الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج21.وج22.مرعاة المفاتيح {من 2626 الي2756}

 

21. مرعاة المفاتيح

فما من يوم ) قال الطيبي : جزاء شرط محذوف ( أكثر ) بالنصب خبر ما بمعنى ليس ، وقيل بالرفع على اللغة التميمية ( عتيقا ) تمييز ( من النار ) متعلق بعتيق ( من يوم عرفة ) متعلق بأكثر ( رواه ) أي البغوي ( في شرح السنة ) أي بسنده وأخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما والإسماعيلي في معجمه وأبو يعلى والبزار وابن منيع وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن عساكر وقاسم بن أصبع في مسنده والحاكم والبيهقي وابن أبي الدنيا بألفاظ متقاربة مختصرا ومطولا وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 3 : ص 253) من رواية أبي يعلى والبزار بزيادة فضل عشر ذي الحجة في أوله ، وقال : فيه محمد بن مروان العقيلي وثقه ابن معين وابن حبان ، وفيه بعض كلام ، وبقية رجاله رجال الصحيح – انتهى . وفي الباب عن أبي هريرة وابن عمر وأنس وعبد الله بن عمرو بن العاص ذكر أحاديثهم المنذري في الترغيب والطبري في القرى وعلي المتقي في الكنز والهيثمي في مجمع الزوائد .
( الفصل الثالث )
2626 – (11) عن عائشة ، قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وكان سائر العرب يقفون بعرفة ، فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي عرفات ، فيقف بها ثم يفيض منها ، فذلك قوله عز وجل ? ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ? .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/291)


2626 – قوله ( كانت قريش ومن دان دينها ) أي اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه واتخذ دينهم له دينا ( يقفون بالمزدلفة ) أي حين يقف الناس بعرفة . قال سفيان بن عيينة : وكان الشيطان قد استهواهم فقال لهم : إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم فكانوا لا يخرجون من الحرم . رواه الحميدي في مسنده (ج 1 : ص 255) ( وكانوا ) أي قريش ( يسمون الحمس ) بضم الحاء المهملة وسكون الميم بعدها سين مهملة جمع أحمس من الحماسة بمعنى الشدة . روى إبراهيم الحربي في غريب الحديث عن مجاهد قال : الحمس قريش ومن كان يأخذ مأخذها من القبائل كالأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وغزوان وبني عامر وبني صعصعة وبني كنانة إلا بني بكر ، والأحمس في كلام العرب الشديد ، وسموا بذلك لما شددوا على أنفسهم ، وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لا يأكلون لحما ولا يضربون وبرا ولا شعرا ، وإذا قدموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم ، وروى إبراهيم أيضا من طريق عبد العزيز بن عمران المدني قال : سموا حمسا بالكعبة لأنها حمساء في لونها ، حجرها أبيض يضرب إلى السواد – انتهى . والأول أشهر وأكثر وأنه من التحمس وهو التشدد . قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : تحمس تشدد ، ومنه حمس الوغى إذا اشتد . قال : كانت قريش إذا خطب إليهم الغريب اشترطوا عليه أن ولدها على دينهم فدخل في الحمس من غير قريش ثقيف وليث بن بكر وخزاعة وبنو عامر بن صعصعة يعني وغيرهم ، وعرف بهذا المراد بهذه القبائل من كانت له من أمهاته قرشية لا جميع القبائل المذكورة ، كذا في الفتح . وقيل سموا حمسا لشجاعتهم ، والحماسة الشجاعة ، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يفتخرون بشجاعتهم وجلادتهم مميزين أنفسهم عن جماعتهم وأهل جلدتهم ( وكان سائر العرب ) يعني بقيتهم ( يقفون بعرفة ) على العادة القديمة والطريقة المستقيمة ( أن يأتي عرفات ) هي علم للموقف والتاء ليست للتأنيث قاله الزمخشري . وقال الكرماني : التنوين عوض

(18/292)


من النون في الزيدين يعني أن التنوين للمقابلة لا للتمكن أي جيء به في مقابلة النون في جمع المذكر السالم ، وقد قيل كل بقعة فيها تسمى عرفة فهي جمع حقيقة ( ثم يفيض منها ) قال الطيبي : الإفاضة الزحف والدفع في السير وأصلها الصب ( من أفضت الماء إذا صببته بكثرة ) فاستعير للدفع في السير ، وأصله أفاض نفسه أو راحلته ثم ترك المفعول رأسا حتى صار كاللازم ( فذلك قوله عز وجل : ثم أفيضوا ) أي ادفعوا وارجعوا ( من حيث أفاض الناس ) أي عامتهم وهو عرفة . قال الترمذي : معنى هذا الحديث أن أهل مكة كانوا لا يخرجون من الحرم ، وعرفات خارج من .
متفق عليه .

(18/293)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحرم فأهل مكة كانوا يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن قطين الله يعنى سكان ( بيت ) الله ، ومن سوى أهل مكة كانوا يقفون بعرفات فأنزل الله تعالى ? ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ? (2 : 199) والحمس هم أهل الحرم – انتهى . قال السندي : قوله ? ثم أفيضوا ? أي أيها القريش ? من حيث أفاض الناس ? أي غيركم وهو عرفات والمقصود أي ارجعوا من ذلك المكان ، ولا شك أن الرجوع من ذلك المكان يستلزم الوقوف فيه ، لأنه مسبوق به فلزم من ذلك الأمر بالوقوف من حيث وقف الناس وهو عرفة . قال الحافظ : دل هذا الحديث على أن المراد بقوله تعالى ? ثم أفيضوا ? الإفاضة من عرفة ، وظاهر سياق الآية أنها الإفاضة من مزدلفة لأنها ذكرت بلفظة ثم بعد ذكر الأمر بالذكر عند المشعر الحرام ، وأجاب بعض المفسرين بأن الأمر بالذكر عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات التي سيقت بلفظ الخبر تنبيها على المكان الذي تشرع الإفاضة منه ، فالتقدير : فإذا أفضتم اذكروا ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس لا من حيث كان الحمس يفيضون ، أو التقدير : فإذا أفضتم من عرفات إلى المشعر الحرام فاذكروا الله عنده ، ولتكن إفاضتكم من المكان الذي يفيض فيه الناس غير الحمس ، ثم قال الحافظ : وأما الإتيان في الآية بقوله ثم فقيل هي بمعنى الواو وهذا اختيار الطحاوي ، وقيل لقصد التأكيد لا لمحض الثرتيب ، والمعنى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، ثم اجعلوا الإفاضة التي تفيضونها من حيث أفاض الناس لا من حيث كنتم تفيضون . قال الزمخشري : وموقع ثم ها هنا موقعها من قولك : أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم ، فتأتى ثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بين لهم مكان الإفاضة فقال (( ثم أفيضوا )) لتفاوت ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ . قال

(18/294)


الخطابي : تضمن قوله تعالى (( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ? (2 : 199 ) الأمر بالوقوف بعرفة ، لأن الإفاضة إنما تكون عند اجتماع قبله ، وكذا قال ابن بطال وزاد : وبين الشارع مبتدأ الوقوف بعرفة ومنتهاه – انتهى . وروى البخاري من حديث عروة عن عائشة قالت : إن هذه الآية نزلت في الحمس ? ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ? قالت : كانوا ( أي الحمس ) يفيضون من جمع فدفعوا إلى عرفات . قال الحافظ : المعنى أنهم أمروا أن يتوجهوا إلى عرفات ليقفوا بها ثم يفيضوا منها . قال : وعرف برواية عائشة أن المخاطب بقوله تعالى ? أفيضوا ? النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمراد به من كان لا يقف بعرفة من قريش وغيرهم . وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الضحاك أن المراد بالناس هنا إبراهيم الخليل عليه السلام وعنه المراد به الإمام وعن غيره آدم ، وقرئ في الشواذ الناسي بكسر السين بوزن القاضي والأول أصح ، نعم الوقوف بعرفة موروث عن إبراهيم كما روى الترمذي وغيره من طريق يزيد بن شيبان قال : كنا وقوفا بعرفة فأتى ابن مربع – الحديث ، وقد تقدم . ولا يلزم من ذلك أن يكون هو المراد خاصة بقوله ? من حيث أفاض الناس ? بل هو الأعم من ذلك والسبب فيه ما حكته عائشة رضي الله عنها ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي تفسير سورة البقرة ، ومسلم في الحج وأخرجه أيضا فيه
2627 – (12) وعن عباس بن مرداس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة فأجيب : " أني قد غفرت لهم ما خلا المظالم ، فإني آخذ للمظلوم منه " . قال : " أي رب ! إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم " . فلم يجب عشيته ، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء ، فأجيب إلى ما سأل . قال : فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو قال : تبسم . فقال له أبو بكر وعمر : بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/295)


الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة . قال البوصيري في الزوائد : الحديث موقوف ولكن حكمه الرفع لأنه في شأن نزوله .
2627- قوله ( وعن عباس بن مرداس ) بكسر الميم هو العباس بن مراداس بن أبي عامر أبو الهيثم ويقال أبو الفضل السلمي الشاعر الصحابي المشهور ، أسلم قبل فتح مكة بيسير ، وقيل : أسلم بعد يوم الأحزاب ، وعداده في المؤلفة قلوبهم وحسن إسلامه ، وشهد فتح مكة وحنينا ، وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية ونزل ناحية البصرة . قال الحافظ في تهذيب التهذيب : روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنه ابنه كنانة وعبد الرحمن بن أنس السلمي ، روى له أبو داود وابن ماجه حديثا واحدا في يوم عرفة – انتهى ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا لأمته ) قال القاري : الظاهر لأمته الحاجين معه مطلقا . لا مطلق الأمة فتأمل . وقال السندي : قوله " لأمته " أي لمن معه في حجه ذلك أو لمن حج من أمته إلى يوم القيامة أو لأمته مطلقا من حج أو لم يحج ( عشية عرفة ) أي وقت الوقفة ( بالمغفرة ) أي التامة ( فأجيب أني ) أي بأني . قال السندي : بفتح الهمزة أي أجابه الله بأني قد غفرت أو بكسرها أي أجابه قائلا : إني قد غفرت ( ما خلا المظالم ) أي ما عدا حقوق الناس جمع مظلمة بكسر اللام وفتحها وهي ما تطلبه من عند الظالم مما أخذه منك بغير حق ، وهي في الأصل مصدر بمعنى الظلم ، وقيل جمع مظلم بكسر اللام والمظالم أعم من أن تكون مالية وعرضية ( فإني آخذ ) بصيغة المتكلم أو الفاعل ( للمظلوم منه ) أي من الظالم إما بالعذاب وإما بأخذ الثواب إظهارا للعدل ( أعطيت ) أي من عندك ( المظلوم من الجنة ) أي ما يرضيه منها أو بعض مراتبها العلية . وقال السندي : ظاهره أنه سأل مغفرة مظالم المؤمنين بخلاف مظالم أهل الذمة إلا أن يقال : قوله " من الجنة " أي مثلا أو تخفيف العذاب والله تعالى أعلم الصواب ( وغفرت للظالم ) فضلا ( فلم يجب ) بصيغة المجهول

(18/296)


والضمير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( عشيته ) أي في عشية عرفة ، والتذكير باعتبار الزمان أو المكان . ويمكن أن يكون الضمير راجعا إليه - صلى الله عليه وسلم - ، فالإضافة لأدني ملابسة ، قاله القاري ( فلما أصبح بالمزدلفة ) أي ووقف بها ( أعاد الدعاء ) أي المذكور ( فأجيب إلى ما سأل ) أي ما طلبه على وجه العموم . قيل إلى بمعني اللام ويمكن أن يكون لضمين معنى الرجوع والوصول . قال القاري : وكان العباس سمع هذه الأمور منه - صلى الله عليه وسلم - فرواها كأنه علمها ( قال ) أي العباس ( فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال : تبسم ) أو للشك من الراوي عن العباس لقوله قال ( ما كنت تضحك فيها ) أي من شأنها أن لا تضحك فيها ، أو المراد في مثلها مما تبكي وتتضرع فيه
فما الذي أضحكك ، أضحك الله سنك . قال : " إن عدو الله إبليس لما علم أن الله عز وجل قد استجاب دعائي وغفر لأمتي ، أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ، ويدعو بالويل والثبور ، فأضحكني ما رأيت من جزعه " .

(18/297)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإلا لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الساعة قبل ، لأنه لم يحج إلا أول حجها ، وإن قيل إنه - صلى الله عليه وسلم - قد حج قبل عهد الإسلام فأبو بكر وعمر لم يرياه ، كذا في اللمعات ( أضحك الله سنك ) أي أدام الله لك السرور الذي سبب ضحكك ( فجعل يحثوه على رأسه ) أي يلقي التراب بكفيه على رأسه ( ويدعو بالويل ) أي العذاب ( والثبور ) بضم الثاء أي الهلاك يعني يقول : وا ويلاه ويا ثبوراه . قال الطيبي : كل من وقع في تهلكة دعا بالويل والثبور أي يا هلاكي وعذابي احضر فهذا أوانك . وقال الطبري : الويل الحزن والهلاك المشقة وكل من وقع في هلكة دعا بالويل ، ومعنى النداء فيه يا حزني ويا عذابي ويا هلاكي احضر فهذا وقتك ، فكأنه نادى الويل أن يحضره بما عرض له ، والثبور هو الهلاك ، وقد ثبر يثبر ثبورا إذا هلك ( فأضحكني ما رأيت من جزعه ) أي مما صدر من فضل ربي على رغمه . قال القاري : وظاهر الحديث عموم المغفرة وشمولها حق الله وحق العباد إلا أنه قابل للتقييد بمن كان معه - صلى الله عليه وسلم - في تلك السنة ( يعني المراد من الأمة هم الواقفون معه - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ) أو بمن قبل حجه بأن لم يرفث ولم يفسق . ومن جملة الفسق الإصرار على المعصية وعدم التوبة ، ومن شرطها أداء حقوق الله الفائتة كالصلاة والزكاة وغيرهما وقضاء حقوق العباد المالية والبدنية والعرضية اللهم إلا أن يحمل على حقوق لم يكن عالما بها أو يكون عاجزا عن أدائها . قال : ولا تغتر بكون هذا الحديث مجملا مع اعتقاد أن فضل الله واسع ، وقد قال تعالى ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? (4 : 48 ، 116)?ولذا قال عليه الصلاة والسلام : أي رب إن شئت ، فما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون . ثم قال القاري بعد ذكر الكلام في هذا الحديث وما ورد في معناه

(18/298)


من الروايات قال : بعضهم إذا تأملت ذلك كله علمت أنه ليس في هذه الأحاديث ما يصلح متمسكا لمن زعم أن الحج يكفر التبعات لأن الحديث ضعيف ، على أنه ليس نصا في المدعى لاحتماله ومن ثمة قال البيهقي : يحتمل أن تكون الإجابة إلى المغفرة بعد أن يذيقهم شيئا من العذاب دون ما يستحقه فيكون الخبر خاصا في وقت دون وقت ، يعني ففائدة الحج حينئذ التخفيف من عذاب التبعات في بعض الأوقات دون النجاة بالكلية ، ويحتمل أن يكون عاما ونص الكتاب يدل على أنه مفوض إلى مشيئته تعالى . وحاصل هذا الأخير أنه بفرض عمومه محمول على أن تحمله تعالى التبعات من قبيل ? ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? وهذا لا تكفير فيه وإنما يكون فاعله تحت المشيئة فشتان ما بين الحكم بتكفير الذنوب وتوقفه على المشيئة ولذا قال البيهقي : فلا ينبغي لمسلم أن يغر نفسه بأن الحج يكفر التبعات فإن المعصية شؤم ، وخلاف الجبار في أوامره ونواهيه عظيم . قال : وهذا لا ينافي
رواه ابن ماجة ، وروى البيهقي في كتاب البعث والنشور نحوه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/299)


قول ابن المنذر فيمن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه : إن هذا عام يرجى أن يغفر له جميع ذنوبه صغائرها وكبائرها ، وإنما الكلام في الوعد الذي لا يخلف – انتهى . ( رواه ابن ماجة ) أي بهذا اللفظ من طريق عبد القاهر بن السري السلمي عن عبد الله بن كنانة ( بكسر كاف وبنونين بينهما ألف وأولاهما خفيفة ) بن عباس بن مرداس السلمي عن أبيه كنانة عن جده عباس ( وروى البيهقي في كتاب البعث والنشور نحوه ) أي بمعناه ، وكذا رواه في شعب الإيمان وفي السنن الكبرى (ج 5 : ص 118) ورواه أيضا عبد الله بن أحمد في زوائد المسند لأبيه (ج 4 : ص 14) والطبراني في الكبير وأخرج أبو داود في كتاب الأدب من سننه طرفا منه من الوجه الذي رواه ابن ماجة لكنهم قالوا حدثني ابن لكنانة بن العباس ولم يسموه عن أبيه عن جده عباس ، وعبد الله بن كنانة بن عباس ، قال الحافظ في التقريب في كليهما أنه مجهول . وذكر في تهذيب التهذيب في ترجمتهما عن البخاري أنه قال : لم يصح حديثه . وقال في ترجمة كنانة بعد ذكر كلام البخاري هذا : وذكره ابن حبان في الثقات ، وذكره أيضا في كتاب الضعفاء قال : حديثه منكر جدا لا أدرى التخليط منه أو من ابنه ومن أيهما كان فهو ساقط الاحتجاج به – انتهى . وقال البوصيري في الزوائد : في إسناده عبد الله بن كنانة قال البخاري : لم يصح حديثه – انتهى . ولم أر من تكلم بجرح ولا توثيق – انتهى . والحديث سكت عنه أبو داود بعد رواية طرف منه من الوجه المذكور ، ونقل المنذري في مختصر السنن (8 / 97) كلام ابن حبان وزاد : " لعظم ما أتى من المناكير عن المشاهير " . وقد ظهر بهذا كله أن حديث عباس هذا ضعيف لكن له شواهد يبلغ بها إلى درجة الحسن . قال في المواهب اللدنية بعد ذكر حديث عباس بن مرداس من رواية ابن ماجة : ورواه أبو داود من الوجه الذي رواه ابن ماجة ولم يضعفه . قال الزرقاني : أي سكت عليه فهو عنده صالح للحجة ، وقد

(18/300)


أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين من طرق وقد صنف الحافظ ابن حجر فيه كراسا سماه " قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج " . قال في أوله : إنه سئل عن حال هذا الحديث هل هو صحيح أو حسن أو ضعيف أو منكر أو موضوع ؟ قال : فأجبت بأنه جاء من طرق أشهرها حديث عباس بن مرداس فإنه مخرج في مسند أحمد ، وأخرج أبو داود طرفا منه وسكت عليه ، فهو عنده صالح . وعلى رأى ابن الصلاح ومن تبعه حسن ، وعلى رأى الجمهور كذلك ، لكن باعتبار انضمام الطرق الأخرى إليه ، ثم قال الحافظ أثناء كلامه . حديث العباس بمفرده يدخل في حد الحسن على رأى الترمذي ولا سيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق لطرق ذكرها ، قال : وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من حديث ابن مرداس ، وقال : فيه كنانة منكر الحديث جدا لا أدرى التخليط منه أو من ولده . وهذا لا ينتهض دليلا على أنه موضوع فقد اختلف قول ابن حبان في كنانة فذكره في الثقات وفي الضعفاء ، وذكر ابن مندة أنه قيل إن له رؤية منه
...............................................................................................

(18/301)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - ، وأما ولده عبد الله بن كنانة ففيه كلام لابن حبان أيضا وكل ذلك لا يقتضي وضعه ، بل غايته أن يكون ضعيفا ويتعضد بكثرة طرقه ، وأورد حديث ابن عمر في الموضوعات أيضا وقال : فيه عبد العزيز بن أبي رواد ، تفرد به نافع عن ابن عمر ، قال ابن حبان : كان يحدث على التوهم والحسبان فبطل الاحتجاج به وهو مردود فإنه لا يقضي أنه موضوع مع أنه لم ينفرد به ، بل له متابع عند ابن حبان في كتاب الضعفاء ، هذا كلام الحافظ ملخصا وهو كلام متقن إمام في الفن فلا عليك ممن أطلق عليه اسم الضعيف الذي لا يحتج به . وقال الطبري بعد روايته حديث ابن عمر : إنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها مع العزم على أنه يوفي إذا قدر ما يمكن توفيته . وقد رواه أي حديث العباس بن مرداس البيهقي في السنن الكبرى بنحو رواية ابن ماجة وكذا الطبراني في الكبير وعبد الله أحمد في زوائد المسند لأبيه وابن عدي وصححه الضياء كما مر . وقد قالوا إن تصحيحه أعلى من تصحيح الحاكم . وقال البيهقي بعد أن أخرجه في كتاب البعث : هذا الحديث له شواهد كثيرة ، فأخرجه عبد الرزاق والطبراني من حديث عبادة بن الصامت وأبو يعلى وابن منيع من حديث أنس وابن جرير وأبو نعيم وابن حبان من حديث ابن عمر والدارقطني وابن حبان من حديث أبي هريرة وابن مندة من حديث عبد الله بن زيد ( ذكر رواياتهم الحافظ في مؤلفه بنحو حديث عباس بن مرداس ) وارجع إلى تنزيه الشريعة لابن عراق (ج 2 : ص 169 ، 170) والقول المسدد (ص 37 – 40 ) فإن صح بشواهده فقيه الحجة وإن لم يصح فنحن في غنية عن تصحيحه فقد قال الله تعالى ? ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? وظلم بعضهم بعضا دون الشرك فيدخل في الآية – انتهى . وهو حسن ، وفي الحديث الصحيح : من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ، وهو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بالحقوق ولا تسقط

(18/302)


الحقوق أنفسها ، فمن كان عليه صلاة أو صيام أو زكاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله أو شيء من حقوق العباد لا تسقط عنه لأنها حقوق لا ذنوب ، إنما الذنب تأخيرها فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي نفسها ، فلو أخره ، بعد الحج تجدد إثم آخر ، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق ؛ ولا يسقط حق الآدمي بالحج إجماعا والله أعلم ، كذا في شرح المواهب ، وقال ابن عابدين : قد يقال بسقوط نفس الحق إذا مات قبل القدرة على أدائه سواء كان حق الله تعالى أو حق عباده وليس في تركته ما بقي به لأنه إذا سقط إثم التأخير ولم يتحقق منه إثم بعده فلا مانع من سقوط نفس الحق ، أما حق الله تعالى فظاهر ، وأما حق العبد فالله تعالى يرضي خصمه عنه كما مر في الحديث . ثم قال : اعلم أن تجويزهم تكفير الكبائر بالهجرة والحج مناف لنقل عياض الإجماع على أنه لا يكفرها إلا التوبة ، ولا سيما على القول بتكفير المظالم أيضا ، بل القول بتكفير إثم المطل وتأخير الصلاة ينافيه لأنه كبيرة ، وقد كفرها الحج بلا توبة ، وكذا ينافيه عموم قوله تعالى ? ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? وهو اعتقاد أهل الحق أن مات مصرا على الكبائر كلها سوى الكفر فإنه قد يعفى بشفاعة أو بمحض الفضل ، والحاصل كما في البحر أن المسألة ظنية فلا يقطع بتكفير الحج للكبائر من حقوقه تعالى فضلا عن حقوق العباد والله تعالى أعلم – انتهى . وقال القاري بعد ذكر كلام البيهقي :
(5) باب الدفع من عرفة والمزدلفة
( الفصل الأول )
2628 - (1) عن هشام بن عروة عن أبيه ، قال : سئل أسامة بن زيد : كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في حجة الوداع حين دفع ؟ قال : كان يسير العنق فإذا وجد فجوة

(18/303)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا يخفى أن الأحاديث الصحيحة الصريحة لا تكون إلا ظنية فما بالك بالأحاديث الضعيفة ؟ ولا شك أن المسائل الاعتقادية لا تثبت إلا بالأدلة القطعية رواية ودراية ، نعم يغلب على الظن رجاء عموم المغفرة لمن حج حجا مبرورا ، وأين من يجزم بذلك في نفسه أو غيره وإن كان عالما أو صالحا في علو مقامه هنالك ، فمن المعلوم أن غير المعصوم يجب أن يكون بين الخوف والرجاء – انتهى .
( باب الدفع من عرفة ) أي الرجوع منها ( والمزدلفة ) عطف على الدفع ، أي والنزول فيها ، وفي بعض النسخ " إلى المزدلفة " ويجوز عطفه على عرفة أي وباب الدفع من المزدلفة ويؤيده نسخة " ومن المزدلفة إلى منى " .

(18/304)


2628- قوله ( عن هشام بن عروة ) هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام أبو المنذر القرشي الأسدي المدني أحد تابعي المدينة المشهورين المكثرين من الحديث المعدودين في أكابر العلماء وجلة التابعين ، ثقة ثبت حجة أمام فقيه ، رأي ابن عمر ومسح رأسه ودعا له ، وسهل بن سعد وجابر وأنسا ، وروى عن أبيه وعمه عبد الله بن الزبير وأخويه عبد الله وعثمان وامرأته فاطمة بنت المنذر بن الزبير وخلق ، وروى عنه خلق كثير منهم شعبة ومالك بن أنس والسفيانان والحمادان . ولد سنة إحدى وستين ومائة ، ومات ببغداد سنة خمس أو ست وأربعين ومائة ، وله سبع وثمانون سنة ( عن أبيه ) عروة بن الزبير بن العوام الأسدي أحد الفقهاء السبعة وأحد علماء التابعين تقدم ترجمته ( سئل أسامة بن زيد ) ابن حارثة بن شراحيل الكلبي الصحابي المشهور ، حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومولاه وابن حبه زيد بن حارثة تقدم ترجمته ، وخص بالسؤال لأنه كان رديفه - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى المزدلفة ، وزاد في رواية مالك والبخاري وأبي داود وغيرهم " وأنا جالس معه " ولمسلم " سئل أسامة وأنا شاهد أو قال : سألت أسامة بن زيد " ولم يتعرض أحد من الشراح لتسمية السائل ( حين دفع ) أي حين انصرف من عرفة إلى المزدلفة ، سمي دفعا لازدحامهم إذا انصرف فيدفع بعضهم بعضا ( قال ) أي أسامة ( كان يسير العنق ) بفتح المهملة والنون آخره قاف هو السير الذي بين الإبطاء والإسراع ، قال في المشارق : هو سير سهل في سرعة ، وقال القزاز : العنق سير سريع ، وقيل المشي الذي يتحرك به عنق لدابة ، وفي الفائق العنق الخطو الفسيح ، وانتصب على المصدر المؤكد من لفظ الفعل كذا في الفتح ، وقال السيوطي : نصبه على المصدر النوعي كرجعت القهقري . وقال القاري : انتصابه على المصدرية انتصاب القهقري أو الوصفية أي يسير السير العنق ( فإذا وجد فجوة )
نص . متفق عليه .

(18/305)


2629 – (2) وعن ابن عباس ، أنه دفع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة ، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل ، فأشار بسوطه إليهم ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بفتح الفاء وسكون الجيم فواو مفتوحة ، والمكان المتسع بين الشيئين والجمع فجوات بفتحتين وفجاء بكسر الفاء والمد ، ورواه بعض الرواة في الموطأ بلفظ " فرجة " بضم الفاء وسكون الواو وهو بمعنى الفجوة ( نص ) بفتح النون وتشديد الصاد المهلة فعل ماض وفاعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أي أسرع ، قال أبو عبيد : النص تحريك الدابة حتى يستخرج به أقصى ما عندها ، وأصل النص منتهى الأشياء وغايتها ومبلغ أقصاها ، ومنه نصصت الشيء رفعته . قال الشاعر :
-
-
ونص الحديث إلى أهله _ -
-
فإن الوثيقة في نصه ( -
-

(18/306)


أي أرفعه إليهم وأنسبه ، ثم استعمل في ضرب سريع من السير ، وقال هشام بن عروة راوي الحديث كما في رواية البخاري وغيره : النص فوق العنق أي أرفع منه في السرعة . قال النووي : هما نوعان من إسراع السير وفي العنق نوع من الرفق . قال الطبري : وفي هذا دلالة على أن السكينة المأمور بها في الحديث بعده إنما هي من أجل الرفق بالناس ، فإن لم يكن زحام سار كيف شاء ، وذكر العيني عن الطبري أنه قال : الصواب في السير في الإفاضتين جميعا ما صحت به الآثار إلا في وادي محسر فإنه يوضع لصحة الحديث بذلك فلو أوضع أحد في مواضع العنق أو العكس لم يلزمه شيء لإجماع الجميع على ذلك غير أنه يكون مخطئا طريق الصواب . وقال ابن خزيمة : في هذا الحديث دليل على أن الحديث الذي رواه ابن عباس عن أسامة ( عند أبي داود وغيره ) أنه قال : فلما رأيت ناقته رافعة يديها حتى أتى جمعا . محمول على حال الزحام دون غيره ، ذكره الحافظ . وقال ابن عبد البر : ليس في هذا الحديث أكثر من معرفة كيفية السير في الدفع من عرفة إلى المزدلفة وهو مما يلزم أتمة الحاج فمن دونهم فعله لأجل الاستعجال للصلاة لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة أي فيجمع بين المصلحتين من الوقار والسكينة عند الزحمة ومن الإسراع عند عدمها لأجل الصلاة ، فيه أن السلف كانوا يحرصون على السؤال عن كيفية أحواله - صلى الله عليه وسلم - في جميع حركاته وسكونه ليقتدوا به في ذلك ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي المغاري ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 5 : ص 205 ، 210 ) ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحميدي (ج 1 : ص 248 ) والدارمي وأبو داود الطيالسي وابن خزيمة في صحيحة وأبو عوانة وابن جرير والبيهقي (ج 5 : ص 119 ) .

(18/307)


2629- قوله ( دفع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي أفاض معه ( يوم عرفة ) أي من عرفة إلى المزدلفة ( زجرا ) بفتح الزاي وسكون الجيم بعدها راء أي صياحا لحث الإبل وسوقا لها برفع الأصوات ( فأشار بسوطه إليهم ) ليتوجهوا إليه ويسمعوا
وقال : " أيها الناس عليكم بالسكينة ، فإن البر ليس بالإيضاع " . رواه البخاري .
2630 – (3) وعنه ، أن أسامة بن زيد كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى المزدلفة ، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى ، فكلاهما قال : لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/308)


قوله ( عليكم بالسكينة ) أي في السير ، والمراد السير بالرفق وعدم المزاحمة ، يعني لازموا الطمأنينة والرفق وعدم المزاحمة في السير ، وعلل ذلك بقوله ( فإن البر ) أي الخير ( ليس بالإيضاع ) الإيضاع الإسراع وحمل الخيل والركاب على سرعة السير ، يعني الإسراع ليس من البر إذا كثر الناس في الطريق ، فإن الإسراع في مثل هذه الحالة أي عند ازدحام الناس في الطريق يؤذيهم بصدمة الدواب والرجال ، ولا خير في هذا بل الخير في الذهاب على السكون في مثل هذه الحالة . وقال الحافظ : قوله (( فإن البر ليس بالإيضاع )) أي السير السريع ، ويقال هو سير مثل الخبب فبين - صلى الله عليه وسلم - أن تكلف الإسراع في السير ليس من البر أي مما يتقرب به ، ومن هذا أخذ عمر بن عبد العزيز قوله لما خطب بعرفة : ليس السابق من سبق بعيره وفرسه ولكن السابق من غفر له . وقال المهلب : إنما نهاهم عن الإسراع إبقاء عليهم لئلا يجحفوا بأنفسهم مع بعد المسافة . وقيل إنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك أي قوله (( عليكم بالسكينة )) في ذلك الوقت الذي لم يجد فجوة فلا ينافي الحديث السابق . وقال القاري : حاصل ما قال - صلى الله عليه وسلم - أن المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إلى المبرات مطلوبة لكن لا على وجه يجر إلى المكروهات وما يترتب عليه من الأذيات ، فلا تنافي بينه وبين الحديث السابق ( رواه البخاري ) وكذا البيهقي (ج 5 : ص 119) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 251، 269 ، 353 ) وأبو داود والبيهقي بنحوه .

(18/309)


2630- قوله ( وعنه ) أي عن ابن عباس ( أن أسامة بن زيد كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - ) بكسر الراء وسكون الدال وهو الراكب خلف الراكب كالرديف والمرتدف ( ثم أردف الفضل ) أي ابن عباس يعني جعله رديفه ( فكلاهما ) كذا في جميع النسخ من المشكاة ، وفي البخاري (( قال ( أي ابن عباس ) فكلاهما )) أي الفضل بن عباس وأسامة بن زيد ( قال ) الضمير راجع للفظ فإن (( كلا )) مفرد لفظا ومثنى معنى وهو أفصح من أن يقال فكلاهما قالا ، قال تعالى ? كلتا الجنتين آتت أكلها ? (18 : 33) أو المعنى كل واحد منهما قال ( لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة ) أي شرع في رمي الجمرة أو فرغ منه قولان ، ويؤيد الثاني ما وقع في رواية ابن خزيمة كما سيأتي : فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ، يكبر مع كل حصاة ، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة . ويؤيد الأول ما رواه البيهقي بإسناده عن عبد الله قال : (( رمقت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة )) . قال الحافظ : زاد ابن أبي شيبة من طريق علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل في هذا الحديث (( فرماها سبع حصيات يكبر مع كل حصاة )) . قال الحافظ : وفي هذا الحديث يعني حديث ابن عباس الذي نحن في شرحه أن التلبية تستمر إلى رمي الجمرة يوم النحر وبعدها يشرع الحاج في التحلل ، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح أنه كان يقول : التلبية شعار الحج فإن كنت حاجا فلب حتى بدأ حلك وبدء حلك أن ترمي جمرة العقبة . وروى سعيد بن
...............................................................................................

(18/310)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منصور من طريق ابن عباس قال : حججت مع عمر إحدى عشرة حجة وكان يلبي حتى يرمي الجمرة ، وباستمرارها قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وأتباعهم ، وقالت طائفة : يقطع المحرم التلبية إذا دخل الحرم وهو مذهب ابن عمر لكن كان يعاود التلبية إذا خرج من مكة إلى عرفة ، وقالت طائفة : يقطعها إذا راح الموقف ، رواه ابن المنذر وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة عن عائشة وسعد بن أبي وقاص وعلي ، وبه قال مالك وقيده بزوال الشمس يوم عرفة ، وهو قول الأوزاعي والليث ، وعن الحسن البصري مثله لكن قال : إذا صلى الغداة يوم عرفة وهو بمعنى الأول ، وقد روى الطحاوي بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن يزيد قال : حججت مع عبد الله فلما أفاض إلى جمع جعل يلبي فقال رجل : أعرابي هذا ؟ فقال عبد الله : أنسي الناس أم ضلوا ؟ وأشار الطحاوي إلى أن كل من روى عنه ترك التلبية من يوم عرفة أنه تركها للاشتغال بغيرها من الذكر لا على أنها لا تشرع ، وجمع بذلك بين ما اختلف من الآثار ، والله اعلم . واختلفوا أي الأولون : هل يقطع التلبية مع رمي أول حصاة أو عند تمام الرمي ؟ فذهب إلى الأول الجمهور ، وإلى الثاني أحمد وبعض أصحاب الشافعي ، ويدل لهم ما روى ابن خزيمة من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل قال : أفضت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفات فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة ثم قطع التلبية مع آخر حصاة ، قال ابن خزيمة : هذا حديث صحيح مفسر لما أبهم في الروايات الأخرى . وأن المراد بقوله حتى رمى جمرة العقبة أي أتم رميها – انتهى كلام الحافظ . قال الشوكاني : والأمر كما قال ابن خزيمة ، فإن هذه الزيادة مقبولة خارجة من مخرج صحيح غير منافية للمزيد وقبولها متفق عليه – انتهى . قلت : لكن قال البيهقي في السنن الكبرى (ج 5 : ص 137) بعد ذكر رواية جابر بلفظ ((

(18/311)


فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها )) تكبيرة مع كل حصاة كالدلالة على قطعه التلبية بأول حصاة ، وكذا قال في معرفة السنن . قال : وقوله (( يلبي حتى رمى الجمرة )) أراد به حتى أخذ في رمي الجمرة وأما ما في رواية الفضل من الزيادة فإنها غريبة أوردها ابن خزيمة واختارها وليست في الروايات المشهورة عن ابن عباس عن الفضل بن عباس - انتهى . واعترض عليه ابن التركماني فقال : الغريب إذا صح سنده يعمل به . وقد أخرج ابن حزم هذا الحديث في كتاب حجة الوداع بسند جيد من حديث أبي الزبير عن أبي معبد مولى ابن عباس (1) . عن الفضل ، ولفظه (( ولم يزل عليه السلام يلبي حتى أتم رمي جمرة العقبة )) ، وهذا صريح وهو يقوي الرواية التي رواها ابن خزيمة واختارها . ويدل على أنها ليست بغريبة ، والعجب من البيهقي كيف يترك هذا الصريح ويستدل بقوله (( يكبر )) على قطع التلبية لأول حصاة مع أن التكبير لا يمنع التلبية ، إذ الحاج له أن يكبر ويلبي ويهلل ، وقد بين ذلك ابن مسعود بقوله (( فما ترك التلبية حتى رمى الجمرة إلا أن يخلطها بتكبير أو تهليل )) . وقال أبو عمر في التمهيد : قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل النظر والأثر : لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة بأسرها .
متفق عليه .
2631 – (4) وعن ابن عمر ، قال : جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب والعشاء بجمع ، كل واحدة منهما بإقامة ،
__________
(1) كذا وكأنه سقط (( عن ابن عباس )) .

(18/312)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قالوا : وهو ظاهر الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة ، ولم يقل أحد من رواة هذا الحديث (( حتى رمى بعضها )) على أنه قد قال بعضهم في حديث عائشة : ثم قطع التلبية في آخر حصاة . وفي الإشراف لابن المنذر : وروى بعض أصحابنا ممن يقول بظاهر الأخبار خبر ابن عباس ، ثم قال : قطع التلبية مع آخر حصاة – انتهى كلام ابن التركماني . وقال الشنقيطي : الأظهر أنه يقطع التلبية عند الشروع في رمي العقبة وأن قوله (( حتى رمى جمرة العقبة )) يراد به الشروع في رميها لا الانتهاء منه ، ومن القرائن الدالة على ذلك ما ثبت في الروايات الصحيحة من التكبير مع كل حصاة ، فظرف الرمي لا يستغرق غير التكبير مع الحصاة لتتابع رمي الحصيات ، وقال بعد ذكر قول ابن خزيمة المتقدم : وعلى تقدير صحة الزيادة المذكورة لا ينبغي العدول عنها . تنبيه : ما حكى الحافظ وابن عبد البر وغيرهما من الشراح ونقلة المذاهب كالنووي والعيني عن الإمام أحمد من قطع التلبية عند انتهاء الرمي والفراغ منه هي رواية عنه مرجوحة ، لأن عامة فروعه مصرحة بقطعها مع أول حصاة موافقا للجمهور ، ففي نيل المآرب : تسن التلبية من حين الإحرام إلى أول الرمي أي رمي جمرة العقبة – انتهى . وقريب منه ما في الروض المربع . وقال في العدة شرح العمدة : ويقطعها عند أول حصاة يرميها لأنه قد روى في بعض ألفاظ حديث ابن عباس (( فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة قطع عند أول حصاة )) . رواه حنبل في المناسك – انتهى . وفي المغني والشرح الكبير تحت قول الخرقي : ويقطع التلبية عند ابتداء الرمي ، وممن قال يلبي حتى يرمي الجمرة ابن مسعود وابن عباس وميمونة ، وبه قال عطاء وطاوس وسعيد بن جبير والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لرواية الفضل بن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة وكان

(18/313)


ردفيه يومئذ ، وهو أعلم بحاله من غيره ، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على ما خالفه . ويستحب قطع التلبية عند أول حصاة للخبر ، وفي بعض ألفاظه (( حتى رمى جمرة العقبة ، قطع عند أول حصاة )) ، رواه حنبل في المناسك . وهذا بيان يتعين الأخذ به . وفي رواية من روى (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر مع كل حصاة )) دليل على أنه لم يكن يلبي – انتهى مختصرا . ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 214) ورواه هو مرارا وأبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ مختصرا ومطولا وارجع إلى جامع الأصول (ج 4 : ص 88) .
2631 – قوله ( جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب والعشاء بجمع ) أي بالمزدلفة في وقت العشاء ( كل واحدة منهما ) بالرفع على الجملة الحالية وبالنصب على البدلية ( بإقامة ) قال القاري : أي على حدة ، وبه قال زفر ، واختاره الطحاوي وغيره من علمائنا . قلت : ورجحه ابن الهمام وقال الطحاوي بعد اختياره هذا القول : وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف
ولم يسبح بينهما ولا على إثر كل واحدة منهما . رواه البخاري .
2632 – (5) وعن عبد الله بن مسعود ، قال : ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة إلا لميقاتها ، إلا صلاتين : صلاة المغرب والعشاء بجمع ،

(18/314)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومحمد ، وذلك أنهم يذهبون في الجمع بين الصلاتين بمزدلفة إلى أن يجعلوا ذلك بأذان وإقامة واحدة – انتهى . ولم يذكر في حديث ابن عمر هذا الأذان وهو ثابت في حديث جابر وفي حديث ابن مسعود فلا بد من القول به وقد تقدم البسط في ذلك في شرح حديث جابر الطويل ( ولم يسبح بينهما ) أي لم يتنفل بين صلاة المغرب والعشاء ( ولا على إثر كل واحدة منهما ) بكسر الهمزة وسكون المثلثة بمعنى أثر بفتحتين أي ولا عقب كل واحدة منهما ، لا عقب الأولى ولا عقب الثانية ، وهذا تأكيد بالنظر إلى الأولى تأسيس بالنظر إلى الثانية فليتأمل قاله السندي ( رواه البخاري ) وكذا النسائي والبيهقي (ج 5 : ص 120) وأخرج مسلم معناه ، ولذا ذكره الحافظ عبد الغني في عمدته في ما اتفق عليه الشيخان ، فالحديث متفق عليه .

(18/315)


2632 – قوله ( ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة إلا لميقاتها ) أي في وقتها ، وفي رواية (( ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لغير ميقاتها )) ( إلا صلاتين صلاة المغرب ) نصبه على البدلية أو بتقدير أعني أي أعني بهما صلاة المغرب ( والعشاء يجمع ) قال القاري : أي صلاة المغرب في وقت العشاء أي وصلاة الظهر والعصر بعرفة فإنه صلى العصر في وقت الظهر ولعله روى هذا الحديث بمزدلفة ، ولذا اكتفى عن ذكر الظهر والعصر ، فلا بد من تقديرهما أو ترك ذكرهما لظهورهما عند كل أحد ، إذا وقع ذلك الجمع في مجمع عظيم في النهار على رؤوس الأشهاد فلا يحتاج إلى ذكره في الاستشهاد بخلاف جمع المزدلفة ، فإنه بالليل ، فاختص بمعرفته بعض الأصحاب ، والله تعالى اعلم . والحاصل أن في العبارة مسامحة وإلا فلا يصح قوله (( إلا الصلاتين )) المراد بهما المغرب والعشاء سواء اتصل الاستثناء كما هو ظاهر الأداة أو انقطع كما بنى عليه ابن حجر البناء ، فإن صلاة العشاء في ميقاتها المقدر شرعا إجماعا – انتهى كلام القاري . وقال الولي العراقي : قوله (( صلاة المغرب والعشاء بجمع )) أي وكذا بعرفات أيضا في الظهرين كما عند النسائي ( أي في باب الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ) عن ابن مسعود (( ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع وعرفات )) فلم يحفظ راوي هذه الرواية ذكر عرفات وحفظه غيره ، والحافظ حجة على الناسي – انتهى . وحينئذ فالمراد بقوله (( إلا صلاتين )) المغرب بمزدلفة فإنها أخرت والعصر بعرفة فإنها قدمت ، فهاتان الصلاتان قد وقع فيهما التحويل عن وقتي أدائهما المعهودين في غير هذا اليوم حقيقة ثم استطرد بذكر الفجر لأنه متحولا أيضا عن وقته المستحب المعتاد في سائر الأيام وإن كان لم يتحول عن وقته الأصلي . وقال السندي في حاشية النسائي : هذا الحديث من مشكلات الأحاديث وقد

(18/316)


..............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تكلمت عليه في حاشية صحيح البخاري ( في باب من يصلي الفجر بجمع ) والصحيح في معناه أن مراده ما رأيته - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لغير وقتها المعتاد لقصد تحويلها عن وقتها المعتاد وتقريرها في غير وقتها المعتاد لما في صحيح البخاري من روايته رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان . وهذا معنى وجيه ، ويحمل قوله (( قبل ميقاتها )) على هذا على الميقات المعتاد ، ويقال إنه غلس تغليسا شديدا يخالف التغليس المعتاد ، لا أنه صلى قبل أن يطلع الفجر فقد جاء في حديثه وحديث غيره أنه صلى بعد طلوع الفجر ، وعلى هذا المعنى لا يرد شيء سوى الجمع بعرفة ، ولعله كان يرى ذلك للسفر ، والله أعلم – انتهى . واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود هذا على ترك الجمع بين الصلاتين في غير يوم عرفة وجمع ، وأجاب المجوزون بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وقد ثبت الجمع بين الصلاتين من حديث ابن عمر وابن عباس وغيرهم وتقدم في موضعه ما فيه كفاية ، وأيضا فالاستدلال به إنما هو من طريق المفهوم وهم لا يقولون به . وأما من قال به فشرطه أن لا يعارضه منطوق ، وأيضا فالحصر فيه ليس على ظاهره لإجماعهم على مشروعية الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ، وكذا في الفتح . وقال النووي : قد يحتج أصحاب أبي حنيفة بهذا الحديث على منع الجمع بين الصلاتين في السفر ، لأن ابن مسعود من ملازمي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أخبر أنه ما رآه يجمع إلا في هذه الليلة ، ومذهب الجمهور جواز الجمع في جميع الأسفار المباحة التي يجوز فيها القصر . والجواب عن هذا الحديث أنه مفهوم وهم لا يقولون به ونحن نقول بالمفهوم ولكن إذا عارضه منطوق قدمناه على المفهوم ، وقد تظاهرت

(18/317)


الأحاديث الصحيحة بجواز الجمع ثم هو مترك الظاهر بالإجماع في صلاتي الظهر والعصر بعرفات – انتهى . وقال السندي في حاشية البخاري (ج 1 : ص 201) : قد استدل به من ينفي جمع السفر كعلمائنا الحنفية ، ورده النووي بأنه مفهوم وهم لا يقولون به ونحن نقول به إذا لم يعارضه منطوق كما ها هنا وتعقبه العيني فقال : لا نسلم أنهم لا يقولون بالمفهوم وإنما لا يقولون بالمفهوم المخالف – انتهى . قلت : ( قائله السندي ) وهذا عجيب منهما فإن استدلال الحنفية بصريح النفي الذي هو منطوق لا بالإثبات الذي يدل عليه الاستثناء بالمفهوم ، ولو كان بالإثبات من باب المفهوم المخالف بالاتفاق فلم يكن لقول العيني وجه ، بقي أن الاستدلال به فرع تصور معناه ومعناه ها هنا لا يخلو عن خفاء ، إذ ظاهره يفيد أنه صلى الفجر قبل وقته ، وهو مخالف للإجماع وقد جاء خلافه في روايات حديث ابن مسعود أيضا وفي حديث جابر . أجيب بأن المراد أنه صلى قبل الوقت المعتاد بأن غلس ، ورد بأن هذا يقتضي أن يكون المعتاد الإسفار وهو خلاف ما يفيده تتبع الأحاديث الصحاح الواردة في صلاة الفجر ، أجيب بأن المراد التغليس الشديد ، والحاصل أنه صلى يومئذ أول ما طلع الفجر والمعتاد أنه كان يصلي بعد ذلك بشيء ، فيرد أنها صارت حينئذ لوقتها فكيف يصح عدها لغير وقتها حتى تستثني من قوله : " ما رأيت " إلخ . أجيب بأن المراد بقوله لغير وقتها المعتاد ، قلت : فيلزم من
وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها . متفق عليه .
2633 - (6) وعن ابن عباس ، قال : أنا ممن قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة في ضعفة أهله .

(18/318)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اعتبار العموم فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - ما صلى صلاة في غير الوقت المعتاد أبدا لا بتقديم شيء ولا بتأخيره ، لا سفرا ولا حضرا سوى هاتين الصلاتين بل كان دائما يصلي في وقت واحد ، وهذا خلاف ما يعرفه كل أحد بالبديهة وخلاف ما يفيده تتبع الأحاديث وخلاف ما أول به علماؤنا جمع السفر من الجمع فعلا ، فإنه لا يكون إلا بتأخير الصلاة الأولي إلى آخر الوقت ، فلزم كونها في الوقت الغير المعتاد ، ثم هو مشكل بجمع عرفة أيضا ، وحينئذ فلا بد من القول بخصوص هذا الكلام بذلك السفر مثلا . ويبقى بعد جمع عرفة فيقال لعله ما حضر ذلك الجمع فما رأى . فلا ينافي قوله ما رأيت ، أو يقال لعله ما رأى صلاة خارجة عن الوقت المعتاد غير هاتين الصلاتين فأخبر حسب ما رأى ولا اعتراض عليه ولا حجة للقائلين بنفي الجمع ، والأحسن منه ما يشير إليه كلام البعض . ثم ذكر السندي ما تقدم من كلامه وتوجيهه في حاشيته على النسائي ( وصلى الفجر يومئذ ) أي بمزدلفة ( قبل ميقاتها ) أي قبل وقتها المعتاد فعلها فيه في الحضر لا أنه أوقعها قبل طلوع الفجر كما يتبادر من ظاهر اللفظ ، ووقتها المعتاد أنه كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه المؤذن بطلوع الفجر صلى ركعتي الفجر في بيته ثم خرج فصلى الصبح ، وأما بمزدلفة فكان الناس مجتمعين والفجر نصب أعينهم فبادر بالصلاة أول ما بزغ حتى أن بعضهم كان لم يتبين له طلوعه . قال النووي : المراد به قبل وقتها المعتاد لا قبل طلوع الفجر ، لأن ذلك ليس بجائز بإجماع المسلمين والغرض أن استحباب الصلاة في أول الوقت في هذا اليوم أشد وآكد ، ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في غير هذا اليوم يتأخر عن أول طلوع الفجر إلى أن يأتيه بلال ، وفي هذا اليوم لم يتأخر لكثرة المناسك فيه فيحتاج إلى المبالغة في التبكير ليتسع له الوقت . قال الحافظ : ولا حجة فيه لمن منع التغليس

(18/319)


بصلاة الصبح لأنه ثبت عن عائشة وغيرها كما تقدم في المواقيت التغليس بها ، بل المراد هنا أنه كان إذا أتاه المؤذن بطلوع الفجر صلى ركعتي الفجر في بيته ثم خرج فصلى الصبح مع ذلك بغلس ، وأما بمزدلفة فكان الناس مجتمعين والفجر نصب أعينهم فبادر بالصلاة أول ما بزغ حتى أن بعضهم كان لم يتبين له طلوعه وهو بين في رواية إسرائيل ( عند البخاري ) حيث قال : ثم صلى الفجر حين طلع الفجر قائل يقول : طلع الفجر وقائل يقول : لم يطلع ( متفق عليه ) . وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص 384 ، 426) وأبو داود والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 124) .
2633- قوله ( أنا ممن قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي قدمه ( ليلة المزدلفة ) أي إلى منى ( في ضعفة أهله ) بفتح الضاد المعجمة والعين المهملة جمع ضعيف أي في الضعفاء من أهله وهم النساء والصبيان والخدم والمشائخ العاجزون وأصحاب الأمراض ، وقال ابن حزم : الضعفة هم الصبيان والنساء فقط . والحديث يرد عليه لأنه أعم من ذلك . قال العيني : يدخل فيه المشائخ
متفق عليه .
2634 – (7) وعن الفضل بن عباس ، وكان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم -

(18/320)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العاجزون لأنه روى عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم ضعفة بني هاشم وصبيانهم بليل ، رواه ابن حبان في الثقات وقوله " ضعفة بني هاشم " أعم من النساء والصبيان والمشائخ العاجزين وأصحاب الأمراض لأن العلة خوف الزحام عليهم – انتهى . قلت : ويؤيده رواية الطحاوي عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس ليلة المزدلفة : اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصوا الصبح بمنى وليرموا جمرة العقبة قبل أن تصيبهم دفعة الناس ، قال : فكان عطاء يفعله بعد ما كبر وضعف ، ولأبي عوانة من طريق أبي الزبير عن ابن عباس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم العيال والضعفة إلى منى من المزدلفة . والحديث دليل على جواز الإفاضة من مزدلفة إلى منى في الليل قبل طلوع الفجر وقبل الوقوف بالمشعر الحرام للنساء والصبيان والضعفة من الرجال ولكن لا يجزئ في أول إجماعا . قال ابن قدامة : لا بأس بتقديم الضعفة والنساء أي بعد نصف الليل ، وممن كان يقدم ضعفة أهله عبد الرحمن بن عوف وعائشة وبه قال عطاء والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ، ولا نعلم فيه مخالفا ، ولأن فيه رفقا بهم ودفعا لمشقة الزحام عنهم وإقتداء بفعل نبيهم - صلى الله عليه وسلم - – انتهى . وأعلم أن ها هنا مسألتان خلافيتان اشتبهت إحداهما بالأخرى على شراح الحديث ونقلة المذاهب ، إحداهما الوقوف بالمزدلفة بعد طلوع الفجر من صبيحة يوم النحر ، والثانية المبيت بها ليلة النحر وربما أطلقت شراح الحديث وأصحاب الفروع إحداهما على الأخرى ولا يخفى ذلك على من طالع شرحي البخاري للحافظ والعيني وشرحي مسلم للنووي والأبي ، وشرحي الموطأ للباجي والزرقاني والنيل للشوكاني والمغني لابن قدامة وشرح الهداية لابن الهمام والبداية لابن رشد وشرح المهذب للنووي وغير ذلك من كتب شروح الحديث والفقه والمناسك ، وحاصل

(18/321)


مسالك الأئمة الأربعة وأتباعهم أن المبيت بالمزدلفة إلى ما بعد النصف الأول واجب عن الشافعي على المعتمد وأحمد وهذا لمن أدركه قبل النصف وإلا فالحضور ساعة في النصف الأخير كاف ، وعند مالك النزول بقدر حط الرحال واجب في أي وقت من الليل كان . وعند الحنفية المبيت سنة مؤكدة وهو قول للشافعي وركن عن السبكي وابن المنذر وأبي عبد الرحمن من الشافعية ، وأما الوقوف بعد الفجر فواجب عند الحنفية وسنة عند الأئمة الثلاثة وفريضة عند ابن الماجشون وابن العربي من المالكية وإن شئت الوقوف على تفاصيل مذاهبهم مع الأدلة فارجع إلى الفتح للحافط والعمدة للعيني والمغني وأضواء البيان للشنقيطي ( متفق عليه ) . وأخرجه أيضا أحمد مرارا وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم .
2634- قوله ( وعنه ) أي عن ابن عباس أي عبد الله فإنه المراد به عند الإطلاق ( عن الفضل بن عباس ) أي أخيه شقيقه ( وكان ) أي الفضل ( رديف النبي ) وفي بعض النسخ " رديف رسول الله . كما في مسلم أي من المزدلفة إلى منى
أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا : " عليكم بالسكينة " . وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا ، وهو من منى قال : " عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة ، وقال : لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى الجمرة . رواه مسلم .
2635 – (8) وعن جابر ، قال : أفاض النبي - صلى الله عليه وسلم - من جمع ، وعليه السكينة ، وأمرهم بالسكينة ، وأوضع في وادي محسر ،

(18/322)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والجملة معترضة ( أنه ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قال في عيشة عرفة ) أي بناء على ما سمعه وهو غير رديفه ( وغداة جمع ) أي من مزدلفة يعني حال كونه رديفا له ( حين دفعوا ) أي انصرفوا من عرفة والمزدلفة ( عليكم بالسكينة ) مقول القول ، وهذا إرشاد إلى الأدب والسنة في السير من عرفة ومن مزدلفة ويلحق به سائر مواضع الزحام ( وهو ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( كاف ناقته ) بتشديد الفاء أي كان يكفها ويمنعها من الإسراع حين الزحام (حتى دخل محسرا ) بتشديد السين المكسورة أي يحرك دابته فيه ( وهو ) أي المحسر ( من منى ) فيه أن وادي محسر من منى وقيل هو من المزدلفة ، والتحقيق أنه كالبرزخ بين المزدلفة ومنى ، ومعنى قوله " هو من منى " أي موضع قريب من منى في آخر المزدلفة ( عليكم بحصى الخذف ) بخاء معجمة مفتوحة ثم ذال معجمة ساكنة بوزن الضرب تقول : خذفت الحصاة ونحوها خذفا من باب ضرب ، رميتها بطرفي الإبهام والسبابة . والمراد الحصى الصغار نحو الباقلا ، وقد تقدم بيان ذلك في شرح حديث جابر الطويل ( الذي يرمي به الجمرة ) بالرفع على أنه نائب الفاعل ، والمعنى يلزمكم أن ترفعوا حصى لترموا بها الجمرة ، ثم اختلفوا في أنه يرفعها من الطريق وهو ظاهر الحديث ، وجاء في بعض الروايات رفعها من المزدلفة وهذا منقول عن ابن عمر وسعيد بن جبير والمختار أنه يجوز أن يرفع من أي مكان شاء إلا الجمرات التي رمى بها ، ويجوز بها أيضا لكن الأفضل أن لا يرمى بها ، ثم اختلفوا في أن ترفع سبع حصيات لرمى يوم النحر فقط . ونص الشافعي على استحباب ذلك ، أو سبعين حصاة ، سبعة ليوم النحر وثلاثا وستين لما بعده من الأيام وظاهر إفراد الجمرة ينظر إلى القول الأول ، والله أعلم . وارجع لمزيد التفصيل إلى المغنى (ج 3 : ص 424) ( وقال ) أي الفضل ( حتى رمى الجمرة ) أي جمرة العقبة يوم النحر وعند ذلك

(18/323)


قطع التلبية . والحديث يدل على أنه مستحب لمن بلغ وادي محسر إن كان راكبا يحرك دابته ، وإن كان ماشيا أسرع في مشيه ( رواه مسلم ) . وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 210) والنسائي والبيهقي (ج5 : ص 127) .
2635 – قوله ( من جمع ) أي من المزدلفة ( وعليه السكينة ) جملة حالية ( وأمرهم ) أي الناس ( وأوضع ) أي أسرع السير بإبله ، يقال وضع البعير يضع وضعا وأوضعه راكبه إيضاعا إذا حمله على سرعة السير ( في وادي محسر ) أي قدر رمية حجر . قال الشوكاني : حديث جابر هذا يدل على أنه يشرع الإسراع في وادي محسر . قال الأزرقي : وهو
وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف . وقال : " لعلي لا أراكم بعد عامي هذا " . لم أجد هذا الحديث في الصحيحين إلا في جامع الترمذي مع تقديم وتأخير .
( الفصل الثاني )
2636 – (9) عن محمد بن قيس بن مخرمة ، قال : خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال :

(18/324)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خمس مائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعا ، وإنما شرع الإسراع فيه لأن العرب كانوا يقفون فيه ويذكرون مفاخر آبائهم فاستحب الشارع مخالفتهم ، وقيل في حكمة الإسراع غير ذلك كما سبق ( بمثل حصى الخذف ) تقدم ضبطه وتفسيره ( لعلي لا أراكم بعد عامي هذا ) لعل ها هنا للإشفاق ، وفيه تحريض على أخذ المناسك منه وحفظها وتبلغيها عنه ، قال المظهر : لعل للترجي وقد تستعمل بمعنى الظن وعسى ، كذا في المرقاة ، وفي رواية مسلم " لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " . قال الزرقاني : لعلي أي ظن ويحتمل أن لعل للتحقيق كما يقع في كلام الله تعالى كثيرا . وقال النووي : فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته - صلى الله عليه وسلم - وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه وانتهاز الفرصة من ملازمته وتعلم أمور الدين ، وبهذا سميت حجة الوداع ( لم أجد هذا الحديث في الصحيحين ) أي في أحاديثهما حتى يشمل جامع الأصول للجزري ، والجمع بين الصحيحين للحميدي فافهم . وهذا اعتراض على صاحب المصابيح في إيراده في الصحاح أي الفصل الأول ( إلا في جامع الترمذي ) استثناء منقطع أي لكن وجدته فيه ( مع تقديم وتأخير ) هذا أيضا متضمن لاعتراض آخر . قلت : قال الترمذي : حدثنا محمود بن غيلان نا وكيع وبشر بن السري وأبو نعيم قالوا : نا سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضع في وادي محسر ، وزاد فيه بشر " وأفاض من جمع وعليه السكينة وأمرهم بالسكينة " وزاد فيه أبو نعيم " وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف وقال : لعلي لا أراكم بعد عامي هذا " . قال الترمذي : حديث جابر حديث حسن صحيح . ورواه ابن ماجة والبيهقي (ج 5 : ص 125) من طريق الثوري عن أبي الزبير عن جابر بنحو رواية الترمذي ، وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بلفظ " أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه السكينة

(18/325)


وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف وأوضع في وادي محسر " وأخرج أحمد أيضا ومسلم وأبو داود ( في رواية أبي الحسن ابن العبد وأبي بكر بن داسة ) والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 130) كلهم من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول : " لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلى لا أحج بعد حجتي هذه " . وقد ذكره المصنف في باب رمي الجمار .
2636- قوله ( عن محمد بن قيس بن مخرمة ) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء ، ابن المطلب بن عبد مناف بن قصي القرشي المطلبي المكي . قال الحافظ في التقريب : يقال له رؤية ، وقد وثقه أبو داود وغيره ، وقال
" إن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم قبل أن تغرب ، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس حين تكون كأنها عمائم الرجال في وجوههم ، وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس ، وندفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس ، هدينا مخالف لهدي عبدة الأوثان والشرك " .

(18/326)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في تهذيب التهذيب : روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا وعن أبي هريرة وعائشة وعن أمه عن عائشة ، روى عنه ابنه حكيم وعبد الله بن كثير بن المطلب ومحمد بن عجلان ومحمد بن إسحاق وابن جريج وغيرهم . قال أبو داود : ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات وذكر العسكري أنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير . وقال في الإصابة في ترجمته : ذكره العسكري وقال : لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكره ابن أبي داود والباوردي في الصحابة ، وجزم البغوي وابن مندة وغيرهما بأن حديثه مرسل يعني فهو من التابعين . وروى أيضا عن أبيه وعمر ، وروى أيضا عن أمه وعن عائشة – انتهى . وذكره المصنف في التابعين ، فالحديث مرسل ( إن أهل الجاهلية ) أي غير قريش ( كانوا يدفعون ) أي يرجعون ( في وجوههم ) الجار متعلق بتكون وجملة التشبيه معترضة ( قبل أن تغرب ) بضم الراء ، ظرف ليدفعون أو بدل من حين ، نقل الطيبي عن القاضي شبه ما يقع من ضوء الشمس على الوجه طرفي النهار حين ما دنت الشمس من الأفق بالعمامة لأنه يلمع في وجهه لمعان بياض العمامة – انتهى . وقيل المراد كأن الشمس حين غاب نصفها عمامة على رأس الجبل ، لأن شكل العمامة شكل نصف الكرة فإن قلت : قوله " في وجوههم " يدل على ما ذكره الطيبي قلت : نعم إن كان متعلقا بقوله تكون الشمس وليس بمتعين بل يحتمل أن يتعلق بعمائم الرجال ظرفا مستقرا . كذا في اللمعات ، وقال القاري : قال بعض الشراح قوله " حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم " أي حين تكون الشمس في وجوههم كأنها عمائم الرجال ، وذلك بأن يقع في الجهة التي تحاذي وجوههم ، وإنما لم يقل " على رؤوسهم " لأن في مواجهة الشمس وقت الغروب إنما يقع ضوئها على ما يقابلها ولم يتعد إلى ما فوقه من الرأس لانحطاطها ، وكذا وقت الطلوع ، وإنما شبهها بعمائم الرجال لأن الإنسان إذا كان بين

(18/327)


الشعاب والأودية لم يصبه من شعاع الشمس إلا الشيء اليسير الذي يلمع في جنبيه لمعان بياض العمامة والظل يستر بقية وجهه وبدنه ، فالناظر إليه يجد ضوء الشمس في وجهه مثل كور العمامة فوق الجبين ، والإضافة في " عمائم " لمزيد التوضيح كما قاله الطيبي أو للاحتراز عن نساء الأعراب فإن على رؤوسهن ما يشبه العمائم كما قاله ابن حجر – انتهى كلام القاري . ( ومن المزدلقة ) أي يرجعون ( وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس ) فيكره النفر قبل ذلك عند بعضهم ، والأكثرون على أن الجمع بين الليل والنهار واجب ( وندفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس ) أي عند الإسفار فيكره المكث بها إلى طلوع الشمس اتفاقا ( هدينا ) أي سيرتنا وطريقتنا ( والشرك ) أي أهله ، والجملة استينافية فيها معنى
رواه .......
2637 – (10) وعن ابن عباس ، قال : قدمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب

(18/328)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التعليل وفي المصابيح " لهدي أهل الأوثان والشرك " ( رواه ) كذا في الأصل بياض هنا ، وفي نسخة صحيحة كتب في الهامش " رواه البيهقي " أي في شعب الإيمان ، ذكره الجزري ، ولفظ البيهقي " خطبنا " وساقه بنحوه ، كذا في المرقاة ، قلت : روى البيهقي في السنن (ج 5 : ص 125) من طريق عبد الوارث بن سعيد عن ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإن أهل الشرك والأوثان – الحديث . قال البيهقي : ورواه عبد الله بن إدريس عن ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم عرفة فقال : هذا يوم الحج الأكبر ثم ذكر ما بعده بمعناه مرسلا – انتهى . والحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 3 : ص 255) من رواية المسور بن مخرمة قال : رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله رجال الصحيح . وقال الحافظ في تخريج الهداية (ص 194) بعد ذكره عن المسور بن مخرمة أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي من طريقه ثم من طريق ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عنه ، وهو عند الشافعي ثم عند البيهقي من هذا الوجه ليس فيه المسور ، وذكره صاحب المهذب ( أبو إسحاق الشيرازي ) عن المسور ، وخطأه ابن دقيق العيد فقال : إنما هو محمد بن قيس بن مخرمة كذا قال ، وكأنه لم يقف على الرواية الموصولة ( عند الحاكم والبيهقي ) وروى ابن أبي شيبة عن ابن أبي زائدة عن ابن جريج أخبرت عن محمد بن قيس بن مخرمة نحوه ، وهذا يقتضي انقطاع طريقي الحاكم انتهى كلام الحافظ وهو ملخص ما ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 67) وحديث المسور بن مخرمة لم أجده في المستدرك في مظانه ، وأما حديث محمد بن قيس بن مخرمة فرواه الشافعي في الأم (ج 2 : ص 180) عن مسلم بن خالد عن ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة بلفظ أن النبي - صلى

(18/329)


الله عليه وسلم - قال : كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير . فأخر الله تعالى هذه وقدم هذه يعني قدم المزدلفة قبل أن تطلع الشمس وأخر عرفة إلى أن تغيب الشمس – انتهى . وذكره الشيخ عبد الرحمن الساعاتي في بدائع المنن (ج 2 : ص 57 ، 58) بلفظ المشكاة .
2637 – قوله ( قدمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي أمرنا بالتقدم إلى منى أو أرسلنا قدامه ( أغيلمة بني عبد المطلب ) أي صبيانهم ، وفيه تغليب الصبيان على النسوان ، وهو بدل من الضمير في قدمنا ، وقال القاري : نصبه على الاختصاص أو على إضمار أعني أو عطف بيان من ضمير قدمنا . قال الخطابي : أغيملة تصغير غلمة ، وكان القياس غليمة لكنهم ردوه إلى أفعلة فقالوا : أغيملة أي كأنهم صغروا أغلمة وإن لم يقولوه كما قالوا أصيبية في تصغير الصبية . وقال القاري : هو تصغير
على حمرات ، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول : " أبيني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " .

(18/330)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شاذ لأن قياس غلمة – بكسر الغين – غليمة ، وقيل : هو تصغير أغلمة جمع غلام قياسا وإن لم يستعمل ، والمستعمل غلمة في القلة والغلمان في الكسرة . وقال الجزري في جامع الأصول : أغيلمة تصغير أغلمة قياسا ولم تجيء ، كما أن أصيبية تصغير أصبية ولم تستعمل ، إنما المستعمل صبية وغلمة . وقال في النهاية : تصغير أغلمة بسكون الغين وكسر اللام جمع غلام وهو جائز في القياس ولم يرد في جمع الغلام أغلمة ، وإنما ورد غلمة بكسر الغين المعجمة ( على حمرات ) بضمتين جمع حمر جمع تصحيح وحمر جمع حمار وهي حال من المفعول أي راكبين على حمرات ، وهذا يدل على أن الحج على الحمار غير مكروه في السفر القريب ( فجعل ) أي فشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - ( يلطح ) بفتح الياء التحتية والطاء المهملة بعدها حاء مهملة أي يضرب ( أفخاذنا ) جمع فخذ ، قال الجزري : اللطح هو الضرب الخفيف أي اللين ببطن الكف أي يضرب بيده أفخاذنا ضربا خفيفا . وإنما فعل ذلك ملاطفة لهم ( أبيني ) بضم الهمز وفتح الباء الموحدة وسكون ياء التصغير بعدها نون مكسورة ثم ياء مشددة مفتوحة . قال السندي : قيل هو تصغير أبنى كأعمى وأعيمى وهو اسم مفرد يدل على الجمع أو جمع ابن مقصورا كما جاء ممدودا ، بقى أن القياس حنئذ عند الإضافة إلى ياء المتكلم أبيناي فكأنه رد الألف إلى الواو على خلاف القياس ، ثم قلب الواو ياء وأدغم الياء في الياء وكسر ما قبله ، ويحتمل أن يكون مقصور الآخر لا مشددة فالأمر أظهر ، والله تعالى أعلم . وقال الجزري في النهاية : قد اختلف في صيغته ومعناه فقيل : إنه تصغير أبنى كأعمى وأعيمى ، وهو اسم مفرد يدل على الجمع ، وقيل : إن ابنا يجمع على أبني وأبناء مقصورا وممدودا ، وقيل : هو تصغير ابن ، وفيه نظر . وقال أبو عبيدة : هو تصغير بني جمع ابن مضافا إلى النفس أي ياء المتكلم فهذا يوجب أن يكون اللفظ في الحديث

(18/331)


بنيي بوزن سريجي – انتهى . وقال القاري : هو تصغير ابن مضاف إلى النفس أو بعد جمعه جمع السلامة إلا أنه خلاف القياس ، لأن همزته همزة وصل ، والقاعدة أن التصغير يرد الشيء إلى أصله مثل الجمع ، ومنه قوله تعالى ? المال والبنون ? فأصل ابن بنو فهو من الأسماء المحذوفة العجز ، فالظاهر أن يقال بني إلا أنه كان يلتبس بالمفرد فزيد فيه الهمزة – انتهى . قال : والمراد يا أبنائي أو يا بني ( لا ترموا الجمرة ) أي جمرة العقبة يوم النحر ( حتى تطلع الشمس ) هذا يدل على أن وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر من بعد طلوع الشمس وإن كان الرامي ممن أبيح له التقدم إلى منى وأذن له في عدم المبيت بمزدلفة . قال الشوكاني : والأدلة تدل على أن وقت الرمي من بعد طلوع الشمس لمن كان لا رخصة له ، ومن كان له رخصة كالنساء وغيرهن من الضعفة جاز قبل ذلك ولكنه لا يجزئ في أول ليلة النحر إجماعا – انتهى . اعلم أن العلماء اختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه رمي جمرة العقبة من للضعفة وغيرهم مع إجماعهم على أن من رماها بعد طلوع الشمس أجزأه ذلك ، فذهب الشافعي وأحمد وعطاء وأسماء بنت أبي بكر وعكرمة وخالد وطاوس والشعبي إلى أن أول الوقت
...............................................................................................

(18/332)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي يجزئ فيه رمي جمرة العقبة هو ابتداء النصف الأخير من ليلة النحر ، واستدل لهم بحديث عائشة الذي ذكره المصنف بعد هذا وهو حديث صحيح ، ويعتضد هذا بما رواه الخلال من طريق سليمان بن أبي داود عن هشام بن عروة عن أبيه قال أخبرتني أم سلمة قالت : قدمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة ، قالت : فرميت بليل ثم مضيت إلى مكة فصليت بها الصبح ثم رجعت إلى منى ، كذا ذكره ابن القيم . وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن أول وقته من بعد طلوع الفجر ، وأول الوقت المستحب بعد طلوع الشمس وما بعد الزوال إلى الغروب وقت الجواز بلا إساءة ، فإن رمى قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر جاز وإن رماها قبل الفجر أعادها ، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة واستدل لذلك بما رواه الطحاوي بسنده عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر نساءه وثقله صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد ولا يرموا الجمرة إلا مصبحين ، وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه في الثقل وقال : لا ترموا الجمار حتى تصبحوا ، وذهب النخعي ومجاهد والثوري وأبو ثور إلى أن أول وقته يبتدئ من بعد طلوع الشمس فلا يجوز رميها عندهم لا بعد طلوع الشمس ، واستدلوا لذلك بحديث ابن عباس الذي نحن في شرحه . قالوا : إذا كان من رخص له منع أن يرمي قبل طلوع الشمس فمن لم يرخص له أولى ، وأجاب الحنفية عن هذا بأنه محمول على بيان الوقت المستحب والفضيلة ، وما رواه الطحاوي فيه بيان وقت الجواز ، وأما حديث عائشة الآتي في قصة أم سلمة فأجابوا عنه بأنه ليس فيه دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام علم ذلك وأقرها عليه ولا أنه أمرها أن ترمي ليلا ، ويمكن أن يراد بقوله " فرمت قبل الفجر " أي قبل صلاة الفجر ، وقيل : إن حديث أم سلمة رخصة خاصة لها ، وذهب بعض أهل العلم إلى أن أول وقته للضعفة من طلوع

(18/333)


الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس وهو اختيار ابن القيم واستدل لذلك بحديث أسماء عند الشيخين أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلقة فقامت تصلي ، فصلت ساعة ، ثم قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ قلت : لا . فصلت ساعة ثم قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ قلت : نعم . قالت : فارتحلوا . فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها ، فقلت لها : يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا . قالت : يا بني إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن – انتهى . فهذا الحديث صريح أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الشمس بل بغلس ، وقد صرحت بأنه - صلى الله عليه وسلم - أذن في ذلك للظغن ، ومفهومه أنه لم يأذن للأقوياء الذكور ، واستدل لذلك أيضا بحديث ابن عمر عند الشيخين أيضا أنه كان يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله عز وجل ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع ، فمنهم من يقدم لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة . وكان ابن عمر يقول : أرخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – انتهى . وهذا يدل دلالة واضحة على الترخيص للضعفة في رمي جمرة العقبة بعد الصبح قبل طلوع الشمس كما ترى . ومفهومه أنه لم يرخص لغيرهم في ذلك . قال
...............................................................................................

(18/334)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشنقيطي : إن الذي يقتضي الدليل رجحانه في هذه المسألة أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح قبل طلوع الشمس لحديث أسماء وابن عمر المتفق عليهما الصريحين في الترخيص لهم في ذلك ، وأما رميهم أعني الضعفة والنساء قبل طلوع الفجر فهو محل نظر فحديث عائشة عند أبي داود ( الآتي ) يقتضي جوازه وحديث ابن عباس عند أصحاب السنن ( يعني الذي نحن في شرحه ) يقتضي منعه . وقد جمعت بينهما جماعة من أهل العلم فجعلوا لرمي جمرة العقبة وقتين : وقت فضيلة ووقت جواز ، وحملوا حديث ابن عباس على وقت الفضيلة وحديث عائشة على وقت الجواز . وله وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى . أما الذكور الأقوياء فلم يرد في الكتاب ولا السنة دليل يدل على جواز رميهم جمرة العقبة قبل طلوع الشمس لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في ذلك كلها في الضعفة وليس شيء منها في الأقوياء الذكور ، وقد قدمنا أن قياس القوي على الضعيف الذي رخص له من أجل ضعفه قياس مع وجود الفارق وهو مردود كما هو مقرر في الأصول ، لأن الضعف الموجود في الأصل المقيس عليه الذي هو علة الترخيص المذكور ليس موجودا في الفرع المقيس الذي هو الذكر القوي كما ترى – انتهى . ثم اعلم أن وقت رمي جمرة العقبة يمتد إلى آخر نهار يوم النحر فمن رماها قبل الغروب من يوم النحر فقد رماها في وقت لها . قال ابن عبد البر : أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها وإن لم يكن ذلك مستحبا لها – انتهى . فإن فات يوم النحر ولم يرمها فقال بعض أهل العلم يرميها ليلا ، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم رمها ليلا أداء لا قضاء ، وهو أحد وجهين مشهورين للشافعية، حكاهما صاحب التقريب والشيخ أبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين وآخرون . وروى مالك عن

(18/335)


نافع أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة فتخلفت هي وصفية حتى أتتا من بعد أن غربت الشمس من يوم النحر فأمرهما عبد الله بن عمر أن ترميا ولم ير عليهما شيئا – انتهى . وهذا يدل على أن ابن عمر يرى أن رميها في الليل أداء لمن كان له عذر كصفية وابنة أخيها . وممن قال برميها ليلا الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأصحابهم . وفي الموطأ ( في آخر باب الرخصة في رمي الجمار ) قال يحيى : سئل مالك عمن نسي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي قال : ليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار كما يصلي الصلاة إذا نسيها ثم ذكرها ليلا أو نهارا ، فإن كان ذلك بعد ما صدر وهو بمكة أو بعدما يخرج منها فعليه الهدي واجب . وقال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق : ولو أخر الرمي إلى الليل رماها ولا شيء عليه لأن الليل تبع لليوم في مثل هذا كما في الوقوف بعرفة فإن أخره إلى الغد رماها وعليه دم . – انتهى . وقال بعض أهل العلم : إن غربت الشمس من يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة لم يرمها في الليل ولكن يؤخر رميها حتى تزول الشمس من الغد . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 429) : فإن أخرها إلى الليل لم يرمها حتى تزول الشمس ، واستدل لجواز الرمي ليلا بما رواه البخاري عن ابن
رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة .

(18/336)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عباس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسئل يوم النحر بمنى فيقول : لا حرج ، فسأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح ، قال : اذبح ولا حرج . وقال : رميت بعد ما أمسيت فقال : لا حرج – انتهى . قالوا : قد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن من رمى بعد ما أمسى لا حرج عليه ، واسم المساء يصدق بجزء من الليل ، وأجاب القائلون بعدم جواز الرمي ليلا عن هذا الاستدلال بأن مراد السائل بقوله بعد ما أمسيت يعني به بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل . والدليل على ذلك أن حديث ابن عباس المذكور فيه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسئل يوم النحر بمنى – الحديث . فتصريحه بقوله " يوم النحر " يدل على أن السؤال وقع في النهار والرمي بعد الإمساء وقع في النهار لأن المساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل ، قال الحافظ في شرح الحديث المذكور : قوله " رميت بعد ما أمسيت " أي بعد دخول المساء وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام ، فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل – انتهى . وقال ابن قدامة : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إرم ولا حرج " إنما كان في النهار لأنه سأله في يوم النحر ولا يكون اليوم إلا قبل مغيب الشمس – انتهى . قالوا : فالحديث صريح في أن المراد بالإمساء فيه آخر النهار بعد الزوال لا الليل ، وإذن فلا حجة فيه للرمي ليلا . وأجاب القائلون بجواز الرمي ليلا عن هذا بأجوبة ، منها أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا حرج " بعد قول السائل " رميت بعد ما أمسيت " يشمل لفظه نفى الحرج عمن رمى بعد ما أمسى ، وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل ، وسبب ورود الحديث المذكور خاص بالنهار ، وقد ثبت في الأصول أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ( رواه أبو داود

(18/337)


والنسائي وابن ماجة ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 234 ، 311) والطحاوي (ج 1 : ص 413) وابن حبان والبيهقي (ج 5 : ص 132) كلهم من طريق الحسن بن عبد الله العرني عن ابن عباس ، والحسن العرني ثقة ولكنه لم يسمع من ابن عباس كما قال الإمام أحمد والبخاري وابن معين بل قال أبو حاتم لم يدركه . قال المنذري : الحسن العرني بجلى كوفي ثقة ، واحتج به مسلم ، واستشهد به البخاري غير أن حديث ابن عباس منقطع . وقال الإمام أحمد : الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس شيئا – انتهى . لكن رواه البخاري في التاريخ الصغير ( ص 136 ) وأحمد والترمذي والطحاوي من طريق مقسم عن ابن عباس بمعناه وزيادة ونقص ، وصححه الترمذي وغيره . وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث الباب : هو حديث حسن أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي وابن حبان من طريق الحسن العرني ، وهو بضم المهملة وفتح الراء بعدها نون ، عن ابن عباس ، وأخرجه الترمذي والطحاوي من طرق عن الحكم عن مقسم عنه ، وأخرجه أبو داود من طريق حبيب عن عطاء ، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا ، ومن ثم صححه الترمذي وابن حبان .
2638 – (11) وعن عائشة ، قالت : أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت ، وكان ذلك اليوم ، اليوم الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها . رواه أبو داود .
2639- (12) وعن ابن عباس ، قال : يلبي المقيم أو المعتمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/338)


2639- قوله ( أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة ) أي ومن معها من الضعفة والباء زائدة للتأكيد ( ليلة النحر ) أي من مزدلفة إلى منى ( فرمت الجمرة قبل الفجر ) أي طلوع الصبح . وفيه دليل على جواز الرمي قبل الفجر للنساء لأن الظاهر أنه لا يخفى عليه - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقرره . قال الأمير اليماني : وقد عارضه حديث ابن عباس المتقدم ، وجمع بينهما بأنه يجوز الرمي قبل الفجر لمن له عذر ، وكان ابن عباس أي وغيره من الصبيان والغلمة لا عذر له . وقال الشوكاني : قوله " قبل الفجر " هذا مختص بالنساء فلا يصلح للتمسك به على جواز الرمي لغيرهن من هذا الوقت لورود الأدلة القاضية بخلاف ذلك ، ولكنه يجوز لمن بعث معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن كما في حديث أسماء وحديث ابن عباس عند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر فرموا الجمرة مع الفجر . وقد تقدم ما أجاب به الحنفية عن حديث عائشة هذا ( ثم مضت ) أي ذهبت من منى ( فأفاضت ) أي طافت طواف الإفاضة ثم رجعت إلى منى ( وكان ذلك اليوم ) أي اليوم الذي فعلت فيه ما ذكر من الرمي والطواف ( اليوم ) بالنصب على الخبرية ) ( الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها ) يعني عند أم سلمة أي في نوبتها من القسم ، كأنه إشارة إلى سبب استعجالها في الرمي والإفاضة ، وقوله " عندها " كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في المصابيح ، وفي أبي داود " تعني عندها " وهو من تفسير أبي داود أو أحد رواته ( رواه أبو داود ) وسكت عنه هو والمنذري . وقال الحافظ في بلوغ المرام " إسناده على شرط مسلم " وكذا قال النووي في شرح المهذب . وقال الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 73 ) بعد أن ساق حديث أبي داود هذا عن عائشة : ورواه البيهقي في سننه وقال : إسناده صحيح لا غبار عليه – انتهى . قلت : حديث عائشة هذا أخرجه البيهقي في باب من أجاز رميها

(18/339)


بعد نصف الليل (ج 5 : ص 133) ولكن لم أجد فيه قوله إسناده صحيح لا غبار عليه . وقال الشوكاني : رجاله رجال الصحيح .
2639- قوله ( يلبي المقيم ) أي بمكة من المعتمرين ( أو المعتمر ) أي من القادمين ، فأو للتنويع ، ولا يبعد أن يراد به المعتمر مطلقا ، فأو شك من الراوي ، قاله القاري . قلت : قوله " يلبي المقيم أو المعتمر " كذا وقع في جميع نسخ المشكاة ، وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج 3 : ص 438) والمحب الطبري في القرى (ص 153) ومحمد بن محمد بن سليمان الفاسي المغربي في جمع الفوائد (ج 1 : ص 462) وليس في المصابيح لفظ المقيم ولا في السنن لأبي داود والبيهقي والأم للشافعي ولم يذكره أيضا الزيلعي في نصب الراية والمجد في المنتقي . والظاهر أن المصنف قلد في ذلك
حتى يستلم الحجر .

(18/340)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جامع الأصول وهو من أوهام الجزري ( حتى يستلم الحجر ) وفي المصابيح " حتى يفتتح الطواف " ويروى " حتى يستلم الحجر " وللبيهقي من طريق الشافعي عن مسلم بن خالد وسعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : يلبي المعتمر حتى يفتتح الطواف مستلما أو غير مستلم . قال شارح المصابيح : قوله حتى يفتتح الطواف أي يلبي الذي أحرم بالعمرة من وقت إحرامه إلى أن يبتدئ بالطواف ثم يترك التلبية – انتهى . ورواه الدارقطني بلفظ " لا يمسك المعتمر عن التلبية حتى يفتتح الطواف " ولا فرق بين رواية أبي داود وبين رواية الشافعي والدارقطني إلا في التعبير دون الواقع ، لأن ابتداء الطواف من استلام الحجر الأسود ، ولذلك قال الطبري بعد تخرج الروايتين : هذا قول أكثر أهل العلم أن المعتمر يلبي حتى يفتتح الطواف . قال ابن عباس : يلبي المعتمر إلى أن يفتتح الطواف مستلما وغير مستلم ، وبه قال الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق – انتهى . قال الشوكاني : قوله " حتى يستلم الحجر " ظاهره أنه يلبي في حال دخوله المسجد وبعد رؤية البيت وفي حال مشيه حتى يشرع في الاستلام ويستثنى منه الأوقات التي فيها دعاء مخصوص ، وقد ذهب إلى ما دل عليه الحديث من ترك التلبية عند الشروع في الاستلام أبو حنفية والشافعي وهو قول ابن عباس وأحمد – انتهى . وقال الترمذي بعد رواية الحديث مرفوعا " أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر " ما لفظه : والعمل عليه عند أكثر أهل العلم . قالوا : " لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الحجر " وقال بعضهم إذا انتهى إلى بيوت مكة قطع التلبية ، والعمل على حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبه يقول سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق – انتهى . وقد ظهر بهذا كله أن المسألة خلافية . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 401) : يقطع المعتمر التلبية إذا استلم الركن . وبهذا قال ابن عباس وعطاء وعمرو

(18/341)


بن ميمون وطاوس والنخعي والثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي . وقال ابن عمر وعروة والحسن : يقطعها إذا دخل الحرم ، وقال سعيد بن المسيب : يقطعها حين يرى عرش مكة . وحكي عن مالك إن أحرم من الميقات قطع التلبية إذا وصل إلى الحرم ، وإن أحرم بها من أدنى الحل قطع التلبية حين يرى البيت ، ولنا ما روي عن ابن عباس يرفع الحديث : كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر ، . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر ولم يزل يلبي حتى استلم الحجر . ( أخرجه أحمد ج 2 : ص 180) والبيهقي (ج 5 : ص 105) قلت : ما حكي عن مالك هو رواية الموطأ والمختصر ، والمعروف في مذهب المالكية أن معتمر الجعرانة أو التنعيم يلبي إلى دخول بيوت مكة . وفي المدونة قال ابن القاسم ، قال مالك : والمحرم بالعمرة من ميقاته يقطع التلبية إذا دخل الحرم ثم لا يعود إليها ، والذي يحرم من غير ميقاته مثل الجعرانة والتنعيم يقطع إذا دخل بيوت مكة . قال : فقلت له : أو المسجد ، قال : أو المسجد كل ذلك واسع – انتهى . وقال ابن حزم : والذي نقول به
رواه أبو داود ، وقال : وروي موقوفا على ابن عباس .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/342)


فهو قول ابن مسعود أنه لا يقطعها حتى يتم جميع عمل العمرة . وقال الشافعي بعد ما روى عن عبد الله بن مسعود أنه لبي في عمرة على الصفا بعد ما طاف بالبيت : وليسوا يقولون ( أي أهل العراق ) بهذا ولا أحد من الناس علمناه ، وإنما اختلف الناس فمنهم من يقول : يقطع التلبية في العمرة إذا دخل الحرم . وهو قول ابن عمر . ومنهم من يقول : إذا استلم الركن . وهو قول ابن عباس . وبه نقول ، ويقولون هم أيضا : فأما بعد الطواف بالبيت فلا يلبي أحد ، أورده إلزاما للعراقيين فيما خالفوا فيه عبد الله بن مسعود كذا في القرى (ص 154) ( رواه أبو داود ) في باب : متى يقطع المعتمر التلبية . ( وقال وروي ) على بناء المجهول ( موقوفا على ابن عباس ) قلت : الحديث رواه أبو داود مرفوعا حيث قال : حدثنا مسدد نا هشيم عن ابن أبي ليلي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر ، ثم قال أبو داود : رواه عبد الملك بن أبي سليمان وهمام عن عطاء عن ابن عباس موقوفا . وقد تبين بهذا أن الاقتصار المخل إنما هو في نقل صاحب المشكاة ، فكان حقه أن يقول أولا عن ابن عباس مرفوعا . وقال المنذري في مختصر السنن وأخرجه الترمذي وقال : صحيح ، هذا آخر كلامه . وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي وتكلم فيه جماعة من الأئمة ( أي من جهة حفظه ) انتهى كلام المنذري . قلت : حديث ابن عباس المرفوع عند الترمذي هو حديث فعلي بلفظ أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر ، وحديث ابن عباس المرفوع عند أبي داود قولي بلفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر فإذن هما حديثان من رواية ابن عباس قولي عند أبي داود وفعلي عند الترمذي ، ولهذا الاختلاف جعلهما المجد في المنتقي حديثين ، قال الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 115) : ولم ينصف المنذري في عزوه هذا الحديث للترمذي ، فإن لفظ

(18/343)


الترمذي من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظ أبي داود من قوله فهما حديثان ولكنه قلد أصحاب الأطراف إذ جعلوهما حديثا واحدا ، وهذا مما لا ينكر عليهم ، وقد بينا وجه ذلك في حديث " ابدؤا بما بدأ الله به ، (ج 3 : ص 54) قال : وروى الواقدي في كتاب المغازي حدثنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبي يعني في عمرة القضية حتى استلم الركن – انتهى . قلت : مدار الروايتين المرفوعتين عند الترمذي وأبي داود على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي الكوفي القاضي وهو صدوق سيء الحفظ جدا . قال البيهقي بعد رواية الحديث الفعلي المرفوع من طريق زهير والحسن بن صالح عن ابن أبي ليلي عن عطاء عن ابن عباس ما لفظه : رفعه خطأ وكان ابن أبي ليلى هذا كثير الوهم ، وخاصة إذا روى عن عطاء فيخطئ كثيرا ، ضعفه أهل النقل مع كبر محله في الفقه ، وقد روى عن المثني بن الصباح عن عطاء مرفوعا ، وإسناده أضعف مما ذكرنا . ثم روى من طريق الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عمر كل ذلك لا يقطع التلبية حتى يستلم الحجر ، وقد قيل عن الحجاج
( الفصل الثالث )
2640 - (13) عن يعقوب بن عاصم بن عروة ، أنه سمع الشريد يقول : أفضت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعا .

(18/344)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا . والحجاج بن أرطاة لا يحتج به . ثم روى البيهقي عن أبي بكرة مرفوعا أنه خرج معه - صلى الله عليه وسلم - في بعض عمره فما قطع التلبية حتى استلم الحجر . ثم قال : إسناده ضعيف – انتهى . ومن المعلوم أن الروايات الضعيفة تكتسب قوة بالاجتماع ، والضعف اليسير ينجبر بكثرة الطرق ويصير الحديث حسنا قابلا للاحتجاج ، ولذلك صحح الترمذي حديث ابن عباس واحتج به الشافعي وغيره من الأئمة . قال القاري : ومناسبة الحديث لعنوان الباب استطراد لحكم قطع التلبية للمعتمر كما ذكر فيما تقدم وقت قطع تلبية المحرم بالحج .

(18/345)


2640 – قوله ( عن يعقوب بن عاصم بن عروة ) أي بن مسعود الثقفي أخو نافع بن عاصم المكي روى عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو والشريد بن سويد وغيرهم ، وعنه إبراهيم بن ميسرة ويعلى بن عطاء والنعمان بن سالم وآخرون . ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الحافظ في التقريب : إنه مقبول من الثالثة أي من الطبقة الوسطى من التابعين ( أنه ) أي يعقوب ( سمع الشريد ) بوزن الطويل ، وهو شريد بن سويد الثقفي وقيل إنه من حضر موت ولكن عداده في ثقيف لأنهم أخواله ، روى عنه ابنه عمرو بن الشريد ويعقوب بن عاصم وغيرهما . قال ابن السكن : له صحبة حديثه في أهل الحجاز ، سكن الطائف ، والأكثر أنه الثقفي ، ويقال إنه حضرمي حالف ثقيفا وتزوج آمنة بنت أبي العاص بن أمية . وقيل كان اسمه مالكا فسمي الشريد لأنه شرد من المغيرة بن شعبة لما قتل رفقته الثقفيين ، كذا في الإصابة . وقال الجزري : قيل إن الشريد اسمه مالك قتل قتيلا من قومه فلحق بمكة فحالف بني حطيط بن جشم بن ثقيف ، ثم وفد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم وبايعه بيعة الرضوان وسماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشريد – انتهى . وروى مسلم وغيره من طريق عمرو بن الشريد عن أبيه قال : استنشدني النبي - صلى الله عليه وسلم - شعر أمية بن أبي الصلت . وفي رواية : أنه أنشد النبي - صلى الله عليه وسلم - من شعر أمية بن أبي الصلت مائة قافية فقال : كاد يسلم ، يعني أمية ، والله أعلم ( أفضت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي رجعت من عرفات إلي المزدلفة ( فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعا ) أي المزدلفة ، وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينزل لحاجة في ذهابه من عرفات إلى المزدلفة ، ويشكل عليه ما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن أسامة قال : دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ، وفي رواية (( فلما جاء الشعب أناخ راحلته ثم ذهب إلي الغائط

(18/346)


ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء )) . وفي رواية " توضأ وضوء خفيفا ، قلت له الصلاة ، فقال : الصلاة أمامك فركب . فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلي المغرب " الحديث . قال الطيبي : قوله " ما مست قدماه الأرض حتى أتي جمعا " عبارة عن الركوب من عرفة إلى الجمع يعني
رواه أبو داود .
2641 – (14) وعن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم أن الحجاج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فما يرد عليه أنه عليه الصلاة والسلام نزل فبال فتوضأ – انتهى . وحاصله أن الشريد بالغ في بيان ركوبه - صلى الله عليه وسلم - في السير من عرفة إلى الجمع بأنه قطع تلك المسافة راكبا ولم يمش على الرجلين في تلك المسافة ، وليس معناه أنه لم ينزل عن الناقة فلا يعارض هو حديث أسامة . وقال في عون المعبود : حديث الشريد يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينزل لحاجة بين عرفات والمزدلفة ، وحديث أسامة يعارض ذلك لكن يرجع حديث أسامة على حديث الشريد لأنه المثبت أي والمثبت مقدم على النافي كما تقرر في موضعه ، وكان أسامة رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو أعلم بحاله ولم ير الشريد نزوله - صلى الله عليه وسلم - ، فلذا نفاه على علمه . وقال المحب الطبري بعد ذكر حديث الشريد : وما رواه أسامة أثبت فإنه كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبر الشريد عما علمه ولم يبلغه ذلك – انتهى . هذا . وقد اعترض صاحب بذل المجهود على جواب العون فقال بعد ذكر توجيه الطيبي : وأما الجواب بترجيح رواية أسامة كما فعله صاحب العون بأن أسامة كان رديفه - صلى الله عليه وسلم - فبعيد ، فأنه وقع في حديث الشريد أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا سبيل لترجيح أحدهما على الآخر . قال صاحب الأوجز : كذا أفاده الشيخ في البذل . قلت : جواب العون وكذا المحب الطبري مطابق للأصول ، فإن حديث الشريد ظاهر بل صريح في نفي النزول على الأرض

(18/347)


، وحديث أسامة صريح في النزول وقضاء الحاجة والوضوء وهو أقوي سندا وأثبت ، فلا بعد في تقديمه وترجيحه ، وأما توجيه الطيبي فلا يخلو عن التكلف ومخالفة الظاهر ، وكون الشريد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإفاضته معه لا يستلزم أن يعلم جميع أحواله - صلى الله عليه وسلم - في مسيره إلى المزدلفة على أنه قد قال أحمد بعد رواية الحديث عن روح ، حيث قال روح : وقفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات : أملاه من كتابه يعنى بخلاف قوله أفضت ، فإنه رواه من حفظه ، ومن المعلوم أن رواية الكتاب أقوي وأثبت من رواية الحفظ ( رواه أبو داود ) عن محمد بن المثني عن روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق عن إبراهيم بن ميسرة عن يعقرب بن عاصم بن عروة أنه سمع الشريد ، إلخ . وكذا رواه أحمد (ج 4 : ص 389 ، 390) عن روح ، وهذا إسناد رجاله ثقات . والحديث ذكره صاحب العون على الهامش بعد حديث أسامة المذكور في باب الدفع من عرفة وقال : لم يوجد هذا الحديث إلا في نسخة واحدة – انتهى . ونقل عن المزي أنه قال في الأطراف : هذا الحديث في رواية أبي الحسن بن العبد وأبي بكر بن داسة عن أبي داود ولم يذكره أبو القاسم – انتهى . ولذلك لم يذكره المنذري في مختصر السنن ، وذكره الجزري في جامع الأصول (ج 4 : ص 76 ) والنابلسي في ذخائر المواريث (ج 1 : ص 268) ولم ينبها على ذلك .
2641- قوله ( وعن ابن شهاب ) أي الزهري ( أخبرني سالم ) أي ابن عبد الله بن عمر ( أن الحجاج ) بفتح
ابن يوسف عام نزل بابن الزبير سأل عبد الله : كيف نصنع في الموقف يوم عرفة ؟ فقال سالم : إن كنت تريد السنة ، فهجر بالصلاة يوم عرفة . فقال عبد الله بن عمر : صدق إنهم كانوا يجمعون بين الظهر

(18/348)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحاء ، مبالغة الحاج بمعنى الآتي بالحجة ( ابن يوسف ) أي ابن أبي عقيل الثقفي الأمير الشهير الظالم المبير . قال الحافظ في التقريب : وقع ذكره وكلامه في الصحيحين وغيرهما وليس بأهل أن يروى عنه ولي إمره العراق عشرين سنة ومات سنة خمس وتسعين . وقال في تهذيب التهذيب : ولد سنة (45 ) أو بعدها بيسير ونشأ بالطائف وكان أبوه من شيعة بني أمية وحضر مع مروان حروبه ، ونشأ ابنه مؤدب كتاب ثم لحق بعبد الملك بن مروان وحضر معه قتل مصعب بن الزبير ثم انتدب لقتال عبد الله بن الزبير بمكة فجهزه أميرا على الجيش فحضر مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق إلى أن قتل ابن الزبير ( سنة 73 ) وقال جماعة : إنه دس على ابن عمر من سمه في زج رمح . وقد وقع بعض ذلك في صحيح البخاري ، وولاه عبد الملك الحرمين مدة ثم استقدمه فولاه الكوفة وجمع له العراقين ( وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ) فسار بالناس سيرة جائرة واستمر في الولاية نحوا من عشرين سنة ، روى الترمذي في الفتن من جامعه عن هشام بن حسان القردوسي البصري قال : أحصوا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألف قتيل . قال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كل امة بخبيثها وجئنا بالحجاج غلبناهم ، وكفره جماعة ، منهم سعيد بن جبير والنخعي ومجاهد والشعبي وعصم بن أبي النجود وغيرهم وقالت له أسماء بنت أبي بكر : أنت المبير الذي أخبرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومات بواسط في شوال سنة ( 95 ) وعمره خمسون سنة . وقيل : أنه لم يعش بعد قتل سعيد بن جبير إلا يسيرا ، ذكر قصة موته المؤلف في ترجمة سعيد بن جبير في حرف السين من إكماله ( عام نزل ) أي بجيش كثير ( بابن الزبير ) أي لقتاله ، وهو عبد الله بن الزبير ، وكان نزول الحجاج في سنة ثلاث وسبعين . وقال القاري : قوله عام نزل بابن الزبير " أي سنة قاتل فيها مع عبد الله بن الزبير الخليفة بمكة والعراقين

(18/349)


وغيرهما ما عدا نحو الشام حتى فر من معه وبقي صابرا مجاهدا بنفسه إلى أن ظفروا به فقتلوه وصلبوه ، ثم أمر عبد الملك الحجاج تلك السنة على الحاج وأمره أن يقتدي في جميع أحواله نسكه بأقوال عبد الله بن عمر وأفعاله وأن يسأله ولا يخالفه ، فحينئذ ( سأل ) أي الحجاج ( عبد الله ) أي ابن عمر ، وهو أبو سالم الراوي ( كيف نصنع في الموقف يوم عرفة ؟ ) أي في صلاة الظهر والعصر والوقوف في ذلك اليوم ، هل نقدمهما على الوقوف أو نوسطهما فيه أو نؤخرهما عنه ؟ ( فقال سالم ) أي ابن عبد الله ، ففيه تجريد أو نقل بالمعني وإلا فحق العبارة أن يقول " فقلت " ( إن كنت تريد السنة ) أي متابعة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فهجر ) أمر من التهجير ، أي صل بالهاجرة وهي شدة الحر ( بالصلاة ) أي الظهر والعصر ، قال في النهاية : التهجير التبكير في كل شيء ، فالمعنى صل صلاة الظهر والعصر جمعا أول وقت الظهر ( صدق ) أي سالم ( إنهم ) بكسر الهمزة ، أي إن الصحابة ( كانوا يجمعون بين الظهر
والعصر في السنة . فقلت لسالم : أفعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال سالم : وهل يتبعون ذلك إلا سنته . رواه البخاري .

(18/350)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والعصر في السنة ) بضم السين المهملة وتشديد النون ، أي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ابن عمر فهم من قول ولده سالم " فهجر بالصلاة " أي الظهر والعصر معا ، فأجاب بذلك فطابق كلام ولده ، قال الطيبي : قوله " في السنة " في محل النصب على الحال من فاعل يجمعون أي متوغلين في السنة ، متمسكين بها ، قاله تعريضا بالحجاج ، وقيل في السنة أي لأجل السنة وإتباعها . ( فقلت لسالم ) قائله ابن شهاب ( أفعل ذلك ) الهمزة فيه للاستفهام ( هل يتبعون ) كذا في جميع نسخ المشكاه بمثناة تحتية ثم فوقية ، وفي صحيح البخاري " تتبعون " أي بمثناة فوقية في أوله . قال الحافظ : بتشديد المثناة من فوق وكسر الموحدة بعدها مهملة كذا للأكثر من الإتباع ، وللكشميهني " تبتغون " بسكون الموحدة وفتح المثناة بعدها غين معجمة من الابتغاء وهو الطلب ( ذلك ) كذا في جميع نسخ المشكاة ، وفي صحيح البخاري " في ذلك " أي بزيادة " في " قال العيني والحافظ : وفي رواية الحموي بحذف كلمة " في " وهي مقدرة ويروى " بذلك " أي بالموحدة بدل " في " أي في ذلك الفعل . وقال الكرماني : أي في ذلك الجمع أو في التهجير ( إلا سنته ) قال الطيبي : قوله " هل يتبعون ذلك ؟ " أي في ذلك الجمع إلا سنته أو لا يتبعون التهجير في الجمع لشيء إلا لسنته ، فنصب (( سنة )) على نزع الخافض . وفي الحديث فتوى التلميذ بحضرة أستاذه ومعلمه عند السلطان وغيره ، وفيه تعليم الفاجر السنن لمنفعة الناس ، وفيه أن التوجه إلى المسجد الذي بعرفة حين تزول الشمس وتعجيل الرواح للإمام للجمع بن الظهر والعصر بعرفة في أول وقت الظهر سنة . ( رواه البخاري ) في باب الجمع بين الصلاتين بعرفة معلقا مجزوما حيث قال : وقال الليث : حدثني عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرني سالم أن الحجاج بن يوسف ، إلخ . قال الحافظ : وصله الإسماعيلي من طريق يحيى بن بكير وأبي صالح

(18/351)


جميعا عن الليث – انتهى . وأخرجه البيهقي (ج 5 : ص 114) من طريق الإسماعيلي .
(6) باب رمي الجمار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( باب رمي الجمار ) هكذا بوب مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه وأبو داود في سننه . قال الحافظ : أي وقت رميها أو حكم الرمي . قال القسطلاني : واحد الجمار جمرة وهي في الأصل النار المتقدة ، والحصاة ، وواحدة جمرات المناسك ، وهي المرادة ها هنا ، وهي ثلث : الجمرة الأولى والوسطى والعقبة يرمين بالجمار ، قاله في القاموس . وقال الشهاب القرافي من المالكية : الجمار اسم للحصى لا للمكان ، والجمرة اسم للحصاة ، وإنما سمي الموضع جمرة باسم ما جاوره وهو اجتماع الحصى فيه ، وقال الحافظ : الجمرة اسم لمجتمع الحصى ، سميت بذلك لاجتماع الناس بها . يقال تجمر بنوا فلان إذا اجتمعوا ، وقيل إن العرب تسمي الحصى الصغار جمارا فسميت تسمية الشيء باسم لازمه . وقيل لأن آدم أو إبراهيم لما عرض له إبليس فحصبه ، جمر بين يديه أي أسرع فسميت بذلك – انتهى . وقال ابن نجيم : الجمار هي الصغار من الحجارة جمع جمرة ، وبها سموا المواضع التي ترمى جمارا وجمرات لما بينهما من الملابسة ، وقيل لتجمع ما هنالك من الحصى ، من تجمر القوم إذا اجتمعوا – انتهى . وقال في اللمعات : الجمار الأحجار الصغار ، ومنه سمي جمار الحج للحصى التي ترمى بها . وأما موضع الجمار بمنى فيسمى جمرة لأنها ترمى بالجمار أو لأنه موضع مجتمع حصى ترمى ، والجمر يجيء بمعنى الجمع كثيرا أو من أجمر بمعنى أسرع – انتهى . هذا وقد بسط الكلام في ذلك الشنقيطي في أضواء البيان (ج 5 : ص 298 ) فراجعه . قال النووي في مناسكه قال الشافعي : الجمرة مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى فمن أصاب مجتمع الحصى بالرمي أجزأه ، ومن أصاب سائل الحصى الذي ليس بمجتمعه لم يجزه ، والمراد مجتمع الحصى في موضعه المعروف الذي كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - فلو حول

(18/352)


ورمى الناس في غيره واجتمع الحصى لم يجزه ، وقال البجيرمي : لو أزيل العلم الذي هو البناء في وسط الجمرة فإنه يكفي الرمي إلى محله بلا شك ، لأن العلم لم يكن موجودا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد رمى هو وأصحابه إلى الجمرة ، إلى آخر ما قال . وفي الغنية : قال في النخبة محل الرمي هو الموضع الذي عليه الشاخص وما حوله لا الشاخص ، ومثله في البحر . قلت : اختلفوا في مصداق الجمرة فقال الشافعية : الجمرة مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى ولا الشاخص ولا موضع الشاخص ، لكن هذا مخالف لما تقدم عن البجيرمي ، ويؤيده ما في روضة المحتاجين إذ قال : الثالث من الشرائط قصد المرمى ، فلو رمى في الهواء فوقع في المرمى لم يعتد به ، والمرمى هو مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى ، فلو قصد الشاخص أو حائط جمرة العقبة لم يكف وإن وقع في المرمى كما يفعله كثير من الناس . قال المحب الطبري : وهو الأظهر عندي . ويحتمل أنه يجزئه لأنه حصل فيه بفعله مع قصد الرمي الواجب . والثاني أقرب كما قاله الزركشي وهو المعتمد . ولا يقال يلزم عليه أنه لو رمى إلى غير المرمى فوقع في المرمى يجزئ ، وقد صرحوا بخلافه لأنا نقول فرق ظاهر بين الرمي إلى غير المرمى وبين الرمي إلى الشاخص الذي في وسط المرمى سيما والشاخص المذكور حادث لم يكن في زمنه - صلى الله عليه وسلم - . ولذا لو أزيل كفى الرمي إلى محله بلا شك – انتهى . وقال المالكية : الجمرة اسم للبناء وما تحته من موضع الحصباء على المعتمد ، وقيل إن الجمرة اسم للمكان الذي يجتمع فيه الحصى . وقال
...............................................................................................

(18/353)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحنيفة : ليس الشاخص محل الرمي لكن مع ذلك لما يكفي الوقوع قريب الجمرة ، فلو وقع على أحد جوانب الشاخص أي أطراف الميل أجزأه للقرب ، ولو وقع على قبة الشاخص ولم ينزل عنها لا يجزئه للبعد . وأما عند الحنابلة فقال ابن جاسر في نور الظلام : المرمى هو مجتمع الحصى لا نفس الشاخص . قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه : المرمى الذي تترتب عليه الأحكام بقولهم (( يعتبر حصول كل حصاة في المرمى )) ، هو الأرض المحيطة بالميل المبني ، فلو طرح الحصاة في رأس البناء لم يعتد بها لأنها لم تحصل في المرمى – انتهى ملخصا . قال الشيخ ابن جاسر : إذا طرح الحصاة في رأس البناء كما يفعله كثير من الحجاج فتدحرجت في المرمى المحوط بالبناء في الجمرات الثلاث فإنها تجزئه ، أما إذا بقيت على رأس البناء فإنها لا تجزئه فيما يظهر لي والله أعلم . وقال ابن قدامة : ولا يجزئه الرمي إلا أن يقع الحصى في المرمى ، فإن وقع دونه لم يجزئه في قولهم جميعا ، لأنه مأمور بالرمي ولم يرم ، وهذا قول أصحاب الرأي ، إلى آخر ما قال . اعلم أن الكلام في رمي الجمار على ما قال صاحب العناية وغيره في أكثر من اثني عشر موضعا أحدها الوقت وهو يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، والثاني موضع الرمي وهو بطن الوادي والثالث في محل المرمى إليه وهو ثلاث جمرات ، والرابع في كمية الحصيات وهي سبعة عند كل جمرة ، والخامس في مقدار الحصاة ، وهو أن يكون مثل حصى الخذف ، والسادس في كيفية الرمي بأن يكون مثل الخاذف ويأخذ الحصى بطرف سبابته وإبهامه ، والسابع في صفة الرامي بأن يكون راكبا أو ماشيا ، والثامن في موضع وقوع الحصيات ، والتاسع في الموضع الذي يأخذ منه الحجر ، والعاشر فيما يرمى به وهو أن يكون من جنس الأرض ( عند الحنفية ) والحادي عشر أن يرمي في اليوم الأول جمرة العقبة لا غير ، وفي بقية الأيام يرمى الجمار كلها . والثاني عشر حكم

(18/354)


الرمي . والثالث عشر حكم التكبير عند الرمي . والرابع عشر تفريق الحصيات ، والخامس عشر الوقوف بعد الرمي للدعاء وغير ذلك . وأكثر هذه المسائل خلافية ، سيأتي بيان بعضها في شرح أحاديث هذا الباب وفي باب خطبة يوم النحر ورمي أيام التشريق . أما حكم الرمي فجمهور العلماء على أن رمي جمرة العقبة يوم النحر وكذا رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق الثلاثة واجب يجبر بدم ، وخالف عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك الجمهور فقال : إن رمي جمرة العقبة يوم النحر ركن لا حج لمن تركه كغيرها من الأركان . واحتج الجمهور بالقياس على الرمي في أيام التشريق . واحتج ابن الماجشون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها وقال : لتأخذوا عني مناسككم ، ولا يخف ما في هذا الاستدلال . وقال الحافظ : قد اختلف فيه أي في حكم الرمي ، فالجمهور على أنه واجب يجبر تركه بدم ، وعند المالكية سنة مؤكدة فيجبر ، وعندهم رواية أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه ، ومقابله قول بعضهم أنها إنما تشرع حفظا للتكبير ، فإن تركه وكبر أجزاه ، حكاه ابن جرير عن عائشة وغيرها – انتهى . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 491 ) : من ترك الرمي من غير عذر فعليه دم قال أحمد : أعجب إلي إذا ترك الأيام كلها كان عليه دم ، وفي ترك جمرة واحدة
( الفصل الأول )
2642 – (1) عن جابر ، قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر ،

(18/355)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دم أيضا ، نص عليه أحمد ، وبهذا قال عطاء والشافعي وأصحاب الرأي ، وحكى عن مالك أن عليه في جمرة أو الجمرات كلها بدنة . وقال الحسن : من نسي جمرة واحدة يتصدق على مسكين . ولنا قول ابن عباس : من ترك شيئا من مناسكه فعليه دم ، وإن ترك أقل من جمرة فالظاهر عن أحمد أنه لا شيء في حصاة ولا في حصاتين ، وعنه : أنه يجب الرمي بسبع ، فإن ترك شيئا من ذلك تصدق بشيء أي شيء كان ، وعنه : أن في كل حصاة دما ، وهو مذهب مالك والليث ، وعنه في الثلاثة دم ، وهو مذهب الشافعي وفي ما دون ذلك في كل حصاة مد . وعنه : درهم ، وعنه : نصف درهم – انتهى . وسيأتي مزيد الكلام على هذا في شرح حديث عبد الله بن مسعود من هذا الباب .

(18/356)


2642 – قوله ( رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر ) هذا يدل على أن رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا أفضل من رميها راجلا وماشيا ، وحكى النووي في شرح مسلم عن الشافعي وموافقيه أنه يستحب لمن وصل راكبا أن يرمي راكبا ولو رمى ماشيا جاز ، ومن وصلها ماشيا فيرميها ماشيا . قال : وهذا في يوم النحر ، وأما اليومان الأولان من أيام التشريق فالسنة أن يرمي فيها الجمرات الثلاثة ماشيا ، وفي اليوم الثالث يرمي راكبا . وكذا قال في مناسكه . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 428) : ويرميها راكبا أو راجلا كيف ما شاء ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها على راحلته ، رواه جابر وابن عمر وأم أبي الأحوص وغيرهم . قال جابر : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر والحديث . رواه مسلم . وقال نافع : كان ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر ، وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيا ذاهبا وراجعا . رواه أحمد في المسند ، وفي هذا بيان للفرق بين هذه الجمرة وغيرها ، ولأن رمى هذه الجمرة مما يستحب البداية به في هذا اليوم عند قدومه ، ولا يسن عندها وقوف ، ولو سن له المشي إليها لشغله النزول عن البداية بها والتعجيل إليه بخلاف سائرها – انتهى . وقال الدسوقي من المالكية : يندب أن يرمي جمرة العقبة حين وصوله على الحالة التي وصلها من ركوب أو مشي فلا يصبر حتى ينزل أو يركب ، لأن فيه عدم الاستعجال برميها – انتهى . وقال الباجي : قد قال مالك في المبسوط : الشأن يوم النحر أن يرمي جمرة العقبة راكبا كما يأتي الناس على دوابهم ، وأما في غير يوم النحر فكان يقول يرمي ماشيا ، والأصل في ذلك أنه يرمي جمرة العقبة متصلا بوروده ، وأما في سائر الأيام فإن المشي إليها تواضع ويحتاج إلى الدعاء عند الجمرتين . فلو ركب الناس لضاق بهم المكان – انتهى . وقال العيني : قال أصحابنا الحنفية : كل رمي

(18/357)


بعده رمي كالجمرتين الأوليين في الأيام الثلاثة يرمى ماشيا . وإن لم يكن بعده رمي كرمي جمرة العقبة يوم النحر والجمرة الأخيرة في الأيام الثلاثة فيرمي راكبا ، هذا هو الفضيلة ، وأما الجواز فثابت كيفما كان – انتهى . وقال ابن عابدين : والضابط عندنا أن كل رمي يقف بعده فإنه يرميه ماشيا وهو كل رمي بعده رمي كما مر ، وما لا فلا ، ثم
ويقول : " لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " . رواه مسلم .

(18/358)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا التفصيل قول أبي يوسف وله حكاية مشهورة ذكرها الطحطاوي وغيره ، وهو مختار كثير من المشائخ كصاحب الهداية والكافي والبدائع وغيرهم . وأما قولهما فذكر في البحر أن الأفضل الركوب في الكل على ما في الخانية ، والمشي في الكل على ما في الظهيرية ، وقال : فتحصل أن في المسألة ثلاثة أقوال . ورجح الشيخ كمال الدين بن الهمام ما في الظهيرية بأن أدائها ماشيا أقرب إلى التواضع والخشوع وخصوصا في هذا الزمان ، فإن عامة المسلمين مشاة في جميع الرمي فلا يؤمن من الأذى بالركوب بينهم بالزحمة ، ورميه عليه الصلاة والسلام راكبا إنما هو ليظهر فعله ليقتدى به كطوافه راكبا – انتهى . وفي المرقاة : وروى البيهقي وابن عبد البر أنه عليه الصلاة والسلام رمى أيام التشريق ماشيا . زاد البيهقي : فإن صح هذا كان أولى بالإتباع ، وقال غيره : قد صححه الترمذي وغيره . وزاد ابن عبد البر : وفعله جماعة من الخلفاء بعده وعليه العمل . وحسبك ما رواه القاسم بن محمد من فعل الناس ، ولا خلاف أنه عليه الصلاة والسلام وقف بعرفة راكبا ورمى الجمار ماشيا ، وذلك محفوظ من حديث جابر – انتهى . ويستثنى منه رمي جمرة العقبة في أول أيام النحر كما لا يخفى ( ويقول ) عطف على ( يرمي )) فيكون من قبيل (( علفتها تبنا وماء باردا )) أو الجملة حالية ( لتأخذوا مناسككم ) قال النووي : هذه اللام لام الأمر ومعناه خذوا مناسككم ، وهكذا وقع في رواية غير مسلم ، وتقديره : هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته ، وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس . وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج وهو نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) – انتهى . قال الطيبي : ويجوز أن تكون اللام للتعليل والمعلل محذوف أي يقول : إنما فعلت

(18/359)


لتأخذوا عني مناسككم – انتهى . ويؤيد الأول ما ورد عند النسائي والبيهقي بلفظ (( خذوا عني مناسككم )) وقال القرطبي : روايتنا لهذا الحديث بلام الجر المفتوحة والنون التي هي مع الألف ضمير أي يقول لنا (( خذوا مناسككم )) فيكون قوله (( لنا )) صلة للقول ، قال : هو الأفصح ، وقد روي (( لتأخذوا مناسككم )) بكسر اللام للأمر ، وبالتاء المثناة من فوق ، وهي لغة قرأ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى ? فبذلك فلتفرحوا ? ( 10 : 58 ) انتهى . قال السندي في حاشية النسائي (( خذوا عني مناسككم )) أي تعلموها مني واحفظوها ، وهذا لا يدل على وجوب المناسك ، وإنما يدل على وجوب أخذها وتعلمها ، فمن استدل به على وجوب شيء من المناسك فاستدلاله في محل النظر . فليتأمل – انتهى . وكذا قال في حاشية مسلم . وعلل ذلك بقوله : إذ وجوب تعلم الشيء لا يدل على وجوب ذلك الشيء إذ جميع المندوبات والسنن يجب أخذها وتعلمها ولو على وجه الكفاية ، وهي غير واجبة عملا فافهم ، والله تعالى أعلم ( فإني لا أدري ) مفعوله محذوف أي لا أعلم ماذا يكون ( لعلي لا أحج بعد حجتي ) بفتح الحاء ، وهي يحتمل أن يكون مصدرا ، وأن يكون بمعنى السنة ( هذه ) أي التي أنا فيها ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 130) قال المزي : هذا الحديث في
2643 – (2) وعنه قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمرة بمثل حصى الخذف . رواه مسلم .
2644 – (3) وعنه قال : رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضحى ، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رواية أبي الحسن بن العبد وأبي بكسر بن داسة ، ولم يذكره أبو القاسم أي اللؤلؤي ، ولذا لم يذكره المنذري في مختصر السنن .

(18/360)


2643 – قوله ( بمثل حصى الخذف ) تقدم ضبطه ومعناه في شرح حديث جابر الطويل ، وهو دليل على استحباب كون الحصى في هذا المقدار ، قال القاري : وهو قدر حبة الباقلي أو النواة أو الأنملة فيكره أصغر من ذلك وأكبر منه وذلك للنهي عن الثاني في الخبر الصحيح (( بأمثال هؤلاء فارموا ، وإياكم والغلو في الدين )) – انتهى . وقال في رد المحتار : إنها مقدار الباقلاء ، قال في النهر : وهذا بيان المندوب ، وأما الجواز فيكون ولو بالأكبر مع الكراهة – انتهى . قال الشيخ ولي الله الدهلوي : وإنما رمى بمثل حصى الخذف لأن دونها غير محسوس ، وفوقها ربما يؤذي في مثل هذا الموضع ، والحديث رواه الدارمي والبيهقي (ج 5 : ص 127 ) من طريق سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف . قال الزرقاني : أمرهم - صلى الله عليه وسلم - مع رميه بمثلها لأنهم كلهم لم يروا رميه لكثرتهم – انتهى . ( رواه مسلم وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 127) .

(18/361)


2644 – قوله ( رمى رسول الله الجمرة ) أي جمرة العقبة ( يوم النحر ) أي يوم العيد ( ضحى ) قال العراقي : الرواية فيه بالتنوين على أنه مصروف وهو مذهب النحاة من أهل البصرة سواء قصد التعريف أو التنكير . وقال الجوهري : تقول : لقيته ضحى وضحى ، إذا أردت به ضحى يومك لم تنونه ( يعني أنه منون عند التنكير وغير منون عند التعريف ) وقال : ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى وهي حين تشرق الشمس مقصورة تؤنث وتذكر فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة ، ومن ذكر ذهب إلى أنه إسم على فعل مثل صرد ونغر ، وهو ظرف غير متمكن مثل سحر ، قال : ثم بعده الضحاء ممدود مذكر ، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : يا عباد الله أضحوا لصلاة الضحى ، يعني لا تصلوها إلا إلى ارتفاع الضحى – انتهى . وقد تحصل من هذا أن الضحوة وقت طلوع الشمس ، والضحى وقت شروقها ، والضحاء وقت ارتفاعها . قال القاري : قوله ضحى أي وقت الضحوة من بعد طلوع الشمس إلى ما قبل الزوال ( وأما بعد ذلك ) أي بعد يوم النحر وهو أيام التشريق ( فإذا زالت الشمس ) أي فيرمي بعد الزوال ، قال العيني (ج 10 : ص 86) : يستفاد منه أن الرمي في أيام التشريق محله بعد زوال الشمس وهو كذلك ، وقد اتفق عليه الأئمة ، وخالف أبو حنيفة في اليوم الثالث منها فقال : يجوز الرمي فيه قبل الزوال استحسانا
...............................................................................................

(18/362)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( مع الكراهة التنزيهية ) وقال : إن رمى في اليوم الأول أو الثاني قبل الزوال أعاد وفي الثالث يجزئه . وقال عطاء وطاوس : يجوز في الثلاثة قبل الزوال – انتهى . وقال ابن الهمام : أفاد حديث جابر أن وقت الرمي في اليوم الثاني لا يدخل إلا بعد ذلك ، وكذا في اليوم الثالث ، وفي رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة قال : أحب إلي أن لا يرمي في اليوم الثاني والثالث حتى تزول الشمس ، فإن رمى قبل ذلك أجزأه ، وحمل المروي من فعله عليه الصلاة والسلام على اختيار الأفضل وجه الظاهر اتباع المنقول لعدم المعقولية ، كذا في المرقاة . وروى البخاري عن ابن عمر كما سيأتي في خطبة يوم النحر : قال كنا نتحين ( أي نراقب الوقت ) فإذا زالت الشمس رمينا . قال الحافظ : فيه دليل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال ، وبه قال الجمهور ، وخالف فيه عطاء وطاوس فقالا : يجوز قبل الزوال مطلقا ، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال . وقال إسحاق : إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه – انتهى . قال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر كلام الحافظ : لا دليل على ما ذهب إليه عطاء وطاؤس لا من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من قوله . وأما ترخيص الحنيفة في الرمي في يوم النفر قبل الزوال فاستدلوا عليه بأثر ابن عباس الآتي وهو ضعيف ، فالمعتمد ما قال به الجمهور . قال في الهداية : إن قدم الرمي في اليوم الرابع قبل الزوال بعد طلوع الفجر جاز عند أبي حنيفة ، وهذا استحسان . وقالا : لا يجوز اعتبارا بسائر الأيام ، وإنما التفاوت في رخصة النفر ، فإذا لم يترخص التحق بها . ومذهبه مروي عن ابن عباس – انتهى . قال ابن الهمام : أخرج البيهقي عنه : إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي والصدر ، والانتفاخ والارتفاع ، وفي سنده طلحة بن عمرو ضعفه البيهقي . قال ابن الهمام :

(18/363)


ولا شك أن المعتمد في تعيين الوقت للرمي في الأول من أول النهار وفيما بعده من بعد الزوال ليس إلا فعله كذلك مع أنه غير معقول ( أي لا مدخل للعقل فيه ) ولا يدخل وقته قبل الوقت الذي فعله فيه عليه الصلاة والسلام كما لا يفعل في غير ذلك المكان الذي رمى فيه عليه الصلاة والسلام ، وإنما رمى عليه الصلاة والسلام في الرابع بعد الزوال فلا يرمى قبله – انتهى . وذكر الشنقيطي في أضواء البيان حديث جابر الذي نحن في شرحه وحديث ابن عمر المتقدم وحديث عائشة عند أحمد وأبي داود بلفظ " أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس " الحديث ، وحديث ابن عباس عند أحمد (ج 1 : ص 248 ، 290 ، 328) والترمذي وابن ماجة بلفظ " رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمار حين زالت الشمس " ثم قال : وبهذه النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلم أن قول عطاء وطاوس بجواز الرمي في أيام التشريق قبل الزوال ، وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال ، وقول إسحاق : إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزأه كل ذلك خلاف التحقيق ، لأنه مخالف لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه المعتضد بقوله " لتأخذوا عني مناسككم " ولذلك خالف أبا حنيفة في ترخيصه المذكور صاحباه محمد وأبو يوسف ، ولم يرد في كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيء يخالف ذلك ، فالقول بالرمي قبل الزوال أيام التشريق
متفق عليه .
2645 – (4) وعن عبد الله بن مسعود ، أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى ، فجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ،

(18/364)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا مستند له البتة مع مخالفته للسنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، فلا ينبغي لأحد أن يفعله ، والعلم عند الله تعالى ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في باب رمي الجمار معلقا مجزوما ومسلم . موصولا ، وكذا أخرجه موصولا أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمه وابن حبان وإسحاق بن راهويه والدارمي والبيهقي (ج 5 : 131 ، 149) .
2645 – قوله ( انتهى ) أي وصل ( إلى الجمرة الكبرى ) أي جمرة العقبة ، ووهم الطيبي فقال : أي الجمرة التي عند مسجد الخيف . قال الحافظ : وتمتاز جمرة العقبة عن الجمرتين الأخريين بأربعة أشياء : اختصاصها بيوم النحر ، وأن لا يوقف عندها ، وترمى ضحى ، ومن أسفلها استحبابا . قال : وجمرة العقبة هي الجمرة الكبرى وليست من منى بل هي حد منى من جهة مكة وهي التي بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار عندها على الهجرة ( فجعل البيت ) أي الكعبة ( عن يساره ومنى عن يمينه ) فيه أنه يستحب لمن وقف عند جمرة العقبة أن يجعل مكة عن يساره ومنى على جهة يمينه ويستقبل الجمرة بوجهه ، وروى أحمد (ج 1 : ص 430 ، 432) والترمذي وابن ماجة حديث ابن مسعود هذا بلفظ " لما أتى عبد الله جمرة العقبة استبطن الوادي ( أي قصد بطن الوادي ليقوم فيه للرمي ) واستقبل القبلة " قال الحافظ بعد ذكره : وما رواه البخاري هو الصحيح ، وهذا ( أي ما رواه أحمد والترمذي وابن ماجة ) شاذ ، في إسناده المسعودي ، وقد اختلط ، وبالأول قال الجمهور ، وجزم الرافعي من الشافعية بأنه يستقبل الجمرة ويستدبر القبلة ، وقيل يستقبل القبلة ويجعل الجمرة عن يمينه ، وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها جاز سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو يساره أو من فوقها أو من أسفلها أو وسطها ، والاختلاف في الأفضل – انتهى . فالأفضل عند الجمهور الكيفية التي وردت في حديث ابن مسعود عند الشيخين وغيرهما .

(18/365)


قال النووي في شرح مسلم : في حديث ابن مسعود استحباب كون الرمي من بطن الوادي فيستحب أن يقف تحتها في بطن الوادي فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ويستقبل جمرة العقبة ويرميها بالحصيات السبع ، وهذا هو الصحيح في مذهبنا " وبه قال جمهور العلماء . وقال بعض أصحابنا : يستحب أن يقف مستقبل الجمرة مستدبرا مكة . وقال بعض أصحابنا : يستحب أن يقف مستقبل الكعبة وتكون الجمرة عن يمينه والصحيح الأول - انتهى . وقال ابن بطال : رمي جمرة العقبة من حيث تيسر من العقبة من أسفلها أو أعلاها أو وسطها ، كل ذلك واسع ، والموضع الذي يختار بها بطن الوادي من أجل حديث ابن مسعود ، وكان جابر بن عبد الله يرميها من بطن الوادي ، وبه قال عطاء وسالم وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق . وقال مالك : رميها من أسفلها أحب إلي . وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه جاء والزحام
ورمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ،

(18/366)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عند الجمرة فصعد فرماها من فوقها ، ذكره العيني (ج 10 : ص 87) وأما الجمرة الأولى ( أي الجمرة الدنيا – بضم الدال وبكسرها – أي القريبة إلى جهة مسجد الخيف ) والثانية فيرمي مستقبل القبلة عندهم جميعا ندبا لا وجوبا ( ورمى بسبع حصيات ) بفتح الصاد والياء جمع حصاة ، وفيه دليل على أن رمي الجمرة يكون بسبع حصيات ، وقد ترجم البخاري لحديث ابن مسعود هذا (( باب رمي الجمار بسبع حصيات )) قال الحافظ : أشار في الترجمة إلى رد ما رواه قتادة عن ابن عمر ، قال : ما أبالي رميت الجمار بست أو سبع ، وقد أنكر ذلك ابن عباس ، وقتادة لم يسمع من ابن عمر ، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة ، وروي من طريق مجاهد : من رمى بست فلا شيء عليه . ومن طريق طاوس يتصدق بشيء ، وعن مالك والأوزاعي : من رمى بأقل من سبع وفاته التدارك يجبره بدم ، وعن الشافعية في ترك حصاة مد ، وفي ترك حصاتين مدان ، وفي ثلاثة فأكثر دم . وعن الحنفية إن ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث فنصف صاع وإلا فدم – انتهى . وقال العيني : يستفاد من حديث ابن مسعود أن رمي الجمرة لا بد أن يكون بسبع حصيات وهو قول أكثر العلماء ، وذهب عطاء إلى أنه إن رمى بخمس أجزأه . وقال مجاهد : إن رمى بست فلا شيء عليه ، وبه قال أحمد وإسحاق ، واحتج من قال بذلك بما رواه النسائي من حديث سعد بن مالك رضي الله عنه قال : رجعنا في الحجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضنا يقول رميت : بست حصيات ، وبعضنا يقول : رميت بسبع ، فلم يعب بعضنا على بعض . وروى أبو داود والنسائي أيضا من رواية أبي مجلز قال : سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن شيء من أمر الجمار فقال : ما أدري رماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بست أو سبع . والصحيح الذي عليه الجمهور أن الواجب سبع كما صح من حديث ابن مسعود وجابر وابن عباس وابن عمر وغيرهم . وأجيب عن حديث سعد بأنه

(18/367)


ليس بمسند ، وعن حديث ابن عباس أنه ورد على الشك من ابن عباس ، وشك الشاك لا يقدح في جزم الجازم ، ومن رماها بأقل من سبع حصيات فذهب الجمهور فيما حكاه القاضي عياض إلى أن عليه دما ، وهو قول مالك والأوزاعي . وذهب الشافعي وأبو ثور إلى أن على تارك حصاة مدا من طعام وفي اثنتين مدين وفي ثلاث فأكثر دما ، وللشافعي قول آخر أن في الحصاة ثلاث دم ، وله قول آخر أن في الحصاة درهما . وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى أنه إن ترك أكثر من نصف الجمرات الثلاث فعليه دم ، وإن ترك أقل من نصفها ففي كل حصاة نصف صاع – انتهى . ( يكبر مع كل حصاة ) فيه أنه يستحب التكبير عند رمي حصى الجمار . قال النووي : استحباب التكبير مع كل حصاة هو مذهبنا ومذهب مالك والعلماء كافة . قال القاضي عياض : وأجمعوا على أنه لو ترك التكبير لا شيء عليه . وقال الحافظ : قد أجمعوا على أن من تركه لا يلزمه شيء إلا الثوري فقال : يطعم ، وإن جبره بدم أحب إلي – انتهى . وذكر الطبري عن بعضهم أنه لو ترك رمي جميعهن بعد أن يكبر عند كل جمرة سبع تكبيرا أجزأه . قال : وإنما جعل الرمي في ذلك بالحصي سببا لحفظ التكبيرات السبع كما جعل
............................................................................................

(18/368)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عقد الأصابع بالتسبيح سببا لحفظ العدد ، وذكر عن يحيى بن سعيد أنه سئل عن الخرز والنوى يسبح به قال : حسن قد كانت عائشة تقول : إنما الحصى للجمار ليحفظ به التكبيرات – انتهى . واستدل بهذا الحديث على اشتراط رمي الجمار واحدة واحدة لقوله (( يكبر مع كل حصاة )) وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " خذوا عني مناسككم " ، وخالف في ذلك عطاء وصاحبه أبو حنيفة فقالا : لو رمى السبع دفعة واحدة أجزأه ، كذا ذكره الحافظ . وقال ابن قدامة : وإن رمى الحصاة دفعة واحدة لم يجزه إلا عن واحدة ، نص عليه أحمد ، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ، وقال عطاء : يجزئه ويكبر لكل حصاة – انتهى . وما ذكره الحافظ من موافقة أبي حنيفة لعطاء في إجزاء رمي السبع دفعة واحدة لعله أخذه عن صاحب التوضيح من الشافعية كما سيأتي في كلام العيني أو عن الكرماني ، فإنه ذهب إلى ذلك حيث قال : إذا وقعت السبع متفرقة على مواضع الجمرات جاز ، كما لو جمع بين أسواط الحد بضربة واحدة وإن وقعت على مكان واحد لا يجوز ، وليس هذا مشهور في مذهب الحنفية ، بل المصرح في فروعهم عدم الإجزاء مطلقا كما هو قول الأئمة الثلاثة ، ففي الهداية : لورمي بسبع حصيات جملة فهذه الجملة واحدة لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال ، قال العيني في البناية : أي لأن المنصوص هو فعل الرمي بسبع حصيات متفرقات لا عين الحصيات – انتهى . وفي الغنية : الخامس ( من الشرائط ) تفريق الرميات ، فلو رمى بسبع حصيات أو أكثر جملة واحدة لا يجزئه إلا عن واحدة ولو متفرقة عند الأربعة خلافا لما في الكرماني أنها إذا وقعت متفرفة جاز ، وتمامه في المنحة – انتهى . وفي اللباب : الرابع : تفريق الرميات ، فلو رمي بسبع حصيات جملة واحدة لم يجزه إلا عن حصاة واحد . قال القاري : لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال لا عين الحصيات ، فإذا أتى بفعل واحد لا يكون إلا عن حصاة واحدة

(18/369)


لاندراجها في ضمن الجملة ، إلى آخر ما قال . وقال العيني : اختلفوا في من رمى سبع حصيات مرة واحدة فقال مالك والشافعي : لا يجزئه إلا عن حصاة واحدة ويرمي بعدها ستا ، وقال عطاء تجزئه عن السبع وهو قول أبي حنيفة ، وهذا الذي ذكر عن أبي حنيفة ذكره صاحب التوضيح ، وذكر في المحيط : ولو رمى إحدى الجمار بسبع حصيات رمية واحدة فهي بمنزلة حصاة وكان عليه أن يرمي ست مرات . قال العيني : العمدة في النقل عن صاحب مذهب من المذاهب على نقل صاحب من أصحاب ذلك المذهب – انتهى . فائدة : قال الحافظ : زاد محمد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي عن أبيه في هذا الحديث ( عند أحمد ج 1 : ص 427) عن ابن مسعود أنه لما فرغ من رمي جمرة العقبة قال : اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا – انتهى . وروى البيهقي في السنن (ج 5 : ص 129) عن سالم ابن عبد الله بن عمر أنه استبطن الوادي ثم رمي الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة : الله أكبر ، الله أكبر ، اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وعملا مشكورا . وقال : حدثني أبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرمي الجمرة في هذا المكان ويقول كلما رمى بحصاة مثل ما قلت . قال البيهقي : عبد الله بن حكيم بن الأزهر
ثم قال : هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة . متفق عليه .
2646 – (5) وعن جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الاستجمار تو ، ورمي الجمار تو ، والسعي بين الصفا والمروة تو ، والطواف تو ، وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو " .

(18/370)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ضعيف . وروى حنبل في المناسك عن زيد بن أسلم عن سالم بن عبد الله مثل ذلك كما في المغني ( ثم قال ) أي ابن مسعود ( هكذا رمى ) بصيغة الفعل ( الذي أنزلت عليه سورة البقرة ) قال ابن المنير : خص عبد الله سورة البقرة بالذكر لأنها التي ذكر الله فيها الرمي فأشار إلى أن فعله - صلى الله عليه وسلم - مبين لمراد كتاب الله تعالى . قال الحافظ : ولم أعرف موضع ذكر الرمي من سورة البقرة ، والظاهر أنه أراد أن يقول : إن كثيرا من أفعال الحج مذكور فيها ، فكأنه قال : هكذا رمى الذي أنزلت عليه أحكام المناسك منبها بذلك على أن أفعال الحج توقيفية . وقيل خص البقرة بذلك لطولها وعظم قدرها وكثرة ما فيها من الأحكام – انتهى . وقال في اللمعات بعد ذكر كلام الحافظ : " ولم أعرف موضع ذكر الرمي فيها ، قلت : لعل الإشارة إلى ذكر الرمي في قوله تعالى : ? واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ? (2 : 203 ) فإن الرمي في تلك الأيام ، وينبئ عنه أول حديثي عائشة في الفصل الثاني – انتهى . ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد مختصرا ومطولا مرارا (ج 1 : ص 374 ، 408 ، 415 ، 422 ، 427 ، 436 ، 457 ، 458) وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي (ج 5 : ص 129 ، 148) .

(18/371)


2646- قوله ( الاستجمار ) أي الاستنجاء بالأحجار ( تو ) بفتح المثناة الفوقية وتشديد الواو ، أي فرد ، قال النووي : التو – بفتح التاء المثناة فوق وتشديد الواو – هو الوتر ، والمراد بالاستجمار الاستنجاء – انتهى . والإيتار والفردية هنا بالثلاثة ، وفي البواقي بالسبعة بدليل الأحاديث المصرحة بذلك . وقد تقدم في باب آداب الخلاء أن الإيتار بالثلاثة في الاستنجاء واجب ( ورمي الجمار ) في الحج ( تو ) أي سبع حصيات وكلها واجبة ( والسعي بين الصفا والمروة تو ) أي سبع وكلها واجبة ( والطواف تو ) أي سبعة أشواط وكلها فرائض عند الجمهور ، وعند الحنفية أربعة أشواط فرض والباقي واجب . قال الجزري في النهاية : يريد أنه يرمي الجمار في الحج فردا وهي سبع حصيات ويطوف سبعا ويسعى سبعا . وقيل أراد بفردية الطواف والسعي أن الواجب منهما مرة واحدة لا تثنى ولا تكرر سواء كان المحرم مفردا أو قارنا ( وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو ) قال المناوي : ليس هذا تكرارا بل بالأول الفعل وبالثاني عدد الأحجار ، وفيه وجوب تعدد الحجر لضرورة تصحيح الإيتار بما يتقدمه من الشفع ، إذ لا قائل بتعيين الإيتار بحجر واحد – انتهى . وقال القاري : الظاهر أن المراد بالاستجمار هنا أي في قوله (( إذا استجمر أحدكم )) إلخ . هو التبخر ، فإنه يكون بوضع العواد على جمرة النار فيرتفع التكرار وهو أولى من قول القاضي عياض وتبعه الطيبي أن المراد بالأول
رواه مسلم .
( الفصل الثاني )
2647 – (6) عن قدامة بن عبد الله بن عمار ، قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء ، ليس ضرب ولا طرد ، وليس قيل : إليك ، إليك . رواه الشافعي ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، والدارمي .
2648 – (7) وعن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " إنما جعل رمي الجمار ، والسعي بين الصفا والمروة ، لإقامة ذكر الله " .

(18/372)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفعل وبالثاني عدد الأحجار – انتهى . وقال السندي في حاشية مسلم : يحتمل عندي في وجوه التكرير أن يحمل الاستجمار في هذا الحديث في أحد الموضعين على الاستنجاء وفي الموضع الآخر على التبخر ، كتبخر أكفان الميت ونحوه والله تعالى أعلم ( رواه مسلم ) هذا الحديث من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري ولا أصحاب السنن ، وخرج منه البخاري الاستجمار خاصة من حديث أبي هريرة ، والحديث ذكره المحب الطبري في القرى وقال : أخرجاه . وهو وهم منه .

(18/373)


2647- قوله ( عن قدامة ) بضم القاف وتخفيف الدال المهملة ( بن عبد الله بن عمار ) بفتح المهملة وتشديد الميم ( رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وفي بعض النسخ (( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) ( يرمي الجمرة ) أي جمرة العقبة ( على ناقة صهباء ) بفتح الصاد المهملة وسكون الهاء ، هي التي يخالط بياضها حمرة ، وذلك بأن يحمر أعلى الوبر وتبيض أجوافه ، وقال الطيبي : الصهبة كالشقرة . وقال الجزري : المعروف أن الصهبة مختصة بالشعر وهي حمرة يعلوها سواد ( ليس ) أي هناك ( ضرب ) أي منع بالعنف ( ولا طرد ) أي دفع باللطف ( وليس ) أي ثمة ( قيل ) بكسر القاف ورفع اللام مضافا إلى ( إليك إليك ) أي قول (( إليك )) أي تنح وتبعد . قال ابن حجر تبعا للطيبي : والتكرير للتأكيد ، قال القاري : وهذا إنما يصح لو قيل لواحد إليك إليك ، والظاهر أن المعنى أنه ما كان يقال للناس ((إليك إليك )) وهو اسم فعل بمعنى تنح عن الطريق ، فلا يحتاج إلى تقرير متعلق كما نقله الطيبي بقوله : ضم إليك ثوبك وتنح عن الطريق - انتهى . والمقصود والغرض من هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - على سجيته المتواضعة كان يرمي من غير أن يكون هناك ضرب للناقة أو طرد للناس أو قول إليك ، فلا فعل صدر للضرب والطرد ولا قول ظهر للتبعيد والتنحية . والحديث يدل على رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا ( رواه الشافعي ) إلخ . وأخرجه أيضا أحمد (ج 6 : ص 412) وابن حبان والبيهقي (ج 5 : ص 130) والحاكم (ج 1: ص 466) وصححه الترمذي ، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط البخاري أقره الذهبي .
2684 – قوله ( إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله ) يعني إنما شرع ذلك لإقامة
رواه الترمذي ، والدارمي ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
2649 - (8) وعنها ، قالت : قلنا : يا رسول الله ! ألا نبني لك بناء يظلك بمنى ؟ قال : " لا ،

(18/374)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شعار النسك ، قاله المناوي ، وقال القاري : أي لأن يذكر الله في هذه المواضع المتبركة ، فالحذر الحذرمن الغفلة . وإنما خصا بالذكر مع أن المقصود من جميع العبادات هو ذكر الله تعالى لأن ظاهرهما فعل لا تظهر فيهما العبادة ، وإنما فيهما التعبد للعبودية بخلاف الطواف حول بيت الله ، والوقوف للدعاء فإن أثر العبادة لائحة فيهما . وقيل إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة سنة لإقامة ذكر الله ، يعني التكبير مع كل حجر والدعوات المذكورة في السعي سنة ، ولا يبعد أن يكون لك من الرمي والسعي حكمة ظاهرة ونكتة باهرة غير مجرد التعبد وإظهار المعجزة ، ثم أطال القاري الكلام في ذلك نقلا عن الطيبي والغزالي ، من شاء الوقوف على ذلك رجع إلى المرقاة وأضواء البيان (ج5 : ص 315) للشنقيطي ، وقد تقدم شيء من الكلام على ذلك في شرح حديث جابر الطويل ، واللفظ المذكور في الكتاب للترمذي ، ورواه أحمد وأبو داود والدارمي والحاكم بلفظ (( إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله )) زاد الحاكم (( لا غيره )) وفي الحديث حث على المحافظة على سنن الحج من ذكر الطواف ونحوه ، وقال العزيزي : لعل المراد بالحديث الحث على الذكر في الطواف وتألييه – انتهى . ( رواه الترمذي ) إلخ ، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود في باب الرمل ، وابن الجارود والحاكم (ج 1 : ص 459) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وسكت عنه أبو داود ، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره ، وقال النووي في شرح المهذب بعد ذكر الحديث عن أبي داود بسنده ما لفظه : هذا الإسناد كله صحيح إلا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفا يسيرا ، ولم يضعف أبو داود هذا الحديث فهو حسن عنده . ورواه الترمذي من رواية عبيد الله هذا ، وقال : هو حديث حسن ، وفي بعض النسخ " حسن صحيح " فلعله اعتضد براوية أخرى – انتهى . قال الشنقيطي

(18/375)


: عبيد الله بن أبي زياد المذكور هو القداح أبو الحصين المكي ، وقد وثقه جماعة وضعفه آخرون ، وحديثه معناه صحيح بلا شك ، ويشهد لصحة معناه قوله تعالى ? واذكروا الله في أيام معدودات ? (2: 203) لأنه يدخل في الذكر المأمور به رمي الجمار بدليل قوله بعده ? فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ? الآية . وذلك يدل على أن الرمي شرع لإقامة ذكر الله كما هو واضح – انتهى .
2649 – قوله ( قالت : قلنا ) أي معشر الصحابة ، وهذا لفظ الترمذي ، وفي أبي داود والدرامي وابن ماجة (( قالت : قلت )) وفي السنن للبيهقي والمستدرك للحاكم (( قالت : قيل )) ( ألا نبني ) بصيغة المتكلم ( بناء ) وفي ابن ماجة (( بيتا )) وفي أبي داود (( بيتا أو بناء )) ( يظلك ) زاد في أبي داود (( من الشمس )) ( قال : لا ) أي لا تبنوا لي بناء بمنى لأنه ليس مختصا بأحد ، إنما هو موضع العبادة من الرمي وذبح الهدي والحلق ونحوها ، فلو أجيز البناء فيه لكثرت الأبنية وتضيق المكان
منى مناخ من سبق " . رواه الترمذي ، وابن ماجة ، والدارمي .

(18/376)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( منى ) مبتدأ و ( مناخ من سبق ) خبره ، والمناخ بضم الميم ، موضع إناخة الإبل ، والمعنى أن الاختصاص فيه بالسبق لا بالبناء فيه . قال الطيبي : أي أتأذن أن نبني لك بيتا في منى لتسكن فيه فمنع وعلل بأن منى موضع لأداء النسك من النحر ورمي الجمار والحلق يشترك فيه الناس فلو بني فيها لأدى إلى كثرة الأبنية تأسيا به فتضيق على الناس وكذلك حكم الشوارع ومقاعد الأسواق ، وعند أبي حنيفة رحمه الله أرض الحرم موقوفة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة قهرا وجعل أرض الحرم موقوفة فلا يجوز أن يمتلكها أحد – انتهى . وقال الخطابي في معالم السنن : قد يحتج بهذا من لا يرى دور مكة مملوكة لأهلها ولا يرى بيعها وعقد الإجارة عليها جائزا ، وقد قيل : إن هذا خاص للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمهاجرين من أهل مكة فإنها دار تركوها لله تعالى فلم ير أن يعود فيها فيتخذوها وطنا أو يبنوا فيها بناء ، والله أعلم – انتهى . قال القاري : وفي أن هذا التعليل يخالف تعليله - صلى الله عليه وسلم - مع أن منى ليست دارا هاجروا منها – انتهى . قلت : عدم جواز بيع أرض الحرم وبيوت مكة وإجارتها هو مذهب أبي حنيفة ومحمد والثوري ، وإليه ذهب عطاء ومجاهد ومالك وإسحاق وأبو عبيد ، وذهب أبو يوسف والشافعي وأحمد وطاوس وعمرو بن دينار وابن المنذر إلى الجواز ، واحتج الأولون بحديث عائشة هذا ، وما أجيب به من اختصاص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين فلا يخفى ما فيه ، فإن الخصوصية لا تثبت بالادعاء ، وقال المحب الطبري في القرى (ص 438 ) بعد ما حكى نحو كلام الخطابي : ويحتمل أن يكون ذلك مخصوصا بمنى لمكان اشتراك الناس في النسك المتعلق بها فلم ير - صلى الله عليه وسلم - لأحد اقتطاع موضع منها ببناء وغيره بل الناس فيها سواء ، وللسابق حق السبق وكذلك الحكم في عرفة ومزدلفة إلحاقا بها – انتهى

(18/377)


. هذا وقد أطال الكلام في بيان حكم بيع دور مكة وإجارتها وحكم البناء بمنى التقي الفاسي في شفاء الغرام (ج 1 : ص 26 ، 32 ، 320 ، 321) فعليك أن ترجع إليه ( رواه الترمذي ) إلخ ، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود في باب تحريم مكة ، والحاكم (ج 1 : ص 367) والبيهقي (ج 5 : ص 139) وابن عساكر كلهم من طريق يوسف بن ماهك عن أمه مسيكة عن عائشة ، والحديث حسنه الترمذي . وسكت عنه أبو داود ، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره ، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، وقرره الذهبي في تلخيصه . وقال ابن القيم : قال ابن القطان : وعندي أن الحديث ضعيف لأنه من رواية يوسف بن ماهك عن أمه مسيكة وهي مجهولة لا نعرف روى عنها غير ابنها – انتهى . قلت : مدار هذا الحديث على مسيكة وهي مجهولة . قال الحافظ في التقريب : مسيكة المكية لا يعرف حالها ، من الثالثة ، وذكرها الذهبي في المجهولات من النساء ، وفي تهذيب التهذيب " قال ابن خزيمة : لا أحفظ عنها راويا غير ابنها ولا أعرفها بعدالة ولا حرج " – انتهى . وقيل : الصواب تحسين الحديث فإن أم يوسف بن ماهك تابعية قد سمعت عائشة ولم يعلم فيها جرح ، ومثل هذا الحديث حسن عند أهل العلم بالحديث ، ولذلك سكت عليه أبو داود وحسنه الترمذي وقرره المنذري وصححه الحاكم ووافقه الذهبي .
( الفصل الثالث )
2650 - (9) عن نافع ، قال : إن ابن عمر كان يقف عند الجمرتين الأوليين وقوفا طويلا . يكبر الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/378)


2650 – قوله ( عن نافع ) أي مولى ابن عمر ( كان يقف ) أي بعد الرمي ( عند الجمرتين الأوليين ) أي الأول والوسطى ففيه تغليب ، والمراد بالأولى التي تقرب من مسجد الخيف بمنى وهي التي يقال لها الجمرة الدنيا ، وهي أول الجمرات التي ترمى من ثاني يوم النحر ، والثانية الجمرة الوسطى ( وقوفا طويلا ) مقدار ما يقرأ سورة البقرة ، كما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء عن ابن عمر ، قال ابن قدامة في المغني : قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسئل أيقوم الرجل عند الجمرتين إذا رمى ؟ قال : إي لعمري شديدا ، ويطيل القيام أيضا . قيل فإلى أين يتوجه في قيامه ؟ قال إلى القبلة ويرميها في بطن الوادي ، والأصل في هذا ما روت عائشة قالت : أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق ، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع ، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها ، رواه أبو داود – انتهى . وقد ورد القيام عند الجمرتين بعد رميهما في حديث سالم عن ابن عمر عند البخاري كما سيأتي . وذكر ابن قدامة الإجماع على جميع ما ذكر فيه ، وصرح أصحاب الفروع من المذاهب الأربعة باستحباب القيام الطويل بعد رمي الجمرتين الأوليين ، منهم النووي وابن حجر من الشافعية والدردير من المالكية والقاري وغيره من الحنفية ، ثم قال ابن قدامة (ج 3 : ص 453) : وإن ترك الوقوف عندها والدعاء ترك السنة ولا شيء عليه ، وبذلك قال الشافعي وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور ولا نعلم فيه مخالفا إلا الثوري قال : يطعم شيئا ، وإن أراق دما أحب إلي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله فيكون نسكا – انتهى . ( يكبر الله ) في هذا الوقوف الطويل الذي بعد الرمي بسبع حصيات كما هو ظاهر السياق ، وإليه نحى الباجي حيث قال : بين عبد الله أن وقوفه عند الجمرتين

(18/379)


إنما هو للتكبير والتسبيح والدعاء – انتهى . وقال النووي : ثم ينحرف قليلا ويستقبل القبلة ويحمد الله ويكبر ويهلل ويسبح ويدعو ، إلخ . وقال القاري في شرح اللباب فيقف بعد تمام الرمي لا عند كل حصاة مستقبل القبلة فيحمد الله ويكبر ويهلل ويسبح ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو – انتهى . ويحتمل على بعد التكبير عند كل حصاة كما هو مؤدى رواية سالم عن أبيه عند البخاري بلفظ (( كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات ، يكبر على أثر كل حصاة ثم يتقدم فيسهل )) الحديث . وإليه مال الزرقاني إذ قال : قوله (( يكبر الله )) زاد سالم (( على أثر كل حصاة أي من السبع ، ففيه مشروعية التكبير عند كل حصاة ، وأجمعوا على أن من تركه لا شيء عليه إلا الثوري فقال : يطعم وإن جبره بدم أحب إلي – انتهى . والحاصل أن التكبير مشروع في كلا الموضعين عند الرمي بكل حصاة ، وبعد الرمي في الوقوف الطويل بعد الجمرتين الأوليين لكن ظاهر أثر ابن عمر هذا هو الثاني ، ويأتي بيان الأول في حديث
ويسبحه ويحمده ويدعو الله ، ولا يقف عند جمرة العقبة .

(18/380)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سالم عن ابن عمر في باب خطبة يوم النحر وسنذكر لفظه ( ويحمده ) من الحمد أو من التحميد ( ويدعو الله ) قال ابن قدامة (ج 3 : ص 451) : روى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو بدعائه الذي دعى به بعرفة ويزيد (( وأصلح وأتم لنا مناسكنا )) وقال ابن المنذر : كان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند الرمي : اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا ( ولا يقف عند جمرة العقبة ) بعد الرمي للدعاء ، وجمرة العقبة هي التي يبدأ بها في الرمي في أول يوم ، ويقتصر عليها ، ثم تصير أخيرة في كل يوم بعد ذلك ، ولفظ البخاري فيما رواه عن سالم عن عبد الله بن عمر أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على أثر كل حصاة ثم يتقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة قياما طويلا فيدعو ويرفع يديه ، ثم يرمي الجمرة الوسطى كذلك فيأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة قياما طويلا فيدعو ويرفع يديه ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ويقول : هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله . قال الحافظ : قال ابن قدامة : لا نعلم لما تضمنه حديث ابن عمر هذا مخالفا إلا ما روي عن مالك من ترك رفع اليدين عند الدعاء بعد رمي الجمار ، وأما ترك الوقوف عند جمرة العقبة فهو مجمع عليه ، حكى الإجماع على ذلك في المحلى شرح الموطأ . وقال الحافظ في الفتح : لا نعرف فيه خلافا . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 427) : ولا يسن الوقوف عندها لأن ابن عمر وابن عباس رويا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رمى جمرة العقبة انصرف ولم يقف . رواه ابن ماجة – انتهى . وأخرج أبو داود وغيره من رواية سليمان بن عمرو عن أمه وهي أم جندب الأزدية أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقم عندها أي لم يقف عند جمرة العقبة . وتقدم حديث عائشة من رواية أبي داود بلفظ : يقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمي

(18/381)


الثالثة ولا يقف عندها . واختلف في تعليل ذلك على أقوال : ففي المحلى : السر في الوقوف والدعاء بعد الأوليين دون العقبة أن يقع الدعاء في وسط العبادة . وقيل : إنها وقعت في ممر الناس ، فكان في الوقوف هناك قطع للسبيل على الناس – انتهى . وعامة أهل العلم على الثاني . قال القاري في شرح اللباب : إذا فرغ من الرمي لا يقف للدعاء عند هذه الجمرة في الأيام كلها بل ينصرف داعيا ، ولعل وجه عدم الوقوف للدعاء ها هنا على طبق سائر الجمرات تضييق المكان . وقال النووي : ولا يقف عندها للدعاء . قال ابن حجر : أي لا في يوم النحر ولا في ما بعده لضيق محلها فيضر بغيره ، لكن هذا باعتبار ما كان على أنه لو علل بالتفاؤل بالقبول مقارنا لفراغه منها لم يبعد – انتهى . وقال الباجي : شرع الوقوف عند الأولى والوسطى ولم يشرع عند الآخرة ، ويحتمل أن يكون ذلك – والله أعلم – من جهة المعنى أن موضع الجمرتين الأوليين فيه سعة للقيام للدعاء ولمن يرمي ، وأما جمرة العقبة فموضعها ضيق للوقوف عندها للدعاء لامتناع الرمي على من يريد الرمي ، ولذلك الذي يرميها لا ينصرف على طريقه ، وإنما ينصرف من أعلى الجمرة ، ولو انصرف من طريقه ذلك
رواه مالك .
(7) باب الهدي

(18/382)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمنع من يأتي بالرمي – انتهى . وأما التعليل بوقوع الدعاء في وسط العبادة فأصله من صاحب الهداية ، إذ قال : الأصل أن كل رمي بعده رمي يقف بعده لأنه في وسط العبادة فيأتي بالدعاء فيه ، وكل رمي ليس بعده رمي لا يقف لأن العبادة قد انتهت ، ولذا لا يقف بعد العقبة في يوم النحر أيضا – انتهى . وقد ظهر من هذا كله أن ترك الوقوف للدعاء بعد العقبة ثابت بالأحاديث المرفوعة وآثار الصحابة ، ومجمع عليه عند الأئمة الأربعة وغيرهم ، وإنما الاختلاف في تعليله ، فقيل : وقوع الدعاء في الوسط ، وقيل : ضيق المكان ، وقيل : التفاؤل بالقبول . وقريب من هذا الأخير ما ذكره الشيخ الدهلوي قال : لما تشرفت بهذه العبادة ألقي في روعي بلا سابقة فكر وتأمل بطريق الإلهام نكتة في عدم الوقوف عند هذه الجمرة وأرجو أن يكون صوابا ، وهو أن في عدم وقوفه عندها إشارة من الرب الرحيم ورسوله الكريم إلى أن العبد لما بلغ الجهد في العبادة وسعى في طريق المجاهدة والرياضة ووقف على باب الرحمة فدعا وسأل وأدى حق الخدمة والطاعة في الجمرتين الأوليين سهل الله تعالى عليه الأمر وأباح عليه الدعة والراحة بفضله وكرمه وأفاض عليه آثار رحمته وعفوه ومغفرته ولا سيما في هذه العبادة التي هي الحج المثمر لغاية آثار الرحمة والمغفرة ، فكأنه قال : يا عبادي قد أتعبتم أنفسكم وجاهدتم حق الجهاد اربعوا على أنفسكم فقد غفرت لكم . وعرضت هذه النكتة على أكابر علماء مكة الذين كانوا حاضرين في ذلك المقام فقبلوه واستحسنوه . ( رواه مالك ) في باب رمي الجمار عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقف ، الخ . وهو من أصح الأسانيد ، وأخرجه أيضا البيهقي (ج 5 : ص 149) من طريق مالك ، وأصله في صحيح البخاري مرفوعا كما تقدم .

(18/383)


( باب الهدي ) بفتح الهاء وإسكان الدال وكسرها مع تشديد الياء لغتان ، والأول أفصح ، اسم لما يهدى إلى الحرم من النعم شاة كانت أو بقرة أو بعيرا ليتقرب بإراقة دمه في الحرم . قيل : والواحدة هدية . قال الجوهري : الهدي ما يهدى إلى الحرم من النعم ، والهدي على فعيل مثله ، وقرئ ? حتى يبلغ الهدي محله ? (2 : 196) بالتخفيف والتشديد ، الواحدة هدية وهدية . قال ابن رشد : إن النظر في الهدي يشتمل على معرفة وجوبه وعلى معرفة جنسه وعلى معرفة حسنه وكيفية سوقه ومن أين يساق ؟ وإلى أين ينتهي بسوقه ؟ وهو موضع نحره وحكم لحمه بعد النحر ، فنقول : إنهم أجمعوا على أن الهدي المسوق في هذه العبادة منه واجب ومنه تطوع ، فالواجب منه ما هو واجب بالنذر ومنه ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة . قال : فأما جنس الهدي فإن العلماء متفقون على أنه لا يكون الهدي إلا من الأزواج الثمانية التي نص الله تعالى عليها ، وأن الأفضل في الهدايا هي الإبل ثم البقر ثم الغنم ، وإنما اختلفوا في الضحايا وأما الأسنان فإنهم أجمعوا أن الثني فما فوقه يجزئ منها وأنه لا يجزئ الجذع من المعز في الضحايا والهدايا ، واختلفوا في
( الفصل الأول )
2651 – (1) عن ابن عباس ، قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بذي الحليفة ، ثم دعا بناقته فأشعرها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجذع من الضان قال : وليس في عدد الهدي حد معلوم ، وكان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع مائة ، وأما كيفية سوق الهدي فهو التقليد والإشعار وإذا كان الهدي من الإبل والبقر فلا خلاف أنه يقلد نعلا أو نعلين ، واختلفوا في تقليد الغنم فقال مالك وأبو حنيفة : لا تقلد الغنم ، وقال الشافعي وأحمد : تقلد ( إلى آخر ما قال ) .

(18/384)


2651 – قوله ( صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بذي الحليفة ) أي ركعتين لكونه مسافرا ، واكتفى بهما عوضا عن ركعتي الإحرام ، أو صلى ركعتين أخريين سنة الإحرام ، قاله القاري . وقال الأبي : صلاته الظهر بذي الحليفة لا ينافي أن يكون إحرامه أثر نافلة ( ثم دعا بناقته ) قيل : لعلها كانت من جملة رواحله فأضافها إليه . وقال الطيبي : أي بناقته التي أراد أن يجعلها هديا ، فاختصر الكلام . يعني فالإضافة جنسية ( فأشعرها ) أي طعنها ، من الإشعار وهو في اللغة الإعلام ، مأخوذ من الشعور وهو العلم بالشيء من شعر يشعر كنصر ينصر ، قاله العيني . وقال الراغب : الشعر معروف قال تعالى ? ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ? (16 : 80) الآية . ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علما في الدقة كإصابة الشعر ، وسمي الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته ? لا تحلوا شعائر الله ? ( 5 : 2 ) أي ما يهدى إلى بيت الله ، سمي بذلك لأنها تشعر أي تعلم بأن تدمي بشعيرة أي حديدة – انتهى . وفي الشرع هو أن يشق أحد سنامي البدن ويطعن فيه حتى يسيل دمها ليعرف أنها هدي وتتميز إن خلطت وتعرف إن ضلت ويرتدع عنها السراق ويأكلها الفقراء إذا ذبحت في الطريق لخوف الهلاك . والحديث يدل على أن الإشعار سنة ، وبه قال الجمهور ، ومنهم الأئمة الثلاثة ، وروي عن أبي حنيفة أن الإشعار بدعة مكروه لأنه مثلة وتعذيب الحيوان وهو حرام ، وإنما فعله - صلى الله عليه وسلم - لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا بالإشعار . وقال الجمهور : القول بكراهته مخالف للأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار وليس هو مثلة بل هو كالفصد والحجامة والختان والكي للمصلحة ، وأيضا تعرض المشركين في ذلك الوقت بعيد لقوة الإسلام . وقد قيل إن كراهة أبي حنيفة الإشعار إنما كان من أهل زمانه فإنهم كانوا يبالغون فيه بحيث يخاف سراية الجراحة وفساد العضو ، كذا في اللمعات . وقال الحافظ في شرح حديث المسور بن

(18/385)


مخرمة في إشعار النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدي زمن الحديبية وحديث عائشة في إشعاره عند بعثه إلى مكة ما لفظ (( فيه مشروعية الإشعار وهو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل دم ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هديا وقال أيضا : وفائدته الإعلام بأنها صارت هديا ليتبعها من يحتاج إلى ذلك ، وحتى لو اختلطت بغيرها تميزت أو ضلت عرفت أو عطبت عرفها المساكين بالعلامة فأكلوها مع ما في ذلك من تعظيم شعار الشرع وحث الغير عليه . وقال الشاه ولي الله الدهلوي : السر في الإشعار التنويه بشعائر الله وأحكام
...............................................................................................

(18/386)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الملة الحنيفية يري ذلك منه الأقاصي والأداني ، وأن يكون فعل القلب منضبطا بفعل ظاهر – انتهى . قال الحافظ : وبمشروعيته قال الجمهور من السلف والخلف ، وذكر الطحاوي في اختلاف العلماء كراهته عن أبي حنيفة ، وذهب غيره إلى استحبابه للإتباع حتى صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا : هو حسن . قال : وقال مالك : يختص الإشعار بمن لها سنام . قال الطحاوي : ثبت عن عائشة وابن عباس التخيير في الإشعار وتركه فدل على أنه ليس بنسك ، لكنه غير مكروه لثبوت فعله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الحافظ : وأبعد من منع الإشعار واعتل باحتمال أنه كان مشروعا قبل النهى عن المثلة ، فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال ، بل وقع الإشعار في حجة الوداع وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان . وقال الخطابي وغيره : اعتلال من كره الإشعار بأنه من المثلة مردود بل هو باب آخر كالكى وشق أذن الحيوان ليصير علامة وغير ذلك من الوسم وكالختان والحجامة . وشفقة الإنسان على المال عادة فلا يخشى ما توهموه من سريان الجرح حتى يفضي إلى الهلاك ، ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيده الذي كرهه به كأن يقول : الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السراية حتى تهلك البدنة مكروه فكان قريبا ، قال الحافظ : وقد كثر تشنيع المتقدمين على أبي حنيفة في إطلاق كراهة الإشعار وانتصر له الطحاوي في المعاني فقال : لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاك البدن كسراية الجرح لا سـ... مع الطعن بالشفرة فأراد سد الباب عن العامة ، لأنهم لا يراعون الحد في ذلك ، وأما من كان عارفا بالسنة في ذلك فلا . وروي عن إبراهيم النخعي أيضا أنه كره الإشعار ، ذكر ذلك الترمذي ، قال سمعت أبا السائب يقول : كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي : أشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول أبو حنيفة : هو مثلة . قال الرجل فإنه قد روي

(18/387)


عن إبراهيم النخعي أنه قال : الإشعار مثلة . قال : فرأيت وكيعا غضب غضبا شديدا وقال : أقول لك : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول قال إبراهيم ما أحقك أن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا – انتهى . قال الحافظ : وفي هذا تعقب على الخطابي حيث قال : لا أعلم أحدا من أهل العلم أنكر الإشعار غير أبي حنيفة وخالفه صاحباه وقالا في ذلك بقول عامة أهل العلم – انتهى . وفيه أيضا تعقب على ابن حزم في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلف ، وقد بالغ ابن حزم في هذا الموضع ، ويتعين الرجوع إلى ما قال الطحاوي فإنه أعلم من غيره بأقوال أصحابه – انتهى كلام الحافظ . وقال ابن عابدين : جرى ( صاحب الدر المختار ) على ما قاله الطحاوي والشيخ أبو منصور الماتريدي من أن أبا حنيفة لم يكره أصل الإشعار ، وكيف يكرهه مع ما اشتهر فيه من الأخبار ، وإنما كره إشعار أهل زمانه الذي يخاف منه الهلاك خصوصا في حر الحجاز فرأى الصواب حينئذ سد هذا الباب على العامة ، فأما من وقف على الحد بأن قطع الجلد دون اللحم فلا بأس بذلك . قال الكرماني ( في المناسك ) : وهذا هو الأصح وهو اختيار قوام الدين وابن الهمام ، فهو مستحب لمن أحسنه . قال في النهر : وبه يستغنى عن كون العمل على قولهما بأنه حسن – انتهى . قلت : ما روي عن أبي حنيفة من القول بكراهة
...............................................................................................

(18/388)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإشعار لا شك أنه مخالف للأحاديث الصحيحة ومنابذ للسنة ، واضطربت الحنفية في الجواب عنها فقال بعضهم : إنما أنكر أبو حنيفة الإشعار لأنه يجهد البدنة ، وفيه ما لا يخفى من أذية الحيوان وتعذيبه وقد نهى عن ذلك ورأى أنه من المثلة وهو منهي عنه . وعند التعارض الترجيح للمحرم ، قالوا : وقد روي عن ابن عباس التخيير فيه والرخصة ، وعن عائشة تركه ، فرجح أبو حنيفة الترك لأنه جهة المثلة وهي حرام ، وترك الندب أولى من اقتحام التحريم . وأجاب الخطابي عن ذلك بأن المثلة إنما هو أن يقطع عضو من البهيمة يراد به التعذيب أو تبان قطعة منها للأكل كما كانوا يفعلون ذلك من قطعهم أسنمة الإبل وأليات الشاه يبينونها والبهيمة حية فتعذب بذلك ، وإنما سبيل الإشعار سبيل ما أبيح من الكي والتبزيغ والتوديج في البهائم ، وسبيل الختان والفصاد والحجامة في الآدميين ، وإذا جاز الكي واللدغ بالميسم ليعرف بذلك ملك صاحبه جاز الإشعار ليعلم أنه بدنة نسك وتصان فلا يعرض لها حتى تبلغ المحل – انتهى . قال الشوكاني بعد ذكره . على أنه لو كان من المثلة لكان ما فيه من الأحاديث مخصصا له من عموم النهي عنها . وقال ابن حجر في شرح مناسك النووي : وإنما لم يكن الإشعار منهيا عنه ، لأن أخبار النهى عن المثلة عامة وأخباره خاصة فقدمت . وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في حاشية الهداية : مذهب الإمام ها هنا وقع مخالفا للأحاديث المروية في باب الطعن والإشعار ، رواها مسلم والبخاري ومالك وغيرهم . وما ذكروه من التعارض بين أحاديث الإشعار وبين النهي عن المثلة فغير صحيح لوجهين أحدهما أن التعارض إنما يكون عند الجهل بالتاريخ ، ومعلوم أن إشعاره كان في حجة الوداع ، والنهي عن المثلة كان في غزوة خيبر كما هو مصرح في بعض الروايات فأنى التعارض ، بل يكون عمل الإشعار متأخرا فليعمل به ، وثانيهما وهو أقواهما أن الإشعار ليس بمثلة

(18/389)


إذ ليس كل جرح مثلة بل هو ما يكون تشويها كقطع الأنف والأذن ونحو ذلك فلا يقال لكل جرح أنه مثلة فلا تعارض بين النهى عن المثلة وبين خبر الإشعار ، وقال بعضهم : معنى قول الراوي (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشعر بدنته )) أعلمها بعلامة ويمكن أن يكون ذلك سوى الجرح لأن الإشعار هو الإعلام ، كذا ذكره الإمام المحبوبي حكاه في البناية عن الإسبيجابي ، وهذا الجواب يغني حكايته عن رده ، كيف وقد ورد في بعض الروايات أنه طعن ، وهو صريح في الجرح ، وقال بعضهم : حديث الإشعار منسوخ بأحاديث النهى عن المثلة ، وقد تقدم الجواب عن هذا في كلام الحافظ وغيره ، وقال بعضهم : الذي اشتهر عن أبي حنيفة من منع الإشعار فهو منع لما ارتكبه أهل زمانه من المبالغة فيه لا أصل الإشعار ، أو هو ردع للعوام مطلقا إبقاء على الهدايا وخوفا عما يؤل الأمر إليه من المبالغة فيه والوقوع في المنهي عنه طلبا لما هو مندوب فقط . وهذا قريب مما قاله الطحاوي . وقال بعضهم : إنما كره أبو حنيفة إيثار الإشعار على التقليد يعنى أن الأولى عنده التقليد واختيار الإشعار عليه مكروه ، ولا يخفى ما فيه من التمحل ، فإنه مخالف لما اشتهر عن أبي حنيفة من كراهة الإشعار مطلقا وفيه أيضا أنه لا يحصل الغرض
...............................................................................................

(18/390)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المذكور بالتقليد ، لأنه يحتمل أن ينحل ويذهب بخلاف الإشعار فأنه ألزم ، وقال بعضهم : إن إشعاره - صلى الله عليه وسلم - كان لصيانة الهدي لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا به قال في فتح القدير متعقبا على هذا : قد يقال هذا يتم في إشعار الحديبية وهو مفرد بالعمرة ، لا في إشعار هدايا حجة الوداع – انتهى . وقد تقدم نحو هذا عن صاحب اللمعات ، وقال الشيخ اللكنوي في حاشية الهداية : لو سلمنا أن إشعاره كان لأن المشركين كانوا لا يمتنعون إلا به لكن إزالة السبب لا تقتضي إزالة المسبب ، أما ترى إلى الرمل أنه بقي سنة مع زوال سببه فلا جرم يبقي الإشعار سنة أيضا وإن زال سببه ، قال : والأحسن في تأويل قول أبي حنيفة ما ذكره الطحاوي أنه إنما كره إشعار أهل زمانه ، وهذا توجيه جيد يجب صرف مذهبه إليه لئلا يكون مخالفا للأحاديث الصريحة ، ومع قطع النظر عن هذا التأويل لا طعن على أبي حنيفة في هذا الباب لاحتمال عدم وصول أحاديث الإشعار إليه بطريق الصحة ، والإمام إذا لم يصل إليه الحديث فعمل بالقياس فهو معذور . وقال في تعليقه على موطأ محمد : وحمله الطحاوي على أنه كره المبالغة فيه بحيث يؤدي إلى السراية وهو محمل حسن ، ولولاه لكان قول أبي حنيفة مخالفا للثابت بالأحاديث الصحيحة الصريحة صريحا ، وللقوم في توجيه ما روي عنه كلمات قد فرغنا عن دفعها في تعليقاتي على الهداية فلا نضيع الوقت بذكرها – انتهى . تنبيه : اتفق من قال بالإشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإبل إلا سعيد بن جبير ، واتفقوا على أن الغنم لا تشعر لضعفها ولكون صوفها أو شعرها يستر موضع الإشعار ، وأما على ما نقل عن مالك فلكونها ليست ذات أسنمة ، والله أعلم كذلك في الفتح . قلت : اختلف أصحاب المذاهب الأربعة في إشعار الإبل والبقر بعد ما اتفقوا على أن الغنم لا تشعر ، فذهب الشافعية والحنابلة إلى استنان الإشعار في الإبل

(18/391)


والبقر مطلقا أي ولو لم يكن لها سنام ، قال القسطلاني : إن لم يكن لها سنام أشعر موضعه هذا مذهب الشافعية وهو ظاهر المدونة . وقال القسطلاني في موضع آخر : مذهب الشافعي وموافقيه أنه يستحب تقليد البقر وإشعارها . وفي مناسك النووي : إن كانت بدنة أو بقرة استحب أن يقلدها وأن يشعرها أيضا ، وهو أن يضرب صفحة سنامها اليمنى . قال ابن حجر في شرحه : قوله (( صفحة سنامها )) هو في الإبل واضح ، وأما البقر فلا سنام لها فليضربها في محله لو كان لها أخذا مما في المجموع عن النص . وقال ابن قدامة : ويسن إشعار الإبل والبقر ، وقال مالك : إن كانت البقرة ذات سنام فلا بأس بإشعارها وإلا فلا . ثم قال ابن قدامه : وتشعر البقرة لأنها من البدن فتشعر كذات السنام ، وأما الغنم فلا يسن إشعارها لأنها ضعيفة وصوفها وشعرها يستر موضع إشعارها – انتهى . وأما عند المالكية ففي الإبل قولان ، المرجح الإشعار مطلقا أي ولو لم يكن لها سنام ، والثاني التقييد بالسنام . وفي البقر ثلاثة أقوال : الأول الإثبات مطلقا والثاني النفي مطلقا ، والثالث إشعار ذات السنام وهو المرجح عندهم كما يظهر من كلام الباجي والدردير والدسوقي والمدونة . وأما عند الحنفية فلا إشعار في البقر مطلقا . قال في شرح اللباب : الإبل تقلد وتجلل وتشعر ، والبقر
في صفحة سنامها الأيمن ،

(18/392)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا تشعر بل تجلل وتقلد والغنم لا يفعل بها شيء من الثلاثة – انتهى . ( في صحفة سنامها ) بفتح السين والصفحة الجانب والسنام أعلى ظهر البعير ( الأيمن ) صفة صفحة وذكره لمجاورته لسنام ، وهو مذكر ، أو على تأويل صفحة بجانب . وبه جزم النووي حيث قال : وصف لمعنى صفحة لا للفظها . ثم قال : أما محل الإشعار فمذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف أنه يستحب الإشعار في صفحة السنام اليمنى . وقال مالك في اليسري . وهذا الحديث يرد عليه – انتهى . قلت : اختلف العلماء في أن الإشعار في الأيمن أفضل أو في الأيسر وللمالكية في ذلك أربعة أقوال كما في الدسوقي والإكمال حيث قالا : وفي أولويته في الشق الأيمن أو الأيسر ، ثالثها إنما السنة في الأيسر ، ورابعها إنهما سواء – انتهى . لكن مشهور مذهب مالك الأيسر كما في الإكمال ، ولذا اقتصر عليه عامة نقلة المذاهب كالنووي والحافظ والعيني وغيرهم ، وبه قال صاحبا أبي حنيفة كما في العيني وغيره . وقال محمد في موطأه بعد رواية أثر ابن عمر : أنه كان يشعر بدنته في الشق الأيسر إلا أن تكون صعابا ، فإذا لم يستطع أن يدخل بينها أشعر من الشق الأيمن . قال محمد : وبهذا نأخذ الإشعار من الجانب الأيسر إلا أن تكون صعابا مقرنة لا يستطيع أن يدخل بينهما فليشعرها من الجانب الأيسر والأيمن ( الواو بمعنى أو ) انتهى . وهو أي الإشعار في الشق الأيسر رواية أحمد ، وفي أخرى له المشهور عنه أنه يشعر في الأيمن وبه قال الشافعي ، وهو رواية عن أبي يوسف وفي الدر المختار : الإشعار هو شق سنامها من الأيسر أو الأيمن . وفي الهداية : صفته أن يشق سنامها من الجانب الأيمن أو الأيسر ، قالوا : والأشبه هو الأيسر ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طعن في جانب اليسار مقصودا ، وفي جانب الأيمن اتفاقا . قال ابن الهمام : قالوا لأنها كانت تساق إليه وهو يستقبلها فيدخل من

(18/393)


قبل رؤسها والحربة بيمينه لا محالة ، والطعن حينئذ إلى الجهة اليسار أمكن وهو طبع هذه الحركة فيقع الطعن كذلك مقصودا ثم يعطف طاعنا إلى جهة يمينه بيمينه وهو مكتلف بخلافه إلى الجهة الأولى – انتهى . وهذا مبني على أنه - صلى الله عليه وسلم - أشعر في الأيمن والأيسر . أما الأول فهو مذكور في حديث ابن عباس عند مسلم الذي نحن في شرحه ، وأما الثاني أي الطعن في الأيسر فقال ابن عبد البر في كتاب التمهيد : رأيت في " كتاب ابن علية " عن أبيه عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشعر بدنه من الجانب الأيسر ثم سلت الدم عنها قال ابن عبد البر : هذا عندي منكر في حديث ابن عباس ، والمعروف ما رواه مسلم وغيره في الجانب الأيمن لا يصح في غير ذلك إلا أن ابن عمر كان يشعر بدنه من الجانب الأيسر – انتهى . وقد صحح ابن القطان كلامه هذا قال : وأنا أخاف أن يكون تصحف فيه الأيمن بالأيسر – انتهى . لكن قال الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 116) : قد روي هذا الحديث من غير طريق ابن علية ، فرواه أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا شعبة بن الحجاج عن
وسلت الدم عنها ، وقلدها نعلين ،

(18/394)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أتى ذا الحليفة أشعر بدنته في شقها الأيسر ثم سلت الدم بأصبعه ، فلما علت به راحلته البيداء لبى – انتهى . وقد سكت عليه الزيلعي والحافظ في الدراية . قيل : ويؤيده أثر ابن عمر عند مالك ، كما سيأتي . قلت : لم أجد رواية صحيحة أو ضعيفة تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - طعن في بعض البدنة في الشق الأيسر ، وفي البعض الآخر في الشق الأيمن . وأما رواية أبي يعلى الموصلي فهي معارضة لما رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عباس في الإشعار في الشق الأيمن فيقدم هذا ويرجح على رواية أبي يعلى . وأما تأويل الباجي لحديث ابن عباس عند مسلم بأنه كان ذلك لصعوبتها أو ليرى الجواز ، فلا يخفى ما فيه لأنه احتمال ناشئ من غير دليل . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 548) : السنة الإشعار في صفحتها اليمنى ، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور ، وقال مالك وأبو يوسف : بل تشعر في صفحتها اليسرى . وعن أحمد مثله لأن ابن عمر فعله . ولنا ما روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي الحليفة ثم دعا ببدنة وأشعرها من صفحة سنامها الأيمن – الحديث . رواه مسلم . وأما ابن عمر فقد روي عنه كمذهبنا رواه البخاري ( معلقا ) ثم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى من قول ابن عمر وفعله بلا خلاف ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه التيمن في شأنه كله – انتهى . وقال البخاري في صدر (( باب من أشعر بذي الحليفة ثم أحرم )) : وقال نافع كان ابن عمر إذا أهدى من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة يطعن في شق سنامه الأيمن بالشفرة ووجهها قبل القبلة باركة . قال الحافظ : وصله مالك في الموطأ قال : عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أهدي هديا من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة ، يقلده قبل أن يشعره وذلك في مكان واحد وهو موجه للقبلة ،

(18/395)


يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة ثم يدفع به معهم إذا دفعوا ، فإذا قدم منى غداة النحر نحره . وعن نافع عن ابن عمر كان إذا طعن في سنام هديه وهو يشعره قال : بسم الله والله أكبر . وأخرج البيهقي (ج 5 : ص 232) من طريق ابن وهب عن مالك وعبد الله بن عمر عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يشعر بدنه من الشق الأيسر إلا أن تكون صعابا ، فإذا لم يستطع أن يدخل بينها أشعر من الشق الأيمن ، وإذا أراد أن يشعرها وجهها إلى القبلة ، وتبين بهذا أن ابن عمر كان يطعن في الأيمن تارة وفي الأيسر أخري بحسب ما يتهيأ له ذلك – انتهى كلام الحافظ ( وسلت ) بمهملة ولام ثم مثناة ( الدم ) أي مسحه وأماطه وأزاله ( عنها ) أي عن صفحة سنامها ، زاد عند أبي داود (( بيده )) وفي أخري عنده أيضا (( بإصبعه )) قال الخطابي : سلت الدم بيده ، أي أماطه بإصبعه ، وأصل السلت القطع ، يقال : سلت الله أنف فلان أي جدعه ( وقلدها ) بتشديد اللام ( نعلين ) فيه دليل على استنان تقليد الإبل بنعلين ، وقد وقع الإجماع على استنان تقليد الهدي . قال ابن قدامة : يسن تقليد الهدي وهو أن يجعل في أعناقها النعال وآذان القرب وعراها أو علاقة إداوة سواء كانت إبلا أو بقرا أو
...............................................................................................

(18/396)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غنما . وقال مالك وأبو حنيفة : لا يسن تقليد الغنم – انتهى . وفي مناسك النووي : إن كانت بدنة أو بقرة استحب له أن يقلدها نعلين وليكن لهما قيمة ليتصدق بهما . ومن ساق غنما استحب أن يقلدها خرب القرب وهي عراها وآذانها ولا يقلدها النعل لأنها ضعيفة . وقال الدردير : سن في هدايا الإبل إشعار وتقليد أي تعليق قلادة أي حبل في عنقها ، وندب نعلان يعلقهما بنبات الأرض ، أي بحبل من نبات الأرض لا من صوف أو وبر ، وقال العيني : قال أصحابنا : لو قلد بعروة مزادة أو لحي شجرة أو شبه ذلك جاز لحصول العلامة . وذهب الشافعي والثوري إلى أنها تقلد بنعلين ، وهو قول ابن عمر . وقال الزهري ومالك : يجزئ واحدة ، وعن الثوري : يجزئ فم القربة ونعلان أفضل لمن وجدهما – انتهى . قال الحافظ : قيل الحكمة في تقليد النعل أن فيه إشارة إلى السفر والجد به فعلى هذا يتعين أي النعل ، والله أعلم . وقال ابن المنير في الحاشية : الحكمة فيه أن العرب تعتد النعل مركوبة لكونها تقي عن صاحبها وتحمل عنه وعر الطريق ، وقد كنى بعض الشعراء عنها بالناقة ، فكأن الذي أهدي خرج عن مركوبه لله تعالى حيوانا وغيره كما خرج حين أحرم عن ملبوسه ، ومن ثم استحب تقليد نعلين لا واحدة – انتهى . وفي شرح اللباب : يسن تقليد بدن الشكر دون بدن الجبر وهو أن يربط في عنق بدنة أو بقرة قطعة نعل كاملة أو ناقصة أو قطعة مزادة أو لحاء شجرة أو نحوه من شراك نعل وغير ذلك مما يكون علامة على أنه هدي ولا يسن في الغنم مطلقا لكن لو قلده جاز ولا بأس به – انتهى . والحديث دليل على أنه يسن تقليد الهدي وإشعاره من الميقات حيث قلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديه وأشعره بذي الحليفة ميقات أهل المدينة ، وقد صرح أهل الفروع من أتباع الأئمة الأربعة باستحباب التقليد والإشعار من الميقات . قال ابن قدامه : وإذا ساق الهدي من قبل الميقات استحب

(18/397)


إشعاره وتقليده من الميقات لحديث ابن عباس ، وإن ترك الإشعار والتقليد فلا بأس به ، لأن ذلك غير واجب – انتهى . وفي مناسك النووي : الأفضل أن يكون هديه معه من الميقات مشعرا مقلدا . وقال الدردير : ثالث السنن لمريد الإحرام تقليد هدي إن كان معه ، ثم إشعاره إن كان مما يشعر . وقال في اللباب من مناسك الحنفية : فإذا أحرم بالتلبية ساق هديه ويقلد البدنة ، إلى آخر ما بسط الكلام في حكم الإشعار وكيفيته واختلفوا هل الأفضل تقديم الإشعار على التقليد أو تقديم التقليد على الإشعار . قال القسطلاني : صح في الأول خبر في صحيح مسلم وصح في الثاني فعل ابن عمر وهو المنصوص ، وزاد في المجموع أن الماوردي حكى الأول عن أصحابنا كلهم ولم يذكر فيه خلافا – انتهى . وقال النووي في مناسكه : هل الأفضل أن يقدم الإشعار على التقليد فيه وجهان: أحدهما يقدم الإشعار فقد ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث ابن عمر مرفوعا ، والثاني وهو نص الشافعي تقديم التقليد ، وقد صح ذلك عن ابن عمر من فعله ، والأمر فيه قريب – انتهى . وقد تقدم قول الدردير أن ثالث السنن لمريد الإحرام تقليد هدي إن كان معه ثم إشعاره . وقال في موضع آخر : الأولى تقديم التقليد
ثم ركب راحلته ، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج . رواه مسلم .
2652 – (2) وعن عائشة ، قالت : أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة إلى البيت غنما ، فقلدها .

(18/398)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الإشعار لأنه السنة . قال الدسوقي : السنة تقديم التقليد فعلا خوفا من نفارها لو أشعرت أولا . قال الباجي : وقد قال ابن القاسم في المدونة : وكل ذلك واسع ، يريد أن الترتيب المذكور ليس بواجب – انتهى . ( ثم ركب راحلته ) أي غير التي أشعرها ( أهل بالحج ) أي لبى به وكذا بالعمرة لما في الصحيحين عن أنس قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة يقول : لبيك عمرة وحجا – انتهى . ومن حفظ حجة على من لم يحفظ . مع أنه يمكن أن الراوي اقتصر على ذكر الحج لأنه الأصل أو لأن مقصوده بيان وقت الإحرام والتلبية أو لعدم سماعه أولا أو لنسيانه آخرا ، قاله القاري . وقد تقدم نقل الخلاف في كيفية إحرامه - صلى الله عليه وسلم - وطريق الجمع بين المختلف فيه فليراجع ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 216 ، 254) والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدرامي والبيهقي وابن الجارود ، وقال الزيلعي : رواه الجماعة إلا البخاري .

(18/399)


2652 – قوله ( أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة إلى البيت ) أي بيت الله ( غنما ) أي قطعة من الغنم . ومعنى الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث بهديه قبل حجة الوداع مع من يحج وهو - صلى الله عليه وسلم - مقيم بالمدينة لا يحج ، وأنه بعث مرة غنما . وفي قولها (( مرة )) إشعار بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يهدي بالبدن لكونها أفضل ، وأهدى مرة بالغنم لبيان الجواز ، وقد ثبت إهداؤه بالبدن في حديث آخر لعائشة أيضا كما سيأتي ( فقلدها ) في الحديث دليل على جواز أن يكون الهدي من الغنم وأنها تقلد . وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء وخالف في ذلك الحنفية والمالكية فقالوا : إن الغنم لا تقلد . والحديث يرد عليهما . قال السندي في حاشية النسائي : الحديث صريح في جواز تقليد الغنم فلا وجه لمنع من منع ذلك . وقال النووي : فيه دلالة لمذهبنا ومذهب الكثرين أنه يستحب تقليد الغنم . وقال مالك وأبو حنيفة : لا يستحب بل خصا التقليد بالإبل والبقر ، وهذا الحديث صريح في الدلالة عليهما – انتهى . وحديث عائشة هذا هو من رواية الأسود عنها ، واللفظ المذكور لمسلم ، ولفظ البخاري (( قالت : أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة غنما )) وفي رواية له (( قالت : كنت أفتل القلائد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيقلد الغنم )) وفي لفظ له (( كنت أفتل قلائد الغنم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيبعث بها )) الحديث . وبوب البخاري على هذه الروايات (( تقليد الغنم )) قال الحافظ تحت هذه الترجمة : قال ابن المنذر : أنكر مالك وأصحاب الرأي تقليد الغنم ، زاد غيره وكأنهم لم يبلغهم الحديث ، ولم نجد لهم حجة إلا قول بعضهم أنها تضعف عن التقليد وهي حجة ضعيفة . لأن المقصود من التقليد العلامة ، وقد اتفقوا على أنها لا تشعر ، لأنها تضعف عنه فتقلد بما لا يضعفها . ثم ساق ابن المنذر من طريق عطاء وعبيد الله بن أبي يزيد وأبي جعفر محمد بن علي وغيرهم قالوا

(18/400)


: رأينا الغنم تقدم مقلدة . ولابن أبي شيبة عن ابن عباس
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نحوه ، والمراد بذلك الرد على من ادعى الإجماع على ترك إهداء الغنم وتقليدها وأعل بعض المخالفين حديث الباب بأن الأسود تفرد عن عائشة بتقليد الغنم دون بقية الرواة عنها من أهل بيتها وغيرهم . قال المنذري وغيره : وليست هذه بعلة لأنه حافظ ثقة لا يضره التفرد – انتهى . وقال العراقي في طرح التثريب : اختلفوا في استحباب تقليد الغنم فقال به الشافعي وأحمد ، ورواه ابن أبي شيبة عن عائشة وعن ابن عباس : لقد رأيت الغنم يؤتى بها مقلدة . وعن أبي جعفر : رأيت الكباش مقلدة . وعن عبد الله بن عبيد بن عمير أن الشاة كانت تقلد . وعن عطاء رأيت أناسا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسوقون الغنم مقلدة . وحكاه ابن المنذر عن إسحاق وأبي ثور قال : وبه أقول ، وإليه ذهب ابن حبيب من المالكية . وذهب آخرون إلى أنها لا تقلد كما أنها لا تشعر ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك . وحكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي ، ورواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر وسعيد بن جبير ويوافقه كلام البخاري فإنه بوب على هذا الحديث ( أي حديث عروة وعمرة عن عائشة : قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم ) (( باب فتل القلائد للبدن والبقر )) فحمل الحديث عليهما ولم يذكر الغنم – انتهى . قلت : ورد عليه الحافظ فقال : تنبيه : أخذ بعض المتأخرين من اقتصار البخاري في هذه الترجمة على الإبل والبقر أنه موافق لمالك وأبي حنيفة في أن الغنم لا تقلد وغفل هذا المتأخر عن أن البخاري أفرد ترجمة لتقليد الغنم بعد أبواب يسيرة كعادته في تفريق الأحكام في التراجم – انتهى . ثم قال العراقي : وظاهر حديث عروة عن عائشة

(18/401)


المذكور موافق للجمهور لأنها لم تخص بذلك هديا دون هدي ، وقد صرحت بالغنم في رواية الأسود عنها كما تقدم . وقال العيني : مذهب الحنفية أن التقليد في البدنة والغنم ليست من البدنة فلا تقلد لعدم التعارف بتقليدها ، ولو كان تقليدها سنة لما تركوها . وقالوا في الحديث المذكور : تفرد به الأسود ولم يذكره غيره ، وادعى صاحب المبسوط أنه أثر شاذ . فإن قلت : كيف يقال : تركوها ، وقد ذكر ابن أبي شيبة في مصنفه أن ابن عباس قال : لقد رأيت الغنم يؤتى بها مقلدة ؟ وعن أبي جعفر (( رأيت الكباش مقلدة )) وعن عبد الله بن عبيد بن عمير (( أن الشاة كانت تقلد )) وعن عطاء (( رأيت أناسا من الصحابة يسوقون الغنم مقلدة )) قلت : ليس في ذلك كله أن التقليد كان في الغنم التي سيقت في الإحرام ، وأن أصحابها كانوا محرمين ، على أنا نقول إنهم ما منعوا الجواز وإنما قالوا بأن التقليد في الغنم ليس بسنة – انتهى . قلت : الآثار المذكورة نص في تقليد الغنم وظاهر في أنه كان في الغنم التي سيقت إلى الحرم ونص أيضا في أن تقليد الغنم من الهدي كان معتادا متعارفا معمولا به في ما بين الصحابة والتابعين ، وحملها على غير ذلك ادعاء محض فلا يلتفت إليه ، وكذا اعتذار صاحب المبسوط وغيره عن حديث الأسود عن عائشة عند الشيخين وغيرهما بادعاء أنه شاذ لم يتابعه عليه أحد ، ليس مما يصغى إليه . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 549) : وقال مالك وأبو حنيفة : لا يسن تقليد الغنم لأنه لو كان سنة لنقل كما نقل عن الإبل ، ولنا أن عائشة قالت :
..................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/402)


كنت أفتل القلائد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيقلد الغنم ويقيم في أهله حلالا ، وفي لفظ " كنت أفتل قلائد الغنم للنبي - صلى الله عليه وسلم - " رواه البخاري . ولأنه هدي فيسن تقليده كالإبل ، ولأنه إذا سن تقليد الإبل مع إمكان تعريفها بالإشعار فالغنم أولى وليس التساوي في النقل شرطا لصحة الحديث ، ولأنه كان يهدي الإبل أكثر فكثر نقله – انتهى . قلت : حديث الباب مشكل على الحنفية والمالكية جدا ، وقد تمحل الحنفية للتخلص عنه بوجوه منها ما تقدم ، ومنها ما سيأتي آنفا . وقال الشنقيطي (ج 5 : ص 575) : واعلم أن الهدي من الغنم يسن تقليده عند عامة أهل العلم . وخالف مالك وأصحابه الجمهور . وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى غنما فقلدها . وقال بعض أهل العلم : لا تقلد بالنعال لضعفها . وإنما تقلد بنحو عرى القرب . والظاهر أن مالكا لم يبلغه حديث تقليد الغنم ، ولو بلغه لعمل به بأنه صحيح متفق عليه – انتهى . وأجاب بعض الحنفية عن حديث الباب بأنه أراد فقهاءنا من نفي تقليد الغنم التقليد بالنعل لا بالخيط المفتول ، فإذا صح الحديث بتقليد الغنم ولا شك أنه من العهن وهو الصوف المصبوغ فمحل نفي تقليد الغنم هو تقليدها بالنعال وما يشبهها ، ومحل إثبات التقليد هو بالخيوط المفتولة من الصوف والوبر فإذا لا يخالف حديث الباب مذهب أبي حنيفة وفقهائنا الحنفية لم يذكروا التقليد بالخيط لا نفيا ولا إثباتا ، فالقول والتمسك بهذا الحديث لا يخالف المذهب – انتهى . وفيه أن ذكر فتل القلائد من العهن لا يدل على الاكتفاء بالتقليد بالعهن في الغنم بل كان ذلك لأن يربط به النعل في عنق الهدي سواء كان إبلا أو بقرا أو غنما ، كما أن ذكر فتل القلائد للبدن في الرواية الآتية لا يدل على الاقتصار على ذلك في الإبل والبقر ، وقد ذكر البخاري في "باب تقليد الغنم" بعد رواية حديث الأسود عن عائشة حديث مسروق عنها قالت

(18/403)


: فتلت لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - تعني القلائد قبل أن يحرم . قال الحافظ : أما إردافه برواية مسروق مع أنه لا تصريح فيها بكون القلائد للغنم فلأن لفظ الهدي أعم من أن يكون لغنم أو لغيرها ، فالغنم فرد من أفراد ما يهدي ، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى الإبل وأهدى البقر فمن ادعى اختصاص الإبل بالتقليد فعليه البيان – انتهى . علا أنه يخالف التأويل المذكور ما تقدم عن القاري والعيني وغيرهما من نقلة المذاهب أن أبا حنيفة أنكر استنان تقليد الغنم مطلقا ، ولم يثبت عنه ولا عن غيره من فقهاء الحنفية أنهم فرقوا بين تقليد الغنم بالنعل وتقليدها بالخيوط بل أنكروه مطلقا كما تقدم . وعلى هذا فمذهب أبي حنيفة مخالف للحديث الصحيح من غير شك ، والظاهر أنه لم يبلغه الحديث ، ولا ما تقدم من الآثار المذكورة في كلام العراقي والعيني وغيرهما ، هذا . وقد احتج الكاساني على عدم استنان تقليد الغنم بقوله تعالى ? ولا الهدي ولا القلائد ? (2 : 5) قال الكاساني في البدائع (ج 2 : ص 162) : والدليل على أن الغنم لا يقلد قوله تعالى ? ولا الهدي ولا القلائد ? عطف القلائد على الهدي ، والعطف يقتضي المغايرة في الأصل ، واسم الهدي يقع على الغنم والإبل والبقر جميعا فهذا يدل على أن الهدي نوعان ما يقلد وما لا يقلد ، ثم الإبل والبقر يقلدان بالإجماع ، فتعين أن الغنم لا تقلد
متفق عليه .
2653- (3) وعن جابر ، قال : ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(18/404)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليكون عطف القلائد على الهدي عطف الشيء على غيره فيصح – انتهى . قال بعض الحنفية : ويؤيد ذلك ما قال الجصاص في أحكام القرآن : قد روي في تأويل القلائد وجوه عن السلف ، فقال ابن عباس : أراد الهدي المقلد ، قال أبو بكر ( الرازي الجصاص ) هذا يدل على أن من الهدي ما يقلد ومنه ما لا يقلد ، والذي يقلد الإبل والبقر والذي لا يقلد الغنم – انتهى . ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من التكلف والتعسف فإنه يلزم على هذا التفسير أن يكون المراد بالهدي في الآية الغنم فقط ولم يقل به أحد مع أنهم اختلفوا في تفسير القلائد على أقوال منها أن المراد القلائد حقيقة سواء كانت للإبل أو للبقر أو للغنم . وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد للنهي عن إحلال الهدي ، يعني أن فيه مبالغة عن التعرض للهدي المقلد ، فإنه إذا نهى عن قلادة أن يتعرض لها فبطريق الأولى أن ينهى عن التعرض للهدي المقلد بها ، وهذا كما في قوله : ? ولا يبدين زينتهن ? (24 : 31) لأنه إذا نهى عن إظهار الزينة فما بالك بموضعها من الأعضاء ، ومنها أن المراد بالقلائد الحيوانات المقلدة بها ويكون عطف القلائد على الهدي لزيادة التوصية بالهدي ، والمعنى : ولا الهدايا ذوات القلائد ، وعلى هذا القول إنما عطف القلائد على الهدي مبالغة في التوصية بها لأنها من أشرف البدن المهداة والمعنى : ولا تستحلوا الهدي خصوصا المقلدات منها . وقيل المراد أصحاب القلائد ، والمعنى : لا تتعرضوا للهدايا ولا لأصحابها . والتفسير الأول أولى . وعلى كل حال ليس في عطف القلائد على الهدي دلالة أو أدنى إشارة إلى أن الهدي الغير المقلد هو الغنم خاصة ، أو إلى أن الغنم من الهدي لا تقلد ( متفق عليه) قد تقدم أن اللفظ المذكور لمسلم وبهذا اللفظ رواه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي . وقد تقدم أيضا أن البخاري روى مثله لكن أسقط قوله "فقلدها" وكذا رواه الدارمي

(18/405)


ورواه أبو داود وابن الجارود بلفظ " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى غنما مقلدة " والحديث رواه أيضا أحمد والشيخان والترمذي والنسائي بألفاظ أخرى متقاربة .
2653- قوله ( وعن جابر ، قال : ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وفي الحديث الأتي " نحر " مكان " ذبح " والفرق بين النحر والذبح أن النحر يكون في اللبة (بفتح اللام وتشديد الموحدة ، هي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر) والذبح يكون في الحلق ، فالذبح هو قطع العروق التي في أعلى العنق تحت اللحيين ، قال ابن عابدين : النحر قطع العروق في أسفل العنق عند الصدر والذبح قطعها في أعلاه تحت اللحيين . وفي تكملة البحر : ولا بأس بالذبح في الحلق كله أسفله وأوسطه وأعلاه ، لأن ما بين اللبة واللحيين هو الحلق ، ولأن كله مجتمع العروق فصار حكم الكل واحد – انتهى . وفي البدائع : الذبح هو فري الأوداج ومحله ما بين اللبة واللحيين ، والنحر فري الأوداج ومحله آخر الحلق – انتهى . والحديث دليل
.................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/406)


لما ذهب إليه جمهور العلماء من أن نحر البقر جائز وإن كان الذبح مستحبا عندهم لقوله تعالى ? إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ? (2 : 67) وخالف الحسن بن صالح ومجاهد فاستحبا نحرها . وقال مالك : إن ذبح الجزور من غير ضرورة أو نحر الشاة من غير ضرورة لم تؤكل . وقال في الدر المختار : حب النحر للإبل وكره ذبحها ، والحكم في غنم وبقر عكسه ، فندب ذبحها وكره نحرها لترك السنة . وقال في البدائع : لو نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر يحل لوجود فري الأوداج لكنه يكره ( أي فعله لا المذبوح ) لأن السنة في الإبل النحر ، وفي غيرها الذبح ، لأن الأصل في الذكاة إنما هو الأسهل على الحيوان ، وما فيه نوع راحة له فهو أفضل والأسهل في الإبل النحر لخلو لبتها عن اللحم واجتماع اللحم فيما سواه من خلفها ، والبقر والغنم جميع حلقها لا يختلف – انتهى . وفي شرح الإقناع من فروع الشافعية يسن نحر إبل وذبح بقر وغنم ، ويجوز بلا كراهة عكسه . قال البجيرمي : لكنه خلاف الأولى ، خلافا للإمام مالك حيث قال : لا يجوز ذلك . وقال الدردير : وجب نحر إبل ووجب ذبح غيره من غنم وطير ، فإن نحرت ولو سهوا لم تؤكل إن قدر ، وجاز للضرورة ، أي جاز الذبح في الإبل والنحر في غيرها للضرورة كوقوع في مهواة أو عدم آلة ذبح أو نحر إلا البقر فيندب فيها الذبح . قال الدسوقي : ونحرها خلاف الأولى . ومثل البقر الجاموس وبقر الوحش فيجوز كل من الذبح والنحر فيهما . ومثل البقر في جواز الأمرين ونبد الذبح ما أشبه من حمار الوحش وغيره – انتهى . وقال ابن قدامة : لا خلاف بين أهل العلم في أن المستحب نحر الإبل وذبح ما سواها قال الله تعالى ? فصل لربك وأنحر ? (108 : 2) وقال الله تعالى ? إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ? (2 : 67) ومعنى النحر أن يضربها بحربة أو نحوها في الوهدة التي بين أصل عنقها وصدرها ، فإن ذبح ما ينحر أو نحر ما يذبح فجائز ، هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والزهري

(18/407)


وقتادة ومالك والليث والثوري وأبوحنيفة والشافعي وإسحاق وأبو ثور ، وحكي عن داود أن الإبل لا تباح إلا بالنحر ولا يباح غيرها إلا بالذبح ، لأن الله تعالى قال ? إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ? وقال تعالى ? فصل لربك وأنحر ? والأمر يقتضي الوجوب ، وحكي عن مالك أنه لا يجزئ في الإبل إلا النحر ، ولنا قوله - صلى الله عليه وسلم - أمرر الدم بما شئت ، وعن عائشة قالت : نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بقرة واحدة – انتهى مختصرا . وقال ابن رشد : اتفقوا على أن الذكاة في بهيمة الأنعام نحر وذبح ، وأن من سنة الغنم والطير الذبح ، وأن من سنة الإبل النحر ، وأن البقر يجوز فيها الذبح والنحر واختلفوا هل يجوز النحر في الغنم والطير والذبح في الإبل ؟ فذهب مالك إلى أنه لا يجوز النحر في الغنم والطير ، ولا الذبح في الإبل ، وذلك في غير موضع الضرورة . وقال قوم : يجوز جميع ذلك من غير كراهة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة العلماء . وقال أشهب : إن نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر أكل ، ولكنه يكره ، وفرق ابن بكير بين الغنم والإبل فقال : يؤكل البعير بالذبح ولا تؤكل الشاة بالنحر ، ولم يختلفوا في جواز ذلك في موضع الضرورة . وسبب اختلافهم معارضة
عن عائشة بقرة يوم النحر . رواه مسلم .
2654 – (4) وعنه ، قال : نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بقرة في حجته .

(18/408)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفعل للعموم . فأما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام " ما أنحر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا " وأما الفعل فإنه ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر الإبل والبقر وذبح الغنم ، وإنما اتفقوا على جواز ذبح البقر لقوله تعالى ? إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ? انتهى . ( عن عائشة ) أي لعائشة ولسائر نساءه كما سيأتي في الحديث الآتي ( بقرة ) ويحتمل أنه ذبح عن عائشة وحدها بقرة وجعل بقرة أخرى عن الكل تمييزا لها لأنها انفردت بسبب موجب وهو القران ، لأنها أردفت الحج على عمرتها ، وهن لما اشتركن في سبب غيره أشرك بينهن ويكون في ذلك تخصيص وتفضيل ، لأن الواجب في ذلك شاة أو سبع بدنة أو بقرة ، كما فعل في حق صواحبها ، ولعل إيثار البقر لأنه المتيسر حين إذن ، وإلا فالإبل أفضل منه ، وقيل إنه لبيان الجواز (يوم النحر) أي في حجته كما في رواية محمد بن بكر عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عند أحمد ومسلم ( رواه مسلم ) من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن ابن جريج . والحديث من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري . ورواه أيضا أحمد والبيهقي (ج 5 : ص 238) .

(18/409)


2654 – قوله ( وعنه ) أي عن جابر ( نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بقرة في حجته ) وفي الباب أيضا عن عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر عن أزواجه بقرة في حجة الوداع " . أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبري وابن ماجة كلهم من رواية يونس عن الزهري عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة ، لفظ أحمد ولفظ الثلاثة "بقرة واحدة " وعن أبي هريرة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن" أخرجه أبو داود والنسائي في الكبرى وابن ماجة ، والحديثان سكت عنهما أبو داود والمنذري . وحديث جابر مع حديثي عائشة وأبي هريرة يدل على جواز الاشتراك في الهدي إذا كان من الإبل أو البقر ، وللعلماء خلاف في ذلك فذهب الشافعي وأحمد والجمهور إلى جواز الاشتراك في الهدي سواء أكان تطوعا أم واجبا ، وسواء أكانوا كلهم متقربين أو بعضهم يريد القربة ، وبعضهم يريد اللحم ، واستدل لهم بما ورد من أحاديث الاشتراك المتقدمة وغيرها مما ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 209) والحافظ في الدراية (ص 324) والمجد في المنتقي (ج 4 : ص 330 ، 331) والمحب الطبري في القرى (ص 518 ، 527 ، 528) وقال داود وبعض المالكية : يجوز الاشتراك في هدي التطوع دون الواجب وهو مردود بحديث عطاء عن جابر قال : كنا نتمتع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنذبح البقرة عن سبع نشترك فيها . أخرجه أحمد والنسائي وغيرهما . فهذا صريح في جواز الاشتراك في دم التمتع وهو واجب لقوله عز وجل : ? فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ? (2 : 196) وذهب مالك إلى عدم جواز الاشتراك في الهدي مطلقا ، وأحاديث الباب تخالفه ، وروي عن ابن عمر
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/410)


نحو ذلك ، ولكنه روى عنه أحمد ما يدل على الرجوع عنه وموافقة الجمهور ، ولعل مالكا لم يبلغه ذلك . وذهب أبو حنيفة إلى جوازه إن كانوا كلهم متقربين سواء أكان هدي تطوع أم واجب وليس فيهم من يريد اللحم . وقد تقدم الكلام على مسألة الاشتراك في الهدي والإضحية في باب الإضحية . قلت : ويدل أيضا على جواز الاشتراك في الهدي من البقر ما رواه مالك في الموطأ والبخاري من طريقه في " باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن" عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة تقول : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج – الحديث . وفيه : قالت : فدخل علينا يوم النحر بلحم بقرة فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه ، وللشيخين من رواية سليمان بن بلال عن يحيى بلفظ " ذبح " قال ابن بطال : أخذ بظاهره جماعة فأجازوا الاشتراك في الهدي والإضحية ولا حجة فيه ، لأنه يحتمل أن يكون عن كل واحدة بقرة وأما رواية يونس عن الزهري عن عمرة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر عن أزواجه بقرة واحدة ، فقد قال إسماعيل القاضي : تفرد يونس بذلك ، وقد خالفه غيره – انتهى . قال الحافظ : رواية يونس أخرجها النسائي وأبو داود وغيرهما ويونس ثقة حافظ ، وقد تابعه معمر عند النسائي أيضا ، ولفظه أصرح من لفظ يونس قال : ما ذبح عن آل محمد في حجة الوداع إلا بقرة . وروى النسائي أيضا من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمن اعتمر من نسائه في حجة الوداع بقرة بينهن . صححه الحاكم وهو شاهد قوي لرواية الزهري ، وأما ما رواه عمار الدهني عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت : ذبح عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حججنا بقرة بقرة ، أخرجه النسائي أيضا ، فهو شاذ مخالف لما تقدم ، وقد رواه

(18/411)


البخاري في الأضاحي ومسلم أيضا من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ " ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه البقر " ولم يذكر ما زاده عمار الدهني – انتهى . وتعقبه الزرقاني فقال : لا شذوذ فيه ، فإن عمار الدهني – بضم المهملة وإسكان الهاء ونون – ثقة صدوق من رجال مسلم والأربعة ، فزيادته مقبولة فإنه قد حفظ ما لم يحفظ غيره ، وزيادته ليست مخالفة لغيره فإن رواية معمر " ما ذبح إلا بقرة " المراد بها جنس بقرة أي لا بعير ولا غنم ، فلا تنافي الرواية الصريحة أن عن كل واحدة بقرة ، فمن شرط الشذوذ أن يتعذر الجمع ، وقد أمكن فلا تأييد فيها لرواية يونس التي حكم إسماعيل القاضي بشذوذها لأنه انفرد بقوله " واحدة " وإسماعيل من الحفاظ لا يجهل أن يونس ثقة حافظ وإنما حكم بشذوذ روايته ومخالفة غيره له على القاعدة أن الشاذ ما خالف الثقة فيه الملأ . وحديث أبي هريرة لا شاهد فيه فضلا عن قوته إذ قوله "ذبح بقرة بينهن" لا صراحة فيه أنه لم يذبح سواها وإن كان ظاهره ذلك فتعارضه الرواية الصريحة في التعدد – انتهى . وفي هذا التعقب نظر لأن عمارا ويونس اختلفا في ذلك ، عمار وإن كان ثقة صدوقا فلا يساوي يونس لأنه ثقة حافظ كما تقدم في كلام الحافظ . وقال في التقريب عن عمار
......................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/412)


الدهني : إنه صدوق ، فإذا تعارضا في الوحدة والتعدد ترجح حديث يونس ، وقول الزرقاني " أن زيادته ليست مخالفة لغيره " ليس بصحيح ، فإن رواية يونس صريحة في نحر البقرة الواحدة عن أزواجه ، ورواية عمار صريحة في التعدد ولا يمكن الجمع بينهما ، ولا يصح إرادة الجنس في رواية معمر للتاء الفارقة بين الواحدة والجنس . قال العيني : الفرق بين البقرة والبقر كتمرة وتمر وعلى تقدير عدم التاء يحتمل التضحية بأكثر من واحدة – انتهى . واتفق من قال بالاشتراك على أنه لا يكون في أكثر من سبعة إلا إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب فقال : تجزئ عن عشرة ، وبه قال إسحاق بن راهويه وابن خزيمة من الشافعية واحتج لذلك في صحيحه وقواه ، وبه قال بن حزم ، وبسط في إثباته واستدل لذلك بما تقدم من أحاديث عائشة وأبي هريرة وجابر . وأجاب الجمهور عن ذلك بوجوه قال الشوكاني : قد استدل بقول عائشة المذكور على أن البقرة تجزئ عن أكثر من سبعة ، فإن الظاهر أنه لم يتخلف أحد من زوجاته يومئذ وهن تسع ، ولكن لا يخفى أن مجرد هذا الظاهر لا تعارض به الأحاديث الصريحة الصحيحة الواردة في إجزاء البقرة عن سبعة فقط المجمع على مدلولها . وقيل إن البقرة كانت عن سبع منهن وعن الباقية لعله ذبح غير البقر ، ولا يخفى ما فيه . وأجاب ابن القيم بأن أحاديث السبعة أكثر وأصح ، وحاصله أن الروايات في ذلك مختلفة ، وحديث عائشة يدل على الإجزاء لأكثر من سبعة ، لكن أحاديث الإجزاء لسبعة فقط أكثر وأصح فتقدم . تنبيه : اختلف في أن البقرة المذكورة في حديث عائشة عند مالك والشيخين إضحية كانت أو هديا وبكلا اللفظين وردت الروايات فروى البخاري في الأضاحي ومسلم أيضا من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن ابن القاسم بلفظ " ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بالبقر " وأخرجه مسلم من طريق ابن الماجشون عن عبد الرحمن بلفظ " أهدى " بدل " ضحى " قال الحافظ : والظاهر أن التصرف من الرواة

(18/413)


لأنه ثبت في الحديث ذكر النحر كما تقدم ، فحمله بعضهم على الأضحية ، فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك كان عن من اعتمر من نسائه فقويت رواية من رواه بلفظ " أهدى " وتبين أنه هدي التمتع فليس فيه حجة على مالك في قوله " لا ضحايا على أهل منى " وتبين توجيه الاستدلال به على جواز الاشتراك في الهدي والأضحية – انتهى كلام الحافظ . وهذا كما ترى يدل على أنه مال إلى أن البقرة المذكورة كانت هديا ، ونحى في كتاب الأضاحي إلى كونها أضحية حيث قال : قوله " ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه بالبقر " ظاهر في أن الذبح المذكور كان على سبيل الإضحية وحاول ابن التين تأويله ليوافق مذهبه فقال : المراد أنه ذبحها وقت ذبح الأضحية وهو ضحى يوم النحر ، قال : وإن حمل على ظاهره فيكون تطوعا لا على أنها سنة الأضحية ، كذا قال . ولا يخفى بعده ، واستدل به الجمهور على أن ضحية الرجل تجزئ عنه وعن أهل بيته ، وخالف في ذلك الحنفية ، وادعى الطحاوي أنه مخصوص أو منسوخ ولم يأت لذلك بدليل – انتهى . وهذا كما ترى رجح ها هنا خلاف ما رجحه في كتاب الحج . وذهب ابن القيم إلى أن الصواب رواية
رواه مسلم .
2655 – (5) وعن عائشة ، قالت : فتلت قلائد بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي ، ثم قلدها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/414)


الهدي فقد قال بعد ذكر مذهب ابن حزم " أن الحاج شرع له التضحية مع الهدي " : والصحيح إن شاء الله أن هدي الحاج له بمنزلة الأضحية للمقيم ، ولم ينقل أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه جمعوا بين الهدي والأضحية بل كان هديهم هو أضاحيهم فهو هدي بمنى وإضحية بغيرها ، وأما قول عائشة " ضحى عن نسائه بالبقر " فهو هدي أطلق عليه اسم الأضحية وأنهن كن متمتعات وعليهن الهدي ، فالبقر الذي نحره عنهن هو الهدي الذي يلزمهن – انتهى . لكن تبويب البخاري في كتاب الأضاحي على حديث عائشة المذكور " باب الأضحية للمسافر والنساء " و " باب من ذبح ضحية غيره " يدل على أنه حمل الحديث على الإضحية ، ولذلك استدل به لمالك على أن التضحية بالبقر أفضل خلافا للجمهور إذا قالوا : إن الأفضل البدنة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من راح في الساعة الأولى ( إلى الجمعة ) فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة " إلى آخره . مع أنه ليس في حديث عائشة تفضيل البقر ولا عموم لفظ . إنما هي قضية عين محتملة لأمور فلا حجة فيها لمالك ، واستدل به أيضا على الأضحية على النساء والأضحية على المسافر وعلى الحاج بمنى وغير ذلك من المسائل ليس هذا موضع تفصيلها . هذا . وقد ترجم البخاري على حديث عائشة كما تقدم " باب ذبح الرجل عن نسائه من غير أمرهن" قال الحافظ : أما قوله من غير أمرهن فأخذه من استفهام عائشة عن اللحم لما دخل به عليها ولو كان ذبحه بعلمها لم تحتج إلى الاستفهام ، لكن ليس ذلك دافعا للاحتمال فيجوز أن يكون علمها بذلك تقدم بأن يكون استأذنهن في ذلك . لكن لما أدخل اللحم عليها أحتمل عندها أن يكون هو الذي وقع الاستئذان فيه ، وأن يكون غير ذلك فاستفهمت عنه لذلك ، وقال النووي : هذا محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - استأذنهن في ذلك فإن تضحية الإنسان عن غيره لا يجوز إلا بإذنه – انتهى . وهكذا قال الطيبي كما في المرقاة .

(18/415)


قلت : وقد تقدم أن عائشة كانت قارنة فهي داخلة في قولها " وضحى عن نسائه بالبقر " لأن القارن يجب عليه دم القران فكان لابد من استيذانها كسائر النساء ، والله أعلم ( رواه مسلم ) من طريق سعيد بن يحيى الأموي عن أبيه عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر ، وهو أيضا من إفراد مسلم لم يخرجه البخاري .
2655 – قوله (فتلت قلائد بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) القلائد جمع قلادة بكسر القاف وهي ما تعلق بالعنق والبدن بضم الباء وإسكان الدال جمع البدنة بفتح الباء والدال وهي ناقة أو بقرة تنحر بمكة سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها والبدن التثمين والاكتناز وبدن إذا ضخم وبدن بالتشديد إذا أسن ( بيدي ) بفتح الدال وتشديد الياء على التثنية ، وروي بالإفراد على الجنسية . قال الحافظ : فيه رفع مجاز أن تكون أرادت أنها فتلت بأمرها ، وفيه دليل على استحباب فتل القلائد للهدي واستخدام الإنسان أهله في مثل هذا ( ثم قلدها ) زاد في رواية " بيده " قال ابن التين : يحتمل أن يكون قول عائشة
وأشعرها وأهداها ، فما حرم عليه كان أحل له .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/416)


" ثم قلدها بيده " بيانا لحفظها للأمر ومعرفتها به ويحتمل أن تكون أرادت أنه - صلى الله عليه وسلم - تناول ذلك بنفسه وعلم وقت التقليد ومع ذلك فلم يمتنع من شيء يمتنع منه المحرم لئلا يظن أحد أنه استباح ذلك قبل أن يعلم بتقليد الهدي . وقال الباجي : يحتمل أن تكون أرادت بذلك تبيين حفظها للأمر ومعرفتها من تناول كل شيء منه ، ويدل ذلك على اهتبالها بهذا الأمر ومعرفتها به ويحتمل أنها أرادت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تناول ذلك بنفسه وعلم وقت التقليد لئلا يظن أحد أنه استباح محظور الإحرام بعد تقليد هديه وقبل أن يعلم هو بذلك فتبين من ذلك أنه لم يأت شيئا من هذا إلا وهو عالم بتقليد هديه – انتهى . ( وأهداها ) أي مع أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة ، وفي الرواية الآتية دليل استحباب بعث الهدي إلى الحرم وإن لم يسافر معه مرسله ولا أحرم في تلك السنة ( فما حرم ) بفتح الحاء وضم الراء ( عليه ) أي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ( شيء كان أحل له ) بصيغة المجهول من الإحلال . وسبب هذا القول من عائشة رضي الله عنها أنها بلغها فتيا ابن عباس رضي الله عنهما فيمن بعث هديا إلى مكة أنه يحرم عليه ما يحرم على الحاج من لبث المخيط وغيره حتى ينحر هديه بمكة فقالت ذلك ردا عليه لأن باعث الهدي المقيم في بلده لا يصير بمجرد البعث محرما فلا يحرم عليه شيء ، روى البخاري في " باب إذا بعث بهديه ليذبح ( وأقام ) لم يحرم عليه شيء " من كتاب الأضاحي بسنده عن مسروق أنه أتى عائشة فقال لها : يا أم المؤمنين إن رجل يبعث بالهدي إلى الكعبة ويجلس في المصر فيوصي أن تقلد بدنته فلا يزال من ذلك اليوم محرما حتى يحل الناس ، قال : فسمعت تصفيقها من وراء الحجاب فقالت : لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه مما حل للرجال من أهله حتى يرجع الناس – انتهى . وفي الصحيحين " أن زياد بن

(18/417)


أبي سفيان كتب إلى عائشة أن عبد الله بن عباس قال : من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه ؟ فقالت عائشة : ليس كما قال ابن عباس ، " أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا أحله الله له حتى نحر الهدي " وروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى رجلا متجردا بالعراق فسأل الناس عنه ؟ فقالوا : أنه أمر بهديه أن يقلد فلذلك تجرد . قال ربيعة : فلقيت عبد الله بن الزبير فذكرت له ذلك فقال : بدعة ورب الكعبة – انتهى . قال الطحاوي : ولا يجوز عندنا أن يكون ابن الزبير حلف على ذلك أنه بدعة إلا وقد علم أن السنة خلاف ذلك . قال الحافظ : ورواه ابن أبي شيبة عن الثقفي عن يحيى بن سعيد أخبرني محمد بن إبراهيم أن ربيعة أخبره أنه رأى ابن عباس وهو أمير على البصرة في زمان علي متجردا على منبر البصرة فذكره ، فعرف بهذا اسم المبهم في رواية مالك – انتهى . وما ذهب إليه ابن عباس من أن الرجل إذا بعث هديا يحرم عليه ما يحرم على المحرم من محظورات الإحرام ، قال الحافظ : ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر ، رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب ، وابن المنذر من طريق ابن جريج كلاهما
......................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/418)


عن نافع أن ابن عمر كان إذا بعث بالهدي يمسك عما يمسك يمسك عنه المحرم إلا أنه لا يلبي . ومنهم قيس بن سعد بن عبادة . أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيب عنه نحو ذلك . وروى ابن أبي شيبة من طريق محمد بن علي بن الحسين عن عمر وعلي أنهما قالا في الرجل يرسل ببدنته أنه يمسك عما يمسك المحرم . وهذا منقطع . وقال ابن المنذر : قال عمر وعلي وقيس بن سعد وابن عمر وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون : من أرسل الهدي وأقام حرم عليه ما يحرم على المحرم . وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وآخرون : لا يصير بذلك محرما يعني لا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم . وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار ( ومنهم الأئمة الأربعة ) ومن حجة الأولين ما رواه أحمد والطحاوي وغيرهما من طريق عبد الرحمن بن عطاء عن عبد الملك بن جابر ( بن عيتك ) عن جابر بن عبد الله قال : كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه وقال : إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر على مكان كذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي – الحديث . قال الحافظ : وهذا لا حجة فيه لضعف إسناده . قلت : عبد الرحمن بن عطاء ضعفه عبد الحق في أحكامه ووافقه ابن القطان وقال ابن عبد البر : لا يحتج بما انفرد به فكيف إذا خالفه من هو أثبت منه وقد تركه مالك وهو جاره والحديث أخرجه عبد الرزاق من طريق البزار في مسنده عن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع ابني جابر يحدثان عن أبيهما جابر بن عبد الله قال : بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - جالس مع أصحابه إذ شق قميصه حتى خرج فسئل فقال : واعدتهم يقلدون هديي اليوم فنسيت – انتهى . وهذا أيضا لا حجة فيه لما تقدم ، وذكره ابن القطان من جهة البزار فقال : ولجابر ثلاثة أولاد : عبد الرحمن ومحمد وعقيل ، والله أعلم من هما من الثلاثة – انتهى . وقد ظهر بما قدمنا أن المسألة كان

(18/419)


فيها خلاف في السلف من الصحابة والتابعين لكن انقرض هذا الخلاف بعد ذلك واستقر الأمر على أن بمجرد تقليد الهدي وبعثه مع أحد لا يكون الرجل في حكم المحرم ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم . قال الحافظ : جاء عن الزهري ما يدل على أن الأمر استقر على خلاف ما قال ابن عباس ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه ، وأخرجه البيهقي (ج 5 : ص 233) من طريقه قال : أول من كشف العمى عن الناس وبين لهم السنة في ذلك عائشة فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها . قال : فلما بلغ الناس قول عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس – انتهى . قلت : وها هنا مسألة أخرى خلافية بين الأئمة ربما تلتبس على بعض الناس بالمسألة الأولى المتقدمة وهي أن من قلد الهدي وتوجه معه أي ساقه معه وأراد النسك هل يكون بتقليد الهدي وسوقه معه محرما أم لا ؟ فقال الحنفية يصير بالتقليد والتوجه معه ونية النسك محرما خلافا لمالك والشافي . قال الحافظ : ذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أن من أراد النسك صار بمجرد تقليده الهدي محرما حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق . قال : وقال أصحاب الرأي : من ساق الهدي وأم البيت ثم قلد وجب عليه الإحرام .
متفق عليه .
2656 – (6) وعنها ، قالت : فتلت قلائدها من عهن كان عندي ، ثم بعث بها مع أبي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/420)


وقال الجمهور : لا يصير بتقليد الهدي محرما ولا يجب عليه شيء – انتهى . وفي الهداية : من قلد بدنة تطوعا أو نذرا أو جزاء صيد وتوجه معها يريد الحج فقد أحرم لقوله - صلى الله عليه وسلم - : من قلد بدنة فقد أحرم . ولأن سوق الهدي في معنى التلبية في إظهار الإجابة لأنه لا يفعله إلا من يريد الحج أو العمرة ، وإظهار الإجابة قد يكون بالفعل كما يكون بالقول فيصير به محرما لاتصال النية بفعل هو من خصائص الإحرام ، فإن قلدها وبعث بها ولم يسقها لم يصر محرما لما روي عن عائشة قالت : كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث بها وأقام في أهله حلالا – انتهى . قال ابن الهمام : أفاد أنه لابد من ثلاثة : التقليد والتوجه معها ، ونية النسك ، وقوله لقوله - صلى الله عليه وسلم - : من قلد بدنة ، إلخ . غريب مرفوعا ، ووقفه ابن أبي شيبه في مصنفه على ابن عباس وابن عمر – انتهى مختصرا بقدر الضرورة . واستدل الزيلعي على الكنز بقول ابن عمر المذكور ثم قال : والأثر في مثله كالمرفوع وهو محمول على ما إذا ساقه لحديث عائشة المذكور أي جمع بين أثر ابن عمر وحديث عائشة . قلت : الراجح عندنا أنه لا يصير الرجل محرما بمجرد تقليد الهدي وسوقه معه حتى يلبي مع نية النسك ، لأن إيجاب الإحرام يحتاج إلى دليل وقد دلت النصوص على أنه لا يجب الإحرام إلا إذا بلغ الميقات وأراد مجاوزته ، وأما قبل الوصول إلى الميقات فلم يقم دليل على أنه يصير محرما أو يجب عليه الإحرام بمجرد تقليد الهدي أو سوقه . أما أثر ابن عمر وابن عباس فهو معارض لحديث عائشة المرفوع ، وحمله على سوق الهدي والتوجه معه خلاف الظاهر ، ولا دليل على أن التقليد والسوق يقوم مقام التلبية . تنبيه قال الحافظ : ما وقع في الأحاديث من استحباب التقليد والإشعار وغير ذلك يقتضي أن إظهار التقرب بالهدي أفضل من إخفاءه والمقرر أن إخفاء العمل الصالح غير الفرض أفضل من إظهاره فأما

(18/421)


أن يقال إن أفعال الحج مبنية على الظهور كالإحرام والطواف والوقوف فكان الإشعار والتقليد كذلك فيخص الحج من عموم الإخفاء ، وأما أن يقال : لا يلزم من التقليد والإشعار إظهار العمل الصالح ، لأن الذي يهديها يمكنه أن يبعثها مع من يقلدها ويشعرها ولا يقول إنها لفلان فتحصل سنة التقليد مع كتمان العمل – انتهى . ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وأخرج الترمذي معناه .
2656 – قوله ( فتلت قلائدها ) أي قلائد بدن النبي من ( عهن ) بكسر المهملة وسكون الهاء أي صوف مصبوغ بأي لون كان ، وقيل هو الأحمر خاصة ( كان عندي ) صفة عهن ( ثم بعث بها ) أي بالبدن المقلدة ( مع أبي ) بفتح الهمزة ، وكسر الموحدة الخفيفة تريد بذلك أباها أبا بكر الصديق ، واستفيد من ذلك وقت البعث وأنه كان في سنة تسعة عام حج أبو بكر بالناس . قال ابن التين : أرادت عائشة بذلك علمها بجميع القصة ، ويحتمل أن تريد أنه آخر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -
متفق عليه .
2657 – (7) وعن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يسوق بدنة ، فقال : " اركبها " . فقال : إنها بدنة . قال : " اركبها " . فقال : إنها بدنة . قال : " اركبها ويلك " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/422)


لأنه حج في العام الذي يليه حجة الوداع لئلا يظن ظان أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ ، فأرادت إزالة هذا اللبس وأكملت ذلك بقولها ( كما في رواية ) : فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله له حتى نحر الهدي أي وانقضى أمره ولم يحرم ، وترك إحرامه بعد ذلك أحرى وأولى ، لأنه إذا انتفى في وقت الشبهة فلأن ينتفي عند انتفاء الشبهة أولى ، كذا في الفتح ، وفي رواية لمسلم (( فأصبح فينا حلالا يأتي ما يأتي الحلال من أهله )) والحديث يدل على ما دل عليه الحديث السابق . قال الحافظ : وفيه رد على من كره القلائد من الأوبار واختار أن تكون من نبات الأرض ، وهو منقول عن ربيعة ومالك . وقال ابن التين : لعله أراد أنه الأولى مع القول بجواز كونها من الصوف والله أعلم . وفي حديث عائشة هذا والذي قبله دلالة على استحباب إرسال الهدي لمن لم يرد الحج وأنه يقلده ويشعره من بلده بخلاف من يخرج بهديه يريد الحج أو العمرة فإنه إنما يشعره ويقلده حين يحرم من الميقات كما تقدم ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج 5 : ص 233)

(18/423)


2657 – قوله ( رأى رجلا ) قال الحافظ : لم أقف على اسمه بعد طول البحث ، وقال العيني : لم يدر اسمه ( يسوق بدنة ) بفتحات . قال الحافظ : كذا في معظم الأحاديث ، ووقع لمسلم من طريق بكير بن الأخنس عن أنس رضي الله عنه (( مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ببدنة أو هدية )) ولأبي عوانة من هذا الوجه (( أو هدي )) وهو مما يوضح أنه ليس المراد بالبدنة مجرد مدلولها اللغوي . قال القسطلاني : البدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة وهي بالإبل أشبه ، وكثر استعمالها فيما كان هديا ، ولمسلم من طريق المغيرة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة (( بينا رجل يسوق بدنة مقلدة )) وكذا في طريق همام عن أبي هريرة ، وللبخاري وأحمد (ج 2 : ص 278) من طريق عكرمة عن أبي هريرة : فلقد رأيته راكبا يساير النبي - صلى الله عليه وسلم - والنعل في عنقها ( فقال : اركبها ) زاد النسائي من طريق سعيد عن قتادة ، والجوزقي من طريق حميد عن ثابت كلاهما عن أنس (( وقد جهده المشي )) ولأبي يعلى من طريق الحسن عن أنس (( حافيا )) لكنها ضعيفة ( فقال : إنها بدنة ) قال الحافظ : تبين بما تقدم من الطرق أنه أطلق البدنة على الواحدة من الإبل المهداة إلى البيت الحرام ولو كان المراد مدلولها اللغوي لم يحصل الجواب بقوله (( إنها بدنة )) لأن كونها من الإبل معلوم ، فالظاهر أن الرجل ظن أنه خفي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كونها هديا فلذلك قال : إنها بدنة ، والحق أنه لم يخف ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونها كانت مقلدة ، ولهذا قال له لما زاد في مراجعته (( ويلك )) ( قال : اركبها ويلك ) ووقع في رواية أحمد (ج 2 : ص 254) وابن ماجى (( اركبها ويحك )) قال الهروي : ويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة يستحقها ، وويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها ، وكان الأصمعي يقول :
في الثانية أو الثالثة .

(18/424)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (( ويل )) كلمة عذاب و (( ويح )) كلمة رحمة . وقال سيبويه : (( ويح )) زجر لمن أشرف على هلكة . وفي الحديث (( ويل واد في جهنم )) وكل ذلك أصل معنى الكلمة ، ولكن الظاهر المتبادر أنه - صلى الله عليه وسلم - قالها زاجرا وتأديبا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه . قال القرطبي : قالها له تأديبا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه . وبهذا جزم ابن عبد البر وابن العربي وبالغ حتى قال : الويل لمن راجع في ذلك بعد هذا . قال : ولو لا أنه - صلى الله عليه وسلم - اشترط على ربه ما اشترط لهلك ذلك الرجل لا محالة . قال القرطبي : ويحتمل أن يكون فهم عنه أنه يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة وغيرها فزجره عن ذلك ، فعلى الحالتين هي إنشاء ، ورجحه عياض وغيره ، قالوا : والأمر ها هنا وإن قلنا أنه للإرشاد لكنه استحق الذم بتوقفه على امتثال الأمر ، والذي يظهر أنه ما ترك الامتثال عنادا ، ويحتمل أن يكون ظن أنه يلزمه غرم بركوبها أو إثم ، وأن الإذن الصادر له بركوبها إنما هو للشفقة عليه فتوقف ، فلما أغلظ له بادر إلى الامتثال ، وقيل لأنه كان أشرف على هلكة من الجهد ، وويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة فالمعنى : أشرفت على الهلكة فاركب ، فعلى هذا فهي إخبار ، وقيل : هي كلمة تدعم بها العرب كلامها ولا تقصد معناها تجري على لسانهم في المخاطبة من غير قصد لمدلولها كما قيل في قوله عليه الصلاة والسلام : تربت يداك ، عقرى حلقى ، أفلح وأبيه ، وكما تقول العرب : لا أم له ، لا أب له ، قاتله الله ، ما أشجعه ، وأشباه ذلك ، ويقويه ما وقع بدله (( ويحك )) عند أحمد فإذا لا يكون إنشاء ولا إخبارا ( في الثانية ) أي في المرة الثانية ( أو الثالثة ) أي أو قال ذلك في المرة الثالثة ، وهذا شك من الراوي . قال القاري : في الثانية أو الثالثة أي في إحدى المرتين متعلق به قال ، وفي رواية

(18/425)


همام عن أبي هريرة عند مسلم (( قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ويلك اركبها ، فقال : بدنة يا رسول الله ، قال : ويلك اركبها ، ويلك اركبها )) قال الولي العراقي : فإن قلت : في هذه الرواية أنه عليه الصلاة والسلام بدأه بقوله : ويلك ، ثم قاله له في المرة الثانية والثالثة ، وفي الرواية الأولى أنه قال له ذلك في الثانية أو الثالثة فكيف الجمع بينهما ؟ قلت : يحتمل أنه قال له ذلك في الأولى لأمر دنيوي وهو ما حصل له من الجهد والمشقة بالمشي فكان محتاجا إلى الركوب ، وقال له ذلك في الثانية أو الثالثة لأمر ديني وهو مراجعته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتأخر امتثاله أمره – انتهى . والحديث يدل على جواز ركوب الهدي سواء كان واجبا أو متطوعا به لكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يفصل في قوله ولا استفصل صاحب الهدي عن ذلك وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال فدل على أن الحكم لا يختلف بذلك ، وأصرح من هذا ما أخرجه أحمد (ج 1 : ص 121) من حديث علي أنه سئل يركب الرجل هديه ؟ فقال : لا بأس به قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر بالرجال يمشون فيأمرهم يركبون هديه أي هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال : ولا تتبعون شيئا أفضل من سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، قال الحافظ : إسناده صالح – انتهى . وقد اختلفوا في ركوب الهدي على أقوال يأتي بيانها في شرح حديث جابر ، وفي الحديث تكرير العالم للفتوى والندب إلى المبادرة إلى امتثال الأمر وزجر من لم يبادر إلى ذلك وتوبيخه وجواز
متفق عليه .
2658 – (8) وعن أبي الزبير ، قال : سمعت جابر بن عبد الله سئل عن ركوب الهدي ، فقال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا " .

(18/426)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسايرة الكبار في السفر ، وأن الكبير إذا رأى مصلحة للصغير لا يأنف عن إرشاده إليها ، واستنبط البخاري من هذا الحديث جواز انتفاع الواقف بوقفه حيث بوب على هذا الحديث (( باب هل ينتفع الواقف بوقفه ؟ )) قال : وقد اشترط عمر لا جناح على من وليه أن يأكل ، وقد يلي الواقف وغيره . قال : وكذلك من جعل بدنة أو شيئا لله فله أن ينتفع بها كما ينتفع غيره وإن لم يشترط – انتهى . فهذا كما ترى أشار إلى إلحاق الوقف في ذلك بالهدي . قال الحافظ : وهو موافق للجمهور في الأوقاف العامة ، أما الخاصة فالوقف على النفس لا يصح عند الشافعية ومن وافقهم ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي الوصايا وفي الأدب ، ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 245 ، 254 ، 278) ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن أبي شيبة وأبو الشيخ ابن حبان في الأضاحي وابن الجارود في المنتقى ، وفي الباب عن أنس أخرجه أحمد والشيخان والنسائي والترمذي وابن ماجه والبيهقي والدارمي ، وأبو الشيخ ابن حبان في الضحايا .

(18/427)


2658 – قوله ( وعن أبي الزبير ) اسمه محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي مولاهم المكي روى عن العبادة الأربعة وجابر وأبي الطفيل وسعيد بن جبير وعكرمة وغيرهم ، وروى عنه عطاء وهو من شيوخه والزهري وابن جريج ومالك والأعمش وهشام بن عروة وأبو عوانة وخلق كثير ، وهو من رجال الستة . قال الحافظ في التقريب : صدوق إلا أنه يدلس ، من الرابعة ، مات سنة ست وعشرين ومائة ( اركبها بالمعروف ) أي بوجه لا يلحقها ضرر ( إذا ألجئت إليها ) أي إذا اضطررت إلى ركوبها ( حتى تجد ظهرا ) أي مركوبا آخر . والحديث يدل على جواز ركوب الهدي عند الضرورة وقد اختلفوا في هذا على أقوال ، والأول : الجواز مطلقا ، وهذا هو الذي جزم به الرافعي والنووي في مناسكه ، وفي الروضة في كتاب الضحايا ، وحكاه في شرح المهذب عن الماوردي والقفال وحكاه ابن المنذر عن عروة بن الزبير وأحمد وإسحاق وكذا حكاه النووي في شرحي مسلم والمهذب عنهم وعن مالك في رواية وعن أهل الظاهر ، وحكاه الخطابي في المعالم عن أحمد وإسحاق وصرح عنهما بأنهما لم يشترطا منه حاجة إليها ، ورواه ابن نافع عن مالك كما في الزرقاني . الثاني الجواز بشرط الاحتياج لذلك لا مطلقا فلا يركبها من غير حاجة ، نقله النووي في شرح المهذب عن أبي حامد والبندنيجي وغيرهما . وقال الرؤياني : تجويزه بغير حاجة يخالف النص وهو الذي نقله الترمذي عن الشافعي وأحمد وإسحاق حيث قال : وقد رخص قوم من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم في ركوب البدنة إذا احتاج إلى ظهرها وهو
...............................................................................................

(18/428)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قول الشافعي وأحمد وإسحاق ، وقال النووي في شرح مسلم : مذهب الشافعي أنه يركبها إذا احتاج ولا يركبها من غير حاجة ، وبهذا قال ابن المنذر وجماعة وهو رواية عن مالك – انتهى . وبه جزم في الروض المربع من فروع الحنابلة حيث قال : ويركب لحاجة فقط بلا ضرر ، وقال في المغني : وله ركوبه عند الحاجة على وجه لا يضر به . قال أحمد : لا يركبه إلا عند الضرورة . وهو قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي . الثالث : الجواز بشرط الاضطرار لذلك فلا تركب إلا عند شدة الحاجة والاضطرار إليه ، وهو المنقول عن جماعة من التابعين كالشعبي والحسن البصري وعطاء ابن أبي رباح . قال الولي العراقي : وهو الذي يقتضيه نص الشافعي فإنه قال : يركب الهدي إذا اضطر إليه . وإن كان النووي استشهد به للتجويز بشرط الحاجة ، فقد علم أن الضرورة أشد من الحاجة . وكذا نقله ابن المنذر والخطابي عن الشافعي فقالا : وقال الشافعي يركبها إذا اضطر ركوبا غير فادح ولا يركبها إلا من ضرورة . ورواه البيهقي عن عروة بن الزبير وهو قول أبي حنيفة وأصحابه فلذلك قيده صاحب الهداية من الحنفية بالاضطرار إلى ذلك . وهو قول الثوري إذ قال : لا يركب إلا إذا اضطر ، وبه جزم الدردير والدسوقي إذ قيداه بالاضطرار لجواز ابتداء الركوب لا الدوام . قال الحافظ : وقال ابن العربي عن مالك : يركب للضرورة فإذا استراح نزل ، ومقتضى من قيده بالضرورة أن من انتهت ضرورته لا يعود إلى ركوبها إلا من ضرورة أخرى . والدليل على اعتبار هذه القيود الثلاثة وهي الاضطرار والركوب بالمعروف وانتهاء الركوب لانتهاء الضرورة ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعا بلفظ (( اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا )) فإن مفهومه أنه إذا وجد غيرها تركها . وروى سعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي قال : يركبها إذا أعيي قدر ما يستريح على ظهرها . الرابع : الجواز مع

(18/429)


الكراهة من غير حاجة ، نسبه ابن عبد البر إلى الشافعي ومالك . الخامس : المنع مطلقا ، نقله ابن العربي عن أبي حنيفة وشنع عليه ، ورده الحافظ والعيني فإن مذهبه الإباحة عند الاضطرار كما تقدم . السادس : وجوب ذلك مطلقا حكاه ابن عبد البر والقاضي عياض عن بعض أهل الظاهر تمسكا بظاهر الأمر ولمخالفة ما كانوا عليه في الجاهلية من إكرام البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وإهمالها بلا ركوب . ورده ابن عبد البر بأن الذين ساقوا الهدي في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا كثيرا ولم يأمر أحدا منهم بذلك – انتهى . وتعقبه الحافظ فقال : وفيه نظر لما تقدم من حديث علي عند أحمد . وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح رواه أبو داود في المراسيل عن عطاء كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركبها غير منهكها . قال الحافظ : ولا يمتنع القول بوجوبه إذا تعين طريقا إلى إنقاذ مهجة إنسان من الهلاك – انتهى . قال الولي العراقي : من قال بالجواز مطلقا تمسك بظاهر حديث أبي هريرة ، فإنه عليه الصلاة والسلام أمر بذلك ، والأمر هنا للإباحة ، ولم يقيد ذلك بشيء ( واستدلوا أيضا بقوله تعالى ? لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ? (22 : 33) على أحد
..................................................................................

(18/430)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التفسيرين ، ولا تنتهض به الحجة لأنه محمول على كونه تدعوه للحاجة أو الضرورة إلى ذلك بدليل حديث جابر فهو أخص في محل النزاع ) قال العراقي : ومن قيد الجواز بالحاجة أو الضرورة قال : هذه واقعة محتملة وقد دلت رواية أخرى على أن هذا الرجل كان محتاجا للركوب أو مضطرا له ، روى النسائي عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يسوق بدنة وقد جهده المشي قال : اركبها – الحديث . ثم ذكر العراقي حديث جابر الذي نحن في شرحه ثم قال : ومن منع مطلقا فهذا الحديث حجة عليه ، ولعله لم يبلغه ، ومن أوجب فإنه حمل الأمر على الوجوب ، ووجهه أيضا مخالفة ما كانت الجاهلية عليه من إهمال السائبة والبحيرة والوصيلة والحام بلا ركوب . ودليل الجمهور أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى ولم يركب هديه ولم يأمر الناس بركوب الهدايا . قلت : القول الراجح عندي هو أنه إن دعته ضرورة لركوب الهدي جاز وإلا فلا ، وذلك لأن حديث جابر عند مسلم صريح في أن ركوب الهدي إنما يجوز بالمعروف إذا احتاج إليه واضطر لذلك ، فإن زالت الضرورة بوجود ظهر يركبه غير الهدي ترك ركوب الهدي ، فالقيد الذي في حديث جابر يقيد به حديث أبي هريرة وما في معناه الخالي عن القيد لوجوب حمل المطلق على المقيد عند جماهير العلماء لا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا ، ويفيد المعنى منع الركوب مطلقا فإنه جعلها كلها لله تعالى فلا ينبغي أن يصرف منها شيئا لمنفعة نفسه لكن السمح ورد بإطلاقه بشرط الحاجة رخصة فيبقى فيما وراءه على المنع الأصلي الذي هو مقتضى المعنى ، واعلم أن محل جواز ركوب الهدي ما لم يضر به الركوب ، وهذا متفق عليه بينهم ، وعليه يدل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر (( اركبها بالمعروف )) ومتى نقصت بالركوب ضمن النقصان عند الشافعية والحنفية والحنابلة ، ومقتضى نقل ابن عبد البر عن مالك أنه لا يضمن . قال

(18/431)


الطحاوي في اختلاف العلماء قال أصحابنا والشافعي : يركب إذا احتاج ، فإن نقصه ذلك ضمن . وقال مالك : لا يركب إلا عند الحاجة ، فإن ركب لم يغرم ، وصرح في الهداية وغيرها من فروع الحنفية بأنه لو ركبها فانتقص بركوبه فعليه ضمان ما نقص . وقال ابن قدامة في الشرح الكبير : وله ركوبها عند الحاجة ما لم يضر بها . قال أحمد : لا يركبها إلا عند الضرورة ، وهو قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا ، ولأنه تعلق بها حق المساكين فلم يجز ركوبها من غير ضرورة كملكهم ، و إنما جوزناه عند الضرورة للحديث ، فإن نقصها الركوب ضمن النقص لأنه تعلق بها حق غيره ، وفي الركوب مع عدم الحاجة روايتان إحداهما لا يجوز لما ذكرنا ، والثانية يجوز لحديث أبي هريرة وأنس – انتهى . واختلف المجيزون في أن جواز الركوب المقيد بالحاجة أو الضرورة هل ينتهي بانتهاء الحاجة أو يمتد إلى ما بعد ذلك ، وهما قولان لمالك ، فقال الجمهور يتقيد بذلك وينتهي بانتهاء الحاجة كما تقدم في بيان القول الثالث ما قال الحافظ من أن مقتضي من قيده بالضرورة أن من انتهت ضرورته لا يعود إلى ركوبها إلا من ضرورة أخرى . وقال عياض : قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا )) فيه حجة لأحد قولي
رواه مسلم .
2659 – (9) وعن ابن عباس ، قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة عشر بدنة

(18/432)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مالك أنه إذا ركب واستراح ينزل ، قال إسماعيل : وهذا الذي يدل عليه المذهب . وقال ابن القاسم : لا يلزمه النزول لأنه أبيح له الركوب فجاز له الاستصحاب . وقال الأبي : قوله حتى يجد ظهرا يرد قول ابن القاسم لأنه إذا زال العذر صار دوام ركوبه كابتداءه لا لعذر – انتهى . لكن مختار الدردير هو قول ابن القاسم حيث قال : فإن ركب حينئذ أي حين كان مضطرا فلا يلزم النزول بعد الراحة وإنما يندب فقط . قال الدسوقي : فإن نزل بعد الراحة فلا يركبها ثانيا إلا إذا اضطر كالأول . واختلفوا أيضا هل يحمل عليها متاعه فمنعه مالك وأجازه الجمهور قياسا للحمل على الركوب ، ورواه ابن أبي شيبة عن عطاء وطاوس ، وهل يحمل عليها غيره ؟ أجازه الجمهور أيضا على التفصيل المتقدم من جوازه مطلقا أو بقيد الحاجة أو الضرورة . قال الولي العراقي : قال أصحابنا : كما يجوز له الركوب بنفسه يجوز له إقامة غيره في ذلك مقام نفسه بالعارية فله أن يعيرها لركوب غيره ، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنه قال : له أن يحمل المعي والمضطر على هديه ومنعوا إجارتها لأنها بيع للمنافع ، ونقل القاضي عياض الإجماع على أنه لا يؤجرها ، وأما لبنها فقال الطحاوي : قال أصحابنا والشافعي : إن احتلب منها شيئا تصدق به فإن أكله تصدق بثمنه ، وقال مالك : لا يشرب من لبنه فإن شرب لم يغرم – انتهى . قال الشنقيطي : والظاهر أن شرب ما فضل من لبنها عن ولدها لا بأس به لأنه لا ضرر فيه عليها ولا على ولدها ، وقال ابن قدامة في المغني : وللمهدي شرب لبن الهدي لأن بقاءه في الضرع يضر به ، فإذا كان ذا ولد لم يشرب إلا ما فضل عن ولده لما رواه سعيد بن منصور والأثرم عن علي أنه أتاه رجل ببقرة قد أولدها فقال له : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها ، فإذا كان يوم الأضحى ضحيت بها وولدها عن سبعة . قال ابن قدامة : فإن شرب ما يضر بالأم أو ما لا

(18/433)


يفضل عن الولد ضمنه لأنه تعدى بأخذه – انتهى . ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي وابن الجارود .
2659 – قوله ( بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة عشر بدنة ) كذا وقع في جميع نسخ المشكاة ، وفي صحيح مسلم (( ست عشرة )) وهكذا في جامع الأصول ونسخ المصابيح . قال الطيبي : كلاهما صحيح ، لأن البدنة تطلق على الذكر والأنثى – انتهى . واختلفت الروايات في مقدار البدن التي بعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ففي هذا الرواية أنها ست عشر بدنة ، وفي أخرى عند مسلم أيضا أنها ثماني عشرة ، ويمكن الجمع بتعدد القصة أو يصار إلى ترجيح الرواية المشتملة على الزيادة إن كانت القصة واحدة ، قاله الشوكاني . وقال النووي : يجوز أنهما قضيتان ، ويجوز أن تكون قضية واحدة والمراد ثمان عشرة ، وليست في قوله (( ست عشرة )) نفي الزيادة لأنه مفهوم عدد ولا عمل عليه ، والله أعلم – انتهى . وأسند الواقدي
مع رجل ، وأمره فيها ، فقال : يا رسول الله ! كيف أصنع بما أبدع علي منها ؟ قال : " انحرها ، ثم اصبغ نعليها في دمها ، ثم اجعلها على صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك " .

(18/434)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في أول غزوة الحديبية القصة بطولها ، وفيها أنه عليه الصلاة والسلام استعمل على هديه ناجية بن جندب الأسلمي وأمره أن يتقدمه بها ، وقال : كان سبعين بدنة . قال القاري : نقل الواقدي مخالف لرواية مسلم اللهم إلا أن يقال العدد المذكور في رواية مسلم مختص بخدمة ناجية له ، والباقي لغيره من رفقائه كما يدل عليه قوله : وأمره فيها ( مع رجل ) أي ناجية الأسلمي قاله القاري ( وأمره ) بتشديد الميم أي جعله أميرا ( فيها ) أي لينحرها بمكة ( فقال يا رسول الله ) وفي مسلم (( قال : مضى ثم رجع فقال : يا رسول الله )) ( كيف أصنع بما أبدع ) بضم الهمزة وإسكان الباء وكسر الدال وفتح العين بصيغة المبني للمفعول ( على ) أي بما حبس على من الكلال ( منها ) أي من تلك البدن ، يقال أبدعت الراحلة إذا كلت وأعيت حتى وقفت من الإعياء ، وأبدع بالرجل على بناء المجهول إذا انقطعت راحلته به لكلال ، ولذا لم يقل أبدع بي لأنه لم يكن هو راكبا لأنها كانت بدنة يسوقها بل قال : أبدع على لتضمين معنى الحبس كما ذكرنا ( ثم اصبغ ) بضم الموحدة ويجوز فتحا وكسرها ( نعليها ) وفي حديث ابن عباس عن ذويب أبي قبيصة عند مسلم أيضا (( نعلها )) بالإفراد ، أي التي قلدتها في عنقها ( في دمها ) ليعلم أنه هدي عطب فينبغي أن يأكله من يجوز له أكله ، وحكي عن مالك أنه قال : أمره بذلك ليعلم أنه هدي فلا يستباح إلا على الوجه الذي ينبغي ( ثم اجعلها على صفحتها ) قال القاري : أي كل واحدة من النعلين على صفحة من صفحتي سنامها – انتهى . وقوله (( ثم اجعلها )) كذا في جميع نسخ المشكاة ، وفي صحيح مسلم (( ثم اجعله )) وهكذا في جامع الأصول ، وفي المصابيح (( ثم اجعلهما )) أي بضمير التثنية ، وفي حديث ذويب (( ثم اضرب به صفحتها )) ( ولا تأكل منها أنت ) للتأكيد ( ولا أحد ( أي ولا يأكل أحد ( من أهل رفقتك ) بضم الراء وسكون الفاء

(18/435)


، وفي القاموس : الرفقة مثلثة ، وقال الشوكاني : الرفقة بضم الراء وكسرها لغتان مشهورتان ، أي رفقاؤك فأهل زائد ، وقال البوصيري : بضم الراء وكسرها وسكون الفاء جماعة ترافقهم في سفرك والأهل مقحم . قال الطيبي : سواء كان فقيرا أو غنيا ، وإنما منعوا ذلك قطعا لأطماعهم لئلا ينحرها أحد ويتعلل بالعطب – انتهى . قال النووي : وفي المراد بالرفقة وجهان لأصحابنا ، أحدهما أنهم الذين يخالطون المهدى في الأكل وغيره دون باقي القافلة . والثاني وهو الأصح الذي يقتضيه ظاهر نص الشافعي وكلام جمهور أصحابنا أن المراد بالرفقة جميع القافلة ، لأن السبب الذي منعت به الرفقة هو خوف تعطيبهم إياه ، وهذا موجود في جميع القافلة . فإن قيل : إذا لم تجوزوا لأهل القافلة أكله وقلتم بتركه في البرية كان طعمة للسباع ، وهذا إضاعة مال . قلنا : ليس فيه إضاعة مال بل العادة الغالبة أن سكان البوادي وغيرهم يتتبعون منازل الحجيج لالتقاط ساقطة ونحو ذلك ، وقد تأتي قافلة في أثر قافلة ، والله أعلم – انتهى . والحديث يدل على أن من بعث معه هدي إلى الحرم فعطب في الطريق
..................................................................................

(18/436)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قبل بلوغ محله أنه ينحره ثم يصبغ نعليه في دمه ويضرب بالنعل المصبوغ بالدم صفحة سنامها ليعلم من مر بها أنها هدي ويخلي بينها وبين الناس ولا يأكل منها هو لا أحد من أهل رفقته . والظاهر أن علة منعه ومنع رفقته هو سد الذريعة لئلا يتوسل هو أو بعض رفقته إلى نحره بدعوى أنه عطب أو بالتسبب له في ذلك للطمع في أكل لحمه لأنه صار للفقراء وهم يعدون أنفسهم من الفقراء ، والظاهر عدم الفرق بين هدي التطوع والفرض لكن خصص ذلك بهدي التطوع لأن الهدي الذب بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هدي تطوع ، والظاهر أنه لا يجوز الأكل منه للأغنياء بل للفقراء . واختلف الفقهاء في حكم هدي التطوع إذا عطب قبل محله . قال الشنقيطي : أما هدي التطوع فالظاهر أنه إن عطب في الطريق ألقيت قلائده في دمه وخلى بينه وبين الناس وإن كان له سائق مرسل معه لم يأكل منه هو ولا أحد من رفقته ، وليس لصاحبه الأكل منعه عند مالك وأصحابه وهو ظاهر مذهب أحمد وليس عليه بدله لأنه لم يتعلق بذمته . قلت : مذهب مالك على ما يدل عليه فروع المالكية وكلام ابن قدامة أنه يجوز أكله للرفقاء مطلقا سواء كانوا أغنياء أو فقراء فضلا عن غير الرفقة ولا يجوز لصاحبه ولو فقيرا ولا لرسوله ولا يجوز له الأمر لأحد أن يأكل ولا أن يفرقه على الناس بل يخلي بينه وبينهم ، وارجع للتفصيل إلى المغني (ج 3 : ص 537 ، 538) وحملت المالكية حديث ابن عباس على سد الذريعة كما جزم به المازري والقرطبي والزرقاني والأبي . قال الشنقيطي : وأما مذهب الشافعي وأصحابه فهو أن هدي التطوع باق على ملك صاحبه فله ذبحه وأكله وبيعه وسائر التصرفات فيه ولو قلده ، لأنه لم يوجد منه إلا نية ذبحه والنية لا تزيل ملكه عنه حتى يذبحه بمحله ، فلو عطب في الطريق فلمهديه أن يفعل به ما يشاء من بيع وأكل وإطعام لأنه لم يزل في ملكه ولا شيء عليه في شيء من ذلك . قلت : وهكذا

(18/437)


ذكر مذهب الشافعي النووي في شرح مسلم وفي مناسكه والطيبي والقسطلاني ، وحمل الطيبي حديث ابن عباس على الهدي الواجب حيث حكى القاري عنه في شرح حديث ابن عباس تحت قوله (( ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك )) أنه قال : سواء كان فقيرا أو غنيا هذا إذا أوجبه على نفسه ، وأما إذا كان تطوعا فله أن ينحره ويأكل منه ، فإن مجرد التقليد لا يخرجه عن ملكه – انتهى . قال الشنقيطي : وأما مذهب أبي حنيفة في هدي التطوع إذا عطب في الطريق قبل بلوغ محله فهو أنه لا يجوز لمهديه الأكل منه ولا لغني من الأغنياء ، وإنما يأكله الفقراء . قلت : حاصل مذهب الحنفية أكله للفقراء سواء كانوا رفقة أم لا ، ولا يجوز للأغنياء مطلقا . قال الزيلعي في التبيين : حديث ابن عباس محمول على أنه ورفقته كانوا أغنياء . قال الشنقيطي : ووجه قول من قال : إن هدي التطوع إذا عطب في الطريق لا يجوز لمهديه أن يأكل منه ، هو أن الإذن له في الأكل جاء النص به بعد بلوغه ملحه ، أما قبل بلوغه محله فلم يأت الإذن بأكله ، ووجه خصوص الفقراء به لأنه حينئذ يصير صدقة لأن كونه صدقة خير من أن يترك للسباع تأكله ، هكذا قالوا ، والعلم عند الله تعالى – انتهى . وأما حكم الهدي الواجب إذا عطب قبل محله فقال
...................................................................................

(18/438)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخرقي : من ساق هديا واجبا فعطب دون محله صنع به ما شاء وعليه مكانه ، قال ابن قدامة (ج 3 : ص 534) الواجب من الهدي قسمان : أحدهما وجب بالنذر في ذمته ، والثاني وجب بغيره ، كدم التمتع والقرآن والدماء الواجبة بترك واجب أو فعل محظور ، وجميع ذلك ضربان ، أحدهما أن يسوقه ينوي به الواجب الذي عليه من غير أن يعينه بالقول ، فهذا لا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى أهله ، وله التصرف فيه بما شاء من بيع وهبة وأكل وغير ذلك ، وإن عطب تلف من ماله ، وإن تعيب لم يجزئه ذبحه ، وعليه الهدي الذي كان واجبا ، الضرب الثاني أن يعين الواجب عليه بالقول فيقول : هذا الواجب علي ، فإنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة منه ، فإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه وعاد الوجوب إلى ذمته وهذا كله لا نعلم فيه مخالفا ، وروي عن أحمد أنه يذبح المعيب وما في ذمته جميعا ، ولا يرجع المعين إلى ملكه . ثم قال الخرقي : وإن ساقه تطوعا نحره موضعه وخلى بينه وبين المساكين ولم يأكل منه هو ولا أحد من أهل رفقته ولا بدل عليه ، قال ابن قدامة (ج 3 : ص 537) : من تطوع بهدي غير واجب لم يخل من حالين : أحدهما أن ينوي به هديا ولا يوجب بلسانه ولا بإشعاره وتقليده ، فهذا لا يلزمه إمضاؤه وله أولاده ونماؤه والرجوع فيه متى شاء ما لم يذبحه لأنه نوى الصدقة بشيء من ماله فأشبه ما لو نوى الصدقة بدرهم . الثاني أن يوجب بلسانه فيقول هذا هدي أو يقلده أو يشعره ينوي بذلك إهداءه فيصير واجبا معينا يتعلق الوجوب بعينه دون ذمة صاحبه ويصير في يدي صاحبه كالوديعة يلزمه حفظه وإيصاله إلى محله ، فإن تلف بغير تفريط منه أو سرق أو ضل لم يلزمه شيء لأنه لم يجب في الذمة ، إنما تعلق الحق بالعين فسقط بتلفها كالوديعة ، وقد روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من أهدى

(18/439)


تطوعا ثم ضلت فليس عليه البدل إلا أن يشاء ، فإن كان نذرا فعليه البدل ، فأما إن أتلفه أو تلف بتفريطه فعليه ضمانه ، لأنه أتلف واجبا لغيره فضمنه كالوديعة ، وإن خاف عطبه أو عجز عن المشي وصحبة الرفاق نحره موضعه وخلى بينه وبين المساكين ولم يبح له أكل شيء منه ، ولا لأحد من صحابته ، وإن كانوا فقراء ويستحب له أن يضع نعل الهدي المقلد في عنقه في دمه ثم يضرب به صفحته ليعرفه الفقراء فيعلموا أنه هدي وليس بميتة فيأخذوه – انتهى . وقال عياض : أما ما عطب من الهدى الواجب قبل النحر فقال مالك والجمهور : يأكل منه صاحبه والأغنياء لأن صاحبه يضمنه لأنه تعلق بذمته ، واختلف هل له بيعه فمنعه مالك وأجازه الجمهور – انتهى . وهكذا ذكر ابن رشد ، والأبي في الإكمال ، وأما مذهب الشافعية فقال النووي في شرح مسلم : إن كان هديا منذورا لزمه ذبحه ، فإن تركه حتى هلك لزمه ضمانه كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت ، فإذا ذبحه غمس نعله التي قلده إياها في دمه ليعلم من مر به أنه هدي فيأكله ولا يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي الأكل منه ، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه مطلقا ، لأن الهدي مستحق للمساكين فلا يجوز لغيرهم ويجوز للفقراء من غير أهل هذه الرفقة ولا يجوز لفقراء الرفقة – انتهى . وهذا خلاف ما ذكره الشافعي في الأم
.........................................................................................

(18/440)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حيث قال (ج 2 : ص 183) : إذا عطب الهدي الواجب دون المحرم صنع به صاحبه ما شاء من بيع وهبة وإمساك وعليه بدله بكل حال ، لأنه قد خرج من أن يكون هديا حين عطب قبل أن يبلغ محله – انتهى . وحاصل مذهب الحنفية على ما في مناسكهم كالغنية وشرح اللباب وغيرهما أنه إن عطب الهدي الواجب قبل وصوله إلى محله فعليه أن يقيم غيره بدله وصنع بالأول ما شاء من بيع وغيره ، وقال الشنقيطي (ج 5 : ص 583) : اعلم أن الهدي إما واجب وإما تطوع ، والواجب إما بالنذر أو بغيره ، والواجب بالنذر إما معين أو غير معين ، فالظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه : أن الهدي الواجب بغير النذر كهدي التمتع والقرآن والدماء الواجبة بترك واجب أو فعل محظور ، والواجب بالنذر في ذمته كأن يقول (( لله علي نذر أن أهدي هديا )) أن لجميع ذلك حالين : الأولى أن يكون ساق ما ذكر من الهدي ينوي به الهدي الواجب عليه من غير أن يعينه بالقول كأن يقول : هذا الهدي سقته أريد به أداء الهدي الواجب علي . والحالة الثانية هي أن بسوقه ينوي الهدي المذكور مع تعيينه بالقول ، فإن نواه ولم يعينه بالقول فالظاهر أنه لا يزال في ضمانه ولا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى مستحقيه ، ولذا إن عطب في الطريق فله التصرف فيه بما شاء من أكل وبيع ، لأنه لم يزل في ملكه ، وهو مطالب بأداء الهدي الواجب عليه بشيء آخر غير الذي عطب ، لأنه عطب في ضمانه ، فهو بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه يقصد دفعه إليه ، فتلف قبل أن يوصله إليه ، فعليه قضاء الدين بغير التالف لأنه تلف في ذمته ، وإن تعيب الهدي المذكور قبل بلوغه محله ، فعليه بدله سليما ويفعل بالذي تعيب ما شاء لأنه لم يزل في ملكه وضمانه ، والذي يظهر أن له التصرف فيه ، ولو لم يعطب ولم يتعيب لأن مجرد نية إهدائه عن الهدي الواجب لا ينقل ملكه عنه ، والهدي المذكور لازم له في ذمته حتى يوصله إلى

(18/441)


مستحقه ، والظاهر أن له نماؤه . وأما الحالة الثانية وهي ما إذا نواه وعينه بالقول كأن يقول : هذا هو الهدي الواجب علي . والظاهر أن الإشعار والتقليد كذلك ، فالظاهر أنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة فليس له التصرف فيه ما دام سليما ، وإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه وعاد الوجوب إلى ذمته فيجب عليه هدي آخر ، لأن الذمة لا تبرأ بمجرد التعيين بالنية والقول أو التقليد والإشعار ، والظاهر أنه إن عطب فعل به ما شاء ، لأن الهدي لازم في ذمته وهذا الذي عطب صار كأنه شيء من ماله لا حق فيه لفقراء الحرم ، لأن حقهم باق في الذمة فله بيعه وأكله وكل ما شاء ، وعلى هذا جمهور أهل العلم ، وعن مالك يأكل ويطعم من شاء من الأغنياء والفقراء ، ولا يبيع منه شيئا ، وإن بلغ الهدي محله فذبحه وسرق فلا شيء عليه عند أحمد . قال في المغني (ج 3 : ص 535) : وبهذا قال الثوري وابن القاسم صاحب مالك ، وأصحاب الرأي ، وقال الشافعي : عليه الإعادة لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه ، فأشبه ما لو لم يذبحه ، ولنا أنه أدى الواجب عليه فبرئ منه كما لو فرقه ، ودليل أنه أدى الواجب أنه لم يبق إلا التفرقة وليست واجبة بدليل أنه لو خلى بينه وبين الفقراء أجزأه ، ولذلك لما نحر النبي - صلى الله عليه وسلم -
...............................................................................................

(18/442)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البدنات قال : من شاء اقتطع – انتهى . قال الشنقيطي : وأظهر القولين عندي أنه لا تبرأ ذمته بذبحه حتى يوصله إلى المستحقين ، لأن المستحقين إن لم ينتفعوا به ، لا فرق عندهم بين ذبحه وبين بقائه حيا ، ولأن الله تعالى يقول : ? وأطعموا البائس الفقير ? (22 : 28) ويقول : ? وأطعموا القانع والمعتر ? ( 2 : 36) والآيتان تدلان على لزوم التفرقة والتخلية بينه وبين الفقراء يقتسمونه تفرقة ضمنية ، لأن الإذن لهم في ذلك وهو متيسر لهم كإعطائهم إياه بالفعل ، والعلم عند الله تعالى . وقول من قال إن الهدي المذكور إن تعيب في الطريق فعليه نحره ، ونحر هدي آخر غير معيب لا يظهر كل الظهور ، إذ لا موجب لتعدد الواجب عليه وهو لم يجب عليه إلا واحد ، وحجة من قال بذلك : أنه لما عينه متقربا به إلى الله لا يحسن انتفاعه به بعد ذلك ولو لم يجزئه ، وأما الواجب المعين بالنذر كأن يقول : نذرت لله إهداء هذا الهدي المعين ، فالظاهر أنه يتعين بالنذر ولا يكون في ذمته ، فإن عطب أو سرق لم يلزمه بدله ، لأن حق الفقراء إنما يتعلق بعينه لا بذمة المهدي ، والظاهر أنه ليس له الأكل منه ، سواء عطب في الطريق أو بلغ محله ، وحاصل ما ذكرنا راجع إلى أن ما عطب بالطريق من الهدي إن كان متعلقا بذمته سليما فالظاهر أن له الأكل منه والتصرف فيه ، لأنه يلزمه بدله سليما ، وقيل : يلزم الذي عطب والسليم معا لفقراء الحرم ، وأن ما تعلق الوجوب فيه بعين الهدي كالنذر المعين للمساكين ليس له تصرف فيه ولا الأكل منه إذا عطب ولا بعد نحره إن بلغ محله على الأظهر – انتهى . تنبيه : اختلف فيما إذا ضل المعين فذبح غيره ثم وجد الضال . قال الشنقيطي : الأظهر عندي أنه إذا عين هديا بالقول أو التقليد والإشعار ثم ضل ثم نحر هديا آخر مكانه ثم وجد الهدي الأول الذي كان ضالا ، أن عليه أن ينحره أيضا ، لأنه صار هديا للفقراء فلا

(18/443)


ينبغي أن يرده لملكه مع وجوده ، وكذلك إن عين بدلا عنه ، ثم وجد الضال فإنه ينحرهما جميعا ، قال ابن قدامة في المغني (ج 3 : ص 535) : وإن ضل المعين فذبح غيره ثم وجده ، أو عين غير الضال بدلا عما في الذمة ، ثم وجد الضال ذبحهما معا . روى ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وفعلته عائشة ، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق ، ويتخرج على قولنا فيما إذا تعيب الهدي فأبدله ، فإن له أن يصنع به ما شاء أن يرجع إلى ملك أحدهما ، لأنه قد ذبح ما في الذمة فلم يلزمه شيء آخر كما لو عطب المعين ، وهذا قول أصحاب الرأي . ووجه الأول ما روى عن عائشة أنها أهدت هديين فأضلتهما فبعث إليها ابن الزبير هديين فنحرتهما ، ثم عاد الضالان فنحرتهما ، وقالت : هذه سنة الهدي ، رواه الدارقطني ، وهذا منصرف إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأنه تعلق حق الله بهما بإيجابهما أو ذبح أحدهما ، وإيجاب الآخر – انتهى كلام ابن قدامة . قال الشنقيطي بعد ذكره : وليس في المسألة شيء مرفوع ، والأحوط ذبح الجميع كما ذكرنا أنه الأظهر والعلم عند الله تعالى ، ثم قال الشنقيطي : إن الهدي إن كان معينا بالنذر من الأصل بأن قال : نذرت إهداء هذا الهدي بعينه أو معينا تطوعا إذا رآه صاحبه في حالة يغلب على الظن أنه سيموت فإنه تلزمه ذكاته ، وإن فرط فيها حتى مات كان
........................................................................................

(18/444)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه ضمانه ، لأنه كالوديعة عنده ، أما لو مات بغير تفريطه أو ضل أو سرق فليس عليه بدل عنه لأنه لم يتعلق الحق بذمته بل بعين الهدي ، والأظهر عندي إن لزمه بدله بتفريطه أنه يشتري هديا مثله وينحره بالحرم بدلا عن الذي فرط فيه ، وإن قيل بأنه يلزمه التصدق بقيمته على مساكين الحرم فله وجه من النظر ، والله أعلم ، ولا نص في ذلك – انتهى . وأما ما يجوز الأكل منه من الهدايا إذا بلغت محلها وما لا يجوز فقد اختلفوا فيه أيضا فذهب مالك وأصحابه إلى جواز الأكل من جميع الهدي واجبه وتطوعه إذا بلغ محله إلا ثلاثة أشياء : جزاء الصيد ، وفدية الأذى ، والنذر الذي هو للمساكين . قال الأبي : أما ما بلغ من الهدي محله فمشهور مذهب مالك أنه لا يأكل من ثلاثة : من الجزاء والفدية ونذر المساكين ، ويأكل مما سوى ذلك ، وبه قال فقهاء الأمصار وجماعة من السلف – انتهى . وهكذا حكى الباجي ، وقال الدردير : لما كان الأكل من دماء الحج ينقسم منعا وإباحة باعتبار بلوغ المحل وعدمه أربعة أقسام أشار للأول منها وهو المنع مطلقا بقوله ( ولم يؤكل ) أي يحرم على رب الهدي أن يأكل ( من نذر مساكين عين لهم ) باللفظ أو النية بأن قال هذا نذر الله ونوى أن يكون للمساكين ( مطلقا ) بلغ محله أو لم يبلغ ، ومثل نذر المساكين هدي التطوع إذا نواه للمساكين وكذا الفدية إن لم يجعل هديا فهذه ثلاثة يحرم الأكل منها طلقا ، وأشار للقسم الثاني بقوله ( عكس الجميع ) أي جمع الهدايا غير ما ذكر من تطوع أو واجب لنقص بحج أو عمرة من ترك واجب أو فساد أو فوت أو تعدي ميقات أو متعة أو قران أو نذر لم يعين فله الأكل منها مطلقا بلغت محلها أو لا ، وإذ جاز له الأكل في الجميع ( فله إطعام الغني والقريب ) وأولى غيرهما ثم استثنى مما يؤكل منه مطلقا ما يؤكل في حال دون حال ، وتحته قسمان أولهما ثالث الأقسام الأربعة بقوله ( إلا )

(18/445)


ثلاثة ( نذرا لم يعين ) مثل لله علي هدي للمساكين ( والفدية ) إذا جعلت هديا ( والجزاء ) للصيد فلا يأكل من هذه الثلاثة ( بعد بلوغ المحل ) سالمة ، فأما إن عطبت قبله فيأكل منها لأن عليه بدلها وأشار لرابع الأقسام بقوله ( وهدي تطوع ) لم يجعله للمساكين بلفظ (( ولا نية )) ومثله النذر المعين الذي لم يجعل لهم ( إن عطب ) قبل محله فلا يأكل منه ، وأما إن وصل لمحله سالما فإنه يأكل منه – انتهى ، وقال اللخمي : كل هدي واجب في الذمة عن حج أو عمرة من فساد أو متعة أو قران أو تعدي ميقات أو ترك النزول بعرفة نهارا أو ترك النزول بمزدلفة أو ترك رمي الجمار أو أخر الحلق يجوز الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده ، أما جزاء الصيد وفدية الأذى فيوكل منهما قبل بلوغهما محلهما ولا يؤكل منهما بعده ، وأما النذر المضمون إذا لم يسمعه للمساكين فإنه يأكل منه بعد بلوغه محله ، وإن كان منذورا معينا ولم يسمه للمساكين أو قلده أو أشعره من غر نذر أكل منه بعد بلوغه محله ولم يأكل منه قبله ، وإن عين النذر للمساكين أو نوى ذلك حين التقليد والإشعار لم يأكل منه قبل ولا بعد ، والحاصل أن النذر المعين للمساكين لا يجوز له الأكل منه مطلقا عند مالك ، وأن النذر المضمون للمساكين حكمه عند المالكية حكم جزاء الصيد وفدية الأذى فيمتنع الأكل منه
.......................................................................................

(18/446)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعد بلوغه محله ويجوز قبله ، لأنه باقي في الذمة حتى يبلغ محله ، وأما النذر المضمون الذي لم يسم للمساكين كقوله : لله علي نذر أن أتقرب إليه بنحر هدي . فله عند المالكية الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده ، وقد تقدم أن هدي التطوع إن عطب في الطريق لا يجوز له الأكل منه عند المالكية ، وذهب أحمد في المشهور عنه إلى أنه لا يؤكل من الهدايا إلا دم التمتع والقران والتطوع ، وبه قالت الحنفية كما سيأتي . قال الحافظ في الفتح تحت ما روى البخاري عن ابن عمر معلقا أنه قال : لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ويؤكل من سوى ذلك : وهذا القول إحدى الروايتين عن أحمد وهو قول مالك وزاد (( إلا فدية الأذى )) الأخرى عن أحمد (( لا يؤكل إلا من هدي التطوع والتمتع والقرآن )) وهو قول الحنفية بناء على أصلهم أن دم التمتع والقران دم نسك لا دم جبران – انتهى . وقال الخرقي : ولا يأكل من كل واجب إلا من هدي التمتع ، قال ابن قدامة (ج 3 : ص 541) : المذهب أنه يأكل من هدي التمتع والقران دون ما سواهما نص عليه أحمد ، ولعل الخرقي ترك ذكر القران لأنه متعة أو اكتفى بذكر المتعة لأنهما سواء في المعنى ، فإن سببهما غير محظور فأشبها هدي المتطوع ، وهذا قول أصحاب الرأي وعن أحمد أنه لا يأكل من المنذور وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما ، وهو قول ابن عمر وعطاء والحسن وإسحاق ، لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله الله تعالى بخلاف غيرهما . وقال ابن أبي موسى : لا يأكل أيضا من الكفارة ويأكل مما سوى هذه الثلاثة ، ونحوه مذهب مالك لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين ولا مدخل للإطعام فيه فأشبه التطوع ، وقال الشافعي : لا يأكل من واجب لأنه هدي وجب بالإحرام ، فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة ، ولنا أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تمتعن معه في حجة الوداع وأدخلت عائشة الحج على العمرة فصارت قارنة ، ثم ذبح عنهن النبي - صلى

(18/447)


الله عليه وسلم - البقرة فأكلن من لحومها ، قال أحمد : قد أكل من البقرة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة خاصة ، وقال ابن عمر : تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج فساق الهدي من ذي الحليفة ، متفق عليه . وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها ، رواه مسلم . ولأنهما دماء نسك فأشبها التطوع ولا يؤكل من غيرهما لأنه يجب بفعل محظور فأشبه جزاء الصيد ، فأما هدي التطوع وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته ، وما نحره تطوعا من غير أن يوجبه فيستحب أن يأكل منه لقول الله تعالى ? فكلوا منها ? (22 : 28) وأقل أحوال الأمر الاستحباب ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من بدنة . وقال جابر : كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث ، فرخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كلوا وتزودوا ، فأكلنا وتزودنا . رواه البخاري ، وإن لم يأكل فلا بأس فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نحر البدنات الخمس قال : من شاء اقتطع ولم يأكل منهن شيئا – انتهى . وقال في الهداية : يجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران لأنه دم نسك فيجوز الأكل منها بمنزلة الإضحية ، وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من لحم هديه وحسا من المرقة ، ويستحب له أن يأكل منها لما روينا وكذلك
رواه مسلم .
2660 – (10) وعن جابر ، قال : نحرنا مع رسول الله عام الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة .

(18/448)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا ، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا لأنها دماء كفارات – انتهى . وقال في شرح اللباب : الهدي على نوعين ، هدي شكر وهو هدي المتعة والقران والتطوع ، وهدي جبر وهو سائر الدماء الواجبة ما عدا الثلاثة ، وكل دم وجب شكرا فلصاحبه أن يأكل منه ما شاء ولا يتقيد ببعض منه ويؤكل الأغنياء والفقراء ، ولا يجب التصدق لا بكله ولا ببعضه ، بل يستحب أن يتصدق بثلثه ، ويطعم ثلثه ، ويهدي للأغنياء ثلثه ، وكل دم وجب جبرا لا يجوز له الأكل منه ولو كان فقيرا ولا للأغنياء ، ويجب التصدق بجميعه حتى لو استهلكه بعد الذبح كله أو بعضه لزمه قيمته للفقراء فيتصدق بها عليهم – انتهى . ومذهب الشافعية أنه لا يجوز أكل شيء من الدماء الواجبة حتى دم التمتع والقران ويجوز الأكل من دم التطوع مع وجوب التصدق ببعض لحمه . قال النووي : وكذا قال الأوزاعي وداود الظاهري : لا يجوز الأكل من الواجب ، قال الشنقيطي بعد ذكر مذاهب الأئمة : الذي يرجحه الدليل في هذه المسألة هو جواز الأكل من هدي التطوع وهدي التمتع والقران دون غير ذلك ، والأكل من هدي التمتع لا خلاف فيه من بين العلماء بعد بلوغه محله ، وإنما خلافهم في استحباب الأكل منه أو وجوبه ، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع أنه أهدى مائة من الإبل ، ومعلوم أن ما زاد على الواحدة منها تطوع ، وقد أكل منها وشرب من مرقها جميعا . وأما الدليل على الأكل من هدي التمتع والقران فهو ما ثبت في الصحيح أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح عنهن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرا ودخل عليهن بلحمه وهن متمتعات وعائشة منهن قارنة وقد أكلن جميعا مما ذبح عنهن في تمتعهن وقرانهن بأمره - صلى الله عليه وسلم - ، وهو نص صحيح صريح في جواز الأكل من هدي التمتع والقران ، أما غير

(18/449)


ما ذكرنا من الدماء فلم يقم دليل يجب الرجوع إليه على الأكل منه ، ولا يتحقق دخوله في عموم قوله تعالى ? فكلوا منها ? لأنه لترك واجب أو فعل محظور ، فهو بالكفارات أشبه ، وعدم الأكل منه أظهر وأحوط ، والعلم عند الله تعالى - انتهى . ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 243) وفي الباب أيضا عن ذويب أبي قبيصة عند أحمد ومسلم وابن ماجة والبيهقي ، وعن ناجية الخزاعي وسيأتي في الفصل الثاني ، وعن عمرو بن خارجة الثمالي عند أحمد (ج 4 : ص 187 ، 238) والطبراني في الكبير وعن أبي قتادة عند الطبراني في الأوسط وعن شهر بن حوشب عن الأنصاري صاحب بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أحمد (ج 4 : ص 64) .
2660 – قوله ( عام الحديبية ) بالتخفيف وقيل بالتشديد ( البدنة ) أي الإبل ( عن سبعة والبقرة عن سبعة ) ظاهره
......................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/450)


أن البقرة لا تسمى بدنة وهو كذلك بالنسبة لغالب استعمالها ففي القاموس البدنة محركة ، من الإبل والبقر كالإضحية من الغنم تهدي إلى مكة المكرمة للذكر والأنثى ، وفي الصحاح للجوهري : البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة ، وفي النهاية : البدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة وهي بالإبل أشبه ، وقال في الفتح : إن أصل البدن ممن الإبل وألحقت بها البقرة شرعا – انتهى . والحديث فيه دليل على جواز اشتراك السبعة في الهدي من البدنة وهو قول الجمهور ، وعن داود وبعض المالكية يجوز في هدي التطوع دون الواجب ، وعن مالك لا يجوز مطلقا ، وأولت المالكية حديث جابر بوجوه كلها تكلفات باردة من شاء الوقوف عليها رجع إلى شرحي الموطأ للزرقاني والباجي . وأجاب إسماعيل القاضي عن حديث جابر بأنه كان بالحديبية حيث كانوا محصرين ، وهذا الجواب لا يدفع الاحتجاج بالحديث بل ثبت عن جابر عند مسلم أنهم اشتركوا الاشتراك المذكور معه - صلى الله عليه وسلم - أيضا في حجه ولا شك أن المراد بحجه حجة الوداع لأنه لم يحج بعد الهجرة حجة غيرها . روى مسلم عن جابر قال : اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة فقال رجل لجابر : أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور ؟ فقال : ما هي إلا من البدن ، وفي لفظ له عنه قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة . وفي لفظ له عنه أيضا (( قال : حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة . وفي لفظ له عنه وهو يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم . وهذا يدل على صحة أصل الاشتراك . وفي لفظ له عنه أيضا قال : كنا نتمتع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم

(18/451)


- فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها – انتهى . فهذه الروايات الصحيحة تدل على أن دم التمتع يكفي فيه الاشتراك للسبع في بدنة أو بقرة ويدل على جواز الاشتراك أيضا ما رواه البخاري عن أبي جمرة قال : سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها وسألته عن الهدي فقال فيها : جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم – انتهى . قال الحافظ : قوله (( أو شرك )) بكسر الشين المعجمة وسكون الراء ، أي مشاركة في دم أي حيث يجزئ الشيء الواحد عن جماعة ، وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر قال : خرجا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممهلين بالحج فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة . وقال الشنقيطي : قوله (( أو شرك في دم )) يعني به ما بينته الروايات المذكورة الصحيحة عن جابر أن البدنة والبقرة كلتاهما تكفي عن سبعة من المتمتعين . وأجاب إسماعيل القاضي عن حديث ابن عباس هذا بأنه خالف أبا جمرة في ذكره الاشتراك المذكور ثقات أصحاب ابن عباس فرووا عنه أن ما استيسر من الهدي شاة ، ثم ساق ذلك بأسانيد صحيحة عنهم عن ابن عباس . قال : وحدثنا سليمان عن حماد بن زيد عن أيوب عن محمد ابن سيرين عن ابن عباس ، قال : ما كنت أرى أن دما واحدا يقضي عن أكثر من واحد – انتهى . قال الحافظ : ليس بين رواية أبي جمرة ورواية غيره منافاة ، لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك ووافقهم على ذكر الشاة ، وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على
رواه مسلم .
2661 – (11) وعن ابن عمر ، أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها ، قال : ابعثها قياما

(18/452)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشاة الرد على من زعم اختصاص الهدي بالإبل والبقر وذلك واضح فيما سنذكره بعد هذا ، وأما رواية محمد عن ابن عباس فمنقطعة ومع ذلك لو كانت متصلة احتمل أن يكون ابن عباس أخبر أنه كان لا يرى ذلك من جهة الاجتهاد حتى صح عنده النقل بصحة الاشتراك فأفتى به أبا جمرة ، وبهذا تجتمع الأخبار وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء على توثيقه والاحتجاج بروايته ، وهو أبو جمرة الضبعي ، وقد روى عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك ، ثم رجع عن ذلك لما بلغته السنة ، ثم ذكر الحافظ رجوع ابن عمر عن ذلك عن أحمد بسنده من طريق الشعبي عن ابن عمر ، واستدل بقوله (( كل سبعة منا في بدنة )) من قال : (( عدل البدنة سبع شياه )) وهو قول الجمهور أي في الهدي والإضحية كليهما ، وادعى الطحاوي وابن رشد أنه إجماع وتعقب عليهما بأن الخلاف في ذلك مشهور حكاه الترمذي في سننه عن إسحاق بن راهويه وكذا الحافظ في الفتح ، وقال : هو ( أي إجزاء البدنة عن عشرة ) إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب ، وإليه ذهب ابن خزيمة من الشافعية واحتج له في صحيحه وقواه ، واحتج له ابن حزم وكذا ابن خزيمة بحديث رافع بن خديج أنه - صلى الله عليه وسلم - قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير – الحديث . وهو في الصحيحين ، واحتجوا أيضا بحديث ابن عباس ، قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضر الأضحى فذبحنا البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة ، رواه الخمسة إلا أبا داود ، ويجاب عنه بأنه خارج عن محل النزاع لأنه في الإضحية ، فإن قالوا يقاس الهدي عليها ، قلنا : هو قياس فاسد الاعتبار لمصادمته النصوص ويجاب عن حديث رافع أيضا بمثل هذا الجواب لأن ذلك التعديل كان في القسمة وهي غير محل النزاع ، وأيضا حديث جابر في خصوص الهدي والأخص في محل النزاع مقدم على الأعم ، ويؤيد كون البدنة عن سبعة فقط أمره - صلى الله عليه وسلم - لمن

(18/453)


لم يجد البدنة أن يشتري سبعا فقط ، ولو كانت تعدل عشرا لأمره بإخراج عشر لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد ومالك في الأضاحي والترمذي في الحج وابن ماجه في الأضاحي وابن حبان والبيهقي (ج 5 : ص 234) وغيرهم .
2661 - قوله ( وعن ابن عمر أنه ) أي ابن عمر ( أتى ) أي مر ( على رجل ) أي بمنى كما في مسند أحمد ، وهذا الرجل لم يعرف ولم يسمعه أحد من أصحاب الأصول ( قد أناخ بدنته ينحرها ) أي حال كونه يريد نحرها ، وهذا لفظ البخاري ، ولمسلم (( وهو ينحر بدنته باركة )) ( ابعثها ) أي أقمها ( قياما ) قال القاري : حال مؤكدة أي قائمة ، وقد صحت الرواية بها ، وعاملها محذوف دل عليه أول الكلام أي انحرها قائمة لا ابعثها ، لأن البعث إنما يكون قبل القيام ، اللهم إلا أن تجعل حالا مقدرة أي ابعثها مقدرا قيامها ، وقال الحافظ : قوله (( ابعثها )) أي أثرها يقال : بعثت الناقة أثرتها ، وقوله
مقيدة ، سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - .

(18/454)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (( قياما )) مصدر بمعنى قائمة وهي حال مقدرة ، أو قوله (( ابعثها )) أي أقمها أو العامل محذوف تقديره انحرها ، وقد وقع في رواية عند الإسماعيلي (( انحرها قائمة )) ( مقيدة ) حال ثانية أي معقولة الرجل قائمة على ما بقي من قوائمها ، ولأبي داود من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها ( سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ) بنصب سنة على المفعولية أي فاعلا بها سنة محمد أو متبعا سنة محمد ، ويجوز رفعه خبرا لمبتدأ محذوف ، ويدل عليه رواية الحربي في المناسك بلفظ (( فقال له : انحرها قائمة فإنها سنة محمد )) والحديث يدل على استحباب نحر الإبل قياما مقيدة ، قال الباجي : وهو مذهب مالك وجمهور الفقهاء غير الحسن البصري في قوله (( تنحر باركة )) والأصل في ذلك حديث أنس عند البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحره بيده سبعة بدن قياما . قال الشيخ أبو بكر : إنما كان ذلك في الإبل لأنه أمكن لمن ينحرها لأنه يطعن في لبتها ، وأما البقر والغنم التي سنتها الذبح فإن إضجاعها أمكن لتناول ذبحها ، فالسنة إضجاعها ، وروى محمد عن مالك أن الشأن أن تنحر البدن قائمة قد صفت يداها بالقيد ، وقال ذلك ابن حبيب في قوله تعالى : ? فاذكروا اسم الله عليها صواف ? (22 : 36) وقد روى محمد عن مالك أيضا (( لا يعقلها إلا من خاف أن يضعف عنها )) – انتهى . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 431) : السنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فيضربها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ، وممن استحب ذلك مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر ، واستحب عطاء نحرها باركة ( وهذا مخالف للسنة ) وجوز الثوري وأصحاب الرأي كل ذلك ، ولنا حديث ابن عمر عند الشيخين وحديث جابر عند أبي داود . وفي قول الله تعالى : ? وجبت جنوبها ? دليل على أنها

(18/455)


تنحر قائمة ، ويروى في تفسير قوله تعالى : ? فاذكروا اسم الله عليه صواف ? أي قياما وتجزئه كيف ما نحر . قال أحمد : ينحر البدن معقولة على ثلاث قوائم ، وإن خشى عليها أن تنفر أناخها - انتهى . قلت : وبذلك قالت الحنفية ، ففي المضمرات : السنة أن ينحر البعير قائما ، وتذبح الشاة والبقرة مضطجعة ، ذكره ابن عابدين . وفي الهداية : الأفضل في البدن النحر ، وفي البقر والغنم الذبح ، ثم إن شاء نحر الإبل في الهدايا قياما أو أضجعها وأي ذلك فعل فهو حسن ، والأفضل أن ينحرها قياما لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - نحر الهدايا قياما وأصحابه كانوا ينحرونها قياما معقولة يدها اليسرى - انتهى . وقال ابن الهمام بعد ذكر حديث جابر عن أبي داود المتقدم : وإنما سن النبي - صلى الله عليه وسلم - النحر قياما عملا بظاهر قوله تعالى : ? فإذا وجبت جنوبها ? (22 : 36) والوجوب السقوط ، وتحققه في حال القيام أظهر . قال : والاستدلال بقول الله تعالى : ? فاذكروا اسم الله عليها صواف ? أظهر ، وقد فسره ابن عباس بقوله قياما على ثلاث قوائم ، وهو إنما يكون بعقل الركبة ، والأولى كونه اليسرى للإتباع ، رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم . قال : والحاصل أن القيام أفضل ، فإن لم يتسهل فالقعود أفضل من الاضطجاع – انتهى . قال الحافظ في الفتح : في حديث ابن عمر استحباب نحر الإبل على الصفة المذكورة ، وعن الحنفية يستوي قائمة وباركة في الفضيلة – انتهى .
متفق عليه .
2662 – (12) وعن علي ، قال : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه ، وأن أتصدق بلحمها وجلودها

(18/456)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت : هذا خلاف ما وقع في عامة فروع الحنفية كما تقدم ، ولعل منشأ ما حكى الحافظ والنووي عن الحنفية من استواء البروك والقيام في الفضيلة هو ما ذكره ابن الهمام في فتح القدير عن أبي حنيفة نحرت بدنة قائمة فكدت أهلك قياما من الناس ، لأنها نفرت فاعتقدت أن لا أنحر بعد ذلك إلا باركة معقولة ، وأستعين عليه بمن هو أقوى مني - انتهى . وهذا كما ترى مبني على خشية النفور لا مطلقا . قال الحافظ : وفي الحديث تعليم الجاهل وعدم السكوت على مخالف السنة وإن كان مباحا ، وفيه أن قول الصحابي (( من السنة كذا )) مرفوع عند الشيخين لاحتجاجهما بهذا الحديث في صحيحيهما ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 3) وأبو داود والنسائي والدارمي والبيهقي (ج 5 : ص 237) .

(18/457)


2662 – قوله ( أن أقوم على بدنه ) بضم الباء وسكون الدال جمع بدنة ، والمراد بدنه التي أهداها إلى مكة في حجة الوداع ومجموعها مائة كما تقدم ، وفيه جواز الإنابة في نحر الهدي وتفرقته . قال الحافظ : قوله (( أن أقوم على بدنه )) أي عند نحرها للاحتفاظ بها ، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك ، أي على مصالحها في علفها ورعيها وسقيها وغير ذلك ( وأن أتصدق بلحمها ) المراد أنه يقسم لحومها على المساكين إلا ما أمر به من كل بدنة ببضعة فطبخت كما مر في حديث جابر الطويل ( وجلودها ) قال الكرماني : فيه أنه لا يجوز بيع جلود الهدايا والضحايا كما هو ظاهر الحديث إذ الأمر حقيقة في الوجوب - انتهى . وتعقبه في اللامع فقال : فيه نظر ، فذلك صيغة افعل لا لفظ أمر . وقال الحافظ : استدل به على منع بيع الجلد . قال القرطبي : فيه دليل على أن جلود الهدي وجلالها لا تباع لعطفها على اللحم وإعطاءها حكمه ، وقد اتفقوا على أن لحمها لا يباع فكذلك الجلود والجلال ، وأجازه الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو وجه عند الشافعية ، قالوا : ويصرف ثمنه مصرف الإضحية . واستدل أبو ثور على أنهم اتفقوا على جواز الانتفاع به وكل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه وعورض باتفاقهم على جواز الأكل من لحم هدي التطوع ، ولا يلزم من جواز أكله جواز بيعه وأقوى من ذلك في رد قوله ما أخرجه أحمد في حديث قتادة بن النعمان مرفوعا : (( لا تبيعوا لحوم الأضاحي والهدي وتصرفوا وكلوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوا ، وإن أطعمتم من لحومها فكلوا إن شئتم )) - انتهى كلام الحافظ . وقال النووي في شرح المهذب : مذهبنا أنه لا يجوز بيع جلد الهدي والإضحية ولا غيره من أجزائها لا بما ينتفع به في البيت ولا بغيره ، وبه قال عطاء ومالك وأحمد وإسحاق ، هكذا حكاه عنهم ابن المنذر ، ثم حكى عن ابن عمر وأحمد وإسحاق أنه لا بأس أن يبيع جلد هديه ويتصدق بثمنه ، قال : ورخص فيه أبو ثور ، وقال النخعي

(18/458)


والأوزاعي : لا بأس أن يشترى به الغربال والمنخل والفأس والميزان ونحوها - انتهى . قلت : ونحوه مذهب الحنفية ،
وأجلتها ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ففي الدر المختار : ويتصدق بجلدها أو يعمل منه نحو غربال وجراب وقربة وسفرة ودلو أو يبدله بما ينتفع به باقيا لا بمستهلك كخل ولحم ونحوه كدارهم ، فإن بيع اللحم أو الجلد به أي بمستهلك أو بدارهم تصدق بثمنه ، ومفاده صحة البيع ( وهو قول أبي حنيفة ومحمد كما في البدائع ) مع الكراهة ، وعن أبي يوسف باطل لأنه كالوقف - انتهى . فالنهي في حديث قتادة محمول عندهما على الكراهة أو على البيع مع الانتفاع بثمنه ، وقال ابن عابدين : أفاد أي صاحب الدر المختار أنه ليس له بيعهما بمستهلك وأن له بيع الجلد بما تبقى عينه ، وسكت عن بيع اللحم للخلاف فيه ، ففي الخلاصة وغيرها : لو أراد بيع اللحم ليتصدق بثمنه ليس له ذلك ، وليس له فيه إلا أن يطعم أو يأكل - انتهى . والصحيح كما في الهداية وشروحها أنهما سواء في جواز بيعهما بما ينتفع بعينه دون ما يستهلك ، وأيده في الكفاية بما روى ابن سماعة عن محمد : لو اشترى باللحم ثوبا فلا بأس به - انتهى . قلت : ظاهر حديث قتادة بن النعمان أنه لا يجوز بيع جلد الهدي والإضحية ولحمهما مطلقا لا بما ينفع بعينه ولا بمستهلك ، والله أعلم ( وأجلتها ) بكسر الجيم وتشديد اللام جمع جلال بكسر الجيم وتخفيف اللام وهي جمع جل بضم الجيم وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه ، وفيه دليل على مشروعية تجليل البدن ، وهو مستحب وليس بواجب ، قال الأبي في الإكمال : تجليل البدن ليس بلازم ولكن مضى عليه عمل السلف وأئمة الفتوى ، وتجلل بعد الإشعار لئلا تتطلخ بالدم ، والجلال على قدر سعة المهدي – انتهى . وفي شرح مسلم للنووي (( قال القاضي : التجليل سنة وهو عند العلماء مختص بالإبل وهو مما اشتهر من عمل السلف ، قال : وممن رآه مالك والشافعي وأبو ثور

(18/459)


وإسحاق ، قالوا : ويكون بعد الإشعار لئلا يتطلخ بالدم ، قالوا : ويستحب أن تكون قيمتها ونفاستها بحسب حال المهدي وكان بعض السلف يجلل بالوشي وبعضهم بالحبرة وبعضهم بالقباطي والملاحف والأزر ، قال مالك : وتشق على الأسنمة إن كانت قليلة الثمن لئلا تسقط ، قال مالك : وما علمت من ترك ذلك إلا ابن عمر استبقاء للثياب ، لأنه كان يجلل الجلال المرتفعة من الأنماط والبرود والحبر ، قال : وكان لا يجلل حتى يغدو من منى على عرفات ، قال : وروي عنه أنه كان يجلل من ذي الحليفة ، قال : وكان يعقد أطراف الجلال على أذنابها ، فإذا مشى ليلة نزعها ، فإذا كان يوم عرفة جللها فإذا كان عند النحر نزعها لئلا يصيبها الدم . قال مالك : وأما الجل فينزع في الليل لئلا يخرقها الشوك . قال : واستحب إن كانت الجلال مرتفعة أن يترك شقها وأن لا يجللها حتى يغدو إلى عرفات ، فإن كانت بثمن يسير فمن حين يحرم يشق ويجلل ، قال القاضي : وفي شق الجلال على الأسنمة فائدة أخرى وهي إظهار الإشعار لئلا يستر تحتها ، وفي هذا الحديث الصدقة بالجلال وهكذا قاله العلماء ، وكان ابن عمر أولا يكسوها الكعبة ، فلما كسيت الكعبة تصدق بها – انتهى . قال الباجي : معنى ذلك أن جلال البدن كانت كسوة الكعبة وكانت أولى بها من غيرها ، فلما كسيت الكعبة رأى أن الصدقة بها أولى من غير ذلك ، لأن الهدي وإن كان له تعلق بالبيت فإن مصرفه إلى المساكين ومستحقي
وأن لا أعطي الجزار منها قال :

(18/460)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصدقة ، ويحتمل أن يكون ابن عمر كان يكسو جلال بدنه الكعبة قبل أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم جلال بدنه ، فلما علم ذلك رجع إليه وأخذ به – انتهى . قال القسطلاني . قال الشافعي في القديم : ويتصدق بالنعال وجلال البدن . وقال المهلب : ليس التصدق بجلال البدن فرضا وإنما صنع ذلك ابن عمر لأنه أراد أن لا يرجع في شيء أهداه الله ولا في شيء أضيف إليه – انتهى . وقال المرداوي من الحنابلة في تنقيحه : وله أن ينتفع بجلدها وجلها أو يتصدق به ويحرم بيعهما وشيء منهما . وقال المالكية : وخطام الهدايا كلها وجلالها كلحمها فحيث يكون اللحم مقصورا على المساكين يكون الجلال والخطام كذلك ، وحيث يكون اللحم مباحا للأغنياء والفقراء يكون الخطام والجلال كذلك تحقيقا للتبعية ، فليس له أن يأخذ من ذلك ، ولا يأمر بأخذه في الممنوع من أكل لحمه ، فإن أمر أحدا بأخذ شيء من ذلك أو أخذ هو شيئا رده ، وإن أتلفه غرم قيمته للفقراء ، وقال العيني من الحنفية : وقال أصحابنا : يتصدق بجلال الهدي وزمامه لأنه عليه الصلاة والسلام أمر عليا بذلك ، والظاهر أن هذا الأمر أمر استحباب – انتهى . وقال محمد في موطأه بعد رواية أثر ابن عمر في التصدق بجلال بدنه : وبهذا نأخذ ، ينبغي أن يتصدق بجلال البدن وخطمها ولا يعطي الجزار من ذلك شيئا ولا من لحومها ، بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مع علي بن أبي طالب بهدي فأمر أن يتصدق بجلاله وخطمه وأن لا يعطي الجزار من خطمه وجلاله شيئا – انتهى . ( وأن لا أعطي الجزار ) أي شيئا ( منها ) المراد منع عطية الجزار من الهدي عوضا عن أجرته كما بينته رواية أخرى لمسلم بلفظ (( ولا يعطي في جزارتها منها شيئا )) قال ابن الأثير : الجزارة بالضم كالعمامة ، ما يأخذه الجزار من الذبيحة عن أجرته ، وأصلها أطراف البعير : الرأس واليدان والرجلان ،

(18/461)


سميت بذلك لأن الجزار كان يأخذها عن أجرته – انتهى . قال ابن خزيمة : النهي عن إعطاء الجزار المراد به أن لا يعطي منها عن أجرته ، وكذا قال البغوي في شرح السنة ، قال : وأما إذا أعطي أجرته كاملة ثم تصدق عليه إذا كان فقيرا كما يتصدق على الفقراء فلا بأس بذلك ، وقال غيره : إعطاء الجزار منها على سبيل الأجرة ممنوع لكونه معاوضة ، وأما أعطاه صدقة أو هدية أو زيادة على حقا فالقياس الجواز . قال الحافظ : ولكن إطلاق الشارع ذلك قد يفهم منه منع الصدقة لئلا تقع مساحة في الأجرة لأجل ما يأخذه فيرجع إلى المعاوضة . قال القرطبي : ولم يرخص في إعطاء الجزار منها في أجرته إلا الحسن البصري وعبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : وفي حديث علي من الفوائد : سوق الهدي والوكالة في نحر الهدي والاستئجار عليه ، والقيام عليه وتفرقته ، وأن من وجب عليه شيء لله فله تخليصه ونظيره الزرع يعطي عشره ولا يحسب شيئا من نفقته على المساكين – انتهى ( قال ) أي على أو النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الأظهر ، قاله القاري . وقوله (( قال )) كذا في نسخ المشكاة والمصابيح ، وهكذا وقع في جامع الأصول وفي بعض طرق أحمد وبعض نسخ مسلم ، ووقع في بعض نسخه وبعض طرق أحمد (( وقال )) أي بزيادة الواو ، وهكذا ذكره الزيلعي والمجد ، وهكذا وقع في سنن
نحن نعطيه من عندنا . متفق عليه .
2663 – (13) وعن جابر ، قال : كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث ، فرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " كلوا وتزودوا " . فأكلنا وتزودنا .

(18/462)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبي داود وابن ماجة ، وللبيهقي بلفظ (( ثم قال )) ( نحن نعطيه ) أي أجرته ( من عندنا ) وفي رواية أحمد (ج 1 : ص 123) (( وقال : نحن نعطيه من عندنا الأجر )) ( متفق عليه ) أي على أصل الحديث ، لأن قوله (( قال : ونحن نعطيه من عندنا )) ليس عند البخاري بل لمسلم فقط ، وهكذا أخرجه أحمد (ج 1 : ص 89 ، 123 ، 154) وأبو داود وابن ماجة وابن الجارود ( ص 173 ) والبيهقي (ج 5 : ص 241) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 112 ، 132 ، 160) والدارمي وابن الجارود بدون الزيادة المذكورة .

(18/463)


2663 – قوله ( كنا لا نأكل من لحوم بدننا ) أي التي نهديها ونضحي بها ( فوق ثلاث ) وفي الصحيحين (( فوق ثلاث منى )) قال القسطلاني : بإضافة ثلاث إلى منى أي الأيام الثلاثة التي يقام بها بمنى وهي الأيام المعدودات . وقال في المصابيح : والأصل ثلاث ليال منى كما في قولهم (( حب رمان زيد )) فإن القصد إضافة الحب المختص بكونه للرمان إلى زيد ، ومثله ابن قيس الرقيات ، فإن الملتبس بالرقيات ابن قيس لا قيس . قال الشيخ سعد الدين التفتازاني : وتحقيقه أن مطلق الحب مضاف إلى الرمان ، والحب المقيد بالإضافة إلى الرمان مضاف إلى زيد ، قال الدماميني : وفيه نظر فتأمله ( فرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) قال الطيبي : نهى أولا أن يؤكل لحم الهدي والإضحية فوق ثلاثة أيام ثم رخص ( فقال : كلوا وتزودوا ) أي ادخروا ما تزودونه فيما تستقبلونه مسافرين أو مجاورين ، وفي رواية لمسلم (( كنا لا نمسك لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نتزود منها ونأكل منها يعني فوق ثلاث )) وفي أخرى له أيضا (( أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث )) ثم قال بعد (( كلوا وتزودوا وادخروا )) ( فأكلنا وتزودنا ) هذا للبخاري وحده ، وانتهت رواية مسلم إلى قوله (( كلوا وتزودوا )) وفيها بعد هذا (( قلت ( قائله ابن جريج ) لعطاء : قال جابر : حتى جئنا المدينة ؟ قال : نعم )) . ووقعت هذه الزيادة عند البخاري بعد قوله (( فأكلنا وتزودنا )) بلفظ (( قال ( أي ابن جريج ) قلت لعطاء : أقال حتى جئنا المدينة ؟ قال : لا )) قال النووي : فيحتمل أنه نسي في وقت فقال : لا ، وذكر في وقت فقال : نعم . قال الحافظ : والذي وقع عند البخاري هو المعتمد ، فإن أحمد أخرجه في مسنده عن يحيى بن سعيد ( أي عن ابن جريج ) كذلك ، وكذلك أخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد ، وقد نبه على اختلاف البخاري ومسلم في هذه اللفظة الحميدي في جمعه وتبعه عياض

(18/464)


ولم يذكرا ترجيحا ، وأغفل ذلك شراح البخاري أصلا فيما وقفت عليه ، قال : ثم ليس المراد بقوله (( لا )) نفي الحكم ، بل مراده أن جابرا لم يصرح باستمرار ذلك منهم حتى قدموا ، فيكون على هذا معنى قوله في رواية عمرو بن دينار عن عطاء (( كنا نتزود لحوم الهدي إلى المدينة )) أي لتوجهنا إلى المدينة ، ولا يلزم من ذلك بقاؤها معهم حتى يصلوا المدينة والله أعلم ، لكن قد أخرج
........................................................................................

(18/465)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسلم من حديث ثوبان قال : ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - أضحيته ، ثم قال : لي يا ثوبان أصلح لحم هذه فلم أزل أطعمه منه حتى قدم المدينة – انتهى . قيل : قول الحافظ : بل المراد أن جابرا لم يصرح باستمرار ذلك . إلخ . معناه جواز البقاء وعدمه في نفس الأمر لا وقوع أحدهما على القطع ، ورواية عمرو بن دينار عن عطاء أخرجها الشيخان بلفظ (( كنا نتزود لحوم الأضاحي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة )) قال علي بن المديني : قال سفيان بن عيينة غير مرة : لحوم الهدي يعني أن سفيان كان تارة يقول : لحوم الأضاحي ، ومرارا يقول : لحوم الهدي . والظاهر أن معنى هذه الرواية أنهم كانوا يتزودون لحوم الهدي من مكة فيأكلون منه في سفرهم إلى المدينة فإن بقي منهم شيء أكلوه بالمدينة في الحضر أيضا كما يستفاد من رواية أحمد عن جابر قال : ( أكلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القديد بالمدينة من قديد الأضحى )) يعني قديد هدي يوم الأضحى . ولا مانع من كونهم أهدوا وضحوا وتزودوا من لحمي الهدي والضحية ، فإن كان لحم هدي فهو من هدي التطوع الذي يهدى إلى البيت ، ومن هدي المتعة ، وإن كان لحم ضحية فهو دليل لمن قال : بمشروعية الضحية للحاج ، وعلى كل حال فهو يفيد جواز الأكل من هدي التطوع والواجب أي المتعة وادخاره والتزود منه ، والله أعلم ، هذا وحديث جابر نص في جواز الادخار والأكل من لحوم الهدي والإضحية فوق ثلاث ، وهذا يخالف ما رواه مسلم عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث . وفي لفظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا ، وروى أيضا عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يأكل أحدكم من لحم إضحيته فوق ثلاث أيام . قال القاضي : اختلف العلماء

(18/466)


في الأخذ بهذه الأحاديث فقال قوم : يحرم إمساك لحوم الأضاحي والأكل منها بعد ثلاث وأن حكم التحريم باق كما قاله علي وابن عمر . وقال جماهير العلماء : يباح الأكل والإمساك بعد الثلاث ، والنهي منسوخ بحديث جابر وحديث بريدة عند أحمد ومسلم والترمذي وحديث عبد الله بن مسعود عند أحمد وحديث قتادة بن النعمان عند أحمد والطحاوي وغير ذلك من الأحاديث . قال : وهذا من نسخ السنة بالسنة . وقال بعضهم : ليس هو نسخا بل كان التحريم لعلة ، فلما زالت زال التحريم ، وتلك العلة هي الدافة ، وكانوا منعوا من ذلك في أول الإسلام من أجل الدافة فلما زالت العلة الموجبة لذلك أمرهم أن يأكلوا ويدخروا كما يدل عليه رواية مسلم من حديث مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الله بن واقد قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث . قال عبد الله بن أبي بكر : فذكرت ذلك لعمرة فقالت : صدق ، سمعت عائشة تقول : دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ادخروا ثلاث ثم تصدقوا بما بقى ، فلما كان بعد ذلك قالوا : يا رسول الله ! إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون فيها الودك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وما ذاك ؟ قالوا : نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ، فقال : إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت ،
............................................................................................

(18/467)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فكلوا وادخروا وتصدقوا . والمراد بالدافة هنا من ورد من شعفاء الأعراب للمواساة . وقيل : كان النهي الأول للكراهة لا للتحريم ، قال هؤلاء : والكراهية باقية إلى يومنا هذا ولكن لا يحرم ، قالوا : ولو وقع مثل تلك العلة اليوم فدفت دافة واساهم الناس وحملوا على هذا مذهب علي وابن عمر . والصحيح نسخ النهي مطلقا وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة ، فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث والأكل إلى متى شاء لصريح حديث جابر ، وحديث بريدة أيضا يدل على ذلك ، فروى مسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ض : نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم . وفي رواية (( فكلوا وتزودوا وادخروا )) قلت : حكى الحازمي في الاعتبار عن علي والزبير وعبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر أنهم قالوا : يحرم الإمساك بلحوم الأضاحي بعد ثلاث وأن حكم التحريم باق . قال : وخالفهم في ذلك جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار ورأوا جواز ذلك وتمسكوا في ذلك بأحاديث تدل على نسخ الحكم الأول ، ثم ذكر ما يدل على النسخ من حديث جابر وبريدة وعائشة ، وقال ابن قدامة (ج 8 : ص 633) يجوز الادخار فوق ثلاث في قول عامة أهل العلم ولم يجزه علي ولا ابن عمر ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن ذلك . ولنا قوله - صلى الله عليه وسلم - : كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم . رواه مسلم . وقال أحمد فيه أسانيد صحاح ، فأما علي وابن عمر فلم يبلغهما ترخيص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا سمعوا النهي فرووا على ما سمعوا – انتهى مختصرا . وقال الحافظ في الفتح : قال الشافعي : لعل عليا لم يبلغه النسخ . وقال غيره : يحتمل أن يكون الوقت الذي قال علي فيه ذلك كان بالناس حاجة كما وقع في عهد النبي - صلى

(18/468)


الله عليه وسلم - ، وبذلك جزم ابن حزم فقال : إنما خطب علي بالمدينة في الوقت الذي كان عثمان حوصر فيه ، وكان أهل البوادي قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة فأصابهم الجهد ، فلذلك قال علي ما قال ، وبنحو ذلك جمع الطحاوي . قال الحافظ : وكذلك يجاب عما أخرج أحمد ( في مسند فاطمة (ج 6 : ص 282) من طريق أم سليمان قالت : دخلت على عائشة فسألتها عن لحوم الأضاحي ، فقالت : قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها ثم رخص فيها فقدم علي من سفر فأتته فاطمة بلحم من ضحاياها فقال : أو لم ينه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إنه قد رخص فيها ، قالت : فدخل علي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن ذلك فقال : كلها من ذي الحجة إلى ذي الحجة . فهذا علي قد اطلع على الرخصة ومع ذلك خطب بالمنع فطريق الجمع ما ذكرته ، وقد جزم به الشافعي في الرسالة في آخر باب العلل في الحديث (ص 239 بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر) فقال ما نصه : فإذا دفت الدافة ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث ، وإذا لم تدف دافة فالرخصة ثابتة بالأكل والتزود والادخار والصدقة . قال الشافعي : ويحتمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث منسوخا في كل حال . قال الحافظ : وبهذا الثاني أخذ المتأخرون من الشافعية ، فقال الرافعي : الظاهر أنه لا يحرم اليوم بحال ، وتبعه
........................................................................................

(18/469)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النووي فقال في شرح المهذب : الصواب المعروف أنه لا يحرم الادخار اليوم بحال ، وحكى في شرح مسلم عن جمهور العلماء أنه من نسخ السنة بالسنة قال : والصحيح نسخ النهي مطلقا وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث والأكل إلى متى شاء – انتهى . وإنما رجح ذلك لأنه يلزم من القول بالتحريم إذا دفت الدافة إيجاب الإطعام ، وقد قامت الأدلة عند الشافعية أنه لا يجب في المال حق سوى الزكاة . ونقل ابن عبد البر ما يوافق ما نقله النووي فقال : لا خلاف بين فقهاء المسلمين في إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وأن النهي عن ذلك منسوخ كذا أطلق ، وليس بجيد ، فقد قال القرطبي : حديث سلمة ( الآتي في الفصل الثالث ) وعائشة نص على أن المنع كان لعلة فلما ارتفعت ارتفع لارتفاع موجبة فتعين الأخذ به ، ويعود الحكم بعود العلة ، فلو قدم على أهل بلد ناس محتاجون في زمان الأضحى ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا تعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث . قال الحافظ : والتقييد بالثلاث واقعة حال وإلا فلو لم تستد الخلة إلا بتفرقة الجميع لزم على هذا التقرير عدم الإمساك ولو ليلة واحدة . وحكى البيهقي عن الشافعي أن النهي عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث كان في الأصل للتنزيه ، قال : وهو كالأمر في قوله تعالى : ? فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ? (22 : 36) وقال المهلب : إنه الصحيح لقول عائشة : وليس بعزيمة والله أعلم . فائدة : قال القرطبي : اختلف في أول الثلاث التي كان الادخار فيها جائزا ، فقيل : أولها يوم النحر فمن ضحى فيه جاز له أن يمسك يومين بعده ، ومن ضحى بعده أمسك ما بقي له من الثلاثة . وقيل : أولها يوم يضحي فلو ضحى في آخر أيام النحر جاز له أن يمسك ثلاثا بعدها ، ويحتمل أن يأخذ من قوله فوق ثلاث ( في حديث علي ) أن لا يحسب اليوم الذي يقع فيه النحر من

(18/470)


الثلاث ، وتعتبر الليلة التي تليه وما بعدها ، قال الحافظ : ويؤيده ما في حديث جابر (( كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى )) فإن (( ثلاث منى )) تتناول يوما بعد يوم النحر لأهل النفر الثاني – انتهى . وقال الشوكاني : قال القاضي عياض : يحتمل أن يكون ابتداء الثلاث من يوم ذبح الأضحية وإن ذبحت بعد يوم النحر ويحتمل أن يكون من يوم النحر وإن تأخر الذبح عنه . قال : وهذا أظهر . ورجح الحافظ ابن القيم الأول . وهذا الخلاف لا يتعلق به فائدة عند من قال بالنسخ إلا باعتبار ما سلف من الاحتجاج بذلك على أن يوم الرابع ليس من أيام الذبح – انتهى . فائدة أخرى : اختلف في أن النهي عن أكل لحوم الأضاحي وادخارها فوق ثلاث في أي سنة كان ؟ فقيل كان ذلك سنة خمس من الهجرة كما جزم به صاحب الخميس حيث قال : وفي هذه السنة دفت دافة العرب فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، كذا في الوفاء ، ثم رخص لهم في الادخار ما بدا لهم – انتهى . وقيل إن النهي عن ذلك كان في سنة واحدة سنة تسع من الهجرة ، والرخصة فيه كانت في حجة الوداع سنة عشر ، والدليل على ذلك ما جاء في حديث قتادة بن النعمان عند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في حجة الوداع فقال : إني كنت أمرتكم
متفق عليه .
( الفصل الثاني )
2664 – (14) عن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى عام الحديبية في هدايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جملا كان لأبي جهل

(18/471)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن لا تأكلوا الأضاحي فوق ثلاثة أيام لتسعكم وإني أحله لكم فكلوا منه ما شئتم – الحديث . ففيه بيان وقت الرخصة وهو سنة حجة الوداع ، ويستفاد من حديث سلمة بن الأكوع الآتي في الفصل الثالث أن النهي كان في العام السابق لعام الرخصة ، وثبت في حديث قتادة المتقدم أن الرخصة كانت في حجة الوداع أي سنة عشر ، فيكون النهي سنة تسع . قال الحافظ بعد ذكر حديث قتادة : فبين في هذا الحديث وقت الإحلال وأنه كان في حجة الوداع . وقال في شرح حديث سلمة بن الأكوع : يستفاد منه أن النهي كان سنة تسع لما دل عليه الذي قبله أن الإذن كان في سنة عشر – انتهى . واعترض عليه أن قيامه - صلى الله عليه وسلم - بذلك في حجة الوداع لا يوجب أن يكون ذلك وقت الإباحة والإحلال فقد أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بأمور كثيرة كانت منهية عنها قبل ذلك كالمتعة والحمر الأهلية . وأيضا كان نسخ المنع حين كان أبو سعيد الخدري في سفر كما وقع في روايته عند أحمد ومالك والشيخين وغيرهم مفصلا، وقد كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فهو كالنص في أنه نسخ المنع قبل حجة الوداع ، ووقع نحو هذه القصة مع علي رضي الله عنه عند أحمد في مسند فاطمة من حديث عائشة كما تقدم ، وهو أيضا يدل على أن نسخه وقع حين كان علي في السفر عند الأضحى ، وقد كان معه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ( متفق عليه ) . أخرجه البخاري في الحج ومسلم في الأضاحي ، وأخرجه أيضا أحمد . وللحديث ألفاظ أخرى عند أحمد والشيخين ومالك في الأضاحي والنسائي في الحج ، وقد تقدم ذكر بعضها .

(18/472)


2664- قوله ( أهدى عام الحديبية ) بالتخفيف على الأفصح ، وهي السنة السادسة من الهجرة ، توجه فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة للعمرة فأحصره المشركون بالحديبية وهو موضع من أطراف الحل ( في هدايا ) أي في جملة هدايا ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) من وضع المظهر موضع المضمر تنويها بذكره - صلى الله عليه وسلم - في مقابلة ذكر اسم أبي جهل ( جملا ) ذكر الإبل باتفاق أهل اللغة ، ونقل الجوهري عن ابن السكيت : إنما يسمى جملا إذا أربع أي دخل في السنة الرابعة ، وذكر المنذري أن اسم هذا الجمل عصيفير ، قال القاري (( جملا )) نصب بأهدى ، و (( في هدايا )) صلة له ، وكان حقه أن يقول (( في هداياه )) فوضع المظهر موقع المضمر ، والمعني جملا كائنا في هداياه ( كان لأبي جهل) أي عمرو بن هشام المخزومي فرعون هذه الأمة الأحول ، كنته العرب (( أبا الحكم )) وكناه النبي - صلى الله عليه وسلم - (( بأبي جهل )) فغلبت عليه هذه الكنية . قتل كافرا يوم بدر في السنة الثانية من الهجرة . وعند أحمد (ج 1 : ص 269) : أهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة بدنة فيها جمل أحمر لأبي جهل .
في رأسه برة من فضة ، وفي رواية من ذهب . يغيظ بذلك المشركين .

(18/473)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي أخرى له أيضا (ج 1 : ص 261) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان أهدى جمل أبي جهل الذي كان استلب يوم بدر عام الحديبية في هديه ( في رأسه ) أي أنفه ( برة ) بضم الموحدة وفتح الراء المخففة ، وأصلها بروة كغرفة لأنها تجمع على برات وبرون كثبات وثبون ، وهي حلقة من صفر ونحوه تجعل في أنف البعير أو لحمة أنفه ، يشد بها الزمام ( من فضة كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح ، وهكذا وقع عند أحمد (ج 1 : ص 261 ، 269 ، 273) وابن ماجة والبيهقي في رواية وفي أبي داود (( برة فضة )) بالإضافة وهكذا ذكره في جامع الأصول ، أي في أنفه حلقة فضة ، فإن البرة حلقة من صفر ونحوه تجعل في لحم أنف البعير . وقال الأصمعي : في أحد جانبي المنخرين ، لكن لما كان الأنف من الرأس قال (( في رأسه )) على الاتساع ، أو هو مجاز المجاورة من حديث قربه من الرأس لا من إطلاق الكل على البعض وعند أحمد (ج 1 : ص 234) عبرته قصة )) وإنما جعلها أبو جهل من فضة أو ذهب إظهارا للفخر والعظمة ، وقد وقع هذا الجمل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في غنائم بدر فجعله في هديه عام الحديبية ليغيظ به المشركين كما سيأتي ( وفي رواية (( من ذهب )) ) ويمكن التعدد باعتبار المنخرين ( يغيظ بذلك المشركين ) بفتح حرف المضارعة أي يوصل الغيظ إلى قلوبهم في نحر ذلك الجمل ، وفيه تلميح إلى قوله تعالى : ? ليغيظ بهم الكفار ? (48 : 29) قال الخطابي : قوله (( يغيظ بذلك المشركين )) معناه أن هذا الجمل كان معروفا بأبي جهل فحازه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سلبه فكان يغيظهم أن يروه في يده وصاحبه قتيل سليب . وفي الحديث دليل على جواز الذكر في الهدي ، وإليه ذهب جماهير أهل العلم . قال الخطابي : في الحديث من الفقه أن الذكر في الهدي جائزة ، وقد روى عن عبد الله بن عمر أنه كان يكره ذلك في الإبل ، ويرى أن يهدي الإناث منها

(18/474)


– قلت : وترجم له البيهقي (( باب جواز الذكر والأنثى في الهدايا )) وابن ماجة (( باب الهدي من الإناث والذكور )) قال البوصيري : قوله (( أهدي في بدنه جملا )) أي ذكرا ، وكأنه أراد أن النوق كانت هي الغالب ، فإذا ثبت إهداء الذكور لزم جواز النوعين – انتهى . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 550) والذكر والأنثى في الهدي سواء ، وممن أجاز ذكران الإبل ، ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومالك وعطاء والشافعي ، وعن ابن عمر أنه قال : ما رأيت أحدا فاعلا ذلك ، وأن أنحر أنثى أحب إلى . والأول أولى ، لأن الله تعالى قال : ? والبدن جعلناها لكم من شعائر الله ? (22 : 36) ولم يذكر ذكرا ولا أنثى ، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى جملا لأبي جهل في أنفه برة من فضة ، ولأن القصد اللحم ، ولحم الذكر أو فر ، ولحم الأنثى أرطب فيتساويان – انتهى . وقال النووي في مناسكه : إن صفات الهدي المطلق كصفات الإضحية المطلقة ، ويجزئ الذكر والأنثى ، وقال ابن حجر في شرحه : والذكر أفضل إن لم يكثر نزواته ، وإلا فالأنثى التي لم تلد – انتهى . وفي المدونة : الذكور والإناث عند مالك بدن كلها ، وتعجب مالك ممن يقول لا يكون إلا في الإناث . قال مالك : وليس هكذا ، قال الله تبارك وتعالى : ? والبدن جعلناها لكم من شعائر الله ? ولم يقل ذكرا ولا
رواه أبو داود .

(18/475)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنثى ، قلت لابن القاسم : فالهدي من البقر والغنم والإبل هل يجوز من ذلك الذكر والأنثى في قول مالك ؟ قال نعم – انتهى . ( رواه أبو داود ) في باب الهدي من كتاب المناسك ، قال : حدثنا النفيلي نا محمد بن سلمة ثنا محمد بن إسحاق ح وثنا محمد بن المنهال نا يزيد بن زريع عن ابن إسحاق المعنى قال : قال عبد الله يعني ابن نجيح حدثني مجاهد عن ابن عباس ، وقد سكت عنه أبو داود . وقال المنذري : في إسناده محمد بن إسحاق ، قلت : وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث والسماع بل قال : قال عبد الله يعني ابن أبي نجيح . وقال البيهقي : واختلف فيه على محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق فقيل (( برة فضة )) وقيل : من ذهب . ثم روى البيهقي بسنده عن عبد الله بن علي المديني عن أبيه قال : كنت أرى أن هذا من صحيح حديث ابن إسحاق فإذا هو قد دلسه . حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق قال حدثني من لا أتهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس ، ثم روى البيهقي بسنده وكذا أحمد (ج 1 : ص 273) عن جرير بن حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى في هديه بعيرا كان لأبي جهل في أنفه برة من فضة . قال البيهقي : وهذا إسناد صحيح إلا أنهم يرون أن جرير بن حازم أخذه من محمد بن إسحاق ثم دلسه ، فإن بين فيه سماع جرير من ابن أبي نجيح صار الحديث صحيحا ، والله أعلم – انتهى . قلت : روى الحديث أحمد (ج 1 : ص 261) والحاكم (ج 1 : ص 467) من طريق ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نحيح عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان أهدى جمل أبي جهل – الحديث . قال الحاكم : حديث صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي . وهذا كما ترى قد صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث ، فالحديث صحيح أو حسن ، وقد رواه أيضا أحمد (ج 1 : ص 269) وابن ماجة والبيهقي من طريق

(18/476)


سفيان الثوري عن ابن أبي ليلي عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس ، قال : أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل – الحديث . وهذا أيضا إسناد حسن . قال البيهقي : ورواه مالك بن أنس في الموطأ ( في باب ما يجوز من الهدي ) مرسلا وفيه قوة لما مضى – انتهى . وفي الباب أيضا عن أبي بكر الصديق عند الدارقطني والبيهقي . تنبيه : روى الترمذي في (( باب ما جاءكم حج النبي - صلى الله عليه وسلم - )) ؟ من طريق زيد بن الحباب عن سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج ثلاث حجج ، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر معها عمرة ، فساق ثلاثة وستين بدنة ، وجاء علي من اليمن ببقيتها ( أي ببقية المائة أو ببقية البدن التي ذبحها النبي - صلى الله عليه وسلم - ) فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من فضة فنحرها – الحديث . وهذا كما ترى مخالف لحديث الباب ولم ينبه على هذا الاختلاف ابن العربي وغيره من شراح الترمذي . والصواب عندنا ما وقع في رواية أبو داود ومن وافقه وذلك لوجوه منها أنه موافق لما في كتب السير ، فإن جميع أهل السير ذكروا إهداء جمل أبي جهل في عمرة الحديبية لا في حجة الوداع . قال ابن القيم في الهدى (ج 1 : ص 385) في الفصل الذي عقده لبيان ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية : ومنها
2665 – (15) وعن ناجية الخزاعي ، قال : قلت : يا رسول الله ! كيف أصنع بما عطب من البدن ؟ قال : " انحرها ،

(18/477)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استحباب مغايظة أعداء الله فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى في جملة هديه جملا لأبي جهل في أنفه برة من فضة يغيظ به المشركين إلى آخر ما قال . ومنها ما وقع في رواية ابن عباس عند أحمد وأبي داود والبيهقي وعند أهل السير من تعليل إهداء جمل أبي جهل بإغاظة المشركين ، فإن هذا لا يناسب حجة الوداع فإنه لم يكن فيها كافر بمكة . ومنها أن رواية الترمذي ضعيفة . قال الترمذي : هذا حديث غريب من حديث سفيان ، وسألت محمدا عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري عن جعفر عن أبيه عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورأيته لا يعد هذا الحديث محفوظا ، وقال : إنما عن الثوري عن أبي إسحاق عن مجاهد مرسل – انتهى . ولا يبعد أن يقال إن سفيان الثوري جمع بين الحديثين حديث جابر في قصة هدايا حجة الوداع وحديث ابن عباس في قصة هدايا عمرة الحديبية ، كما يدل عليه سياق ابن ماجه في باب حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه روى عن القاسم بن محمد المهلبي عن عبد الله بن داود عن سفيان قال : حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حجات ، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر من المدينة وقرن مع حجته عمرة . واجتمع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به علي مائة بدنة منها جمل لأبي جهل في أنفه برة من فضة فنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده ثلاثا وستين ونحر علي ما غبر . قيل له ( أي لسفيان ) من ذكره ؟ قال : جعفر عن أبيه عن جابر وابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس – انتهى . ويؤيد ذلك أنه روى الحاكم من طريق زيد بن الحباب عن الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر ( وهو طريق الترمذي كما تقدم ) أول الحديث أي إلى قوله (( حجة قرن معها عمرة )) واقتصر عليه . ولم يذكر قصة جمل أبي جهل ، وقد صحح الحديث الحاكم على شرط مسلم وقرره الذهبي .

(18/478)


2665 - قوله ( وعن ناجية ) بالنون والجيم ( الخزاعي ) بمضمومة وخفة زاي ، نسبه إلى خزاعة . قال الحافظ في التقريب : ناجية بن جندب بن كعب ، وقيل : ابن كعب بن جندب الخزاعي ، صحابي تفرد بالرواية عنه عروة بن الزبير ، ووهم من خلطه بناجية بن جندب بن عمير الأسلمي الصحابي الذي روى عنه مجزأة بن زاهر وغيره – انتهى بتصرف يسير . وهو معدود في أهل المدينة . قال سعيد بن عفير : كان اسمه ذكوان فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - ناجية ، إذ نجا من قريش ، وهو الذي نزل القليب في الحديبية بسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يقال . مات بالمدينة في زمن معاوية ، وسيأتي مزيد الكلام في ترجمته عند تخريج الحديث ( كيف أصنع بما عطب ) بكسر الطاء من باب علم من العطب بفتحتين وهو الهلاك وأريد به ها هنا قربه للهلاك بأن اعترته آفة تمنعه من السير فيكاد يعطب . وقال القاري : بكسر الطاء أي عيي وعجز عن السير ووقف في الطريق ، وقيل : أي قرب من العطب وهو الهلاك . وقال في النهاية : عطب الهدي هلاكه . وقد يعبر بالعطب عن آفة تعتريه فتمنعه عن السير ويخاف عليه الهلاك فينحر ( من البدن ) أي من الهدي المهداة إلى الكعبة
ثم اغمس نعلها في دمها ، ثم خل بين الناس وبينها فيأكلونها " . رواه مالك ، والترمذي وابن ماجة . ورواه أبو داود ، والدارمي عن ناجية الأسلمي .

(18/479)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بيان لما ( ثم اغمس ) بكسر الميم من باب ضرب ( نعلها ) أي المقلدة بها ( في دمها ) أي ثم اجعلها على صفحتها ( ثم خل ) بصيغة الأمر من التخلية ( بين الناس وبينها ) قال الطيبي : التعريف للعهد . والمراد بهم الذين يتبعون القافلة أو جماعة غيرهم من قافلة أخرى – انتهى . قلت : اختلفوا في المراد بالناس ، فعند المالكية يدخل فيهم الفقراء والأغنياء من الرفقة وغيرهم غير صاحب الهدي ورسوله ، وعند الحنفية هم الفقراء خاصة سواء كانوا من الرفقة أو من غيرهم ، وأما عند الشافعية والحنابلة فهم الفقراء لكن من غير أهل الرفقة وهو الراجح عندنا لما تقدم في حديث ابن عباس من قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك ، وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا ( فيأكلونها ) أي فهم يأكلونها على حد قوله تعالى ? ولا يؤذن لهم فيعتذرون ? (77 : 36) وإلا لكان الظاهر أن يقال : فيأكلوها . أي بإسقاط النون لجواب الأمر كقوله تعالى ? ذرهم يأكلوا ? (15 : 3) ( رواه مالك والترمذي وابن ماجة ) أي عن ناجية الخزاعي ، هذا هو ظاهر معنى كلام المصنف ، وفيه أن الإمام مالكا روى الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه فقال (( عن صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدي )) – الحديث . فهذا كما ترى لم يسم الرجل ولم ينسبه بل أبهم فقال (( عن صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) ورواه الترمذي من طريق عبدة بن سليمان ، وابن ماجة من طريق وكيع كلاهما عن هشام عن عروة فقالا : عن ناجية الخزاعي ، وهكذا رواه أحمد (ج 4 : ص 334) ومن طريقه الحاكم (ج 1 : ص 447) من رواية وكيع وأبي معاوية عن هشام وأخرجه أيضا ابن حبان من رواية أبي خازم عن هشام فقال : (( عن ناجية الخزاعي )) فاتفق عبدة عند الترمذي ووكيع عند أحمد وابن ماجة والحاكم وأبو معاوية عند أحمد

(18/480)


وأبو خازم عند ابن حبان على التسمية والنسبة .
قوله ( ورواه أبو داود والدارمي عن ناجية الأسلمي ) أخرجه أبو داود من طريق سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه ومن طريق أبي داود رواه البيهقي (ج 5 : ص 243) وأخرجه الدارمي من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام فقالا (( عن ناجية الأسلمي )) قال الزرقاني : وكذا رواه جعفر بن عون وروح بن القاسم وغيرهم عن هشام – انتهى . ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب من طريق وهيب بن خالد عن هشام بن عروة عن أبيه فقال (( عن ناجية صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) فلم يذكر النسبة لا الأسلي ولا الخزاعي . قال الحافظ في الإصابة بعد ذكر طرقه : ولم يسم أحد منهم والد ناجية لكن قال بعضهم الخزاعي وبعضهم الأسلمي ، ولا يبعد التعدد ، فقد ثبت من حديث ابن عباس أن ذويبا الخزاعي حدثه أنه كان مع البدن أيضا (( ففي لفظ عند أحمد أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث معه بالبدن فيقول : إن عطب منها
..............................................................................................

(18/481)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شيء فخشيت عليه فانحرها واغمس نعلها في دمها واضرب صفحتها ولا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك ) قال : وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عروة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث ناجية الخزاعي عينا في فتح مكة ، وقد جزم أبو الفتح الأزدي وأبو صالح المؤذن بأن عروة تفرد بالرواية عن ناجية الخزاعي ، فهذا يدل على أنه غير الأسلمي – انتهى . وقال في تهذيب التهذيب : ناجية بن كعب بن جندب ، ويقال ابن جندب بن كعب ، ويقال عمير بن معمر الأسلمي الخزاعي ، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان صاحب بدنه فيما يصنع بما عطب من البدن ، روى عنه عروة بن الزبير ومجزأة بن زاهر الأسلمي .... قلت ( قائله الحافظ ) قوله أي قول صاحب تهذيب الكمال ) (( الأسلمي الخزاعي )) عجيب ، وقد بينت في معرفة الصحابة أن ناجية بن جندب الأسلمي غير ناجية بن جندب بن كعب الخزاعي ، وأن كلا منهما وقع له استصحاب البدن وأن الذي روى عنه عروة هو الخزاعي ، وقيل فيه الأسلمي ، وأن الذي روى عنه مجزأة هو الأسلمي بلا خلاف ، والأسلمي قد ذكر ابن سعد أنه شهد الحديبية ، وزعم الأزدي وأبو صالح المؤذن أن عروة تفرد بالرواية عن الخزاعي ، وأما الأسلمي فروى عنه مجزأة بن زاهر وعبد الله بن عمرو الأسلمي أيضا – انتهى . قلت : كلام الحافظ هذا وكذا كلامه في التقريب وفي الإصابة يدل على أن ناجية الأسلمي غير ناجية الخزاعي ، والأول ناجية بن جندب بن عمير ، والثاني هو ناجية بن جندب بن كعب أو ناجية بن كعب بن جندب وأن كليهما من أصحاب البدن المهداة التي وقع السؤال فيها عما يصنع بما عطب منها ، وأن الصواب في حديث عروة (( ناجية الخزاعي )) لا الأسلمي ، ويؤيد ذلك أن الإمام أحمد في مسنده وضع الحديث في مسند ناجية الخزاعي لما وقع في سنده (( عن عروة عن ناجية الخزاعي )) وذكر الزرقاني كلام الحافظ المتقدم عن الإصابة ثم تعقبه بأن جزم

(18/482)


أبي الفتح الأزدي وأبي صالح المؤذن بتفرد عروة بالرواية عن الخزاعي لا يدل على أن هذا الحديث عنه فلعل الصواب رواية من قال إنه الأسلمي لا سيما وهم حفاظ ثقات ، وقد جزم ابن عبد البر بأنه ناجية بن جندب الأسلمي – انتهى . قلت : لم يتفق أصحاب هشام على نسبة الأسلمي ، بل قال أكثرهم : الخزاعي كما تقدم ، نعم صنيع عامة أصحاب الرجال يؤيد أنه الأسلمي حيث نسبوا الحديث إلى الأسلمي ولم يذكروا الخزاعي كالمصنف في الإكمال وابن عبد البر في الاستيعاب والجزري في رجال جامع الأصول ، وذكر الذهبي في تجريده والجزري في أسد الغابة الحديث في ترجمة الأسلمي والخزاعي كليهما ، وقال الجزري في ترجمة ناجية بن جندب بعد ذكر الحديث عن الترمذي بسنده وعن الموطأ : والصحيح أنه أسلمي . ثم ذكر القصة من رواية ابن إسحاق وفيها أن الذي نزل القليب بسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناجية ابن جندب الأسلمي صاحب بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى . والظاهر أن البغوي صاحب المصابيح تبع في ذلك الإمام أحمد والمصنف تبع ابن عبد البر ومن وافقه ، فإنه لم يذكر ناجية الخزاعي في إكماله ، والراجح عندنا هو ما ذهب إليه الحافظ ، والله أعلم . والحديث صححه الترمذي وسكت عنه أبو داود والمنذري وصححه الحاكم على شرط الشيخين وقرره الذهبي
2666 – (16) وعن عبد الله بن قرط ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ، ثم يوم القر " . قال ثور : وهو اليوم الثاني . قال : وقرب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنات خمس أو ست ، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/483)


2666 – قوله ( وعن عبد الله بن قرط ) بضم القاف وسكون الراء وإهمال الطاء الأزدي الثمالي بضم المثلثة وتخفيف الميم صحابي ، روى أحمد بن حنبل بإسناد حسن وأبو نعيم في الصحابة بإسناد لا بأس به أنه كان اسمه في الجاهلية شيطانا فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماه عبد الله . شهد اليرموك وفتح دمشق ، وأرسله يزيد بن أبي سفيان بكتابه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهم ، واستعمله أبو عبيدة على حمص في عهد عمر مرتين ، ولم يزل عليها حتى توفي أبو عبيدة ، ثم استعمله معاوية على حمص أيضا . قال ابن يونس : قتل عبد الله بأرض الروم شهيدا سنة ست وخمسين ( إن أعظم الأيام ) أي أيام عيد الأضحى ، فلا ينافي ما في الأحاديث الصحيحة أن أفضل الأيام يوم عرفة فيكون المراد بتلك الأيام يوم النحر وأيام التشريق . وقال الطيبي : أي من أعظم الأيام ، لأن العشر ( أي عشر رمضان أو عشر ذي الحجة ) أفضل مما عداها قال القاري : ولا يبعد أن يقال : الأفضلية مختلفة باعتبار الحيثية أو الإضافية والنسبية فلا يحتاج إلى تقدير (( من )) التبعيضية ( يوم النحر ) أي أول أيام النحر لأنه العيد الأكبر ويعمل فيه أكبر أعمال الحج حتى قال تعالى فيه ? يوم الحج الأكبر ? ( ثم يوم القر ) بفتح القاف وتشديد الراء ، هو اليوم الأول من أيام التشريق ، سمي بذلك لأن الناس يقرون يومئذ في منازلهم بمنى ولا ينفرون عنه بخلاف اليومين الأخيرين ، قاله القاري . وقال في اللمعات : سمي بذلك لأن الناس يقرون ويسكنون فيه بمنى بعد ما تعبوا في أداء المناسك . وقال الجزري والخطابي : هو اليوم الذي يلي يوم النحر ، سمي بذلك لأن الناس يقرون فيه بمنى وقد فرغوا من طواف الإفاضة والنحر فاسترحوا وقروا ( قال ثور ) بفتح مثلثة ، أحد رواة هذا الحديث وهو ثور بن يزيد الكلاعي ويقال الرحبي أبو خالد الحمصي أحد الحفاظ الأثبات العلماء . قال ابن معين : ما رأيت شاميا أوثق منه . وقال في

(18/484)


التقريب : ثقة ثبت إلا أنه يرى القدر ، من كبار أتباع التابعين . مات سنة خمسين ومائة وقيل ثلاث أو خمس وخمسين ( وهو ) أي يوم القر هو ( اليوم الثاني ) أي من أيام النحر أو من أيام العيد ، فلا ينافي ما سبق من أنه أول أيام التشريق ( قال ) أي عبد الله ( وقرب ) بتشديد الراء مجهولا ( بدنات خمس أو ست ) شك من الراوي أو ترديد من عبد الله ، يريد تقريب الأمر أي بدنات من بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فطفقن ) بكسر الفاء الثانية أي شرعن ( يزدلفن ) أي يتقربن ويسعين ( إليه بأيتهن يبدأ ) يعني يقصد كل من البدنات أن يبدأ في النحر بها . قال الطيبي : أي منتظرات بأيتهن يبدأ للتبرك بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نحرهن ، ولا يخفى ما فيه من المعجزة الباهرة . قال الخطابي : قوله (( يزدلفن )) معناه يقتربن من قولك (( زلف الشيء )) إذا قرب ، ومنه قوله تعالى ? وأزلفنا ثم الآخرين ? (26 : 64) ومعناه والله
قال : فلما وجبت جنوبها ، قال فتكلم بكلمة خفية لم أفهمها فقلت : ما قال ؟ قال ، قال : " من شاء اقتطع " . رواه أبو داود . وذكر حديث ابن عباس وجابر ، في باب الإضحية .
( الفصل الثالث )
2667 – (17) عن سلمة بن الأكوع ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء " .

(18/485)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أعلم القرب والدنو من الهلاك ، وإنما سميت المزدلفة لاقتراب الناس فيها إلى منى بعد الإفاضة من عرفات ( قال ) أي عبد الله ( فلما وجبت جنوبها ) أي سقطت على الأرض لأنها تنحر قائمة كما تقدم . قال الخطابي : معناه زهقت أنفسها فسقطت على جنوبها ، وأصل الوجوب السقوط ( قال ) أي عبد الله ، وهو تأكيد ، وقال الطيبي : أي الراوي ( فتكلم ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال القاري : فيلزم منه أن يقال بزيادة الفاء ، وعندي أن ضمير (( قال )) راجع إليه - صلى الله عليه وسلم - ، وقوله (( فتكلم بكلمة خفيفة )) عطف تفسير لقال – انتهى . قلت : ولفظ البيهقي (( فلما وجبت جنوبها تكلم بكلمة خفية لم أفهمها )) وهذا واضح لا يحتاج إلى تأويل ( لم أفهمها ) قال القاري : أي لخفاء لفظها ( فقلت ) أي للذي يليني ( ما قال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قال ) أي المسؤل ( قال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من شاء اقتطع ) قال الخطابي : فيه دليل على جواز هبة المشاع ، وفيه دلالة على أخذ النثار في عقد الأملاك ، وأنه ليس من باب النهبى ، وإنما هو من باب الإباحة وقد كره بعض العلماء خوفا أن يدخل فيما نهي عنه من النهبى ( رواه أبو داود ) وأخرجه أيضا البيهقي (ج 5 : ص 241) كلاهما من طريق ثور بن يزيد عن راشد بن سعد عن عبد الله بن عامر بن لحي عن عبد الله بن قرط . وسكت عنه أبو داود والمنذري ، وقال المنذري : وأخرجه النسائي أي في الكبرى وذكره الحافظ في الإصابة في ترجمة عبد الله بن قرط ، وعزاه لأبي داوود والنسائي وابن حبان والحاكم وقال : قال الطبراني تفرد به ثور بن يزيد ( وذكر حديث ابن عباس ) وقع في بعض النسخ (( حديثا ابن عباس )) وهو الظاهر ويريد بحديث ابن عباس قوله : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة سبعة وفي الجزور عشرة ( وجابر ) أي

(18/486)


البقرة عن سبعة والجزور عن سبعة ( في باب الإضحية ) الأظهر أنه اعتراض من صاحب المشكاة بأنه حولهما عن هذا الباب ، لأنهما أنسب إلى ذلك الباب ، ويحتمل أن يكون اعتذارا منه بأنه أسقطهما عن تكرار ، والله أعلم . والحديثان قد تقدم البسط في شرحهما في باب الأضحية ، وقد بينا هناك أن حديث جابر أنسب لباب الهدي .
2667 – قوله ( من ضحى ) بتشديد الحاء ( فلا يصبحن ) بالصاد المهملة الساكنة والموحدة المكسورة ( بعد ثالثة ) من الليالي من وقت التضحية ( وفي بيته ) قال القسطلاني : ولأبي ذر (( وبقى في بيته )) ( منه ) أي من الذي ضحى به ( شيء ) من لحمة لحرمة ادخار شيء من لحم الأضحية في هذا العام لأجل القحط الذي وقع فيه حتى امتلأت المدينة من أهل البادية
فلما كان العام المقبل قالوا : يا رسول الله ! نفعل كما فعلنا العام الماضي ؟ قال : " كلوا وأطعموا

(18/487)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فأمر أهلها بإخراج جميع ما عندهم من لحوم الأضاحي التي اعتادوا ادخار مثلها في كل عام ( فلما كان العام المقبل ) أي الآتي بعده ( قالوا ) أي بعض الأصحاب ( نفعل ) بتقدير الاستفهام ( كما فعلنا العام الماضي ؟ ) من ترك الادخار ، قال ابن المنير : وكأنهم فهموا أن النهي ذلك العام كان على سبب خاص وهو الدافة ، وإذا ورد العام حاك في النفس من عمومه وخصوصه إشكال ، فلما كان مظنة الاختصاص عاودوا السؤال فبين لهم - صلى الله عليه وسلم - أنه خاص بذلك السبب ، ويشبه أن يستدل بهذا من يقول : إن العام يضعف عمومه بالسبب فلا يبقى على أصالته ولا ينتهي به إلى التخصيص ، إلا ترى أنهم لو اعتقدوا بقاء العموم على أصالته لما سألوا ، ولو اعتقدوا الخصوص أيضا لما سألوا ، فسؤالهم يدل على أنه ذو شأنين ، وهذا اختيار الإمام الجويني . وحاصل كلام ابن المنير أن وجه قولهم (( هل نفعل كما كنا نفعل )) مع أن النهي يقتضي الاستمرار لأنهم فهموا أن ذلك النهي ورد على سبب خاص فلما احتمل عندهم عموم النهي أو خصوصه من أجل السبب سألوا ، فأرشدهم إلى أنه خاص بذلك العام من أجل السبب المذكور ، واستدل به على أن العام إذا ورد على سبب خاص ضعفت دلالة العموم حتى لا يبقى على أصالته ، لكن لا يقتصر فيه على السبب ، كذا في الفتح ( قال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( كلوا ) بصيغة الأمر من الأكل . قال الحافظ : تمسك به من قال بوجوب الأكل من الأضحية ، ولا حجة فيه لأنه أمر بعد حظر ، فيكون للإباحة . وقال النووي : يستحب الأكل من الأضحية ، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا ما حكي عن بعض السلف أنه أوجب الأكل منها وهو قول أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا ، حكاه عنه الماوردي لظاهر هذا الحديث في الأمر بالأكل مع قوله تعالى ? فكلوا منها ? وحمل الجمهور هذا الأمر على الندب أو الإباحة ، لا سيما وقد ورد بعد الحظر

(18/488)


كقوله تعالى ? وإذا حللتم فاصطادوا ? (5 : 2) وقد اختلف الأصولين والمتكلمون في الأمر الوارد بعد الحظر ، فالجمهور من أصحابنا وغيرهم على أنه للوجوب ، وقال جماعة منهم من أصحابنا وغيرهم : إنه للإباحة ، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك ( وأطعموا ) بهمزة قطع وكسر العين المهملة ، وفي حديث عائشة وأبي سعيد (( تصدقوا )) قال الخطابي : استدل بإطلاق الأحاديث على أنه لا تقييد في القدر الذي يجزئ من الإطعام . ويستحب للمضحي أن يأكل من الأضحية شيئا ويطعم الباقي صدقة وهدية ، وعن الشافعي يستحب قسمتها أثلاثا لقوله (( كلوا وتصدقوا وأطعموا )) قال ابن عبد البر : وكان غيره يقول : يستحب أن يأكل النصف ويطعم النصف ، وقد أخرج أبو الشيخ في كتاب الأضاحي ( وأحمد ) من طريق عطاء بن يسار عن أبي هريرة رفعه (( من ضحى فليأكل من أضحيته )) ورجاله ثقات لكن قال أبو حاتم الرازي : الصواب عن عطاء مرسل ، قال النووي : مذهب الجمهور أنه لا يجب الأكل من الأضحية ، وإنما الأمر فيه للأذن . وذهب بعض السلف إلى الأخذ بظاهر الأمر ، وحكاه المارودي عن أبي الطيب بن سلمة من الشافعية ، وأما
..............................................................................................

(18/489)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصدقة منها فالصحيح أنه يجب التصدق من الأضحية بما يقع عليه الاسم ، والأكمل أن يتصدق بمعظمها ، ولنا وجه أنه لا تجب الصدقة بشيء منها ، كذا في الفتح . وقال ابن حزم في المحلى : فرض على كل مضح أن يأكل من أضحيته ، ولا بد ولو لقمة ، وفرض عليه أن يتصدق أيضا منها بما شاء قل أو أكثر ولا بد ، ومباح له أن يطعم منها الغني والكافر وأن يهدي منها إن شاء ذلك – انتهى . وقال ابن قدامة في المغني (ج 8 : ص 632) قال أحمد : نحن نذهب إلى حديث عبد الله (( يأكل هو الثلث ويطعم من أراد الثلث ويتصدق على المساكين بالثلث )) قال علقمة : بعث معي عبد الله بهدية فأمرني أن آكل ثلثا وأن أرسل إلى أهل أخيه عتبة بثلث وأن أتصدق بثلث . وعن ابن عمر قال : الضحايا والهدايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين . وهذا قول إسحاق وأحد قولي الشافعي . وقال في الآخر : يجعلها نصفين ، يأكل نصفا ويتصدق بنصف لقول الله تعالى ? فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ? (22 : 28) وقال أصحاب الرأي : ما كثر من الصدقة فهو أفضل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى مائة بدنة وأمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل هو وعلى من لحمها وحسيا من مرقها ونحر خمس بدنات أو ست بدنات وقال :من شاء فليقتطع ولم يأكل منهن شيئا . ولنا ما روي عن ابن عباس في صفة أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلث ، ويتصدق على السؤال بالثلث . رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في الوظائف وقال : حديث حسن ، ولأنه قول ابن مسعود وابن عمر ، ولم نعرف لهما مخالفا في الصحابة ، فكان إجماعا ، ولأن الله تعالى قال ? فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ? والقانع السائل يقال : قنع قنوعا إذا سأل ، وقنع قناعة إذا رضي ، والمعتر الذي يعتريك أي يتعرض لك لتطعمه فلا يسأل ، فذكر ثلاثة أصناف ، فينبغي أن

(18/490)


يقسم بينهم ثلاثا ، قال : والأمر في هذا واسع ، فلو تصدق بها كلها أو بأكثرها جاز ، وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز ، وقال أصحاب الشافعي : يجوز أكلها كلها . ولنا أن الله تعالى قال ? فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ? وقال ? وأطعموا البائس الفقير ? والأمر يقتضي الوجوب . وقال بعض أهل العلم : يجب الأكل منها ولا تجوز الصدقة بجميعها للأمر بالأكل منها – انتهى مختصرا . وقال في الدر المختار : يأكل من لحم الأضحية ويؤكل غنيا ويدخر ، وندب أن لا ينقص التصدق عن الثلث وندب تركه لذي عيال توسعة عليهم ، وفي البدائع (( يستحب أن يأكل من إضحيته والأفضل أن يتصدق بالثلث ويتخذ الثلث ضيافة لأقربائه وأصدقائه ويدخر الثلث ، وله أن يهبه جميعا ، ولو تصدق بالكل جاز ، ولو حبس لنفسه الكل جاز ؛ لأن القربة بالدم والتصدق باللحم تطوع )) – انتهى ملخصا . قلت : اختلفوا في قوله تعالى : ? فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ? وفي قوله : ? فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ? أن حكم الأكل المأمور به في الآيتين هل هو الوجوب لظاهر صيغة الأمر أو الندب والاستحباب ؟ فجمهور أهل العلم على أن الأمر بالأكل فيهما للاستحباب لا للوجوب ، والقرينة الصارفة عن الوجوب هي ما زعموا من أن المشركين كانوا لا
وادخروا ، فإن ذلك العام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/491)


يأكلون هداياهم فرخص للمسلمين في ذلك ، وعليه فالمعنى : فكلوا إن شئتم ولا تحرموا الأكل على أنفسكم كما يفعله المشركون . وقال ابن كثير في تفسيره : إن القول بوجوب الأكل غريب وعزا للأكثرين أن الأمر للاستحباب . قال : وهو اختيار ابن جرير في تفسيره . وقال القرطبي في تفسيره : (( فكلوا منها )) أمر معناه الندب عند الجمهور ، ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وإضحيته وأن يتصدق بالأكثر مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل . وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فكلوا وادخروا وتصدقوا " – انتهى كلام القرطبي . ورجح الشنقيطي الوجوب حيث قال : أقوى القولين دليلا وجوب الأكل والإطعام من الهدايا والضحايا ، لأن الله تعالى قال : ? فكلوا منها ? في موضعين ، فأمر بالأكل من الذبائح مرتين ، ولم يقم دليل يجب الرجوع إليه صارف عن الوجوب ، وكذلك الإطعام هذا هو الظاهر بحسب الصناعة الأصولية . قال : ومما يؤيد أن الأمر في الآية يدل على وجوب الأكل وتأكيده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر مائة من الإبل فأمر بقطعة من لحم من كل واحدة منها فأكل منها وشرب من مرقها ، وهو دليل واضح على أنه أراد أن لا تبقي واحدة من تلك الإبل الكثيرة إلا وقد أكل منها أو شرب من مرقها . وهذا يدل على أن الأمر في قوله ? فكلوا منها ? ليس بمجرد الاستحباب والتخيير إذ لو كان كذلك لاكتفى بالأكل من بعضها وشرب مرقة دون بعض . وكذلك الإطعام ، فالأظهر فيه الوجوب – انتهى . وقال أبو حيان في البحر المحيط : والظاهر وجوب الأكل والإطعام ، وقيل باستحبابهما . وقيل باستحباب الأكل ووجوب الإطعام ، والأظهر أنه لا تحديد للقدر الذي يأكله ، والقدر الذي يتصدق به ، فيأكل ما شاء ويتصدق بما شاء ، وقد قال بعض أهل العلم : يتصدق بالنصف ويأكل النصف . واستدل لذلك بقوله تعالى : ? فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ? قال : فجزأها نصفين ،

(18/492)


نصف له ونصف للفقراء ، وقال بعضهم : يجعلها ثلاثة أجزاء ، يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ويهدي الثلث ، واستدل بقوله تعالى : ? فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ? فجزأها ثلاثة أجزاء ، ثلث له وثلث للقانع وثلث للمعتر ، هكذا قوله ، وأظهرها الأول ، والعلم عند الله تعالى ( وادخروا ) بتشديد الدال المهملة وأصله من ذخر بالمعجمة ، دخلت عليها تاء الافتعال ثم أدغمت ، ومنه قوله تعالى : ? وادكر بعد أمة ? (12 : 45) أي اجعلوا ذخيرة ، وهو أمر إباحة . قال الحافظ : يؤخذ من الإذن في الادخار الجواز خلافا لمن كرهه . وقد ورد في الادخار (( كان يدخر لأهله قوت سنة )) وفي رواية (( كان لا يدخر للغد )) والأول في الصحيحين ، والثاني في مسلم ، والجمع بينهما أنه كان لا يدخر لنفسه ويدخر لعياله ، أو أن ذلك كان لاختلاف الحال فيتركه عند حاجة الناس إليه ويفعله عند عدم الحاجة – انتهى . ( فإن ذلك العام ) أي الواقع فيه النهي علة لتحريم الادخار السابق وإيماء إلى أن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما
كان بالناس جهد ، فأردت أن تعينوا فيهم " . متفق عليه .
2668 – (18) وعن نبيشة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنا كنا نهينا عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاث لكي تسعكم ، جاء الله بالسعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( كان بالناس جهد ) بفتح الجيم أي مشقة من جهة قحط السنة ( فأردت ) أي بالنهي عن الادخار ( أن تعينوا فيهم ) بالعين المهملة من الإعانة : قال الطيبي : أي توقعوا الإعانة فيهم – انتهى . قال القاري : فجعله من باب التضمين كقول الشاعر :
يجرح في عراقيبها نصلي

(18/493)


ومنه قوله تعالى حكاية : ? وأصلح لي في ذريتي ? (46 : 15) ويمكن أن يكون التقدير : أن تعينوني في حقهم فإن فقرهم كان صعبا عليه - صلى الله عليه وسلم - . قلت : قوله (( أن تعينوا فيهم )) هكذا وقع في جميع نسخ المشكاة ، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج 4 : ص 156) وهو خطأ ، والصواب (( أن تعينوا فيها )) كما وقع في البخاري ، يعني تعينوا الفقراء في المشقة ، والضمير في (( تعينوا فيها )) للمشقة المفهومة من الجهد . قال الحافظ : قوله (( أن تعينوا فيها )) كذا هنا من الإعانة وفي رواية مسلم عن محمد بن المثنى عن أبي عاصم شيخ البخاري فيه (( فأردت أن يفشو فيهم )) أي بالفاء والشين ، وللإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي خيثمة عن أبي عاصم : فأردت أن تقسموا فيهم كلوا وأطعموا وادخروا . قال عياض : الضمير في تعينوا فيها للمشقة المفهومة من الجهد أو من الشدة أو من السنة لأنها سبب الجهد ، وفي (( يفشو فيهم )) أي في الناس يعني يشيع لحم الأضاحي في الناس المحتاجين إليها . قال في المشارق : ورواية البخاري أوجه . وقال في شرح مسلم : ورواية مسلم أشبه . قال الحافظ : قد عرفت أن مخرج الحديث واحد ، ومداره على أبي عاصم وأنه تارة قال هذا وتارة قال هذا ، والمعني في كل صحيح فلا وجه للترجيح – انتهى . ( متفق عليه ) أخرجاه في الأضاحي ، وهو الحديث الثامن عشر من ثلاثيات الإمام البخاري رواه عن أبي عاصم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع . قال القاري : لا يظهر وجه إيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب كما لا يخفي ، ولعله أراد به تفسير الحديث جابر في آخر الفصل الأول . والحديث أخرجه البيهقي في الأضاحي (ج 9 : ص 292) .

(18/494)


2668- قوله ( وعن نبيشة ) بضم النون وفتح الموحدة ، وهو نبيشة الخير الهذلي ، تقدم ترجمته ( إنا كنا نهيناكم عن لحومها ) أي الأضاحي أو الهدايا ، فيظهر وجه المناسبة للباب قاله القاري . قلت : وقع في رواية لأحمد (( إني كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي )) ( أن تأكلوها ) بدل اشتمال ( فوق ثلاث ) أي ليال ( لكي تسعكم ) من الوسع أي ليصيب لحومها كلكم من ضحى ومن لم يضح ( جاء الله ) وفي بعض نسخ أبي داود (( فقد جاء الله )) وهكذا وقع في مسند أحمد بالسعة بفتح السين ، ومنه قوله تعالى : ? لينفق ذو سعة من سعته ? (65 : 7) استئناف مبين لتغير الحكم ، أي أتي الله
فكلوا وادخروا وائتجروا ، ألا وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله " . رواه أبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالخصب وسعة الخير وأتى بالرخاء وكثرة اللحم ، فإذا كان الأمر كذلك ( فكلوا وادخروا وائتجروا ) افتعال من الأجر أي اطلبوا الأجر بالتصدق ، قال المنذري : افتعلوا من الأجر يريد الصدقة التي يتبعها أجرها وثوابها ، وليس من باب التجارة ، لأن البيع في الضحايا فاسد . قلت : وقع في بعض نسخ أبي داود (( واتجروا )) بتشديد التاء ، وكان أصله ائتجروا ، ثم أدغم كما في (( اتخذ )) قال الخطابي : (( واتجروا )) أصله

(18/495)


ايتجروا على وزن افتعلوا ، يريد الصدقة التي يبتغي أجرها وثوابها ، ثم قيل اتجروا كما قيل اتخذت الشيء ، وأصله ايتخذته ، وهو من الأخذ ، فهو من الأجر ، وليس من باب التجارة ، لأن البيع في الضحايا فاسد ، إنما تؤكل ويتصدق منها – انتهى ( ألا ) للتنبيه ( وإن هذه الأيام ) أي أيام منى وهي أربعة ، قاله القاري ( أيام أكل وشرب ) بضم الشين وفتحها فيحرم الصيام فيها ، وقد علل ذلك علي رضي الله عنه بأن القوم زاروا الله وهم في ضيافته في هذه الأيام وليس للضيف أن يصوم دون إذن من أضافه ، رواه البيهقي بسند مقبول ، ومن ثم قال جمع : سر ذلك أنه تعالى دعا عباده إلى زيارة بيته ، فأجابوه وقد أهدى على كل قدر وسعه ، وذبحوا هديهم فقبله منهم وجعل لهم ضيافة وهي ثلاثة أيام ، فأوسع زواره طعاما وشرابا ثلاثة أيام ، وسنة الملوك إذا أضافوا أطعموا من على الباب كما يطعمون من في الدار ، والكعبة هي الدار ، وسائر الأقطار باب الدار ، فعم الله الكل بضيافته فمنع صيامها ، ذكره الزرقاني ( ذكر الله ) أي كثرة ذكره تعالى لقوله تعالى : ? فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ? (2 : 200) ولقوله عز وجل : ? واذكروا الله في أيام معدودات? (2 : 203) قال الزرقاني : وعقب الأكل والشرب بقوله (( وذكر الله )) لئلا يستغرق العبد في حظوظ نفسه وينسى حقوق الله تعالى . قال الطيبي : هذا من باب التتميم ، فإنه لما أضاف الأكل والشرب إلى الأيام أوهم أنها لا تصلح إلا لهما ، لأن الناس أضياف الله فيها ، فتدارك بقوله (( وذكر الله )) لئلا يستغرقوا أوقاتهم باللذات النفسانية فينسوا نصيبهم من الروحانية ، ونظيره في التتميم للصيانة أي الاحتراس قول الشاعر :
-
-
فسقي ديارك غير مفسدها _ -
-
صوب الربيع وديمة تهمى ( -
-

(18/496)


قال الخطابي : قوله (( هذه الأيام أيام أكل وشرب )) فيه دليل على أن صوم أيام التشريق غير جائز لأنه قد وسمها بالأكل والشرب كما وسم يوم العيد بالفطر ثم لم يجز صيامه فكذلك أيام التشريق ، وسواء كان ذلك تطوعا من الصائم أو نذرا أو صامها الحاج عن التمتع – انتهى . قلت : رواه مسلم في كتاب الصوم بلفظ (( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله )) وقد ذكره المصنف في باب صيام التطوع ، وتقدم هناك الكلام في صيام أيام التشريق مفصلا ( رواه أبو داود ) في الأضاحي وسكت عليه . قال المنذري : وأخرجه النسائي بتمامه ، وأخرجه ابن ماجه مختصرا على الإذن في الادخار فوق ثلاث ، وأخرج مسلم الفصل الثاني في ذكر الأكل والشرب والذكر – انتهى . قلت : وأخرجه أيضا مطولا أحمد (ج 5 : ص 75 ، 76) والبيهقي (ج 9 : ص 292) .
(8) باب الحلق

(18/497)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( باب الحلق ) أي والقصر ، واكتفى بأفضلهما ، والكلام ها هنا في ستة أمور بسطها الباجي في شرح (( باب ما جاء في الحلاق )) من الموطأ ، الأول : في حكم الحلق ، الثاني : في صفته . الثالث : في موضعه ، الرابع : في وقته ، الخامس : فيما يتعلق به من الأحكام ، السادس : في أنه هل هو نسك أو تحلل ، قال العيني : قال شيخنا زين الدين العراقي في شرح الترمذي : إن الحلق نسك ، قاله النووي . وهو قول أكثر أهل العلم ، وهو القول الصحيح للشافعي ، وفيه خمسة أوجه أصحها أنه ركن لا يصح الحج والعمرة إلا به ، والثاني أنه واجب ، والثالث أنه مستحب ، والرابع أنه استباحة محظور ، والخامس أنه ركن في الحج واجب في العمرة ، وإليه ذهب الشيخ أبو حامد وغير واحد من الشافعية – انتهى . وصحح النووي في مناسكه أنه نسك وأنه ركن لا يصح الحج إلا به ، ولا يجبر بدم . وقال في شرح مسلم : مذهبنا المشهور أن الحلق أو التقصير نسك من مناسك الحج والعمرة وركن من أركانهما لا يحصل واحد منهما إلا به ، وبهذا قال العلماء كافة ، والشافعي قول شاذ ضعيف أنه استباحة محظور كالطيب واللباس وليس بنسك ، والصواب الأول – انتهى . وبوب البخاري في صحيحه (( باب الحلق والتقصير عند الإحلال )) قال ابن المنير في الحاشية : أفهم البخاري بهذه الترجمة أن الحلق نسك لقوله (( عند الإحلال )) وليس هو نفس التحلل ، وكأنه استدل على ذلك بدعائه - صلى الله عليه وسلم - لفاعله ، والدعاء يشعر بالثواب ، والثواب لا يكون إلا على العبادة لا على المباحات ، وكذلك تفضيله الحلق على التقصير يشعر بذلك ، لأن المباحات لا تتفاضل ، والقول بأن الحلق نسك قول الجمهور إلا رواية مضعفة عن الشافعي أنه استباحة محظور ، وقد أوهم كلام ابن المنذر أن الشافعي تفرد بها ، لكن حكيت أيضا عن عطاء وعن أبي يوسف ، وهي رواية عن أحمد وعن بعض المالكية ، كذا في الفتح ،

(18/498)


وقال الباجي : وعندنا أنه نسك وهو أحد قولي الشافعي ، والدليل على أنه نسك يثاب صاحبه على فعله قوله تعالى : ? لتدخلن المسجد الحرام ? (48 : 27) الآية . فوصف دخول المسجد على هذه الصفة فيما وعدهم به ، ولو لم يكن نسكا مقصودا لما وصف دخولهم به كما لم يصف دخولهم بلبسهم الثياب ، ووجه ثان أنه كناية عن الحج أو العمرة ولو لم يكن من النسك لما كنى به عنه ، ودليلنا من جهة السنة حديث ابن عمر في الدعاء للمحلقين ، فلو لم يكن فعلا يثاب عليه فاعله لما دعا له ، وأيضا إنه عليه السلام أظهر تفضيل الحلاق على التقصير ، ولو لم يكن نسكا له فضيلة لما كان أفضل من التقصير كما أنه ليس لبس نوع من الثياب أفضل من لبس غير ذلك – انتهى . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 435) : الحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة في ظاهر مذهب أحمد وقول الخرقي ، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي ، وعن أحمد أنه ليس بنسك ، وإنما هو إطلاق من محظور كان محرما عليه بالإحرام ، فأطلق فيه عند الحل كاللباس والطيب وسائر محظورات الإحرام ، فعلى هذه الرواية لا شيء على تاركه ، ويحصل الحل بدونه ، وجهها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالحل من العمرة قبله فروى أبو موسى قال : قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : بم أهللت ؟ قلت :
( الفصل الأول )
2669 – (1) عن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلق رأسه في حجة الوداع ، وأناس من أصحابه ، وقصر بعضهم .

(18/499)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لبيك بإهلال كإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : أحسنت ، فأمرني فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة ، ثم قال لي : أحل ، متفق عليه . وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سعى بين الصفا والمروة قال : من كان معه هدي فليحل وليجعلها عمرة . رواه مسلم . وعن سراقة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي . رواه أبو إسحاق الجوزجاني ، والرواية الأولى أصح ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به فروى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل . وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : احلوا إحرامكم بطواف بالبيت ( والصفا والمروة ) وقصروا . وأمره يقتضي الوجوب . ولأن الله تعالى وصفهم به بقوله سبحانه : ? محلقين رؤوسكم ومقصرين ? (48 : 27) ولم يكن من المناسك لما وصفهم به كاللبس وقتل الصيد ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترحم على المحلقين ثلاثا وعلى المقصرين مرة . ولو لم يكن من المناسك لما دخله التفضيل كالمباحات ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعلوه في جميع حجهم وعمرهم ولم يخلوا به ، ولو لم يكن نسكا لما داوموا عليه بل لم يفعلوه ، لأنه لم يكن من عادتهم فيفعلوه عادة ، ولا فيه فضل فيفعلوه لفضله ، وأما أمره بالحل فإنما معناه – والله أعلم – الحل بفعله ، لأن ذلك كان مشهورا عندهم ، فاستغنى عن ذكره ، ولا يمتنع الحل من العبادة بما كان محرما فيها كالسلام من الصلاة – انتهى . قال الولي العراقي في شرح التقريب : القائلون بأنه نسك اختلفوا في أنه ركن الحج لا يتم إلا بفعله ولا يجبر بدم أو واجب ، فذهب إلى الأول أكثر الشافعية . وقال إمام الحرمين : إنه متفق عليه ، وقال النووي : إنه الصواب ،

(18/500)


وذهب الداركي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى أنه واجب ، وهو مذهب الأئمة الثلاثة ، وذهب الشيخ أبو حامد الإسفرائيني وجماعة إلى أنه ركن في العمرة واجب في الحج .
2669 – قوله ( حلق رأسه ) بتشديد اللام وتخفيفها أي أمر بحلقه ( في حجة الوداع وأناس من أصحابه ) أي حلقوا لإدراك شرف متابعته وفضيلة الحلق التي بينه بالدعاء للمحلقين مرات ( وقصر ) بتشديد الصاد ( بعضهم ) أي بعض أصحابه أخذا بالرخصة بعد دعائه للمقصرين في المرة الأخيرة بالتماسهم . قال القاري : ويمكن أن يكون المراد من قوله (( وقصر بعضهم )) أي بعد عمرتهم قبل حجتهم – انتهى . واللفظ المذكور للبخاري في المغازي ، أخرجه من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن عبد الله بن عمر ، وأخرج مسلم من طريق الليث بن سعد عن نافع أن عبد الله قال : حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم ، قال عبد الله : إن سول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : رحم الله المحلقين . مرة أو مرتين
متفق عليه .
2670 - (2) وعن ابن عباس ، قال : قال لي معاوية : إني قصرت من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - عند المروة بمشقص .

(19/1)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( الشك من الليث ) ثم قال (( والمقصرين )) ومجموع الروايتين يدل على أن الحلق والدعاء للمحلقين كان في حجة الوداع ، وسيأتي الكلام فيه مفصلا . تنبيه : أفاد ابن خزيمة في صحيحه من الوجه الذي أخرجه البخاري منه في المغازي من طريق موسى بن عقبة عن نافع متصلا بالمتن المذكور ، قال : وزعموا أن الذي حلقه معمر بن عبد الله بن نضلة ، وبين أبو مسعود في الأطراف أن قائل (( وزعموا )) ابن جريج الراوي له عن موسى بن عقبة ، كذا في الفتح ، وقال النووي : اختلفوا في اسم الحالق فالصحيح أنه معمر بن عبد الله ( العدوي ) كما ذكر البخاري . وقيل هو خراش بن أمية ، وهو بمعجمتين ( الأولى مكسورة ) انتهى . قال الحافظ : والصحيح أن خراشا كان الحالق بالحديبية ، والله أعلم . قلت : وقد بينه ابن عبد البر فقال في ترجمة خراش بن أمية بن الفضل الكعبي الخزاعي : وهو الذي حلق رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية – انتهى . ولمعمر بن عبد الله الذي حلقه في حجة الوداع قصة رواها أحمد والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد ، والبخاري في تاريخه الكبير كما حكاها العيني ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي المغازي ، ومسلم في الحج ، واللفظ المذكور للبخاري في المغازي ، وأخرجه أيضا الترمذي والبيهقي (ج 5 : ص 103 ، 134) .

(19/2)


2670 – قوله ( قال لي معاوية ) أي ابن أبي سفيان ( إني قصرت من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي من شعر رأسه ، واستدل به من ذهب إلى اجتزاء تقصير بعض شعر الرأس كالحلق لأن ظاهر حرف (( من )) للتبعيض . ووقع عند أحمد (ج 4 : ص 92) والنسائي من طريق عطاء أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيام العشر – الحديث . قال : فلو ثبت هذا لكفى في تقدير الحلق والقصر ببعض الرأس – انتهى . قلت : اختلفت ألفاظ الرواية ، وفي بعضها (( قال قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) وهذا كما ترى مجمل ، وأما ما وقع في بعض الروايات من قوله (( قصرت من رأسه )) أو (( أخذ من أطراف شعره )) فالظاهر أن المراد به نفي المبالغة في التقصير بحيث يبلغ إلى أصل الشعر لا الاجتزاء بأخذ بعض الرأس وترك بعضه على أن حمل فعله على المتفق عليه أولى من حمله على المختلف فيه بل هو المتعين ، والله أعلم . قال النووي : في هذا الحديث جواز الاقتصار على التقصير وإن كان الحلق أفضل ، وسواء في ذلك الحاج والمعتمر إلا أنه يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج ليقع الحلق في أكمل العبادتين ، وقد سبقت الأحاديث في هذا – انتهى ( عند المروة ) فيه أنه يستحب أن يكون تقصير المعتمر أو حلقه عند المروة لأنها موضع تحلله كما يستحب للحاج أن يكون حلقه أو تقصيره في منى لأنها موضع تحلله ، وحيث حلقا أو قصرا من الحرم كله جاز ( بمشقص ) بكسر الميم وإسكان
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/3)


الشين المعجمة وفتح القاف وآخره صاد مهملة أي نصل طويل عريض أو غير عريض له حدة ، وقيل المراد به المقص وهو الأشبه في هذا المحل ، قاله القاري . وقال في اللمعات : مشقص كمنبر ، وهو نصل عريض أو سهم فيه ذلك ، وقيل المراد به الجلم بالجيم بفتحتين وهو الذي يجز به الشعر والصوف وهو أشبه . ثم اعلم أن في الحديث إشكالا وهو أنه لا يدري أن تقصير رأسه - صلى الله عليه وسلم - الذي أخبر به معاوية كان في الحج أو في العمرة ؟ ولا يصح الحمل على الأول ، لأن الحلق والتقصير من الحاج يكون بمنى لا عند المروة . وأيضا قد ثبت حلق رأسه في الحج فتعين أن يكون في العمرة ، ثم في أي عمرة من عمره كان ؟ لا يجوز أن يكون في العمرة الحكمية التي كانت بالحديبية لأنه حلق يومئذ فيها ولم يدخل مكة ولم يسلم معاوية يومئذ ، ولا يصح أن يحمل على عمرة القضاء لأنه قد ثبت عن أهل العلم بالسير أن معاوية إنما أسلم عام الفتح ، نعم قد ينقل عنه نفسه أنه كان يقول : أسلمت عام القضية ، لكن الصحيح أنه أسلم عام الفتح . وفي هذا النقل وهن ، أو يحمل على عمرة الجعرانة وكان في ذي القعدة عام الفتح ، وذلك أيضا لا يصح لأنه قد جاء في بعض ألفاظ الصحيح (( وذلك في حجته )) وفي رواية النسائي بإسناد صحيح (( وذلك في أيام العشر )) وهذا إنما يكون في حجة الوداع ، كذا في المواهب فتعين حمله على عمرة حجة الوداع ، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحل يومئذ ولا من كان معه هدي ، وإنما أمر بحل من لم يسق الهدي ، نعم قد توهم بعض الناس أنه - صلى الله عليه وسلم - حج متمتعا حل فيه من إحرامه ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدي ، وتمسكوا بهذا الحديث من معاوية لكن الصواب أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحل يومئذ . وقد قالوا : إن الصحابة أنكروا هذا القول على معاوية وغلطوه فيه كما أنكروا على ابن عمر في قوله (( إن إحدى عمره - صلى الله عليه وسلم - كان في رجب )) قال

(19/4)


التوربشتي : الوجه فيه أن نقول : نسي معاوية أنه كان في حجة الوداع ، ولا يستبعد ذلك في من شغلته الشواغل ونازعته الدهور والأعصار في سمعه وأبصاره وذهنه ، وكان قد جاوز الثمانين وعاش بعد حجة الوداع خمسين سنة – انتهى . فحينئذ يحمل ذلك على عمرة الجعرانة ، ويكون ذكر الحجة وأيام العشر سهوا والله أعلم – انتهى ما في اللمعات . وقال ابن الهمام : حديث معاوية ( أي في إحلاله بالتقصير عند المروة ) إما هو خطأ أو محمول على عمرة الجعرانة فإنه قد كان أسلم إذ ذاك وهي عمرة خفيت على بعض الناس لأنها كانت ليلا على ما في الترمذي والنسائي ، وعلى هذا فيجب الحكم على الزيادة التي في النسائي وهو قوله (( في أيام العشر )) بالخطأ ولو كانت بسند صحيح إما للنسيان من معاوية أو من بعض الرواة ، كذا في المرقاة . وقال الحافظ بعد ذكر رواية الباب : هذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة لكن وقع عند مسلم والنسائي ما يدل على أن ابن عباس حمل ذلك على وقوعه في حجة الوداع لقوله لمعاوية : إن هذه حجة عليك إذ لو كان في العمرة لما كان فيه على معاوية حجة ، وأصرح منه ما وقع عند أحمد (ج 4 : ص 92) من طريق قيس بن سعد عن عطاء أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيام العشر بمشقص
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/5)


معي وهو محرم ، وفي كونه في حجة الوداع نظر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحل حتى بلغ الهدي محله فكيف يقصر عنه على المروة وقد بالغ النووي هنا في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع فقال : هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الجعرانة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع كان قارنا وثبت أنه حلق بمنى ، وفرق أبو طلحة شعره بين الناس فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع ولا يصح حمله أيضا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع ، لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما ، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان ، هذا هو الصحيح المشهور ، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع ، وزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متمتعا ، لأن هذا غلط فاحش ، فقد تظاهرت الأحاديث في مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له : ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر . قلت ( قائله الحافظ ) : ولم يذكر الشيخ هنا ما مر في عمرة القضية والذي رجحه من كون معاوية إنما أسلم يوم الفتح صحيح من حيث السند لكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية وكان يكتم إسلامه ، ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح . وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق من ترجمة معاوية تصريح معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضية ، وأنه كان يخفي إسلامه خوفا من أبويه ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل في عمرة القضية مكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظرونه وأصحابه يطوفون بالبيت ، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة بسبب اقتضاه . ولا يعارضه أيضا قول سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه مسلم وغيره : فعلناها يعني العمرة في أشهر الحج ، وهذا يومئذ كافر بالعرش – بضمتين – يعني بيوت مكة ، يشير إلى معاوية ، لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله ولم يطلع على إسلامه لكونه

(19/6)


كان يخفيه . ويعكر على ما جوزوه أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة ولم يستصحب أحدا معه إلا بعض أصحابه المهاجرين فقدم مكة فطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة فأصبح بها كبائت ، فخفيت عمرته على كثير من الناس ، كذا أخرجه الترمذي وغيره ، ولم يعدوا معاوية فيمن كان صحبه حينئذ ولا كان معاوية فيمن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين حتى يقال لعله وجده بمكة ، بل كان مع القوم وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة مع جملة المؤلفة ، وأخرج الحاكم في الإكليل في آخر قصة غزوة حنين أن الذي حلق رأسه - صلى الله عليه وسلم - في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة . فإن ثبت هذا وثبت أن معاوية كان حينئذ معه وكان بمكة فقصر عنه بالمروة أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أولا وكان الحلاق غائبا في بعض حاجته ثم حضر فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق لأنه أفضل ففعل ، وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضية ، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - حلق فيها جاء هذا الاحتمال بعينه وحصل التوفيق بين الأخبار كلها ، وهذا مما فتح الله علي به في هذا الفتح ولله الحمد ثم لله الحمد أبدا . قال صاحب الهدي : الأحاديث الصحيحة المستفيضة تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر كما أخبر عن
متفق عليه .
2671 - (3) وعن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/7)


نفسه بقوله (( فلا أحل حتى أنحر )) وهو خبر لا يدخله الوهم بخلاف خبر غيره ، ثم قال : فلعل معاوية قصر عنه في عمرة الجعرانة فنسي بعد ذلك وظن أنه كان في حجته – انتهى . ولا يعكر على هذا إلا رواية قيس بن سعد المتقدمة لتصريحه فيها بكون ذلك في أيام العشرة إلا أنها شاذة . وقد قال قيس بن سعد عقبها : والناس ينكرون ذلك على معاوية – انتهى . وأظن قيسا رواها بالمعنى ثم حدث بها فوقع له ذلك . وقد أشار النووي إلى ترجيح كونه في الجعرانة وصوبه المحب الطبري وابن القيم وفيه نظر لأنه جاء أنه حلق في الجعرانة واستبعاد بعضهم أن معاوية قصر عنه في عمرة الحديبية لكونه لم يكن أسلم ليس ببعيد – انتهى كلام الحافظ . قلت : لا إشكال في رواية الشيخين فإنها تحمل على عمرة من عمره كما وقع في التصريح بذلك في رواية النسائي ، والمراد بها عمرة الجعرانة ، كما قال النووي والمحب الطبري وابن القيم وغيرهم ، وأما ما وقع في رواية الحاكم في الإكليل ورواية الملا في سيرته على ما حكاه الطبري من أنه حلق في عمرة الجعرانة فقد تقدم وجه الجمع بينه وبين روايات (( أنه قصر عنه )) والمشكل إنما هو رواية أبي داود بلفظ (( قصرت عنه على المروة بحجته )) ورواية أحمد والنسائي بلفظ (( أخذ من أطراف شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام العشر )) وأول المنذري رواية أبي داود بأن قوله (( لحجته )) يعني لعمرته ، قال : وقد أخرجه النسائي أيضا ، وفيه (( في عمرة على المروة )) وتسمى العمرة حجا ، لأن معناها القصد ، وقد قالت حفصة : ما بال الناس حلوا ، ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قيل : إنما تعني من حجتك – انتهى . وأما راوية أحمد والنسائي فهي محمولة على الخطأ والنسيان والوهم كما قال التوربشتي وابن القيم وابن الهمام والطيبي والحافظ ، والله أعلم ( متفق عليه ) واللفظ لمسلم ، وقوله (( عند المروة )) مما تفرد به مسلم دون البخاري ، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج 4 : ص

(19/8)


95 ، 96 ، 97 ، 98 ، 102) وأبو داود في باب الأقران ، والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 102) .
2671 – قوله ( قال في حجة الوداع ) هكذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح وهو خطأ من المصنف والبغوي ، فإن الحديث رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر ومن طريق مالك رواه أحمد (ج 2 : ص 79) والبخاري ومسلم وأبو داود وليس عندهم قوله (( في حجة الوداع )) وقد اختلف المتكلمون على هذا الحديث في الوقت الذي قال فيه رسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقال ابن عبد البر : كونه في الحديبية هو المحفوظ . وقال النووي : الصحيح المشهور أنه كان في حجة الوداع . قال القاضي عياض : لا يبعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله في الموضعين . قال العيني : ما قاله القاضي هو الصواب جمعا بين الأحاديث ، وهو الذي اختاره الحافظ حيث قال : قال ابن عبد البر : لم يذكر أحد من رواة نافع عن
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/9)


ابن عمر أن ذلك كان يوم الحديبية ، وهو تقصير وحذف ، وإنما جرى ذلك يوم الحديبية حين صد عن البيت ، وهذا محفوظ مشهور من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وحبشي بن جنادة وغيرهم ، ثم أخرج حديث أبي سعيد بلفظ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة ، وحديث ابن عباس بلفظ (( حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : رحم الله المحلقين )) الحديث . وحديث أبي هريرة من طريق محمد بن فضيل الذي أخرجه البخاري بلفظ (( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : والمقصرين ، قال : اللهم اغفر للمحلقين . قالوا : والمقصرين ؟ قالها ثلاثا . قال : وللمقصرين . ولم يسق ابن عبد البر لفظه بل قال : نذكر معناه وتجوز في ذلك فإنه ليس في رواية أبي هريرة تعيين الموضع ، ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع لأنه شهدها ، ولم يشهد الحديبية ، ولم يسق ابن عبد البر عن ابن عمر في هذا شيئا ولم أقف على تعيين الحديبية في شيء من الطريق عنه ، وقد قدمت في صدر الباب ( أي باب الحلق والتقصير عند الإحلال ) أنه مخرج من مجموع الأحاديث عنه أن ذلك كان في حجة الوداع كما يؤمئ إليه صنيع البخاري ، وحديث أبي سعيد الذي أخرجه ابن عبد البر أخرجه أيضا الطحاوي من طريق الأوزاعي ، وأحمد وابن أبي شيبة وأبو داود الطيالسي من طريق هشام الدستوائي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم الأنصاري عن أبي سعيد ، وزاد فيه أبو داود ( وأحمد ) أن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان وأبا قتادة ، وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجة من طريق ابن إسحاق حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه وهو عند ابن إسحاق في المغازي بهذا الإسناد وأن ذلك كان بالحديبية ، وكذلك أخرجه أحمد

(19/10)


وغيره من طريقه ، وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عنه ولم يعين المكان ، وأخرجه أحمد من هذا الوجه (ج 4 : ص 164 ، 165) وزاد في سياقه (( عن حبشي وكان ممن شهد حجة الوداع )) فذكر هذا الحديث ، وهذا يشعر بأنه كان في حجة الوداع ، وأما قول ابن عبد البر فوهم ، فقد ورد تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة في السنن ، ومن طريق الطبراني في الأوسط ، ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق في المغازي ، وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة ، ومن حديث أم الحصين عند مسلم ، ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة ، ومن حديث أم عمارة عند الحارث . فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا وأصح إسنادا ( لأن بعضها في صحيح مسلم بخلاف الحديبية ) ولهذا قال النووي عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وابن الحصين : هذه الأحاديث تدل على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع . قال : وهو الصحيح المشهور ، وقيل : كان في الحديبية ، وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في النهاية . ثم قال النووي : لا يبعد أن يكون وقع في الموضعين – انتهى . وقال عياض : كان
" اللهم ارحم المحلقين " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/11)


في الموضعين . وقال ابن دقيق العيد : إنه الأقرب . قلت ( قائله الحافظ ) : بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين كما قدمناه إلا أن السبب في الموضعين مختلف . فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل ، والقصة مشهورة ، فلما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحلال توقفوا ، فأشارت أم سلمة أن يحل هو - صلى الله عليه وسلم - قبلهم ففعل فتبعوه ، فحلق بعضهم وقصر بعض ، وكان من بادر على الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس المشار إليه قبل ، فإن في آخره عند ابن ماجة وغيره أنهم قالوا : يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة ؟ قال : لأنهم لم يشكوا ( في أن ما فعلته أحسن مما قام في أنفسهم ، أو معناه أي ما عاملوا معاملة من يشك في أن الإتباع أحسن ، وأما من قصر فقد عامل معاملة الشاك في ذلك حيث ترك فعله - صلى الله عليه وسلم - ) وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال ابن الأثير في النهاية : كان أكثر من حج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسق الهدي ، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤؤسهم شق عليهم ، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق ففعله أكثرهم ، فرجح النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل من حلق لكونه أبين في امتثال الأمر – انتهى . قال الحافظ : وفيما قاله نظر ، وإن تابعه عليه غير واحد ، لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا ، وقد كان ذلك في حقهم كذلك ، فالأولى ما قاله الخطابي وغيره أن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر

(19/12)


والتزين به وكان الحلق فيهم قليلا وربما كانوا يرونه من الشهرة ، ومن زي الأعاجم ، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير ، قلت : ما حكاه الحافظ عن الخطابي يأبى عنه كلام الخطابي في المعالم (ج 2 : ص 418) حيث قال في شرح حديث ابن عمر : قلت : كان أكثر من أحرم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة ليس معهم هدي ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد ساق الهدي ، ومن كان معه هدي فإنه لا يحلق حتى ينحر هديه ، فلما أمر من ليس معه هدي أن يحل وجدوا من ذلك في أنفسهم وأحبوا أن يأذن لهم في المقام على إحرامهم حتى يكملوا الحج ، وكان طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بهم ، فلما لم يكن لهم بد من الإجلال كان التقصير في نفوسهم أحب من الحلق فمالوا إلى التقصير ، فلما رأي ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم أخرهم في الدعاء وقدم عليهم من حلق وبادر إلى الطاعة وقصر بمن تهيبه وحاد عنه ، ثم جمعهم في الدعوة وعمهم بالرحمة – انتهى . وهذا كما ترى هو عين ما قاله ابن الأثير في النهاية ( اللهم ارحم المحلقين حيث عملوا بالأفضل لأن العمل بما بدأ الله تعالى في قوله ? محلقين رؤوسكم ومقصرين ? (48 : 27) أكمل . وقضاء التفث المأمور به في قوله عز وجل ? ثم ليقضوا تفثهم ? (22 : 29)
قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : " اللهم ارحم المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : " والمقصرين " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/13)


يكون به أجمل ، ويكون في ميزان العمل أثقل ، وفيه دليل على الترحم على الحي وعدم اختصاصه بالميت ( قالوا ) أي الصحابة ، قال الحافظ : لم أقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد ( والمقصرين يا رسول الله ) قال الحافظ : الواو معطوفة على شيء محذوف تقديره (( قل : والمقصرين ، أو قل : وارحم المقصرين ) وهو يسمى العطف التلقيني كقوله تعالى ? ومن ذريتي ? بعد قوله ? إني جاعلك للناس إماما ? (2 : 124) قال الآلوسي : ? ومن ذريتي ? عطف على كاف ? جاعلك ? يقال : سأكرمك ، فتقول : وزيدا ، أي وتكرم زيدا ، تريد تلقينه بذلك ، قال ? ومن ذريتي ? في معني بعض ذريتي ، فكأنه قال : (( وجاعل بعض ذريتي )) وهو من قبيل عطف التلقين فيكون خبرا في معني الطلب ، وكأن أصله واجعل بعض ذريتي ، لكنه عدل إلى المنزل لما فيه من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم كأنه مستحق مثل المعطوف عليه وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم ، والعدول من صيغة الأمر للمبالغة في الثبوت ومراعاة الأدب في التفادي عن صورة الأمر ، وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر ، قلت : ومن هذا القبيل قوله تعالى ? قال ومن كفر ? بعد قوله ? وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ? (2 : 126) فإنه يصح التقدير : وارزق من كفر بصيغة الأمر ، فالطلب بمعني الخبر على عكس ? ومن ذريتي ? وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف ، أو التقدير وأرزق من كفر ، بصيغة المتكلم ، وقال الآلوسي : ولك أن تجعل العطف على محذوف أي ارزق من آمن ومن كفر ( قال : اللهم ارحم المحلقين ) تنبيها على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكتف على المحلقين أولا لعدم الالتفات إلى المقصرين بل دعي لهم قصدا وكرر الدعاء لهم خاصة لإظهار فضيلة التحليق ( قالوا : والمقصرين يا رسول الله ) تأكيد لاستدعاء الرحمة للمقصرين . قال القاري : هل هو قول

(19/14)


المحلقين أو المقصرين أو قولهما جميعا ؟ احتمالات ثلاث ، أظهرها بعض الكل من النوعين ( قال : والمقصرين ) قال الحافظ : فيه إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه ولو تخلل بينهما السكوت بلا عذر ثم هو هكذا في معظم الروايات عن مالك الدعاء للمحلقين مرتين ، وعطف المقصرين عليهم في المرة الثالثة ، وانفرد يحيى بن بكير دون رواة الموطأ بإعادة ذلك ثلاث مرات ، نبه عليه ابن عبد البر في التقصي وأغفله في التمهيد ، بل قال فيه : إنهم لم يختلفوا على مالك في ذلك ، وقد راجعت أهل سماعي من موطأ يحيى بن بكير فوجدته كما قال في التقصي . وفي رواية الليث عن نافع عند مسلم وعلقها البخاري (( رحم الله المحلقين مرة أو مرتين ، قالوا : والمقصرين ، قال (( والمقصرين )) والشك فيه من الليث وإلا فأكثرهم موافق لما رواه مالك ، ولمسلم أيضا وعلقه البخاري من رواية عبيد الله – بالتصغير – العمري عن نافع ، قال في الرابعة (( والمقصرين )) ولمسلم من
..............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/15)


وجه آخر عن عبيد الله بلفظ مالك سواء ، قال الحافظ : وبيان كونها في الرابعة أن قوله والمقصرين معطوف على مقدر ، تقديره (( يرحم الله المحلقين )) وإنما قال ذلك بعد أن دعا للمحلقين ثلاثا صريحا فيكون دعاؤه للمقصرين في الرابعة ، وقد رواه أبو عوانة في مستخرجه من طريق الثوري عن عبيد الله بلفظ (( قال في الثالثة : والمقصرين )) والجمع بينهما واضح بأن من قال (( في الرابعة )) فعلى ما شرحناه ، ومن قال (( في الثالثة )) أراد أن قوله ? والمقصرين ? معطوف على الدعوة الثالثة أو أراد بالثالثة مسألة السائلين في ذلك ، وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يراجع بعد ثلاث كما ثبت ، ولو لم يدع لهم بعد ثالث مسألة ما سألوه في ذلك ، وأخرجه أحمد (ج 2 : ص 34) من طريق أيوب عن نافع بلفظ (( اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : وللمقصرين حتى قالها ثلاثا أو أربعا ، ثم قال : والمقصرين )) ورواية من حزم مقدمة على من شك – انتهى . وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : والمقصرين . قال : اللهم اغفر للمحلقين . قالوا : والمقصرين ، قالها ثلاثا . قال : وللمقصرين . قال الحافظ : قوله (( قالها ثلاثا )) أي قوله : اللهم اغفر للمحلقين ، وهذه الرواية شاهدة لأن عبيد الله العمري حفظ الزيادة – انتهى . واستدل بقوله (( المحلقين )) على مشروعية حلق جميع الرأس لأنه الذي تقتضيه الصيغة ( إذ لا يقال لمن حلق بعض رأسه أنه حلقه إلا مجازا ) وقال بوجوب حلق جميعه مالك وأحمد ، واستحبه الكوفيون والشافعي ويجزئ البعض عندهم ، واختلفوا فيه فعن الحنفية الربع إلا أبا يوسف فقال : النصف . وقال الشافعي : أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات ، وفي وجه لبعض أصحابه شعرة واحدة ، والتقصير كالحلق فالأفضل أن يقصر من جميع شعر رأسه ، ويستحب أن لا ينقص عن قدر الأنملة ، وإن اقتصر على دونها أجزأ . هذا للشافعية ، وهو

(19/16)


مرتب عند غيرهم على الحلق ، وهذا كله في حق الرجال ، كذا في الفتح . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 393) : يلزم التقصير أو الحلق من جميع شعره ، كذلك المرأة ، نص عليه أحمد ، وبه قال مالك ، وعن أحمد يجزئه البعض مبنيا على المسح في الطهارة ، وكذلك قال ابن حامد ، وقال الشافعي : يجزئه التقصير من ثلاث شعرات ، واختار ابن المنذر أنه يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير لتناول اللفظ له ، ولنا قول الله تعالى : ? محلقين رؤوسكم ? وهذا عام في جميعه ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق جميع رأسه تفسيرا لمطلق الأمر به فيجب الرجوع إليه ، ولأنه نسك تعلق بالرأس فوجب استيعابه به كالمسح – انتهى . واختار ابن الهمام قول مالك في وجوب استيعاب الرأس بالحلق والتقصير ، وقال بعد بسط الكلام فيه : فكان مقتضى الدليل في الحلق وجوب الاستيعاب كما هو قول مالك ، وهو الذي أدين الله به . قال : وقياسه على المسح قياس مع الفارق . وقال الشنقيطي بعد ذكر مذاهب الأئمة في ذلك : أظهر الأقوال عندي أنه يلزم حلق جميع الرأس أو تقصير جميعه ، ولا يلزم تتبع كل شعرة في التقصير ، لأن فيه مشقة كبيرة ، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة ، وأنه لا يكفي الربع ولا ثلاث شعرات خلافا للحنفية والشافعية ،
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/17)


لأن الله تعالى يقول : ? محلقين رؤوسكم ? ولم يقل : بعض رؤوسكم ? ومقصرين ? أي رؤوسكم لدلالة ما ذكر قبله عليه ، وظاهره حلق الجميع أو تقصيره ، ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دع ما يريبك إلا ما لا يريبك " . فمن حلق الجميع أو قصره ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ، ومن اقتصر على ثلاث شعرات أو على ربع الرأس لم يدع ما يريبه ، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة على الاكتفاء بواحد منهما ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حلق في حجة الوداع حلق جميع رأسه وأعطى شعر رأسه لأبي طلحة ليفرقه على الناس ، وفعله في الحلق بيان للنصوص الدالة على الحلق كقوله : ? محلقين رؤوسكم ? الآية ، وقوله : ? ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ? (2 : 196) وقد قدمنا أن فعله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بيانا لنص مجمل يقتضي وجوب حكم أن ذلك الفعل المبين لذلك النص المجمل واجب ، ولا خلاف في ذلك بين من يعتد به من أهل الأصول – انتهى . قال الحافظ : وفي الحديث من الفوائد أن التقصير يجزئ عن الحلق وهو مجمع عليه إلا ما روي عن الحسن البصري أن الحلق يتعين في أول حجة . حكاه ابن المنذر بصيغة التمريض ، وقد ثبت عن الحسن خلافه . قال ابن أبي شبيبة : حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن في الذي لم يحج قط ، فإن شاء حلق وإن شاء قصر ، نعم روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال : إذا حج الرجل أول حجة حلق ، فإن حج أخرى فإن شاء حلق وإن شاء قصر ، ثم روي عنه أنه قال : كانوا يحبون أن يحلقوا في أول حجة وأول عمرة – انتهى . وهذا يدل على أن ذلك للاستحباب لا المزوم . نعم عند المالكية والحنابلة أن محل تعيين الحلق والتقصير أن لا يكون المحرم لبد شعره أو ضفره أو عقصه ، وهو قول الثوري والشافعي في القديم والجمهور ، وقال في الجديد وفاقا للحنفية : لا يتعين إلا إن نذره أو

(19/18)


كان شعره خفيفا لا يمكن تقصيره أو لم يكن له شعر فيمر الموسى على رأسه ، وأغرب الخطابي فاستدل بهذا الحديث لتعين الحلق لمن لبد ، ولا حجة فيه – انتهى . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 434) : وهو أي المحرم مخير بين الحلق والتقصير أيهما فعل أجزأه في قول أكثر أهل العلم . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ ، يعني في حق من لم يوجد منه معنى يقتضي وجوب الحلق عليه ، إلا أنه يروي عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة حجها ولا يصح هذا ، لأن الله تعالى قال ? محلقين رؤوسكم ومقصرين ? (48 : 27) ولم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال : رحم الله المحلقين والمقصرين . وقد كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من قصر فلم يعب عليه ، ولو لم يكن مجزيا لأنكر عليه ، واختلف أهل العلم فيمن لبد أو عقص أو ضفر ، فقال أحمد : من فعل ذلك فليحلق وهو قول النخعي ومالك والشافعي وإسحاق ، وكان ابن عباس يقول : من لبد أو ضفر أو عقد أو فتل أو عقص فهو على ما نوى ، يعني إن نوى الحلق فليحلق وإلا فلا يلزمه ، وقال أصحاب الرأي : هو مخير على كل حال لأن ما ذكرناه يقتضي التخيير على العموم ، ولم يثبت في خلاف ذلك دليل ، واحتج من نصر القول الأول بأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من لبد
متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/19)


فليحلق ، وثبت عن عمر وابنه أنهما أمرا من لبد رأسه أن يحلقه ، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبد رأسه وأنه حلقه ، والصحيح أنه مخير إلا أن يثبت الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول عمر وابنه قد خالفهما فيه ابن عباس ، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له لا يدل على وجوبه بعد ما بين لهم جواز الأمرين – انتهى . وقال النووي في مناسكه : إذا فرغ من النحر حلق رأسه أو قصر وأيهما فعل أجزأ ، والحلق أفضل . هذا في من لم ينذر الحلق ، أما من نذر الحلق في وقته فيلزمه حلق الجميع ، ولا يجزئه التقصير ، ولو لبد رأسه عند الإحرام لم يكن ملتزما للحلق على المذهب الصحيح ، وللشافعي قول قديم أن التلبيد كنذر الحلق – انتهى . وقال الدردير : والتقصير مجزئ لمن له الحلق أفضل ، قال الدسوقي : أي إن لم يكن لبد شعره وإلا تعين الحلق ، ونص المدونة : من ضفر أو عقص أو لبد فعليه الحلاق ، ومثله في الموطأ ، وعلله ابن الحاجب تبعا لابن شاس بعدم إمكان التقصير ، ورده في التوضيح بأنه يمكن أن يغسله ثم يقصر ، وإنما علل علماؤنا تعين الحلق في حق هؤلاء بالسنة – انتهى . ومذهب الحنفية أنه لو تعذر الحلق لعارض تعين التقصير أو التقصير لعارض تعين الحلق كأن لبده بصمغ فلا يعمل فيه المقراض ، ومتى نقض تناثر بعض شعره وذلك لا يجوز للمحرم قبل الحلق كذا في العالمكيرية . وقال في الدر المختار : ومتى تعذر أحدهما لعارض تعين الآخر ، فلو لبد بصمغ بحيث تعذر التقصير تعين الحلق ، قال ابن عابدين : مثال لتعذر التقصير ومثله ما لو كان الشعر قصيرا فيتعين الحلق ، وكذا لو كان معقوصا أو مضفورا كما عزى إلى المبسوط ، ووجهه أنه إذا نقضه تناثر بعض الشعر فيكون جناية على إحرامه ، لكن قد يقال : إن هذا التناثر غير جناية لأنه في وقت جواز إزالة الشعر بحلق أو غيره ، ولو نتفا منه أو من غيره ، فبقى ما في المبسوط مشكلا ، تأمل . ومثال تعذر الحلق مع إمكان

(19/20)


التقصير أن يفقد آلة الحلق أو من يحلقه أو يضره الحلق بنحو صداع أو قروح برأسه ، وتقدم مثال تعذرهما جميعا في الأقرع وذي قروح شعره قصير – انتهى . وفي الحديث أيضا أن الحلق أفضل من التقصير ووجهه مع قطع النظر عن سببه الوارد في الحديبية وحجة الوداع أنه أبلغ في العبادة وأبين للخضوع والذلة وأدل على صدق النية ، والذي يقصر يبقى على نفسه شيئا مما يتزين به بخلاف الحالق فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله تعالى ، وأما قول النووي تبعا لغيره في تعليل ذلك بأن المقصر يبقي على نفسه الشعر الذي هو زينة والحاج مأمور بترك الزينة بل هو أشعث أغبر ، ففيه نظر ، لأن الحلق إنما يقع بعد انقضاء زمن الأمر للتقشف فإنه يحل له عقبه كل شيء إلا النساء في الحج خاصة ، وفيه أيضا مشروعية الدعاء لمن فعل ما شرع له وتكرار الدعاء لمن فعل الراجح من الأمرين المخير فيهما ، والتنبيه بالتكرار على الرجحان وطلب الدعاء لمن فعل الجائز وإن كان مرجوحا ، هذا . وقد بسط الكلام في فوائد الحديث ومباحثه الولي العراقي في طرح التثريب (ج 5 : ص 110 إلى ص 118) فارجع إليه إن شئت ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 79) وأبو داود والبيهقي (ج 5 : ص 103) وغيرهم .
2672 – (4) وعن يحيى بن الحصين ، عن جدته ، أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، دعا للمحلقين ثلاثا ، وللمقصرين مرة واحدة . رواه مسلم .
2673 – (5) وعن أنس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى منى ، فأتى الجمرة فرماها ، ثم أتى منزله بمنى ، ونحر نسكه ، ثم دعا بالحلاق ، وناول الحالق شقه الأيمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/21)


2672 – قوله ( وعن يحيى بن الحصين ) بمهملتين مصغرا الأحمسي البجلي الكوفة ثقة ، قال الحافظ : يحيى بن الحصين الأحمسي البجلي عن جدته أم الحصين ولها صحبة ، وعن طارق بن شهاب وعنه أبو إسحاق السبيعي وزيد بن أبي أنيسة وشعبة . قال ابن معين والنسائي : ثقة . وزاد أبو حاتم (( صدوق )) وذكره ابن حبان في الثقات . وقال العجلي (( كوفي ثقة )) ( عن جدته ) أي أم الحصين بنت إسحاق الأحمسية الصحابية لم تسم . قال ابن عبد البر : أم الحصين بنت إسحاق الأحمسية روى عنها ابن ابنها يحيى بن الحصين والعيزار بن حريث شهدت حجة الوداع . قال الحافظ : سمي ابن عبد البر أباها إسحاق ولم أرها لغيره ورواية العيزار بن حريث عنها عند ابن مندة وأحمد (ج 6 : ص 402) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث ، قال : سمعت الأحمسية يعني أم الحصين تقول : رأيت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردا قد التحف به من تحت إبطه – الحديث ( أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ) هذا نص في شهود أم الحصين حجة الوداع وأن الدعاء المذكور كان في حجة الوداع ، وتقدم الكلام في هذا ( مرة واحدة ) هكذا في جميع النسخ وكذا وقع في جامع الأصول (ج 4 : ص 108) وطرح التثريب (ج 5 : ص 111) والذي في صحيح مسلم (( مرة )) أي بدون لفظة (( واحدة )) وهكذا في المصابيح والسنن للبيهقي والقرى (ص 412) للمحب الطبري ، ولفظ أحمد في رواية : أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى دعا للمحلقين ثلاث مرات ، فقيل له (( والمقصرين )) فقال في الثالثة ( أي عقب الثالثة فتكون رابعة لتتفق مع الرواية الآتية ) وفي لفظ له قالت : سمعت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات ( في الطريق الأولى (( بمنى )) فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كرر الدعاء في خطبته بعرفات ثم في خطبته بمنى فسمعته في الموضعين ) يقول : غفر الله للمحلقين ، ثلاث مرار ، قالوا : والمقصرين ،

(19/22)


فقال : والمقصرين ، في الرابعة ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 6 : ص 402 ، 403) والبيهقي (ج 5 : ص 103) .
2673 – قوله ( فأتى الجمرة ) أي جمرة العقبة ( فرماها ثم أتى منزله بمنى ) فيه أنه يستحب إذا قدم منى أن لا يعرج على شيء قبل الرمي ، بل يأتي الجمرة الكبرى جمرة العقبة راكبا كما هو فيرميها ثم يذهب فينزل حيث شاء من منى ( ونحر نسكه ) بسكون السين ويضم جمع نسيكة وهي الذبيحة ، والمراد بدنه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد نحر بيد ثلاثا وستين وأمر عليا أن ينحر بقية المائة ، وفيه استحباب نحر الهدي بمنى ، ويجوز حيث شاء من بقاع الحرم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كل منى منحر ، وكل فجاج مكة منحر ( ثم دعا بالحلاق ) هو معمر بن عبد الله العدوي ( وناول الحالق شقه ) أي جانبه ( الأيمن )
فحلقه ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/23)


أي من الرأس ( فحلقه ) فيه أنه يستحب في حلق الرأس أن يبدأ بالشق الأيمن من رأس المحلوق وإن كان على يسار الحالق وإلى ذلك ذهب الجمهور ، وقال أبو حنيفة يبدأ بجانبه الأيسر لأنه على يمين الحالق ، والحديث يرد عليه ، قال الطيبي : دل الحديث على أن المستحب الابتداء بالأيمن ( من رأس المحلوق ) وذهب بعضهم إلى أن المستحب الأيسر – انتهى . قال القاري : أي ليكون أيمن الحالق ، ونسب إلى أبي حنيفة إلا أنه رجع عن هذا ، وسبب ذلك أنه قاس أولا يمين الفاعل كما هو المتبادر من التيامن ، ولما بلغه أنه عليه الصلاة والسلام اعتبر يمين المفعول رجع عن ذلك القول المبني على المعقول إلى صريح المنقول إذ الحق بالإتباع أحق ، ولو وقف الحالق خلف المحلوق أمكن الجمع بين الأيمنين ( أي اجتمع الابتداء بيمين الحالق والمحلوق وارتفع الخلاف وإذا تعذر الجمع فلا بد من ترجيح ما يدل عليه حديث أنس ) وقال ابن عابدين في رد المحتار (ج 2 : ص 249) تنبيه : قالوا : ( أي الحنفية ) يندب البداءة بيمين الحالق لا المحلوق إلا أن ما في الصحيحين يفيد العكس وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للحلاق : خذ ، وأشار على الجانب الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس ، قال ( أي ابن الهمام ) في الفتح : وهو الصواب وإن كان خلاف المذهب – انتهى . وأقول ( قائله ابن عابدين ) : يوافقه ما في الملتقط عن الإمام ، حلقت رأسي فخطأني الحلاق في ثلاثة أشياء لما أن جلست قال : استقبل القبلة ، وناولته الجانب الأيسر ، فقال : ابدأ بالأيمن ، فلما أردت أن أذهب قال : ادفن شعرك ، فرجعت فدفنته – انتهى ( نهر ) أي فهذا يفيد رجوع الإمام إلى قول الحجام ، ولذا قال في اللباب : هو المختار ، قال شارحه : كما في منسك ابن العجمي ، والبحر ، وقال في النخبة : وهو الصحيح ، وقد روى رجوع الإمام عما نقل عنه الأصحاب فصح تصحيح قوله الأخير ، واندفع ما هو المشهور عنه عند المشائخ من البداءة من يمين

(19/24)


الحالق وأيسر المحلوق ، وقال السروجي : وعند الشافعي يبدأ بيمين المحلوق ، وذكر كذلك بعض أصحابنا ولم يعزه إلى أحد ، والسنة أولى ، وقد صح بداءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشق رأسه الكريم من الجانب الأيمن ، ولا لأحد بعده كلام ، وقد كان يحب التيامن في شأنه كله ، وقد أخذ الإمام بقول الحجام ولم ينكره ، ولو كان مذهبه خلافه لما وافقه – انتهى ملخصا . ومثله في (( المعراج )) و (( غاية البيان )) انتهى كلام ابن عابدين . قلت : قصة أبي حنيفة مع الحجام مشهورة كما قال الحافظ ، وأخرجها أبو الفرج بن الجزري في (( مثير الغرام الساكن )) بإسناده إلى وكيع عنه ، قال وكيع قال لي أبو حنيفة : أخطأت في خمسة أبواب من المناسك فعلمنيها حجام فذكرها ، ثم قال : فقلت : له ( أي الحجام ) من أين لك ما أمرتني به ؟ قال : رأيت عطاء بن أبي رباح يفعل هذا ، وذكر هذه القصة المحب الطبري في (( القرى )) (ص 114) مفصلا ، والحافظ في (( التلخيص )) مختصرا ، ولا اضطراب فيها أصلا ، وهي تدل على أن أبا حنيفة رجع عن قوله الأول بتعليم الحجام وتدل على عظم شأنه حيث ترك قياسه ورأيه وقبل الحق عمن هو دونه ، وتدل أيضا على أنه لم يبلغه حديث الابتداء في حلق الرأس بيمين المحلوق وإلا لما خالفه ، وهو نص في مورد النزاع قاطع
ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه ، ثم ناول الشق الأيسر . فقال " احلق " . فحلقه فأعطاه أبا طلحة ، فقال : " اقسمه بين الناس " .

(19/25)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للخلاف اتفقت روايته عند مخرجيه على التصريح بالبداءة بشق الرأس الأيمن ، وفيه بيان أن التيامن المحجوب المطلوب في حلق الرأس وهو ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله وعمله لا ما فهمه أبو حنيفة أو لا ، ولذلك اضطر ابن الهمام والسروجي والإتقاني وابن نجيم والعيني وغيرهم من الحنفية إلى تصحيح قول أبي حنيفة الأخير وتصويبه واختياره ( ثم دعا أبا طلحة الأنصاري ) زوج أم سليم والدة أنس راوي هذا الحديث واسم أبي طلحة زيد بن سهل الجاري ، تقدم ترجمته (ج 1 : ص 406) قال القاري : وكان له عليه الصلاة والسلام بأبي طلحة وأهله مزيد خصوصية ومحبة ليست لغيرهم من الأنصار وكثير من المهاجرين الأبرار رضي الله عنهم ( فأعطاه ) أي أبا طلحة ( إياه ) أي الشعر المحلوق ( ثم ناول ) وفي مسلم (( ثم ناوله )) أي الحالق ( الشق الأيسر ) من الرأس ( فأعطاه أبا طلحة فقال : اقسمه بين الناس ) الحديث ظاهر بل نص في أن شعر شقيه - صلى الله عليه وسلم - أعطاه أبا طلحة وفي أنه أمر بقسم شعر الشق الأيسر بين الناس ويدل عليه أيضا رواية أبي عوانة في صحيحه بلفظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الحلاق فحلق رأسه ودفع إلى أبي طلحة الشق الأيمن ثم حلق الشق الآخر فأمره أن يقسمه بين الناس ، وفي رواية لمسلم أنه قسم الأيمن بين من يليه وأعطى الأيسر أم سليم ، وفي لفظ له (( فوزعه ( أي الأيمن ) الشعرة والشعرتين بين الناس ودفع الأيسر إلى أبي طلحة )) . قال الحافظ : ولا تناقض في هذه الروايات بل طريق الجمع بينها أنه ناول أبا طلحة كلا من الشقين ، فأما الأيمن فوزعه أبو طلحة بأمره ، وأما الأيسر فأعطاه لأم سليم زوجته بأمره - صلى الله عليه وسلم - أيضا ، زاد أحمد في رواية له لتجعلها في طيبها ، وعلى هذا فالضمير في قوله يقسمه في رواية أبي عوانة يعود على الشق الأيمن وكذا قوله في رواية الباب فقال :

(19/26)


اقسمه بين الناس – انتهى . وقال المحب الطبري : والصحيح أن الذي وزعه على الناس - صلى الله عليه وسلم - الشق الأيمن على ما تضمنه حديث توزيع الشعرة والشعرتين بين الناس ، وأعطى الأيسر أبا طلحة أو أم سليم على ما تضمنه أيضا ولا تضاد بين الروايتين ، لأن أم سليم امرأة أبي طلحة فأعطاه - صلى الله عليه وسلم - لهما ، فنسبت العطية تارة إليه وتارة إليها – انتهى . قال النووي : في الحديث فوائد منها بيان السنة في أعمال الحج يوم النحر بعد الدفع من مزدلفة ووصوله منى وهي أربعة : رمي جمرة العقبة أولا ، ثم نحر الهدي أو ذبحه ، ثم الحلق أو التقصير ، ثم دخوله مكة وطواف الإفاضة ، وكلها ذكرت في هذا الحديث إلا طواف الإفاضة . والسنة في هذه الأعمال الأربعة أن تكون مرتبة كما ذكرنا لهذا الحديث الصحيح ، فإن خالف ترتيبها فقدم مؤخرا أو أخر مقدما جاز لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( افعل ولا حرج )) وسيأتي الكلام على هذا في الباب الآتي ، ومنها طهارة شعر الآدمي وهو الصحيح من مذهبنا ، وبه قال جماهير العلماء ، ومنها التبرك بشعره - صلى الله عليه وسلم - وجواز اقتنائه للتبرك ، ومنها مواساة الإمام والكبير بين أصحابه وأتباعه فيما يفرقه عليهم
متفق عليه .
2674 - (6) وعن عائشة ، قالت : كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحرم ، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت ،

(19/27)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من عطاء وهدية قال الحافظ : وفيه أن المواساة لا تستلزم المساواة ، وفيه تنفيل من يتولى التفرقة على غيره ، قال العيني : وفيه أن حلق الرأس سنة أو مستحبة إقتداء بفعله - صلى الله عليه وسلم - . قال الزرقاني : وإنما قسم شعره في أصحابه ليكون بركة باقية بينهم وتذكرة لهم ، وكأنه أشار بذلك إلى اقتراب الأجل ، وخص أبا طلحة بالقسمة التفاتا إلى هذا المعنى ، لأنه هو الذي حفر قبره ولحد له وبنى فيه اللبن – انتهى . ( متفق عليه ) أي على أصل الحديث ، فإن البخاري رواه في (( باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان )) من كتاب الطهارة مختصرا جدا بلفظ (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره )) قال العيني : لم يخرجه أحد من الستة غيره بهذه العبارة . وقال المزي في الأطراف (ج 1 : ص 373) بعد ذكره : هو مختصر من حديث قد تقدم (ج 1 : ص 371) يريد بذلك حديث الباب ، وقد أخرجه مسلم في الحج مطولا بألفاظ مختلفة متقاربة المعنى والسياق المذكور في الكتاب مأخوذ من روايتين لمسلم فقوله (( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى )) وقع عنده في رواية يحيى بن يحيى عن حفص بن غياث عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أنس ، وقوله (( ونحر نسكه وناول الحالق شقه الأيمن )) إلخ . وقع في رواية ابن أبي عمر عن ابن عيينة عن هشام عن ابن سيرين ، وقوله (( ثم دعا بالحلاق )) ليس عند مسلم بل هو عند أبي داود فقط . فالمصنف أخذ صدر الرواية الأولى وترك عجزها ، وترك أول الرواية الثانية وأدخل في الوسط فقرة من رواية أبي داود ولا يخفى ما في هذا الصنيع من الخلل . والحديث أخرجه أحمد والترمذي والنسائي في الكبرى وأبو داود وابن الجارود (ص 173) والبيهقي (ج 5 : ص 103 ، 134) قال المزي في الأطراف (ج 1 : ص 371) : حديث عبيد بن هشام الحلبي

(19/28)


وعمرو بن عثمان الحمصي عن ابن عيينة ( عند أبي داود ) في رواية أبي الحسن بن العبد وأبي بكر بن داسة ولم يذكره أبو القاسم .
2674 – قوله ( كنت أطيب رسول الله قبل أن يحرم ) فيه دليل على جواز استعمال الطيب بل استحباب التطيب قبل الإحرام بما شاء من طيب سواء كان يبقى عينه ولونه أو أثره بعد الإحرام أو لا يبقى ، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والثوري وهو مذهب أكثر الصحابة وجماعة من التابعين ، وقال مالك : يكره التطيب عند إرادة الإحرام إذا يبقى أثر الطيب وريحه أو عينه بعد التلبس بالإحرام ، وإليه ذهب محمد بن الحسن واختاره الطحاوي ( ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت ) أي طواف الإفاضة يعني بعد التحلل الأول وهو بالحلق ، وبه يظهر المناسبة بين الباب وبين هذا
بطيب فيه مسك . متفق عليه .
2675 - (7) وعن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر ، ثم رجع فصلى الظهر بمنى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث ( بطيب ) متعلق بأطيب ( فيه ) أي في أجزائه ( مسك ) في الحديث دليل على حل التطيب بعد رمي الجمرة والحلق قبل طواف الإفاضة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، وكرهه مالك ، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث مستوفى في باب الإحرام والتلبية ، وهو أول أحاديث الباب المذكور فعليك أن تراجعه ( متفق عليه ) واللفظ لمسلم ، رواه عن أحمد بن منيع ويعقوب الدورقي كلاهما عن هشيم عن منصور عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة ، (( قالت : كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - )) إلخ . وليس عند البخاري لفظ المسك .

(19/29)


2675 – قوله ( أفاض يوم النحر ) أي نزل من منى إلى مكة بعد رميه ونحره وحلقه فطاف طواف الفرض أي طواف الزيارة والإفاضة وقت الضحى ( ثم رجع ) أي في ذلك اليوم ( فصلى الظهر بمنى ) فيه تصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الإفاضة نهارا وصلى صلاة الظهر بمنى بعد ما رجع من مكة ، ويوافقه في وقت الطواف حديث جابر الطويل في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويخالفه في الموضع الذي صلى فيه ظهر يوم النحر حيث قال : (( ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر )) ففيه التصريح بأنه أفاض نهارا وهو نهار يوم النحر ، وأنه صلى ظهر يوم النحر بمكة ، وكذلك قالت عائشة أنه طاف يوم النحر وصلى الظهر بمكة ، فاتفق الحديثان في وقت طواف الإفاضة واختلفا في موضع صلاته لظهر ذلك اليوم . ووجه الجمع بينهما أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بمكة كما قال جابر وعائشة ، ثم رجع إلى منى فصلى بأصحابه الظهر مرة أخرى كما صلى بهم صلاة الخوف مرتين مرة بطائفة ومرة بطائفة أخرى في بطن نخل ، فرأى جابر وعائشة صلاته في مكة فأخبر بما رأيا ، وقد صدقا ، ورأى ابن عمر صلاته بهم في منى فأخبر بما رأى وقد صدق ، وبهذا الجمع جزم النووي وغير واحد ، وقد جمع بعضهم بينهما بوجوه أخرى وصار بعضهم إلى الترجيح كما تقدم مفصلا في شرح حديث جابر في قصة حجة الوداع . هذا ، وقد ورد في بعض الرويات ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الإفاضة ليلا . قال البخاري في صحيحه : وقال الزبير عن عائشة وابن عباس : أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيارة إلى الليل ، وقد تقرر أن كل ما علقه البخاري بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علق عنه مع أنه وصله أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من طريق سفيان الثوري عن أبي الزبير به ، وزياراته ليلا في هذا الحديث المروي عن عائشة وابن عباس مخالفة لما تقدم في حديثي جابر وابن عمر وللجمع

(19/30)


بينهما أوجه كما سبق منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الزيارة في النهار يوم النحر كما أخبر به جابر وعائشة وابن عمر ثم بعد ذلك صار يأتي البيت ليلا ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ، وإتيانه البيت في ليالي منى هو مراد عائشة وابن عباس . وقال البخاري في صحيحه بعد أن ذكر هذا الحديث الذي علقه بصيغة الجزم ما نصه : ويذكر عن أبي حسان
رواه مسلم .
( الفصل الثاني )
2676 ، 2677 - (8 ، 9) عن علي ، وعائشة ، قالا : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها .

(19/31)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزور البيت أيام منى – انتهى . قال الحافظ في الفتح : فكأن البخاري عقب هذا بطريق أبي حسان ليجمع بين الأحاديث بذلك ، فيحمل حديث جابر وابن عمر على اليوم الأول ، وحديث ابن عباس هذا على بقية الأيام ، وهذا الجمع مال إليه النووي ، ومنها أن الطواف الذي طافه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلا طواف الوداع فنشأ الغلط من بعض الرواة في تسميته بالزيارة ، ومعلوم أن طواف الوداع كان ليلا ، فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم رقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به )) وسيأتي في باب خطبة يوم النحر وهو واضح في أنه طاف طواف الوداع ليلا ، وإلى هذا الجمع مال ابن القيم ، ولو فرضنا أن أوجه الجمع غير مقنعة فأحاديث جابر وعائشة وابن عمر (( أنه طاف طواف الزيارة نهارا )) أصح مما عارضها فيجيب تقديمها عليه ، وفي الحديث دلالة على أن رميه وحلقه وقع قبل الظهر بالاتفاق وإن اختلف في كونه بمكة أو بمنى ، إذ الترتيب بين الحلق والإفاضة معتبر فظهر المناسبة بين الباب وبين حديث ابن عمر فتدبر ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 34) وأبو داود وابن الجارود (ص 174) والبيهقي (ج 5 : ص 144) وقد عزا بعضهم هذا الحديث إلى الشيخين وهو خطأ ، فإن الحديث من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري ، وقد تقدم التنبيه على ذلك في شرح حديث جابر الطويل في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فتذكر .

(19/32)


2676 ، 2677 – قوله ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها ) أي في التحلل من الإحرام أو مطلقا إلا لضرورة فإن حلقها مثلة كحلق اللحية للرجل ، قاله القاري . قلت : الظاهر أن المرأة ممنوعة من حلق الرأس مطلقا إلا لضرورة ولو كان الحلق يجوز لها لأمرت به في الحج لأن الحلق نسك كما تقدم ، قال الحافظ : وهذا أي التخيير بين الحلق والتقصير وكون الحلق أفضل من التقصير إنما هو في حق الرجال ، وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير بالإجماع ، وفيه حديث لابن عباس عند أبي داود يعني الذي يأتي بعد هذا ، ثم ذكر حديث علي ، ثم قال : وقال جمهور الشافعية : لو حلقت أجزأها ويكره . وقال القاضيان أبو الطيب وحسين : لا يجوز – انتهى . وقال ابن قدامة : المشروع للمرأة التقصير دون الحلق لا خلاف في ذلك ، قال ابن المنذر : أجمع على هذا أهل العلم ، وذلك لأن الحلق في حقهن مثلة ، ثم ذكر حديث ابن عباس وحديث علي ، وقال في اللباب وشرحه للقاري : التقصير واجب لهن لكراهة الحلق كراهة تحريم في حقهن إلا لضرورة – انتهى . وقال الباجي : وأما المرأة فقد قال ابن حبيب : ليس على من حج من النساء حلاق وقد نهى عنه النبي
..............................................................................................

(19/33)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - المرأة في حج أو عمرة ، وقال : هي مثلة . وهو الذي رواه ابن حبيب وإن لم نعرف له إسنادا صحيحا إلا أنه من قول العلماء ، وهو الصحيح ، لأنه مثلة لأنه حلاق غير معتاد كحلاق الرجل لحيته وشاربه – انتهى . قال الخرقي : والمرأة تقصر من شعرها مقدار الأنملة ، قال ابن قدامة : الأنملة رأس الإصبع من المفصل الأعلى . قال : وكان أحمد يقول : تقصر من كل قرن قدر الأنملة وهو قول ابن عمر والشافعي وإسحاق وأبي ثور ، وقال أبو داود : سمعت أحمد سئل عن المرأة تقصر من كل رأسها ؟ قال : نعم تجمع شعرها إلى مقدم رأسها ثم تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة – انتهى . وقال مالك : في المرأة إذا قصرت تأخذ قدر الأنملة أو فوقه بقليل أو دونه بقليل وليست كالرجل في أنه يجزه جزا كذا في طرح التثريب للولي العراقي . وقال الشنقيطي : اعلم أن محل كون الحلق أفضل من التقصير إنما هو بالنسبة إلى الرجال خاصة ، وأما النساء فليس عليهن حق وإنما عليهن التقصير ، والصواب عندنا وجوب تقصير المرأة جميع رأسها ويكفيها قدر الأنملة لأنه يصدق عليه أنه تقصير من غير منافاة لظواهر النصوص ، ولأن شعر المرأة من جمالها وحلقه مثلة ، وتقصيره جدا إلى قرب أصول الشعر نقص في جمالها ، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النساء لا حلق عليهن وإنما عليهن التقصير ، ثم ذكر حديث ابن عباس الآتي برواية أبي داود والبزار والدارقطني ، ثم قال ويعتضد عدم حلق النساء رؤوسهن بخمسة أمور غير ما ذكرنا ، الأول : الإجماع على عدم حلقهن في الحج ولو كان الحلق يجوز لهن لشرع في الحج ، الثاني : أحاديث جاءت بنهي النساء عن الحلق ، الثالث : أنه ليس من عملنا ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ، الرابع : أنه تشبه بالرجال ، وهو حرام ، الخامس : أنه مثلة ، والمثلة لا تجوز ، أما الإجماع فقد قال النووي في شرح النهذب :

(19/34)


قال ابن المنذر : أجمعوا على أن لا حلق على النساء وإنما عليهن التقصير ، ويكره لهن الحلق لأنه بدعة في حقهن ، وفيه مثلة ، واختلفوا في قدر ما تقصره ، فقال ابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور : تقصر من كل قرن مثل الأنملة . وقال قتادة : تقصر الثلث أو الربع ، وقالت حفصة بنت سيرين : إن كانت عجوزا من القواعد أخذت نحو الربع ، وإن كانت شابة فلتقلل ، وقال مالك : تأخذ من جميع قرونها أقل جزء ولا يجوز من بعض القرون – انتهى . وتراه نقل عن ابن المنذر الإجماع على أن النساء لا حلق عليهن في الحج ولو كان الحلق يجوز لهن لأمرن به في الحج ، لأن الحلق نسك على التحقيق كما تقدم إيضاحه ، وأما الأحاديث الواردة في ذلك فقد قال الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 95) : في نهي النساء عن الحلق أحاديث ، منها ما رواه الترمذي في الحج والنسائي في الزينة ، فذكره وهو الذي نحن في شرحه ، ثم قال : حديث آخر أخرجه البزار في مسنده فذكره من رواية عائشة مرفوعا بلفظ حديث علي
مع الكلام عليه ثم قال : حديث آخر رواه البزار في مسنده أيضا فذكره من رواية عثمان باللفظ المتقدم . قال الشنقيطي : وهذه الروايات التي ذكرنا في نهي المرأة عن حلق رأسها عن علي وعثمان وعائشة يعضد بعضها بعضا كما تعتضد بما تقدم ( يعني حديث ابن عباس في أن على النساء التقصير لا الحلق ) وبما
..............................................................................................

(19/35)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سيأتي : وأما كون حلق المرأة رأسها ليس من عمل نساء الصحابة فمن بعدهم فهو أمر معروف لا يكاد يخالف فيه إلا مكابر ، فالقائل بجواز الحلق للمرأة قائل بما ليس من عمل المسلمين المعروف . وفي الحديث الصحيح : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ، فالحديث يشمل عمومه الحلق بالنسبة للمحرمة بلا شك . وإذا لم يبح لها حلقه في حال النسك فغيره من الأحوال أولى ، وأما كون حلق المرأة رأسها تشبها بالرجال فهو واضح ولا شك أن الحالقة رأسها متشبهة بالرجال لأن الحلق من صفاتهم الخاصة بهم دون الإناث عادة ، وقد ورد الحديث الصحيح في لعن المتشبهات من النساء بالرجال ، وأما كون حلق رأس المرأة مثلة فواضح ، لأن شعر رأسها من أحسن أنواع جمالها ، وحلقه تقبيح لها وتشويه لخلقتها كما يدركه الحس السليم وعامة الذين يذكرون محاسن النساء في أشعارهم وكلامهم مطبقون على أن شعر المرأة الأسود من أحسن زينتها لا نزاع في ذلك بينهم في جميع طبقاتهم ، وهو في أشعارهم مستفيض استفاضة يعلمها كل من له أدنى إلمام ، ثم ذكر أمثلة لذلك من شعراء العرب كامرئ القيس والأعشى ميمون بن قيس وعمر بن أبي ربيعة وغيرهم ، ثم قال : هذا كله يدل على أن حلق المرأة شعر رأسها نقص في جمالها وتشويه لها فهو مثلة ، وبه تعلم أن العرف الذي صار جاريا في كثير من البلاد بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة إفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين ونساء العرب قبل الإسلام فهو من جملة الانحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق والسمت وغير ذلك . فإن قيل : جاء من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على حلق المرأة رأسها وتقصيرها إياه ، فما دل على الحلق فهو ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث وهب بن جرير ، ثنا أبي سمعت أبا فزارة يحدث عن يزيد بن الأصم عن ميمونة (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها حلالا وبنى

(19/36)


بها وماتت بسرف فدفناها في الظلة التي بنى بها فيها فنزلنا أنا وابن عباس ، فلما وضعناها في اللحد مال رأسها فأخذت ردائي فوضعته تحت رأسها فأجتذبه ابن عباس فألقاه ، وكانت قد حلقت رأسها في الحج ، فكان رأسها محجما )) فهذا الحديث يدل على أن ميمونة حلقت رأسها ولو كان حراما ما فعلته ، وأما التقصير فما رواه مسلم في صحيحه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاع فسألها عن غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة ، فدعت بإناء قدر صاع ، فاغتسلت وبيننا وبينها ستر ، وأفرغت على رأسها ثلاثا ، قال : وكان أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة . فالجواب عن حديث ميمونة على تقدير صحته أن فيه أن رأسها كان محجما ، وهو يدل على أن الحلق المذكور لضرورة المرض لتتمكن آلة الحجم من الرأس ، والضرورة يباح لها ما لا يباح بدونها ، وقد قال تعالى : ? وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ? (6 : 119) انتهى . وقيل إن ميمونة إنما حلقت رأسها في الحج عند التحلل من الإحرام ولعل ذلك أن نهي النساء عن الحلق يكون عندها نهي إرشاد لا نهي حكم فحلقت رأسها اختيار منها لترك الزينة . قال الشنقيطي : وأما الجواب عن حديث مسلم فعلى القول بأن الوفرة أطول من اللمة التي هي ما ألم بالمنكبين من الشعر
...............................................................................................

(19/37)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلا إشكال ، لأن ما نزل عن المنكبين طويل طولا يحصل به المقصود . قال النووي في شرح مسلم : والوفرة أشبع وأكثر من اللمة ، واللمة ما يلم بالمنكبين من الشعر ، قاله الأصعمي – انتهى كلام النووي . وأما على القول الصحيح المعروف عند أهل اللغة من أنها لا تجاوز الأذنين . قال في القاموس : والوفرة الشعر المجتمع على الرأس ، وأما ما سال على الأذنين منه ، أو ما جاوز شحمة الأذن ، ثم الجمة ثم اللمة ، وقال الجوهري في صحاحه : والوفرة الشعر إلى شحمة الأذن ثم الجملة ثم اللمة ، وهي التي ألمت بالمنكبين – انتهى . فالجواب أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصرن رؤسهن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لأنهن كن يتجملن له في حياته ، ومن أجمل زينتهن شعرهن ، أما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فلهن حكم خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة واحدة من نساء جميع أهل الأرض ، وهو انقطاع أملهن انقطاعا كليا من التزويج ويأسهن منه اليأس الذي لا يمكن أن يخالطه طمع فهن كالمعتدات المحبوسات بسببه إلى الموت . قال تعالى ? وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ? واليأس من الرجال بالكلية قد يكون سببا للترخيص في الإخلال بأشياء من الزينة لا تحل لغير ذلك السبب . وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على هذا الحديث : قال عياض : المعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون والذوائب ، ولعل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلن هذا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لتركهن التزين واستغنائهن عن تطويل الشعر وتخفيفا لمؤنة رؤسهن ، وهذا الذي ذكره القاضي عياض من كونهن فعلنه بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لا في حياته ، كذا قاله أيضا غيره ( كالمازري والقرطبي والأبي ) وهو متعين ، ولا يظن بهن فعله في حياته - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه

(19/38)


دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء – انتهى كلام النووي . قال الشنقيطي : وقوله (( فيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء )) فيه عندي نظر لما قدمنا من أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته لا يقاس عليهن غيرهن ، لأن قطع طمعهن في الرجال بالكلية خاصة بهن دون غيرهن ، وقد يباح له من الإخلال ببعض الزينة ما لا يباح لغيره حتى إن العجوز من غيرهن لتتزين للخطاب ، وربما تزوجت لأن كل ساقطة لها لاقطة ، وقد يحب بعضهم العجوز كما قال القائل :
-
-
أبي القلب إلا أم عمرو وحبها _ -
-
عجوزا ومن يحبب عجوزا يفند ( -
- -
- -
كثوب اليماني قد تقادم عهده _ -
-
ورقعته ما شئت في العين واليد ( -
-
وقال الآخر :
-
-
ولو أصبحت ليلى تدب على العصا _ -
-
لكان هوى ليلى جديدا أوائله ( -
-
انتهى كلام الشنقيطي ببعض الاختصار . وقيل أيضا في الجواب عن هذا الحديث أن المراد أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يقصرن شعورهن المسترسلة ويعقدنها على القفا أو على الرأس من غير أن يتخذنها قرونا وضفائر فتكون كالوفرة في عدم مجاوزتها الأذنين كما يفعله كثير من العجائز والأيامى في عصرنا بل عامة النساء في حالة الاغتسال بعد غسل الرأس ،
رواه الترمذي .

(19/39)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن الشعور الطويلة لو استرسلت على حالها فإيصال الماء إلى البدن المستور تحت الشعور المسترسلة لا يخلو عن كلفة ومشقة ( رواه الترمذي ) حديث علي رواه الترمذي في باب كراهية الحلق للنساء من كتاب الحج ، والنسائي في باب النهي عن حلق المرأة رأسها من كتاب الزينة ، قالا حدثنا محمد بن موسى الحرشي عن أبي داود الطيالسي عن همام عن قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها . ثم رواه الترمذي عن محمد بن بشار عن أبي داود الطيالسي عن همام عن خلاس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه مرسلا أي لم يذكر فيه عن علي . وقال : حديث علي فيه اضطراب ، وروي هذا الحديث عن حماد بن سلمة عن قتادة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق المرأة رأسها – انتهى . وحكى الزيعلي (ج 3 : ص 95) كلام الترمذي هذا بلفظ : قال الترمذي : هذا حديث فيه اضطراب ، وقد روي عن حماد بن سلمة عن قتادة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا – انتهى . وإنما قال : مرسلا أي منقطعا لما حكى الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة قتادة (ج 8 : ص 355) عن الحاكم أنه قال في (( علوم الحديث )) لم يسمع قتادة من صحابي غير أنس . قال : وقد ذكر ابن أبي حاتم عن أحمد بن حنبل مثل ذلك ، وقال أبو حاتم : قتادة عن أبي الأحوص مرسل ، وأرسل عن أبي موسى وعائشة وأبي هريرة ومعقل بن يسار – انتهى . ثم قال الزيعلي : وقال عبد الحق في أحكامه : هذا حديث يرويه همام بن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي ، وخالفه هشام الدستوائي وحماد بن سلمة فروياه عن قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا انتهى . قال الحافظ في الدراية : رواته موثوقون إلا أنه اختلف في وصله – انتهى . وحاصل ما وقع في هذا الحديث من الاضطراب أنه اختلف أصحاب قتادة عليه فروى همام عنه عن

(19/40)


خلاس عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي جعله من مسند علي ، وخالفه حماد بن سلمة فروى عن قتادة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعله من مسند عائشة وخالفهما هشام الدستوائي فرواه عن قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا ، وكذا روي عن حماد بن سلمة عن قتادة مرسلا أيضا ، واختلف أيضا على همام فروى محمد بن موسى عن الطيالسي عن همام عن قتادة عن خلاس عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وروى محمد بن بشار عن الطيالسي عن همام عن خلاس نحوه مرسلا ولم يذكر فيه عن علي . قلت : خلاس بن عمرو ثقة من رجال الستة غير أنه قال أبو داود ويحيى بن سعيد : لم يسمع خلاس من علي . وقال أحمد بن حنبل : روايته عن علي كتاب ، وكذا قال يحيى بن سعيد وأبو حاتم والبخاري في تاريخه ولكن قال الجوزجاني والعقيلي : كان خلاس على شرطة علي ، وقد سمع من عمار وعائشة وابن عباس كما في تهذيب التهذيب ، وإذا فسماعه عن علي ليس ببعيد ، ومحمد بن موسى الحرشي عن الطيالسي عن همام سلسلة الرواة الثقات ، فالرواية المسندة بذكر علي مقبولة معتبرة لا يضرها رواية من رواها مرسلة ، وللحديث طريق آخر عند البزار يعتضد به . قال الزيلعي : حديث آخر أخرجه البزار في مسنده عن معلى بن عبد الرحمن الواسطي ثنا عبد الحميد بن جعفر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق المرأة رأسها . قال البزار : ومعلى بن
2678 – (10) وعن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على النساء الحلق ، إنما على النساء التقصير " . رواه أبو داود ، والدارمي .

(19/41)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عبد الرحمن الواسطي روى عن عبد الحميد بأحاديث لم يتابع عليها ، ولا نعلم أحدا تابعه على هذا الحديث – انتهى . ورواه ابن عدي في الكامل وقال : أرجو أنه لا بأس به . قال عبد الحق : وضعفه أبو حاتم وقال : إنه متروك الحديث – انتهى . وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء : يروى عن عبد الحميد بن جعفر المقلوبات ، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد – انتهى . وفي الباب أيضا عن عثمان ، قال الزيلعي : رواه البزار في مسنده من طريق روح بن عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن وهب بن عمير قال سمعت عثمان يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها . قال البزار : ووهب بن عمير لا نعلمه روى غير هذا الحديث ، ولا نعلم حدث عنه إلا عطاء بن أبي ميمونة ، وروح ليس بالقوي -انتهى . وقال الهيثمي بعد عزوه إلى البزار (ج 3 : ص 263) : وفيه روح بن عطاء وهو ضعيف – انتهى . والحديثان وإن كانا ضعيفين لكنهما يصلحان للاستشهاد .

(19/42)


2678 – قوله ( ليس على النساء الحلق ) أي لا يجب عليهن الحلق في التحلل ( إنما على النساء التقصير ) أي إنما الواجب عليهن التقصير بخلاف الرجال ، فإنه يجب عليهم أحدهما والحلق أفضل ، قاله القاري . وفيه دليل على أن المشروع في حق النساء التقصير ، وقد حكى الحافظ وغيره الإجماع على ذلك كما تقدم ( رواه أبو داود ) قال : حدثنا محمد بن الحسن العتكي ثنا محمد بن بكر ثنا ابن جريج قال : بلغني عن صفية بنت شيبة بن عثمان قالت أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إلخ . ثم قال أبو داود : حدثنا أبو يعقوب البغدادي ثقة ، ثنا هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن صفية بنت شيبة قالت : أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال ، إلخ ( والدارمي ) قال : أخبرنا علي بن عبد الله المديني ثنا هشام بن يوسف ثنا ابن جريج أخبرني عبد الحميد بن جبير عن صفية ، إلخ . والحديث قد سكت عنه أبو داود والمنذري ، وقال النووي في شرح المهذب : رواه أبو داود بإسناد حسن . وقال الحافظ في التلخيص : حديث (( ليس على النساء حلق وإنما يقصرن )) رواه أبو داود والدارقطني والطبراني من حديث ابن عباس وإسناده حسن ، وقواه أبو حاتم في العلل والبخاري في التاريخ ، وأعله ابن القطان ، ورد عليه ابن المواق فأصاب – انتهى . قلت : قال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر هذا الحديث من رواية أبي داود : قال ابن القطان في كتابه : هذا ضعيف ومنقطع ، أما الأول فانقطاعه من جهة ابن جريج قال : بلغني عن صفية فلم يعلم من حدثه به ، وأما الثاني فقول أبي داود : حدثنا رجل ثقة يكنى أبا يعقوب وهذا غير كاف ، وإن قيل : إنه أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه ، وأما ضعفه فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها – انتهى ما في

(19/43)


...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نصب الراية . قلت : حديث ابن عباس أقل درجاته الحسن ، فقول النووي إنه حديث رواه أبو داود بإسناد حسن ، وكذا قول من وافقه في تحسين إسناد الحديث وتقويته أصوب مما نقله الزيلعي عن ابن القطان وسكت عليه ، فقول ابن جريج في رواية أبي داود (( بلغني عن صفية بنت شيبة )) تفسره الرواية التي بين فيها ابن جريج أن من بلغه عن صفية المذكورة هو عبد الحميد بن جبير بن شيبة وهو ثقة معروف وقد صرح في رواية الدارمي والدارقطني والبيهقي بما يدل على سماعه عن عبد الحميد بن جبير ، وأما قول ابن القطان : أن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها ، ففيه قصور ظاهر جدا ، لأن أم عثمان المذكورة من الصحابيات المبايعات ، قد روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس كما في الاستيعاب والإصابة وأسد الغابة ، فدعوى أنها لا يعرف حالها ظاهرة السقوط ، وأما قول ابن القطان : أن توثيق أبي داود لأبي يعقوب غير كاف وأن أبا يعقوب المذكور إن قيل إنه إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه ، فجوابه أن أبا يعقوب المذكور هو إسحاق بن أبي إسرائيل ، واسم أبي إسرائيل ، إبراهيم بن كامجرا المروزي نزيل بغداد ، وقد وثقه أبو داود ، وأثنى عليه غير واحد من أجلاء العلماء بالرجال ، وقال فيه الذهبي في الميزان (ج 1 : ص 85) : حافظ شهير ، قال : ووثقه يحيى بن معين والدارقطني ، وقال صالح جزرة : صدوق إلا أنه كان يقف في القرآن ولا يقول غير مخلوق ، بل يقول (( كلام الله )) ويسكت . وقال فيه الحافظ في تهذيب التهذيب (ج 1 : ص 223) : قال ابن معين : ثقة ، وقال أيضا : من ثقات المسلمين ما كتب حديثا قط عن أحد من الناس إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه ، وقال أيضا : ثقة مأمون أثبت من القواريري

(19/44)


وأكيس ، والقواريري ثقة صدوق ، وليس هو مثل إسحاق ، وذكر غير هذا من ثناء ابن معين عليه وتفضيله على بعض الثقات المعروفين ، ثم قال : وقال الدارقطني : ثقة ، وقال البغوي : كان ثقة مأمونا إلا أنه كان قليل العقل ، وثناء أئمة الرجال عليه في الحفظ والعدالة كثير مشهور ، وإنما نقموا عليه أنه كان يقول : القرآن كلام الله ويسكت عندها ولا يقول غير مخلوق ، ومن هنا جعلوه واقفيا ، وتكلموا في حديثه ، كما قال فيه صالح جزرة : صدوق في الحديث إلا أنه يقول : القرآن كلام الله ، ويقف . وقال الساجي : تركوه لموضع الوقف وكان صدوقا . وقال أحمد : إسحاق بن إسرائيل واقفي مشئوم إلا أنه صاحب حديث كيس . وقال السراج : سمعته يقول : هؤلاء الصبيان يقولون : كلام الله غير مخلوق ، ألا قالوا : كلام الله وسكتوا ، وقال عثمان بن سعيد الدارمي : سألت يحيى بن معين عنه ، فقال : ثقة . قال عثمان : لم يكن أظهر الوقف حين سألت يحيى عنه ، ويوم كتبنا عنه كان مستورا . وقال عبدوس النيسابوري : كان حافظا جدا ، ولم يكن مثله في الحفظ والورع ، وكان لقي المشائخ فقيل كان يتهم بالوقف ؟ قال : نعم اتهم وليس بمتهم ، وقال مصعب الزبيري : ناظرته فقال : لم أقل على الشك ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي ، والحاصل أنهم متفقون على ثقته وأمانته بالنسبة إلى الحديث إلا أنهم كانوا يتهمونه بالوقف . وقد رأيت قول من نفي عنه التهمة
وهذا الباب خال عن الفصل الثالث .
(9) باب
( الفصل الأول )
2679 – (1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع بمنى للناس

(19/45)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقول من ناظره أنه قال له لم : أقل على الشك ولكني سكت كما سكت القوم قبلي . ومعنى كلامه أنه لا يشك في أن القرآن غير مخلوق ولكنه يقتدي بمن لم يخض في ذلك ، ولما حكى الذهبي في الميزان قول الساجي : إنهم تركوا الأخذ عنه لمكان الوقف ، قال بعده قلت : قل من ترك الأخذ عنه – انتهى . وهو تصريح منه بأن الأكثرين على قبول فحديثه لا يقل عن درجة الحسن ، وروايته عند أبي داود تعتضد بالرواية المذكورة قبلها ، وكذا تعتضد بما رواه الدارقطني عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز إملاء عن إسحاق بن أبي إسرائيل ، وبما روى الدارقطني أيضا عن أبي محمد بن صاعد عن إبراهيم بن يوسف الصيرفي عن أبي بكر بن عياش عن يعقوب بن عطاء عن صفية بنت شيبة ، وبما رواه الدارمي والبيهقي من طريق عبد الله بن على المديني عن هشام بن يوسف . قال الزيلعي بعد ذكره كلام ابن القطان المتقدم ما نصه : وأخرجه الدارقطني في سننه (ص 277) والطبراني في معجمه عن أبي بكر بن عياش عن يعقوب بن عطاء عن صفية بنت شيبة به . وأخرجه الدارقطني والبزار في مسنده عن حجاج بن محمد عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير عن صفية به . وقال البزار : لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه – انتهى . فتبين من جميع ما ذكر أن حديث ابن عباس في أن على النساء المحرمات إذا أردن قضاء التفث التقصير لا الحلق ، أنه لا يقل عن درجة الحسن كما جزم النووي بأن إسناده عند أبي داود حسن ، وقد رأيت اعتضاده بما ذكرنا من الروايات المتابعة له عند الدارمي والبيهقي والطبراني والدارقطني والبزار ( وهذا الباب خال عن الفصل الثالث ) كذا وقع في بعض النسخ ، ولا يحتاج إلى الاعتذار ، ولعله لدفع وهم الإسقاط .
( باب ) قال القاري : بالتنوين والسكون ، وفي نسخة (( باب جواز التقديم والتأخير في بعض أمور الحج )) .

(19/46)


2679 – قوله ( وقف ) أي على ناقته كما في رواية صالح بن كيسان عند البخاري ومعمر عند مسلم وابن الجارود ، ورواية يونس عند مسلم ، ومعمر أيضا عند أحمد والنسائي بلفظ (( وقف على راحلته )) كلهم عن ابن شهاب الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو فرواية يحيى القطان عن مالك عن الزهري (( أنه جلس في حجة الوداع فقام رجل )) محمولة على أنه ركب ناقته وجلس عليها ( بمنى للناس ) أي لأجلهم ولم يعين مكان الوقوف بمنى ولا اليوم ، ووقع في رواية عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزهري عند البخاري في العلم (( عند الجمرة )) وهو أول منى ، وفي رواية ابن جريج عن الزهري عند
...............................................................................................

(19/47)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشيخين وابن الجارود (( يخطب يوم النحر )) وفي رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري عند مسلم وأحمد (( أتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة )) قال عياض : جمع بعضهم بين هذه الروايات بأنه موقف واحد على أن معنى خطب أي علم الناس ، لا أنها من خطب الحج المشروعة ، قال : ويحتمل أن يكون ذلك في موطنين : أحدهما على راحلته عند الجمرة ولم يقل في هذا (( خطب )) وإنما فيه (( وقف وسئل )) والثاني يوم النحر بعد صلاة الظهر ، وذلك وقت الخطبة المشروعة من خطب الحج يعلم الإمام الناس ما بقي عليهم من مناسكهم . قال النووي : هذا الاحتمال الثاني هو الصواب ، قال الحافظ : فإن قيل : لا منافاة بين هذا الذي صوبه وبين الذي قبله فإنه ليس في شيء من طريق الحديثين حديث عبد الله بن عباس ( الآتي بعد ذلك ) وحديث عبد الله بن عمرو بيان الوقت الذي خطب فيه من النهار ، قلت : نعم لم يقع التصريح بذلك لكن في رواية ابن عباس ( عند البخاري ) إن بعض السائلين قال : رميت بعد ما أمسيت ، وهذا يدل على أن هذه القصة كانت بعد الزوال لأن المساء يطلق على ما بعد الزوال وكأن السائل علم أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يقدم ضحى ، فلما أخرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك ، على أن حديث عبد الله بن عمرو من مخرج واحد لا يعرف له طريق إلا طريق الزهري ، عن عيسى عنه ، والاختلاف من أصحاب الزهري ، وغايته أن بعضهم ذكر ما لم يذكر الآخر واجتمع من مرويهم ورواية ابن عباس أن ذلك كان يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة ، وإذا تقرر أن ذلك كان بعد الزوال يوم النحر تعين أنها الخطبة التي شرعت لتعليم بقية المناسك ، فليس قوله (( خطب )) مجازا عن مجرد التعليم بل حقيقة ، ولا يلزم من وقوفه عند الجمرة أن يكون حينئذ رماها ، ففي حديث ابن عمر عند البخاري في آخر باب الخطبة أيام منى : أنه - صلى الله عليه وسلم -

(19/48)


وقف يوم النحر بين الجمرات فذكر خطبته فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض ورجع إلى منى – انتهى . قلت : ولا يشكل عليه ما في حديث عبد الله بن عمرو أنه وقف بمنى للناس يسألونه ، بناء على أن المتبادر منه أن وقوفه كان لتعليم الناس وسؤالهم لا للخطبة فإنه لا منافاة بين الأمرين ، فكان أصل وقوفه للخطبة وكان وقت سؤال أيضا فسأله في ذلك الوقت السائل عما فاته من حجه وعما أدرك وعما قدم وأخر ، وسأله قوم عن المستقبل فعلمهم دينهم وأفتى وأجاب عن مسائلهم ، وذكر ابن حزم في صفة حجة الوداع أن هذه الأسئلة عن التقديم والتأخير كانت بعد عوده إلى منى من إفاضته يوم النحر – انتهى . نعم يشكل على ما قال الحافظ من كون الخطبة يوم النحر بعد الزوال ما وقع في رواية رافع بن عمرو المزني الآتي في الفصل الثاني من باب خطبة يوم النحر بلفظ (( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى )) – الحديث . فإنها تدل على أن هذه الخطبة كانت وقت الضحى من يوم النحر ( يعني قبل طواف الإفاضة ) ومشى على ذلك ابن القيم في الهدي ولم أقف على دليل صريح من الأحاديث في كون هذه الخطبة بعد الظهر بمنى بعد طواف الإفاضة كما ذهب إليه القائلون بمشروعية الخطبة يوم النحر ،
يسألونه ، فجاءه رجل فقال : لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح . فقال : " اذبح ولا حرج " .

(19/49)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن أن يجاب عن ذلك بالحمل على التعدد كما تقدم عن عياض أنه حكاه احتمالا . وقال المحب الطبري بعد ذكر قول ابن حزم المتقدم ، قلت : ويحتمل أن الأسئلة تكررت قبله أي قبل الزوال وبعده وفي الليل ، والله أعلم ( يسألونه ) هو في محل النصب على الحال من الضمير الذي في وقف أو من الناس أي وقف لهم حال كونهم سائلين عنه ، أو هو استئناف بيانا لسبب الوقوف ، ويؤيد الأخير رواية وقف على راحلته فطفق ناس يسألونه )) وفي رواية (( وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه )) ( فجاءه ) عطف على قوله وقف ( رجل ) قال الحافظ : لم أعرف اسم هذا السائل ولا الذي بعده في قوله : فجاء آخر ، والظاهر أن الصحابي لم يسم أحدا لكثرة من سأل إذ ذاك ، وقال في موضع آخر : لم أقف على اسم هذا السائل بعد البحث الشديد ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة وكانوا جماعة ، لكن في حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره (( كان الأعراب يسألونه )) فكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسماءهم – انتهى . ويدل على كون السائلين جماعة متفرقين اختلاف أسألتهم عن التقدم والتأخير كما سيأتي بيانها ( لم أشعر ) بضم العين من باب نصر أي لم أفطن ، يقال شعرت بالشيء شعورا إذا فطنت له ، قيل : وعلى هذا يكون مؤدى الاعتذار النسيان ، قال الباجي : يحتمل أن يريد به نسيت فقدمت الحلاق – انتهى ، وقيل الشعور العلم وعلى هذا المعنى لم أعلم المسألة قبل هذا ، ويؤيده لفظ يونس عند مسلم (( لم أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل أن أرمي ، وقال آخر : لم أشعر أن النحر قبل الحلق فحلقت قبل أن أنحر )) فبين يونس متعلق الشعور أي العلم ولم يفصحه مالك في روايته ، وإلى الاحتمالين معا أشار البخاري في صحيحه إذ ترجم على حديث ابن عباس (( باب إذا رمى بعد ما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسيا أو جاهلا )) قال العيني : فإن قلت : قيد في الترجمة كونه ناسيا أو

(19/50)


جاهلا وليس في الحديث ذلك ، قلت : جاء في حديث عبد الله بن عمرو ذلك وهو قوله : لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح – الحديث . فإن عدم الشعور أعم من أن يكون يجهل أو نسيان ، فكأنه أشار إلى ذلك لأن أصل الحديث واحد وإن كان المخرج متعددا – انتهى . وبالاحتمالين معا فسره القاري حيث قال : لم أشعر أي ما عرفت تقديم بعض المناسك وتأخيرها فيكون جاهلا لقرب وجوب الحج أو فعلت ما ذكرت من غير شعور لكثرة الاشتغال فيكون مخطئا ( فحلقت ) أي شعر رأسي ( قبل أن أذبح ) أي الهدي وفي رواية (( قبل أن أنحر )) والفاء سببية جعل الحلق مسببا عن عدم الشعور كأنه يعتذر لتقصيره ( اذبح ) وفي رواية (( أنحر )) أي الآن ( ولا حرج ) أي لا ضيق عليك ، ثم من قال : بعدم الفدية بمخالفة الترتيب في وظائف يوم النحر حمل نفي الحرج على نفي الإثم والفدية معا ، قال عياض : قوله (( اذبح ولا حرج )) ليس أمرا بالإعادة وإنما هو إباحة لما فعل لأنه سأل عن أمر فرغ منه ، فالمعنى افعل متى شئت ، ونفي الحرج بين في رفع الفدية عن العامد والساهي وفي رفع الإثم عن الساهي ، وأما العامد فالأصل أن تارك السنة عمدا لا يأثم إلا
فجاء آخر ، فقال : لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي . فقال : " ارم ولا حرج " . فما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم ولا أخر إلا قال : " افعل ولا حرج " .

(19/51)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يتهاون فيأثم للتهاون لا للترك – انتهى . ومن ذهب إلى وجوب الدم حمله على نفي الإثم فقط ، قال الباجي : يحتمل أن يريد لا إثم عليك لأن الحرج الإثم ، ومعظم سؤال السائل إنما كان ذلك خوفا من أن يكون قد أثم ، فأعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا حرج ، إذ لم يقصد المخالفة وإنما أتى ذلك عن غير علم ولا قصد مع خفة الأمر – انتهى . وقال السندي الحنفي في حاشية ابن ماجة معناه عند الجمهور أنه لا إثم ولا دم ، ومن أوجب الدم حمله على دفع الإثم وهو بعيد ، إذ الظاهر عموم النفي لحرج الدنيا وحرج الآخرة ، وأيضا لو كان دم لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إذ ترك البيان أو تأخيره عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم - ( فجاء ) رجل ( آخر فقال : لم أشعر ) أي لم أفطن أو لم أعلم أن الرمي قبل النحر ( فنحرت ) الهدي ( قبل أن أرمي ) أي الجمرة ( فقال ارم ) أي الآن ( ولا حرج ) وفي رواية ابن جريج عن الزهري عند البخاري : فقام إليه رجل فقال : كنت أحسب أن كذا قبل كذا ، ثم قام آخر فقال : كنت أحسب أن كذا قبل كذا ، حلقت قبل أن أنحر ، ونحرت قبل أن أرمي ، وأشباه ذلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : افعل ولا حرج ، لهن كلهن ، فما سئل يومئذ عن شيء إلا قال : افعل ولا حرج . وفي رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري عند مسلم كما سيأتي حلقت قبل أن أرمي ، وقال آخر : أفضت إلى البيت قبل أن أرمي ، وفي حديث معمر عند أحمد زيادة الحلق قبل الرمي أيضا ، فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمر والسؤال عن أربعة أشياء ، الحلق قبل الذبح ، والحلق قبل الرمي ، والنحر قبل الرمي ، والإفاضة قبل الرمي ، والأولان في حديث ابن عباس أيضا في الصحيح وللدارقطني من حديثه أيضا السؤال عن الحلق قبل الرمي وكذا في حديث جابر ، وفي حديث أبي سعيد عند الطحاوي ، وفي حديث علي عند أحمد السؤال عن

(19/52)


الإفاضة قبل الحلق ، وفي حديثه عند الطحاوي السؤال عن الرمي والإفاضة معا قبل الحلق ، وفي حديث جابر الذي علقه البخاري ووصله ابن حبان وغيره السؤال عن الإفاضة قبل الذبح ، وفي حديث أسامة بن شريك الآتي في الفصل الثالث السؤال عن السعي قبل الطواف ، وقد تقدم في مسألة اشتراط الطهارة للسعي في شرح حديث عائشة في باب قصة حجة الوداع أن الجمهور القائلين بعدم إجزاء السعي قبل الطواف حملوا حديث أسامة على من سعى بعد طواف القدوم قبل طواف الإفاضة فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف أي طواف الركن ، قيل : ولا إشكال في الحديث على مذهب الحنفية ، فإنهم يحملونه كسائر الأحاديث الواردة في الباب على نفي الحرج بمعني نفي الإثم لعذر الجهل أو النسيان ( فما سئل ) بصيغة المجهول ( النبي - صلى الله عليه وسلم - ) زاد في رواية (( يومئذ )) ( عن شيء قدم ) بصيغة المجهول من التفعيل فيه وفي (( أخر )) أي وحقه التأخير ( ولا أخر ) أي ولا عن شيء أخر وحقه التقديم ( إلا قال ) - صلى الله عليه وسلم - في جوابه ( افعل ) الآن ما بقي وقد أجزأك فيما فعلت ( ولا حرج ) عليك في التقديم والتأخير .
...............................................................................................

(19/53)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية يونس عند مسلم (( فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلا قال : افعلوا ذلك ولا حرج )) قال الباجي : لا يقتضي هذا رفع الحرج في تقديم شيء ولا تأخيره غير المسألتين المنصوص عليهما ، لأننا لا ندري عن أي شيء غيرهما سئل في ذلك اليوم ، وجوابه إنما كان عن سؤال السائل فلا يدخل فيه غيره كما لا يدخل في قوله (( انحر ولا حرج ، ارم ولا حرج ) غير ذلك مما لم يسئل عنه – انتهى . وكذا قال ابن التين أن هذا الحديث لا يقتضي رفع الحرج في غير المسألتين المنصوص عليهما يعني المذكورتين في رواية مالك لأنه خرج جوابا للسؤال ، ولا يدخل فيه غيره – انتهى . وتعقبه الحافظ فقال : كأنه غفل عن قوله في بقية الحديث (( فما سئل عن شيء قدم ولا أخر )) وكأنه حمل ما أبهم فيه على ما ذكر ، لكن قوله في رواية ابن جريج (( وأشباه ذلك )) يرد عليه ، وقد تقدم فيما حررناه من مجموع الأحاديث عدة صور وبقيت عدة صور لم تذكرها الرواة إما اختصارا وإما لكونها لم تقع ، وبلغت بالتقسيم أربعا وعشرين صورة ، منها صورة الترتيب المتفق عليها وهي رمي جمرة العقبة ثم نحر الهدي أو ذبحه ثم الحلق أو التقصير ثم طواف الإفاضة ، وهي وظائف يوم النحر بالاتفاق ، وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب إلا أن ابن الجهم من المالكية استثني القارن فقال : لا يجوز له الحلق قبل الطواف ، وكأنه لاحظ أنه في عمل العمرة ، والعمرة يتأخر فيها الحلق عن الطواف ، يعني أنه رأى أن القارن عمرته وحجه قد تداخلا ، فالعمرة قائمة في حقه والعمرة لا يجوز الحلق فيها قبل الطواف ، ورد عليه النووي بنصوص الأحاديث والإجماع المتقدم عليه ، ونازعه ابن دقيق العيد في ذلك حيث قال : وكأنه يريد بنصوص الأحاديث ما ثبت عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا في آخر الأمر وقد حلق قبل

(19/54)


الطواف ، وهذا إنما ثبت بأمر استدلالي لا نصي أعني كونه عليه السلام قارنا ، وابن الجهم بنى على مذهب مالك والشافعي ومن قال بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مفردا ، وأما الإجماع فبعيد الثبوت إن أراد به الإجماع النقلي القولي ، وإن أراد السكوتي ففيه نظر ، وقد ينازع فيه أيضا – انتهى . قال الحافظ : واختلف العلماء في جواز تقديم بعضها على بعض فأجمعوا على الإجزاء في ذلك أي في التقديم والتأخير كما قاله ابن قدامة في المغني إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع ، قال القرطبي : روي عن ابن عباس أن من قدم شيئا على شيء فعليه دم . وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي وأصحاب الرأي – انتهى . وفي نسبة ذلك إلى النخعي وأصحاب الرأي نظر فإنهم لا يقولون بذلك إلا في بعض المواضع كما سيأتي ، قال : وذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث إلى الجواز وعدم وجوب الدم لقوله للسائل : " لا حرج " . فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معا ، لأن إثم الضيق يشملهما – انتهى . وقال ابن دقيق العيد (ج 3 : ص 48 ، 49) : إذا ثبت أن الوظائف في يوم النحر أربع فقد اختلفوا فيما لو تقدم بعضها على بعض ، فاختار الشافعي جواز التقديم وجعل الترتيب مستحبا ، ومالك وأبو حنيفة يمنعان تقديم الحلق
..............................................................................................

(19/55)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الرمي لأنه يكون حينئذ حلقا قبل وجود التحللين ، وللشافعي قول مثله ، وقد بنى القولان له على أن الحلق نسك أو استباحة محظور ، فإن قلنا : إنه نسك جاز تقديمه على الرمي وغيره ، لأنه يكون من أسباب التحلل ، وإن قلنا إنه استباحة محظور لم يجز لما ذكرناه من وقوع الحلق قبل التحللين . قال : وفي هذا البناء نظر ، لأنه لا يلزم من كون الشيء نسكا أن يكون من أسباب التحلل ، وهذا مالك يرى أن الحلق نسك ويرى مع ذلك أنه لا يقدم على الرمي ، إذ معنى كون الشيء نسكا أنه مطلوب مثاب عليه ، ولا يلزم من ذلك أن يكون سببا للتحلل – انتهى . وقال الأوزاعي : إن أفاض قبل الرمي اهراق دما . وقال عياض : اختلف عن مالك في تقديم الطواف على الرمي ، روى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يجب عليه إعادة الطواف ، فإن توجه إلى بلده بلا إعادة وجب عليه دم ، قال ابن بطال : هذا يخالف حديث ابن عباس ، وكأنه لم يبلغه . قال الحافظ : وكذا هو في رواية ابن أبي حفصة عن الزهري في حديث عبد الله بن عمرو ، وكأن مالكا لم يحفظ ذلك عن الزهري – انتهى . وقال الأبي : أما الإفاضة فاختلف قول مالك إذا قدمها قبل الرمي فقيل : يجزئه ويهدي ، وقيل : لا يجزئه ويعيدها بعد الرمي وهو كمن لم يفض ، وكلك اختلف في قوله إذا قدمها على الحلق فرمى ثم أفاض ثم حلق ، فقال : مرة يجزئه وقال : مرة يعيدها بعد الحلق ، وقال في الموطأ في باب التقصير : أحب إلى أن يريق دما ، وكذلك اختلف قول مالك في النحر قبل الحلق ، وقال في آخر (( باب ما جاء في الحلاق )) من الموطأ : الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن أحدا لا يحلق رأسه ولا يأخذ من شعره حتى ينحر هديا إن كان معه ، وقال : في (( باب العمل في النحر )) : لا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه ، وارجع لشرح هذه الأقوال إلى المنتقى للباجي . وقال ابن قدامة : (ج 3 : ص 446) : وفي يوم

(19/56)


النحر أربعة أشياء : الرمي ، ثم النحر ، ثم الحلق ثم الطواف ، والسنة ترتيبها هكذا ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتبها ، كذلك وصفه جابر في حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وروى أنس (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى ثم نحر ثم حلق )) رواه أبو داود . فإن أخل بترتيبها ناسيا أو جاهلا بالسنة فيها فلا شيء عليه في قوله كثير من أهل العلم ، منهم الحسن وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والشافعي وإسحاق وأبو ثور وداود ومحمد بن جرير الطبري . وقال أبو حنيفة : إن قدم الحلق على الرمي أو على النحر فعليه دم ، فإن كان قارنا فعليه دمان ، وقال زفر : عله ثلاثة دماء ، لأنه لم يجد التحلل الأول فلزمه الدم كما لو حلق قبل يوم النحر ، ولنا ما روى عبد الله بن عمرو قال : قال رجل : يا رسول الله حلقت قبل أن أذبح ، قال : " اذبح ولا حرج " . فقال آخر : ذبحت قبل أن أرمي . قال : " ارم ولا حرج " . متفق عليه . وفي لفظ (( قال : فجاء رجل فقال : يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح – وذكر الحديث – قال : فما سمعته يسئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعضها وأشباهها إلا قال : افعلوا ولا حرج عليكم )) رواه مسلم . وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له يوم النحر وهو بمنى في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال : لا حرج . متفق عليه ، ورواه عبد الرزاق
...............................................................................................

(19/57)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن معمر الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو ، وفيه : فحلقت قبل أن أرمي . وتابعه على ذلك محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن عيسى عن عبد الله بن عمرو ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – وأتاه رجل – فقال : يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي ، قال : ارم ولا حرج . قال : وأتاه آخر فقال : إني أفضت قبل أن أرمي ، قال : ارم ولا حرج ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع . على أنه لا يلزم من سقوط الدم بفقد الشيء في وقته سقوطه قبل وقته . فإنه لو حلق في العمرة بعد السعي لا شيء عليه ، وإن كان الحل ما حصل قبله ، وكذلك في مسألتنا إذا قلنا إن الحل يحصل بالحلق فقد حلق قبل التحلل ولا دم عليه ، فأما إن فعله عمدا عالما بمخالفة السنة في ذلك ففيه روايتان : إحداهما لا دم عليه ، وهو قول عطاء وإسحاق لإطلاق حديث ابن عباس ، وكذلك حديث عبد الله بن عمرو ، من رواية سفيان بن عيينة ، والثانية عليه دم ، روى نحو ذلك عن سعيد بن جبير وجابر بن زيد وقتادة والنخعي ، لأن الله تعالى قال ? ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ? (2 : 196) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتب وقال : خذوا عني مناسككم . والحديث المطلق قد جاء مقيدا فيحمل المطلق على المقيد . قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسئل عن رجل حلق قبل أن يذبح ؟ فقال : إن كان جاهلا فليس عليه ، فأما التعمد فلا ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل فقال : لم أشعر ، قيل لأبي عبد الله سفيان بن عيينة لا يقول : لم أشعر ، فقال : نعم ولكن مالكا والناس عن الزهري : لم أشعر . وهو في الحديث . وقال مالك : إن قدم الحلق على الرمي فعليه دم ، وإن قدمه على النحر أو النحر على الرمي فلا شيء عليه ، لأنه بالإجماع ممنوع من حلق شعره قبل التحلل الأول ولا يحصل إلا برمي الجمرة ، فأما النحر قبل الرمي فجائز

(19/58)


، لأن الهدي قد بلغ محله ، ولنا الحديث ، فإنه لم يفرق بينهما ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له في الحلق والنحر والتقديم والتأخير فقال : لا حرج ، ولا نعلم خلافا بينهم في أن مخالفة الترتيب لا تخرج هذه الأفعال عن الأجزاء ولا يمنع وقوعها موقعها ، وإنما اختلفوا في وجوب الدم على ما ذكرنا ، والله أعلم ، فإن قدم الإفاضة على الرمي أجزاه طوافه ، وبهذا قال الشافعي ، وقال مالك : لا تجزئه الإفاضة فليرم ثم لينحر ثم ليفض ، ولنا ما روى عطاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له رجل : أفضت قبل أن أرمي ؟ قال : " ارم ولا حرج " . وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قدم شيئا قبل شيء فلا حرج " . رواهما سعيد في سننه ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه آخر فقال : إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي ؟ قال : ارم ولا حرج ، فما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم أو أخر إلا قال : افعل ولا حرج . رواه أبو داود والنسائي والترمذي – انتهى . وقد ظهر بما ذكرنا من كلام القرطبي وابن دقيق العيد وابن قدامة والحافظ أنه لم يقل بظاهر أحاديث الباب وعمومها أحد من الأئمة بل خالفتها المالكية والحنفية في بعض الأمور كما سيأتي ، نعم عمل بعمومها الشافعية والحنابلة كما سيأتي أيضا ، قال الدردير : يفعل في يوم النحر أربعة أمور مرتبة الرمي فالنحر فالحلق فالإفاضة ، فتقديم الرمي على الحلق والإفاضة
..............................................................................................

(19/59)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واجب وما عداه مندوب – انتهى . وحاصله أن تقديم الرمي على الحلق والإفاضة واجب يجبر بالدم وأما تقديمه على النحر أو تقديم النحر على كل واحد من الحلق والإفاضة أو تقديم الحلق على الإفاضة فمستحب ، فالمراتب ستة ، الوجوب في اثنين والندب في أربعة ، ومذهب الحنفية على ما قال ابن عابدين هو أن الطواف لا يجب ترتيبه على شيء من الثلاثة ، وإنما يجب ترتيب الثلاثة الرمي ثم الذبح ثم الحلق لكن المفرد لا ذبح عليه فيجيب عليه الترتيب بين الرمي والحلق فقط ، وحاصله أنه لا يجب الدم بتقديم الطواف على الثلاثة ، والمفرد ليس عليه الذبح ، وإنما يجب الترتيب في الثلاثة على القارن والمتمتع ، فإن قدم المفرد الحلق على الرمي فعليه دم ولو حلق القارن أو المتمتع دون المفرد قبل الذبح أو ذبح قبل الرمي فعليه دمان ، دم للقران أو التمتع . ودم لهذه الجناية ، سواء كان عامدا أو جاهلا أو ناسيا . وقال النووي : الأعمال المشروعة يوم النحر أربعة : الرمي ثم الذبح ثم الحلق ثم الطواف ، وهي على هذا الترتيب مستحبة ، فلو خالف فقدم بعضها على بعض جاز وفاته الفضيلة ، وقال أيضا : السنة ترتيبها هكذا فلو خالف وقدم بعضها على بعض جاز ولا فدية عليه لهذه الأحاديث ، وبهذا قال جماعة من السلف وهو مذهبنا – انتهى ، وفي كشاف القناع من فروع الحنابلة : وإن قدم الحلق على الرمي أو على النحر أو طاف للزيارة قبل رميه أو نحر قبل رميه جاهلا أو ناسيا فلا شيء عليه ، وكذا لو كان عالما ، لكن يكره ذلك للعالم ، وإن قدم طواف الإفاضة على الرمي أجزأه – انتهى . وكذا في منتهى الإرادات والروض المربع ، هذا ، وقد احتج لما روى الأثرم عن أحمد من تخصيص الرخصة بالناسي والجاهل دون العامد بقوله في رواية مالك : لم أشعر ، كما تقدم ، وبقوله في رواية يونس : فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور

(19/60)


على بعض أو أشباهها إلا قال : افعلوا ولا حرج . وأجاب بعض الشافعية بأن الترتيب لو كان واجبا لما سقط بالسهو كالترتيب بين السعي والطواف فإنه لو سعى قبل أن يطوف وجب إعادة السعي ، قال : وأما ما وقع في حديث أسامة بن شريك ( الآتي في الفصل الثالث ) فمحمول على من سعى بعد طواف القدوم ثم طاف طواف الإفاضة فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف أي طواف الركن . قال الحافظ : ولم يقل بظاهر حديث أسامة إلا أحمد وعطاء فقالا : لو لم يطف للقدوم ولا لغيره وقدم السعي قبل طواف الإفاضة أجزأه . أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عنه – انتهى . وقال الخطابي في المعالم (ج 2 : ص 433) : أما قوله : سعيت قبل أن أطوف . فيشبه أن يكون هذا السائل لما طاف طواف القدوم قرن به السعي ، فلما طاف طواف الإفاضة لم يعد السعي ، فأفتاه بأن لا حرج ، لأن السعي الأول الذي قرنه بالطواف الأول قد أجزأه ، فأما إذا لم يكن سعى إلى أن أفاض فالواجب عليه أن يؤخر السعي عن الطواف ، لا يجزيه غير ذلك في قول عامة أهل العلم ، إلا في قول عطاء وحده فإنه قال : يجزئه ، وهو قول كالشاذ لا اعتبار له – انتهى .
..............................................................................................

(19/61)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت : وقد ذهب إليه ابن حزم أيضا ورد على من فرق بين تقديم السعي وسائر ما قدم وأخر ، وأما تأويل الخطابي وغيره فلا يخفى ما فيه من التعسف ، وقال ابن دقيق العيد (ج 3 : ص 79) بعد حكاية قول الإمام أحمد المذكور : وهذا القول في سقوط الدم عن الجاهل والناسي دون العامد قوي من جهة الدليل أن الدليل دل على وجوب إتباع أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحج بقوله : " خذوا عني مناسككم " . وهذه الأحاديث المرخصة في التقديم لما وقع السؤال عنه إنما قرنت بقول السائل (( لم أشعر )) فيختص الحكم بهذه الحالة ويبقى حالة العمد على أصل وجوب إتباع الرسول في الحج ، وأيضا الحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يجز إطراحه وإلحاق غيره مما لا يساويه ، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم التكليف والمؤاخذة والحكم علق به ، فلا يمكن إطراحه وإلحاق العمد به إذ لا يساويه ، فإن تمسك بقول الراوي (( فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال : افعل ولا حرج )) فإنه قد يشعر بأن الترتيب مطلقا غير مراعى في الوجوب ، فجوابه أن الراوي لم يحك لفظا عاما عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقتضي جواز التقديم والتأخير مطلقا ، وإنما أخبر عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا حرج " . بالنسبة إلى كل ما سئل عنه من التقديم والتأخير حينئذ ، وهذا الإخبار من الراوي إنما تعلق بما وقع السؤال عنه . وذلك مطلق بالنسبة إلى حال السؤال وكونه وقع عن العمد أو عدمه ، والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه فلا يبقى حجة في حال العمد ، والله أعلم – انتهى . وتعقبه الشنقيطي بأنه لا يتضح حمل الأحاديث على من قدم الحق جاهلا أو ناسيا وإن كان سياق حديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه يدل على أن السائل جاهل ، لأن بعض تلك الأحاديث ليس فيها ذكر النسيان ولا الجهل فيجب استصحاب عمومها حتى يدل دليل على التخصيص في

(19/62)


النسيان والجهل . وقد تقرر أيضا في علم الأصول أن جواب المسئول لمن سأله لا يعتبر فيه مفهوم المخالفة ، لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة الجواب للسؤال فلم يتعين كونه لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق . وقال الشوكاني : وتعليق سؤال بعضهم بعدم الشعور لا يستلزم سؤال غيره به حتى يقال إنه يختص الحكم بحالة عدم الشعور ولا يجوز إطراحها بإلحاق العمد بها ، وبهذا يعلم أن التعويل في التخصيص على وصف عدم الشعور المذكور في سؤال بعض السائلين غير مفيد للمطلوب – انتهى بقدر الضرورة ، وقد عرفت مما قدمنا أن أحاديث الباب مخالفة للحنفية والمالكية في بعض الصور فاعتذروا عن ذلك بوجوه ، منها : أن معنى الحرج في هذه الأحاديث الإثم وهو المنفي ها هنا ، قال الأبي في الإكمال : قوله (( لا حرج )) محمول عندنا على نفي الإثم فقط – انتهى . وبذلك جزم الطحاوي وغيره من الحنفية أن المنفي هو الإثم فقط دون الفدية ، وتعقبه الحافظ في الفتح فقال : العجب ممن يحمل قوله (( ولا حرج )) على نفي الإثم فقط ، ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض ، فإن كان الترتيب واجبا يجب بتركه دم ، فليكن في الجميع وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج – انتهى . قلت : التعقب المذكور قوي متجه ، وجوابه متعذر جدا ،
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/63)


وقد اعترف بذلك بعض الحنفية حيث قال : يلزم على ما قررنا القول بوجوب الترتيب في الأعمال الأربعة من الرمي والنحر والحلق والطواف ، وكلام أصحابنا صريح في نفي وجوبه مطلقا في الطواف دون سائر الأعمال ، ولم أجد إلى الآن مع البحث الشديد في الفرق بين الطواف وبين الأفعال الثلاثة وجها شافيا ، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا – انتهى . وقد تعرض الزرقاني للجواب عن التعقب المذكور فقال : إن مالكا خص من العموم تقديم الحلق على الرمي فأوجب فيه الفدية لعلة أخرى وهي إلقاء التفث قبل فعل شيء من التحلل وقد أوجب الله ورسوله الفدية على المريض أو من برأسه أذى إذا حلق قبل المحل مع جواز ذلك له لضرورته فكيف بالجاهل والناسي ، وخص منه أيضا تقديم الإفاضة على الرمي لئلا يكون وسيلة إلى النساء والصيد قبل الرمي ، ولأنه خلاف الواقع منه - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت عنده زيادة ذلك فلا يلزمه زيادة غيره ، وهو أثبت الناس في ابن شهاب ، ومحل قبول زيادة الثقة ما لم يكن من لم يزدها أوثق منه . وابن أبي حفصة الذي روى ذلك عن ابن شهاب وإن كان صدوقا وروى له الشيخان لكنه يخطئ بل ضعفه النسائي ، واختلف قول ابن معين في تضعيفه ، وكان يحيى بن سعيد يتكلم فيه – انتهى . وحاصل هذا الجواب أن المراد في أحاديث الباب بنفي الحرج هو نفي الإثم فقط ، وأما وجوب الدم في بعض الصور فإنما أوجبه مالك أو غيره لدلائل أخرى . قلت : لم يثبت بحديث مرفوع صحيح أو ضعيف وجوب الدم في شيء من التقديم والتأخير ، وأما ما يذكر فيه من قول ابن عباس أو غيره فسيأتي الجواب عنه ، وزيادة الثقة مقبولة إذا لم يعارض لرواية من هو أوثق منه ، ولا معارضة ها هنا بين الروايات فيجب قبولها ، وقال ابن دقيق العيد : من قال بوجوب الدم في العمد والنسيان عند تقديم الحلق على الرمي فإنه يحمل قوله عليه السلام : " لا حرج " . على نفي الإثم ولا يلزم من نفي الإثم نفي وجوب الدم ، وادعى بعض

(19/64)


الشارحين أن قوله عليه السلام لا حرج ظاهر في أنه لا شيء عليه ، وعنى بذلك نفي الإثم والدم معا ، وفيما ادعاه من الظهور نظر وقد ينازعه خصومه فيه بالنسبة إلى الاستعمال العرفي فإنه قد استعمل (( لا حرج )) كثيرا في نفي الإثم وإن كان من حيث الوضع اللغوي يقتضي نفي الضيق ، نعم من أوجب الدم وحمل نفي الحرج على نفي الإثم يشكل عليه تأخير بيان وجوب الدم ، فإن الحاجة تدعوا إلى بيان هذا الحكم فلا يؤخر عنها بيانه ، ويمكن أن يقال : إن ترك ذكره في الرواية لا يلزم منه ترك ذكره في نفس الأمر – انتهى . قلت : ذكر هذا الإشكال الحافظ أيضا فقال : تعقب بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ، ولو كان واجبا لبينه - صلى الله عليه وسلم - حينئذ لأنه وقت الحاجة ولا يجوز تأخيره ، وأجاب العيني عن هذا التعقب فقال : لا ، ثم دليل أقوى من قوله تعالى ? ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ? (2 : 196) وبه احتج النخعي فقال : فمن حلق قبل الذبح اهراق دما ، رواه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح – انتهى . وقد ورد الحافظ هذا الاحتجاج بأن المراد ببلوغ محله وصوله إلى الموضع الذي يحل ذبحه
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/65)


فيه وقد حصل ، وإنما يتم ما أراد أن لو قال : ولا تحلقوا حتى تنحروا – انتهى . وقال ابن حزم . أما قول إبراهيم في أن من حلق قبل الذبح والنحر فعليه دم واحتجاجه بقول الله تعالى ? ولا تحلقوا رؤوسكم ? فغفلة منه ، لأن محل الهدي هو يوم النحر بمنى ذبح أو نحر أو لم يذبح ولا نحر ، إذا دخل يوم النحر والهدي بمنى أو بمكة فقد بلغ محله فحل الحلق ولم يقل تعالى حتى تنحروا أو تذبحوا ، وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كل ذلك مباح ولا حجة في قول أحد سواه عليه السلام – انتهى . وأجاب عن هذا العيني بأنه ليس المراد الكلي مجرد البلوغ إلى المحل الذي يذبح فيه ، بل المقصد الكلي الذبح ، ولذا لو بلغ ولم يذبح يجب عليه الفدية – انتهى . وأجاب بعض الحنفية عن الإشكال المذكور بأنه قد يترك البيان في مثل تلك الحالة اعتمادا على القواعد العامة المعلومة من الشرع ، ويحسب أن فيها غنية عن بيان المسألة في ذلك الوقت بخصوصه ، قال : ونظيره ما رواه البخاري في صحيحه من طريق هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء بنت أبي بكر قالت أفطرنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم غيم ، ثم طلعت الشمس ، قيل لهشام : فأمروا بالقضاء ؟ قال : بد من قضاء . وقال معمر : سمعت هشاما يقول : لا أدري أقضوا أم لا . قال الحافظ : جزم هشام بالقضاء محمول على أنه استند فيه إلى دليل آخر ، وأما حديث أسماء فلا يحفظ فيه إثبات القضاء ولا نفيه – انتهى . قال هذا البعض : فالقضاء واجب في تلك الصورة عند جمهور الأمة ولكن لم يبينه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت مع احتياج الناس إليه ، ولو بينه لنقل إلينا ، وهكذا هو في حديث الباب قلت : لم يعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك بيان قاعدة عامة أو خاصة تدل على وجوب الدم في مثل تلك الحالة ، وتغني عن البيان في ذلك الوقت أي في ابتداء الإسلام حينما كان الناس محتاجين إلى تقرير قواعد الحج فسكوته - صلى الله

(19/66)


عليه وسلم - عن البيان حين ذاك دليل على عدم وجوب الفدية على من خالف الترتيب ، وأما تنظير ذلك بما رواه البخاري من حديث أسماء فليس في محله ، فإنه ليس فيه إثبات قضاء الصوم ولا نفيه ، وإنما رجح الجمهور إيجاب القضاء فيه خلافا لمجاهد والحسن وإسحاق وأحمد في رواية وابن خزيمة بأنه لو غم هلال رمضان فأصبحوا مفطرين ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق فكذلك هذا ، وأما ما نحن فيه فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم ذلك بقوله (( لا حرج )) وهو يدل دلالة لا لبس فيها على من قدم أو أخر لا شيء عليه من إثم ولا فدية ، لأنه نكرة في سياق النفي ركبت مع لا فبقيت على الفتح والنكرة إذا كانت كذلك فهي صريح في العموم ، فالأحاديث إذن نص صريح في عموم النفي لجميع أنواع الحرج من إثم وفدية . قلت : واستدل بعضهم على كون المراد بنفي الحرج في الحديث نفي الإثم فقط لا غيره بما وقع في حديث أسامة بن شريك الآتي من الاستثناء بقوله : إلا على رجل افترض عرض رجل مسلم وهو ظالم ، فذلك الذي حرج وهلك قالوا فيه : دلالة ظاهرة على أن الحرج المنفي في الحديث هو الإثم والفساد فقط لا الفدية ونحوها . ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن هذا الاستدلال إنما يتم إذا كان الاستثناء في هذا الحديث متصلا ، وأما إذا كان منقطعا فلا كما لا يخفى فافهم
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/67)


واحتج بعضهم لذلك أيضا بأن ابن عباس روى مثل حديث عبد الله بن عمرو كما سيأتي ، وأوجب الدم ، فقد روى الطحاوي بسنده عنه أنه قال : من قدم شيئا من حجه أو أخره فليهرق لذلك دما ، فلولا أنه فهم أن المراد بنفي الحرج نفي الإثم فقط دون الفدية لما أمر بخلافه ، وفيه أنه قد روى عن ابن عباس مرفوعا ما يعارضه فقد روى البيهقي (ج 5 : ص143) عن أبي الحسن العلوي عن عبد الله بن محمد بن شعيب البزمهراني عن أحمد بن حفص بن عبد الله عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – الحديث . وفيه (( فما علمته سئل عن شيء يومئذ إلا أنه قال : لا حرج ولم يأمر بشيء من الكفارة )) قال البيهقي : هذا إسناد صحيح ، وروى البيهقي أيضا (ج 5 ص 143، 144) بسنده عن ابن عباس قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من قدم من نسكه شيئا أو أخر فلا شيء عليه " . قال الشيخ محمد عابد السندي في المواهب اللطيفة بعد ذكره : هذا مرفوع مقدم على موقوفه – انتهى . وأجاب ابن التركماني عن الرواية الأولى بأن الزيادة المذكورة وهي قوله (( ولم يأمر بشيء من الكفارة )) غريبة جدا لم أجدها في شيء من الكتب المتداولة بين أهل العلم وشيخ البيهقي وشيخ شيخه لم أعرف حالهما بعد الكشف والتتبع إلى آخر ما قال . وأجاب بعضهم عن الرواية الثانية بأنه أي شيء يزيد فيه على حديثه المرفوع الذي سيأتي بلفظ لا حرج ؟ فقوله (( لا شيء عليه )) أيضا يحمل على ما حملنا عليه قوله (( لا حرج )) أي لا شيء عليه من الإثم وإعادة فعل فعله على غير ترتيب . قال : والظاهر أن حديث البيهقي مختصر من حديث الباب ، قد اختصره بعض الرواة ورواه بالمعنى – انتهى ، ومن الوجوه التي اعتذروا بها عن أحاديث الباب أن فتوى الراوي إذا كان مخالفا لروايته يعمل بفتواه ، وهذا ابن عباس الراوي لحديث الباب قد أفتى بوجوب الدم كما تقدم ،

(19/68)


وتعقب بأن الطريق بذلك إلى ابن عباس فيها ضعف ، وأيضا قد روي عنه ما يعارض فتواه صريحا كما تقدم أيضا ، وأيضا قد روى البيهقي بسنده عن مقاتل أنهم سألوا أنس بن مالك عن قوم حلقوا من قبل أن يذبحوا ، قال : أخطأتم السنة ولا شيء عليكم . وهذا كما ترى مخالف لفتوى ابن عباس وموافق لحديثه المرفوع ، وأيضا نحن متعبدون بما بلغ إلينا من الحديث ولم نتعبد برأي الراوي أو بما فهمه كما بسطه ابن القيم في الإعلام والعلامة القنوجي في حصول المأمول ، ومنها أن أحاديث الباب معارضة لدلالة آية الأذى فإن الله تعالى إذ أوجب الفدية لعذر الأذى فكيف بدون العذر . قال ابن رشد في البداية : وعمدة مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم على من حلق قبل محله من ضرورة بالفدية فكيف من غير ضرورة – انتهى . وتعقبه ابن الهمام فقال : أما الاستدلال بدلالة قوله تعالى ? فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ? (2 : 196) الآية فإن إيجاب الفدية للحلق قبل أوانه حالة العذر يوجب الجزاء مع عدم العذر بطريق أولى ، فمتوقف على أن ذلك التأقيت الصادر عنه - صلى الله عليه وسلم - بالقول كان لتعيينه لا لاستنانه – انتهى . وأما ما قال مالك في باب الحلاق من موطأه : الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن أحدا لا يحلق رأسه ولا يأخذ من شعره حتى ينحر هديا إن كان معه ولا يحل من شيء حرم
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/69)


عليه حتى يحل بمنى يوم النحر ذلك أن الله تعالى قال ? ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ? فهو محمول على كراهة التنزيه والسنة والاستحباب على ما هو المشهور من مذهب مالك ، ومنها ما قال ابن الهمام أن قول القائل لم أشعر ففعلت ما يفيد أنه ظهر له بعد فعله أنه ممنوع من ذلك فلذا قدم اعتذاره على سؤاله وإلا لم يسأل أو لم يعتذر ، لكن قد يقال : يحتمل أن الذي ظهر له مخالفة ترتيبه لترتيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظن أن ذلك الترتيب متعين فقدم ذلك الاعتذار وسأل عما يلزمه به فبين عليه الصلاة والسلام في الجواب عدم تعينه عليه بنفي الحرج وأن ذلك الترتيب مسنون لا واجب ، والحق أنه يحتمل أن يكون كذلك ، وأن يكون الذي ظهر له كان هو الواقع إلا أنه صلي الله عليه وسلم عذرهم للجهل وأمرهم أن يتعلموا مناسكهم ، وإنما عذرهم بالجهل لأن الحال إذ ذاك كان في ابتداءه ، وإذا احتمل كلا منهما فالاحتياط اعتبار التعيين والأخذ به واجب في مقام الاضطراب – انتهى . ومنها أن قوله (( ولا حرج )) يحتمل أن يراد به نفي الإثم والفدية معا عن هؤلاء السائلين الذين جهلوا الحكم الشرعي بأعيانهم لكون الجهل عذرا مقبولا في حقهم إذ ذاك ، وإن لم يكن عذر اليوم لشيوع الأحكام الشرعية وقدم العهد بها . روى الطحاوى عن أبي سعيد الخدري قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بين الجمرتين عن رجل حلق قبل أن يرمي ، قال : لا حرج ، وعن رجل ذبح قبل أن يرمي ، قال : لا حرج ، ثم قال : عباد الله ! وضع الله عز وجل الضيق والحرج ، وتعلموا مناسككم فإنها من دينكم . قال العيني : فدل ذلك على أن الحرج الذي رفعه الله عنهم إنما كان لجهلهم بأمر المناسك لا لغير ذلك ، وذلك لأن السائلين كانوا أناسا أعرابا لا علم لهم بالمناسك فأجابهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : لا حرج يعني فيما فعلتم بالجهل لا أنه أباح لهم ذلك فيما بعد – انتهى . وقال

(19/70)


الطحاوي بعد رواية الحديث أفلا ترى أنه أمرهم بتعلم مناسكهم لأنهم كانوا لا يحسنونها فدل ذلك أن الحرج والضيق الذي رفعه الله عنهم هو لجهلهم بأمر مناسكهم لا لغير ذلك ، وفيه أن حاصل هذا الاعتذار أن رفع الإثم والفدية عن السائلين الأعراب كان لجهلهم ويرجع ذلك إلى أن يكون الحكم المذكور خاصا بهم ولا يخفى ما فيه ، ومنها ما تقدم في كلام الباجي وابن التين أن ذلك لا يقتضي رفع الحرج في تقديم شيء ولا تأخيره غير المسألتين المنصوص عليهما يعني المذكورتين في رواية مالك ، لأنا لا ندري عن أي شيء غيرهما سئل في ذلك اليوم ، وجوابه إنما كان عن سؤال السائل فلا يدخل فيه غيره – انتهى . وتعقبه الحافظ فقال : كأنه غفل عن قوله في بقية الحديث فما سئل عن شيء قدم ولا أخر . وكأنه حمل ما أبهم فيه على ما ذكر لكن قوله في رواية ابن جريج وأشباه ذلك يرد عليه وتقدم فيما حررناه من مجموع الأحاديث عدة صور – انتهى . وأجاب عنه الزرقاني بأن مالكا أوجب الدم في تقديم الإفاضة على الرمي لأنه لم يقع في روايته حديث الباب ولا يلزم بزيادة غيره ، لأنه أثبت الناس في ابن شهاب ، وأوجب الفدية في تقديم الحلق على الرمي لوقوعه قبل شيء من التحلل – انتهى . وفيه أن الإمام مالكا معذور لكونه لم يبلغه ما
متفق عليه . وفي رواية لمسلم : أتاه رجل فقال : حلقت قبل أن أرمي . قال : " ارم ولا حرج " . وأتاه آخر ، فقال : أفضت إلى البيت قبل أن أرمي . قال : " ارم ولا حرج " .
2680 – (2) وعن ابن عباس ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل يوم النحر بمنى ، فيقول : " لا حرج " . فسأله رجل فقال : رميت بعد ما أمسيت . فقال : " لا حرج " .

(19/71)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقع عند غيره من أصحاب الزهري ، وأما المالكية ومن وافقهم فلا عذر لهم في ترك القول والعمل بما رواه غيره من الرواة الثقات الأثبات عن الزهري زيادة على رواية مالك ، وأما ما ذكر من التعليل لإيجاب الدم في تقديم الحلق على الرمي فهو مما لا يلتفت إليه بعد وروده نصا في الحديث لكونه في مقابلة النص ، وأيضا إذا كان الحلق نسكا كان هو من أسباب التحلل ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في العلم والحج والنذور ومسلم في الحج بألفاظ مختلفة المذكور ها هنا أحدها ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 160 ، 192 ، 202 ، 210) ومالك والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي وابن الجارود (ص 174 ، 175) والدارمي والبيهقي (ج 5 : ص 141 ، 142) ( وفي رواية لمسلم ) رواها من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري وكذا أخرجه من طريقه أحمد (ج 2 : ص 210) وابن أبي حفصة هذا من رجال الصحيحين ومن أصحاب الزهري المشهورين ، وثقه ابن معين وأبو داود وقال علي بن المديني : ليس به بأس ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال : يخطئ . وقال النسائي : ضعيف ، وهذا جرح مبهم على أن النسائي متعنت فلا يلتفت إلى تضعيفه ( أتاه رجل فقال : حلقت قبل أن أرمي ، قال : ارم ولا حرج ، وأتاه آخر فقال : أفضت إلى البيت قبل أن أرمي ، قال : " ارم ولا حرج " . قد تقدم أن الترتيب بين الرمي والذبح والحلق للقارن والمتمتع ، وبين الرمي والحلق للمفرد واجب عند الحنفية ، وأما الترتيب بين الرمي والطواف وبين الحلق والطواف فليس بواجب عندهم ، ففرقوا بين الطواف وبين الأشياء الثلاثة في ذلك مع أنه وقع في جملة الروايات السؤال عن جميع هذه الصور وورد الجواب في كلها بلفظ (( لا حرج )) وقد تقدم ما قال بعضهم أنه لم يجد مع البحث الشديد للفرق بين الطواف وبين الأفعال الثلاثة وجها شافيا ، ورواية مسلم هذه صريحة في الرد على المالكية إذ نفى فيها الحرج

(19/72)


في تقديم الحلق والإفاضة على الرمي ، وقد سبق ما أجاب به الزرقاني عنها .
2680- قوله كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسئل يوم النحر بمنى ) أي عن التقديم والتأخير ( فيقول : لا حرج ، فسأله رجل فقال : رميت بعد ما أمسيت . فقال : لا حرج ) قد تقدم في شرح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال الحافظ بعد ذكر رواية ابن عباس هذه : إنها تدل على أن هذه القصة كانت بعد الزوال لأن المساء يطلق على ما بعد الزوال ، وكأن السائل علم أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يقدم ضحى ، فلما أخرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك - انتهى . وقال الشوكاني : قوله (( رميت بعد ما أمسيت )) فيه دليل على أن من رمى بعد دخول وقت المساء وهو الزوال صح رميه ولا حرج عليه في ذلك . قلت : وقد تقدم في شرح حديث ابن عباس في الفصل الثاني من باب الدفع من
رواه البخاري .
( الفصل الثاني )
2681 – (3) عن علي ، قال : أتاه رجل ، فقال : يا رسول الله ! إني أفضت قبل أن أحلق . قال : " احلق أو قصر ولا حرج " . وجاء آخر ، فقال : ذبحت قبل أن أرمي . قال : " ارم ولا حرج " .

(19/73)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عرفة أنهم اختلفوا فيمن فاته يوم النحر ولم يرم الجمرة حتى غربت الشمس ، فمن قائل يرميها ليلا وهو أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما . ومن قائل لا يرميها ليلا ولكن يؤخر رميها حتى تزول الشمس من الغد وهو الإمام أحمد ، ومن ذهب إلى جواز الرمي ليلا استدل بحديث ابن عباس هذا ، قال : لأن اسم المساء يصدق بجزء من الليل ، بل قال بعضهم المساء من بعد الغروب . قال القاري : قوله (( أمسيت )) ضد (( أصبحت )) على ما في القاموس ، فظاهره أنه بعد الغروب ، وأجاب الذين ذهبوا إلى عدم جواز الرمي ليلا بأن قوله (( يوم النحر )) في هذا الحديث يدل على أن السؤال وقع في النهار ، والرمي بعد الإمساء وقع في النهار ، لأن المساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل ، قالوا : فالحديث صريح في أن المراد بالإمساء فيه آخر النهار بعد الزوال لا الليل وإذن فلا حجة فيه الرمي ليلا ( رواه البخاري ) في باب الذبح قبل الحلق من طريق عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس . وفي باب (( إذا رمى بعد ما أمسى )) من طريق يزيد بن زريع عن خالد عن عكرمة ، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والطحاوي والبيهقي (ج 5 : ص 143) وزاد البيهقي في روايته (( ولم يأمر بشيء من الكفارة )) وقد ذكرناها قبل ذلك مع ما أجاب به عنها ابن التركماني ، ولحديث ابن عباس في السؤال عن التقديم والتأخير طرق وألفاظ عند الشيخين ، من شاء الوقوف عليها رجع إلى جامع الأصول (ج 4 : ص 110 ، 111) وقد أخرجه أيضا الدارقطني وأحمد بألفاظ مختلفة مختصرا ومطولا (ج 1 : ص 216 ، 258 ، 269 ، 291 ، 300 ، 311 ، 316) .

(19/74)


2681- قوله ( أتاه ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إني أفضت ) أي طفت طواف الإفاضة ( قبل أن أحلق ، قال : احلق أو قصر ) (( أو )) للتخيير ( ولا حرج ) أي لا إثم ولا فدية ( وجاء آخر فقال : ذبحت قبل أن أرمي ، قال : ارم ولا حرج . قال القاري : أي لا إثم ولا فدية على المفرد ، وأما القارن والمتمتع فليس عليهما الإثم إذا لم يكن عن عمد لكن عليهما الكفارة – انتهى ؟ قلت : إنما فسر القاري بذلك لأنه لا ذبح على المفرد ولا يجب الترتيب عليه عند الحنفية إلا في الرمي والحلق فقط ، وأما القارن والمتمتع فيجب عليهما الترتيب في الرمي والذبح والحلق . قال الخطابي : وتأول بعض من ذهب إلى هذا القول ( أي وجوب الدم في التقديم والتأخير ) من أصحاب الرأي قوله (( ارم ولا حرج )) على أنه أراد رفع الحرج في الإثم دون الفدية ، قال : وقد يجوز أن يكون هذا السائل مفردا فلا يلزمه دم ، وإذا كان متطوعا بالدم
رواه الترمذي .
( الفصل الثالث )
2682 – (4) عن أسامة بن شريك ، قال : خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجا ، فكان الناس يأتونه ، فمن قائل : يا رسول الله ! سعيت قبل أن أطوف ، أو أخرت شيئا أو قدمت شيئا . فكان يقول : " لا حرج ، إلا على رجل

(19/75)