553- قوله : ( سمع رجلا ) قال
الحافظ في التلخيص (ص203) : زعم ابن باطيس : أن اسم الملبي نبيشة وهو وهم منه فإنه
اسم الملبي عنه فيما زعم الحسن بن عمارة ، وخالفه الناس فيه فقالوا : إنه شبرمة .
وقد قيل : إن الحسن بن عمارة رجع عن ذلك فحدث به على الصواب موافقا لرواية غيره .
وقد بينه الدارقطني في السنن (ج2 : ص276) . ( لبيك عن شبرمة ) أي نيابة عنه في
الحج والعمرة وشبرمة ، بضم الشين المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة . قيل : هو
صحابي توفي في حياته - صلى الله عليه وسلم - . قال الجزري في أسد الغابة (( شبرمة
)) غير منسوب ، له صحبة توفي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى عطاء
عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يلبي عن شبرمة ، فذكر
الحديث . وقال الحافظ في الإصابة في القسم الأول من حرف الشين المعجمة : (( شبرمة
)) غير منسوب وقع ذكره في حديث صحيح ، فروى أبو داود ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو يعلى
، والدارقطني ، والطبراني من طريق عزرة بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال
: سمع - صلى الله عليه وسلم - رجلا يلبي عن شبرمة فقال : أحججت ؟ قال : لا . قال :
هذه عن نفسك وحج عن شبرمة . وروى الدارقطني من طريق عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن
عباس نحوه ، رواه الدارقطني من طريق أبي الزبير عن جابر ، ومن طريق عطاء عن عائشة
نحوه ( قال : أخ لي ) أي من النسب ( أو قريب لي ) شك من الراوي ( أحججت ) بهمزة
الاستفهام ( عن نفسك ؟ ) أي أولا . وعن ابن حبان (( هل حججت قط ؟ )) ( قال : لا )
أي لم أحج عن نفسي
قال : حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/315)
( قال : حج عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة ) وفى رواية الدراقطني ، وابن حبان ، وابن ماجة : فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة . قال ابن حبان : قوله : اجعل هذه عن نفسك . أمر وجوب . وقوله : ثم حج عن شبرمة أمر إباحة - انتهى . قال السندي : مفاد الحديث أن من عليه حجة الإسلام وأحرم بغيرها لا يجب عليه المضي في الغير بل يجب عليه صرف ذلك الإحرام إلى حجة الإسلام ، لأن جعل تلك الحجة عن نفسه لا يكون إلا كذلك - انتهى . قلت : ظاهر الحديث أنه لا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره سواء كان مستطيعا أو غير مستطيع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل هذا الرجل الذي سمعه يلبي عن شبرمة ، وهو منزل منزلة العموم ، وإلى ذلك ذهب الشافعي . وقال الثوري : أنه يجزئ حج من لم يحج عن نفسه ما لم يتضيق عليه ، واستدل له بقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية للدارقطني : أيها الملبي عن نبيشة ! هذه عن نبيشة ، واحجج عن نفسك ، فكأنه جمع بين هذا وبين حديث الكتاب على من كان مستطيعا ، ولكن رواية الدارقطني هذه قد تفرد بها الحسن بن عمارة وهو متروك الحديث . وقد روى الدارقطني حديث نبيشة موافقا لحديث شبرمة ، وتقدم قول من قال : إن اسم شبرمة نبيشة ، قال المحب الطبري : في الحديث دلالة للشافعي على أنه لا يحج عن الغير من لم يحج عن نفسه ، فإن فعل انقلب إليه ، ووجه الدلالة قوله : (( ثم حج عن شبرمة )) وثم للترتيب فاقتضى ذلك أن يكون حجه عن الغير بعد حجه عن نفسه ، فلغت الإضافة إلى الغير وبقي مجرد الإحرام فانصرف إليه لعدم القائل بالفصل إلا على رواية عن أحمد أنه لا ينعقد عنه ولا عن غيره ويؤيد ما ذكرنا رواية الدارقطنى ، وابن ماجة وغيرهما بلفظ : (( فاجعل هذه عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة )) وهو صريح في إثبات المقصود ، وممن قال : لا يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه ، أحمد ابن حنبل في إحدى الروايتين وهو : قول الأوزاعي ، وإسحاق ، وقال مالك ،
(17/316)
وأبو حنيفة : يجوز أن يحج عن
غيره وعليه فرضه وهو قول الحسن ، وعطاء الثوري ، وبه قال ابن المنذر من الشافعية -
انتهى مختصرا . وقال ابن قدامة : ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره ، فإن
فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام ، وبهذا قال الأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق . وقال
أبو بكر عبد العزيز : يقع الحج باطلا ولا يصح ذلك عنه ولا عن غيره . وقال الحسن ،
وإبراهيم ، وأيوب السختياني ، وجعفر بن محمد ، ومالك ، وأبو حنيفة : يجوز أن يحج
عن غيره من لم يحج عن نفسه ، وحكي عن أحمد مثل ذلك . وقال الثوري : إن كان يقدر
على الحج عن نفسه حج عن نفسه ، وإن لم يقدر على الحج عن نفسه حج عن غيره ، واحتجوا
بأن الحج مما تدخله النيابة فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يسقط فرضه عن نفسه
كالزكاة ، وقال ابن قدامة : ولنا ما روى ابن عباس ، فذكر حديث شبرمة ثم قال :
ويفارق الزكاة فإنه يجوز أن ينوب عن الغير وقد بقى عليه بعضها وها هنا لا يجوز أن
يحج عن الغير من شرع في الحج قبل إتمامه . قال : إذا ثبت هذا فإن عليه رد ما أخذ
من النفقة لأنه لم يقع الحج عنه فأشبه ما لو لم يحج - انتهى . وقال الأمير اليماني
: الحديث دليل على إنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه ، فإذا أحرم عن
غيره فإنه ينعقد إحرامه عن نفسه ، لأنه - صلى الله عليه وسلم -
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/317)
أمره أن يجعله عن نفسه بعد أن لبى عن شبرمة فدل على أنها لم تنعقد النية عن غيره وإلا لأوجب عليه المضي فيه ، وإن الإحرام ينعقد مع الصحة والفساد ، وينعقد مطلقا مجهولا معلقا ، فجاز أن يقع عن غيره ويكون عن نفسه ، وهذا لأن إحرامه عن الغير باطل لأجل النهي و النهي يقتضي الفساد ، وبطلان صفة الإحرام لا يوجب بطلان أصله ، وهذا قول أكثر الأمة أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه مطلقا مستطيعا كان أو لا ، لأن ترك الاستفصال والتفريق في حكاية الأحوال دال على العموم ، ولأن الحج واجب في أول سنة من سني الإمكان ، فإذا أمكنه فعله عن نفسه لم يجز أن يفعله عن غيره ، لأن الأول : فرض . والثاني : نفل . كمن عليه دين وهو مطالب به ، ومعه دراهم بقدره لم يكن له أن يصرفها إلا إلى دينه ، وكذلك كل ما احتاج أن يصرفه إلى واجب عنه فلا يصرفه إلى غيره إلا أن هذا إنما يتم في المستطيع ، ولذا قيل : إنما يؤمر بأن يبدأ بالحج عن نفسه إذا كان واجبا عليه ، وغير المستطيع لم يجب عليه فجاز أن يحج عن غيره ، ولكن العمل بظاهر عموم الحديث أولى - انتهى . قلت : وأعل ابن الهمام من الحنفية الحديث بالإضطراب في الرفع ، والوقف ، والإرسال ، وبعنعنة قتادة ، وهو معروف بالتدليس . قال : ولو سلم فحاصله أمره بأن يبدأ بالحج عن نفسه وهو يحتمل الندب فيحمل عليه بدليل إطلاقه - صلى الله عليه وسلم - قوله للخثعمية : حجى عن أبيك . من غير استخبارها عن حجها لنفسها قبل ذلك وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل مقام عموم الخطاب . قال : وحديث شبرمة يفيد استحباب تقديم حجة نفسه . وبذلك يحصل الجمع ويثبت أولوية تقديم الفرض على النفل مع جوازه - انتهى ملخصا . قال القاري بعد ذكره : لكن بقي فيه أشكال على مقتضى قواعدنا من أن الشخص إذا تلبس بإحرام عن غيره لم يقدر على الانتقال عنه إلى الإحرام عن نفسه للزوم الشرعي بالشروع وعدم تجويز الانقلاب بنفسه فكيف
(17/318)
في إطاعة الأمر سواء قلن : إنه
للوجوب أو الاستحباب فلا مخلص عنه إلا بتضعيف الحديث أو نسخه . لأن حديث الخثعمية
في حجة الوداع ، أو بتخصيص المخاطب بذلك الأمر والله تعالى أعلم - انتهى . قلت :
كل ما أعلو به الحديث وضعفوه به مدفوع كما ستعرف ، وأما حمله على النسخ أو تخصيصه
بالمخاطب بذلك الأمر ففيه أن حديث شبرمة خاص وحديث الخثعمية عام . ولا تعارض بين
العام والخاص ، فيقدم الخاص ويبنى العام عليه ، والتخصيص خلاف الأصل حتى يرد
المخصص صريحا ولا مخصص ها هنا وأما حمل ابن الهمام وغيره من الحنفية حديث شبرمة
على الندب والأولوية والتمسك لذلك بحديث الخثعمية بأن ترك الاستفصال ينزل منزلة
العموم في الأقوال ، ففيه أنه لا تعارض بين الحديثين لما تقدم ، فلا حاجة إلى تكلف
الجمع بينهما ، وقد تعقبه أيضا صاحب فتح الملهم من الحنفية ، وقد ذكرنا كلامه في
شرح حديث الخثعمية فتذكر ، وقال الشنقيطي بعد ذكر حديث شبرمة : فيه دليل على أن
النائب عن غيره في الحج لا بد أن يكون قد حج عن نفسه حجة الإسلام وقاس العلماء
العمرة على الحج في ذلك وهو قياس ظاهر ، وخالف في هذا الاشتراط بعض العلماء كأبي
حنيفة ومن وافقه فقالوا : يصح حج النائب عن غيره وإن لم يحج عن نفسه ، واستدلوا
بظواهر الأحاديث
رواه الشافعي ، وأبو داود ، وابن ماجة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/319)
التي وردت في الحج عن المعضوب والميت فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيها : (( حج عن أبيك ، حج عن أمك )) ونحو ذلك من العبارات ، ولم يسأل أحد منهم هل حج عن نفسه أو لا ؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال . قال الشنقيطي : الأظهر تقديم الحديث الخاص الذي فيه قصة شبرمة ، لأنه لا يتعارض عام وخاص فلا يحج أحد عن أحد حتى يحج عن نفسه حجة الإسلام - انتهى . ( رواه الشافعي ) في الأم (ج2 : ص105) من طريق ابن جريج ، عن عطاء قال : سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقول : لبيك عن فلان ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن كنت حججت فلب عن فلان ، وإلا فاحجج عن نفسك ثم احجج عنه . وهذا كما ترى مرسل . ثم رواه الشافعي من طريق أيوب عن أبى قلابة ، قال : سمع ابن عباس رجل يقول : لبيك عن شبرمة ، فقال ابن عباس : ويحك وما شبرمة ؟ قال : فذكر قرابة له - الحديث . وهذا موقوف . قيل : وأبو قلابة لم يسمع من ابن عباس شيئا . ( وأبو داود ، وابن ماجة ) واللفظ لأبي داود ، روياه من طريق عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا ، وكذا روى من هذا الطريق ابن الجارود (ص178) وإسناد هذا الحديث عند أبى داود ، وابن ماجة ، وابن الجارود رجاله كلهم ثقات معروفون إلا عزرة الذي رواه عنه قتادة ، وقتادة روى عن ثلاثة كلهم اسمه عزرة ، وعزرة المذكور في إسناد هذا الحديث عند أبي داود ، وابن ماجة ذاكره غير منسوب ، وكذا ذكره الدارقطني ، وابن حبان ، والبيهقي . وجزم البيهقي بأن عزرة بن يحيى ، وعزرة بن يحيى لم يذكره البخاري في التاريخ ، ولا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ، ولم يخصه الحافظ في تهذيب التهذيب بترجمة ، ولم يذكره الذهبي في الميزان ، وقد ذكره الحافظ في التقريب فقال : عزرة بن يحيى عن سعيد بن جبير في قصة شبرمة ، وعنه قتادة أيضا ، نسبه البيهقي . وبذلك جزم أبو
(17/320)
علي النيسابوري وهو مقبول -
انتهى . وروى البيهقي من طريق عبدة بن سليمان الكلابي عن سعيد بن أبي عروبة عن
قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم
قال : هذا إسناد صحيح ، وليس في هذا الباب أصح منه ، وروي موقوفا ، رواه غندر عن
سعيد بن أبي عروبة كذلك ، وعبدة نفسه محتج به في الصحيحين ، وقد تابعه على رفعه
أبو يوسف القاضي ، ومحمد بن عبد الله الأنصاري ، ومحمد بن بشر عن سعيد بن أبى
عروبة . ساق الدارقطنى بإسناده رواياتهم . قال البيهقي : من رواه مرفوعا حافظ ثقة
فلا يضره خلاف من خالفه ، يعني لأن من رفعه حفظ ما لم يحفظ من وقفه ، ومن حفظ حجة
على من لم يحفظ . قال : وعزرة هذا هو : عزرة بن يحيى ، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ
قال : سمعت أبا علي الحافظ يقول ذلك . وقد روى قتادة أيضا عن عزرة بن تميم وعن
عزرة بن عبد الرحمن ثم ساق البيهقي روايات أخر عن ابن عباس تؤيد الحديث المذكور .
وذكره الحافظ في التلخيص وقال بعد ذكر كلام البيهقي في تصحيحه : وكذا رجح عبد الحق
وابن القطان رفعه . وأما الطحاوي فقال : الصحيح أنه موقوف . وقال أحمد بن حنبل :
رفعه خطأ . وقال ابن
2554- (26) وعنه ، قال : وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المشرق العقيق
.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/321)
المنذر : لا يثبت رفعه ، وقال الدارقطني : المرسل أصح ، قال الحافظ : هو كما قال لكنه يقوي المرفوع لأنه من غير رجاله ، ثم قال : فيجتمع من هذا صحة الحديث . وقال ابن تيمية : إن أحمد حكم في رواية ابنه صالح عنه إنه مرفوع . فيكون قد اطلع على ثقة من رفعه . قال : وقد رفعه جماعة على إنه وإن كان موقوفا فليس لابن عباس فيه مخالف - انتهى . وقال النووي في شرح المهذب : وأما حديث ابن عباس في قصة شبرمة فرواه أبو داود ، والدارقطني ، والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة ، ثم ذكر لفظ أبي داود ثم قال : وإسناده على شرط مسلم . والظاهر أن النووي يظن أن عزرة المذكور في إسناده هو ابن عبد الرحمن ، وذلك من رجال مسلم خلافا لما جزم به البيهقي ، ثم قال النووي : ورواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس ، ثم ذكر بعض ما ذكرنا سابقا من تصحيح البيهقي للحديث ، وأن رفعه أصح من وقفه ، قلت : ويظهر من كلام الحافظ في التلخيص أن عزرة المذكور في إسناد حديث شبرمة هو ابن عبد الرحمن ، فقد قال : وأعل الحديث ابن الجوزي بعزرة فقال : قال يحيى بن معين : عزرة لا شيء ووهم في ذلك ، إنما قال ذلك في عزرة بن قيس ، وأما هذا فهو ابن عبد الرحمن ويقال فيه : ابن يحيى ، وثقه يحيى بن معين ، وعلي بن المديني وغيرهما ، وروى له مسلم - انتهى . وبذلك جزم صاحب الجوهر النقي حيث قال بعد ذكر كلام البيهقي في نسب عزرة : قلت : عزرة الذي روى عن سعيد بن جبير ، وروى عن قتادة هو : عزرة بن عبد الرحمن الخزاعي ، كذا ذكر البخاري في تاريخه ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وصاحب الكمال ، والمزي ، وليس في كتاب أبى داود أحد يقال له : عزرة بن يحيى ، بل ولا في بقية الكتب الستة . وترجم المنذري في أطرافه لهذا الحديث فقال : عزرة بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وفى تقييد المهمل للغسانى : وروى مسلم عن قتادة عن عزرة ، وهو : عزرة بن عبد الرحمن الخزاعي عن سعيد بن جبير في
(17/322)
كتاب اللباس - انتهى . وأما
إعلال الحديث بأن قتادة لم يصرح بسماعه من عزرة وهو إمام في التدليس فقد أجيب عنه
بأن الحديث قد صححه ابن حبان ، وهذا يدل على أن هذا الحديث عنده مما سمعه قتادة من
شيخه عزرة ، وإن لم يذكر سماعه فيه فقد قال في مقدمة صحيحه (ج1 : ص123) : فإذا صح
عندي خبر من رواية مدلس أنه بين السماع فيه ، لا أبالي أن أذكره من غير بيان
السماع في خبره بعد صحته عندي من طريق آخر- انتهى . على أن قتادة قد وافقه في رفع
الحديث عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس عند الدارقطني وغيره وله شاهد من حديث
عائشة عند الدارقطني أيضا وأبي يعلى ، وفى سنده ابن أبي ليلى ، وفيه كلام ومن حديث
جابر عند الدارقطني ، والطبراني ، وفيه ثمامة بن عبيدة وهو ضعيف . فتحصل من هذا
كله أن الحديث حسن أو صحيح صالح للاحتجاج . والله تعالى أعلم .
2554- قوله ( وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المشرق العقيق ) قال
الطبرانى : العقيق موضع قريب من ذات عرق قبلها بمرحلة أو مرحلتين . وفى بلاد العرب
مواضع كثيرة تسمى العقيق ( منها وادي العقيق الذي بقرب المدينة الذي
رواه الترمذي ، وأبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/323)
ورد فيه الحديث عن ابن عمر رضى الله عنهما قال : (( سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول : أتاني الليلة آت من ربي ، فقال : صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة )) فإن هذا بينه وبين المدينة أربعة أميال تقريبا ) وكل موضع شقه ماء السيل فوسعه فهو عقيق ، والجمع أعقة وعقائق - انتهى . وقال الأزهري في تهذيب اللغة : يقال لكل مسيل ماء شقه السيل فأنهره ووسعه عقيق ، قال : وفى بلاد العرب أربعة أعقة وهي أودية عادية . منها عقيق يدفق ماءه في غور تهامة وهو الذي ذكره الشافعي فقال : لو أهلوا من العقيق كان أحب إلي ، وهذا غير العقيق الذي هو بقرب المدينة على عدة أميال ، والذي جاء ذكره في حديث ابن عمر المتقدم . وقال القاري : العقيق موضع بحذاء ذات العرق مما وراءه . وقيل : داخل في حد ذات العرق ، وأصله : كل مسيل شقه السيل فوسعه من العق وهو القطع والشق . والمراد بأهل المشرق من منزله خارج الحرم من شرقي مكة إلى أقصى بلاد الشرق وهم العراقيون والمعنى : حد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعين لإحرام أهل المشرق العقيق . ( رواه الترمذي ، وأبو داود ) من طريق وكيع عن سفيان عن يزيد بن أبى زياد عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص344) بهذا الإسناد وقد رواه أبو داود عن أحمد بالإسناد المذكور ، ورواه والبيهقي في السنن الكبرى (ج5 : ص28)
(17/324)
من طريق أبي داود . وقال
الترمذي : هذا حديث حسن ، وتعقبه المنذري فقال : في إسناده يزيد بن أبى زياد وهو
ضعيف ، وذكر البيهقي أنه تفرد به - انتهى . وقال الزيلعي (ج3 : ص14) بعد نقل كلام
البيهقي المذكور عن معرفة السنن : قال ابن القطان : هذا حديث أخاف أن يكون منقطعا
، فإن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس إنما عهد أن يروي عن أبيه عن جده ابن عباس
، كما جاء في (( صحيح مسلم )) في صلاته عليه الصلاة والسلام من الليل ، وقال مسلم
في (( كتاب التميز )) : لا نعلم له سماعا من جده ، ولا أنه لقيه ، ولم يذكر
البخاري ، ولا ابن أبي حاتم أنه يروي عن جده وذكر أنه يروي عن أبيه - انتهى . وقال
الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج5 : ص73) : إسناده صحيح ، ثم ذكر تخريجه وقال بعد
نقل كلام المنذري ، والبيهقي ، وابن القطان عن نصب الراية : أما يزيد بن أبي زياد
فثقة عندنا كما بينا في (662) وأما محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فقد سبقت
روايته عن أبيه عن جده (2002) وذكر في التهذيب أنه : (( روى عن جده يقال مرسل ))
ولكن الظاهر عندي أنه أدرك جده عبد الله بن عباس وسمع منه ، فإنه من طبقة تدرك ذلك
، إذ أن من الرواة عنه هشام بن عروة وهو قديم ، أدرك ابن عباس صغيرا فإنه ولد سنة
(61) أي كانت سنه عند وفاة ابن عباس فوق السابعة يقينا ، فشيخه لو كان أقدم منه
ببضع سنين لما بعد أن يسمع من جده وهو من أهله بل أكثر من هذا أن من الرواة عنه
أيضا ، أعني عن محمد بن علي ، حبيب بن أبي ثابت ، وهو أقدم من هشام ابن عروة ، وسمع
من ابن عمر ، وابن عباس ، فأن يكون شيخه سمع من ابن عباس أولى ، وقد ترجمه البخاري
في الكبير
2555- (27) وعن عائشة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات
عرق . رواه أبو داود ، والنسائي .
2556- (28) وعن أم سلمة ، قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من
أهل بحجة أو عمرة من
(17/325)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/1/183) فذكر أنه روى عن أبيه ، وهذا لا ينفي أنه روى عن جده أيضا ، ولعله لم
يسمع من جده إلا قليلا ، فكانت أكثر روايته عن أبيه عن جده ، وإن لم يمتنع أن يروي
عن جده أيضا - انتهى .
2555- قوله : ( وقت لأهل العراق ذات عرق ) تقدم ضبطها وهي موضع من شرقي مكة بينهما
مرحلتان يوازي قرن نجد وهي والعقيق متقاربان لكن العقيق قبيل ذات عرق ، قال ابن
الملك : كأنه - صلى الله عليه وسلم - عين لأهل المشرق ميقاتين : العقيق ، وذات عرق
، فمن أحرم من العقيق قبل أن يصل إلى ذات عرق فهو أفضل ، ومن جاوزه فأحرم من ذات
عرق جاز ولا شيء عليه - انتهى . وقال الشافعي : ينبغي أن يحرم من العقيق احتياطا
وجمعا بين الحديثين . قلت : قد تقدم في شرح حديث جابر في المواقيت السابق في الفصل
الأول الجمع بين حديثي ابن عباس ، وعائشة بوجوه فتذكر . وقال الطبري : واستحب
الشافعي الإحرام من العقيق لأهل العراق لما وقع من الالتباس في ذات عرق ، فإنه قد
قيل : إن ذات عرق خربت وخول بناءها إلى صوب مكة ، فعلى الآتي من العراق أن يتحراها
ويطلب آثارها ، وذكر الشافعي أن من علامتها المقابر القديمة ( رواه أبو داود ،
والنسائي ) وأخرجه أيضا أحمد ، والطحاوي ، والدارقطني (ص262) ، والبيهقي (ج5 :
ص28) كلهم من طريق المعافى بن عمران عن أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة . وزاد
النسائي ، والدارقطني ، والبيهقي بقية المواقيت . ورواه ابن عدي في الكامل ، ثم
أسند عن أحمد بن حنبل أنه كان ينكر على أفلح بن حميد هذا الحديث يعني ذكره في هذا
الحديث لذات عرق ، وقال الحافظ في التلخيص (ج1: ص 205) : تفرد به المعافى بن عمران
عن أفلح . والمعافى ثقة - انتهى . قلت : أفلح بن حميد ثقة ، وزيادة العدل مقبولة ،
ولا يضره انفراد المعافى أيضا لأنه ثقة ، وكم من حديث صحيح غريب انفرد به ثقة عن
ثقة كما هو معلوم في الأصول وعلم
(17/326)
الحديث . وقال الذهبي في ترجمة
أفلح بن حميد المذكور : وثقة ابن معين ، وأبو حاتم ، وقال ابن صاعد : كان أحمد
ينكر على أفلح بن حميد وقوله : (( ولأهل العراق ذات عرق )) وقال ابن عدي في الكامل
: وهو عندي صالح وهذا الحديث ينفرد به المعافى بن عمران عن أفلح عن القاسم عن
عائشة ، قلت : هو صحيح غريب -انتهى كلام الذهبي . وتراه صرح بأن هذا الحديث صحيح
غريب مع أن هذا الحديث في توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات عرق لأهل العراق
أصله عند مسلم من حديث جابر ، إلا أن راويه شك في رفعه كما بينا ، لكن له شواهد
متعددة كما سبق بيانها في شرح حديث جابر المذكور في الفصل الأول .
2556- قوله : ( من أهل ) وفى رواية لأحمد والدراقطني (( من أحرم )) ( بحجة أو عمرة
) أو للتنويع ( من
المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، أو وجبت له
الجنة . رواه أبو داود ، وابن ماجة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/327)
المسجد الأقصى قيل : إنما خص المسجد الأقصى لفضله ، وفى رواية ابن ماجة : (( من بيت المقدس )) وكذا وقع في رواية لأحمد والدارقطني : ( غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) أي من الصغائر ويرجى الكبائر ( أو وجبت ) أي ثبتت ( له الجنة ) أي ابتداء ، و (( أو )) للشك من الراوي ، ورواه الدارقطني بلفظ : (( غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ووجبت له الجنة )) من غير شك . وفيه : إشارة إلى أن موضع الإحرام متى كان أبعد كان الثواب أكثر ، قال الطبري : قد استدل بهذا الحديث من ذهب إلى فضيلة تقديم الإحرام عن الميقات ، ويحتمل أن تكون هذه الخصيصة ثبتت لبيت المقدس دون غيره ، ولو كان لأجل البعد عن مكة لكان غيره مما هو بعد أولى بالذكر . وقال الخطابي : فيه جواز تقديم الإحرام على الميقات من المكان البعيد مع الترغيب فيه ، وقد فعله غير واحد من الصحابة ، وكره ذلك جماعة ، أنكر عمر بن الخطاب على عمران بن الحصين إحرامه من البصرة ، وكرهه الحسن البصري ، وعطاء بن أبى رباح ، ومالك بن أنس ، وقال أحمد بن حنبل : وجه العمل المواقيت ، وكذلك قال إسحاق . قلت : يشبه أن يكون عمر إنما كره ذلك شفقا أن يعرض للمحرم إذا بعدت مسافته آفة تفسد إحرامه ورأى أن ذلك في قصير المسافة أسلم - انتهى . قلت : الأظهر أن عمر رأى أن ذلك باب في تعدي هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومخالفة عن أمره فيجر إلى فتنة ، وقد ذكر أبو شامة في كتاب البدع والحوادث أن مالكا سئل عمن يحرم قبل الميقات فقال : يظن أنه أهدى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد تقدم بسط الكلام في ذلك في شرح حديث جابر في المواقيت في الفصل الأول فتذكر . ( رواه أبو داود ، وابن ماجة ) واللفظ لأبي داود ولفظ ابن ماجة في رواية : (( من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له )) وفى أخرى : (( من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب )) والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج6 : ص299) وابن
(17/328)
حبان بلفظ : (( غفر له ما تقدم
من ذنبه )) فقط . ورواه البيهقي (ج5 : ص30) بلفظ أبي داود . قال المنذري : قد
اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافا كثيرا . وقال النووي : إسناده ليس بالقوي ،
وقال ابن القيم : هذا الحديث قال غير واحد من الحفاظ : إسناده ليس بالقوي ، وقال
السعاتي في شرح المسند (ج11 : ص112) بعد نقل كلام النووي : إسناده عند الإمام أحمد
لا بأس به - انتهى . وأراد بذلك ما رواه أحمد من طريق ابن إسحاق حدثني سليمان بن
سحيم مولى آل جبير عن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي عن أمه أم حكيم بنت أمية بن
الأخنس السلمية عن أم سلمة ، ومن هذا الطريق أخرجه ابن حبان في صحيحه ، والدارقطني
(ص282) ، ويحيى بن أبي سفيان ، ذكره الحافظ في تهذيب التهذيب فقال : يحيى بن أبي
سفيان بن الأخنس الأخنسي المدني روى عن جدته ، وقيل : عن أمه ، وقيل : خالته أم
حكيم حكيمة بنت أمية بن الأخنس عن أم سلمة في الإحرام من بيت المقدس ، وروى عنه
عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس ومحمد بن إسحاق بن يسار ، وقيل بينهما
( الفصل الثالث )
2557- (29) عن ابن عباس ، قال : كان أهل اليمن يحجون فلا يتزودون ، ويقولون : نحن
المتوكلون . فإذا قدموا مكة سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى : ? وتزودوا فإن خير
الزاد التقوى ? .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سليمان بن سحيم . قال ابن أبى حاتم عن أبيه : شيخ من شيوخ المدينة ، ليس بالمشهور
، وذكره ابن حبان في الثقات - انتهى . وقال في التقريب في ترجمته : (( مستور )) .
وقال في ترجمة أم حكيم حكيمة : (( إنها مقبولة )) .
(17/329)
2557- قوله : ( يحجون فلا يتزودون ) قال الطيبي : كان الظاهر أن يقال : (( ولا يتزودون )) على الحال فجيء بالفاء لإرادة يقصدون الحج . قلت : كذا في جميع نسخ المشكاة بالفاء ، ووقع في صحيح البخاري وسنن أبى داود وغيرهما (( ولا يتزودون )) أي بالواو ، وهكذا ذكره ابن كثير وغيره ، فالظاهر أن ما وقع في المشكاة من تصرف الناسخ ، وزاد ابن أبى حاتم من وجه آخر عن ابن عباس (( يقولون نحج بيت الله أفلا يطعمنا )) ؟ ( فإذا قدموا مكة سألوا الناس ) أي أهل مكة أو أعم منهم ، الزاد حيث فرغت أزودتهم ، أو سألوا في مكة كما سألوا في الطريق فأنزل الله تعالى : ? وتزودوا ? أي خذوا زادكم من الطعام واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم ? فإن خير الزاد التقوى ? أي من السؤال . قال الشوكاني : هو من إخبار بأن خير الزاد اتقاء المنهيات فكأنه قال : اتقوا الله في إتيان ما أمركم به من الخروج بالزاد فإن خير الزاد التقوى ، وقيل المعنى : فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة والحاجة إلى السؤال والتكفف - انتهى .
(17/330)
وقيل معنى الآية : وتزودوا
لمعادكم التقوى ( أي الأعمال الصالحة التي هي كالزاد إلى سفر الآخرة ) فإنه خير
زاد ، فمفعول تزودوا محذوف بقرينة خبر إن وهو التقوى بالمعنى الشرعي ، وما يدل
عليه سبب نزول الآية أرجح وأقوى ، وعلى هذا يكون الزاد بمعناه الحقيقي الحسي ،
والتقوى بالمعنى اللغوي ، أي الإتقاء والكف عن السؤال وإبرام الناس . وقال ابن
كثير : لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة وهو استصحاب
التقوى إليها كما قال : ? وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك ? (7 : 26) لما ذكر
اللباس الحسي نبه مرشدا على اللباس المعنوي وهو الخشوع والطاعة والتقوى وذكر أنه
خير من هذا أنفع - انتهى . قال المهلب : في هذا الحديث من الفقه أن ترك السؤال من
التقوى ويؤيده أن الله مدح من لم يسأل الناس إلحافا ، فإن قوله : ? فإن خير الزاد
التقوى ? أي تزودوا واتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم والإثم في ذلك ، قال : وفيه أن
التوكل لا يكون مع السؤال ، وإنما التوكل المحمود أن لا يستعين بأحد في شيء ، وقيل
: هو قطع النظر عن الأسباب بعد تهيئة الأسباب كما قال عليه السلام : اعقلها وتوكل
- انتهى . وقال القسطلاني : ليس في الحديث ذم التوكل لأن ما فعلوه تآكل لا توكل ،
لأن التوكل قطع النظر عن الأسباب مع تهيئتها لا ترك الأسباب بالكلية ، فدفع الضرر
المتوقع أو الواقع لا ينافي التوكل ، بل هو واجب كالهرب من الجدار الهاوي إساغة
اللقمة بالماء .
رواه البخاري .
2558- (30) وعن عائشة ، قالت : قلت : يا رسول الله ! على النساء جهاد ؟ قال : نعم
عليهن جهاد لا قتال فيه ، الحج والعمرة . رواه ابن ماجة .
2559- (31) وعن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : من لم
يمنعه من الحج حاجة ظاهرة ، أو سلطان جائر ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/331)
( رواه البخاري ) في الحج ،
وأخرجه أيضا أبو داود في الحج والنسائي في السير ، والتفسير من السنن الكبرى ،
والبيهقي (ج4 : ص332) ، وابن حبان في صحيحه وعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم وغيرهم .
2558- قوله : ( على النساء جهاد ) بحذف الاستفهام ، وفي المسند (( أعلى النساء
جهاد )) ؟ أي بذكر همزة الاستفهام ورواه ابن خزيمة في صحيحه بلفظ : هل على النساء
من جهاد ( عليهن جهاد لا قتال فيه ) بل فيه اجتهاد ومشقة سفر وتحمل زاد ومفارقة
أهل وبلاد كما في الجهاد ( الحج والعمرة ) بدل من جهاد أو خبر مبتدأ محذوف ويجوز
نصبهما بتقدير أعني قال السندى : أي فإن الحج والعمرة يشبهان الجهاد في السفر
والخروج من البلاد والتعب ، أما مقاتلة الأعداء فلا تقوى عليها المرأة ، وقال
الأمير اليماني : قوله : (( على النساء جهاد )) هو إخبار يراد به الاستفهام ،
وقوله : (( لا قتال فيه )) إيضاح للمراد ، وبذكره خرج عن كونه استعارة ، والجواب
من الأسلوب الحكيم . وقوله : (( الحج والعمرة )) كأنها قالت ما هو ؟ فقال : الحج
والعمرة ، أطلق عليهما لفظ الجهاد مجازا ، شبههما بالجهاد وأطلقه عليهما بجامع
المشقة . والحديث فيه دليل على أن الجهاد ليس بواجب على النساء ، وسيأتي إن شاء
الله تعالى الكلام على ذلك . وفيه إشارة إلى وجوب العمرة وقد تقدم البحث عن ذلك .
( رواه ابن ماجة ) الحديث ذكره الحافظ في بلوغ المرام بلفظ المشكاة وقال : رواه
أحمد ، وابن ماجة واللفظ له . ( أي لابن ماجة . ولفظ أحمد : (( قالت : يا رسول
الله أعلى النساء جهاد ؟ قال : الحج والعمرة هو جهاد النساء )) . ) وإسناده صحيح ،
وأصله في الصحيح . قال الأمير اليماني : أي في صحيح البخاري ، وأراد بذلك ما أخرجه
البخاري من حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : يا رسول الله :
نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ قال : لا ، لكن أفضل الجهاد ، حج مبرور .
وأفاد تقييد إطلاق رواية
(17/332)
أحمد وابن ماجة للحج ، وأفاد
أن الحج والعمرة تقوم مقام الجهاد في حق النساء ، وأفاد أيضا بظاهره أن العمرة
واجبة إلا أنه ورد ما يخالفه - انتهى .
والحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة كما في الترغيب للمنذري .
2559- قوله : ( حاجة ظاهرة ) أي فقد زاد وراحلة ، فإن الاستطاعة شرط الوجوب بلا
خلاف ، قاله القاري . ( أو سلطان جائر ) أي ظالم ، وفيه إشارة إلى أن منعه بطريق
الجور والعنف فلا عبرة بمنعه على سبيل المحبة واللطف ،
أو مرض حابس ، فمات ولم يحج ، فليمت إن شاء يهوديا ، وإن شاء نصرانيا . رواه
الدارمي .
2560- (32) وعن أبى هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الحاج
والعمار وفد الله ، إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/333)
وأيضا من الموانع للوجوب إذا كان في الطريق سلطان جائر بالقتل وأخذ الأموال فالسلامة منهما من شروط الأداء الأصح نعم إذا كان الأمن غالبا فيجب على الصحيح . قاله القاري . ( أو مرض حابس ) أي مانع من السفر لشدته ، فسلامة البدن من الأمراض والعلل شرط الوجوب فحسب . وقيل : شرط الأداء . فعلى الأول لا يجب الحج ولا الإحجاج ، ولا الإيصاء به على الأعمى ، والمقعد ، والمفلوج ، والزمن ، والمقطوع الرجلين ، والمريض ، والشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة ( فمات ولم يحج ، فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ) حيث ترك العمل بالكتاب مع إيمانه به وتلاوته وعمله بمواضع الخطاب . ( رواه الدارمي ) (ص225) وأخرجه أيضا سعيد بن منصور في السنن وأحمد ، وأبو يعلى ، والبيهقي ( ج4 : ص334) كلهم من طريق شريك عن ليث بن أبى سليم عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة ، وهذا إسناد ضعيف . (( ليث )) قال في التقريب عنه : صدوق اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه فترك ، وشريك سيء الحفظ ، وقد خالفه سفيان الثوري فأرسله ، رواه أحمد في كتاب الإيمان له عن وكيع عن سفيان عن ليث ابن سابط قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة فذكره مرسلا ، وكذا ذكره ابن شيبة عن أبي الأحوص عن ليث مرسلا ، وأورده أبو يعلى من طريق أخرى عن شريك مخالفة للإسناد الأول وراويها عن شريك عمار بن مطر ضعيف ذكره الحافظ في التلخيص (ص202) وللحديث شاهدان ضعيفان من حديث علي وهو ثاني أحاديث الفصل الثاني ، ومن حديث أبى هريرة ، وقد تقدم تخريجه هناك مع الكلام عليه ، وله شاهد صحيح من قول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ، رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقد ذكرنا لفظه في شرح حديث علي ، وقد ذكرنا أيضا أن مجموع تلك الروايات لا يقصر عن كون الحديث حسنا لغيره ، وهو محتج به عند الجمهور .
(17/334)
2560- قوله ( الحاج ) أي
الفريق الحاج ، والمراد به الجنس . قال الطيبي : الحاج واحد الحجاج ، وهو من إطلاق
المفرد على الجمع باعتبار المعنى للجنس مجاز معروف ( والعمار ) بضم العين وتشديد
الميم جمع العامر بمعنى المعتمر ، قال الزمخشري : لم يجئ فيما أعلم عمر بمعنى
اعتمر لكن عمر الله إذا عبده فيحتمل أن يكون العمار جمع عامر من عمر بمعنى اعتمر
وإن لم نسمعه ولعل غيرنا سمعه وأن يكون مما استعمل منه في بعض التصاريف دون بعض
كما قيل : يذر ويدع ( وفد الله ) الإضافة للتشريف والمراد وفد حرمه أي كجماعة
قادمون عليه ونازلون لديه ومقربون إليه . قال الزمخشري : الوفد الذين يقصدون الأمراء
لزيارة واسترفاد وانتجاع وغير ذلك أي إنهم بسفرهم قاصدون التقرب إلى الله تعالى (
إن دعوه أجابهم ، وإن استغفروه غفر لهم ) وهذا في حج مبرور وعمرة كذلك كما لا يخفى
، قال ابن حجر وجه إفراد الحاج
رواه ابن ماجة .
2561- (33) وعنه ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : وفد الله
ثلاثة : الغازى ، والحاج ، والمعتمر . رواه النسائي ، والبيهقي في شعب الإيمان .
2562- (34) وعن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا لقيت
الحاج فسلم عليه وصافحه ، ومره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/335)
وجمع ما بعده الإشارة إلى تميز الحج بأن المتلبس به وإن كان وحده يصلح لأن يكون قائما مقام الوفد الكثيرين بخلاف العمرة فإنها لتراخي مرتبتها عن الحج لا يكون المتلبس بها وحده قائما مقام أولئك - انتهى . قلت : قوله : (( الحاج )) كذا في جميع نسخ المشكاة بلفظ المفرد وهكذا وقع عند البيهقي في السنن (ج5 : ص262) ، والذي في سنن ابن ماجة : (( الحجاج )) أي بلفظ الجمع وكذا ذكره المنذري في الترغيب ، وهكذا وقع في حديث جابر عند البزاز ، وحديث أنس عند البيهقي في الشعب ، وحديث ابن عمر عند تمام الرازى . ( رواه ابن ماجة ) وكذا البيهقي ، وفي إسنادهما صالح بن عبد الله بن صالح مولى بني عامر ، قال فيه البخاري : (( منكر الحديث )) . وقال الحافظ في التقريب : مجهول .
(17/336)
2561- قوله : ( وفد الله ثلاثة
) أي ثلاثة أشخاص أو أجناس ( الغازي ) في سبيل الله ( والحاج والمعتمر ) المتميزون
عن سائر المسلمين بتحمل المشاق البدنية والمالية ومفارقة الأهلين . قال السندى :
في القاموس : (( وفد إليه وعليه يفد وفدا ورد )) وفي الصحاح : وفد فلان على الأمير
أي ورد رسولا فهو وافد والجمع وفد مثل صاحب وصحب فالمعنى السائرون إلى الله لقادمون
عليه من المسافرين ثلاثة أصناف ، فتخصيص هؤلاء من بين العابدين لاختصاص السفر بهم
عادة ، والحديث إما بعد انقطاع الهجرة أو قبلها لكن ترك ذكرها لعدم دوامها ،
والسفر للعلم لا يطول غالبا فلم يذكر ، والسفر على المساجد الثلاثة المذكورة في
حديث (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )) ليس بمثابة السفر إلى الحج ونحوه
فترك ، ويحتمل أن لا يراد بالعدد الحصر . والله تعالى أعلم . ( رواه النسائي ) في
فضل الحج ( والبيهقي في شعب الإيمان ) ، وكذا في السنن الكبرى (ج5 : ص262) ،
وأخرجه أيضا ابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحيهما ، وقدم ابن حبان الحاج والمعتمر
كما في موارد الظمآن (ص240) وفي الباب عن ابن عمر أخرجه ابن ماجة ، وابن حبان في
صحيحه ، وعن جابر أخرجه البزار برجال ثقات ، وقال البوصيري : رواه إسحاق ، والبزار
بسند فيه : محمد بن أبى حميد وهو ضعيف - انتهى . وعن أنس أخرجه البيهقي بسند ضعيف
.
2562- قوله : ( إذا لقيت الحاج ) أي بعد تمام حجه ، وكذا عند قدومه من حجه ، وفي
معناه المعتمر ( فسلم عليه ) أي مبادرة إليه ( وصافحه ) أي ضع يدك اليمنى في يده
اليمنى تواضعا إليه ( ومره ) أمر من أمر أي اسأله التمس منه
أن يستغفر لك قبل أن يدخل بيته ، فإنه مغفور له . رواه أحمد .
2563- (35) وعن أبى هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من خرج
حاجا أو معتمرا أو غازيا ثم مات في طريقه ، كتب الله له أجر الغازي والحاج
والمعتمر . رواه البيهقي في شعب الإيمان .
(17/337)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( أن يستغفر لك ) أي يطلب لك المغفرة من الله ، وقيل : يقول : استغفر الله لي ولك
، وفيه مبالغة عظيمة في حقه حيث ترجى مغفرة غيره باستغفار ( قبل أن يدخل بيته ) أي
محل سكنه ، فإنه إذا دخل قد يخلط ويلهو ويتلوث بموجبات غفلته ( فإنه ) أي الحاج (
مغفور له ) الصغائر والكبائر إلا التبعات إذا كان حجه مبرورا كما قيده في عدة
أخبار ، ومن دعا له مغفور له غفر له ، فإن دعاء المغفور له مقبول ، قال المناوى :
فتلقي الحاج والسلام عليه ومصافحته وطلب الدعاء منه مندوب . وظاهر الحديث أن طلب
الاستغفار منه موقت بما قبل الدخول ، فإن دخل فات . قال : لكن الحديث محمول على
الأولوية ، فالأولى طلب ذلك منه قبل دخوله فلعله يخلط ويلهو . ( رواه أحمد ) (ج2 :
ص69 ، 128) بسند ضعيف ، ورمز السيوطى في الجامع الصغير لحسنه ، وليس كما قال . ففي
سنده محمد بن عبد الرحمن بن البيلمانى وهو ضعيف وقد اتهمه ابن عدى ، وابن حبان ،
وممن جزم بضعفه الحافظ الهيثمي حيث قال (ج4 : ص16) بعد ذكره : رواه أحمد وفيه :
محمد بن البيلمانى . وهو : ضعيف .
(17/338)
2563- قوله ( من خرج حاجا أو
معتمرا أو غازيا ) أي قاصدا للغزو في سبيل الله ( ثم مات في طريقه ) أي قبل العمل
( كتب الله له أجر الغازي والحاج والمعتمر ) لقوله تعالى : ? ومن يخرج من بيته
مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ? (4 : 100) قيل :
فمن قال : إن من وجب عليه الحج وأخره ثم قصد بعد زمان فمات في الطريق كان عاصيا
فقد خالف هذا النص . ذكره الطيبي . قال القاري : وفيه : بحث إذ ليس نص في الحديث
على مطلوبه ، فإنه مطلق فيحمل على ما إذا خرج حاجا في أول ما وجب عليه وخرج أهل
بلده للحج أو على ما إذا تأخر لحدوث عارض من مرض أو حبس أو عدم أمن في الطريق ثم
خرج فمات فإنه يموت مطيعا ، وأما إذا تأخر من غير عذر حتى فاته الحج فإنه يكون
عاصيا بلا خلاف عندنا على اختلاف في أن وجوب الحج على الفور أو التراخي ، والصحيح
هو الأول ، ومع هذا يمكن أن نقول له أجر الحاج في الجملة ، فإن الله لا يضيع أجر
من أحسن عملا - انتهى . ( رواه البيهقي في شعب الإيمان ) ويؤيده ما روي عن أبى
هريرة أيضا مرفوعا بلفظ : (( من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ،
ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازيا فمات كتب
له أجر الغازي إلى يوم القيامة . ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 : ص 208 ، 209)
وقال : رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه جميل بن أبى ميمونة ، وقد ذكره ابن أبى
حاتم ، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ، وذكره ابن حبان في الثقات - انتهى .
(1) باب الإحرام والتلبية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/339)
وحديث أبى هريرة هذا ذكره
المنذري في الترغيب (ج2 : ص60) وقال : رواه أبو يعلى من رواية محمد بن إسحاق ،
وبقية رواته ثقات ، ونسبه الحافظ أيضا في المطالب العالية (ج1 : ص326) لأبي يعلى
وسكت عليه . وقال البوصيري : رواه أبو يعلى بسند ضعيف لتدليس محمد بن إسحاق .
( باب الإحرام والتلبية ) قال القاري : حقيقة الإحرام الدخول في الحرمة والمراد
الدخول في حرمات مخصوصة أي التزامها ، والتزامها شرط الحج شرعا ، غير أنه لا يتحقق
ثبوته إلا بالنية والتلبية أو ما يقوم مقامها ، فعطف التلبية على الإحرام من باب
عطف الخاص على العام ، أو مبني على القواعد الشافعية من أن الإحرام هو النية فقط ،
أو المراد بالتلبية غير المقرونة بالنية منب يان ألفاظها وأحوالها وفضائلها -
انتهى . وقال في غنية الناسك (ص32 ، 33) : الإحرام لغة الدخول في حرمة لا تنتهك من
الذمة وغيرها ، وشرعا الدخول في حرمات مخصوصة أي التزامها غير أن التزامها لا
يتحقق شرعا إلا بالنية مع الذكر أو الخصوصية - فتح - قال في النهر : فهما شرطان في
تحققه لا جزآن لماهيته كما توهمه في البحر ، حيث عرفه بنية النسك من الحج أو
العمرة مع الذكر أو الخصوصية - انتهى . والمراد بالذكر التلبية ونحوها ،
وبالخصوصية ما يقوم مقامها من تقليد البدنة مع السوق ، فلو نوى ولم يلب أو لب ولم
ينو لا يصير محرما ، وهل يصير محرما بالنية والتلبية أو بأحدهما بشرط الآخر ؟
المعتمد ما ذكره الحسام الشهيد أنه بالنية لكن عند التلبية كما يصير شارعا في
الصلاة بالنية لكن بشرط التكبير لا بالتكبير ، وعن أبى يوسف أنه يصير بالنية وحدها
، وهو أحد قولي الشافعي قياسا على الصوم بجامع أنهما عبادة كف عن المحظورات ،
وقياسه على الصلاة أولى لأنه التزام أفعال لا مجرد كف ، بل التزام الكف شرط فكان
بالصلاة أشبه ، فلا بد من ذكر يفتتح به أو بما يقوم مقامه مما هو من خصوصياته -
فتح - انتهى . وقال ابن جاسر
(17/340)
النجدي في مفيد الأنام :
الإحرام أول الأركان ، وهو في اللغة الدخول في التحريم ، يقال : أشتى إذا دخل في
الشتاء ، وأربع إذا دخل في الربيع ، وأنجد إذا دخل نجدا ، وأتهم إذا دخل تهامة ،
وأصبح وأمسى إذا دخل في الصباح والمساء ، وفي الشرع نية الدخول في النسك وإن لم
يتجرد من ثيابه المحظورة على المحرم لا نيته ليحج أو يعتمر سمي الدخول في النسك
إحراما لأن المحرم بإحرامه حرم على نفسه أشياء كانت مباحة له من النكاح ، والطيب ،
والصيد ، وأشياء من اللباس ونحوها ، ومنه في الصلاة (( تحريمها التكبير )) - انتهى
. وقال ابن قاسم الحنبلي : الإحرام لغة : الدخول في التحريم ، لأنه يحرم على نفسه
بنيته ما كان مباحا له قبل الإحرام من النكاح والطيب والتقليم والحلق وأشياء من
اللباس ونحو ذلك . وشرعا : نية الدخول في النسك مع التلبية أو سوق الهدي ، لا نية
أن يحج أو يعتمر ، فإن ذلك لا يسمى إحراما ، وكذا التجرد وترك سائر المحظورات
لكونه محرما بدونها . وقال الشيخ ( يعني ابن تيمية ) لا يكون الرجل محرما بمجرد ما
في قلبه من قصد الحج ونيته ، فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده ، بل لابد
من قول
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو عمل يصير به محرما ، هذا هو الصحيح من القولين - انتهى .
(17/341)
وفى تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيتمى المكي : الإحرام يطلق على نية الدخول في النسك ، وبهذا الاعتبار أي المعنى يعد ركنا ، وعلى نفس الدخول فيه بالنية لاقتضاءه دخول الحرم ، كأنجد إذا دخل نجدا ، وتحريم الأنواع الآتية . وهذا هو الذي يفسده الجماع وتبطله الردة ، وهو أي المعنى الثاني المراد هنا . قال الشرواني في حاشيته : قوله : (( يطلق على نية الدخول )) إلخ . أي يطلق شرعا على الفعل المصدري فيراد به نية الدخول في النسك ، إذ معنى (( أحرم به )) نوى الدخول في ذلك ، ويطلق على الأثر الحاصل بالمصدر فيراد به نفس الدخول في النسك ، أي الحالة الحاصلة المترتبة على النية . قال : وقد يقال : المراد به ( أي بالنسك ) هنا حالة حرم عليه بها ما كان حلالا - انتهى . وقال ابن دقيق العيد : الإحرام الدخول في أحد النسكين والتشاغل بأعمالهما ، وقد كان شيخنا العلامة أبو محمد بن عبد السلام يستشكل معرفة حقيقة الإحرام جدا ، ويبحث فيه كثيرا ، وإذا قيل : إنه النية اعترض عليه بأن النية شرط في الحج الذي الإحرام ركنه وشرط الشيء غيره ، ويعترض على أنه التلبية بأنها ليست بركن ، والإحرام ركن هذا أو قريب منه ، وكان يحرم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء - انتهى . وفى الشرح الكبير للدردير : وركن الحج والعمرة ثلاثة : الأول : الإحرام وهو : نية أحد النسكين مع قول أو فعل متعلقين به كالتلبية والتجرد من المخيط والراجح أنه النية فقط . قال الدسوقي : قوله (( الراجح النية )) أي نية الدخول في حرمات الحج أو العمرة ، وأما التلبية والتجرد فكل منهما واجب على حدته يجبر بالدم - انتهى . وقال ابن العربي في عارضة الأحوذى : ينعقد الحج بمجرد النية عندنا وإن لم ينطق به ، وقال الشافعي ، وأبو حنيفة : لا ينعقد إلا بالنية والتلبية أو سوق الهدي . وقال أبو عبد الله الزبيري من أصحاب الشافعي : لا ينعقد إلا بالنية والتلبية خاصة -
(17/342)
انتهى . وفى الهداية : ولا
يصير شارعا في الإحرام بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية خلافا للشافعي لأنه عقد على
الأداء فلابد من ذكر ، كما في تحريمه الصلاة ، ويصير شارعا بذكر يقصد به التعظيم
سوى التلبية فارسية كانت أو عربية ، هذا هو المشهور عن أصحابنا ، والفرق بينه وبين
الصلاة على قولهما أن باب الحج أوسع من باب الصلاة حتى يقام غير الذكر مقام الذكر
كتقليد البدن ، فكذا غير التلبية وغير العربية . قال ابن الهمام : قوله (( خلفا
للشافعي )) في أحد قوليه ، وروي عن أبى يوسف كقوله قياسا على الصوم ، إلى آخر ما قال
. وقال ابن رشد : اتفقوا على أن الإحرام لا يكون إلا بنية ، واختلفوا هل تجزئ
النية فيه من غير التلبية ؟ فقال مالك ، والشافعي : تجزئ النية من غير التلبية ،
وقال أبو حنيفة : التلبية في الحج كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة ، إلا أنه يجزئ
عنده كل لفظ يقوم مقام التلبية كما في افتتاح الصلاة عنده - انتهى . وقال ابن
قدامة (ج3 : ص281) : يستحب للإنسان النطق بما أحرم به ليزول الالتباس ، فإن لم
ينطق بشيء واقتصر على مجرد النية كفاه في قول إمامنا ومالك ، والشافعي . وقال أبو
حنيفة : لا ينعقد بمجرد النية حتى تضاف إليها التلبية أو سوق الهدي لما روي من
حديث خلاد بن السائب ( الآتي في الفصل الثاني ) ولأنها عبادة ذات تحريم وتحليل
فكان لها نطق واجب كالصلاة ....
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/343)
ولنا أنها عبادة ليس في آخرها نطق واجب فلم يكن في أولها كالصيام . والحديث المراد به الاستحباب فإن منطوقه رفع الصوت ، ولا خلاف في أنه غير واجب فما هو من ضرورته أولى ، ولو وجب النطق لم يلزم كونه شرطا ، فإن كثيرا من واجبات الحج غير مشترطة فيه ، والصلاة في آخرها نطق واجب بخلاف الحج والعمرة . قال : والتلبية في الإحرام مسنونة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها وأمر برفع الصوت بها ، وأقل أحوال ذلك الاستحباب . ثم ذكر حديث : العج والثج ، وحديث سهل ابن سعد الآتي في الفصل الثاني ، ثم قال : وليست بواجبة ، وبهذا قال الحسن بن حي ، والشافعي ، وعن أصحاب مالك أنها واجبة يجب بتركها دم ، وعن الثوري وأبى حنيفة : أنها من شرط الإحرام لا يصح إلا بها كالتكبير للصلاة ، لأن ابن عباس قال في قوله تعالى : ? فمن فرض فيهن الحج ? قال ابن عباس : الإهلال ، وعن عطاء ، وطاوس ، وعكرمة : هو التلبية ، ولأن النسك عبادة ذات إحرام وإحلال فكان فيها ذكر واجب كالصلاة ، ولنا أنها ذكر فلم تجب في الحج كسائر الأذكار ، وفارق الصلاة ، فإن النطق يجب في آخرها فوجب في أولها ، والحج بخلافه - انتهى . وقال في حدائق الأزهار : وإنما ينعقد ( أي الإحرام ) بالنية مقارنة لتلبية أو تقليد . قال الشوكاني : أقول : الإحرام هو مصير الشخص من الحالة التي كان يحل له فيها ما يحرم عليه بعدها إلى الحالة التي يحرم عليه بعدها إلى الحالة التي يحرم عليه فيها ما كان يحل له فيها . ولو لم يكن إلا مجرد الكف عن محظورات الإحرام لكان ذلك معنى معقولا لكل عاقل ، كالصوم فإنه ليس إلا الكف عن تناول المفطرات . فمن قال إنه لا يعقل معنى الإحرام وإنه ليس هناك إلا مجرد النية وإن النية لا تنوى وإلا لزم التسلسل ، فقد أخطأ خطأ بينا ومعلوم أن الشريعة المطهرة بعضها أوامر وبعضها نواه ، والتعبد في النواهي ليس إلا بالكف فيلزمه أن يطرد هذا التشكيك الركيك
(17/344)
في شطر الشريعة . وأما إيجاب
النية فقد عرفناك غير مرة أن كل عمل يحتاج إلى النية والعمل يشمل الفعل والترك
والقول والفعل ، وعرفناك أن ظاهر الأدلة يقتضي أن النية شرط في جميع ما تقدم من
العبادات لدلالة أدلتها على أن عدمها يؤثر في العدم ، وهذا هو معنى الشرط عند أهل
الأصول . وأما كون النية تقارن التلبية فقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- في دواوين الإسلام من غير وجه أنه أهل ملبيا . وقد قدمنا لك أن أفعاله وأقواله
في الحج محمولة على الوجوب لأنها بيان لمجمل القرآن وامتثال لأمره - صلى الله عليه
وسلم - لأمته أن يأخذوا عنه مناسكهم . فمن ادعى في شيء منها أنه غير واجب فلا يقبل
منه ذلك إلا بدليل . وأما كونها تقارن التقليد فلما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم
- في عام الحديبية (( أنه لما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة ))
. وقال في غنية الناسك بعد ذكر صفة التلبية وحكمها وذكر كيفية الإحرام ، والحاصل
أن التلبية : فرض ، وسنة ، ومستحب ، ومؤكد ، ومندوب ، فالفرض : مرة واحدة عند
الإحرام والزيادة على المرة سنة ، وعند تغير الحالات مستحب مؤكد ، والإكثار منها
من غير تغير مندوب - انتهى . وقال الحافظ في الفتح : في التلبية مذاهب أربعة يمكن
توصيلها إلى عشرة الأول : أنها سنة من السنن لا يجب بتركها شيء ، وهو قول الشافعي
وأحمد ، ثانيها : واجبة ، ويجب بتركها دم ، حكاه الماوردي عن ابن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/345)
أبى هريرة من الشافعية وقال : إنه وجد للشافعي نصا يدل عليه ، وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكية ، والخطابي عن مالك وأبى حنيفة . قلت : وهو مختار أصحاب الفروع من المالكية . قال الدسوقي : والحاصل أن التلبية في ذاتها واجبة وعدم الفصل بينها وبين الإحرام بكثير واجب أيضا ومقارنتها للإحرام سنة وتجديدها مستحب - انتهى . قال الحافظ : وحكى ابن العربي أنه يجب عندهم بترك تكرارها دم ، وهذا قدر زائد على أصل الوجوب . ثالثها : واجبة لكن يقوم مقامها فعل يتعلق بالحج كالتوجه على الطريق ، وبهذا صدر ابن شاس من المالكية كلامه في الجواهر له . وحكى صاحب الهداية من الحنفية مثله لكن زاد القول الذي يقوم مقام التلبية من الذكر كما في مذهبهم من أنه لا يجب لفظ معين وقال ابن المنذر : قال أصحاب الرأي : إن كبر أو هلل أو سبح ينوي بذلك الإحرام فهو محرم . رابعها : أنها ركن في الإحرام لا ينعقد بدونها حكاه ابن عبد البر عن الثوري ، وأبى حنيفة ، وابن حبيب ، والزبيري من الشافعية ، وأهل الظاهر قالوا : هي نظير تكبيرة الإحرام للصلاة ، ويقويه ما تقدم من بحث ابن عبد السلام عن حقيقة الإحرام ، وهو قول عطاء . أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه . قال : التلبية فرض الحج ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر ، وطاوس ، وعكرمة ، وحكى النووي عن داود أنه لابد من رفع الصوت بها ، وهذا قدر زائد على أصل كونها ركنا - انتهى . وقال ابن رشد : كان مالكا لا يرى التلبية من أركان الحج ، ويرى على تاركها دما ، وكان غيره يراها من أركانه ، وحجة من رآها واجبة أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتت بيانا لواجب أنها محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - : خذوا عني مناسككم - انتهى . وقال القاري في شرح النقاية : فرض الحج الإحرام بإجماع الأمة وهو عندنا شرط الأداء لا ركن كما قال الشافعي ، ومالك ، لأنه يدوم إلى الحلق ولا
(17/346)
ينتقل إلى غيره ، ويجامع كل
ركن في الجملة ولو كان ركنا لما كان كذلك - انتهى . وقد علم مما ذكرنا من كلام
أصحاب الفروع وغيرهم أن ها هنا عدة مسائل : الأولى : أن الإحرام فرض للحج والعمرة
وهي مما أجمعوا عليه . والثانية : هل هو شرط أو ركن ؟ وهى خلافية ، فذهبت الحنفية
إلى أنه شرط وقالت المالكية والشافعية والحنابلة : إنه ركن . والثالثة : أنه لابد
من النية وهى إجماعية . والرابعة : هل التلبية فرض للإحرام ؟ وقد اختلفوا فيه فعند
الحنفية : شرط ، وعند المالكية : واجب ، وعند الشافعية والحنابلة : سنة . وفي
تركها أو ترك اتصالها بالإحرام هدي عند القائلين بالوجوب وبالشرطية إذا انعقد
الإحرام بدونها من قول أو فعل متعلق به . والخامسة : هل لابد من التلبية خاصة أو
يجزئ كل ذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية أو ما يقوم مقامه مما هو من خصوصيات الحج
والعمرة من تقليد البدنة مع السوق ، وهي أيضا خلافية ، كما يدل عليه كلام صاحب الهداية
وغيره . والسادسة : أنه إذا نوى بقلبه ما يحرم به من حج أو عمرة أو قران أو نسك من
غير تعيين وعزم من قلبه على ذلك فهل يتلفظ بالنية مع ذلك ويقول : نويت الحج أو
العمرة لله ؟ فقالت الحنفية التلفظ بالنية مع ذلك حسن ليجتمع القلب
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/347)
واللسان ، قال ابن الهمام وغيره من محققي الحنفية : إن التلفظ بالنية مع ذلك إنما يحسن لمن لا يجتمع عزيمة قلبه أما من اجتمعت عزيمته فلا يحسن له في جميع العبادات ، بل هو بدعة - انتهى . وفى (( تحفة المحتاج )) من فروع الشافعية : المحرم أي مريد الإحرام ينوي بقلبه وجوبا ، لخبر (( إنما الأعمال بالنيات )) ولسانه ندبا للإتباع ، وعقبهما يلبي ندبا فيقول : (( نويت الحج وأحرمت به لله تعالى ، لبيك اللهم )) ، إلخ . قال الشرواني : قوله : (( ينوى بقلبه )) إلخ ، أي دخوله في حج أو عمرة أو كليهما ، وقوله : (( ولسانه ندبا للإتباع )) إن أراد الإتباع في هذا أيضا فقد ذكر المحقق ابن الهمام في شرحه على الهداية أنه لم يعلم أن أحدا من الرواة لنسكه - صلى الله عليه وسلم - روى أنه سمعه - صلى الله عليه وسلم - يقول : نويت العمرة ولا الحج - انتهى . وفي شرح مختصر خليل لبهرام : ومما يستحب عند الإحرام ترك التلفظ بما يحرم به ، وروى عن مالك كراهة التلفظ بذلك - انتهى . قلت : قد تواترت الروايات المصرحة بأنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم من ذي الحليفة وسمى وعين ما أحرم به من إفراد أو قران أو تمتع ، واتفقت على تعيين النسك في التلبية الأولى التي تكون عند عقد الإحرام وإن اختلفت في نوعه ، وصرحت أيضا بأنه - صلى الله عليه وسلم - لبى عند ذلك كما ورد في الروايات ، وقال : خذوا عني مناسككم ، فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الإحرام والتلبية والتسمية ، وهذا القدر هو الذي قام عليه الدليل ، أما كون الإحرام شرطا أو ركنا وكون التلبية مسنونة أو مستحبة أو واجبة يصح الحج بدونها وتجبر بدم ، وكذا كون الذكر الدال على تعظيم الله سوى التلبية مجزئا والتلفظ بالنية بأن يقول : نويت العمرة ، أو : نويت الحج ، أو : نويت العمرة والحج ، أو : اللهم إني أريد العمرة أو الحج ، أو : اللهم إني أهل أو أحرم بكذا ، فكل ذلك لم يرد فيه دليل خاص ، والخير
(17/348)
كله في إتباعه - صلى الله عليه
وسلم - ، فعلى كل من وصل إلى ميقاته ممن يريد الحج أو العمرة أن يحرم وينوي بقلبه
الدخول في النسك الذي يريده ويعزم عليه بقلبه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -
(( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى )) ويشرع له التلفظ بما نوى كما
نقل ، فإن كانت نية العمرة قال : لبيك عمرة ، أو : اللهم لبيك عمرة ، وإن كانت نية
الحج قال : لبيك حجا ، أو : اللهم لبيك حجا . لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
فعل ذلك . ولا يشرع له التلفظ بما نوى إلا في الإحرام خاصة لوروده عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - ، وأما الصلاة والطواف والصيام وغير ذلك من العبادات فلا ينبغي
له أن يتلفظ بشيء منها بالنية ، لأن ذلك لم يثبت ، ولو كان التلفظ بالنية مشروعا
لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأوضحه للأمة بفعله أو قوله ، ولسبق إليه
السلف الصالح ، هذا والتلبية مصدر لبى أي قال : (( لبيك )) قال العيني : هي مصدر
من لبى يلبى ، وأصله لبب على وزن فعل لا فعلل فقلبت الباء الثالثة ياء استثقالا
لثلاث باءات ثم قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وما قال صاحب التلويح من أن
قولهم : لبى مشتق من لفظ لبيك كما قالوا : حمدل وحوقل ، ليس بصحيح ، ثم بسط في
الرد والتعقب عليه ، قال : ومعنى التلبية الإجابة ، فإذا قال الرجل لمن دعاه : ((
لبيك )) فمعناه أجبت لك فيما قلت .
( الفصل الأول )
2564- (1) عن عائشة ، قالت : كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه
قبل أن يحرم ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/349)
2564- قوله : ( كنت أطيب ) أي أعطر ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) قال الحافظ : استدل بقولها : (( كنت أطيب )) على أن (( كان )) لا تقتضي التكرار لأنها لم يقع منها ذلك إلا مرة واحدة ، وقد صرحت في رواية عروة عنها بأن ذلك كان في حجة الوداع كما سيأتي في كتاب اللباس ( أي عند البخاري ) كذا استدل به النووي في شرح مسلم ، وتعقب بأن المدعي تكراره إنما هو التطيب لا الإحرام ، ولا مانع من أن يتكرر التطيب لأجل الإحرام مع كون مرة واحدة ، ولا يخفى ما فيه . وقال النووي في موضع آخر : المختار أنها لا تقتضي تكرارا ولا استمرارا ، وكذا قال الفخر في المحصول وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه . قال : ولهذا استفدنا من قولهم : (( كان حاتم يقري الضيف )) ، أن ذلك كان يتكرر منه . وقال جماعة من المحققين : إنها تقتضي التكرار ظهورا ، وقد تقع قرينة تدل على عدمه ، لكن يستفاد من سياقه لذلك المبالغة في إثبات ذلك ، والمعنى أنها كانت تكرر فعل التطيب لو تكرر منه فعل الإحرام لما اطلعت عليه من استحبابه لذلك ، على أن هذه النقطة لم تتفق الرواة عنها عليها ، فرواها مالك عند الشيخين ، وتابعه منصور عند مسلم ، ويحيى بن سعيد عند النسائي كلهم عن عبد الرحمن بن القاسم شيخ مالك بلفظ (( كنت )) ورواه سفيان بن عينة عن عبد الرحمن بن القاسم عند البخاري بلفظ (( طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) وكذا سائر الطرق ليس فيها صيغة (( كان )) انتهى بزيادة يسيرة . وتعقب العيني كلام الحافظ أن (( سائر الطرق ليس فيها صيغة كان )) وبسط الروايات التي وردت بصيغة كان ، وقال بعد ذكر استدلال النووي ، وما اعترض به عليه : قال الإمام فخر الدين : إن (( كان )) لا تقتضي التكرار ولا الاستمرار ( أي عرفا ولا لغة ) وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه وقال بعض المحققين : تقتضي التكرار ولكن قد تقع قرينة تدل على عدمه . قلت ( قائله العيني ) (( كان )) تقتضي
(17/350)
الاستمرار بخلاف (( صار ))
ولهذا لا يجوز أن يقال في موضع : (( كان الله )) (( صار )) - انتهى . وذكر الشيخ
تقى الدين في شرح العمدة أنها تدل عليه عرفا لا لغة . والله تعالى أعلم ( لإحرامه
) أي عند إرادته فعل الإحرام لأجل دخوله فيه ( قبل أن يحرم ) أي يدخل فيه ، وفي
رواية للنسائي : (( عند إحرامه حين أراد أن يحرم )) ولمسلم نحوه ، واستدل به على
استحباب التطيب عند إرادة الإحرام وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام ، ولا يضر
بقاء لونه ورائحته ، وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام . قال الولي العراقي في (( طرح
التثريب )) (ج5 : ص75) : وهذا مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأبى يوسف ، وأحمد بن
حنبل ، وحكاه ابن المنذر عن سعد بن أبى وقاص ، وابن الزبير ، وابن عباس ، وإسحاق ،
وأبى ثور ، وأصحاب الرأي ، وحكاه الخطابي عن أكثر الصحابة ، وحكاه ابن عبد البر عن
أبى سعيد الخدري ، وعبد الله بن جعفر ، وعائشة ، وأم حبيبة ، وعروة بن الزبير ،
والقاسم بن محمد ، والشعبي ، والنخعي
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/351)
وخارجة بن زيد ، ومحمد بن الحنفية . قال : واختلف في ذلك عن الحسن ، وابن سيرين ، وسعيد بن جبير ، وقال به الثوري ، والأوزاعي ، وداود ، وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء ، وعد منهم غير من قدمنا معاوية . وحكاه ابن قدامة عن ابن جريج . قال ابن المنذر : وبه أقول . وذهب مالك إلى منع أن يتطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده ، لكنه قال : إن فعل فقد أساء ولا فدية عليه . وحكى الشيخ أبو الظاهر قولا بوجوب الفدية وعلله بأن بقاء الطيب كاستعماله ، وقال محمد بن الحسن : يكره أن يتطيب قبل الإحرام بما تبقى عينه بعده ، وحكى ابن المنذر عن عطاء كراهة التطيب قبل الإحرام ، وحكاه النووي عن الزهري . قال القاضي عياض : وحكي أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين . وقال ابن عبد البر : وممن كره الطيب للمحرم قبل الإحرام عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعبد الله بن عمر ، وعثمان بن أبى العاص ، وعطاء ، وسالم بن عبد الله على اختلاف عنه ، والزهري ، وسعيد بن جبير والحسن ، وابن سيرين على اختلاف عنهم ، وهو اختيار أبى جعفر الطحاوي إلا أن مالكا كان أخفهم في ذلك قولا ، ذكر ابن عبد الحكم عنه قال : وترك الطيب عند الإحرام أحب إلينا - انتهى . وقال الشنقيطي في أضواء البيان (ج5 : ص448) : اعلم أن العلماء اختلفوا في التطيب عند إرادة الإحرام قبله بحيث يبقى أثر الطيب وريحه أو عينه بعد التلبس بالإحرام هل يجوز ذلك ؟ لأنه وقت الطيب غير محرم ، والدوام على الطيب ليس كابتدائه كالنكاح عند من يمنعه في حال الإحرام مع إباحة الدوام على نكاح معقود قبل الإحرام ، أو لا يجوز ذلك ؟ لأن وجود ريح الطيب أو عينه أو أثره في المحرم بعد إحرامه كابتدائه للتطيب ، ولأنه متلبس حال الإحرام بالطيب ، مع أن الطيب منهي عنه في الإحرام فقال جماهير من أهل العلم : إن الطيب عند إرادة الإحرام مستحب . قال النووي في شرح المهذب : قد
(17/352)
ذكرنا أن مذهبنا استحبابه ،
وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء ، منهم : سعد بن أبى
وقاص ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومعاوية ، وعائشة ، وأم حبيبة ، وأبو حنيفة ،
والثوري ، وأبو يوسف ، وأحمد وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وداود وغيرهم إلخ
. وقال النووي في شرح مسلم : وبه قال خلائق من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء
والمحدثين منهم : سعد بن أبى وقاص ، وابن عباس إلى آخره كما في شرح المهذب . وقال
ابن قدامة في المغني : يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة ، ولا فرق
بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية أو أثره كالعود ، والبخور ، وماء الورد ، هذا
قول ابن عباس ، وابن الزبير ، وسعد بن أبى وقاص ، وعائشة ، وأم حبيبة ، ومعاوية .
وروى عن محمد بن الحنفية ، وأبى سعيد الخدري ، وعروة ، والقاسم ، والشعبي ، وابن
جريج إلخ . وقال جماعة آخرون من أهل العلم : لا يجوز التطيب عند إرادة الإحرام ،
فإن فعل ذلك لزمه غسله حتى يذهب أثره وريحه . وهذا هو مذهب مالك . قال النووي في
شرح مسلم : وقال آخرون بمنعه منهم : الزهري ومالك ومحمد بن الحسن ، وحكي أيضا عن
جماعة من الصحابة والتابعين إلخ . وقال ابن قدامة في المغني : وكان عطاء يكره ذلك
وهو قول مالك ، وروى ذلك عن عمر ، وعثمان ، وابن عمر رضي الله
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/353)
عنهم إلخ – انتهى . قلت : هكذا أطلق (( مذاهب الأئمة الأربعة )) عامة شراح الحديث كالحافظ والنووي والعيني ، ونقلة المذاهب كابن رشد ، وابن قدامة ، وابن عبد البر ، وابن المنذر وغيرهم ، لكن في فروعهم تفاصيل في هذه المسألة ، ففي مفيد الأنام لابن جاسر النجدي : (( ويسن لمريد الإحرام أن يتطيب ولو امرأة غير محدة لحرمة الطيب عليها ، في بدنه سواء كان الطيب مما تبقى عينه كالمسك أو أثره كالعود ، والبخور ، وماء الورد لقول عائشة : كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم - الحديث . قال شيخ الإسلام (يعني ابن تيمية ) : وكذلك إن شاء المحرم أن يتطيب في بدنه فهو حسن ولا يؤمر المحرم قبل الإحرام بذلك ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله ولم يأمر به الناس - انتهى . ويكره لمريد الإحرام تطييبه ثوبه الذي يريد الإحرام فيه ، فإن طيبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه ، فإن نزعه فليس له لبسه والطيب فيه لأن الإحرام يمنع الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة ، فإن لبسه بعد نزعه وأثر الطيب باق لم يغسله حتى يذهب ، فدى لاستعماله الطيب ، أو نقل الطيب من موضع بدنه إلى موضع آخر ، أو تعمد مسه بيده فعلق الطيب بها ، أو نحى الطيب عن موضعه ثم رده إليه بعد إحرامه فدى ، لأنه ابتداء للطيب ، فإن ذاب الطيب بالشمس أو بالعرق فسال إلى موضع آخر من بدن المحرم فلا شيء عليه لحديث عائشة قالت : كنا نخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك عند الإحرام ، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهاها . رواه أبو داود - انتهى . وهكذا ذكر في (( الروض المربع )) من فروع الحنابلة ، ومذهب الشافعية في الطيب عند الإحرام كمذهب الحنابلة ، ففي (( روضة المحتاجين )) : يسن أن يتطيب في بدنه للإحرام قبله ولو بما له جرم ، ولا بأس باستدامته بعده . لكن لو نزع ثوبه المطيب وإن كان
(17/354)
لا يسن تطييبه ثم لبسه ورائحة
الطيب موجودة فيه لزمه الفدية في الأصح ، كما لو ابتدأ لبس الثوب المطيب أو أخذ
الطيب من بدنه ثم رده إليه ، ولا عبرة بانتقال الطيب بإسالة العرق ، ولو تعطر ثوبه
من بدنه لم يضر جزما - انتهى . وفى الدر المختار : وطيب بدنه إن كان عنده لا ثوبه
بما تبقى عينه ، هو الأصح . قال ابن عابدين : قوله : (( طيب بدنه )) أي استحبابا
عند الإحرام ولو بما تبقى عينه كالمسك والغالية هو المشهور . قال : والفرق بين
الثوب والبدن أنه اعتبر في البدن تابعا ، والمتصل بالثوب منفصل عنه . وأيضا
المقصود من استنانه وهو حصول الارتفاق حالة المنع منه حاصل بما في البدن فأغنى عن
تجويزه في الثوب - انتهى . وفى البحر الرائق : يسن له استعمال الطيب في بدنه قبيل
الإحرام بما تبقى عينه بعده أولا تبقى وكرهه محمد بما تبقى ، وقيدنا بالبدن إذ لا
يجوز التطيب في الثوب بما تبقى عينه على قول الكل على إحدى الروايتين عنهما .
قالوا : وبه نأخذ . والفرق لهما بينهما أنه اعتبر في البدن تابعا على الأصح ، وما
بالثوب منفصل عنه فلم يعتبر تابعا - انتهى . واختار الطحاوي قول محمد ورجحه في شرح
الآثار ، لكنه لم يذكر الفرق بين الثوب والبدن في قول الشيخين وكذا لم يفرق بينهما
محمد في موطأه . وكذا لا ذكر للفرق بينهما في عامة كتب الحنفية ، نعم فرق بينهما
ابن الهمام ، وقال بعد ذكر الفرق الذي تقدم عن ابن نجيم في البحر : وقد قيل : يجوز
في الثوب أيضا على قولهما
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/355)
وقال في (( غنية الناسك )) : أما الثوب فلا يجوز أن يطيب بما تبقى عينه بعد الإحرام إجماعا . وقيل يجوز في الثوب أيضا عندهما كما في الفتح والبحر ، والأولى أن لا يطيب ثوبه كما في اللباب - انتهى . وقال الباجى : إن مالكا لا يجيز لأحد من الأمة استعمال الطيب عند الإحرام إذا كان طيب تبقى له رائحة بعد الإحرام ، ولا يدهن بدهن فيه ريح تبقى ، وإن تطيب لإحرامه فلا فدية عليه ، لأن الفدية بإتلاف الطيب في وقت ممنوع من إتلافه وهذا أتلفه قبل ذلك ، وإنما تبقى منه بعد الإحرام الرائحة ، وليس ذلك بإتلاف فتجب الفدية ، ورأيت لبعض الفقهاء أن من تطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته فهو بمنزلة من تطيب بعد الإحرام ، لأن استدامته كابتداء التطيب ، فإن أراد بذلك أنه ممنوع في الحالتين فهو صحيح ، وإن أراد به وجوب الفدية فليس بصحيح لأنها إنما تجب بإتلاف الطيب أو لمسه - انتهى . وفى الشرح الكبير للدردير : وحرم عليهما تطيب بكورس إلا طيبا يسيرا باقيا في ثوبه أو بدنه مما تطيب به قبل إحرام فلا فدية عليه وإن كره . قال الدسوقي : أي بشرط أن يكون الباقي أثره أو ريحه مع ذهاب جرمه ، هذا مقتضى كلام سند ، والذي يظهر من كلام الباجي وغيره أنها لا تسقط الفدية إلا في بقاء ريحه دون الأثر ، فقد اتفق الجميع على أنه إذا كان الباقي شيئا من جرمه فالفدية واجبة . وإن كان الباقي رائحته فلا فدية . والخلاف فيما إذا كان الباقي أثره أي لونه دون جرمه ، فقيل بعدم وجوبها وقيل بوجوبها - انتهى . قال الشنقيطي : أظهر قولي أهل العلم عندي أنه إن طيب ثوبه قبل الإحرام فله الدوام على لبسه كتطييب بدنه ، وإنه إن نزع عنه ذلك الثوب المطيب بعد إحرامه فليس له أن يعيد لبسه ، فإن لبسه صار كالذي ابتدأ الطيب في الإحرام فتلزمه الفدية ، وكذلك إن نقل الطيب الذي تلبس به قبل الإحرام من موضع من بدنه إلى موضع آخر بعد الإحرام فهو ابتداء تطيب في ذلك الموضع الذي نقله
(17/356)
إليه وكذلك إن تعمد مسه بيده
أو نحاه من موضعه ثم رده إليه لأن كل تلك الصور فيها ابتداء تلبس جديد بعد الإحرام
بالطيب وهو لا يجوز . أما إن كان قد عرق فسال الطيب من موضعه إلى موضع آخر فلا شيء
عليه في ذلك لأنه ليس من فعله ، ولحديث عائشة عند أبى داود الذي ذكرناه قريبا ,
وقال بعض علماء المالكية : ولا فرق في ذلك بين أن يكون الطيب في بدنه أو ثوبه ،
إلا أنه إذا نزع ثوبه لا يعود إلى لبسه ، فإن عاد فهل عليه في العود فدية ؟ يحتمل
أن نقول : لا فدية ، لأن ما فيه قد ثبت له حكم العفو كما لو لم ينزعه ، وقال أصحاب
الشافعي : تجب عليه الفدية لأنه لبس جديد وقع بثوب مطيب - انتهى من الحطاب . قلت :
واحتج الجمهور القائلون باستحباب الطيب عند الإحرام بحديث عائشة الذي نحن في شرحه
، وقد وقع في رواية عنها عند مسلم ، قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام . قال الجزري : الذريرة نوع من الطيب
مجموع من أخلاط . وقال النووي : هي فتات قصب طيب يجاء به من الهند . وفي لفظ عند
مسلم أيضا عن عروة قال : سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء طيبت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - عند إحرامه ؟ قالت :
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/357)
بأطيب الطيب وفي رواية : (( بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ، ثم يحرم )) وفي رواية عنها : (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يحرم ، يتطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته )) وفي لفظ عنها : (( قالت : كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحرم ، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك )) كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم . قالوا : فهذا الحديث دليل صريح في مشروعية الطيب قبل الإحرام وإن كان أثره باقيا بعد الإحرام ، بل ولو بقى عينه وريحه ، لأن رويتها وبيص الطيب في مفارقه - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم صريح في ذلك . قالوا : وقد وردت آثار بذلك تدل على عدم خصوصية ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يفعل ذلك ، وروي عن ابن عباس أنه أحرم وعلى رأسه مثل الرب من الغالية . وقال مسلم بن صبيح : رأيت ابن الزبير وهو محرم وعلى رأسه ولحيته من الطيب ما لو كان لرجل لاتخذ منه رأس مال . واحتج الذين منعوا ذلك بحديث يعلى بن أمية التميمى الآتي في باب ما يجتنبه المحرم ، فقد صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسل الطيب الذي تضمخ به يعلى قيل الإحرام وأمر بإنقائه ، فهو دليل واضح على أن من تضمخ بالطيب قبل إحرامه لا يجوز له الدوام بل يجب غسله وانقاؤه . وقد اعتضد حديث أبي يعلى هذا ببعض الآثار الواردة عن بعض الصحابة ، منهم عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وعثمان بن أبي العاص . قال المالكية ومن وافقهم : قد تبين بهذه الآثار المروية عن هؤلاء الصحابة أن حديث يعلى غير منسوخ . قالوا : وإنكار عمر ذلك في خلافته على صحابين معاوية ، والبراء بن عازب ، وعلى تابعي كبير كثير بن الصلت بمحضر الجمع الكثير من الناس صحابة وغيرهم مع عدم إنكار أحد عليه ، من أقوى الأدلة على تأويل حديث عائشة . قلت : قد أجاب الجمهور عن حديث يعلى بوجهين : أحدهما أن قصته كانت
(17/358)
بالجعرانة وهي سنة ثمان بلا
خوف ، وقد ثبت حديث عائشة الذي نحن في شرحه في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف ،
وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من الأمر ، والثاني أن المأمور بغسله في قصة يعلى إنما
هو الخلوق لا مطلق الطيب . فلعل علة الأمر فيه ما خالطه من الزعفران ، وقد ثبت
النهي عن تزعفر الرجل مطلقا محرما وغير محرم . وفي حديث ابن عمر : (( ولا يلبس أي
المحرم من الثياب شيئا مسه الزعفران )) وقد جاء مصرحا في الحديث في مسند أحمد (ج4
: ص224) ، والطحاوي (ص364) : (( قال له اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك الزعفران ))
وأجاب المالكية عن حديث عائشة الذي احتج به الجمهور بوجوه منها أنهم حملوه على أنه
تطيب ، ثم اغتسل بعده ، فذهب الطيب قبل الإحرام ، قالوا : ويؤيد هذا قولها في
الرواية الأخرى طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند إحرامه ثم طاف على
نسائه ثم أصبح محرما ، فظاهره أنه إنما تطيب لمباشرة نسائه ثم زال بالغسل بعده لا
سيما وقد نقل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى ولا يبقى مع ذلك طيب . ويكون
قولها : ثم أصبح ينضح طيبا ، أي قبل غسله ، وقد وقع في رواية للشيخين أن ذلك للطيب
كان ذريرة وهي مما يذهبه الغسل . وقولها : (( كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارقة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم )) ، المراد به أثره لا جرمه ، قاله
القاضي عياض . وقال ابن العربي :
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/359)
ليس في شيء من طرق حديث عائشة أن عين الطيب بقيت . وأجيب عن ذلك بأن دعوى أن التطيب للنساء ، يرده صريح الحديث في قولها : (( طيبته لإحرامه )) وادعاء أن اللام للتوقيت خلاف الظاهر ، وادعاء أن الطيب زال بالغسل قبل الإحرام ، ترده الروايات الصريحة عن عائشة أنها كانت تنظر إلى وبيص الطيب في مفرقه - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ، لأن الوبيص في اللغة : البريق ، واللمعان ، وهو وصف وجودي ، والوصف الوجودي لا يوصف به المعدوم وإنما يوصف به الموجود ، فدل على أن الطيب الموصوف بالوبيص موجود بعينه ، وهو يرد قول ابن العربي : (( أنه لم يرد في شيء من طرق حديث عائشة أن عين الطيب بقيت )) ويؤيده ما رواه أبو داود في سننه . قال النووي : بإسناد حسن ، من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنا نخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام ، فإذا عرقت إحدانا سال علو وجهها ، فيراه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهانا . والمسك بضم السين وتشديد الكاف نوع من الطيب يضاف إلى غيره من الطيب ويستعمل ، فهذا حجة في جواز بقاء عين الطيب في المحرم بعد الإحرام إن كان استعماله للطيب يضاف إلى غيره من الطيب ويستعمل ، فهذا حجة في جواز بقاء عين الطيب في المحرم بعد الإحرام إن كان استعماله للطيب قبل الإحرام . قال الحافظ : يرد دعوى أنه لم يبق للطيب أثر بعد الغسل ، قوله في رواية أخرى للحديث المذكور : ثم أصبح محرما ينضح طيبا ، فهو ظاهر في أن نضح الطيب وهو ظهور رائحته كان في حال إحرامه ودعوى بعض المالكية أن فيه تقديما وتأخيرا ، والتقدير : طاف على نسائه ينضح طيبا ، ثم أصبح محرما ، خلاف الظاهر . ويرده قوله في رواية عند مسلم : كان إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد ، ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك ، وللنسائي وابن حبان : رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث وهو محرم وقال بعض
(17/360)
المالكية : إن الوبيص كان
بقايا الدهن المطيب الذي تطيب به فزال وبقى أثره من غير رائحة ، ويرده قول عائشة :
(( ينضح طيبا )) وقال بعضهم : بقى أثره لا عينه . قال ابن العربى : ليس في شتى من
طرق حديث عائشة أن عينه بقيت - انتهى . ثم ذكر الحافظ حديث عائشة بنت طلحة عن
عائشة وقال : فهذا صريح في بقاء عين الطيب ولا يقال : إن ذلك خاص بالنساء لأنهم
أجمعوا على أن الرجال والنساء سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين .
وقال بعضهم : كان ذلك طيبا لا رائحة له تمسكا برواية الأوزاعي عن الزهري عن عروة
عن عائشة : (( بطيب لا يشبه طيبكم )) قال بعض رواته : يعني لا بقاء له . أخرجه
النسائي . ويرد هذا التأويل ما في الذي قبله ، ولمسلم من رواية منصور بن زاذان عن
عبد الرحمن بن القاسم : بطيب فيه مسك . وله من طريق الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم
: كأني أنظر إلى وبيص المسك . وللشيخين من طريق عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه : ((
بأطيب ما أجد )) وللطحاوي ، والدار قطني من طريق نافع عن ابن عمر عن عائشة : ((
بالغالية الجيدة )) وهذا يدل على أن قولها : (( بطيب لا يشبه طيبكم )) أي أطيب منه
، لا كما فهمه القائل يعني ليس له بقاء - انتهى . ومنها : أن ذلك التطيب خاص به -
صلى الله عليه وسلم - وأجيب عن ذلك بأن حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة المتقدم نص
في عدم خصوص ذلك به
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/361)
- صلى الله عليه وسلم - ويعضده الآثار المروية عن بعض الصحابة كما تقدم عن ابن عباس وابن الزبير . وأما إنكار عمر ، وعثمان على بعض الصحابة فهو مما لا يعارض به الصحيح المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن سنته أولى بالاتباع من قول كل صحابي مع أنهم خالفهم بعض الصحابة وقد ثبت في صحيح مسلم أن عائشة أنكرت ذلك على ابن عمر رضي الله عنهم . قال الحافظ : ادعى المالكية أن ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - قاله المهلب وأبو الحسن القصار ، وأبو الفرج من المالكية ، قال بعضهم : لأن الطيب من دواعي النكاح فنهى الناس عنه وكان هو أملك الناس لإربه ففعله . ورجحه ابن العربي بكثرة ما ثبت له من الخصائص في النكاح ، وقد ثبت عنه أنه قال : حبب إلي النساء والطيب . أخرجه النسائي من حديث أنس ، وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالقياس . وقال المهلب : إنما خص بذلك لمباشرته الملائكة لأجل الوحي . وتعقب بأنه فرع ثبوت الخصوصية ، وكيف بها ويردها حديث عائشة بنت طلحة المتقدم ، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عائشة قالت : طيبت أبي بالمسك لإحرامه حين أحرم . وقولها : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين . أخرجه الشيخان . ومنها أن الدوام على الطيب بعد الإحرام كابتداء الطيب في الإحرام بجامع الاستمتاع بريح الطيب في حال الإحرام في كل منهما . وأجيب عن ذلك بأنه منتقض بالنكاح فإن ابتداء عقده في حال الإحرام ممنوع عند الجمهور خلافا لأبى حنيفة مع الإجماع على جواز الدوام على نكاح وقع عقده قبل الإحرام ، ثم أحرم بعد عقده الزوجان وهو دليل على أنه ما كل دوام كالابتداء ، وقد تقرر في الأصول أن المانع بالنسبة إلى الابتداء والدوام ينقسم إلى ثلاثة أقسام : الأول : هو المانع للدوام والابتداء معا كالحديث ، فإنه مانع من ابتداء الصلاة ، مانع من الدوام عليها إذا طرأ في أثناءها . والثاني : هو المانع للدوام فقط دون الابتداء
(17/362)
كالطلاق فإنه مانع من الدوام
على العقد الأول والاستمتاع بالزوجية بموجبه ، وليس مانعا من ابتداء عقد جديد
والاستمتاع بها بموجبه . والثالث : هو المانع من الابتداء فقط دون الدوام كالنكاح
بالنسبة إلى الإحرام ، فإن الإحرام مانع من ابتداء العقد ، وليس مانعا من الدوام
على عقد كان قبله . قالوا : ومن هذا الطيب فإن الإحرام مانع من ابتدائه ، وليس
مانعا من الدوام عليه . ومنها أن حديث عائشة المذكور يقتضي إباحة الطيب لمن أراد
الإحرام ، وحديث يعلى بن أمية يقتضي منع ذلك والمقر في الأصول أن الدال على المنع
مقدم على الدال على الإباحة والجواز ، لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام . وأجيب
عنه بأن محل ذلك فيما إذا جهل المتقدم منهما ، أما إذا علم المتقدم فإنه يجب الأخذ
بالمتأخر ، لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث ، وقصة يعلى وقعت بالجعرانة عام
ثمان بلا خلاف ، وحديث عائشة في حجة الوداع عام عشر ، ومن المقرر في الأصول أن
النصين إذا تعارضا وعلم المتأخر منهما فهو ناسخ للأول كما هو معلوم في محله .
ومنها أن حديث يعلى من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظه الصريح في الأمر
بإزالة الطيب وإلقائه من البدن وظاهره العموم لأن خطاب الواحد يعم حكمه الجميع
لاستواء الجميع في التكليف ، والعموم القولي لا يعارضه فعل
ولحله قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/363)
النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مخصص له كما تقرر في الأصول . وأجيب عنه بما قدمنا آنفا من الأدلة على ذلك الفعل الذي هو التطيب قبل الإحرام ليس خاصا به كما دل عليه حديث عائشة المذكور . وقولها في الصحيح : (( طيبته بيدي هاتين )) صريح في أنها شاركته في ملابسة ذلك الطيب . ومنها قياس الطيب على اللبس ، وتعقب بأن استدامة اللبس لبس واستدامة الطيب ليس بطيب ، ويظهر ذلك بما لو حلف ، كذا في الفتح هذا . وقد اتضح بما ذكرنا من أدلة الفريقين ومناقشتها أن القول الراجح المعول عليه هو ما ذهب إليه الجمهور . قال الشنقيطي : أظهر قولي أهل العلم عندي في هذه المسألة أن الطيب جائز عند إرادة الإحرام ولو بقيت ريحه بعد الإحرام لحديث عائشة المتفق عليه ، ولإجماع أهل العلم على أنه آخر الأمرين ، والأخذ بآخر الأمرين أولى كما هو معلوم ، وقد علمت الأدلة على أنه ليس من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وحديث عائشة بعد حديث يعلى بسنتين ، أي فيتعين الأخذ بحديث عائشة ( ولحله ) أي لأجل خروجه من إحرامه بعد أن يرمي ويحلق ( قبل أن يطوف بالبيت ) أي طواف الإفاضة . وفي اللباس عند البخاري : قبل أن يفيض . وللنسائي : (( وحين يريد أن يزور البيت )) ولمسلم نحوه . وللنسائي في رواية أخرى : (( ولحله بعد ما يرمي جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت )) قال القارى : قوله : (( قبل أن يطوف بالبيت )) متعلق بـ (( حله )) وفيه دليل على أن الطيب يحل بالتحلل الأول خلافا لمن ألحقه بالجماع ( بطيب ) متعلق بأطيب ( فيه مسك ) قد تقدم في رواية أنه ذريرة ، ولا تنافي إذ لا مانع أنهم كانوا يخلطون الذريرة بالمسك . قال الحافظ : واستدل به على حل الطيب وغيره من محرمات الإحرام بعد رمي الجمرة ، ويستمر امتناع الجماع ومتعلقاته إلى الطواف بالبيت ، وهو دال على أن للحج تحللين ، فمن قال : عن الحلق نسك كما هو قول الجمهور وهو الصحيح عند الشافعية ، يوقف استعمال الطيب
(17/364)
وغيره من المحرمات المذكورة
عليه . ويؤخذ ذلك من كونه - صلى الله عليه وسلم - في حجته رمى ثم حلق ثم طاف فلو
لا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها : (( قبل أن يطوف
بالبيت )) - انتهى . والحاصل أن إضافة الحل إلى ما قبل الطواف يؤمي إلى أن الحل
الأصغر أي التحلل الأول هو بعد الرمي والحلق وغيرهما ما سوى الطواف . واعلم أن ها
هنا ثلاثة مسائل خلافية ، الأولى : أن الحلاق هل هو نسك أو إطلاق من محظور أي
استباحت محظور ، فذهب الجمهور إلى الأول ، واختلف فيه قول الشافعي ، والصحيح عند
الشافعية : أن الحلق نسك كما تقدم في كلام الحافظ . ولا شك أن الذي تدل نصوص الشرع
على رجحانه أن الحلاق نسك على من أتم نسكه ، وعلى من فاته الحج ، وعلى المحصر بعدو
، وعلى المحصر بمرض . قال ابن قدامة : والحلق والتقصير نسك ، في الحج والعمرة في
ظاهر مذهب أحمد ، وقول الخرقي ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي . وعن أحمد
أنه ليس بنسك وإنما هو إطلاق من محظور كان محرما عليه بالإحرام فأطلق فيه عند الحل
كاللباس والطيب وسائر محظورات الإحرام الثانية : أن التحلل الأول هل يحصل بالرمي
والحلق معا أو بالرمي فقط ، فمن قال : إن الحلق نسك ، قال :
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/365)
إن التحلل الأول لا يكون إلا بعد الرمي والحلق معا ، ومن قال : إن الحلق غير نسك ، قال : يحصل التحلل الأول بمجرد انتهائه من رمي جمرة العقبة يوم النحر ، قال مالك : إذا رمى جمرة العقبة فقد حل له قتل القمل ، وحلق الشعر ، وإلقاء التفث ولبس الثياب . قال الزرقاني : ولم يبق عليه من محرمات الإحرام سوى النساء والصيد ، وكره الطيب حتى يطوف للإفاضة - انتهى . قال الباجى : وذلك أن موانع الإحرام على ضربين : رفث ، وإلقاء تفث ، فالرفث هو الجماع ، وما في معناه مما يدعو إليه ، وأما إلقاء التفث فهو كحلق الشعر ، وخلع ثياب الإحرام ، فأما إلقاء التفث فهو مباح بأول التحللين وهو رمي الجمرة ، وأما الرفث فإنه لا يستباح إلا بآخر التحللين وهو طواف الإفاضة - انتهى . قال الدردير : حل برميها أي جمرة العقبة ، وكذا بخروج وقت أدائها غير جماع ومقدماته وغير صيد ، فحرمتهما باقية ، وكره الطيب وهذا هو التحلل الأصغر . ومذهب الحنفية في المشهور عندهم أن الرمي غير محلل ، ولا يحصل التحلل عندهم إلا بالحلق أو التقصير ، قال الشنقيطي (ج5 : ص288) : مذهب مالك أنه بمجرد رمي جمرة العقبة يوم النحر يحل له كل شيء إلا النساء والصيد والطيب ، والطيب مكروه عنده بعد رميها لإحرام . وإن طاف طواف الإفاضة وكان قد سعى حل له كل شيء . ومذهب أبى حنيفة أنه إذا حلق أو قصر حل التحلل الأول ويحل به كل شيء عنده إلا النساء ، وإن طاف طواف الإفاضة حل له النساء ، وهم يقولون : إن حل النساء بعد الطواف إنما هو بالحلق السابق لا بالطواف لأن الحلق هو المحلل دون الطواف غير أنه أخر عمله إلى ما بعد الطواف فإذا طاف عمل الحلق عمله ، كالطلاق الرجعي أخر عمله إلى انقضاء العدة لحاجته إلى الاسترداد ، فإذا انقضت عمل الطلاق عمله فبانت . والدليل على ذلك أنه لو لم يحلق حتى طاف بالبيت لم يحل له شتى حتى يحلق ، وبذلك تعلم أن المدار عندهم على الحلق ، إلا أن الحلق عندهم بعد
(17/366)
رمي جمرة العقبة وبعد النحر إن
كان الحاج يريد النحر ، ومذهب الشافعي أنه على القول بأن الحلق نسك يحصل التحلل
الأول باثنين من ثلاثة : هي رمي جمرة العقبة ، والحلق ، وطواف الإفاضة . فإذا فعل
اثنين من هذه الثلاثة تحلل التحلل الأول ، وإن فعل الثالث منها تحلل التحلل الثاني
. وبالأول : يحل عنده كل شيء إلا النساء ، وبالثاني : تحل النساء ، وعلى القول بأن
الحلق ليس بنسك ، فالتحلل الأول يحصل بواحد من اثنين هما : رمي جمرة العقبة ،
وطواف الإفاضة ، ويحصل التحلل الثاني بفعل الثاني ، ومذهب الإمام أحمد أنه إن رمى
جمرة العقبة ثم حلق تحلل التحلل الأول ، وبه يحل عنده كل شيء إلا النساء . فإن طاف
طواف الإفاضة حلت له النساء - انتهى . وقال ابن قدامة (ج3 : ص392) : قول الخرقي :
(( قصر من شعره ثم قد حل )) يدل على أنه لا يحل إلا بعد التقصير ، وهذا ينبني على
أن التقصير نسك وهو المشهور ، فلا يحل إلا به ، وفي رواية أخرى : أنه إطلاق من
محظور . وقال أيضا (ج3 : ص439) : ظاهر كلام الخرقي أن الحل إنما يحصل بالرمي
والحلق معا وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، وهو قول الشافعي ، وأصحاب الرأي لقول
النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/367)
رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء ، وترتيب الحل عليهما دليل على حصوله بهما . ولأنهما نسكان يتعقبهما الحل ، فكان حاصلا بهما . وعن أحمد إذا رمى الجمرة فقد حل ، ولم يذكر الحلق ، وهذا يدل على أن الحل بدون الحلق ، وهذا قول عطاء ، ومالك ، وأبى ثور ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقوله في حديث أم سلمة : إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء ، وكذلك قال ابن عباس . قال بعض أصحابنا : هذا مبني على الخلاف في الحلق هل هو نسك أو لا ؟ فإن قلنا : نسك حصل الحل به وإلا فلا . وفي الروض المربع : يحصل التحلل الأول باثنين من حلق ، ورمي ، وطواف ، والتحلل الثاني بما بقى مع سعي - انتهى . وبه جزم النووي في مناسكه فقال : أي اثنين منها أتى بهما حصل التحلل الأول ، ويحصل التحلل الثاني بالعمل الباقي من الثلاثة . هذا على المذهب الصحيح المختار أن الحلق نسك وقال الولي العراقي في طرح التثريب (ج5 : ص80) : قال جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة : للحج تحللان ، ثم اختلفوا في أمرين ( أحدهما ) فيما يحصل به التحلل الأول ، فقال الشافعية : إن قلنا إن الحلق نسك وهو الصحيح المشهور حصل التحلل الأول بفعل أمرين من ثلاثة أمور : وهي رمي جمرة العقبة ، والحلق ، وطواف الإفاضة مع سعيه إن لم يكن سعى عقب طواف القدوم ، فإذا فعل اثنين منها أي اثنين كانا حصل التحلل الأول . وإن قلنا إن الحلق ليس نسكا حصل التحلل الأول بواحد من الرمي والطواف ، فأيهما فعله أولا حل التحلل الأول ، وعند أصحابنا يجوز تقديم بعض هذه الأمور على بعض ، وترتيبها بتقديم الرمي ثم الحلق ثم الطواف مستحب فقط . قالوا : ولو لم يرم جمرة العقبة حتى خرجت أيام التشريق فات الرمي ولزمه دم ، ويصير كأنه رمى بالنسبة لحصول التحلل به . والأصح عند الرافعي ، والنووي أنه يتوقف تحلله على الإتيان ببدله ، ولكن نص الشافعي على خلافه وحكى الرافعي وجها شاذا أنه
(17/368)
يحصل التحلل الأول بالرمي وحده
أو الطواف وحده ، ولو قلنا الحلق نسك . وقال الحنابلة : يحصل التحلل الأول بالرمي
والحلق ، وقال المالكية للحج تحللان يحصل أحدهما برمي جمرة العقبة والآخر بطواف
الإفاضة ، ولو قدم طواف الإفاضة على جمرة العقبة قال مالك ، وابن القاسم : يجزئه
وعليه هدي . وعن مالك أيضا لا يجزئه ، وهو كمن لم يفض ، وقال أصبغ : أحب إلى أن
يعيد الإفاضة وهو في يوم النحر آكد وقال الحنفية : إن التحلل الأول بالحلق خاصة
دون الرمي والطواف فليسا من أسباب التحلل ، وفرقوا بأن التحلل هو الجناية في غير
أوانها ، وذلك مختص بالحلق . وأما ذبح الهدي فليس مما يتوقف عليه التحلل ، إلا أن
الحنفية والحنابلة قالوا : إن المتمتع إذا كان معه هدي لا يحل من عمرته حتى ينحر
هديه يوم النحر ... ( الأمر الثاني ) فيما يحل بالتحلل الأول - وهي المسألة
الثالثة - وقد اتفق هؤلاء على أنه يحل به ما عدا الجماع ومقدماته ، وعقد النكاح ،
والصيد والطيب ، وأجمعوا على أنه لا يحل الجماع . واختلفوا في بقية هذه الأمور
فقال الشافعية : يحل الصيد والطيب ، واختلفوا في عقد لنكاح والمباشرة فيما دون
الفرج .
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/369)
وفيه قولان للشافعي أصحهما التحريم ، كذا صححه النووي ، ونقله عن الأكثرين . وذكر الرافعي أن القائلين به أكثر عددا ، وقولهم أوفق لظاهر النص في المختصر ، ولكنه صحح في الشرح الصغير الحل . واقتضى كلامه في المحرر التفصيل بين المسألتين ، فصرح بإباحة عقد النكاح بالأول وجعل المباشرة داخلة فيما يحل بالثاني ، وكلام الحنابلة موافق للمرجح عندنا . وعبارة الشيخ مجد الدين ابن تيمية في المحرر : ثم قد حل من كل شيء إلا النساء ، وعنه : يحل إلا من الوطء في الفرج ، وكذا مذهب الحنفية . قال صاحب الهداية : وقد حل له كل شيء إلا النساء ، ثم قال : ولا يحل الجماع فيما دون الفرج عندنا خلافا للشافعي ، فنصب الخلاف معه على أحد قوليه . وأما عقد النكاح فهو جائز عندهم في الإحرام وقال المالكية : يستمر تحريم النساء والصيد والطيب إلا أنهم أوجبوا في الصيد الجزاء ولم يوجبوا في الطيب الفدية كما تقدم . قال ابن حزم الظاهري : وهذا عجب ، فإن احتجوا بالأثر الوارد في تطييب النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يطوف بالبيت قلنا : لا يخلو هذا الأثر أن يكون صحيحا ففرض عليكم ألا تخالفوه ، وقد خالفتموه ، أو غير صحيح فلا تراعوه ، وأوجبوا الفدية على من تطيب كما أوجبتموها على من تصيد . وقال ابن عبد البر : راعى مالك الاختلاف في هذه المسألة فلم ير الفدية على من تطيب بعد رمي جمرة العقبة وقبل الإفاضة . وقال أبو عباس القرطبي : اعتذر بعض أصحابنا عن هذا الحديث بادعاء خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك . قلنا الأصل التشريع وعدم التخصيص ، والقول بالتخصيص يحتاج إلى دليل ، وليس ثم دليل على ذلك . وقال ابن العربي : هذه مسألة مشكلة قديما ، اختلف السلف فيها على أربعة أقوال : الأول : أن من رمى الجمرة حل له كل شيء إلا النساء والطيب . الثاني : زاد مالك : (( والصيد )) لقوله تعالى : ? لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ? (5 : 95)
(17/370)
وهذا حرام بعد . الثالث : قال
عطاء إلا النساء والصيد لأن الطيب حل بفعله - صلى الله عليه وسلم - فبقى النساء
والصيد على تحريمه . الرابع : النساء خاصة ، وهو قول الشافعي وهو حديث عائشة وهو
الصحيح . وبه قال ابن عباس ، وطاوس ، وعلقمة - انتهى . قلت : وفيه قول خامس كما
قال ابن النذر : وهو أن المحرم إذا رمى الجمرة يكون في ثوبيه حتى يطوف بالبيت ،
كذلك قال أبو قلابة . قال ابن قدامة : روي عن عروة أنه قال : لا يلبس القميص ، ولا
العمامة ، ولا يتطيب . وروي في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا وقال
ابن المنذر : اختلف أهل العلم فيما أبيح للحاج بعد رمي جمرة العقبة قبل الطواف بالبيت
، فقال عبد الله بن الزبير ، وعائشة ، وعلقمة ، وسالم بن عبد الله ، وطاوس ،
والنخغي ، وعبد الله بن حسن ، وخارجة بن زيد ، والشافعي ، وأحمد , وإسحاق ، وأبو
ثور ، وأصحاب الرأي : يحل له كل شيء إلا النساء ، وروينا ذلك عن ابن عباس ، وقال
عمر بن الخطاب ، وابن عمر : يحل له كل شيء إلا النساء والطيب . وقال مالك : يحل له
كل شيء إلا النساء والطيب والصيد - انتهى . قال الباجى : مذهب مالك المنع من ذلك
ومن دواعي النكاح . قال : ومن رمى جمرة العقبة حل له كل شيء إلا النساء والطيب
والصيد ، فإذا أفاض حل له كل شيء ، فمن تطيب قبل أن يفي فلا فدية عليه ، لأنه وجد
منه أحد التحللين ، ووجه آخر أنه محل اختلف في استباحة
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/371)
استعمال الطيب فيه فلم يجب له فدية ، أصل ذلك التطيب للإحرام - انتهى . وقال الأبي : القول بسقوط الفدية هو له في المدونة . وعنه رواية أخرى بثبوتها ، ولا يتحقق لزومها إلا إذا كان المنع على وجه التحريم - انتهى . وذكر ابن قدامة في المغني (ج3 : ص438) اختلاف العلماء في هذه المسألة نحو ما تقدم عن ابن المنذر ، وقال : إن المحرم إذا رمى جمرة العقبة ثم حلق حل له كل ما كان محظورا بالإحرام إلا النساء ، هذا الصحيح من مذهب أحمد نص عليه في رواية جماعة فيبقى ما كان محرما عليه من النساء من الوطء والقبلة واللمس بشهوة وعقد النكاح ، ويحل له ما سواه ، وعن أحمد أنه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج لأنه أغلظ المحرمات ، ويفسد النسك بخلاف غيره - انتهى . وفى الروض المربع من فروع الحنابلة : ثم إذا رمى ، وحلق ، أو قصر ، فقد حل له كل شيء كان محظورا بالإحرام إلا النساء وطئا ومباشرة وقبلة ولمسا بشهوة وعقد النكاح - انتهى . وبه جزم النووي في المناسك إذ قال : ويحل بالتحلل الأول جميع المحرمات بالإحرام إلا الاستمتاع بالنساء فإنه يستمر تحريمه حتى يتحلل التحللين ، وكذا يستمر تحريم المباشرة بغير الجماع على الأصح ، زاد ابن حجر : أي وتحريم عقد النكاح كما في المنهاج وغيره - انتهى . وقال العيني (ج10 : ص93) بعد ذكر اختلاف العلماء عن ابن المنذر : قلت مذهب عروة وجماعة من السلف أنه لا يحل للحاج اللباس والطيب يوم النحر وإن رمى جمرة العقبة وحلق وذبح حتى تحل له النساء ، ولا تحل له النساء حتى يطوف طواف الزيارة . وقال علقمة ، وسالم ، وطاوس ، وخارجة بن زيد ، وإبراهيم النخعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي ، وأحمد في الصحيح ، وأبو ثور ، وإسحاق : إذا رمى المحرم جمرة العقبة ثم حلق حل له كل شيء كان محظورا بالإحرام إلا النساء ، واختلفوا في حكم الطيب فقال أبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، وأحمد في رواية : حكم الطيب حكم
(17/372)
اللباس فيحل كما يحل اللباس .
وقال مالك ، وأحمد في رواية : حكم الطيب حكم الجماع فلا يحل له حتى يحل الجماع -
انتهى . قلت : قد تقدم في بيان المسألة الثانية أن المحلل عند الحنفية الحلق ،
ولذا قال القاري في شرح اللباب : حكمه أي الحلق التحلل فيباح به جميع ما حظر
بالإحرام من الطيب والصيد ولبس المخيط وغير ذلك إلا الجماع ودواعيه كالتقبيل
واللمس على ما ذكره الكرماني ، لكن في منسك الفارسي والطرابلسى : لا يحل الجماع
فيما دون الفرج بخلاف اللمس والقبلة - انتهى . ولعل مرادهما أنهما مكروهان بخلاف
الجماع فيما دون الفرج فإنه حينئذ حرام فلا تنافي ، فإنه أي الجماع وتوابعه يتوقف
حله على طواف الإفاضة - انتهى . قال الشنقيطى : لم أر لمالك بالنسبة إلى الصيد
مستندا من النقل إلا أمرين : أحدهما : أثر مروي عن مكحول عن عمر رضي الله عنه أنه
قال : إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء والطيب والصيد . ذكر هذا
الأثر صاحب المهذب . وقال النووي في شرحه : وأما الأثر المذكور عن عمر رضي الله
عنه فهو مرسل ، لأن مكحولا لم يدرك عمر ، فحديثه عنه منقطع . والثاني التمسك بظاهر
قوله تعالى : ? لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ? (95 : 5) لأن حرمة الجماع المتفق
عليها بعد رمي جمرة العقبة دليل على بقاء إحرامه في الجملة فيشمله عموم
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/373)
? لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ? لأنه لو زال حكم إحرامه بالكلية لما حرم عليه الوطء . وأما حجته مالكا أعني مالكا بالنسبة إلى النساء والطيب فهي ما روى في موطأه عن نافع ، وعبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر : أن عمر بن الخطاب خطب الناس بعرفة وعلمهم أمر الحج وقال لهم فيما قال : إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب ، لا يمس أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف بالبيت . قال الباجي : لم يذكر عمر تحريم الصيد لأن المقيم بها مقيم بالحرم ، والصيد ممنوع فيه للحلال فلا يستبيحه لطواف الإفاضة ولا غيره ، وإنما تكلم على ما يستباح بطواف الإفاضة ويمنع منه الإحرام خاصة دون حرمة الحرم . ولا خلاف على المذهب أن الصيد ممنوع في ذلك الوقت في الحل ، فلو أصابه في الحل قبل طواف الإفاضة لكان عليه جزاؤه ، وقد قال به ابن القاسم - انتهى . ومما يستدل به لمالك على منع الطيب ما رواه الحاكم في المستدرك (ج1 : ص461) من طريق يحيى بن سعيد ، وعن القاسم بن محمد عن عبد الله بن الزبير ، قال : من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والصبح بمنى ثم يغدو إلى عرفة - الحديث . وفيه فإذا رمى الجمرة الكبرى حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء والطيب حتى يزور البيت . ثم قال : هذا حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه ولم يتعقبه عليه الذهبي . ولا يخفى أن هذه الآثار لا تصلح لمعارضة أحاديث حل الطيب المرفوعة الصحيحة ، وعلى فرض أن أثر ابن الزبير مرفوع ، فهو أيضا لا يعتد به بجنب الأحاديث الدالة على حل الطيب ولا سيما وهى مثبته لحله . قال الشنقيطي : وأما حجة من قال : إنه إن رمى جمرة العقبة وحلق حل له كل شيء إلا النساء ، كأحمد والشافعي ومن وافقهما فمنها حديث عائشة المتفق عليه يعني الحديث الذي نحن في شرحه ، وقد ذكر مسلم لهذا الحديث ألفاظا متعددة متقاربة معناها واحد ، ومنها ما
(17/374)
رواه أحمد (ج1 : ص234 ، 344 ،
369) والنسائي ، وابن ماجة ، والطحاوي ، والبيهقي من طريق الحسن العرني عن ابن
عباس ، قال : إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء . قال رجل : والطيب ؟
فقال ابن عباس : أما أنا فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضمخ رأسه
بالمسك ، أفطيب ذلك أم لا ؟ قال في البدر المنير : إسناده حسن كما قاله المنذري ،
إلا أن يحيى بن معين وغيره قالوا : إن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس . ومنها
ما رواه أحمد ، وأبو داود ، والدارقطني ، والبيهقي ، وسعيد بن منصور ، والطحاوي من
طريق الحجاج بن أرطاة عن الزهري عن عمرة عن عائشة ، قالت : قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - : إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء . قال
أبو داود ، ويحيى بن معين ، وأبو حاتم ، وأبو زرعة : إن الحجاج لم ير الزهري ولم
يسمع منه شيئا . ورواه الطحاوي والبيهقي أيضا من طريق الحجاج بن أرطاة عن أبى بكر
ابن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة . قال المنذري : قد ذكر غير واحد من
الحفاظ أن الحجاج بن أرطاة لا يحتج بحديثه - انتهى . وقد ذكر المصنف حديث ابن عباس
المتقدم وحديث عائشة هذا في باب خطبة يوم النحر
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/375)
ورمي أيام التشريق ، ويأتي بقية الكلام عليهما هناك إن شاء الله . ومنها ما رواه أبو داود والحاكم (ج1 : ص489) والبيهقي من حديث أم سلمة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم النحر : إن هذا يوم رخص لكم إذا رميتم أن تحلوا يعني من كل ما حرمتم منه إلا النساء . وفي إسناده محمد بن إسحاق ، ولكنه صرح بالتحديث ، قال الحافظ وأعتذر بعض المالكية عن الأحاديث الدالة على حل الطيب بعد رمي جمرة العقبة قبل طواف الإفاضة بأن عمل أهل المدينة على خلافها ، وتعقب بما رواه النسائي من طريق أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن سليمان بن عبد الملك لما حج جمع ناسا من أهل العلم منهم : القاسم بن محمد ، وخارجة بن زيد ، وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر ، وعمر عبد العزيز ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث فسألهم عن التطيب قبل الإفاضة فكلهم أمره به ، فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من ا عين قد اتفقوا على ذلك فكيف يدعي مع ذلك العمل على خلافه ؟ قال الشنقيطي : وأما ما ذكرنا عن الشافعي من أنه يحل له كل شيء إلا النساء باثنين من ثلاثة : هي الرمي ، والحلق ، والطواف وتحل النساء بالثالث منها ، بناء على أن الحلق نسك ، وعلى أنه ليس بنسك يحل له كل شيء إلا النساء بواحد من اثنين : هما : الرمي ، والطواف ، وتحل له النساء بالثاني منهما . لم نعلم له نصا يدل عليه هكذا ، والظاهر أنه رأى هذه الأشياء لها مدخل في التحلل ، وقد دل النص الصحيح على حصول التحلل الأول بعد الرمي والحلق فجعل هو الطواف كواحد منهما قال : والتحقيق أن الطيب يحل له بالتحلل الأول لحديث عائشة المتفق عليه الذي هو صريح في ذلك ، وكذلك لبس الثياب ، وقضاء التفث ، وأن الجماع لا يحل له إلا بالتحلل الأخير ، وأما حلية الصيد بالتحلل الأول فهي محل نظر ، لأن الأحاديث التي فيها التصريح بأنه يحل له كل شيء إلا النساء ، قد علمت ما فيها من الكلام ، وحديث عائشة المتفق
(17/376)
عليه لم يتعرض لحل الصيد ،
وظاهر قوله : ? لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ? يمكن أن يتناول ما بعد التحلل الأول
لأن حرمة الجماع تدل على أنه متلبس بالإحرام في الجملة وإن كان قد حل له بعض ما
كان حراما عليه - انتهىكلام الشنقيطي . تنبيه : عقد الترمذي لحديث عائشة هذا ((
باب ما جاء في الطيب عند الإحلال قبل الزيارة )) وقال بعد روايته : والعمل على هذا
عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم يرون أن المحرم
إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر وذبح وحلق أو قصر فقد حل له كل شيء إلا النساء وهو
قول الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ( وهو قول الحنفية ) وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه
قال : حل له كل شيء إلا النساء والطيب . ( أخرجه محمد في الموطأ بلفظ (( من رمى
الجمرة ثم حلق أو قصر ونحر هديا إن كان معه ، حل له ما حرم عليه في الحج إلا
النساء والطيب حتى يطوف بالبيت )) . ) وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا من أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم ( وبه قال ابن عمر رضي الله عنه وهو قول مالك
) وهو قول أهل الكوفة ( ليس المراد بأهل الكوفة الإمام أبا حنيفة لأن مذهبه في هذا
الباب هو ما ذهب إليه الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ) . قال محمد في الموطأ بعد رواية
أثر عمر المذكور : هذا قول عمر ، وابن عمر ، وقد روت عائشة خلاف ذلك . قالت : طيبت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين
كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/377)
بعد ما حلق قبل أن يزور البيت
. فأخذنا بقولها ، وعليه أبو حنيفة والعامة من فقهائنا - انتهى . والعبارات
المذكورة بين القوسين كلها لشيخنا في شرح كلام الترمذي ، وكلام شيخنا في شرح هذا
المقام وكذا كلام الترمذي كلاهما . واضح بين حق وصواب ليس فيه أدنى خفاء وغموض لكن
مع وضوحه لم يفهمه البنوري بل أخطا خطأ فاحشا فاعترض على شيخنا ، وليس ذلك إلا
لسوء فهمه وسقمه :
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم أو لعدائه الكامن في قلبه مع أصحاب
الحديث عامة ومع شيخنا خاصة ، حيث اعترض عليه ولم يدر ما يخرج من فيه وما يسود به
القرطاس قال البنوري في (( معارف السنن )) (ج6 : ص526) : وما ذكره الترمذي من عدم
الجواز قول أهل الكوفة فليس هو مذهبه أهل الكوفة من الإمام أبى حنيفة وأصحابه ، بل
هو مذهب محمد بن الحسن الشيباني من أصحابه كما صرح به الموطأ بعد رواية أثر عمر
الفاروق : فقال وبهذا نأخذ ... قال : وأما أبو حنيفة فإنه كان لا يرى به بأسا -
انتهى . هكذا عبارة الإمام محمد في موطأه ، وما ذكره الشيخ المباركفوري في تحفته
معزوا إلى الموطأ فقد غلط وأخطأ في نقل عبارته ، ولا أدري ماذا حدث له . والله
أعلم - انتهى كلام البنوري . قلت : لم يخطأ شيخنا في نقل العبارة عن الموطأ كما لا
يخفى على من طالع موطأه (ص227) باب ما يحرم على الحاج بعد رمي جمرة العقبة يوم
النحر فكل ما كتبه شيخنا في شرح الترمذي في هذا الباب هو حق وصواب . نعم كلام
البنوري يدل على أنه لم يفهم كلام الترمذي أصلا حيث نقل كلام الإمام محمد عن موطأه
من باب من تطيب قبل أن يحرم (ص197 ، 198) مع أنه لا علاقة له بما ذكره الترمذي في
الباب المذكور من أثر عمر ، واختلاف أهل العلم في مسألة التطيب بعد الرمي والحلق
قبل طواف الزيارة ( كأني أنظر ) أرادت بذلك قوة تحققها لذلك بحيث أنها لشدة
استحضارها له كأنها ناظرة إليه ( إلى وبيص الطيب ) أي بريقه ولمعانه ، وفي==
20. : مرعاة المفاتيح
رواية لمسلم : (( وبيص المسك
)) والوبيص بفتح الواو وكسر الموحدة بعدها ياء تحتانية ثم صاد مهملة البريق ، من
وبص الشيء يبص وبيصا أي برق . وقال الإسماعيلي : الوبيص زيادة على البريق وأن
المراد به التلألؤ وأنه يدل على وجود عين قائمة لا الريح فقط ( في مفارق رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - ) بفتح الميم جمع مفرق بفتح الميم وكسر الراء ويجوز فتحها
وهو المكان الذي يفرق فيه الشعر في وسط الرأس ، قيل : ذكرته بصيغة الجمع نظرا إلى
أن كل جزء منه كان مفرقا . قال القاري : المفرق وسط الرأس الذي يفرق فيه شعر الرأس
وإنما ذكر على لفظ الجمع تعميما لسائر جوانب الرأس التي يفرق فيها كأنهم سموا كل
موضع منه مفرقا وفي رواية للشيخين : (( مفرق )) على لفظ الواحد وهكذا ذكره البغوي
في مصابيح السنة . وفي رواية البخاري في اللباس (( كنت أطيب النبي - صلى الله عليه
وسلم - بأطيب ما يجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته )) ( وهو محرم ) زاد
النسائي ، وابن حبان ، وابن ماجة : (( بعد ثلاث )) وفيه دليل
متفق عليه .
2565- (2) وعن ابن عمر ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل ملبدا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/379)
على أن بقاء أثر الطيب ورائحته بعد الإحرام لا يضر ولا يوجب فدية كما هو مذهب الجمهور : الشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة وغيرهم من السلف والخلف خلافا لمالك ومن وافقه . ( متفق عليه ) أي على أصل الحديث ، وقد رواه البخاري في الطهارة ، وفي الحج ، وفي اللباس ، ومسلم في الحج ، وصنيع المصنف والبغوي يدل على أن سياق الحديث على النسق المذكور للشيخين جميعا وأنهما أورداه بهذا اللفظ ، والأمر ليس كذلك فقولها : (( لإحرامه قبل أن يحرم ولحله )) لمسلم . ولفظ البخاري : (( لإحرامه حين يحرم )) وفي أخرى له : (( حين أحرم ولحله حين أحل )) وقولها : (( بطيب فيه مسك )) لمسلم وحده . وأما قولها : (( كأني أنظر )) إلخ . فقد اتفقنا عليه ، رواه البخاري في الطهارة ، والحج ، ومسلم في الحج والحديث أخرجه أيضا أحمد ، ومالك ، والترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن حبان ، والطحاوي ، وابن الجارود ، والبيهقي وغيرهم بألفاظ مختلفة متقاربة المعنى من شاء الوقوف على اختلاف روايات الشيخين وأصحاب السنن رجع إلى جامع الأصول (ج3 : ص397) .
(17/380)
2565- قوله : ( يهل ) من الإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية ( ملبدا ) بكسر الباء وفتحها ، حال من فاعل يهل ، أي سمعته يرفع صوته بالتلبية حال كونه ملبدا شعر رأسه بنحو الصمغ لينضم الشعر ويلتصق بعضه ببعض احترازا عن تمعطه وتقمله . قال العلماء : التلبيد إلصاق شعر الرأس عند الإحرام بالصمغ أو الخطمي وشبههما مما يضم الشعر ويلزق بعضه ببعض ويمنعه من التشعث ، والتمعط ، والتقمل ، وتخلل الغبار في الإحرام ، وإنما يفعل ذلك من يطول مكثه في الإحرام ، واستفيد من استحباب التلبيد قبل الإحرام لكونه أرفق به . وقد نص عليه الشافعي وأصحابه ، وهو موافق لحديث الأعرابي الذي خر عن بعيره وهو محرم فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يمسوه بطيب ولا يخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا. وفي رواية (( ملبدا )) رواه أحمد ، والشيخان . قلت : التلبيد مندوب عند الشافعية صرح به العيني ، والقسطلاني ، والطبري وغيرهم ، وكذا ذكره في مندوبات الإحرام أصحاب فروع الشافعية كصاحب تحفة المحتاج (ج4 : ص56) وغيره ، وأما عند الحنفية فصرح أهل فروعهم أن التلبيد إن كان بالثخين ففيه دم للتغطية وإن كان مع الطيب أيضا ففيه دمان . قال ابن الملك : التلبيد جائز عند الشافعي ، وعندنا يلزمه دم إن لبد بما ليس فيه طيب لأنه كتغطية الرأس ، ودمان إن كان فيه طيب . وأشكل عليه صاحب البحر بما ثبت في الصحيحين من تلبيده - صلى الله عليه وسلم - . قال ابن عابدين في هامشه : أجاب عنه العلامة المقدسي في شرحه بقوله : أقول لا ريب في وجوب حمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على ما هو سائغ بل ما هو أكمل . فالتلبيد الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - يسير لا يحصل به التغطية ، ولا يمنع ابتداء فعله في الإحرام ولا بقاؤه . والموجب للدم يحمل على المبالغة فيه بحيث تحصل منه تغطية . وقال أيضا في رد المحتار : وعليه يحمل ما في الفتح عن رشيد الدين في مناسكه إذ قال :
(17/381)
وحسن أن يلبد رأسه قبل الإحرام
- انتهى . وقال صاحب الغنية (ص35) : وحسن أن يلبد رأسه بنحو خطمي أو
يقول : لبيك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غيره لكن تلبيدا سائغا وهو اليسير الذي لا يحصل به التغطية ، فإن استصحاب التغطية
الكائنة قبل الإحرام لا يجوز بخلاف الطيب ، وعليه يجب أن يحمل تلبيده - صلى الله
عليه وسلم - في إحرامه ، وتمامه في جنايات رد المحتار . وقال القاري : ولعله كان
به - صلى الله عليه وسلم - عذر ، قال : ويمكن حمله على التلبيد اللغوي من جمع
الشعر ولفه وعدم تخليته متفرقا ، ففي القاموس : تلبد الصوف ونحوه تداخل ولزق بعضه
ببعض - انتهى . قلت : حمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على عذر يحتاج إلى دليل ،
والأصل عدم العذر وأما حمل التلبيد على المعنى اللغوي ففيه : أن شراح الحديث ،
وأهل اللغة ، وأصحاب غريب الحديث : كالخطابي ، والحافظ ، والعيني ، والمجد ،
والجوهري ، والجزري ، والزمخشري وغيرهم قد اتفقوا على ما ذكرنا من العلماء من معنى
التلبيد ، ولزوق بعض الصوف أو الشعر ببعضه لا يحصل إلا بما يصلح للإلزاق والإلصاق
كالصمغ أو الخطمي أو العسل وما يشبه ذلك ، ويؤيد ذلك ما سيأتي في الفصل الثاني من
حديث ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - لبد رأسه بالغسل . قال الحافظ : قال ابن
عبد السلام يحتمل أنه بفتح المهملتين ، ويحتمل أنه بكسر المعجمة وسكون المهملة ،
وهو ما يغسل به الرأس من خطمي أو غيره . قال الحافظ ضبطناه في روايتنا في سنن أبى
داود بالمهملتين - انتهى . والظاهر أن ابن عمر ذكر ما رأى من تلبيده - صلى الله
عليه وسلم - عند الإحرام وهو الذي فهمه أبو داود وغيره حيث أورد حديثه هذا في المناسك
( يقول ) بدل من يهل ( لبيك ) اختلف في لفظه وفي اشتقاقه ومعناه ، أما لفظة فتثنية
عند سيبويه ومن تبعه ، يراد بها التكثير في العدد والعود مرة لا أنها لحقيقة
التثنية بحيث لا يتناول إلا فردين
(17/382)
وقال يونس بن حبيب البصري : هو
اسم مفرد ، والياء فيه كالياء في لديك وعليك وإليك ، يعني في انقلاب الألف ياء
لاتصالها بالضمير ، ورد بأنها قلبت ياء مع المظهر . وعن الفراء : هو منصوب على
المصدر ولا يكون عامله إلا مضمرا وأصله (( لبا لك )) فثني على التأكيد أي ألب
إلبابا بعد إلباب . وأما معناه : فقيل : معناه أجبتك إجابة بعد إجابة أو إجابة
لازمة ، قال ابن الأنباري : ومثله حنانيك أي تحننا بعد تحنن ، وقيل : معناه أنا
مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة ، من ألب بالمكان كذا ولب به ، إذا أقام به ولزمه
، وقيل معناه : اتجاهي وقصدي إليك ، مأخوذ من قولهم : دارى تلب دارك وتواجهها .
وقيل : معناه محبتي لك من قولهم : امرأة لبة إذا كانت محبة لزوجها ، وعاطفة على
ولدها ، وقيل : إخلاصي لك من قولهم : حسب لبابك أي خالص محض ومن ذلك لب الطعام ،
ولبابه ، وقيل : قربا منك من الإلباب وهو : القرب ، وقيل : معناه أنا ملب بين يديك
، أي خاضع لك . حكى هذه الأقوال القاضي عياض وغيره . قال الحافظ ، والعيني :
والأول منها أظهر وأشهر ، لأن المحرم مستجيب لدعاء الله إياه في حج بيته ، ولهذا
من دعا فقال : لبيك فقد استجاب . وقال ابن عبد البر : قال جماعة من أهل العلم : إن
معنى التلبية : إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام حين أذن في الناس بالحج - انتهى .
قال الحافظ : وهذا أخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبى حاتم بأسانيدهم في
تفاسيرهم عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة وقتادة وغير واحد ، والأسانيد
إليهم قوية ، وأقوى ما فيه عن ابن عباس ما أخرجه أحمد بن منيع في مسنده ، وابن أبي
حاتم من طريق قابوس بن أبى ذبيان عن أبيه ، عنه ، قال : لما فرغ إبراهيم عليه
السلام من بناء البيت قيل له :
اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/383)
أذن في الناس بالحج ، قال : رب ! وما يبلغ صوتي ؟ قال : أذن وعلي البلاغ . قال : فنادى إبراهيم : يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق ، فسمعه من بين السماء والأرض ، أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون . ومن طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ، وفيه : (( فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء )) ، وأول من أجابه أهل اليمن . فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ . قال ابن المنير في الحاشية : وفي مشروعيته التلبية تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه سبحانه وتعالى ( اللهم لبيك ) أي يا الله ! أقمت ببابك إقامة بعد إقامة وأجبت نداءك إجابة بعد أخرى . وجملة (( اللهم )) بمعنى يا الله بين المؤكد والمؤكد ، والتثنية لإفادة التكرار والتكثير ، كما في قوله تعالى : ? ثم ارجع البصر كرتين ? (67 : 4) أي كرات كثيرة ، وتكرار اللفظ لتوكيد ذلك ( لبيك لا شريك لبيك ) استئناف فيستحسن الوقف على لبيك الثانية كما يستحسن على الرابعة . قال القاري : التلبية الأولى المؤكدة بالثانية لإثبات الألوهية ، وهذه بطرفيها لنفي الشركة الندية والمثلية في الذات والصفات ( إن الحمد ) روى بكسر الهمزة على الاستيناف وفتحها على التعليل ، وجهان مشهوران لأهل الحديث واللغة . قال الجمهور : والكسر أجود . وحكاه الزمخشري عن أبى حنيفة ، وابن قدامة عن أحمد بن حنبل ، وحكاه ابن عبد البر عن اختيار أهل العربية . وقال الخطابي : الفتح رواية العامة . وحكاه الزمخشري عن الشافعي . وقال ثعلب : الاختيار الكسر ، وهو أجود في المعنى من الفتح ، لأن من كسر جعل معناه : إن الحمد والنعمة لك على كل حال ، ومن فتح قال معناه : لبيك لهذا السبب ، وكذا رجح الكسر ابن دقيق العيد ، والنووي ، قال ابن دقيق العيد : لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير
(17/384)
معللة ، وأن الحمد والنعمة لله
على كل حال ، والفتح يدل على التعليل ، فكأنه يقول : أجبتك لهذا السبب ، والأول
أعم وأكثر فائدة . وقال ابن الهمام : الكسر أوجه ويحوز الفتح ، أما الكسر فهو على
استيناف الثناء وتكون التلبية للذات ، والفتح على أنه تعليل للتلبية ، أي لبيك لأن
الحمد والنعمة لك . ومال الباجي إلى أن لا مزية لأحد الوجهين على الآخر ، وقال ابن
عبد البر : المعنى عندي واحد ، لأنه يحتمل أن يكون من فتح الهمزة أراد لبيك لأن
الحمد على كل حال ، والملك لك والنعمة وحدك دون غيرك حقيقة لا شريك لك . وتعقب بأن
التقييد ليس في الحمد ، وإنما هو في التلبية ، فمعنى الفتح تلبيته بسبب أن له
الحمد ، ومعنى الكسر تلبيته مطلقا غير معلل ولا مقيد فهو أبلغ في الاستجابة لله (
والنعمة لك ) المشهور فيه النصب . قال عياض : ويجوز الرفع على الابتداء ، ويكون
الخبر محذوفا ، والتقدير : إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك . قال ابن الأنباري : إن
شئت جعلت خبر إن محذوفا ، والموجود خبر المبتدأ تقديره : إن الحمد لك والنعمة
مستقرة لك ( والملك ) بالنصب أيضا على المشهور ، ويجوز الرفع وتقديره : والملك
كذلك ، قال الحافظ : وقال الولي العراقي : فيه وجهان أيضا ، أشهرهما النصب
لا شريك لك . لا يزيد على هؤلاء الكلمات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/385)
عطفا على اسم إن ، والثاني الرفع على الابتداء ، والخبر محذوف لدلالة الخبر المتقدم عليه . ويحتمل أن تقديره : والملك كذلك . وقال القاري : بالنصب عطف على الحمد ولذا يستحب الوقف عند قوله : (( والملك )) قال ابن المنير : قرن الحمد والنعمة وأفرد (( الملك )) لأن الحمد متعلق بالنعمة ولهذا يقال : الحمد لله على نعمه فجمع بينهما ، وأما الملك فهو معنى مستقل بنفسه ذكر لتحقيق أن النعمة كلها لله لأنه صاحب الملك . قال القاري : ولا مانع من أن يكون (( الملك )) مرفوعا ، وخبره ( لا شريك لك ) أي فيه ( لا يزيد ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( هؤلاء الكلمات ) أي التلبية المذكورة . قيل : هذا لا ينافي ما رواه النسائي وغيره من حديث أبى هريرة قال : كان من تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لبيك إله الحق )) لاحتمال أن ابن عمر لم يسمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمعها أبو هريرة ، والظاهر أنه كان يقول هذه الجملة التي رواها أبو هريرة قليلا لتضافر الروايات على رواية ابن عمر . قلت حديث ابن عمر الذي نحن في شرحه رواه الشيخان من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه ، وروى أحمد (ج2 : ص47 ، 77) ، ومالك ، ومسلم من طريق نافع عن ابن عمر مرفوعا لفظ التلبية كما هو متفق عليه ، ثم زادوا (( قال ( أي نافع ) وكان عبد الله بن عمر يزيد مع هذا : لبيك ، لبيك ، لبيك وسعديك والخير بيديك ، لبيك والرغباء إليك والعمل )) فإن قيل : كيف زاد ابن عمر في التلبية ما ليس منها مع أنه كان شديد التحري لإتباع السنة ؟ واللائق بورعه وشدة إتباعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يزيد على تلبيته - صلى الله عليه وسلم - أجاب الأبي بأنه رأى أن الزيادة على النص ليست نسخا ، وأن الشيء وحده كذلك هو مع غيره ، فزيادته لا تمنع من إتيانه بتلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو فهم عدم القصر على أولئك الكلمات ، وأن الثواب يتضاعف
(17/386)
بكثرة العمل ، واقتصار المصطفى
- صلى الله عليه وسلم - بيان لأقل ما يكفي وأجاب الولي العراقي بأنه ليس فيه خلط
السنة بغيرها ، بل لما أتى بما سمعه ضم إليه ذكرا آخر في معناه ، وباب الأذكار لا
تحجير فيه إذا لم يؤد إلى تحريف ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الذكر
خير موضوع والاستكثار منه حسن ، على أن أكثر هذا الذي زاده كان - صلى الله عليه
وسلم - يقوله في دعاء استفتاح الصلاة ، وهو : لبيك وسعديك ، والخير في يديك ،
والشر ليس إليك - انتهى . والجوابان متقاربان . وفي مسلم وأحمد (ج2 : ص131) : عن
ابن عمر ، كان عمر يهل بإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء الكلمات
، ويقول : لبيك اللهم لبيك وسعديك ، إلى آخر ما زاده هنا ، قال الحافظ : فعرف أن
ابن عمر اقتدى في ذلك بأبيه ، وأخرج ابن أبى شيبة عن المسور بن مخرمة قال : كانت
تلبية عمر ، فذكر مثل المرفوع وزاد : لبيك مرغوبا ومرهوبا إليك ، ذا النعماء والفضل
الحسن - انتهى . واعلم أنه أجمع المسلمون على لفظ التلبية المذكورة في حديث ابن
عمر المتفق عليه ، وحديث جابر الطويل عند مسلم في قصته حجة الوداع ، ولكن اختلفوا
في الزيادة عليه بألفاظ فيها تعظيم الله ودعاءه ونحو ذلك ، فكره بعضهم الزيادة على
تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحكاه ابن عبد البر عن مالك قال : وهو
أحد قولي الشافعي . وقال آخرون : لا بأس بالزيادة المذكورة ، واستحب بعضهم الزيادة
المذكورة . قال ابن عبد البر : أجمع
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/387)
العلماء على القول بهذه التلبية المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واختلفوا في الزيادة فيها فقال مالك : أكره الزيادة فيها على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد روى عنه أنه لا بأس أن يزاد فيها ما كان ابن عمر يزيده . وقال الثورى ، والأوزاعي ، ومحمد ابن الحسن : له أن يزيد فيها ما شاء وأحب ، وقال أبو حنيفة ، وأحمد ، وأبو ثور : لا بأس بالزيادة . وقال الترمذي : قال الشافعي : إن زاد في التلبية شيئا من تعظيم الله تعالى فلا بأس إن شاء الله ، وأحب إلى أن يقتصر على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال أبو يوسف والشافعي في قول لا ينبغي أن يزاد فيها على تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - المذكورة وإليه ذهب الطحاوي واختاره ، ذكره العيني . وقال الحافظ بعد ذكر ما روى عن ابن عمر وأبيه رضي الله عنهما من الزيادة على التلبية المروية عنه - صلى الله عليه وسلم - ما لفظه : واستدل به على استحباب الزيادة على ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك . قال الطحاوي بعد أن أخرجه أي لفظ التلبية المرفوع من حديث ابن عمر ، وابن مسعود ، وعائشة ، وجابر ، وعمرو بن معد يكرب : أجمع المسلمون جميعا على هذه التلبية غير أن قوما قالوا : لا بأس أن يزيد فيها من الذكر لله ما أحب ، وهو قول محمد ، والثوري ، والأوزاعي ، واحتجوا بحديث أبى هريرة يعني الذي أخرجه أحمد ، والنسائي ، وابن ماجة ، وصححه ابن حبان ، والحاكم ، قال : كان من تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبيك إله حق لبيك ، وبزيادة ابن عمر المذكورة . وخالفهم آخرون فقالوا : لا ينبغي أن يزاد على ما عمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس كما في حديث عمرو بن معد يكرب ثم فعله هو ولم يقل : لبوا بما شئتم مما هو من جنس هذا ، بل علمهم كما علمهم التكبير في الصلاة ، فكذا لا ينبغي أن يتعدى في ذلك شيئا مما علمه ثم أخرج حديث عامر بن
(17/388)
سعد بن أبى وقاص عن أبيه : أنه
سمع رجلا يقول : لبيك ذا المعارج ، فقال : إنه لذو المعارج ، وما هكذا كنا نلبي
على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فهذا سعد قد كره الزيادة في
التلبية ، وبه نأخذ - انتهى . قال في البحر : هذا اختيار الطحاوي ، ولعل مراده من
الكراهة أن يزيد الرجل من عند نفسه على التلبية المأثورة ، أو أراد الزيادة في
خلال التلبية المسنونة ، فإن أصحابنا قالوا : إن زاد عليها فهو مستحب . قال صاحب
السراج الوهاج : هذا بعد الإتيان بها ، أما في خلالها فلا - انتهى . وفي (( غنية
الناسك )) ندب أن يزيد فيها لا في خلالها بل بعدها وجاز قبلها فيقول : لبيك إله
الخلق لبيك ، أو لبيك لبيك وسعديك ، إلخ . ولا يستحب الزيادة من غير المأثور بل هو
جائز كما يفهم من الفتح والتبيين . أما النقص عنها أو الزيادة في خلالها فيكره
تنزيها ، ذكره في الكبير . وفي شرح اللباب : ما وقع من الزيادة مأثورا يستحب ، وما
ليس مرويا فجائز أو حسن ، كذا في رد المحتار . وقال محمد بعد رواية حديث ابن عمر
من طريق نافع ، وفيه الزيادة المذكورة ، وبهذا نأخذ ، التلبية هي التلبية الأولى
التي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما زدت فحسن وهو قول أبى حنيفة
والعامة من فقهائنا - انتهى . قال الحافظ : ويدل على الجواز ما وقع عند النسائي من
طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود قال : كان من تلبية النبي - صلى الله عليه
وسلم - ، فذكره . ففيه دلالة على أنه كان يلبي بغير ذلك . وما تقدم من حديث أبى
هريرة عند النسائي وابن ماجة ، وابن حبان ، والحاكم وما تقدم عن عمر وابن عمر من
فعلهما ، وروى سعيد بن منصور
متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/389)
من طريق الأسود بن يزيد أنه كان يقول : لبيك غفار الذنوب . وللحاكم ، والبيهقي عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفات ، فلما قال : لبيك اللهم لبيك ، قال : إنما الخير خير الآخرة . وللدارقطني في العلل وأبي ذر الهروي ، والبزار عن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : لبيك حجا تعبدا ورقا . ولمسلم في حديث جابر الطويل في صفة الحج : حتى استوت به ناقته على البيداء وأهل بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك إلخ . وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم شيئا منه ، ولزم تلبيته وأخرجه أبو داود من الوجه الذي أخرجه منه مسلم ، قال : والناس يزيدون (( ذا المعارج )) ونحوه من الكلام ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع فلا يقول لهم شيئا . وفي رواية البيهقي (( ذا المعارج )) و (( ذا الفواصل )) قال الحافظ بعد ذكر حديث جابر من رواية مسلم وأبى داود : وهذا يدل على أن الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل لمداومته هو - صلى الله عليه وسلم - عليها ، وأنه لا بأس بالزيادة لكونه لم يردها عليهم وأقرهم عليها وهو قول الجمهور ، وبه صرح أشهب ، وحكى عن ابن عبد البر عن مالك الكراهة . قال : وهو أحد قولي الشافعي ، وحكى الترمذي عن الشافعي ، قال : فإن زاد في التلبية شيئا من تعظيم الله فلا بأس ، وأحب إلى أن يقتصر على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن ابن عمر حفظ التلبية عنه ، ثم زاد من قبله زيادة ونصب البيهقي الخلاف بين أبى حنيفة والشافعي فقال : الاقتصار على المرفوع أحب ولا ضيق أن يزيد عليها ، قال : وقال أبو حنيفة : إن زاد فحسن ، وحكى في المعرفة عن الشافعي قال : ولا ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر وغيره من تعظيم الله ودعائه ، غير أن الاختيار عندي أن يفرد ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك - انتهى . وهذا أعدل الوجوه فيفرد ما جاء مرفوعا . وإذا اختار قول ما جاء موقوفا أو أنشأه هو من
(17/390)
قبل نفسه مما يليق قاله على
انفراده حتى لا يختلط بالمرفوع ، وهو شبيه بحال الدعاء في التشهد ، فإنه قال فيه :
ثم ليتخير من المسألة والثناء ما شاء أي بعد أن يفرغ من المرفوع ، كما تقدم ذلك في
موضعه - انتهى . قلت : الأفضل والأولى هو الإقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -
والاقتصار على لفظ تلبيته الثابت في الصحيحين وغيرهما ، لأن الله تعالى يقول : ?
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ? وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول : ((
لتأخذوا عني مناسككم )) ، وأن الزيادة المذكورة لا بأس بها ، لما روي من فعل عمر
وابنه ، ومعلوم أن الزيادة على تلبيته النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان فيها
محذور لما فعلها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ،
ولما وقع في حديث جابر الطويل عند مسلم وأبى داود ، وهو واضح في أنهم يزيدون على
تلبيته - صلى الله عليه وسلم - ويقرهم على ذلك . ولم ينكره عليهم كما ترى . ( متفق
عليه ) رواه البخاري في اللباس ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا البيهقي (ج5 : ص44) ،
وأخرجه البخاري أيضا في الحج من طريق نافع عن ابن عمر مختصرا ، ورواه أحمد بذكر
التلبيد والتلبية جميعا في (ج2 : ص131) وبذكر التلبية فقط مرارا ، وروى النسائي ،
وأبو داود ، وابن ماجة التلبيد في باب التلبيد والتلبية في باب صفة التلبية ، وروى
مالك ، والترمذي فقط . وأما قوله : (( لا يزيد على هؤلاء الكلمات )) فلم أجده إلا
عند الشيخين والبيهقي . والله أعلم .
2566- (3) وعنه ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أدخل رجله في
الغرز واستوت به ناقته قائمة
أهل من عند مسجد ذي الحليفة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/391)
2566- قوله : ( إذا أدخل ) كذا في جميع النسخ للمشكاة والمصابيح ، وهكذا في رواية أحمد (ج2 :ص29 ، 37)، والبيهقي (ج5 : ص35) ، وابن ماجة ، وكذا ذكر المحب الطبري في القرى (ص65) وعزاه لمسلم . والذي في صحيح مسلم (( وضع )) مكان أدخل ( في الغرز ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعدها زاي أي الركاب من جلد أو خشب ، وقيل : هو ركاب كور البعير من جلد أو خشب أو حديد ، وقيل : هو للكور مطلقا مثل الركاب للسرج الذي يضع الراكب قدميه فيه ، والكور بالضم بالفارسية (( بالان )) والركاب بالكسر حلقه آهني كه بر زين بندند تا وقت سواري بائي در آن نهند ( واستوت به ناقته ) أي رفعته مستويا على ظهرها فالباء للتعدية ، وفي مسلم : (( وابعثت به راحلته قائمة )) وفي أخرى له : (( أهل حين استوت به ناقته )) ومعنى انبعاثها به استواءها قائمة ( أهل ) أي رفع صوته بالتلبية ونوى أحد النسكين أو بهما ( من عند مسجد ذي الحليفة ) يريد بدأ بالإهلال منه ، وكان ابن عمر ينكر بذلك على من روى أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أهل حين استوى على البيداء وقد اختلفت الروايات عن الصحابة في مبدأ إهلاله - صلى الله عليه وسلم - فمنها ما يدل على أنه أهل في دبر الصلاة في مسجد ذي الحليفة كما في رواية ابن عباس عند أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، والبيهقي (ج5 : ص37) وفي رواية أبى داود المازني عند ابن حزم (ج7 : ص93) ، ومنها ما يدل على أنه أهل حين استوت به ناقته قائمة خارج مسجد ذي الحليفة عند الشجرة كما وقع في روايات ابن عمر عند أحمد ، والشيخين وغيرهم ، وفى حديث أنس عند البخاري ، وأبى داود ، والبيهقي ، والطحاوي . وقال الزيلعي بعد ذكر حديث أنس : وأخرج أي البخاري أيضا عن عطاء عن جابر أن إهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذي الحليفة حين استوت به راحلته - انتهى . وقال المجد في المنتقى بعد ذكر حديث جابر : رواه البخاري ، وقال : رواه أنس ، وابن عباس -
(17/392)
انتهى . ومنها ما يدل على أنه
أهل حين استوت به على البيداء أي بعد ما علا على شرف البيداء كما وقع في روايات
ابن عباس أيضا عند أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وأبي داود ، والدار قطني
، والبيهقي ، والحاكم (ج1 : ص447) ، والطحاوي . وفي حديث جابر عند مسلم ، والترمذي
، والطحاوي . وفي حديث أنس عند أحمد ، والنسائي ، وأبي داود . وفي حديث سعد بن أبي
وقاص عند أبى داود ، والنسائي ، والبيهقي ، والحاكم . والبيداء هذه قال العلماء :
هي الشرف الذي قدام ذي الحليفة إلى جهة مكة وهي بقرب ذي الحليفة ، وذكره النووي ،
وقال البكري : البيداء هذه فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد الوادي ، وفي أول البيداء
بئر ماء . وقد جمع بين هذه الروايات المختلفة بأن الناس كانوا يأتون أرسالا جماعة
بعد أخرى فرأى قوم شروعه - صلى الله عليه وسلم - في الإهلال بعد الفراغ من صلاته
بمسجد ذي الحليفة فنقلوا عنه أنه أهل بذلك المكان ثم أهل لما استقلت به راحلته
فسمعه
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/393)
آخرون فظنوا أنه شرع في الإهلال في ذلك الوقت لأنهم لم يسمعوا إهلاله بالمسجد فقالوا : إنما أهل عندما استقلت به راحلته ، ثم روى كذلك من سمعه يهل على شرف البيداء ، وإلى هذا الجمع مال ابن القيم حيث قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر ركعتين ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه ثم ركب على ناقته وأهل أيضا ، ثم أهل لما استقلت به على البيداء - انتهى مختصرا ملخصا . ويؤيد هذا الجمع ما رواه أحمد (ج1 : ص) ، وأبو داود ، والحاكم (ج1 : ص451) ، والبيهقي (ج5 : ص37) ، والطحاوي (ج1 : ص362) عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : عجبا لاختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إهلاله فقال : إني لأعلم الناس بذلك إنما كانت منه حجة واحدة ، فمن هنالك اختلفوا ، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه ، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل ، وأدرك ذلك منه أقوام ، وذلك أن الناس كانوا يأتون أرسالا فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا : إنما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استقلت به ناقته ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما علا شرف البيداء أهل ، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا : إنما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين علا على شرف البيداء ، وأيم الله لقد أوجب في مصلاه وأهل حين استقلت به ناقته ، وأهل حين علا على شرف البيداء - انتهى . قال الحافظ في الفتح : وقد أزال الإشكال أي إشكال اختلاف الروايات في مكان إهلاله - صلى الله عليه وسلم - ما رواه أبو داود ، والحاكم من طريق سعيد بن جبير قلت لابن عباس : عجبت ، فذكر الحديث ، ثم قال : فعلى هذا فكان إنكار ابن عمر على ما يخص الإهلال بالقيام على شرف البيداء - انتهى . وقال الشوكاني في شرح حديث ابن عباس المذكور : هذا الحديث
(17/394)
يزول به الإشكال ، ويجمع بين
الروايات المختلفة بما فيه ، فأوضحه ثم قال : وهذا يدل على أن الأفضل لمن كان
ميقاته ذا الحليفة أن يهل في مسجدها بعد فراغه من الصلاة ، ويكرر الإهلال عند أن
يركب على راحلته وعند أن يمر بشرف البيداء - انتهى . وقال الطحاوي بعد رواية حديث
ابن عباس المذكور : فبين عبد الله ابن عباس الوجه الذي جاء اختلافهم ، وأن إهلال
النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ابتدأ الحج ودخل به فيه كان في مصلاه ، فبهذا
نأخذ ، ينبغي للرجل إذا أراد الإحرام أن يصلي ركعتين ثم يحرم في دبرهما كما فعل
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا قول أبى حنيفة ، وأبى يوسف ، ومحمد - انتهى
. وقال الحافظ في الدراية : قوله : (( ولو لبى بعد ما استوت به راحلته جاز )) ولكن
الأول يعني الإهلال دبر الصلاة في مسجد ذي الحليفة أفضل لما روينا ، كذا قال .
والأحاديث في أنه لبى بعد ما استوت به راحلته أكثر وأشهر من الحديث الذي احتج به
فذكرها من رواية ابن عمر ، وأنس ، وجابر ، ثم قال : وقد ورد ما يجمع بين هذه
الأحاديث ( المختلفة ) من حديث ابن عباس عند أبى داود ، والحاكم فذكره ، ثم قال :
وهذا لو ثبت لرجح ابتداء الإهلال عقيب الصلاة إلا أنه من رواية خصيف ( بن عبد
الرحمن ) وفيه ضعف - انتهى . وقال ابن حزم :
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/395)
حديث ابن عباس هذا في طريقه خصيف وهو ضعيف ، وحديث أبى داود الأنصاري المازني من طريقة قوم غير مشهورين والأحاديث الدالة على إحرامه - صلى الله عليه وسلم - بعد ما استقلت به راحلته ، وإحرامه بعد الاستواء على البيداء كلها صحيحة ، متفق علي صحتها ، إلا أن في أحاديث ابن عمر زيادة على حديث جابر ، وأنس وعائشة ، وهو : أنه - صلى الله عليه وسلم - أهل من عند مسجد ذي الحليفة حين أدخل رجله في الغرز واستقلت به الراحلة ، وهذا صريح في الدلالة على أنه لم يكن عقيب الركوب ولا في مصلاه ، ولو صح حديث ابن عباس ، وأبى داود لوجب تقديم العمل به على حديث ابن عمر لما فيه من الزيادة ، لكن لما كان حديث ابن عمر متفقا على صحته ولم يصح حديثهما وجب المصير إليه دونهما ، ولما كان في حديث ابن عمر زيادة على حديث من سواه ممن اتفق على صحة روايته وهي كون الإهلال من عند المسجد فيكون ذلك قبل الاستواء على البيداء ، وجب العمل به ، ويكون من رواه عند الاستواء على البيداء إنما سمعه حالتئذ يلبي فظن أن ذلك أول إهلاله . ويمكن أن يقضي بحديث ابن عمر على حديث ابن عباس ، ويكون قوله : (( في مصلاه )) زيادة من الراوي ليس من قول ابن عباس ويصدق على من أحرم من عند المسجد عند استقلال ناقته به أنه لما فرغ من ركعتيه أهل ، ولا يلزم من ذلك التعقيب . وهذا الجمع أولى من إسقاط حديث من أصله . والله أعلم ، هذا آخر كلام ابن حزم . قال الطبري بعد ذكره : وما رواه الترمذي وقال : (( هو حسن )) فيه دلالة على جواز الاحتجاج به ، والمختار المصير إليه والعمل به - انتهى . قلت : وقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا بعد رواية حديث ابن عباس من طريق خصيف مختصرا (( هذا حديث غريب )) ليس فيها لفظ : (( حسن )) ونسب الزيلعي إليه أنه قال : حديث حسن غريب ، وهذا يدل على اختلاف نسخ الترمذي . والله أعلم . قال الحافظ في الفتح : قد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك ، وإنما
(17/396)
الخلاف في الأفضل - انتهى .
قلت : ذهب مالك ، والشافعي والجمهور إلى أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت راحلته
لاتفاق أغلب الروايات في المعنى وأصحها وأشهرها على أنه - صلى الله عليه وسلم -
أهل عند انبعاث راحلته وانبعاثها هو استواؤها قائمة . وقال أبو حنيفة ، وأحمد ،
وداود : يحرم عقب الصلاة وهو جالس في مصلاه قبل ركوب دابته وقبل قيامه . قال
النووى : وهو قول ضعيف للشافعي ، وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف - انتهى .
قلت : يشير إلى حديث ابن عباس الذي أحال عليه الزيلعي ، والحافظ ، والشوكاني
وغيرهم للجمع بين الأحاديث المختلفة في مبدأ إحرامه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد
سكت عنه أبو داود ، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم مفسر ( أي لغيره من
الأحاديث الواردة ) في الباب ولم يخرجاه ، وأقره عليه الذهبي ، وإنما ضعفه من ضعفه
كالنووي ، والبيهقي والمنذري لأن في إسناده خصيف بن عبد الرحمن وهو غير متفق على
ضعفه ، على أن النووي نفسه قال في شرح المهذب : وأما قول البيهقي أن خصيفا غير قوي
، فقد خالفه فيه كثيرون من الحفاظ والأئمة المتقدمين فوثقه يحيى بن معين ، وأبو
حاتم ، وأبو زرعة ، ومحمد بن سعد . وقال النسائي فيه : (( هو صالح )) - انتهى .
قال ابن قدامة في المغني (ج3 : ص275) : قد روى عن أحمد أن الإحرام
متفق عليه .
2567- (4) وعن أبى سعيد الخدري ، قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
نصرخ بالحج صراخا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/397)
عقيب الصلاة ، وإذا استوت به راحلته ، وإذا بدأ بالسير سواء ، لأن الجميع قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق صحيحة قال الأثرم : سألت أبا عبد الله أيما أحب إليك الإحرام في دبر الصلاة ؟ أو إذا استوت به راحلته ؟ فقال : كل ذلك قد جاء في دبر الصلاة ، وإذا علا البيداء ، وإذا استوت به ناقته ، فوسع ذلك كله . والأولى الإحرام عقيب الصلاة لما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس وفيه بيان وزيادة علم فيتعين حمل الأمر عليه ولو لم يقله ابن عباس لتعين حمل الأمر عليه جمعا بين الأخبار المختلفة ، وهذا على سبيل الاستحباب ، وكيفما أحرم جاز ، لا نعلم أحدا خالف في ذلك - انتهى مختصرا . ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد (ج2: ص10 ، 17 ، 18 ، 28 ، 29 ، 37) ومالك ، والترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، والبيهقي وغيرهم بألفاظ مختلفة ، واللفظ المذكور لأحمد (ج2 : ص29 ، 37) ومسلم ، وابن ماجة باختلاف يسير .
(17/398)
2567- قوله ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصرخ ) بالضم حال أي نرفع أصواتنا بالتلبية وفي رواية : قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نصرخ ، قال النووي : فيه استحباب رفع الصوت بالتلبية وهو متفق عليه بشرط أن يكون رفعا مقتصدا بحيث لا يؤذي نفسه ، والمرأة لا ترفع بل تسمع نفسها ، لأن صوتها محل فتنة ، ورفع الرجل مندوب عند العلماء كافة ، وقال أهل الظاهر : هو واجب - انتهى . ويأتي مزيد الكلام في هذه المسألة في شرح حديث خلاد بن السائب الآتي ( بالحج صراخا ) بضم الصاد مفعول مطلق ، ولعل الاقتصار على ذكر الحج لأنه الأصل والمقصود الأعظم أو لأنه المبدوء به ثم أدخل عليه العمرة ، قال القاري : وقد يقال : هذا حال الراوي ومن وافقه ، وأما حاله عليه الصلاة والسلام فمسكوت عنه يعرف من محل آخر فلا ينافي ما سيأتي - انتهى . وفي الحديث دليل على استحباب ذكر النسك في التلبية ، ويدل عليه أيضا حديث أنس الآتي . قال المحب الطبرى : الظاهر من لفظ الحديث ذكر النسك في التلبية ، وقد اختلف أصحابنا في استحباب ذلك فمنهم من استحبه لظاهر هذه الأحاديث ، ومنهم من قال : لا يستحب لما تقدم من حديث جابر قال : ما سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلبيته قط حجا ولا عمرة ، ومن حديث عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر حجا ولا عمرة . أخرجهما البيهقي ولما روي عن ابن عمر أنه كان إذا سمع بعض أهله يسمي حجا يقول : لبيك بحج ، صك في صدره وقال : أتعلم الله بما في صدرك ؟ أخرجه البيهقي وسعيد بن منصور وقال : أتعلم الله بما في نفسك ؟ قال الطبري : هذا الاختلاف - والله أعلم - في غير التلبية الأولى التي تكون عند عقد الإحرام ، أما تلك فالظاهر استحباب ذكر النسك فيها قولا واحدا ، وعلى ذلك يحمل ما ورد من الأحاديث ، على أن حديث ابن عمر يعم الأولى وغيرها - انتهى . قال القاري : في حديث
(17/399)
أبى سعيد رد على الشافعية أنه
إنما يذكر الحج والعمرة في أول تلبيته فقط .
رواه مسلم .
2568- (5) وعن أنس ، قال : كنت رديف أبى طلحة وإنهم ليصرخون بهما جميعا الحج
والعمرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال ابن قدامة ( ج3 : ص290 ، 291) : ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته . قال أحمد
إن شئت لبيت بالحج ، وإن شئت لبيت بالحج والعمرة ، وإن شئت بعمرة ، وإن لبيت بحج
وعمرة بدأت بالعمرة ، فقلت : لبيك بعمرة وحجة . وقال أبو الخطاب : لا يستحب ذلك ،
وهو اختيار ابن عمر ، وقول الشافعي لأن جابرا قال : ما سمى النبي - صلى الله عليه
وسلم - في تلبيته حجا ولا عمرة ، وسمع ابن عمر رجلا يقول : لبيك بعمرة . فضرب صدره
وقال : تعلمه ما في نفسك ؟ ولنا ما روى أنس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقول : لبيك عمرة وحجا ، وقال جابر : قدمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم
- ونحن نقول : لبيك بالحج . وقال ابن عباس : قدم رسول الله وأصحابه وهم يلبون
بالحج ، وقال ابن عمر : بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة ثم أهل
بالحج . متفق على هذه الأحاديث . وقال أنس : سمعتهم يصرخون بهما صراخا . رواه
البخاري . وقال أبو سعيد : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نصرخ بالحج
فحللنا . فلما كان يوم التروية لبينا بالحج وانطلقنا إلى منى . وهذه الأحاديث أصح
وأكثر من حديثهم . وقول ابن عمر يخالفه قول أبيه ، فإن النسائي روى بإسناده عن
الصبي بن معبد أنه أول ما حج لبى بالحج والعمرة جميعا ، ثم ذكر ذلك لعمر فقال :
هديت لسنة نبيك ، وإن لم يذكر ذلك في تلبيته فلا بأس ، فإن النية محلها القلب -
انتهى . ( رواه مسلم ) وأخرجه أحمد (ج3 : ص5 ، 75) والبيهقي (ج5 : ص40) .
(17/400)
2568- قوله : ( كنت رديف أبى
طلحة ) أي راكبا خلف ظهره وهو زوج أمه ( وإنهم ) أي الصحابة والنبي معهم ( ليصرخون
) اللام فيه للتأكيد ( بهما ) أي بالحج والعمرة ( جميعا الحج والعمرة ) بالجر على
أنه بدل من الضمير في بهما ، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هما أو أحدهما
الحج والآخر العمرة ، ويجوز النصب على الاختصاص بتقدير أعني وفيه دليل على أنه -
صلى الله عليه وسلم - كان قارنا . وقال المهلب : إنما سمع أنس من قرن خاصة ، وليس
في حديثه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرخ بهما وإنما أخبر بذلك عن
قوم ، وقد يمكن أن يسمع قوما يصرخون بحج وقوما يصرخون بعمرة . قال العيني : هذا
تحكم وخروج عما يقتضيه الكلام ، فإن الضمير في (( يصرخون )) يرجع إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - ومن معه من أصحابه . والباء في بهما يتعلق بيصرخون ، فكيف يفرق
مرجع الضمير إلى بعضهم بشيء وإلى الآخرين بشيء آخر - انتهى مختصرا . وقال الكرماني
أيضا : مراد أنس بذلك من نوى منهم القرآن ، ويحتمل أن يكون على سبيل التوزيع بأن
يكون بعضهم صارخا بالحج وبعضهم بالعمرة . قال الحافظ ويشكل عليه قوله في الطريق
الأخرى يقول : لبيك بحجة وعمرة معا . وسيأتي إنكار ابن عمر على أنس ذلك ، وسيأتي
ما فيه في باب التمتع والقرآن - انتهى . وقال
رواه البخاري .
2569- (6) وعن عائشة ، قالت : خرجنا مع رسول الله ع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/401)
العيني بعد ذكر كلام الكرماني : لا يوجد في الرد عليه أقوى من قوله - صلى الله عليه وسلم - لبيك بحجة وعمرة معا كما سيجيء بيانه - انتهى . وفى الحديث حجة للجمهور في استحباب رفع الصوت بالتلبية ، وقد جاءت فيه أحاديث كما سيجيء الإشارة إليها في شرح حديث خلاد بن السائب . ( رواه البخاري ) في باب الارتداف في الغزو والحج من كتاب الجهاد ، وأخرجه أيضا في الحج مقطعا في مواضع ، منها في باب رفع الصوت بالإهلال بلفظ : (( صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظهر أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرخون بهما جميعا )) ، وأخرجه أيضا البيهقي (ج5 : ص40) ، ولمسلم : (( سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبى بالعمرة والحج جميعا )) وفي لفظ : (( أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بينهما بالحج والعمرة )) .
(17/402)
2569- قوله : ( خرجنا ) أي من المدينة ، واختلف في عدد الذين كانوا معه - صلى الله عليه وسلم - ، فقيل : تسعون ألفا ، ويقال : مائة ألف وأربعة عشر ألفا ، ويقال : أكثر من ذلك ، حكاه البيهقي . قال الزرقاني : هذا في عدة الذين خرجوا معه ، وأما الذين حجوا معه فأكثر المقيمين بمكة ، والذين أتوا من اليمن مع علي ، وأبي موسى رضي الله عنهما - انتهى . وقال القاري : بلغ جملة من معه - صلى الله عليه وسلم - تسعين ألفا ، وقيل مائة وثلاثين ألفا - انتهى . وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات : ورد في بعض الروايات أنهم كانوا أكثر من الحصر والإحصاء ولم يعينوا عددهم ، وقد بلغوا في غزوة تبوك التي هي آخر غزواته - صلى الله عليه وسلم - مائة ألف ، وحجة الوداع كانت بعد ذلك ، ولا بد أن يزدادوا فيها ، ويروى : مائة وأربعة عشر ألفا ، وفي رواية : مائة وأربعة وعشرون ألفا - انتهى . ( مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) زادت عمرة بنت عبد الرحمن عنها (( لخمس ليال بقين من ذي القعدة )) كما في الموطأ والصحيحين وغيرهما ، وكذا وقع في حديث ابن عباس عند البخاري في باب (( الخروج آخر الشهر )) من كتاب الجهاد ، وفي باب (( ما يلبس المحرم من الثياب )) من كتاب الحج ، وكذا وقع في حديث جابر عند النسائي . قال القسطلانى : يقتضي أن تكون قالته عائشة بعد انقضاء الشهر ، ولو قالته قبله لقالت إن بقين - انتهى . وقال الحافظ : فيه استعمال الفصيح في التاريخ وهو ما دام في النصف الأول من الشهر يؤرخ بما خلا وإذا دخل النصف الثاني يؤرخ بما بقى وقال أيضا : فيه رد على من منع إطلاق القول في التاريخ لئلا يكون الشهر ناقصا فلا يصح الكلام ، فيقول مثلا لخمس إن بقين بزيادة أداة الشرط ، وحجة الجواز أن الإطلاق يكون على الغالب - انتهى . ويؤيده ما ورد في ليالي القدر عند الترمذي من حديث أبى بكر رفعه : (( التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين )) الحديث . وما
(17/403)
وقع في حديث آخر : (( تاسعة
تبقى وسابعة تبقى )) واختلف في يوم خروجه - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أقوال
، الأول : أنه خرج يوم الجمعة وهذا وهم قبيح وخطأ فاحش يرده الروايات الصحيحة ، إذ
من المعلوم الذي لا ريب أنه صلى الظهر يوم خروجه بالمدينة أربعا ، والعصر بذي
الحليفة ركعتين . القول الثاني : ما ذهب إليه ابن حزم واختاره العيني في شرح
البخاري : أن
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/404)
خروجه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة كان يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة ، حكى هذا القول ابن القيم في الهدي (ج1 : ص181، 182) عن ابن حزم ، وذكر كلامه مفصلا ثم بسط في الرد عليه ، وسيأتي شيء من كلامه مع الجواب عنه . القول الثالث : ما اختاره المحققون من شراح الحديث وأصحاب التاريخ : أن خروجه كان لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت ، وبه جزم ابن القيم في الهدي ، وهو مختار الحافظ في الفتح (ج6 : ص80) إذ قال في شرح قول ابن عباس : (( وذلك لخمس بقين من ذي القعدة )) ما لفظه : أخرج مسلم مثله من حديث عائشة ، واحتج به ابن حزم في كتاب حجة الوداع له على أن خروجه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة كان يوم الخميس ، قال : لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس بلا شك ، لأن الوقفة كانت يوم الجمعة بلا خلاف ، وظاهر قول ابن عباس : (( لخمس )) يقتضي أن يكون خروجه من المدينة يوم الجمعة بناء على ترك عد يوم الخروج ، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة أربعا كما سيأتي من حديث أنس ، فتبين أنه لم يكن يوم الجمعة ، فتعين أنه يوم الخميس ، وتعقبه ابن القيم بأن المتعين أن يكون يوم السبت بناء على عد يوم الخروج أو على ترك عده ، ويكون ذو القعدة تسعا وعشرين يوما - انتهى . ويؤيده ما رواه ابن سعد ، والحاكم في الإكليل أن خروجه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة كان يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة . وقال الحافظ أيضا (ج18 : ص85) : جزم ابن حزم بأن خروجه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة كان يوم الخميس ، وفيه نظر لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس قطعا لما ثبت وتواتر أن وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة وتعين أن أول الشهر يوم الخميس فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس ، بل ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة لكن ثبت في الصحيحين عن أنس : (( صلينا الظهر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعا ، والعصر بذي الحليفة
(17/405)
ركعتين )) فدل على أن خروجهم
لم يكن يوم الجمعة ، فما بقى إلا أن يكون خروجهم يوم السبت ، ويحمل قول من قال :
(( لخمس بقين )) أي إن كان الشهر ثلاثين ، فاتفق أن جاء تسعا وعشرين فيكون يوم
الخميس أول ذي الحجة بعد مضي أربع ليالي لا خمس ، وبهذا تتفق الأخبار . هكذا جمع
الحافظ عماد الدين ابن كثير بين الروايات ، وقوي هذا الجمع بقول جابر أنه خرج لخمس
بقين من ذي القعدة أو أربع ، وكان دخوله - صلى الله عليه وسلم - مكة صبح رابعة كما
ثبت في حديث عائشة وذلك يوم الأحد ، وهذا يؤيد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت
كما تقدم ، فيكون مكثه في الطريق ثمان ليال وهى المسافة الوسطى - انتهى . وقال في
شرح (( باب الخروج آخر الشهر )) من كتاب الجهاد : قد استشكل قول ابن عباس وعائشة
أنه خرج لخمس بقين ، لأن ذا الحجة كان أوله الخميس للاتفاق على أن الوقفة كانت يوم
الجمعة ، ولا يصح ذلك لقول أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة
أربعا ثم خرج . وأجيب بأن الخروج كان يوم السبت ، وإنما قال الصحابة : (( لخمس
بقين )) بناء على العدد ، لأن ذا القعدة كان أوله الأربعاء فاتفق أن جاء ناقصا ،
فجاء أول ذي الحجة الخميس ، فظهر أن الذي كان بقى من الشهر أربع لا خمس ، كذا أجاب
به جمع من العلماء ، ويحتمل أن يكون الذي قال : (( لخمس بقين )) أراد
عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بالحج
،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/406)
ضم يوم الخروج إلى ما بقى لأن التأهب وقع في أوله ، وإن اتفق التأخير إلى أن صليت الظهر فكأنهم لما تأهبوا باتوا ليلة السبت على سفر اعتدوا به من جملة أيام السفر . والله أعلم ، وقال ابن القيم : وجه ما اخترناه أن الحديث صريح في أنه خرج لخمس بقين وهى : يوم السبت ، والأحد ، والاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء فهذه خمس ، وعلى قول ابن حزم يكون خروجه لسبع بقين ، فإن لم يعد يوم الخروج كان لست ، وأيهما كان فهو خلاف الحديث ، وإن اعتبر الليالي كان خروجه لست ليال بقين لا خمس ، فلا يصح الجمع بين خروجه يوم الخميس وبين بقاء خمس من الشهر ألبتة ، بخلاف ما إذا كان الخروج يوم السبت كان الباقي بيوم الخروج خمس بلا شك ، ويدل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر لهم في خطبته شأن الإحرام ، وما يلبس المحرم بالمدينة على منبره ، والظاهر أن هذا كان يوم الجمعة لأنه لم ينقل أنه جمعهم ونادى فيهم لحضور الخطبة ، وقد شهد ابن عمر رضي الله عنهما هذه الخطبة بالمدينة على منبره ، وكان عادته - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمهم في كل وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله ، فأولى الأوقات به الجمعة التي تلي خروجه ، والظاهر أنه لم يكن ليدع الجمعة وبينه وبينها بعض يوم من غير ضرورة ، وقد اجتمع إليه الخلق ، وهو أحرص الناس على تعليمهم الدين ، وقد حضر ذلك الجمع العظيم ، والجمع بينه وبين الحج ممكن بلا تفويت . والله أعلم . ( عام حجة الوداع ) بكسر الحاء المهملة وبفتحها وبفتح الواو ، وجاز كسرها ، قال النووي : سميت بذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودع الناس فيها وقال لعلي لا أحج بعد عامي هذا فلم يحج بعد الهجرة غيرها وكانت سنة عشر من الهجرة ، وفيه دليل على أنه لا بأس بالتسمية بذلك خلافا لمن كرهه ، وتسمى البلاغ أيضا ، لأنه قال - صلى الله عليه وسلم - فيها : هل بلغت ؟ وحجة الإسلام ، لأنها التي حج فيها بأهل الإسلام ليس فيها مشرك (
(17/407)
فمنا من أهل بعمرة ) أي لبى
بها بأن قال لبيك بعمرة فقط ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - خيرهم عند الإحرام
بين الأنساك الثلاثة فقال : من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن
يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل ، ( ومنا من أهل بحج وعمرة ) أي جمع
بينهما فكان قارنا ، ( ومنا من أهل بالحج ) وحده ويشكل على ما وقع في هذه الرواية
من التخيير بين الأنساك الثلاثة ما ورد في الصحيحين وغيرهما من رواية الأسود عن
عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا الحج ،
وللبخاري من وجه آخر عن أبى الأسود عن عروة عنها : مهلين بالحج ، ولمسلم عن القاسم
عنها : (( لا نذكر إلا الحج )) وله أيضا : (( ملبين بالحج )) فظاهره أن عائشة مع
غيرها من الصحابة كانوا أولا محرمين بالحج . وأجاب الحافظ وغيره بأن هذا محمول على
أول الأمر إذ خرجوا من المدينة لا يرون إلا الحج لما كانوا يعهدونه من ترك
الاعتمار في أشهر الحج ، ورواية الباب على آخر الأمر إذ بين لهم النبي - صلى الله
عليه وسلم - وجوه الإحرام ، وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج ، وجمع القاري بينهما
بأن قول عائشة لا نذكر إلا الحج أي ما كان قصدنا الأصلي
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/408)
من هذا السفر إلا الحج بأحد أنواعه من القران والتمتع والإفراد فمنا من أفرد ومنا من قرن ومنا من تمتع - انتهى . وأما ما وقع عند مسلم وغيره من رواية ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ، فقال الزرقاني : أي أدخلناها على الحج بعد أن أهللنا به ابتداء ، وهو إخبار عن حالها ، وحال من كان مثلها في الإهلال بعمرة لا عن فعل جميع الناس ، فلا ينافي قولها : (( فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بالحج ، ومنا من أهل بحج وعمرة )) وفيه أن عائشة لم تكن ممن أهل بالحج ابتداء ، وقد تظافرت الروايات الواردة في هذا الباب على أنها كانت معتمرة ابتداء ، ولما شكت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لم تطف أمرها برفض عمرتها ، فانتقلت إلى الإفراد أو أدخلت عليها الحج وصارت قارنة . وقال الباجي : قولها (( فأهللنا بعمرة )) يحتمل أن تريد بذلك أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويحتمل أن تريد من كان معها أو طائفة أشارت إليهم ، ولا يصح أن تريد جماعة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها قد ذكرت أن منهم من أهل بعمرة ومنهم من جمع بين العمرة والحج ومنهم من أهل بحج - انتهى . واعلم أنه اختلفت الروايات في إحرام عائشة في نفسها اختلافا كثيرا ، ولذلك اختلف أهل العلم في إحرامها ابتداء وانتهاء هل أحرمت بالحج فقط فكانت مفردة ، أو أحرمت بالعمرة فكانت متمتعة ، وعلى الثاني هل فسخت العمرة وأهلت بالحج مفردا أو قرنت العمرة مع الحج قال ابن القيم في الهدي (ج1 : ص204) : قد تنازع العلماء في قصة عائشة هل كانت متمتعة أو مفردة فإذا كانت متمتعة ، فهل رفضت عمرتها وانتقلت إلى الإفراد أو أدخلت عليها الحج وصارت قارنة ، وهل العمرة التي أتت بها من التنعيم كانت واجبة أم لا ، وإذا لم تكن واجبة فهل هي مجزية عن عمرة الإسلام أم لا ؟ واختلف العلماء في مسألة مبنية
(17/409)
على قصة عائشة ، وهى أن المرأة
إذا أحرمت بالعمرة فحاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف فهل ترفض الإحرام بالعمرة
وتهل بالحج مفردا أو تدخل الحج على العمرة وتصير قارنة ؟ فقال بالقول الأول فقهاء
الكوفة منهم : أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله ، وبالثاني فقهاء الحجاز منهم :
الشافعي ، ومالك رحمهما الله ، وهو مذهب أهل الحديث كالإمام أحمد رحمه الله
وأتباعه ، ثم ذكر ابن القيم دليل الكوفيين وبسط الكلام في الرد عليه هذا ، وقد
تصدى الشيخ محمد عابد السندي وغيره من الحنفية لتقوية مذهبهم ، والجواب عن حجة
فقهاء الحجاز لكنهم لم يأتوا بشيء غير تأويلات بعيدة وقال الأبي في الإكمال :
اختلفت الروايات في إحرام عائشة ففي رواية عروة عنها : (( أهللنا بعمرة )) وفي رواية
القاسم عنها : (( لبينا بالحج )) وفي روايته الأخرى عنها : (( لا نعرف إلا الحج ))
وهذا كله صريح في أنها أهلت بالحج ، وفي رواية الأسود عنها : (( ملبين لا نذكر حجا
ولا عمرة )) واختلف العلماء في الكلام على حديث عائشة فقال إسماعيل القاضي : إنها
كانت مهلة بالحج لأنها رواية الأكثر عن عمرة ، والقاسم ، والأسود ، وغلطوا رواية
عروة ، ورجحوا ذلك أيضا بأن عروة قال في رواية حماد : حدثني غير واحد أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال لها : دعي عمرتك . فقد بان أنه لم يسمع الحديث منها ،
ولا بيان فيه لأحد
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/410)
ممن حدثه ذلك ، قالوا وأيضا : فإن رواية عمرة ، والقاسم ساقت عمل عائشة في الحج من أوله إلى آخره ، ولذا قال القاسم عن رواية عمرة : أتتك بالحديث على وجهه - انتهى . قلت : وقع عند البخاري من رواية هشام ، وابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت : وكنت ممن أهل بعمرة ، وهي نص في كونها معتمرة ابتداء ، وقد رد الحافظ على من ادعى كون رواية عروة غلطا فرجح رواية القاسم ومن وافقه على رواية عروة ، قال الحافظ : ادعى إسماعيل القاضي وغيره أن هذا غلط من عروة ، وأن الصواب رواية الأسود والقاسم وعمر عنها أنها أهلت بالحج مفردا ، وتعقب بأن قول عروة عنها : (( أهلت بعمرة )) صريح ، وأما قول الأسود وغيره عنها : (( لا نرى إلا الحج )) فليس صريحا في إهلالها بحج مفرد ، فالجمع بينهما ما تقدم ( بأن المذكور في روايتهم ما كانوا يعهدون من ترك الاعتمار في أشهر الحج ، فخرجوا لا يعرفون إلا الحج ، ثم بين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوه الإحرام ) من غير تغليط عروة وهو أعلم الناس بحديثها ، وقد وافقه جابر بن عبد الله الصحابي كما أخرجه مسلم عنه ، وكذا رواه طاوس ، ومجاهد عن عائشة ، ثم قال الحافظ : ويحتمل في الجمع أيضا أن يقال : أهلت عائشة بالحج مفردا كما فعل غيرها من الصحابة وعلى هذا يتنزل حديث الأسود ومن تبعه . ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يفسخوا الحج إلى العمرة ففعلت عائشة ما صنعوا فصارت متمتعة ، وعلى هذا يتنزل حديث عروة , ثم لما دخلت مكة وهي حائض فلم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج - انتهى . قلت : في هذا الجمع نظر من وجوه ، منها أن ألفاظ روايات عروة صريحة في أنها لم تهلل أولا إلا بعمرة ، فلفظ البخاري من رواية عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج - الحديث . وفيه : (( ولم أهلل إلا بعمرة فأمرني النبي
(17/411)
- صلى الله عليه وسلم - أن
أنفض رأسي وأهل بالحج وأترك العمرة ففعلت ذلك - الحديث . فهذا نص في أنها لم تحرم
أولا إلا بعمرة ، ومنها أنه يخالف هذا الجمع حديث جابر عند مسلم : قال أقبلنا
مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد ، وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا
كانت بسرف عركت ، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة ، فأمرنا رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - آن يهل منا من لم يكن معه هدي - الحديث . وقد بسط ابن القيم
الكلام في الرد على إسماعيل القاضي ومن وافقه وحقق أن عائشة كانت ممن أهل بعمرة
ابتداء حيث قال : اختلف الناس فيما أحرمت به عائشة أولا على قولين أحدهما : أنه
عمرة مفردة ، وهذا هو الصواب لما ذكرنا من الأحاديث ، وفي الصحيح عنها : (( قالت
خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع موافين ( أي مقارنين )
لهلال ذي الحجة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أراد منكم أن يهل
بعمرة فليهل ، فلولا أني أهديت لأهلت بعمرة ، قالت : وكان من القوم من أهل بعمرة ،
ومنهم من أهل بالحج ، قالت : فكنت أنا ممن أهل بعمرة )) وذكرت الحديث . وقوله في
الحديث (( دعي العمرة وأهلي بالحج )) قاله لها بسرف وهو صريح في أن إحرامها كان
بعمرة ، والقول الثاني : أنها أحرمت أولا بالحج وكانت مفردة ، قال ابن
وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/412)
عبد البر : روى القاسم بن محمد والأسود بن يزيد وعمرة كلهم عن عائشة ما يدل على أنها كانت محرمة بحج لا عمرة ، قال : وغلطوا عروة في قوله عنها : (( كنت ممن أهل بعمرة )) قال إسماعيل بن إسحاق : قد اجتمع هؤلاء يعني الأسود ، والقاسم ، وعمرة على الروايات التي ذكرنا فعلمنا بذلك أن الروايات التي رويت عن عروة غلط . قال ابن القيم : من العجب رد هذه النصوص الصحيحة الصريحة التي لا مدفع لها ولا مطعن فيها ولا تحتمل تأويلا البتة بلفظ مجمل ليس ظاهرا في أنها كانت مفردة ، فإن غاية ما احتج به من زعم أنها كانت مفردة قولها : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا أنه الحج . فيا لله العجب أيظن بالمتمتع أنه خرج لغير الحج . بل خرج للحج متمتعا كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنع أن يقول : خرجت لغسل الجنابة ، وصدقت أم المؤمنين إذا كانت لا ترى إلا أنه الحج حتى أحرمت بعمرة بأمره - صلى الله عليه وسلم - ، وكلامها يصدق بعضه بعضا . وأما قولها : (( لبينا بالحج )) فقد قال جابر عنها في الصحيحين : أنها أهلت بعمرة . وكذلك قال طاوس عنها في صحيح مسلم ، وكذلك قال مجاهد عنها ، فلو تعارضت الروايات عنها فرواية الصحابة عنها أولى أن يأخذ بها من رواية التابعين . كيف ولا تعارض في ذلك البتة . فإن القائل : (( فعلنا كذا )) يصدق ذلك منه بفعله وبفعل أصحابه . ومن العجب أنهم يقولون في قول ابن عمر : تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة ، معناه تمتع أصحابه ، فأضاف الفعل إليه لأمره به ، فهلا قلتم في قول عائشة : (( لبينا بالحج )) أن المراد به جنس الصحابة الذين لبوا بالحج ، ويتعين قطعا إن لم تكن هذه الرواية غلطا أن تحمل على ذلك للأحاديث الصحيحة أنها كانت أحرمت بعمرة ، وكيف ينسب عروة في ذلك إلى الغلط وهو أعلم الناس بحديثها ، وكان يسمع منها مشافهة بلا واسطة ، وأما قوله في رواية حماد بن زيد : حدثني
(17/413)
غير واحد أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال لها : دعي عمرتك . فهذا إنما يحتج إلى تعليله ورده إذا خالف
الروايات الثابتة عنها ، فأما إذا وافقها وصدقها وشهد لها أنها أحرمت بعمرة فهذا
يدل على أنه محفوظ ، وأن الذي حدثه ضبطه وحفظه ، هذا مع أن حماد بن زيد انفرد بهذه
الرواية المعللة وهي قوله : (( فحدثني غير واحد )) وخالفه جماعة فرووه متصلا عن
عروة عن عائشة ، فلو قدر التعارض فالأكثرون أولى بالصواب فيا لله العجب ! كيف يكون
تغليظ أعلم الناس بحديثها وهو عروة في قوله عنها : (( وكنت فيمن أهل بعمرة ))
سائغا بلفظ مجمل محتمل ويقضي به على النص الصحيح الصريح الذي شهد له سياق القصة من
وجوه متعددة ، إلى آخر ما قال ( وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج ) أي
وحده ، احتج به من قال : كان حجه - صلى الله عليه وسلم - مفردا ، وهم عامة
الشافعية ، والمالكية ، وحمله المحققون منهم : كالقاضي عياض ، والنووي ، والحافظ
وغيرهم على أن فيه بيان ابتداء الحال ، ثم صار قارنا ، فإنه لا يلزم من إهلاله
بالحج أن لا يكون أدخل عليه العمرة ، وحمله الحنفية ، والحنابلة القائلون بكونه -
صلى الله عليه وسلم - قارنا ابتداء ، على أن عائشة سمعت تلبيته بالحج فقط ،
وللقارن أن يلبي بأيهما شاء ، فيقول : تارة لبيك بحجة ، وتارة لبيك عمرة ، وتارة
لبيك بحجة وعمرة ، فحكت عائشة ما سمعت فلا يخالف
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/414)
قولها : من حكى أنه لبى بهما جميعا وكان قارنا من الابتداء . وسيأتي بيان الاختلاف في صفة إحرامه - صلى الله عليه وسلم - ، وفي أن حجه هل كان إفرادا أو تمتعا أو قرانا ، اعلم أن الحج على ثلاثة أنواع : الإفراد ، والتمتع ، والقران ، ويخير مريد الإحرام بين هذه الأنواع الثلاثة ، قال ابن قدامة : إن الإحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة : تمتع ، وإفراد ، وقران . وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء ، وكذا حكى النووي في شرح المهذب وشرح مسلم الإجماع على جواز الأنواع الثلاثة وتأويل ما ورد من النهي عن التمتع عن بعض الصحابة . وقال الولي العراقي في طرح التثريب : أجمعت الأمة على جواز تأدية نسكي الحج والعمرة بكل من هذه الأنواع الثلاثة الإفراد ، والتمتع ، والقران . قال الحافظ : والإفراد هو الإهلال بالحج وحده في أشهره عند الجميع وفي غير أشهره أيضا عند مجيزيه ، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمن شاء - انتهى . ومعنى قوله : (( عند مجيزيه )) أن الإحرام بالحج قبل أشهره مختلف فيه ، قال ابن قدامة : لا ينبغي أن يحرم بالحج قبل أشهره ، هذا هو الأولى . فإن الإحرام بالحج قبل أشهره مكروه لكونه إحراما به قبل وقته ، فأشبه الإحرام به قبل ميقاته ، ولأن في صحته اختلافا ، فإن أحرم به قبل أشهره صح ، وإذا بقى على إحرامه إلى وقت الحج جاز ، نص عليه أحمد ، وهو قول مالك ، والثوري ، وأبى حنيفة ، وإسحاق ، وقال عطاء وطاوس ، ومجاهد ، والشافعي : يجعله عمرة ، لقول الله تعالى : ? الحج أشهر معلومات ? (2 : 197) تقديره وقت الحج أشهر ، أو أشهر الحج أشهر معلومات ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، ومتى ثبت أنه وقته لم يجز تقديم إحرامه عليه كأوقات الصلوات . ولنا قول الله تعالى : ? يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ? (2: 189) فدل على أن جميع الأشهر
(17/415)
ميقات - انتهى . وفيه أنه لو
صح ذلك لجاز صيام رمضان في شهر آخر ، فإن قوله تعالى : ? الحج أشهر معلومات ? لا
يختلف عن تعيين شهر رمضان باسمه ، فإن قوله : ? معلومات ? كتسميتها سواء . والتمتع
أن يهل بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحج فإذا فرغ منها أحرم بالحج من عامه .
قال الحافظ : أما التمتع فالمعروف أنه الاعتمار في أشهر الحج ، ثم التحلل من تلك
العمرة والإهلال بالحج في تلك السنة ، ويطلق التمتع في عرف السلف على القران أيضا
. قال ابن عبد البر : لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله تعالى : ? فمن
تمتع بالعمرة إلى الحج ? (2 : 196) أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج ، قال :
ومن التمتع أيضا القران لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده ، ومن التمتع
أيضا : فسخ الحج إلى العمرة - انتهى . وقال ابن قدامة في المغني : قال ابن المنذر
: أجمع أهل العلم على أن من أهل بعمرة في أشهر الحج من أهل الآفاق من الميقات وقدم
مكة ففرغ منها وأقام بها وحج من عامه أنه متمتع . وقال أيضا : لا نعلم بين أهل
العلم خلافا في أن من اعتمر في غير أشهر الحج عمرة وحل منها قبل أشهر الحج أنه لا
يكون متمتعا إلا قولين شاذين أحدهما عن طاوس أنه قال : إذا اعتمرت في غير أشهر
الحج ثم أقمت حتى
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/416)
الحج فأنت متمتع ، والثاني عن الحسن أنه قال : من اعتمر بعد النحر فهي متعة . قال ابن المنذر : لا نعلم أحدا قال بواحد من هذين القولين - انتهى . قال الراغب : المتاع انتفاع ممتد الوقت ، يقال : متعة الله بكذا ، ومتعة النكاح هي أن الرجل كان يشارط المرأة بمال معلوم يعطيها إلى أجل معلوم ، فإذا انقضى الأجل فارقها من غير طلاق ، ومتعة الحج ضم العمرة إليه - انتهى . قال القاري : التمتع في اللغة بمعنى التلذذ والانتفاع بالشيء ، قال : وإنما سمي متمتعا لانتفاعه بالتقرب إلى الله تعالى بالعبادتين ، أو لتمتعه بمحظورات الإحرام بعد التحلل من العمرة ، أو لانتفاعه بسقوط العود إلى الميقات ولا يبعد أن يقال لتمتعه بالحياة حتى أدرك إحرام الحجة - انتهى . واختلف أصحاب المذاهب الأربعة في معنى التمتع المصطلح وشرائطه ، من شاء الوقوف على ذلك فليرجع إلى كتب فروعهم ومناسكهم ، كشرح اللباب لعلي القاري ، وغنية الناسك من مناسك الحنفية ، والمغني مع الشرح الكبير ، ونيل المآرب ، ونور الظلام من كتب الحنابلة ، وشرح المنهاج المواهب من كتب الشافعية ، والمنتقى للباجي ، والدسوقي على الشرح الكبير للدردير والبداية لابن رشد من كتب المالكية . وأما القران فصورته : الإهلال بالحج والعمرة معا وهذا متفق على جوازه ، أو الإهلال بالعمرة ثم يدخل عليها الحج أو عكسه ، وهذا مختلف فيه ، وهو مصدر قرن من باب (( نصر )) وقيل : من باب (( ضرب )) وفعال يجيء مصدرا من الثلاثي كلباس ، وهو الجمع بين الشيئين ، قال المحب الطبري : للقران ثلاث صور : الأولى : أن يهل بهما جميعا ، وعليه دل ظواهر الأحاديث . الثانية : أن يهل بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف ، وعليه دل ما تقدم من حديث ابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة ، وحفصة . الثالثة : عكسه ، وفيه قولان للشافعي ، أحدهما : لا يجوز ، وبه قال مالك وهو الأصح ، والثاني : يجوز ، وبه قال أبو حنيفة . والأول
(17/417)
أصح ، ويؤيده ما روي عن علي
أنه سأله أبو نضرة فقال قد أهللت بالحج فهل أستطيع أن أضيف إليها عمرة ؟ قال لا
ذاك لو كنت بدأت بالعمرة ، وبأن أفعال العمرة استحقت بالإحرام بالحج ، فلم يبق في
إدخالها فائدة بخلاف العكس - انتهى . قلت اختلفوا في مصداق القران اصطلاحا كالتمتع
، فقالت الشافعية : هو أن يحرم بهما معا ، ولو أحرم بعمرة في أشهر الحج أو قبلها
ثم يحج في أشهره قبل الشروع في الطواف كان قارنا بخلاف ما إذا شرع في الطواف ولو
بخطوة فإنه لا يصح إدخاله حينئذ لأخذه في أسباب التحلل ، ولا يجوز عكسه وهو إدخال
العمرة على الحج في الجديد إذ لا يستفيد به شيئا آخر ، كذا في شرح المنهاج . وقال
الولي العراقي : لو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة ففيه قولان للشافعي ، أصحهما :
لا يصح إحرامه بالعمرة ، والثاني : يصح ويصير قارنا بشرط أن يكون قبل الشروع في
أسباب التحلل من الحج . وقيل : قبل الوقوف بعرفات ، وقيل : قبل فعل فرض ، وقيل :
قبل فعل طواف القدوم أو غيره - انتهى . وقال أيضا : اختلفوا في إدخال العمرة على
الحج فجوزه أصحاب الرأي ، وهو قول للشافعي لهذه الأحاديث يعني التي تدل على أنه -
صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج أولا ثم صار قارنا بإدخال
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/418)
العمرة عليه ، قال : ومنعه آخرون وجعلوا هذا خاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لضرورة الاعتمار حينئذ في أشهر الحج - انتهى . ولا يخفى في دعوى الاختصاص . وقالت الحنابلة : القران هو أن يحرم بهما معا أو يحرم بها ثم يدخل الحج عليها ، ويشترط لصحة إدخال الحج عليها أن يكون ذلك قبل الشروع في طوافها ، ولا يشترط للإدخال كون ذلك في أشهر الحج ولا كون ذلك قبل طوافها وسعيها لمن معه هدي فيصح ممن معه هدي ولو بعد سعيها ، وإن أحرم بالحج ثم أحرم بها لم يصح إحرامه بها ، كذا في نيل المآرب . وقال ابن قدامة : أما إدخال العمرة على الحج فغير جائز ، فإن فعل لم يصح ولم يصر قارنا ، روى ذلك عن علي ، وبه قال مالك ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وقال أبو حنيفة : يصح ويصير قارنا لأنه أحد النسكين ، فجاز على الآخر قياسا على إدخال الحج على العمرة ، ولنا ما روى الأثرم بإسناده فذكر أثر علي بنحو ما تقدم ، وقال أيضا : وكل متمتع خشي فوات الحج فإنه يحرم بالحج ويصير قارنا ، وكذلك المتمع الذي معه هدي ، فإنه لا يحل من عمرته بل يهل بالحج معها فيصير قارنا . ولو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف من غير خوف الفوات جاز وكان قارنا بغير خلاف . وقد فعل ذلك ابن عمر . ورواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأما بعد الطواف فليس له ذلك ولا يصير قارنا . وبهذا قال الشافعي . وقال مالك : يصير قارنا وحكي ذلك عن أبى حنيفة - انتهى . وأما عند الحنفية ، فهو أي القران من أحرم بهما معا أو أدخل إحرام الحج على إحرام العمرة قبل أن يطوف لها أكثر الأشواط ، أو أدخل العمرة على إحرام الحج قبل أن يطوف للقدوم ولو شوطا ولا إساءة في القسمين الأولين وهو قارن مسيء في الثالث ، قاله ابن نجيم ، وارجع لمزيد التفصيل إلى (( غنية الناسك )) وأما عند المالكية ، ففي البداية هو أن يهل بالنسكين معا أو يهل بالعمرة في أشهر الحج ثم يردف ذلك بالحج قبل
(17/419)
أن يحل من العمرة ، واختلف
أصحاب مالك في الوقت الذي يكون ذلك له فيه ، فقيل : ذلك له ما لم يشرع في الطواف
ولو شوطا واحدا ، وقيل ما لم يطف ويركع ، ويكره بعد الطواف وقبل الركوع ، فإن فعل
لزمه ، وقيل له ذلك ما بقي عليه شيء من عمل العمرة من طواف أو سعي ، ما خلا أنهم
اتفقوا على أنه إذا أهل بالحج ولم يبق عليه من أفعال العمرة إلا الحلاق فإنه ليس
بقارن - انتهى . وقال الدردير : القران أن يحرم بهما معا ، أو يحرم بالعمرة ويردف
الحج عليها بعد الإحرام قبل طوافها أو في طوافه قبل تمامه ، وكره بعد الطواف قبل
الركوع ، ويصح في الركوع أيضا لا بعده - انتهى باختصار . وقد ظهر بما قدمنا من
اختلاف الأئمة في مصداق القران المصطلح أنه لا يصح إدخال العمرة على الحج عند مالك
، وأحمد ، والشافعي في أصح قوليه قلت : ويشكل هذا على المحققين من الشافعية ،
والمالكية : كالنووي ، والحافظ ، والقاضي عياض ومن تبعهم ، فإنهم كما قدمنا أولوا
الأحاديث التي تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مفردا ، بأنه لبى أولا
بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة وصار قارنا ، فإنه إذا لم يجز عند الشافعية
والمالكية إدخال العمرة على الحج فكيف رجح هؤلاء في إحرامه - صلى الله عليه وسلم -
أنه أحرم بالحج أولا ثم أدخل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/420)
عليه العمرة وقد تقدم أنهم أجابوا عن ذلك بأنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لضرورة الاعتمار حينئذ في أشهر الحج ، ولا يخفى ما فيه . واعلم أنهم بعد ما أجمعوا على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء ، اختلفوا في أفضلها قال ابن قدامة : اختلفوا في أفضلها ، فاختار إمامنا : التمتع ، ثم الإفراد ، ثم القران ، وروى المروذي عن أحمد : إن ساق الهدي فالقران أفضل ، وإن لم يسقه فالتمتع أفضل ، وذهب أصحاب الرأي إلى اختيار القران ، وذهب مالك إلى اختيار الإفراد ، وهو ظاهر مذهب الشافعي - انتهى مختصرا . وقال ابن القيم بعد ذكر رواية المروذي عن أحمد : فمن أصحابه من جعل هذه رواية ثانية ، ومنهم من جعل المسألة رواية واحدة ، وأنه إن ساق الهدي فالقران أفضل ، وإن لم يسق فالتمتع أفضل ، وهذه طريقة شيخنا ، وهي التي تليق بأصول أحمد - انتهى . قلت : والمرجح في فروع الحنابلة كون التمتع أفضل مطلقا ، وحكى النووي للإمام الشافعي ثلاثة أقوال ثم قال : والصحيح : تفضيل الإفراد ، ثم التمتع ، ثم القران ، وهكذا في عامة فروع الشافعية ، لكن أفضلية الإفراد عندهم مشروطة بأن يعتمر بعده في هذه السنة ، وإلا فهما أفضل منه ، كما صرح بذلك غير واحد من الشافعية في كتب فروعهم . قال النووي في مناسكه : القران أفضل من إفراد الحج بغير أن يعتمر بعده - انتهى . وقال الولي العراقي : ذهب القاضي حسين ، والمتولي من الشافعية إلى ترجيح الإفراد على التمتع والقران ولو لم يعتمر في تلك السنة ولكن الأكثرون على أن شرط تفضيله عليهما أن يعتمر من سنته ، فلو أخر العمرة عن تلك السنة فكل منهما أفضل منه للإتيان فيهما بالنسكين ، وذكر النووي : أن ما قالاه شاذ ضعيف - انتهى . والمختار عند المالكية أن الإفراد أفضل مطلقا ، ثم القران ، ثم التمتع . واشتراط الاعتمار في أفضلية الإفراد قول ضعيف ، والمعتمد عندهم أن الإفراد أفضل ولو لم يعتمر بعده ، وأما الحنفية
(17/421)
فلهم قول واحد وهو أفضلية
القران ثم التمتع ثم الإفراد . وقال المحب الطبري : قد اختلف الأئمة في أي الوجوه
الثلاثة أفضل ، ومنشأ اختلافهم ما تقدم من اختلاف الروايات في فعله - صلى الله
عليه وسلم - ، فقال مالك والشافعي : الإفراد أفضل ، وقال أحمد ، وإسحاق ، وأهل
الظاهر : التمتع أفضل ، وقال أبو حنيفة : القران أفضل ، وبه قال أهل التحقيق من
المحدثين والأئمة والحفاظ وهو المختار . انتهى مختصرا . وقال الولي العراقي :
اختلف العلماء في أفضل وجوه الإحرام بحسب اختلافهم فيما فعله النبي - صلى الله
عليه وسلم - عام حجة الوداع على أقوال أحدها : أن الأفضل الإفراد ، وهو مذهب مالك
، والشافعي ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر ، وجابر ، وعائشة ، وأبى ثور ، وحكاه
النووي في شرح المهذب عنهم ، وعن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، والأوزاعي ،
وداود . قال المالكية والشافعية : ثم الأفضل بعد الإفراد التمتع ثم القران . الثاني
: أن التمتع أفضل ، وهو قول أحمد بن حنبل . قال ابن قدامة في المغني : وممن روى
عنه اختيار التمتع ابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، وعائشة ، والحسن ، وعطاء ،
وطاوس ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ، وسالم ، والقاسم ، وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي ،
وحكاه الترمذي عنه وعن أحمد ، وإسحاق وأهل الحديث . قال الحنابلة : ثم الأفضل
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/422)
بعد التمتع الإفراد ثم القران ، والثالث : أن القران أفضل ، وهذا قول أبى حنيفة ، وحكاه ابن المنذر عن سفيان الثوري ، وإسحاق بن راهويه ، ثم قال : لا شك أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا - انتهى . وهو قول للشافعي ، وقال به من أصحابنا المزني ، وأبو إسحاق ، المروذي ، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري والمشهور عند الحنفية : أن الأفضل بعد القران التمتع ثم الإفراد ، وعن أبى حنيفة : أن الإفراد أفضل من التمتع ، الرابع : أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل ، وإن لم يسقه فالتمتع أفضل ، حكاه المروذي عن أحمد بن حنبل . قلت : واختاره من الحنفية القاضي ثناء الله الفاني فتى حيث قال في تفسيره (( المظهري )) : التحقيق أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا ، وأن القران أفضل من التمتع إن ساق الهدي ، والتمتع أفضل إن لم يسق الهدي ، وكل منهما أفضل من الإفراد - انتهى . الخامس : أن الأنواع الثلاثة سواء في الفضيلة ، لا فضيلة لبعضها على بعض ، حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء . قال الحافظ في الفتح : وهو مقتضى تصرف ابن خزيمة في صحيحه . السادس : أن التمتع والقران سواء في الفضل ، وهما أفضل من الإفراد حكي عن أبى يوسف - انتهى . وقد ظهر من كلام الطبري ، والولي العراقي أن منشأ اختلافهم في أفضل الوجوه الثلاثة ومناطه هو اختلافهم في إحرامه - صلى الله عليه وسلم - ، وهكذا ذكر غير واحد من شراح الحديث ومحققي الفقهاء ، وقيل بعكس ذلك بأن ترجيحهم في إحرامه وحجه - صلى الله عليه وسلم - مبني على ما تحقق عندهم من أفضليته ، لكن الصواب أنه ليس بمطرد عندهم . قال النووي : أما حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - فاختلفوا فيها هل كان مفردا أو متمتعا أو قارنا ؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة وكل رجحت نوعا وادعت أن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت كذلك ، والصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أولا مفردا ثم أحرم بالعمرة بعد
(17/423)
ذلك وأدخلها على الحج فصار
قارنا - انتهى . فهذا كما ترى قد صحح كونه - صلى الله عليه وسلم - قارنا انتهاء ،
وصحح في بيان المذاهب أفضلية الإفراد على غيره ، وكذا اختار القاضي عياض ، والحافظ
وغيرهما أنه - صلى الله عليه وسلم - أفرد أولا ثم أدخل العمرة عليه فصار قارنا .
واختار الخطابي في المعالم عكسه فقال بعد ذكر حديث حفصة أنها قالت : يا رسول الله
ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال (( إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا
أحل حتى أنحر )) فثبت أنه كان هناك عمرة إلا أنه أدخل عليها الحج قبل أن يقضي شيئا
من عمل العمرة فصار في حكم القارن . وقال في الروض المربع من فقه الحنابلة : قال
أحمد : لا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا والمتعة أحب إلي . وقد اختلفت
روايات الصحابة في حجه - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع هل كان مفردا أو قارنا
أو متمتعا ، وروي كل منها في الصحيحين وغيرهما ، واختلف الناس في ذلك وفي إحرامه -
صلى الله عليه وسلم - على أقوال ، أحدها : أنه حج مفردا لم يعتمر معه ، حكي هذا عن
الإمام الشافعي وغيره . قال القسطلاني في المواهب : والذي ذهب إليه الشافعي في
جماعة أنه - صلى الله عليه وسلم - حج مفردا ، وحكاه الزرقاني في شرح المواهب عن
الإمام مالك ، وحكي عن الشافعي وغيره أن نسبة القران والتمتع إليه - صلى الله عليه
وسلم - على سبيل الاتساع لكونه أمر بهما - انتهى . وبه جزم الخطابي
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/424)
حيث قال : اختلفت الروايات فيما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - به محرما ، والجواب عن ذلك أن كل راو أضاف إليه ما أمر به اتساعا ، ثم رجح أنه كان أفرد الحج . قال الحافظ في الفتح : هذا هو المشهور عند الشافعية والمالكية وقد بسط الشافعي القول فيه في اختلاف الحديث وغيره - انتهى . ومقتضى هذا القول أنه - صلى الله عليه وسلم - لبى بالحج وحده واستمر عليه . الثاني : أنه لبى بالعمرة وحدها واستمر عليها حتى فرغ منها ثم أحرم بعد ذلك بالحج فكان متمتعا وكان حجه حج تمتع ، قاله القاضي أبو يعلى وغيره . الثالث : أنه حج متمتعا تمتعا لم يحل فيه لأجل سوق الهدي ولم يكن قارنا ، حكاه ابن القيم عن صاحب المغني وغيره ، ومقتضى هذا أنه أحرم بالعمرة وحدها واستمر عليها حتى حل يوم النحر . الرابع : أنه لبى بالحج وحده وحج مفردا واعتمر بعده من التنعيم . قال ابن تيمية : وهذا غلط لم يقله أحد من الصحابة ، ولا التابعين ، ولا الأئمة الأربعة ، ولا أحد من أهل الحديث - انتهى . وقال ابن القيم : الذين قالوا : إنه حج مفردا ، اعتمر عقيبه من التنعيم لا يعلم لهم عذر ألبته إلا أنهم سمعوا أنه - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج ، وأن عادة المفردين أن يعتمروا من التنعيم فتوهموا أنه فعل كذلك . الخامس : أنه لبى بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة وصار قارنا فكان مفردا ابتداء وقارنا انتهاء ، وبه جزم عامة محققي الشافعية وبعض المالكية ، قال النووي في شرح المهذب : والصواب الذي نعتقده أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج أولا مفردا ثم أدخل عليه العمرة فصار قارنا ، وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا ، وعلى الأصح لا يجوز لنا ، وجاز للنبي - صلى الله عليه وسلم - تلك السنة للحاجة - انتهى . واختاره القاضي عياض إذ قال : أما إحرامه - صلى الله عليه وسلم - بنفسه فأخذ بالأفضل فأحرم مفردا للحج ، تضافرت به الروايات
(17/425)
الصحيحة ، وأما رواية من روى
أنه كان متمتعا فمعناه أمر به ، وأما رواية من روى القران فهو إخبار عن آخر أحواله
لا عن ابتداء إحرامه ، لأنه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي وقيل له : قل
عمرة في حجة - انتهى . قال الحافظ : وهذا الجمع هو المعتمد ، وقد سبق إليه قديما
ابن المنذر ، ومهده المحب الطبرى ( في القرى ص86 - 100) تمهيدا بالغا يطول ذكره ،
ومحصله أن كل من روي عنه الإفراد حمل على ما أهل به في أول الحال ، وكل من روي عنه
التمتع أراد ما أمر به أصحابه ، وكل من روي عنه القران أراد ما استقر عليه أمره .
السادس : أنه لبى بالعمرة وحدها ثم لم يتحلل منها إلى أن أدخل عليها الحج يوم
التروية فصار قارنا ، حكاه الحافظ عن الطحاوي ، وابن حبان ، السابع : أنه أحرم
إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا ثم عينه بعد ، رجحه الشافعي في اختلاف الحديث ، كما
قال الحافظ في الفتح . وقال الولي العراقي : قال القاضي وقال بعض علمائنا : إنه
أحرم إحراما مطلقا منتظرا ما يؤمر به من إفراد ، أو تمتع ، أو قران ، ثم أمر بالحج
، ثم أمر بالعمرة في وادي العقيق بقوله : (( صل في هذا الوادي وقل : عمرة في حجة
)) ثم قال القاضي في موضع آخر بعد ذلك : لا يصح قول من قال : أحرم النبي - صلى
الله عليه وسلم - إحراما مبهما . لأن رواية جابر وغيره من الصحابة في الأحاديث
الصحيحة ترده وهي مصرحة بخلافه - انتهى . الثامن : أنه لبى بالحج والعمرة معا وكان
قارنا من أول
...............................................................................................ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/426)
الأمر ، وحقق هذا القول ابن الهمام في شرح الهداية ، وابن القيم في الهدي ، وأجابا عن كل ما خالفه فعليك أن ترجع إليهما ، وهذا القول هو الحق والصواب عندنا ، قال ابن القيم : والصواب أنه أحرم بالحج والعمرة معا من حيث أنشأ الإحرام ولم يحل حتى حل منهما جميعا كما دلت عليه النصوص المستفيضة التي تواترت تواترا يعلمه أهل الحديث - انتهى . وإليه مال ابن حزم الظاهري في كتابه (( حجة الوداع )) وتأول باقي الأحاديث إليه كما حكاه النووي ، والولي العراقي ، ثم إنه طاف طوافا واحدا وسعيا واحدا ، وقد بسط ابن القيم الكلام في إثبات هذا القول أشد البسط وهذا القول هو الراجح المعول عليه عندنا قال الولي العراقي في شرح التقريب ، والسيوطي في التنوير : قال القاضي عياض : قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث أي المختلفة في إحرامه وحجته - صلى الله عليه وسلم - ، فمن مجيد منصف ، ومن مقصر متكلف ، ومن مطيل مكثر ، ومن مقتصر مختصر ، وأوسعهم في ذلك نفسا أبو جعفر الطحاوي الحنفي ، فإنه تكلم في ذلك في زيادة على ألف ورقة وتكلم معه في ذلك أبو جعفر الطبري ، ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة ، ثم المهلب ، والقاضي أبو عبد الله بن المرابط ، والقاضي أبو الحسن بن القتار ، والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم وأولى ما يقال في هذا على ما لخصناه من كلامهم واخترناه من اختياراتهم مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة ليدل على جواز جميعها إذ لو أمر بواحد لكان غيره يظن أنه لا يجزئ فأضيف الجميع إليه وأخبر كل واحد بما أمر به وأباحه ونسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إما لأمره به أو لتأويله عليه - انتهى . وقد سبق بهذا الجمع الخطابي كما تقدم وزاد ، وقد يحتمل ذلك وجها آخر ، وهو أن يكون بعضهم سمعه يقول : لبيك بحج ، فحكى أنه أفردها ، وخفي عليه قوله : (( وعمرة )) فلم
(17/427)
يحك إلا ما سمع وهو عائشة ،
ووعى غيره الزيادة فرواها وهو أنس حين قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -
يقول : لبيك بحجة وعمرة ، ولا تنكر الزيادات في الأخبار كما لا تنكر في الشهادات ،
وإنما كان يختلف ويتناقض لو كان الزائد نافيا لقول صاحبه ، وأما إذا كان مثبتا له
وزائدا عليه فليس فيه تناقض ولا تدافع - انتهى . وجمع الحنفية كابن الهمام ، وابن
نجيم وغيرهما بين هذه الروايات بأن سبب رواية الإفراد سماع من رأى تلبيته بالحج
وحده ، ورواية التمتع سماع من سمعه يلي بالعمرة وحدها ، ورواية القران سماع من
سمعه يلبي بهما ، وهذا لأنه لا مانع من إفراد ذكر نسك في التلبية وعدم ذكر شيء
أصلا وجمعه أخرى بنية القران - انتهى . وقال الأبي في الإكمال : اختلفت الرواة في
صفة حجه - صلى الله عليه وسلم - وطعن بعض الملحدة بذلك في الوثوق بنقل الصحابة ،
قال لأن القضية واحدة واختلفوا في نقلها اختلافا متضادا وذلك يؤدي إلى الخلف في
خبرهم وعدم الوثوق بنقلهم ، وقد أكثر الناس من الكلام على هذه الأحاديث وأوسعهم في
ذلك نفسا الطحاوي ، والمتحصل من جواباتهم ثلاثة الأول : أن الكذب إنما يدخل فيما
طريقه النقل لا فيما طريقة النظر
فأما من أهل بعمرة فحل ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/428)
والاستدلال ، وإنما استدلوا بما ظهر من فعله يعني أن التكاذب فيما طريقه النقل ، ولم يقولوا : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم إني فعلت كذا ، وإنما استدلوا على نيته وقصده بما ظهر من أفعاله ، وهذا موضع تأويل يجوز فيه الغلط والخطأ ، فإذا إنما وقع فيما طريقه النظر والاستدلال لا النقل . الثاني : يصح أن يكون أمر بعض أصحابه بالإفراد وبعضهم بالقران وبعضهم بالتمتع ، ليدل على جواز الجميع فأضاف النقلة ذلك إلى فعله كما يقال : قطع الأمير اللص . والثالث : يصح أن يكون قارنا إلا أنه فرق بين زمن إحرامه بالعمرة وبين زمانه بالحج فسمعت طائفة قوله الأول ، وطائفة الثاني ، وطائفة القولين ، فروت كل واحدة بما سمعت انتهى مختصرا . ( فأما من أهل بعمرة فحل ) لما وصل مكة وأتى بأعمالها وهي الطواف والسعي والحلق أو التقصير وهذا مجمع عليه في حق من لم يسق معه هديا ، أما من أحرم بعمرة وساق معه الهدي فقال مالك ، والشافعي ، وجماعة هو كذلك ، قال النووي في مناسكه : المتمتع هو الذي يحرم بالعمرة من ميقات بلده ويفرغ منها ثم ينشئ الحج من مكة سمي متمتعا لاستمتاعه بمحظورات الإحرام بين الحج والعمرة فإنه يحل له جميع المحظورات إذا فرغ من العمرة سواء كان ساق هاديا أو لم يسق - انتهى . وقال الأبي في الإكمال : إن المعتمر إذا فرغ من عمرته حل ثم ينشئ الحج من عامه وإن كان معه الهدي ، فكذلك عند مالك ، والشافعي قياسا على من ليس معه هدي - انتهى . وقال أبو حنيفة ، وأحمد وجماعة : لا يحل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر . قال صاحب الهداية في المتمتع الذي ساق الهدي : إذا دخل مكة طاف وسعى ، وهذا للعمرة على ما بينا في متمتع لا يسوق الهدي إلا أنه لا يتحلل حتى يحرم بالحج يوم التورية ، لقوله عليه السلام : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وتحللت منها . وهذا ينفي التحلل عند سوق الهدي - انتهى . قال الحافظ
(17/429)
في الدراية : رواه مسلم في
حديث جابر الطويل ، وفي الصحيحين عن أنس : (( لولا أن معي الهدى لأحللت )) - انتهى
. وقال ابن قدامة في المغني ( ج3 : 391) : أما من معه هدي ( أي المتمتع الذي ساق
الهدي ) فليس له أن يتحلل لكن يقيم على إحرامه ويدخل الحج على العمرة ثم لا يحل
حتى يحل منهما جميعا ، نص عليه أحمد وهو قول أبى حنيفة ... وقال مالك ، والشافعي :
له التحلل ونحر هديه ، ويستحب نحره عند المروة . ولنا حديث ابن عمر قال : تمتع
الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قدم مكة قال للناس : من كان معه
هدي فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت
وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل . وروت عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - في حجة الوداع - الحديث . وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من
كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا )) وعن حفصة
أنها قالت : يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل من عمرتك ؟ قال :
إني لبدت رأسي وقلدت هدي فلا أحل حتى أنحر . متفق عليه . والأحاديث كثيرة أي في
هذا المعنى . ( وقال الحافظ : الأحاديث بذلك متضافرة ) وذكر ابن قدامة روايتين
أخريين لأحمد ثم قال : والرواية الأولى أولى لما
وأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر . متفق عليه .
2570- (7) وعن ابن عمر ، قال : تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة
الوداع بالعمرة إلى الحج ، بدأ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/430)
فيها من الحديث الصحيح الصريح - انتهى . وفي الروض المربع : ثم إن كان متمتعا لا هدي معه قصر من شعره وتحلل لأنه تمت عمرته ، وإن كان معه هدي لم يقصر وحل إذا حج ، فيدخل الحج على العمرة ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في باب قصة حجة الوداع ، ( وأما من أهل بالحج ) أي مفردا وأهدى ، ( أو جمع الحج والعمرة ) قارنا ، ( فلم يحلوا ) بفتح الياء وضمها وكسر الحاء ، يقال : حل المحرم ، وأحل بمعنى واحد أي لم يخرجوا من الإحرام ، ( حتى كان يوم النحر ) أي فحلوا ، قال القاري : ففي يوم النحر برميهم جمرة العقبة والحلق حل لهم كل المحظورات إلا مباشرة النساء فحل لهم ذلك بطواف الركن - انتهى . وما ذكر في الحديث من أن من أهل بالحج مفردا إنما حل يوم النحر ، وهو محمول على من أهل بالحج وأهدى ، وإلا فمن كان أهل بالحج ولم يهد أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفسخه إلى العمرة . ففي رواية الأسود عن عائشة عند البخاري قالت : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى إلا أنه الحج فلما قدمنا أي مكة تطوفنا بالبيت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن ساق الهدي أن يحل ، فحل من لم يكن ساق الهدى - الحديث . قال الحافظ : قوله : (( أن يحل )) أي من الحج بعمل العمرة ، وهو فسخ الحج - انتهى . وعلى هذا يحمل ما وقع في رواية عقيل عن الزهري في الصحيحين : (( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل ، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه ، ومن أهل بحج ( أي وأهدى ) فليتم حجه )) ، وإنما حملنا الحديث على ذلك لأن ظاهره مخالف لأحاديث فسخ الحج ، وعلى هذا لا يحتاج إلى تغليظ الرواية وإسقاطها كما ذهب إليه ابن القيم فتأمل ، وقال الشنقيطى في (( أضواء البيان )) : دعوى من ادعى أنه لم يحل بعمرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع إلا من أحرم
(17/431)
بالعمرة وحدها ، وأن من أحل
بحج أو جمع الحج والعمرة لم يحل أحد منهم حتى كان يوم النحر ، دعوى باطلة ، لأن
الروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها عن جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم
- متظاهرة بكل الوضوح والصراحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كل من لم يكن
معه هدي أن يحل بعمرة سواء كان مفردا أو قارنا ، ومستند من ادعى تلك الدعوى
الباطلة هو ما أخرجه مسلم في صحيحه فذكر حديث عائشة الذي نحن في شرحه ثم قال : لأن
الذين لم يحلوا من القارنين والمفردين في هذا الحديث ونحوه من الأحاديث يجب حملهم
على أن معهم الهدي لأجل الروايات الصحيحة المصرحة بذلك وبأن من لم يكن معه هدي
فسخوا حجهم في عمرة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - - انتهى . ( متفق عليه )
وأخرجه أيضا مالك ، وأبو داود ، والبيهقي ( ج5 : ص109 ، 110)
2570- قوله : ( تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجه الوداع بالعمرة إلى
الحج ) أي استمتع بالعمرة منضمة إلى الحج وانتفع بها ، قال القاري : قوله : (( إلى
الحج )) حال من (( العمرة )) أي تمتع بها منضمة إلى الحج ( بدأ ) أي ابتدأ النسك
فأهل بالعمرة ثم بالحج .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/432)
( فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ) بيان لقوله : تمتع ، وظاهره أنه أدخل الحج على العمرة ، وقال السندي : إن التمتع عند الصحابة كان شاملا للقران أيضا ، وإطلاقه على ما يقابل القران اصطلاح حادث ، وقد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا ، فالوجه أن يراد بالتمتع ها هنا في شأنه - صلى الله عليه وسلم - القران توفيقا بين الأحاديث ، والمعنى : انتفع بالعمرة إلى أن حج مع الجمع بينهما في الإحرام ، ومعنى قوله : بدأ بالعمرة أنه قدم العمرة ذكرا في التلبية فقال : لبيك عمرة وحجا - انتهى . وقال القاضي قوله : تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إلخ هو محمول على التمتع اللغوي وهو القران آخرا ، ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم أولا بالحج مفردا ثم أحرم بالعمرة فصار قارنا في آخر أمره . والقارن : هو متمتع من حيث اللغة ومن حيث المعنى ، لأنه ترفه باتحاد الميقات والإحرام والفعل ، ويتعين هذا التأويل هنا للجمع بين الأحاديث في ذلك ، قلت : الحديث مشكل على من ذهب إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مفردا أولا وآخرا ولم يكن متمتعا ولا قارنا ، فقال المهلب لدفع هذا الإشكال أن قوله : (( تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) إلخ معناه أمر بذلك لأنه كان ينكر على أنس قوله : إنه قرن ويقول : إنه كان مفردا ، وأما قوله : (( بدأ فأهل بالعمرة )) فمعناه أمرهم بالتمتع وهو أن يهلوا بالعمرة أولا ويقدموها قبل الحج ، قال : ولا بد من هذا التأويل لدفع التناقض عن ابن عمر وقال ابن المنير : إن حمل قوله : (( تمتع )) على معنى (( أمر )) من أبعد التأويلات ، والاستشهاد عليه بقوله : (( رجم )) وإنما أمر بالرجم من أوهن الاستشهادات ، لأن الرجم وظيفة الإمام والذي يتولاه إنما يتولاه نيابة عنه ، وأما أعمال الحج من إفراد وقران وتمتع فإنه وظيفة كل أحد عن نفسه ، ثم أجاز تأويلا آخر وهو : أن الراوي عهد أن الناس
(17/433)
لا يفعلون إلا كفعله لا سيما
مع قوله : (( خذوا عني مناسككم )) فلما تحقق أن الناس تمتعوا ظن أنه - صلى الله
عليه وسلم - تمتع فأطلق ذلك ، قال الحافظ : ولا يتعين هذا أيضا بل يحتمل أن يكون معنى
قوله : (( تمتع )) محمولا على مدلوله اللغوي وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة
والخروج إلى ميقاتها وغيره . قال النووي : إن هذا هو المتعين . قال : وقوله : ((
بالعمرة إلى الحج )) أي بإدخال العمرة على الحج - انتهى . والحديث مشكل أيضا على
من قال إنه - صلى الله عليه وسلم - كان مفردا في أول الأمر ثم أدخل العمرة على
الحج فصار قارنا . قال الحافظ : وإنما المشكل هنا قوله : فبدأ بالعمرة ثم أهل
بالحج . لأن الجمع بين الأحاديث الكثيرة في هذا الباب استقر كما تقدم على أنه بدأ
أولا بالحج ثم أدخل عليه العمرة وهذا بالعكس ، وأجيب عنه بأن المراد به صورة
الإهلال ، أي لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما فقال : لبيك بعمرة وحجة معا .
وهذا مطابق لحديث أنس المتقدم ، لكن قد أنكر ابن عمر ذلك على أنس فيحتمل أن يحمل
إنكار ابن عمر عليه كونه أطلق أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بينهما أي في ابتداء
الأمر ، ويعين هذا التأويل قوله في نفس الحديث : (( وتمتع الناس )) إلخ . فإن
الذين تمتعوا إنما بدأوا بالحج ، ولكن فسخوا حجهم إلى العمرة حتى حلوا بعد ذلك
بمكة ثم حجوا من عامهم - انتهى . وقال القاضي : قوله : (( بدأ رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - )) إلخ . محمول على التلبية في أثناء الإحرام وليس المراد أنه
أحرم في أول أمره بعمرة ثم أحرم بحج ، لأنه يفضي إلى مخالفة الأحاديث
متفق عليه .
( الفصل الثاني )
2571- (8) عن زيد بن ثابت ، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله
واغتسل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/434)
فوجب تأويل هذا على موافقها
ويؤيد هذا التأويل قوله : (( وتمتع الناس )) إلخ . ومعلوم أن كثيرا منهم أو كثيرا
منهم أو أكثرهم أحرموا بالحج أولا مفردا وإنما فسخوه إلى العمرة آخرا فصاروا
متمتعين ، فقوله : (( تمتع الناس )) يعني في آخر الأمر وسيأتي مزيد الكلام في ذلك
في شرح حديث ابن عمر في باب قصة حجة الوداع إن شاء الله تعالى . ( متفق عليه )
وأخرجه أيضا أبو داود ، والنسائي ، والبيهقي (ج5 : ص17) .
2571- قوله ( تجرد ) أي عن المخيط ، ولبس إزارا ورداء ، قاله القاري . ( لإهلاله )
أي لإحرامه ، قال الراغب : الإهلال رفع الصوت عند رؤية الهلال ثم استعمل لكل صوت
وبه شبه إهلال الصبي ، ومنه الإهلال بالحج ، وقال الحافظ : أصله رفع الصوت لأنهم
كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام ، ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعا (
واغتسل ) أي للإحرام قال الشوكاني : الحديث يدل على استحباب الغسل عند الإحرام
وإلى ذلك ذهب الأكثر ، وقال الناصر : إنه واجب ، وقال الحسن البصرى ، ومالك :
محتمل . - انتهى . قيل : والحكمة في الاغتسال عند الإحرام هي : التنظيف ، وقطع
الرائحة الكريهة ودفع أذاها عن الناس ، وقيل : الحكمة فيه أنه لإزالة التفث الذي
يكون على الإنسان حتى يأتي تفل الحج مفردا عما كان قبله ، فتفل الحاج كخلوف فم
الصائم . قال ابن قدامة في المغني (ج3 : ص271) : من أراد الإحرام استحب له أن
يغتسل قبله في قول أكثر أهل العلم منهم : طاوس ، والنخعي ، ومالك ، والثوري ،
والشافعي وأصحاب الرأي ، لما روى خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه رأي النبي -
صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل . رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب ،
وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء : أن تغتسل
عند الإحرام ، وأمر عائشة أن تغتسل عند الإهلال بالحج وهي حائض ، ولأن هذه العبادة
يجتمع لها الناس فسن لها الاغتسال كالجمعة
(17/435)
، وليس ذلك واجبا في قول عامة
أهل العلم . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الإحرام جائز بغير اغتسال ،
وأنه غير واجب وحكي عن الحسن أنه قال : إذا نسى الغسل يغتسل إذا ذكر . قال الأثرم
: سمعت أبا عبد الله قيل له عن بعض أهل المدينة : من ترك الغسل عند الإحرام فعليه
دم ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسماء وهي نفساء : (( اغتسلي )) فكيف
الطاهر؟ فأظهر التعجب من هذا القول ، وكان ابن عمر يغتسل أحيانا ويتوضأ أحيانا ،
وأي ذلك فعل أجزأه ولا يجب الاغتسال ولا نقل الأمر به إلا لحائض أو نفساء ، ولو
كان واجبا لأمر به غيرهما ، ولأنه لأمر مستقبل فأشبه غسل الجمعة - انتهى . وقال
الأبي في الإكمال : في الحج ثلاث اغتسالات : للإحرام ، ولدخول مكة ، وللوقوف بعرفة
. ( كما روي عن ابن عمر أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ، ولدخوله مكة ،
ولوقوفه عشية عرفة ) وأطلق مالك على جميعها الاستحباب وهي عندنا
رواه الترمذي ، والدارمى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/436)
سنة مؤكدة ، وآكدها عندنا وعن الشافعي ما للإحرام لأمره - صلى الله عليه وسلم - به - انتهى . وقال الزرقاني : الغسل للإحرام سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه لا يرخص في تركه إلا لعذر ، وهو آكد اغتسالات الحج . وقال ابن خويرز منداد : إنه آكد من غسل الجمعة ، وأوجبه أهل الظاهر ، والحسن ، وعطاء في أحد قوليه على مريد الإحرام طاهرا أم لا - انتهى . وفى الشرح الكبير للدردير : السنة لمريد الإحرام ولو صبيا أو حائضا أو نفساء غسل متصل بالإحرام ، فلو اغتسل غدوة وأحرم وقت الظهر لم يجزه ، ولا يضر الفصل لشد رحاله وإصلاح جهازه ، ولا دم في تركه عمدا وقد أساء أي ارتكب مكروها - انتهى . وقال القاري في شرح المناسك : يغتسل ( أي مريد الإحرام ) بسدر ونحوه ، أو يتوضأ ، والغسل أفضل لأنه سنة مؤكدة والوضوء يقوم مقامه في إقامة السنة المستحبة لا السنة المؤكدة ، وفيه إشارة إلى أن التيمم لا يقوم مقام الغسل مطلقا - انتهى . وذكر ابن عابدين الاختلاف فيما بينهم في أن التيمم يجزئ أم لا ؟ ومنشأه الاختلاف في أن غسل الإحرام للطهارة فيقوم مقامه ، أو للنظافة فلا ، قال ابن قدامة (ج3 : ص272) : إن لم يجد ماء لم يسن له التيمم . وقال القاضي : يتيمم لأنه غسل مشروع ، فناب عنه التيمم كالواجب ، ولنا أنه غسل مسنون فلم يستحب التيمم عند عدمه كغسل الجمعة ونحوه من الأغسال المسنونة . والفرق بين الغسل الواجب والمسنون أن الواجب يراد لإباحة الصلاة ، والتيمم يقوم مقامه في ذلك ، والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة ، والتيمم لا يحصل هذا بل يزيد شعثا وتغييرا ، ولذلك افترقا في الطهارة الصغرى فلم يشرع تجديد التيمم ولا تكرار المسح به - انتهى . وفى الروض المربع من فقه الحنابلة : سن لمريده غسل ولو حائضا ونفساء أو تيمم لعدم الماء أو لنحو مرض - انتهى . وهكذا في شرح الإقناع . ( رواه الترمذي ) وقال : هذا حديث حسن غريب ، ( والدارمي ) كلاهما من طريق
(17/437)
عبد الله بن يعقوب المدني عن
عبد الرحمن بن أبى الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه ، وعبد الله بن
يعقوب قال الذهبي عنه : لا أعرفه . وقال الحافظ : مجهول الحال . قال ابن القطان في
كتابه : وإنما حسنه الترمذي ولم يصححه للاختلاف في عبد الرحمن بن أبي الزناد ،
والراوي عنه عبد الله بن يعقوب المدني أجهدت نفسي في معرفته فلم أجد أحدا ذكره -
انتهى . كذا في نصب الراية . وقال ابن الملقن في شرح المنهاج جوابا على من أنكر
على الترمذي تحسين الحديث : لعله إنما حسنه لأنه عرف عبد الله بن يعقوب المدني في إسناده
أي عرف حاله ، والحديث رواه أيضا الدارقطني ( ص256) ، والبيهقي (ج5 : ص32) ،
والطبراني ، والعقيلي كلهم من طريق محمد بن موسى بن مسكين أبى غزية عن عبد الرحمن
بن أبى الزناد عن أبيه عن خارجة عن أبيه ، وأعله العقيلي بأبى غزية وقال : عنده
مناكير ، ولا يتابع عليه إلا من طريق فيها ضعف - انتهى . وقال البيهقي : أبو غزية
ليس بالقوي ، وقال الدارقطني : قال يحيى بن صاعد : ( شيخ الدارقطني ، والراوي عن
يحيى بن خالد عن أبي غزية ) هذا حديث حسن غريب ما سمعناه إلا منه . قال البيهقي
وروي عن غير أبى غزية ، ثم روى الحديث من طريق الأسود بن عامر عن ابن أبي الزناد
قال ابن التركماني : مدار الحديث على
2572- (9) وعن ابن عمر ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبد رأسه بالغسل . رواه
أبو داود .
2573- (10) وعن خلاد بن السائب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/438)
عبد الرحمن بن أبي الزناد وقد ضعفه النسائي وغيره ، فالصواب أن يعلل به لا بأبي غزية ، لأن غيره تابعه عليه فأخرجه البيهقي من حديث الأسود بن عامر وهو ثقة عن ابن الزناد ، وأخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن يعقوب عنه أي عن ابن أبي الزناد ، وقال : حسن غريب - انتهى . قلت : ابن أبي الزناد وثقه الترمذي والعجلي ويعقوب بن شيبة ، وصحح الترمذي عدة من أحاديثه ، وقال في اللباس : ثقة حافظ . وقال الحافظ في التقريب : صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد . فالظاهر أن حديثه لا ينحط عن درجة الحسن وللحديث عدة شواهد ، منها حديث ابن عباس أخرجه الدارقطني (ص256) ، والحاكم (ج1 : ص447) ، والبيهقي (ج5 : ص33) وفيه : يعقوب بن عطاء وهو ضعيف ، ومنها حديث ابن عمر عند الدارقطني ، والحاكم ، والبزار ، وابن أبى شيبة ، والبيهقي ، قال من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم ، ومنها حديث عائشة عند الطبراني في الأوسط قالت : (( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج إلى مكة اغتسل حين يريد أن يحرم )). ذكره الزيلعي .
(17/439)
2572- قوله : ( لبد رأسه
بالغسل ) بكسر الغين المعجمة وسكون السين المهملة . ما يضاف إلى الماء للتنقية
والتنظيف من خطمي وأشنان وصابون وغيره . وقال الجزري : الغسل بالكسر هو ما يغسل به
من خطمي وغيره والحديث دليل على مشروعية تلبيد الشعر للإحرام خلافا للحنفية ،
ويؤيده ما تقدم من حديث ابن عمر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل
ملبدا ، ويؤيده أيضا ما روي عن حفصة أنها قالت : يا رسول الله ما بال الناس حلوا
ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي - الحديث . ويؤيده أيضا
ما روي عن عائشة . قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يحرم
غسل رأسه بخطمي وأشنان . أخرجه أحمد والدارقطني ، وزاد : (( ودهنه بزيت غير كثير
)) وقد تقدم الكلام في ذلك وفي ضبط الغسل ومعناه في شرح ثاني أحاديث اللباب ،
وتقدم هناك تأويل الحنفية لأحاديث الباب . قال القاري : ليس في حديث ابن عمر دلالة
على أنه كان قبل إحرامه ، ولا عبرة بذكر المصنف هنا لابتنائه على فهمه وفقهه . قلت
: ما فهمه المصنف هو مواف لما تقدم من قول ابن عمر : سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يهل ملبدا ، وهو الذي فهمه جمهور الفقهاء المحدثين كأبي داود ،
والحاكم ، والبيهقي ، والمحب الطبري ، والحافظ ( رواه أبو داود ) في المناسك وكذا
الحاكم . كما قال العيني (ج9 : ص159) ، والبيهقي (ج5 : ص36) كلهم من طريق ابن
إسحاق عن نافع عن ابن عمر ، وقد سكت عنه أبو داود والمنذري ، وقال الحاكم : صحيح
على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي (ج1 : ص450) .
2573- قوله : ( عن خلاد ) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام وإهمال الدال ( بن
السائب ) بن خلاد بن سويد الأنصاري الخزرجي التابعي ، وقد ذكره جماعة في الصحابة
منهم ابن حبان ولم يرفع نسبه وقال : له صحبة . ثم أعاده في
(17/440)
عن أبيه ، قال : قال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - : أتاني جبرئيل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم
بالإهلال أو التلبية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التابعين وشبهتهم في ذلك الحديث الذي رواه عنه عبد الملك بن أبى بكر فقال : عن
خلاد عن أبيه رفعه ، وقيل : عن خلاد بن السائب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال الترمذي : والسائب بن خلاد أصح ، ذكره الحافظ في تهذيب التهذيب وقال في التقريب
: خلاد بن السائب بن خلاد بن سويد الخزرجي ، ثقة من الثالثة ، ( أي من الطبقة
الوسطى من التابعين ) ووهم من زعم أنه صحابى ، ( عن أبيه ) أي السائب بن خلاد بن
سويد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة الخزرجي أبي سهلة المدني ، قال في التقريب : له
صحبة ، وعمل لعمر على اليمن ، وقال أبو عبيد : شهد بدرا وولي اليمن لمعاوية ، توفي
سنة إحدى وسبعين ، وقال ابن عبد البر : لم يرو عنه غير ابنه خلاد فيما علمت ،
وحديثه في رفع الصوت بالتلبية مختلف فيه ، ( فأمرني ) عن الله تعالى أمر إيجاب ،
إذ تبليغ الشرائع واجب عليه ، ( أن آمر أصحابي ) أمر ندب عند الجمهور ووجوب عند
الظاهرية ، ( بالإهلال أو التلبية ) إظهار لشعار الإحرام وتعليما للجاهل ما يستحب
في ذلك المقام ، و (( أو )) للشك من الراوي ، والإهلال : هو رفع الصوت بالتلبية
كما تقدم ، فالتصريح بالرفع معه زيادة بيان ، قاله الزرقاني . وقال أبو الطيب :
المراد بالإهلال التلبية على طريق التجريد لأن معناه رفع الصوت بالتلبية وكلمة أو
للشك . وزاد مالك ، وأبو داود ، وأحمد في رواية : (( يريد أحدهما )) يعني أنه -
صلى الله عليه وسلم - إنما قال أحد هذين اللفظين لكن الرواي شك فيما قاله من ذلك
فأتى بأو التي لأحد الشيئين ، ثم زاد ذلك بيانا بقوله : (( يريد أحدهما )) وفي
رواية للنسائي : (( بالتلبية )) بدون شك ، وابن ماجة (( بالإهلال )) ، ولأحمد (ج5
: ص192) ، وابن ماجة
(17/441)
، والحاكم (ج1 : ص450) ،
والبيهقي (ج5 : ص42) من حديث زيد بن خالد الجهني التصريح بالتلبية أيضا ، وقد روي
في رفع الصوت بالتلبية أحاديث عن جماعة من الصحابة منهم : أنس ، وهو خامس أحاديث
الباب ، ومنهم : السائب بن خلاد بن سويد وهو الذي نحن في شرح حديثه ، وزيد بن خالد
الجهني ، وقد تقدم تخريج حديثه ، وأبو هريرة عند أحمد ، والحاكم ، والبيهقي ، وابن
عباس عند أحمد (ج1 : ص321) ، وجابر عند سعيد بن منصور في سننه من رواية أبي الزبير
عنه ، وعائشة عند البيهقي (ج5 : ص43) ، وأبو بكر الصديق عند الترمذي ، وابن ماجة ،
والحاكم والبيهقي ، وسهل بن سعد عند الحاكم ، والبيهقي ، وأبى ذر . وروى ابن أبي
شيبة بإسناد صحيح من طريق المطلب بن عبد الله قال : كان أصحاب رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم ، وهذه الأحاديث حجة
لما ذهب إليه الجمهور من استحباب رفع الصوت بالتلبية . وذهب داود إلى أن رفع الصوت
واجب . قال الشنقيطي : القاعدة المقررة في الأصول مع الظاهرية ، وهي أن الأمر
يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه ، وقال الشوكاني : وهو ظاهر قوله : (( فأمرنى أن
آمر أصحابي )) لا سيما وأفعال الحج وأقواله بيان لمجمل واجب هو قول الله تعالى : ?
ولله على الناس حج البيت ? وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( خذوا عني مناسككم ))
. قال : وخرج بقوله : (( أصحابي )) النساء ، فإن المرأة لا
رواه مالك ، والترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة : والدارمى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/442)
تجهر بها بل تقتصر على إسماع نفسها . وقال ابن رشد أجمع أهل العلم على أن تلبية المرأة فيما حكاه أبو عمر هو أن تسمع نفسها بالقول . وفي الدر المختار : ولا تلبي جهرا بل تسمع نفسها دفعا للفتنة ، وما قيل : (( أن صوتها عورة )) ضعيف - انتهى . قال المحب الطبري : رفع الصوت عندنا أي الشافعية بالتلبية مشروع في المساجد وغيرها ، وقال مالك : لا يرفع الصوت بها في مساجد الجماعات بل يسمع نفسه ومن يليه ، إلا في مسجد منى ، والمسجد الحرام فإنه يرفع صوته فيهما ، وهو قول قديم للشافعي ، وزاد مسجد عرفة ، لأن هذه المساجد تختص بالنسك - انتهى . وقال الباجي : المحرم لا يرفع صوته بالإهلال في غير مسجد منى ، والمسجد الحرام ، من مساجد الجماعات ، هذا هو المشهور عن مالك ، وروى القاضي أبو الحسن عن ابن نافع عن مالك أنه قال : يرفع صوته في المساجد التي بين مكة والمدينة . قال أبو الحسن : هذا وفاقا للشافعي في أحد قوليه وله قول ثان : أنه يستحب رفع الصوت بالتلبية في سائر المساجد ووجه قول مالك المشهور : أن المساجد مبنية للصلاة ، وذكر الله تعالى ، وتلاوة القرآن ، فلا يصح رفع الصوت فيها بما ليس من مقصودها ، لأنه لا تعلق لشيء منها بالحج ، أما المسجد الحرام ، ومسجد الخيف فللحج اختصاص بهما من الطواف والصلاة أيام منى ولسبب الحج بنيا - انتهى . وقال ابن قدامة : لا يستحب رفع الصوت في الأمصار ولا في مساجدها إلا بمكة والمسجد الحرام ، وهو قول مالك ، وقال الشافعي يلبي في المساجد كلها . ولنا ما روس عن ابن عباس أنه سمع رجلا يلبي بالمدينة فقال : إنه لمجنون ، إنما التلبية إذا برزت ، ولأن المساجد إنما بنيت للصلاة وجاءت الكراهة لرفع الصوت فيها عاما فوجب إبقاءها على عمومها ، فأما مكة فتستحب التلبية فيها لأنها محل النسك ، وكذا المسجد الحرام وسائر مساجد الحرم كمسجد منى وفي عرفات أيضا - انتهى . هذا وقد بسط الشافعي في الأم (ج : ص) في
(17/443)
رفع الصوت بها في المساجد كلها
بدون التخصيص بمسجد مكة ومنى والراجح عندنا هو ما ذهب إليه مالك ، وأحمد . والله
أعلم . ( رواه مالك ) إلخ . وأخرجه أيضا أحمد (ج4 : ص55 ، 56) ، والشافعي (ج2 :
ص133) ، وابن حبان ، وابن خزيمة ، والحاكم (ج1 : ص450) ، والبيهقي (ج5 :ص42) كلهم
من رواية عبد الملك بن أبى بكر الحارث بن هشام عن خلاد بن السائب عن أبيه وصححه
الترمذي ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي . قال الترمذي : وروى
بعضهم هذا الحديث عن خلاد بن السائب عن زيد بن خالد عن النبي - صلى الله عليه وسلم
- ولا يصح ، والصحيح هو خلاد بن السائب عن أبيه وهو خلاد بن السائب بن خلاد بن
سويد الأنصارى - انتهى . وذكر الحافظ في الفتح هذا الحديث من رواية خلاد بن السائب
عن أبيه وذكر من خرجه وصححه . ثم قال : ورجاله ثقات إلا أنه اختلف على التابعي في
صحابيه - انتهى . وقال ابن عبد البر : هذا حديث اختلف في إسناده اختلافا كثيرا ،
وأرجو أن تكون رواية مالك أصح ، فروي هكذا أي عن خلاد بن السائب عن أبيه ، وروي عن
خلاد عن زيد بن خالد الجهني ، وروي عن خلاد عن أبيه عن زيد بن خالد ، كذا ذكره
السيوطي في التنوير ثم
2574- (11) وعن سهل بن سعد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من
مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها
هنا وها هنا . رواه الترمذي ، وابن ماجة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/444)
حكى عن المزي تفصيل الاختلاف . وقال الزرقاني بعد ذكر كلام ابن عبد البر : وهذا الاختلاف لا يضر ، أما في الصحابي فلا مانع أن خلادا سمعه من أبيه ومن زيد كما أن أباه قد يكون سمعه من زيد ثم من المصطفى ، فحدث به كل منهما على الوجهين ، أو كان السائب يرسله تارة ، وأما رواية الثوري : ( أي عن عبد الله بن أبى لبيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن خلاد عن زيد بن خالد عند أحمد ، وابن ماجة ، وابن خزيمة ، والحاكم ، والبيهقي ) فمن الجائز أن يسمعه من خلاد الرجلان إلى هذا الاختلاف وصححوه كما مر - انتهى . وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر تصحيح الترمذي ونقل كلامه : وقال البيهقي أيضا الأول : ( أي خلاد بن السائب عن أبيه ) هو الصحيح ، وأما ابن حبان فصححهما وتبعه الحاكم ، وزاد رواية ثالثة من طريق المطلب بن عبد الله عن أبى هريرة - انتهى . قلت : قال الحاكم (ج1 : ص450) بعد رواية الحديث من طريق عبد الملك عن خلاد عن أبيه ، ومن طريق المطلب بن عبد الله عن خلاد عن زيد ، ومن طريق المطلب بن عبد الله بسماعه عن أبى هريرة ما لفظه : وهذه الأسانيد كلها صحيحة وليس يعلل واحد منها الآخر فإن السلف كان يجتمع عندهم الأسانيد لمتن واحد كما يجتمع عندنا الآن - انتهى . وأقره الذهبي .
(17/445)
2574- قوله : ( إلا لبى من عن
يمينه ) كلمة من بفتح الميم موصولة ( من حجر أو شجر أو مدر ) من بيان من قال
الطيبي : لما نسب التلبية إلى هذه الأشياء عبر عنها بما يعبر عن أولى العقل -
انتهى . قلت : كذا وقع في رواية الترمذي بلفظة من ، وهكذا ذكر الجزري في جامع
الأصول (ج9 : ص283) ، وعزا الحديث للترمذي فقط ، وعند ابن ماجة ، والحاكم ،
والبيهقي : إلا لبى ما عن يمينه ، والمدر بفتحتين قطع الطين اليابس ( حتى تنقطع )
أي تنتهي ( من ها هنا وها هنا ) إشارة إلى المشرق والمغرب والغاية محذوفة أي إلى
منتهى الأرض ، والمعنى حتى يلبي جميع ما على يمينه وشماله من حجر الأرض ومدرها
وشجرها إلى منتهاها من المشرق إلى المغرب . قال الطيبي : أي يوافقه في التلبية
جميع ما في الأرض -انتهى. وفائدة المسلم من تلبية الحجر ، والشجر ، والمدر ، معرفة
فضل هذا الذكر وإن له عند الله شرفا ومكانة ولا يبعد أن يكتب له ثواب ذلك كأنه
فعله بنفسه زيادة عن ذكره الخاص لأنه المتسبب فيه . قال السندى : إن قلت : أي
فائدة للمسلم في تلبيته الأحجار وغيرها مع تلبيته ، قلت : إتباعهم في هذا الذكر
دليل على فضيلته وشرفه ومكانته عند الله إذ ليس إتباعهم في هذا الذكر إلا لذلك على
أنه يجوز أن يكتب له أجر هذه الأشياء لما أن هذه الأشياء صدر عنها الذكر تبعا فصار
المؤمن بالذكر كأنه دال على الخير . والله أعلم . ( رواه الترمذي ، وابن ماجة )
2575- (12) وعن ابن عمر ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركع بذي
الحليفة ركعتين ، ثم إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/446)
كلاهما من رواية إسماعيل بن
عياش عن عمارة بن غزية ( الأنصاري المازني المدني ) عن أبى حازم عن سهل ورواه أيضا
الترمذي من طريق عبيدة بن حميد عن عمارة بن غزيه عن أبى حازم عن سهل ، لكن لم يسق
لفظه بل قال : (( نحو حديث إسماعيل بن عياش )) ورواه من طريق عبيدة ، ابن خزيمة في
صحيحه كما في الترغيب (ج2 : ص66) ، والحاكم (ج1 : ص451) وصححه على شرط الشيخين ،
ووافقه الذهبي ، والبيهقي (ج5 : ص 43) .
2575- قوله : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركع بذي الحليفة ركعتين )
قيل : أي ركعتي الإحرام فقد روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلا أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بمسجد ذي الحليفة ركعتين ، فإذا استوت به راحلته
أهل . قال الزرقاني : قوله : (( ركعتين )) أي سنة الإحرام ففيه صلاتهما قبل الإحرام
وأنها نافلة وبه قال الجمهور سلفا وخلفا ، واستحب الحسن البصري الإحرام بعد صلاة
فرض لأنه روى أن الركعتين كانتا الصبح ، وأجيب بأن هذا لم يثبت ، وقال الباجي :
هذا اللفظ إذا أطلق في الشرع اقتضى ظاهره في عرف الاستعمال النافلة ، وهو المفهوم
من قولهم : صلى فلان ركعتين ، وإن كان روي أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -
بذي الحليفة كانت صلاة الفجر ، وقد اختار مالك أن يكون إحرامه بأثر نافلة لأنه
زيادة خير - انتهى . وقال النووي : في حديث استحباب صلاة الركعتين عند الإحرام
ويصليهما قبل الإحرام ويكونان نافلة هذا مذهبنا ، ومذهب العلماء كافة إلا ما حكاه
القاضي وغيره عن الحسن البصري : أنه استحب كونه بعد صلاة فرض لأنه روى أن هاتين
الركعتين كانت صلاة الصبح ، والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث - انتهى .
وفى المحلى شرح الموطأ للشيخ سلام الله الدهلوي : في الحديث ندب كون الإحرام بعد
الصلاة ويكون نافلة عند أبى حنيفة ، والشافعي ، والجمهور . ولو صلى المكتوبة
أجزأته كما يجزئه عن تحية المسجد كذا ذكره فقهاء
(17/447)
الفريقين . وعند مالك : يحرم
الحاج والمعتمر بأثر فريضة أو نافلة كما في الرسالة ، وبه قال أحمد غير أن ظاهر
مذهبه كونه بعد الفرض أولى للإتباع - انتهى . وقال ابن قدامة : المستحب أن يحرم
عقيب الصلاة فإن حضرت مكتوبة أحرم عقيبها ، وإلا صلى ركعتين تطوعا وأحرم عقيبهما .
استحب ذلك عطاء ، وطاوس ، ومالك ، والشافعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وإسحاق ،
وأبو ثور ، وابن المنذر ، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس - انتهى . وقال الدردير :
ثم رابع السنن ركعتان والفرض مجزئ عنهما وفاته الأفضل . قال الدسوقي : والفرض يجزئ
أي في أصل السنة . والحاصل أن السنة تحصل بإيقاع الإحرام عقيب صلاة ولو فرضا وتجزئ
المكتوبة . قلت : واستدل أيضا للجمهور بما روى أبو داود ، والحاكم من طريق ابن
إسحاق عن خصيف بن عبد الرحمن الجزري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خرج رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - حاجا ، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين أوجب في
مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه ، مختصر . وابن إسحاق ، وخصيف فيهما مقال .
قلت :
استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات ويقول : لبيك اللهم
لبيك ، لبيك وسعديك ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/448)
ظاهر النصوص أن هاتين الركعتين كانت لفريضة الظهر لا تحية الإحرام ولا للفجر وبه صرح ابن القيم في الهدي حيث قال : لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر ، وقال : المحفوظ أنه إنما أهل بعد صلاة الظهر ، وقال أيضا : قد قال ابن عمر : ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره ، وقد قال أنس : إنه صلى الظهر ثم ركب ، والحديثان في الصحيح فإذا جمعت أحدهما إلى الآخر تبين أنه إنما أهل بعد صلاة الظهر - انتهى ملخصا . وقال ابن تيمية في مناسكه : يستحب أن يحرم عقيب صلاة إما فرض ، وإما تطوع إن كان وقت تطوع في أحد القولين ، وفي الآخر إن كان يصلي فرضا أحرم عقيبه وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه وهذا أرجح ، ( أهل ) أي رفع صوته ( بهؤلاء الكلمات ) يعني التلبية المشهورة ، وقد تقدمت في الفصل الأول من حديث ابن عمر ( ويقول ) أي يزيد عبد الله ابن عمر أو أبوه عمر ابن الخطاب ففي رواية لمسلم : كان عبد الله بن عمر يقول ( أي بعد رواية التلبية المشهورة ) : هذه تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال نافع : كان عبد الله ( بن عمر ) يزيد مع هذا : لبيك ، لبيك ، لبيك وسعديك ، إلخ . وفي رواية أخرى لمسلم ( وهي رواية الباب ) بعد قوله : (( أهل بهؤلاء الكلمات )) : وكان عبد الله بن عمر يقول : كان عمر بن الخطاب يهل بإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء الكلمات ويقول ( أي يزيد ) : لبيك اللهم لبيك ، لبيك وسعديك ، إلخ . وهكذا ذكر الجزري في جامع الأصول (ج3 : ص441) ، ولأحمد (ج2 : ص131) بعد ذكر التلبية المشهورة (( قال أي عبد الله بن عمر وسمعت عمر بن الخطاب يهل بإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويزيد فيها : لبيك وسعديك )) إلخ . قال الحافظ بعد ذكر الروايتين : فعرف أن ابن عمر اقتدى في ذلك بأبيه ، وأخرج ابن أبي شيبة من طريق المسور بن مخرمة : قال
(17/449)
كانت تلبية عمر ، فذكر مثل
المرفوع وزاد : (( لبيك مرغوبا ومرهوبا إليك ، ذا النعماء والفضل الحسن )) - انتهى
. ورواية المصابيح انتهت على قوله : (( أهل بهؤلاء الكلمات يعني التلبية )) وقوله
: (( ويقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك وسعديك )) إلخ . هو مما زاده المصنف وقد ذكره
بحيث يتبادر منه أن هذه الزيادة أيضا مرفوعة ، وهذا اختصار من المصنف مخل أو زيادة
منه موهمة فليتنبه لذلك ، ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك ) ثلاث مرات مع الفصل بين
الأولى والثانية بلفظ : (( اللهم )) كما في المرفوع ، وفي رواية الموطأ ، وأبى
داود ، وفي رواية لمسلم أيضا ثلاث مرات في زيادة ابن عمر لكن بدون الفصل ( وسعديك
) هو من باب لبيك ، فيأتي فيه ما سبق ، ومعناه أسعدني إسعادا بعد إسعاد ، فالمصدر
فيه مضاف للفاعل وإن كان الأصل في معناه أسعدك بالإجابة إسعادا بعد إسعاد ، على أن
المصدر فيه مضاف للمفعول . وقيل : المعنى مساعدة على طاعتك بعد مساعدة ، فيكون من
المضاف للمنصوب ، قال عياض : إعرابها وتثنيتها كما في لبيك ، ومعناه مساعدة لطاعتك
بعد مساعدة . وقال المازري : وقيل : معناه أسعدنا سعادة بعد سعادة وإسعادا بعد
إسعاد ، وكذلك قال ابن العربي : إنه سؤال من الله السعد وتأكيد فيه ، وقال إبراهيم
الحربي : لم يسمع سعديك مفردا ( أي عن لبيك ) وهو من المصادر المنصوبة بفعل مضمر .
والخير في يديك ، لبيك والرغباء إليك والعمل . متفق عليه ، ولفظه لمسلم .
2576- (13) وعن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ،
أنه كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله رضوانه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/450)
( والخير في يديك ) كذا في زيادة عمر عند مسلم ، وأحمد ، وفي زيادة ابنه عبد الله : (( بيديك )) أي الخير كله بيد الله ومن فضله أي بقدرته وكرمه . قال الباجي : الألف واللام لاستغراق الجنس ، فكأن الملبي يلبي ربه ويعتقد أن جميع الخير بيديه - انتهى . وهو من باب الاكتفاء وإلا فالأمر كله لله والخير والشر كله بقدره وقضائه ، أو هو من إصلاح المخاطبة أي من باب حسن الأدب في الإضافة والنسب كما في قوله تعالى : ? وإذا مرضت فهو يشفين ? (26 : 80) ومن ها هنا ورد : (( والشر ليس إليك )) أي لا ينسب إليك أبدا ، ( والرغباء إليك ) فيه ثلاثة أوجه : فتح الراء والمد وهو أشهرها ، وضم الراء مع القصر وهو مشهور أيضا ، وفتح الراء مع القصر مثل سكرى وهو غريب ، حكاه أبو علي الجبائي ، ونظير الوجهين الأولين العلياء والعليا ، والنعماء والنعمى ، ومعنى اللفظة الطلب والمسألة أي إنه تعالى هو المطلوب المسئول منه فبيده جميع الأمور ، قال شمر : معنى رغب النفس سعة الأمل وطلب الكثير ( والعمل ) أي إن العمل كله لله تعالى لأنه المستحق للعبادة وحده وفيه حذف يحتمل أن تقريره كالذي قبله أي والعمل إليك أي إليك القصد به والانتهاء به إليك لتجازى عليه فيكون عطفا على الرغباء ، ويحتمل أن تقريره والعمل لك ، وقال الطيبي : أي وكذلك العمل منته إليك إذ أنك المقصود منه . قال القاري : والأظهر أن التقدير (( والعمل لك )) أي لوجهك ورضاك ، أو العمل بك أي بأمرك وتوفيقك ، أن المعنى أمر العمل رادع إليك في الرد والقبول ، هذا وتقدم الكلام مبسوطا في وقت التلبية وابتداء الإحرام وفي حكم الزيادة على التلبية المرفوعة المشهورة . ( متفق عليه ) فيه نظر ، فإن الزيادة المذكورة انفرد مسلم عن البخاري بروايتها . ( ولفظه لمسلم ) قد تقدم أن المصنف اختصر رواية مسلم اختصارا مخلا يتبادر منه أن الزيادة أيضا مرفوعة مع أنها موقوفة على عبد الله ، وأنه
(17/451)
اقتدى في ذلك بأبيه ، والحديث
أخرجه أيضا أحمد (ج2 : ص131) ، والنسائي ، والبيهقي (ج5 : ص44) وغيرهم . وأما
الزيادة المذكورة فأخرجها أحمد ، ومالك ، والترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن
ماجة ، والشافعي ، والبيهقي . هذا وقد خالف البغوي ها هنا ما اصطلحه من ذكر أحاديث
غير الشيخين في الحسان حيث أورد رواية مسلم فيها .
2576- قوله : ( عن عمارة ) بضم أوله والتخفيف وزيادة الهاء في آخره ( بن خزيمة )
بضم الخاء المعجمة ، وفتح الزاي ( بن ثابت ) الأنصاري الأوسي ، كنيته أبو عبد الله
، أو أبو محمد المدني ، ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين مات سنة خمس ومائة ، وهو
ابن خمس وسبعين ، ( عن أبيه ) أي خزامة بن ثابت المعروف بذي الشهادتين ، تقدم
ترجمته في (ج3 : ص187) ( سأل الله رضوانه ) بكسر الراء ، أي رضاه في الدنيا
والآخرة ، وفي رواية الدار قطني ، والبيهقي : سأل
والجنة ، واستعفاه برحمته من النار . رواه الشافعي .
( الفصل الثالث )
2577- (14) عن جابر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الحج أذن في
الناس ، فاجتمعوا ، فلما أتى البيداء أحرم . رواه البخاري .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/452)
الله مغفرته ورضوانه ( والجنة ) أي في العقبى ( واستعفاه ) أي طلب عفوه ، فهو عطف على (( سأل )) وفي الدارقطني ، والبيهقي : (( استعاذ )) وفي الحصن : (( استعتقه )) ونسبه للطبراني ، ( برحمته ) أي بسبب رحمته تعالى لا بكسب نفسه ، ( من النار ) أي نار العذاب . والحديث دليل على استحباب الدعاء بعد الفراغ من كل تلبية يلبيها المحرم في أي حين بهذا الدعاء ونحوه بأن يقول : اللهم إني أسألك مغفرتك ورضاك والجنة في الآخرة ، وأن تعفو عني وتعيذني وتعتقني برحمتك من النار ، ويحتمل أن المراد بالفراغ منها انتهاء وقت مشروعيتها وهو عند رمي جمرة العقبة ، والأول أوضح ( رواه الشافعي ) في الأم (ج2 : ص134) بإسناد ضعيف ، لأن فيه صالح بن محمد بن أبى زائدة وهو ضعيف . قاله الحافظ ، وقال الولي العراقي : صالح هذا ضعفه الجمهور ، وقال أحمد : لا أرى به بأسا . وفيه أيضا إبراهيم بن أبى يحيى الراوي عنه ولكنه قد تابعه عليه عبد الله بن عبد الله الأموي ، أخرجه البيهقي (ج5 : ص46) ، والدارقطني (ص263) ، وروى الشافعي والدارقطني ، والبيهقي عن القاسم بن محمد يقول : كان يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(17/453)
2577- قوله : ( أذن في الناس )
لقوله تعالى : ? وأذن في الناس بالحج ? (22 : 27) الآية أي نادي بينهم بأني أريد
الحج ، قاله ابن الملك . قال القاري : والأظهر أنه أمر مناديا بأنه - صلى الله
عليه وسلم - يريد الحج كما سيأتي في حديث جابر الطويل ، ( فاجتمعوا ) أي خلق كثير
في المدينة ، ( فلما أتى البيداء ) هي : الشرف أي المكان العالي الذي قدام ذي
الحليفة بقربها إلى جهة مكة سميت بيداء لأنها لا بناء بها ولا أثر ، وكل مفازة لا
شيء فيها سمي بيداء ، وهي ها هنا اسم موضع مخصوص بذي الحليفة كما ذكرنا ، ( أحرم )
أي كرر إحرامه أو أظهره ، قال القاري هو أظهر لما ثبت أنه أحرم ابتداء في مسجد ذي
الحليفة بعد ركعتي الإحرام - انتهى . وقد تقدم بيان اختلاف الروايات في موضع
إحرامه - صلى الله عليه وسلم - ووجه الجمع بينها . ( رواه البخاري ) هذا وهم من
المصنف فإن حديث جابر هذا ليس في صحيح البخاري لا بلفظه ولا بمعناه بل هو مما
انفرد الترمذي بروايته هكذا . ولذلك اقتصر الساعاتي في الفتح الرباني على نسبته
إلى الترمذي ، والظاهر أن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث قال بعد ذكر هذه الرواية
في جامع الأصول (ج3: ص436) : أخرجه البخاري ، والترمذي ، وكذلك نسبه إليهما محمد
بن محمد بن سليمان الفاسي في جمع الفوائد (ج1 : ص461) والحديث أخرجه مسلم مطولا
كما سيأتي .
2578- (15) وعن ابن عباس قال : كان المشركون يقولون لبيك لا شريك لك فيقول رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - (( ويلكم قد قد )) . إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك
يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت . رواه مسلم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17/454)
2578- قوله : ( ويلكم قد قد ) قال القاضي : روى بإسكان الدال وكسرها مع التنوين فيهما ، ومعناه كفاكم هذا الكلام فاقتصروا عليه ولا تزيدوا ، فلا تقولوا ما بعده من الاستثناء ، وفيه : بيان أن من رأى منكرا ولم يقدر على تغييره باليد فإنه يغيره بالقول لأن قد قد إنكار ( إلا شريكا ) كذا في جميع النسخ من المشكاة . وهو متعلق بمقول المشركين ، وقوله : (( فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قد )) جملة معترضة للتنبيه على أن رسل الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم ذلك بين الاستثناء وما قبله قبل أن يتكلموا الاستثناء . وفي صحيح مسلم : (( فيقولون إلا شريكا )) وهكذا في جامع الأصول (ج3 : ص444) ( هو لك تملكه وما ملك ) ما نافية ، وقيل : موصولة عطف على مفعول تملكه ، والمعنى على الأول : أنت تملكه وهو لا يملك وعلى الثاني : أنت تملك إياه وما في ملكه ، قال الطيبي كان المشركون يقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك . فإذا انتهى كلامهم إلى (( لا شريك لك )) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قد . أي اقتصروا عليه ولا تتجاوزوا عنه إلى ما بعده ، وقوله : (( إلا شريكا )) الظاهر فيه الرفع على البداية من المحل كما في كلمة التوحيد ، فاختير في الكلمة السفلى اللغة السافلة كما اختير في الكلمة العليا العالية ، ( يقولون ) أي المشركون ، وهو مقول ابن عباس ( هذا ) أي هذا القول وهو قولهم إلا شريكا مع ما قبله وما بعده . ( رواه مسلم ) الحديث من أفراد مسلم ، لم يخرجه البخاري ولا أحد من أصحاب السنن ، نعم أخرجه البيهقي (ج5 : ص45) وزاد في آخره : فيقولون : (( غفرانك غفرانك )) قال : فأنزل الله عز وجل : ? وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ? (8 : 33) فقال ابن عباس : كان فيهم أمانان ، نبي الله - صلى الله عليه وسلم - والاستغفار ،
(17/455)
قال فذهب نبي الله - صلى الله
عليه وسلم - وبقي الاستغفار ? وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام
وما كانوا أولياءه إن أوليآؤه إلا المتقون ? (8 : 34) قال : فهذا عذاب الآخرة ،
وذلك عذاب الدنيا . قال البيهقي بعد روايته : أخرجه مسلم في الصحيح من حديث النضر
بن محمد عن عكرمة بن عمار مختصرا دون قولهم : غفرانك إلى آخره - انتهى . وفى الباب
عن أنس بن مالك ، قال : كان الناس بعد إسماعيل على الإسلام فكان الشيطان يحدث
الناس بالشيء يريد أن يردهم عن الإسلام حتى أدخل عليهم في التلبية : لبيك اللهم
لبيك ، لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك . قال فما زال حتى أخرجهم
عن الإسلام إلى الشرك ، أخرجه البزار . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج3 : ص223) :
رجاله رجال الصحيح .
بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الثامن من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح
،
ويليه الجزء التاسع إن شاء الله تعالى . وأوله (( باب قصة حجة الوداع )) .
(17/456)
بسم الله الرحمن الرحيم
(2) باب قصة حجة الوداع
( الفصل الأول )
2579 – (1) عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( باب قصة حجة الوداع ) وبوب أبو داود لحديث جابر بـ (( باب صفة حجة النبي - صلى
الله عليه وسلم - )) والنووي في شرح مسلم بـ (( باب حجة النبي - صلى الله عليه
وسلم - )) قال القاري : الوداع بفتح الواو مصدر ودع توديعا ، كسلم سلاما وكلم
كلاما ، وقيل : بكسر الواو فيكون مصدرا لموادعة وهو لوداعه الناس في تلك الحجة ،
وهي بفتح الحاء وكسرها . قال الشمني : لم يسمع في حاء ذي الحجة إلا الكسر ، قال
صاحب الصحاح : الحجة المرة الواحدة ، وهو من الشواذ ، لأن القياس بالفتح – انتهى .
وعلى القياس روى سيبويه (( قالوا : حجة واحدة يعني بالفتح يريدون عمل سنة واحدة ))
.
2579 – قوله ( عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) إلخ ،
حديث جابر هذا أصل كبير وأجمع حديث في الباب ، قال النووي : هو أي جابر أحسن
الصحابة سياقة لرواية حديث حجة الوداع ، فإنه ذكرها من حين خروج النبي - صلى الله
عليه وسلم - من المدينة إلى آخرها فهو أضبط لها من غيره ، وقال : وهو حديث عظيم
مشتمل على جمل من الفوائد ومهمات من مهمات القواعد ، وهو من أفراد مسلم لم يروه
البخاري في صحيحه ، ورواه أبو داود كرواية مسلم . قال عياض : وقد تكلم الناس على
ما فيه من الفقه وأكثروا . وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءا كبيرا ، وخرج فيه من
الفقه مائة ونيفا
مكث بالمدينة تسع سنين لم يحج ، ثم أذن في الناس في العاشر : أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - حاج ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/1)
وخمسين نوعا ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه – انتهى . ونوه به الحافظ الذهبي في ترجمته جابر ، فقال : وله منسك صغير في الحج ، أخرجه مسلم ، وعقد له الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية فصلا خاصا قال فيه : وهو وحده منسك مستقل . ثم ساقه (ج 5 : ص 146 – 149) وقال الأبي : حديث جابر هذا عظيم القدر ، اشتمل على قواعد كثيرة من الدين بينها - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه من الدنيا وانتقاله إلى ما أعد الله سبحانه له من الكرامة ، ولم يبق - صلى الله عليه وسلم - بعد حجته هذه إلا قليلا بعد أن أشرقت الأرض بنوره وعلت كلمة الإيمان ( مكث ) بضم الكاف وفتحها أي لبث ( بالمدينة ) كذا في جميع النسخ مطابقا للمصابيح وليس هو عند مسلم بل هو للنسائي والشافعي وابن الجارود وأحمد فهو من الزيادات على رواية مسلم ( تسع سنين لم يحج ) بعد الهجرة أي لكنه اعتمر . قال الألباني : اتفق العلماء على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة وهي حجة الوداع هذه ، وعلى أنها كانت سنة عشر ، واختلفوا في وقت ابتداء فرضه على أقوال ، أقربها إلى الصواب أنه سنة تسع أو عشر ، وهو قول غير واحد من السلف ، واستدل له ابن القيم في (( زاد المعاد )) بأدلة قوية فليراجعها من شاء ، وعلى هذا فقد بادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحج فورا من غير تأخير ، بخلاف الأقوال الأخرى فيلزم منها أنه تأخر بأداء الفريضة ، ولذا اضطر القائلون بها إلى الاعتذار عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا حاجة بنا نحن إلى ذلك – انتهى . وقد سبق الكلام في ذلك مفصلا ( ثم أذن ) بضم الهمزة وكسر الذال المشددة مبني للمجهول ، أي نادى مناد بإذنه ، ويجوز بناؤه للمعلوم أي أمر بأن ينادي بيتهم ، وقال السندي : قوله (( ثم أذن )) من التأذين والإيذان أي نادى وأعلم ، والمراد أمر بالنداء فنادى المنادي ، ويحتمل على بعد أن يقرأ على بناء
(18/2)
المفعول – انتهى . وعلى كلا
الاحتمالين فالمراد إعلام الناس بحجه - صلى الله عليه وسلم - وإشاعته بينهم
ليتأهبوا للحج معه ويتعلموا المناسك والأحكام ويشاهدوا أفعاله وأقواله ويوصيهم
ليبلغ الشاهد الغائب وتشيع دعوة الإسلام وتبلغ الرسالة القريب والبعيد ، وفيه أنه
يستحب للإمام إيذان الناس بالأمور المهمة ليتأهبوا لها لا سيما في هذه الفريضة
الكثيرة الأحكام المفروضة ابتداء ( في العاشرة ) أي السنة العاشرة من الهجرة ( أن
) أي بأن ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج ) أي خارج
فقدم المدينة بشر كثير ، فخرجنا معه ، حتى إذا أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت
عميس محمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/3)
إلى الحج ومريد له وقاصده . قال القاري : وفي النسخ أي من المشكاة (( إن )) بالكسر فيكون من جملة المقول – انتهى . وزاد في رواية أحمد والنسائي وابن الجارود (( هذا العام )) ( فقدم المدينة بشر كثير ) قال القاري : تحقيقا لقوله تعالى : ? يأتوك رجالا ? أي مشاة ? وعلى كل ضامر ? أي راكبين على كل بعير ضعيف ? يأتين من فج عميق ? أي طريق بعيد ? ليشهدوا منافع لهم ? (22 – 27 ، 28) أي ليحضروا منافع دينية ودنيوية وأخروية – انتهى . وتقدم الكلام في عدد الذين كانوا معه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، وفي رواية مسلم بعد هذا (( كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعمل مثل عمله )) . وفي رواية للنسائي : (( فلم يبق أحد يقدر أن يأتي راكبا أو راجلا إلا قدم فتدارك الناس ليخرجوا معه )) ( فخرجنا معه ) أي لخمس بقين من ذي القعدة كما رواه النسائي وابن الجارود والبيهقي أي بين الظهر والعصر . وروى الترمذي وابن ماجة عن أنس والطبراني عن ابن عباس أن حجه عليه الصلاة والسلام كان على رحل رث يساوي أربعة دراهم ( حتى إذا أتينا ) كذا في جميع النسخ من المشكاة ، وهكذا في المصابيح وفي صحيح مسلم (( حتى أتينا )) أي بسقوط لفظة (( إذا )) وكذا وقع عند أبي داود وغيره ( فولدت أسماء بن عميس ) بمهملتين مصغرا ، الخثعمية ، صحابية فاضلة ، كانت أولا تحت جعفر بن أبي طالب ثم تزوجها أبو بكر بعد قتل جعفر ثم علي بن أبي طالب وولدت لهم ، وهي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لأمها ، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر . قال الحافظ : كان عمر يسألها عن تعبير الرؤيا ، ماتت بعد علي ( محمد بن أبي بكر ) الصديق وهو من أصغر الصحابة ، ولاه علي بن أبي طالب مصر وكان ربيبه ، قتله أصحاب معاوية بمصر سنة ثمان وثلاثين . وقال الحافظ : له رؤية ، وكان علي يثني عليه ويفضله لأنه كانت له عبادة واجتهاد ، وكان على رجالة علي يوم صفين ، قتل
(18/4)
سنة ثمان وثلاثين ( فأرسلت إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) الظاهر أنها أرسلت زوجها الصديق ، ويدل له ما
رواه مالك في موطأه عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن أسماء بنت عميس أنها ولدت
محمد بن أبي بكر فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويدل عليه أيضا
ما رواه النسائي من حديث أبي بكر فأتى أبو بكر النبي - صلى الله عليه وسلم -
فأخبره فأمره أن
كيف أصنع ؟ قال : " اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي " . فصلى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - في المسجد ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/5)
يأمرها أن تغتسل ( كيف أصنع ؟ ) أي في باب الإحرام . وقال الباجي في شرح رواية الموطأ : يحتمل أن أبا بكر سأل أن النفاس الذي يمنع صحة الصلاة والصوم يمنع صحة الحج فبين - صلى الله عليه وسلم - أنه لا ينافي الحج ؛ ويحتمل أنه سأل عن اغتسالها للإحرام إن علم أن إحرامها بالحج يصح فخاف أن النفاس يمنع الاغتسال الذي يوجب حكم الطهر ( قال : اغتسلي ) فيه غسل النفساء للإحرام وإن لم تطهر ، وفي حكمها الحائض فهو للنظافة لا للطهارة . قال القاري : ولذا لا ينوبه التيمم ويظهر من كلام الخطابي أن العلة عنده التشبه بالطاهرات حيث قال في معالم السنن : في الحديث استحباب التشبه من أهل التقصير بأهل الفضل والكمال والإقتداء بأفعالهم طمعا في درك مراتبهم ورجاء لمشاركتهم في نيل المثوبة، ومعلوم أن اغتسال الحائض والنفساء قبل أوان الطهر لا يطهرهما ولا يخرجهما عن حكم الحدث وإنما هو لفضيلة المكان والوقت . قال الولي العراقي : هذا يدل على أن العلة عنده في اغتسالهما التشبه بأهل الكمال وهن الطاهرات . والظاهر أنه إنما هو لشمول المعنى الذي شرع الغسل لأجله وهو التنظيف وقطع الرائحة الكريهة لدفع أذاها عن الناس عند اجتماعهم ، وبذلك علله الرافعي ولا يرد عليه التيمم عند العجز ، لأن التنظيف هو أصل مشروعيته للإحرام فلا ينافيه قيام التراب مقامه ، لأنه يقوم مقام الغسل الواجب فأولى المسنون وبعد استمرار الحكم قد لا توجد علته في بعض المحال – انتهى . قلت : وهذا عند من قال بمشروعية التيمم وإجزائه عند العجز . وأما الذي لم يقل به فلا إيراد عليه . وقد تقدم الكلام في ذلك في شرح حديث زيد بن ثابت في الفصل الثاني من باب الإحرام والتلبية . قال الخطابي : وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - الحائض والنفساء بالاغتسال دليل على أن الطاهر أولى بذلك . وقال الزرقاني : وفيه الاغتسال للإحرام مطلقا لأن النفساء إذا أمرت به مع أنها غير قابلة للطهارة
(18/6)
كالحائض فغيرهما أولى (
واستثفري ) بالثاء المثلثة بعد الفوقية أمر من الاستثفار وهو أن تحتشي المرأة قطنا
وتشد في وسطها شيئا وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها
ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها ، والمقصود أن تجعل هناك ما يمنع من سيلان
الدم تنزيها أن تظهر النجاسة عليها ، إذ لا تقدر على أكثر من ذلك . قال النووي :
فيه أمر الحائض والنفساء والمستحاضة بالاستثفار وهو أن تشد في وسطها شيئا وتأخذ
خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود
في وسطها ، وهو شبيه بثفر الدابة بفتح الفاء ( وأحرمي ) أي بالنية والتلبية ، قاله
القاري . وفيه صحة إحرام النفساء ومثلها الحائض ، وأولى منهما الجنب لأنهما
شاركتاه في شمول اسم الحدث وزادتا عليه بسيلان الدم وهو مجمع عليه ( فصلى رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي ركعتين للظهر ، وقيل سنة الإحرام ( في المسجد )
أي في مسجد ذي الحليفة . قال ابن العجمي في منسكه : ينبغي إن كان الميقات مسجد أن
يصلي ركعتي الإحرام فيه ولو صلاهما في غير المسجد فلا بأس ، ولو أحرم بغير صلاة
جاز ، ولا يصلي في الأوقات المكروهة ، وتجزئ المكتوبة عنهما كتحية المسجد . وقيل :
ثم ركب القصواء ، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد : " لبيك
اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك
" . قال جابر : لسنا ننوي إلا الحج ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/7)
صلى الظهر . وقد قال ابن القيم : ولم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر ، كذا في المرقاة . وقد تقدم الكلام في ذلك في شرح حديث ابن عمر في الفصل الثاني من باب الإحرام والتلبية ( ثم ركب القصواء ) بفتح القاف وبالمد ، اسم ناقته - صلى الله عليه وسلم - ولها أسماء أخرى مثل العضباء والجدعاء ، وقيل : هي أسماء لنوق له - صلى الله عليه وسلم - فقال القاضي : قال ابن قتيبة : كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - نوق : القصواء والجدعاء والعضباء . قال أبو عبيد : العضباء اسم لناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تسم بذلك لشيء أصابها . قال القاضي : قد ذكر هنا أنه ركب القصواء ، وفي آخر هذا الحديث (( خطب على القصواء )) ، وفي غير مسلم (( خطب على ناقته الجدعاء )) . وفي حديث آخر : (( على ناقة خرماء )) . وفي آخر (( العضباء )) ، وفي حديث آخر (( كانت له ناقة لا تسبق )) ، وفي آخر (( تسمى مخضرمة )) . وهذا كله يدل على أنها ناقة واحدة خلاف ما قاله ابن قتيبة وأن هذا كان اسمها أو وصفها لهذا الذي بها خلاف ما قال أبو عبيد . لكن يأتي في كتاب النذر أن القصواء غير العضباء كما سنبينه هناك . قال الحربي : العضب والجدع والخرم والقصو والخضرمة في الآذان ، قال ابن الأعرابي : القصواء التي قطع طرف أذنها ، والجدع أكثر منه . وقال الأصمعي : والقصو مثله . قال : وكل قطع في الأذان جدع ، فإن جاوز الربع فهي عضباء ، والمخضرم مقطوع الأذنين ، فإن اصطلمتا فهي صلماء ، وقال أبو عبيد : القصواء المقطوعة الأذن عرضا ، والمخضرمة المستأصلة والمقطوعة النصف فما فوفه . وقال الخليل : المخضرمة مقطوعة الواحدة والعضباء مشقوقة الأذن ، قال الحربي : فالحديث يدل على أن العضباء اسم لها ، وإن كانت عضباء الأذن فقد جعل اسمها ، هذا آخر كلام القاضي . وقال محمد بن إبراهيم التيمي التابعي : إن العضباء والقصواء والجدعاء اسم لناقة واحدة
(18/8)
كانت لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ( حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل ) وفي صحيح مسلم (( حتى إذا
استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش ، وعن يمينه
مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله ، وما عمل من شيء عملنا به ،
فأهل يعني رفع صوته )) واللفظ المذكور في الكتاب هو لابن الجارود ( بالتوحيد )
يعني قوله : لبيك لا شريك لك . وفيه إشارة إلى مخالفة ما كانت الجاهلية تزيده بعد
قوله (( لا شريك لك )) فقد كانوا يقولون : (( إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ))
كما تقدم ( لبيك اللهم لبيك ) إلخ . وفي رواية مسلم بعد ذكر التلبية (( وأهل الناس
بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم شيئا منه ،
ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبيته )) وفي رواية أحمد وابن الجارود ((
ولبى الناس والناس يزيدون (( ذا المعارج )) ونحوه من الكلام ، والنبي - صلى الله
عليه وسلم - يسمع فلا يقول لهم شيئا )) ( قال جابر : لسنا ننوي إلا الحج ) أي لسنا
ننوي شيئا من النيات إلا نية
لسنا نعرف العمرة ، حتى إذا أتينا البيت معه ، استلم الركن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/9)
الحج . قال السندي : قوله (( لا ننوي إلا الحج )) أي أول الأمر ووقت الخروج من البيوت وإلا فقد أحرم بعض بالعمرة أو هو خبر عما كان عليه حال غالبهم ، أو المراد أن المقصد الأصلي من الخروج كان الحج وإن نوى بعض العمرة – انتهى . ( لسنا نعرف العمرة ) هو تأكيد للحصر السابق قبل . قال القاضي : أي لا نرى العمرة في أشهر الحج استصحابا لما كان من معتقدات أهل الجاهلية ، فإنهم كانوا يرون العمرة محظورة في أشهر الحج ويعتمرون بعد مضيها . وقيل : معناه (( ما قصدناها ولم تكن في ذكرنا )) وقد تقدم شيء من الكلام في هذا في شرح حديث عائشة الذي فيه ذكر انقسام الناس بين مفرد ومتمتع وقارن ( حتى إذا أتينا البيت معه ) أي وصلناه بعد ما نزل بذي طوى وبات بها واغتسل فيها ودخل مكة من الثنية العليا صبيحة الأحد رابع ذي الحجة وقصد المسجد من شق باب السلام ولم يصل تحية المسجد لأن تحية البيت المقصود منه هو الطواف ، فمن ثم استمر - صلى الله عليه وسلم - على مروره في ذلك المقام حتى ( استلم الركن ) أي الركن الأسود وإليه ينصرف الركن عند الإطلاق ، وفي رواية أحمد وابن الجارود (( الحجر الأسود )) والاستلام افتعال من السلام بمعنى التحية ، وأهل اليمن يسمون الركن بالمحيا لأن الناس يحيونه بالسلام ، وقيل من السلام بكسر السين ، وهي الحجارة واحدتها سلمة بكسر اللام ، يقال : استلم الحجر إذا لثمه وتناوله ، والمعنى : وضع يديه عليه وقبله ، واستلم النبي - صلى الله عليه وسلم - الركن اليماني أيضا في هذا الطواف كما في حديث ابن عمر ولم يقبله ، وإنما قبل الحجر الأسود وذلك في كل طوفة . قلت : والسنة في الحجر الأسود تقبيله إن تيسر ذلك ، فإن شق التقبيل استلمه بيده وقبلها ، وإلا استلمه بنحو عصا وقبلها وإلا أشار إليه ، ولا يقبل ما يشير به ولا يشرع شيء من هذا في الأركان الأخرى إلا الركن اليماني فإنه يحسن استلامه أي لمسه فقط ، وفي المواهب وشرحه
(18/10)
للزرقاني : واعلم أن للبيت
أربعة أركان ، الأول له فضيلتان ، كون الحجر الأسود فيه ، وكونه على قواعد إبراهيم
أي أساس بنائه ، وللثاني وهو الركن اليماني الثانية فقط ، وليس للآخرين شيء منهما
فلذلك يقبل الأول كما في الصحيحين عن ابن عمر : أنه - صلى الله عليه وسلم - قبل
الحجر الأسود . وفي البخاري عن ابن عمر : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يستلمه ويقبله . ويستلم الثاني فقط لما في الصحيح عن ابن عمر : أنه - صلى الله
عليه وسلم - كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني . ولا يقبل الآخران ولا يستلمان
إتباعا للفعل النبوي لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم ، هذا على قول الجمهور .
واستحب بعضهم تقبيل اليماني أيضا ، وأجاب الشافعي عن قول من قال كمعاوية (( وقد
قبل الأربعة : ليس شيء من البيت مهجورا )) فرد عليه ابن عباس فقال : لقد كان لكم
في رسول الله أسوة حسنة ، بأنا لم ندع استلامهما هجرا للبيت ، وكيف يهجره وهو يطوف
به ، ولكنا نتبع السنة فعلا أو تركا ، ولو كان ترك استلامهما هجرا لها لكان ترك
استلام ما بين الأركان هجرا لها ، ولا قائل به . وروى الشافعي عن ابن عمر قال :
استقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحجر الأسود فاستلمه أي مسح بيده عليه
ثم وضع شفتيه عليه طويلا يقبله . ومفاده استحباب الجمع بينهما – انتهى . ويسن عند
التكبير عند الركن
فطاف سبعا ، فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم ، فقرأ ? واتخذوا
من مقام إبراهيم مصلى ? فصلى ركعتين ، فجعل المقام بينه وبين البيت . وفي رواية :
أنه قرأ في الركعتين ? قل هو الله أحد ? و ? قل يا أيها الكافرون ?
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/11)
الأسود في كل طوفة لحديث ابن عباس الآتي في باب الطواف : قال طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبيت على بعيره كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبر . رواه البخاري . قال الألباني : وأما التسمية فلم أرها في حديث مرفوع ، وإنما صح عن ابن عمر أنه كان إذا استلم الحجر قال : بسم الله والله أكبر . أخرجه البيهقي (ج 5 : 79) وغيره بسند صحيح كما قال النووي والعسقلاني . ووهم ابن القيم فذكره من رواية الطبراني مرفوعا ، وإنما رواه موقوفا كالبيهقي كما ذكر الحافظ في التلخيص – انتهى . ( فطاف سبعا ) كذا في جميع النسخ من المشكاة ، وهكذا وقع في المصابيح ، وفي رواية مختصرة عند النسائي والترمذي وليس هو عند مسلم ( فرمل ) أي مشى بسرعة مع تقارب الخطى وهز كتفيه ، وفي رواية لمسلم (( ثم مشى على يمينه فرمل )) ( ثلاثا ) أي ثلاث مرات من الأشواط السبعة ، زاد في رواية لأحمد (( حتى عاد إليه )) . ( ومشى ) أي على السكون والهينة ( أربعا ) أي في أربع مرات وكان مضطبعا في جميعها ، والاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر ويكون منكبه الأيمن منكشفا والأيسر مستورا . قال النووي : في الحديث أن المحرم إذا دخل مكة قبل الوقوف بعرفات يسن له طواف القدوم وهو مجمع عليه ، وفيه أن الطواف سبعة أشواط . وفيه أن السنة الرمل في الثلاث الأول ويمشي على عادته في الأربع الأخيرة ( ثم تقدم ) قال القاري : وفي نسخة صحيحة من نسخ مسلم ( نفذ ) بالنون والفاء والذال المعجمة ، أي توجه ، قلت : وكذا وقع في رواية لابن الجارود ( إلى مقام إبراهيم ) بفتح الميم أي موضع قيامه ، وهو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت ، وفيه أثر قدميه ، موضوع قبالة البيت ( فقرأ : واتخذوا ) بكسر الخاء على الأمر وبفتحها على الخبر ( من مقام إبراهيم ) أي بعض حواليه ( مصلى ) بالتنوين أي موضع صلاة الطواف ( فصلى ركعتين ) كذا في جميع
(18/12)
النسخ الحاضرة عندنا ، وهكذا
وقع في المصابيح ، وفي السنن للنسائي والترمذي ، وليس هو عند مسلم ، ووقع عند أحمد
وابن الجارود (( حتى إذا فرغ )) أي من الطواف (( عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه
ركعتين )) ( فجعل المقام بينه وبين البيت ) أي صلى خلفه بيانا للأفضل وإن جاز في
أي موضع شاء ( وفي رواية ) وفي المصابيح (( ويروى )) وفي صحيح مسلم (( فكان أبي أي
محمد بن علي بن الحسين يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
كان يقرأ في الركعتين )) إلخ ( أنه قرأ في الركعتين ) أي بعد الفاتحة ( قل هو الله
أحد ) أي إلى آخرها في إحداهما ( وقل يا أيها الكافرون ) أي بتمامها في الأخرى .
والواو لمطلق الجمع فلا إشكال . قال الطيبي : كذا في صحيح مسلم وشرح السنة في إحدى
الروايتين ، وكان من الظاهر تقديم سورة الكافرون كما في رواية المصابيح . وقال
النووي : معناه قرأ
ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ ?
إن الصفا والمروة من شعائر الله ? أبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا ، فرقى عليه
حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال : " لا إله إلا الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/13)
في الركعة الأولى بعد الفاتحة (( قل يا أيها الكافرون )) وفي الثانية بعد الفاتحة (( قل هو الله أحد )) وقد ذكر البيهقي (ج 5 : ص 91) بإسناد صحيح على شرط مسلم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت فرمل من الحجر الأسود ثلاثا ثم صلى ركعتين قرأ فيهما (( قل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد )) كذا في المرقاة . قلت : وفي رواية للنسائي (( فصلى ركعتين )) فقرأ فاتحة الكتاب ، وقل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد )) ، وفي رواية للترمذي (( قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص : (( قل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد )) وفي الحديث دليل لما أجمع عليه العلماء أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي خلف المقام ركعتي الطواف ، واختلفوا هل هما واجبتان أم سنتان ؟ وسيأتي ذكر الخلاف في باب الطواف إن شاء الله ( ثم رجع إلى الركن فاستلمه ) قال النووي : فيه دلالة لما قاله الشافعي وغيره من العلماء أنه يستحب للطائف طواف القدوم إذا فرغ من الطواف وصلاته خلف المقام أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه ثم يخرج من باب الصفا ليسعى ، واتفقوا على أن هذا الاستلام ليس بواجب وإنما هو سنة لو تركه لم يلزمه دم – انتهى . وعند الحنفية العود إلى الحجر إنما يستحب لمن أراد السعي بعده وإلا فلا ، كما في البحر وغيره ( ثم خرج من الباب ) أي باب الصفا ( إلى الصفا ) أي إلى جانبه ،قال في الهداية: إن خروجه عليه الصلاة والسلام من باب الصفا لأنه كان أقرب الأبواب إلى الصفا لا أنه سنة . والصفا والمروة علما جبلين بمكة ومن مشاعرها ( فلما دنا ) أي قرب ( قرأ : إن الصفا والمروة من شعائر الله ) أي من أعلام مناسكه . قال القاري : جمع شعيرة وهي العلامة التي جعلت للطاعات المأمور بها في الحج عندها كالوقوف والرمي والطواف والسعي ( أبدأ ) بصيغة المتكلم أي وقال : أبدأ ( بما بدأ الله به ) يعني ابتدأ بالصفا
(18/14)
لأن الله بدأ بذكره في كلامه ،
فالترتيب الذكري له اعتبار في الأمر الشرعي إما وجوبا أو استحبابا وإن كانت الواو
لمطلق الجمع في الآية . قال السندي : هذا يفيد أن بداءة الله تعالى ذكرا تقتضي
البداءة عملا ، والظاهر أنه يقتضي ندب البداءة عملا لا وجوبا ، والوجوب فيما نحن
فيه من دليل آخر ( فبدأ ) أي في سعيه ( فرقي ) بكسر القاف أي صعد ( عليه ) أي على
جبل الصفا ( حتى رأى البيت ) أي إلى أن رآه ( فاستقبل القبلة ) وضع الظاهر موضع
الضمير تنصيصا على أن البيت قبلة وتنبيها على أن المقصود بالذات هو التوجه إلى
القبلة لا خصوص رؤية البيت ، قاله القاري . وقال في اللمعات : وكان إذ ذاك يرى من
الصفا ، والآن حجبها بناء الحرم ( وقال لا إله إلا الله ) قال الطيبي : إنه قول
آخر غير التوحيد والتكبير ، ويحتمل أن يكون كالتفسير له والبيان ، والتكبير وإن لم
يكن ملفوظا به لكن معناه مستفاد من هذا
وحده ، لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله
وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده " . ثم دعا بين ذلك ، قال
مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل ومشى إلى المروة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/15)
القول ، أي لأن معنى التكبير التعظيم . قال القاري : والأظهر أنه قول آخر ( وحده ) حال مؤكدة أي منفردا بالألوهية أو متوحدا بالذات ( لا شريك له ) في الألوهية فيكون تأكيدا ، أو في الصفات فيكون تأسيسا وهو الأولى ( له الملك وله الحمد ) زاد في رواية أبي داود والنسائي والدرامي وابن ماجه والبيهقي والشافعي (( يحيي ويميت )) ( أنجز وعده ) أي وفى بما وعده بإظهاره عز وجل للدين ( ونصر عبده ) أي عبده الخاص نصرا عزيزا ، وعند أحمد (( صدق عبده )) بدل (( نصر )) ومعنى تصديق الله تعالى لعبده تأييده بالمعجزات والله تعالى أعلم ( وهزم ) وفي رواية (( وغلب )) ( الأحزاب وحده ) أي هزمهم بغير قتال من الآدميين ولا بسبب من جهتهم . قال تعالى ? فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ? (23 : 9) والمراد بالأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق وكان ذلك في شوال سنة أربع من الهجرة ، وقيل سنة خمس ويمكن أن يكون المراد بالأحزاب أنواع الكفار الذين تحزبوا لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغلبوا بالهزيمة والفرار ( ثم ) لمجرد الترتيب دون التراخي ( دعا بين ذلك ) أي بين مرات هذا الذكر بما شاء ( قال مثل هذا ) أي الذكر ( ثلاث مرات ) قال الطيبي : كلمة (( ثم )) تقتضي التراخي وأن يكون الدعاء بعد الذكر ، (( وبين )) تقتضي التعدد والتوسط بين الذكر بأن يدعو بعد قوله (( على كل شيء قدير )) الدعاء ، فتمحل من قال : لما فرغ من قوله (( وهزم الأحزاب وحده )) دعا بما شاء ثم قال مرة أخرى هذا الذكر ثم دعا ، حتى فعل ذلك ثلاثا ، فهذا إنما يستقيم على التقديم والتأخير بأن يذكر قوله (( ثم دعا بين ذلك )) بعد قوله (( قال مثل هذا ثلاث مرات )) وتكون (( ثم )) للتراخي في الإخبار لا تأخر زمان الدعاء عن الذكر ، ويلزم أن يكون الدعاء مرتين – انتهى . وقال السندي : يقول الذكر ثلاث مرات ويدعو بعد كل مرة . قال
(18/16)
النووي : قوله (( أبدأ بما بدأ
الله به )) إلخ . في هذا أنواع من المناسك : منها أن السعي يشترط فيه أن يبدأ من
الصفا وبه قال الشافعي ومالك والجمهور . وقد ثبت في رواية النسائي هذا الحديث
بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ابدأوا بما بدأ الله به
" . هكذا بصيغة الجمع . ومنها أنه ينبغي أن يرقى على الصفا والمروة ، وفي هذا
الرقي خلاف ، قال جمهور أصحابنا : هو سنة ليس بشرط ولا واجب ، فلو تركه صح سعيه
لكن فاتته الفضيلة . قال أصحابنا : يستحب أن يرقى على الصفا والمروة حتى يرى البيت
إن أمكنه . ومنها أنه يسن أن يقف على الصفا مستقبل الكعبة ويذكر الله تعالى بهذا
الذكر المذكور ويدعو ويكرر الذكر والدعاء ثلاث مرات ، هذا هو المشهور عند أصحابنا
. وقال جماعة من أصحابنا يكرر الذكر ثلاثا والدعاء مرتين فقط والصواب الأول –
انتهى . ( ثم نزل ومشى إلى المروة ) كذا في جميع النسخ ،
حتى انصبت قدماه في بطن الوادي ، ثم سعى حتى إذا صعدنا مشى ، حتى أتى المروة ،
ففعل على المروة كما فعل على الصفا ، حتى إذا كان آخر طواف على المروة ، نادى وهو
على المروة والناس تحته ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/17)
وهكذا في المصابيح ، وفي مسلم (( ثم نزل إلى المروة )) وفي رواية النسائي (( ثم نزل ماشيا )) أي إلى المروة ( حتى انصبت ) بتشديد الباء ( قدماه ) أي انحدرتا بالسهولة ، ومنه (( إذا مشى كأنه ينحط في صبب )) أي موضع منحدر ، وهو مجاز من قولهم (( صببت الماء فانصب )) أي سكبته فانسكب ( في بطن الوادي ) أي المسعى ، وفي رواية للنسائي (( في بطن المسيل )) يعني انحدرتا بالسهولة حتى وصلتا إلى بطن الوادي ، والمراد به المنخفض من ( ثم سعى ) وفي رواية لأحمد (( رمل )) يعني أسرع في المشي مع تقارب الخطى في بطن الوادي ( حتى إذا صعدتا ) بكسر العين ، أي ارتفعت قدماه عن بطن الوادي وخرجتا منه إلى طرفه الأعلى . قال الطيبي : معناه ارتفعتا عن بطن الوادي إلى المكان العالي لأنه في مقابلة (( انصبت قدماه )) أي دخلتا في الحدور ( مشى ) أي سار على السكون ، يعني إذا بلغ المرتفع من الوادي مشى باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه . قال النووي : فيه استحباب السعي الشديد في بطن الوادي حتى يصعد ثم يمشي باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه ، وهذا السعي مستحب في كل مرة من المرات السبع في هذا الموضع ، والمشي مستحب فيما قبل الوادي وبعده ، ولو مشى في الجميع أو سعى في الجميع أجزأه وفاتته الفضيلة ، هذا مذهب الشافعي وموافقيه . وعن مالك فيمن ترك السعي الشديد في موضعه روايتان : إحداهما كما ذكر ، والثانية تجب عليه إعادته – انتهى . وقال في اللباب : ويستحب أن يكون السعي بين الميلين فوق الرمل دون العدو ، وهو في كل شوط ، أي بخلاف الرمل في الطواف فإنه مختص بالثلاثة الأول خلافا لمن جعله مثله ، فلو تركه أو هرول في جميع السعي ، فقد أساء ولا شيء عليه ، وإن عجز عنه صبر حتى يجد فرجة ، و إلا تشبه بالساعي في حركته ، وإن كان على دابة حركها من غير أن يؤذي أحدا – انتهى . ( حتى أتى المروة ) زاد في رواية أحمد (( فرقى عليها حتى نظر إلى البيت
(18/18)
)) ( ففعل على المروة كما فعل
) أي مثل ما فعله ( على الصفا ) من الرقي واستقبال القبلة والذكر والدعاء . قال
النووي : فيه أنه يسن عليها من الذكر والدعاء والرقي مثل ما يسن على الصفا ، وهذا
متفق عليه ( حتى إذا كان) تامة أي وجد ( آخر طواف ) أي سعى ( على المروة ) متعلق
بكان . وفي رواية لأحمد وابن الجارود (( فلما كان السابع عند المروة )) قال النووي
: قوله (( حتى إذا كان آخر طواف على المروة )) فيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور
أن الذهاب من الصفا إلى المروة يحسب مرة ، والرجوع إلى الصفا ثانية ، والرجوع إلى
المروة ثالثة وهكذا فيكون ابتداء السبع من الصفا وآخرها بالمروة . وقال ابن بنت
الشافعي وأبو بكر الصيرفي من أصحابنا يحسب الذهاب إلى المروة والرجوع إلى الصفا
مرة واحدة فيقع آخر السبع في الصفا ، وهذا الحديث الصحيح يرد عليهما . وكذلك عمل
المسلمين على تعاقب الأزمان ، والله أعلم – انتهى . ( نادى وهو على المروة والناس
تحته ) كذا في جميع النسخ
فقال : " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ، لم أسق الهدي ، وجعلتها عمرة ،
فمن كان منكم ليس معه هدي ، فليحل وليجعلها عمرة " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/19)
الحاضرة عندنا ، وهكذا في المصابيح ، وليست هذه الجملة في صحيح مسلم ( فقال ) وفي بعض النسخ (( قال )) أي بدون الفاء ، قال الطيبي : هو جواب إذا ، قال القاري : وفي نسخة صحيحة أي من المشكاة (( فقال )) بزيادة الفاء ، وأما ما في بعض النسخ (( نادى وهو على المروة والناس تحته فقال )) فلا أصل له ، وزاد في رواية لأحمد وابن الجارود بعد قوله (( قال )) (( يا أيها الناس )) ( لو أني استقبلت ) أي لو علمت في قبل ( من أمري ما استدبرت ) أي ما علمته في دبر منه ، والمعنى لو ظهر لي هذا الرأي الذي رأيته الآن لأمرتكم به في أول أمري وابتداء خروجي و ( لم أسق الهدي ) بضم السين ، يعني لما جعلت علي هديا وأشعرته وقلدته وسقته بين يدي ، فإنه إذا ساق الهدي لا يحل حتى ينحر ، ولا ينحر إلا يوم النحر ، فلا يصح له فسخ الحج بعمرة بخلاف من لم يسق ، إذ يجوز له فسخ الحج ، وهذا صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متمتعا . قال الخطابي : إنما قال هذا استطابة لنفوس أصحابه لئلا يجدوا في أنفسهم أنه أمرهم بخلاف ما يفعله في نفسه . وقد يستدل بهذا الحديث من يجعل التمتع أفضل ( وجعلتها ) أي الحجة ( عمرة ) يعني كنت متمتعا من أول الأمر من غير سوق الهدي ، وقال القاري : أي جعلت إحرامي بالحج مصروفا إلى العمرة كما أمرتكم به موافقة . قال ابن القيم في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - (( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت )) إلخ : يعني أنه لو كان هذا الوقت الذي تكلم فيه هو وقت إحرامه لكان أحرم بعمرة ولم يسق الهدي ، لأن الذي استدبره هو الذي فعله ومضى فصار خلفه والذي استقبله هو الذي لم يفعله بعد ، بل هو أمامه ، فمقتضاه أنه لو كان كذلك لأحرم بالعمرة دون هدي . وقال الزرقاني في شرحه : أي لو عن لي هذا الرأي الذي رأيته آخر وأمرتكم به في أول أمري لما سقت الهدي ، أي لما جعلت علي هديا وسقته بين يدي ، فإن من ساقه لا يحل حتى ينحره
(18/20)
وإنما ينحره يوم النحر ، فلا
يصح له فسخ الحج بعمرة ، ومن لا هدي معه يجوز له فسخه – انتهى . قال النووي : وفي
الحديث دليل على جواز قول (( لو)) في التأسف على فوات أمور الدين ومصالح الشرع ،
وأما الحديث الصحيح في أن (( لو )) تفتح عمل الشيطان ، فمحمول على التأسف على حظوظ
الدنيا ونحوها وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في استعمال (( لو )) في غير حظوظ الدنيا
ونحوها ، فيجمع بين الأحاديث بما ذكرناه ، والله أعلم ( فمن كان منكم ) الفاء جواب
شرط محذوف ، أي إذا كان الأمر ما ذكرت من أني سقت الهدي فمن كان منكم ( ليس معه
هدي ) بإسكان الدال وكسرها وتشدد الياء مع الكسرة وتخفف مع الفتح ، قاله النووي .
( فليحل ) بكسر الحاء ، وفي رواية عند أحمد (( فليحلل )) بسكون الحاء ، أي ليصر
حلالا وليخرج من إحرامه بعد فراغه من أفعال العمرة ( وليجعلها ) أي الحجة ( عمرة )
إذ قد أبيح له ما حرم عليه بسبب الإحرام حتى يستأنف الإحرام للحج ، والواو لمطلق
الجمع إذ الجعل مقدم على الخروج ، لأن المراد من الجعل
فقام سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا رسول الله ! ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال : " دخلت
العمرة في الحج . مرتين ، لا بل لأبد أبد " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/21)
الفسخ ، وهو أن يفسخ نية الحج ويقطع أفعاله ويجعل إحرامه وأفعاله للعمرة ، أو الواو للعطف التفسيري قاله القاري . وفي رواية عطاء عن جابر عند البخاري ومسلم (( فقال : أحلوا من إحرامكم )) ( أي اجعلوا حجكم عمرة وتحللوا منها بالطواف والسعي ) فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا وأقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج ، واجعلوا التي قدمتم بها متعة . قال الحافظ : أي اجعلوا الحجة المفردة التي أهللتم بها عمرة تتحللوا منها فتصيروا متمتعين ، فأطلق على العمرة متعة مجازا ، والعلاقة بينهما ظاهرة – انتهى . ( فقام سراقة بن مالك بن جعشم ) زاد في رواية أحمد وابن الجارود (( وهو في أسفل المروة )) وسراقة بضم السين وتخفيف الراء وقاف ، وهو الكناني المدلجي ، وقد ينسب إلى جده ، يكنى أبا سفيان ، وهو الذي ساخت فرسه في قصة الهجرة ، وأسلم يوم الفتح . قال أبو عمرو : مات في خلافة عثمان سنة أربع وعشرين ، وقيل بعد عثمان . وجده جعشم بضم الجيم وسكون المهملة وضم المعجمة وفتحها لغة حكاها الجوهري ( ألعامنا هذا أم لأبد ؟ ) معناه هل جواز فسخ الحج إلى العمرة ( كما هو الظاهر من سياق الحديث ) أو الإتيان بالعمرة في أشهر الحج أو مع الحج يختص بهذه السنة أم للأبد ؟ أي من الحال والاستقبال ، وفي رواية للنسائي وابن ماجه والبيهقي (( أرأيت عمرتنا )) وفي لفظ (( متعتنا )) ألعامنا هذا أم للأبد ؟ ( واحدة في الأخرى ) أي جعل واحدة من الأصابع في الأخرى ، فواحدة منصوب بعامل مضمر والحال مؤكدة ( وقال دخلت العمرة في الحج ) زاد في رواية ابن الجارود وأحمد (( إلى يوم القيامة )) ( مرتين ) أي قالها مرتين ( لا ) أي ليس لعامنا هذا فقط ( بل لأبد أبد ) بإضافة الأول إلى الثاني ، والأبد الدهر ، أي هذا لآخر الدهر ، أو بغير الإضافة وكرره للتأكيد ، وزاد في رواية ابن الجارود وأحمد (( ثلاث مرات )) يعني أن ذلك جائز في كل عام لا يختص
(18/22)
بعام دون آخر إلى يوم القيامة
، وكرر ذلك ثلاثا للتأكيد (( وشبك بين أصابعه )) إشارة إلى اشتراك كل الأعوام في
ذلك بدون اختصاص أحدها ، وقد اختلف العلماء في سؤال سراقة ، فقال بعضهم المراد منه
الإتيان بالعمرة في أشهر الحج . وذهب فريق إلى أن المراد بذلك القران ، يعني
اقتران الحج بالعمرة ، وقال آخرون : المراد منه فسخ الحج إلى العمرة ، فعلى الأول
يكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( دخلت العمرة في الحج )) أي حلت العمرة
في أشهر الحج وصحت والمقصود إبطال ما زعمه أهل الجاهلية من أن العمرة لا تجوز في
أشهر الحج وعليه الجمهور . وعلى الثاني دخلت العمرة في الحج أي اقترنت به لا تنفك
عنه لمن نواها معا ، وتندرج أفعال العمرة في أفعال الحج حتى يتحلل منهما معا . قيل
: ويدل عليه تشبيك الأصابع ، وفيه أنه حينئذ لا مناسبة بين السؤال والجواب فتدبر ،
وعلى الثالث أي دخلت نية العمرة في نية الحج بحيث أن من نوى الحج صح له الفراغ منه
بالعمرة ، قال النووي : وهو ضعيف . وقال القاري بعد ذكره :
..............................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/23)
أقول هذا هو الظاهر من سياق الحديث وسباقه ، والله تعالى أعلم . وقال الحافظ : وتعقب أي كلام النووي بأن سياق السؤال يقوي هذا التأويل ، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ ، والجواب وقع عما هو أعم من ذلك حتى يتناول التأويلات الثلاثة المذكورة - انتهى . وقيل : معنى دخولها في الحج سقوط وجوب العمرة بوجوب الحج . قال النووي: وسياق الحديث يقتضي بطلان هذا التأويل . قلت : حديث جابر هذا صريح في أن سؤال سراقة عن فسخ الحج إلى العمرة وجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - له يدل على تأييد مشروعيته كما ترى ، لأن الجواب مطابق للسؤال ، ومعنى فسخ الحج إلى العمرة أن من أحرم بالحج مفردا أو قارنا ولم يسق الهدي وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة قبل الوقوف بعرفة ، له أن يفسخ نيته بالحج وينوي عمرة مفردة فيقصر ويحل من إحرامه ليصير متمتعا ، وقد اختلف العلماء في هذا الفسخ هل هو خاص بالصحابة تلك السنة خاصة أم باق ولغيرهم إلى يوم القيامة ؟ فقال أحمد والظاهرية وعامة أهل الحديث : ليس خاصا بل هو باق إلى يوم القيامة ، فيجوز لكل من أحرم بحج مفردا أو قارنا وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ، ويتحلل بأعمالها . وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف : هو مختص بهم في تلك السنة لا يجوز بعدها ، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج ، واستدل للجمهور بحديث أبي ذر عند مسلم : (( قال كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة )) . وفي رواية قال : (( كانت لنا رخصة )) . يعني المتعة في الحج . ومراد أبي ذر بالمتعة المذكورة المتعة التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها أصحابه ، وهي فسخ الحج إلى العمرة ، واستدلوا على أن الفسخ المذكور هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود بسنده أن أبا ذر كان يقول في من حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك
(18/24)
إلا للركب الذين كانوا مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ، قالوا : فهذه الرواية فيها التصريح من أبي ذر بفسخ
الحج في العمرة ، وهي تفسر مراده بالمتعة في رواية مسلم . وضعفت رواية أبي داود
هذه بأن في سنده محمد ابن إسحاق وهو مدلس ، وقد رواه عن عبد الرحمن بن الأسود
بالعنعنة ، وعنعنة المدلس لا تقبل عند أهل الحديث حتى يصح السماع عن طريق أخرى .
وأجيب عن تضعيف هذه الرواية بوجهين ، الأول : أن مشهور مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة
صحة الاحتجاج بالمرسل ، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب
أولى، والثاني : أن المقصود من رواية أبي داود المذكورة بيان المراد برواية مسلم ،
والبيان يقع بكل ما يزيل الإبهام ولو قرينة أو غيرها كما هو مقرر في الأصول ،
واستدل أيضا للجمهور القائلين بأن الفسخ المذكور خاص بذلك الركب وتلك السنة بما
رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن
عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : " بل لكم خاصة " . ورد
المجوزون للفسخ استدلال الجمهور بالحديثين المذكورين من جهتين : الأولى : تضعيف
الحديثين المذكورين ، قالوا : حديث بلال بن الحارث فيه ابنه الحارث ابن بلال وهو
مجهول . وقال أحمد : حديث بلال بن الحارث عندي ليس يثبت ولا
..........................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/25)
أقول به ولا يعرف هذا الرجل يعنى الحارث بن بلال . قال : وقد روى فسخ الحج إلى العمرة أحد عشر صحابيا ، أين يقع الحارث بن بلال منهم ؟ قالوا : وحديث أبي ذر عند مسلم موقوف عليه وليس بمرفوع ، وإذا كان الأول في سنده مجهول والثاني موقوفا فيما هو مسرح للاجتهاد تبين عدم صلاحيتهما للاحتجاج ، والثانية من جهتي رد الحديثين المذكورين هي أنهما معارضان بأقوى منهما وهو حديث جابر الذي نحن في شرحه وأجاب الجمهور عن تضعيف الحديثين المذكورين بأن حديث بلال المذكور سكت عليه أبو داود ، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج ولم يثبت في الحارث بن بلال جرح . وقد قال الحافظ في التقريب فيه : (( هو مقبول )) . قالوا : واعتضد حديثه بما رواه مسلم وأبو داود عن أبي ذر كما تقدم . وأما حديث أبي ذر فإن قلنا : إن الخصوصية التي ذكرها أبو ذر بذلك الركب مما لا مجال للرأي فيه فهو حديث صحيح له حكم الرفع ، وقائله اطلع على زيادة علم خفيت على غيره ، وإن قلنا : إنه مما للرأي فيه مجال وحكمنا بأنه موقوف على أبي ذر فصدق لهجة أبي ذر المعروف وتقاه وبعده من الكذب يدلنا على أنه ما جزم بالخصوصية المذكورة إلا وهو عارف صحة ذلك . قالوا : ورد حديث الحارث بن بلال بأنه مخالف لحديث جابر في سؤال سراقة المدلجى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجابته له بقوله : " بل للأبد " . لا يستقم ، لأنه لا معارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما ، والمقرر في علم الأصول وعلم الحديث أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعا ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى لأنهما صادقان وليسا بمتعارضين ، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن ، لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى، ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين أن حديثي بلال بن الحارث المزني وأبي ذر رضي الله عنهما محمولان على أن معنى الخصوصية
(18/26)
المذكورة التحتم والوجوب فتحتم
فسخ الحج في العمرة ووجوبه خاص بذلك الركب لأمره - صلى الله عليه وسلم - له بذلك ،
ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته إلى أبد الأبد . وقوله في حديث جابر (( بل
للأبد )) محمول على الجواز وبقاء المشروعية إلى الأبد فاتفق الحديثان ، كذا حقق الشيخ
الشنقيطي في (( أضواء البيان )) ثم قال : الذي يظهر لنا صوابه في حديث : (( بل
للأبد )) . وحديث الخصوصية بذلك الركب المذكورين هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي
الدين أبو العباس بن تيمية ، وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية
المذكورة على الوجوب والتحتم وحمل التأييد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة
، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية كما لا يخفى . وقال أيضا :
والصواب هو ما ذكرنا من الجمع بين الأدلة ، ووجهه ظاهر لا إشكال فيه . وقال النووي
في شرح المهذب في الجواب عن قول الإمام أحمد : (( أين يقع الحارث بن بلال من أحد
عشر صحابيا رووا الفسخ عنه - صلى الله عليه وسلم - )) ما نصه : قلت : لا معارضة
بينهم وبينه حتى يقدموا عليه لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة ولم يذكروا حكم غيرهم ،
وقد وافقهم الحارث في إثبات الفسخ للصحابة ، ولكنه زاد زيادة لا تخالفهم وهي
اختصاص الفسخ بهم -
....................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/27)
انتهى . قلت : وقد اختلف القائلون بالفسخ في حكمه هل هو واجب أو مستحب ، فذهب الإمام أحمد إلى أنه مستحب ، ومال فريق إلى الوجوب ، منهم ابن حزم وابن القيم . قال ابن حزم : وهو قول ابن عباس وعطاء ومجاهد وإسحاق . قلت : واستدل لهم بما رواه أحمد وابن ماجة وأبو يعلى من حديث البراء بن عازب ، قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، قال : فأحرمنا بالحج ، فلما قدمنا مكة قال : " اجعلوا حجكم عمرة " . قال : فقال الناس : يا رسول الله قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة ؟ قال : " انظروا ما آمركم به فافعلوا " . فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان فرأت الغضب في وجهه . فقالت : من أغضبك أغضبه الله . قال : " وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع " . قال ابن القيم : بعد ذكر حديث البراء : ونحن نشهد علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإتباعا لأمره ، فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ولا صح حرف واحد يعارضه ولا خص به أصحابه دون من بعدهم ، بل أجرى الله على لسان سراقة أن سأله هل ذلك مختص بهم ؟ فأجابه بأن ذلك كائن لأبد الأبد . فما ندري ما يقدم على هذه الأحاديث ( يعني التي تدل على جواز فسخ الحج إلى العمرة ) . وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من خالفه - انتهى . قال الشوكاني : استدل بقول البراء (( فغضب )) . من قال بوجوب الفسخ لأن الأمر لو كان أمر ندب لكان المأمور مخيرا بين فعله وتركه ، ولما كان يغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مخالفته لأنه لا يغضب إلا لانتهاك حرمة من حرمات الدين لا لمجرد مخالفة ما أرشد إليه على جهة الندب ولا سيما وقد قالوا له : قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة ؟ فقال لهم : " انظروا ما آمركم به فافعلوا " . فإن ظاهر هذا أن ذلك أمر حتم لأن النبي - صلى
(18/28)
الله عليه وسلم - لو كان أمره
ذلك لبيان الأفضل أو لقصد الترخيص لهم بين لهم بعد هذه المراجعة أن ما أمرتكم به
هو الأفضل . أو قال لهم : إني أردت الترخيص لكم والتخفيف عنكم ( قال ) وقد أطال
ابن القيم في الهدي الكلام على الفسخ ورجح وجوبه وبين بطلان ما احتج به المانعون
منه ، فمن أحب الوقوف على جميع ذيول هذه المسألة فليراجعه . وإذا كان الموقع في
مثل هذا المضيق هو إفراد الحج ، فالحازم المتحري لدينه الواقف عند مشتبهات الشريعة
ينبغي له أن يجعل حجه من الابتداء متمتعا أو قرانا مما هو مظنة البأس إلى ما لا
بأس به ، فإن وقع في ذلك فالسنة أحق بالإتباع ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل –
انتهى . قلت : القول الراحج عندنا هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه من أن فسخ الحج
إلى العمرة ليس خاصا للصحابة في تلك السنة ، بل يجوز أو يسن ويستحب لكل من أحرم
بحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها ليصير متمتعا . وأما حديث
أبي ذر وبلال بن الحارث فمحمولان على الوجوب يعني أن وجوب فسخ الحج إلى العمرة خاص
بذلك الركب في تلك السنة . وأما الجواز والاستحباب فهو باق للأمة إلى يوم القيامة
، وهو محمل حديث جابر وغيره من أحاديث الفسخ ، ولا منافاة بين اختصاص الوجوب
بالصحابة وبين بقاء المشروعية والاستحباب إلى أبد الأبد ، وعلى ذلك
وقدم علي من اليمن ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " ماذا قلت
حين فرضت الحج ؟ " قال : قلت : اللهم إني أهل بما أهل به رسولك .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/29)
حمل الإمام ابن تيمية تلك الأحاديث كما تقدم وهو محمل حسن ، والله تعالى أعلم . ( وقدم علي من اليمن ) لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان بعثه إليها ، وقال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي نجيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بعث عليا إلى نجران فلقيه بمكة ، وقد أحرم ، وفي رواية عطاء عن جابر كما سيأتي (( قال : فقدم علي من سعايته )) قال القاضي : أي من عمله في الصدقات . قال : (( وقال بعض علمائنا : الذي في غير هذا الحديث (( أن عليا إنما بعثه أميرا لا عاملا على الصدقات ، إذ لا يجوز استعمال بني هاشم على الصدقات ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - للفضل بن العباس وعبد المطلب بن ربيعة حين سألاه ذلك : إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد )) ولم يستعملهما . قال القاضي : يحتمل أن عليا ولي الصدقات وغيرها احتسابا ، أو أعطي عمالته عليها من غير الصدقة . قال : وهذا أشبه لقوله : (( من سعايته )) . والسعاية تختص بالصدقة . واستحسنه النووي إلا أنه ذهب إلى أن السعاية لا تختص بالصدقة بل تستعمل في مطلق الولاية ، وإن كان أكثر استعمالها في الولاية على الصدقة ، واستدل لذلك بما في حديث حذيفة في رفع الأمانة . قال : ولقد أتي علي زمان ولا أبالي أيكم بايعت ، لئن كان مسلما ليردنه علي دينه ، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه - يعني الوالي عليه - انتهى . ( ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) بضم الباء وسكون الدال جمع بدنة بفتح الباء والدال ، والبدنة واحدة الإبل سميت به لعظمها وسمنها ، وتقع على الجمل والناقة ، وقد تطلق على البقرة . ونسبت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن عليا رضي الله عنه اشتراها له ، لا أنها من السعاية على الصدقة كما يتبادر إلى الذهن ، وكان عددها سبعا وثلاثين بدنة ، وكان عدد الهدي الذي ساقه النبي - صلى الله عليه وسلم - معه من المدينة ثلاثا وستين
(18/30)
بدنة كما جاء في رواية الترمذي
، وأعطى عليا البدن التي جاءت معه من اليمن وهي تمام المائة . قال الزرقاني : ظاهر
قوله (( قدم علي من اليمن ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم - )) أن البدن للمصطفى
. وفي رواية النسائي ( ومسند أحمد والمنتقى لابن الجارود ) (( قدم علي من اليمن
بهدي وساق النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة هديا )) . وظاهره أن الهدي كان
لعلي رضي الله عنه ، فيحتمل أن عليا قدم من اليمن بهدي لنفسه وهدي النبي - صلى
الله عليه وسلم - فذكر كل راو واحدا منهما – انتهى . وسيأتي مزيد الكلام في هذا
عند ذكر نحر هذه البدن إن شاء الله تعالى . ووقع عند مسلم وغيره بعد هذا (( فوجد (
أي علي ) فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها ( ظنا أنه لا
يجوز ) فقالت : إن أبي أمرني بهذا ، قال ( أي جعفر بن محمد عن أبيه ) فكان علي
يقول بالعراق : فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرشا على فاطمة للذي
صنعت مستفتيا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه ، فأخبرته أني
أنكرت عليها فقال : " صدقت صدقت " )) . ( فقال ) أي النبي - صلى الله
عليه وسلم - ( ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ ) أي ألزمته على نفسك بالنية والتلبية ،
وفي رواية أحمد وابن الجارود (( وقال لعلي : " بم أهللت " ؟ )) أي بأي
شيء نويت حين أحرمت بحج أو عمرة أو بهما ؟ ( قال : قلت : اللهم إني أهل بما أهل به
رسولك ) فيه
قال : " فإن معي الهدي ، فلا تحل " . قال : فكان جماعة الهدي الذي قدم
به علي من اليمن والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة . قال : فحل
الناس كلهم وقصروا ، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي ، فلما كان
يوم التروية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/31)
أنه لا يصح الإحرام معلقا وهو أن يحرم إحراما كإحرام فلان ، فينعقد إحرامه ويصير محرما بما أحرم به فلان . قال النووي: في هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أنه يصح الإحرام معلقا بأن ينوي إحراما كإحرام زيد فيصير هذا المعلق كزيد ، فإن كان زيد محرما بحج كان هذا بالحج أيضا ، وإن كان بعمرة فبعمرة ، وإن كان بهما فبهما ، وإن كان زيد أحرم مطلقا صار هذا محرما إحراما مطلقا فيصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة ، ولا يلزمه موافقة زيد في الصرف– انتهى . ومذهب الحنفية في ذلك أن الإحرام المعلق حكمه حكم الإحرام المبهم . أي يصح عندهم ولكن لا يلزمه موافقة من أحرم على إحرامه . ( قال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فإن معي ) بسكون الياء وفتحها . قال القاري : أي إذا علقت إحرامك بإحرامي ، فإني أحرمت بالعمرة ومعي ( الهدي ) ولا أقدر أن أخرج من العمرة بالتحلل ( فلا تحل ) نهي أو نفي ، أي لا تحل أنت بالخروج من الإحرام كما لا أحل حتى تفرغ من العمرة والحج . وفي رواية (( فأهد وامكث حراما كما أنت )) . ( قال ) أي جابر ( فكان جماعة الهدي ) أي من الإبل ، والهدي – بالتشديد والتخفيف – ما يهدى إلى البيت الحرام من النعم لتنحر ، قاله الجزري . ( الذي قدم به ) أي بذلك الهدي ( علي من اليمن ) أي له - صلى الله عليه وسلم - ( والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - ) زاد في رواية النسائي وأبي داود وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي (( من المدينة )) ( مائة ) أي من الهدي ، وفي رواية الدارمي (( مائة بدنة )) ( فحل الناس ) أي خرج من الإحرام من لم يكن معه هدي بعد الفراغ من العمرة ( كلهم ) أي أكثرهم . قال النووي : فيه إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص لأن عائشة لم تحل ولم تكن ممن ساق الهدي ، والمراد بقوله (( حل الناس كلهم )) أي معظمهم ( وقصروا ) قال الطيبي : وإنما قصروا مع أن الحلق أفضل لأن يبقى لهم بقية من الشعر
(18/32)
حتى يحلق في الحج – انتهى .
وليكونوا داخلين في المقصرين والمحلقين جامعين بين العمل بالرخصة والعزيمة ، كذا
في المرقاة . قال المحب الطبري : فيه دليل على استحباب التقصير للمتمتع وتوفير
الشعر للحلق في الحج ، ويشبه أن يكون ذلك عن أمره - صلى الله عليه وسلم - إذ عنه
يأخذون مناسكهم وبه يقتدون ، وبذلك أمرهم فقال : " خذوا عني مناسككم " .
( إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ) استثناء من ضمير (( حلوا )) ( ومن كان معه
هدي ) عطف على المستثنى ( فلما كان يوم التروية ) بفتح التاء وسكون الراء المهملة
وكسر الواو وتخفيف الياء ، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة ، سمي بذلك لأن الحجاج
كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده أي يستقون ويسقون إبلهم فيه استعدادا للوقوف
يوم عرفة ، إذ لم يكن في عرفات ماء جار كزماننا . وقيل : لأن قريشا كانت تحمل
الماء من مكة إلى منى للحاج تسقيهم وتطعمهم فيروون منه ، وقيل لأن الإمام يروي فيه
الناس من أمر المناسك ، وقيل لأن إبراهيم عليه السلام
توجهوا إلى منى ، فأهلوا بالحج ، وركب النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بها
الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، وأمر بقبة
من شعر تضرب له بنمرة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/33)
تروى فيه أي تفكر في ذبح ولده وأنه كيف يصنع ، تنبيه : لستة أيام متوالية من أيام ذي الحجة أسماء ، فاليوم الثامن : يوم التروية ، واليوم التاسع : عرفة ، والعاشر : النحر ، والحادي عشر : القر – بفتح القاف وتشديد الراء – لأنهم يقرون فيه بمنى ، والثاني عشر : يوم النفر الأول ، والثالث عشر : النفر الثاني ( توجهوا ) أي أرادوا التوجه ( إلى منى ) ينون ، وقيل : لا ينون . فيكتب بالألف ، سميت به لأنه يمنى الدماء في أيامها أي يراق ويسفك ، أو لأنه يعطي الحجاج مناهم لإكمال أفعال الحج فيها ( فأهلوا بالحج ) أي من البطحاء كما في رواية لأحمد والشيخين والطحاوي والبيهقي ، يعني أحرم به من كان خرج عن إحرامه بعد الفراغ من العمرة ، وفي رواية لأحمد (( حتى إذا كان يوم التروية وأرادوا التوجه إلى منى أهلوا بالحج )) قال المحب الطبري : فيه بيان وقت إهلال أهل مكة والمتمتعين . وفيه إشارة إلى أن المحرم من مكة لا يقدم طوافه وسعيه لأنه إذا اشتغل بذلك لا يسمى متوجها . قال النووي : والأفضل عند الشافعي وموافقيه أن من كان بمكة وأراد الإحرام بالحج أحرم يوم التروية عملا بهذا الحديث . وفيه بيان أن السنة أن لا يتقدم أحد إلى منى من قبل يوم التروية . وقد كره مالك ذلك . وقال بعض السلف : لا بأس به . ومذهبنا أنه خلاف السنة – انتهى . ( وركب النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي حين طلوع الشمس من يوم التروية وسار من مكة إلى منى ( فصلى بها ) أي بمنى في موضع مسجد الخيف ( الظهر والعصر ) إلخ . كل صلاة لوقتها ( ثم مكث ) أي لبث بعد أداء الفجر ( قليلا حتى طلعت الشمس ) فيه أن السنة أن لا يخرجوا من منى حتى تطلع الشمس . وهذا متفق عليه . ومبيته - صلى الله عليه وسلم - بمنى وصلاته تلك الصلوات بها دليل على استحباب ذلك ، وهذا المبيت أجمع أهل العلم على الفرق بينه وبين مبيت ليالي منى فأوجبوا على تارك ذلك ما أوجبوا ، ولم يوجبوا على تارك المبيت
(18/34)
بمنى ليلة عرفة أي ليلة التاسع
من ذي الحجة شيئا ، قاله ابن المنذر . وقال النووي : هذا المبيت سنة ليس بركن ولا
واجب فلو تركه فلا دم عليه بالإجماع – انتهى . ( وأمر بقبة ) عطف على (( ركب )) أو
حال ، أي وقد أمر بضرب خيمة بنمرة قبل قدومه إليها ( من شعر ) بفتح العين وسكونها
( تضرب له ) بصيغة المجهول ( بنمرة ) بفتح النون وكسر الميم وفتح الراء المهملة ،
وهو غير منصرف ، موضع على يمين الخارج من المازمين إذا أراد الموقف . وقال الطيبي
: هو موضع بجنب عرفات وليس من عرفات . وقال في اللمعات : اسم موضع قريب عرفات ،
وهي منتهى أرض الحرم ، وكان بين الحل والحرم – انتهى . قال الأبي : لما أراد - صلى
الله عليه وسلم - أن يظهر مخالفة الجاهلية أراد أن يظهر ذلك ابتداء ليتأهبوا لذلك
. وقال النووي : في هذا الحديث جواز الاستظلال للمحرم بقبة وغيرها . ولا خلاف في
جوازه للنازل . واختلفوا في جوازه للراكب ، فمذهبنا جوازه ، وبه قال كثيرون ،
وكرهه مالك وأحمد ، وفيه جواز اتخاذ القباب وجوازها من شعر - انتهى . وقال المحب
فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر
الحرام ، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- حتى أتى عرفة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/35)
الطبري : وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - بضرب القبة في نمرة دليل على الرخصة في حجز المواضع من الصحاري وأشباهها حيث لا ضرر على أحد في ذلك الغزو والحج وسائر الأسفار ، وقال النووي أيضا : فيه استحباب النزول بنمرة إذا ذهبوا من منى لأن السنة أن لا يدخلوا عرفات إلا بعد زوال الشمس وبعد صلاتي الظهر والعصر جمعا ، فالسنة أن ينزلوا بنمرة ، فمن كان له قبة ضربها ويغتسلون للوقوف قبل الزوال ، فإذا زالت الشمس سار بهم الإمام إلى مسجد إبراهيم عليه السلام وخطب لهم خطبتين خفيفتين ، ويخفف الثانية جدا ، فإذا فرغ منها صلى بهم الظهر والعصر جامعا بينهما ، فإذا فرغ من الصلاة سار إلى الموقف – انتهى . ( فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي من منى إليها ( ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام ) . قال الزرقاني في شرح المواهب : ظاهره أنه ليس لقريش شك في شيء إلا في وقوفه عند المشعر ، فإنهم يشكون فيه ، وليس المراد ذلك بل عكسه ، وهو أنهم لا يشكون في أنه - صلى الله عليه وسلم - سيقف عند المشعر الحرام على ما كانت عادتهم من وقوفهم به ، ويقف سائر الناس بعرفة فقال الأبي : الأظهر في (( إلا )) أنها زائدة و(( أن )) في موضع النصب على إسقاط الجار ، أي ولا يشك قريش في أنه واقف عند المشعر – انتهى . وقيل الشك ها هنا بمعنى الظن أي لا تظن قريش إلا أنه يقف عند المشعر لأنه من مواقف الحمس وأهل حرم الله . وقال الطيبي : أي ولم يشكوا في أنه يخالفهم في المناسك بل تيقنوا بها إلا في الوقوف فإنهم جزموا بأنه يوافقهم فيه ، فإن أهل الحرم كانوا يقفون عند المشعر الحرام ، وهو جبل في المزدلفة ، يقال له قزح ، وعليه جمهور المفسرين والمحدثين ، وقيل إنه كل المزدلفة وهو بفتح العين وقيل بكسرها ، ذكره النووي ( كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ) معناه أن قريشا كانت في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام ، وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة
(18/36)
ويقفون بعرفات فظنت قريشا أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوزه ،
فتجاوزه - صلى الله عليه وسلم - إلى عرفات لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله ? ثم
أفيضوا من حيث أفاض الناس ? (2 : 199) أي سائر العرب غير قريش ، وإنما كانت قريش
تقف بالمزدلفة لأنها من الحرم ، وكانوا يقولون : نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه .
وقد يتوهم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يوافقهم قبل البعثة ، وليس كذلك لما جاء
في بعض الأحاديث الصحيحة صريحا أنه كان يقف مع عامة الناس قبل النبوة أيضا ( فأجاز
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) قال النووي : معناه جاوز المزدلفة ولم يقف بها
، بل توجه إلى عرفات (حتى أتى عرفة) أي قاربها ، لأنه فسره بقوله (( وجد القبة قد
ضربت بنمرة فنزل بها )) وقد سبق أن نمرة ليست من عرفات ، وقد قدمنا أن دخول عرفات
قبل صلاتي الظهر والعصر جمعا خلاف السنة . وقال الطبري : الظاهر أن المراد بإتيان
عرفة القرب منها ، فإن نمرة دونها ، وسميت عرفة بذلك لتعريف جبرئيل إبراهيم
المناسك ، وقيل لمعرفة آدم حواء هناك ، أو
فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها ، حتى إذا زاغت الشمس ، أمر بالقصواء فرحلت
له ، فأتى بطن الوادي ، فخطب الناس ، وقال : " إن دماءكم وأموالكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/37)
لتعارف الناس ، أو لاعترافهم بذنوبهم أو لصبر الناس ، والعرفة الصبر . وقيل : إن إبراهيم رأى ليلة التروية ذبح ولده فتروى يومه ، وعرف في الثاني ونحر في الثالث ، فسميت الأيام بذلك . وقوله (( فأجاز )) قيل هي لغة وجاز وأجاز بمعنى . وقيل جاز الموضع سلكه وسار فيه ، وأجازه خلفه وقطعه . قال الأصمعي : جاز مشى فيه ، وأجازه قطعه ( قد ضربت ) أي بنيت ( فنزل بها ) أي بالقبة . وهذا يدل على جواز استظلال المحرم بالخيمة ونحوها ( حتى إذا زاغت ) أي نزل بها واستمر فيها حتى إذا مالت الشمس وزالت عن كبد السماء من جانب الشرق إلى جانب الغرب ( أمر بالقصواء ) أي بإحضارها ، وقد تقدم ضبطها وشرحها في أول شرح الحديث ( فرحلت له ) على البناء المجهول مخففا أي شد على ظهرها الرحل ليركبها النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فأتى ) أي فركبها فأتى ( بطن الوادي ) هو وادي عرنة بضم العين وفتح الراء المهملتين بعدها نون ، وليست من عرفات ( فخطب الناس ) أي وعظهم وخطب خطبتين الأولى لتعريفهم المناسك والحث على كثرة الذكر والدعاء بعرفة ، والثانية قصيرة جدا لمجرد الدعاء ، قاله القاري . وفيه دليل على أن الخطبة كانت على الراحلة ، وفي معناها المواضع المرتفعة . قال الزرقاني : في الحديث أنه يستحب للإمام أن يخطب يوم عرفة في هذا الموضع ، وبه قال الجمهور والمدنيون والمغاربة من المالكية وهو المشهور . فقول النووي : (( خالف فيها المالكية )) . فيه نظر ، إنما قول العراقيين منهم ، والمشهور خلافه . واتفق الشافعية أيضا على استحبابها خلافا لما توهمه عياض والقرطبي – انتهى . قال النووي : ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة : إحداها يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر ، والثانية هذه التي ببطن عرنة يوم عرفات ، والثالثة يوم النحر ، والرابعة يوم النفر الأول وهو اليوم الثاني من أيام التشريق ، قال أصحابنا : وكل هذه الخطب أفراد
(18/38)
وبعد صلاة الظهر إلا التي يوم
عرفات ، فإنها خطبتان وقبل الصلاة . قال أصحابنا : ويعلمهم في كل خطبة من هذه ما
يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى ، والله أعلم – انتهى كلام النووي . وارجع لمزيد
التفصيل إلى (( القرى لقاصد أم القرى )) لمحب الدين الطبري (ص 338 ، 339 ، 491 ،
493) ، والفتح الرباني (ج 12 : ص 133 ، 215 ، 216) ، وفتح الباري (ج 7 : ص 166)
وعند الحنفية في الحج ثلاث خطب أولاها وثانيتها ما ذكره النووي ، وثالثتها بمنى في
اليوم الحادي عشر فيفصل بين كل خطبتين بيوم وكلها سنة . والراجح عندنا في تعيين
أيام الخطبة هو ما ذهب إليه الشافعية ، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك ( إن ماءكم
وأموالكم ) زاد في حديث ابن عباس عند أحمد والبخاري والترمذي والبيهقي وفي حديث
ابن عمر عند البخاري (( وأعراضكم )) والعرض بكسر العين موضع المدح والذم من
الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه . قال الحافظ : هذا الكلام على حذف المضاف أي
سفك دمائكم وأخذ أموالكم
حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/39)
وثلب أعراضكم – انتهى . وقيل المعنى : إن انتهاك دمائكم وأموالكم وأعراضكم ، قيل : وهذا أولى مما ذكره الحافظ ، لأن ذلك إنما يحرم إذا كان بغير حق فلا بد من التصريح به ، فلفظة (( انتهاك )) أولى ، لأن موضوعها لتناول الشيء بغير حق ( حرام عليكم ) قال الزرقاني : معنى الحديث إن دماء بعضكم على بعض حرام ، وأموال بعضكم على بعض حرام وإن كان ظاهر اللفظ أن دم كل واحد حرام عليه نفسه ، ومال كل واحد حرام عليه نفسه فليس بمراد ، لأن الخطاب للمجموع ، والمعنى فيه مفهوم ، ولا تبعد إرادة المعنى الثاني . أما الدم فواضح ، وأما المال فمعنى تحريمه عليه تحريم تصرفه فيه على غير الوجه المأذون فيه شرعا ، قاله الولي العراقي ( كحرمة يومكم هذا ) أي متأكدة التحريم شديدته كحرمة يومكم هذا يعني يوم عرفة ( في شهركم هذا ) أي ذي الحجة ( في بلدكم هذا ) أي مكة ، وإنما شبهها في الحرمة بهذه الأشياء لأنهم كانوا لا يرون استباحتها وانتهاك حرمتها بحال : وقال ابن المنير : قد استقر في القواعد أن الأحكام لا تتعلق إلا بأفعال المكلفين ، فمعنى تحريم اليوم والبلد والشهر تحريم أفعال الاعتداء فيها على النفس والمال والعرض ، فما معنى إذا تشبيه الشيء بنفسه ؟ وأجاب بأن المراد أن هذه الأفعال في غير هذا البلد وهذا الشهر وهذا اليوم مغلظة الحرمة ، عظيمة عند الله ، فلا يستهل المعتدي كونه تعدى في غير البلد الحرام والشهر الحرام ، بل ينبغي له أن يخاف خوف من فعل ذلك في البلد الحرام ، وإن كان فعل العدوان في البلد الحرام أغلظ فلا ينفي كون ذلك في غيره غليظا أيضا ، وتفاوت ما بينهما في الغلظ لا ينفع المعتدي في غير البلد الحرام ، فإن فرضناه تعدى في البلد الحرام فلا يستسهل حرمة البلد بل ينبغي أن يعتقد أن فعله أقبح الأفعال وأن عقوبته بحسب ذلك فيراعى الحالتين – انتهى . وقال الزرقاني : وفي تقديم اليوم على الشهر وهو على البلد الترقي ، فالشهر أقوي من
(18/40)
اليوم ، وهو ظاهر في الشهر
لاشتماله على اليوم فاحترامه أقوى من احترام جزئه ، وأما زيادة حرمة البلد فلأنه
محرم في جميع الشهور لا في هذا الشهر وحده ، فحرمته لا تخص به فهو أقوى منه –
انتهى . قال الحافظ : وفي مشروعية ضرب المثل وإلحاق النظير بالنظير ليكون أوضح
للسامع ، وإنما شبه حرمة الدم والعرض والمال بحرمة اليوم والشهر والبلد ، لأن
المخاطبين بذلك كانوا لا يرون تلك الأشياء ولا يرون هتك حرمتها ويعيبون على من فعل
ذلك أشد العيب ، وقال في موضع آخر : ومناط التشبيه في قوله (( كحرمة يومكم )) وما
بعده ظهوره عند السامعين ، لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتا في نفوسهم
مقررا عندهم بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا في الجاهلية يستبيحونها ، فطرأ
الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم ،
فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما
اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع – انتهى . وقال الطيبي : هذا من تشبيه ما لم تجر
به العادة بما جرت به لأنهم عالمون بحرمة الثلاث كما في قوله تعالى ? وإذ
ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم
أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث . وكان مسترضعا في بني سعد فقتله هذيل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/41)
نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ? (7 : 171) كانوا يستبيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأشهر الحرام ويحرمونها فيها ، كأنه قيل : إن دماءكم وأموالكم محرمة عليكم أبدا كحرمة الثلاث – انتهى . ( ألا ) بالفتح والتخفيف للتنبيه . ( كل شيء من أمر الجاهلية ) يعني الذي أحدثوه والشرائع التي شرعوها في الحج وغيره قبل الإسلام ( تحت قدمي ) بتشديد الياء مثنى ( موضوع ) أي مردود وباطل حتى صار كالشيء الموضوع تحت القدمين . قال في اللمعات : يحتمل أن يكون قوله (( موضوع )) ، وقوله (( تحت قدمي )) خبرين ، أو الخبر هو موضوع وتحت ظرف له وهو الأظهر ، والمراد بالوضع تحت القدم إبطاله وتركه ، وتقول العرب في الأمر الذي لا يكاد يراجعه ويذكره (( جعلت ذلك تحت قدمي )) . ( ودماء الجاهلية موضوعة ) أي متروكة لا قصاص ولا دية ولا كفارة . أعادها للاهتمام أو لييني عليه ما بعده من الكلام ، قاله القاري . وقال الولي العراقي : يمكن أنه عطف خاص على عام لاندراج دمائها في أمورها ، ويمكن أنه لا يندرج لحمل أمورها على ما ابتدعوه وشرعوه . وإيجاب القصاص على القاتل ليس مما ابتدعوه ، وإنما أريد قطع النزاع بإبطال ذلك ، لأن منها ما هو حق ، ومنها ما هو باطل ، وما يثبت وما لا يثبت ( وإن أول دم أضع ) أي أضعه وأتركه ( من دمائنا ) أي من دماء أهل الإسلام يعني أبدأ في وضع الدماء التي يستحق المسلمون ولايتها بأهل بيتي وأقاربي . قال النووي : فيه أن للإمام وغيره ممن يأمر بمعروف وينهى عن منكر ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهله فهو أقرب إلى قبول قوله وإلى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام ( دم ابن ربيعة بن الحارث ) أي ابن عبد المطلب ، واسم هذا الابن إياس ، قاله الجمهور والمحققون ، وقيل حارثة ، وقيل تمام ، وقيل آدم ، وقال الدارقطني : وهو تصحيف . ولبعض رواة مسلم وأبي داود (( دم ربيعة )) وهو وهم ، لأن ربيعة عاش حتى توفي زمن عمر سنة ثلاث وعشرين ، وتأوله
(18/42)
أبو عبيد بأنه نسبه إليه لأنه
ولي دم ابنه ، وهو حسن ظاهر ، به تتفق الروايتان . وربيعة هذا هو ابن عم النبي -
صلى الله عليه وسلم - يكنى (( أبا أروى )) وكان أسن من عمه العباس بسنتين ، صحابي
، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث ، توفي في أول خلافة عمر ، وقيل في
أواخرها سنة ثلاث وعشرين ( وكان ) كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح ، وفي
صحيح مسلم والمنتقى لابن الجارود (( كان )) أي بدون واو العاطفة ، وهكذا ذكره
المحب الطبري ( مسترضعا ) على بناء المجهول ، أي كان لهذا الابن ظئر ترضعه من بني
سعد ( فقتله ) أي ابن ربيعة ، وقوله (( فقتله )) كذا في جميع النسخ من المشكاة أي
بصيغة المذكر ، وفي صحيح مسلم (( فقتلته )) بلفظ التأنيث ، وهكذا عند أبي داود
وابن الجارود ، وكذا في المصابيح ( هذيل ) بهاء مضمومة فمعجمة مفتوحة ، وكان ابن
ربيعة هذا طفلا صغيرا ، يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب بني سعد مع قبيلة هذيل
وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع
كله ، فاتقوا الله في النساء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/43)
فقتلته هذيل . قال الولي العراقي : ظاهره أنها تعمدت قتله . وذكر الزبير بن بكار : أنه كان صغيرا يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبين ليث بن بكر ، كذا ذكره عياض والنووي وغيرهما ساكتين عليه وهو مناف لقوله (( فقتلته هذيل )) لأنهم غير بني ليث إذ هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة كما بينه أبو عبيد القاسم بن سلام في أنسابه ، كذا في شرح المواهب ( وربا الجاهلية ) معناه الزيادة على رأس المال ، ولذا جاء الخبر (( موضوعة )) بالتاء على معنى ما في نسخ مسلم ، وهذا إيضاح إذ المقصود مفهوم من لفظ ربا ، لأن الربا هو الزيادة فإذا وضع الربا فمعناه وضع الزيادة . قال الولي : ولا شك أن عطف هذا على أمر الجاهلية من عطف الخاص على العام ، لأنه من إحداثاتهم وشرعهم الفاسد ( موضوع ) المراد بالوضع الرد والإبطال أي الزائد على رأس المال مردود كما قال الله تعالى ? وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ? (2 : 279) وقوله (( موضوع )) كذا في جميع النسخ من المشكاة ، وهكذا في سنن أبي داود والمنتقى والبيهقي ولمسلم (( موضوعة )) بالتأنيث ، وهكذا في المصابيح ، وكذا ذكره المحب الطبري ( وأول ربا أضع من ربانا ) كذا في جميع النسخ من المشكاة ، وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والبيهقي والمنتقى (( وأول ربا أضع ربانا )) أي بدون لفظة (( من )) ، وهكذا في المصابيح وكذا ذكره الطبري ، وعلى هذا (( ربانا )) خبر المبتدأ ، وقوله ( ربا عباس بن عبد المطلب ) بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هو ربا العباس ( فإنه موضوع كله ) يحتمل عود ضمير (( إنه )) لربا العباس تأكيدا لوضعه ، ويحتمل لجميع الربا أي ربا العباس موضوع لأن الربا موضوع كله ، قاله الولي العراقي . وإنما ابتدأ في وضع دماء الجاهلية ورباها من أهل الإسلام بأهل الإسلام بأهل بيته ليكون أمكن في قلوب السامعين وأسد لأبواب الطمع في
(18/44)
الترخيص ( فاتقوا الله في
النساء ) قال الطيبي : هو عطف من حيث المعنى على دمائكم وأموالكم أي فاتقوا الله
في استباحة الدماء ونهب الأموال ، وفي النساء ، وهو من عطف الطلب على الخبر
بالتأويل كما عطف ? وامتازوا اليوم أيها المجرمون ? (36 : 59) على قوله ? إن أصحاب
الجنة ? وقال الولي العراقي : يحتمل أن الفاء زائدة لأن الرواية بدونها ، وأنها
للسببية لأنه لما قرر إبطال أمر الجاهلية وكان من جملتها منع النساء من حقوقهن
وترك إنصافهن أمرهم بمتابعة الشرع في إنصافهن ، فكأنه قيل : فبسبب إبطال أمر
الجاهلية اتقوا الله في النساء وأنصفوهن ، فإن تركه من أمر الجاهلية ، قال: و ((
في )) تحتمل السببية نحو ? فذلكن الذي لمتنني فيه ? (12 : 32) والظرفية مجازا نحو
? ولكم في القصاص حياة ? (2 : 179) أي إن النساء ظرف للتقوى المأمور بها – انتهى .
قلت : وقع عند الجارود والبيهقي (( اتقوا الله )) أي بدون الفاء ، وفي الحديث الحث
على مراعاة حق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف ، وقد
فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ،
ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/45)
جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في الوصية بهن وبيان حقوقهن والتحذير من التقصير في ذلك فليراجعها من شاء في الترغيب والترهيب للمنذري ورياض الصالحين للنووي ( فإنكم أخذتموهن بأمان الله ) أي بعهده وهو ما عهد إليكم فيهن . قال النووي : هكذا في كثير من أصول مسلم (( بأمان الله )) بلا هاء ، وفي بعضها (( بأمانة الله )) قلت : وكذا أي بالهاء وقع عند أبي داود والشافعي وابن الجارود وابن ماجة والبيهقي . قال الزرقاني : أي بأن الله ائتمنكم عليهن فيجب حفظ الأمانة وصيانتها بمراعاة حقوقها والقيام بمصالحها الدينية والدنيوية ، وما وقع في كثير من أصول مسلم يقوي أن في قوله (( أخذتموهن )) دلالة على أنها كالأسيرة المحبوسة عند زوجها ، وله التصرف فيها والسلطنة عليها حسبما بينه الشرع ، ويوافقه قوله في رواية أخرى (( فإنهن عوان عندكم )) جمع عانية وهي الأسيرة ، لكنها ليست أسيرة خائفة كغيرها من الأسراء بل هي أسيرة آمنة ( واستحللتم فروجهن بكلمة الله ) في معناه أربعة أقوال ، الأول : أن المراد بكلمة الله أمره وحكمه وإباحته المنزلة في كتابه وهو قوله ? فانكحوا ما طاب لكم من النساء ? (4 : 3) قال النووي : هذا هو الصحيح ، ورجحه القرطبي في المفهم إذ قال : فإن حكم الله كلامه المتوجه للمحكوم عليه على جهة الاقتضاء أو التخيير . الثاني : المراد كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله ، إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم . الثالث : المراد كلمة النكاح التي يستحل بها الفروج ، أي الصيغ التي ينعقد بها النكاح من الإيجاب والقبول لأن الله تعالى أمر بها . الرابع : أن المراد قوله تعالى ? فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ? (2 : 229 ) قال الخطابي : هذا أحسن الوجوه . ( ولكم عليهن ) أي من الحقوق لما ذكر - صلى الله عليه وسلم - استحلال الزوج بكلمة الله وعلم منه تأكيد الصحبة بين الزوجين انتقل إلى بيان ما على كل واحد منهما من الحقوق ، وبدأ بحق الأزواج
(18/46)
لأنهم المخاطبون ( أن لا يوطئن
) بهمزة أو بإبدال التخفيف صيغة جمع الإناث من الإيطاء أي من باب الإفعال ( فرشكم
أحدا تكرهونه ) أي تكرهون دخوله في بيوتكم ، وعبر عن بفرش لأن الداخل يطأ المنزل
الذي يدخل فيه . قال المازري : قيل المراد بذلك أن لا يستخلين بالرجال ولم يرد
زناها ، لأن ذلك يوجب حدها ، ولأن ذلك حرام مع من يكرهه الزوج ومن لا يكرهه . وقال
الخطابي : معنى الحديث أن لا يأذن لأحد من الرجال يدخل فيتحدث إليهن ، وكان الحديث
من الرجال إلى النساء من عادات العرب ولا يرون بذلك عيبا ولا يعدونه ريبة ، فلما
نزلت آية الحجاب ثار النساء مقصورات ، ونهى عن محادثتهن والقعود إليهن ، وليس
المراد بوطئي الفرش هنا نفس الزنا لأنه محرم على الوجوه كلها . فلا معنى لاشتراط
الكراهية فيه ، ولو أريد الزنا لكان الضرب الواجب فيه هو المبرح الشديد والعقوبة
المؤلمة من الرجم دون الضرب الذي ليس بمبرح . وذكر القاضي عياض نحوه . وقال النووي
بعد ذكر كلام المازري
فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ،
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله . وأنتم تسألون عني ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/47)
والقاضي : والمختار أن معناه : أن لا يأذن لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم ، سواء كان المأذون له رجلا أجنبيا أو امرأة أو أحدا من محارم الزوجة ، فالنهي يتناول جميع ذلك ، وهذا حكم المسألة عند الفقهاء أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل ولا امرأة ولا محرم ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه ، لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه أو عرف رضاه باطراد العرف بذلك ونحوه ومتى حصل الشك في الرضا ولم يترجح شيء ولا وجدت قرينة لا يحل الدخول ولا الإذن ، والله أعلم ( فإن فعلن ذلك ) أي الإيطاء المذكور بدون رضاكم بلفظ صريح أو بقرائن ( ضربا غير مبرح ) بضم الميم وفتح الموحدة وكسر الراء المشددة وبالحاء المهملة من البرح وهو المشقة ، والضرب المبرح هو الضرب الشديد الشاق ، ومعناه اضربوهن ضربا ليس بشديد ولا شاق . وفيه إباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب ( ولهن عليكم رزقهن ) أي وجوبا ، والمراد بالرزق النفقة من المأكول والمشروب ، وفي معناه سكناهن ( بالمعروف ) أي على قدر كفايتهن من غير سرف ولا تقتير أو باعتبار حالكم فقرا وغنى ، وفيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها ، وذلك ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ( وقد تركت فيكم ما ) أي فيما بينكم وما موصولة أو موصوفة ( لن تضلوا بعده ) أي بعد تركي إياه فيكم أو بعد التمسك به والعمل بما فيه ويؤيد الأول قوله ( إن اعتصمتم به ) أي في الاعتقاد والعمل . وفي هذا التركيب إبهام وتوضيح وذلك لبيان أن هذا الشيء الذي تركه فيهم شيء جليل عظيم فيه جميع المنافع الدينية والدنيوية ، ثم لما حصل من هذا التشوق التام للسامع وتوجه إلى استماع ما يرد بعده واشتاقت نفسه إلى معرفته بينه بقوله ( كتاب الله ) بالنصب بدل من مفعول تركت ، جزم به الولي . فإن كان الرواية وإلا فيجوز رفعه بأن خبر مبتدأ محذوف ، أي هو كتاب الله ولم يذكر السنة مع أن بعض
(18/48)
الأحكام يستفاد منها لاندراجها
تحته ، فإن الكتاب هو المبين للكل بعضها بلا واسطة وبعضها بواسطة ، قال تعالي ?
ونزلنا الكتاب تبيانا لكل شيء ? (16 : 89) وقال تعالي ? لتبين للناس ما نزل إليهم
? ( 16 : 44)كذا في شرح المواهب . وقال القاري : إنما اقتصر على الكتاب لأنه مشتمل
على العمل بالسنة لقوله تعالي ? أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ? (4 : 59) وقوله ?
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ? (59 : 7) فيلزم من العمل بالكتاب
العمل بالسنة ، وفيه إيماء إلى أن الأصل الأصيل هو الكتاب ( وأنتم تسئلون ) بصيغة
المجهول . وفي رواية أبي داود والدارمي وابن ماجه وابن الجارود والبيهقي ((
مسئولون )) ( عني ) أي عن تبليغي وعدمه ، قال الطيبي : قوله (( وأنتم تسئلون ))
عطف على مقدر ، أي قد بلغت ما أرسلت به إليكم جميعا غير تارك لشيء مما بعثت به
وأنتم تسئلون عني يوم القيامة هل بلغت ؟ ... بأي شيء
فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فقال بإصبعه
السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : " اللهم اشهد . اللهم اشهد
" ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/49)
تجبيون ؟ ودل على هذا المحذوف الفاء في قوله ( فما أنتم قائلون ؟ ) أي إذا كان الأمر على هذا فبأي شيء تجيبون ؟ ( قالوا : نشهد أنك قد بلغت ) أي رسالات ربك ( وأديت ) أي الأمانة ( ونصحت ) أي الأمة ( فقال بإصبعه ) أي أشار بها ( السبابة ) بالجر ( يرفعها إلى السماء ) حال من فاعل (( قال )) أي رافعا إياها أو من السبابة أي مرفوعة ( وينكتها إلى الناس ) بفتح التحية وسكون النون وضم الكاف بعدها فوقية ، كذا في نسخ المشكاة والمصابيح بالتاء الفوقانية ، وهكذا في مسلم الطبعات المصرية والهندية ، من نكت الأرض بالقضيب إذا ضرب الأرض بالقضيب فيؤثر فيها ، وهذا بعيد من معني الحديث . وقيل مجاز من الإشارة بقرينة إلى ، وفي المرقاة (( وينكتها إلى الناس )) أي يشير بها إليهم كالذي يضرب بها الأرض ، والنكت ضرب رأس الأنامل إلى الأرض . وفي البارع (( قال الأصمعي : ضربه فنكته بالفوقية أي ألقاه على رأسه فوقع متنكتا )) وذكره الفارابي في باب قتل فيحتمل أن يكون الحديث من هذا ، والمعني : ينكسها - انتهى . وقال عياض : كذا ( أي بالفوقية ) الرواية في مسلم وهو بعيد المعني . قيل : صوابه (( ينكبها )) بموحدة ، وكذا رويناه عن شيخنا أبي الوليد هشام بن أحمد في مسلم ومن طريق ابن الأعرابي عن أبي داود في سننه بموحدة ، ومن طريق أبي بكر التمار عنه بفوقية ، ومعناه يرددها ويقلبها إلى الناس مشيرا لهم ، وهو من نكب كنانته إذا قلبها . وقال القرطبي : روايتي في هذه اللفظة وتقييدي على من أعتمده من الأئمة المقتدين بضم الياء وفتح النون وكسر الكاف مشددة وضم الباء بواحدة أي يعدلها إلى الناس ، وروي ينكبها مخففة الباء والنون وضم الكاف ومعناه يقلبها ، وهو قريب من الأول وروي ينكتها بفوقية وهي أبعدها – انتهى . وقال الجزري في النهاية : في حديث حجة الوداع (( وينكبها إلى الناس )) أي يميلها إليهم ، يريد بذلك أن يشهد الله عليهم ، يقال : نكبت الإناء
(18/50)
نكبا ونكبته تنكيبا إذ أماله
وكبه ( اللهم اشهد ) أي على عبادك بأنهم أقروا بأني قد بلغت . والمعنى (( اللهم
اشهد أنت إذ كفى بك شهيدا )) . قال الزرقاني في شرح المواهب : فإن قيل ليس في هذه
الخطبة ذكر شيء من المناسك فيرد ذلك على قول الفقهاء (( يعلمهم الخطيب ما يحتاجون
إليه إلى الخطبة الأخرى )) أجيب بأنه - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بفعله للمناسك
عن بيانه بالقول لأنه أوضح ، واعتنى بما أهمه في الخطبة التي قالها . والخطباء بعد
ليست أفعالهم قدوة ولا الناس يعتنون بمشاهدتها ونقلها فاستحب لهم البيان بالقول ،
وفيه حجة للمالكية وغيرهم أن خطبة عرفة فردة إذ ليس فيه أنه خطب خطبتين . وما روي
في بعض الطرق أنه خطب خطبتين ، فضعيف كما قاله البيهقي وغيره . قلت : روى الشافعي
بسنده عن جابر قال : راح النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الموقف بعرفة فخطب
الناس الخطبة الأولى ، ثم أذن بلال ، ثم أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في
الخطبة الثانية ففرغ من الخطبة وبلال من الأذان ، ثم أقام بلال فصلى الظهر ، ثم
أقام فصلى العصر . قال الشوكاني في
ثلاث مرات . ثم أذن بلال ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل
بينهما شيئا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/51)
النيل ( ج 4 : ص 287 ) : حديث جابر هذا أخرجه أيضا البيهقي وقال : تفرد به إبراهيم بن أبي يحيى ، وفي حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب ثم أذن بلال ، ليس فيه ذكر أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة الثانية وهو أصح ، ويترجح بأمر معقول هو أن المؤذن قد أمر بالإنصات للخطبة ، فكيف يؤذن ولا يستمع الخطبة . قال المحب الطبري : وذكر الملا في سيرته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من خطبته أذن بلال وسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ بلال من الأذان تكلم بكلمات ثم أناخ راحلته وأقام بلال الصلاة ، وهذا أولى مما ذكره الشافعي ، إذ لا يفوت به سماع الخطبة من المؤذن – انتهى كلام الشوكاني . وقال الطبري بعد ذكر رواية الملا من سيرته ما لفظه : وهذا وإن كان قريبا مما ذهب إليه الشافعي إلا أنه ليس فيه أن الخطبة تكون مع الأذان ، ثم إن تلك الكلمات لم يقل إنها كانت خطبة – انتهى . ( ثم أذن بلال ) لم يقع لفظ بلال في مسلم وإنما هو عند الدارمي وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي ، وزاد الدارمي (( بنداء واحد )) ( ثم أقام فصلى العصر ) أي جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر ، وهذا الجمع كجمع المزدلفة جمع نسك عند الحنفية وبعض أصحاب الشافعي ، وجمع سفر عند الشافعي وأكثر أصحابه ، فمن كان حاضرا أو مسافرا دون مرحلتين كأهل مكة لم يجز له الجمع عند الشافعي كما لا يجوز له القصر . والحديث يدل على أن الجمع بين الظهر والعصر بعرفة بأذان واحد وإقامتين ، واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال ، الأول : أداؤهما بأذان واحد وإقامتين لحديث جابر هذا ، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وأحمد في رواية ومالك في رواية ، وبه قال ابن القاسم وابن الماجشون وابن المواز من المالكية . والقول الثاني : بإقامتين من غير أذان ، وروي ذلك عن ابن عمر . قال ابن قدامة في شرح قول
(18/52)
الخرقي (( وإن أذن فلا بأس ))
كأنه ذهب إلى أنه مخير بين أن يؤذن للأولى أو لا يؤذن . وكذا قال أحمد ، لأن كلا
مروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والأذان أولى ، وهو قول الشافعي وأبي
ثور وأصحاب الرأي – انتهى . والقول الثالث : بأذانين وإقامتين وهو الأشهر من مذهب
مالك كما في الجلاب ، وهو المذكور في المدونة ، وروي ذلك عن ابن مسعود . قال ابن
قدامة : وإتباع ما جاء في السنة أولى . واعلم أنه اشترط الحنفية للجمع بين الظهر
والعصر بعرفة الجماعة فيهما والإمام الأعظم أو نائبه ، بخلاف الجمع بين المغرب
والعشاء بالمزدلفة ، فلم يشترطوا له الإمام ونائبه ولا الجماعة ، وإليه ذهب الثوري
والنخعي ، ولا يشترط الإمام ولا الجماعة عند مالك والشافعي وأحمد وهو الراجح عندنا
( ولم يصل بينهما شيئا ) أي من السنن والنوافل ، وذلك للاستعجال بالوقوف . قال
الطبري : قوله (( ثم أذن ثم أقام )) قال ابن المنذر : عرف جابر أن وقت الأذان في
يوم عرفة عند فراغ الإمام من خطبته . وقال الشافعي : يخطب الخطبة الثانية مع
استفتاح المؤذن بالأذان ويفرغ من فراغه ، ويستدل بحديث رواه عن جابر فذكر الحديث
الذي قدمناه . قال الطبري : وهذا يغاير حديث مسلم
ثم ركب حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/53)
من وجهين أحدهما في وقت الأذان والثاني في مكان الخطبة ، فإن مسلما ذكر أن الخطبة كانت ببطن الوادي قبل إتيان الموقف ، والشافعي ذكر أنها بعد إتيان عرفة وحديث مسلم أصح ، ويترجح بوجه معقول ، وهو أن المؤذنين قد أمروا بالإنصات كما أمر به سائر الناس ، وكيف يؤذن من قد أمر بالإنصات ؟ ثم لا يبقى للخطبة معنى ، إذ يفوت المقصود منها أكثر الناس لاشتغال سمعهم بالأذان عن استماعها ، قال البيهقي : وهذا التفصيل في ابتداء بلال بالأذان ، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة الثانية ففرغ من الخطبة وبلال من الأذان مما تفرد به ابن أبي يحيى ، ثم ذكر الطبري رواية الملا من سيرته ، وقد ذكرناها مع كلامه عليها قبل ذلك ، ثم قال الطبري : وقال مالك : إن شاء يؤذن والإمام يخطب ، وإن شاء يؤذن بعد الفراغ من الخطبة . وقال مرة أخرى إذا فرغ الإمام من الخطبة ابتدأ بالأذان ثم بالإقامة ثم بالصلاة . قال ابن حزم : وهذا القول الثاني عن مالك هو الصحيح الذي لا يجوز تعديه لصحته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبه نأخذ إقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا خير في مخالفته . قال الطبري : وجمعه - صلى الله عليه وسلم - بالناس بعرفة دليل على جواز الجمع في السفر القصير ، إذ لم ينقل عن أحد من أهل مكة التخلف عن الصلاة معه - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الجمع بعلة النسك ، وفي المسألة ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه بعلة أصل السفر ، الثاني ، بعلة السفر الطويل ، الثالث : بعلة النسك . وقال في موضع آخر : قد اختلف أصحابنا هل كان جمعه - صلى الله عليه وسلم - بعلة مطلق السفر أو الطويل أو بعلة النسك ؟ والظاهر أنه بعلة النسك حتى يجوز للآفاقي والمكي والمزدلفي والمعرفي ، وعلى الأول لا يجوز للمعرفي ، وعلى الثاني لا يجوز لغير الآفاقي ، ولا خلاف أنه سنة ، حتى لو صلى كل صلاة وحدها في وقتها جاز ( ثم ركب ) أي القصواء كما في رواية ابن
(18/54)
الجارود أي وسار ( حتى أتى
الموقف ) أي أرض عرفات ، أو اللام للعهد والمراد موقفه الخاص ويؤيده قوله ( فجعل
بطن ناقته القصواء ) بالجر ( إلى الصخرات ) بفتحتين ، قال الطيبي : أي منتهيا
إليها ، وتعقبه الأبي فقال : إن كان الوقوف على الصخرات صح هذا التقدير ، والأظهر
أنه تجوز بالبطن عن الوجه ، والتقدير : وجعل وجه ناقته ، وهذا إن كانت الصخرات في
قبلته لأنه إنما وقف مستقبل القبلة . وقال القرطبي : يعني أنه علا على الصخرات
ناحية منها حتى كانت الصخرات تحاذي بطن ناقته . قال الولي العراقي : لا حاجة إلى
هذا لأن من وقف بحذاء صخرة على ناقة صار بطنها بحذائها أي إلى جانبها ، وليس يشترط
في محاذاة بطن الناقة لها أن يكون عاليا عليها – انتهى . وقال الطبري : ظاهر قوله
(( جعل بطن ناقته إلى الصخرات )) يدل على أنه كان واقفا على الصخرات حتى يكون بطن
الناقة إليها ، ويؤيده ما رواه ابن إسحاق في سيرته أنه - صلى الله عليه وسلم - قال
: (( هذا الموقف )) للجبل الذي كان واقفا عليه - انتهى . قال النووي : الصخرات
حجرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات فهذا هو الموقف
المستحب . وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح
الوقوف إلا فيه فغلط ، بل الصواب جواز الوقوف في
وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ،
وذهبت الصفرة قليلا ، حتى غاب القرص ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/55)
كل جزء من أرض عرفات ، وأن الفضيلة في موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الصخرات ، فإن عجز فليقرب منه بحسب الإمكان . وأما وقت الوقوف فهو ما بين زوال الشمس يوم عرفة وطلوع الفجر الثاني من يوم النحر فمن حصل بعرفات في جزء من هذا الزمان صح وقوفه ، ومن فاته ذلك فاته الحج . هذا مذهب الشافعي وجماهير العلماء ، وقال مالك : لا يصح الوقوف في النهار منفردا بل لا بد من الليل وحده ، فإن اقتصر على النهار لم يصح وقوفه ، وقال أحمد : يدخل وقت الوقوف من الفجر يوم عرفة ، وأجمعوا على أن أصل الوقوف ركن لا يصح الحج إلا به ( وجعل المشاة بين يديه ) الحبل بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة ثم لا هو المستطيل من الرمل ، وقيل : هو التل الضخم منه والمشاة بضم الميم جمع ماش ، وأضيف الحبل إليه لاجتماعهم هناك من الموقف ، والمراد به صف المشاة ومجتمعهم في مشيهم تشبيها بحبل الرمل . وقيل : أراد طريقهم الذي يسلكونه في الرمل . وقال النووي : روي حبل بالحاء المهملة وإسكان الباء ، وروي جبل بالجيم وفتح الباء ، قال القاضي عياض : الأول أشبه بالحديث ، وحبل المشاة أي مجتمعهم ، وحبل الرمل ما طال منه وضخم . وأما بالجيم فمعناه طريقهم ، وحيث تسلك الرجالة ، وتعقبه الولي العراقي بأن ما ذكره من رواية هذه اللفظة بوجهين ، وترتب هذين المعنيين على هذين الوجهين لم أره في كلام القاضي لا في الإكمال ولا في المشارق ولا في كلام غيره أيضا - انتهى . وقال الطبري : حبل المشاة بالحاء المهملة مفتوحة والباء موحدة ساكنة ثم لام أي صفهم ومجتمعهم في مشيهم ، فكأنه عبر بحبل المشاة عن المشاة أنفسهم ، وقد ضبطه بعضهم بالجيم وصححه شيخنا أبو عمرو بن الصلاح في منسكه ، قال : وبه شهدت المشاهدة ، وذكره بعض من صنف في الأمكنة المتعلقة بالحجيج وهو الظاهر – انتهى . ( واستقبل القبلة ) فيه أنه يستحب استقبال القبلة في الوقوف بعرفة ( فلم يزل واقفا
(18/56)
حتى غربت الشمس ) قال القاري :
أي أكثرها أو كادت أن تغرب ( وذهبت الصفرة قليلا ) أي ذهابا قليلا ( حتى غاب القرص
) قال القاري : أي جميعه – انتهى . هكذا هو في جميع النسخ مسلم بلفظ (( حتى ))
بفوقية فتحتية ، ولأبي داود ( والبيهقي ) (( حين )) بتحتية فنون ، وقيل إنه الصواب
، وهو مفهوم الكلام ، ولحتى وجه قاله عياض . وقال النووي : ويحتمل أن الكلام على
ظاهره ويكون قوله (( حتى غاب القرص )) بيانا لقوله (( غربت الشمس وذهبت الصفرة ))
لأن غروبها قد يطلق مجازا على مغيب معظم القرص ، فأزال ذلك الاحتمال بقوله حتى غاب
القرص – انتهى . وقال القاري : قيل : صوابه حين غاب القرص ، وفيه نظر إذ لا يظهر
معنى لقوله (( ذهبت الصفرة قليلا حين غاب القرص )) وكأن القائل غفل عن قيد القلة
وذهل عن الرواية التي تطابق الدراية – انتهى . وفيه تنبيه على الاحتياط والمكث بعد
الغروب حتى تذهب الصفرة لأجل الحائل من الجبال ،
وأردف أسامة ، ودفع حتى أتى المزدلفة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/57)
وفي وقوفه - صلى الله عليه وسلم - على راحلته وإطالته الوقوف عليها دليل على إباحة ذلك مطلقا خلافا لمن كرهه ، ويحتمل أن يكون ذلك مقصورا على ما هو قرابة دون غيره من المباح وعلى ما خف أمره دون الأحمال الثقال والمحامل الثقيلة بالركبان المتعددة لما فيه من إتعاب الحيوان من غير ضرورة ( وأردف أسامة ) أي ابن زيد ، وفي مسلم وغيره (( أردف أسامة خلفه )) وكذا هو في المصابيح ، وسقط لفظ (( خلفه )) من جميع نسخ المشكاة . قال النووي : فيه جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة ، وقد تظاهرت به الأحاديث . وقال الطبري : وإردافه - صلى الله عليه وسلم - أسامة رخصة في ركوب اثنين على بعير واحد ، وأن ذلك لا ينقص من منصب الجليل شيئا ، وبيان فضل أسامة بتخصيصه بذلك دون من حضره في ذلك الوقت ، وكذلك فضل الفضل في إردافه في ثاني الحال ، وفضل علي باستنابته في النحر وبإشراكه في هديه ( ودفع ) أي ابتدأ السير ودفع نفسه ونحاها أو دفع ناقته وحملها على السير ، قاله الجزري . وقال السيوطي : أي خرج من عرفات ، وفي رواية (( أفاض وعليه السكينة )) وفي مسلم (( ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق )) ( بفتح الشين المعجمة والنون المخففة فقاف أي ضم وضيق ) للقصواء الزمام ( يعني ضم رأسها إليه وبالغ في الضم ، يقال شنق لها وأشنق ) حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله ( بفتح الميم وسكون الواو وكسر الراء هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب ، وقال عياض : هو بفتح الراء وهو قطعة أدم محشوة تجعل في مقدم الرحل شبه المخدة الصغيرة يضع الراكب رجليه عليها متوركا ليستريح من وضعهما في الركاب ، أراد أنه قد بالغ في جذب رأسها إليه ليكفها عن السير ، ورحله بفتح الراء وسكون الحاء المهملة . قال القسطلاني : وفي نسخة لمسلم (( رجله )) بكسر الراء بعدها جيم . قال النووي : وفي هذا استحباب الرفق في السير من الراكب
(18/58)
بالمشاة وبأصحاب الدواب
الضعيفة ) ويقول بيده اليمنى ( أي يشير بها ) أيها الناس السكينة السكينة ( بالنصب
أي الزموا السكينة وهي الرفق والطمأنينة وعدم الزحمة ، فالنصب على الإغراء . قال
النووي : فيه أن السكينة في الدفع من عرفات سنة ، فإذا وجد فرجة يسرع كما ثبت في
الحديث الآخر ) كلما أتى حبلا من الحبال ( بالحاء المهملة المكسورة جمع حبل وقد
تقدم معناه ) وأرخى لها قليلا ( أي أرخى للقصواء الزمام إرخاء قليلا أو زمانا
قليلا ) حتى تصعد ( بفتح التاء المثناة فوق من صعد ، وروي بضمها من أصعد يقال :
صعد في الجبل وأصعد في الأرض لا غير أي ذهب وسار ، ومنه قوله تعالى ? إذ تصعدون ?
(3 : 153) ( حتى أتى المزدلفة ) أصله مزتلفة فأبدل من التاء دال لقرب المخرج وهي
موضع بين عرفة ومنى وكلها من الحرم ، وهي المسماة بجمع – بفتح الجيم وسكون الميم
وعين مهملة ، وسميت جمعا لأن آدم وحواء عليهما السلام بعد ما أهبطا إلى الأرض كل
واحد في موضع اجتمعا به . وقيل : لأنه يجمع فيها بين صلاتين المغرب والعشاء . وقيل
: لأن الناس يجتمعون فيها ، وسميت بالمزدلفة لذلك أيضا من الازدلاف وهو الاجتماع ،
وقيل :
فصلى بها المغرب والعشاء ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/59)
لأنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون إليه بالوقوف بها . وقيل لأن آدم أزلف إلى حواء بها أي دنا وقرب منها . والازدلاف الاقتراب والتقرب والزلفة والزلفى القربة . وقيل لاقترابهم فيها من منى ، يقال (( له زلفى عند فلان )) أي قربى منه . وقال النووي : المزدلفة من التزلف والازدلاف وهو التقرب ، لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها أي مضوا إليها وتقربوا منها . وقيل : سميت بذلك لمجيء الناس إليها في زلف من الليل أي ساعات . قال : والمزدلفة كلها من الحرم ، وحدها ما بين مازمي عرفة ووادي محسر ، وليس هذان الحدان منها . ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشعاب والجبال الداخلة في الحد المذكور . قال الشاه ولي الله الدهلوي : إنما دفع - صلى الله عليه وسلم - من عرفات بعد الغروب ردا لتحريف الجاهلية ، فإنهم كانوا لا يدفعون إلا قبل الغروب ولأن قبل الغروب غير مضبوط وبعد الغروب أمر مضبوط ، وإنما يؤمر في مثل ذلك اليوم بالأمر المضبوط . قال : والسر في المبيت بمزدلفة أنه كان سنة قديمة فيهم ، ولعلهم اصطلحوا عليها لما رأوا من أن للناس اجتماعا لم يعهد مثله في غير هذا الموطن ، ومثل هذا مظنة أن يزاحم بعضهم ويحطم بعضهم بعضا . وإنما براحهم بعد المغرب وكانوا طول النهار في تعب يأتون من كل فج عميق فلو تجشموا أن يأتوا منى والحال هذه لتعبوا ( فصلى بها المغرب والعشاء ) أي جمع بينهما في وقت العشاء . قال : المحب الطبري : وهذا الجمع سنة بإجماع من العلماء ، وإنما اختلفوا فيما لو صلى كل صلاة في وقتها فعند أكثر العلماء يجوز . وقال الثوري وأصحاب الرأي : إن صلى المغرب دون مزدلفة فعليه الإعادة ، وجوزوا في الظهر والعصر أن يصلى كل صلاة في وقتها مع كراهية – انتهي . وقال الرافعي : لو انفرد بعضهم في الجمع بعرفة أو بمزدلفة أو صلى إحدى الصلاتين مع الإمام والأخرى وحده جاز . ويجوز أن يصلى المغرب بعرفة أو في الطريق ، وقال أبو
(18/60)
حنيفة : لا يجوز ويجب الجمع
بمزدلفة – انتهي . وقال النووي : في الحديث أن السنة للدافع من عرفات أن يؤخر
المغرب إلى وقت العشاء ، ويكون هذا التأخير بنية الجمع ثم يجمع بينهما في المزدلفة
في وقت العشاء وهذا مجمع عليه ، لكن مذهب أبي حنيفة وطائفة أنه يجمع بسبب النسك ،
ويجوز لأهل مكة والمزدلفة ومنى وغيرهم . والصحيح عند أصحابنا أنه جمع بسبب السفر
فلا يجوز إلا لمسافر سفرا يبلغ به مسافة القصر ، وللشافعي قول ضعيف أنه يجوز الجمع
في كل سفر وإن كان قصيرا ، وقال بعض أصحابنا : هذا الجمع بسبب النسك كما قال أبو
حنيفة . قال أصحابنا ولو جمع بينهما في وقت المغرب في أرض عرفات أو في الطريق أو
في موضع آخر أو صلى كل واحدة في وقتها جاز جميع ذلك لكنه خلاف الأفضل ، هذا مذهبنا
وبه قال جماعات من الصحابة والتابعين ، وقاله الأوزاعي وأبو يوسف وأشهب وفقهاء
أصحاب الحديث . وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين : يشترط أن يصليهما بالمزدلفة
ولا يجوز قبلها . وقال مالك : لا يجوز أن يصليهما قبل المزدلفة إلا من به أو
بدابته عذر فله أن يصليهما قبل المزدلفة بشرط كونه بعد مغيب الشفق – انتهي .
بأذان واحد وإقامتين ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/61)
قلت : مذهب الحنفية على ما ذكره أصحابهم أنه يعيد مغربا أداه في الطريق أو عرفات ما لم يطلع الفجر ، هذا قول أبي حنيفة ومحمد ، وقال أبو يوسف يجزئه وقد أساء . واستدل لأبي يوسف بأنه أداها في وقتها فلا تجب إعادتها كما بعد طلوع الفجر إلا أن التأخير من السنة فيصير مسيئا بتركه ، واستدل لهما بحديث أسامة (( الصلاة أمامك )) معناه وقت الصلاة ، قالوا : وبه يفهم وجوب التأخير ، وإنما وجب ليمكنه الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة فكان عليه الإعادة ما لم يطلع الفجر ليصير جامعا بينهما ، وإذا طلع الفجر لا يمكنه الجمع فتسقط الإعادة – انتهي . وقال الجمهور : معني قوله (( الصلاة أمامك )) أي موضع صلاة المغرب والعشاء أمامك وهو المزدلفة ، وهو محمول عندهم على الأولوية ( بأذان واحد وإقامتين ) قال النووي : فيه أنه يصلي صلاة المغرب والعشاء في وقت العشاء بأذان للأولى وإقامتين لكل واحدة إقامة ، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا ، وبه قال أحمد وأبو ثور وابن الماجشون المالكي والطحاوي الحنفي . وقال مالك : يؤذن ويقيم للأولي ويؤذن ويقيم أيضا للثانية ، وهو محكي عن ابن عمر وابن مسعود ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : بأذان واحد وإقامة واحدة ، وللشافعي وأحمد قول أنه يصلي كل واحدة بإقامتها بلا أذان . وقال الثوري : يصليهما جميعا بإقامة واحدة وهو يحكى أيضا عن ابن عمر – انتهي . وقال الزبيدي في شرح الإحياء بعد ذكر حديث جابر الطويل عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمزدلفة المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ما نصه : وهو قول أحمد وأصح قولي الشافعي وغيرهما من العلماء ، وبه قال زفر من أصحابنا واختاره الطحاوي ، ورجحه ابن الهمام ، واستدلوا بحديث جابر هذا . وقال أبو حنيفة : بأذان واحد وإقامة واحدة لما أخرج أبو داود من حديث أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه قال : أقلبت مع ابن عمر من عرفات إلى المزدلفة فأذن وأقام أو أمر إنسانا فأذن
(18/62)
وأقام فصلى بنا المغرب ثلاث
ركعات ثم التفت إلينا فقال : الصلاة ، فصلى بنا العشاء ركعتين ، فقيل له في ذلك ،
فقال : صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا . وأخرج الطبراني عن أبي أيوب
الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان
واحد وإقامة واحدة ، ثم ذكر الزبيدي ما رواه مسلم من حديث ابن عمر في الجمع بين
الصلاتين بإقامة واحدة وما رواه أبو الشيخ من حديث ابن عباس كذلك . قال ابن الهمام
: فقد علمت ما في هذا من التعارض فإن لم يرجع ما اتفق عليه الصحيحان على ما انفرد
به مسلم وأبو داود حتى تساقطا ، كان الرجوع إلى الأصل يوجب تعدد الإقامة بتعدد
الصلاة كما في قضاء الفوائت بل أولى لأن الصلاة الثانية هنا وقتية ، فإذا أقيم
للأولى المتأخرة عن وقتها المعهود كانت الحاضرة أولى أن يقام لها بعدها . وقال
مالك : بأذانين وإقامتين ، واحتج بفعل ابن مسعود أخرجه أحمد والبخاري وابن أبي
شيبة ، ولفظ الأخير (( فلما أتي جمعا أذن وأقام فصلى المغرب ثلاثا ثم تعشى ثم أذن
وأقام فصلى العشاء ركعتين )) ومنهم من قال : يجمع بينهما بإقامتين دون أذان
واحتجوا بما رواه البخاري عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى
المغرب والعشاء بجمع ، كل واحدة بإقامة ولم يسبح بينهما ولا على أثر كل
ولم يسبح بينهما شيئا ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/63)
واحدة منهما ، وأخرجه أبو داود وقال : ولم يناد في الأولى . وفي رواية عنده أيضا (( ولم يناد في واحدة منهما )) وحكى البغوي والمنذري أن هذا قول الشافعي وإسحاق بن راهويه ، وحكى غيرهما أن أصح قولي الشافعي أنه يجمع بينهما بأذان وإقامتين ومنهم من قال : بإقامة واحدة دون أذان ، ودليلهم ما رواه الشيخان والنسائي عن ابن عمر أنه صلى بجمع المغرب والعشاء بإقامة واحدة ثم انصرف فقال هكذا صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المكان ، وأخرجه أبو داود وزاد بعد قوله (( بإقامة واحدة )) (( ثلاثا واثنين )) وبه قال سفيان الثوري وقال : أيهما فعلت أجزأك . قال المحب الطبري بعد ذكر هذه الروايات ما لفظه : وهذه الأحاديث المختلفة في هذا الباب توهم التضاد والتهافت ، وقد تعلق كل من قال بقول منها بظاهر ما تضمنه ويمكن الجمع بين أكثرها فنقول قوله (( بإقامة واحدة )) أي لكل صلاة أو على صفة واحدة لكل منهما ، ويتأيد برواية من صرح بإقامتين ، ثم نقول : المراد بقول من قال كل واحدة يإقامة ، أي ومع إحداهما أذان ، تدل عليه رواية من صرح بأذان وإقامتين ، وأما قول ابن عمر لما فرغ من المغرب (( الصلاة )) قد يوهم الاكتفاء بذلك دون إقامة ، ويتأيد برواية من روى أنه صلاهما بإقامة واحدة ، فنقول : يحتمل أنه قال (( الصلاة )) تنبيها لهم عليها لئلا يشتغلوا عنها بأمر آخر ، ثم أقام بعد ذلك أو أمر بالإقامة ، وليس في الحديث أنه اقتصر على قوله الصلاة ولم يقم ، ونقول : العمدة من هذه الأحاديث كلها حديث جابر دون سائر الأحاديث ، لأن من روى أنه جمع بإقامة معه زيادة علم على من روى الجمع دون أذان ولا إقامة ، وزيادة الثقة مقبولة ، ومن روى بإقامتين فقد أثبت ما لم يثبته من روى بإقامة فقضى به عليه ، ومن روى بأذان وإقامتين وهو حديث جابر وهو أتم الأحاديث فقد أثبت ما لم يثبته من تقدم ذكره فوجب الأخذ به والوقوف عنده ، ولو صح حديث مسند عن
(18/64)
رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بمثل حديث ابن مسعود الذي أخذ به مالك من أذانين وإقامتين لوجب المصير إليه
لما فيه من إثبات الزيادة ، ولكن لا سبيل إلى التقدم بين يدي الله ورسوله ولا إلى
الزيادة على ما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - - انتهى . وقال ابن حزم : وأشد الاضطراب
في ذلك عن ابن عمر فإنه روي عنه من عمله الجمع بينهما بلا أذان ولا إقامة ، وروي
عنه أيضا بإقامة واحدة ، وروي عنه موقوفا بأذان واحد وإقامة واحدة ، وروي عنه
مسندا الجمع بينهما بإقامتين ، وروي عنه مسندا بأذان واحد وإقامة واحدة – انتهى .
وقد ظهر مما ذكرنا من كلام الزبيدي وابن الهمام والطبري وابن حزم أن الروايات في
هذا الباب مختلفة جدا وقد تقدم وجه التطبيق والجمع بينهما ورجحان وحدة الأذان
لإقامة في الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة ( ولم يسبح بينهما شيئا ) أي لم يصل بين
المغرب والعشاء شيئا من النوافل والسنن . والنافلة تسمى سبحة لاشتمالها على
التسبيح ففيه المولاة بين الصلاتين المجموعتين . وقد ورد الفصل بينهما بإناخة كل
إنسان بعيره في حديث أسامة عند الشيخين وهذا لا ينافي الموالاة . وأما سنة المغرب
ثم اضطجع حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ،
ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/65)
وراتبة العشاء فلم يرد ذكرها في حديث خلافا لما هو المعتمد عند الحنفية ( ثم اضطجع ) أي للنوم تقوية للبدن ورحمة للأمة ، لأن في نهاره عبادات كثيرة يحتاج إلى النشاط فيها ( حتى طلع الفجر ) قال في المواهب وشرحه : وترك عليه السلام قيام الليل تلك الليلة ونام حتى أصبح لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى ما بعد الغروب ، واجتهاده عليه السلام في الدعاء وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة ، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرا لها وجمعا لهما جمع تأخير ، ورقد بقية ليلته مع كونه عليه السلام كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه ، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم في عرفة من التعب ، وقد قال : إن لجسدك عليك حقا . ولما هو بصدده يوم النحر من كونه نحر بيده الشريفة ثلاثا وستين بدنة ، وباقي المائة نحره علي ، وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة ورجع إلى منى – انتهى . قال القاري : ثم المبيت عندنا سنة وعليه بعض المحققين من الشافعية ، وقيل : واجب ، وهو مذهب الشافعي ، وقيل : ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفة وعليه جماعة من الأجلة . وقال مالك : النزول واجب والمبيت سنة ، وكذا الوقوف بعده ثم المبيت بمعظم الليل ، والصحيح أنه بحضور لحظة بالمزدلفة – انتهى . وقال النووي : بمزدلفة ليلة النحر بعد الدفع من عرفات نسك ، وهذا مجمع عليه ، لكن اختلف العلماء هل هو واجب أم ركن أم سنة ؟ والصحيح من قولي الشافعي أنه واجب ، لو تركه أثم وصح حجمه ولزمه دمه . والثاني أنه سنة لا إثم في تركه ولا يجب فيه دم ولك يستحب . وقال جماعة من أصحابنا : هو ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفات ، قاله من أصحابنا ابن بنت الشافعي وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، وقاله خمسة من أئمة التابعين وهم علقمة والأسود والشعبي والنخعي والحسن البصري ، والله أعلم . والسنة أن يبقى بالمزدلفة حتى يصلي بها الصبح إلا الضعفة ، فالسنة لهم الدفع قبل
(18/66)
الفجر كما سيأتي في موضعه وفي
أقل المجزئ من هذا المبيت ثلاثة أقوال عندنا ، الصحيح : ساعة في النصف الثاني من
الليل ، والثاني : ساعة في النصف الثاني أو بعد الفجر قبل طلوع الشمس ، والثالث :
معظم الليل ( فصلى الفجر حين تبين له الصبح ) أي ظهر له . قال النووي : فيه أن
السنة أن يبالغ بتقديم صلاة الصبح في هذا الموضع ويتأكد التبكير بها في هذا اليوم
أكثر من تأكده في سائر السنة للإقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأن
وظائف هذا اليوم كثيرة ، فسن المبالغة بالتكبير للصبح ليتسع الوقت للوظائف ( ثم
ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ) زاد في رواية أبي داود وابن ماجة وابن
الجارود والبيهقي (( فرقى عليه )) والمشعر بفتح الميم والعين كما في القرآن ، وقيل
بكسر الميم ، موضع خاص من المزدلفة ، سمي بالمشعر لأنه معلم للعادة، والحرام لأنه
من الحرم أو لحرمته . قال النووي : المشعر بفتح الميم هذا هو الصحيح وبه جاء
القرآن ، وتظاهرت
...............................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/67)
به روايات الحديث ، ويقال أيضا بكسر الميم ، والمراد به هنا قزح بضم القاف وفتح الزاي وبحاء مهملة وهو جبل معروف في المزدلفة ، وهذا الحديث حجة الفقهاء في أن المشعر الحرام هو قزح ، وقال جماهير المفسرين وأهل السير والحديث : المشعر الحرام جميع المزدلفة – انتهى . وقال المحب الطبري (ص 126) : في قوله (( حتى أتى المشعر الحرام )) حجة لمن قال : المشعر الحرام هو الجبل الصغير المعروف بالمزدلفة يقال له قزح ، والأفصح في المشعر فتح الميم ، وأكثر كلام العرب بكسرها ، ولا نعرف الكسر في القراءة إلا شاذا – انتهى . وقد روى الشيخان من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بالمزدلفة وقال : وقفت ها هنا ومزدلفة كلها موقف . وروى أبو داود والترمذي وصححه من حديث علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أصبح يجمع أتى قزح فوقف عليه ، وقال : هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف . وروى سعيد بن منصور من حديث ابن عمر : أنه رأى ناسا يزدحمون على الجبل الذي يقف عليه الإمام ، فقال : يا أيها الناس ! لا تشقوا على أنفسكم ، ألا إن ما ها هنا مشعر كله . وعنه قال : المشعر الحرام المزدلفة كلها . أخرجه أبو ذر ، ذكر هذه الأحاديث الطبري (ص 379) ثم قال حديث ابن عمر هذا مصرح بأن المشعر الحرام هو المزدلفة ، وكذلك تضمنه كثير من كتب التفسير في قوله تعالى ? فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ? (2 : 198) وحديث علي وجابر يدلان على أن قزح هو المشعر الحرام وهو المعروف في كتب الفقه ، فتعين أن يكون في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازا دفعا للاشتراك ، إذ المجاز خير منه ، فترجح احتماله عند التعارض فيجوز أن يكون حقيقة في قزح ، فيجوز إطلاقه على الكل لتضمنه إياه ، وهو أظهر الاحتمالين في الآية ، فإن قوله تعالى (( عند المشعر الحرام )) يقضي أن يكون الوقوف في غيره وتكون المزدلفة كلها عنده ، لما كانت كالحريم له ، ولو أريد
(18/68)
بالمشعر الحرام المزدلفة لقال
: في المشعر الحرام ، ويجوز أن يكون حقيقة في المزدلفة كلها ، وأطلق على قزح وحده
تجوزا لاشتمالها عليه ، وكلاهما وجهان من وجوه المجاز ، أعني إطلاق اسم الكل على
البعض ، وبالعكس . وهذا القائل يقول : حروف المعاني يقوم بعضها مقام بعض ، فقامت
(( عند )) مقام (( في )) ومنه (( ولهم اللعنة )) أي عليهم ، وفي الحديث والأثر ما
يصدق كل واحد من الاحتمالين ، وقزح موضع من المزدلفة وهو موقف قريش في الجاهلية ،
إذ كانت لا تقف بعرفة . وقال الجوهري : قزح اسم جبل بالمزدلفة . قال الطبري : وقد
بني عليه بناء ، فمن تمكن من الرقي عليه رقى ، وإلا وقف عنده مستقبل القبلة ،
فيدعو ويكبر ويهلل ويوحد ويكثر من التلبية إلى الإسفار ، ولا ينبغي أن يفعل ما
تطابق عليه الناس اليوم من النزول بعد الوقوف من درج في وسطه ضيقة يزدحم الناس على
ذلك حتى يكاد يهلك بعضهم بعضا ، وهو بدعة شنيعة بل يكون نزوله من حيث رقيه من
الدرج الظاهرة الواسعة . وقد ذكر ابن الصلاح في منسكه : أن قزح جبل صغير آخر
المزدلفة ، ثم قال أي ابن الصلاح بعد ذلك : وقد استبدل الناس بالوقوف على الموضع
الذي ذكرناه الوقوف على بناء مستحدث في وسط المزدلفة ، ولا تتأدى به هذه
فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/69)
السنة ، هذا آخر كلامه ، والظاهر أن البناء إنما هو على الجبل كما تقدم ذكره ، ولم أر ما ذكره لغيره – انتهى كلام الطبري . ( فاستقبل القبلة ) يعني الكعبة ( فدعاه ) وفي لفظ (( فحمد الله )) أخرجه أبو داود وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي . قال المحب الطبري : يستحب للحاج أن يدعو بدعاء ابن عمر المتقدم في فصل ركعتي الطواف وبعد السعي ، يريد بذلك ما رواه أبو ذر عن ابن عمر أنه كان إذا قدم حاجا طاف بالبيت سبوعا ثم صلى ركعتين يطيل فيهما الجلوس فيكون جلوسه أطول من قيامه لمدحه ربه وطلبه حاجته ، يقول مرارا : اللهم اعصمني بدينك وطاعتك وطواعية رسولك ، اللهم جنبني حدودك ، اللهم اجعلني ممن يحبك ، ويحب ملائكتك ، ويحب رسلك ، ويحب عبادك الصالحين . اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين . اللهم يسرني لليسرى ، وجنبني العسرى ، واغفر لي في الآخرة والأولى . اللهم اجعلني أوف بعهدك الذي عاهدت عليه واجعلني من أئمة المتقين ومن ورثة جنة النعيم ، واغفر لي خطيئتي يوم الدين . وكان يقول ذلك على الصفا والمروة وبعرفات وبجمع وعلى الجمرتين وفي الطواف . قال الطبري : وفي رواية بعد قوله (( واغفر لي خطيئتي يوم الدين )) : اللهم إنك قلت : ادعوني استجب لكم وإنك لا تخلف الميعاد ، اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه ولا تنزعه مني حتى تتوفاني عليه وقد رضيت عني ، اللهم لا تقدمني لعذاب ولا تؤخرني لسيء العيش . أخرجه سعيد بن منصور ، وأخرج مالك طرفا منه ، وأخرجه بكماله ابن المنذر ( وكبره ) أي قال : الله أكبر ( وهلله ) أي قال : لا إله إلا الله ( ووحده ) أي قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلخ . فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أحق من يعمل بقوله تعالى : ? فاذكروا الله عن المشعر الحرام واذكروه كما هداكم ? (2 : 198) ( فلم يزل واقفا ) فيه أن الوقوف على قزح من مناسك الحج وهذا لا خلاف فيه . قال الشاه
(18/70)
ولي الله الدهلوي : وإنما شرع
الوقوف بالمشعر الحرام لأنه كان أهل الجاهلية يتفاخرون ويتراؤن فأبدل من ذلك إكثار
ذكر الله ليكون كابحا عن عادتهم ويكون التنويه بالتوحيد في ذلك المواطن كالمنافسة
،كأنه قيل : هل يكون ذكركم الله أكثر أو ذكر أهل الجاهلية مفاخرهم أكثر ؟ ( حتى
أسفر جدا ) أي أضاء الفجر إضاءة تامة ، فالضمير في أسفر يعود إلى الفجر المذكور
أولا ، وقوله (( جدا )) بكسر الجيم أي إسفارا بليغا . قال المحب الطبري : هذا كمال
السنة في المبيت بالمزدلفة ، وعليه اعتمد من أوجب ذلك . وقال أبو حنيفة : إذا لم
يكن بها بعد طلوع الفجر لزمه دم إلا لعذر من ضعف أو غيره ، فإن كان بها أجزأه وإن
لم يكن قبله ، وهو ظاهر ما نقله البغوي عن مالك وأحمد ، وفي وجوب المبيت عندنا
قولان الأصح وجوبه ، والمعتمد فيه أدنى جزء بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر هذا هو
المشهور ، وللشافعي قول آخر (( إلى طلوع الشمس )) فمن كان بها فيه فلا شيء عليه
وإن لم يكن قبله ، ومن دفع قبله فعليه دم على الأصح – انتهى . وقال ابن عابدين :
الوقوف عند المشعر الحرام واجب عندنا لا سنة
فدفع قبل أن تطلع الشمس ، وأردف الفضل بن عباس ، حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/71)
والبيتوتة بمزدلفة سنة مؤكدة إلى الفجر لا واجبة خلافا للشافعي فيهما كما في اللباب (فدفع ) أي ذهب إلى منى ( قبل أن تطلع الشمس ) هذا صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى منى قبل طلوع الشمس ، وبه أخذ الجمهور . قال النووي : قال ابن مسعود وابن عمر وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء : لا يزال واقفا فيه يدعو ويذكر حتى يسفر الصبح جدا كما في الحديث . وقال مالك : يدفع منه قبل الإسفار . قال الطبري : قال أهل العلم : وهذه سنة الإسلام أن يدفع من المزدلفة عند الإسفار قبل طلوع الشمس . قال طاوس : كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس ، ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير ، فأخر الله هذه وقدم هذه . قال الشافعي : يعني قدم المزدلفة قبل أن تطلع الشمس وأخر عرفة إلى أن تغيب الشمس ( وأردف الفضل بن عباس ) أي بدل أسامة ( حتى أتي بطن محسر ) بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين ، اختلفوا في محسر فقيل : هو واد بين مزدلفة ومنى . قال ابن القيم : ومحسر برزخ بين منى ومزدلفة لا من هذه ولا من هذه . وقيل : ما صب منه في المزدلفة فهو منها ، وما صب منه في منى فهو منها ، وصوبه بعضهم . وقد جاء (( ومزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر )) فيكون على هذا قد أطلق بطن محسر ، والمراد منه ما خرج من مزدلفة ، وإطلاق اسم الكل على البعض جائز مجازا شائعا . وقال الطحاوي : ليس وادي محسر من منى ولا من المزدلفة ، فالاستثناء في قوله (( إلا وادي محسر )) منقطع . قال الطبري : سمي بذلك لأنه حسر فيه قيل أصحاب الفيل أي أعيي ، وقيل : لأنه يحسر سالكيهم ويتعبهم ، يقال حسرت الناقة أتعبتها ، وأهل مكة يسمون هذا الوادي وادي النار ، يقال : أن رجلا اصطاد فيه فنزلت نار فأحرقته ( فحرك قليلا ) أي حرك ناقته وأسرع السير قليلا . قال النووي : هي سنة من سنن السير في ذلك الموضع . قال أصحابنا : يسرع
(18/72)
الماشي ويحرك الراكب دابته في
وادي محسر ويكون ذلك قدر رمية بحجر – انتهى . قال الشافعي في الأم : وتحريكه - صلى
الله عليه وسلم - الراحلة فيه يجوز أن يكون فعل ذلك لسعة الموضع . قال الطبري :
وهكذا كل من خرج من مضيق في قضاء جرت العادة بتحريكه فيه ، وقيل يجوز أن يكون فعله
لأنه مأوى الشياطين . وقيل لأنه كان موقفا للنصارى فاستحب الإسراع فيه . وقال
الأسنوي : وظهر لي معنى آخر في حكمة الإسراع وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على
أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت فاستحب فيه الإسراع لما ثبت في الصحيح أمره المار
على ديار ثمود ونحوهم بذلك . قال ابن القيم : وهذه كانت عادته - صلى الله عليه وسلم
- في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه وكذلك فعل في سلوكه الحجر وديار ثمود
، تقنع بثوبه وأسرع السير – انتهى . وقال الشاه ولى الله الدهلوي : إنما أوضع
بالمحسر لأنه محل هلاك أصحاب الفيل فمن شأن من خاف الله وسطوته أن يستشعر الخوف في
ذلك الموطن ويهرب من الغضب ، ولما
ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند
الشجرة ، فرماها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/73)
كان استشعاره أمرا خفيا ضبط بفعل ظاهر مذكر له منبه للنفس عليه - انتهى . قال الزرقاني : وهذا الجواب أي ما قاله الطبري وابن القيم والأسنوي في وجه التسمية بمحسر وفي حكمة الإسراع فيه مبني على قول الأصح خلافه ، وهو أن أصحاب الفيل لم يدخلوا الحرم وإنما أهلكوا قرب أوله . وقال القاري : المرجح عند غير هؤلاء أنهم لم يدخلوه ، وإنما أصابهم العذاب قبيل الحرم قرب عرفة فلم ينج منهم إلا واحد أخبر من ورائهم ( ثم سلك الطريق الوسطي ) وهي غير طريق ذهابه إلى عرفات ، وذلك كان بطريق ضب ، وهذا طريق المازمين وهما جبلان . قال النووي : فيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة ، وهو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات . وهذا معنى قول أصحابنا يذهب إلى عرفات في طريق ضب ، ويرجع في طريق المازمين ليخالف الطريق تفاؤلا بغير الحال كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في دخول مكة حين دخلها من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى ، وخرج إلى العيد في طريق ورجع في طريق آخر ، وحول ردائه في الاستسقاء ( التي تخرج ) وفي رواية النسائي وأبي داود والدارمي وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي (( التي تخرجك )) ( على الجمرة الكبرى ) قال النووي : الجمرة الكبرى هي العقبة وهي الجمرة التي عند الشجرة ( حتى أتى ) عطف على سلك أي حتى وصل ( الجمرة التي عند الشجرة ) أي جمرة العقبة ، هذا يدل على أنه كان إذ ذاك هناك شجرة ( فرماها ) أي ضحى كما في رواية . أعلم أنه ذكر الغزالي في الإحياء ما يدل على أن رمى الجمار أمري تعبدي والعقل والنفس معزولان فيه كغالب أعمال الحجاج ، وهو الذي صرح به العارفون في كتبهم ، وربما يفهم منه أنه غير معقول المعنى ، وليس إلا التعبد والتشبه بإبراهيم عليه السلام فقط . قال الزبيدي متعقبا على كلام الغزالي : وهو ليس على ظاهره ، فإن رمى الجمار اعتبار لأهله في سياقه غموض ودقة ، ثم ذكره على سبيل الإجمال . من شاء الوقوف عليه
(18/74)
فليرجع إلى شرح الإحياء وقال
الشاه ولى الله الدهلوي : والسر في رمى الجمار ما ورد في نفس الحديث من أنه إنما
جعل لإقامة ذكر الله عز وجل ، وتفصيله أن أحسن أنواع توقيت الذكر وأكملها وأجمعها
لوجوه التوقيت أن يوقت بزمان وبمكان ويقام معه ما يكون حافظا لعدده محققا لوجوده
على رؤوس الأشهاد حيث لا يخفى شيء ، وذكر الله نوعان يقصد به الإعلان بانقياده
لدين الله ، والأصل فيه اختيار مجامع الناس دون الإكثار ، ومنه الرمي ، ولذلك لم
يؤمر بالإكثار هناك ، ونوع يقصد به انصباغ النفس بالتطلع للجبروت ، وفيه الإكثار ،
وأيضا ورد في الأخبار ما يقتضى أنه سنة سنها إبراهيم عليه السلام حين طرد الشيطان
، ففي حكاية مثل هذا الفعل تنبيه للنفس أي تنبيه - انتهى . قال النووي : في حديث
أن السنة للحاج إذا دفع من مزدلفة فوصل منى أن يبدأ بجمرة العقبة ولا يفعل شيئا
قبل رميها ، ويكون ذلك قبل نزوله . وأما حكم الرمي فالمشروع منه يوم النحر رمى
جمرة العقبة لا غير بإجماع المسلمين وهو نسك بإجماعهم . ومذهبنا أنه
بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة منها ، مثل حصى الخذف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/75)
واجب ليس بركن ، فإن تركه حتى فاتته أيام الرمي عصى ولزمه دم وصح حجه ، وقال مالك : يفسد حجه (بسبع حصيات ) فيه أن الرمي بسبع حصيات . قال النووي : ويجب رميها بسبع حصيات ، فلو بقيت منهن واحدة لم يكفه الست – انتهى . وعند الحنفية إذا ترك أكثر السبع لزمه دم كما لو لم يرم أصلا ، وأن ترك أقل منه كثلاث فما دونها فعليه لكل حصاة صدقة ولا يشترط الموالاة بين الرميات بل يسن ويكره تركها . قال النووي : ولا يجوز عند الشافعي والجمهور الرمي بالكحل والزرنيخ والذهب والفضة وغير ذلك مما يسمى حجرا وجوزه أبو حنيفة بكل ما كان من أجزاء الأرض أي من جنسها كالحجر والمدر والتين والمغرة ، وكل ما يجوز التيمم به ( يكبر مع كل حصاة منها ) قال النووي : فيه أنه يسن التكبير مع كل حصاة ، وفيه أنه يجب التفريق بين الحصيات فيرميهن واحدة واحدة ، فإن رمى السبعة رمية واحدة حسب ذلك كله حصاة واحدة عندنا وعند الأكثرين ، وموضع الدلالة لهذه المسألة قوله (( يكبر مع كل حصاة فهذا تصريح بأنه رمى كل حصاة وحدها مع قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي بعد هذا في أحاديث الرمي " لتأخذوا عنى مناسككم " انتهى . ( مثل حصى الخذف ) بفتح الخاء وسكون الذال المعجمتين . قال في النهاية : الخذف هو رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك وترمي بها . والمراد بيان مقدار الحصى التي يرمي بها في الصغر والكبر ، وفسروا حصى الخذف بقدر حبة الباقلاء . قال النووي : فيه أن قدر الحصيات بقدر حصى الخذف وهو نحو حبة الباقلاء ، وينبغي أن لا يكون أكبر ولا أصغر ، فإن كان أكبر أو أصغر أجزأه بشرط كونه حجرا . وقال المحب الطبري : قال عطاء بن أبي رباح حصى الخذف مثل طرف الإصبع . وقال الشافعي : هو أصغر من الأنملة طولا وعرضا ، ومنهم من قال : كقدر النواة ، ومنهم من قال : بقدر الباقلاء . وفيه تنبيه على استجاب الرمي بذلك – انتهى . وقوله (( مثل حصى الخذف )) هكذا في
(18/76)
جميع النسخ من المشكاة
والمصابيح ، وهكذا وقع عند بعض رواة مسلم وكذا رواه أبو داود والبيهقي ، ووقع في
أكثر نسخ مسلم (( يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف )) أي بغير لفظة مثل ، وكذا وقع
عند ابن الجارود وكذا نقله المحب الطبري . قال الطيبي : حصى الخذف بدل من الحصيات .
وقال النووي : هكذا هو في النسخ ، وكذا نقله القاضي عياض عن معظم النسخ . قال :
وصوابه (( مثل حصى الخذف )) قال : وكذلك رواه غير مسلم ، وكذا رواه بعض رواة مسلم
، هذا كلام القاضي . قلت : والذي في النسخ من غير لفظة مثل هو الصواب بل لا يتجه
غيره ولا يتم الكلام إلا كذلك ، ويكون قوله ( حصى الخذف )) متعلقا بحصيات ، أي
رماها بسبع حصيات حصى الخذف يكبر مع كل حصاة ، فحصى الخذف متصل بحصيات ، واعترض
بينهما (( يكبر مع كل حصاة )) وهذا هو الصواب والله أعلم – انتهى كلام النووي .
قال القاري بعد نقل كلام النووي : وعندي أن اتصال حصى الخذف بقوله مع كل حصاة أقرب
لفظا وأنسب
رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ، ثم أعطى
عليا
فنحر ما غبر ، وأشركه في هديه ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/77)
معنى ، ومع هذا الاعتراض ولا تخطئة على إحدى النسختين ، فإن تعلقه بحصاة أو حصيات لا ينافي وجود مثل لفظا أو تقديرا ، غايته أنه إذا كان موجودا فهو واضح معنى وإلا فيكون من باب التشبيه البليغ ، وهو حذف أداة التشبيه أي كحصى الخذف بل لا يظهر للتعلق غير هذا المعنى . فالروايتان صحيحتان ، وما سيأتي في الحديث عن جابر رواه الترمذي بلفظ (( وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف )) وروى مسلم عنه بلفظ (( رمى الجمرة بمثل حصى الخذف )) يرجح وجود المثل ويؤيد تقديره ، والله تعالى أعلم بالصواب ( رمى من بطن الوادي ) قال القاري : بدل من قوله (( فرماها )) أو استيناف مبين وهو الأظهر . قال النووي : فيه أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي بحيث يكون منى وعرفات والمزدلفة عن يمينه ومكة عن يساره ، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة ، وقيل يقف مستقبل الكعبة وكيفما رمى أجزأه ( ثم انصرف ) أي رجع عن جمرة العقبة ( إلى المنحر ) بفتح الميم أي موضع النحر ، قال الزرقاني : موضع معروف بمنى وكلها منحر كما في الحديث . قال ابن التين : منحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الجمرة الأولى التي تلي المسجد ، فللنحر فيه فضيلة على غيره لقوله (( هذا المنحر وكل منى منحر )) . وقال عياض : فيه دليل على أن المنحر موضع معين من منى . وحيث يذبح منها أو من الحرم أجزأه ( فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ) قال القاري: الظاهر أن لفظ المشكاة جمع بين الروايتين ، فإن الرواية الصحيحة (( ثلاثا وستين بيده )) بدون لفظة بدنة ، قال النووي : هكذا هو في النسخ ثلاثا وستين بيده ، وكذا نقله القاضي عن جميع الرواة سوى ابن ماهان ، فإنه رواه بدنة . قال : وكلاهما صواب ، الأول أصوب . قلت : وكلاهما حري فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده . وقال المحب الطبري : قوله : ((ثلاثا وستين بيده )) فيه دليل على استحباب ذبح المرء نسيكته بيده ، وعند ابن ماهان بدنة مكان بيده
(18/78)
، وكل صواب ، وبيده أصوب ،
لقوله (( ثم أعطى عليا فنحر ما غبر )) ويجوز أن يقال بدنة أصوب لأن قوله (( بيده
)) لا يفيد أن المنحور بدن أو غيرها بخلاف قوله بدنة ، وإسناد الفعل إليه يفيد أنه
فعل بنفسه من حيث الظاهر فلا حاجة إلى قوله بيده ، وذكر بعض أهل المعاني أن نحر
النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا وستين بيده إشارة إلى منتهى عمره ، ويكون قد
أهدى من كل عام بدنة – انتهى . وقال الشاه ولي الدين الدهلوي : إنما نحر بيده هذا
العدد ليشكر ما أولاه الله في كل سنة من عمره ببدنة ( ثم أعطى ) أي بقية البدن (
عليا فنحر ) أي علي ( ما غبر ) بفتح المعجمة والموحدة وبالراء أي ما بقي من المائة
( وأشركه ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا ( في هديه ) أي في نفس الهدي ،
ويحتمل أنه أشركه في نحره ، قال النووي : ظاهره أنه شاركه في نفس الهدي ، قال
القاضي عياض : وعندي أنه لم يكن تشريكا حقيقة بل أعطاه قدرا يذبحه – انتهى . وفيه
جواز الاستنابة في ذبح الهدي ، وذلك جائز بالإجماع إذا
..............................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/79)
كان النائب مسلما ، وفيه استحباب تعجيل ذبح الهدايا وإن كانت كثيرة في يوم النحر ولا يؤخر بعضها إلى أيام التشريق قاله النووي . وقد روى أبو داود عن علي لما نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنه فنحر ثلاثين بيده وأمرني فنحرت سائرها ، وفيه محمد بن إسحاق وقد عنعن ، وبه أعله المنذري . وروى أبو داود أيضا عن غرفة ( بغين معجمة مفتوحة ، وقيل مهملة وهو وهم ، وقال الخزرجي : بضم أوله وإسكان ثانيه ، وقال الفتني في المغني : بغين وراء وفاء مفتوحات ) بن الحارث الكندي : شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأتى بالبدن فقال : ادعو لي أبا حسن ، فدعي له علي ، فقال : خذ بأسفل الحربة وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعلاها ، ثم طعنا بها البدن ، فلما فرغا ركب بغلته وأردف عليا ، وجمع الولي العراقي باحتمال أنه - صلى الله عليه وسلم - انفرد بنحر ثلاثين بدنة ، وهي التي ذكرت في حديث علي ، واشترك هو وعلي في نحر ثلاث وثلاثين بدنة ، وهي المذكورة في حديث غرفة ، وقول جابر (( نحر ثلاثا وستين )) مراده كل ما له دخل في نحره إما منفردا به أو مع مشاركة علي ، وجمع الحافظ بين حديثي علي وجابر بأنه - صلى الله عليه وسلم - نحر ثلاثين ثم أمر عليا أن ينحر فنحر سبعا وثلاثين ، ثم نحر - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا وثلاثين ، قال : فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح أي مع مشاركة علي ليلئم مع حديث غرفة وإن لم يذكره . وقال عياض : الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - نحر البدن التي جاءت معه من المدينة وكانت ثلاثا وستين كما رواه الترمذي ، وأعطى عليا البدن التي جاءت معه من اليمن وهي تمام المائة . وقال الطبري بعد ذكر حديث غرفة : يجوز أن يكون هذا في غير المائة المذكورة أو يكون في الثلاث وستين منها ، وأضيف الفعل إليه - صلى الله عليه وسلم - لأن من مسك بأعلى الحربة كان هو المتمكن من النحر دون الآخر
(18/80)
والله أعلم . وقد روى أنس أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر في حجته سبع بدنات . أخرجه البخاري . وذكره ابن
حزم وقال في الجمع بين الأحاديث : يخرجوا هذا على وجوه ، أحدها ، أنه - صلى الله
عليه وسلم - لم ينحر بيده أكثر من هذه للسبع ، وأمر من نحر ما بعد ذلك إلى ثلاث
وستين بحضرته ثم غاب وأمر عليا بنحر ما بقي إما بنفسه أو بالإشراف على ذلك .
الثاني : أن يكون أنس لم يشاهد إلا نحره - صلى الله عليه وسلم - سبعا فقط بيده
وشاهد جابر تمام نحره - صلى الله عليه وسلم - الباقي فأخبر كل منهما بما رأى .
الثالث : أنه نحر بيده منفردا سبع بدن ، ثم أخذ هو وعلي الحربة فنحرا كذلك تمام
ثلاث وستين كما قال غرفة بن الحارث الكندي ، ثم انفرد علي بنحر الباقي من المائة
كما قال جابر . قال ابن القيم : فإن قيل : فكيف تصنعون بالحديث الذي رواه أحمد
وأبو داود عن علي قال : لما نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنه فنحر
ثلاثين بيده وأمرني فنحرت سائرها ؟ قلنا : هذا غلط ، انقلب على الراوي ، فإن الذي
نحر ثلاثين هو علي والنبي - صلى الله عليه وسلم - نحر سبعا بيده لم بشاهده علي ولا
جابر ، ثم نحر ثلاثا وستين أخرى فبقى من المائة ثلاثون فنحرها علي فانقلب على
الراوي عدد ما نحره علي بما نحره النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن قيل : فما
تصنعون بحديث عبد الله بن قرط ؟ قال : قرب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بدنات خمس فطفقن يزدلفن إليه بأيهن يبدأ ؟ الحديث أخرجه أبو داود وغيره ، قيل :
نقبله ونصدقه ، فإن المائة لم تقرب إليه جملة ، وإنما كانت تقرب إليه إرسالا فقرب
منهن
ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ،
ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/81)
إليه خمس بدنات رسلا ، وكان ذلك الرسل يبادرن ويتقربن إليه ليبدأ بكل واحدة منهن – انتهى . وقال الطبري بعد ذكر وجوه الجمع المذكورة عن ابن حزم : ليس في واحد من هذه الوجوه الثلاثة جمع بين الأحاديث الثلاثة ، فإن الأول والثاني يخرج منهما حديث غرفة ، والثالث يخرج منه حديث جابر ، والأولى أن يقال : نحر سبعا منفردا ، ثم تمام الثلاث والستين هو وعلي ، ونسب الفعل إليه - صلى الله عليه وسلم - لما ذكرناه ، ثم أمر عليا بنحر ما بقي من المائة ، والله أعلم ( ثم أمر من كل بدنة ) أي من المائة ( ببضعة )بفتح الباء الثانية أي بقطعة من لحمها . قال النووي : البضعة بفتح الباء لا غير وهي القطعة من اللحم . وقال الجوهري : هذه بالفتح وأخواتها بالكسر مثل القطعة والفلذة والفدرة والكسفة والخرقة ، وفي العدد تكسر وتفتح مذكرا كان أو مؤنثا ( فجعلت ) أي القطع ( في قدر ) بكسر القاف ( فأكلا من لحمها ) قال المظهري : الضمير المؤنث يعود إلى القدر لأنها مؤنث سماعي . قال الطيبي : ويحتمل أن يعود إلى الهدايا . قال النووي : قال العلماء : لما كان الأكل من كل واحدة سنة ، وفي الأكل من كل واحدة من المائة منفردة كلفة جعلت في قدر أي جمعت في قدر واحدة ليكون تناوله من مرق الجميع كالأكل من جميعها . ويأكل من اللحم المجتمع في المرق ما تيسر . وفيه استحباب الأكل من الهدي والأضحية . وأجمع العلماء على أن الأكل من الهدي والأضحية سنة ليس بواجب ، وقد استدل به على جواز الأكل من هدي المتعة والقران على القول بأنه كان متمتعا أو قارنا ، وقد تقدم أن الأصح عند المحققين من الشافعية أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا في آخره ، فيرد عليهم أنه كيف أكل من هداياه وكان فيها دم القران أيضا فلم يكن إذا كلها هدايا تطوع وأضحية ، ولا يجوز الأكل من الهدي الواجب كهدي التمتع والقران والنذر في مذهب الشافعي ؟ قال الطبري : ولا حجة في هذا الحديث عليهم
(18/82)
، إذ الواجب عليه سبع بدنة
ويكون الأكل من حصة التطوع – انتهى . ولا يخفى ما فيه من التعسف ( فأفاض إلى البيت
) أي أسرع إلى بيت الله ليطوف به طواف الإفاضة ، ويسمى أيضا طواف الزيارة وطواف
الفرض والركن . قال الطبري : الإفاضة الدفع في السير . وقال ابن عرفة : أفاض من
المكان إذا أسرع منه لمكان آخر . وقال غيره : أصل الإفاضة الصب فاستعير للدفع في
السير ، وأصله أفاض نفسه أو راحلته فرفضوا ذكر المفعول حتى أشبه غير المتعدي .
وطواف الإفاضة هو الذي يكون إثر الإفاضة من منى إلى مكة ، ويقال له أيضا طواف
الزيارة وطواف الفرض . قال النووي : طواف الإفاضة ركن من أركان الحج بإجماع
المسلمين وأول وقته عندنا من نصف ليلة النحر وأفضله بعد رمي جمرة العقبة وذبح
الهدي والحلق ، ويكون ذلك ضحوة يوم النحر . ويجوز في جميع يوم النحر بلا كراهة ،
ويكره تأخيره عنه بلا عذر ، وتأخيره عن أيام التشريق أشد كراهة ، ولا يحرم تأخيره
سنين متطاولة ولا آخر لوقته ، بل يصح ما دام الإنسان حيا وشرطه أن يكون بعد الوقوف
بعرفات ، حتى لو طاف للإفاضة بعد نصف
فصلى بمكة الظهر ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/83)
ليلة النحر قبل الوقوف ثم أسرع إلى عرفات فوقف قبل الفجر لم يصح طوافه لأنه قدمه على الوقوف – انتهى . وعند الحنفية أول وقت لطواف الإفاضة بعد طلوع الفجر يوم النحر وهو في يوم النحر الأول أفضل ، ويمتد وقته إلى آخر العمر ، فإن أخره عن أيام النحر كره تحريما ووجب لترك الواجب وهذا عند الإمكان كذا في الدر المختار . وقال المحب الطبري : قد دلت الأحاديث على استحباب وقوع طواف الإفاضة في يوم النحر وأن يكون ضحوة النهار ، وأول وقته عندنا الشافعية نصف الليل من ليلة النحر بدليل حديث أم سلمة أنها رمت الجمرة قبل الفجر ليلة النحر ثم مضت إلى مكة فأفاضت . وقال أبو حنيفة : أول وقته من طلوع الفجر ولا حد لآخر وقته عندنا ولا يجب بتأخيره عن أيام التشريق دم ، وبه قال أحمد ، وقال مالك : إن تطاول الزمان فعليه دم ، وقال مرة لا شيء عليه . وقال أبو حنيفة : إن أخره إلى اليوم الثالث من أيام التشريق وجب عليه الدم وهو خلاف قول الكافة - انتهى . قال القاري : وأكثر العلماء ومنهم أبو حنيفة لا يجوز طواف الإفاضة بنية غيره خلافا للشافعي حيث قال : لو نوى غيره كنذر أو وداع ( أو تطوع أو قدوم ) وقع الإفاضة - انتهى . واتفق العلماء على أنه لا يشرع في طواف الإفاضة رمل ولا اضطباع إذا كان قد رمل واضطبع في طواف القدوم ( فصلى بمكة الظهر ) قال النووي : فيه محذوف تقديره فأفاض فطاف بالبيت طواف الإفاضة ثم صلى الظهر ، فحذف ذكر الطواف لدلالة الكلام عليه – انتهى . واختلف أين صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر يوم النحر ؟ ففي رواية جابر هذه أنه صلى بمكة ، وكذا قالت عائشة عند أبي داود وغيره ، ولفظه عند أبي داود قال : أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه حين صلى الظهر ، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق ، الحديث وسيأتي في الفصل الثاني من باب خطبة يوم النحر ورمى أيام التشريق . وفي حديث ابن عمر في الصحيحين أنه -
(18/84)
صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم
النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى . وقد ذكره المصنف في باب الحلق فهذا تعارض فرجح ابن
حزم في كتاب حجة الوداع له قول عائشة وجابر وتبعه على ذلك جماعة بأربعة أوجه ،
أحدها : أنهما اثنان وهما أولى من الواحد وثانيها : أن عائشة أخص الناس به ولها من
القرب والاختصاص ما ليس لغيرها ، وثالثها : أن سياق جابر لحجته - صلى الله عليه
وسلم - من أولها إلى آخرها أتم سياق وهو أحفظ للقصة ، وضبطها حتى ضبط جزئيتها ،
حتى أقر منها ما لا يتعلق بالمناسك وهو نزوله في الطريق فبال عند الشعب وتوضأ
وضوءا خفيفا ، فمن ضبط هذا القدر فهو يضبط صلاة صلاته الظهر يوم النحر أولى .
ورابعها : أن حجة الوداع كانت في آذار ( وهو الشهر السادس في السنة – يونيو أو
حزيران – من الشهور الرومية الشمسية على ما قال صاحب القاموس : يستوي فيه الليل
والنهار ولا يكون النهار أطول من الليل ، أو هو الشهر الثالث – مارس – بين شباط (
فبرائر ) ونيسان ( أبريل ) من الشهور الرومية الشمسية على ما قال غيره ، ويكون في الليل
أطول
...........................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/85)
من النهار ) قد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى وخطب بها الناس ونحر بها بدنه المائة وقسمها وطبخ له من لحمها وأكل منه ورمى الجمرة وحلق رأسه وتطيب ثم أفاض وشرب من ماء زمزم ووقف عليهم وهم يسقون ، وهذه أعمال يظهر منها أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار ، ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر بأمور أربعة ، أحدها : أنه لا يحفظ عنه في حجته - صلى الله عليه وسلم - صلى أنه صلى الفرض بجوف مكة بل إنما كان يصلي بمنزله بالمسلمين مدة مقامه ، فكان يصلي بهم أين نزلوا لا يصلي في مكان آخر غير المنزل العام ، والثاني : أن حديث ابن عمر متفق عليه أي رواه الشيخان ، وحديث جابر من أفراد مسلم التي انفرد بها عن البخاري ، فحديث ابن عمر أصح ، فإن رواته أحفظ وأشهر ، ولاتفاق الشيخين عليه ، والثالث : أن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه ، فروي عنها أنه طاف نهارا ، وفي رواية لأحمد وأبي داود والترمذي عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - أخر الطواف إلى الليل ( كما سيأتي ) وفي رواية عند أبي داود عنها أنه أفاض أي طاف طواف الإفاضة من آخر يومه كما تقدم . والجمع وإن أمكن بين روايتها الثلاث بأن قولها (( إلى الليل )) أي إلى قربه بدليل قولها في الرواية الثانية من آخر يومه ، وذلك بالنهار ، وهو الرواية الأولى فلم تضبط فيه وقت الإفاضة ولا مكان الصلاة فتقدم رواية من ضبط ، والرابع : أن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع ، حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن ابن القاسم ولم يصرح بالسماع بل عنعن الحديث فلا يقدم على حديث عبد الله بن عمر ، لأن رواته ثقات حفاظ مشاهير ، وجمع النووي بين حديثي جابر وابن عمر بأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف للإفاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة أول الوقت ، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك فيكون متنفلا بالظهر الثانية التي بمنى .
(18/86)
قال : وما ورد عن عائشة وغيرها
أنه أخر الزيارة يوم النحر إلى الليل فمحمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه لا
لطواف الإفاضة ، كذا في المواهب وشرحه للزرقاني . وقد بسط ابن القيم الكلام في ذلك
في الهدي بأكثر من هذا ، من شاء فليراجعه ، تنبيه : حديث ابن عمر المذكور كما عزاه
الزرقاني إلى الصحيحين عزاه أيضا إليهما المجد ابن تيمية والجزري والمنذري والمحب
الطبري وهو وهم منهم ، فإن حديث ابن عمر هذا من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري في
صحيحه ، نعم قال في باب (( الزيارة يوم النحر )) : وقال لنا أبو نعيم : ثنا سفيان
عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه طاف طوافا واحدا ، ثم يقيل ثم يأتي منى يعني
يوم النحر . وهذا كما ترى موقوف على ابن عمر من فعله ، وليس فيه ذكر صلاة الظهر ،
ثم قال البخاري : ورفعه عبد الرزاق قال حدثنا . فعلقه ولم يذكر لفظه ، قال العيني
: وصل هذا التعليق مسلم : أنبأنا محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن عبيد الله عن نافع
عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر
بمنى ، وهكذا عزى حديث ابن عمر هذا إلى مسلم فقط الزيلعي في نصب الراية والبيهقي
في معرفة السنن والسنن الكبرى والنابلسي في ذخائر المواريث وكل ذلك دليل على أن
حديث ابن عمر من أفراد مسلم
فأتى على بني عبد المطلب يسقون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/87)
مثل حديث جابر وعلى هذا فلا يصح ترجيح حديث ابن عمر على حديث جابر بأنه اتفق عليه الشيخان وهو الوجه الثاني من وجوه ترجيح حديث ابن عمر الأربعة المذكورة ، هذا ، وقد تعقب القاري على ما جمع به النووي بين حديثي جابر وابن عمر بأنه لا يحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على القول المختلف في جوازه فيأول بأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بمكة ركعتي الطواف وقت الظهر ورجع إلى منى فصلى الظهر بأصحابه ، أو يقال : الروايتان حيث تعارضتا فقد تساقطتا فتترجح صلاته بمكة لكونها فيها أفضل ، ثم قال متعقبا على التأويل الذي أول النووي به حديث عائشة أنه أخر الزيارة إلى الليل بأنه لا دلالة على التأويل المذكور لا لفظا ولا معنى ، ولا حقيقة ولا مجازا مع الغرابة في عرض كلامه إلى أنه عاد للزيارة فالأحسن أن يقال : معناه جوز تأخير الزيارة مطلقا إلى الليل أو أمر بتأخير زيارة نسائه إلى الليل - انتهى . وأجيب أيضا عن حديث عائشة في تأخير طواف الزيارة : إلى الليل بأن أحاديث طواف الإفاضة يوم النحر نهارا أصح وأثبت فإنها مروية في الصحيحين فترجح على ما يخالفها ، وبأن تحمل الأحاديث الدالة على الطواف نهارا يوم النحر ، وحديث عائشة على الطواف في بقية أيام النحر ، وبما قال ابن حبان من أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى جمرة العقبة ونحر ثم تطيب للزيارة ثم أفاض فطاف بالبيت طواف الزيارة ثم رجع إلى منى فصلى الظهر بها والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بها ، ثم ركب إلى البيت ثانيا وطاف به طوافا آخر بالليل ، فعلى هذا ما رواه أحمد عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زار ليلا ، إما أن يكون المراد به طواف الوادع أو طواف تطوع وزيارة محضة نافلة ، وقد روى البيهقي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى ، وروى الطبراني أيضا نحوه وسيأتي مزيد الكلام في حديث عائشة في باب خطبة يوم النحر ورمي أيام
(18/88)
التشريق حيث ذكره المصنف من
رواية عائشة وابن عباس رضي الله عنهما ، وقيل أي في وجه الجمع بين حديثي جابر وابن
عمر : يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بمنى أيضا مقتديا خلف رجل من أصحابه
وقال المحب الطبري : الجمع بين الروايات كلها ممكن إذ يحتمل أن يكون صلى منفردا في
أحد الموضعين ثم مع جماعة في الآخر أو صلى بأصحابه بمنى ثم أفاض فوجد قوما لم
يصلوا فصلى بهم ، ثم لما رجع وجد قوما آخرين لم يصلوا فصلى بهم لأنه - صلى الله
عليه وسلم - لا يتقدمه أحد في الصلاة ، أو كرر الصلاة بمكة ومنى ليبين جواز
الأمرين في هذا اليوم توسعة على الأمة ، ويجوز أن يكون أذن في الصلاة في أحد
الموضعين فنسب إليه وله نظائر – انتهى . والراجح عندنا في الجمع بين حديثيهما هو
ما ذكره النووي بأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الإفاضة قبل الزوال ثم صلى
الظهر بمكة في أول وقتها ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين
سألوه ذلك فيكون متنفلا بالظهر الثانية التي بمنى ، وسيأتي شيء من الكلام في ذلك
في شرح حديث ابن عمر في باب الحلق (فأتى ) أي بعد فراغه من طواف الإفاضة ( على بني
عبد المطلب ) هم أولاد العباس وجماعته لأن سقاية الحاج كانت وظيفته ( يسقون ) أي
مر
على زمزم ، فقال : " انزعوا بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على
سقايتكم لنزعت معكم " . فناولوه دلوا فشرب منه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/89)
عليهم وهم ينزعون الماء من بئر زمزم ويسقون الناس ( على زمزم ) قال النووي : معنى قوله (( يسقون على زمزم )) أي يغرفون بالدلاء ويصبونه في الحياض ونحوها ويسبلونه للناس ، وأما (( زمزم )) فهي البئر المشهورة في المسجد الحرام بينها وبين الكعبة ثمان وثلاثون ذراعا ، قيل سميت زمزم لكثرة مائها ، يقال ماء زمزوم وزمزم وزمازم إذا كان كثيرا . وقيل لضم هاجر رضي الله عنها لمائها حين انفجرت وزمها إياه ، وقيل : لزمزمة جبريل عليه السلام وكلامه عند فجره إياها . وقيل إنها غير مشتقة ولها أسماء أخر ذكرتها في تهذيب اللغات مع نفائس أخرى تتعلق بها ، منها أن عليا رضي الله عنه قال : خير بئر في الأرض زمزم ، وشر بئر في الأرض برهوت . قلت : أخرج الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ، فيه طعام الطعم وشفاء السقم ، وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت بقية حضر موت كرجل الجراد من الهوام تصبح تتدفق وتمسي لا بلال فيها . قال الهيثمي بعد عزوه للطبراني : ورجاله ثقات ، وصححه ابن حبان . وبرهوت – بفتح الباء الموحدة والراء المهملة وضم الهاء وآخره تاء مثناة - بئر عتيقة بحضر موت لا يستطاع النزول إلى قعرها ، ويقال : (( برهوت )) بضم الباء وسكون الراء ( انزعوا ) بكسر الزاي من النزع وهو الاستقاء . قال النووي : معناه استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء ( بني عبد المطلب ) يعني العباس ومتعلقيه بحذف حرف النداء . وفي حديث ابن عباس عند الشيخين (( أتى زمزم وهم يسقون عليها فقال : اعملوا فإنكم على عمل صالح )) ( فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ) قال النووي : معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء – انتهى . وقيل : قال ذلك شفقة على أمته من الحرج
(18/90)
والمشقة ، والأول أظهر ، وفيه
بقاء هذه التكرمة لبني العباس كبقاء الحجابة لبني شيبة ( فناولوه ) أي أعطوه ( فشرب
منه ) أي من الدلو أو من الماء . وفيه دليل على استجاب الشرب للناسك من ماء زمزم
والإكثار منه . وذكر الواقدي أنه لما شرب صب على رأسه ، وذكر أبو ذر في منسكه عن
علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أفاض دعا بسجل من زمزم فتوضأ . وأخرجه
أحمد أيضا ، وقال : فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ . وأخرجه أيضا من حديث
ابن عباس وفي رواية عنده أنهم لما نزعوا الدلو غسل منه وجهه وتمضمض فيه ثم أعادوه
فيها ، وكذلك أخرجه سعيد بن منصور . قيل : ويستحب أن يشرب قائما ، واستدل لذلك بما
روى البخاري من طريق عاصم عن الشعبي أن ابن عباس حدثهم قال : سقيت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - من زمزم فشرب وهو قائم . قال عاصم : فحلف عكرمة ما كان يومئذ إلا
على بعير . وفي
رواه مسلم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/91)
الاستدلال بذلك على استحباب شرب ماء زمزم قائما نظر ، لأنه يجوز أن يكون الأمر فيه على ما حلف عليه عكرمة ، وهو أنه شرب وهو على الراحلة ، ويطلق عليه (( قائم )) ويكون ذلك مراد ابن عباس من قوله (( قائما )) فلا يكون بينه وبين النهى عن الشرب قائما تضاد ، ويجوز أن يحمل على ظاهره ويكون دليلا على إباحة الشرب قائما يعنى أنه عليه الصلاة والسلام شربه قائما لبيان الجواز . وقيل أو لعذر به في ذلك المقام من الطين أو الازدحام والله أعلم . فوائد : الأولى : أخرج أحمد وابن ماجة من حديث جابر مرفوعا : " ماء زمزم لما شرب له " . وأخرجه الدارقطني وزاد : " إن شربته تستشفي به شفاك الله ، وإن شربته ليشبعك أشبعك الله ، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله ، وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل " . وروى أبو داود الطيالسي من حديث أبي ذر مرفوعا : " إنها مباركة ، إنها طعام طعم وشفاء سقم " . وقد شربه جماعة من العلماء لمآرب فوجدوها ونالوها . الثانية : روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تحمل من ماء زمزم وتخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحمله ، وأخرجه الترمذي ، وقال : حديث حسن غريب ، والبيهقي والحاكم وصححه ، قال الشوكاني : فيه دليل على استجاب حمل ماء زمزم إلى المواطن الخارجة عن مكة . وأخرج الأزرقي عن ابن أبي حسين قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سهيل بن عمرو يستهديه من ماء زمزم فبعث إليه براويتين وجعل عليهما كرا غوطيا ، قيل الكرجنس من الثياب الغلاظ ، وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم . ذكره الهيثمي وقال : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، وفيه عبد الله بن المؤمل المخزومي وثقه ابن سعد وابن حبان وقال : يخطئ ، وضعفه جماعة . الثالثة : عن ابن عباس أنه قال : إذا شربت من ماء زمزم فاستقبل القبلة ، واذكر اسم الله تعالى ، وتنفس وتضلع منها ، فإذا فرغت
(18/92)
فاحمد الله ، فإن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال : " إن بيننا وبين الناس أي المنافقين أنهم لا
يتضلعون من زمزم " . وعن عكرمة قال : كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال :
اللهم إني أسالك علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء . أخرجهما الدارقطني وابن
ماجة . والتضلع الامتلاء حتى تمتد أضلاعه . وفي هذين الأثرين بيان آداب شرب ماء
زمزم ( رواه مسلم ) أي بطوله ، وأخرجه أيضا أبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم
وأبو داود والدارمي وابن ماجة وابن الجارود في المنتقى ( رقم 465 : 469) والبيهقي
(ج 5 : ص 7 - 9) كلهم من طريق جعفر بن محمد الصادق عن أبيه محمد بن علي بن الحسين
بن علي بن أبي طالب ، أبي جعفر الباقر ، قال : دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن
القوم حتى انتهى إلي فقلت : أنا محمد بن علي بن حسين فأهوي بيده إلى رأسي فنزع زري
الأعلى ثم زري الأسفل ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب ، فقال مرحبا بك يا
ابن أخي ، سل عم شئت فسألته وهو أعمى وحضر وقت الصلاة فقام في نساجة متلحفا بها ،
كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها ، ورداؤه إلى جنبه على المشجب ،
فصلى بنا فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال بيده فعقد
تسعا ، فقال : إن
2580 – (2) وعن عائشة ، قالت : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة
الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج ، فلما قدمنا مكة قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - : " من أهل بعمرة ولم يهد فليحلل ، ومن أحرم بعمرة
وأهدى فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/93)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج ، الحديث . وأخرج القسم الأكبر منه أبو داود الطيالسي في مسنده (رقم 1668)، وأحمد (ج 3 : ص320 - 321) وعبد بن حميد وابن أبي شيبة والبزار . وروى قطعا متفرقة منه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي والدارمي وابن ماجة ، ومالك في موطئه ، ومن طريقه محمد في موطئه ، والشافعي والطحاوي في شرح المعاني وفي مشكل الآثار ، والطبراني في الصغير ، والدارقطني في سننه ، والحاكم في المستدرك ، والبيهقي ، وأحمد في مسنده ، وابن سعد في الطبقات ، وأبو نعيم في الحلية .
(18/94)
2580- قوله ( وعن عائشة قالت : خرجنا ) أي معاشر الصحابة ( مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ) وفي مسلم (( مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع )) والذي في المشكاة موافق لما ذكره الجزري في جامع الأصول ( فمنا من أهل بعمرة ) أي مفردة ، والمعني : أحرم بها أو لبى بها مقرونة بالنية ( ومنا من أهل بحج ) أي مفرد أو مقرون بعمرة ( فلما قدمنا ) أي كلنا ( مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وفي صحيح مسلم (( حتى قدمنا مكة فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - )) وكان قدومهم مكة صبيحة الأحد رابع ذي الحجة ( من أهل بعمرة ولم يهد ) من الإهداء أي لم يكن معه هدي ( فليحلل ) بفتح الياء وكسر اللام ، أي فليخرج من الإحرام بحلق أو تقصير ( ومن أحرم بعمرة وأهدى ) أي كان معه هدي ( فليهل بالحج مع العمرة ) التي أحرم بها ، والمعنى لا يحل من عمرته بل يدخل الحج في العمرة ليكون قارنا ففيه جواز إدخال الحج على العمرة ( ثم لا يحل حتى يحل منهما ) يعني لا يخرج من الإحرام ولا يحل له شيء من المحظورات حتى يتم العمرة والحج جميعا . قال الولي العراقي في شرح رواية عروة عن عائشة عند مسلم (( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا )) . قال المالكية والشافعية : هذه الرواية دالة على أن السبب في بقاء من ساق الهدي على إحرامه حتى يحل من الحج كونه أدخل الحج على العمرة ، وأنه ليس السبب في ذلك مجرد سوق الهدي فما يقوله أبو حنيفة وأحمد ومن وافقهما إن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر وهم تمسكوا بقوله في رواية عقيل عن الزهري في الصحيحين (( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل ، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه " ... الحديث . وهي ظاهرة في الدلالة لمذهبهم ،
(18/95)
لكن تأولها أصحابنا على أن
معناها : ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه . واستدلوا على
صحة هذا التأويل برواية عروة عن عائشة المتقدمة ، وقالوا : هذا التأويل متعين ،
لأن القضية واحدة والراوي واحد فيتعين الجمع بين الروايتين – انتهى .
وفي رواية : " فلا يحل حتى يحل بنحر هديه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر نحو ذلك الزرقاني في شرح الموطأ في شرح باب دخول الحائض مكة ، وقال المحب
الطبري (ص 85) في شرح حديث ابن عمر عند الشيخين بلفظ (( فلما قدم النبي - صلى الله
عليه وسلم - مكة قال للناس : " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم عليه
حتى يقضي حجته ، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل
ثم ليهل بالحج وليهد )) الحديث . قال الطبري : قد تعلق أبو حنيفة بهذا الحديث
واستدل له على ما ذهب إليه من أن المعتمر في أشهر الحج ، المريد للحج إذا كان معه
الهدي فلا يحل من عمرته ويبقى على إحرامه حتى يحج ، ولا دلالة فيه ، إذ يكون
المراد به من جمع بين الحج والعمرة ، ويدل عليه ما سيأتي في الفصل بعده – انتهى .
يشير بذلك إلى ما روي عن عائشة قالت : وأما من ساق الهدي منهم فأدخل الحج على
عمرته ولم يحل ، أخرجه ابن حبان . وقال الشوكاني : استدل بما في البخاري من حديث
عائشة : (( من أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى ينحر )) على أن من اعتمر فساق هديا لا
يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر ، وتأول ذلك المالكية والشافعية على أن
معناه : من أحرم بعمرة فأهدى فأهل بالحج فلا يحل له حتى ينحر هديه . ولا يخفى ما
فيه من التعسف – انتهى . ( وفي رواية ) أي بدل قوله : " ثم لا يحل حتى يحل
منهما " . ( فلا يحل ) بالنفي ، ويحتمل النهي ( حتى يحل بنحر هديه ) أي يوم
النحر ، فإنه لا يجوز له نحر الهدي قبله ، وقوله (( حتى يحل بنحر هديه )) كذا في
المشكاة والمصابيح ، وفي مسلم
(18/96)
(( حتى ينحر هديه )) . وفي
جامع الأصول (( حتى يحل نحر هديه )) اعلم أن ها هنا روايتين أوردهما مسلم في صحيحه
، الأولى : رواية عقيل عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج حتى
قدمنا مكة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أحرم بعمرة ولم يهد
فليحلل ، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه ، ومن أهل بحج فليتم بحجه
" . قالت عائشة : فحضت ، إلخ . والرواية الثانية : من طريق معمر عن الزهري عن
عروة عن عائشة قالت : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع
فأهللت بعمرة ولم أكن سقت الهدي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من
كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا " . قالت :
فحضت ، إلخ . وقد ظهر بهذا ما وقع في سياق المشكاة تبعا للبغوي من الخلل . قال
الطيبي : قوله : (( ومن أحرم بعمرة وأهدى )) مع قوله (( وفي رواية حتى يحل بنحر
هديه )) دل على أن من أحرم بعمرة وأهدى لا يحل حتى يحل بنحر هديه ( وبه قال أبو
حنيفة وأحمد ) وقال مالك والشافعي : يحل إذا طاف وسعى وحلق . والرواية الأولى أعني
قوله (( فليهل بالحج مع العمرة )) دلت على أنه أمر المعتمر بأن يقرن الحج بالعمرة
فلا يحل إلا بنحر هذا الهدي فوجب حمل هذه الرواية الثانية على الأخرى ، لأن القصة
واحدة – انتهى . وقال النووي : قوله ( أي في رواية عقيل عن الزهري عن عروة ) : من
أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه . هذا الحديث ظاهر في الدلالة لمذهب أبي
حنيفة وأحمد
ومن أهل بحج فليتم حجه " . قالت : فحضت ، ولم أطف بالبيت ، ولا بين الصفا
والمروة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/97)
وموافقيهما في أن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر . ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شيء في الحال سواء كان ساق هديا أم لا . واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدي وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شيء كما لو تحلل المحرم بالحج ، وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الروايات التي ذكرها مسلم بعدها والتي ذكرها قبلها عن عائشة قالت : (( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا " )) . فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتج بها أبو حنيفة وتقديرها (( ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهلل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه )) ولا بد من هذا التأويل لأن القضية واحدة ، والراوي أي المخرج وهو عائشة واحد ، فيتعين الجمع بين الروايتين على ما ذكرناه ، والله أعلم - انتهى . وقد اتضح بهذا وبما ذكرنا قبل ذلك من كلام الولي العراقي أن السبب في بقاء المعتمر الذي ساق الهدي على إحرامه عند الشافعية والمالكية هو إدخال الحج على العمرة لا مجرد سوق الهدي ، واستدلوا لذلك برواية معمر ومن وافقه عن الزهري عن عائشة عن عروة عن عائشة ، وعند الحنفية والحنابلة مدار الحكم هو مجرد سوق الهدي ومستندهم رواية عقيل عن الزهري ، والراجح عندنا هو قول الحنابلة ومن وافقهم لتظافر الروايات الصحيحة الصريحة بذلك ، والله أعلم ( ومن أهل بحج فليتم حجه ) هذا بظاهره يقتضي أنه ما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة مع أن الصحيح الثابت برواية أربعة عشر من الصحابة هو أنه أمر لمن لم يسق الهدي بفسخ الحج وجعله عمرة فحينئذ لا بد من حمل هذا الحديث على من ساق الهدي ، والأمر بالفسخ لمن لم يسق الهدي فلا منافاة ، قاله السندي في حاشية
(18/98)
مسلم . وقد ذكرنا في شرح حديث
عائشة المتقدم في باب الإحرام والتلبية أن قوله (( من أهل بحج )) معناه أي وأهدى
فليتم حجه لئلا يخالف هذا الحديث لأحاديث فسخ الحج إلى العمرة ( قالت : فحضت ) أي
بسرف قبل دخول مكة كما صح عنها ، واتفقوا على أن ابتداء حيضها كان بسرف وذلك يوم
السبت لثلاث خلون من ذي الحجة ، واختلفوا في موضع طهرها ، وسيأتي بيان الاختلاف
فيه ( ولم أطف بالبيت ) أي للعمرة ، لأن الطهارة شرط للطواف أو واجب ، ولأن الطواف
في المسجد والحائض ممنوع من الدخول فيه ( ولا بين الصفا والمروة ) أي ولم أسع بينهما
. قال الطيبي : قوله : (( ولا بين الصفا والمروة )) عطف على المنفي قبله على تقدير
(( ولم أسع )) نحو (( علفتها تبنا وماء باردا )) ويجوز أن يقدر (( ولم أطف )) على
المجاز لما في الحديث (( وطاف بين الصفا والمروة سبعة أشواط )) وإنما ذهب إلى
التقدير دون الانسحاب لئلا يلزم استعمال اللفظ الواحد حقيقة ومجازا في حالة واحدة
- انتهى . أي لأن حقيقة الطواف الشرعي لم توجد لأنها الطواف بالبيت ، وأجيب أيضا
بأنه سمى السعي طوافا على حقيقته اللغوية ، فالطواف لغة المشي قاله الزرقاني .
وإنما لم تسع عائشة بين الصفا والمروة لأنه لا يصح السعي إلا بعد الطواف وإلا
فالحيض لا يمنع السعي .
فلم أزل حائضا حتى كان يوم عرفة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/99)
قال ابن قدامة في المغني (ج2 : ص394) : أكثر أهل العلم يرون أن لا تشترط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة . وممن قال ذلك عطاء ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي . وكان الحسن يقول : إن ذكر قبل أن يحل فليعد الطواف ، وإن ذكر بعد ما حل فلا شيء عليه . ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة حين حاضت : اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت . ولأن ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت فأشبهت الوقوف . قال أبو داود : سمعت أحمد يقول : إذا طافت المرأة بالبيت ثم حاضت سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت . وروي عن عائشة وأم سلمة أنهما قالتا : إذا طافت المرأة بالبيت وصلت ركعتين ثم حاضت فلتطف بالصفا والمروة . رواه الأثرم . والمستحب مع ذلك لمن قدر على الطهارة أن لا يسعى إلا متطهرا ، وكذلك يستحب أن يكون طاهرا في جميع مناسكه . ولا يشترط أيضا الطهارة من النجاسة والستارة للسعي ، لأنه إذا لم تشترط الطهارة من الحدث وهي آكد فغيره أولى . وقد ذكر بعض أصحابنا رواية عن أحمد : أن الطهارة في السعي كالطهارة في الطواف ، ولا يعول عليه - انتهى . قال الباجي : إن السعي إنما يكون بأثر الطواف بالبيت ، فإذا لم يمكن الحائض الطواف بالبيت لم يمكنها السعي بين الصفا والمروة ، وإن لم تكن من شرطه الطهارة ، لأنه عبادة لا تعلق لها بالبيت ولو طرأ على المرأة الحيض بعد كمال الطواف يصح سعيها - انتهى . وقال ابن قدامة : السعي تبع للطواف لا يصح إلا أن يتقدمه طواف ، فإن سعى قبله لم يصح . وبذلك قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي . وقال عطاء : يجزئه ، وعن أحمد يجزئه إن كان ناسيا ، وإن عمدا لم يجزئه سعيه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن التقديم والتأخير في حال الجهل والنسيان قال : لا حرج . ووجه الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سعى بعد طوافه وقد قال : " لتأخذوا عنى مناسككم " . فعلى هذا إن سعى بعد طوافه ثم علم أنه طاف
(18/100)
بغير طهارة لم يعتد بسعيه ذلك
– انتهى . وقال الحافظ : حكى ابن المنذر عن عطاء قولين فيمن بدأ بالسعي قبل الطواف
بالبيت ، وبالإجزاء قال بعض أهل الحديث ، واحتج بحديث أسامة بن شريك ( الآتي في
الباب الذي بعد باب الحلق ) أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : سعيت
قبل أن أطوف ؟ قال : طف ولا حرج . وقال الجمهور : لا يجزئه ، وأولوا حديث أسامة
على من سعى بعد طواف القدوم وقبل طواف الإفاضة انتهى . وقال ابن القيم : قوله ((
سعيت قبل أن أطواف )) في هذا الحديث ليس بمحفوظ ، والمحفوظ تقديم الرمي والنحر
والحلق بعضها على بعض . وفي التمهيد : اختلف العلماء فيمن قدم السعي على الطواف
فقال عطاء بن أبي رباح يجزيه ولا يعيد السعي ولا شيء عليه ، وكذلك قال الأوزاعي
وطائفة من أهل الحديث . واختلف في ذلك عن النووي فروي عنه مثل قول الأوزاعي وعطاء
وروي عنه أنه يعيد السعي . وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : لا يجزيه وعليه
أن يعيد إلا أن مالكا قال : يعيد الطواف والسعي جميعا . وقال الشافعي : يعيد السعي
وحده ليكون بعد الطواف ولا شيء عليه – انتهى مختصرا . ( فلم أزل حائضا حتى كان يوم
عرفة ) اختلف في موضع طهرها بعد الاتفاق على أنها حاضت بسرف . قال الزرقاني : وفي
ولم أهلل إلا بعمرة ، فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن أنقض رأسي وأمتشط
، وأهل بالحج ، وأترك العمرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/101)
مسلم عن مجاهد عنها أنها تطهرت بعرفة ، وعن القاسم عنها (( وطهرت صبيحة ليلة عرفة حين قدمنا منى )) وله عنه أيضا (( فخرجت في حجتي حتى نزلنا منى فتطهرت ، ثم طفنا بالبيت )) فاتفقت الروايات كلها على أنها طافت طواف الإفاضة يوم النحر ، وجمع بين رواية مجاهد والقاسم بأنه انقطع الدم عنها بعرفة وما رأت الطهر إلا بعد أن نزلت منى . وقول ابن حزم : (( حاضت يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة وطهرت يوم السبت عاشره )) إنما أخذه من روايات مسلم المذكورة – انتهى . وقال ابن القيم في الهدي : أما موضع حيضها فهو بسرف بلا ريب وموضع طهرها قد اختلف فيه فقيل بعرفة هكذا روى مجاهد عنها وروى عروة عنها أنها أظلها يوم عرفة وهي حائض ، ولا تنافي بينهما ، والحديثان صحيحان ، وقد حملهما ابن حزم على معنيين فطهر عرفة هو الاغتسال للوقوف عنده . قال : لأنها قالت : تطهرت بعرفة . والتطهر غير الطهر . قال: وقد ذكر القاسم يوم طهرها أنه يوم النحر ، وحديثه في صحيح مسلم . قال : وقد اتفق القاسم وعروة على أنها كانت يوم عرفة حائضا وهما أقرب الناس منها . وقد روى أبو داود حدثنا محمد بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عنها خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين هلال ذي الحجة ، فذكرت الحديث وفيه (( فلما كانت ليلة البطحاء طهرت عائشة )) . وهذا إسناد صحيح لكن قال ابن حزم : إنه حديث منكر مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها وهو قوله (( إنها طهرت ليلة البطحاء )) وليلة البطحاء كانت بعد يوم النحر بأربع ليال ، وهذا محال إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذا اللفظة ليست من كلام عائشة فسقط التعلق بها لأنها هي مما دون عائشة وهي أعلم بنفسها . قال : وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيب بن خالد وحماد بن زيد فلم يذكرا هذا اللفظة . قلت : يتعين تقديم حديث حماد بن زيد ومن معه على حديث حماد بن سلمة لوجوه ، أحدها : أنه أحفظ وأثبت من حماد بن
(18/102)
سلمة ، الثاني : أن حدثيهم فيه
إخبارها عن نفسها ، وحديثه فيه الإخبار عنها . الثالث : أن الزهري روى عن عروة
عنها الحديث ، وفيه (( فلم أزل حائضا حتى كان يوم عرفة )) وهذه الغاية هي التي
بينها مجاهد والقاسم عنها لكن قال عنها (( فتطهرت بعرفة )) والقاسم قال (( يوم
النحر )) انتهى كلام ابن القيم . ( ولم أهلل ) أي لم أحرم أولا ( إلا بعمرة ) هذا
نص في أن عائشة لم تحرم إلا بعمرة وأنها كانت معتمرة ابتداء ( فأمرني النبي - صلى
الله عليه وسلم - أن أنقض ) بضم القاف ( رأسي ) أي أحل ضفر شعره ( وأمتشط ) أي
أسرحه بالمشط وقيل أو بالأصابع ( وأهل بالحج ) أي أمرني أن أحرم بالحج ( وأترك
العمرة ) وفي رواية (( فقال انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة )) وفي
رواية (( أمسكي عن عمرتك )) وفي أخرى : (( ارفضي عمرتك )) . قال الحنفية : معنى
الحديث : أمرني أن أخرج من إحرام العمرة وأتركها باستباحة المحظورات من التمشيط وغيره
لعدم القدرة على الإتيان بأفعالها بسبب الحيض . واستدلوا
...............................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/103)
بذلك على أن المرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف واستمر حيضها حتى جاء يوم عرفة تركت العمرة وأهلت بالحج مفردة ، فإذا فرغت من الحج أحرمت بالعمرة قضاء ويلزمها دم لرفض العمرة . وقال الجمهور في معنى الحديث : أي أمرني أن أترك العمل للعمرة من الطواف والسعي وتقصير شعر الرأس وأرفض إتمام أفعالها ، وأمرني أن أدخل الحج على العمرة فأكون قارنة ، فليس المراد هنا بترك العمرة إسقاطها جملة أي إبطالها ، وإنما المراد ترك أفعالها وإرداف الحج عليها حتى تصير قارنة وتتدرج أفعالها في أفعال الحج . قال ابن قدامة : المتمتعة إذا حاضت قبل الطواف للعمرة لم يكن لها أن تطوف بالبيت لأنها ممنوعة من دخول المسجد ولا يمكنها أن تحل من عمرتها ما لم تطف بالبيت ، فإن خشيت فوات الحج أحرمت بالحج مع عمرتها وتصير قارنة ، وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي وكثير من أهل العلم . وقال أبو حنفية : ترفض العمرة وتهلل بالحج . قال أحمد : ما قال هذا أحد غير أبي حنفية ، وأحتج بما روى عروة عن عائشة قالت : أهللنا بعمرة – الحديث . وفيه (( فقال : انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة ، قالت : ففعلت ، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن أبي بكر التنعيم فاعتمرت معه ، فقال : هذه عمرة مكان عمرتك )) متفق عليه . وهذا يدل على أنها رفضت عمرتها وأحرمت بحج من وجوه ثلاثة ، أحدها : قوله (( دعي عمرتك )) والثاني : قوله (( وامتشطي )) والثالث قوله (( هذه عمرة مكان عمرتك )) ولنا ما روى جابر قال : أقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت – الحديث . وفيه قال : (( فاغتسلي ثم أهلي بالحج )) . ففعلت ووقفت المواقف كلها ثم قال : (( قد حللت من حجك وعمرتك )) . وروى طاوس عن عائشة أنها قالت : أهللت بعمرة فقدمت ولم أطف حتى حضت ، ونسكت المناسك كلها وقد أهللت بالحج ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم
(18/104)
النفر : يسعك طوافك لحجك
وعمرتك . رواهما مسلم . وهما يدلان على ما يدلان على ما ذكرنا جميعه ، ولأن إدخال
الحج على العمرة جائز بالإجماع من غير خشية الفوات فمع خشية الفوات أولى . قال ابن
المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لمن أهل بعمرة أن يدخل عليها الحج
ما لم يفتتح الطواف بالبيت ، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان معه هدي
في حجة الوداع أن يهل بالحج مع العمرة ومع إمكان الحج مع بقاء العمرة لا يجوز
رفضها لقول الله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? (2 : 196) ولأنها متمكنة من
إتمام عمرتها بلا ضرر فلم يجز رفضها كغير الحائض . ثم أجاب ابن قدامة عن رواية
عروة بأن قوله (( انقضي رأسك وامتشطي ودعي العمرة )) قد انفرد به عروة وخالف به
سائر من روى عن عائشة حين حاضت ، وقد روى طاوس والقاسم والأسود وعمرة عن عائشة ولم
يذكروا ذلك . وحديث جابر وطاوس مخالفان لهذه الزيادة ولا يخفى ما في هذا الجواب من
التعسف . ثم قال ابن قدامة : ويحتمل أن قوله (( دعي العمرة )) أي دعيها بحالها
وأهلي بالحج معها ، أو دعي أفعال العمرة فإنها تدخل في أفعال الحج – انتهى . وقال
الخطابي : استشكل بعض أهل العلم أمره لها بنقض رأسها ثم
............................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/105)
بالامتشاط . وكان الشافعي يتأوله على أنه أمرها أن تدع العمل للعمرة وتدخل عليها الحج فتصير قارنة ، قال : وهذا لا يشاكل القصة . وقيل : إن مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى الجمرة . قال : وهذا لا يعلم وجهه . وقيل : كانت مضطرة إلى ذلك . قال : ويحتمل أن يكون نقض رأسها كان لأجل الغسل لنهل بالحج لا سيما أن كانت ملبدة فتحتاج إلى نقض الضفر ، وأما الامشاط فلعل المراد به تسريحها شعرها بأصابعها برفق حتى لا يسقط منه شيء ثم تضفره كما كان ذكره الحافظ . وقال ابن القيم بعد ذكر مسلك الجمهور وتقويته : أما قوله (( وانقضي رأسك وامشطي )) . فهذا مما أعضل على الناس ولهم فيها أربعة مسالك ، أحدها : أنه دليل على رفض العمرة كما قالت الحنفية . المسلك الثاني : أنه دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه ، ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه من ذلك ولا تحريمه ، وهذا قول ابن حزم وغيره . المسلك الثالث : تعليل هذه اللفظة وردها بأن عروة انفرد بها وخالف بها سائر الرواة ، وقد روى حديثها طاوس والقاسم والأسود وغيرهم فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة . المسلك الرابع : أن قوله (( دعي العمرة )) . أي دعيها بحالها لا تخرجي منها ، وليس المراد تركها . قالوا : ويدل عليه وجهان ، أحدهما : قوله (( يسعك طوافك لحجك وعمرتك )) الثاني : قوله : (( كوني في عمرتك )) . قالوا : وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض- انتهى . وقال الزرقاني : وأجاب جماعة منهم الشافعي باحتمال أن معنى (( دعي عمرتك )) اتركي التحلل منها وأدخلي عليها الحج فتصير قارنة ، ويؤيده قوله في رواية مسلم (( وأمسكي عن العمرة )) أي عن أعمالها ، وإنما قالت : (( وأرجع بحجة )) . لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين . قال الحافظ : واستبعد هذا التأويل لقولها في رواية عطاء عنها (( وأرجع أنا بحجة ليس معها
(18/106)
عمرة )) أخرجه أحمد . وهذا
يقوي قول الكوفيين أن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة ، لكن في رواية عطاء عنها ضعف
. وأجاب الحنفية عن ذلك بأن ضعف رواية عطاء منجبر برواية البخاري : (( يصدرون
بنسكين وأصدر بنسك )) وفي رواية (( قالت : يا رسول الله اعتمرتم ولم اعتمر )) .
قال الحافظ : والرافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر : (( أن عائشة
أهلت بعمرة حتى إذا كانت بسرف حاضت فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : أهلي
بالحج حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت فقال : قد حللت من حجك وعمرتك )) . ولمسلم
من طريق طاوس عنها (( فقال - صلى الله عليه وسلم - : طوافك يسعك لحجك وعمرتك )) .
فهذا صريح في أنها كانت قارنة . قال الزرقاني : وتعقب بأن قوله (( انقضى رأسك
وامتشطي )) ظاهر في إبطال العمرة ، لأن المحرم لا يفعل مثل ذلك لتأديته إلى نتف
الشعر ، وأجيب بجوازهما للمحرم حيث لا يؤدي إلى نتف الشعر مع الكراهة بغير عذر أو
كان ذلك لأذى برأسها فأباح لها ذلك كما أباح لكعب بن عجرة الحلاق لأذى برأسه ، أو
نقض رأسها لأجل الغسل لتهل بالحج ولا سيما إن كانت تلبدت فتحتاج إلى نقض الضفر ،
ولعل المراد بالامتشاط تسريح شعرها بأصابعها برفق حتى لا يسقط منه شيء ثم تضفره
كما كان ، أو أعادت
ففعلت ، حتى قضيت حجي بعث معي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/107)
الشكوى بعد رمي جمرة العقبة فأباح لها الامتشاط حينئذ . قال المازري : هو تعسف بعيد من لفظ الحديث ، أو كان مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى الجمرة . قال الخطابي : وهذا لا يعلم وجهه – انتهى . وقال ابن دقيق العيد قي شرح العمدة : لما حمل أصحاب الشافعي ومالك أمره عليه السلام بترك العمرة على ترك المضي في أعمالها لا على رفضها بالخروج منها وأنها أهلت بالحج مع بقاء العمرة وكانت قارنة اقتضى ذلك أن يكون قد حصل لها عمرة ، وأشكل حينئذ قولها (( ينطلقون بحج وعمرة ، وأنطلق بحج )) إذ هي أيضا قد حصل لها حج وعمرة لما تقرر من كونها صارت قارنة فاحتاجوا إلى تأويل هذا اللفظ فأولوا قولها (( ينطلقون بحج وعمرة ، وأنطلق بحج )) على أن المراد ينطلقون بحج مفرد عن عمرة وعمرة مفردة عن حج وأنطلق بحج غير مفرد عن عمرة ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة ليحصل لها قصدها في عمرة مفردة عن حج ، هذا حاصل ما قيل في هذا مع أن الظاهر خلافه بالنسبة إلى هذا الحديث ، لكن الجمع بين الروايات ألجأهم إلى مثل هذا - انتهى . وإنما أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة وقد وقع في رواية لمسلم من حديث جابر وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه ، وأما ما قاله - صلى الله عليه وسلم - لها بعد ما اعتمرت من التنعيم فقال : هذه مكان عمرتك ، فمعناه العمرة المنفردة التي حصل لغيرها التحلل منها بمكة ثم أنشأوا الحج منفردا - فعلى هذا فقد حصل لعائشة عمرتان . قال النووي : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( يسعك طوافك لحجك وعمرتك )) . تصريح بأن عمرتها باقية صحيحة مجزية وأنها لم تلغها ولم تخرج منها ، فيتعين تأويل (( ارفضي عمرتك )) . و(( دعي عمرتك )) على ما ذكرناه من رفض العمل فيها وإتمام أفعالها والله أعلم . وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -
(18/108)
في الرواية الأخرى لما مضت مع
أخيها عبد الرحمن ليعمرها من التنعيم (( هذه مكان عمرتك )) فمعناه أنها أرادت أن
يكون لها عمرة منفردة عن الحج كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابة
الذين فسخوا الحج إلى العمرة وأتموا العمرة وتحللوا منها قبل يوم التروية ، ثم
أحرموا بالحج من مكة يوم التروية ، فحصل لهم عمرة منفردة وحجة منفردة ، وأما عائشة
فإنما حصل لها عمرة مندرجة في حجة بالقران ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم
- يوم النفر : (( يسعك طوافك لحجك وعمرتك )) أي وقد تما وحسبا لك جميعا فأبت
وأرادت عمرة منفردة كما حصل لباقي الناس ، فلما اعتمرت عمرة منفردة قال لها النبي
- صلى الله عليه وسلم - : هذه مكان عمرتك ، أي التي كنت تريدين حصولها منفردة غير
مندرجة فمنعك الحيض من ذلك ، وهكذا يقال في قولها : (( يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع
بحج )) أي يرجعون بحج منفرد وعمرة منفردة وأرجع أنا وليس لي عمرة منفردة ، وإنما
حرصت على ذلك لتكثير أفعالها - انتهى . ( ففعلت ) بسكون اللام على صيغة المتكلم ،
أي ما أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - من النقض والامتشاط وترك العمرة
والإهلال بالحج ( حتى قضيت حجي ) أي أديته وأتممته فالقضاء بمعنى الأداء ( بعث معي
) قيل جملة استئنافية ذكره الطيبي . وفي مسلم (( قالت : ففعلت ذلك حتى إذا قضيت
حجي بعث )) إلخ . وكان إرسالها مع أخيها عبد الرحمن ليلة البطحاء أو الحصبة
عبد الرحمن بن أبي بكر ، وأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/109)
وهي ليلة الأربعاء رابع عشرة
ذي الحجة ( عبد الرحمن بن أبي بكر ) الصديق القرشي التيمي يكنى أبا عبد الله ،
وقيل بل يكنى أبا محمد ، وقيل أبا عثمان ، أمه أم رومان والدة عائشة فهو شقيقها ،
وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة ، وقيل عبد العزى ، فغيره النبي - صلى الله عليه
وسلم - ، وتأخر إسلامه إلى أيام الهدنة ، فأسلم وحسن إسلامه . وقيل : إنما أسلم
يوم الفتح هو ومعاوية في وقت واحد . ويقال : إنه شهد بدرا مع المشركين ودعا إلى
البراز فقام إليه أبوه ليبارزه فذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له :
متعنا بنفسك ، ثم أسلم وحسن إسلامه ، وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هدنة
الحديبية ، وكان أسن ولد أبي بكر . قال الزبير بن بكار : كان رجلا صالحا وكانت فيه
دعابة . وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب في حديث ذكره أن عبد
الرحمن بن أبي بكر لم يجرب عليه كذبة قط . وقال ابن عبد البر : كان من أشجع رجال
قريش وأرماهم بسهم ، وحضر اليمامة مع خالد بن الوليد فقتل سبعة من كبارهم منهم
محكم اليمامة ابن طفيل ، رماه بسهم في نحره فقتله . وأخرج الزبير عن عبد الله بن
نافع قال : خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد فكلمه الحسين بن علي وابن الزبير
وعبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال له عبد الرحمن : أهرقلية كلما مات قيصر كان قيصر
مكانه ؟ لا نفعل والله أبدا . وبعث إليه معاوية بعد ذلك بمائة ألف درهم فردها ؛
وقال : لا أبيع ديني بدنياي . وخرج إلى مكة فمات بها قبل أن تتم البيعة ليزيد ،
وكان موته فجأة من نومة نامها بمكان على عشرة أميال من مكة . وقيل : توفي بحبشى ،
وهو على اثني عشر ميلا من مكة فحمل إلى مكة فدفن بها . ولما بلغ عائشة خبره خرجت
حاجة فوقفت على قبره وأنشدت أبيات متمم بن نويرة في أخيه مالك :
-
-
وكنا كندماني جذيمة حقبة _ -
-
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا ( -
- -
- -
(18/110)
فلما تفرقنا كأني ومالكا _ -
-
بطول اجتماع لم نبت ليلة معا ( -
-
ثم قالت : لو حضرتك دفنتك حيث مت . روى عبد الرحمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم
- أحاديث منها في الصحيح ، وعن أبيه وروى عنه ابنه عبد الله وحفصة وابن أخيه
القاسم بن محمد وغيرهم . قال الخزرجي : له ثمانية أحاديث اتفقا على ثلاثة ، مات
سنة ثلاث وخمسين ، قاله ابن سعد . وقيل بعد ذلك ( وأمرني أن أعتمر مكان عمرتي ) أي
بدلها ، نصب على المصدر . قاله ابن الملك . أي عمرتي التي تركتها ( من التنعيم )
متعلق بأعتمر ، وزاد في رواية عند الشيخين وغيرهما . (( فاعتمرت فقال : هذه ( أي
العمرة ) مكان عمرتك )) . قال الزرقاني : بالرفع على الخبرية وبالنصب على الظرفية
وعامله محذوف ، وهو الخبر أي كائنة أو مجعولة مكان عمرتك . قال عياض : والرفع أوجه
عندي إذ لم يرد به الظرف ، إنما أراد عوض عمرتك . فمن قال : كانت قارنة ، قال :
مكان عمرتك التي أردت أن تأتي بها مفردة ، وحينئذ فتكون عمرتها من التنعيم تطوعا
لا عن فرض لكنه أراد تطييب نفسها بذلك . ومن قال : كانت مفردة قال : مكان عمرتك
التي فسخت الحج إليها . ولم
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/111)
تتمكني من الإتيان بها للحيض . وقال السهيلي : الوجه النصب على الظرف لأن العمرة ليست بمكان لعمرة أخرى لكن إن جعلت مكان بمعنى عوض أو بدل مجازا أي هذه بدل عمرتك جاز الرفع حينئذ – انتهى . والتنعيم تفعيل بفتح المثناة الفوقية وسكون النون وكسر العين المهملة ، موضع على ثلاثة أميال أو أربعة من مكة أقرب الحل إلى البيت ، سمي به لأن على يمينه جبل نعيم ( بضم النون ) ، وعلى يساره جبل ناعم ، والوادي اسمه نعمان ( بفتح النون ) قاله في القاموس . قال المحب الطبري : هو أمام أدنى الحل وليس بطرف الحل ، ومن فسره بذلك فقد تجوز وأطلق اسم الشيء على ما قرب منه ، ذكره القسطلاني . وقال الحافظ : مكان خارج مكة على أربعة أميال منها إلى جهة المدينة كما نقله الفاكهي . وقال المحب الطبري : التنعيم أبعد من أدنى الحل إلى مكة بقليل وليس بطرف الحل بل بينهما نحو ميل ، ومن أطلق عليه طرف الحل فهو تجوز . قال الحافظ : وأراد بالنسبة إلى بقية الجهات . واختلف في موضع إحرام عائشة فروى الأزرقي عن ابن جريج قال : رأيت عطاء يصف الموضع الذي أحرمت منه عائشة فأشار إلى الموضع الذي وراء الأكمة وهو المسجد الخرب ( بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء المهملة ) . ونقل الفاكهي عن ابن جريج وغيره أن ثم مسجدين يزعم أهل مكة أن الخرب الأدنى من الحرم هو الذي أحرمت منه عائشة ، وقيل : هو المسجد الأبعد عن الأكمة الحمراء ، ورجحه المحب الطبري (ص 576) وقال الفاكهي : لا أعلم ذلك إلا أني سمعت ابن أبي عمير يذكر عن أشياخه أن الأول هو الصحيح عندهم . والحديث يدل على أن إعمارها من التنعيم كان بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصرح منه ما أخرجه أبو داود من طريق حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا عبد الرحمن أردف أختك عائشة فأعمرها من التنعيم – الحديث . ونحوه رواية الأسود عن عائشة عند البخاري قال : ((
(18/112)
فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم ))
. وفي رواية عن الأسود والقاسم جميعا عنها بلفظ (( فاخرجي إلى التنعيم )) وهو صريح
بأن ذلك كان عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكل ذلك يفسر قوله في رواية
القاسم عنها بلفظ (( اخرج بأختك من الحرم )) ، وأما ما رواه أحمد من طريق ابن أبي
مليكة عنها في هذا الحديث (( قال : ثم أرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر فقال :
احملها خلفك حتى تخرج من الحرم ، فوالله ما قال : فتخرجها إلى الجعرانة ولا إلى
التنعيم )) فهي رواية ضعيفة لضعف أبي عامر الخراز الراوي له عن ابن أبي مليكة ،
ويحتمل أن يكون قوله (( فوالله )) إلخ من كلام من دون عائشة ، قاله متمسكا لإطلاق
قوله (( فأخرجها من الحرم )) لكن الروايات المقيدة بالتنعيم مقدمة على المطلقة فهو
أولى ولا سيما مع صحة أسانيدها ، كذا في الفتح ، وعقد البخاري في صحيحه لحديث عبد
الرحمن بن أبي بكر في أمره - صلى الله عليه وسلم - إياه إعمارها من التنعيم (( باب
عمرة التنعيم )) . قال الحافظ : يعني هل تتعين لمن كان بمكة أم لا ؟ وإذا لم تتعين
هل لها فضل على الاعتمار من غيرها من جهات الحل أو لا ؟ قال صاحب الهدي : لم ينقل
أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر مدة إقامته بمكة قبل الهجرة ولا اعتمر بعد
الهجرة إلا داخلا إلى مكة ، ولم يعتمر قط خارجا من مكة إلى
قالت : فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ،
ثم طافوا طوافا بعد أن رجعوا من منى ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/113)
الحل ثم يدخل مكة بعمرة كما يفعل الناس اليوم ، ولا ثبت عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك في حياته إلا عائشة وحدها . قال الحافظ : وبعد أن فعلته عائشة بأمره دل على مشروعيته . واختلف السلف في جواز الاعتمار في السنة أكثر من مرة فكرهه مالك وخالفه مطرف وطائفة من أتباعه وهو قول الجمهور . واستثنى أبو حنيفة يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق ، ووافقه أبو يوسف إلا في يوم عرفة ، واستثنى الشافعي البائت بمنى لرمي أيام التشريق ، وفيه وجه اختاره بعض الشافعية فقال بالجواز مطلقا كقول الجمهور . والله أعلم . وقد تقدم شيء من الكلام في ذلك في شرح حديث أبي هريرة (( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما )) . قال الحافظ : واختلفوا أيضا هل يتعين التنعيم لمن اعتمر من مكة ، وتقدم الكلام فيه أيضا في شرح حديث ابن عباس في المواقيت . قال الحافظ : واستدل بحديث عبد الرحمن بن أبي بكر في إعمار عائشة من التنعيم على تعين الخروج إلى الحل لمن أراد العمرة ممن كان بمكة ، وهو أحد قولي العلماء . والثاني : تصح العمرة ويجب عليه دم لترك الميقات . وليس في حديث الباب ما يدفع ذلك . واستدل به أيضا على أن أفضل جهات الحل التنعيم . وتعقب بأن إحرام عائشة من التنعيم إنما وقع لكونه أقرب جهة الحل إلى الحرم لا لأنه الأفضل . وقال في باب (( أجر العمرة على قدر التعب )) بعد ذكر ما روى الدارقطني والحاكم من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها في عمرتها : (( إنما أجرك في عمرتك على قدر نفقتك )) . استدل به على أن الاعتمار لمن كان بمكة من جهة الحل القريبة أقل أجرا من الاعتمار من جهة الحل البعيدة ، وهو ظاهر هذا الحديث . وقال الشافعي في الإملاء : أفضل بقاع الحل للاعتمار الجعرانة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم منها ، ثم التنعيم لأنه أذن لعائشة منها . قال : وإذا تنحى عن هذين الموضعين فأين أبعد حتى يكون أكثر لسفره كان أحب إلي
(18/114)
. وحكى الموفق في المغني عن
أحمد : أن المكي كلما تباعد في العمرة كان أعظم لأجره . وقال الحنفية : أفضل بقاع
الحل للاعتمار التنعيم ، ووافقهم بعض الشافعية والحنابلة . ووجهه ما قدمناه أنه لم
ينقل أن أحدا من الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من مكة إلى الحل
ليحرم بالعمرة غير عائشة ، وأما اعتماره - صلى الله عليه وسلم - من الجعرانة فكان
حين رجع من الطائف مجتازا إلى المدينة . ولكن لا يلزم من ذلك تعين التنعيم للفضل
لما دل عليه هذا الخبر أن الفضل في زيادة التعب والنفقة ، وإنما يكون التنعيم أفضل
من جهة أخرى تساويه إلى الحل من جهة أبعد منه – انتهى . ( فطاف ) أي طواف العمرة (
الذين كانوا أهلوا بالعمرة ) وحدها يعني الذين أفردوا العمرة عن الحج ( بالبيت )
متعلق بطاف أي عند دخولهم مكة ( وبين الصفا والمروة ) أي وسعوا بينهما . وقال
القاري : الطواف يراد به الدور الذي يشمل السعي فصح العطف ولم يحتج إلى تقدير عامل
وجعله نظير (( علفتها تبنا وماء باردا )) ( ثم حلوا ) أي خرجوا من العمرة بالحلق
أو التقصير ثم أحرموا بالحج من مكة ( ثم طافوا طوافا ) أي للحج يوم النحر ، وهو
طواف الإفاضة ( بعد أن رجعوا من منى ) أي إلى
.............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/115)
مكة ، وقد سقط عنهم طواف القدوم إجماعا لأنهم صاروا في حكم أهل مكة ، والمكي لا طواف عليه للقدوم إلا ما حكي عن الإمام أحمد : أن المتمتع يطوف يوم النحر أولا للقدوم ثم يطوف طوافا آخر للحج . قال الخرقي : إن كان متمتعا فيطوف بالبيت سبعا وبالصفا والمروة سبعا كما فعل بالعمرة ثم يعود فيطوف طوافا ينوي به الزيارة . قال ابن قدامة : أما الطواف الأول الذي ذكره الخرقي ها هنا فهو طواف القدوم ، لأن المتمتع لم يأت به قبل ذلك والطواف الذي طافه في العمرة كان طوافها . ونص أحمد على أنه مسنون للمتمتع في رواية الأثرم ، قال : قلت لأبي عبد الله رحمه الله : فإذا رجع أعني المتمتع كم يطوف ويسعى ؟ قال : يطوف ويسعى لحجه ويطوف طوافا آخر للزيارة ، عاودناه في هذا غير مرة فثبت عليه . وكذلك الحكم في القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر ولا طافا للقدوم فإنهما يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة نص عليه أحمد أيضا ، واحتج بما روت عائشة قالت : فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا فطافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم . وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا ، فحمل أحمد قول عائشة على أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم ، ولأنه قد ثبت أن طواف القدوم مشروع ، فلم يكن تعين طواف الزيارة مسقطا له كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبس بصلاة الفرض ولم أعلم أحدا وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي ، بل المشروع طواف واحد للزيارة كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد ، ولأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع ولا أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا ، وحديث عائشة دليل على هذا فإنها قالت : طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم ، وهذا هو طواف الزيارة ، ولم تذكر طوافا
(18/116)
آخر ، ولو كان هذا الذي ذكرته
طواف القدوم لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج لا يتم الحج إلا به
، وذكر ما يستغنى عنه ، وعلى كل حال فما ذكرت إلا طوافا واحدا ، فمن أين يستدل به
على طوافين ؟ وأيضا فإنها لما حاضت قرنت الحج إلى العمرة بأمر من النبي - صلى الله
عليه وسلم - ولم تكن طافت للقدوم ولا أمرها به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد
ذكر الخرقي في موضع آخر في المرأة إذا حاضت فخشيت فوات الحج : أهلت بالحج وكانت
قارنة ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم ، ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف
الواجب لشرع في حق المعتمر طواف للقدوم مع طواف العمرة ، لأنه أول قدوم إلى البيت
فهو به أولى من المتمتع الذي يعود إلى البيت بعد رويته وطوافه به ، وفي الجملة إن
هذا الطواف المختلف فيه ليس بواجب ، وإنما الواجب طواف واحد وهو طواف الزيارة ،
وهو في حق المتمتع كهو في حق القارن والمفرد في أنه ركن للحج لا يتم إلا به –
انتهى كلام ابن قدامة . واختار الشيخ تقي الدين ابن تيمية ما رجحه ابن قدامة وصححه
الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب . قال ابن القيم بعد ما حكى كلام ابن قدامة
المتقدم : لم يرفع كلام أبي محمد يعني ابن قدامة الإشكال ، وإن كان
وأما الذين جمعوا الحج والعمرة ، فإنما طافوا طوافا واحدا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/117)
الذي أنكره أي من تكرار الطواف يوم النحر بعد الوقوف للمتمتع هو الحق كما أنكره ، والصواب في إنكاره فإن أحدا لم يقل إن الصحابة لما رجعوا من عرفة طافوا للقدوم وسعوا ثم طافوا للإفاضة بعده ولا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هذا لم يقع قطعا ولكن كان منشأ الإشكال أن أم المؤمنين فرقت بين المتمتع والقارن فأخبرت أن القارنين طافوا طوافا واحدا وأن الذين أهلوا بالعمرة طافوا طوافا أخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم ، وهذا غير طواف الزيارة قطعا فإنه يشترك فيه القارن والمتمتع فلا فرق بينهما فيه ، ولكن الشيخ أبو محمد لما رأى قولها في المتمتعين (( أنهم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى )) قال : ليس في هذا ما يدل على أنهم طافوا طوافين ، والذي قاله حق ولكن لم يرفع الإشكال ، فقالت طائفة : هذه الزيادة من كلام عروة أو ابنه هشام : أدرجت في الحديث وهذا لا يتبن ، ولو كان فغايته أنه مرسل ولم يرتفع الإشكال عنه بالإرسال ، فالصواب أن الطواف الذي أخبرت به عائشة وفرقت به بين المتمتع والقارن هو الطواف بين الصفا والمروة ، لا الطواف بالبيت ، وزال الإشكال جملة فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما لم يضيفوا إليه طوافا آخر يوم النحر ، وهذا هو الحق . وأخبرت عن المتمتعين أنهم طافوا بينهما طوافا آخر بعد الرجوع من منى للحج ، وذلك الأول كان للعمرة ، وهذا هو قول الجمهور – انتهى . ( وأما الذين جمعوا الحج والعمرة ) أي ابتداء أو إدخالا لأحدهما في الآخر . وفي رواية (( وأما الذين كانوا أهلوا بالحج ( أي مفردا ) أو جمعوا الحج والعمرة )) ( أي قارنوا ) ( فإنما طافوا طوافا واحدا ) أي بعد الوقوف بعرفة يوم النحر للحج والعمرة جميعا . قال الزرقاني : لأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد ، لأن أفعال العمرة تندرج في أفعال الحج ، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور ، وقال الحنفية : لا بد للقارن من طوافيين
(18/118)
وسعيين – انتهى . وقال العيني
: في الحديث – يعني حديث عائشة - حجة لمن قال الطواف الواحد والسعي الواحد يكفيان
للقارن وهو مذهب عطاء والحسن وطاوس ، وبه قال مالك وأحمد والشافعي وإسحاق وأبو ثور
وداود إلى آخر ما قال . قلت : هكذا صرح غير واحد من شراح الحديث من أتباع الأئمة
الأربعة وغيرهم بأن الحديث حجة للأئمة الثلاثة في وحدة الطواف للقارن خلافا
للحنفية القائلين بالطوافين له ، قيل : والحديث بظاهره مشكل على الجميع لأنه يدل
على اكتفائهم بطواف واحد ، وقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أنهم طافوا ثلاثة أطوفة :
الأول طواف القدوم ، والثاني طواف الإفاضة ، والثالث طواف الوداع ، ولذلك اتفق
الجميع على أن القارن يطوف ثلاثة أطوفة ، طواف القدوم والركن والوداع ، وزادت
الحنفية على ذلك طواف العمرة فصارت أربعة . قال ابن قدامة : الأطوفة المشروعة في
الحج ثلاثة : طواف الزيارة ، وهو ركن الحج ، لا يتم إلا به بغير خلاف ، وطواف
..............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/119)
القدوم ، وهو سنة لا شيء على تاركه ، وطواف الوداع ، واجب ينوب عنه الدم إذا تركه ، وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري . وقال مالك : على تارك طواف القدوم دم ، ولا شيء على تارك طواف الوداع ، وحكي عن الشافعي كقولنا في طواف الوداع ، وكقوله في طواف القدوم – انتهى . وعد النووي في مناسكه طواف القدوم من السنن والوداع من الواجبات . وصرح الدردير بوجوب طواف القدوم ، وصرح أتباع الأئمة الثلاثة في فروعهم أن القارن حكمه حكم المفرد خلافا للحنفية ، فالقارن عند أتباع الثلاثة يطوف ثلاثة أطوفة كالمفرد ، الأول طواف القدوم ، والثاني طواف الإفاضة يوم النحر ، لكنه عندهم للحج والعمرة كليهما فإنه دخل عمل العمرة في عمل الحج ، والثالث طواف الصدر ، وأما الحنفية فزادوا على ذلك طواف العمرة وقالوا : طواف الإفاضة هو للحج فقط فصارت أطوفة القارن عندهم أربعة . قال في الهداية في بيان القارن : إذا دخل مكة ابتدأ فطاف بالبيت سبعة أشواط ، يرمل في الثلاث الأول منها ويسعى بعدها بين الصفا والمروة ، وهذه أفعال العمرة ثم يبدأ بأفعال الحج فيطوف طواف القدوم ويسعى بعده كما بينا في المفرد – انتهى . وقيل الأطوفة للقارن عند الحنفية أيضا ثلاثة كالمفرد لكن الطواف الأول يوم الورود واللقاء هو للعمرة وتداخل فيه طواف القدوم ، والطواف الثاني أي يوم النحر هو للحج فقط . قال الشيخ محمد أنور الكشميري الحنفي : ويمكن أن يقال : إن الطواف الأول يوم القدوم كان للعمرة وتداخل فيه طواف القدوم . وقال الشيخ ثناء الله الفاني فتى في تفسيره : قلت : وذلك الطواف والسعي كان لعمرته وكفاه عن طواف القدوم لحجه – انتهى . ولكن ظاهر حديث عائشة مخالفا للأحاديث الدالة على تعدد الطواف للمفرد والقارن احتاج الجميع إلى توجيهه وتأويله فقال السندي في حاشيته على البخاري : ظاهر الحديث أنهم إنما اقتصروا من الطوافين الذين طافهما السابقون على أحدهما إما الأول وإما
(18/120)
الثاني ، وليس الأمر كذلك بل
هم أيضا طافوا الطوافين الأول والثاني جميعا ، ذلك مما لا خلاف فيه ، وقد جاء
صريحا عن ابن عمر ، ففي صحيح مسلم عنه " وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، إلى أن قال : " وطاف رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - حين قدم مكة ، إلى أن قال : ونحر هديه يوم النحر وأفاض وطاف بالبيت
وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهدى وساق الهدي من الناس .
ثم ذكر عن عائشة أنها أخبرت بمثل ذلك ، وسيجيء هذا الحديث في البخاري أيضا في باب
سوق البدن ، فالمراد كما سبق أنهم طافوا للركن طوافا واحدا والسابقون طافوا للركن
طوافين ، وقال أيضا : قوله (( وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا
واحدا )) أي ما طافوا طواف الفرض إلا طوافا واحدا هو طواف الإفاضة ، والذي طافوا
أولا كان طواف القدوم الذي هو من السنن لا من الفرائض بخلاف الذين حلوا فإنهم
طافوا أولا فرض العمرة ثم فرض الحج فطافوا طوافين للفرض ، ولم يرد أن الذين جمعوا
ما طافوا أولا حين القدوم أو ما طافوا آخرا بعد الرجوع من منى كما يفيده ظاهر
الكلام
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/121)
كيف والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان من الذين جمعوا على التحقيق وعلى مقتضى هذا الحديث ، لأنه كان معه الهدي ألبتة ، وقد ثبت أنه طاف أولا حين قدم وطاف ثانيا طواف الإفاضة حين رجع من منى ، بل لعله ما ثبت أن أحدا ترك الطواف عند القدوم ولا طواف الإفاضة ، فلا فرق بين الطائفتين إلا بصفة الافتراض ، فطواف من حل كان مرتين فرضا وطواف من لم يحل كان مرة فرضا ، والله تعالى أعلم ، والحاصل أن إحدى الطائفتين طافوا طوافين للنسكين والثانية طافوا لهما واحدا – انتهى . وقال الباجي : قولهما (( أما الذين أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا )) تريد - والله أعلم – أحد وجهين : أما أنهم لم يطوفوا غير طواف واحد للورود وطواف واحد للإفاضة إن كانوا قرنوا قبل دخول مكة ، وإن كانوا أردفوا فلم يطوفوا غير طواف واحد وهو طواف الإفاضة ، ويحتمل أن يريد بذلك أنهم سعوا لهما سعيا واحدا والسعي يسمى طوافا ، والوجه الثاني : أن طوافهم كان على صفة واحدة لم يزد القارن فيه على طواف المفرد ، وذلك أن القارن لم يفرد العمرة بطواف وسعي بل طاف لهما كما طاف المفرد للحج ، وهذا نص في صحة ما ذهب إليه مالك ومن وافقه في أن حكم القارن في ذلك حكم المفرد - انتهى . ثم قال : وهؤلاء جمعوا الحج والعمرة لا يخلو أن يكونوا أهلوا بهما جميعا أو أردفوا الحج على العمرة إذ أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فإن كانوا ممن أهل بهما فقد طافوا لهما طواف الورود ، وسعوا بأثره ، ثم طافوا لهما بعد ذلك طواف الإفاضة ولم يسعوا بعده . وأما من أردف الحج على العمرة فإن كان أردفه قبل الوصول إلى مكة فحكمه حكم من أهل بهما وقد تقدم حكمه . وأما من أردفه بعد الوصول إلى مكة وقبل التلبس بالطواف فإنه لا يطوف بالبيت ولا يسعى بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى لأنه محرم بالحج من مكة ، ومن أحرم بالحج من مكة فليس عليه طواف ورود ، فهذا
(18/122)
المردف لما أحرم بالحج من مكة
لا تأثير لما تقدم من عمرته في الورود ولا في غير ذلك من الأفعال غير وجوب الدم
للقران – انتهى . وقال ابن قدامة ما محصله : أن المراد الطواف الواحد للزيارة بعد
الرجوع عن منى بخلاف المتمتع فإنه يطوف عند أحمد إذ ذاك طوافين : طواف القدوم
وطواف الزيارة ، لأن المتمتع لم يأت بطواف القدوم قبل ذلك ، والطواف الذي طافه قبل
الخروج إلى منى كان للعمرة ، وعلى هذا معنى قولها (( طوافا واحدا )) أي يوم النحر
للزيارة فقط لا للقدوم طوافا آخر كما يفعله المتمتع عند الحنابلة ، وقد تقدم كلام
ابن قدامة بتمامه . وأجاب الحنفية عن حديث الباب وأولوه بوجوه ، فقال بعضهم إن
المراد بقوله : " طوافا واحدا " أي طاف لكل واحد منهما طوافا يشبه
الطواف الذي للآخر – انتهى . ولا يخفى ما في هذا التأويل من التعسف ، وقال الطحاوي
: إن عائشة أرادت بقولها : (( و أما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا
لهما طوافا واحدا )) يعني الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج ، لأن حجتهم كانت مكية ،
والحجة المكية لا يطاف لها إلا بعد عرفة . قال : والمراد بقولها "جمعوا بين
الحج والعمرة ، جمع متعة لا جمع قران – انتهى . قال الحافظ
..............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/123)
بعد ذكره : وإني لكثير التعجب منه في هذا الموضع كيف ساغ له هذا التأويل ، وحديث عائشة مفصل للحالتين فإنها صرحت بفعل من تمتع ثم من قرن حيث قالت : فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى . فهؤلاء أهل التمتع ، ثم قالت : وأما الذين جمعوا، إلخ . فهؤلاء أهل القران وهذا أبين من أن يحتاج إلى إيضاح – انتهى . وقال بعضهم : إن مقصود عائشة بهذا الحديث ليس بيان وحدة الطواف وتعدده بل المراد بيان أنهم طافوا للتحلل عن الحج والعمرة طوافا واحدا يعني أن القارن يكون مهلا بإحرامين والطواف يكون محلا للإحرام فكان مقتضاه أن يكون المحل طوافين للإحرامين كما وقع للمتمتعين لكن القارن يكفي له للتحلل عن الإحرامين طواف واحد . وهذا التأويل أيضا بعيد جدا ، لا يخفى بعده وتعسفه على المنصف ، واختار ابن القيم وجها آخر فقال : الصواب أن الطواف الذي أخبرت به عائشة وفرقت به بين المتمتع والقارن هو الطواف بين الصفا والمروة لا الطواف بالبيت فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما لم يضيفوا إليه طوافا آخر يوم النحر وهذا هو الحق ، وأخبرت عن المتمتعين أنهم طافوا بينهما طوافا آخر بعد الرجوع من منى للحج وذلك الأول كان للعمرة وهذا قول الجمهور ، وتنزيل الحديث على هذا موافق لحديثها الآخر ، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يسعك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة لحجك وعمرتك " وكانت قارنة ، ويوافق قول الجمهور ولكن يشكل عليه حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه " لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول ، هذا يوافق قول من يقول يكفي المتمتع سعي واحد كما هو إحدى الروايتين عن أحمد نص عليها في رواية ابنه عبد الله وغيره ، وعلى هذا فيقال عائشة أثبتت وجابر نفى ، والمثبت مقدم على النافي ، أو يقال مراد جابر من قرن من أصحابه مع النبي - صلى الله
(18/124)
عليه وسلم - وساق الهدى كأبي
بكر وعمر وطلحة وعلي رضي الله عنهم وذوي اليسار ، فإنهم إنما سعوا سعيا واحدا ،
وليس المراد به عموم الصحابة ، أو يعلل حديث عائشة بأن تلك الزيادة فيه مدرجة من
قول هشام ، وهذه ثلاث طرق للناس في حديثها ، والله أعلم – انتهى كلام ابن القيم .
قلت : والطريق الأخير ضعيف جدا بل باطل لأنه ليس في طريق حديث عائشة هذا هشام فإنه
من رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عنها ، فهذا إسناد غاية في الصحة ،
فممن الخطأ والإدراج ؟ ويؤيده أن له طريقا أخرى عنها في الموطأ في باب دخول الحائض
مكة " عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنهما " وهذا سند صحيح كالجبل
ثبوتا . وسيجيء الكلام في مسألة السعي بين الصفا والمروة للمتمتع بعد الرجوع من
منى للحج . والراجح عندي في معنى الحديث هو ما قال السندي ومن وافقه ، وهو المعروف
في توضيح الحديث وتوجيهه عند القائلين بوحدة الطواف للقارن ، وما اختاره ابن القيم
وجيه أيضا عندي وسيأتي إيضاحه ، واعلم أنه اختلف العلماء في طواف القارن والمتمتع
إلى ثلاثة مذاهب ، الأول : أن على القارن طوافا واحدا وسعيا واحدا وأن ذلك يكفيه
لحجه وعمرته ، وأن على المتمتع طوافين وسعيين ، وهذا مذهب
..............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/125)
جمهور العلماء ، منهم مالك والشافعي وأحمد في أصح الروايتين . الثاني : أن على كل واحد منهما سعيين وطوافين وهذا مذهب أبي حنيفة . الثالث : أنهما معا يكفيهما طواف واحد وسعي واحد ، وهو مروي عن الإمام أحمد كما تقدم في كلام ابن القيم ، أما الجمهور المفرقون بين القارن والمتمتع القائلون بأن القارن يكفي لحجه وعمرته طواف زيارة واحد وهو طواف الإفاضة ، وسعي واحد ، فاحتجوا بأحاديث صحيحة ليس مع مخالفيهم ما يقاومها ، منها حديث عائشة الذي نحن في شرحه ، فإن قولها " و أما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا ، نص صريح دال على اكتفاء القارن بطواف واحد لحجه وعمرته ، وقال ابن القيم : إن المراد بالطواف في حديث عائشة هذا هو الطواف بين الصفا والمروة ، وله وجه من النظر كما سيأتي ، وقد أجاب الحنفية عن هذا الحديث بوجوه ، منها أن روايات عائشة في حجتها وحجته - صلى الله عليه وسلم - مضطربة . قال العيني : أحاديث عائشة في هذا الباب مضطربة جدا لا يتم بها الاستدلال لأحد من الخصوم ، ثم ذكر بعض الاختلاف ، قالوا : فيشكل على حديثها المدار في مثل هذه المسألة ، قلت : حديث عائشة هذا صحيح ثابت اتفق عليه الشيخان ، وهو نص في المسألة ، وقد تقدم وجه الجمع بين ما يتوهم من الاختلاف في بعض رواياتها فرده بادعاء الاضطراب فيه أمر قبيح جدا ، ومنها ما تقدم عن الطحاوي ، وقد تقدم الجواب عنه في كلام الحافظ . ومن الأحاديث التي استدل بها الجمهور ما رواه مسلم في صحيحه من طريق طاوس عن عائشة أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : يسعك طوافك لحجك وعمرتك – الحديث . ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنها كانت محرمة أولا بالعمرة ومنعها الحيض من الطواف فلم يمكنها أن تحل بعمرة فأهلت بالحج مع عمرتها الأولى فصارت قارنة ، ومع كونها قارنة صرح بأنها
(18/126)
يكفيها لهما طواف واحد . وروى
مسلم أيضا من طريق مجاهد عن عائشة أنها حاضت بسرف فتطهرت بعرفة فقال لها رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - : يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك- انتهى.
وهذا الحديث الصحيح صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد
ومنها حديث ابن عمر عند الشيخين ، روى البخاري من طريق أيوب عن نافع أن ابن عمر
دخل ابنه عبيد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال : إني لا آمن أن يكون العام
بين الناس قتال فيصدوك عن البيت فلو أقمت ، فقال : قد خرج رسول الله عليه وسلم
فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ? لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ? (33 : 21) ثم قال :
أشهدكم أني أوجبت مع عمرتي حجا . قال : ثم قدم فطاف لهما طوافا واحدا – انتهى .
وفيه دليل على أن القارن يكفيه طواف واحد لحجته وعمرته وأجاب بعض الحنفية عنه بأنه
ليس بصريح في اكتفاء القارن بطواف واحد فإنه يحتمل أن يكون المراد بقوله "
طوافا واحدا أي طاف لكل منهما طوافا يشبه الطواف الذي للآخر، وكذا أولوا رواية
عائشة المتقدمة كما سبق وفيه أنه يرفع…
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/127)
هذا الاحتمال قوله في الرواية الآتية " ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول " وتأوله بعضهم بأن المراد أنه طاف للقدوم طوافا واحدا يعني أنه اكتفى قبل النحر بطوافه للقدوم في العمرة وكان هذا الطواف في الأصل للعمرة وتداخل فيه طواف القدوم فلم يعده ، ثم طاف يوم النحر طوافا للحج ، وتأوله بعضهم بأن المراد أنه طاف طوافا واحدا للحل منهما جميعا حيث لم يتحلل بعد أفعال العمرة يعني أنه طاف للإحلال منهما طوافا واحدا هو طواف الإفاضة ، ولا يخفى ما في هذين التأويلين من التكلف والتعسف . وروى البخاري من طريق الليث عن نافع أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له : إن الناس كائن بينهم قتال وإنا نخاف إن يصدوك ، فقال ? لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ? إذا أصنع كما صنع رسول الله عليه وسلم ، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ، ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال : ما شأن الحج والعمرة إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي وأهدى هديا اشتراه بقديد ، ولم يزد على ذلك فلم ينحر ولم يحل من شيء حرم منه ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول . وقال ابن عمر : كذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – انتهى . وفي هذه الرواية التصريح من ابن عمر باكتفاء القارن بطواف واحد ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل . قال الكرماني في شرح هذا الحديث : يعني أنه لم يكرر الطواف للقران بل اكتفى بطواف واحد . وقال الحافظ : قوله " بطوافه الأول " أي الذي طافه يوم النحر للإفاضة – انتهى . وقال السندي في حاشيته على البخاري : قوله " بطوافه الأول " أي بأول طواف طافه بعد النحر والحلق فإنه هو ركن الحج عندهم لا الذي طافه حين القدوم ، وإن كان هو المتبادر من اللفظ فإنه للقدوم وليس بركن للحج ، والله تعالى أعلم ، وأجاب عنه بعض الحنفية بأن
(18/128)
المراد به طواف القدوم كما هو
المتبادر ، وأن هذا الطواف الواحد أجزأ عن طواف القدوم للحج وطواف العمرة جميعا ،
ثم طاف طواف الإفاضة يوم النحر ولم يذكره في الرواية وهو مراد ألبتة وإن تركه
الرواي . قالوا : ويدل عليه قوله " وكذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- " ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كذلك حيث طاف يوم القدوم ، وأجزأ
ذلك الطواف الأول عن القدوم والعمرة جميعا ثم طاف يوم النحر ، وفيه أنه يلزم على
هذا التأويل أن ابن عمر أو من دونه قد أخل بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج لا
يتم الحج إلا به ، وذكر ما يستغنى عنه ، وفيه أيضا أنه قد ثبت عنه طواف الإفاضة في
رواية سالم عنه عند الشيخين حيث قال : "بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج " إلى أن قال " وطاف رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - حين قدم مكة إلى أن قال " ونحر هديه يوم النحر وأفاض وطاف بالبيت
وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهدى وساق الهدي من الناس ،
ثم ذكر عن عائشة أنها أخبرت بمثل ذلك . قلت : واستدل بظاهر حديث لمالك فيما ذهب
إليه من إجزاء طواف القدوم عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلا أو نسيه . قال الحافظ :
وتوهم بعضهم أنه أراد طواف القدوم . وقال ابن
............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/129)
عبد البر في حجة لمالك في قوله " إن طواف القدوم إذا وصل بالسعي يجزئ عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلا أو نسيه حتى رجع إلى بلده وعليه الهدي ، قال : ولا أعلم أحدا قال به غيره وأصحابه ، وتعقب بأنه إن حمل قوله " طوافه الأول " على طواف القدوم وأنه أجزأ عن طواف الإفاضة كان ذلك دالا على الإجزاء مطلقا ولو تعمده ، لا بقيد الجهل والنسيان – انتهى . قلت : حمله على طواف القدوم والقول بسقوط طواف الإفاضة في تلك الصورة أو مطلقا باطل بلا شك ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكتف بطوافه الذي طاف يوم دخل مكة بل طاف يوم النحر طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج بإجماع المسلمين ، وثبت ذلك ثبوتا قطعيا ، وأما القول بأن ذلك الطواف الأول كان عن القدوم للحج وطواف العمرة جميعا فادعاء محض ليس عليه أثارة من علم فلا يلتفت إليه ، وقال السندي في حاشية البخاري بعد ذكر التأويل الذي نقلنا عنه ما لفظه : ولا يخفى أن بعض روايات حديث ابن عمر يبعد هذا التأويل ويقتضي أن الطواف الذي يجزئ عنهما هو الذي حين القدوم ، ففي رواية للبخاري " ثم قدم فطاف لهما طوافا واحدا " وسيجيء في البخاري في باب من اشترى الهدي من الطريق بلفظ " ثم قدم فطاف لهما طوافا واحدا فلم يحل حتى حل منهما جميعا " وسيجيء في باب الإحصار " وكان يقول أي ابن عمر : لا يحل حتى يطوف طوافا واحدا يوم يدخل مكة " وفي بعض روايات مسلم " فخرج حتى إذا جاء البيت طاف به سبعا وبين الصفا والمروة سبعا لم يزد عليه ورأى أنه مجزئ عنه وأهدى " وفي أخرى " ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت وبين الصفا والمروة ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر " وفي رواية أخرى " ثم انطلق يهل بهما جميعا حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ولم يزد على ذلك ولم ينحر ولم يحلق حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول " والنظر في هذه الروايات
(18/130)
يبعد ذلك التأويل ، لكن القول
بأنه ما كان يرى طواف الإفاضة مطلقا أو للقارن أيضا قول بعيد ، بل قد ثبت عنه طواف
الإفاضة في صحيح مسلم كما ذكرنا في القول السابق عنه ، فإما أنه لا يرى طواف
الإفاضة للقارن ركن الحج ، بل يرى أن الركن في حقه هو الأول والإفاضة سنة أو نحوها
وهذا لا يخلو عن بعد ، أو أنه يرى دخول طواف العمرة في طواف القدوم للحج ، ويرى أن
طواف القدوم من سنن الحج للمفرد إلا أن القارن يجزئه ذلك عن سنة القدوم للحج وعن
فرض العمرة وتكون الإفاضة عنده ركنا للحج فقط ، هذا غاية ما ظهر لي في التوفيق بين
روايات حديث ابن عمر ولم أر أحدا تعرض لذلك مع البسط وجمع الطرق إلا ما قيل إن
المراد بالطواف السعي بين الصفا والمروة ولا يخفى بعده أيضا فإن مطلق الطواف ينصرف
إلى طواف البيت سيما وهو مقتضى الروايات فلينظر بعده ، والله تعالى أعلم – انتهى .
قلت : حمله على الطواف بين الصفا والمروة لا بعد فيه ، بل هو الظاهر ، ويؤيد ذلك
حديث جابر عند مسلم " لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين
الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول " – انتهى . قال الشنقيطي : الذي
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/131)
يظهر لي والله أعلم أن مراد ابن عمر في قوله " ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول " هو الطواف بين الصفا والمروة ، ويدل على ذلك أمران : الأول هو ما وقع في بعض روايات مسلم " ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت وبين الصفا والمروة ، ثم لم يحلل منهما حتى حل منهما بحجة " ( قال النووي : معناه حتى حل منهما يوم النحر بعمل حجة مفردة ) ومعلوم أن الحل بحجة لا يمكن بدون طواف الإفاضة ، أما السعي في الحجة فيكفي فيه السعي الأول بعد طواف القدوم فيتعين أن الطواف الأول الذي رأى إجزاءه عن حجه وعمرته هو الطواف بين الصفا والمروة بدليل الرواية الصحيحة بأنه لم يحل منهما إلا بحجة يوم النحر وحجة يوم النحر أعظم أركانها طواف الإفاضة فبدونه لا تسمى حجة لأنه ركنها الأكبر المنصوص على الأمر به في كتاب الله في قوله تعالى ? وليطوفوا بالبيت العتيق ? (22 : 29 ) الأمر الثاني هو أن ابن عمر قال : كذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه في الروايات الصحيحة أنه اكتفى بسعيه بين الصفا والمروة بعد طواف القدوم لحجه وعمرته وأنه بعد إفاضته من عرفات طاف طواف الإفاضة يوم النحر على التحقيق فحديث ابن عمر هذا نص صحيح متفق عليه على أن القارن يعمل كعمل المفرد ، وعلى هذا يحمل الطواف الواحد في حديث عائشة المتقدم فيفسر بأنه الطواف بين الصفا والمروة ، لأن القارن لا يسعى لحجه وعمرته إلا مرة واحدة – انتهى كلام الشنقيطي . وأجاب بعض الحنفية عن رواية مسلم المذكورة في كلام الشنقيطي بأنه يحتمل أن هؤلاء الذين لم يطوفوا بين الصفا والمروة بعد طواف الإفاضة لأجل أنهم سعوا بينهما قبل الرواح إلى منى بأن يطوفوا بالبيت طواف النفل لأجل تقديم السعي جائز بعد أن يكون مسبوقا بطواف كطواف القدوم أو طواف النفل فكان الغرض أنهم لم يعيدوا السعي مرة أخرى – انتهى . وفيه أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله
(18/132)
عليه وسلم - ولا عن أصحابه
القارنين أنهم طافوا طواف النفل وسعوا بعده بين الصفا والمروة قبل الرواح إلى منى
، فحمله على ذلك بعيد جدا . قال الشيخ محمد أنور : لم يثبت طواف النفل منه عليه
صلوات الله وسلامه إلى العاشر ، نعم ثبت بعد العاشر في ليالي منى برواية قوية .
وقال بعضهم إن المراد في حديث جابر المذكور أن السعي الواحد لنسك واحد كافي ، أي
لا يحتاج إلى سعي آخر ، وفيه أنه يأبى هذا التأويل ألفاظ حديث جابر وحديث ابن عمر
وعائشة كما لا يخفى ذلك على من أمعن النظر فيها ، ومن الأحاديث الصحيحة التي استدل
بها للجمهور ما وقع في حديث جابر عند مسلم من قوله - صلى الله عليه وسلم - :
" دخلت العمرة في الحج " مرتين وتصريحه - صلى الله عليه وسلم - بدخولها
فيه يدل على دخول أعمالها في أعماله حالة القران ، قال الحافظ : دل هذا على أنها
لا تحتاج أي عمرة بعد أن دخلت فيه إلى عمل آخر غير عمله . واستدل للجمهور أيضا بما
روى أحمد (ج 2 : ص 67) والترمذي وابن ماجة وسعيد بن منصور من حديث ابن عمر ، واللفظ
لأحمد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قرن بين حجته
وعمرته أجزأه لهما طواف واحد " . ولفظ الترمذي " من أحرم بالحج والعمرة
أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا " قال الترمذي : حديث
حسن غريب صحيح . وأعله الطحاوي بأن عبد العزيز بن محمد
..............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/133)
الدراوردي ( الراوي عن عبيد الله بن عمر ) أخطأ فيه ، وأن الصواب أنه موقوف ، وتمسك في تخطئته بما رواه أيوب والليث وموسى بن عقبة وغير واحد عن نافع نحو سياق ما تقدم من أن ذلك وقع لابن عمر ، وأنه قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك لا أنه روى هذا اللفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - – انتهى . قال الحافظ : وهو تعليل مردود ، فالدراوردي صدوق وليس ما رواه مخالفا لما رواه غيره ، فلا مانع من أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين – انتهى . والحديث صححه الترمذي كما تقدم ثم أعله بنحو ما أعله به الطحاوي حيث قال : تفرد به الدراوردي على ذلك اللفظ ، وقد رواه غير واحد عن عبيد الله بن عمر ولم يرفعوه وهو أصح – انتهى . قلت : وهكذا أعله ابن عبد البر في الاستذكار كما ذكره العيني والجواب عن ذلك كله أن حديث ابن عمر الذي قدمناه عن البخاري ليس بموقوف ، لأن ابن عمر لما طاف لهما طوافا واحدا أخبر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك ، وهذا عين الرفع فلا وقف ألبتة ، ولا يبعد أن يكون قول ابن عمر " هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي أمر من كان قارنا أن يقتصر على طواف واحد ، واستدل لهم أيضا بما رواه الترمذي والنسائي عن جابر أن رسول الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافا واحدا . قال الترمذي : هذا حديث حسن ، وفيه الحجاج بن أرطاة . واستدل لهم أيضا بما روى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل قال : حلف طاوس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحجه وعمرته إلا طوافا وحدا . قال الحافظ : هذا إسناد صحيح ، وفيه بيان ضعف ما روي عن علي وابن مسعود من ذلك . وقد روى آل بيت علي عنه مثل الجماعة ، قال جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أنه كان يحفظ عن علي " للقارن طواف واحد " خلاف ما يقول أهل العراق . ومما يضعف ما روي عن علي من ذلك أن أمثل طرقه عن رواية عبد الرحمن بن
(18/134)
أذينة عنه ، وقد ذكر فيها أنه
يمتنع على من ابتدأ الإهلال بالحج أن يدخل عليه بالعمرة ، وأن للقارن يطوف طوافين
ويسعى سعيين . والذين احتجوا بحديثه لا يقولون بامتناع إدخال العمرة على الحج ،
فإن كانت الطريق صحيحة عندهم لزمهم العمل بما دلت عليه ، وإلا فلا حجة فيها –
انتهى كلام الحافظ . وفي الباب أيضا عن ابن عباس عند ابن ماجة والدارقطني بنحو
حديث جابر عند مسلم وعن أبي قتادة وأبي سعيد عند الدارقطني أيضا بإسناد ضعيف وقد
ثبت بما ذكرنا من الأحاديث والآثار الفرق بين القران والتمتع ، وأن القارن يكفيه
طواف واحد وسعي واحد لعمرته وحجته كفعل المفرد . أما أدلة الجمهور على أن المتمتع
لا بد له من طوافين وسعيين : طواف وسعي لعمرته وطواف وسعي لحجه فمنها ما رواه
البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال : أهل المهاجرون والأنصار
وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأهللنا ، فلما قدمنا مكة قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي ،
فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأتينا النساء ، ولبسنا الثياب ، وقال : من قلد
الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله ، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ،
فإذا فرغنا من
..............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/135)
المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي-الحديث ، وأخرجه أيضا الإسماعيلي في مستخرجه ، ومن طريقه البيهقي في سننه (ج 5 : ص 23) وإسناده صحيح ، رجاله رجال الصحيح ، وهو صريح في سعي المتمتع مرتين ومنها حديث عائشة المتقدم فإن قولها " فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا ( آخر ) بعد أن رجعوا من منى ( لحجهم ) وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا ، يدل على الفرق بين القارن والمتمتع ، وأن القارن يفعل كفعل المفرد والمتمتع يطوف لعمرته ويطوف لحجه ، وقال بعض أهل العلم قول عائشة عن الذين أهلوا بالعمرة " ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم " تعني به الطواف بين الصفا والمروة على أصح الأقوال في تفسير هذا الحديث وأما قول من قال إنها أرادت بذلك طواف الإفاضة فليس بصحيح لأن طواف الإفاضة ركن في حق الجميع وقد فعلوه ، وإنما المراد بذلك ما يخص المتمتع وهو الطواف بين الصفا والمروة مرة ثانية بعد الرجوع من منى . وأما من قال إن المتمتع كالقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد وهو رواية عن الإمام أحمد فقد استدل بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافهم الأول . قالوا : فهذا نص صحيح صرح فيه جابر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطف هو ولا أصحابه إلا طوافا واحدا ، ومعلوم أن أصحابه فيهم القارن ، وهو من كان معه الهدي ، وفيهم المتمتع ، وهو من لم يكن معه هدي ، وإذا ففي هذا الحديث الصحيح الدليل على استواء القارن والمتمتع في لزوم طواف واحد وسعي واحد ، وأجاب المخالفون عن هذا بأجوبة ، الأول : هو أن الجمع واجب إن أمكن ، قالوا : وهو ها هنا ممكن بحمل حديث جابر هذا على أن المراد بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطوفوا إلا طوافا واحدا
(18/136)
للعمرة والحج خصوص القارنين
منهم كالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهم الذين ساقوا الهدي فإنهم بقوا على
إحرامهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى حلوا من الحج والعمرة جميعا ،
والقارن بين الحج والعمرة ليس عليه إلا سعي واحد كما دل عليه حديث جابر وغيره من
الأحاديث الصحيحة وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقا لحديث عائشة وحديث ابن
عباس المتقدمين وبذلك يزول التعارض ويحصل العمل بالأحاديث كلها . الجواب الثاني :
أنا لو سلمنا أن الجمع غير ممكن هنا في حديث جابر مع حديث عائشة وحديث ابن عباس
كما جاء في ما رواه مسلم من طريق زهير عن أبي الزبير عن جابر قال : خرجنا مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج معنا النساء والولدان فلما قدمنا مكة
طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من لم
يكن معه الهدي فليحلل . قال ، قلنا : أي الحل ؟ قال : الحل كله . قال : فأتينا
النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب ، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا
الطواف الأول بين الصفا والمروة – الحديث . ولفظ جابر في هذه الرواية لا يمكن حمله
على القارنين بحال ، لأنه صرح بأنهم حلوا الحل كله وأتوا النساء ، ولبسوا الثياب ،
ومسوا الطيب ، وأنهم أهلوا يوم التروية بحج ، ومع هذا كله صرح
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/137)
بأنهم كفاهم طوافهم الأول بين الصفا والمروة . ويؤيده ما وقع في حديث جابر عند أحمد (ج 3 : ص 362) والطحاوي وأبي داود في باب الإفراد قال : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لأربع خلون من ذي الحجة فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي ، فلما كان يوم التروية أهلوا بالحج فلما كان يوم النحر قدموا فطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة – انتهى . فإن حديث جابر ينفي طواف المتمتع بعد رجوعه من منى ، وحديث عائشة وحديث ابن عباس يثبتانه ، وقد تقرر في علم الأصول ومصطلح الحديث أن المثبت مقدم على النافي فيجب تقديم حديث ابن عباس وعائشة بأنهما مثبتان على حديث جابر النافي . الجواب الثالث : أن عدم طواف المتمتع بعد رجوعه من منى الثابت في صحيح مسلم رواه جابر وحده ، وطوافه بعد رجوعه من منى رواه في صحيح البخاري وغيره ابن عباس وعائشة ، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد . وأما من قالوا : إن القارن والمتمتع يلزم كل واحد منهما طوافان وسعيان ، طواف وسعي للعمرة وطواف وسعي للحج كأبي حنيفة ومن وافقه فقد استدلوا لذلك بأحاديث ، فمنها حديث الصبي بن معبد التغلبي عند أبي حنيفة في مسنده رواه عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن الصبي بن معبد قال : أقبلت من الجزيرة حاجا ، إلى أن قال : " فأحببت أن أجمع عمرة إلى حجة فأهللت بهما جميعا ولم أنس " وفيه " مضيت فطفت طوافا لعمرتي وسعيت سعيا لعمرتي ثم عدت ففعلت مثل ذلك ، ثم بقيت حراما أصنع كما يصنع الحاج " وفي طريق آخر " كنت حديث عهد بنصرانية فقدمت الكوفة أريد الحج في زمان عمر بن الخطاب" وفيه " فلما قدم الصبي مكة طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة لعمرته ثم رجع حراما لم يحل من شيء ثم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة لحجته " وفيه " فضرب عمر على ظهره وقال : هديت لسنة نبيك - صلى الله
(18/138)
عليه وسلم - " وقال ابن
حزم في المحلى (ج 7 : ص 175) : روينا من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان
عن إبراهيم النخعي أن الصبي بن معبد التغلبي قرن بين العمرة والحج فطاف طوافين
وسعى سعيين ولم يحل بينهما وأهدى وأخبر بذلك عمر بن الخطاب فقال : هديت لسنة نبيك
- صلى الله عليه وسلم - ، وأجيب عن ذلك بأن إبراهيم النخعي لم يدرك الصبي ولا سمع
منه ولا أدرك عمر فهو منقطع ، وقد رواه الثقات مجاهد ومنصور عن أبي وائل شقيق بن
سلمة عن الصبي فلم يذكروا فيه طوافا ولا طوافين ولا سعيا ولا سعيين أصلا ، وإنما
فيه قرن بين الحج والعمرة فقط ، قاله ابن حزم في المحلى . قلت : رواه أبو داود
والنسائي عن منصور ، وابن ماجة عن الأعمش كلاهما عن أبي وائل عن الصبي بن معبد قال
: أهللت بهما معا ، فقال عمر : هديت لسنة نبيك – انتهى . وكذا رواه مختصرا أحمد
وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي في مسانيدهم وابن أبي شيبة في مصنفه وابن
حبان في صحيحه والدارقطني في العلل . فرواية النخعي عن الصبي بن معبد لا يصح
الاحتجاج بها لكونها منقطعة ، ومنها حديث علي أخرجه النسائي في سننه الكبرى في
مسند على من طريق حماد بن عبد الرحمن الأنصاري عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية
.............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/139)
قال : طفت مع أبي وقد جمع يبن الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين ، وحدثني أن عليا فعل ذلك ، وقد حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك ، ذكره الزيلعي ثم قال : قال صاحب التنقيح : وحماد هذا ضعفه الأزدي وذكره ابن حبان في الثقات ، قال بعض الحفاظ : هو مجهول ، والحديث من أجله لا يصح – انتهى . وقال الحافظ في الدراية : رواته موثقون وأخرجه محمد بن الحسن من قول علي موقوفا بلفظ الأمر ، وفي إسناده راو مجهول – انتهى . ولحديث علي إسناد آخر أخرجه الدارقطني (ص273) من طريق الحسن بن عماره عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن علي ، قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن وطاف طوافين وسعى سعيين – انتهى . والحسن بن عمارة ضعيف بإجماع منهم قاله السهيلي . وقال أبو حاتم ومسلم والنسائي والدارقطني وأحمد ويعقوب بن شيبة : متروك الحديث . وقال الجوزجاني : ساقط ، وقال الساجي : ضعيف متروك أجمع أهل الحديث على ترك حديثه . وقال ابن معين : لا يكتب حديثه ، وقال مرة ضعيف ، وقال مرة : ليس حديثه بشيء ، وقال عمرو بن علي : هو رجل صالح صدوق كثير الوهم والخطأ متروك الحديث . وقال عبد الله بن المديني عن أبيه : ما احتاج إلى شعبة فيه ، أمره أبين من ذلك . قيل له : كان يغلط ؟ قال : أي شيء كان يغلط ؟ كان يضع . وقد أطال العقيلي في تضعيف الحسن بن عمارة في كتاب الضعفاء كما في نصب الراية . وأخرجه الدارقطني أيضا عن حفص بن أبي داود عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي بنحوه ، قال : وحفص هذا ضعيف وابن أبي ليلى رديء الحفظ كثير الوهم . وأخرجه أيضا عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي حدثني أبي عن أبيه عن جده عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا فطاف طوافين وسعى سعيين – انتهى . قال : وعيسى بن عبد الله يقال له مبارك وهو متروك الحديث ، ذكره الزيلعي (ج 3 : ص 110) وسكت عنه ، ومنها
(18/140)
حديث ابن عمر أخرجه الدارقطني
(ص271) من طريق الحسن بن عمارة عن مجاهد عن ابن عمر أنه جمع بين عمرة وحج فطاف
لهما طوافين وسعى سعيين ، وقال : هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع
كما صنعت – انتهى . قال الدارقطني بعد ذكر حديث ابن عمر هذا ، وحديث علي المتقدم
من طريق الحسن بن عمارة : لم يروهما غير الحسن بن عمارة وهو متروك ثم هو قد روى عن
ابن عباس ضد هذا ثم أخرجه عن الحسن بن عمارة عن سلمة بن كهيل عن طاوس ، قال سمعت
ابن عباس يقول : لا والله ما طاف لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا طوافا
واحدا فهاتوا من هذا الذي يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف لهما
طوافين – انتهى . ومنها حديث ابن مسعود أخرجه الدارقطني من طريق أبي بردة عمرو بن
يزيد عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : طاف رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - لعمرته وحجه طوافين وسعى سعيين وأبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود . قال
الدارقطني : وأبو بردة متروك ، ومن دونه في الإسناد ضعفاء – انتهى . وقال الحافظ
في الدراية : وفيه أبو بردة عمرو بن يزيد أحد الضعفاء ، ورواه عن حماد بن أبي
سليمان ، ومنها حديث عمران بن حصين أخرجه الدارقطني أيضا من طريق
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/141)
محمد بن يحيى الأزدي ثنا عبد الله بن داود عن شعبة عن حميد بن هلال عن مطرف عن عمران بن حصين ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف طوافين وسعى سعيين – انتهى . قال الدارقطني : يقال إن محمد بن يحيى حدث بهذا من حفظه فوهم في متنه ، والصواب بهذا الإسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن الحج والعمرة ، وليس في ذكر الطواف ولا السعي ، ويقال إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي وحدث به على الصواب كما حدثنا به محمد بن إبراهيم بن فيروز حدثنا محمد بن يحيى الأزدي به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن – انتهى . قال : وقد خالفه غيره فلم يذكر فيه الطواف ولا السعي كما حدثنا به أحمد بن عبد الله بن محمد الوكيل ومحمد بن مخلد ، قالا حدثنا القاسم بن محمد بن عباد المهلبي ثنا عبد الله بن داود عن شعبة بهذا الإسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن – انتهى . وقد ظهر كما ذكرنا أن جميع الأحاديث الدالة على طوافين وسعيين للقارن ليس فيها حديث قائم كما رأيت ، وقال الحافظ في الفتح : واحتج الحنفية بما روي عن علي أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ، وطرقه عن علي عند عبد الرزاق والدارقطني وغيرهما ضعيفة ، وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه . وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك . وفيه الحسن بن عمارة وهو متروك والمخرج في الصحيحين ، وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد . وقال البيهقي : إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين فيحمل على طواف القدوم وطواف الإفاضة ، وأما السعي مرتين فلم يثبت وقال ابن حزم : لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه شيء في ذلك أصلا . قال الحافظ : لكن روى الطحاوي وغيره مرفوعا عن علي وابن مسعود ذلك بأسانيد لا بأس بها إذا اجتمعت ، ولم أر في الباب أصح من حديثي ابن عمر وعائشة المذكورين في
(18/142)
هذا الباب انتهى . وقال ابن
القيم : وأما من قال إنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى سعيين كما قاله كثير
من فقهاء الكوفة ، فعذره ما رواه الدارقطني من حديث مجاهد عن ابن عمر وعن علي بن
أبي طالب وعن علقمة عن عبد الله ابن مسعود وعن عمران بن حصين فذكر ألفاظ أحاديث
هؤلاء الصحابة ثم قال : وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة بل لا يصح
منها حرف واحد ، أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عمارة . وقال الدارقطني : لم يروه
عن الحكم غير الحسن بن عمارة وهو متروك الحديث . وأما حديث علي ففي أحد سنديه حفص
بن أبي داود . وقال أحمد ومسلم : حفص متروك الحديث . وقال ابن خراش : هو كذاب يضع
الحديث ، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ضعيف ، وفي السند الثاني عيسى بن
عبد الله ، ويقال له مبارك . قال الدارقطني : هو متروك الحديث . وأما حديث علقمة
عن عبد الله فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد عن حماد عن إبراهيم عن علقمة . قال
الدارقطني : وأبو بردة ضعيف ومن دونه في الإسناد ضعفاء – انتهى . وفيه عبد العزيز
بن أبان ، قال يحيى : هو كذاب خبيث . وقال الرازي والنسائي : متروك الحديث ، وأما
حديث عمران بن حصين فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي وحدث به من حفظه فوهم فيه
، وقد حدث به على الصواب مرارا ويقال إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي – انتهى .
واستدل أيضا للحنفية بما روي من أثار بعض الصحابة كعلي وابن مسعود والحسن
...............................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/143)
ابن علي والحسين بن علي ذكرها الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 111) وابن حزم في المحلى ( ج 7 : ص 175 ، 176) مع الكلام عليها والبيهقي في المعرفة وفي السنن والحافظ في الدراية ، وقد ذكرنا ما يعارض ذلك ويضعفه نقلا عن الحافظ فتذكر ، وإذا عرفت أن أحاديث السعيين والطوافين ليس فيها شيء قائم كما رأيت ، فاعلم أن الذين قالوا بأن القارن يطوف طوافا ويسعى سعيا كفعل المفرد أجابوا عن تلك الأحاديث من وجهيين الأول : وهو ما بيناه الآن بواسطة نقل الزيلعي والحافظ ابن حجر وابن القيم عن الدارقطني وغيره من أوجه ضعفها . والثاني : أنا لو سلمنا أن بعضها يصلح للاجتهاد كما يقوله الحنفية وضعافها يقوي بعضها بعضا فلا يقل مجموع طرقها عن درجة القبول كما أشار إليه الحافظ فهي معارضة بما هو أقوى منها وأصح وأرجح وأولى بالقبول من الأحاديث الثابتة في الصحيح الدالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل في قرانه إلا كما يفعل المفرد كحديث عائشة المتفق عليه وحديث ابن عمر عند البخاري ، وكالحديث المتفق عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة : يكفيك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة لحجك وعمرتك . كذا حققه الشنقيطي ، ثم قال : وقد اتضح من جميع ما كتبناه في هذه المسألة أن التحقيق فيها أن القارن يفعل كفعل المفرد لاندراج أعمال العمرة في أعمال الحج ، وأن المتمتع يطوف ويسعى لعمرته ثم يطوف ويسعى لحجته ، ومما يوضحه من جهة المعنى أنه يطوف ويسعى لحجه بعد رجوعه من منى ، أنه يهل بالحج بالإجماع ، والحج يدخل في معناه دخولا مجزوما به الطواف والسعي ، فلو كان يكفيه طواف العمرة التي حل منها وسعيها لكان إهلاله بالحج إهلالا بحج لا طواف فيه ولا سعي ، وهذا ليس بحج في العرف ولا في الشرع – انتهى . تنبيه : استدل بعض الحنفية لتعدد السعي بأنه وقع في بعض الروايات ذكر سعيه ماشيا كما تقدم في حديث جابر الطويل عند مسلم وأبي داود وهو
(18/144)
قوله : حتى إذا انصبت قدماه في
بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة – الحديث . قالوا : هذا صريح في
السعي راجلا وماشيا على الأقدام ووقع في بعض الروايات ذكر سعيه راكبا كما وقع في
حديث جابر أيضا عند مسلم في باب جواز الطواف على البعير " طاف رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراء الناس وليشرف
ويسألوه ، فإن الناس غشوه " قالوا : فيكون السعي اثنين ، الأول ماشيا راجلا
بعد الطواف الأول عند دخول مكة وهو للقدوم عند الشافعية ومن وافقهم ، وللقدوم
والعمرة عندنا الحنفية ، والسعي الثاني راكبا ، وتاريخ هذا السعي الثاني وإن كان
غير معلوم يعني أنه كان قبل يوم النحر أو بعده لكن الأقرب والأليق بمسائل الحنفية
أن يكون يوم النحر بعد طواف الإفاضة حيث يكون السعي مسبوقا بطواف . ولم يطف النبي -
صلى الله عليه وسلم - بعد طوافه للقدوم والعمرة على اختلاف المذهبين إلا هذا
الطواف أي يوم النحر . وتأول ابن حزم قول جابر في قصة حجة الوداع " حتى إذا
انصبت قدماه " أي وهو على راحلته ، والنزول والصعود إنما هو نزول الناقة
وصعودها . قال الحنفية : إن هذا التأويل غير مقبول ، فإن ألفاظ الحديث وتبادرها
يخالفه ، وأيضا من كان راكبا لا يسعى بين الميلين الأخضرين بل يمشي ، قالوا : ويرد
هذا التأويل حديث بنت أبي تجراة ( الآتي في باب دخول
.............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/145)
مكة والطواف) وفيه " فرأيته وإن ميزره ليدور من شدة السعي " قالوا : وتأول ابن حزم الرواية التي تدل على سعيه راكبا بأن بعض الأشواط من السعي كان راكبا وبعضها كان ماشيا . قالوا : يرد هذا التأويل ما رواه أبو داود في باب الطواف الواجب عن أبي الطفيل عن ابن عباس أنه طاف سبعا على راحلته فصرح فيه أنه طاف بينهما سبعة أشواط راكبا . والظاهر أنه في حجة الوادع ، يدل على ذلك ما وقع في رواية مسلم في باب استحباب الرمل في الطواف عن أبي الطفيل ، قال : قلت لابن عباس : أراني قد رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام ، قال : فصفه لي . قال ، قلت : رأيته عند المروة على ناقة ، وقد كثر الناس عليه . قال ، فقال ابن عباس : ذاك رسول الله عليه وسلم ، إنهم كانوا لا يدعون عنه ولا يكهرون – انتهى . قالوا : وهذه الواقعة واقعة حجة الوداع ، لأن كثرة الناس وسؤالهم لا يكون إلا في حجة الوادع . قالوا : فظهر من هذا كله أن تعدد السعي لازم وإن لم يصرح به أحد . قلت : التأويل الثاني الذي نسبوه إلى ابن حزم صحيح متعين عندي ، وأما رواية أبي داود فأصلها في صحيح مسلم ولكن ليست فيه هذه اللفظة ، ويؤيد التأويل المذكور ما وقع في رواية عند مسلم بإسناده عن أبي الطفيل ، قال : قلت لابن عباس : أرأيت هذا الرمل بالبيت ؟ – الحديث . وفيه " قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثر عليه الناس يقولون : هذا محمد ، هذا محمد ، حتى خرج العواتق من البيوت . قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يضرب الناس بين يديه ، فلما كثر عليه ركب ، والمشي والسعي أفضل – انتهى. فإن سياقه يدل على أن الركوب كان في أثناء السعي حين كثر الناس عليه فيه ، وأما حديث بنت أبي تجراة فليس فيه تصريح أنه كان في حجته ولا أن سعيه ماشيا كان في جميع الأشواط . قال المحب الطبري بعد ذكر الروايات التي تدل علي أنه - صلى الله عليه وسلم - سعى راكبا ما لفظه : في هذه
(18/146)
الأحاديث دلالة ظاهرة على
ركوبه - صلى الله عليه وسلم - في السعي ، والأحاديث المتقدمة في الفصل قبله وحديث
جابر الطويل يدل على مشيه ، فيحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - مشى في طوافه
على ما دل عليه بعض الأحاديث ، ثم خرج إلى السعي ماشيا فسعى بعضه ماشيا ورأته بنت
أبي تجراة إذ ذاك ، ثم لما كثر عليه ركب ناقته ، ويؤيد ذلك قول بن عباس : وكان -
صلى الله عليه وسلم - لا يضرب الناس بين يديه فلما كثر عليه ركب ، والسعي والمشي
أفضل . فإن سياقه دال على أن الركوب كان في أثناء السعي حين كثر الناس عليه فيه .
وذهب ابن حزم في كتابه المشتمل على صفة الحج الكبرى إلى أنه - صلى الله عليه وسلم
- كان راكبا في جميع طوافه بين الصفا والمروة عملا بحديث جابر هذا ، قال : وما
رواه في حديثه الطويل من أنه - صلى الله عليه وسلم - لما انصبت قدماه في بطن
الوادي رمل ، ليس بمعارض لما ذكرناه ، لأن الراكب إذا انصب به بعيره فقد انصب جميع
بدنه وانصبت قدماه أيضا مع سائر جسده ، وكذلك الرمل ، يعني به رمل الدابة براكبها
، ولم يطف - صلى الله عليه وسلم - بين الصفا والمروة في تلك الحجة إلا مرة واحدة ،
وذكر في الحديث أنه كان فيه راكبا ، قال : ولا يقطع بأن طوافه - صلى الله عليه
وسلم - بالبيت الأول كان راكبا لأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف في تلك الحجة
مرارا ، منها طوافه الأول ، وطواف الإفاضة ، وطواف الوداع ، فالله أعلم أي تلك
الأطواف كان راكبا ؟ قال الطبري : وظاهر حديث ابن عباس يرد هذا التأويل ، وحديث
بنت أبي تجراة
متفق عليه .
(18/147)
2581 – ( 3 ) وعن عبد الله بن
عمر ، قال : تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى
الحج ، فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ، فتمتع
الناس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى
، ومنهم من لم يهد ، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس :
" من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يصرح برده ، والمختار فيه ما تقدم ذكره جمعا بين الأحاديث كلها . وأما ركوبه في
الطواف بالبيت فكان في طواف الإفاضة . ويكون قول جابر المتقدم في هذا الفصل "
طاف على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة " محمولا على طواف الإفاضة والسعي
بعد طواف القدوم وجمع بينهما لوقوع الركوب فيهما – انتهى . ( متفق عليه ) وأخرجه
أيضا أحمد ومالك وأبو داود والنسائي وغيرهم .
(18/148)
2581- قوله ( تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ) قد تقدم في شرح حديث ابن عمر في باب الإحرام والتلبية أن المراد بالتمتع ها هنا المعنى اللغوي وهو الانتفاع والالتذاذ ، ولا شك أن ذلك في القران بوجود الاكتفاء عن النسكين بنسك ، فالقارن متمتع من حيث اللغة ومن حيث المعنى ، لأنه ترفيه باتحاد الميقات والإحرام والفعل . قال القاري : ظاهر هذا الحديث أنه أحرم بالعمرة أولا ثم أحرم بالحج ، ويدل عليه قوله " وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج " مع أنه ورد صريحا في أحاديث أنه أحرم بالحج ثم أحرم بالعمرة فكيف يصار إليه ؟ ولو ثبت لكان معارضا ، فالذي أدين الله تعالى به أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يبتدئ بالعمرة بعد فرض الحج عليه في أول الوهلة ، وقد اعتمر مرارا بعد الهجرة ، فالصواب أنه كان قارنا أولا ، ومعنى قوله " بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج" أنه لما جمع بين النسكين قد ذكر العمرة على الحج لأنه الوجه المسنون في القران دون العكس ثم كان أكثر ما يذكر في إحرامه الحج لأنه الأصل المفروض والسنة تابعة – انتهى . ( فساق معه الهدي من ذي الحليفة ) أي من الميقات ، وفيه الندب إلى سوق الهدي من المواقيت من الأماكن البعيدة ، وهي من السنن التي أغفلها كثير من الناس ، قاله الحافظ ( فتمتع الناس ) قال القاري : أي أكثرهم هذا التمتع بالجمع اللغوي بالجمع بين العبادتين ( مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج ) أي بضمها إليه ( فكان من الناس ) أي الذين أحرموا بالعمرة ( من أهدى ) وعند الشيخين بعده " فساق الهدي " ( فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس ) أي المعتمرين ( من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ) فيه حجة على الشافعية ومن
(18/149)
ومن لم يكن منكم أهدى فليطف
بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ، ثم ليهل بالحج وليهد ، فمن لم يجد هديا
فليصم ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وافقهم في أن سوق الهدي لا يمنع التحلل عندهم ، وقد تقدم بيانه في شرح حديث عائشة
( ولمن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت ) أي طواف العمرة ( وليقصر ) بتشديد الصاد .
قال النووي : معناه أنه يفعل الطواف والسعي والتقصير ويصير حلالا ، وهذا دليل على
أن الحلق أو التقصير نسك وهو الصحيح . وقيل استباحة محظور . قال : وإنما أمره
بالتقصير دون الحلق مع أن الحلق أفضل ليبقى له شعر يحلقه في الحج ( وليحلل ) قال
القاري : أي ليخرج من إحرام العمرة باستمتاع المحظورات . وقال الحافظ : هو أمر
معناه الخبر ، أي قد صار حلالا فله فعل كل ما كان محظورا عليه في الإحرام ، ويحتمل
أن يكون أمرا على الإباحة لفعل ما كان عليه حراما قبل الإحلال ( ثم ليهل بالحج )
أي يحرم وقت خروجه إلى عرفة ، ولهذا أتى بـ ثم الدالة على التراخي فلم يرد أنه يهل
بالحج عقب إحلاله من العمرة ( وليهد ) أي ليذبح الهدي يوم النحر بعد الرمي قبل
الحلق وهو هدي التمتع وهو واجب بشروطه المذكورة في كتب الفقه ( فمن لم يجد هدايا )
أي لم يجد الهدي بذلك المكان ويتحقق له ذلك بأن يعدم الهدي أو يعدم ثمنه حينئذ أو
يجد ثمنه لكن يحتاج إليه لأهم من ذلك ، أو يجده لكن يمتنع صاحبه من بيعه أو يمتنع
من بيعه إلا بغلائه فينتقل إلى الصوم كما هو نص القرآن ، كذا في الفتح . وفسر
الحنفية العجز من الهدي بأن لا يكون في ملكه فضل عن كفاف قدر ما يشتري به الدم ولا
هو أي الدم في ملكه ( ثلاثة أيام في الحج ) قال القاري : أي في أشهره قبل يوم
النحر ، والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة . وقال الحافظ : أي بعد الإحرام به . قال
النووي : هذا هو الأفضل وإن صامها قبل الإهلال بالحج أجزأه
(18/150)
على الصحيح . وأما قبل التحلل
من العمرة فلا على الصحيح ، وجوزه الثوري وأصحاب الرأي ، وعلى الأول فمن استحب
صيام عرفة بعرفة قال : يحرم يوم السابع ليصوم السابع والثامن والتاسع ، وإلا فيحرم
يوم السادس ليفطر بعرفة ، فإن فاته الصوم قضاه ، وقيل : يسقط ويستقر الهدي في ذمته
وهو قول الحنفية ، وفي صوم أيام التشريق لهذا قولان للشافعية ، أظهرهما : لا يجوز
. قال النووي : وأصحهما من حيث الدليل الجواز – انتهى . ( وسبعة إذا رجع إلى أهله
) قال القاري : أي توسعة ولو صام بعد أيام التشريق بمكة جاز عندنا – انتهى .
فالرجوع إلى الأهل عند الحنفية كناية عن الفراغ عن أفعال الحج . وقال النووي : أما
صوم السبعة فيجب إذا رجع . وفي المراد بالرجوع خلاف ، الصحيح في مذهبنا أنه إذا
رجع إلى أهله ، وهذا هو الصواب لهذا الحديث الصحيح الصريح ، والثاني إذا فرغ من
الحج ورجع إلى مكة من منى . وهذان القولان للشافعي ومالك ، وبالثاني قال أبو حنيفة
– انتهى . قلت : اختلفوا في تفسير قوله تعالى : ? وسبعة إذا رجعتم ? فقيل : إذا
رجعتم إلى أهليكم ، وهو أحد قولي الشافعي ، أو إذا نفرتم وفرغتم من أعمال الحج
ورجعتم إلى مكة وهو قوله
فطاف حين قدم مكة ، واستلم الركن أول شيء ، ثم خب ثلاثة أطواف ومشى أربعا ، فركع حين
قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم ، فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا
والمروة سبعة أطواف ، ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر ،
وأفاض فطاف بالبيت ، ثم حل من كل شيء حرم منه ، وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - من ساق الهدي من الناس .
متفق عليه .
2582 – ( 4 ) وعن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
هذه عمرة استمتعنا بها ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/151)
الثاني ومذهب أبي حنيفة ( فطاف ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( حين قدم مكة ) أي طواف القدوم ( واستلم الركن ) أي الحجر الأسود ( أول شيء ) أي من أفعال الطواف ( ثم خب ) أي رمل ، والخب نوع من العدو كالرمل ، والمراد هنا الرمل ( ثلاثة أطواف ) أي في ثلاثة أشواط . قال ابن الملك : إظهار للجلادة والرجولية في نفسه وفيمن معه من الصحابة كيلا يظن الكفار أنهم عاجزون ضعفاء ، قال القاري : هذا كان علة فعله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء ثم استمرت السنة بعد زال العلة ( ومشى ) أي بسكون وهينة ( أربعا ) أي في أربع مرات من لأشواط ( فركع ) أي صلى ( حين قضى ) أي أدى وأتم ( عند المقام ) متعلق بركع ( ركعتين ) أي صلاة الطواف ( ثم سلم ) أي من صلاته ( فانصرف ) أي عن البيت أو عن المسجد ( فأتى الصفا ) ظاهره أنه لم يتخلل بين صلاة الطواف والخروج إلى الصفا عمل آخر ، لكن تقدم في حديث جابر في صفة الحج " ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا " ( فطاف ) أي سعى ( بالصفا والمروة سبعة أطواف ) أي أشواط . وفي الحديث مشروعية طواف القدوم للقارن والرمل فيه إن عقبه بالسعي ، وأن الرمل هو الخبب ، وأنه يصلي ركعتي الطواف وأنهما يستحبان خلف المقام ، وتسمية السعي طوافا ( ثم لم يحل ) وفي الصحيحين " ثم لم يحلل " ( من شيء حرم منه حتى قضى حجه ) تقدم أن سبب عدم إحلاله كونه ساق الهدي وإلا لكان يفسخ الحج إلى العمرة ويتحلل منها كما أمر به أصحابه ( ونحر هديه يوم النحر ) قال القاري : وهو التحلل الأول بالحلق فيما عدا الجماع . وقال الحافظ : استدل به على أن الحلق ليس بركن ، وليس بواضح لأنه لا يلزم من ترك ذكره في هذا الحديث أن لا يكون وقع ، بل هو داخل في عموم قوله " حتى قضى حجه " ( وأفاض ) أي إلى مكة ( فطاف بالبيت ) أي طواف الإفاضة ( ثم حل من كل شيء حرم منه ) وهو التحلل الثاني المحلل للنساء ( وفعل مثلما فعل رسول
(18/152)
الله - صلى الله عليه وسلم -
من ساق الهدي من الناس ) وفي الصحيحين " من أهدى وساق الهدي من الناس "
والموصول فاعل قوله " فعل " أي فعل من أهدى وساق الهدي مثل ما فعل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه إشارة إلى عدم خصوصيته بذلك . ( متفق عليه )
وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 140) وأبو داود والنسائي والبيهقي .
2582- قوله ( هذه عمرة استمتعنا بها ) قال القاري : الاستمتاع هنا تقديم العمرة
والفراغ منها فهو في معناه
فمن لم يكن عنده الهدي ، فليحل الحل كله ، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم
القيامة " . رواه مسلم . وهذا الباب خال عن الفصل الثاني .
( الفصل الثالث )
2583 – ( 5 ) عن عطاء ، قال : سمعت جابر بن عبد الله في ناس معي قال : أهللنا
أصحاب محمد بالحج خالصا وحده . قال عطاء : قال جابر : فقدم النبي - صلى الله عليه
وسلم - صبح رابعة مضت من ذي الحجة ، فأمرنا أن نحل ، قال عطاء : قال : " حلوا
وأصيبوا النساء " . قال عطاء : ولم يعزم عليهم ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/153)
اللغوي أي الانتفاع . وقال الأبي : لا يقال فيه أنه أحرم متمتعا ، لأن الإشارة بهذه إلى عمرة الفسخ ومعنى " استمتعنا " استمتعتم ، أو يكون أدخل نفسه معهم فيها ولكن قام المانع وهو كون الهدي معه – انتهى . ( فليحل ) بفتح الياء وكسر الحاء ( الحل ) نصبه على المصدر ، وقوله ( كله ) تأكيد له أي الحل التام ( فإن العمرة فد دخلت في الحج ) أي في أشهره ( إلى يوم القيامة ) قال ابن الملك : يعني أن دخولها فيه في أشهره لا يختص بهذه السنة بل يجوز في جميع السنين – انتهى . والحديث يحتمل معاني أخرى بعضها بعيد ذكرناها في شرح حديث جابر في قصة حجة الوداع ( رواه مسلم ) في باب جواز العمرة في أشهر الحج . وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 236) وأبو داود والنسائي والبيهقي ( وهذا الباب خال عن الفصل الثاني ) أي في المصابيح ، وهو اعتذار من صاحب المشكاة عن تركه . ولئلا يشكل قوله " الفصل الثالث " .
(18/154)
2583 – قوله ( عن عطاء ) أي
ابن أبي رباح المكي التابعي الجليل تقدم ترجمته ( أهللنا أصحاب محمد - صلى الله
عليه وسلم - ) منصوب على الاختصاص ، أو بتقدير أعني ، أي أحرمنا ( بالحج خالصا
وحده ) أي ليس معه عمرة ، قال ذلك على حسب ما سبق إلى فهمه . وإلا فقد تقدم من
حديث عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنا من أهل بعمرة
ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج ، أو أراد بالأصحاب أكثرهم أو كثيرا منهم
، وقيل : هو محمول على ما كانوا ابتدأوا به ثم أذن لهم بإدخال العمرة على الحج ،
وبفسخ الحج إلى العمرة فصاروا على ثلاثة أنواع ( فأمرنا أن نحل ) بكسر الحاء أي
نفسخ الحج إلى العمرة قاله القاري ، وأمر - صلى الله عليه وسلم - بالحل من كان
مفردا أو قارنا ولم يكن معه هدي ، أما من كان معه هدي فقد بقي على إحرامه ( قال
عطاء ) أي راويا عن جابر ( قال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال في
اللمعات : الظاهر من السياق أن يكون فاعل " قال " جابر ، أي قال جابر في
تفسير قوله (( أمرنا أن نحل )) حاكيا من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((
حلوا )) ويجوز أن يكون فاعل " قال " رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،
فافهم ( حلوا ) بكسر الحاء وتشديد اللام صيغة أمر من " حل يحل " بكسر
الحاء في المضارع أي اجعلوا حجكم عمرة وتحللوا منها بالطواف والسعي والتقصير (
وأصيبوا ) بفتح الهمزة أمر من الإصابة ( ولم يعزم )
ولكن أحلهن لهم ، فقلنا : لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس ، أمرنا أن نفضي إلى
نسائنا ، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني . قال : يقول جابر بيده ، كأني أنظر إلى
قوله بيده يحركها . قال : فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فينا ، فقال : "
قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ، ولولا هديي لحللت كما تحلون ، ولو
استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، فحلوا " . فحللنا وسمعنا وأطعنا .
(18/155)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بفتح الياء وكسر الزاي ، أي لم يوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم وطئهن (
ولكن أحلهن لهم ) يعني لم يجعل الجماع عزيمة عليهم بل جعله رخصة لهم بخلاف الفسخ
فإنه كان عزيمة فأمر " حلوا " للوجوب و " أصيبوا " للإباحة
لأن من لازم الإحلال إباحة الجماع والوطئ قال الطيبي : أي قال عطاء في تفسير قول
جابر " فأمرنا " ثم فسر هذا التفسير بأن الأمر لم يكن جزما ( فقلنا ) أي
فيما بيننا يعني في جملة تذاكرنا فيما بيننا ( لما لم يكن ) أي حين لم يبق ( بيننا
وبين عرفة إلا خمس ) أي من الليالي بحساب ليلة عرفة أو من الأيام بحساب يوم الأحد
الذي لا كلام فيه ( أمرنا ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أن نفضي ) من
الإفضاء ، أي نصل ( إلى نسائنا ) وهو كناية عن الجماع كقوله تعالى ? وقد أفضى
بعضكم إلى بعض ? ( 4 :21) ( فنأتي ) بالرفع أي فنحن حينئذ نأتي . قال الطيبي :
قوله " فنأتي " ليس من تمام أمر رسول الله عليه وسلم ، بل هو عطف على
مقدر أي فتنزهنا من ذلك فقلنا نأتي عرفة ( تقطر مذاكيرنا المني ) جمع ذكر على غير
قياس . وقال الأخفش : هو من الجمع الذي ليس له واحد مثل العبابيد والأبابيل ،
والجملة حالية ، وهو كناية عن قرب العهد بالجماع ، وكان هذا عيبا في الجاهلية حيث
يعدونه نقصا في الحج ( قال) أي عطاء ( يقول جابر ) أي يشير بيده ( كأني أنظر إلى
قوله بيده ) أي إشارته بها ( يحركها ) أي يده ، قال الكرماني : هذه الإشارة لكيفية
التقطر ، ويحتمل أن تكون إلى محل التقطر – انتهى . وقيل : لعله أراد تشبيه تحريك
المذاكير بتحريك اليد ( فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فينا ) أي خطيبا ، وفي
رواية " فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فما ندري أشيء بلغه من السماء
أم شيء بلغه من قبل الناس ، فقام فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه " ( فقال )
زاد في رواية " بلغني أن أقواما
(18/156)
يقولون كذا وكذا " ( قد
علمتم ) أي اعتقدتم ( أني أتقاكم لله ) أي أدينكم وأخشاكم ( وأصدقكم ) أي قولا (
وأبركم ) أي عملا ، وقيل أي أطوعكم لله ( ولولا هديي لحللت كما تحلون ) وفي رواية
" لولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ
الهدي محله " ( ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ) ما موصولة محلها النصب على
المفعولية ( لم أسق الهدي ) أي لو علمت في ابتداء شروعي ما علمت الآن من لحوق
المشقة لأصحابي بانفرادهم بالفسخ حتى توقفوا وترددوا وراجعوا لما سقت الهدي حتى
فسخت وحللت معهم ، أراد به - صلى الله عليه وسلم - تطييب قلوبهم وتسكين نفوسهم في
صورة المخالفة بفعله وهم يحبون متابعة وكما موافقته ، ولما في نفوسهم من الكراهية
في الاعتمار في أشهر الحج ومقاربة النساء قرب عرفة (فحلوا) بكسر الحاء أمر للتأكيد
( فحللنا وسمعنا وأطعنا وفي رواية
قال عطاء : قال جابر : فقدم علي من سعايته ، فقال : بم أهللت ؟ قال : بما أهل به
النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" فأهد وامكث حراما " . قال : وأهدى له علي هديا . فقال سراقة بن مالك
بن جعشم : يا رسول الله ! ألعامنا هذا أم لأبد ؟ قال : " لأبد " . رواه
مسلم .
2584 – (6) وعن عائشة ، أنها قالت : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربع
مضين من ذي الحجة أو خمس ، فدخل علي وهو غضبان ، فقلت : من أغضبك يا رسول الله !
أدخله الله النار . قال : " أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون
، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/157)
(( فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا ما يفعل الحلال )) ( فقدم علي من سعايته ) بكسر السين أي من عمله من القضاء وغيره في اليمن ، وقد سبق بيان معناه في شرح حديث جابر الطويل نقلا عن القاضي عياض والنووي ( فأهد ) أمر من الإهداء أي في وقت الهدي دم القران ( وامكث ) أي الآن ( حراما ) أي محرما ( قال ) أي جابر ( وأهدى ) أي أتى بالهدي ( له علي هديا ) أي من اليمن كما سبق ( ألعامنا هذا ؟ ) أي جواز العمرة في أشهر الحج أو جواز فسخ الحج إلى العمرة مختص بهذه السنة أم لأبد ؟ والأول قول الجمهور ، والثاني قول أحمد ، وقد سبق الكلام في ذلك مفصلا ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد والبخاري وأبو نعيم في المستخرج وأبو داود والنسائي وابن ماجة والطحاوي والحاكم والبيهقي والطيالسي وغيرهم مختصرا ومطولا بألفاظ مختلفة .
(18/158)
2584- قوله قدم رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - لأربع ) أي ليال ( أو خمس ) شك منها أو من الراوي عنها . وقد
تقدم في حديث جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - قدم صبح رابعة مضت من ذي الحجة (
فدخل علي وهو غضبان ) أي ملآن من الغضب حين تأخر بعض أصحابه في فسخ الحج إلى
العمرة . قال النووي : أما غضبه - صلى الله عليه وسلم - فلانتهاك حرمة الشرع
وترددهم في قبول حكمه وقد قال الله تعالى ? فلا وربك لا يؤمنون حنى يحكموك فيما
شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ? (4 : 65) فغضب -
صلى الله عليه وسلم - لما ذكرناه من انتهاك حرمة الشرع والحزن عليهم في نقص
إيمانهم بتوقفهم ، وفيه دلالة لاستحباب الغضب عند انتهاك حرمة الدين ( أدخله الله
النار ) دعاء أو إخبار . وفيه جواز الدعاء على المخالف لحكم الشرع ( قال : أو ما
شعرت ) أي أو ما عملت ( أني أمرت الناس ) أي بعضهم وهم الذين أحرموا بالحج مفردا
أو أحرموا بالحج والعمرة قرانا ولم يكن معهم هدي ( بأمر ) وهو فسخ الحج ( فإذا هم
يترددون ) أي في طاعة الأمر ومسارعته ، أو في أن هذه الإطاعة هل هي نقصان بالنسبة
إلى حجهم ، قاله القاري ( حتى اشتريه ) أي الهدي بمكة أو في
ثم أحل كما حلوا " . رواه مسلم .
(3) باب دخول مكة والطواف
( الفصل الأول )
2585 - (1) عن نافع ، قال : إن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى ، حتى
يصبح ويغتسل ويصلي ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/159)
الطريق ( ثم أحل ) أي بالفسخ
كما حلوا ، استدل بهذا الحديث على وجوب فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي ،
وقد سبق الكلام في ذلك في شرح حديث جابر الطويل ( رواه مسلم ) وفي معناه ما روي عن
البراء بن عازب عند أحمد وابن ماجه وأبي يعلى ، وقد ذكرنا لفظه في بحث فسخ الحج ،
وهو من الأحاديث في الفسخ التي صححها أحمد وابن القيم وقال الهيثمي في مجمع
الزوائد بعد عزوه لأبي يعلى : رجاله رجال الصحيح .
( باب دخول مكة ) أي آداب دخولها ( الطواف ) عطف على المضاف .
(18/160)
2585 – قوله ( عن نافع ) أي مولى
ابن عمر ( كان لا يقدم مكة ) بفتح الدال أي لا يجيئها ( إلا بات ) أي نزل في الليل
عند قدومه ( بذي طوى ) بتثليث الطاء مع الصرف وعدمه ، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان
وجعله نكرة ، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة . قال النووي : هو موضع
معروف بقرب مكة يقال بفتح الطاء وضمها وكسرها ، والفتح أفصح وأشهر ويصرف ولا يصرف
. وقال الحافظ : ويعرف اليوم ببئر الزاهر ، وهو مقصود منون وقد لا ينون . وقال
الطبري : ذو طوى بضم الطاء المهملة وفتح الواو المخففة والقصر موضع عند باب مكة
يسمى بذلك ببئر مطوية فيه ، هكذا ضبطه بعضهم وضبطه الأصيلي بكسر الطاء . وقال
الأصمعي : هي بفتح الطاء . قال المنذري : وهو الصواب ، فأما الموضع الذي بالشام
فيكسر طاؤه ويضم ويصرف ولا يصرف ، وقد قرئ بهما ، وأما التي بطريق الطائف فممدود (
حتى يصبح ) فكان ينزل بذي طوى ويبيت فيه للاستراحة وللاغتسال والنظافة ( ويغتسل )
أي به . قال النووي : في الحديث الاغتسال لدخول مكة وأنه يكون بذي طوى لمن كانت في
طريقه ( بأن يأتي من طريق المدينة ) ويكون بقدر بعدها لمن لم يكن في طريقه ( قال
الطبري : ولو قيل : يسن له التعريج إليها والاغتسال بها إقتداء وتبركا لم يبعد .
قال الأذرعي : وبه جزم الزعفراني ) قال أصحابنا : وهذا الغسل سنة فإن عجز عنه تيمم
. وقال الحافظ : قال ابن المنذر الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء
وليس في تركه عندهم فدية . وقال أكثرهم : يجزئ منه الوضوء . وفي الموطأ أن ابن عمر
كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام ، وظاهره أن غسله لدخول مكة كان لجسده
دون
فيدخل مكة نهارا ، وإذا نفر منها ، مر بذي طوى وبات بها حتى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/161)
رأسه وقال الشافعية : إن عجز عن الغسل تيمم . وقال ابن التين : لم يذكر أصحابنا الغسل لدخول مكة ، وإنما ذكروه للطواف ، والغسل لدخول مكة هو في الحقيقة للطواف – انتهى . وقال ابن قدامة : يستحب الاغتسال لدخول مكة ، لأن ابن عمر كان يغتسل ثم يدخل مكة نهارا ، ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله ، ولأن مكة مجمع أهل النسك فإذا قصدها استحب له الاغتسال كالخارج إلى الجمعة ، والمرأة كالرجل وإن كان حائضا أو نفساء لأن الغسل يراد به التنظيف وهذا يحصل مع الحيض فاستحب لها ذلك ، وهذا مذهب الشافعي - انتهى . قلت : وهو مذهب أبي حنيفة أيضا ، فهذا الغسل عند الأئمة الثلاثة الشافعي وأحمد وأبي حنيفة لدخول مكة كما هو مصرح في كتب فروعهم ومناسكهم كما هو ظاهر أثر ابن عمر أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخول مكة ، ولم يحتج إلى غسل للطواف لأنه ليس بين الدخول والطواف كبير فصل ، فيجتمع في غسله هذا أمران دخول مكة وطواف بيت الله ، ويؤيد ذلك ما قاله العيني : أن الغسل لدخول مكة ليس لكونه محرما وإنما لحرمة مكة حتى يستحب لمن كان حلالا أيضا ، وقد اغتسل لها - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح وكان حلالا أفاد ذلك الإمام الشافعي في الأم - انتهى . وأما عند المالكية فالغسل المذكور في الحديث وفي الأثر للطواف لا للدخول ، قال الباجي : أضاف الغسل أي في أثر ابن عمر إلى دخول مكة وإن كان مقصوده الطواف لأنه يفعل عند دخول مكة ليتصل الدخول بالطواف ، والغسل في الحقيقة للطواف دون الدخول ، ولذلك لا تغتسل الحائض ولا النفساء لدخول مكة لتعذر الطواف عليهما – انتهى . وفي الشرح الكبير للدردير : وندب الغسل لدخول غير حائض ونفساء مكة بطوى ، لأن الغسل في الحقيقة للطواف فلا يؤمر به إلا من يصح منه الطواف ، وقوله (( بطوى )) حقه أن يقول : وبطوى . لأنه مندوب ثان – انتهى . ( فيدخل مكة نهارا ) فيه استحباب دخول مكة نهارا . قال
(18/162)
النووي : وهذا هو الصحيح الذي
عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم أن دخولها نهارا أفضل من الليل . وقال بعض
أصحابنا وجماعة من السلف : الليل والنهار في ذلك سواء ولا فضيلة لأحدهما على الآخر
، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلها محرما بعمرة الجعرانة ليلا ، ومن
قال بالأول حمله على بيان الجواز – انتهى . وقال الحافظ : وأما الدخول ليلا فلم
يقع منه - صلى الله عليه وسلم - إلا في عمرة الجعرانة فإنه - صلى الله عليه وسلم -
أحرم من الجعرانة ودخل مكة ليلا فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة
كبائت ، كما رواه أصحاب السنن الثلاثة من حديث محرش الكعبي ، وترجم عليه النسائي
(( دخول مكة ليلا )) وروى سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي قال : كانوا يستحبون أن
يدخلوا مكة نهارا ويخرجوا منها ليلا ، وأخرج عن عطاء : إن شئتم فادخلوا مكة ليلا ،
وإن شئتم فادخلوها نهارا ، إنكم لستم في ذلك كالنبي - صلى الله عليه وسلم - إن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إماما فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس –
انتهى . قال الحافظ : وقضية هذا أن من كان إماما يقتدى به استحب له أن يدخلها
نهارا ( وإذا نفر ) أي خرج ( منها ) أي من مكة ( مر بذي طوى وبات بها حتى
يصبح ، ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك . متفق عليه .
2586 – (2) وعن عائشة ، قالت : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء إلى مكة
دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يصبح ) انتظارا لأصحابه واهتماما لجمع أسبابه ( ويذكر ) عطف على (( لا يقدم )) أي
وكان ابن عمر يذكر ( كان يفعل ذلك ) أي كلا من المبيت بذي طوى والاغتسال وصلاة
الصبح به ودخول مكة نهارا ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 14 ، 16 ، 157)
وأبو داود والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 71 ، 72) .
(18/163)
2586 – قوله ( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي عام حجة الوداع لأنها كانت معه حينئذ ( لما جاء إلى مكة ) أي وصل إلى قربها ( دخلها من أعلاها ) وكذا دخل في فتح مكة منها وأعلى مكة هو الجانب الشرقي ( وخرج من أسفلها ) أي لما أراد الخروج منها وفي حديث ابن عمر عند البخاري (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة من كداء من الثنية العلياء التي بالبطحاء ، وخرج من الثنية السفلى )) فالمراد بأعلاها (( ثنية كداء )) بفتح الكاف والمد والتنوين أي صرفه وعدمه نظرا إلى أنه علم المكان أو البقعة ، وقال أبو عبيد : لا تصرف ، أي للعلمية والتأنيث ، وهي الثنية العليا التي ينحدر منها على المقبرة المسماة عند العامة بالمعلاة ، وتسمى بالحجون عند الخاصة . وقال الحافظ : هذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلى مقبرة أهل مكة ، وهي التي يقال لها الحجون يفتح المهملة وضم الجيم ، وكانت صعبة المرتقى فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره الأزرقي ، ثم سهل في عصرنا هذا منها سنة إحدى عشرة وثمانمائة موضع ، ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمان مائة . وكل عقبة في جبل أو طريق عال تسمى ثنية . قال ابن جاسر : ثم سهلت في زمن الشريف الحسين بن علي في حدود الثلاثين وثلاثمائة وألف ، ثم سهلت في زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود ، ثم سهلت تسهيلا كاملا بعده – انتهى . والمراد بأسفلها ثنية كدى كهدى وقرئ بضم الكاف والقصر والتنوين وتركه . قال الحافظ : وهي عند باب شبيكة بقرب شعب الشافعين من ناحية قعيقعان ، وكان ذلك بناء هذا الباب عليها في القرن السابع – انتهى . قال ابن جاسر : لا وجود الآن لهذا الباب ، وقد أزيل لاتساع البلد ، قال : وهذه الثنية تعرف الآن بريع الرسام ، وقد سهلت ، وهي الآن في الشارع العام الموصل إلى جرول . تنبيه : حكى الحميدي عن أبي العباس العذري أن بمكة
(18/164)
موضعا ثالثا يقال له : (( كدي
)) كسمي ، أي بالضم والتصغير يخرج منه إلى جهة اليمن . قال المحب الطبري : حققه
العذري عن أهل المعرفة بمكة ، قال : وقد بني عليها باب مكة الذي يدخل منه أهل اليمن
، واختلف في المعنى الذي لأجله خالف النبي - صلى الله عليه وسلم - بين طريقيه ،
فقيل : فعله تفاؤلا بتغيير الحال إلى أكمل منه كما فعل في العيد وليشهد له
الطريقان أو ليتبرك به أهلهما ، وقيل : ليرى السعة في ذلك . وقيل : لأن نداء أبينا
إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان من جهة العلو . وقيل : ليظهر شوكة المسلمين في
كلتا الطريقين . وقيل : ليغيظ المنافقين بظهور الدين
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعز الإسلام . وقال الحافظ : قيل الحكمة في ذلك المناسبة بجهة العلو عند الدخول
لما فيه من تعظيم المكان وعكسه الإشارة إلى فراقه ، وقيل لأن إبراهيم لما دخل مكة
دخل منها ، وقيل لأنه - صلى الله عليه وسلم - خرج منها مختفيا في الهجرة ، فأراد
أن يدخلها ظاهرا عاليا ، وقيل لأن من جاء من تلك الجهة كان مستقبلا للبيت ، ويحتمل
أن يكون ذلك لكونه دخل منها يوم الفتح فاستمر على ذلك . والسبب في ذلك قول أبي
سفيان بن حرب للعباس : لا أسلم حتى أرى الخيل تطلع من كداء فقلت : ما هذا ؟ قال :
شيء طلع بقلبي ، وإن الله لا يطلع الخيل هناك أبدا . قال العباس فذكرت أبا سفيان
بذلك لما دخل . وللبيهقي من حديث ابن عمر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
لأبي بكر : كيف قال حسان ؟ فأنشده :
-
-
عدمت بنيتي إن لم تروها _ -
-
تثير النقع مطلعها كداء ( -
-
(18/165)
فتبسم وقال : ادخلوها من حيث قال حسان – انتهى . والحديث يدل على استحباب دخول مكة من أعلاها أي الثنية العليا والخروج من أسفلها ، وبه قال جمهور العلماء ، وهل يسن الدخول من الثنية العليا لكل داخل سواء كانت تلقاء طريقه أم لم تكن في طريقه ؟ فذهب أبو بكر الصيدلاني وجماعة من الشافعية ، واعتمده الرافعي إلى أنه إنما يستحب الدخول منها لمن كانت في طريقه ، وأما من لم تكن في طريقه فقالوا : لا يستحب له العدول إليها ، وذهب النووي إلى أن الدخول منها نسك مستحب لكل أحد ، وصوبه وصححه وهو ما مشى عليه في المجموع وزوائد الروضة ، واعتمده المتأخرون منهم . قال النووي في شرح المهذب : واعلم أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه المحققون من أصحابنا أن الدخول من الثنية العليا مستحب لكل محرم داخل مكة سواء كانت في صوب طريقه أم لم تكن ، ويعتدل إليها من لم تكن في طريقه . وقال الصيدلاني والقاضي حسين والفوراني وإمام الحرمين والبغوي والمتولي : إنما يستحب الدخول منها لمن كانت في طريقه ، وأما من لم تكن في طريقه فقالوا : لا يستحب له العدول إليها ، قالوا : وإنما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - اتفاقا لكونها كانت في طريقه ، هذا كلام الصيدلاني وموافقيه ، واختاره إمام الحرمين ونقله الرافعي عن جمهور الأصحاب ، وقال الشيخ أبو محمد الجويني : ليست العليا على طريق المدينة بل عدل إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - متعمدا لها ، قال : فيستحب الدخول منها لكل أحد . قال : ووافق إمام الحرمين الجمهور في الحكم ووافق أبا محمد في أن موضع الثنية كما ذكره . وهذا الذي قاله أبو محمد من كون الثنية ليست على نهج الطريق بل عدل إليها هو الصواب الذي يقضي به الحس والعيان ، فالصحيح استحباب الدخول من الثنية العليا لكل محرم قصد مكة سواء كانت في طريقه أم لا ، وهو ظاهر نص الشافعي في المختصر ومقتضى إطلاقه فإنه قال : ويدخل المحرم من ثنية كداء ، ونقله
(18/166)
صاحب البيان عن عامة الأصحاب –
انتهى . وقال ابن جاسر : لم أر من تعرض لهذا البحث من أصحابنا الحنابلة ، وظاهر
كلامهم يقتضي سنية ذلك لإطلاقهم سنية الدخول من أعلاها من ثنية كداء ، ولكن ينبغي
تقييد هذا الإطلاق بما إذا كانت ثنية كداء إزاء طريقه ، أما إذا لم تكن في طريقه
فلا يستحب له
متفق عليه .
2587 – (3) وعن عروة بن الزبير ، قال : قد حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ،
فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/167)
2587 - قوله ( وعن عروة بن الزبير ، قال : قد حج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتني عائشة ) إلخ . للحديث سبب ذكره مسلم في صححه قد روى بسنده عن محمد بن عبد الرحمن ( هو أبو الأسود النوفلي المدني المعروف بيتيم عروة ) أن رجلا من أهل العراق قال له : سل لي عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج ، فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا ؟ فإن قال لك : لا يحل ، فقل له : إن رجلا يقول ذلك . قال : فسألته فقال : لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج ، قلت : فإن رجلا كان يقول ذلك . قال : بئسما قال . فتصداني الرجل ، فسألني فحدثته ، فقال : فقل له : فإن رجلا كان يخبر أن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - قد فعل ذلك وما شأن أسماء والزبير قد فعلا ذلك ؟ قال : فجئته فذكرت له ذلك فقال : من هذا ؟ فقلت : لا أدري ( أي لا أعرف اسمه ) قال : فما باله لا يأتيني بنفسه يسألني ، أظنه عراقيا ( يعني وهم يتعنتون في المسائل ) قلت : لا أدري . قال : فإنه قد كذب ، قد حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) حين قدم مكة أنه توضأ ، فذكر الحديث . قال الحافظ : قوله " فإن رجلا كان يخبر " عني به ابن عباس ، فإنه كان يذهب إلى أن من لم يسق الهدي وأهل بالحج إذا طاف يحل من حجه وأن من أراد أن يستمر على حجه لا يقرب البيت حتى يرجع من عرفة ، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يجعلوها عمرة ، قال الحافظ : هذا مذهب لابن عباس خالفه فيه الجمهور ، ووافقه فيه ناس قليل منهم إسحاق بن راهويه ، وجواب الجمهور عن مأخذه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن يفسخوا حجهم فيجعلوه عمرة ، ثم اختلفوا فذهب الأكثر إلى أن ذلك كان خاصا بهم ، وذهب طائفة إلى أن ذلك جائز لمن بعدهم ، واتفقوا كلهم أن من أهل بالحج مفردا لا يضره الطواف بالبيت ، وبذلك احتج عروة
(18/168)
في حديث الباب أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - بدأ بالطواف ولم يحل من حجه ولا صار عمرة ، وكذا أبو بكر وعمر (
أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ) قال القاري : أي جدد الوضوء لما تقدم
أنه كان يغتسل فلا دلالة فيه على كون الطهارة شرطا لصحة الطواف لأن مشروعيتها مجمع
عليها، وإنما الخلاف في صحة الطواف بدونها ، فعندنا أنها واجبة ، والجمهور على
أنها شرط – انتهى . وترجم البخاري لهذا الحديث " باب الطواف على وضوء "
. قال الحافظ : أورد فيه حديث عائشة " أن أول شيء بدأ به النبي - صلى الله
عليه وسلم - حين قدم أنه توضأ ثم طاف " الحديث . وليس فيه دلالة على الاشتراط
إلا إذا انضم إليه
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/169)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : " خذوا عني مناسككم " وباشتراط الوضوء للطواف قال الجمهور وخالف فيه بعض الكوفيين ، ومن الحجة عليهم قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة لما حاضت " غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " . وقال في شرح حديث عائشة هذا : هو ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل ، لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد ، وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته ، وفي معنى الحائض الجنب والمحدث وهو قول الجمهور . وذهب جمع من الكوفيين إلى عدم الاشتراط . قال ابن أبي شيبة : حدثنا غندر حدثنا شعبة : سألت الحكم وحمادا ومنصورا وسليمان عن الرجل يطوف بالبيت على غيره طهارة فلم يروا به بأسا ، وروي عن عطاء إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدا ثم حاضت أجزأ عنها ، ففي هذا تعقب على النووي حيث قال في شرح المهذب : انفرد أبو حنيفة بأن الطهارة ليست بشرط في الطواف : واختلف أصحابه في وجوبها وجبرانه بالدم إن فعله – انتهى . قال الحافظ : " ولم ينفردوا بذلك كما ترى فلعله أراد انفرادهم عن الأئمة الثلاثة " ، لكن عند أحمد رواية أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بالدم ، وعند المالكية قول يوافق هذا – انتهى . قلت : والذي جزم به الدردير والدسوقي من المالكية هو اشتراط الطهارة حيث قال الدردير : للطواف مطلقا ركنا أو واجبا أو مندوبا شروط أولها كونه أشواطا سبعا ، وثانيها كونه متلبسا بالطهارتين أي طهارة الحدث والخبث – انتهى . وقال الباجي في شرح قول ابن عمر : المرأة الحائض تهل بحجها أو عمرتها إذا أرادت ولكن لا تطوف بالبيت ، لأن الطواف بالبيت ينافيه ولذلك يفسده الحيض والنفاس ويمنع صحته وتمامه لأن من شرطه الطهارة – انتهى . وقال ابن قدامة : ويكون طاهرا في ثياب طاهرة يعني في الطواف لأن الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف في المشهور عن أحمد وهو قول مالك والشافعي ، وعن أحمد أن الطهارة ليست بشرط
(18/170)
فمتى طاف للزيارة غير متطهر
أعاد ما كان بمكة ، فإن خرج إلى بلده جبره بدم ، وكذلك يخرج في الطهارة من النجس
والستارة ، وعنه فيمن طاف للزيارة وهو ناس للطهارة لا شيء عليه – انتهى . وبسط
الكلام في ذلك الولي العراقي في طرح الثريب (ج5 : ص 120، 121) وكذا الساعاتي في
شرح المسند (ج 12: ص 14) وقال النووي في شرح مسلم تحت حديث عائشة الذي أشار إليه
الحافظ : فيه دليل على أن الطواف لا يصح من الحائض ، وهذا مجمع عليه ، لكن اختلفوا
في علته على حسب اختلافهم في اشتراط الطهارة للطواف ، فقال مالك والشافعي وأحمد هي
شرط ، وقال أبو حنيفة : ليست بشرط ، وبه قال داود ، فمن شرط الطهارة قال : العلة
في بطلان الطواف عدم الطهارة ، ومن لم يشترطها قال : العلة فيه كونها ممنوعة من
اللبث في المسجد – انتهى . قال الولي العراقي بعد ذكره : فيه نظر فإن أبا حنيفة
يصحح الطواف كما هو معروف عنه ، وكما حكاه هو عنه في شرح المهذب ، ولا يلزم من
ارتكاب المحرم في اللبث في المسجد بطلان الطواف – انتهى . وقال ابن الهمام في شرح
الهداية : والحاصل أن حرمة الطواف من وجهين دخولها المسجد وترك واجب الطواف ، فإن
الطهارة واجبة في
ثم طاف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/171)
الطواف فلا يحل لها أن تطوف حتى تطهر فإن طافت كانت عاصية مستحقة لعقاب الله تعالى ولزمها الإعادة ( ثم طاف بالبيت ) أي طواف القدوم ، قاله الطيبي . وقال القاري : أي طواف العمرة لكونه قارنا أو متمتعا ولا يخفى ما فيه . وقال في اللباب : ثم إن كان المحرم مفردا بالحج وقع طوافه هذا للقدوم ، وإن كان مفردا بالعمرة أو متمتعا أو قارنا وقع عن طواف العمرة نواه له أو لغيره ، وعلى القارن أن يطوف طوافا آخر للقدوم – انتهى . قال القاري : أي استحبابا بعد فراغه عن سعي العمرة – انتهى . وأول وقته حين دخوله مكة وآخره قبل وقوفه بعرفة فإذا وقف فقد فات وقته ويسن هذا الطواف للآفاقي لأنه القادم ويسمي أيضا طواف التحية لأنه بمنزلة تحية المسجد شرع تعظيما للبيت ويسمى طواف اللقاء وطواف أول عهد بالبيت وطواف الورود . والحديث يدل على مشروعية طواف القدوم ولا اختلاف فيه . قال الحافظ : في هذا الحديث استحباب الابتداء بالطواف للقادم لأنه تحية المسجد الحرام . واستثنى بعض الشافعية ومن وافقه المرأة الجميلة أو الشريفة التي لا تبرز فيستحب لها تأخير الطواف إلى الليل إن دخلت نهارا ، وكذا من خاف فوت مكتوبة أو جماعة مكتوبة أو مؤكدة أو فائتة ، فإن ذلك كله يقدم على الطواف ، وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه ، وعن مالك وأبي ثور من الشافعية عليه دم ، وهل يتداركه من تعمد تأخيره بغير عذر ؟ وجهان كتحية المسجد . وقال النووي : جميع العلماء يقولون إن طواف القدوم سنة ليس بواجب إلا بعض أصحابنا ومن وافقه فيقولون واجب يجبر تركه بالدم ، والمشهور أنه سنة ليس بواجب ولا دم في تركه – انتهى . وقال الشوكاني : قد اختلف في وجوب طواف القدوم فذهب مالك وأبو ثور وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه فرض أي واجب لقوله تعالى ? وليطوفوا بالبيت العتيق ? (22 : 29) ولفعله - صلى الله عليه وسلم - وقوله : " خذوا عني مناسككم " فذهب الأئمة
(18/172)
الثلاثة أبو حنيفة والشافعي
وأحمد إلى أنه سنة ، قالوا لأنه ليس فيه إلا فعله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا
يدل على الوجوب . وأما الاستدلال على الوجوب بالآية فقال شارح البحر : إنها لا تدل
على طواف القدوم لأنها في طواف الزيارة أي الإفاضة إجماعا ، قال الشوكاني : والحق
الوجوب لأن فعله - صلى الله عليه وسلم - مبين لمجمل واجب هو قوله تعالى : ? ولله
على الناس حج البيت ? (3 : 97) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : خذوا عني مناسككم .
وقوله : حجوا كما رأيتموني أحج . وهذا الدليل يستلزم وجوب كل فعل فعله النبي - صلى
الله عليه وسلم - في حجه إلا ما خصه دليل ، فمن ادعى عدم وجوب شيء من أفعاله في
الحج فعليه الدليل على ذلك ، وهذه كلية فعليك بملاحظتها في جميع الأبحاث التي ستمر
بك ( ثم لم تكن ) بالتأنيث ( عمرة ) بالرفع وكان تامة ، أي لم يوجد بعد الطواف
عمرة ، وقد ينصب أي لم يكن الطواف عمرة ، كذا في اللمعات . وقال الحافظ : معنى
قوله " ثم لم تكن عمرة " أي لم تكن الفعلة عمرة هذا إن كان بالنصب على
أنه خبر كان ، ويحتمل أن تكون كان تامة والمعنى : ثم لم تحصل عمرة ، وهي على هذا
بالرفع ، وقد وقع في رواية مسلم بدل عمرة " غيره " بغين معجمة وياء
ساكنة وآخره هاء ، قال عياض : وهو
ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة ، ثم عمر ، ثم
عثمان مثل ذلك . متفق عليه .
2588 – (4) وعن ابن عمر ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طاف في
الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف ومشى أربعة ، ثم سجد سجدتين ، ثم يطوف
بين الصفا والمروة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/173)
تصحيف ، وقال النووي : لها وجه أي لم يكن غير الحج ، وكذا وجه القرطبي – انتهى . وقال التوربتشي : قوله (( ثم لم تكن عمرة )) أي لم يحل عن إحرامه ذلك ولم يجعلها عمرة ، والمراد من قوله (( ثم لم يكن غيره )) أي لم يكن هناك تحلل بالطواف من الإحرام بل أقام على إحرامه حتى نحر هديه ( ثم حج أبو بكر ) أي بعده - صلى الله عليه وسلم - ( فكان أول شيء ) بالرفع ( ثم عمر ثم عثمان مثل ذلك ) قال القاري : بالنصب أي فعلا مثل ذلك ، وفي نسخة بالرفع أي فعلهما مثل ذلك وقوله (( ثم عمر ثم عثمان مثل ذلك )) كذا في جميع النسخ ، وهكذا في المصابيح ، ولفظ الصحيحين (( ثم عمر مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به بالطواف بالبيت ثم لم يكن عمرة )) وفي مسلم (( لم يكن غيره )) قال الداودي : ما ذكر من حج عثمان هو من كلام عروة وما قبله من كلام عائشة . وقال أبو عبد الملك : منتهى حديث عائشة عند قوله (( ثم لم تكن عمرة )) ومن قوله (( ثم حج أبو بكر )) إلخ . من كلام عروة – انتهى . قال الحافظ : فعلى هذا يكون بعض هذا منقطعا لأن عروة لم يدرك أبا بكر ولا عمر ، نعم أدرك عثمان ، وعلى قول الداودي يكون الجميع متصلا وهو الأظهر – انتهى . ( متفق عليه ) قد عرفت مما قدمنا أن مسلما رواه مطولا والبخاري مختصرا دون قصة الرجل أي حذف صورة السؤال وجوابه ، واقتصر على المرفوع منه كما في المشكاة ، والحديث أخرجه البيهقي مطولا من طريق مسلم .
(18/174)
2588 – قوله ( إذا طاف في الحج
أو العمرة ) كذا عند البخاري بحرف (( أو )) وعند مسلم (( في الحج والعمرة )) أي
بالواو ، والظاهر أن أو للتنويع ( أول ما يقدم ) ظرف ( سعى ) جواب للشرط . قال
القاري : ولا يبعد أن يكون ظرف طاف . قلت : ويقويه رواية مسلم بلفظ : كان إذا طاف
في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاث أطواف بالبيت . والمراد بالسعي الرمل
كما في الروايات الأخرى ( ثلاث أطواف ) أي أشواط ونصبه على أنه مفعول فيه ( ثم سجد
سجدتين ) أي صلى ركعتين للطواف ( ثم يطوف ) أي يسعى ، والتعبير بالمضارع فيه وفي
(( يقدم )) لحكاية الحال الماضية ، وفي رواية لابن عمر عند الشيخين (( كان إذا طاف
بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا )) ، وفيها وفي رواية الباب دليل على أن
الرمل إنما يشرع في طواف القدوم لأنه الطواف الأول ، وهو الذي عليه الجمهور . قال
أصحاب الشافعي : ولا يستحب الرمل إلا في طواف واحد في حج أو عمرة ، أما إذا طاف في
غير حج أو عمرة فلا رمل . قال النووي : بلا خلاف . ولا يشرع أيضا في كل طوافات
الحج بل إنما يشرع في واحد منها ، وفيه قولان
..............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/175)
مشهوران للشافعي أصحهما طواف يعقبه سعي ويتصور ذلك في طواف القدوم وفي طواف الإفاضة ، ولا يتصور في طواف الوداع ، والقول الثاني : أنه لا يشرع إلا في طواف القدوم ، وسواء أراد السعي بعده أم لا ، ويشرع في طواف العمرة إذ ليس فيها إلا طواف واحد ، وفيها أيضا دليل على أن السنة أن يرمل في الثلاثة الأول من أول طواف يطوفه القادم إلى مكة سواء كان عمرة أو طواف قدوم في حج ويمشي على عادته في الأشواط الأربعة الباقية ولا يرمل فيها وإن ترك الرمل في الأشواط الأول لم يقضه في الأشواط الأخيرة على الصواب ولا يلزم بتركه دم على الأظهر لعدم الدليل خلافا لمن أوجب فيه الدم . قال الحافظ في الفتح : لا يشرع تدارك الرمل ، فلو تركه في الثلاث لم يقضه في الأربع لأن هيأتها السكينة فلا تغير ، ويختص بالرجال فلا رمل على النساء ويختص بطواف يعقبه سعي على المشهور ، ولا فرق في استحبابه بين ماش وراكب ولا دم بتركه عند الجمهور ، واختلف في ذلك المالكية . قال الشوكاني : وقد روي عن مالك أن عليه دما ولا دليل على ذلك . ثم قال : يؤيده أنهم اقتصروا عند مراآة المشركين على الإسراع إذا مروا من جهة الركنين الشاميين ، لأن المشركين كانوا بإزاء تلك الناحية يعني ناحية الحجر ، فإذا مروا بين الركنين اليمانيين مشوا على هيأتهم كما هو مبين في حديث ابن عباس ( عند الشيخين ) ولما رملوا في حجة الوداع أسرعوا في جميع كل طوفة فكانت سنة مستقلة . وقال الطبري : قد ثبت أن الشارع سعى ولا مشرك يومئذ بمكة يعني في حجة الوداع فعلم أنه من مناسك الحج إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل بل لهيأة مخصوصة فكان كرفع الصوت بالتلبية فمن لبى خافضا صوته لم يكن تاركا للتلبية بل لصفتها ولا شيء عليه – انتهى . قال النووي : ولو لم يمكنه الرمل بقرب الكعبة وأمكنه إذا تباعد عنها فالأولى أن يتباعد ويرمل ، لأن فضيلة الرمل هيأة للعبادة في نفسها والقرب من الكعبة هيأة في موضع
(18/176)
العبادة لا في نفسها ، فكان
تقديم ما تعلق بنفسها أولى . تنبيه : إن قيل : ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته
التي شرع من أجلها ، والغالب اطراد العلة وانعكاسها بحيث يدور معها المعلل بها
وجودا وعدما . فالجواب أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته لا ينافي أن لبقائه علة
أخرى ، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة
والضعف كما قال الله تعالى : ? واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن
يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ? (8 : 26) الآية . وقال تعالى عن نبيه شعيب :
? واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم ? (7 : 86) وصيغة الأمر في قوله (( اذكروا )) في
الآيتين تدل على تحتم ذكر النعمة بذلك ، وإذا فلا مانع من كون الحكمة في بقاء حكم
الرمل هي تذكر نعمة الله بالقوة بعد الضعف والكثرة بعد القلة ، وقد أشار إلى هذا
الحافظ في الفتح كما سيأتي . ومما يؤيده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل
في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة فلم يمكن بعد ذلك تركه لزوالها . قال
الحافظ : إن عمر كان هم بترك الرمل في الطواف لأنه عرف سببه وقد انقضى ، فهم أن
يتركه لفقد سببه ، ثم رجع عن ذلك الاحتمال أن تكون له حكمة ما اطلع عليها فرأى أن
الإتباع أولى من طريق المعنى . وأيضا إن فاعل ذلك إذا فعله تذكر السبب الباعث على
ذلك فيتذكر نعمة الله على
متفق عليه .
2589 – (5) وعنه ، قال : رمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/177)
إعزاز الإسلام وأهله – انتهى .
وقال الشاه ولي الله الدهلوي : إن مشروعية الرمل والاضطباع في الطواف لمعان ، منها
ما ذكره ابن عباس من إخافة قلوب المشركين وإظهار صولة المسلمين ، وكان أهل مكة
يقولون : وهنتهم حمى يثرب ، فهو فعل من أفعال الجهاد ، وهذا السبب قد انقضى ومضى ،
ومنها تصوير الرغبة في طاعة الله وأنه لم يزده السفر الشاسع والتعب العظيم إلا
شوقا ورغبة كما قال الشاعر :
-
-
إذا اشتكت من كلال السير واعدها _ -
-
روح الوصال فتحيى عند ميعاد ( -
-
(18/178)
وكان عمر رضي الله عنه أراد أن يترك الرمل والاضطباع لانقضاء سببهما ، ثم تفطن إجمالا أن لهما سببا آخر غير منقض فلم يتركهما – انتهى . وفي الحديث دليل لما أجمع عليه العلماء من مشروعية صلاة ركعتين بعد الطواف واختلفوا هل هما واجبتان أم سنتان ، والصحيح عند الحنفية أنهما واجبتان ، والأصح عند الشافعية أنهما سنة . واستدل للوجوب بصيغة الأمر في قوله تعالى : ? اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ? ( 2 : 125 ) على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي . قيل : والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما طاف قرأ هذه الآية الكريمة وصلى ركعتين خلف المقام ممتثلا بذلك الأمر ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (( خذوا عني مناسككم )) والأمر في قوله (( واتخذوا )) على القراءة المذكورة يقتضى الوجوب . وأجيب عن ذلك الاستدلال بأن الأمر في الآية إنما هو باتخاذه المصلى لا بالصلاة ، وقد قال : الحسن البصري وغيره أن قوله (( مصلى )) أي قبلة ، ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف ، واستدل لعدم الوجوب بحديث ضمام بن ثعلبة لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أخبره بالصلوات الخمس : هل علي غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع ، ففي هذا الحديث التصريح بأنه لا بجب شيء من الصلاة غير الخمس المكتوبة . وقد يجاب عن هذا الاستدلال بأن الأمر بصلاة ركعتي الطواف وارد بعد قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا إلا أن تطوع ، قال النووي : وفي قوله (( ثم يطوف بين الصفا والمروة )) دليل على وجوب الترتيب بين الطواف والسعي ، وأنه يشترط تقدم الطواف على السعي ، فلو قدم السعي لم يصح السعي ، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور ، وفيه خلاف ضعيف لبعض السلف ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي .
(18/179)
2589- قوله ( رمل رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ) الرمل بفتح الراء والميم في الاسم والفعل الماضي : سرعة
المشي مع تقارب في الخطو ، والخبب هو الإسراع في المشي مع هز المنكبين دون وثب
هكذا فسره أكثر المفسرين . وقال بعضهم : الخبب هو وثب في المشي مع هز المنكبين ،
والهرولة ما بين المشي والعدو ، والسعي يقع على الجميع ، فلهذا يقال سعي خفيف وسعي
شديد فيحمل السعي المذكور في الحديث المتقدم على الرمل والخبب جمعا بينهما ، هكذا
ذكره الطبري وقال
من الحجر إلى الحجر ثلاثا ، ومشى أربعا ، وكان يسعى ببطن المسيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/180)
الشنقيطي : الرمل مصدر رمل بفتح الميم يرمل بضمها رملا بفتح الميم ورملانا إذا أسرع في مشيته وهز منكبيه وهو في ذلك لا ينزو أي لا يثب وهو الخبب ، ولذا جاء في بعض روايات الحديث رمل ، وفي بعضها خب ، والمعنى واحد ( من الحجر ) أي الأسود ( إلى الحجر ) هذا نص في استيعاب الرمل لجميع الطوفة يعني في مشروعية الرمل في جميع المطاف من الحجر إلى الحجر ، وحديث ابن عباس المروي في بيان سبب الرمل نص في عدم الاستيعاب وأن يمشوا ما بين الركنين اليمانيين ، والجواب عن هذا الاختلاف أن حديث ابن عباس الذي فيه أنهم مشوا ما بين الركنين كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، وما في الروايات الأخرى من الرمل من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع سنة عشر فهو ناسخ لحديث ابن عباس وقيل إن الرمل سنة فعذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء في استيعاب الرمل بجميع الطوفة لضعفهم بالحمى ، قال الباجي : إن جابرا عاين ما روى عام حجة الوداع وابن عباس إنما روى عن غيره فإنه لم يشاهد عام القضية لصغره مع أنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك رمل ما بين الركنين وإن كان مشروعا لحاجته إلى الإبقاء على أصحابه ، فلما ارتفعت هذه العلة لزم استدامة الرمل المشروع – انتهى . وقال ابن قدامة : الرمل سنة في الأشواط الثلاثة بكمالها يرمل من الحجر إلى أن يعود إليه ، لا يمشي في شيء منها ، روى ذلك عن عمر وابنه وابن مسعود وابن الزبير ، وبه قال عروة والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي . وقال طاوس وعطاء والحسن وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله : يمشي ما بين الركنين لرواية ابن عباس . ولنا ما روى ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - رمل من الحجر إلى الحجر ، وحديث جابر عند مسلم " قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف " . وهذا يقدم على حديث ابن عباس
(18/181)
لوجوه ، الأول : أنه مثبت .
والثاني : أن رواية ابن عباس إخبار عن عمرة القضية ، وهذا إخبار عن حجة الوداع
فيكون متأخرا ويجب العمل به . والثالث : أن ابن عباس كان في تلك الحال صغيرا .
والرابع : أن جلة الصحابة عملوا بما ذكرنا ، ولو علموا من النبي - صلى الله عليه
وسلم - ما قال ابن عباس ما عدلوا عنه إلى غيره ، ويحتمل أن ما رواه ابن عباس يختص
بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم والإبقاء عليهم ، وما رويناه سنة في سائر
الناس – انتهى . ويظهر من كلام ابن حزم في المحلى أنه مال إلى أن الرمل من الحجر
الأسود إلى الركن اليماني وفيما بينهما جائز ( وكان يسعى ) أي يسرع ويشتد عدوا ،
قاله القاري . واعلم أن السعي في كلامهم يطلق على معنيين ، الأول : المشي بين
الصفا والمروة وهو المذكور في كلامهم إذا أطلقوا السعي بين الصفا والمروة .
والثاني : شدة المشي بين الميلين الأخضرين وهو المراد في هذا الحديث ، وهو مندوب
وسنة عند الجمهور ، منهم الحنفية وهو المرجح عند المالكية ( ببطن المسيل ) أي
المكان الذي يجتمع فيه السيل . قال الحافظ : المراد ببطن المسيل الوادي لأنه موضع
السيل . وقال القاري بطن المسيل
إذا طاف بين الصفا والمروة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/182)
اسم موضع بين الصفا والمروة ، وجعل علامته بالأميال الخضر – انتهى . والميلان الأخضران هما العلمان ، أحدهما بركن المسجد والآخر بالموضع المعروف بدار العباس ، وقد أزيلت الدار للتوسعة ، وهما بعد العمارة الجديدة بجداري المسعى . قال النووي : السعي ببطن المسيل مجمع على استحبابه وهو أنه إذا سعى بين الصفا والمروة استحب أن يكون سعيه شديدا في بطن المسيل وهو قدر معروف . وقال ابن قدامة : إن الرمل في بطن الوادي سنة مستحبة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سعى وسعى أصحابه فروت صفية بنت شيبة عن أم ولد شيبة قالت : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بين الصفا والمروة ويقول : لا يقطع الأبطح إلا شدا . وليس ذلك بواجب ، ولا شيء على تاركه ، فإن ابن عمر قال : إن أسع بين الصفا والمروة فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى ، وإن أمش فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي وأنا شيخ كبير ، رواهما ابن ماجة وروى هذا أبو داود ، ولأن ترك الرمل في الطواف بالبيت لا شيء فيه فبين الصفا والمروة أولى – انتهى . وكذلك عند الحنفية والمالكية كما صرح به في فروعهم . تنبيه : قيل في وجه مشروعية السعي الشديد والجري في بطن الوادي : ما رواه البخاري عن ابن عباس ، ومحصله : أن هاجر لما تركها إبراهيم عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد عطشت وعطش ابنها حين نفد ما في السقاء من الماء وانقطع درها واشتد جوعهما حتى نظرت إلى ابنها يتشحط ويتلوى ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فقامت على الصفا وهو أقرب جبل يليها ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات . قال ابن عباس : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فلذلك سعى
(18/183)
الناس بينهما . فجعل ذلك نسكا
إظهارا لشرفهما وتفخيما لأمرهما . قال الشاه ولي الله الدهلوي : السر في السعي بين
الصفا والمروة على ما ورد في الحديث أن هاجر أم إسماعيل عليه السلام لما اشتد بها
الحال سعت بينهما سعي الإنسان المجهود فكشف الله عنهما الجهد بإبداء زمزم وإلهام
الرغبة في الناس أن يعمروا تلك البقعة ، فوجب شكر تلك النعمة على أولاده ومن تبعهم
، وتذكر تلك الآية الخارقة لتبهت بهيمتهم وتدلهم على الله ، ولا شيء في هذا مثل أن
يعضد عقد القلب بهما بفعل ظاهر منضبط مخالف لمألوف القوم فيه تذلل عند أول دخولهم
مكة ، وهو محاكاة ما كانت فيه من العناء والجهد ، وحكاية الحال في مثل هذا أبلغ
بكثير من لسان المقال – انتهى . وروى أحمد عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام لما
أمر بالمناسك عرض الشيطان له عند السعي فسابقه فسبقه إبراهيم . وقبل : إنما سعى
نبينا - صلى الله عليه وسلم - إظهارا للجلد والقوة للمشركين الناظرين إليه في
الوادي ، وهذا كان في عمرة القضاء ، ثم بقي بعده كالرمل في الطواف إذ لم يبق في
حجة الوداع مشرك بمكة ( إذا طاف بين الصفا والمروة ) أي سعى بينهما ، واختلف
رواه مسلم .
2590 – (6) وعن جابر ، قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة ،
أتى الحجر فاستلمه ، ثم مشى على يمينه ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/184)
أهل العلم في حكم السعي على ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه ركن لا يصح الحج ، إلا به ، وهو قول ابن عمر وعائشة وجابر ، وبه قال الشافعي ومالك في المشهور ، وأحمد في أصح الروايتين عنه ، وإسحاق وأبو ثور ، والقول الثاني : أنه واجب يجبر بدم ، وبه قال الثوري وأبو حنفية ومالك في العتبية كما حكاه ابن العربي ، والثالث : أنه ليس بركن ولا واجب بل هو سنة ومستحب ، وهو قول ابن عباس وابن سيرين وعطاء ومجاهد وأحمد في رواية ، قال الحافظ في الفتح بعد ذكر الأقوال الثلاثة المذكورة : واختلف عن أحمد كهذه الأقوال الثلاثة ، وعند الحنفية تفصيل فيما إذا ترك بعض السعي كما هو عندهم في الطواف بالبيت . وقال ابن قدامة : اختلفت الرواية في السعي ، فروي عن أحمد أنه ركن لا يتم الحج إلا به ، وهو قول عائشة وعروة ومالك والشافعي لما روي عن عائشة ، قالت : طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاف المسلمون يعني بين الصفا والمروة فكانت سنة ، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة ، رواه مسلم . ثم ذكر حديث صفية بنت شيبة الآتي من رواية ابن ماجة وفيه " سمعته يقول : اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " . وسيأتي الكلام عليه ، وروي عن أحمد أنه سنة لا يجب بتركه دم ، روي ذلك عن ابن عباس وأنس وابن الزبير وابن سيرين ، لقول الله تعالى ? فلا جناح أن يطوف بهما ? (2 : 185) ونفي الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه ، فإن هذا رتبة المباح وإنما تثبت سنيته بقوله " من شعائر الله " وروي أن في مصحف أبي وابن مسعود " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " . وهذا إن لم يكن قرآنا فلا ينحط عن رتبة الخبر لأنهما يرويانه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال القاضي : هو واجب وليس بركن ، إذا تركه وجب عليه دم ، وهو مذهب الحسن وأبي حنيفة والثوري ، وهو أولى ، لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب لا على كونه لا يتم الحج إلا به ، وقول عائشة في ذلك
(18/185)
معارض بقول من خالفها من
الصحابة ، وحديث صفية بنت شيبة عن أبي تجراة ، قال ابن المنذر : يرويه عبد الله بن
المؤمل وقد تكلموا في حديثه ، ثم هو يدل على أنه مكتوب وهو الواجب وأما الآية
فإنها نزلت لما تحرج ناس من السعي في الإسلام لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية
لأجل صنمين كانا على الصفا والمروة ، كذلك قالت عائشة – انتهى . وسيأتي مزيد
الكلام في مسألة السعي في شرح حديث صفية بنت شيبة عن بنت أبي تجراة ( رواه مسلم )
. قال صاحب تنقيح الرواة : أخرجه أيضا أحمد والبخاري ثلاثتهم في حديثين ، فالحديث
متفق عليه ، أخرجه البيهقي كذلك .
2590- قوله ( لما قدم مكة أتى الحجر ) أي الأسود وهو في ركن الكعبة القريب بباب
البيت من جانب الشرق وارتفاعه من الأرض ذراعان وثلثا ذراع ( فاستلمه ) أي لمسه
وقبله ( ثم مشى على يمينه ) أي يمين نفسه مما يلي الباب ،
فرمل ثلاثا ومشى أربعا . رواه مسلم .
2591 - (7) وعن الزبير بن عربي ، قال : سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر . فقال :
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/186)
وقيل على يمين الحجر ، والمعنى يدور حول الكعبة على يساره . وفيه دليل على أنه يستحب أن يكون ابتداء الطواف من الحجر الأسود بعد استلامه ، وحكى في البحر عن الشافعي أن ابتداء الطواف من الحجر الأسود فرض . وفيه أيضا دليل على مشروعية مشى الطائف بعد استلام الحجر على يمينه جاعلا للبيت عن يساره ، وقد ذهب إلى أن هذه الكيفية شرط لصحة الطواف الأكثر ، قالوا : فلو عكس لم يجزه . قال الشوكاني : ولا يخفاك أن الحكم على بعض أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الحج بالوجوب لأنها بيان لمجمل واجب ، وعلى بعضها بعدمه تحكم محض لفقد دليل يدل على الفرق بينهما ( فرمل ثلاثا ) أي في ثلاث مرات من الأشواط ( ومشى أربعا ) أي بالسكون والهينة . قال النووي : في هذا الحديث أن السنة للحاج أن يبدأ أول قدومه بطواف القدوم ويقدمه على كل شيء وأن يستلم الحجر الأسود في أول طوافه ، وأن يرمل في ثلاث طوفات من السبع ويمشى في الأربع الأخيرة ، ( رواه مسلم ) . وأخرجه أيضا النسائي والترمذي والبيهقي .
(18/187)
2591- قوله ( وعن الزبير بن
عربي ) بفتح الراء بعدها موحدة ثم ياء مشددة ، النمري أبو سلمة البصري تابعي ثقة
قال الحافظ في تهذيب التهذيب : روى عن ابن عمر ، وعنه ابنه إسماعيل وحماد بن زيد
وسعيد بن زيد ومعمر ، قال الأثرم عن أحمد : أراه لا بأس به . وقال ابن معين : ثقة
. وقال النسائي : ليس به بأس . أخرج البخاري والترمذي والنسائي له حديثا واحدا في
استلام الحجر ، وذكره ابن حبان في الثقات – انتهى . تنبيه : قال الحافظ في الفتح :
قال أبو علي الجياني : وقع عند الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني ، الزبير بن عدي بدال
مهملة بعدها ياء مشددة وهو وهم وصوابه (( عربي )) براء مهملة بعدها موحدة ثم ياء
مشددة كذلك رواه سائر الرواة عن الفربري – انتهى . وكأن البخاري استشعر هذا
التصحيف فأشار إلى التحذير منه فحكى الفربري أنه وجد في كتاب أبي جعفر يعني محمد
بن أبي حاتم وراق البخاري قال : قال أبو عبد الله يعني البخاري : الزبير بن عربي
هذا بصري والزبير بن عدي كوفي – انتهى . هكذا وقع عند أبي ذر عن شيوخه عن الفربري
، وعند الترمذي من غير رواية الكروخي عقب هذا الحديث (( الزبير هذا هو ابن عربي ،
وأما الزبير بن عدي فهو كوفي )) ويؤيده أن في رواية أبي دواد الطيالسي الزبير بن
العربي بزيادة الألف ولام ، وذلك مما يرفع الإشكال ( سأل رجل ) قال الحافظ : هو
الزبير الرواي كذلك وقع عند أبي داود الطيالسي عن حماد حدثنا الزبير سألت ابن عمر
( عن استلام الحجر ) أي هو سنة ؟ ( يستلمه ) أي باللمس ووضع اليد عليه ، قاله
القاري . وقال في اللمعات : الاستلام يتناول اللمس والتقبيل بعده فذكر التقبيل بعد
الاستلام في حكم ذكر الخاص بعد العام ، أو يراد هنا اللمس بقرينه ذكر
ويقبله . رواه البخاري .
2592 – (8) وعن ابن عمر ، قال : لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم من
البيت إلا الركنين اليمانيين .
(18/188)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التقبيل بعده – انتهى . والمراد أن يستلمه بيمينه فإن عجز فبيساره أي يمسحه بها (
ويقبله ) قال الشوكاني : فيه دليل على أنه يستحب الجمع بين استلام الحجر وتقبيله ،
والاستلام المسح باليد والتقبيل لها ، كما في حديث نافع ، قال : رأيت ابن عمر
استلم الحجر بيده ثم قبل يده ، وقال : ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يفعله . قال الحافظ : يستفاد منه استحباب الجمع بين الاستلام والتقبيل
بخلاف الركن اليماني فيستلمه فقط . والاستلام المسح باليد . والتقبيل يكون بالفم
فقط . وروى الشافعي من وجه آخر عن ابن عمر قال : استقبل النبي - صلى الله عليه
وسلم - الحجر فاستلمه ثم وضع شفتيه عليه طويلا يبكي – الحديث . واختص الحجر الأسود
بذلك لاجتماع الفضيلتين له كما تقدم . وقال الطبري بعد ذكر رواية الشافعي : والعمل
على هذا عند أهل العلم في كيفية التقبيل من غير تصويت كما يفعله كثير من الناس .
وقال الحافظ : المستحب في التقبيل أن لا يرفع به صوته ، وروى الفاكهي عن سعيد بن
جبير قال : إذا قبلت الركن فلا ترفع بها صوتك كقبلة النساء – انتهى . قلت : أباح
التقبيل بالصوت غير واحد من المالكية خلافا للجمهور . ( رواه البخاري ) وأخرجه
أيضا النسائي وأبو داود الطيالسي والبيهقي وعزاه الحافظ في تهذيبه للترمذي أيضا
كما تقدم ، وليس هو قي رواية الكروخي للترمذي .
(18/189)
2592- قوله ( لم أر النبي -
صلى الله عليه وسلم - يستلم من البيت ) أي من أركانه أو من أجزائه ( إلا الركنين
اليمانيين ) أي دون الركنين الشاميين ، واليماني بتخفيف الياء على المشهور لأن
الألف عوض عن ياء النسب فلو شددت لكان جمعا بين العوض والمعوض ، وجوز سيبويه
التشديد وقال : إن الألف زائدة ، كذا في الفتح ، وقال الشيخ الدهلوي : الأشهر في
اليمانيين تخفيف الياء وقد يشدد ، والأصل في النسبة يمني ، وقد جاء يمان بمعنى
النسبة . والمراد بالركنين اليمانيين الركن الأسود والركن اليماني الذي يليه من
نحو دور الجمحيين ، وإنما قيل لهما اليمانيان للتغليب كما في الأبوين والقمرين
والعمرين وأمثالها ، والركنان الآخران أحدهما شامي وثانيهما عراقي ، ويقال لهما
الشاميان تغليبا . وإنما اقتصر - صلى الله عليه وسلم - على استلام اليمانيين لما
ثبت في الصحيحين من قول ابن عمر : أنهما على قواعد إبراهيم دون الشاميين ولهذا كان
ابن الزبير بعد عمارته للكعبة على قواعد إبراهيم يستلم الأركان كلها كما روى ذلك
عنه الأزرقي في كتاب مكة ، فعلى هذا يكون للركن الأول من الأركان الأربعة فضيلتان
: كون الحجر الأسود فيه ، وكونه على قواعد إبراهيم . وللثاني الثانية فقط . وليس
للآخرين أعنى الشاميين شيء منهما فلذلك يقبل الأول ويستلم الثاني فقط ، ولا يقبل
الآخران ولا يستلمان على رأي الجمهور ، وروى ابن المنذر وغيره استلام الأركان
جميعا عن جابر وأنس والحسن والحسين من الصحابة وعن
متفق عليه .
2593 - (9) وعن ابن عباس ، قال : طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع
على بعير ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/190)
سويد بن غفلة من التابعين ، وقد أخرج البخاري ومسلم (( أن عبيد بن جريج قال لابن عمر : رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها )) فذكر منها (( ورأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين )) وفيه دليل على أن الذين رآهم عبيد ابن جريج من الصحابة والتابعين كانوا لا يقتصرون في الاستلام على الركنين اليمانيين . وقال بعض أهل العلم : اختصاص الركنين مبين بالسنة ومسند التعميم القياس ، كذا في النيل والفتح . وقال القاضي أبو الطيب : أجمع أئمة الأمصار والفقهاء على أن الركنين الشاميين لا يستلمان ، قال : وإنما كان فيه خلاف لبعض الصحابة والتابعين ، وانقرض الخلاف وأجمعوا على أنهما لا يستلمان . وفي رواية لابن عمر عند مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني . قال النووي : يحتج به الجمهور في أنه يقتصر بالاستلام في الحجر الأسود عليه دون الركن الذي هو فيه خلافا للقاضي أبي الطيب من الشافعية ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي ، وللترمذي معناه من رواية ابن عباس .
(18/191)
2593 – قوله ( طاف النبي - صلى
الله عليه وسلم - في حجة الوداع على بعير ) كان هذا في طواف الإفاضة يوم النحر أو
في طواف الوداع ، وأما طوافه ماشيا فكان في طواف القدوم كما يفيده حديث جابر
الطويل . قال الشيخ الدهلوي : إنما طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راكبا
لكثرة ازدحام الناس وسؤالهم عنه - صلى الله عليه وسلم - الأحكام ، وكانت ناقته
محفوظة من الروث والبول فيه . وأما الطواف راكبا لغيره - صلى الله عليه وسلم - فجائز
أيضا ، والأفضل المشي انتهى . وقال الحافظ : حمل البخاري سبب طوافه - صلى الله
عليه وسلم - راكبا على أنه كان عن شكوى ( حيث أدخل حديث ابن عباس في باب المريض
يطوف راكبا ) وأشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود ( وأحمد ) من حديث ابن عباس أيضا
بلفظ (( قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته )) .
ووقع في حديث جابر عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف راكبا ليراه
الناس وليسألوه ، فيحتمل أن يكون فعل ذلك للأمرين وحيئذ لا دلالة فيه على جواز
الطواف راكبا لغير عذر ، وكلام الفقهاء يقتضى الجواز إلا أن المشي أولى والركوب
مكروه تنزيها ، قال : والذي يترجح المنع ، لأن طوافه - صلى الله عليه وسلم - وكذا
أم سلمة كان قبل أن يحوط المسجد ، فإذا حوط امتنع داخله ، إذ لا يؤمن التلويث فلا
يجوز بعد التحويط بخلاف ما قبله ، فإنه كان لا يحرم التلويث كما في السعي ، قال :
وأما طواف النبي - صلى الله عليه وسلم - راكبا فللحاجة إلى أخذ المناسك عنه ،
ولذلك عده بعض من جمع خصائصه فيها واحتمل أيضا أن تكون راحلته عصمت من التلويث
حينئذ كرامة له ، فلا يقاس غيره عليه ، وأبعد من استدل به على طهارة بول البعير
وبعره – انتهى . وسيأتي الكلام في هذا في شرح حديث أم سلمة
يستلم الركن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/192)
في الفصل الثالث . قال ابن قدامة في المغنى (ج 3 : ص 397) : لا نعلم بين أهل العلم خلافا في صحة طواف الراكب إذا كان له عذر ، فإن ابن عباس روى أنه - صلى الله عليه وسلم - طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن . وعن أم سلمة قالت : شكوت – الحديث ، متفق عليهما ، وقال جابر : طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف عليهم ليسألوه ، فإن الناس غشوه . والمحمول كالراكب فيما ذكرناه . قال : فأما الطواف راكبا أو محمولا لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي أنه لا يجزئ وهو إحدى الروايات عن أحمد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الطواف بالبيت صلاة . والثانية : يجزئه ويجبره بدم وهو قول مالك ، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قال : يعيد ما كان بمكة ، فإن رجع جبره بدم ، لأنه ترك صفة واجبة في ركن الحج . والثالثة : يجزئه ولا شيء عليه ، اختارها أبو بكر ، وهي مذهب الشافعي وابن المنذر ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف راكبا . قال ابن المنذر : لا قول لأحد مع فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقا فكيفما أتى به أجزاه . ولا يجوز تقيد المطلق بغير دليل . ولا خلاف في أن الطواف راجلا أفضل لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طافوا مشيا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في غير حجة الوداع طاف مشيا ، وفي قول أم سلمة : شكوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أني أشتكي ؟ فقال (( طوفي من وراء الناس وأنت راكبة )) دليل على أن الطواف إنما يكون مشيا ، وإنما طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - راكبا لعذر ، فإن ابن عباس روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثر عليه الناس يقولون : هذا محمد هذا محمد ، حتى خرج العواتق من البيوت ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يضرب الناس بين يديه ، فلما كثروا عليه ركب . رواه مسلم . وكذلك في
(18/193)
حديث جابر (( فإن الناس غشوه
)) وروي عن ابن عباس (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف راكبا لشكاة به
)) وبهذا يعتذر من منع الطواف راكبا عن طواف النبي - صلى الله عليه وسلم - ،
والحديث الأول ( يعني حديث ابن عباس الأول ) أثبت . قال : فعلى هذا يكون كثرة
الناس وشدة الزحام عذرا ، ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد تعليم
مناسكهم فلم يتمكن منه إلا بالركوب ، والله أعلم – انتهى . وقال النووي في شرح
المهذب : قال أصحابنا : الأفضل أن يطوف ماشيا ولا يركب إلا لعذر مرض أو نحوه أو ما
كان ممن يحتاج الناس إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى بفعله ، فإن طاف بلا عذر جاز بلا
كراهية لكنه خالف الأولى ، كذا قاله جمهور أصحابنا ، وكذا نقله الرافعي عن الأصحاب
. وقال إمام الحرمين : في القلب من إدخال البهيمة التي لا يؤمن تلويثها المسجد شيء
، فإن أمكن الاستيثاق فذلك ، وإلا فإدخالها المسجد مكروه ، هذا كلام الرافعي .
وجزم جماعة من أصحابنا بكراهة الطواف راكبا من غير عذر ، والمرأة والرجل في الركوب
سواء فيما ذكرناه . قال الماوردي : وحكم طواف المحمول على أكتاف الرجال كالراكب
فيما ذكرناه . قال : وإذا كان معذورا فطوافه محمولا أولى منه راكبا صيانة للمسجد
من الدابة ، قال : وركوب الإبل أيسر حالا من ركوب البغال والحمير ( يستلم الركن
بمحجن . متفق عليه .
2594 – (10) وعنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت على بعير ،
كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده ، وكبر . رواه البخاري .
2595 – (11) وعن أبي الطفيل ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/194)
بمحجن ) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم بعدها نون هو عصا محنية الرأس ، والحجن الاعوجاج ، وبذلك سمي الحجون ، والمعنى أنه يؤمئ بعصاه إلى الركن حتى يصيبه ، قال ابن التين : هذا يدل على قربه من البيت لكن من طاف راكبا يستحب له أن يبعد إن خاف أن يؤذي أحدا ، فيحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على الأمن من ذلك – انتهى . ويحتمل أن يكون في حال استلامه قريبا حيث أمن ذلك وأن يكون في حال إشارته بعيدا حيث خاف ذلك . وزاد مسلم من حديث أبي الطفيل كما سيأتي (( ويقبل المحجن )) . وله من حديث ابن عمر أنه استلم الحجر بيده ثم قبل يده ورفع ذلك ، ولسعيد بن منصور من طريق عطاء قال : رأيت أبا سعيد وأبا هريرة وابن عمر وجابرا إذا استلموا الحجر قبلوا أيديهم . قيل : وابن عباس ؟ قال : وابن عباس . أحسبه قال : كثيرا . وبهذا قال الجمهور أن السنة أن يستلم الركن ويقبل يده ، فإن لم يستطع أن يستلمه بيده استلمه بشيء في يده وقبل ذلك الشيء ، فإن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك ، وعن مالك في رواية (( لا يقبل يده )) وكذا قال القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وفي رواية عند المالكية يضع يده على فمه من غير تقبيل ، كذا في الفتح ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
(18/195)
2594 – قوله ( طاف بالبيت على
البعير ) قال الطبري بعد ذكر الأحاديث التي تدل على إباحة الطواف على الرحلة : هذه
الأحاديث تدل على جواز الركوب في الطواف ، وخصه مالك بالضرورة استدلالا بحديث ابن
عباس عند أحمد وأبي داود (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة وهو يشتكي
وطاف على راحلته )) وبقوله في حديث جابر (( ليراه الناس وليشرف عليهم )) واختاره
الشافعي مطلقا مع كراهية ، وعند مالك وأبي حنيفة إن قرب أعاد وإن بعد فعليه دم . (
كلما أتى على الركن ) أي الحجر الأسود ( أشار إليه بشيء ) المراد بالشيء المحجن
الذي تقدم في الرواية الماضية . قال القاري : وفيه إشارة إلى أن الركن اليماني لا
يشار إليه عند العجز عن الاستلام كما هو الصحيح من مذهبنا ( في يده ) كذا في
المشكاة ، وهكذا نقله الطبري في القرى والمجد في المنتقى ، وفي البخاري (( عنده ))
بدل (( في يده )) ( وكبر ) أي قال : الله أكبر ، وفيه استحباب التكبير عند الركن
الأسود في كل طوفة . ( رواه البخاري ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 264) والترمذي
والدارمي وغيرهم .
2595 – قوله ( وعن أبي الطفيل ) هو عامر بن وثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش
الكناني الليثي أبو الطفيل ،
يطوف بالبيت ، ويستلم الركن بمحجن معه ، ويقبل المحجن . رواه مسلم .
2596 – (12) وعن عائشة ، قالت : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر
إلا الحج ، فلما كنا بسرف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/196)
ويقال اسمه عمرو ، والأول أصح وهو بكنيته أشهر ، وقال المصنف : غلبت عليه كنيته . ولد عام أحد ، أدرك من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان سنين ، وكان يسكن الكوفة ثم انتقل إلى مكة ، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر وعلي وغيرهم من الصحابة والتابعين ، وكان من أصحاب على المحبين له وشهد مع مشاهده كلها ، وكان ثقة مأمونا يعترف بفضل أبي بكر وعمر وغيرهما إلا أنه كان يقدم عليا ، وقال ابن سعد : كان أبو الطفيل ثقة في الحديث متشيعا ، وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح . وهو آخر من مات من الصحابة ، قاله مسلم وغيره ( يطوف بالبيت ) أي راكبا ( ويقبل المحجن ) أي بدل الحجر للماشي ، قال الأمير اليماني في السبل : الحديث دال على أنه يجزئ عن استلامه باليد استلامه بآلة ويقبل الآلة كالمحجن والعصا ، وكذلك إذا استمله بيده قبل يده ، فقد روى الشافعي أنه قال ابن جريج لعطاء : هل رأيت أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استلموا قبلوا أيديهم ؟ قال : نعم ؛ رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر وأبا سعيد وأبا هريرة إذا استلموا قبلوا أيديهم ، فإن لم يمكن استلامه لأجل الزحمة قام حياله ورفع يديه وكبر لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعفاء ، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر ، رواه أحمد والأرزقي . وإذا أشار بيده فلا يقبلها لأنه لا يقبل إلا الحجر أو ما مس الحجر – انتهى . ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 5 : ص 454) وأبو داود وابن ماجة .
(18/197)
2596 – قوله ( لا نذكر ) قال
القاري : أي في تلبيتنا أو في محاورتنا ، وقال بعضهم : أي لا نقصد ( إلا الحج )
فإنه الأصل المطلوب ، وأما العمرة فإنها أمر مندوب ، فلا يلزم من عدم ذكرها في
اللفظ عدم وجودها في النية . وقال أيضا : هذا الحديث بظاهره ينافي قولها السابق ((
ولم أهلل إلا بعمرة )) إلا أن يقال : قولها : (( لا نذكر إلا الحج )) أي ما كان
قصدنا الأصلي من هذا السفر إلا الحج بأحد أنواعه من القران والتمتع والإفراد ،
فمنا من أفرد ومنا من قرن ومنا من تمتع وإني قصدت التمتع فاعتمرت ، ثم لما حصل لي
عذر الحيض واستمر إلى يوم عرفة ووقت وقوف الحج أمرني أن أرفضها وأفعل جميع أفعال
الحج إلا الطواف ، وكذلك السعي إذ لا يصح إلا بعد الطواف – انتهى . وقال السندي :
أرادت ( عائشة رضي الله عنها ) بهذا المقصود الأصلي من الخروج ما كان إلا الحج ،
وما وقع الخروج إلا لأجله ، ومن اعتمر فعمرته كانت تابعة للحج فلا يخالف ما سبق
أنها كانت معتمرة وكان في الصحابة رجال معتمرون ، ويحتمل أنها حكاية عن غالب من
كان معه - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة في ذلك السفر – انتهى . وتقدم شيء من
الكلام في هذا في شرح حديث عائشة في باب الإحرام والتلبية ( بسرف ) بفتح المهملة
وكسر الراء بعدها فاء موضع قريب من مكة بينهما نحو عشرة أميال ، وهو ممنوع من
الصرف
طمثت ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي ، فقال : " لعلك نفست ؟
" قلت : نعم . قال : " فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم ، فافعلي ما
يفعل الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/198)
وقد يصرف ، قاله الحافظ . وقال النووي : هو ما بين مكة والمدينة بقرب مكة على أميال منها ، قيل ستة ، وقيل سبعة ، وقيل تسعة ، وقيل عشرة ، وقيل اثني عشر ميلا - انتهى . وفيه قبر ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد اتفق التزوج والبناء بها وموتها في هذا الموضع ( طمثت ) قال النووي : هو بفتح الطاء وكسر الميم أي حضت ، يقال حاضت المرأة وتحيضت وطمثت وعركت – بفتح الراء – ونفست وضحكت وأعصرت وأكبرت ، كله بمعنى واحد ، والاسم منه الحيض والطمث والعراك والضحك والإكبار والإعصار ، وهي حائض وحائضة في لغة غربية حكاها الفراء ، وطامث وعارك ومكبر ومعصر – انتهى . ( وأنا أبكي ) أي ظنا مني أن الحيض يمنع الحج ( لعلك نفست ) بفتح النون وضمها لغتان مشهورتان ، الفتح أفصح ، والفاء مكسورة فيهما ، أي حضت ، وأما النفاس الذي هو الولادة فيقال فيه نفست – بالضم – لا غير ، ذكره النووي ( فإن ذلك ) بكسر الكاف أي نفاسك بمعنى حيضك ( كتبه الله ) أي قدره الله ( على بنات آدم ) قال القاري : فيه تسلية لها ، إذ البلية إذا عمت طابت – انتهى . وقال النووي : هذا تسلية لها وتخفيف لهمها ، ومعناه أنك لست مختصة به ، بل كل بنات آدم يكون منهن هذا كما يكون منهن ومن الرجال البول والغائط . واستدل البخاري في صحيحه في كتاب الحيض بعموم هذا اللفظ على أن الحيض كان في جميع بنات آدم ، وأنكر به على من قال إن الحيض أول ما أرسل ووقع في بني إسرائيل . قال الحافظ : وكأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن مسعود بإسناد صحيح قال : كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعا فكانت المرأة تتشوف للرجل ، فألقى الله عليهن الحيض ومنعهن المساجد ، وعنده عن عائشة نحوه ، قال الداودي : ليس بينهما مخالفة ، فإن نساء بني إسرائيل من بنات آدم فعلى هذا فقوله (( بنات آدم )) عام أريد به الخصوص . قلت ( قائله الحافظ ) : ويمكن أن يجمع بينهما مع القول
(18/199)
بالتعميم بأن الذي أرسل على
نساء بني إسرائيل طول مكثه بهن عقوبة لهن لا ابتداء وجوده ، وقد روى الطبري وغيره
عن ابن عباس وغيره أن قوله تعالى في قصة إبراهيم ? وامرأته قائمة فضحكت ? (11 :
71) أي حاضت ، والقصة متقدمة على بني إسرائيل بلا ريب ؛ وروى الحاكم وابن المنذر
بإسناد صحيح عن ابن عباس : أن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أهبطت من الجنة ،
وإذا كان كذلك فبنات آدم بناتها – انتهى ( غير أن لا تطوفي بالبيت ) قال الطيبي :
استثناء من المفعول به ولا زائدة ( حتى تطهري ) أي بانقطاع الدم والاغتسال ، وهو
بفتح التاء والطاء المهملة وتشديد الهاء أيضا ، وهو على حذف إحدى التائين وأصله
تتطهري والمراد بالطهارة الغسل كما وقع في رواية لمسلم حتى تغتسلي ، وفي الحديث
دليل على أن الحائض والنفساء والمحدث والجنب يصح منهم جميع أفعال الحج وأقواله
وهيئاته إلا الطواف وركعتيه ، فيصح الوقوف بعرفات وغيره ،
متفق عليه .
2597 – (13) وعن أبي هريرة ، قال : بعثني أبو بكر في الحجة التي أمره النبي - صلى
الله عليه وسلم - عليها قبل حجة الوداع ، يوم النحر في رهط ، أمره أن يؤذن في
الناس : " ألا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكذلك الأفعال المشروعة في الحج
تشرع للحائض وغيرها . وفيه دليل على أن الطواف لا يصح من الحائض . وهذا مجمع عليه
. وأما السعي فكالطواف إذ لا يصح إلا بعد الطواف . قال الشوكاني : الحديث ظاهر في
نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل والنهي يقتضي الفساد المرادف للبطلان
فيكون طواف الحائض باطلا ، وهو قول الجمهور – انتهى . وقد تقدم الكلام في اشتراط
الطهارة للطواف في شرح حديث عروة عن عائشة ثالث أحاديث هذا الباب . ( متفق عليه )
وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجة والبيهقي .
(18/200)
2597 – قوله ( بعثني ) أي أرسلني ( أبو بكر ) الصديق ، قال الطحاوي في مشكل الآثار : هذا مشكل لأن الأخبار في هذه القصة تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعث أبا بكر بذلك ، ثم أتبعه عليا فأمره أن يؤذن فكيف يبعث أبو بكر أبا هريرة ومن معه بالتأذين مع صرف الأمر عنه في ذلك إلى علي ؟ ثم أجاب بما حاصله أن أبا بكر كان الأمير على الناس في تلك الحجة بلا خلاف ، وكان علي هو المأمور بالتأذين بذلك ، وكأن عليا لم يطق التأذين بذلك وحده ، واحتاج إلى من يعينه على ذلك ، فأرسل معه أبو بكر أبا هريرة وغيره ليساعدوه على ذلك ، ثم ساق من طريق المحرز بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - ببراءة إلى أهل مكة فكنت أنادي معه بذلك حتى يصحل صوتي وكان هو ينادي قبلي حتى يعيي . وأخرجه أحمد أيضا وغيره من طريق محرز بن أبي هريرة ، فالحاصل أن مباشرة أبي هريرة لذلك كانت بأمر أبي بكر وكان ينادي بما يلقيه إليه علي مما أمر بتبليغه ، كذا في الفتح ( في الحجة التي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - ) بتشديد الميم أي جعله أميرا على قافلة الحج في الستة التاسعة من الهجرة ( عليها ) متعلق بأمره أي على الحجة ( قبل حجة الوداع ) أي بسنة . قال ابن القيم : يستنبط منه أنها كانت سنة تسع لأن حجة الوداع كانت سنة عشر اتفاقا ، وذكر ابن إسحاق أن خروج أبي بكر كان في ذي القعدة . وذكر الواقدي أنه خرج في تلك الحجة مع أبي بكر ثلاث مائة من الصحابة ، وبعث معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرين بدنة . قال الحافظ : وقد وقفت ممن سمي ممن كان مع أبي بكر في تلك الحجة على أسماء جماعة منهم سعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله فيما أخرجه الطبري ( يوم النحر ) ظرف بعث ( في رهط ) أي في جملة رهط أو مع رهط ، والرهط – بسكون الهاء ويحرك – عدد يجمع من الثلاثة إلى العشرة أو ما دون العشرة وما فيهم امرأة ،
(18/201)
ولا واحد له من لفظه ( أمره )
بالتخفيف ( أن يؤذن ) بالتشديد ، والمراد بالتأذين الإعلام ، وهو اقتباس من قوله
تعالى : ? وأذان من الله ورسوله ? (9 : 3) أي إعلام . قال الطيبي : والضمير راجع
إلى الرهط ، والإفراد باعتبار اللفظ ، ويجوز أن يكون لأبي هريرة على الالتفات .
قال القاري : أو على التجريد أو التقدير (( أمر أحد الرهط أن ينادي )) ( ألا )
لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان " . متفق عليه .
( الفصل الثاني ) .
2598 - (14) عن المهاجر المكي ،
(18/202)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للتنبيه ( لا يحج ) بضم الجيم ، نهى أو نفى معناه نهى ، ويفتح ، ويكسر على أنه نهى ويؤيده رواية (( لا يحججن )) قاله القاري . وفي رواية (( أن لا يحج )) قال الحافظ :كذا للأكثر ، وللكشميهني (( ألا لا يحج )) بأداة الاستفتاح قبل حرف النهي ، وللبخاري في التفسير (( أن لا يحجن )) وهو يعين ذلك للنهي ( بعد العام ) أي بعد هذه السنة . وقال الحافظ : أي بعد الزمان الذي وقع فيه الإعلام بذلك ( مشرك ) أي كافر . قال الحافظ : هو منتزع من قوله تعالى : ? فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ? (9 : 28) والآية صريحة في منعهم دخول المسجد الحرام ولو لم يقصدوا الحج ولكن لما كان الحج هو المقصود الأعظم صرح لهم بالمنع منه فيكون ما وراءه أولى بالمنع ، والمراد بالمسجد الحرام هنا الحرم كله . قال النووي : فلا يمكن مشرك من دخول الحرم بحال حتى لو جاء في رسالة أو أمر مهم لا يمكن من الدخول بل يخرج إليه من يقضي الأمر المتعلق به ، ولو دخل خفية ومرض ومات نبش وأخرج من الحرم – انتهى . وقال العيني : وكذلك لا يمكن أهل الذمة من الإقامة بعد ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - : أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب . قاله في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - ( ولا يطوفن بالبيت عريان ) أي مطلقا في جميع الأيام غير مقيد بعام دون عام لقوله تعالى ? يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ? (7 : 31) وصح عن ابن عباس أنه نزل ردا لما كانوا يفعلونه من الطواف بالبيت مع العري ، يعني زعما منهم أنهم لا يعبدون ربهم في ثياب أذنبوا فيها . قال الحافظ : ذكر ابن إسحاق في سبب هذا الحديث أن قريشا ابتدعت قبل الفيل أو بعده أن لا يطوف بالبيت أحد ممن يقدم عليهم من غيرهم أول ما يطوف إلا في ثياب أحدهم ، فإن لم يجد طاف عريانا ، فإن خالف وطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ ثم لم ينتفع بها ، فجاء الإسلام فهدم ذلك
(18/203)
كله . وفي الحديث حجة لاشتراط
ستر العورة في الطواف كما يشترط في الصلاة والمخالف في ذلك الحنفية ، قالوا : ستر
العورة في الطواف ليس بشرط فمن طاف عريانا أعاد ما دام بمكة ، فإن خرج لزمه دم ،
قلت : قد اختلف هل ستر العورة في الطواف ليس بشرط فمن طاف عريانا أعاد ما دام بمكة
، فإن خرج لزمه دم . قلت : قد اختلف هل ستر العورة شرط لصحة الطواف أو لا ؟ فذهب
الجمهور إلى أنه شرط ، وذهبت الحنفية إلى أنه ليس بشرط ، فمن طاف عريانا أعاد ما
دام بمكة ، فإن خرج لزمه دم ، فهم ينكرون الاشتراط دون الوجوب ، قالوا : وهو مدلول
الحديث . ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في أوائل الصلاة ، وفي الحج ، وفي تفسير
سورة براءة ، ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا النسائي والبيهقي .
2598 – قوله ( عن المهاجر المكي ) هو مهاجر بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث
القرشي المخزومي . قال
قال : سئل جابر عن الرجل يرى البيت يرفع يديه ؟ فقال : قد حججنا مع النبي - صلى
الله عليه وسلم - فلم نكن نفعله .
(18/204)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحافظ في تهذيب التهذيب : روى عن جابر وابن عمه عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث والزهري وهو من أقرانه ، وعنه أبو قزعة سويد بن حجير الباهلي ويحيى بن أبي كثير ، ذكره ابن حبان في الثقات . قلت : قال أبو حاتم في العلل : لا أعلم أحدا روى عن المهاجر بن عكرمة غير يحيى بن أبي كثير ، والمهاجر ليس بالمشهور – انتهى . وقال في التقريب : إنه مقبول . قلت : ذكره البخاري في تاريخه (ج 4 : ص 380) وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (ج 4/1/220) ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا ( عن الرجل يرى البيت ) أي الرجل الذي يرى البيت ( يرفع يديه ) أي هو مشروع أم لا ؟ وهذا لفظ أبي داود ، وفي رواية الترمذي (( أيرفع الرجل يديه إذا رأى البيت ؟ )) ( فلم نكن نفعله ) أي رفع اليدين عند رؤيته في الدعاء ، وهذا لفظ النسائي . وعند أبي داود (( فلم يكن يفعله )) وللترمذي (( أفكنا نفعله )) والهمزة للإنكار ، والحديث يدل على عدم رفع اليد في الدعاء عند رؤية البيت ، وقد ورد ما يدل على استحباب ذلك فروى الشافعي عن ابن جريج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال : اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة ، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا . وهذا مرسل معضل فيما بين ابن جريج والنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي إسناده سعيد بن سالم القداح وفيه مقال . وروى البيهقي عن مكحول ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر وقال : اللهم أنت السلام ومنك السلام ، فحينا ربنا بالسلام ، اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ، إلخ . وهذا مرسل . وروى البيهقي أيضا من طريق الشافعي عن سعيد بن سالم عن ابن جريج قال : حدثت عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم
(18/205)
- أنه قال : " ترفع
الأيدي في الصلاة ، وإذا رأى البيت ، وعلى الصفا والمروة " – الحديث قال
البيهقي : هو منقطع ، لم يسمعه ابن جريج من مقسم ، ورواه محمد بن عبد الرحمن بن
أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس ، وعن نافع عن ابن عمر مرة موقوفا عليهما
ومرة مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وابن أبي ليلى هذا غير قوي في
الحديث وقد اختلف العلماء في ذلك كما اختلفت الروايات . فذهب أبو حنيفة ومالك إلى
عدم الرفع . قال في اللباب وشرحه للقاري : ولا يرفع يديه عند رؤية البيت ولو حال
دعائه لعدم ذكره في المشاهير من كتب الأصحاب كالقدوري والهداية والكافي والبدائع ،
بل قال السروجي : المذهب تركه . وكلام الطحاوي في شرح معاني الآثار صريح أنه يكره
الرفع عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ، وقيل : يرفع . ونقل عن جابر رضي الله عنه
أن ذلك من فعل اليهود ، وسماه البصروي مستحبا إلخ . وقال في غنية الناسك : استحب
المحققون من أهل المذهب للقادم رفع اليدين عند رؤية البيت للدعاء ، منهم الكرماني
والبصروي وابن الهمام وعلى القاري وهو مذهب الشافعي وأحمد – انتهى . واحتج لمن ذهب
إلى كراهة الرفع وعدم مشروعيته بحديث جابر ، وهو حديث حسن وقال سفيان الثوري وابن
المبارك وأحمد وإسحاق : يرفع
..............................................................................................
(18/206)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يديه . قال ابن المنذر : وبه أقول . قال النووي : وهو مذهبنا . وقال الشافعي بعد أن أورد حديث ابن جريج : ليس في رفع اليدين عند رؤية البيت شيء فلا أكرهه ولا أستحبه . قال البيهقي : وكأنه لم يعتمد على الحديث لانقطاعه . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 369) : ويستحب رفع اليدين عند رؤية البيت ، روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس ، وبه قال الثوري وابن المبارك والشافعي وإسحاق بن راهويه ، وكان مالك لا يرى رفع اليدين لما روي عن المهاجر المكي ، قال سئل جابر بن عبد الله فذكر حديث الباب ثم قال : ولنا ما روى أبو بكر بن المنذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن : افتتاح الصلاة واستقبال البيت – الحديث . قال ابن قدامة : وهذا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وذاك من قول جابر ، وخبره عن ظنه وفعله ، وقد خالفه ابن عمر وابن عباس ، ولأن الدعاء مستحب عند رؤية البيت ، وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء – انتهى . وقال النووي في شرح المهذب : قال أصحابنا رواية المثبت للرفع أولى ، لأن معه زيادة علم ، وقال البيهقي رواية غير جابر في إثبات الرفع مع إرسالها أشهر عند أهل العلم من حديث مهاجر وله شواهد ، وإن كانت مرسلة . والقول في مثل هذا قول من رأى وأثبت . وقال الخطابي في المعالم : قد اختلف الناس في هذا فكان ممن يرفع يديه إذا رأى البيت سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ، وضعف هؤلاء حديث جابر لأن مهاجرا راويه عندهم مجهول ، وذهبوا على حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ترفع الأيدي في سبعة مواطن ، إلخ – وروي عن ابن عمر أنه كان يرفع اليدين عند رؤية البيت ، وعن ابن عباس مثل ذلك – انتهى . قلت : قد تقدم أن مهاجرا المكي وثقه ابن حبان ، وقال الحافظ : إنه مقبول . فحديث جابر على الأقل حسن . وأما حديث ابن عباس
(18/207)
في رفع الأيدي في سبعة مواطن
ففي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيء الحفظ . قال الشوكاني : ليس في
الباب ما يدل على مشروعية رفع اليدين عند رؤية البيت وهو حكم شرعي لا يثبت إلا
بالدليل ، وأما الدعاء عند رؤية البيت فقد رويت فيه أخبار وآثار ، منها ما أخرجه
ابن المغلس أن عمر كان إذا نظر إلى البيت قال : اللهم أنت السلام ومنك السلام
فحينا ربنا بالسلام . ورواه سعيد بن منصور في السنن عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد
ولم يذكر عمر ، ورواه الحاكم عن عمر أيضا . وكذلك رواه البيهقي عنه – انتهى .
تنبيه : قال الطبري : وأول موضع يقع فيه بصره على البيت رأس الردم لمن يأتي من
أعلى مكة ، وقد كان ذلك فأما اليوم فقد سد بالأبنية . وقال ابن جاسر : والدعاء
المذكور يقوله إذا عاين البيت لا عند وصوله للمحل الذي كان يرى منه البيت قبل
ارتفاع الأبنية وهو المسمى أولا برأس الردم والآن يسمى بالمدعى . قال شيخ الإسلام
: ولم يكن قديما بمكة بناء يعلو على البيت ولا كان فوق الصفا والمروة والمشعر
الحرام بناء ولا كان بمنى بناء ولا بعرفات مسجد ولا عند الجمرات مسجد ، بل كل هذه
محدثة بعد الخلفاء الراشدين ، ومنها ما أحدث بعد الدولة الأموية ، فكان البيت يرى
قبل دخول المسجد ، فمن رأى البيت قبل دخول المسجد فعل ذلك أي الرفع
رواه الترمذي ، وأبو داود .
2599 – (15) وعن أبي هريرة ، قال : أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل
مكة ، فأقبل إلى الحجر فاستلمه ، ثم طاف بالبيت ، ثم أتى الصفا فعلاه حتى ينظر إلى
البيت ، فرفع يديه فجعل يذكر الله ما شاء ويدعو . رواه أبو داود .
2600 – (16) وعن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الطواف
حول البيت
(18/208)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والدعاء ، وقد استحب ذلك من استحبه عند رؤية البيت ، ولو كان بعد دخول المسجد -
انتهى . ( رواه الترمذي وأبو داود ) وأخرجه البيهقي (ج 5 : ص 73) وهو حديث حسن كما
عرفت .
2599 – قوله ( أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي توجه من المدينة ( فدخل
مكة ) قال القاري : أي للحج أو للعمرة ، والظاهر أن المراد يوم فتح مكة كما يدل
عليه حديث أبي هريرة الطويل عند مسلم في باب فتح مكة ( فأقبل إلى الحجر ) أي توجه
إلى الحجر الأسود ، أو إلى بمعنى على ( فاستلمه ) أي باللمس والتقبيل ( ثم طاف
بالبيت )
(18/209)
أي سبعة أشواط ( ثم أتى الصفا
) أي بعد ركعتي الطواف ( فعلاه ) أي صعده ( حتى ينظر إلى البيت ) وفي أبي داود ((
حيث ينظر إلى البيت )) وفي حديث جابر الطويل المتقدم (( فرقى عليه حتى رأى البيت ،
وأنه فعل في المروة مثل ذلك )) قال القاري : وهذا كان في الصفا باعتبار ذلك الزمن
، وأما الآن فالبيت يرى من باب الصفا قبل رقيه لما حدث من ارتفاع الأرض ثمه حتى
اندفن كثير من درج الصفا . وقيل بوجوب الرقي مطلقا . وأما الرقي الآن في المروة
فلا يمكن كما أن رؤية البيت منها لا تمكن لكن بصدر العقد المشرف عليها دكة فيستحب
رقيها عملا بالوارد ما أمكن ( فرفع يديه ) أي للدعاء على الصفا لا لرؤية البيت لما
سبق ، وأما ما يفعله العوام من رفع اليدين مع التكبير على هيأة رفعهما في الصلاة
فلا أصل له ( فجعل يذكر الله ما شاء ) أي من التكبير والتهليل والتحميد والتوحيد (
ويدعو ) أي بما شاء . قال القاري : وفيه إشارة إلى المختار عند محمد أن لا تعين في
دعوات المناسك لأنه يورث خشوع الناسك . وقال ابن الهمام : لأن توقيتها يذهب بالرقة
لأنه يصير كمن يكرر محفوظة وإن تبرك بالمأثور فحسن – انتهى . وقوله (( يذكر الله
ما شاء ويدعو )) كذا في جميع النسخ ، وفي أبي داود (( يذكر الله ما شاء أن يذكره
ويدعوه )) . وفي الحديث الابتداء بالطواف في أول دخول مكة سواء كان محرما بحج أو
بعمرة أو غير محرم ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلها في هذا اليوم ، وهو
يوم الفتح غير محرم بإجماع المسلمين وكان على رأسه المغفر . والأحاديث متظاهرة على
ذلك ، والإجماع منعقد عليه ، قاله النووي . وفيه أيضا رفع اليدين للدعاء على الصفا
عند رؤية البيت ( رواه أبو داود ) قال المنذري : وأخرجه مسلم بنحوه في الحديث
الطويل في الفتح يعني فتح مكة .
2600- قوله ( الطواف حول البيت ) أي الدوران حول الكعبة . وقوله (( حول البيت ))
احتراز من الطواف
(18/210)
مثل الصلاة ، إلا أنكم تتكلمون
فيه ، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بين الصفا والمروة ( مثل الصلاة
) بالرفع على الخبرية ، وجوز النصب أي نحوهما ، وفي رواية (( الطواف بالبيت صلاة
)) أي مثلها في عدة من الأحكام كستر العروة والطهارة ، وقيل أي مثلها في الثواب أو
في التعليق بالبيت ( إلا أنكم تتكلمون فيه ) أي يجوز لكم الكلام في الطواف بخلاف
الصلاة . وقال القاري : أي تعتادون الكلام فيه قال الطيبي : يجوز أن يكون
الاستثناء متصلا أي الطواف كالصلاة في الشرائط التي هي الطهارة وغيرها إلا في
التكلم ، ويجوز كونه منقطعا أي الطواف مثل الصلاة لكن رخص لكم في التكلم فيه .
وقال القاري : الاستثناء إما متصل أي مثلها في كل معتبر فيها وجودا وعدما إلا
التكلم يعني وما في معناه من المنافيات من الأكل والشرب وسائر الأفعال الكثيرة ،
وإما منقطع أي لكن رخص لكم في الكلام . وفي العدول عن قوله (( إلا الكلام )) نكتة
لطيفة لا تخفى ، ويعلم من فعله عليه الصلاة والسلام عدم شرطية الاستقبال ، وليس
لأصل الطواف وقت مشروط وبقى بقية شروط الصلاة من الطهارة الحكمية والحقيقية وستر
العورة ، فهي معتبرة عند الشافعي كالصلاة وواجبات عندنا . لأنه لا يلزم من مثل
الشيء أن يكون مشاركا له في كل شيء على الحقيقة مع أن الحديث من الآحاد ، وهو ظني
لا يثبت به الفرضية – انتهى . وقال المناوي : استدل به الخطابي على اشتراط الطهارة
له . وقول ابن سيد الناس : المشبه لا يعطي قوة المشبه به من كل وجه وقد نبه على
الفرق بينهما بحل الكلام فيه ، رده المحقق أبو زرعة ، لأن التحقيق أنه صلاة حقيقة
إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة وهي حقيقة شرعية ، ويكون لفظ الصلاة مشتركا اشتراكا
لفظيا بين المعهودة والطواف ، ولا يرد إباحة الكلام فيه ، لأن كل ما يشرط في
الصلاة يشترط فيه إلا ما يستثنى ، والمشي مستثنى ، إذ
(18/211)
لا يصدق اسم الطواف شرعا إلا
به . وقال المحب الطبري : في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الطواف بالبيت
صلاة " . دليل على أن الطواف يشترط فيه الطهارة والستارة ، وأن حكمه حكم
الصلاة إلا فيما وردت فيه الرخصة من الكلام بشرط أن يكون بخير ، ووجهه أنه جعله
صلاة أو مثل الصلاة ، ومقتضى ذلك إبطاله بالكلام مطلقا ، فلما رخص في كلام خاص وجب
أن يقتصر عليه ، فلا يلحق به ما عداه تقليلا لمخالفة الدليل وما ورد في إباحة
الكلام مطلقا ، فيحمل على هذا المقيد ( فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ) أي من
ذكر الله وإفادة علم واستفادته على وجه لا يشوش على الطائفين . وقال الطبري : من
الخير المشار إليه في الحديث أن يسلم الرجل على أخيه ويسأله عن حاله وأهله ويأمر
الرجل الرجل بالمعروف وينهاه عن المنكر وأشباه ذلك من تعليم جاهل أو إجابة مسألة ،
وهو مع ذلك كله مقبل على الله تعالى في طوافه ، خاشع بقلبه ، ذاكر بلسانه ، متواضع
في مسألته ، يطلب فضل مولاه ويعتذر إليه ، فمن كان بهذا الوصف رجوت أن يكون ممن
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله تبارك وتعالى يباهي بالطائفين .
وقال أيضا : واعلم أن التحدث في الطواف على غير النحو المتقدم خطأ كبير وغفلة
عظمية ، ومن لابس ذلك فقد لابس ما يمقت عليه ، خصوصا إن صدر ممن ينسب
رواه الترمذي ، والنسائي ، والدارمي ، وذكر الترمذي جماعة وقفوه على ابن عباس .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/212)
إلى العلم والدين فإنه إذا أنكر على من دونه احتج به فصار فتنة لكل مفتون ، ومن آثر محادثة المخلوق في أمر الدنيا والإقبال عليه والإصغاء لحديثه على ذكر خالقه والإقبال عليه وعلى ما هو متلبس به من عبادته فهو غبين الرأي ، لأن طوافه بجسده وقلبه لاه ساه قد غلب عليه الخوض فيما لا يعنيه حتى استرسل في عبادته كذلك ، فهو إلى الخسران أقرب منه إلى الربح ، ومثل هذا خليق بأن يشكوه البيت إلى الله عز وجل وإلى جبريل ، ولعل الملائكة تتأذى به ، وكثير من الطائفين يتبرمون منه ، فعلى الطائف أن يبذل جهده في مجانبة ذلك – انتهى . والحديث رواه أحمد من طريق حسن بن مسلم عن طاوس عن رجل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما الطواف صلاة ، فإذا طفتم فأقلوا الكلام " . ورواه النسائي من هذا الطريق موقوفا ، ثم رواه من طريق حنظلة بن أبي سفيان عن طاوس ، قال : قال عبد الله بن عمر : أقلوا الكلام في الطواف فإنما أنتم في الصلاة . وقوله (( فأقلوا الكلام )) أي فلا تكثروا فيه الكلام ، وإن كان جائزا ، لأن مماثلته للصلاة تقتضي أن لا يتكلم فيه أصلا كما لا يتكلم فيه الصلاة ، فحين أباح الله تعالى فيه الكلام رحمة منه تعالى على العبد فعليه أن يشكر الله عز وجل ولا يكثر فيه الكلام ولا يتكلم إلا بخير أو لضرورة ( رواه الترمذي والنسائي والدارمي ) واللفظ للترمذي ، وأخرجه أيضا الحاكم (ج 1 : ص 459) والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وغيرهم ، وفي قول المصنف (( والنسائي )) نظر ، فإن الحديث عنده من طريق طاوس موقوف ولم يسم الصحابي كما تقدم ( وذكر الترمذي جماعة وقفوه على ابن عباس ) قلت : قال الترمذي بعد رواية الحديث من طريق جرير عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس مرفوعا ما لفظه (( وقد روي عن ابن طاوس وغيره عن طاوس عن ابن عباس موقوفا ، ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن السائب )) –
(18/213)
انتهى . قال الحافظ في التلخيص
: الحديث رواه الترمذي والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس ، وصححه ابن السكن
وابن خزيمة وابن حبان . وقال الترمذي : روي مرفوعا وموقوفا ، ولا نعرفه مرفوعا إلا
من حديث عطاء ومداره على عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس . واختلف في رفعه
ووقفه ورجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي ، وزاد أن
رواية الرفع ضعيفة ، وفي إطلاق ذلك نظر ، فإن عطاء بن السائب صدوق ، وإذا روي عنه
الحديث مرفوعا تارة وموقوفا أخرى فالحكم عند هؤلاء الجماعة للرفع ، والنووي ممن
يعتمد ذلك ويكثر منه ، ولا يلتفت إلى تعليل الحديث به إذا كان الرافع ثقة فيجيء
على طريقته أن المرفوع صحيح ، فإن اعتل عليه بأن عطاء بن السائب اختلط ولا تقبل
إلا رواية من رواه عنه قبل اختلاطه ، أجيب بأن الحاكم أخرجه من رواية سفيان الثوري
عنه ، والثوري ممن سمع قبل اختلاطه باتفاق ، وإن كان الثوري قد اختلف عليه في وقفه
ورفعه . فعلى طريقتهم تقدم رواية الرفع أيضا ، والحق أنه .
2601 – (17) وعنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نزل
الحجر الأسود من الجنة ، وهو أشد بياضا من اللبن ، فسودته خطايا بني آدم " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من رواية سفيان موقوف ، ووهم
عليه من رفعه وقد بسط الحافظ الكلام ها هنا ، من شاء الوقوف فليرجع إلى التلخيص (ص
47) .
(18/214)
2601- قوله ( وهو أشد بياضا من اللبن ) جملة حالية ( فسودته خطايا بني آدم ) أي صارت ذنوب بني آدم الذين يمسحون الحجر سببا لسواده ، واللفظ المذكور للترمذي ، ولأحمد (( الحجر الأسود من الجنة ، وكان أشد بياضا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك )) . وفي رواية الطبراني (( الحجر الأسود من حجارة الجنة وما في الأرض من الجنة غيره ، وكان أبيض كالمها ( مقصورا جمع مهاة وهي البلورة ) ولو لا ما مسه من رجس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا برئ )) والحديث محمول على ظاهره إذ لا مانع نقلا ولا عقلا ، فالركن الأسود حجر من حجارة الجنة حقيقة ، وليس فيه غرابة وبعد واستحالة ، والحديث صحيح كما قال الترمذي وغيره ، وله شواهد كما ستعرف ، وأوله بعض الشراح بإرادة المبالغة في تعظيم شأن الحجر وتفظيع أمر الخطايا والذنوب ، والمعنى أن الحجر لما فيه من الشرف والكرامة واليمن والبركة يشارك جواهر الجنة فكأنه نزل منها . قال القاضي البيضاوي : لعل هذا الحديث جار مجرى التمثيل والمبالغة في تعظيم شأن الحجر وتفظيع أمر الخطايا والذنوب ، والمعنى أن الحجر لما فيه من الشرف والكرامة وما فيه من اليمن والبركة شارك جواهر الجنة فكأنه نزل منها ، وأن خطايا بني آدم تكاد تؤثر في الجماد فيجعل المبيض منها مسودا فكيف فكيف بقلوبهم ( يعني ففيه تخويف وتنبيه ، فإن الرجل إذا علم أن الذنب يسود الحجر خاف أن يسود بدنه بشؤم ذنوبه ويذهب نور الإيمان ) أو لأنه من حيث أنه مكفر للخطايا محاء للذنوب لما روي عن ابن عمر مرفوعا ( كما سيأتي ) (( إن مسحهما كفارة للخطايا )) كأنه من الجنة وكثرة تحمله أوزار بني آدم صار كأنه كان ذا بياض شديد فسودته الخطايا ، وقيل : في هذا الحديث امتحان إيمان الرجل ، فإن كان كامل الإيمان يقبل هذا ولا يتردد وإن كان ضعيف الإيمان يتردد والكافر ينكر ، وقال التوربشتي : هذا الحديث محتمل أن يراد منه ما دل عليه الظاهر ومحتمل أن يأول
(18/215)
على ما يستقيم عليه المعنى من
باب الاتساع ، ولسنا نرى بحمد الله تعالى خلاف الظواهر في السنن إلا إذا عارضه من
السنن الثوابت ما يحوج إلى التأويل أو وجدنا اللفظ في كلامهم بين الأمر في المجاز
والاستعارة فسلكنا به ذلك المسلك ، وإذ قد عرفنا من أصل الدين بالنصوص الثابتة أن
الجنة وما احتوت عليه من الجواهر مباينة لما خلق في هذه الدار الفانية في حكم
الزوال والفناء وإحاطة الآفات بها ، فإن ذلك خلق خلقا محكما غير قابل لشيء من ذلك
، وقد وجدنا الحجر أصابه الكسر حتى صار فلقا ، وذلك من أقوى أسباب الزوال لم
نستعبد فيه مذهب التأويل
..............................................................................................
(18/216)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وذلك بأن نقول : جعل الحجر لما وضع فيه من الأنس والهيبة واليمن والكرامة كالشيء الذي نزل من الجنة وأراد به مشاركته جواهر الجنة في بعض أوصافها كأنه نزل من الجنة ، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - (( العجوة من الجنة )) وقد علمنا أنه أراد بذلك مشاركتها ثمار الجنة في بعض ما جعل فيها من الشفاء والبركة بدعائه - صلى الله عليه وسلم - بذلك فيها ولم يرد ثمار الجنة نفسها للاستحالة التي شاهدنا فيها كاستحالة غيرها من الأطعمة ولخلوها من النعوت والصفات الواردة في ثمار الجنة ، وتأويل قوله (( نزل من الجنة )) أي الصفات الموهوبة لها كأنها من الجنة . قال الله تعالى : ? وأنزلنا الحديد ? (57 : 25) وقال : ? وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ? (39 : 6) فحمل الإنزال على معنى القضاء والقسمة ، ومنهم من ذهب فيه إلى معنى الخلق ، ومنهم من قال إنه أقام إنزال الأسباب فيها مقام إنزالها نفسها . وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - :(( وهو أشد بياضا من اللبن )) . فمعناه أن الحجر كان من الصفاء والنورانية على هذا النعت فسودته خطايا بني آدم ، ومعنى هذا القول – والله أعلم – أن كون بني آدم خطائين مقتحمين على موارد الهلكات ، اقتضي أن يكون الحجر على الشاكلة التي هو عليها من السواد لئلا يتسارع إليهم المقت والعقوبة من الله تعالى ، فإن كل من شاهد آية خارقة للعادة ثم بخس بحقها استحق الطرد من الله فأضيف التسويد إلى الخطايا لأنها كانت السبب في ذلك . ومن الدليل على هذا التأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمر الآتي (( إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة ، طمس الله نورهما )) الحديث . فالذي طمس نورهما هو الله سبحانه وتعالى حكمة بالغة منه في الشيء الذي ذكرناه . ثم لمعنى آخر وهو كونه أتم فائدة في حال المكلفين ، لأنه إذا عظموه حق تعظيمه من غير مشاهدة آية
(18/217)
باهرة صح إيمانهم بالغيب ،
وذلك من أعلى مقامات أهل الإيمان فيكون من أجدى الأشياء في محور الخطايا وتمحيص
الذنوب ، وذلك إحدى المعنيين في إضافة التسويد إلى الخطايا لاقتضاءها ذلك من طريق
الحكمة . وقال بعض الفضولية : إنه لو كان هذا الذي رووه من تسويد خطايا بني آدم
الحجر واقعا لتناقلته الأمم في عجائب الأخبار ، ولقد أجبت عن ذلك في كتاب المناسك
وأعطيت القول حقه في موضعين منه ، ولم أرد ترديد القول ها هنا إيثار للاختصار –
انتهى . قلت : لا ملجئ للتأويل الذي ذكره القاضي والتوربشتي بل يحمل الحديث على
ظاهره ، إذ لا مانع من ذلك عقلا ولا سمعا لاسيما وقد جاء هذا الحديث عند الطبراني
بلفظ يبعد التأويل كما تقدم ، قال الشيخ عبد الحق الدهلوي : ولعمري ما في الحديث
ما يخالف الدليل القاطع الحاكم باستحالته حتى يجب تأويله وصرفه عن ظاهره ، أما
النزول من الجنة فلا استحالة فيه فإن الجنة فيها جواهر ، فيمكن أن الله أنزل منها
شيئا إلى الأرض حتى يحمل الإنزال على معنى القضاء والقسمة أو معنى الخلق أو إقامة
إنزال الأسباب فيها مقام إنزالها نفسها كما في قوله تعالى : ? وأنزلنا الحديد ? ?
وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ? وأما قولهم إنا قد عرفنا بالنصوص الثابتة أن
الجنة وما احتوت عليه من الجواهر مباينة لما خلق في هذه الدار الفانية في الخواص (
إلى آخر ما قالوا ) فنقول : يمكن أن يكون فقدان خواص الجنة لنزوله إلى هذه الدار وسراية
أحوالها وأحكامها إليه ويستأنس له بما يأتي من حديث عبد الله بن عمر
رواه أحمد ، والترمذي ، وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(18/218)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (( إن الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب )) . وكما قالوا في الجواب عن أقوال الزائغين في كون ما بين قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنبره روضة من رياض الجنة ، على تقدير كونه محمولا على الحقيقة أنه لو كان من الجنة لما نجوع ونظمأ فيها . وكما في عكس هذه الصورة من صعود بعض الأنبياء في السماء من عدم انحلال قواهم وفساد مزاجهم وتغير أحوالهم كما في الدنيا ، فليكن ها هنا كذلك ، والله على كل شيء قدير . ومثل هذا الكلام في قوله (( أشد بياضا فسودته خطايا بني آدم )) بأن يكون في ابتداء نزوله أبيض ، ثم جعل لذنوب بني آدم ومس أيديهم خاصية وسببية في تسويده . وأما قول بعض الزائغين بأنه لو كان هذا الذي رووه من تسويد خطايا بني آدم الحجر واقعا لتناقلته الأمم في عجائب الأخبار فساقط من درجة الاعتبار ، ولا استبعاد فيه ، نعم لو قيل : المراد هو الظاهر ولكن يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى مناسب لم يستعبد . ثم ذكر الشيخ الدهلوي ما قيل في تأويل الحديث مما سبق في كلام القاضي والتوربشتي ، ثم قال : وهذا كله تأويلات وتمحلات من النفس ناشئة من ضيق دائرة الإيمان ومن شرح الله صدره للإيمان ووسع دائرة المعرفة لصدقه ويقول : آمنا به ، والله على كل شيء قدير ، غايته أن يقال : إن المراد هو الظاهر ، ويحتمل – والله أعلم – أن يكون المراد ما ذكرنا من المعاني المتناسبة فافهم ، وبالله التوفيق . تنبيه : قال المحب الطبري : قد اعترض بعض الملحدة فقال : كيف يسود الحجر خطايا أهل الشرك ولا يبيضه توحيد أهل الإيمان ؟ والجواب عنه من ثلاثة أوجه ، الأول : ما تضمنه حديث ابن عباس ( عند الأزرقي ) أن الله عز وجل إنما طمس نوره ليستر زينته عن الظلمة ، وكأنه لما تغيرت صفته التي كانت كالزينة له بالسواد كان ذلك السواد له كالحجاب
(18/219)
المانع من الرؤية ، وإن رؤي
جرمه ، إذ يجوز أن يطلق عليه أنه غير مريء كما يطلق على المرأة المستترة بثوب أنها
غير مرئية . قال الحافظ بعد ذكر هذا الجواب مختصرا : أخرجه ( أي حديث ابن عباس
الذي أشار إليه الطبري ) الحميدي في فضائل مكة بإسناد ضعيف – انتهى . الثاني :
أجاب به ابن حبيب فقال : لو شاء الله لكان ذلك وما علمت أيها المعترض أن الله
تعالى أجر العادة بأن السواد يصبغ ولا ينصبغ والبياض ينصبغ ولا يصبغ . والثالث :
أن يقال بقاؤه أسود – والله أعلم – إنما كان للاعتبار ، وليعلم أن الخطايا إذا
أثرت في الحجر فتأثيرها في القلوب أعظم – انتهى . ( رواه أحمد ) (ج 1 : ص 307 ،
329) ( والترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح ) قال الحافظ في الفتح بعد نقل تصحيح
الترمذي : وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط ، وجرير ممن سمع منه بعد
اختلاطه ، لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها . وقد رواه النسائي من
طريق حماد بن سلمة عن عطاء مختصرا ولفظه (( الحجر الأسود من الجنة )) وحماد ممن
سمع من عطاء قبل الاختلاط ، وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضا - انتهى كلام
2602 – (18) وعنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجر : "
والله ليبعثنه الله يوم القيامة ، له عينان يبصر بهما ، ولسان ينطق به ، يشهد على
من استلمه بحق " . رواه الترمذي ،
(18/220)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحافظ . قلت : حديث ابن عباس رواه أحمد من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مطولا كالترمذي كما تقدم فهو صحيح . وحديث أنس أخرجه الحاكم (ج 1 : ص 456) من طريق داود بن الزبرقان عن أيوب السختياني عن قتادة عن أنس مرفوعا : (( الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة )) . وسكت عنه الحاكم ، وقال الذهبي : داود بن الزبرقان قال أبو داود : متروك . رواه أحمد من طريق شعبة وقتادة عن أنس موقوفا عليه بلفظ (( الحجر الأسود من الجنة )) . ورواه البزار والبيهقي (ج 5 : ص 75) والطبراني في الأوسط مرفوعا ، وفيه عمر بن إبراهيم العبدي وثقة ابن معين وغيره وفيه ضعف قاله الهيثمي (ج 3 : ص 242) .
(18/221)
2602 – قوله ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجر ) أي في شأن الحجر الأسود ووصفه ( ليبعثنه الله ) أي ليظهرنه حال كونه ( له عينان يبصر بهما ) فيعرف من استلمه ( ولسان ينطق به ) . قال التوربشتي : البعث نشر الموتى ، ولما كان الحجر من جملة الموات أعلم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله قد قدر أن يهب له حياة يوم القيامة يستعد به للنطق ، ويجعل له آلة يتميز بها بين المشهود له وغيره ، وآلة يشهد به . شبه حاله بالأموات الذين كانوا رفاتا فبعثوا لاستواء كل واحد منهما في انعدام الحياة أولا ثم في حصوله ثانيا ( يشهد على من استلمه بحق ) أي متلبسا بحق وهو دين الإسلام ، واستلامه بحق هو طاعة الله وإتباع سنة نبيه لا تعظيم الحجر نفسه ، والشهادة عليه هي الشهادة على أدائه حق الله المتعلق به ، وليست (( على )) للضرر ، قاله السندي . وقال العراقي (( على )) هذا بمعنى اللام ، وقال التوربشتي : المستلم بحق هو المؤمن بالله وبرسله ؛ لوقوع فعله ذلك مطابقا للأمر . قلت : قوله (( يشهد على من استلمه بحق )) كذا وقع عند الترمذي وابن ماجة وأحمد (ج 1 : ص 307) والدارمي والبيهقي (ج 5 : ص 75) ولأحمد (ج 1 : ص 247 ، 266 ، 291) وابن حبان والحاكم (ج 1 : ص 457) والدرامي والبيهقي في رواية (( يشهد لمن استلمه )) أي باللام . قال العراقي . والباء في (( بحق )) يحتمل تعليقها بيشهد أو باستلمه . وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات : كلمة (( على )) باعتبار تضمين معنى الرقيب والحفيظ ، وقوله (( بحق )) متعلق باستلمه أي استلمه إيمانا وإحتسابا ، ويجوز أن يتعلق بيشهد ، وهذا الحديث أيضا محمول على ظاهره ، فإن الله تعالى قادر على إيجاد البصر والنطق في الجمادات فإن الأجسام متشابهة في الحقيقة يقبل كل منها ما يقبل الآخر من الأعراض ، ويأوله الذين في قلوبهم زيغ التفلسف . والله العاصم – ويقولون : إن ذلك كناية عن تحقيق ثواب المستلم
(18/222)
وأن سعيه لا يضيع ، والعجب من
البيضاوي أنه قال : إن الأغلب على الظن أن المراد هذا وإن لم يمتنع حمله على
الظاهر ، ولا عجب فإنه مجبول على التفلسف في تفسير القرآن وشرح الأحاديث تجاوز
الله عنه – انتهى كلام الشيخ ( رواه الترمذي )
وابن ماجة ، والدارمي .
2603 – (19) وعن ابن عمر ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
" إن الركن والمقام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في أواخر الحج وقال : هذا حديث
حسن ( وابن ماجة والدارمي ) وأخرجه أيضا أحمد وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان كما
في موارد الظمآن ، والحاكم والبيهقي ، قال الحافظ في الفتح : وفي صحيح ابن خزيمة
عن ابن عباس مرفوعا (( إن لهذا الحجر لسانا وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة
بحق )) وصححه أيضا ابن حبان والحاكم – انتهى . وللطبراني في الكبير عن ابن عباس
مرفوعا (( يبعث الله الحجر الأسود والركن اليماني يوم القيامة ولهما عينان ولسان
وشفتان يشهدان لمن استلمهما بالوفاء )) قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير من
طريق بكر بن محمد القرشي عن الحارث بن غسان وكلاهما لم أعرفه - انتهى . وللحديث
شاهد من حديث عبد الله بن عمرو ، رواه أحمد (ج 2 : ص 211) والطبراني في الأوسط
مرفوعا ، قال : (( يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس ، له لسان وشفتان ))
قال الهيثمي : وزاد الطبراني (( يشهد لمن استلمه بالحق ، وهو يمين الله عز وجل
يصافح بها خلقه )) وفيه عبد الله بن المؤمل ، وثقه ابن حبان وقال : يخطئ ، وفيه
كلام وبقية رجاله رجال الصحيح ، ورواه الحاكم في المستدرك (ج 1 : ص 457) من طريق
عبد الله بن المؤمل مطولا كرواية الطبراني ، وصححه الحاكم . وقال الذهبي : عبد
الله بن المؤمل واه . قال الشيخ أحمد شاكر : هذا غلو من الحافظ الذهبي – انتهى .
وقد ظهر بهذا كله أن حديث ابن عباس الذي نحن في شرحه وإن اقتصر الترمذي على تحسينه
فهو
(18/223)
صحيح .
2603- قوله ( وعن ابن عمر ) كذا في جميع نسخ المشكاة الموجودة عندنا ، وهكذا وقع
في المصابيح وهو خطأ والصواب (( عبد الله بن عمرو )) فالحديث من مرويات عبد الله
بن عمرو بن العاص كما وقع عند الترمذي وغيره ممن أخرجه ، وهكذا ذكره الجزري في
جامع الأصول (ج 10 : ص 176) ( إن الركن والمقام ) المراد بالركن هنا الحجر الأسود
كما في رواية أحمد (ج 2 : ص 214) وبالمقام مقام إبراهيم عليه السلام ، وهو الحجر
الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه عند بناء البيت فقال ابن كثير في تفسيره
(ج 1 : ص 175) في تفسير قوله تعالى : ? واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ? (2 : 125)
بعد ذكر روايات صلاته - صلى الله عليه وسلم - ركعتي الطواف خلف المقام : فهذا كله
يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه
لبناء الكعبة ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله
الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار . وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف
حول الكعبة وهو واقف عليه ( وكان الحجر يرتفع بارتفاع الجدار عند البناء ، وكلما
احتاج إلى قدر من الارتفاع كان يرتفع بإذن الله تعالى ) وكلما فرغ من جدار نقله
إلى الناحية التي تليها ، وهكذا حتى تم جدارن الكعبة ، وكانت
ياقوتتان . من ياقوت الجنة ، طمس الله نورهما ، ولو لم يطمس نورهما لأضاء ما بين
المشرق والمغرب " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ آثار قدميه ظاهرة فيه ، ولم يزل
هذا معروفا تعرفه العرب في جاهليتها ، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة
اللامية :
-
-
وموطئي إبراهيم في الصخر رطبة _ -
-
على قدميه حافيا غير ناعل ( -
-
(18/224)
إلى آخر ما ذكر ، وذكره الحافظ في الجزء الثامن عشر من الفتح نقلا عن ابن الجوزي ، وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا كما روى عبد الله بن وهب في موطأه عن أنس والطبري في تفسيره عن قتادة . تنبيه : قد وضع الملك فيصل بن عبد العزيز حفظه الله بعد عصر يوم السبت ثامن عشر رجب سنة 1387 هـ المقام بداخل زجاج محاط بشباك صغير على هيأة منارة صغيرة طلبا للتوسعة على الطائفين ، وذلك بعد ما أزيلت الأعمدة والشباك الكبير وسقفهما الذي على المقام ، فجزاه الله أحسن الجزاء ، وصار المقام بعمله هذا بحيث يشاهد كل أحد فيه أثر قدمي إبراهيم عليه السلام غائصا ، فلله الحمد . تنبيه آخر : كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن ، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن عطاء وغيره وعن مجاهد أيضا ، وأخرج البيهقي عن عائشة مثله بسند قوي ، ولفظه (( إن المقام كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي زمن أبي بكر ملتصقا بالبيت ثم أخرجه عمر )) وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حوله ، والأول أصح ، ولم تنكر الصحابة فعل عمر ولا من جاء بعدهم فصار إجماعا ، وكان عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين فوضعه في مكان يرتفع به الحرج وتهيأ له ذلك ، لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى ، وأول من عمل عليه المقصورة الموجودة الآن ، كذا في الفتح . وارجع للتفصيل إلى تفسير ابن كثير ، وإلى القرى (ص 308) لمحب الدين الطبري . تنبيه ثالث : قال ابن جاسر : إذا حصل على الطائفين زحام من جهة مقام إبراهيم فإنه يسوغ تأخيره بقدر إزالة الضرر ، لأن المقام ليس هو البقعة التي هو بها الآن ، وإنما هو نفس الحجر ، والله أعلم ( ياقوتتان من ياقوت الجنة ) قال القاري : المراد به الجنس فالمعنى أنهما من يواقيت الجنة . قلت : وقع عند ابن حبان
(18/225)
والبيهقي في رواية والحاكم ((
من يواقيت الجنة )) ( طمس الله نورهما ) أي أذهبه . قال القاري : أي بمساس
المشركين لهما ، ولعل الحكم في طمسهم ليكون الإيمان غيبيا لا عينيا ، وقال الشاه
ولي الدهلوي : يحتمل أن يكونا من الجنة في الأصل فلما جعلا في الأرض اقتضت الحكمة
أن يرعى فيهما حكم نشأة الأرض فطمس نورهما ( ولو لم يطمس ) على بناء الفاعل ،
ويجوز أن يكون على بناء المفعول ( لأضاء ) كذا في طبعات الهند بصيغة الإفراد أي
لأضاء كل واحد ، أو هو لازم أي لاستنار بهما ( ما بين المشرق والمغرب ) وفي النسخ
المصرية (( لأضاءا )) أي بالتثنية ، وهكذا وقع في المصابيح ، وفي رواية للحاكم ،
ولأحمد ، وللترمذي وابن حبان والبيهقي (( لأضاءتا )) بصيغة التثنية للمؤنث أي
لأنارتاه ، فأضاء متعد . قال التوربشتي : لما كان الياقوت من
رواه الترمذي .
2604 – (20) وعن عبيد بن عمير ، أن ابن عمر كان يزاحم على الركنين زحاما ما رأيت
(18/226)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أشرف الأحجار ثم كان بعد ما بين ياقوت هذه الدار الفانية وياقوت الجنة أكثر مما بين الياقوت وغيره من الأحجار أعلمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها من ياقوت الجنة لنعلم أن المناسبة الواقعة بينهما وبين الأجزاء الأرضية في الشرف والكرامة والخاصية المجعولة لهما كما بين ياقوت الجنة وسائر الأحجار ، وذلك مما لا يدرك بالقياس . وقال الشيخ الدهلوي : قوله (( ياقوتتان من ياقوت الجنة )) هذا أيضا يؤلونه بأن المراد بيان شرفهما وكرامتهما لأن الياقوت من أشرف الأحجار ولا بد أن يكون ياقوت الجنة أشرف وأجود من ياقوت الدنيا ، فكأنه قال كأنهما ياقوتتان من الجنة – انتهى . قال القاري : والحديث لا ينافي ما صح أيضا (( ولو لا ما مسهما من خطايا بني آدم لأضاءا ما بين المشرق والمغرب فإنهما لما مستهما تلك الخطايا طمس الله نورهما )) ( رواه الترمذي ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 313 ، 314) وابن حبان في صحيحه وفي الثقات والحاكم (ج 1 : ص 256) والبيهقي (ج5 : ص 75) والدولابي في الكنى كلهم من طريق رجاء بن صبيح أبي يحيى عن مسافع بن شيبة الحجي عن عبد الله بن عمرو بن العاص . قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث مرفوعا : أخرجه أحمد والترمذي ، وفي إسناده رجاء أبو يحيى وهو ضعيف ، قال الترمذي : حديث غريب ، ويروى عن عبد الله بن عمرو موقوفا . وقال ابن أبي حاتم عن أبيه : وقفه أشبه ، والذي رفعه ليس بقوي – انتهى . وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند : إسناد هذا الحديث صحيح ، وبسط الكلام في الرد على الترمذي وفي تصحيح هذا الحديث ، وفي الباب عن أنس أخرجه الحاكم مختصرا وقد تقدم .
(18/227)
2604 – قوله ( وعن عبيد بن
عمير ) بالتصغير فيهما ، وهو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي ثم الجندي أبو عاصم
المكي قاص أهل مكة ، ذكر البخاري أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكره
مسلم فيمن ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو معدود في كبار
التابعين ، سمع عمر بن الخطاب وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة أم
المؤمنين وأبا ذر وغيرهم ، وروى عنه ابنه عبد الله وعطاء ومجاهد وعمرو بن دينار
وغيرهم ، وهو مجمع على ثقته ، مات قبل ابن عمر . وقال ابن حبان في الثقات : مات
سنة (68) ولأبيه عمير بن قتادة صحبة ورواية ( أن ابن عمر كان يزاحم ) أي يغالب
الناس ( على الركنين ) أي الحجر الأسود والركن اليماني ( زحاما ) قال الطيبي : أي
زحاما عظيما ، وهو يحتمل أن يكون في جميع الأشواط أو الشوطين الأول والآخر فإنهما
آكد أحوالها . وقد قال الشافعي في الأم : ولا أحب الزحام في الاستلام إلا في بدء
الطواف وآخره ولكن أريد به ما لا يتأذى به أحد أي ازدحاما لا يحصل فيه أذى لأحد
قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر : إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف
، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر . رواه الشافعي وأحمد ( ما رأيت
أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزاحم عليه ، قال : إن أفعل فإني سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن مسحهما كفارة للخطايا " .
وسمعته يقول : " من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه ، كان كعتق رقبة " .
وسمعته يقول : " لا يضع قدما ولا يرفع أخرى إلا حط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/228)
أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزاحم عليه ) أي على ما ذكر أو على كل واحد ، وقد جاء أنه ربما دمي أنفه من شدة تزاحمه ، وكأنهم تركوه لما يترتب عليه من الأذى ، فالافتداء بفعلهم سيما هذا الزمان أولى ، قاله القاري . قلت : روى الشافعي في مسنده وأبو ذر عن القاسم بن محمد قال : رأيت ابن عمر يزاحم على الحجر حتى يدمى أنفه أو فوه . وروى سعيد بن منصور نحوه ، وروى أبو الوليد الأزرقي عن نافع أن ابن عمر كان لا يدعهما حتى يستلمهما ، ولقد زاحم على الركن مرة في شدة الزحام حتى رعف فخرج فغسل عنه فعاد فزاحم فلم يصل إليه حتى رعف الثانية فخرج يغسل عنه ثم رجع فما تركه حتى استلم . وروي عن نافع أيضا قال : لقد رأيت ابن عمر يزاحم مرة حتى انبهر فتنحى فجلس في ناحية حتى استراح وعاد فلم يدعه حتى استلمه . وقوله (( انبهر )) هو من البهر بضم الباء ، وهو ما يعتري الإنسان عند السعي الشديد والمزاحمة من النهيج وتتابع النفس . وروى سعيد بن منصور من غير طريق القاسم أنه قيل لابن عمر في ذلك فقال : هوت الأفئدة إليه فأريد أن يكون فؤادي معهم . وروى الفاكهي والبيهقي من طرق عن ابن عباس كراهة المزاحمة وقال : لا يؤذي ( قال ) أي ابن عمر استلالا لفعله ، وقال الطيبي : أي اعتذارا ( إن أفعل ) أي هذا الزحام فلا ألام ، فإن شرطية ، والجزاء مقدر ، ودليل الجواب قوله : فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إلخ . قاله القاري . وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات : أي إن أزاحم فلا تنكروا علي ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فضل استلامهما ، فإني لا أطيق الصبر عنه ، وفيه الحرص على الفضائل وارتكاب التعب والمشقة في تحصليها ( كفارة للخطايا ) وعند أحمد وابن حبان والبيهقي (( يحط الخطايا )) أي يسقطها ، وهو كناية عن غفران الذنوب ( وسمعته ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا ( أسبوعا ) أي سبع مرات ، ومنه
(18/229)
قيل أسبوعا للأيام السبعة ،
ويقال له سبوع بلا ألف على لغة قليلة ، قال في المجمع : طاف أسبوعا أي سبع مرات ،
والأسبوع الأيام السبعة ، وسبوع بلا ألف لغية – انتهى . وقال القاري : أي سبعة
أشواط كما في رواية ( فأحصاه ) قال السيوطي : أي لم يأت فيه بزيادة أو نقص . وقيل
أي حافظ على وجباته وسننه وآدابه . وقال القاري : أن يكمله ويراعي ما يعتبر في
الطواف من الشروط والآداب ( كان كعتق رقبة ) ولفظ أحمد (( من طاف أسبوعا يحصيه
وصلى ركعتين كان له كعدل رقبة )) والمعنى أن من طاف وصلى ركعتين بعد الطواف
بالشروط المعتبرة كان له مثل إعتاق رقبة في الثواب ( لا يضع ) أي الطائف ( قدما
ولا يرفع أخرى ) قال القاري : الظاهر لا يرفعها فكأنه عد أخرى باختلاف وصف الوضع
والرفع ، والتقدير : لا يضع قدما مرة ولا يرفع قدما مرة أخرى – انتهى . وعند أحمد
(( ما رفع رجل قدما ولا وضعها )) ( يعني في الطواف ) ( إلا حط
الله عنه بها خطيئة ، وكتب له بها حسنة " . رواه الترمذي .
2605- (21) وعن عبد الله بن السائب ، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،
يقول ما بين الركنين : ? ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار ? . رواه أبو داود .
(18/230)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الله عنه بها ) أي إلا وضع الله ومحا عن الطائف بكل قدم أو بكل مرة من الوضع والرفع ( خطيئة وكتب له بها حسنة ) زاد ابن حبان (( ورفع له بها درجة )) ولأحمد (( إلا كتب له عشر حسنات وحط عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات )) ( رواه الترمذي ) وقال : هذا حديث حسن . أخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 3) وابن خزيمة في صحيحه والحاكم (ج 1 : ص 489) وصححه ووافقه الذهبي ، ورواه أحمد أيضا (ج 2 : ص 11) والنسائي وابن حبان والبيهقي وابن ماجة مختصرا أي بعضه ، رووه كلهم من طريق عطاء بن السائب عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن ابن عمر ، وعطاء صدوق لكنه اختلط ، وجرير ( عند الترمذي والحاكم ) وهشيم ( عند أحمد ) ممن سمع منه بعد اختلاطه لكن له طريق أخرى أيضا فيتقوى بها ، فقد رواه أحمد (ج 2 : ص 11) وابن حبان كما في موارد الظمآن من طريق سفيان الثوري والنسائي من طريق حماد بن زيد كلاهما عن عطاء بن السائب ، وقد سمعا منه قبل الاختلاط .
(18/231)
2605 – قوله ( وعن عبد الله بن السائب ) المخزومي المكي ، له ولأبيه صحبة ، وكان قارئ أهل مكة . تقدم ترجمته ( ما بين الركنين ) أي الحجر الأسود والركن اليماني كما في رواية لأحمد . وللحاكم (( فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود )) وهكذا وقع في رواية أخرى لأحمد ، وركن بني جمح هو اليماني ونسب إليهم لأن بيوتهم كانت إلى جهته وبنو جمح بطن من قريش ، وكان بالمسجد باب يسمى بباب بني جمح لذلك ( ربنا ) منصوب بحذف حرف النداء ( آتنا ) من الإيتاء أي أعطنا ( في الدنيا حسنة ) أي العلم والعمل أو العفو والعافية والرزق الحسن أو حياة طيبة أو القناعة أو ذرية صالحة أو المرأة الصالحة الحسناء ( وفي الآخرة حسنة ) أي المغفرة والجنة والدرجات العالية أو مرافقة الأنبياء أو الرضا أو الرؤية واللقاء ، وقيل الحور العين . وقيل في تفسير الحسنتين المذكورتين في الآية غير ذلك . قال القرطبي : والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا والآخرة . قال : وهذا هو الصحيح فإن اللفظ يقتضي هذا كله ، فإن حسنة نكرة في سياق الدعاء فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل ، وحسنة الآخرة الجنة بإجماع – انتهى . ( وقنا ) أي احفظنا واكفنا ، وأصله (( إوقنا )) حذفت الواو كما حذفت في (( يقي )) لأنها بين ياء وكسرة مثل يعد ، هذا قول البصريين ( عذاب النار ) أي شدائد جهنم من حرها وزمهريرها وسمومها وغير ذلك ، وقيل المراد بعذاب النار المرأة السليطة ، والظاهر أن المراد جميع أنواع العقاب وأصناف العتاب . والحديث يدل على مشروعية الدعاء بالآية المذكورة في الطواف بين الركنين اليمانيين ( رواه أبو داود ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 3 : ص 411) وابن حبان والحاكم
(18/232)
2606 – (22) وعن صفية بنت شيبة
، قالت : أخبرتني بنت أبي تجراة ، قالت : دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ،
ننظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسعى بين الصفا والمروة ، فرأيته
يسعى وإن مئزره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (ج 1 : ص 455) وابن الجارود
والبيهقي ، ونسبه المنذري للنسائي أيضا . والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وقال
الحاكم : صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي .
2606 – قوله ( وعن صفية بنت شيبة ) الحجبي ، وعن صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي
طلحة العبدرية ، اختلف في رؤيتها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال الحافظ في
التقريب : لها رؤية وحدثت عن عائشة وغيرها من الصحابة . وفي البخاري التصريح
بسماعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنكر الدارقطني إدراكها . وقال في
تهذيبه : لها رؤية ، وقال الدارقطني : لا تصح لها رؤية ، وذكرها ابن حبان في ثقات
التابعين . قلت : ذكر المزي في الأطراف أن البخاري قال في صحيحه : قال : أبان بن
صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة ، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ،
ففي هذا رد على ابن حبان ، وقد أوضحت حال هذا الحديث فيما كتبته عن الأطراف –
انتهى كلام الحافظ ( أخبرتني بنت أبي تجراة ) براء ثم ألف غير مهموزة ثم هاء ،
ضبطه الحافظ في الفتح بكسر المثناة وسكون الجيم بعدها راء ثم ألف ساكنة ثم هاء ،
وجاء عند البيهقي والدارقطني بلفظ (( تجرأة )) براء ثم ألف مهموزة ووقع عند أحمد
(ج 6 : ص 421 ، 422) (( تجزئة )) بزاي ثم همزة ثم هاء وهكذا وقع في نصب الراية
والأم ، والظاهر أنه تصحيف من الناسخ وصوابه تجراة أي براء مهملة ثم ألف غير
مهموزة ثم هاء . وبنو تجراة قوم من كندة قدموا مكة . وابنة أبي تجراة هذه هي حبيبة
بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار ، قال الحافظ في تعجيل المنفعة : حبيبة بنت
أبي تجراة العبدرية ويقال (( حيية )) بتحتانيتين
(18/233)
وزن الأول ، ويقال بالتصغير ،
لها صحبة ، روى عنها عطاء . وصفية بنت شيبة في إسناد حديثها اضطراب ، وقال في
تهذيب التهذيب : اسم هذه المرأة الصحابية حبيبة بنت أبي تجراة وقيل تملك ، وهي أم
ولد شيبة ، وقال في الإصابة : حبيبة بنت أبي تجراة العبدرية ثم الشيبية . قال :
وقال أبو عمر : قيل اسمها حبيبة بفتح أوله ، وقيل بالتصغير ، وقال غيره : تجراة
ضبطها الدارقطني بفتح المثناة من فوق ، ثم قال أبو عمر : اختلف في صحابيتها بهذا
الحديث على صفية بنت شيبة ، وقد ذكرت لك في التمهيد . قال الحافظ : وقد تقدم من
وجه آخر عن صفية عن برة ، وقيل عن تملك ، وقيل عن أم ولد لشيبة ، وقيل عن صفية بلا
واسطة ، وقد استوعب أبو نعيم بيان طرقه ، ومنها من طريق جبرة بنت محمد بن سباع عن
حبيبة بنت أبي تجراة كذلك . وأخرجه النسائي من طريق بديل بن ميسرة عن مغيرة بن
حكيم عن صفية بنت شيبة عن امرأة ، وفي رواية ابن ماجة والبيهقي عن أم ولد لشيبة
وقد تقدم سند حديث تملك في المثناة – انتهى ( ننظر إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وهو يسعى بين الصفا والمروة ) أي لنتشرف برؤيته ولنستفيد من علمه وبركته (
فرأيته يسعى ) أي يسرع ( وإن ) بكسر الهمزة والواو للحال ( مئزره ) بكسر الميم
ليدور من شدة السعي ، وسمعته يقول : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي "
.
(18/234)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وسكون الهمز ويبدل أي إزاره ( ليدور ) أي حول رجليه ( من شدة السعي ) قال المظهر : يعني مئزره يدور حول رجليه ويلتف برجله من شدة عدوه ، وفي رواية لأحمد (( حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره )) والحديث يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ماشيا في الطواف بين الصفا والمروة ، وجاء ذلك صريحا في حديث حسن . ولا ينافيه ما ورد أنه عليه الصلاة والسلام سعي راكبا في حجة الوداع ، لإمكان الجمع بأن مشيه كان في سعي عمرة من عمره ، قاله القاري . وقال المحب الطبري بعد ذكر الأحاديث التي تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - سعى راكبا : في هذه الأحاديث دلالة ظاهرة على ركوبه - صلى الله عليه وسلم - في السعي ، والأحاديث المتقدمة في الفصل قبله وحديث جابر الطويل يدل على مشيه ، فيحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - مشى في طوافه على ما دل عليه بعض الأحاديث ، ثم خرج إلى السعي ماشيا فسعى بعضه ماشيا ورأته بنت أبي تجراة إذ ذاك ، ثم لما كثر عليه ركب ناقته ، ويؤيد ذلك قول ابن عباس (( وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يضرب الناس بين يديه ، فلما كثر عليه ركب ، والمشي والسعي أفضل )) فإن سياقه دال على أن الركوب كان في أثناء السعي حين كثر الناس عليه فيه . وذهب ابن حزم إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان راكبا في جميع طوافه بين الصفا والمروة عملا بحديث جابر (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف عليهم وليسألوه ، فإن الناس غشوه )) أخرجه مسلم . قال الطبري : وظاهر حديث ابن عباس يرد هذا التأويل ، وحديث بنت أبي تجراة يصرح برده ، والمختار فيه ما تقدم ذكره جمعا بين الأحاديث كلها ، وأما ركوبه في الطواف بالبيت فكان في طواف الإفاضة – انتهى مختصرا . ( اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ) قال الطيبي :
(18/235)
أي فرض . فدل على أن السعي فرض
ومن لم يسع بطل حجه عند الشافعي ومالك وأحمد – انتهى . قال القاري : وقال أبو
حنيفة : السعي واجب لأن الحديث ظني وكذا المشي فيه مع القدرة وبترك الواجب يجب
الدم – انتهى . وقد تقدم ذكر اختلاف الأئمة في حكم السعي في شرح حديث ابن عمر رقم
(2589) في الفصل الأول من هذا الباب ، والحديث قد استدل به من ذهب إلى أن السعي
بين الصفا والمروة في الحج والعمرة ركن من أركانهما لا يصح واحد منهما بدونه ولا
يجبر بدم ، وهم الجمهور مالك والشافعي وأصحابهما ، وأحمد في رواية وهو حديث صحيح
كما قال صاحب التلقيح وأقره ابن الهمام ، أو حسن كما قال النووي . واستدل لهم أيضا
بقوله تعالى : ? إن الصفا والمروة من شعائر الله ? (2 : 158) قالوا : تصريحه تعالى
بأن الصفا والمروة من شعائر الله يدل على أن السعي بينهما أمر حتم لا بد منه ، لأن
شعائر الله عظيمة لا يجوز التهاون بها ، وقد أشار البخاري في صحيحه إلى ذلك حيث
قال : باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله . قال الحافظ : أي وجوب السعي
بينهما مستفاد من كونهما جعلا من شعائر الله ، قاله ابن المنير في الحاشية ،
واستدل لهم أيضا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف
...............................................................................................
(18/236)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في حجه وعمرته بين الصفا والمروة سبعا . وقد دل على أن ذلك لا بد منه دليلان ، الأول : هو ما تقرر في الأصول من أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لبيان نص مجمل من كتاب الله يكون ذلك الفعل لازما وسعيه بين الصفا والمروة فعل بين به المراد من قوله تعالى ? إن الصفا والمروة من شعائر الله ? والدليل على أن فعله بيانا للآية هو قوله - صلى الله عليه وسلم - : نبدأ بما بدأ الله به يعني الصفا ، لأن الله بدأ بها في قوله ? إن الصفا والمروة ? الآية . وفي رواية عند النسائي (( ابدؤا بما بدأ الله به )) بصيغة الأمر . الدليل الثاني : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لتأخذوا عني مناسككم )) وفي رواية (( خذوا عني مناسككم )) وقد طاف بين الصفا والمروة سبعا فيلزمنا أن نأخذ عنه ذلك من مناسكنا ، ولو تركناه لكنا مخالفين أمره بأخذه عنه ، والله تعالى يقول : ? فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ? (24 : 63) فاجتماع هذه الأمور الثلاثة يدل على اللزوم وهي كونه سعى بين الصفا والمروة سبعا ، وأن ذلك بيان منه لآية من كتاب الله ، وأنه قال : " لتأخذوا عني مناسككم " . وكون ذلك السعي بيانا لآية ? إن الصفا والمروة من شعائر الله ? الآية أمر لا شك فيه ، ويدل عليه أمران أحدهما سبب نزول الآية لأنه ثبت في الصحيحين أنها نزلت في سؤالهم عن السعي بين الصفا والمروة ، وإذا كانت نازلة جوابا عن سؤالهم عن حكم السعي بين الصفا والمروة فسعى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزولها بيان لها ، والأمر الثاني : هو ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " نبدأ بما بدأ الله به " يعني الصفا . ومن أدلة الجمهور على أن السعي فرض لا بد منه : ما رواه الشيخان عن عروة عن عائشة في سبب نزل قوله تعالى ? إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا
(18/237)
جناح عليه أن يطوف بهما ? وفيه
(( قالت عائشة : وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما فليس لأحد
أن يترك الطواف بينهما )) الحديث . وهذا صريح في أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
سن الطواف بين الصفا والمروة أي فرضه بالسنة . وقد أجابت عائشة عما يقال أن رفع
الجناح في قوله ? فلا جناح عليه أن يطوف بهما ? ينافي كونه فرضا لأن ذلك في قوم
تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة ، وظنوا أن ذلك لا يجوز لهم ، فنزلت الآية
مبينة أن ما ظنوه من الحرج في ذلك منفي . وقد تقرر في الأصول في أن النص الوارد في
جواب سؤال لا مفهوم مخالفة له . وقال الحافظ في الفتح : قول عائشة رضي الله عنها
(( سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بين الصفا والمروة )) أي فرضه
بالسنة ، وليس مرادها نفي فرضيته ، ويؤيده قولها لم يتم الله حج أحدكم ولا عمرته
ما لم يطف بينهما – انتهى . وأما ما جاء في بعض قراءات الصحابة (( فلا جناح عليه
أن لا يطوف بهما )) كما ذكره الطبري وابن المنذر وغيرهما عن أبي بن كعب وابن مسعود
وابن عباس رضي الله عنهم فقد أجيب عنه من وجهين ، الأول : أن هذه القراءة لم تثبت
قرآنا لإجماع الصحابة على عدم كتبها في المصاحف العثمانية ، وما ذكره الصحابي على
أنه قرآن ولم يثبت كونه قرآنا ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يستدل به على شيء
، وهو مذهب مالك والشافعي ، ووجهه أنه لما لم يذكره إلا كونه قرآنا فبطل كونه
قرآنا بطل من أصله ، فلا يحتج به على شيء . وقال بعض أهل العلم : إذا بطل كونه
قرآنا لم يمنع ذلك من الاحتجاج به كأخبار الآحاد التي ليست بقرآن ، فعلى القول
الأول
رواه في شرح السنة ، ورواه أحمد مع اختلاف .
(18/238)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلا إشكال ، وعلى الثاني فيجاب عنه بأن القراءة المذكورة تخالف القراءة المجمع عليها المتواترة ، وما خالف المتواترة المجمع عليه إن لم يمكن الجمع بينهما فهو باطل ، والنفي والإثبات لا يمكن الجمع بينهما لأنهما نقيضان . الوجه الثاني : هو ما ذكره الحافظ في الفتح عن الطبري والطحاوي من أن قراءة (( أن لا يطوف بهما )) محمولة على القراءة المشهورة ولا زائدة – انتهى . ولا يخلو من تكلف كما ترى . ومن أدلة الجمهور على لزوم السعي ما جاء في بعض روايات حديث أبي موسى في إهلاله عند الشيخين وفيه (( طف بالبيت وبين الصفا والمروة )) فهذا أمر صريح منه - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب ما لم يقم دليل صارف عن ذلك ، وقد دل على اقتضائها الوجوب الشرع واللغة كما بين في موضعه . ومن أدلتهم على أن السعي بين الصفا والمروة لا بد منه ما قدمنا ما رواه الترمذي عن ابن عمر ، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا . قال المجد في المنتقى بعد ذكره : وفيه دليل على وجوب السعي ووقوف التحلل عليه ، ومن أدلتهم على ذلك ما جاء في بعض الروايات الثابتة في الصحيح من أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة رضي الله عنها : يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك ، وهذا اللفظ في صحيح مسلم . قالوا : ويفهم من قوله هذا أنها لو لم تطف بينهما لم يحصل لها إجزاء عن حجها وعمرتها . هذا تلخيص ما ذكره الشنقيطي في هذه المسألة في أضواء البيان . تنبيه : قال القاري : اعلم أن سياق الحديث يفيد أن المراد بالسعي المكتوب الجري الكائن في بطن الوادي لكنه غير مراد بلا خلاف نعلمه فيحمل على أن المراد بالسعي الطواف بينهما ، واتفق أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم عند الشروع في الجري الشديد المسنون لما وصل إلى محله شرعا
(18/239)
أعني بطن الوادي ، ولا يسن جري
شديد في غير هذا المحل بخلاف الرمل في الطواف ، إنما هو مشي فيه شدة وتصلب – انتهى
( رواه ) أي البغوي ( في شرح السنة ) أي بإسناده ( وروى ) وفي بعض النسخ (( رواه
)) ( أحمد مع اختلاف ) في لفظه (ج 6 : ص 421 ، 422) وأخرجه أيضا الشافعي وإسحاق بن
راهويه والحاكم في المستدرك في الفضائل وسكت عنه ، ومن طريق أحمد الطبراني في
معجمه ومن طريق الشافعي رواه الدارقطني ثم البيهقي في سننيهما وابن أبي شيبة في
مصنفه والطحاوي وغيرهم . قال الحافظ في الإصابة : حبيبة بنت أبي تجراة العبدرية ثم
الشيبية روى حديثها الشافعي عن عبد الله بن المؤمل ، وابن سعد عن معاذ بن هانئ ،
ومحمد بن سنجر عن أبي نعيم ، وابن أبي خثيمة عن شريح بن النعمان كلهم عن ابن
المؤمل عن عمر بن عبد الرحمن بن محصن عن عطاء بن أبي رباح حدثتني صفية بنت شيبة عن
امرأة يقال لها حبيبة بنت أبي تجراة ، قالت : دخلنا دار أبي حسين في نسوة من قريش
. فذكر الحديث ثم قال : وأخرجه الطحاوي من طريق معاذ ، وقد وقع لنا بعلو في
المعرفة لابن مندة من طريقه . وقد تقدم أنه اختلف في المرأة التي روت عنها صفية
بنت شيبة ، فقيل عن صفية عن برة ، وقيل عن تملك ، وقيل عن أم
............................................................................................
(18/240)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولد شيبة ، وقيل عن صفية عن امرأة ، وقيل عن صفية عن نسوة من بني عبد الدار ، وقيل عن صفية بلا واسطة ، أما حديث صفية عن برة فرواه الواقدي في كتاب المغازي وابن مندة كما في الإصابة . ومن طريق الواقدي روى البيهقي (ج 6 : ص 98) وأما حديث تملك فأخرجه البيهقي في سننه والطبراني في معجمه وفيه المثنى بن الصباح ، وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه جماعة . وأما حديث صفية عن أم ولد لشيبة فأخرجه ابن ماجة والبيهقي (ج 5 : ص 98) وأما حديث صفية عن امرأة فأخرجه أحمد (ج 6 : ص 437) والنسائي ، قال الشوكاني : لعل المرأة المبهمة في حديث صفية هي حبيبة بنت أبي تجراة ، وأما حديث صفية عن نسوة فأخرجه الدارقطني (ص 270) ومن طريقه البيهقي (ج 5 : ص 97) وأما حديث صفية بلا واسطة فأخرجه الطبراني في معجمه الكبير ، وفيه أيضا المثنى بن لصباح ، وحديث صفية بنت أبي تجراة قد أعله ابن عدي في الكامل بعبد الله بن المؤمل ، وأسند تضعيفه عن أحمد والنسائي ووافقهم . وقال الحافظ في الفتح : وفي إسناد هذا الحديث عبد الله بن المؤمل وفيه ضعف . ومن ثم قال ابن المنذر : إن ثبت فهو حجة في الوجوب . قال الحافظ : له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة ، وعند الطبراني عن ابن عباس كالأولى ، وإذا انضمت إلى الأولى قربت – انتهى . قلت : حديث ابن عباس في سنده المفضل بن صدقة ، وهو متروك ، قاله الهيثمي (ج 3 : ص 241) وأما اختلاف الروايات في المرأة التي روت عنها صفية المذكورة هذا الحديث فلا يضر لتصريحها في رواية الدارقطني والبيهقي بأنها روت ذلك عن نسوة أدركن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإذن فلا مانع من أن تسمى واحدة منهن في رواية وتسمى أخرى في رواية أخرى كما لا يخفى . قال الحافظ : اختلف على صفية بنت شيبة في اسم الصحابية التي أخبرتها به ، ويجوز أن تكون أخذته عن جماعة فقد وقع عنه الدارقطني عنها أخبرتني
(18/241)
نسوة من بني عبد الدار فلا
يضره الاختلاف . انتهى . قلت : وطريق الدارقطني قد حسنها النووي في شرح المهذب حيث
قال : احتج أصحابنا بحديث صفية بن شيبة عن نسوة من بني عبد الدار أنهن سمعن من
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد استقبل الناس في المسعى وقال : "
يأيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم " . رواه الدارقطني والبيهقي
بإسناد حسن – انتهى . وقال الزيعلي في نصب الراية (ج 3 : ص 56) بعد ذكر رواية
الدارقطني المذكورة : قال صاحب التنقيح : إسناده صحيح ، وقال ابن الهمام في فتح
القدير (ج 2 : ص 751) مجيبا عن إعلال ابن القطان حديث بنت أبي تجراة بابن المؤمل :
وهذا لا يضر بمتن الحديث ، إذ بعد تجويد المتقنين له لا يضره تخليط بعض الرواة ،
وقد ثبت من طرق عديدة منها طريق الدارقطني عن ابن المبارك أخبرني معروف بن مشكان
أخبرني منصور بن عبد الرحمن عن أمه صفية قالت : أخبرني نسوة من بني عبد الدار
اللاتي أدركن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث ثم قال : قال صاحب
التنقيح : إسناده صحيح ، ومعروف بن مشكان صدوق ، لا نعلم من تكلم فيه ، ومنصور هذا
ثقة مخرج له في الصحيحين – انتهى . وقد علم مما ذكرنا أن بعض طرق هذا الحديث لا
تقل عن درجة القبول ، وهو نص في محل النزاع مع أنه معتضد بما ذكرناه من الأدلة
الأخرى .
2607 – (23) وعن قدامة بن عبد الله بن عمار قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يسعى بين الصفا والمروة على بعير لا ضرب ولا طرد ولا إليك . رواه في شرح
السنة .
2608 – (24) وعن يعلى بن أمية قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف
بالبيت مضطجعا ببرد أخضر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/242)
2607 – قوله ( وعن ابن قدامة ) بضم القاف وتخفيف الدال المهملة ( بن عبد الله بن عمار ) بفتح المهملة وتشديد الميم ابن معاوية العامري الكلابي يكنى أبا عبد الله ، صحابي قليل الحديث ، يقال أسلم قديما وسكن مكة ولم يهاجر ، ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأقام بركية في البدو من بلاد نجد وسكنها ، روى عنه أيمن بن نابل وحميد بن كلاب ( لا ضرب ولا طرد ) بالفتح والرفع منونا فيهما أي لا دفع ( ولا إليك إليك ) أي تنح تنح ، وهو اسم فعل بمعنى تنح عن الطريق ، قال الطبري : قوله (( إليك إليك )) نحو قول القائل : الطريق الطريق : وقال الطيبي : أي ما كانوا يضربون الناس ولا يطردونهم ولا يقولون تنحوا عن الطريق كما هو عادة الملوك والجبابرة ، والمقصود التعريض بالذين كانوا يعملون ذلك – انتهى . ( رواه ) أي البغوي ( في شرح السنة ) بإسناده وأخرجه البيهقي (ج 5 : ص 101) من طريق عبيد الله ابن موسى وجعفر بن عون عن أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله بن عمار ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بين الصفا والمروة على بعير ، إلخ . ثم قال البيهقي : كذا قالا ( أي عبيد الله وجعفر ) ورواه جماعة ( منهم روح بن عبادة وأبو نعيم وأبو عاصم ) وموسى بن طارق ووكيع وأبو أحمد الزبيري وقران بن تمام الأسدي ومعتمر ومروان بن معاوية والمؤمل وسعيد بن سالم القداح ، عن أيمن فقالوا : في الحديث يرمي الجمرة يوم النحر ( أي بدل يسعى بين الصفا والمروة ) ويحتمل أن يكون صحيحين – انتهى . قلت : حديث قدامة بلفظ (( يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة ليس ضرب ولا طرد )) إلخ . أخرجه أحمد (ج 6 : ص 412) والشافعي والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن حبان والبيهقي (ج 5 : ص 130) وسيأتي في باب رمي الجمار ، وقال ابن عبد البر في ترجمة قدامة في الاستيعاب : روى عنه أيمن بن نابل وحميد بن كلاب ، فأما حديث أيمن عنه فإنه قال : رأيت
(18/243)
رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك . وأما
حديث حميد بن كلاب فإنه قال عنه أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم
عرفة وعليه حلة حبرة . لا أحفظ له غير هذين الحديثين – انتهى .
2608 – قوله ( وعن يعلى ) كيرضى ( بن أمية ) بمضمومة ثم ميم مخففة مفتوحة وتحتية
مشددة ، ابن أبي عبيدة صحابي مشهور ، تقدم ترجمته ( طاف بالبيت مضطبعا ) بكسر
الباء ( ببرد ) أي يماني ، ففي رواية لأحمد (( ببرد له حضرمي )) ( أخضر ) أي فيه
خطوط خضر ، والاضطباع هو إعراء منكبه الأيمن وجمع الرداء على الأيسر ، سمي بذلك
لما فيه من إبداء الضبع وهو العضد ، ويسمى التأبط لأنه يجعل وسط الرداء تحت الإبط
وبيدي ضبعه الأيمن . قال النووي : هو
رواه الترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والدارمي .
2609 – (25) وعن ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتمروا
من الجعرانة ، فرملوا بالبيت ثلاثا وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ، ثم قذفوها على
عواتقهم اليسرى . رواه أبو داود .
(18/244)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ افتعال من الضبع بإسكان الباء الموحدة وهو العضد ، وهو أن يدخل إزاره تحت إبطه الأيمن ويرد طرفه على منكبه الأيسر ويكون منكبه الأيمن مكشوفا ، وقال الطيبي : الضبع بسكون الباء وسط العضد ويطلق على الإبط أيضا أي لمجاورته له ، والاضبطاع أن يأخذ الإزار أو البرد فيجعل وسطه تحت الإبط الأيمن ويلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره ، سمي بذلك لإبداء الضبعين : قيل : إنما ذلك إظهارا للتشجع كالرمل في الطواف – انتهى . وهذه الهيأة هي المذكورة في حديث ابن عباس الآتي ، وأول ما اضطبعوا في عمرة القضاء ليستعينوا بذلك على الرمل ليرى المشركون قوتهم ثم صار سنة ، ويضبطع في الأشواط السبع ، فإذا قضى طوافه سوى ثيابه ، ولم يضطبع في ركعتي الطواف ، قال الشوكاني : والحكمة في فعله أنه يعين على إسراع المشي ، وقد ذهب إلى استحبابه الجمهور سوى مالك ، قاله ابن المنذر . قال أصحاب الشافعي : وإنما يستحب الاضطباع في طواف يسن فيه الرمل – انتهى . وقال القاري : الاضطباع والرمل سنتان في كل طواف بعده سعي ، والاضطباع سنة في جميع الأشواط بخلاف الرمل ، ولا يستحب الاضطباع في غير الطواف وما يفعله العوام من الاضطباع من ابتداء الإحرام حجا أو عمرة لا أصل له بل يكره حال الصلاة – انتهى . ( رواه الترمذي ) وقال : هو حديث حسن صحيح ( وأبو داود ) واللفظ له ، وقد سكت عنه ، ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره ( وابن ماجة والدارمي ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 4 : ص 222 ، 223) ورواه الشافعي بلفظ (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف مضطعبا بالبيت وبين الصفا والمروة )) .
(18/245)
2609 – قوله ( اعتمروا من
الجعرانة ) تقدم ضبطه ( فرملوا بالبيت ثلاثا ) أي ثلاث مرات من الأشواط السبعة (
وجعلوا ) أي حين أرادوا الشروع في الطواف ( أرديتهم ) جمع رداء ( تحت آباطهم )
بالألف ممدودة جمع إبط . قال ابن رسلان : المراد أن يجعلوها تحت عواتقهم اليمنى (
ثم قذفوها ) أي ألقوها وطرحوا طرفيها ( على عواتقهم اليسرى ) جمع العاتق وهو
المنكب أي استمروا عليه إلى أن فرغوا من الطواف . والحديث يدل على مشروعية الرمل
والاضطباع في الطواف ( رواه أبو داود ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 306 ، 371)
والبيهقي (ج 5 : ص 79) وأخرجه الطبراني نحوه ، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري
والحافظ في التلخيص ، وقال الشوكاني : رجاله رجال الصحيح .
( الفصل الثالث )
2610 – (26) عن ابن عمر ، قال : ما تركنا استلام هذين الركنين : اليماني والحجر ،
في شدة ولا رخاء منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمهما . متفق عليه
.
2611 – (27) وفي رواية لهما : قال نافع : رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ، ثم قبل
يده وقال : ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله .
2612 – (28) وعن أم سلمة ، قالت : شكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني
أشتكي ، فقال : " طوفي من وراء الناس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/246)
2610 – قوله ( اليماني )
بتخفيف الياء وتشديدها مجرورا ( والحجر ) أي الأسود ( في شدة ) أي زحام ( ولا رخاء
) أي خلاء ، قال الحافظ : الظاهر أن ابن عمر لم ير الزحام عذرا في ترك الاستلام .
وقد روى سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد قال : رأيت ابن عمر يزاحم على الركن
حتى يدمى ، ومن طريق أخرى أنه قيل له في ذلك ، فقال : هوت الأفئدة إليه فأريد أن
يكون فؤادي معهم . وروى الفاكهي من طرق عن ابن عباس كراهة المزاحمة ، قال : لا
يؤذي ولا يؤذى ( متفق عليه ) أخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 3) والدارمي والبيهقي (ج 5
: ص 76) .
2611 – قوله ( وفي رواية لهما ) واللفظ لمسلم ( يستلم الحجر بيده ثم قبل يده ) لعل
هذا في وقت الزحام حيث لا يقدر على تقبيل الحجر ( منذ رأيت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يفعله ) قال القاري : أي الاستلام المطلق أو المخصوص ، إذ ثبت
الاستلام والتقبيل عنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين – انتهى . وقيل :
الظاهر أن الضمير للاستلام مطلقا ، ويجوز أن يكون للاستلام على الوجه المخصوص
المذكور وهو أنه استلم الحجر بيده ثم قبل يده ، والأول هو الوجه فافهم – انتهى .
قلت : الظاهر بل الأظهر عندي هو الثاني ، وهذه الرواية أخرجها أيضا أحمد (ج 2 : ص
108) والبيهقي (ج 5 : ص 75) .
(18/247)
2612 – قوله ( وعن أم سلمة )
أم المؤمنين والدة زينب بنت أبي سلمة الراوية عنها هذا الحديث ( شكوت إلى رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي أوان الخروج من مكة إلى المدينة ( أني أشتكى )
أي أتوجع ، وهو مفعول (( شكوت )) والشكوى والشكاية إخبار عن مكروه أصابه ، وهو
المراد بقولها شكوت ، ويجيء بمعنى المرض وهو المراد بقولها (( أني أشتكي )) فيكون
المعنى (( شكوت إليه - صلى الله عليه وسلم - أني مريضة )) ومقصودها أنها لا تستطيع
الطواف ماشية لضعفها من تلك الشكوى التي كانت بها ( طوفي من وراء الناس ) إنما
أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون استر لها ولا تقطع صفوفهم ولا يتأذون
وأنت راكبة " . فطفت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جنب البيت ،
(18/248)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بدابتها ، ولأن سنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف ، وقال الباجي : طواف النساء وراء الرجال لهذا الحديث ولم يكن لأجل البعير ، فقد طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بعيره يستلم الركن بمحجن ، وهذا يدل على اتصاله بالبيت ، لكن من طاف غيره من الرجال على بعير فيستحب له إن خاف أن يؤذي أحدا أن يبعد قليلا ، وإن لم يكن حول البيت زحام ، وأمن أن يؤذي أحدا فليقرب كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - . وأما المرأة فإن من سنتها أن تطوف وراء الرجال . انتهى . وفي الحديث جواز الطواف للراكب إذا كان لعذر ويلتحق بالراكب المحمول وقد تقدم الكلام في ذلك ( وأنت راكبة ) أي على بعيرك كما في رواية هشام عند البخاري عن عروة عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : وهو بمكة وأراد الخروج ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت وأرادت الخروج فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أقيمت الصلاة للصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون " . ففعلت ذلك فلم تصل حتى خرجت – انتهى . وقد علم من هذه الرواية أن القصة لطواف الوداع ، ويدل عليه أيضا رواية النسائي عنها قالت " يا رسول الله والله ما طوفت طواف الخروج ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أقيمت الصلاة فطوفي " . قال القاري : فيه دلالة على أن الطواف راكبا ليس من خصوصياته عليه الصلاة والسلام ( فطفت ) أي راكبة من وراء الناس ( ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ) أي بالناس صلاة الصبح كما تدل عليه رواية البخاري المذكورة ( إلى جنب البيت ) أي متصلا إلى جدار الكعبة ، وفيه تنبيه على أن أصحابه - صلى الله عليه وسلم - كانوا متحلقين حولها ، وفيه دلالة على أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه بالجماعة كانت بفناء الكعبة وأن طوافها كان وراء المصلين ، وفيه أن من طاف راكبا يتوخى خلوة المطاف لئلا
(18/249)
يهوش على الطائفين ، واستدل
بالحديث المالكية على طهارة بول ما يؤكل لحمه وهو المشهور عن أحمد خلافا لما ذهب
إليه الحنفية والشافعية قال ابن بطال : في هذا الحديث جواز دخول الدواب التي يؤكل
لحمها المسجد إذا احتج إلى ذلك لأن بولها لا ينجسه بخلاف غيرها من الدواب . وتعقب
بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة أي في غيرها ولا على عدم
الجواز مع عدم الحاجة فيها . قال الحافظ : بل ذلك دائر على التلويث وعدمه فحيث
يخشى التلويث يمتنع الدخول ، وقد قيل : إن ناقته - صلى الله عليه وسلم - كانت
منوقة أي مدربة معلمة فيؤمن منها ما يحذر من التلويث ، وهي سائرة ، فيحتمل أن يكون
بعير أم سلمة كان كذلك ، والله أعلم . وقال النووي : هذا الحديث لا دلالة فيه ( أي
على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه كما هو مذهب مالك وأحمد ) لأنه ليس من ضرورة أنه
يبول أو يروث في حال الطواف وإنما هو محتمل ، وعلى تقدير حصوله ينظف المسجد منه
كما أنه - صلى الله عليه وسلم - أقر إدخال الصبيان الأطفال المسجد مع أنه لا يؤمن
بولهم بل قد وجد ذلك ، ولأنه لو كان ذلك محققا لنزه المسجد منه ، سواء كان نجسا أو
طاهرا لأنه مستقذر – انتهى . وقال الشوكاني : ويرد ذلك ( أي استدلال أصحاب مالك
وأحمد بهذا الحديث على طهارة بول مأكول اللحم وروثه ) بوجوه : أما أولا فلأنه لم
يكن إذ ذاك قد حوط المسجد كما تقدم . وأما ثانيا فلأنه ليس من لازم الطواف على
البعير أن يبول . وأما ثالثا فلأنه يطهر
يقرأ بالطور وكتاب مسطور .
(18/250)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منه المسجد كما أنه - صلى الله عليه وسلم - أقر إدخال الصبيان الأطفال المسجد مع أنه لا يؤمن بولهم . وأما رابعا فلأنه يحتمل أن تكون راحلته عصمت من التلويث حينئذ كرامة له – انتهى ( يقرأ بالطور وكتاب مسطور ) أي بهذه السورة في ركعة واحدة كما هو عادته عليه الصلاة والسلام . والحديث قد يستنبط منه أن الجماعة في الفريضة ليست فرضا على الأعيان إلا أن يقال إن أم سلمة كانت شاكية فهي معذورة ، أو الوجوب يختص بالرجال ، كذا في الفتح . اعلم أنه اتفق الجمهور على كراهة ابتداء الطواف ومنعه عند إقامة المكتوبة ، وأما قطع الطواف للمكتوبة أو لصلاة الجنازة أو لغيرهما من الأعذار فاختلف العلماء فيه . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 395) : إذا تلبس بالطواف أو بالسعي ثم أقيمت المكتوبة فإنه يصلي مع الجماعة في قول أكثر أهل العلم ، منهم ابن عمر وسالم وعطاء والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وروي ذلك عنهم في السعي . وقال مالك : يمضي في طوافه ولا يقطعه إلا أن يخاف أن يضر بوقت الصلاة ، لأن الطواف صلاة فلا يقطعه لصلاة أخرى . ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة . والطواف صلاة فيدخل تحت عموم الخبر ، وإذا ثبت ذلك في الطواف بالبيت مع تأكده ففي السعي بين الصفا والمروة أولى مع أنه قول ابن عمرو ومن سميناه من أهل العلم ، ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا . وإذا صلى بنى على طوافه وسعيه في قول من سمينا من أهل العلم . قال ابن المنذر : ولا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا الحسن ، فإنه قال : يستأنف . وكذلك الحكم في الجنازة إذا حضرت يصلى عليها ثم يبني على طوافه لأنها تفوت بالتشاغل عنها ، قال أحمد : ويكون ابتداؤه من الحجر يعني أنه يبتدئ الشوط الذي قطعه من الحجر حين يشرع في البناء – انتهى . قلت : وما ذكر عن مالك من المضي في الطواف وعدم قطعه هو مخالف لما في
(18/251)
كتب فروع المالكية ، فإنهم
نصوا بوجوب القطع للمكتوبة ، وكذا حكى عامة شراح البخاري عن مالك قطعه للمكتوبة
موافقا للجمهور . وقال النووي في مناسكه : وإذا أقيمت الجماعة للمكتوبة وهو في
الطواف أو عرضت حاجة ماسة قطع الطواف لذلك فإذا فرغ يبني ، والاستئناف أفضل ،
ويكره قطعه بلا سبب حتى يكره قطع الطواف المفروض لصلاة جنازة أو صلاة نافلة –
انتهى . قال ابن حجر في شرحه : وحيث قطعه فالأولى أن يقطعه عن وتر ، وأن يكون من
عند الحجر الأسود – انتهى . وقال ابن عابدين : إذا حضرت الجنازة أو المكتوبة في
أثناء الشوط هل يتمه أو لا ؟ لم أر من صرح به عندنا ، وينبغي عدم الإتمام إذا خاف
فوت الركعة مع الإمام . وإذا عاد البناء هل يبني من محل انصرافه أو يبتدئ الشوط من
الحجر ؟ والظاهر الأول قياسا على من سبقه الحدث في الصلاة وهو ظاهر قول الفتح بنى
على ما كان طافه – انتهى . وعد صاحب اللباب الطواف عند إقامة المكتوبة في
المكروهات . قال القاري : فإن ابتداء الطواف حينئذ مكروه بلا شبهة ، وأما إذا كان
يمكنه إتمام الواجب عليه وإلحاقه بالصلاة وإدراك الجماعة فالظاهر أنه هو الأولى من
قطعه – انتهى . وقال الدردير : ابتدأ طوافه لبطلانه واجبا كان أو تطوعا انقطع
متفق عليه .
2613 – (29) وعن عابس بن ربيعة ، قال : رأيت عمر يقبل الحجر ويقول : إني لأعلم أنك
حجر ما تنفع ولا تضر ، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل ما
قبلتك .
(18/252)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لجنازة ولو قل الفصل ، لأنها فعل آخر غير ما هو فيه فلا يجوز القطع لها اتفاقا ما لم تتعين ، فإن تعينت وجب القطع إن خشى تغيرها وإلا فلا يقطع ، وإذا قلنا بالقطع فالظاهر أنه يبني كالفريضة كذا قالوا ، وقطعه وجوبا ولو ركنا للفريضة أي لإقامتها للراتب ، ودخل معه إن لم يكن صلاها أو صلاها منفردا ، والمراد بالراتب إمام مقام إبراهيم على الراجح وأما غيره فلا يقطع له لأنه كجماعة غير الراتب ، وندب له كمال الشوط إن أقيمت عليه أثناءه ليبني من أول الشوط ، فإن لم يكمله ابتدأ من موضع خرج ، وندب أن يبتدئ ذلك الشوط ، كما قاله ابن حبيب – انتهى . ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في صفة الصلاة وفي الحج وفي التفسير ، ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 6 : ص 319) ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن الجارود (ص 161) والبيهقي (ج 5 : ص 68 ، 101) .
(18/253)
2613 - قوله ( وعن عابس )
بموحدة فمكسورة ثم مهملة ( بن ربيعة ) النخعي الكوفي ، ثقة مخضرم من كبار التابعين
. قال الحافظ : روى عن عمر وعلي وحذيفة وعائشة ، وعنه أولاده عبد الرحمن وإبراهيم
وأسماء وأبو إسحاق السبيعي وإبراهيم بن جرير النخعي . قال الآجري عن أبي داود :
جاهلي سمع من عمر . وقال النسائي ثقة ، وقال ابن سعد : هو من مذحج ، وكان ثقة ،
وله أحاديث يسيرة – انتهى . وليس هو عابس بن ربيعة الغطيفي الصحابي الذي شهد فتح
مصر ، قال الحافظ في التقريب في ترجمة عابس بن ربيعة الغطيفي : وهم من خلطه بالذي
قبله أي بعابس بن ربيعة النخعي . وقال في تهذيب التهذيب : فرق ابن ماكولا بين
الغطيفي والنخعي وهو الصواب ( يقبل الحجر ) أي الأسود ( ويقول ) مخاطبا له ليسمع
الناس ( إني لأعلم أنك حجر ما تنفع ) قال القاري : وفي نسخة (( لا تنفع )) ( ولا
تضر ) أي بذاته ، وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع بالجزاء والثواب . فمعناه أنه لا
قدرة له على نفع ولا ضر ، وأنه حجر مخلوق كباقي المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع (
ولو لا أني رأيت رسول الله يقبل ) كذا وقع في أكثر النسخ ، وفي نسخة المرقاة ((
يقبلك )) والذي في صحيح مسلم عن عابس بن ربيعة (( قال : رأيت عمر يقبل الحجر ويقول
: إني لأقبلك وأعلم أنك حجر . ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقبلك لم أقبلك )) وفي البخاري : أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال : (( إني
لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولو لا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -
يقبلك ما قبلتك )) . قال الطيبي : إنما قال ذلك لئلا يغتر بعض قريبي العهد
بالإسلام الذين قد ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها ورجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير
في تعظيمها فخاف أن يراه بعضهم يقبله فيفتن به فبين أنه لا ينفع ولا يضر وإن كان
امتثال ما شرع فيه باعتبار الجزاء والثواب . وليسمع
متفق عليه .
(18/254)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في الموسم فيشتهر في البلدان المختلفة . وفيه الحث على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تقبيله وتنبيه على أنه لو لا الاقتداء لما فعله . وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : إنما قال ذلك لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي عمر أن يظن الجهال بأن استلام الحجر هو مثل ما كانت العرب تفعله فأراد عمر أن يعلم أن استلامه لا يقصد به إلا تعظيم الله عز وجل والوقوف عند أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك من شعائر الحج التي أمر الله بتعظيمها وأن استلامه مخالف لفعل الجاهلية في عبادتهم الأصنام لأنهم كانوا يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى ، فنبه عمر على مخالفة هذا الاعتقاد ، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلا من يملك الضرر والنفع وهو الله جل جلاله . وقال المحب الطبري : إن قول عمر (( إنك حجر لا تضر ولا تنفع )) طلب منه للآثار وبحث عنها وعن معانيها ، ولما رأى أن الحجر يستلم ولا يعلم له سبب يظهر للحس ولا من جهة العقل ترك فيه الرأي والقياس وصار إلى محض الإتباع كما صنع في الرمل . وقال الخطابي : في قول عمر من العلم أن متابعة السنن واجبة وإن لم يوقف لها على علل معلومة وأسباب معقولة . وأن أعيانها حجة على من بلغته وإن لم يفقه معانيها إلا أن معلوما في الجملة أن تقبيل الحجر إنما هو إكرام له وإعظام لحقه ، وقد فضل الله بعض الأحجار على بعض كما فضل بعض البقاع والبلدان على بعض وكما فضل بعض الليالي والأيام والشهور على بعض ، وباب هذا كله التسليم ، وهو أمر سائغ في العقول جائز فيها غير ممتنع ولا مستنكر . قال الحافظ في الفتح : في قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الإتباع فيما لم يكشف عن معانيها ، وهو قاعدة عظيمة في إتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يفعله ، ولو لم يعلم الحكمة فيه . وفيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود
(18/255)
خاصة ترجع إلى ذاته . وفيه
بيان السنن بالقول والفعل وأن الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاد أن
يبادر إلى بيان الأمر ويوضح ذلك . وفيه كراهة تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله .
فائدة : روى الخطيب وابن عساكر عن جابر مرفوعا (( الحجر يمين الله في الأرض يصافح
بها عباده )) . وروى الديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعا (( الحجر يمين الله
فمن مسحه فقد بايع الله )) وروى الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن عمرو بن العاص
مرفوعا (( الحجر يمين الله يصافح بها خلقه )) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال :
وفيه عبد الله بن المؤمل وثقه ابن حبان وقال : يخطئ وفيه كلام ، وبقية رجاله رجال
الصحيح . قال الخطابي : ومعنى (( أنه يمين الله في الأرض )) أن من صافحه في الأرض
كان له عند الله عهد ، فكان كالعهد تعقده الملوك بالمصافحة لمن يريد موالاته
والاختصاص به ، وكما يصفق على أيدي الملوك للبيعة ، وكذلك تقبيل اليد من الخدم
للسادة والكبراء فهذا كالتمثيل بذلك والتشبيه به يعني فخاطبهم بما يعهدونه . وقال
المحب الطبراني : معناه أن كل ملك إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه ، ولما كان الحاج
والمعتمر أول ما يقدمان يسن لهما تقبيله نزل منزلة يمين الملك ويده ، ولله المثل الأعلى
وكذلك من صافحه كان له عند الله عهد كما أن الملوك تعطي العهد بالمصافحة ، والله
أعلم ( متفق عليه ) وأخرجه
...............................................................................................
(18/256)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أيضا أحمد (ج 1 : ص 16 ، 21 ، 26 ، 34 ، 46 ، 51 ، 54) وأبو داود والنسائي والترمذي والبيهقي وغيرهم . تنبيه : ذكر بعض شراح البخاري عن بعض العلماء جواز تقبيل قبره - صلى الله عليه وسلم - ومنيره وقبور الصالحين لأجل التبرك بذلك قياسا على تقبيل الحجر الأسود ، ولا يوافقهم على هذا أحد ممن يتبع السنة ، بل ما ورد فيه نص صحيح صريح عن الشارع قبلناه وعملنا بمقتضاه وما لا فلا ، نعم ورد أن بعض الصحابة قبل يد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضهم قبل جهته وقبل بعض التابعين يد بعض الصحابة وعلى هذا فيجوز تقبيل يد الصالحين ومن ترجى بركتهم ، قال النووي : تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك من الأمور الدينية لا يكره بل يستحب ، فإن كان لغناه أو شوكته أو جاهه عند أهل الدنيا فمكروه شديد الكراهة ، وقال أبو سعيد المتولي : لا يجوز – انتهى . وأما تقبيل قبره - صلى الله عليه وسلم - ومنبره وقبور الصالحين فلم يرد أن أحدا من الصحابة أو التابعين فعل ذلك ، بل قد ورد النهي عنه . فقد روى أبو داود بسند حسن من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تجعلوا بيوتكم قبورا ، ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " . وقد تقدم هذا الحديث في باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بيان معناه وله شواهد من أوجه مختلفة . واتفق الأئمة على أنه لا يتمسح بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يقبله . وهذا كله محافظة على التوحيد . فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد كما قالت طائفة من السلف في قوله تعالى : ? وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ? (71 : 23) قالوا : هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح . فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا على صورهم تماثيل ،
(18/257)
ثم طال عليهم الأمد فعبدوها . وروى أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنو على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور . أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل يوم القيامة " . وما جر المصائب على عوام الناس وغرس في أذانهم أن الصالحين من أصحاب القبور ينفعون ويضرون حتى صاروا يشركونهم مع الله في الدعاء ويطلبون منهم قضاء الحوائج ودفع المصائب إلا تساهل معظم المتأخرين من العلماء ، وذكر هذه البدع في كتبهم ولا أدري ما الذي ألجأهم إلى ذلك وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحذر منه ؟ أكان هؤلاء أعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها تبركا . وما أمر عمر رضي الله عنه بقطعها إلا خوفا من الافتتان بها . وثبت عنه رضي الله عنه أنه رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان فسأل عن ذلك فقالوا : قد صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال عمر : من عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض ، فإنما هلك أهل الكتاب لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعا . وكره الإمام مالك تتبع الأماكن التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريقه من المدينة إلى مكة سنة حجة الوداع والصلاة فيها تبركا بأثره الشريف إلا في مسجد قباء ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه راكبا وماشيا ، وبني مالك مذهبه على سد الذرائع فرأى أن التساهل في هذا وإن كان جائزا يجر إلى مفسدة
(18/258)
2614 - (30) وعن أبي هريرة ،
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " وكل به سبعون ملكا - يعني الركن
اليماني - فمن قال : اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ? ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ? . قالوا : آمين . رواه ابن
ماجة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعد تقادم العهد ، فالاحتياط سد
هذا الباب وعدم التساهل فيه فإن الراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه . وحاصل الكلام
أن لا نفعل ولا نقول ولا نعتقد إلا ما دلت عليه السنة الثابتة ، ونحترز من التساهل
في ذلك مما يجر إلى ارتكاب البدع وفساد العقيدة والعمل .
(18/259)
2614- قوله ( يعني ) أي يريد بمرجع الضمير ( الركن اليماني ) فهو تفسير لضمير (( به )) والقائل بعض الرواة دون أبي هريرة بطريق الاعتراض بين الكلامين ، وليس هذا التفسير في ابن ماجة . وقال السندي : قوله (( وكل به )) أي بالتأمين لمن دعا عنده ، قيل : والظاهر أنه إذا كان فضل الركن اليماني إلى هذه المرتبة كان فضل الركن الأسود أكثر وأعلى من ذلك إلا أن يكون هذه الخاصية مخصوصة به ، ويكون للحجر الأسود فضائل وخواص أخر أوفر وأعظم ، والله أعلم ( اللهم إني أسألك العفو ) أي عن الذنوب ( والعافية ) أي عن العيوب ( في الدنيا والآخرة ) ويمكن أن يكون لفا ونشرا مشوشا ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة ) إلخ . قال القاري : لا تنافي بينه وبين ما سبق من قوله بين الركنين لأنه إذا وصل إلى الركن اليماني وشرع في هذا الدعاء وهو مار فلا شك أنه يقع بينهما إذ لا يجوز الوقوف للدعاء في الطواف كما يفعله جهلة العوام – انتهى . ( قالوا آمين ) أي ودعاء الملائكة يرجى استجابته منه ( رواه ابن ماجة ) بسند ضعيف كما ستعرف وأعلم أن هذا الحديث والحديث الذي يليه أي قوله (( من طاف بالبيت سبعا )) إلخ . هما في الأصل حديث واحد رواه ابن ماجة بإسناد واحد جعله المؤلف حديثين وفرقهما ، وهكذا فعل المجد في المنتقى . قال ابن ماجة في باب فضل الطواف : حدثنا هشام بن عمار ثنا إسماعيل بن عياش ثنا حميد بن أبي سوية قال : سمعت ابن هشام يسأل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني وهو يطوف بالبيت فقال عطاء : حدثني أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " وكل به سبعون ملكا فمن قال : اللهم إني أسألك العفو والعافية .. " إلخ . فلما بلغ الركن الأسود قال : يا أبا محمد ما بلغك في هذا الركن الأسود ؟ فقال عطاء ؟ حدثني أبو هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من فاوضه " ( أي قابله بوجهه ، قاله السندي . وقال الطبري : أي لابس وخالط ، ومن
(18/260)
مفاوضة الشريكين ) فإنما يفاوض
يد الرحمن . قال له ابن هشام : يا أبا محمد فالطواف ؟ قال عطاء : حدثني أبو هريرة
أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من طاف بالبيت سبعا ولا يتكلم
إلا .. " – الحديث . قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث : رواه ابن
ماجة عن إسماعيل بن عياش حدثني حميد بن أبي سوية وحسنه بعض مشائخنا – انتهى . ولم
يتكلم البوصيري في الزوائد على إسناده . قال السندي : وذكر الدميري ما يدل على أنه
حديث غير محفوظ – انتهى . وذكره الحافظ في
2615 – (31) وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من طاف بالبيت
سبعا ولا يتكلم إلا بسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ،
ولا حول ولا قوة إلا بالله ، محيت عنه عشر سيئات ، وكتب له عشر حسنات ، ورفع له
عشر درجات ، ومن طاف فتكلم ، وهو في تلك الحال
(18/261)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التلخيص وقال : إسناده ضعيف . قلت : هشام بن عمار من رجال الستة . قال الحافظ عنه : صدوق مقرئ ، كبر فصار يتلقن فحديثه القديم أصح ، وأما إسماعيل بن عياش الشامي الحمصي فهو صدوق في روايته عن أهل بلده أي الشاميين مخلط في غيرهم ، وهذا الحديث من غير أهل بلده ، وهو حميد بن أبي سوية ويقال ابن أبي سويد المكي . قال الحافظ في التقريب : إنه مجهول ، وقال في تهذيب التهذيب : ذكره ابن عدي وقال : حدث عنه ابن عياش بأحاديث عن عطاء غير محفوظات ، منها حديث فضل الدعاء عند الركن اليماني . قال الحافظ : أخرج ابن ماجة في الحج في فضل الطواف وغيره عن هشام ابن عمار عن إسماعيل فقال : في روايته حميد بن أبي سوية ، وأخرجه ابن عدي فقال : في روايته حميد بن أبي سويد مصغرا بدال بدل الهاء في آخره ، وصوبه المصنف وترجمه ابن عدي فقال : حميد بن أبي سويد مولى بني علقمة ، وقيل : حميد بن أبي حميد حدث عنه إسماعيل بن عياش منكر الحديث ، وقد ظهر بهذا كله أن الحديث ضعيف من وجهين : لكونه من رواية ابن عياش عن غير أهل بلده ، ولجهالة حميد بن أبي سوية المكي . وفي فضل الدعاء عند استلام الركن اليماني عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما مررت بالركن اليماني إلا وعنده ملك ينادي يقول : آمين ، آمين ، فإذا مررتم به فقولوا : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " . أخرجه أبو ذر . قال الطبري : ولا تضاد بين الحديثين يعني حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة ، فإن السبعين موكلون به لم يكلفوا قول آمين دائما وإنما عند سماع الدعاء ، والملك كلف أن يقول آمين دائما سواء سمع الدعاء أم لم يسمعه ، وعن علي بن أبي طالب أنه كان إذا مر بالركن اليماني قال : بسم الله الله أكبر ، السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورحمة الله وبركاته ، اللهم إني أعوذ بك من
(18/262)
الكفر والفقر والذل ومواقف
الخزي في الدنيا والآخرة ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار . وجاء ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا لابن المسيب بإسناد ضعيف
أخرجهما الأزرقي .
2615- قوله ( من طاف بالبيت سبعا ) أي سبع مرات من الأشواط ( ولا يتكلم إلا بسبحان
الله ) هو واجب النصب فمحله مجرور ( والحمد لله ) مرفوع على الحكاية ( ولا حول )
عن معصيته ( ولا قوة ) على طاعته ( محيت ) بتاء التأنيث في جميع النسخ وهكذا وقع
في ابن ماجة ( عشر سيئات ) أي بكل خطوة أو بكل كلمة أو بالمجموع ( وكتب ) بالتذكير
في جميع النسخ وكذا في المنتقى أي أثبت . وفي ابن ماجة (( كتبت )) بالتأنيث وهكذا
وقع في الترغيب للمنذري ( ورفع له ) بالتذكير في جميع النسخ وكذا في ابن ماجة (
ومن طاف فتكلم ) أي بتلك الكلمات ( وهو في تلك الحال ) أي
خاض في الرحمة برجليه كخائض الماء برجليه " . رواه ابن ماجة
(4) باب الوقوف بعرفة
( الفصل الأول )
2616 – (1) عن محمد بن أبي بكر الثقفي ، أنه سأل أنس بن مالك ،
(18/263)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في حالة الطواف ، وإنما كرر (( من طاف )) ليناط به غير ما نيط به أولا ، وليبرز المعقول في صورة المشاهد المحسوس قاله الطيبي . وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات بعد ذكر كلام الطيبي : ويمكن أن يكون معناه تكلم بكلام الناس دون ما ذكر من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير مقابلا لقوله (( ولا يتكلم إلا بسبحان الله )) أي لا يتكلم إلا بذكر الله فيكون مقابله أن يتكلم بغير ذكر الله ، ومع ذلك يكون له ثواب لكنه يكون كالخائض في الرحمة برجليه وأسفل بدنه لكونه عاملا وعابدا به ولا يبلغ الرحمة إلى أعلاه لكونه متكلما بغير ذكر الله ، وإذا لم يتكلم إلا بذكر الله يستغرق في بحر الرحمة من قدمه إلى رأسه ومن أسفله إلى أعلاه ، هكذا يختلج في القلب معنى الحديث – انتهى . وهكذا حمل السندي وابن حجر الهيثمي قوله (( ومن طاف فتكلم )) على الكلام المباح فقال ابن حجر : أي من تكلم بغير ذلك الذكر من الكلام المباح ، فيه الإشارة بأن الثواب الحاصل دون الأول بواسطة تكلمه في طوافه بغير الذكر ، لأن ذلك مناف لكمال الأدب وإيقاع العبادة بغير وجهها – انتهى . قال القاري : والأول أي كلام الطيبي أظهر لأنه قد تقدم نهيه عليه الصلاة والسلام عن الكلام المباح بقوله فلا يتكلمن إلا بخير فيكون مكروها ( إلى آخر ما قال ) ثم قال : وأقول – والله تعالى أعلم – إن الظاهر المتبادر في معناه أن يقال ومن طاف فتكلم أي بغير هذه الكلمات كسائر الأذكار فيفيد التقييد حينئذ زيادة مثوبات هذه الكلمات فإنهن الباقيات الصالحات – انتهى . ( رواه ابن ماجة ) قد تقدم أن حديث أبي هريرة هذا وحديثه الأول المذكور هنا ساقهما ابن ماجة بإسناد واحد ، وكان الأولى للمؤلف أن يقول بعد ذكرهما (( رواهما ابن ماجة )) . وفي ذكر الله في الطواف وفضل الطواف أحاديث ذكرها الشوكاني في النيل والطبري في القرى والقاري في المرقاة وغيرهم في
(18/264)
كتب المناسك ، فمن شاء الوقوف
رجع إليها .
( باب الوقوف ) أي الحضور ( بعرفة ) أي ولو ساعة في وقت الوقوف . قال الطيبي : هي
اسم لبقعة معروفة – انتهى . فالجمع في قوله تعالى : ? فإذا أفضتم من عرفات ? (2 :
198) باعتبار أجزائها وأماكنها وتعدد محال الوقوف فيها ، وتقدم وجه تسميتها بها ،
وارجع لمعرفة حدها والمسافة بينها وبين مكة إلى شفاء الغرام وغيره من الكتب
المؤلفة في تاريخ مكة .
2616 – قوله ( عن محمد بن أبي بكر الثقفي ) نسبة إلى ثقيف ، بالمثلثة والقاف ،
قبيلة بالطائف . وهو محمد بن
وهما غاديان من منى إلى عرفة : كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ؟ فقال : كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه ، ويكبر المكبر منا
فلا ينكر عليه .
(18/265)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبي بكر بن عوف بن رباح الثقفي الحجازي ثقة تابعي . قال الحافظ في تهذيب التهذيب : روى عن أنس في التهليل والتكبير في الغدو من منى إلى عرفات ، وعنه موسى بن عقبة ومالك وشعبة وغيرهم . قال النسائي : ثقة ، وقال العجلي : مدني تابعي ثقة – انتهى مختصرا . وقال في شرح البخاري : ليس لمحمد المذكور في الصحيح عن أنس ولا غيره غير هذا الحديث الواحد ، وقد وافق أنسا على روايته عبد الله بن عمر أخرجه مسلم ( وهما غاديان ) جملية اسمية حالية ، (( وغاديان )) بالغين المعجمة اسم فاعل من غدا يغدو غدوا ، أي ذاهبان غدوة ( كيف كنتم تصنعون ) أي من الذكر في الطريق ( في هذا اليوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ولمسلم من طريق موسى بن عقبة عن محمد بن أبي بكر : قلت لأنس غداة عرفة : ما تقول في التلبية في هذا اليوم ؟ ( فقال ) أي أنس ( كان يهل ) أي يلبي ( منا المهل ) أي الملبي أو الحرم ( فلا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه ) قال العيني : قوله (( لا ينكر )) على صيغة المعلوم في الموضعين والضمير المرفوع فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - – انتهى . وضبطه الحافظ في الفتح بضم أوله على البناء للمجهول ، أي لا ينكر عليه أحد فيقيد التقرير منه - صلى الله عليه وسلم - والإجماع السكوتي من الصحابة رضي الله عنهم . قال الحافظ : في رواية موسى بن عقبة (( فمنا المكبر ومنا المهلل ، ولا يعيب أحدنا على صاحبه )) وفي حديث ابن عمر من طريق عبد الله بن أبي سلمة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه : غدونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منى إلى عرفات منا الملبي ومنا المكبر ، وفي رواية له قال يعني عبد الله بن أبي سلمة : فقلت له يعني لعبيد الله : عجبا لكم كيف لم تقولوا له : ماذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ؟ قال الحافظ : وأراد عبد الله ابن أبي سلمة بذلك
(18/266)
الوقوف على الأفضل ، لأن
الحديث يدل على التخيير بين التكبير والتلبية من تقريره لهم - صلى الله عليه وسلم
- على ذلك فأراد أن يعرف ما كان يصنع هو ليعرف الأفضل من الأمرين وقد بينه ما رواه
أحمد وابن أبي شيبة والطحاوي من طريق مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله أي ابن مسعود
: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة
إلا أن يخلطها بتكبير . قال النووي : في الحديث دليل على استحباب التلبية والتكبير
في الذهاب من منى إلى عرفات يوم عرفة والتلبية أفضل . وفيه رد على من قال بقطع
التلبية بعد صبح يوم عرفة . وقال الطيبي : هذا رخصة ولا حرج في التكبير بل يجوز
كسائر الأذكار ، ولكن ليس التكبير في يوم عرفة من سنة الحجاج ، بل السنة لهم
التلبية إلى رمي جمرة العقبة يوم النحر ، وحكى المنذري أن بعض العلماء أخذ بظاهره
لكنه لا يدل على فضل التكبير على التلبية ، بل على جوازه فقط ، لأن غاية ما فيه
تقريره - صلى الله عليه وسلم - على التكبير ، وذلك لا يدل على استحبابه ، فقد قام
الدليل الصريح على أن التلبية حينئذ أفضل لمدوامته - صلى الله عليه وسلم - عليها .
وقال العيني : التكبير المذكور نوع من الذكر أدخله الملبي في خلال التلبية من غير
ترك التلبية ، لأن المروي عن الشارع أنه
متفق عليه .
2617 – (2) وعن جابر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " نحرت ها
هنا ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ،
(18/267)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لم يقطع التلبية حتى رمي جمرة العقبة . وقال الخطابي : السنة المشهورة فيه أن لا يقطع التلبية حتى يرمي أو حصاة من جمرة العقبة يوم النحر ، وعليها العمل . وأما قول أنس هذا فقيد يحتمل أن يكون تكبير المكبر منهم شيئا من الذكر يدخلونه في خلال التلبية الثابتة في السنة من غير ترك التلبية – انتهى . قلت : حديث عبد الله بن مسعود المذكور سابقا نص فيما قاله العيني والخطابي . وقد ترجم البخاري لحديث أنس في العيدين (( باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة )) قال الحافظ : قوله (( ويكبر المكبر فلا ينكر عليه )) هذا موضع الترجمة وهو متعلق بقوله فيها (( وإذا غدا إلى عرفة )) وظاهره أن أنسا احتج به على جواز التكبير في موضع التلبية ، ويحتمل أن يكون من كبر ، أضاف التكبير إلى التلبية – انتهى . قلت : بل هذا هو المتعين لما سيأتي ، ثم ترجم البخاري لحديث أنس أيضا في الحج (( باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة )) قال الحافظ : أي مشروعيتهما ، وغرضه بهذه الترجمة الرد على من قال : يقطع المحرم التلبية إذا راح إلى عرفة ، ثم عقد بعد أربعة عشر بابا (( باب التلبية والتكبير غداة النحر حتى يرمي )) قال الحافظ : المعتمد أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما جرت به عادته ، فعند أحمد (ج 1 : ص 417) وابن أبي شيبة والطحاوي من طريق مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله : خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بتكبير ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في العيدين وفي الحج ، ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا مالك وأحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي والبيهقي (ج 5 : ص 117) .
(18/268)
2617 – قوله ( نحرت ها هنا )
إشارة إلى مكان مخصوص في منى نحر فيه ، وكذا في عرفات وجمع ، والجمع علم للمزدلفة
، والظاهر أنه قال كلا من هذه الكلمات في مكانه وجمعها الراوي كذا في اللمعات .
وقال ابن حجر : نحرت ها هنا . أي في محل نحره المشهور ، وقد بني عليه بناءان كل
منهما يسمى مسجد النحر ، أحدهما على الطريق والآخر منحرف عنها . وقيل وهو الأقرب
من الوصف الذي ذكروه بمحل نحره عليه الصلاة والسلام ( ومنى ) مبتدأ ( كلها ) أي كل
مواضعها ، تأكيد ( منحر ) أي محل نحر ، وهو خبر المبتدأ ، والمقصود أن النحر لا
يختص بمنحره عليه الصلاة والسلام وهو قريب من مسجد الخيف . قال الشوكاني : قوله ((
منى كلها منحر )) يعني كل بقعة منها يصح فيها ، وهو متفق عليه ، لكن الأفضل النحر
في المكان الذي نحر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كذا قال الشافعي ، ومنحر
النبي - صلى الله عليه وسلم - هو عند الجمرة الأولى التي تلي مسجد منى ، كذا قال
ابن التين . وحد منى من وادي محسر إلى العقبة ( فانحروا في رحالكم ) المراد
بالرحال المنازل
ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف . رواه مسلم .
2618 – (3) وعن عائشة ، قالت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "
ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة ،
(18/269)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أهل اللغة : رحل الرجل منزله سواء كان من حجر أو مدر أو شعر أو وبر ، ومعنى الحديث : كل منى موضع نحر وذبح للهدايا المتعلقة بالحج فلا تتكلفوا النحر في موضع نحري ، بل يجوز لكم النحر في منازلكم من منى ( ووقفت ها هنا ) أي قرب الصخرات ( وعرفة كلها موقف ) أي يصح الوقوف فيها إلا بطن عرنة ، وقد أجمع العلماء على أن من وقف في أي جزء كان من عرفات صح وقوفه . ولها أربعة حدود : حد إلى جادة طريق المشرق ، والثاني إلى مسافات الجبل الذي وراء أرضها ، والثالث إلى البساتين التي تلي قرنيها على يسار مستقبل الكعبة . والرابع وادي عرنة وليست هي ولا نمرة من عرفات ولا من الحرم ( ووقفت ها هنا ) أي عند المشعر الحرام بمزدلفة ، وهو البناء الموجود بها الآن ، قاله القاري . ( وجمع ) أي المزدلفة ( كلها موقف ) أي إلا وادي محسر ، قال النووي : في هذه الألفاظ بيان رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمته وشفقته عليهم في تنبيههم على مصالح دينهم ودنياهم فإنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر لهم الأكمل والجائز ، فالأكمل موضع نحره ووقوفه ، والجائز كل جزء من أجزاء المنحر ، وجزء من أجزاء عرفات ، وجزء من أجزاء المزدلفة ، وهي جمع – بفتح الجيم وإسكان الميم – وقد سبق بيانها . ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والبيهقي (ج5 : ص 115) .
(18/270)
2618- قوله ( ما من يوم ) من
زائدة ( أكثر ) بالنصب وقيل بالرفع ( من ) زائدة أيضا ( أن يعتق الله فيه عبدا )
زاد في رواية النسائي (( أو أمة )) قال السندي في حاشية النسائي : قوله (( أكثر من
أن يعتق )) أي أكثر من جهة الإعتاق وبملاحظته ، فليست هذه من تفضيلية وإنما
التفضيلية من التي في قوله (( من يوم عرفة )) ( من النار ) متعلق بيعتق ( من يوم
عرفة ) أي بعرفات . قال الطيبي : ما بمعنى ليس ، واسمه (( يوم )) و (( من )) زائدة
– انتهى . قال القاري : فتقديره : ما من يوم أكثر إعتاقا فيه الله عبدا من النار
من يوم عرفة – انتهى . وقال السندي في حاشية ابن ماجة : (( أكثر )) جاء بالنصب على
أنه خبر ما العاملة على لغة الحجاز ، وبالرفع على إبطال عمل ما على وجهين (( أن
يعتق )) فاعل اسم التفضيل ، ويحتمل على تقدير الرفع أن يجعل (( أن يعتق )) مبتدأ
خبره (( أكثر )) والجملة خبر (( ما )) وتجويز فتحة (( أكثر )) على أنه صفة يوم
محمول على لفظه إلا أنه جر بالفتحة لكونه غير منصرف ، وتجويز رفعه على أنه صفة له
حمل له على محله أو على أنه خبر لما بعده والجملة صفة ، فذاك يحوج إلى تقدير خبر
مثل موجود بلا حاجة إليه انتهى - . وقال الأبي : ما نافية وتدخل على المبتدأ
والخبر ، وللعرب فيها مذهبان ، فالحجازيون ( والتهاميون والنجديون ) يرفعون بها
المبتدأ الاسم وينصبون الخبر ، والتميميون يرفعون بها الاسمين . قال النووي :
روينا الحديث بنصب أكثر على أن ما حجازية ، وبرفعه على أنها تميمية ومن زائدة ،
والتقدير
وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة ، فيقول : ما أراد هؤلاء " . رواه مسلم .
(18/271)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (( ما يوم أكثر )) والمجروران بعده مبنيان ، فمن يوم عرفة ، مبين للأكثرية مما هي ، و (( من أن يعتق )) مبين للمبين . قال : والحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة وهو كذلك . ولو قال رجل (( امرأتي طالق في أفضل الأيام )) فلأصحابنا وجهان ، أحدهما : تطلق يوم الجمعة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( خير يوم طلعت في الشمس يوم الجمعة )) والثاني : وهو الأصح أنها تطلق يوم عرفة لهذا الحديث ، ويتأول حديث يوم الجمعة على أن معناه أنه أفضل أيام الأسبوع . قيل الحديث يدل على فضل يوم عرفة لا على أنه أفضل لما ثبت من أن المفضول قد يختص بخاصية ليست في الأفضل ولا يكون بسبب تلك الخاصية أفضل ، فأكثرية العتق فيه لا تدل على أنه أفضل . وأيضا فإنما دل على أنه لا يكون العتق في غيره أكثر ، وذلك لا يدل على نفي المساواة إلا أن يضاف إلى ذلك ما يقع فيه من المباهاة ، سلمنا أن أكثرية العتق تدل على أنه أفضل ، لكن أفضل من الأيام التي يقع فيها العتق ، لا أنه أفضل الأيام مطلقا ، فتأمل ( وإنه ) أي سبحانه وتعالى ( ليدنو ) قال المازري : أي تدنو رحمته وكرامته لا دنو مسافة ومماسة ، وقال القاضي : وقد يريد دنو الملائكة إلى الأرض أو إلى السماء بما ينزل معهم من الرحمة عن أمره سبحانه وتعالى . وقال التوربشتي : أي يدنو منهم في موقفهم بفضله ورحمته وفي تخصيص لفظ الدنو تنبيه على كمال القرب لأن الدنو من أخص أوصاف القرب ( ثم يباهي بهم ) أي بالحجاج ( الملائكة ) قال بعضهم : أي يظهر على الملائكة فضل الحجاج وشرفهم . وقال التوربشتي : المباهاة هو المفاخرة وهي موضوعة للمخلوقين فيما يترفعون به على أكفاءهم ، وتعالى الله الملك الحق عن التعزز بما اخترعه ثم تعبده ، وإنما هو من باب المجاز أي يحلهم من قربه وكرامته بين أولئك الملأ محل الشيء المباهى به . ويحتمل أن يكون ذلك في الحقيقة راجعا إلى أهل
(18/272)
عرفة أي ينزلهم من الكرامة منه
منزلة يقتضي المباهاة بينهم وبين الملائكة ، وإنما أضاف العمل إلى نفسه تحقيقا
لكون ذلك عن موهبته ، والله أعلم – انتهى . قلت : الحديث محمول على ظاهره من غير
تأويل وتكييف كما هو مذهب السلف الصالح في النزول والعلو وغيرهما من الصفات من
إمرارها على ظاهرها وتفويض الكيفية إلى علمه سبحانه وتعالى ، فالدنو والمباهاة
معناهما معلوم ، والكيفية مجهولة ، فنقول : إنه تعالى يدنو من عباده عشية عرفة
بعرفات ويباهي بهم الملائكة كيف يشاء ( فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ ) قال القاري : أي
أي شيء أراد هؤلاء حيث تركوا أهلهم وأوطانهم وصرفوا أموالهم وأتعبوا أبدانهم أي ما
أرادوا إلا المغفرة والرضاء والقرب واللقاء ، ومن جاء هذا الباب لا يخشى الرد ، أو
التقدير : ما أراد هؤلاء فهو حاصل لهم ودرجاتهم على قدر مراداتهم ونياتهم . أو أي
شيء أراد هؤلاء ؟ أي شيئا سهلا يسيرا عندنا إذ مغفرة كف من التراب لا يتعاظم عند
رب الأرباب – انتهى . قال الأبي : لما كان الاستفهام على الله تعالى محالا تأولوه
بذلك ، ويحتمل أنه استنطاق . ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه والحاكم
(ج 1 : ص 464) والبيهقي (ج 5 : ص 118) .
( الفصل الثاني )
2619 – (4) عن عمرو بن عبد الله بن صفوان ، عن خال له يقال له : يزيد بن شيبان .
قال : كنا في موقف لنا بعرفة يباعده عمرو من موقف الإمام جدا ، فأتانا ابن مربع
الأنصاري ، فقال : إني رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم ، يقول لكم :
" قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/273)
2619 – قوله ( عن عمرو بن عبد الله بن صفوان ) هو عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي المكي صدوق شريف من التابعين ، روى عن يزيد بن شيبان وعبد الله بن السائب المخزومي وغيرهما . وروى عنه عمرو بن دينار وغيره . قال الزبير عن بعض أصحابه : توالى خمسة في الشرف فذكر جماعة ، عمرو فيهم ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال ابن سعد : كان قليل الحديث . وقال الزبير كان له رقيق يتجرون ، فكان ذلك يعينه على مكارمه ( يزيد بن شيبان ) الأزدي ، ويقال الديلي ، صحابي ، له عند الأربعة هذا الحديث الواحد . قال أبو حاتم : هو خال عمرو بن عبد الله بن صفوان المذكور . وقال البخاري : له رؤية ( قال ) أي يزيد ( كنا في موقف لنا ) أي لآبائنا وأسلافنا كانوا يقفون في الجاهلية ( يباعده عمرو ) أي يباعد ذلك المكان عمرو بن عبد الله ( من موقف الإمام ) يعني يجعله بعيدا في وصفه إياه بالبعد ، والتباعد والمباعدة بمعنى التبعيد وبه ورد التنزيل ? ربنا باعد بين أسفارنا ? (34 : 19) وهذا قول الراوي عن عمرو بن عبد الله وهو عمرو بن دينار يعني قال عمرو : كان بين ذلك الموقف وبين موقف إمام الحاج مسافة بعيدة ( جدا ) نصب على المصدر أي جد في التبعيد جدا . وقال القاري : أي يجد جدا في التبعيد أي بعدا كثيرا ، فهو متصل بقوله (( يباعده )) متأخر عن متعلقه ، فإما على كونه مصدرا أي يبعده تبعيدا جدا أي كثيرا أو على الحالية ( فأتانا ابن مربع ) بكسر الميم وسكون الراء المهملة بعدها موحدة مفتوحة مخففة ، كذا ضبطه الحافظ في التقريب والطبري في القرى والمصنف في الإكمال والمنذري في مختصر السنن ، ووقع في الإصابة والاستيعاب وأسد الغابة والتجريد (( ابن مريع )) أي بالياء التحتية ، والظاهر أنه خطأ من الناسخ ، وهو زيد بن مربع بن قيظي – بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها ظاء – مشالة الأنصاري الأوسي من بني حارثة . وقيل اسمه يزيد ، وقيل عبد
(18/274)
الله ، والأول أكثر . قال
الحافظ " صحابي ، أكثر ما يجيء مبهما أي غير مسمى عداده في أهل الحجاز ، له
هذا الحديث الواحد ( يقول لكم ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( قفوا )
بكسر القاف أمر من وقف يقف ( على مشاعركم ) جمع مشعر ، والمراد منها ها هنا مواضع
النسك والعبادة من قولك : شعرت بالشيء أي علمته ، ومنه (( ليت شعري )) أي ليتني
أعلم هل يكون كذا وكذا ويسمي كل موضع من مواضع النسك مشعرا لأنه معلم لعبادة الله
. وفي رواية (( كونوا على مشاعركم )) أي اثبتوا في مواضع نسككم ومواقفكم القديمة (
فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام ) علة للأمر بالاستقرار والتثبت
على الوقوف في مواقفهم القديمة ، علل ذلك بأن موقفهم موقف إبراهيم ورثوه
رواه الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة .
2620 – (5) وعن جابر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كل عرفة
موقف ، وكل منى منحر ، وكل المزدلفة موقف ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر " . رواه
أبو داود والدارمي .
(18/275)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منه ولم يخطئوا في الوقوف فيه عن سنته ، فإن عرفة كلها موقف ، والواقف بأي جزء منها آت بسنته ، متبع لطريقته ، وإن بعد موقفه عن موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله الطيبي . وقال السندي : إرساله - صلى الله عليه وسلم - الرسول بذلك لتطيب قلوبهم لئلا يتحزنوا ببعدهم عن موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويروا ذلك نقصا في الحج ، أو يظنوا أن ذلك المكان الذي هم فيه ليس بموقف ويحتمل أن المراد بيان أن هذا خير مما كان عليه قريش من الوقوف بمزدلفة ، وأنه شيء اخترعوه من أنفسهم ، والذي أورثه إبراهيم هو الوقوف بعرفة ، وقال التوربشتي : أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من وقف بها أنهم لم يخطئوا سنة خليل الله وأنهم على منهاجه ، وأن من بعد موقفه عن موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - كمن دنا ، وذلك لمعنيين أحدهما تسفيه رأي من رأى في الخروج عن الحرم حرجا للوقفة ، والثاني إعلامهم بأن عرفة كلها موقف لئلا يتنازعوا في مواقفهم ولا يتوهموا أن الموقف ما اختاره - صلى الله عليه وسلم - فلا يرون الفضل في غيره فينتهي بهم ذلك إلى التشاجر وإلى تصور الحق باطلا ، ولهذا قال : وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ( رواه الترمذي ) وقال : حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، وابن مربع اسمه يزيد ، وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد ( وأبو داود ) وسكت عنه ، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره ( والنسائي وابن ماجة ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 4 : ص 137) وابن أبي شيبة والبيهقي (ج 5 : ص 115) والحاكم (ج 1 : ص 462) وصححه ووافقه الذهبي .
(18/276)
2620 – قوله ( كل عرفة ) أي
جميع أجزائها ومواضعها ( موقف ) أي موضع وقوف للحج ، زاد في رواية مالك وابن ماجة
(( وارتفعوا عن بطن عرنة )) ( وكل منى منحر ) أي موضع نحر وذبح للهدايا المتعلقة
بالحج ( وكل مزدلفة ) قال في اللمعات : المزدلفة أيضا علم موضع مخصوص كعرفة ومنى ،
لكن أدخل عليها الألف واللام لأن العلم المشتق يجوز فيه إدخال اللام وتركها كما في
الحارث والحسن مثلا ( موقف ) فيه دليل على أن جميع المزدلفة موقف ، كما أن عرفات
كلها موقف وزاد في رواية مالك وابن ماجة (( وارتفعوا عن بطن محسر )) ( وكل فجاج
مكة ) بكسر الفاء جمع فج وهو الطريق الواسع ( طريق ومنحر ) أي يجوز دخول مكة من
جميع طرقها وإن كان الأفضل الدخول إليها من الثنية العليا أي ثنية كداء التي دخل
منها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويجوز النحر في جميع نواحيها لأنها من الحرم
. والمقصود التوسعة ونفي الحرج ، ذكره الطيبي . قال القاري : ويجوز ذبح جميع
الهدايا في أرض الحرم بالاتفاق إلا أن منى أفضل لدماء الحج ، ومكة ولا سيما المروة
لدماء العمرة ، ولعل هذا وجه تخصيصها بالذكر ( رواه أبو داود والدارمي ) وأخرجه
أيضا أحمد (ج 3 : ص 236)
2621 – (6) وعن خالد بن هوذة ، قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب
الناس يوم عرفة على بعير قائما في الركابين . رواه أبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحاكم (ج 1 : ص 160) والبيهقي
(ج 5 : ص 122) وابن جرير ، وروى مالك مرسلا وابن ماجة نحوه . والحديث سكت عنه أبو
داود والمنذري وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي .
(18/277)
2621 – قوله ( وعن خالد بن هوذة ) بفتح الهاء وسكون الواو بعدها ذال معجمة ثم تاء تأنيث ، وقوله (( عن خالد بن هوذة )) هكذا في جميع نسخ المشكاة ، وكذا وقع في المصابيح وهو خطأ ، والصواب عن العداء بن خالد بن هوذة فإن الحديث من مسند العداء بن خالد لا من مسند أبيه خالد بن هوذة ، فقد رواه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع عن عبد المجيد أبي عمرو حدثني العداء بن خالد بن هوذة قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب . وكذا رواه عن عباس بن عبد العظيم عن عثمان بن عمر عن عبد المجيد أبي عمرو ، وهكذا روى أحمد عن وكيع عن عبد المجيد ، وكذا وقع في جامع الأصول (ج 4 : ص 66) للجزري ، والقرى (ص 355) للمحب الطبري . والعداء – بفتح عين وشدة دال مهملة وألف فهمزة – ابن خالد بن هوذة العامري ، قال الحافظ في التقريب في ترجمته : صحابي أسلم هو وأبوه جميعا وتأخر وفاته إلى بعد المائة . وقال في الإصابة : أسلم العداء بعد حنين مع أبيه ، وللعداء أحاديث ، وكأنه عمر ، فإن عند أحمد أنه عاش إلى زمن خروج يزيد بن الملهب في سنة إحدى أو اثنتين ومائة في أيام يزيد بن عبد الملك ، عداده في أعراب البصيرة وكان وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقطعه مياها كانت لبني عامر يقال لها الرخيخ – بخائين معجمتين مصغرا – وكان ينزل بها . وذكر أبو زكريا بن مندة أنه آخر من مات من الصحابة بالرخيخ ، وذكر هشام بن الكلبي العداء ووالده في المؤلفة قلوبهم . والعداء هو الذي ابتاع منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العبد أو الأمة وكتب له العهدة وقد ذكر المصنف قصة البيع في باب المنهي عنها من البيوع . وأما خالد بن هوذة والد العداء فقال الحافظ في الإصابة : خالد بن هوذة بن ربيعة البكائي ويقال القشيري ، جاء ذكره في حديث ابنه العداء ، فروى البارودي من طريق عبد المجيد أبي عمرو عن العداء بن خالد ، قال : خرجت مع أبي فرأيت النبي -
(18/278)
صلى الله عليه وسلم - يخطب .
وقال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء : أسلم العداء وأخوه حرملة وأبوهما وكانا سيدي
قومهما وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خزاعة يبشرهم بإسلامهما ( يخطب
الناس ) أي يعظهم ويعلمهم المناسك ( يوم عرفة ) بعد الزوال كما في حديث جابر في
قصة حجة الوداع ( على بعير قائما في الركابين ) حالان مترادفان أو متداخلان . وقوله
(( قائما )) أي واقفا لا أنه قائم على الدابة ، بل معناه حال كون الرجلين داخلين
في الركابين ( رواه أبو داود ) وسكت عنه هو والمنذري ، وأخرجه أحمد (ج 5 : ص 30)
ورواه أحمد أيضا (ج 5 : ص 30) ، والطبراني في الكبير مطولا وأورد الهيثمي في مجمع
الزوائد (ج 2 : ص 253) الروايتين وقال : رجال الطبراني موثقون .
2622 – (7) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال : " خير الدعاء دعاء يوم عرفة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18/279)
2622 – قوله ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة ) قال الشوكاني : قوله (( دعاء يوم عرفة )) رجح المزي جر دعاء ليكون قوله (( لا إله إلا الله )) خبرا لخير الدعاء ولخير ما قلت : أنا والنبيون ، ويؤيده ما وقع في الموطأ من حديث طلحة بلفظ (( أفضل الدعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي ، لا إله إلا الله )) وما وقع عند العقيلي من حديث ابن عمر (( أفضل دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة لا إله إلا الله )) – انتهى . قلت : ويؤيده أيضا ما وقع عند أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة (( لا إله إلا الله )) إلخ ، ويؤيده أيضا حديث علي عند ابن أبي شيبة بلفظ (( أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة لا إله إلا الله )) . وأما حديث طلحة فلفظه في الموطأ (( أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة )) قال الزرقاني : قوله (( أفضل الدعاء )) مبتدأ خبره (( دعاء يوم عرفة )) . قال الباجي : أي أعظمه ثوابا وأقربه إجابة ، ويحتمل أن يريد به اليوم ، ويحتمل أن يريد به الحاج خاصة ، وقال ابن عبد البر : يريد أنه أكثر ثوابا ، ويحتمل أن يريد أفضل ما دعا به ، والأول أظهر ، لأنه أورده في تفضيل الأذكار بعضها على بعض . وفي الحديث تفضيل الدعاء بعضه على بعض وتفضيل الأيام بعضها على بعض – انتهى . قال الطيبي : الإضافة في قوله (( دعاء يوم عرفة )) إما بمعنى اللام أي دعاء يختص به ، ويكون قوله (( وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله )) بيانا لذلك الدعاء فإن ، قلت : هو ثناء ، قلت : في الثناء تعريض بالطلب ، وإما بمعنى (( في )) ليعم الأدعية الواقعة فيه - انتهى . وقال الطبري : إنما سمي هذا الذكر دعاء لثلاثة أوجه ، أحدها : ما تضمنه حديث سالم بن عبد الله أنه كان يقول بالموقف (( لا إله إلا الله )) إلخ . وفيه (( ثم قال حدثني أبي عن أبيه عن أبيه عمر بن الخطاب عن النبي -
(18/280)
صلى الله عليه وسلم - قال :
((يقول الله من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين )) . ووجهه أنه
لما كان الثناء يحصل أفضل مما يحصل الدعاء أطلق عليه لفظ الدعاء لحصول مقصوده ،
ويروى عن الحسين بن الحسن المروزي قال : سألت سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم
عرفة فقال : لا إله إلا الله ، إلخ . فقلت له : هذا ثناء وليس بدعاء ، فقال : أما
تعرف حديث مالك بن الحارث ؟ قال : يقول الله عز وجل : إذا شغل عبدي ثناؤه علي من
مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين . قال : وهذا تفسير قول النبي - صلى الله
عليه وسلم - . ثم قال سفيان : أما علمت ما قال أمية بن أبي الصلت حين أتى عبد الله
بن جعدان يطلب نائله . فقلت : لا . فقال : قال أمية :
-
-
أأذكر حاجتي أم قد كفاني _ -
-
حياؤك ، إن شيمتك الحياء ( -
- -
- -
وعلمك بالحقوق وأنت فضل _ -
-
لك الحسب المهذب والثناء ( -
- -
- -
إذ أثنى عليك المرأ يوما _ -
-
كفاه من تعرضه الثناء ( -
-
ثم قال : يا حسين هذا مخلوق يكتفي بالثناء عليه دون مسألة فكيف بالخالق ؟ الوجه
الثاني : معناه أفضل ما يستفتح
وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، له الملك
، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير " . رواه الترمذي .
2623 – (8) وروى مالك عن طلحة بن عبيد الله إلى قوله : " لا شريك له " .
(18/281)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الدعاء ، على حذف المضاف ، ويدل عليه الحديث الآخر ، فإنه قال : أفضل الدعاء أن أقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إلى آخره . ودعا بعد ذلك بقوله : اللهم اجعل في قلبي نورا ، إلخ . الثالث : معناه أفضل ما يستبدل به عن الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله ، إلى آخره . والأول أوجه – انتهى . ( وخير ما قلت ) قال الشيخ الدهلوي في اللمعات : أي دعوت ، والدعاء هو لا إله إلا الله وحده ، إلخ . وتسميته دعاء إما لأن الثناء على الكريم تعريض بالدعاء والسؤال ، وأما لحديث : " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " . هكذا قالوا ، ولا يخفى أن عبارة هذا الحديث لا تقتضي أن يكون الدعاء قوله لا إله إلا الله . إلخ . بل المراد أن خير الدعاء ما يكون يوم عرفة أي دعاء كان ، وقوله " خير ما قلت " إشارة إلى ذكر غير الدعاء فلا حاجة إلى جعل ما قلت بمعنى ما دعوت ، ويمكن أن يكون هذا الذكر توطئة لتلك الأدعية لما يستحب من الثناء على الله قبل الدعاء – انتهى . وقال القاري : لا يبعد أن يقال : خير ما قلت من الذكر فيكون عطف مغاير ، والتقدير : أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة بأي شيء كان ، وخير ما قلت من الذكر فيه وفي غيره أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله – انتهى . قلت : لكن لا يلائمه رواية الطبراني بلفظ : " أفضل ما قلت أنا والنبيون قبلي عشية عرفة : لا إله إلا الله " . وكذا رواية أحمد . كان أكثر دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة لا إله إلا الله " ( له الملك وله الحمد ) زاد في حديث أبي هريرة عند البيهقي " يحيي ويميت بيده الخير " ( رواه الترمذي ) في الدعوات من طريق حماد بن حميد عن عمرو بن شعيب وقال : هذا حديث غريب من هذا الوجه . وحماد بن أبي حميد هو محمد بن أبي حميد وليس هو بالقوي عند أهل الحديث ، وأخرجه أحمد من هذا الطريق (ج2: ص210) بلفظ (( كان
(18/282)
أكثر دعاء رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد
بيده الخير وهو على كل شيء قدير )) ، أورده الهيثمي في مجمع الزوائد . وقال : رواه
أحمد ورجاله موثقون – انتهى . ولا يخفى ما فيه .
2623- قوله ( وروى مالك ) في آخر كتاب الصلاة وفي أواخر الحج عن زياد بن أبي زياد
مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ( عن طلحة بن عبيد الله ) أي مرسلا
مرفوعا ، وطلحة هذا هو طلحة بن عبيد الله ( مصغرا ) ابن كريز – بفتح الكاف وكسر
الراء المهملة وسكون الياء وزاي معجمة – الخزاعي المدني أبو المطرف ثقة من أوساط
التابعين ، مات بالشام سنة ثمان عشرة ومائة . قال العراقي : وهم من ظنه أحد العشرة
، أي لأنه تيمي واسم جده عثمان وهذا خزاعي وجده كريز فحديثه مرسل ( إلى قوله (( لا
شريك له )) ) وكذا أخرجه البيهقي في كتاب الدعوات الكبير والسنن الكبرى
2624 – (9) وعن طلحة بن عبيد الله بن كريز ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال : " ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر
(18/283)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (ج 5 : ص 117) مرسلا مبتورا . قال ابن عبد البر : لا خلاف عن مالك في إرساله ولا أحفظ بهذا الإسناد مسندا من وجه يحتج به وأحاديث الفضائل لا تحتاج إلى محتج به ، وقد جاء مسندا من حديث علي وابن عمر ثم أخرج حديث علي من طريق ابن أبي شيبة وجاء أيضا عن أبي هريرة ، أخرجه البيهقي . وقال الحافظ في التلخيص (ص 215) بعد ذكر هذا الحديث : مالك في الموطأ من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلا ( لأن طلحة تابعي ) وروي عن مالك موصولا ، ذكره البيهقي وضعفه ، وكذا ابن عبد البر في التمهيد ، وله طريق أخرى موصولة رواه أحمد والترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ " خير الدعاء دعاء يوم عرفة " الحديث . وفي إسناده حماد بن أبي حميد وهو ضعيف ، ورواه العقيلي في الضعفاء من حديث نافع عن ابن عمر بلفظ " أفضل دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة لا إله إلا الله " الحديث . وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف جدا . قال البخاري : منكر الحديث . ورواه الطبراني في المناسك من حديث علي نحو هذا ، وفي إسناده قيس بن الربيع ، وأخرجه البيهقي (ج 5 : ص 117) وإسحاق بن راهويه كما في المطالب العالية (ج 1 : ص 245) عنه بزيادة " اللهم اجعل في قلبي نورا " إلخ . وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف وتفرد به عن أخيه عبد الله عن علي . قال البيهقي : ولم يدرك عبد الله عليا – انتهى . وأحاديث الباب تدل على مشروعية الاستكثار من الدعاء المذكور يوم عرفة وأنه خير ما يقال في ذلك اليوم . تنبيه : قال الزرقاني : وقع في تجريد الصحاح لرزين بن معاوية الأندلسي زيادة في أول هذا الحديث وهي : أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم الجمعة ، وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة وأفضل الدعاء ، إلخ . وتعقبه الحافظ فقال : حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من خرجه بل أدرجه في حديث الموطأ
(18/284)
هذا وليست هذه الزيادة في شيء
من الموطآت ، فإن كان له أصل احتمل أن يراد بالسبعين التحديد أو المبالغة في الكثرة
، وعلى كل حال منهما ثبتت المزية – انتهى . وفي الهدي لابن القيم . ما استفاض على
ألسنة العوام أن وقفة الجمعة تعدل ثنتين وسبعين حجة فباطل لا أصل له عن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة والتابعين – انتهى .
2624- قوله ( وعن طلحة بن عبيد الله ) بضم العين مصغرا ( بن كريز ) بفتح الكاف
مكبرا ، الخزاعي التابعي المتقدم ذكره آنفا ، فالحديث مرسل ( أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال : ما رؤي ) بالبناء للمجهول ( يوما ) أي في يوم ( هو فيه
أصغر ) الجملة صفة يوما أي أذل وأحقر ، مأخوذ من الصغار بفتح الصاد المهملة وهو
الهوان والذل ، قاله القاري . وهكذا فسر الزرقاني وصاحب المحلى وغيرهم من الشراح .
وقال الباجي : يحتمل وجهين ، أن يريد الصغار والخزي
ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة ، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة
. وتجاوز الله عن الذنوب العظام ، إلا ما رؤي يوم بدر " . فقيل : ما رؤي يوم
بدر ؟
(18/285)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والذل ، ويحتمل أن يريد به تضاؤله وصغر جسمه وأن ذلك يصيبه عند نزول الملائكة وإغضاب نزولها له – انتهى . ( ولا أدحر ) بسكون الدال وفتح الحاء وبالراء مهملات ، اسم تفضيل من الدحر وهو الطرد والإبعاد أي أبعد عن الخير ومنه قوله تعالى : ? من كل جانب دحورا ? (37 : 8 ، 9) وقوله تعالى ? اخرج منها مذؤما مدحورا ? (7 : 18) وقال الطبري : الدحر الدفع بعنف على سبيل الإهانة والإذلال ، ومنه : ? فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ? (17 : 39) أي مبعدا من رحمة الله ( ولا أحقر ) أي أسوأ حالا ، قاله القاري . وقال الزرقاني : أي أذل وأهون عند نفسه لأنه عند الناس حقير أبدا . وقال الباجي : يحتمل الوجهين المتقدمين في أصغر ( ولا أغيظ ) أي أشد غيظا محيطا بكبده وهو أشد الحنق ( منه ) أي من الشيطان نفسه ( في يوم عرفة ) وفي المصابيح (( يوم عرفة )) قال شارحه : نصب ظرفا لأصغر أو لأغيظ أي الشيطان في عرفة أبعد مرادا منه في سائر الأيام وتكرار المنفيات للمبالغة في المقام ، قاله القاري ( وما ذاك ) أي وليس ما ذكر له ( إلا لما يرى ) كذا في جميع النسخ من المشكاة موافقا لما في المصابيح . وكذا ذكره المنذري في الترغيب والطبري في القرى ، وفي الموطأ (( إلا لما رأى )) أي بصيغة الماضي المعلوم ، قال القاري : لما يرى أي لأجل ما يعلم ، قيل : ويحتمل رؤية العين كما يجيء ( من تنزل الرحمة ) أي على الخاص والعام بحسب المراتب ( وتجاوز الله عن الذنوب العظام ) قال القاري : فيه إيماء على غفران الكبائر – انتهى . قال الزرقاني : (( قوله : (( إلا لما رأى من تنزل الرحمة )) أي الملائكة النازلين بها على الواقفين بعرفة وهو لعنه الله ، لا يحب ذلك ، وليس المراد أنه يرى الرحمة نفسها ، ولعله رأى الملائكة تبسط أجنحتها بالدعاء للحاج ، ويحتمل أنه سمع الملائكة تقول : غفر لهؤلاء أونحو ذلك فعلم أنهم
(18/286)
نزلوا بالرحمة ، ورؤيته
الملائكة للغيظ لا للإكرام ، قاله أبو عبد الملك البوني ، وقال الباجي : يحتمل أنه
يرى الملائكة ينزلون على أهل عرفة وقد عرف الشيطان أنهم لا ينزلون إلا عند الرحمة
لمن ينزلون عليه ، ولعل الملائكة يذكرون ذلك أما على وجه الذكر بينهم أو على وجه
الإغاظة للشيطان ، ويخلق الله للشيطان إدراكا يدرك به نزولهم ويدرك به ذكرهم لذلك
، ولعله يسمع منهم إخبارهم بأن الله تعالى قد تجاوز لأهل الموقف عن جميع ذنوبهم
وعما يوصف بالعظم منها ، ويحتمل أن ينص على ذلك ، ويحتمل أن يخبر به عنه بخبر يفهم
المعنى وإن لم ينص على نفس المعصية سترا من الله تعالى على عباده المغفور لهم –
انتهى . ( إلا ما رؤي ) ببناء المجهول ( يوم بدر ) قال الطيبي : أي ما رؤي الشيطان
في يوم أسوأ حالا منه في ما عدا يوم بدر أول غزوة وقع فيها القتال وكانت في ثانية
الهجرة ، وفي المصابيح (( إلا ما كان من يوم بدر )) ( فقيل : ما رؤي ؟ ) كذا في
بعض النسخ بصيغة المجهول ، وفي بعضها (( ما رأى )) أي ببناء المعلوم كما في الموطأ
والمصابيح ، أي قالت الصحابة : وما رأى الشيطان يوم
قال : " فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة " . رواه مالك مرسلا وفي شرح
السنة بلفظ المصابيح .
2625 – (10) وعن جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا
كان يوم عرفة إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ، فيباهي بهم الملائكة ، فيقول :
انظروا إلى عبادي أتوني شعثا
(18/287)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بدر حتى صار لأجله أسوأ حالا ؟ ( قال ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( فإنه ) أي الشيطان ، وفي الموطأ (( أما إنه )) ( قد رأى جبريل ) عليه السلام أي يوم بدر ( يزع ) بفتح الياء والزاي المعجمة فعين مهملة ، وأصله يوزع من الوزع ، أي يصف ( الملائكة ) للقتال ويمنعهم أن يخرج بعضهم عن بعض في الصف . قال الجزري : وزعه يزعه وزعا فهو وازع إذا كفه ومنعه ، ومنه حديث (( إن إبليس رأى جبريل عليه السلام يوم بدر يزع الملائكة )) أي يرتبهم ويسويهم ويصفهم للحرب فكأنه يكفهم عن التفرق والانتشار – انتهى . وقال الطيبي : يزعهم أي يكفهم فيحبس أولهم على آخرهم ، ومنه الوازع وهو الذي يتقدم الصف فيصلحه ويقدم في الجيش ويؤخره ، ومنه قوله تعالى ? فهم يوزعون ? (27 : 17 ، 83) أي يرتبهم ويسويهم ويكفهم عن الانتشار ويصفهم للحرب – انتهى . وفيه فضل الحج وشهود عرفة ، وفضل يوم بدر وسعة فضل الله على المذنبين ( رواه مالك ) في أواخر الحج عن إبراهيم بن أبي عبلة ( من ثقات التابعين ) عن طلحة بن عبيد الله ابن كريز ( مرسلا ) حديث طلحة هذا ذكره المنذري في الترغيب (ج 2 : ص 73) وقال : رواه مالك والبيهقي من طريقه وغيرهما وهو مرسل ، وقال ابن عبد البر في التقصي : وهو مرسل عند جماعة رواة الموطأ . وقال في التمهيد : هكذا الحديث في الموطأ عند جماعة الرواة عن مالك ، ورواه أبو النصر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن أبيه ، ولم يقل في هذا الحديث (( عن أبيه )) غيره ، وليس بشيء - انتهى . قلت : عبيد الله بن كريز هذا لم يذكر في التهذيب ولا في الجرح والتعديل ، وإنما ذكره ابن حبان في (ج 2) من الثقات ، وذكره أيضا البخاري في التاريخ الكبير ( ق1/ج3/ ص 397 ) فقال : عبيد الله بن كريز الخزاعي سمع عبد الله بن معقل ، رواه عنه ابنه طلحة في
(18/288)
البصريين – انتهى . وهذا كما
ترى لم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا . وقال الزرقاني : حديث طلحة هذا مرسل ، وزعم ابن
الحذاء أن الحديث من الغرائب التي لم يوجد لها إسناد ولا نعلم أحدا أسنده ، من
قصوره الشديد ، فقد وصله الحاكم في المستدرك عن أبي الدرداء ، وقال القاري : رواه
الديلمي متصلا والبيهقي مرسلا ومتصلا ( وفي شرح السنة ) للبغوي ( بلفظ المصابيح )
المغاير لبعض ما هنا ، وقد تقدم التنبيه على ذلك .
2625 – قوله ( إلى السماء الدنيا ) قال القاري : لعل وجه التخصيص زيادة اطلاع
أهلها لأهل الدنيا ( فيباهي بهم ) أي بالواقفين بعرفة ( الملائكة ) أي ملائكة سماء
الدنيا أو الملائكة المقربين أو جميع الملائكة ، قاله القاري ( فيقول انظروا ) أي
نظر اعتبار ( إلى عبادي ) الإضافة للتشريف ( أتوني ) قال القاري : أي جاءوا مكان
أمري ( شعثا ) بضم الشين
غبرا ضاجين من كل فج عميق ، أشهدكم أني قد غفرت لهم ، فيقول الملائكة : يا رب !
فلان كان يرهق وفلان وفلانة . قال : يقول الله عز وجل : قد غفرت لهم " . قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم
عرفة " . رواه في شرح السنة .
(18/289)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعجمة وسكون العين المهملة ، جمع أشعث وهو المتفرق الشعر ( غبرا ) جمع أغبر وهو
الذي التصق الغبار بأعضائه ، وهما حالان ( ضاجين ) بتشديد الجيم من ضج إذا رفع
صوته أي رافعين أصواتهم بالتلبية . قال القاري : وفي نسخة يعني من المشكاة بتخفيف
الحاء المهملة ، وفي المشارق : أي أصابهم حر الشمس . وفي القاموس : ضحى برز للشمس
وكسعى ورضى أصابته الشمس . وذكر المنذري حديث جابر هذا من رواية ابن حبان بلفظ
ضاحين ، وقال : وهو بالضاد المعجمة والحاء المهملة أي بارزين للشمس غير مستترين
منها ، يقال لكل من برز للشمس من غير شيء يظله ويكنه : إنه لضاح ( من كل فج عميق )
متعلق بأتوا أي من كل طريق بعيد ( أشهدكم ) أي أظهر لكم ( فلان كان يرهق ) بتشديد
الهاء وفتحه ويخفف أي يتهم بالسوء وينسب إلى غثيان المحارم ، ولفظ البيهقي ((
فتقول الملائكة : إن فيهم فلانا مرهقا )) قال المنذري : المرهق هو الذي يغشي
المحارم ويرتكب المفاسد ( وفلان وفلانة ) أي كذا وكذا يعني عاص وفاسق . وقال
القاري : أي كذلك يفعلان المعاصي ، وإنما قالوا ذلك تعجبا منهم بعظم الجريمة
واستبعادا لدخول صاحب مثل هذه الكبيرة في عداد المغفورين . وقال التوربشتي : قول
الملائكة هذا على سبيل الاستعلام ليعلموا هل دخل ذلك المرهق في جملتهم أم لا ،
كأنهم قالوا : إن فيهم فلانا ومن شأنه كيت وكيت ، فماذا صنعت به ، أو يكون سؤالهم
هذا من طريق التعجب ، وفيه من الأدب عدم التصريح بالمعائب وعلى هذا النحو من
المعنى يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الحديث : إن فيهم فلانا
الخطاء . ولا يصح حمله على غير ذلك فإنهم أعلم بالله من أن يسبق عنهم مثل هذا
القول على سبيل الإعلام والاعتراض ( قد غفرت لهم ) أي لهؤلاء أيضا ، وقد غفرت لهم
جميعا وهؤلاء منهم وهم قوم لا يشقى جليسهم ، قال الطيبي : فإن الحج يهدم ما كان
قبله ( ==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق