الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج21.وج22.مرعاة المفاتيح {من 2626 الي2756}

 

21. مرعاة المفاتيح

فما من يوم ) قال الطيبي : جزاء شرط محذوف ( أكثر ) بالنصب خبر ما بمعنى ليس ، وقيل بالرفع على اللغة التميمية ( عتيقا ) تمييز ( من النار ) متعلق بعتيق ( من يوم عرفة ) متعلق بأكثر ( رواه ) أي البغوي ( في شرح السنة ) أي بسنده وأخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما والإسماعيلي في معجمه وأبو يعلى والبزار وابن منيع وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن عساكر وقاسم بن أصبع في مسنده والحاكم والبيهقي وابن أبي الدنيا بألفاظ متقاربة مختصرا ومطولا وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 3 : ص 253) من رواية أبي يعلى والبزار بزيادة فضل عشر ذي الحجة في أوله ، وقال : فيه محمد بن مروان العقيلي وثقه ابن معين وابن حبان ، وفيه بعض كلام ، وبقية رجاله رجال الصحيح – انتهى . وفي الباب عن أبي هريرة وابن عمر وأنس وعبد الله بن عمرو بن العاص ذكر أحاديثهم المنذري في الترغيب والطبري في القرى وعلي المتقي في الكنز والهيثمي في مجمع الزوائد .
( الفصل الثالث )
2626 – (11) عن عائشة ، قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وكان سائر العرب يقفون بعرفة ، فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي عرفات ، فيقف بها ثم يفيض منها ، فذلك قوله عز وجل ? ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ? .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/291)


2626 – قوله ( كانت قريش ومن دان دينها ) أي اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه واتخذ دينهم له دينا ( يقفون بالمزدلفة ) أي حين يقف الناس بعرفة . قال سفيان بن عيينة : وكان الشيطان قد استهواهم فقال لهم : إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم فكانوا لا يخرجون من الحرم . رواه الحميدي في مسنده (ج 1 : ص 255) ( وكانوا ) أي قريش ( يسمون الحمس ) بضم الحاء المهملة وسكون الميم بعدها سين مهملة جمع أحمس من الحماسة بمعنى الشدة . روى إبراهيم الحربي في غريب الحديث عن مجاهد قال : الحمس قريش ومن كان يأخذ مأخذها من القبائل كالأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وغزوان وبني عامر وبني صعصعة وبني كنانة إلا بني بكر ، والأحمس في كلام العرب الشديد ، وسموا بذلك لما شددوا على أنفسهم ، وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لا يأكلون لحما ولا يضربون وبرا ولا شعرا ، وإذا قدموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم ، وروى إبراهيم أيضا من طريق عبد العزيز بن عمران المدني قال : سموا حمسا بالكعبة لأنها حمساء في لونها ، حجرها أبيض يضرب إلى السواد – انتهى . والأول أشهر وأكثر وأنه من التحمس وهو التشدد . قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : تحمس تشدد ، ومنه حمس الوغى إذا اشتد . قال : كانت قريش إذا خطب إليهم الغريب اشترطوا عليه أن ولدها على دينهم فدخل في الحمس من غير قريش ثقيف وليث بن بكر وخزاعة وبنو عامر بن صعصعة يعني وغيرهم ، وعرف بهذا المراد بهذه القبائل من كانت له من أمهاته قرشية لا جميع القبائل المذكورة ، كذا في الفتح . وقيل سموا حمسا لشجاعتهم ، والحماسة الشجاعة ، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يفتخرون بشجاعتهم وجلادتهم مميزين أنفسهم عن جماعتهم وأهل جلدتهم ( وكان سائر العرب ) يعني بقيتهم ( يقفون بعرفة ) على العادة القديمة والطريقة المستقيمة ( أن يأتي عرفات ) هي علم للموقف والتاء ليست للتأنيث قاله الزمخشري . وقال الكرماني : التنوين عوض

(18/292)


من النون في الزيدين يعني أن التنوين للمقابلة لا للتمكن أي جيء به في مقابلة النون في جمع المذكر السالم ، وقد قيل كل بقعة فيها تسمى عرفة فهي جمع حقيقة ( ثم يفيض منها ) قال الطيبي : الإفاضة الزحف والدفع في السير وأصلها الصب ( من أفضت الماء إذا صببته بكثرة ) فاستعير للدفع في السير ، وأصله أفاض نفسه أو راحلته ثم ترك المفعول رأسا حتى صار كاللازم ( فذلك قوله عز وجل : ثم أفيضوا ) أي ادفعوا وارجعوا ( من حيث أفاض الناس ) أي عامتهم وهو عرفة . قال الترمذي : معنى هذا الحديث أن أهل مكة كانوا لا يخرجون من الحرم ، وعرفات خارج من .
متفق عليه .

(18/293)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحرم فأهل مكة كانوا يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن قطين الله يعنى سكان ( بيت ) الله ، ومن سوى أهل مكة كانوا يقفون بعرفات فأنزل الله تعالى ? ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ? (2 : 199) والحمس هم أهل الحرم – انتهى . قال السندي : قوله ? ثم أفيضوا ? أي أيها القريش ? من حيث أفاض الناس ? أي غيركم وهو عرفات والمقصود أي ارجعوا من ذلك المكان ، ولا شك أن الرجوع من ذلك المكان يستلزم الوقوف فيه ، لأنه مسبوق به فلزم من ذلك الأمر بالوقوف من حيث وقف الناس وهو عرفة . قال الحافظ : دل هذا الحديث على أن المراد بقوله تعالى ? ثم أفيضوا ? الإفاضة من عرفة ، وظاهر سياق الآية أنها الإفاضة من مزدلفة لأنها ذكرت بلفظة ثم بعد ذكر الأمر بالذكر عند المشعر الحرام ، وأجاب بعض المفسرين بأن الأمر بالذكر عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات التي سيقت بلفظ الخبر تنبيها على المكان الذي تشرع الإفاضة منه ، فالتقدير : فإذا أفضتم اذكروا ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس لا من حيث كان الحمس يفيضون ، أو التقدير : فإذا أفضتم من عرفات إلى المشعر الحرام فاذكروا الله عنده ، ولتكن إفاضتكم من المكان الذي يفيض فيه الناس غير الحمس ، ثم قال الحافظ : وأما الإتيان في الآية بقوله ثم فقيل هي بمعنى الواو وهذا اختيار الطحاوي ، وقيل لقصد التأكيد لا لمحض الثرتيب ، والمعنى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، ثم اجعلوا الإفاضة التي تفيضونها من حيث أفاض الناس لا من حيث كنتم تفيضون . قال الزمخشري : وموقع ثم ها هنا موقعها من قولك : أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم ، فتأتى ثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بين لهم مكان الإفاضة فقال (( ثم أفيضوا )) لتفاوت ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ . قال

(18/294)


الخطابي : تضمن قوله تعالى (( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ? (2 : 199 ) الأمر بالوقوف بعرفة ، لأن الإفاضة إنما تكون عند اجتماع قبله ، وكذا قال ابن بطال وزاد : وبين الشارع مبتدأ الوقوف بعرفة ومنتهاه – انتهى . وروى البخاري من حديث عروة عن عائشة قالت : إن هذه الآية نزلت في الحمس ? ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ? قالت : كانوا ( أي الحمس ) يفيضون من جمع فدفعوا إلى عرفات . قال الحافظ : المعنى أنهم أمروا أن يتوجهوا إلى عرفات ليقفوا بها ثم يفيضوا منها . قال : وعرف برواية عائشة أن المخاطب بقوله تعالى ? أفيضوا ? النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمراد به من كان لا يقف بعرفة من قريش وغيرهم . وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الضحاك أن المراد بالناس هنا إبراهيم الخليل عليه السلام وعنه المراد به الإمام وعن غيره آدم ، وقرئ في الشواذ الناسي بكسر السين بوزن القاضي والأول أصح ، نعم الوقوف بعرفة موروث عن إبراهيم كما روى الترمذي وغيره من طريق يزيد بن شيبان قال : كنا وقوفا بعرفة فأتى ابن مربع – الحديث ، وقد تقدم . ولا يلزم من ذلك أن يكون هو المراد خاصة بقوله ? من حيث أفاض الناس ? بل هو الأعم من ذلك والسبب فيه ما حكته عائشة رضي الله عنها ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي تفسير سورة البقرة ، ومسلم في الحج وأخرجه أيضا فيه
2627 – (12) وعن عباس بن مرداس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة فأجيب : " أني قد غفرت لهم ما خلا المظالم ، فإني آخذ للمظلوم منه " . قال : " أي رب ! إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم " . فلم يجب عشيته ، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء ، فأجيب إلى ما سأل . قال : فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو قال : تبسم . فقال له أبو بكر وعمر : بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/295)


الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة . قال البوصيري في الزوائد : الحديث موقوف ولكن حكمه الرفع لأنه في شأن نزوله .
2627- قوله ( وعن عباس بن مرداس ) بكسر الميم هو العباس بن مراداس بن أبي عامر أبو الهيثم ويقال أبو الفضل السلمي الشاعر الصحابي المشهور ، أسلم قبل فتح مكة بيسير ، وقيل : أسلم بعد يوم الأحزاب ، وعداده في المؤلفة قلوبهم وحسن إسلامه ، وشهد فتح مكة وحنينا ، وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية ونزل ناحية البصرة . قال الحافظ في تهذيب التهذيب : روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنه ابنه كنانة وعبد الرحمن بن أنس السلمي ، روى له أبو داود وابن ماجه حديثا واحدا في يوم عرفة – انتهى ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا لأمته ) قال القاري : الظاهر لأمته الحاجين معه مطلقا . لا مطلق الأمة فتأمل . وقال السندي : قوله " لأمته " أي لمن معه في حجه ذلك أو لمن حج من أمته إلى يوم القيامة أو لأمته مطلقا من حج أو لم يحج ( عشية عرفة ) أي وقت الوقفة ( بالمغفرة ) أي التامة ( فأجيب أني ) أي بأني . قال السندي : بفتح الهمزة أي أجابه الله بأني قد غفرت أو بكسرها أي أجابه قائلا : إني قد غفرت ( ما خلا المظالم ) أي ما عدا حقوق الناس جمع مظلمة بكسر اللام وفتحها وهي ما تطلبه من عند الظالم مما أخذه منك بغير حق ، وهي في الأصل مصدر بمعنى الظلم ، وقيل جمع مظلم بكسر اللام والمظالم أعم من أن تكون مالية وعرضية ( فإني آخذ ) بصيغة المتكلم أو الفاعل ( للمظلوم منه ) أي من الظالم إما بالعذاب وإما بأخذ الثواب إظهارا للعدل ( أعطيت ) أي من عندك ( المظلوم من الجنة ) أي ما يرضيه منها أو بعض مراتبها العلية . وقال السندي : ظاهره أنه سأل مغفرة مظالم المؤمنين بخلاف مظالم أهل الذمة إلا أن يقال : قوله " من الجنة " أي مثلا أو تخفيف العذاب والله تعالى أعلم الصواب ( وغفرت للظالم ) فضلا ( فلم يجب ) بصيغة المجهول

(18/296)


والضمير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( عشيته ) أي في عشية عرفة ، والتذكير باعتبار الزمان أو المكان . ويمكن أن يكون الضمير راجعا إليه - صلى الله عليه وسلم - ، فالإضافة لأدني ملابسة ، قاله القاري ( فلما أصبح بالمزدلفة ) أي ووقف بها ( أعاد الدعاء ) أي المذكور ( فأجيب إلى ما سأل ) أي ما طلبه على وجه العموم . قيل إلى بمعني اللام ويمكن أن يكون لضمين معنى الرجوع والوصول . قال القاري : وكان العباس سمع هذه الأمور منه - صلى الله عليه وسلم - فرواها كأنه علمها ( قال ) أي العباس ( فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال : تبسم ) أو للشك من الراوي عن العباس لقوله قال ( ما كنت تضحك فيها ) أي من شأنها أن لا تضحك فيها ، أو المراد في مثلها مما تبكي وتتضرع فيه
فما الذي أضحكك ، أضحك الله سنك . قال : " إن عدو الله إبليس لما علم أن الله عز وجل قد استجاب دعائي وغفر لأمتي ، أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ، ويدعو بالويل والثبور ، فأضحكني ما رأيت من جزعه " .

(18/297)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وإلا لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الساعة قبل ، لأنه لم يحج إلا أول حجها ، وإن قيل إنه - صلى الله عليه وسلم - قد حج قبل عهد الإسلام فأبو بكر وعمر لم يرياه ، كذا في اللمعات ( أضحك الله سنك ) أي أدام الله لك السرور الذي سبب ضحكك ( فجعل يحثوه على رأسه ) أي يلقي التراب بكفيه على رأسه ( ويدعو بالويل ) أي العذاب ( والثبور ) بضم الثاء أي الهلاك يعني يقول : وا ويلاه ويا ثبوراه . قال الطيبي : كل من وقع في تهلكة دعا بالويل والثبور أي يا هلاكي وعذابي احضر فهذا أوانك . وقال الطبري : الويل الحزن والهلاك المشقة وكل من وقع في هلكة دعا بالويل ، ومعنى النداء فيه يا حزني ويا عذابي ويا هلاكي احضر فهذا وقتك ، فكأنه نادى الويل أن يحضره بما عرض له ، والثبور هو الهلاك ، وقد ثبر يثبر ثبورا إذا هلك ( فأضحكني ما رأيت من جزعه ) أي مما صدر من فضل ربي على رغمه . قال القاري : وظاهر الحديث عموم المغفرة وشمولها حق الله وحق العباد إلا أنه قابل للتقييد بمن كان معه - صلى الله عليه وسلم - في تلك السنة ( يعني المراد من الأمة هم الواقفون معه - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ) أو بمن قبل حجه بأن لم يرفث ولم يفسق . ومن جملة الفسق الإصرار على المعصية وعدم التوبة ، ومن شرطها أداء حقوق الله الفائتة كالصلاة والزكاة وغيرهما وقضاء حقوق العباد المالية والبدنية والعرضية اللهم إلا أن يحمل على حقوق لم يكن عالما بها أو يكون عاجزا عن أدائها . قال : ولا تغتر بكون هذا الحديث مجملا مع اعتقاد أن فضل الله واسع ، وقد قال تعالى ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? (4 : 48 ، 116)?ولذا قال عليه الصلاة والسلام : أي رب إن شئت ، فما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون . ثم قال القاري بعد ذكر الكلام في هذا الحديث وما ورد في معناه

(18/298)


من الروايات قال : بعضهم إذا تأملت ذلك كله علمت أنه ليس في هذه الأحاديث ما يصلح متمسكا لمن زعم أن الحج يكفر التبعات لأن الحديث ضعيف ، على أنه ليس نصا في المدعى لاحتماله ومن ثمة قال البيهقي : يحتمل أن تكون الإجابة إلى المغفرة بعد أن يذيقهم شيئا من العذاب دون ما يستحقه فيكون الخبر خاصا في وقت دون وقت ، يعني ففائدة الحج حينئذ التخفيف من عذاب التبعات في بعض الأوقات دون النجاة بالكلية ، ويحتمل أن يكون عاما ونص الكتاب يدل على أنه مفوض إلى مشيئته تعالى . وحاصل هذا الأخير أنه بفرض عمومه محمول على أن تحمله تعالى التبعات من قبيل ? ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? وهذا لا تكفير فيه وإنما يكون فاعله تحت المشيئة فشتان ما بين الحكم بتكفير الذنوب وتوقفه على المشيئة ولذا قال البيهقي : فلا ينبغي لمسلم أن يغر نفسه بأن الحج يكفر التبعات فإن المعصية شؤم ، وخلاف الجبار في أوامره ونواهيه عظيم . قال : وهذا لا ينافي
رواه ابن ماجة ، وروى البيهقي في كتاب البعث والنشور نحوه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/299)


قول ابن المنذر فيمن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه : إن هذا عام يرجى أن يغفر له جميع ذنوبه صغائرها وكبائرها ، وإنما الكلام في الوعد الذي لا يخلف – انتهى . ( رواه ابن ماجة ) أي بهذا اللفظ من طريق عبد القاهر بن السري السلمي عن عبد الله بن كنانة ( بكسر كاف وبنونين بينهما ألف وأولاهما خفيفة ) بن عباس بن مرداس السلمي عن أبيه كنانة عن جده عباس ( وروى البيهقي في كتاب البعث والنشور نحوه ) أي بمعناه ، وكذا رواه في شعب الإيمان وفي السنن الكبرى (ج 5 : ص 118) ورواه أيضا عبد الله بن أحمد في زوائد المسند لأبيه (ج 4 : ص 14) والطبراني في الكبير وأخرج أبو داود في كتاب الأدب من سننه طرفا منه من الوجه الذي رواه ابن ماجة لكنهم قالوا حدثني ابن لكنانة بن العباس ولم يسموه عن أبيه عن جده عباس ، وعبد الله بن كنانة بن عباس ، قال الحافظ في التقريب في كليهما أنه مجهول . وذكر في تهذيب التهذيب في ترجمتهما عن البخاري أنه قال : لم يصح حديثه . وقال في ترجمة كنانة بعد ذكر كلام البخاري هذا : وذكره ابن حبان في الثقات ، وذكره أيضا في كتاب الضعفاء قال : حديثه منكر جدا لا أدرى التخليط منه أو من ابنه ومن أيهما كان فهو ساقط الاحتجاج به – انتهى . وقال البوصيري في الزوائد : في إسناده عبد الله بن كنانة قال البخاري : لم يصح حديثه – انتهى . ولم أر من تكلم بجرح ولا توثيق – انتهى . والحديث سكت عنه أبو داود بعد رواية طرف منه من الوجه المذكور ، ونقل المنذري في مختصر السنن (8 / 97) كلام ابن حبان وزاد : " لعظم ما أتى من المناكير عن المشاهير " . وقد ظهر بهذا كله أن حديث عباس هذا ضعيف لكن له شواهد يبلغ بها إلى درجة الحسن . قال في المواهب اللدنية بعد ذكر حديث عباس بن مرداس من رواية ابن ماجة : ورواه أبو داود من الوجه الذي رواه ابن ماجة ولم يضعفه . قال الزرقاني : أي سكت عليه فهو عنده صالح للحجة ، وقد

(18/300)


أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين من طرق وقد صنف الحافظ ابن حجر فيه كراسا سماه " قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج " . قال في أوله : إنه سئل عن حال هذا الحديث هل هو صحيح أو حسن أو ضعيف أو منكر أو موضوع ؟ قال : فأجبت بأنه جاء من طرق أشهرها حديث عباس بن مرداس فإنه مخرج في مسند أحمد ، وأخرج أبو داود طرفا منه وسكت عليه ، فهو عنده صالح . وعلى رأى ابن الصلاح ومن تبعه حسن ، وعلى رأى الجمهور كذلك ، لكن باعتبار انضمام الطرق الأخرى إليه ، ثم قال الحافظ أثناء كلامه . حديث العباس بمفرده يدخل في حد الحسن على رأى الترمذي ولا سيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق لطرق ذكرها ، قال : وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من حديث ابن مرداس ، وقال : فيه كنانة منكر الحديث جدا لا أدرى التخليط منه أو من ولده . وهذا لا ينتهض دليلا على أنه موضوع فقد اختلف قول ابن حبان في كنانة فذكره في الثقات وفي الضعفاء ، وذكر ابن مندة أنه قيل إن له رؤية منه
...............................................................................................

(18/301)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - ، وأما ولده عبد الله بن كنانة ففيه كلام لابن حبان أيضا وكل ذلك لا يقتضي وضعه ، بل غايته أن يكون ضعيفا ويتعضد بكثرة طرقه ، وأورد حديث ابن عمر في الموضوعات أيضا وقال : فيه عبد العزيز بن أبي رواد ، تفرد به نافع عن ابن عمر ، قال ابن حبان : كان يحدث على التوهم والحسبان فبطل الاحتجاج به وهو مردود فإنه لا يقضي أنه موضوع مع أنه لم ينفرد به ، بل له متابع عند ابن حبان في كتاب الضعفاء ، هذا كلام الحافظ ملخصا وهو كلام متقن إمام في الفن فلا عليك ممن أطلق عليه اسم الضعيف الذي لا يحتج به . وقال الطبري بعد روايته حديث ابن عمر : إنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها مع العزم على أنه يوفي إذا قدر ما يمكن توفيته . وقد رواه أي حديث العباس بن مرداس البيهقي في السنن الكبرى بنحو رواية ابن ماجة وكذا الطبراني في الكبير وعبد الله أحمد في زوائد المسند لأبيه وابن عدي وصححه الضياء كما مر . وقد قالوا إن تصحيحه أعلى من تصحيح الحاكم . وقال البيهقي بعد أن أخرجه في كتاب البعث : هذا الحديث له شواهد كثيرة ، فأخرجه عبد الرزاق والطبراني من حديث عبادة بن الصامت وأبو يعلى وابن منيع من حديث أنس وابن جرير وأبو نعيم وابن حبان من حديث ابن عمر والدارقطني وابن حبان من حديث أبي هريرة وابن مندة من حديث عبد الله بن زيد ( ذكر رواياتهم الحافظ في مؤلفه بنحو حديث عباس بن مرداس ) وارجع إلى تنزيه الشريعة لابن عراق (ج 2 : ص 169 ، 170) والقول المسدد (ص 37 – 40 ) فإن صح بشواهده فقيه الحجة وإن لم يصح فنحن في غنية عن تصحيحه فقد قال الله تعالى ? ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? وظلم بعضهم بعضا دون الشرك فيدخل في الآية – انتهى . وهو حسن ، وفي الحديث الصحيح : من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ، وهو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بالحقوق ولا تسقط

(18/302)


الحقوق أنفسها ، فمن كان عليه صلاة أو صيام أو زكاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله أو شيء من حقوق العباد لا تسقط عنه لأنها حقوق لا ذنوب ، إنما الذنب تأخيرها فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي نفسها ، فلو أخره ، بعد الحج تجدد إثم آخر ، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق ؛ ولا يسقط حق الآدمي بالحج إجماعا والله أعلم ، كذا في شرح المواهب ، وقال ابن عابدين : قد يقال بسقوط نفس الحق إذا مات قبل القدرة على أدائه سواء كان حق الله تعالى أو حق عباده وليس في تركته ما بقي به لأنه إذا سقط إثم التأخير ولم يتحقق منه إثم بعده فلا مانع من سقوط نفس الحق ، أما حق الله تعالى فظاهر ، وأما حق العبد فالله تعالى يرضي خصمه عنه كما مر في الحديث . ثم قال : اعلم أن تجويزهم تكفير الكبائر بالهجرة والحج مناف لنقل عياض الإجماع على أنه لا يكفرها إلا التوبة ، ولا سيما على القول بتكفير المظالم أيضا ، بل القول بتكفير إثم المطل وتأخير الصلاة ينافيه لأنه كبيرة ، وقد كفرها الحج بلا توبة ، وكذا ينافيه عموم قوله تعالى ? ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? وهو اعتقاد أهل الحق أن مات مصرا على الكبائر كلها سوى الكفر فإنه قد يعفى بشفاعة أو بمحض الفضل ، والحاصل كما في البحر أن المسألة ظنية فلا يقطع بتكفير الحج للكبائر من حقوقه تعالى فضلا عن حقوق العباد والله تعالى أعلم – انتهى . وقال القاري بعد ذكر كلام البيهقي :
(5) باب الدفع من عرفة والمزدلفة
( الفصل الأول )
2628 - (1) عن هشام بن عروة عن أبيه ، قال : سئل أسامة بن زيد : كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في حجة الوداع حين دفع ؟ قال : كان يسير العنق فإذا وجد فجوة

(18/303)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولا يخفى أن الأحاديث الصحيحة الصريحة لا تكون إلا ظنية فما بالك بالأحاديث الضعيفة ؟ ولا شك أن المسائل الاعتقادية لا تثبت إلا بالأدلة القطعية رواية ودراية ، نعم يغلب على الظن رجاء عموم المغفرة لمن حج حجا مبرورا ، وأين من يجزم بذلك في نفسه أو غيره وإن كان عالما أو صالحا في علو مقامه هنالك ، فمن المعلوم أن غير المعصوم يجب أن يكون بين الخوف والرجاء – انتهى .
( باب الدفع من عرفة ) أي الرجوع منها ( والمزدلفة ) عطف على الدفع ، أي والنزول فيها ، وفي بعض النسخ " إلى المزدلفة " ويجوز عطفه على عرفة أي وباب الدفع من المزدلفة ويؤيده نسخة " ومن المزدلفة إلى منى " .

(18/304)


2628- قوله ( عن هشام بن عروة ) هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام أبو المنذر القرشي الأسدي المدني أحد تابعي المدينة المشهورين المكثرين من الحديث المعدودين في أكابر العلماء وجلة التابعين ، ثقة ثبت حجة أمام فقيه ، رأي ابن عمر ومسح رأسه ودعا له ، وسهل بن سعد وجابر وأنسا ، وروى عن أبيه وعمه عبد الله بن الزبير وأخويه عبد الله وعثمان وامرأته فاطمة بنت المنذر بن الزبير وخلق ، وروى عنه خلق كثير منهم شعبة ومالك بن أنس والسفيانان والحمادان . ولد سنة إحدى وستين ومائة ، ومات ببغداد سنة خمس أو ست وأربعين ومائة ، وله سبع وثمانون سنة ( عن أبيه ) عروة بن الزبير بن العوام الأسدي أحد الفقهاء السبعة وأحد علماء التابعين تقدم ترجمته ( سئل أسامة بن زيد ) ابن حارثة بن شراحيل الكلبي الصحابي المشهور ، حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومولاه وابن حبه زيد بن حارثة تقدم ترجمته ، وخص بالسؤال لأنه كان رديفه - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى المزدلفة ، وزاد في رواية مالك والبخاري وأبي داود وغيرهم " وأنا جالس معه " ولمسلم " سئل أسامة وأنا شاهد أو قال : سألت أسامة بن زيد " ولم يتعرض أحد من الشراح لتسمية السائل ( حين دفع ) أي حين انصرف من عرفة إلى المزدلفة ، سمي دفعا لازدحامهم إذا انصرف فيدفع بعضهم بعضا ( قال ) أي أسامة ( كان يسير العنق ) بفتح المهملة والنون آخره قاف هو السير الذي بين الإبطاء والإسراع ، قال في المشارق : هو سير سهل في سرعة ، وقال القزاز : العنق سير سريع ، وقيل المشي الذي يتحرك به عنق لدابة ، وفي الفائق العنق الخطو الفسيح ، وانتصب على المصدر المؤكد من لفظ الفعل كذا في الفتح ، وقال السيوطي : نصبه على المصدر النوعي كرجعت القهقري . وقال القاري : انتصابه على المصدرية انتصاب القهقري أو الوصفية أي يسير السير العنق ( فإذا وجد فجوة )
نص . متفق عليه .

(18/305)


2629 – (2) وعن ابن عباس ، أنه دفع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة ، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل ، فأشار بسوطه إليهم ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بفتح الفاء وسكون الجيم فواو مفتوحة ، والمكان المتسع بين الشيئين والجمع فجوات بفتحتين وفجاء بكسر الفاء والمد ، ورواه بعض الرواة في الموطأ بلفظ " فرجة " بضم الفاء وسكون الواو وهو بمعنى الفجوة ( نص ) بفتح النون وتشديد الصاد المهلة فعل ماض وفاعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أي أسرع ، قال أبو عبيد : النص تحريك الدابة حتى يستخرج به أقصى ما عندها ، وأصل النص منتهى الأشياء وغايتها ومبلغ أقصاها ، ومنه نصصت الشيء رفعته . قال الشاعر :
-
-
ونص الحديث إلى أهله _ -
-
فإن الوثيقة في نصه ( -
-

(18/306)


أي أرفعه إليهم وأنسبه ، ثم استعمل في ضرب سريع من السير ، وقال هشام بن عروة راوي الحديث كما في رواية البخاري وغيره : النص فوق العنق أي أرفع منه في السرعة . قال النووي : هما نوعان من إسراع السير وفي العنق نوع من الرفق . قال الطبري : وفي هذا دلالة على أن السكينة المأمور بها في الحديث بعده إنما هي من أجل الرفق بالناس ، فإن لم يكن زحام سار كيف شاء ، وذكر العيني عن الطبري أنه قال : الصواب في السير في الإفاضتين جميعا ما صحت به الآثار إلا في وادي محسر فإنه يوضع لصحة الحديث بذلك فلو أوضع أحد في مواضع العنق أو العكس لم يلزمه شيء لإجماع الجميع على ذلك غير أنه يكون مخطئا طريق الصواب . وقال ابن خزيمة : في هذا الحديث دليل على أن الحديث الذي رواه ابن عباس عن أسامة ( عند أبي داود وغيره ) أنه قال : فلما رأيت ناقته رافعة يديها حتى أتى جمعا . محمول على حال الزحام دون غيره ، ذكره الحافظ . وقال ابن عبد البر : ليس في هذا الحديث أكثر من معرفة كيفية السير في الدفع من عرفة إلى المزدلفة وهو مما يلزم أتمة الحاج فمن دونهم فعله لأجل الاستعجال للصلاة لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة أي فيجمع بين المصلحتين من الوقار والسكينة عند الزحمة ومن الإسراع عند عدمها لأجل الصلاة ، فيه أن السلف كانوا يحرصون على السؤال عن كيفية أحواله - صلى الله عليه وسلم - في جميع حركاته وسكونه ليقتدوا به في ذلك ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي المغاري ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 5 : ص 205 ، 210 ) ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحميدي (ج 1 : ص 248 ) والدارمي وأبو داود الطيالسي وابن خزيمة في صحيحة وأبو عوانة وابن جرير والبيهقي (ج 5 : ص 119 ) .

(18/307)


2629- قوله ( دفع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي أفاض معه ( يوم عرفة ) أي من عرفة إلى المزدلفة ( زجرا ) بفتح الزاي وسكون الجيم بعدها راء أي صياحا لحث الإبل وسوقا لها برفع الأصوات ( فأشار بسوطه إليهم ) ليتوجهوا إليه ويسمعوا
وقال : " أيها الناس عليكم بالسكينة ، فإن البر ليس بالإيضاع " . رواه البخاري .
2630 – (3) وعنه ، أن أسامة بن زيد كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى المزدلفة ، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى ، فكلاهما قال : لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/308)


قوله ( عليكم بالسكينة ) أي في السير ، والمراد السير بالرفق وعدم المزاحمة ، يعني لازموا الطمأنينة والرفق وعدم المزاحمة في السير ، وعلل ذلك بقوله ( فإن البر ) أي الخير ( ليس بالإيضاع ) الإيضاع الإسراع وحمل الخيل والركاب على سرعة السير ، يعني الإسراع ليس من البر إذا كثر الناس في الطريق ، فإن الإسراع في مثل هذه الحالة أي عند ازدحام الناس في الطريق يؤذيهم بصدمة الدواب والرجال ، ولا خير في هذا بل الخير في الذهاب على السكون في مثل هذه الحالة . وقال الحافظ : قوله (( فإن البر ليس بالإيضاع )) أي السير السريع ، ويقال هو سير مثل الخبب فبين - صلى الله عليه وسلم - أن تكلف الإسراع في السير ليس من البر أي مما يتقرب به ، ومن هذا أخذ عمر بن عبد العزيز قوله لما خطب بعرفة : ليس السابق من سبق بعيره وفرسه ولكن السابق من غفر له . وقال المهلب : إنما نهاهم عن الإسراع إبقاء عليهم لئلا يجحفوا بأنفسهم مع بعد المسافة . وقيل إنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك أي قوله (( عليكم بالسكينة )) في ذلك الوقت الذي لم يجد فجوة فلا ينافي الحديث السابق . وقال القاري : حاصل ما قال - صلى الله عليه وسلم - أن المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إلى المبرات مطلوبة لكن لا على وجه يجر إلى المكروهات وما يترتب عليه من الأذيات ، فلا تنافي بينه وبين الحديث السابق ( رواه البخاري ) وكذا البيهقي (ج 5 : ص 119) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 251، 269 ، 353 ) وأبو داود والبيهقي بنحوه .

(18/309)


2630- قوله ( وعنه ) أي عن ابن عباس ( أن أسامة بن زيد كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - ) بكسر الراء وسكون الدال وهو الراكب خلف الراكب كالرديف والمرتدف ( ثم أردف الفضل ) أي ابن عباس يعني جعله رديفه ( فكلاهما ) كذا في جميع النسخ من المشكاة ، وفي البخاري (( قال ( أي ابن عباس ) فكلاهما )) أي الفضل بن عباس وأسامة بن زيد ( قال ) الضمير راجع للفظ فإن (( كلا )) مفرد لفظا ومثنى معنى وهو أفصح من أن يقال فكلاهما قالا ، قال تعالى ? كلتا الجنتين آتت أكلها ? (18 : 33) أو المعنى كل واحد منهما قال ( لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة ) أي شرع في رمي الجمرة أو فرغ منه قولان ، ويؤيد الثاني ما وقع في رواية ابن خزيمة كما سيأتي : فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ، يكبر مع كل حصاة ، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة . ويؤيد الأول ما رواه البيهقي بإسناده عن عبد الله قال : (( رمقت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة )) . قال الحافظ : زاد ابن أبي شيبة من طريق علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل في هذا الحديث (( فرماها سبع حصيات يكبر مع كل حصاة )) . قال الحافظ : وفي هذا الحديث يعني حديث ابن عباس الذي نحن في شرحه أن التلبية تستمر إلى رمي الجمرة يوم النحر وبعدها يشرع الحاج في التحلل ، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح أنه كان يقول : التلبية شعار الحج فإن كنت حاجا فلب حتى بدأ حلك وبدء حلك أن ترمي جمرة العقبة . وروى سعيد بن
...............................................................................................

(18/310)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منصور من طريق ابن عباس قال : حججت مع عمر إحدى عشرة حجة وكان يلبي حتى يرمي الجمرة ، وباستمرارها قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وأتباعهم ، وقالت طائفة : يقطع المحرم التلبية إذا دخل الحرم وهو مذهب ابن عمر لكن كان يعاود التلبية إذا خرج من مكة إلى عرفة ، وقالت طائفة : يقطعها إذا راح الموقف ، رواه ابن المنذر وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة عن عائشة وسعد بن أبي وقاص وعلي ، وبه قال مالك وقيده بزوال الشمس يوم عرفة ، وهو قول الأوزاعي والليث ، وعن الحسن البصري مثله لكن قال : إذا صلى الغداة يوم عرفة وهو بمعنى الأول ، وقد روى الطحاوي بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن يزيد قال : حججت مع عبد الله فلما أفاض إلى جمع جعل يلبي فقال رجل : أعرابي هذا ؟ فقال عبد الله : أنسي الناس أم ضلوا ؟ وأشار الطحاوي إلى أن كل من روى عنه ترك التلبية من يوم عرفة أنه تركها للاشتغال بغيرها من الذكر لا على أنها لا تشرع ، وجمع بذلك بين ما اختلف من الآثار ، والله اعلم . واختلفوا أي الأولون : هل يقطع التلبية مع رمي أول حصاة أو عند تمام الرمي ؟ فذهب إلى الأول الجمهور ، وإلى الثاني أحمد وبعض أصحاب الشافعي ، ويدل لهم ما روى ابن خزيمة من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل قال : أفضت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفات فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة ثم قطع التلبية مع آخر حصاة ، قال ابن خزيمة : هذا حديث صحيح مفسر لما أبهم في الروايات الأخرى . وأن المراد بقوله حتى رمى جمرة العقبة أي أتم رميها – انتهى كلام الحافظ . قال الشوكاني : والأمر كما قال ابن خزيمة ، فإن هذه الزيادة مقبولة خارجة من مخرج صحيح غير منافية للمزيد وقبولها متفق عليه – انتهى . قلت : لكن قال البيهقي في السنن الكبرى (ج 5 : ص 137) بعد ذكر رواية جابر بلفظ ((

(18/311)


فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها )) تكبيرة مع كل حصاة كالدلالة على قطعه التلبية بأول حصاة ، وكذا قال في معرفة السنن . قال : وقوله (( يلبي حتى رمى الجمرة )) أراد به حتى أخذ في رمي الجمرة وأما ما في رواية الفضل من الزيادة فإنها غريبة أوردها ابن خزيمة واختارها وليست في الروايات المشهورة عن ابن عباس عن الفضل بن عباس - انتهى . واعترض عليه ابن التركماني فقال : الغريب إذا صح سنده يعمل به . وقد أخرج ابن حزم هذا الحديث في كتاب حجة الوداع بسند جيد من حديث أبي الزبير عن أبي معبد مولى ابن عباس (1) . عن الفضل ، ولفظه (( ولم يزل عليه السلام يلبي حتى أتم رمي جمرة العقبة )) ، وهذا صريح وهو يقوي الرواية التي رواها ابن خزيمة واختارها . ويدل على أنها ليست بغريبة ، والعجب من البيهقي كيف يترك هذا الصريح ويستدل بقوله (( يكبر )) على قطع التلبية لأول حصاة مع أن التكبير لا يمنع التلبية ، إذ الحاج له أن يكبر ويلبي ويهلل ، وقد بين ذلك ابن مسعود بقوله (( فما ترك التلبية حتى رمى الجمرة إلا أن يخلطها بتكبير أو تهليل )) . وقال أبو عمر في التمهيد : قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل النظر والأثر : لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة بأسرها .
متفق عليه .
2631 – (4) وعن ابن عمر ، قال : جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب والعشاء بجمع ، كل واحدة منهما بإقامة ،
__________
(1) كذا وكأنه سقط (( عن ابن عباس )) .

(18/312)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قالوا : وهو ظاهر الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة ، ولم يقل أحد من رواة هذا الحديث (( حتى رمى بعضها )) على أنه قد قال بعضهم في حديث عائشة : ثم قطع التلبية في آخر حصاة . وفي الإشراف لابن المنذر : وروى بعض أصحابنا ممن يقول بظاهر الأخبار خبر ابن عباس ، ثم قال : قطع التلبية مع آخر حصاة – انتهى كلام ابن التركماني . وقال الشنقيطي : الأظهر أنه يقطع التلبية عند الشروع في رمي العقبة وأن قوله (( حتى رمى جمرة العقبة )) يراد به الشروع في رميها لا الانتهاء منه ، ومن القرائن الدالة على ذلك ما ثبت في الروايات الصحيحة من التكبير مع كل حصاة ، فظرف الرمي لا يستغرق غير التكبير مع الحصاة لتتابع رمي الحصيات ، وقال بعد ذكر قول ابن خزيمة المتقدم : وعلى تقدير صحة الزيادة المذكورة لا ينبغي العدول عنها . تنبيه : ما حكى الحافظ وابن عبد البر وغيرهما من الشراح ونقلة المذاهب كالنووي والعيني عن الإمام أحمد من قطع التلبية عند انتهاء الرمي والفراغ منه هي رواية عنه مرجوحة ، لأن عامة فروعه مصرحة بقطعها مع أول حصاة موافقا للجمهور ، ففي نيل المآرب : تسن التلبية من حين الإحرام إلى أول الرمي أي رمي جمرة العقبة – انتهى . وقريب منه ما في الروض المربع . وقال في العدة شرح العمدة : ويقطعها عند أول حصاة يرميها لأنه قد روى في بعض ألفاظ حديث ابن عباس (( فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة قطع عند أول حصاة )) . رواه حنبل في المناسك – انتهى . وفي المغني والشرح الكبير تحت قول الخرقي : ويقطع التلبية عند ابتداء الرمي ، وممن قال يلبي حتى يرمي الجمرة ابن مسعود وابن عباس وميمونة ، وبه قال عطاء وطاوس وسعيد بن جبير والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لرواية الفضل بن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة وكان

(18/313)


ردفيه يومئذ ، وهو أعلم بحاله من غيره ، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على ما خالفه . ويستحب قطع التلبية عند أول حصاة للخبر ، وفي بعض ألفاظه (( حتى رمى جمرة العقبة ، قطع عند أول حصاة )) ، رواه حنبل في المناسك . وهذا بيان يتعين الأخذ به . وفي رواية من روى (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر مع كل حصاة )) دليل على أنه لم يكن يلبي – انتهى مختصرا . ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 214) ورواه هو مرارا وأبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ مختصرا ومطولا وارجع إلى جامع الأصول (ج 4 : ص 88) .
2631 – قوله ( جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب والعشاء بجمع ) أي بالمزدلفة في وقت العشاء ( كل واحدة منهما ) بالرفع على الجملة الحالية وبالنصب على البدلية ( بإقامة ) قال القاري : أي على حدة ، وبه قال زفر ، واختاره الطحاوي وغيره من علمائنا . قلت : ورجحه ابن الهمام وقال الطحاوي بعد اختياره هذا القول : وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف
ولم يسبح بينهما ولا على إثر كل واحدة منهما . رواه البخاري .
2632 – (5) وعن عبد الله بن مسعود ، قال : ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة إلا لميقاتها ، إلا صلاتين : صلاة المغرب والعشاء بجمع ،

(18/314)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ومحمد ، وذلك أنهم يذهبون في الجمع بين الصلاتين بمزدلفة إلى أن يجعلوا ذلك بأذان وإقامة واحدة – انتهى . ولم يذكر في حديث ابن عمر هذا الأذان وهو ثابت في حديث جابر وفي حديث ابن مسعود فلا بد من القول به وقد تقدم البسط في ذلك في شرح حديث جابر الطويل ( ولم يسبح بينهما ) أي لم يتنفل بين صلاة المغرب والعشاء ( ولا على إثر كل واحدة منهما ) بكسر الهمزة وسكون المثلثة بمعنى أثر بفتحتين أي ولا عقب كل واحدة منهما ، لا عقب الأولى ولا عقب الثانية ، وهذا تأكيد بالنظر إلى الأولى تأسيس بالنظر إلى الثانية فليتأمل قاله السندي ( رواه البخاري ) وكذا النسائي والبيهقي (ج 5 : ص 120) وأخرج مسلم معناه ، ولذا ذكره الحافظ عبد الغني في عمدته في ما اتفق عليه الشيخان ، فالحديث متفق عليه .

(18/315)


2632 – قوله ( ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة إلا لميقاتها ) أي في وقتها ، وفي رواية (( ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لغير ميقاتها )) ( إلا صلاتين صلاة المغرب ) نصبه على البدلية أو بتقدير أعني أي أعني بهما صلاة المغرب ( والعشاء يجمع ) قال القاري : أي صلاة المغرب في وقت العشاء أي وصلاة الظهر والعصر بعرفة فإنه صلى العصر في وقت الظهر ولعله روى هذا الحديث بمزدلفة ، ولذا اكتفى عن ذكر الظهر والعصر ، فلا بد من تقديرهما أو ترك ذكرهما لظهورهما عند كل أحد ، إذا وقع ذلك الجمع في مجمع عظيم في النهار على رؤوس الأشهاد فلا يحتاج إلى ذكره في الاستشهاد بخلاف جمع المزدلفة ، فإنه بالليل ، فاختص بمعرفته بعض الأصحاب ، والله تعالى اعلم . والحاصل أن في العبارة مسامحة وإلا فلا يصح قوله (( إلا الصلاتين )) المراد بهما المغرب والعشاء سواء اتصل الاستثناء كما هو ظاهر الأداة أو انقطع كما بنى عليه ابن حجر البناء ، فإن صلاة العشاء في ميقاتها المقدر شرعا إجماعا – انتهى كلام القاري . وقال الولي العراقي : قوله (( صلاة المغرب والعشاء بجمع )) أي وكذا بعرفات أيضا في الظهرين كما عند النسائي ( أي في باب الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ) عن ابن مسعود (( ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع وعرفات )) فلم يحفظ راوي هذه الرواية ذكر عرفات وحفظه غيره ، والحافظ حجة على الناسي – انتهى . وحينئذ فالمراد بقوله (( إلا صلاتين )) المغرب بمزدلفة فإنها أخرت والعصر بعرفة فإنها قدمت ، فهاتان الصلاتان قد وقع فيهما التحويل عن وقتي أدائهما المعهودين في غير هذا اليوم حقيقة ثم استطرد بذكر الفجر لأنه متحولا أيضا عن وقته المستحب المعتاد في سائر الأيام وإن كان لم يتحول عن وقته الأصلي . وقال السندي في حاشية النسائي : هذا الحديث من مشكلات الأحاديث وقد

(18/316)


..............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تكلمت عليه في حاشية صحيح البخاري ( في باب من يصلي الفجر بجمع ) والصحيح في معناه أن مراده ما رأيته - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لغير وقتها المعتاد لقصد تحويلها عن وقتها المعتاد وتقريرها في غير وقتها المعتاد لما في صحيح البخاري من روايته رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان . وهذا معنى وجيه ، ويحمل قوله (( قبل ميقاتها )) على هذا على الميقات المعتاد ، ويقال إنه غلس تغليسا شديدا يخالف التغليس المعتاد ، لا أنه صلى قبل أن يطلع الفجر فقد جاء في حديثه وحديث غيره أنه صلى بعد طلوع الفجر ، وعلى هذا المعنى لا يرد شيء سوى الجمع بعرفة ، ولعله كان يرى ذلك للسفر ، والله أعلم – انتهى . واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود هذا على ترك الجمع بين الصلاتين في غير يوم عرفة وجمع ، وأجاب المجوزون بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وقد ثبت الجمع بين الصلاتين من حديث ابن عمر وابن عباس وغيرهم وتقدم في موضعه ما فيه كفاية ، وأيضا فالاستدلال به إنما هو من طريق المفهوم وهم لا يقولون به . وأما من قال به فشرطه أن لا يعارضه منطوق ، وأيضا فالحصر فيه ليس على ظاهره لإجماعهم على مشروعية الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ، وكذا في الفتح . وقال النووي : قد يحتج أصحاب أبي حنيفة بهذا الحديث على منع الجمع بين الصلاتين في السفر ، لأن ابن مسعود من ملازمي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أخبر أنه ما رآه يجمع إلا في هذه الليلة ، ومذهب الجمهور جواز الجمع في جميع الأسفار المباحة التي يجوز فيها القصر . والجواب عن هذا الحديث أنه مفهوم وهم لا يقولون به ونحن نقول بالمفهوم ولكن إذا عارضه منطوق قدمناه على المفهوم ، وقد تظاهرت

(18/317)


الأحاديث الصحيحة بجواز الجمع ثم هو مترك الظاهر بالإجماع في صلاتي الظهر والعصر بعرفات – انتهى . وقال السندي في حاشية البخاري (ج 1 : ص 201) : قد استدل به من ينفي جمع السفر كعلمائنا الحنفية ، ورده النووي بأنه مفهوم وهم لا يقولون به ونحن نقول به إذا لم يعارضه منطوق كما ها هنا وتعقبه العيني فقال : لا نسلم أنهم لا يقولون بالمفهوم وإنما لا يقولون بالمفهوم المخالف – انتهى . قلت : ( قائله السندي ) وهذا عجيب منهما فإن استدلال الحنفية بصريح النفي الذي هو منطوق لا بالإثبات الذي يدل عليه الاستثناء بالمفهوم ، ولو كان بالإثبات من باب المفهوم المخالف بالاتفاق فلم يكن لقول العيني وجه ، بقي أن الاستدلال به فرع تصور معناه ومعناه ها هنا لا يخلو عن خفاء ، إذ ظاهره يفيد أنه صلى الفجر قبل وقته ، وهو مخالف للإجماع وقد جاء خلافه في روايات حديث ابن مسعود أيضا وفي حديث جابر . أجيب بأن المراد أنه صلى قبل الوقت المعتاد بأن غلس ، ورد بأن هذا يقتضي أن يكون المعتاد الإسفار وهو خلاف ما يفيده تتبع الأحاديث الصحاح الواردة في صلاة الفجر ، أجيب بأن المراد التغليس الشديد ، والحاصل أنه صلى يومئذ أول ما طلع الفجر والمعتاد أنه كان يصلي بعد ذلك بشيء ، فيرد أنها صارت حينئذ لوقتها فكيف يصح عدها لغير وقتها حتى تستثني من قوله : " ما رأيت " إلخ . أجيب بأن المراد بقوله لغير وقتها المعتاد ، قلت : فيلزم من
وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها . متفق عليه .
2633 - (6) وعن ابن عباس ، قال : أنا ممن قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة في ضعفة أهله .

(18/318)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اعتبار العموم فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - ما صلى صلاة في غير الوقت المعتاد أبدا لا بتقديم شيء ولا بتأخيره ، لا سفرا ولا حضرا سوى هاتين الصلاتين بل كان دائما يصلي في وقت واحد ، وهذا خلاف ما يعرفه كل أحد بالبديهة وخلاف ما يفيده تتبع الأحاديث وخلاف ما أول به علماؤنا جمع السفر من الجمع فعلا ، فإنه لا يكون إلا بتأخير الصلاة الأولي إلى آخر الوقت ، فلزم كونها في الوقت الغير المعتاد ، ثم هو مشكل بجمع عرفة أيضا ، وحينئذ فلا بد من القول بخصوص هذا الكلام بذلك السفر مثلا . ويبقى بعد جمع عرفة فيقال لعله ما حضر ذلك الجمع فما رأى . فلا ينافي قوله ما رأيت ، أو يقال لعله ما رأى صلاة خارجة عن الوقت المعتاد غير هاتين الصلاتين فأخبر حسب ما رأى ولا اعتراض عليه ولا حجة للقائلين بنفي الجمع ، والأحسن منه ما يشير إليه كلام البعض . ثم ذكر السندي ما تقدم من كلامه وتوجيهه في حاشيته على النسائي ( وصلى الفجر يومئذ ) أي بمزدلفة ( قبل ميقاتها ) أي قبل وقتها المعتاد فعلها فيه في الحضر لا أنه أوقعها قبل طلوع الفجر كما يتبادر من ظاهر اللفظ ، ووقتها المعتاد أنه كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه المؤذن بطلوع الفجر صلى ركعتي الفجر في بيته ثم خرج فصلى الصبح ، وأما بمزدلفة فكان الناس مجتمعين والفجر نصب أعينهم فبادر بالصلاة أول ما بزغ حتى أن بعضهم كان لم يتبين له طلوعه . قال النووي : المراد به قبل وقتها المعتاد لا قبل طلوع الفجر ، لأن ذلك ليس بجائز بإجماع المسلمين والغرض أن استحباب الصلاة في أول الوقت في هذا اليوم أشد وآكد ، ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في غير هذا اليوم يتأخر عن أول طلوع الفجر إلى أن يأتيه بلال ، وفي هذا اليوم لم يتأخر لكثرة المناسك فيه فيحتاج إلى المبالغة في التبكير ليتسع له الوقت . قال الحافظ : ولا حجة فيه لمن منع التغليس

(18/319)


بصلاة الصبح لأنه ثبت عن عائشة وغيرها كما تقدم في المواقيت التغليس بها ، بل المراد هنا أنه كان إذا أتاه المؤذن بطلوع الفجر صلى ركعتي الفجر في بيته ثم خرج فصلى الصبح مع ذلك بغلس ، وأما بمزدلفة فكان الناس مجتمعين والفجر نصب أعينهم فبادر بالصلاة أول ما بزغ حتى أن بعضهم كان لم يتبين له طلوعه وهو بين في رواية إسرائيل ( عند البخاري ) حيث قال : ثم صلى الفجر حين طلع الفجر قائل يقول : طلع الفجر وقائل يقول : لم يطلع ( متفق عليه ) . وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص 384 ، 426) وأبو داود والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 124) .
2633- قوله ( أنا ممن قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي قدمه ( ليلة المزدلفة ) أي إلى منى ( في ضعفة أهله ) بفتح الضاد المعجمة والعين المهملة جمع ضعيف أي في الضعفاء من أهله وهم النساء والصبيان والخدم والمشائخ العاجزون وأصحاب الأمراض ، وقال ابن حزم : الضعفة هم الصبيان والنساء فقط . والحديث يرد عليه لأنه أعم من ذلك . قال العيني : يدخل فيه المشائخ
متفق عليه .
2634 – (7) وعن الفضل بن عباس ، وكان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم -

(18/320)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العاجزون لأنه روى عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم ضعفة بني هاشم وصبيانهم بليل ، رواه ابن حبان في الثقات وقوله " ضعفة بني هاشم " أعم من النساء والصبيان والمشائخ العاجزين وأصحاب الأمراض لأن العلة خوف الزحام عليهم – انتهى . قلت : ويؤيده رواية الطحاوي عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس ليلة المزدلفة : اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصوا الصبح بمنى وليرموا جمرة العقبة قبل أن تصيبهم دفعة الناس ، قال : فكان عطاء يفعله بعد ما كبر وضعف ، ولأبي عوانة من طريق أبي الزبير عن ابن عباس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم العيال والضعفة إلى منى من المزدلفة . والحديث دليل على جواز الإفاضة من مزدلفة إلى منى في الليل قبل طلوع الفجر وقبل الوقوف بالمشعر الحرام للنساء والصبيان والضعفة من الرجال ولكن لا يجزئ في أول إجماعا . قال ابن قدامة : لا بأس بتقديم الضعفة والنساء أي بعد نصف الليل ، وممن كان يقدم ضعفة أهله عبد الرحمن بن عوف وعائشة وبه قال عطاء والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ، ولا نعلم فيه مخالفا ، ولأن فيه رفقا بهم ودفعا لمشقة الزحام عنهم وإقتداء بفعل نبيهم - صلى الله عليه وسلم - – انتهى . وأعلم أن ها هنا مسألتان خلافيتان اشتبهت إحداهما بالأخرى على شراح الحديث ونقلة المذاهب ، إحداهما الوقوف بالمزدلفة بعد طلوع الفجر من صبيحة يوم النحر ، والثانية المبيت بها ليلة النحر وربما أطلقت شراح الحديث وأصحاب الفروع إحداهما على الأخرى ولا يخفى ذلك على من طالع شرحي البخاري للحافظ والعيني وشرحي مسلم للنووي والأبي ، وشرحي الموطأ للباجي والزرقاني والنيل للشوكاني والمغني لابن قدامة وشرح الهداية لابن الهمام والبداية لابن رشد وشرح المهذب للنووي وغير ذلك من كتب شروح الحديث والفقه والمناسك ، وحاصل

(18/321)


مسالك الأئمة الأربعة وأتباعهم أن المبيت بالمزدلفة إلى ما بعد النصف الأول واجب عن الشافعي على المعتمد وأحمد وهذا لمن أدركه قبل النصف وإلا فالحضور ساعة في النصف الأخير كاف ، وعند مالك النزول بقدر حط الرحال واجب في أي وقت من الليل كان . وعند الحنفية المبيت سنة مؤكدة وهو قول للشافعي وركن عن السبكي وابن المنذر وأبي عبد الرحمن من الشافعية ، وأما الوقوف بعد الفجر فواجب عند الحنفية وسنة عند الأئمة الثلاثة وفريضة عند ابن الماجشون وابن العربي من المالكية وإن شئت الوقوف على تفاصيل مذاهبهم مع الأدلة فارجع إلى الفتح للحافط والعمدة للعيني والمغني وأضواء البيان للشنقيطي ( متفق عليه ) . وأخرجه أيضا أحمد مرارا وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم .
2634- قوله ( وعنه ) أي عن ابن عباس أي عبد الله فإنه المراد به عند الإطلاق ( عن الفضل بن عباس ) أي أخيه شقيقه ( وكان ) أي الفضل ( رديف النبي ) وفي بعض النسخ " رديف رسول الله . كما في مسلم أي من المزدلفة إلى منى
أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا : " عليكم بالسكينة " . وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا ، وهو من منى قال : " عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة ، وقال : لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى الجمرة . رواه مسلم .
2635 – (8) وعن جابر ، قال : أفاض النبي - صلى الله عليه وسلم - من جمع ، وعليه السكينة ، وأمرهم بالسكينة ، وأوضع في وادي محسر ،

(18/322)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والجملة معترضة ( أنه ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قال في عيشة عرفة ) أي بناء على ما سمعه وهو غير رديفه ( وغداة جمع ) أي من مزدلفة يعني حال كونه رديفا له ( حين دفعوا ) أي انصرفوا من عرفة والمزدلفة ( عليكم بالسكينة ) مقول القول ، وهذا إرشاد إلى الأدب والسنة في السير من عرفة ومن مزدلفة ويلحق به سائر مواضع الزحام ( وهو ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( كاف ناقته ) بتشديد الفاء أي كان يكفها ويمنعها من الإسراع حين الزحام (حتى دخل محسرا ) بتشديد السين المكسورة أي يحرك دابته فيه ( وهو ) أي المحسر ( من منى ) فيه أن وادي محسر من منى وقيل هو من المزدلفة ، والتحقيق أنه كالبرزخ بين المزدلفة ومنى ، ومعنى قوله " هو من منى " أي موضع قريب من منى في آخر المزدلفة ( عليكم بحصى الخذف ) بخاء معجمة مفتوحة ثم ذال معجمة ساكنة بوزن الضرب تقول : خذفت الحصاة ونحوها خذفا من باب ضرب ، رميتها بطرفي الإبهام والسبابة . والمراد الحصى الصغار نحو الباقلا ، وقد تقدم بيان ذلك في شرح حديث جابر الطويل ( الذي يرمي به الجمرة ) بالرفع على أنه نائب الفاعل ، والمعنى يلزمكم أن ترفعوا حصى لترموا بها الجمرة ، ثم اختلفوا في أنه يرفعها من الطريق وهو ظاهر الحديث ، وجاء في بعض الروايات رفعها من المزدلفة وهذا منقول عن ابن عمر وسعيد بن جبير والمختار أنه يجوز أن يرفع من أي مكان شاء إلا الجمرات التي رمى بها ، ويجوز بها أيضا لكن الأفضل أن لا يرمى بها ، ثم اختلفوا في أن ترفع سبع حصيات لرمى يوم النحر فقط . ونص الشافعي على استحباب ذلك ، أو سبعين حصاة ، سبعة ليوم النحر وثلاثا وستين لما بعده من الأيام وظاهر إفراد الجمرة ينظر إلى القول الأول ، والله أعلم . وارجع لمزيد التفصيل إلى المغنى (ج 3 : ص 424) ( وقال ) أي الفضل ( حتى رمى الجمرة ) أي جمرة العقبة يوم النحر وعند ذلك

(18/323)


قطع التلبية . والحديث يدل على أنه مستحب لمن بلغ وادي محسر إن كان راكبا يحرك دابته ، وإن كان ماشيا أسرع في مشيه ( رواه مسلم ) . وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 210) والنسائي والبيهقي (ج5 : ص 127) .
2635 – قوله ( من جمع ) أي من المزدلفة ( وعليه السكينة ) جملة حالية ( وأمرهم ) أي الناس ( وأوضع ) أي أسرع السير بإبله ، يقال وضع البعير يضع وضعا وأوضعه راكبه إيضاعا إذا حمله على سرعة السير ( في وادي محسر ) أي قدر رمية حجر . قال الشوكاني : حديث جابر هذا يدل على أنه يشرع الإسراع في وادي محسر . قال الأزرقي : وهو
وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف . وقال : " لعلي لا أراكم بعد عامي هذا " . لم أجد هذا الحديث في الصحيحين إلا في جامع الترمذي مع تقديم وتأخير .
( الفصل الثاني )
2636 – (9) عن محمد بن قيس بن مخرمة ، قال : خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال :

(18/324)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خمس مائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعا ، وإنما شرع الإسراع فيه لأن العرب كانوا يقفون فيه ويذكرون مفاخر آبائهم فاستحب الشارع مخالفتهم ، وقيل في حكمة الإسراع غير ذلك كما سبق ( بمثل حصى الخذف ) تقدم ضبطه وتفسيره ( لعلي لا أراكم بعد عامي هذا ) لعل ها هنا للإشفاق ، وفيه تحريض على أخذ المناسك منه وحفظها وتبلغيها عنه ، قال المظهر : لعل للترجي وقد تستعمل بمعنى الظن وعسى ، كذا في المرقاة ، وفي رواية مسلم " لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " . قال الزرقاني : لعلي أي ظن ويحتمل أن لعل للتحقيق كما يقع في كلام الله تعالى كثيرا . وقال النووي : فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته - صلى الله عليه وسلم - وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه وانتهاز الفرصة من ملازمته وتعلم أمور الدين ، وبهذا سميت حجة الوداع ( لم أجد هذا الحديث في الصحيحين ) أي في أحاديثهما حتى يشمل جامع الأصول للجزري ، والجمع بين الصحيحين للحميدي فافهم . وهذا اعتراض على صاحب المصابيح في إيراده في الصحاح أي الفصل الأول ( إلا في جامع الترمذي ) استثناء منقطع أي لكن وجدته فيه ( مع تقديم وتأخير ) هذا أيضا متضمن لاعتراض آخر . قلت : قال الترمذي : حدثنا محمود بن غيلان نا وكيع وبشر بن السري وأبو نعيم قالوا : نا سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضع في وادي محسر ، وزاد فيه بشر " وأفاض من جمع وعليه السكينة وأمرهم بالسكينة " وزاد فيه أبو نعيم " وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف وقال : لعلي لا أراكم بعد عامي هذا " . قال الترمذي : حديث جابر حديث حسن صحيح . ورواه ابن ماجة والبيهقي (ج 5 : ص 125) من طريق الثوري عن أبي الزبير عن جابر بنحو رواية الترمذي ، وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بلفظ " أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه السكينة

(18/325)


وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف وأوضع في وادي محسر " وأخرج أحمد أيضا ومسلم وأبو داود ( في رواية أبي الحسن ابن العبد وأبي بكر بن داسة ) والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 130) كلهم من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول : " لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلى لا أحج بعد حجتي هذه " . وقد ذكره المصنف في باب رمي الجمار .
2636- قوله ( عن محمد بن قيس بن مخرمة ) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء ، ابن المطلب بن عبد مناف بن قصي القرشي المطلبي المكي . قال الحافظ في التقريب : يقال له رؤية ، وقد وثقه أبو داود وغيره ، وقال
" إن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم قبل أن تغرب ، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس حين تكون كأنها عمائم الرجال في وجوههم ، وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس ، وندفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس ، هدينا مخالف لهدي عبدة الأوثان والشرك " .

(18/326)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في تهذيب التهذيب : روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا وعن أبي هريرة وعائشة وعن أمه عن عائشة ، روى عنه ابنه حكيم وعبد الله بن كثير بن المطلب ومحمد بن عجلان ومحمد بن إسحاق وابن جريج وغيرهم . قال أبو داود : ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات وذكر العسكري أنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير . وقال في الإصابة في ترجمته : ذكره العسكري وقال : لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكره ابن أبي داود والباوردي في الصحابة ، وجزم البغوي وابن مندة وغيرهما بأن حديثه مرسل يعني فهو من التابعين . وروى أيضا عن أبيه وعمر ، وروى أيضا عن أمه وعن عائشة – انتهى . وذكره المصنف في التابعين ، فالحديث مرسل ( إن أهل الجاهلية ) أي غير قريش ( كانوا يدفعون ) أي يرجعون ( في وجوههم ) الجار متعلق بتكون وجملة التشبيه معترضة ( قبل أن تغرب ) بضم الراء ، ظرف ليدفعون أو بدل من حين ، نقل الطيبي عن القاضي شبه ما يقع من ضوء الشمس على الوجه طرفي النهار حين ما دنت الشمس من الأفق بالعمامة لأنه يلمع في وجهه لمعان بياض العمامة – انتهى . وقيل المراد كأن الشمس حين غاب نصفها عمامة على رأس الجبل ، لأن شكل العمامة شكل نصف الكرة فإن قلت : قوله " في وجوههم " يدل على ما ذكره الطيبي قلت : نعم إن كان متعلقا بقوله تكون الشمس وليس بمتعين بل يحتمل أن يتعلق بعمائم الرجال ظرفا مستقرا . كذا في اللمعات ، وقال القاري : قال بعض الشراح قوله " حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم " أي حين تكون الشمس في وجوههم كأنها عمائم الرجال ، وذلك بأن يقع في الجهة التي تحاذي وجوههم ، وإنما لم يقل " على رؤوسهم " لأن في مواجهة الشمس وقت الغروب إنما يقع ضوئها على ما يقابلها ولم يتعد إلى ما فوقه من الرأس لانحطاطها ، وكذا وقت الطلوع ، وإنما شبهها بعمائم الرجال لأن الإنسان إذا كان بين

(18/327)


الشعاب والأودية لم يصبه من شعاع الشمس إلا الشيء اليسير الذي يلمع في جنبيه لمعان بياض العمامة والظل يستر بقية وجهه وبدنه ، فالناظر إليه يجد ضوء الشمس في وجهه مثل كور العمامة فوق الجبين ، والإضافة في " عمائم " لمزيد التوضيح كما قاله الطيبي أو للاحتراز عن نساء الأعراب فإن على رؤوسهن ما يشبه العمائم كما قاله ابن حجر – انتهى كلام القاري . ( ومن المزدلقة ) أي يرجعون ( وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس ) فيكره النفر قبل ذلك عند بعضهم ، والأكثرون على أن الجمع بين الليل والنهار واجب ( وندفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس ) أي عند الإسفار فيكره المكث بها إلى طلوع الشمس اتفاقا ( هدينا ) أي سيرتنا وطريقتنا ( والشرك ) أي أهله ، والجملة استينافية فيها معنى
رواه .......
2637 – (10) وعن ابن عباس ، قال : قدمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب

(18/328)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التعليل وفي المصابيح " لهدي أهل الأوثان والشرك " ( رواه ) كذا في الأصل بياض هنا ، وفي نسخة صحيحة كتب في الهامش " رواه البيهقي " أي في شعب الإيمان ، ذكره الجزري ، ولفظ البيهقي " خطبنا " وساقه بنحوه ، كذا في المرقاة ، قلت : روى البيهقي في السنن (ج 5 : ص 125) من طريق عبد الوارث بن سعيد عن ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإن أهل الشرك والأوثان – الحديث . قال البيهقي : ورواه عبد الله بن إدريس عن ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم عرفة فقال : هذا يوم الحج الأكبر ثم ذكر ما بعده بمعناه مرسلا – انتهى . والحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 3 : ص 255) من رواية المسور بن مخرمة قال : رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله رجال الصحيح . وقال الحافظ في تخريج الهداية (ص 194) بعد ذكره عن المسور بن مخرمة أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي من طريقه ثم من طريق ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عنه ، وهو عند الشافعي ثم عند البيهقي من هذا الوجه ليس فيه المسور ، وذكره صاحب المهذب ( أبو إسحاق الشيرازي ) عن المسور ، وخطأه ابن دقيق العيد فقال : إنما هو محمد بن قيس بن مخرمة كذا قال ، وكأنه لم يقف على الرواية الموصولة ( عند الحاكم والبيهقي ) وروى ابن أبي شيبة عن ابن أبي زائدة عن ابن جريج أخبرت عن محمد بن قيس بن مخرمة نحوه ، وهذا يقتضي انقطاع طريقي الحاكم انتهى كلام الحافظ وهو ملخص ما ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 67) وحديث المسور بن مخرمة لم أجده في المستدرك في مظانه ، وأما حديث محمد بن قيس بن مخرمة فرواه الشافعي في الأم (ج 2 : ص 180) عن مسلم بن خالد عن ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة بلفظ أن النبي - صلى

(18/329)


الله عليه وسلم - قال : كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير . فأخر الله تعالى هذه وقدم هذه يعني قدم المزدلفة قبل أن تطلع الشمس وأخر عرفة إلى أن تغيب الشمس – انتهى . وذكره الشيخ عبد الرحمن الساعاتي في بدائع المنن (ج 2 : ص 57 ، 58) بلفظ المشكاة .
2637 – قوله ( قدمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي أمرنا بالتقدم إلى منى أو أرسلنا قدامه ( أغيلمة بني عبد المطلب ) أي صبيانهم ، وفيه تغليب الصبيان على النسوان ، وهو بدل من الضمير في قدمنا ، وقال القاري : نصبه على الاختصاص أو على إضمار أعني أو عطف بيان من ضمير قدمنا . قال الخطابي : أغيملة تصغير غلمة ، وكان القياس غليمة لكنهم ردوه إلى أفعلة فقالوا : أغيملة أي كأنهم صغروا أغلمة وإن لم يقولوه كما قالوا أصيبية في تصغير الصبية . وقال القاري : هو تصغير
على حمرات ، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول : " أبيني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " .

(18/330)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شاذ لأن قياس غلمة – بكسر الغين – غليمة ، وقيل : هو تصغير أغلمة جمع غلام قياسا وإن لم يستعمل ، والمستعمل غلمة في القلة والغلمان في الكسرة . وقال الجزري في جامع الأصول : أغيلمة تصغير أغلمة قياسا ولم تجيء ، كما أن أصيبية تصغير أصبية ولم تستعمل ، إنما المستعمل صبية وغلمة . وقال في النهاية : تصغير أغلمة بسكون الغين وكسر اللام جمع غلام وهو جائز في القياس ولم يرد في جمع الغلام أغلمة ، وإنما ورد غلمة بكسر الغين المعجمة ( على حمرات ) بضمتين جمع حمر جمع تصحيح وحمر جمع حمار وهي حال من المفعول أي راكبين على حمرات ، وهذا يدل على أن الحج على الحمار غير مكروه في السفر القريب ( فجعل ) أي فشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - ( يلطح ) بفتح الياء التحتية والطاء المهملة بعدها حاء مهملة أي يضرب ( أفخاذنا ) جمع فخذ ، قال الجزري : اللطح هو الضرب الخفيف أي اللين ببطن الكف أي يضرب بيده أفخاذنا ضربا خفيفا . وإنما فعل ذلك ملاطفة لهم ( أبيني ) بضم الهمز وفتح الباء الموحدة وسكون ياء التصغير بعدها نون مكسورة ثم ياء مشددة مفتوحة . قال السندي : قيل هو تصغير أبنى كأعمى وأعيمى وهو اسم مفرد يدل على الجمع أو جمع ابن مقصورا كما جاء ممدودا ، بقى أن القياس حنئذ عند الإضافة إلى ياء المتكلم أبيناي فكأنه رد الألف إلى الواو على خلاف القياس ، ثم قلب الواو ياء وأدغم الياء في الياء وكسر ما قبله ، ويحتمل أن يكون مقصور الآخر لا مشددة فالأمر أظهر ، والله تعالى أعلم . وقال الجزري في النهاية : قد اختلف في صيغته ومعناه فقيل : إنه تصغير أبنى كأعمى وأعيمى ، وهو اسم مفرد يدل على الجمع ، وقيل : إن ابنا يجمع على أبني وأبناء مقصورا وممدودا ، وقيل : هو تصغير ابن ، وفيه نظر . وقال أبو عبيدة : هو تصغير بني جمع ابن مضافا إلى النفس أي ياء المتكلم فهذا يوجب أن يكون اللفظ في الحديث

(18/331)


بنيي بوزن سريجي – انتهى . وقال القاري : هو تصغير ابن مضاف إلى النفس أو بعد جمعه جمع السلامة إلا أنه خلاف القياس ، لأن همزته همزة وصل ، والقاعدة أن التصغير يرد الشيء إلى أصله مثل الجمع ، ومنه قوله تعالى ? المال والبنون ? فأصل ابن بنو فهو من الأسماء المحذوفة العجز ، فالظاهر أن يقال بني إلا أنه كان يلتبس بالمفرد فزيد فيه الهمزة – انتهى . قال : والمراد يا أبنائي أو يا بني ( لا ترموا الجمرة ) أي جمرة العقبة يوم النحر ( حتى تطلع الشمس ) هذا يدل على أن وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر من بعد طلوع الشمس وإن كان الرامي ممن أبيح له التقدم إلى منى وأذن له في عدم المبيت بمزدلفة . قال الشوكاني : والأدلة تدل على أن وقت الرمي من بعد طلوع الشمس لمن كان لا رخصة له ، ومن كان له رخصة كالنساء وغيرهن من الضعفة جاز قبل ذلك ولكنه لا يجزئ في أول ليلة النحر إجماعا – انتهى . اعلم أن العلماء اختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه رمي جمرة العقبة من للضعفة وغيرهم مع إجماعهم على أن من رماها بعد طلوع الشمس أجزأه ذلك ، فذهب الشافعي وأحمد وعطاء وأسماء بنت أبي بكر وعكرمة وخالد وطاوس والشعبي إلى أن أول الوقت
...............................................................................................

(18/332)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي يجزئ فيه رمي جمرة العقبة هو ابتداء النصف الأخير من ليلة النحر ، واستدل لهم بحديث عائشة الذي ذكره المصنف بعد هذا وهو حديث صحيح ، ويعتضد هذا بما رواه الخلال من طريق سليمان بن أبي داود عن هشام بن عروة عن أبيه قال أخبرتني أم سلمة قالت : قدمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة ، قالت : فرميت بليل ثم مضيت إلى مكة فصليت بها الصبح ثم رجعت إلى منى ، كذا ذكره ابن القيم . وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن أول وقته من بعد طلوع الفجر ، وأول الوقت المستحب بعد طلوع الشمس وما بعد الزوال إلى الغروب وقت الجواز بلا إساءة ، فإن رمى قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر جاز وإن رماها قبل الفجر أعادها ، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة واستدل لذلك بما رواه الطحاوي بسنده عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر نساءه وثقله صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد ولا يرموا الجمرة إلا مصبحين ، وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه في الثقل وقال : لا ترموا الجمار حتى تصبحوا ، وذهب النخعي ومجاهد والثوري وأبو ثور إلى أن أول وقته يبتدئ من بعد طلوع الشمس فلا يجوز رميها عندهم لا بعد طلوع الشمس ، واستدلوا لذلك بحديث ابن عباس الذي نحن في شرحه . قالوا : إذا كان من رخص له منع أن يرمي قبل طلوع الشمس فمن لم يرخص له أولى ، وأجاب الحنفية عن هذا بأنه محمول على بيان الوقت المستحب والفضيلة ، وما رواه الطحاوي فيه بيان وقت الجواز ، وأما حديث عائشة الآتي في قصة أم سلمة فأجابوا عنه بأنه ليس فيه دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام علم ذلك وأقرها عليه ولا أنه أمرها أن ترمي ليلا ، ويمكن أن يراد بقوله " فرمت قبل الفجر " أي قبل صلاة الفجر ، وقيل : إن حديث أم سلمة رخصة خاصة لها ، وذهب بعض أهل العلم إلى أن أول وقته للضعفة من طلوع

(18/333)


الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس وهو اختيار ابن القيم واستدل لذلك بحديث أسماء عند الشيخين أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلقة فقامت تصلي ، فصلت ساعة ، ثم قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ قلت : لا . فصلت ساعة ثم قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ قلت : نعم . قالت : فارتحلوا . فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها ، فقلت لها : يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا . قالت : يا بني إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن – انتهى . فهذا الحديث صريح أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الشمس بل بغلس ، وقد صرحت بأنه - صلى الله عليه وسلم - أذن في ذلك للظغن ، ومفهومه أنه لم يأذن للأقوياء الذكور ، واستدل لذلك أيضا بحديث ابن عمر عند الشيخين أيضا أنه كان يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله عز وجل ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع ، فمنهم من يقدم لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة . وكان ابن عمر يقول : أرخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – انتهى . وهذا يدل دلالة واضحة على الترخيص للضعفة في رمي جمرة العقبة بعد الصبح قبل طلوع الشمس كما ترى . ومفهومه أنه لم يرخص لغيرهم في ذلك . قال
...............................................................................................

(18/334)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشنقيطي : إن الذي يقتضي الدليل رجحانه في هذه المسألة أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح قبل طلوع الشمس لحديث أسماء وابن عمر المتفق عليهما الصريحين في الترخيص لهم في ذلك ، وأما رميهم أعني الضعفة والنساء قبل طلوع الفجر فهو محل نظر فحديث عائشة عند أبي داود ( الآتي ) يقتضي جوازه وحديث ابن عباس عند أصحاب السنن ( يعني الذي نحن في شرحه ) يقتضي منعه . وقد جمعت بينهما جماعة من أهل العلم فجعلوا لرمي جمرة العقبة وقتين : وقت فضيلة ووقت جواز ، وحملوا حديث ابن عباس على وقت الفضيلة وحديث عائشة على وقت الجواز . وله وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى . أما الذكور الأقوياء فلم يرد في الكتاب ولا السنة دليل يدل على جواز رميهم جمرة العقبة قبل طلوع الشمس لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في ذلك كلها في الضعفة وليس شيء منها في الأقوياء الذكور ، وقد قدمنا أن قياس القوي على الضعيف الذي رخص له من أجل ضعفه قياس مع وجود الفارق وهو مردود كما هو مقرر في الأصول ، لأن الضعف الموجود في الأصل المقيس عليه الذي هو علة الترخيص المذكور ليس موجودا في الفرع المقيس الذي هو الذكر القوي كما ترى – انتهى . ثم اعلم أن وقت رمي جمرة العقبة يمتد إلى آخر نهار يوم النحر فمن رماها قبل الغروب من يوم النحر فقد رماها في وقت لها . قال ابن عبد البر : أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها وإن لم يكن ذلك مستحبا لها – انتهى . فإن فات يوم النحر ولم يرمها فقال بعض أهل العلم يرميها ليلا ، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم رمها ليلا أداء لا قضاء ، وهو أحد وجهين مشهورين للشافعية، حكاهما صاحب التقريب والشيخ أبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين وآخرون . وروى مالك عن

(18/335)


نافع أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة فتخلفت هي وصفية حتى أتتا من بعد أن غربت الشمس من يوم النحر فأمرهما عبد الله بن عمر أن ترميا ولم ير عليهما شيئا – انتهى . وهذا يدل على أن ابن عمر يرى أن رميها في الليل أداء لمن كان له عذر كصفية وابنة أخيها . وممن قال برميها ليلا الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأصحابهم . وفي الموطأ ( في آخر باب الرخصة في رمي الجمار ) قال يحيى : سئل مالك عمن نسي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي قال : ليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار كما يصلي الصلاة إذا نسيها ثم ذكرها ليلا أو نهارا ، فإن كان ذلك بعد ما صدر وهو بمكة أو بعدما يخرج منها فعليه الهدي واجب . وقال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق : ولو أخر الرمي إلى الليل رماها ولا شيء عليه لأن الليل تبع لليوم في مثل هذا كما في الوقوف بعرفة فإن أخره إلى الغد رماها وعليه دم . – انتهى . وقال بعض أهل العلم : إن غربت الشمس من يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة لم يرمها في الليل ولكن يؤخر رميها حتى تزول الشمس من الغد . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 429) : فإن أخرها إلى الليل لم يرمها حتى تزول الشمس ، واستدل لجواز الرمي ليلا بما رواه البخاري عن ابن
رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة .

(18/336)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عباس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسئل يوم النحر بمنى فيقول : لا حرج ، فسأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح ، قال : اذبح ولا حرج . وقال : رميت بعد ما أمسيت فقال : لا حرج – انتهى . قالوا : قد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن من رمى بعد ما أمسى لا حرج عليه ، واسم المساء يصدق بجزء من الليل ، وأجاب القائلون بعدم جواز الرمي ليلا عن هذا الاستدلال بأن مراد السائل بقوله بعد ما أمسيت يعني به بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل . والدليل على ذلك أن حديث ابن عباس المذكور فيه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسئل يوم النحر بمنى – الحديث . فتصريحه بقوله " يوم النحر " يدل على أن السؤال وقع في النهار والرمي بعد الإمساء وقع في النهار لأن المساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل ، قال الحافظ في شرح الحديث المذكور : قوله " رميت بعد ما أمسيت " أي بعد دخول المساء وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام ، فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل – انتهى . وقال ابن قدامة : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إرم ولا حرج " إنما كان في النهار لأنه سأله في يوم النحر ولا يكون اليوم إلا قبل مغيب الشمس – انتهى . قالوا : فالحديث صريح في أن المراد بالإمساء فيه آخر النهار بعد الزوال لا الليل ، وإذن فلا حجة فيه للرمي ليلا . وأجاب القائلون بجواز الرمي ليلا عن هذا بأجوبة ، منها أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا حرج " بعد قول السائل " رميت بعد ما أمسيت " يشمل لفظه نفى الحرج عمن رمى بعد ما أمسى ، وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل ، وسبب ورود الحديث المذكور خاص بالنهار ، وقد ثبت في الأصول أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ( رواه أبو داود

(18/337)


والنسائي وابن ماجة ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 234 ، 311) والطحاوي (ج 1 : ص 413) وابن حبان والبيهقي (ج 5 : ص 132) كلهم من طريق الحسن بن عبد الله العرني عن ابن عباس ، والحسن العرني ثقة ولكنه لم يسمع من ابن عباس كما قال الإمام أحمد والبخاري وابن معين بل قال أبو حاتم لم يدركه . قال المنذري : الحسن العرني بجلى كوفي ثقة ، واحتج به مسلم ، واستشهد به البخاري غير أن حديث ابن عباس منقطع . وقال الإمام أحمد : الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس شيئا – انتهى . لكن رواه البخاري في التاريخ الصغير ( ص 136 ) وأحمد والترمذي والطحاوي من طريق مقسم عن ابن عباس بمعناه وزيادة ونقص ، وصححه الترمذي وغيره . وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث الباب : هو حديث حسن أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي وابن حبان من طريق الحسن العرني ، وهو بضم المهملة وفتح الراء بعدها نون ، عن ابن عباس ، وأخرجه الترمذي والطحاوي من طرق عن الحكم عن مقسم عنه ، وأخرجه أبو داود من طريق حبيب عن عطاء ، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا ، ومن ثم صححه الترمذي وابن حبان .
2638 – (11) وعن عائشة ، قالت : أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت ، وكان ذلك اليوم ، اليوم الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها . رواه أبو داود .
2639- (12) وعن ابن عباس ، قال : يلبي المقيم أو المعتمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/338)


2639- قوله ( أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة ) أي ومن معها من الضعفة والباء زائدة للتأكيد ( ليلة النحر ) أي من مزدلفة إلى منى ( فرمت الجمرة قبل الفجر ) أي طلوع الصبح . وفيه دليل على جواز الرمي قبل الفجر للنساء لأن الظاهر أنه لا يخفى عليه - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقرره . قال الأمير اليماني : وقد عارضه حديث ابن عباس المتقدم ، وجمع بينهما بأنه يجوز الرمي قبل الفجر لمن له عذر ، وكان ابن عباس أي وغيره من الصبيان والغلمة لا عذر له . وقال الشوكاني : قوله " قبل الفجر " هذا مختص بالنساء فلا يصلح للتمسك به على جواز الرمي لغيرهن من هذا الوقت لورود الأدلة القاضية بخلاف ذلك ، ولكنه يجوز لمن بعث معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن كما في حديث أسماء وحديث ابن عباس عند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر فرموا الجمرة مع الفجر . وقد تقدم ما أجاب به الحنفية عن حديث عائشة هذا ( ثم مضت ) أي ذهبت من منى ( فأفاضت ) أي طافت طواف الإفاضة ثم رجعت إلى منى ( وكان ذلك اليوم ) أي اليوم الذي فعلت فيه ما ذكر من الرمي والطواف ( اليوم ) بالنصب على الخبرية ) ( الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها ) يعني عند أم سلمة أي في نوبتها من القسم ، كأنه إشارة إلى سبب استعجالها في الرمي والإفاضة ، وقوله " عندها " كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في المصابيح ، وفي أبي داود " تعني عندها " وهو من تفسير أبي داود أو أحد رواته ( رواه أبو داود ) وسكت عنه هو والمنذري . وقال الحافظ في بلوغ المرام " إسناده على شرط مسلم " وكذا قال النووي في شرح المهذب . وقال الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 73 ) بعد أن ساق حديث أبي داود هذا عن عائشة : ورواه البيهقي في سننه وقال : إسناده صحيح لا غبار عليه – انتهى . قلت : حديث عائشة هذا أخرجه البيهقي في باب من أجاز رميها

(18/339)


بعد نصف الليل (ج 5 : ص 133) ولكن لم أجد فيه قوله إسناده صحيح لا غبار عليه . وقال الشوكاني : رجاله رجال الصحيح .
2639- قوله ( يلبي المقيم ) أي بمكة من المعتمرين ( أو المعتمر ) أي من القادمين ، فأو للتنويع ، ولا يبعد أن يراد به المعتمر مطلقا ، فأو شك من الراوي ، قاله القاري . قلت : قوله " يلبي المقيم أو المعتمر " كذا وقع في جميع نسخ المشكاة ، وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج 3 : ص 438) والمحب الطبري في القرى (ص 153) ومحمد بن محمد بن سليمان الفاسي المغربي في جمع الفوائد (ج 1 : ص 462) وليس في المصابيح لفظ المقيم ولا في السنن لأبي داود والبيهقي والأم للشافعي ولم يذكره أيضا الزيلعي في نصب الراية والمجد في المنتقي . والظاهر أن المصنف قلد في ذلك
حتى يستلم الحجر .

(18/340)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جامع الأصول وهو من أوهام الجزري ( حتى يستلم الحجر ) وفي المصابيح " حتى يفتتح الطواف " ويروى " حتى يستلم الحجر " وللبيهقي من طريق الشافعي عن مسلم بن خالد وسعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : يلبي المعتمر حتى يفتتح الطواف مستلما أو غير مستلم . قال شارح المصابيح : قوله حتى يفتتح الطواف أي يلبي الذي أحرم بالعمرة من وقت إحرامه إلى أن يبتدئ بالطواف ثم يترك التلبية – انتهى . ورواه الدارقطني بلفظ " لا يمسك المعتمر عن التلبية حتى يفتتح الطواف " ولا فرق بين رواية أبي داود وبين رواية الشافعي والدارقطني إلا في التعبير دون الواقع ، لأن ابتداء الطواف من استلام الحجر الأسود ، ولذلك قال الطبري بعد تخرج الروايتين : هذا قول أكثر أهل العلم أن المعتمر يلبي حتى يفتتح الطواف . قال ابن عباس : يلبي المعتمر إلى أن يفتتح الطواف مستلما وغير مستلم ، وبه قال الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق – انتهى . قال الشوكاني : قوله " حتى يستلم الحجر " ظاهره أنه يلبي في حال دخوله المسجد وبعد رؤية البيت وفي حال مشيه حتى يشرع في الاستلام ويستثنى منه الأوقات التي فيها دعاء مخصوص ، وقد ذهب إلى ما دل عليه الحديث من ترك التلبية عند الشروع في الاستلام أبو حنفية والشافعي وهو قول ابن عباس وأحمد – انتهى . وقال الترمذي بعد رواية الحديث مرفوعا " أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر " ما لفظه : والعمل عليه عند أكثر أهل العلم . قالوا : " لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الحجر " وقال بعضهم إذا انتهى إلى بيوت مكة قطع التلبية ، والعمل على حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبه يقول سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق – انتهى . وقد ظهر بهذا كله أن المسألة خلافية . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 401) : يقطع المعتمر التلبية إذا استلم الركن . وبهذا قال ابن عباس وعطاء وعمرو

(18/341)


بن ميمون وطاوس والنخعي والثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي . وقال ابن عمر وعروة والحسن : يقطعها إذا دخل الحرم ، وقال سعيد بن المسيب : يقطعها حين يرى عرش مكة . وحكي عن مالك إن أحرم من الميقات قطع التلبية إذا وصل إلى الحرم ، وإن أحرم بها من أدنى الحل قطع التلبية حين يرى البيت ، ولنا ما روي عن ابن عباس يرفع الحديث : كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر ، . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر ولم يزل يلبي حتى استلم الحجر . ( أخرجه أحمد ج 2 : ص 180) والبيهقي (ج 5 : ص 105) قلت : ما حكي عن مالك هو رواية الموطأ والمختصر ، والمعروف في مذهب المالكية أن معتمر الجعرانة أو التنعيم يلبي إلى دخول بيوت مكة . وفي المدونة قال ابن القاسم ، قال مالك : والمحرم بالعمرة من ميقاته يقطع التلبية إذا دخل الحرم ثم لا يعود إليها ، والذي يحرم من غير ميقاته مثل الجعرانة والتنعيم يقطع إذا دخل بيوت مكة . قال : فقلت له : أو المسجد ، قال : أو المسجد كل ذلك واسع – انتهى . وقال ابن حزم : والذي نقول به
رواه أبو داود ، وقال : وروي موقوفا على ابن عباس .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/342)


فهو قول ابن مسعود أنه لا يقطعها حتى يتم جميع عمل العمرة . وقال الشافعي بعد ما روى عن عبد الله بن مسعود أنه لبي في عمرة على الصفا بعد ما طاف بالبيت : وليسوا يقولون ( أي أهل العراق ) بهذا ولا أحد من الناس علمناه ، وإنما اختلف الناس فمنهم من يقول : يقطع التلبية في العمرة إذا دخل الحرم . وهو قول ابن عمر . ومنهم من يقول : إذا استلم الركن . وهو قول ابن عباس . وبه نقول ، ويقولون هم أيضا : فأما بعد الطواف بالبيت فلا يلبي أحد ، أورده إلزاما للعراقيين فيما خالفوا فيه عبد الله بن مسعود كذا في القرى (ص 154) ( رواه أبو داود ) في باب : متى يقطع المعتمر التلبية . ( وقال وروي ) على بناء المجهول ( موقوفا على ابن عباس ) قلت : الحديث رواه أبو داود مرفوعا حيث قال : حدثنا مسدد نا هشيم عن ابن أبي ليلي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر ، ثم قال أبو داود : رواه عبد الملك بن أبي سليمان وهمام عن عطاء عن ابن عباس موقوفا . وقد تبين بهذا أن الاقتصار المخل إنما هو في نقل صاحب المشكاة ، فكان حقه أن يقول أولا عن ابن عباس مرفوعا . وقال المنذري في مختصر السنن وأخرجه الترمذي وقال : صحيح ، هذا آخر كلامه . وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي وتكلم فيه جماعة من الأئمة ( أي من جهة حفظه ) انتهى كلام المنذري . قلت : حديث ابن عباس المرفوع عند الترمذي هو حديث فعلي بلفظ أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر ، وحديث ابن عباس المرفوع عند أبي داود قولي بلفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر فإذن هما حديثان من رواية ابن عباس قولي عند أبي داود وفعلي عند الترمذي ، ولهذا الاختلاف جعلهما المجد في المنتقي حديثين ، قال الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 115) : ولم ينصف المنذري في عزوه هذا الحديث للترمذي ، فإن لفظ

(18/343)


الترمذي من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظ أبي داود من قوله فهما حديثان ولكنه قلد أصحاب الأطراف إذ جعلوهما حديثا واحدا ، وهذا مما لا ينكر عليهم ، وقد بينا وجه ذلك في حديث " ابدؤا بما بدأ الله به ، (ج 3 : ص 54) قال : وروى الواقدي في كتاب المغازي حدثنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبي يعني في عمرة القضية حتى استلم الركن – انتهى . قلت : مدار الروايتين المرفوعتين عند الترمذي وأبي داود على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي الكوفي القاضي وهو صدوق سيء الحفظ جدا . قال البيهقي بعد رواية الحديث الفعلي المرفوع من طريق زهير والحسن بن صالح عن ابن أبي ليلي عن عطاء عن ابن عباس ما لفظه : رفعه خطأ وكان ابن أبي ليلى هذا كثير الوهم ، وخاصة إذا روى عن عطاء فيخطئ كثيرا ، ضعفه أهل النقل مع كبر محله في الفقه ، وقد روى عن المثني بن الصباح عن عطاء مرفوعا ، وإسناده أضعف مما ذكرنا . ثم روى من طريق الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عمر كل ذلك لا يقطع التلبية حتى يستلم الحجر ، وقد قيل عن الحجاج
( الفصل الثالث )
2640 - (13) عن يعقوب بن عاصم بن عروة ، أنه سمع الشريد يقول : أفضت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعا .

(18/344)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا . والحجاج بن أرطاة لا يحتج به . ثم روى البيهقي عن أبي بكرة مرفوعا أنه خرج معه - صلى الله عليه وسلم - في بعض عمره فما قطع التلبية حتى استلم الحجر . ثم قال : إسناده ضعيف – انتهى . ومن المعلوم أن الروايات الضعيفة تكتسب قوة بالاجتماع ، والضعف اليسير ينجبر بكثرة الطرق ويصير الحديث حسنا قابلا للاحتجاج ، ولذلك صحح الترمذي حديث ابن عباس واحتج به الشافعي وغيره من الأئمة . قال القاري : ومناسبة الحديث لعنوان الباب استطراد لحكم قطع التلبية للمعتمر كما ذكر فيما تقدم وقت قطع تلبية المحرم بالحج .

(18/345)


2640 – قوله ( عن يعقوب بن عاصم بن عروة ) أي بن مسعود الثقفي أخو نافع بن عاصم المكي روى عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو والشريد بن سويد وغيرهم ، وعنه إبراهيم بن ميسرة ويعلى بن عطاء والنعمان بن سالم وآخرون . ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الحافظ في التقريب : إنه مقبول من الثالثة أي من الطبقة الوسطى من التابعين ( أنه ) أي يعقوب ( سمع الشريد ) بوزن الطويل ، وهو شريد بن سويد الثقفي وقيل إنه من حضر موت ولكن عداده في ثقيف لأنهم أخواله ، روى عنه ابنه عمرو بن الشريد ويعقوب بن عاصم وغيرهما . قال ابن السكن : له صحبة حديثه في أهل الحجاز ، سكن الطائف ، والأكثر أنه الثقفي ، ويقال إنه حضرمي حالف ثقيفا وتزوج آمنة بنت أبي العاص بن أمية . وقيل كان اسمه مالكا فسمي الشريد لأنه شرد من المغيرة بن شعبة لما قتل رفقته الثقفيين ، كذا في الإصابة . وقال الجزري : قيل إن الشريد اسمه مالك قتل قتيلا من قومه فلحق بمكة فحالف بني حطيط بن جشم بن ثقيف ، ثم وفد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم وبايعه بيعة الرضوان وسماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشريد – انتهى . وروى مسلم وغيره من طريق عمرو بن الشريد عن أبيه قال : استنشدني النبي - صلى الله عليه وسلم - شعر أمية بن أبي الصلت . وفي رواية : أنه أنشد النبي - صلى الله عليه وسلم - من شعر أمية بن أبي الصلت مائة قافية فقال : كاد يسلم ، يعني أمية ، والله أعلم ( أفضت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي رجعت من عرفات إلي المزدلفة ( فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعا ) أي المزدلفة ، وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينزل لحاجة في ذهابه من عرفات إلى المزدلفة ، ويشكل عليه ما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن أسامة قال : دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ، وفي رواية (( فلما جاء الشعب أناخ راحلته ثم ذهب إلي الغائط

(18/346)


ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء )) . وفي رواية " توضأ وضوء خفيفا ، قلت له الصلاة ، فقال : الصلاة أمامك فركب . فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلي المغرب " الحديث . قال الطيبي : قوله " ما مست قدماه الأرض حتى أتي جمعا " عبارة عن الركوب من عرفة إلى الجمع يعني
رواه أبو داود .
2641 – (14) وعن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم أن الحجاج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فما يرد عليه أنه عليه الصلاة والسلام نزل فبال فتوضأ – انتهى . وحاصله أن الشريد بالغ في بيان ركوبه - صلى الله عليه وسلم - في السير من عرفة إلى الجمع بأنه قطع تلك المسافة راكبا ولم يمش على الرجلين في تلك المسافة ، وليس معناه أنه لم ينزل عن الناقة فلا يعارض هو حديث أسامة . وقال في عون المعبود : حديث الشريد يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينزل لحاجة بين عرفات والمزدلفة ، وحديث أسامة يعارض ذلك لكن يرجع حديث أسامة على حديث الشريد لأنه المثبت أي والمثبت مقدم على النافي كما تقرر في موضعه ، وكان أسامة رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو أعلم بحاله ولم ير الشريد نزوله - صلى الله عليه وسلم - ، فلذا نفاه على علمه . وقال المحب الطبري بعد ذكر حديث الشريد : وما رواه أسامة أثبت فإنه كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبر الشريد عما علمه ولم يبلغه ذلك – انتهى . هذا . وقد اعترض صاحب بذل المجهود على جواب العون فقال بعد ذكر توجيه الطيبي : وأما الجواب بترجيح رواية أسامة كما فعله صاحب العون بأن أسامة كان رديفه - صلى الله عليه وسلم - فبعيد ، فأنه وقع في حديث الشريد أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا سبيل لترجيح أحدهما على الآخر . قال صاحب الأوجز : كذا أفاده الشيخ في البذل . قلت : جواب العون وكذا المحب الطبري مطابق للأصول ، فإن حديث الشريد ظاهر بل صريح في نفي النزول على الأرض

(18/347)


، وحديث أسامة صريح في النزول وقضاء الحاجة والوضوء وهو أقوي سندا وأثبت ، فلا بعد في تقديمه وترجيحه ، وأما توجيه الطيبي فلا يخلو عن التكلف ومخالفة الظاهر ، وكون الشريد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإفاضته معه لا يستلزم أن يعلم جميع أحواله - صلى الله عليه وسلم - في مسيره إلى المزدلفة على أنه قد قال أحمد بعد رواية الحديث عن روح ، حيث قال روح : وقفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات : أملاه من كتابه يعنى بخلاف قوله أفضت ، فإنه رواه من حفظه ، ومن المعلوم أن رواية الكتاب أقوي وأثبت من رواية الحفظ ( رواه أبو داود ) عن محمد بن المثني عن روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق عن إبراهيم بن ميسرة عن يعقرب بن عاصم بن عروة أنه سمع الشريد ، إلخ . وكذا رواه أحمد (ج 4 : ص 389 ، 390) عن روح ، وهذا إسناد رجاله ثقات . والحديث ذكره صاحب العون على الهامش بعد حديث أسامة المذكور في باب الدفع من عرفة وقال : لم يوجد هذا الحديث إلا في نسخة واحدة – انتهى . ونقل عن المزي أنه قال في الأطراف : هذا الحديث في رواية أبي الحسن بن العبد وأبي بكر بن داسة عن أبي داود ولم يذكره أبو القاسم – انتهى . ولذلك لم يذكره المنذري في مختصر السنن ، وذكره الجزري في جامع الأصول (ج 4 : ص 76 ) والنابلسي في ذخائر المواريث (ج 1 : ص 268) ولم ينبها على ذلك .
2641- قوله ( وعن ابن شهاب ) أي الزهري ( أخبرني سالم ) أي ابن عبد الله بن عمر ( أن الحجاج ) بفتح
ابن يوسف عام نزل بابن الزبير سأل عبد الله : كيف نصنع في الموقف يوم عرفة ؟ فقال سالم : إن كنت تريد السنة ، فهجر بالصلاة يوم عرفة . فقال عبد الله بن عمر : صدق إنهم كانوا يجمعون بين الظهر

(18/348)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحاء ، مبالغة الحاج بمعنى الآتي بالحجة ( ابن يوسف ) أي ابن أبي عقيل الثقفي الأمير الشهير الظالم المبير . قال الحافظ في التقريب : وقع ذكره وكلامه في الصحيحين وغيرهما وليس بأهل أن يروى عنه ولي إمره العراق عشرين سنة ومات سنة خمس وتسعين . وقال في تهذيب التهذيب : ولد سنة (45 ) أو بعدها بيسير ونشأ بالطائف وكان أبوه من شيعة بني أمية وحضر مع مروان حروبه ، ونشأ ابنه مؤدب كتاب ثم لحق بعبد الملك بن مروان وحضر معه قتل مصعب بن الزبير ثم انتدب لقتال عبد الله بن الزبير بمكة فجهزه أميرا على الجيش فحضر مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق إلى أن قتل ابن الزبير ( سنة 73 ) وقال جماعة : إنه دس على ابن عمر من سمه في زج رمح . وقد وقع بعض ذلك في صحيح البخاري ، وولاه عبد الملك الحرمين مدة ثم استقدمه فولاه الكوفة وجمع له العراقين ( وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ) فسار بالناس سيرة جائرة واستمر في الولاية نحوا من عشرين سنة ، روى الترمذي في الفتن من جامعه عن هشام بن حسان القردوسي البصري قال : أحصوا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألف قتيل . قال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كل امة بخبيثها وجئنا بالحجاج غلبناهم ، وكفره جماعة ، منهم سعيد بن جبير والنخعي ومجاهد والشعبي وعصم بن أبي النجود وغيرهم وقالت له أسماء بنت أبي بكر : أنت المبير الذي أخبرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومات بواسط في شوال سنة ( 95 ) وعمره خمسون سنة . وقيل : أنه لم يعش بعد قتل سعيد بن جبير إلا يسيرا ، ذكر قصة موته المؤلف في ترجمة سعيد بن جبير في حرف السين من إكماله ( عام نزل ) أي بجيش كثير ( بابن الزبير ) أي لقتاله ، وهو عبد الله بن الزبير ، وكان نزول الحجاج في سنة ثلاث وسبعين . وقال القاري : قوله عام نزل بابن الزبير " أي سنة قاتل فيها مع عبد الله بن الزبير الخليفة بمكة والعراقين

(18/349)


وغيرهما ما عدا نحو الشام حتى فر من معه وبقي صابرا مجاهدا بنفسه إلى أن ظفروا به فقتلوه وصلبوه ، ثم أمر عبد الملك الحجاج تلك السنة على الحاج وأمره أن يقتدي في جميع أحواله نسكه بأقوال عبد الله بن عمر وأفعاله وأن يسأله ولا يخالفه ، فحينئذ ( سأل ) أي الحجاج ( عبد الله ) أي ابن عمر ، وهو أبو سالم الراوي ( كيف نصنع في الموقف يوم عرفة ؟ ) أي في صلاة الظهر والعصر والوقوف في ذلك اليوم ، هل نقدمهما على الوقوف أو نوسطهما فيه أو نؤخرهما عنه ؟ ( فقال سالم ) أي ابن عبد الله ، ففيه تجريد أو نقل بالمعني وإلا فحق العبارة أن يقول " فقلت " ( إن كنت تريد السنة ) أي متابعة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فهجر ) أمر من التهجير ، أي صل بالهاجرة وهي شدة الحر ( بالصلاة ) أي الظهر والعصر ، قال في النهاية : التهجير التبكير في كل شيء ، فالمعنى صل صلاة الظهر والعصر جمعا أول وقت الظهر ( صدق ) أي سالم ( إنهم ) بكسر الهمزة ، أي إن الصحابة ( كانوا يجمعون بين الظهر
والعصر في السنة . فقلت لسالم : أفعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال سالم : وهل يتبعون ذلك إلا سنته . رواه البخاري .

(18/350)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والعصر في السنة ) بضم السين المهملة وتشديد النون ، أي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ابن عمر فهم من قول ولده سالم " فهجر بالصلاة " أي الظهر والعصر معا ، فأجاب بذلك فطابق كلام ولده ، قال الطيبي : قوله " في السنة " في محل النصب على الحال من فاعل يجمعون أي متوغلين في السنة ، متمسكين بها ، قاله تعريضا بالحجاج ، وقيل في السنة أي لأجل السنة وإتباعها . ( فقلت لسالم ) قائله ابن شهاب ( أفعل ذلك ) الهمزة فيه للاستفهام ( هل يتبعون ) كذا في جميع نسخ المشكاه بمثناة تحتية ثم فوقية ، وفي صحيح البخاري " تتبعون " أي بمثناة فوقية في أوله . قال الحافظ : بتشديد المثناة من فوق وكسر الموحدة بعدها مهملة كذا للأكثر من الإتباع ، وللكشميهني " تبتغون " بسكون الموحدة وفتح المثناة بعدها غين معجمة من الابتغاء وهو الطلب ( ذلك ) كذا في جميع نسخ المشكاة ، وفي صحيح البخاري " في ذلك " أي بزيادة " في " قال العيني والحافظ : وفي رواية الحموي بحذف كلمة " في " وهي مقدرة ويروى " بذلك " أي بالموحدة بدل " في " أي في ذلك الفعل . وقال الكرماني : أي في ذلك الجمع أو في التهجير ( إلا سنته ) قال الطيبي : قوله " هل يتبعون ذلك ؟ " أي في ذلك الجمع إلا سنته أو لا يتبعون التهجير في الجمع لشيء إلا لسنته ، فنصب (( سنة )) على نزع الخافض . وفي الحديث فتوى التلميذ بحضرة أستاذه ومعلمه عند السلطان وغيره ، وفيه تعليم الفاجر السنن لمنفعة الناس ، وفيه أن التوجه إلى المسجد الذي بعرفة حين تزول الشمس وتعجيل الرواح للإمام للجمع بن الظهر والعصر بعرفة في أول وقت الظهر سنة . ( رواه البخاري ) في باب الجمع بين الصلاتين بعرفة معلقا مجزوما حيث قال : وقال الليث : حدثني عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرني سالم أن الحجاج بن يوسف ، إلخ . قال الحافظ : وصله الإسماعيلي من طريق يحيى بن بكير وأبي صالح

(18/351)


جميعا عن الليث – انتهى . وأخرجه البيهقي (ج 5 : ص 114) من طريق الإسماعيلي .
(6) باب رمي الجمار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( باب رمي الجمار ) هكذا بوب مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه وأبو داود في سننه . قال الحافظ : أي وقت رميها أو حكم الرمي . قال القسطلاني : واحد الجمار جمرة وهي في الأصل النار المتقدة ، والحصاة ، وواحدة جمرات المناسك ، وهي المرادة ها هنا ، وهي ثلث : الجمرة الأولى والوسطى والعقبة يرمين بالجمار ، قاله في القاموس . وقال الشهاب القرافي من المالكية : الجمار اسم للحصى لا للمكان ، والجمرة اسم للحصاة ، وإنما سمي الموضع جمرة باسم ما جاوره وهو اجتماع الحصى فيه ، وقال الحافظ : الجمرة اسم لمجتمع الحصى ، سميت بذلك لاجتماع الناس بها . يقال تجمر بنوا فلان إذا اجتمعوا ، وقيل إن العرب تسمي الحصى الصغار جمارا فسميت تسمية الشيء باسم لازمه . وقيل لأن آدم أو إبراهيم لما عرض له إبليس فحصبه ، جمر بين يديه أي أسرع فسميت بذلك – انتهى . وقال ابن نجيم : الجمار هي الصغار من الحجارة جمع جمرة ، وبها سموا المواضع التي ترمى جمارا وجمرات لما بينهما من الملابسة ، وقيل لتجمع ما هنالك من الحصى ، من تجمر القوم إذا اجتمعوا – انتهى . وقال في اللمعات : الجمار الأحجار الصغار ، ومنه سمي جمار الحج للحصى التي ترمى بها . وأما موضع الجمار بمنى فيسمى جمرة لأنها ترمى بالجمار أو لأنه موضع مجتمع حصى ترمى ، والجمر يجيء بمعنى الجمع كثيرا أو من أجمر بمعنى أسرع – انتهى . هذا وقد بسط الكلام في ذلك الشنقيطي في أضواء البيان (ج 5 : ص 298 ) فراجعه . قال النووي في مناسكه قال الشافعي : الجمرة مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى فمن أصاب مجتمع الحصى بالرمي أجزأه ، ومن أصاب سائل الحصى الذي ليس بمجتمعه لم يجزه ، والمراد مجتمع الحصى في موضعه المعروف الذي كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - فلو حول

(18/352)


ورمى الناس في غيره واجتمع الحصى لم يجزه ، وقال البجيرمي : لو أزيل العلم الذي هو البناء في وسط الجمرة فإنه يكفي الرمي إلى محله بلا شك ، لأن العلم لم يكن موجودا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد رمى هو وأصحابه إلى الجمرة ، إلى آخر ما قال . وفي الغنية : قال في النخبة محل الرمي هو الموضع الذي عليه الشاخص وما حوله لا الشاخص ، ومثله في البحر . قلت : اختلفوا في مصداق الجمرة فقال الشافعية : الجمرة مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى ولا الشاخص ولا موضع الشاخص ، لكن هذا مخالف لما تقدم عن البجيرمي ، ويؤيده ما في روضة المحتاجين إذ قال : الثالث من الشرائط قصد المرمى ، فلو رمى في الهواء فوقع في المرمى لم يعتد به ، والمرمى هو مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى ، فلو قصد الشاخص أو حائط جمرة العقبة لم يكف وإن وقع في المرمى كما يفعله كثير من الناس . قال المحب الطبري : وهو الأظهر عندي . ويحتمل أنه يجزئه لأنه حصل فيه بفعله مع قصد الرمي الواجب . والثاني أقرب كما قاله الزركشي وهو المعتمد . ولا يقال يلزم عليه أنه لو رمى إلى غير المرمى فوقع في المرمى يجزئ ، وقد صرحوا بخلافه لأنا نقول فرق ظاهر بين الرمي إلى غير المرمى وبين الرمي إلى الشاخص الذي في وسط المرمى سيما والشاخص المذكور حادث لم يكن في زمنه - صلى الله عليه وسلم - . ولذا لو أزيل كفى الرمي إلى محله بلا شك – انتهى . وقال المالكية : الجمرة اسم للبناء وما تحته من موضع الحصباء على المعتمد ، وقيل إن الجمرة اسم للمكان الذي يجتمع فيه الحصى . وقال
...............................................................................................

(18/353)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحنيفة : ليس الشاخص محل الرمي لكن مع ذلك لما يكفي الوقوع قريب الجمرة ، فلو وقع على أحد جوانب الشاخص أي أطراف الميل أجزأه للقرب ، ولو وقع على قبة الشاخص ولم ينزل عنها لا يجزئه للبعد . وأما عند الحنابلة فقال ابن جاسر في نور الظلام : المرمى هو مجتمع الحصى لا نفس الشاخص . قال الشيخ سليمان بن علي في منسكه : المرمى الذي تترتب عليه الأحكام بقولهم (( يعتبر حصول كل حصاة في المرمى )) ، هو الأرض المحيطة بالميل المبني ، فلو طرح الحصاة في رأس البناء لم يعتد بها لأنها لم تحصل في المرمى – انتهى ملخصا . قال الشيخ ابن جاسر : إذا طرح الحصاة في رأس البناء كما يفعله كثير من الحجاج فتدحرجت في المرمى المحوط بالبناء في الجمرات الثلاث فإنها تجزئه ، أما إذا بقيت على رأس البناء فإنها لا تجزئه فيما يظهر لي والله أعلم . وقال ابن قدامة : ولا يجزئه الرمي إلا أن يقع الحصى في المرمى ، فإن وقع دونه لم يجزئه في قولهم جميعا ، لأنه مأمور بالرمي ولم يرم ، وهذا قول أصحاب الرأي ، إلى آخر ما قال . اعلم أن الكلام في رمي الجمار على ما قال صاحب العناية وغيره في أكثر من اثني عشر موضعا أحدها الوقت وهو يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، والثاني موضع الرمي وهو بطن الوادي والثالث في محل المرمى إليه وهو ثلاث جمرات ، والرابع في كمية الحصيات وهي سبعة عند كل جمرة ، والخامس في مقدار الحصاة ، وهو أن يكون مثل حصى الخذف ، والسادس في كيفية الرمي بأن يكون مثل الخاذف ويأخذ الحصى بطرف سبابته وإبهامه ، والسابع في صفة الرامي بأن يكون راكبا أو ماشيا ، والثامن في موضع وقوع الحصيات ، والتاسع في الموضع الذي يأخذ منه الحجر ، والعاشر فيما يرمى به وهو أن يكون من جنس الأرض ( عند الحنفية ) والحادي عشر أن يرمي في اليوم الأول جمرة العقبة لا غير ، وفي بقية الأيام يرمى الجمار كلها . والثاني عشر حكم

(18/354)


الرمي . والثالث عشر حكم التكبير عند الرمي . والرابع عشر تفريق الحصيات ، والخامس عشر الوقوف بعد الرمي للدعاء وغير ذلك . وأكثر هذه المسائل خلافية ، سيأتي بيان بعضها في شرح أحاديث هذا الباب وفي باب خطبة يوم النحر ورمي أيام التشريق . أما حكم الرمي فجمهور العلماء على أن رمي جمرة العقبة يوم النحر وكذا رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق الثلاثة واجب يجبر بدم ، وخالف عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك الجمهور فقال : إن رمي جمرة العقبة يوم النحر ركن لا حج لمن تركه كغيرها من الأركان . واحتج الجمهور بالقياس على الرمي في أيام التشريق . واحتج ابن الماجشون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها وقال : لتأخذوا عني مناسككم ، ولا يخف ما في هذا الاستدلال . وقال الحافظ : قد اختلف فيه أي في حكم الرمي ، فالجمهور على أنه واجب يجبر تركه بدم ، وعند المالكية سنة مؤكدة فيجبر ، وعندهم رواية أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه ، ومقابله قول بعضهم أنها إنما تشرع حفظا للتكبير ، فإن تركه وكبر أجزاه ، حكاه ابن جرير عن عائشة وغيرها – انتهى . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 491 ) : من ترك الرمي من غير عذر فعليه دم قال أحمد : أعجب إلي إذا ترك الأيام كلها كان عليه دم ، وفي ترك جمرة واحدة
( الفصل الأول )
2642 – (1) عن جابر ، قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر ،

(18/355)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ دم أيضا ، نص عليه أحمد ، وبهذا قال عطاء والشافعي وأصحاب الرأي ، وحكى عن مالك أن عليه في جمرة أو الجمرات كلها بدنة . وقال الحسن : من نسي جمرة واحدة يتصدق على مسكين . ولنا قول ابن عباس : من ترك شيئا من مناسكه فعليه دم ، وإن ترك أقل من جمرة فالظاهر عن أحمد أنه لا شيء في حصاة ولا في حصاتين ، وعنه : أنه يجب الرمي بسبع ، فإن ترك شيئا من ذلك تصدق بشيء أي شيء كان ، وعنه : أن في كل حصاة دما ، وهو مذهب مالك والليث ، وعنه في الثلاثة دم ، وهو مذهب الشافعي وفي ما دون ذلك في كل حصاة مد . وعنه : درهم ، وعنه : نصف درهم – انتهى . وسيأتي مزيد الكلام على هذا في شرح حديث عبد الله بن مسعود من هذا الباب .

(18/356)


2642 – قوله ( رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر ) هذا يدل على أن رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا أفضل من رميها راجلا وماشيا ، وحكى النووي في شرح مسلم عن الشافعي وموافقيه أنه يستحب لمن وصل راكبا أن يرمي راكبا ولو رمى ماشيا جاز ، ومن وصلها ماشيا فيرميها ماشيا . قال : وهذا في يوم النحر ، وأما اليومان الأولان من أيام التشريق فالسنة أن يرمي فيها الجمرات الثلاثة ماشيا ، وفي اليوم الثالث يرمي راكبا . وكذا قال في مناسكه . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 428) : ويرميها راكبا أو راجلا كيف ما شاء ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها على راحلته ، رواه جابر وابن عمر وأم أبي الأحوص وغيرهم . قال جابر : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر والحديث . رواه مسلم . وقال نافع : كان ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر ، وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيا ذاهبا وراجعا . رواه أحمد في المسند ، وفي هذا بيان للفرق بين هذه الجمرة وغيرها ، ولأن رمى هذه الجمرة مما يستحب البداية به في هذا اليوم عند قدومه ، ولا يسن عندها وقوف ، ولو سن له المشي إليها لشغله النزول عن البداية بها والتعجيل إليه بخلاف سائرها – انتهى . وقال الدسوقي من المالكية : يندب أن يرمي جمرة العقبة حين وصوله على الحالة التي وصلها من ركوب أو مشي فلا يصبر حتى ينزل أو يركب ، لأن فيه عدم الاستعجال برميها – انتهى . وقال الباجي : قد قال مالك في المبسوط : الشأن يوم النحر أن يرمي جمرة العقبة راكبا كما يأتي الناس على دوابهم ، وأما في غير يوم النحر فكان يقول يرمي ماشيا ، والأصل في ذلك أنه يرمي جمرة العقبة متصلا بوروده ، وأما في سائر الأيام فإن المشي إليها تواضع ويحتاج إلى الدعاء عند الجمرتين . فلو ركب الناس لضاق بهم المكان – انتهى . وقال العيني : قال أصحابنا الحنفية : كل رمي

(18/357)


بعده رمي كالجمرتين الأوليين في الأيام الثلاثة يرمى ماشيا . وإن لم يكن بعده رمي كرمي جمرة العقبة يوم النحر والجمرة الأخيرة في الأيام الثلاثة فيرمي راكبا ، هذا هو الفضيلة ، وأما الجواز فثابت كيفما كان – انتهى . وقال ابن عابدين : والضابط عندنا أن كل رمي يقف بعده فإنه يرميه ماشيا وهو كل رمي بعده رمي كما مر ، وما لا فلا ، ثم
ويقول : " لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " . رواه مسلم .

(18/358)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا التفصيل قول أبي يوسف وله حكاية مشهورة ذكرها الطحطاوي وغيره ، وهو مختار كثير من المشائخ كصاحب الهداية والكافي والبدائع وغيرهم . وأما قولهما فذكر في البحر أن الأفضل الركوب في الكل على ما في الخانية ، والمشي في الكل على ما في الظهيرية ، وقال : فتحصل أن في المسألة ثلاثة أقوال . ورجح الشيخ كمال الدين بن الهمام ما في الظهيرية بأن أدائها ماشيا أقرب إلى التواضع والخشوع وخصوصا في هذا الزمان ، فإن عامة المسلمين مشاة في جميع الرمي فلا يؤمن من الأذى بالركوب بينهم بالزحمة ، ورميه عليه الصلاة والسلام راكبا إنما هو ليظهر فعله ليقتدى به كطوافه راكبا – انتهى . وفي المرقاة : وروى البيهقي وابن عبد البر أنه عليه الصلاة والسلام رمى أيام التشريق ماشيا . زاد البيهقي : فإن صح هذا كان أولى بالإتباع ، وقال غيره : قد صححه الترمذي وغيره . وزاد ابن عبد البر : وفعله جماعة من الخلفاء بعده وعليه العمل . وحسبك ما رواه القاسم بن محمد من فعل الناس ، ولا خلاف أنه عليه الصلاة والسلام وقف بعرفة راكبا ورمى الجمار ماشيا ، وذلك محفوظ من حديث جابر – انتهى . ويستثنى منه رمي جمرة العقبة في أول أيام النحر كما لا يخفى ( ويقول ) عطف على ( يرمي )) فيكون من قبيل (( علفتها تبنا وماء باردا )) أو الجملة حالية ( لتأخذوا مناسككم ) قال النووي : هذه اللام لام الأمر ومعناه خذوا مناسككم ، وهكذا وقع في رواية غير مسلم ، وتقديره : هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته ، وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس . وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج وهو نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) – انتهى . قال الطيبي : ويجوز أن تكون اللام للتعليل والمعلل محذوف أي يقول : إنما فعلت

(18/359)


لتأخذوا عني مناسككم – انتهى . ويؤيد الأول ما ورد عند النسائي والبيهقي بلفظ (( خذوا عني مناسككم )) وقال القرطبي : روايتنا لهذا الحديث بلام الجر المفتوحة والنون التي هي مع الألف ضمير أي يقول لنا (( خذوا مناسككم )) فيكون قوله (( لنا )) صلة للقول ، قال : هو الأفصح ، وقد روي (( لتأخذوا مناسككم )) بكسر اللام للأمر ، وبالتاء المثناة من فوق ، وهي لغة قرأ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى ? فبذلك فلتفرحوا ? ( 10 : 58 ) انتهى . قال السندي في حاشية النسائي (( خذوا عني مناسككم )) أي تعلموها مني واحفظوها ، وهذا لا يدل على وجوب المناسك ، وإنما يدل على وجوب أخذها وتعلمها ، فمن استدل به على وجوب شيء من المناسك فاستدلاله في محل النظر . فليتأمل – انتهى . وكذا قال في حاشية مسلم . وعلل ذلك بقوله : إذ وجوب تعلم الشيء لا يدل على وجوب ذلك الشيء إذ جميع المندوبات والسنن يجب أخذها وتعلمها ولو على وجه الكفاية ، وهي غير واجبة عملا فافهم ، والله تعالى أعلم ( فإني لا أدري ) مفعوله محذوف أي لا أعلم ماذا يكون ( لعلي لا أحج بعد حجتي ) بفتح الحاء ، وهي يحتمل أن يكون مصدرا ، وأن يكون بمعنى السنة ( هذه ) أي التي أنا فيها ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 130) قال المزي : هذا الحديث في
2643 – (2) وعنه قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمرة بمثل حصى الخذف . رواه مسلم .
2644 – (3) وعنه قال : رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضحى ، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رواية أبي الحسن بن العبد وأبي بكسر بن داسة ، ولم يذكره أبو القاسم أي اللؤلؤي ، ولذا لم يذكره المنذري في مختصر السنن .

(18/360)


2643 – قوله ( بمثل حصى الخذف ) تقدم ضبطه ومعناه في شرح حديث جابر الطويل ، وهو دليل على استحباب كون الحصى في هذا المقدار ، قال القاري : وهو قدر حبة الباقلي أو النواة أو الأنملة فيكره أصغر من ذلك وأكبر منه وذلك للنهي عن الثاني في الخبر الصحيح (( بأمثال هؤلاء فارموا ، وإياكم والغلو في الدين )) – انتهى . وقال في رد المحتار : إنها مقدار الباقلاء ، قال في النهر : وهذا بيان المندوب ، وأما الجواز فيكون ولو بالأكبر مع الكراهة – انتهى . قال الشيخ ولي الله الدهلوي : وإنما رمى بمثل حصى الخذف لأن دونها غير محسوس ، وفوقها ربما يؤذي في مثل هذا الموضع ، والحديث رواه الدارمي والبيهقي (ج 5 : ص 127 ) من طريق سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف . قال الزرقاني : أمرهم - صلى الله عليه وسلم - مع رميه بمثلها لأنهم كلهم لم يروا رميه لكثرتهم – انتهى . ( رواه مسلم وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 127) .

(18/361)


2644 – قوله ( رمى رسول الله الجمرة ) أي جمرة العقبة ( يوم النحر ) أي يوم العيد ( ضحى ) قال العراقي : الرواية فيه بالتنوين على أنه مصروف وهو مذهب النحاة من أهل البصرة سواء قصد التعريف أو التنكير . وقال الجوهري : تقول : لقيته ضحى وضحى ، إذا أردت به ضحى يومك لم تنونه ( يعني أنه منون عند التنكير وغير منون عند التعريف ) وقال : ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى وهي حين تشرق الشمس مقصورة تؤنث وتذكر فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة ، ومن ذكر ذهب إلى أنه إسم على فعل مثل صرد ونغر ، وهو ظرف غير متمكن مثل سحر ، قال : ثم بعده الضحاء ممدود مذكر ، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : يا عباد الله أضحوا لصلاة الضحى ، يعني لا تصلوها إلا إلى ارتفاع الضحى – انتهى . وقد تحصل من هذا أن الضحوة وقت طلوع الشمس ، والضحى وقت شروقها ، والضحاء وقت ارتفاعها . قال القاري : قوله ضحى أي وقت الضحوة من بعد طلوع الشمس إلى ما قبل الزوال ( وأما بعد ذلك ) أي بعد يوم النحر وهو أيام التشريق ( فإذا زالت الشمس ) أي فيرمي بعد الزوال ، قال العيني (ج 10 : ص 86) : يستفاد منه أن الرمي في أيام التشريق محله بعد زوال الشمس وهو كذلك ، وقد اتفق عليه الأئمة ، وخالف أبو حنيفة في اليوم الثالث منها فقال : يجوز الرمي فيه قبل الزوال استحسانا
...............................................................................................

(18/362)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( مع الكراهة التنزيهية ) وقال : إن رمى في اليوم الأول أو الثاني قبل الزوال أعاد وفي الثالث يجزئه . وقال عطاء وطاوس : يجوز في الثلاثة قبل الزوال – انتهى . وقال ابن الهمام : أفاد حديث جابر أن وقت الرمي في اليوم الثاني لا يدخل إلا بعد ذلك ، وكذا في اليوم الثالث ، وفي رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة قال : أحب إلي أن لا يرمي في اليوم الثاني والثالث حتى تزول الشمس ، فإن رمى قبل ذلك أجزأه ، وحمل المروي من فعله عليه الصلاة والسلام على اختيار الأفضل وجه الظاهر اتباع المنقول لعدم المعقولية ، كذا في المرقاة . وروى البخاري عن ابن عمر كما سيأتي في خطبة يوم النحر : قال كنا نتحين ( أي نراقب الوقت ) فإذا زالت الشمس رمينا . قال الحافظ : فيه دليل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال ، وبه قال الجمهور ، وخالف فيه عطاء وطاوس فقالا : يجوز قبل الزوال مطلقا ، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال . وقال إسحاق : إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه – انتهى . قال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر كلام الحافظ : لا دليل على ما ذهب إليه عطاء وطاؤس لا من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من قوله . وأما ترخيص الحنيفة في الرمي في يوم النفر قبل الزوال فاستدلوا عليه بأثر ابن عباس الآتي وهو ضعيف ، فالمعتمد ما قال به الجمهور . قال في الهداية : إن قدم الرمي في اليوم الرابع قبل الزوال بعد طلوع الفجر جاز عند أبي حنيفة ، وهذا استحسان . وقالا : لا يجوز اعتبارا بسائر الأيام ، وإنما التفاوت في رخصة النفر ، فإذا لم يترخص التحق بها . ومذهبه مروي عن ابن عباس – انتهى . قال ابن الهمام : أخرج البيهقي عنه : إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي والصدر ، والانتفاخ والارتفاع ، وفي سنده طلحة بن عمرو ضعفه البيهقي . قال ابن الهمام :

(18/363)


ولا شك أن المعتمد في تعيين الوقت للرمي في الأول من أول النهار وفيما بعده من بعد الزوال ليس إلا فعله كذلك مع أنه غير معقول ( أي لا مدخل للعقل فيه ) ولا يدخل وقته قبل الوقت الذي فعله فيه عليه الصلاة والسلام كما لا يفعل في غير ذلك المكان الذي رمى فيه عليه الصلاة والسلام ، وإنما رمى عليه الصلاة والسلام في الرابع بعد الزوال فلا يرمى قبله – انتهى . وذكر الشنقيطي في أضواء البيان حديث جابر الذي نحن في شرحه وحديث ابن عمر المتقدم وحديث عائشة عند أحمد وأبي داود بلفظ " أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس " الحديث ، وحديث ابن عباس عند أحمد (ج 1 : ص 248 ، 290 ، 328) والترمذي وابن ماجة بلفظ " رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمار حين زالت الشمس " ثم قال : وبهذه النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلم أن قول عطاء وطاوس بجواز الرمي في أيام التشريق قبل الزوال ، وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال ، وقول إسحاق : إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزأه كل ذلك خلاف التحقيق ، لأنه مخالف لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه المعتضد بقوله " لتأخذوا عني مناسككم " ولذلك خالف أبا حنيفة في ترخيصه المذكور صاحباه محمد وأبو يوسف ، ولم يرد في كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيء يخالف ذلك ، فالقول بالرمي قبل الزوال أيام التشريق
متفق عليه .
2645 – (4) وعن عبد الله بن مسعود ، أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى ، فجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ،

(18/364)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا مستند له البتة مع مخالفته للسنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، فلا ينبغي لأحد أن يفعله ، والعلم عند الله تعالى ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في باب رمي الجمار معلقا مجزوما ومسلم . موصولا ، وكذا أخرجه موصولا أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمه وابن حبان وإسحاق بن راهويه والدارمي والبيهقي (ج 5 : 131 ، 149) .
2645 – قوله ( انتهى ) أي وصل ( إلى الجمرة الكبرى ) أي جمرة العقبة ، ووهم الطيبي فقال : أي الجمرة التي عند مسجد الخيف . قال الحافظ : وتمتاز جمرة العقبة عن الجمرتين الأخريين بأربعة أشياء : اختصاصها بيوم النحر ، وأن لا يوقف عندها ، وترمى ضحى ، ومن أسفلها استحبابا . قال : وجمرة العقبة هي الجمرة الكبرى وليست من منى بل هي حد منى من جهة مكة وهي التي بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار عندها على الهجرة ( فجعل البيت ) أي الكعبة ( عن يساره ومنى عن يمينه ) فيه أنه يستحب لمن وقف عند جمرة العقبة أن يجعل مكة عن يساره ومنى على جهة يمينه ويستقبل الجمرة بوجهه ، وروى أحمد (ج 1 : ص 430 ، 432) والترمذي وابن ماجة حديث ابن مسعود هذا بلفظ " لما أتى عبد الله جمرة العقبة استبطن الوادي ( أي قصد بطن الوادي ليقوم فيه للرمي ) واستقبل القبلة " قال الحافظ بعد ذكره : وما رواه البخاري هو الصحيح ، وهذا ( أي ما رواه أحمد والترمذي وابن ماجة ) شاذ ، في إسناده المسعودي ، وقد اختلط ، وبالأول قال الجمهور ، وجزم الرافعي من الشافعية بأنه يستقبل الجمرة ويستدبر القبلة ، وقيل يستقبل القبلة ويجعل الجمرة عن يمينه ، وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها جاز سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو يساره أو من فوقها أو من أسفلها أو وسطها ، والاختلاف في الأفضل – انتهى . فالأفضل عند الجمهور الكيفية التي وردت في حديث ابن مسعود عند الشيخين وغيرهما .

(18/365)


قال النووي في شرح مسلم : في حديث ابن مسعود استحباب كون الرمي من بطن الوادي فيستحب أن يقف تحتها في بطن الوادي فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ويستقبل جمرة العقبة ويرميها بالحصيات السبع ، وهذا هو الصحيح في مذهبنا " وبه قال جمهور العلماء . وقال بعض أصحابنا : يستحب أن يقف مستقبل الجمرة مستدبرا مكة . وقال بعض أصحابنا : يستحب أن يقف مستقبل الكعبة وتكون الجمرة عن يمينه والصحيح الأول - انتهى . وقال ابن بطال : رمي جمرة العقبة من حيث تيسر من العقبة من أسفلها أو أعلاها أو وسطها ، كل ذلك واسع ، والموضع الذي يختار بها بطن الوادي من أجل حديث ابن مسعود ، وكان جابر بن عبد الله يرميها من بطن الوادي ، وبه قال عطاء وسالم وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق . وقال مالك : رميها من أسفلها أحب إلي . وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه جاء والزحام
ورمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ،

(18/366)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عند الجمرة فصعد فرماها من فوقها ، ذكره العيني (ج 10 : ص 87) وأما الجمرة الأولى ( أي الجمرة الدنيا – بضم الدال وبكسرها – أي القريبة إلى جهة مسجد الخيف ) والثانية فيرمي مستقبل القبلة عندهم جميعا ندبا لا وجوبا ( ورمى بسبع حصيات ) بفتح الصاد والياء جمع حصاة ، وفيه دليل على أن رمي الجمرة يكون بسبع حصيات ، وقد ترجم البخاري لحديث ابن مسعود هذا (( باب رمي الجمار بسبع حصيات )) قال الحافظ : أشار في الترجمة إلى رد ما رواه قتادة عن ابن عمر ، قال : ما أبالي رميت الجمار بست أو سبع ، وقد أنكر ذلك ابن عباس ، وقتادة لم يسمع من ابن عمر ، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة ، وروي من طريق مجاهد : من رمى بست فلا شيء عليه . ومن طريق طاوس يتصدق بشيء ، وعن مالك والأوزاعي : من رمى بأقل من سبع وفاته التدارك يجبره بدم ، وعن الشافعية في ترك حصاة مد ، وفي ترك حصاتين مدان ، وفي ثلاثة فأكثر دم . وعن الحنفية إن ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث فنصف صاع وإلا فدم – انتهى . وقال العيني : يستفاد من حديث ابن مسعود أن رمي الجمرة لا بد أن يكون بسبع حصيات وهو قول أكثر العلماء ، وذهب عطاء إلى أنه إن رمى بخمس أجزأه . وقال مجاهد : إن رمى بست فلا شيء عليه ، وبه قال أحمد وإسحاق ، واحتج من قال بذلك بما رواه النسائي من حديث سعد بن مالك رضي الله عنه قال : رجعنا في الحجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضنا يقول رميت : بست حصيات ، وبعضنا يقول : رميت بسبع ، فلم يعب بعضنا على بعض . وروى أبو داود والنسائي أيضا من رواية أبي مجلز قال : سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن شيء من أمر الجمار فقال : ما أدري رماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بست أو سبع . والصحيح الذي عليه الجمهور أن الواجب سبع كما صح من حديث ابن مسعود وجابر وابن عباس وابن عمر وغيرهم . وأجيب عن حديث سعد بأنه

(18/367)


ليس بمسند ، وعن حديث ابن عباس أنه ورد على الشك من ابن عباس ، وشك الشاك لا يقدح في جزم الجازم ، ومن رماها بأقل من سبع حصيات فذهب الجمهور فيما حكاه القاضي عياض إلى أن عليه دما ، وهو قول مالك والأوزاعي . وذهب الشافعي وأبو ثور إلى أن على تارك حصاة مدا من طعام وفي اثنتين مدين وفي ثلاث فأكثر دما ، وللشافعي قول آخر أن في الحصاة ثلاث دم ، وله قول آخر أن في الحصاة درهما . وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى أنه إن ترك أكثر من نصف الجمرات الثلاث فعليه دم ، وإن ترك أقل من نصفها ففي كل حصاة نصف صاع – انتهى . ( يكبر مع كل حصاة ) فيه أنه يستحب التكبير عند رمي حصى الجمار . قال النووي : استحباب التكبير مع كل حصاة هو مذهبنا ومذهب مالك والعلماء كافة . قال القاضي عياض : وأجمعوا على أنه لو ترك التكبير لا شيء عليه . وقال الحافظ : قد أجمعوا على أن من تركه لا يلزمه شيء إلا الثوري فقال : يطعم ، وإن جبره بدم أحب إلي – انتهى . وذكر الطبري عن بعضهم أنه لو ترك رمي جميعهن بعد أن يكبر عند كل جمرة سبع تكبيرا أجزأه . قال : وإنما جعل الرمي في ذلك بالحصي سببا لحفظ التكبيرات السبع كما جعل
............................................................................................

(18/368)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عقد الأصابع بالتسبيح سببا لحفظ العدد ، وذكر عن يحيى بن سعيد أنه سئل عن الخرز والنوى يسبح به قال : حسن قد كانت عائشة تقول : إنما الحصى للجمار ليحفظ به التكبيرات – انتهى . واستدل بهذا الحديث على اشتراط رمي الجمار واحدة واحدة لقوله (( يكبر مع كل حصاة )) وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " خذوا عني مناسككم " ، وخالف في ذلك عطاء وصاحبه أبو حنيفة فقالا : لو رمى السبع دفعة واحدة أجزأه ، كذا ذكره الحافظ . وقال ابن قدامة : وإن رمى الحصاة دفعة واحدة لم يجزه إلا عن واحدة ، نص عليه أحمد ، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ، وقال عطاء : يجزئه ويكبر لكل حصاة – انتهى . وما ذكره الحافظ من موافقة أبي حنيفة لعطاء في إجزاء رمي السبع دفعة واحدة لعله أخذه عن صاحب التوضيح من الشافعية كما سيأتي في كلام العيني أو عن الكرماني ، فإنه ذهب إلى ذلك حيث قال : إذا وقعت السبع متفرقة على مواضع الجمرات جاز ، كما لو جمع بين أسواط الحد بضربة واحدة وإن وقعت على مكان واحد لا يجوز ، وليس هذا مشهور في مذهب الحنفية ، بل المصرح في فروعهم عدم الإجزاء مطلقا كما هو قول الأئمة الثلاثة ، ففي الهداية : لورمي بسبع حصيات جملة فهذه الجملة واحدة لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال ، قال العيني في البناية : أي لأن المنصوص هو فعل الرمي بسبع حصيات متفرقات لا عين الحصيات – انتهى . وفي الغنية : الخامس ( من الشرائط ) تفريق الرميات ، فلو رمى بسبع حصيات أو أكثر جملة واحدة لا يجزئه إلا عن واحدة ولو متفرقة عند الأربعة خلافا لما في الكرماني أنها إذا وقعت متفرفة جاز ، وتمامه في المنحة – انتهى . وفي اللباب : الرابع : تفريق الرميات ، فلو رمي بسبع حصيات جملة واحدة لم يجزه إلا عن حصاة واحد . قال القاري : لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال لا عين الحصيات ، فإذا أتى بفعل واحد لا يكون إلا عن حصاة واحدة

(18/369)


لاندراجها في ضمن الجملة ، إلى آخر ما قال . وقال العيني : اختلفوا في من رمى سبع حصيات مرة واحدة فقال مالك والشافعي : لا يجزئه إلا عن حصاة واحدة ويرمي بعدها ستا ، وقال عطاء تجزئه عن السبع وهو قول أبي حنيفة ، وهذا الذي ذكر عن أبي حنيفة ذكره صاحب التوضيح ، وذكر في المحيط : ولو رمى إحدى الجمار بسبع حصيات رمية واحدة فهي بمنزلة حصاة وكان عليه أن يرمي ست مرات . قال العيني : العمدة في النقل عن صاحب مذهب من المذاهب على نقل صاحب من أصحاب ذلك المذهب – انتهى . فائدة : قال الحافظ : زاد محمد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي عن أبيه في هذا الحديث ( عند أحمد ج 1 : ص 427) عن ابن مسعود أنه لما فرغ من رمي جمرة العقبة قال : اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا – انتهى . وروى البيهقي في السنن (ج 5 : ص 129) عن سالم ابن عبد الله بن عمر أنه استبطن الوادي ثم رمي الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة : الله أكبر ، الله أكبر ، اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وعملا مشكورا . وقال : حدثني أبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرمي الجمرة في هذا المكان ويقول كلما رمى بحصاة مثل ما قلت . قال البيهقي : عبد الله بن حكيم بن الأزهر
ثم قال : هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة . متفق عليه .
2646 – (5) وعن جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الاستجمار تو ، ورمي الجمار تو ، والسعي بين الصفا والمروة تو ، والطواف تو ، وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو " .

(18/370)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ضعيف . وروى حنبل في المناسك عن زيد بن أسلم عن سالم بن عبد الله مثل ذلك كما في المغني ( ثم قال ) أي ابن مسعود ( هكذا رمى ) بصيغة الفعل ( الذي أنزلت عليه سورة البقرة ) قال ابن المنير : خص عبد الله سورة البقرة بالذكر لأنها التي ذكر الله فيها الرمي فأشار إلى أن فعله - صلى الله عليه وسلم - مبين لمراد كتاب الله تعالى . قال الحافظ : ولم أعرف موضع ذكر الرمي من سورة البقرة ، والظاهر أنه أراد أن يقول : إن كثيرا من أفعال الحج مذكور فيها ، فكأنه قال : هكذا رمى الذي أنزلت عليه أحكام المناسك منبها بذلك على أن أفعال الحج توقيفية . وقيل خص البقرة بذلك لطولها وعظم قدرها وكثرة ما فيها من الأحكام – انتهى . وقال في اللمعات بعد ذكر كلام الحافظ : " ولم أعرف موضع ذكر الرمي فيها ، قلت : لعل الإشارة إلى ذكر الرمي في قوله تعالى : ? واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ? (2 : 203 ) فإن الرمي في تلك الأيام ، وينبئ عنه أول حديثي عائشة في الفصل الثاني – انتهى . ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد مختصرا ومطولا مرارا (ج 1 : ص 374 ، 408 ، 415 ، 422 ، 427 ، 436 ، 457 ، 458) وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي (ج 5 : ص 129 ، 148) .

(18/371)


2646- قوله ( الاستجمار ) أي الاستنجاء بالأحجار ( تو ) بفتح المثناة الفوقية وتشديد الواو ، أي فرد ، قال النووي : التو – بفتح التاء المثناة فوق وتشديد الواو – هو الوتر ، والمراد بالاستجمار الاستنجاء – انتهى . والإيتار والفردية هنا بالثلاثة ، وفي البواقي بالسبعة بدليل الأحاديث المصرحة بذلك . وقد تقدم في باب آداب الخلاء أن الإيتار بالثلاثة في الاستنجاء واجب ( ورمي الجمار ) في الحج ( تو ) أي سبع حصيات وكلها واجبة ( والسعي بين الصفا والمروة تو ) أي سبع وكلها واجبة ( والطواف تو ) أي سبعة أشواط وكلها فرائض عند الجمهور ، وعند الحنفية أربعة أشواط فرض والباقي واجب . قال الجزري في النهاية : يريد أنه يرمي الجمار في الحج فردا وهي سبع حصيات ويطوف سبعا ويسعى سبعا . وقيل أراد بفردية الطواف والسعي أن الواجب منهما مرة واحدة لا تثنى ولا تكرر سواء كان المحرم مفردا أو قارنا ( وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو ) قال المناوي : ليس هذا تكرارا بل بالأول الفعل وبالثاني عدد الأحجار ، وفيه وجوب تعدد الحجر لضرورة تصحيح الإيتار بما يتقدمه من الشفع ، إذ لا قائل بتعيين الإيتار بحجر واحد – انتهى . وقال القاري : الظاهر أن المراد بالاستجمار هنا أي في قوله (( إذا استجمر أحدكم )) إلخ . هو التبخر ، فإنه يكون بوضع العواد على جمرة النار فيرتفع التكرار وهو أولى من قول القاضي عياض وتبعه الطيبي أن المراد بالأول
رواه مسلم .
( الفصل الثاني )
2647 – (6) عن قدامة بن عبد الله بن عمار ، قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء ، ليس ضرب ولا طرد ، وليس قيل : إليك ، إليك . رواه الشافعي ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، والدارمي .
2648 – (7) وعن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " إنما جعل رمي الجمار ، والسعي بين الصفا والمروة ، لإقامة ذكر الله " .

(18/372)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفعل وبالثاني عدد الأحجار – انتهى . وقال السندي في حاشية مسلم : يحتمل عندي في وجوه التكرير أن يحمل الاستجمار في هذا الحديث في أحد الموضعين على الاستنجاء وفي الموضع الآخر على التبخر ، كتبخر أكفان الميت ونحوه والله تعالى أعلم ( رواه مسلم ) هذا الحديث من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري ولا أصحاب السنن ، وخرج منه البخاري الاستجمار خاصة من حديث أبي هريرة ، والحديث ذكره المحب الطبري في القرى وقال : أخرجاه . وهو وهم منه .

(18/373)


2647- قوله ( عن قدامة ) بضم القاف وتخفيف الدال المهملة ( بن عبد الله بن عمار ) بفتح المهملة وتشديد الميم ( رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وفي بعض النسخ (( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) ( يرمي الجمرة ) أي جمرة العقبة ( على ناقة صهباء ) بفتح الصاد المهملة وسكون الهاء ، هي التي يخالط بياضها حمرة ، وذلك بأن يحمر أعلى الوبر وتبيض أجوافه ، وقال الطيبي : الصهبة كالشقرة . وقال الجزري : المعروف أن الصهبة مختصة بالشعر وهي حمرة يعلوها سواد ( ليس ) أي هناك ( ضرب ) أي منع بالعنف ( ولا طرد ) أي دفع باللطف ( وليس ) أي ثمة ( قيل ) بكسر القاف ورفع اللام مضافا إلى ( إليك إليك ) أي قول (( إليك )) أي تنح وتبعد . قال ابن حجر تبعا للطيبي : والتكرير للتأكيد ، قال القاري : وهذا إنما يصح لو قيل لواحد إليك إليك ، والظاهر أن المعنى أنه ما كان يقال للناس ((إليك إليك )) وهو اسم فعل بمعنى تنح عن الطريق ، فلا يحتاج إلى تقرير متعلق كما نقله الطيبي بقوله : ضم إليك ثوبك وتنح عن الطريق - انتهى . والمقصود والغرض من هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - على سجيته المتواضعة كان يرمي من غير أن يكون هناك ضرب للناقة أو طرد للناس أو قول إليك ، فلا فعل صدر للضرب والطرد ولا قول ظهر للتبعيد والتنحية . والحديث يدل على رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا ( رواه الشافعي ) إلخ . وأخرجه أيضا أحمد (ج 6 : ص 412) وابن حبان والبيهقي (ج 5 : ص 130) والحاكم (ج 1: ص 466) وصححه الترمذي ، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط البخاري أقره الذهبي .
2684 – قوله ( إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله ) يعني إنما شرع ذلك لإقامة
رواه الترمذي ، والدارمي ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
2649 - (8) وعنها ، قالت : قلنا : يا رسول الله ! ألا نبني لك بناء يظلك بمنى ؟ قال : " لا ،

(18/374)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شعار النسك ، قاله المناوي ، وقال القاري : أي لأن يذكر الله في هذه المواضع المتبركة ، فالحذر الحذرمن الغفلة . وإنما خصا بالذكر مع أن المقصود من جميع العبادات هو ذكر الله تعالى لأن ظاهرهما فعل لا تظهر فيهما العبادة ، وإنما فيهما التعبد للعبودية بخلاف الطواف حول بيت الله ، والوقوف للدعاء فإن أثر العبادة لائحة فيهما . وقيل إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة سنة لإقامة ذكر الله ، يعني التكبير مع كل حجر والدعوات المذكورة في السعي سنة ، ولا يبعد أن يكون لك من الرمي والسعي حكمة ظاهرة ونكتة باهرة غير مجرد التعبد وإظهار المعجزة ، ثم أطال القاري الكلام في ذلك نقلا عن الطيبي والغزالي ، من شاء الوقوف على ذلك رجع إلى المرقاة وأضواء البيان (ج5 : ص 315) للشنقيطي ، وقد تقدم شيء من الكلام على ذلك في شرح حديث جابر الطويل ، واللفظ المذكور في الكتاب للترمذي ، ورواه أحمد وأبو داود والدارمي والحاكم بلفظ (( إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله )) زاد الحاكم (( لا غيره )) وفي الحديث حث على المحافظة على سنن الحج من ذكر الطواف ونحوه ، وقال العزيزي : لعل المراد بالحديث الحث على الذكر في الطواف وتألييه – انتهى . ( رواه الترمذي ) إلخ ، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود في باب الرمل ، وابن الجارود والحاكم (ج 1 : ص 459) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وسكت عنه أبو داود ، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره ، وقال النووي في شرح المهذب بعد ذكر الحديث عن أبي داود بسنده ما لفظه : هذا الإسناد كله صحيح إلا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفا يسيرا ، ولم يضعف أبو داود هذا الحديث فهو حسن عنده . ورواه الترمذي من رواية عبيد الله هذا ، وقال : هو حديث حسن ، وفي بعض النسخ " حسن صحيح " فلعله اعتضد براوية أخرى – انتهى . قال الشنقيطي

(18/375)


: عبيد الله بن أبي زياد المذكور هو القداح أبو الحصين المكي ، وقد وثقه جماعة وضعفه آخرون ، وحديثه معناه صحيح بلا شك ، ويشهد لصحة معناه قوله تعالى ? واذكروا الله في أيام معدودات ? (2: 203) لأنه يدخل في الذكر المأمور به رمي الجمار بدليل قوله بعده ? فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ? الآية . وذلك يدل على أن الرمي شرع لإقامة ذكر الله كما هو واضح – انتهى .
2649 – قوله ( قالت : قلنا ) أي معشر الصحابة ، وهذا لفظ الترمذي ، وفي أبي داود والدرامي وابن ماجة (( قالت : قلت )) وفي السنن للبيهقي والمستدرك للحاكم (( قالت : قيل )) ( ألا نبني ) بصيغة المتكلم ( بناء ) وفي ابن ماجة (( بيتا )) وفي أبي داود (( بيتا أو بناء )) ( يظلك ) زاد في أبي داود (( من الشمس )) ( قال : لا ) أي لا تبنوا لي بناء بمنى لأنه ليس مختصا بأحد ، إنما هو موضع العبادة من الرمي وذبح الهدي والحلق ونحوها ، فلو أجيز البناء فيه لكثرت الأبنية وتضيق المكان
منى مناخ من سبق " . رواه الترمذي ، وابن ماجة ، والدارمي .

(18/376)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( منى ) مبتدأ و ( مناخ من سبق ) خبره ، والمناخ بضم الميم ، موضع إناخة الإبل ، والمعنى أن الاختصاص فيه بالسبق لا بالبناء فيه . قال الطيبي : أي أتأذن أن نبني لك بيتا في منى لتسكن فيه فمنع وعلل بأن منى موضع لأداء النسك من النحر ورمي الجمار والحلق يشترك فيه الناس فلو بني فيها لأدى إلى كثرة الأبنية تأسيا به فتضيق على الناس وكذلك حكم الشوارع ومقاعد الأسواق ، وعند أبي حنيفة رحمه الله أرض الحرم موقوفة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة قهرا وجعل أرض الحرم موقوفة فلا يجوز أن يمتلكها أحد – انتهى . وقال الخطابي في معالم السنن : قد يحتج بهذا من لا يرى دور مكة مملوكة لأهلها ولا يرى بيعها وعقد الإجارة عليها جائزا ، وقد قيل : إن هذا خاص للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمهاجرين من أهل مكة فإنها دار تركوها لله تعالى فلم ير أن يعود فيها فيتخذوها وطنا أو يبنوا فيها بناء ، والله أعلم – انتهى . قال القاري : وفي أن هذا التعليل يخالف تعليله - صلى الله عليه وسلم - مع أن منى ليست دارا هاجروا منها – انتهى . قلت : عدم جواز بيع أرض الحرم وبيوت مكة وإجارتها هو مذهب أبي حنيفة ومحمد والثوري ، وإليه ذهب عطاء ومجاهد ومالك وإسحاق وأبو عبيد ، وذهب أبو يوسف والشافعي وأحمد وطاوس وعمرو بن دينار وابن المنذر إلى الجواز ، واحتج الأولون بحديث عائشة هذا ، وما أجيب به من اختصاص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين فلا يخفى ما فيه ، فإن الخصوصية لا تثبت بالادعاء ، وقال المحب الطبري في القرى (ص 438 ) بعد ما حكى نحو كلام الخطابي : ويحتمل أن يكون ذلك مخصوصا بمنى لمكان اشتراك الناس في النسك المتعلق بها فلم ير - صلى الله عليه وسلم - لأحد اقتطاع موضع منها ببناء وغيره بل الناس فيها سواء ، وللسابق حق السبق وكذلك الحكم في عرفة ومزدلفة إلحاقا بها – انتهى

(18/377)


. هذا وقد أطال الكلام في بيان حكم بيع دور مكة وإجارتها وحكم البناء بمنى التقي الفاسي في شفاء الغرام (ج 1 : ص 26 ، 32 ، 320 ، 321) فعليك أن ترجع إليه ( رواه الترمذي ) إلخ ، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود في باب تحريم مكة ، والحاكم (ج 1 : ص 367) والبيهقي (ج 5 : ص 139) وابن عساكر كلهم من طريق يوسف بن ماهك عن أمه مسيكة عن عائشة ، والحديث حسنه الترمذي . وسكت عنه أبو داود ، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره ، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، وقرره الذهبي في تلخيصه . وقال ابن القيم : قال ابن القطان : وعندي أن الحديث ضعيف لأنه من رواية يوسف بن ماهك عن أمه مسيكة وهي مجهولة لا نعرف روى عنها غير ابنها – انتهى . قلت : مدار هذا الحديث على مسيكة وهي مجهولة . قال الحافظ في التقريب : مسيكة المكية لا يعرف حالها ، من الثالثة ، وذكرها الذهبي في المجهولات من النساء ، وفي تهذيب التهذيب " قال ابن خزيمة : لا أحفظ عنها راويا غير ابنها ولا أعرفها بعدالة ولا حرج " – انتهى . وقيل : الصواب تحسين الحديث فإن أم يوسف بن ماهك تابعية قد سمعت عائشة ولم يعلم فيها جرح ، ومثل هذا الحديث حسن عند أهل العلم بالحديث ، ولذلك سكت عليه أبو داود وحسنه الترمذي وقرره المنذري وصححه الحاكم ووافقه الذهبي .
( الفصل الثالث )
2650 - (9) عن نافع ، قال : إن ابن عمر كان يقف عند الجمرتين الأوليين وقوفا طويلا . يكبر الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/378)


2650 – قوله ( عن نافع ) أي مولى ابن عمر ( كان يقف ) أي بعد الرمي ( عند الجمرتين الأوليين ) أي الأول والوسطى ففيه تغليب ، والمراد بالأولى التي تقرب من مسجد الخيف بمنى وهي التي يقال لها الجمرة الدنيا ، وهي أول الجمرات التي ترمى من ثاني يوم النحر ، والثانية الجمرة الوسطى ( وقوفا طويلا ) مقدار ما يقرأ سورة البقرة ، كما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء عن ابن عمر ، قال ابن قدامة في المغني : قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسئل أيقوم الرجل عند الجمرتين إذا رمى ؟ قال : إي لعمري شديدا ، ويطيل القيام أيضا . قيل فإلى أين يتوجه في قيامه ؟ قال إلى القبلة ويرميها في بطن الوادي ، والأصل في هذا ما روت عائشة قالت : أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق ، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع ، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها ، رواه أبو داود – انتهى . وقد ورد القيام عند الجمرتين بعد رميهما في حديث سالم عن ابن عمر عند البخاري كما سيأتي . وذكر ابن قدامة الإجماع على جميع ما ذكر فيه ، وصرح أصحاب الفروع من المذاهب الأربعة باستحباب القيام الطويل بعد رمي الجمرتين الأوليين ، منهم النووي وابن حجر من الشافعية والدردير من المالكية والقاري وغيره من الحنفية ، ثم قال ابن قدامة (ج 3 : ص 453) : وإن ترك الوقوف عندها والدعاء ترك السنة ولا شيء عليه ، وبذلك قال الشافعي وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور ولا نعلم فيه مخالفا إلا الثوري قال : يطعم شيئا ، وإن أراق دما أحب إلي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله فيكون نسكا – انتهى . ( يكبر الله ) في هذا الوقوف الطويل الذي بعد الرمي بسبع حصيات كما هو ظاهر السياق ، وإليه نحى الباجي حيث قال : بين عبد الله أن وقوفه عند الجمرتين

(18/379)


إنما هو للتكبير والتسبيح والدعاء – انتهى . وقال النووي : ثم ينحرف قليلا ويستقبل القبلة ويحمد الله ويكبر ويهلل ويسبح ويدعو ، إلخ . وقال القاري في شرح اللباب فيقف بعد تمام الرمي لا عند كل حصاة مستقبل القبلة فيحمد الله ويكبر ويهلل ويسبح ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو – انتهى . ويحتمل على بعد التكبير عند كل حصاة كما هو مؤدى رواية سالم عن أبيه عند البخاري بلفظ (( كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات ، يكبر على أثر كل حصاة ثم يتقدم فيسهل )) الحديث . وإليه مال الزرقاني إذ قال : قوله (( يكبر الله )) زاد سالم (( على أثر كل حصاة أي من السبع ، ففيه مشروعية التكبير عند كل حصاة ، وأجمعوا على أن من تركه لا شيء عليه إلا الثوري فقال : يطعم وإن جبره بدم أحب إلي – انتهى . والحاصل أن التكبير مشروع في كلا الموضعين عند الرمي بكل حصاة ، وبعد الرمي في الوقوف الطويل بعد الجمرتين الأوليين لكن ظاهر أثر ابن عمر هذا هو الثاني ، ويأتي بيان الأول في حديث
ويسبحه ويحمده ويدعو الله ، ولا يقف عند جمرة العقبة .

(18/380)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سالم عن ابن عمر في باب خطبة يوم النحر وسنذكر لفظه ( ويحمده ) من الحمد أو من التحميد ( ويدعو الله ) قال ابن قدامة (ج 3 : ص 451) : روى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو بدعائه الذي دعى به بعرفة ويزيد (( وأصلح وأتم لنا مناسكنا )) وقال ابن المنذر : كان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند الرمي : اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا ( ولا يقف عند جمرة العقبة ) بعد الرمي للدعاء ، وجمرة العقبة هي التي يبدأ بها في الرمي في أول يوم ، ويقتصر عليها ، ثم تصير أخيرة في كل يوم بعد ذلك ، ولفظ البخاري فيما رواه عن سالم عن عبد الله بن عمر أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على أثر كل حصاة ثم يتقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة قياما طويلا فيدعو ويرفع يديه ، ثم يرمي الجمرة الوسطى كذلك فيأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة قياما طويلا فيدعو ويرفع يديه ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ويقول : هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله . قال الحافظ : قال ابن قدامة : لا نعلم لما تضمنه حديث ابن عمر هذا مخالفا إلا ما روي عن مالك من ترك رفع اليدين عند الدعاء بعد رمي الجمار ، وأما ترك الوقوف عند جمرة العقبة فهو مجمع عليه ، حكى الإجماع على ذلك في المحلى شرح الموطأ . وقال الحافظ في الفتح : لا نعرف فيه خلافا . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 427) : ولا يسن الوقوف عندها لأن ابن عمر وابن عباس رويا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رمى جمرة العقبة انصرف ولم يقف . رواه ابن ماجة – انتهى . وأخرج أبو داود وغيره من رواية سليمان بن عمرو عن أمه وهي أم جندب الأزدية أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقم عندها أي لم يقف عند جمرة العقبة . وتقدم حديث عائشة من رواية أبي داود بلفظ : يقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمي

(18/381)


الثالثة ولا يقف عندها . واختلف في تعليل ذلك على أقوال : ففي المحلى : السر في الوقوف والدعاء بعد الأوليين دون العقبة أن يقع الدعاء في وسط العبادة . وقيل : إنها وقعت في ممر الناس ، فكان في الوقوف هناك قطع للسبيل على الناس – انتهى . وعامة أهل العلم على الثاني . قال القاري في شرح اللباب : إذا فرغ من الرمي لا يقف للدعاء عند هذه الجمرة في الأيام كلها بل ينصرف داعيا ، ولعل وجه عدم الوقوف للدعاء ها هنا على طبق سائر الجمرات تضييق المكان . وقال النووي : ولا يقف عندها للدعاء . قال ابن حجر : أي لا في يوم النحر ولا في ما بعده لضيق محلها فيضر بغيره ، لكن هذا باعتبار ما كان على أنه لو علل بالتفاؤل بالقبول مقارنا لفراغه منها لم يبعد – انتهى . وقال الباجي : شرع الوقوف عند الأولى والوسطى ولم يشرع عند الآخرة ، ويحتمل أن يكون ذلك – والله أعلم – من جهة المعنى أن موضع الجمرتين الأوليين فيه سعة للقيام للدعاء ولمن يرمي ، وأما جمرة العقبة فموضعها ضيق للوقوف عندها للدعاء لامتناع الرمي على من يريد الرمي ، ولذلك الذي يرميها لا ينصرف على طريقه ، وإنما ينصرف من أعلى الجمرة ، ولو انصرف من طريقه ذلك
رواه مالك .
(7) باب الهدي

(18/382)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمنع من يأتي بالرمي – انتهى . وأما التعليل بوقوع الدعاء في وسط العبادة فأصله من صاحب الهداية ، إذ قال : الأصل أن كل رمي بعده رمي يقف بعده لأنه في وسط العبادة فيأتي بالدعاء فيه ، وكل رمي ليس بعده رمي لا يقف لأن العبادة قد انتهت ، ولذا لا يقف بعد العقبة في يوم النحر أيضا – انتهى . وقد ظهر من هذا كله أن ترك الوقوف للدعاء بعد العقبة ثابت بالأحاديث المرفوعة وآثار الصحابة ، ومجمع عليه عند الأئمة الأربعة وغيرهم ، وإنما الاختلاف في تعليله ، فقيل : وقوع الدعاء في الوسط ، وقيل : ضيق المكان ، وقيل : التفاؤل بالقبول . وقريب من هذا الأخير ما ذكره الشيخ الدهلوي قال : لما تشرفت بهذه العبادة ألقي في روعي بلا سابقة فكر وتأمل بطريق الإلهام نكتة في عدم الوقوف عند هذه الجمرة وأرجو أن يكون صوابا ، وهو أن في عدم وقوفه عندها إشارة من الرب الرحيم ورسوله الكريم إلى أن العبد لما بلغ الجهد في العبادة وسعى في طريق المجاهدة والرياضة ووقف على باب الرحمة فدعا وسأل وأدى حق الخدمة والطاعة في الجمرتين الأوليين سهل الله تعالى عليه الأمر وأباح عليه الدعة والراحة بفضله وكرمه وأفاض عليه آثار رحمته وعفوه ومغفرته ولا سيما في هذه العبادة التي هي الحج المثمر لغاية آثار الرحمة والمغفرة ، فكأنه قال : يا عبادي قد أتعبتم أنفسكم وجاهدتم حق الجهاد اربعوا على أنفسكم فقد غفرت لكم . وعرضت هذه النكتة على أكابر علماء مكة الذين كانوا حاضرين في ذلك المقام فقبلوه واستحسنوه . ( رواه مالك ) في باب رمي الجمار عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقف ، الخ . وهو من أصح الأسانيد ، وأخرجه أيضا البيهقي (ج 5 : ص 149) من طريق مالك ، وأصله في صحيح البخاري مرفوعا كما تقدم .

(18/383)


( باب الهدي ) بفتح الهاء وإسكان الدال وكسرها مع تشديد الياء لغتان ، والأول أفصح ، اسم لما يهدى إلى الحرم من النعم شاة كانت أو بقرة أو بعيرا ليتقرب بإراقة دمه في الحرم . قيل : والواحدة هدية . قال الجوهري : الهدي ما يهدى إلى الحرم من النعم ، والهدي على فعيل مثله ، وقرئ ? حتى يبلغ الهدي محله ? (2 : 196) بالتخفيف والتشديد ، الواحدة هدية وهدية . قال ابن رشد : إن النظر في الهدي يشتمل على معرفة وجوبه وعلى معرفة جنسه وعلى معرفة حسنه وكيفية سوقه ومن أين يساق ؟ وإلى أين ينتهي بسوقه ؟ وهو موضع نحره وحكم لحمه بعد النحر ، فنقول : إنهم أجمعوا على أن الهدي المسوق في هذه العبادة منه واجب ومنه تطوع ، فالواجب منه ما هو واجب بالنذر ومنه ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة . قال : فأما جنس الهدي فإن العلماء متفقون على أنه لا يكون الهدي إلا من الأزواج الثمانية التي نص الله تعالى عليها ، وأن الأفضل في الهدايا هي الإبل ثم البقر ثم الغنم ، وإنما اختلفوا في الضحايا وأما الأسنان فإنهم أجمعوا أن الثني فما فوقه يجزئ منها وأنه لا يجزئ الجذع من المعز في الضحايا والهدايا ، واختلفوا في
( الفصل الأول )
2651 – (1) عن ابن عباس ، قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بذي الحليفة ، ثم دعا بناقته فأشعرها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجذع من الضان قال : وليس في عدد الهدي حد معلوم ، وكان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع مائة ، وأما كيفية سوق الهدي فهو التقليد والإشعار وإذا كان الهدي من الإبل والبقر فلا خلاف أنه يقلد نعلا أو نعلين ، واختلفوا في تقليد الغنم فقال مالك وأبو حنيفة : لا تقلد الغنم ، وقال الشافعي وأحمد : تقلد ( إلى آخر ما قال ) .

(18/384)


2651 – قوله ( صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بذي الحليفة ) أي ركعتين لكونه مسافرا ، واكتفى بهما عوضا عن ركعتي الإحرام ، أو صلى ركعتين أخريين سنة الإحرام ، قاله القاري . وقال الأبي : صلاته الظهر بذي الحليفة لا ينافي أن يكون إحرامه أثر نافلة ( ثم دعا بناقته ) قيل : لعلها كانت من جملة رواحله فأضافها إليه . وقال الطيبي : أي بناقته التي أراد أن يجعلها هديا ، فاختصر الكلام . يعني فالإضافة جنسية ( فأشعرها ) أي طعنها ، من الإشعار وهو في اللغة الإعلام ، مأخوذ من الشعور وهو العلم بالشيء من شعر يشعر كنصر ينصر ، قاله العيني . وقال الراغب : الشعر معروف قال تعالى ? ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ? (16 : 80) الآية . ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علما في الدقة كإصابة الشعر ، وسمي الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته ? لا تحلوا شعائر الله ? ( 5 : 2 ) أي ما يهدى إلى بيت الله ، سمي بذلك لأنها تشعر أي تعلم بأن تدمي بشعيرة أي حديدة – انتهى . وفي الشرع هو أن يشق أحد سنامي البدن ويطعن فيه حتى يسيل دمها ليعرف أنها هدي وتتميز إن خلطت وتعرف إن ضلت ويرتدع عنها السراق ويأكلها الفقراء إذا ذبحت في الطريق لخوف الهلاك . والحديث يدل على أن الإشعار سنة ، وبه قال الجمهور ، ومنهم الأئمة الثلاثة ، وروي عن أبي حنيفة أن الإشعار بدعة مكروه لأنه مثلة وتعذيب الحيوان وهو حرام ، وإنما فعله - صلى الله عليه وسلم - لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا بالإشعار . وقال الجمهور : القول بكراهته مخالف للأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار وليس هو مثلة بل هو كالفصد والحجامة والختان والكي للمصلحة ، وأيضا تعرض المشركين في ذلك الوقت بعيد لقوة الإسلام . وقد قيل إن كراهة أبي حنيفة الإشعار إنما كان من أهل زمانه فإنهم كانوا يبالغون فيه بحيث يخاف سراية الجراحة وفساد العضو ، كذا في اللمعات . وقال الحافظ في شرح حديث المسور بن

(18/385)


مخرمة في إشعار النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدي زمن الحديبية وحديث عائشة في إشعاره عند بعثه إلى مكة ما لفظ (( فيه مشروعية الإشعار وهو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل دم ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هديا وقال أيضا : وفائدته الإعلام بأنها صارت هديا ليتبعها من يحتاج إلى ذلك ، وحتى لو اختلطت بغيرها تميزت أو ضلت عرفت أو عطبت عرفها المساكين بالعلامة فأكلوها مع ما في ذلك من تعظيم شعار الشرع وحث الغير عليه . وقال الشاه ولي الله الدهلوي : السر في الإشعار التنويه بشعائر الله وأحكام
...............................................................................................

(18/386)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الملة الحنيفية يري ذلك منه الأقاصي والأداني ، وأن يكون فعل القلب منضبطا بفعل ظاهر – انتهى . قال الحافظ : وبمشروعيته قال الجمهور من السلف والخلف ، وذكر الطحاوي في اختلاف العلماء كراهته عن أبي حنيفة ، وذهب غيره إلى استحبابه للإتباع حتى صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا : هو حسن . قال : وقال مالك : يختص الإشعار بمن لها سنام . قال الطحاوي : ثبت عن عائشة وابن عباس التخيير في الإشعار وتركه فدل على أنه ليس بنسك ، لكنه غير مكروه لثبوت فعله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الحافظ : وأبعد من منع الإشعار واعتل باحتمال أنه كان مشروعا قبل النهى عن المثلة ، فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال ، بل وقع الإشعار في حجة الوداع وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان . وقال الخطابي وغيره : اعتلال من كره الإشعار بأنه من المثلة مردود بل هو باب آخر كالكى وشق أذن الحيوان ليصير علامة وغير ذلك من الوسم وكالختان والحجامة . وشفقة الإنسان على المال عادة فلا يخشى ما توهموه من سريان الجرح حتى يفضي إلى الهلاك ، ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيده الذي كرهه به كأن يقول : الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السراية حتى تهلك البدنة مكروه فكان قريبا ، قال الحافظ : وقد كثر تشنيع المتقدمين على أبي حنيفة في إطلاق كراهة الإشعار وانتصر له الطحاوي في المعاني فقال : لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاك البدن كسراية الجرح لا سـ... مع الطعن بالشفرة فأراد سد الباب عن العامة ، لأنهم لا يراعون الحد في ذلك ، وأما من كان عارفا بالسنة في ذلك فلا . وروي عن إبراهيم النخعي أيضا أنه كره الإشعار ، ذكر ذلك الترمذي ، قال سمعت أبا السائب يقول : كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي : أشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول أبو حنيفة : هو مثلة . قال الرجل فإنه قد روي

(18/387)


عن إبراهيم النخعي أنه قال : الإشعار مثلة . قال : فرأيت وكيعا غضب غضبا شديدا وقال : أقول لك : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول قال إبراهيم ما أحقك أن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا – انتهى . قال الحافظ : وفي هذا تعقب على الخطابي حيث قال : لا أعلم أحدا من أهل العلم أنكر الإشعار غير أبي حنيفة وخالفه صاحباه وقالا في ذلك بقول عامة أهل العلم – انتهى . وفيه أيضا تعقب على ابن حزم في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلف ، وقد بالغ ابن حزم في هذا الموضع ، ويتعين الرجوع إلى ما قال الطحاوي فإنه أعلم من غيره بأقوال أصحابه – انتهى كلام الحافظ . وقال ابن عابدين : جرى ( صاحب الدر المختار ) على ما قاله الطحاوي والشيخ أبو منصور الماتريدي من أن أبا حنيفة لم يكره أصل الإشعار ، وكيف يكرهه مع ما اشتهر فيه من الأخبار ، وإنما كره إشعار أهل زمانه الذي يخاف منه الهلاك خصوصا في حر الحجاز فرأى الصواب حينئذ سد هذا الباب على العامة ، فأما من وقف على الحد بأن قطع الجلد دون اللحم فلا بأس بذلك . قال الكرماني ( في المناسك ) : وهذا هو الأصح وهو اختيار قوام الدين وابن الهمام ، فهو مستحب لمن أحسنه . قال في النهر : وبه يستغنى عن كون العمل على قولهما بأنه حسن – انتهى . قلت : ما روي عن أبي حنيفة من القول بكراهة
...............................................................................................

(18/388)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإشعار لا شك أنه مخالف للأحاديث الصحيحة ومنابذ للسنة ، واضطربت الحنفية في الجواب عنها فقال بعضهم : إنما أنكر أبو حنيفة الإشعار لأنه يجهد البدنة ، وفيه ما لا يخفى من أذية الحيوان وتعذيبه وقد نهى عن ذلك ورأى أنه من المثلة وهو منهي عنه . وعند التعارض الترجيح للمحرم ، قالوا : وقد روي عن ابن عباس التخيير فيه والرخصة ، وعن عائشة تركه ، فرجح أبو حنيفة الترك لأنه جهة المثلة وهي حرام ، وترك الندب أولى من اقتحام التحريم . وأجاب الخطابي عن ذلك بأن المثلة إنما هو أن يقطع عضو من البهيمة يراد به التعذيب أو تبان قطعة منها للأكل كما كانوا يفعلون ذلك من قطعهم أسنمة الإبل وأليات الشاه يبينونها والبهيمة حية فتعذب بذلك ، وإنما سبيل الإشعار سبيل ما أبيح من الكي والتبزيغ والتوديج في البهائم ، وسبيل الختان والفصاد والحجامة في الآدميين ، وإذا جاز الكي واللدغ بالميسم ليعرف بذلك ملك صاحبه جاز الإشعار ليعلم أنه بدنة نسك وتصان فلا يعرض لها حتى تبلغ المحل – انتهى . قال الشوكاني بعد ذكره . على أنه لو كان من المثلة لكان ما فيه من الأحاديث مخصصا له من عموم النهي عنها . وقال ابن حجر في شرح مناسك النووي : وإنما لم يكن الإشعار منهيا عنه ، لأن أخبار النهى عن المثلة عامة وأخباره خاصة فقدمت . وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في حاشية الهداية : مذهب الإمام ها هنا وقع مخالفا للأحاديث المروية في باب الطعن والإشعار ، رواها مسلم والبخاري ومالك وغيرهم . وما ذكروه من التعارض بين أحاديث الإشعار وبين النهي عن المثلة فغير صحيح لوجهين أحدهما أن التعارض إنما يكون عند الجهل بالتاريخ ، ومعلوم أن إشعاره كان في حجة الوداع ، والنهي عن المثلة كان في غزوة خيبر كما هو مصرح في بعض الروايات فأنى التعارض ، بل يكون عمل الإشعار متأخرا فليعمل به ، وثانيهما وهو أقواهما أن الإشعار ليس بمثلة

(18/389)


إذ ليس كل جرح مثلة بل هو ما يكون تشويها كقطع الأنف والأذن ونحو ذلك فلا يقال لكل جرح أنه مثلة فلا تعارض بين النهى عن المثلة وبين خبر الإشعار ، وقال بعضهم : معنى قول الراوي (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشعر بدنته )) أعلمها بعلامة ويمكن أن يكون ذلك سوى الجرح لأن الإشعار هو الإعلام ، كذا ذكره الإمام المحبوبي حكاه في البناية عن الإسبيجابي ، وهذا الجواب يغني حكايته عن رده ، كيف وقد ورد في بعض الروايات أنه طعن ، وهو صريح في الجرح ، وقال بعضهم : حديث الإشعار منسوخ بأحاديث النهى عن المثلة ، وقد تقدم الجواب عن هذا في كلام الحافظ وغيره ، وقال بعضهم : الذي اشتهر عن أبي حنيفة من منع الإشعار فهو منع لما ارتكبه أهل زمانه من المبالغة فيه لا أصل الإشعار ، أو هو ردع للعوام مطلقا إبقاء على الهدايا وخوفا عما يؤل الأمر إليه من المبالغة فيه والوقوع في المنهي عنه طلبا لما هو مندوب فقط . وهذا قريب مما قاله الطحاوي . وقال بعضهم : إنما كره أبو حنيفة إيثار الإشعار على التقليد يعنى أن الأولى عنده التقليد واختيار الإشعار عليه مكروه ، ولا يخفى ما فيه من التمحل ، فإنه مخالف لما اشتهر عن أبي حنيفة من كراهة الإشعار مطلقا وفيه أيضا أنه لا يحصل الغرض
...............................................................................................

(18/390)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المذكور بالتقليد ، لأنه يحتمل أن ينحل ويذهب بخلاف الإشعار فأنه ألزم ، وقال بعضهم : إن إشعاره - صلى الله عليه وسلم - كان لصيانة الهدي لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا به قال في فتح القدير متعقبا على هذا : قد يقال هذا يتم في إشعار الحديبية وهو مفرد بالعمرة ، لا في إشعار هدايا حجة الوداع – انتهى . وقد تقدم نحو هذا عن صاحب اللمعات ، وقال الشيخ اللكنوي في حاشية الهداية : لو سلمنا أن إشعاره كان لأن المشركين كانوا لا يمتنعون إلا به لكن إزالة السبب لا تقتضي إزالة المسبب ، أما ترى إلى الرمل أنه بقي سنة مع زوال سببه فلا جرم يبقي الإشعار سنة أيضا وإن زال سببه ، قال : والأحسن في تأويل قول أبي حنيفة ما ذكره الطحاوي أنه إنما كره إشعار أهل زمانه ، وهذا توجيه جيد يجب صرف مذهبه إليه لئلا يكون مخالفا للأحاديث الصريحة ، ومع قطع النظر عن هذا التأويل لا طعن على أبي حنيفة في هذا الباب لاحتمال عدم وصول أحاديث الإشعار إليه بطريق الصحة ، والإمام إذا لم يصل إليه الحديث فعمل بالقياس فهو معذور . وقال في تعليقه على موطأ محمد : وحمله الطحاوي على أنه كره المبالغة فيه بحيث يؤدي إلى السراية وهو محمل حسن ، ولولاه لكان قول أبي حنيفة مخالفا للثابت بالأحاديث الصحيحة الصريحة صريحا ، وللقوم في توجيه ما روي عنه كلمات قد فرغنا عن دفعها في تعليقاتي على الهداية فلا نضيع الوقت بذكرها – انتهى . تنبيه : اتفق من قال بالإشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإبل إلا سعيد بن جبير ، واتفقوا على أن الغنم لا تشعر لضعفها ولكون صوفها أو شعرها يستر موضع الإشعار ، وأما على ما نقل عن مالك فلكونها ليست ذات أسنمة ، والله أعلم كذلك في الفتح . قلت : اختلف أصحاب المذاهب الأربعة في إشعار الإبل والبقر بعد ما اتفقوا على أن الغنم لا تشعر ، فذهب الشافعية والحنابلة إلى استنان الإشعار في الإبل

(18/391)


والبقر مطلقا أي ولو لم يكن لها سنام ، قال القسطلاني : إن لم يكن لها سنام أشعر موضعه هذا مذهب الشافعية وهو ظاهر المدونة . وقال القسطلاني في موضع آخر : مذهب الشافعي وموافقيه أنه يستحب تقليد البقر وإشعارها . وفي مناسك النووي : إن كانت بدنة أو بقرة استحب أن يقلدها وأن يشعرها أيضا ، وهو أن يضرب صفحة سنامها اليمنى . قال ابن حجر في شرحه : قوله (( صفحة سنامها )) هو في الإبل واضح ، وأما البقر فلا سنام لها فليضربها في محله لو كان لها أخذا مما في المجموع عن النص . وقال ابن قدامة : ويسن إشعار الإبل والبقر ، وقال مالك : إن كانت البقرة ذات سنام فلا بأس بإشعارها وإلا فلا . ثم قال ابن قدامه : وتشعر البقرة لأنها من البدن فتشعر كذات السنام ، وأما الغنم فلا يسن إشعارها لأنها ضعيفة وصوفها وشعرها يستر موضع إشعارها – انتهى . وأما عند المالكية ففي الإبل قولان ، المرجح الإشعار مطلقا أي ولو لم يكن لها سنام ، والثاني التقييد بالسنام . وفي البقر ثلاثة أقوال : الأول الإثبات مطلقا والثاني النفي مطلقا ، والثالث إشعار ذات السنام وهو المرجح عندهم كما يظهر من كلام الباجي والدردير والدسوقي والمدونة . وأما عند الحنفية فلا إشعار في البقر مطلقا . قال في شرح اللباب : الإبل تقلد وتجلل وتشعر ، والبقر
في صفحة سنامها الأيمن ،

(18/392)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا تشعر بل تجلل وتقلد والغنم لا يفعل بها شيء من الثلاثة – انتهى . ( في صحفة سنامها ) بفتح السين والصفحة الجانب والسنام أعلى ظهر البعير ( الأيمن ) صفة صفحة وذكره لمجاورته لسنام ، وهو مذكر ، أو على تأويل صفحة بجانب . وبه جزم النووي حيث قال : وصف لمعنى صفحة لا للفظها . ثم قال : أما محل الإشعار فمذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف أنه يستحب الإشعار في صفحة السنام اليمنى . وقال مالك في اليسري . وهذا الحديث يرد عليه – انتهى . قلت : اختلف العلماء في أن الإشعار في الأيمن أفضل أو في الأيسر وللمالكية في ذلك أربعة أقوال كما في الدسوقي والإكمال حيث قالا : وفي أولويته في الشق الأيمن أو الأيسر ، ثالثها إنما السنة في الأيسر ، ورابعها إنهما سواء – انتهى . لكن مشهور مذهب مالك الأيسر كما في الإكمال ، ولذا اقتصر عليه عامة نقلة المذاهب كالنووي والحافظ والعيني وغيرهم ، وبه قال صاحبا أبي حنيفة كما في العيني وغيره . وقال محمد في موطأه بعد رواية أثر ابن عمر : أنه كان يشعر بدنته في الشق الأيسر إلا أن تكون صعابا ، فإذا لم يستطع أن يدخل بينها أشعر من الشق الأيمن . قال محمد : وبهذا نأخذ الإشعار من الجانب الأيسر إلا أن تكون صعابا مقرنة لا يستطيع أن يدخل بينهما فليشعرها من الجانب الأيسر والأيمن ( الواو بمعنى أو ) انتهى . وهو أي الإشعار في الشق الأيسر رواية أحمد ، وفي أخرى له المشهور عنه أنه يشعر في الأيمن وبه قال الشافعي ، وهو رواية عن أبي يوسف وفي الدر المختار : الإشعار هو شق سنامها من الأيسر أو الأيمن . وفي الهداية : صفته أن يشق سنامها من الجانب الأيمن أو الأيسر ، قالوا : والأشبه هو الأيسر ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طعن في جانب اليسار مقصودا ، وفي جانب الأيمن اتفاقا . قال ابن الهمام : قالوا لأنها كانت تساق إليه وهو يستقبلها فيدخل من

(18/393)


قبل رؤسها والحربة بيمينه لا محالة ، والطعن حينئذ إلى الجهة اليسار أمكن وهو طبع هذه الحركة فيقع الطعن كذلك مقصودا ثم يعطف طاعنا إلى جهة يمينه بيمينه وهو مكتلف بخلافه إلى الجهة الأولى – انتهى . وهذا مبني على أنه - صلى الله عليه وسلم - أشعر في الأيمن والأيسر . أما الأول فهو مذكور في حديث ابن عباس عند مسلم الذي نحن في شرحه ، وأما الثاني أي الطعن في الأيسر فقال ابن عبد البر في كتاب التمهيد : رأيت في " كتاب ابن علية " عن أبيه عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشعر بدنه من الجانب الأيسر ثم سلت الدم عنها قال ابن عبد البر : هذا عندي منكر في حديث ابن عباس ، والمعروف ما رواه مسلم وغيره في الجانب الأيمن لا يصح في غير ذلك إلا أن ابن عمر كان يشعر بدنه من الجانب الأيسر – انتهى . وقد صحح ابن القطان كلامه هذا قال : وأنا أخاف أن يكون تصحف فيه الأيمن بالأيسر – انتهى . لكن قال الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 116) : قد روي هذا الحديث من غير طريق ابن علية ، فرواه أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا شعبة بن الحجاج عن
وسلت الدم عنها ، وقلدها نعلين ،

(18/394)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أتى ذا الحليفة أشعر بدنته في شقها الأيسر ثم سلت الدم بأصبعه ، فلما علت به راحلته البيداء لبى – انتهى . وقد سكت عليه الزيلعي والحافظ في الدراية . قيل : ويؤيده أثر ابن عمر عند مالك ، كما سيأتي . قلت : لم أجد رواية صحيحة أو ضعيفة تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - طعن في بعض البدنة في الشق الأيسر ، وفي البعض الآخر في الشق الأيمن . وأما رواية أبي يعلى الموصلي فهي معارضة لما رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عباس في الإشعار في الشق الأيمن فيقدم هذا ويرجح على رواية أبي يعلى . وأما تأويل الباجي لحديث ابن عباس عند مسلم بأنه كان ذلك لصعوبتها أو ليرى الجواز ، فلا يخفى ما فيه لأنه احتمال ناشئ من غير دليل . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 548) : السنة الإشعار في صفحتها اليمنى ، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور ، وقال مالك وأبو يوسف : بل تشعر في صفحتها اليسرى . وعن أحمد مثله لأن ابن عمر فعله . ولنا ما روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي الحليفة ثم دعا ببدنة وأشعرها من صفحة سنامها الأيمن – الحديث . رواه مسلم . وأما ابن عمر فقد روي عنه كمذهبنا رواه البخاري ( معلقا ) ثم فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى من قول ابن عمر وفعله بلا خلاف ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه التيمن في شأنه كله – انتهى . وقال البخاري في صدر (( باب من أشعر بذي الحليفة ثم أحرم )) : وقال نافع كان ابن عمر إذا أهدى من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة يطعن في شق سنامه الأيمن بالشفرة ووجهها قبل القبلة باركة . قال الحافظ : وصله مالك في الموطأ قال : عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أهدي هديا من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة ، يقلده قبل أن يشعره وذلك في مكان واحد وهو موجه للقبلة ،

(18/395)


يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة ثم يدفع به معهم إذا دفعوا ، فإذا قدم منى غداة النحر نحره . وعن نافع عن ابن عمر كان إذا طعن في سنام هديه وهو يشعره قال : بسم الله والله أكبر . وأخرج البيهقي (ج 5 : ص 232) من طريق ابن وهب عن مالك وعبد الله بن عمر عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يشعر بدنه من الشق الأيسر إلا أن تكون صعابا ، فإذا لم يستطع أن يدخل بينها أشعر من الشق الأيمن ، وإذا أراد أن يشعرها وجهها إلى القبلة ، وتبين بهذا أن ابن عمر كان يطعن في الأيمن تارة وفي الأيسر أخري بحسب ما يتهيأ له ذلك – انتهى كلام الحافظ ( وسلت ) بمهملة ولام ثم مثناة ( الدم ) أي مسحه وأماطه وأزاله ( عنها ) أي عن صفحة سنامها ، زاد عند أبي داود (( بيده )) وفي أخري عنده أيضا (( بإصبعه )) قال الخطابي : سلت الدم بيده ، أي أماطه بإصبعه ، وأصل السلت القطع ، يقال : سلت الله أنف فلان أي جدعه ( وقلدها ) بتشديد اللام ( نعلين ) فيه دليل على استنان تقليد الإبل بنعلين ، وقد وقع الإجماع على استنان تقليد الهدي . قال ابن قدامة : يسن تقليد الهدي وهو أن يجعل في أعناقها النعال وآذان القرب وعراها أو علاقة إداوة سواء كانت إبلا أو بقرا أو
...............................................................................................

(18/396)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غنما . وقال مالك وأبو حنيفة : لا يسن تقليد الغنم – انتهى . وفي مناسك النووي : إن كانت بدنة أو بقرة استحب له أن يقلدها نعلين وليكن لهما قيمة ليتصدق بهما . ومن ساق غنما استحب أن يقلدها خرب القرب وهي عراها وآذانها ولا يقلدها النعل لأنها ضعيفة . وقال الدردير : سن في هدايا الإبل إشعار وتقليد أي تعليق قلادة أي حبل في عنقها ، وندب نعلان يعلقهما بنبات الأرض ، أي بحبل من نبات الأرض لا من صوف أو وبر ، وقال العيني : قال أصحابنا : لو قلد بعروة مزادة أو لحي شجرة أو شبه ذلك جاز لحصول العلامة . وذهب الشافعي والثوري إلى أنها تقلد بنعلين ، وهو قول ابن عمر . وقال الزهري ومالك : يجزئ واحدة ، وعن الثوري : يجزئ فم القربة ونعلان أفضل لمن وجدهما – انتهى . قال الحافظ : قيل الحكمة في تقليد النعل أن فيه إشارة إلى السفر والجد به فعلى هذا يتعين أي النعل ، والله أعلم . وقال ابن المنير في الحاشية : الحكمة فيه أن العرب تعتد النعل مركوبة لكونها تقي عن صاحبها وتحمل عنه وعر الطريق ، وقد كنى بعض الشعراء عنها بالناقة ، فكأن الذي أهدي خرج عن مركوبه لله تعالى حيوانا وغيره كما خرج حين أحرم عن ملبوسه ، ومن ثم استحب تقليد نعلين لا واحدة – انتهى . وفي شرح اللباب : يسن تقليد بدن الشكر دون بدن الجبر وهو أن يربط في عنق بدنة أو بقرة قطعة نعل كاملة أو ناقصة أو قطعة مزادة أو لحاء شجرة أو نحوه من شراك نعل وغير ذلك مما يكون علامة على أنه هدي ولا يسن في الغنم مطلقا لكن لو قلده جاز ولا بأس به – انتهى . والحديث دليل على أنه يسن تقليد الهدي وإشعاره من الميقات حيث قلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديه وأشعره بذي الحليفة ميقات أهل المدينة ، وقد صرح أهل الفروع من أتباع الأئمة الأربعة باستحباب التقليد والإشعار من الميقات . قال ابن قدامه : وإذا ساق الهدي من قبل الميقات استحب

(18/397)


إشعاره وتقليده من الميقات لحديث ابن عباس ، وإن ترك الإشعار والتقليد فلا بأس به ، لأن ذلك غير واجب – انتهى . وفي مناسك النووي : الأفضل أن يكون هديه معه من الميقات مشعرا مقلدا . وقال الدردير : ثالث السنن لمريد الإحرام تقليد هدي إن كان معه ، ثم إشعاره إن كان مما يشعر . وقال في اللباب من مناسك الحنفية : فإذا أحرم بالتلبية ساق هديه ويقلد البدنة ، إلى آخر ما بسط الكلام في حكم الإشعار وكيفيته واختلفوا هل الأفضل تقديم الإشعار على التقليد أو تقديم التقليد على الإشعار . قال القسطلاني : صح في الأول خبر في صحيح مسلم وصح في الثاني فعل ابن عمر وهو المنصوص ، وزاد في المجموع أن الماوردي حكى الأول عن أصحابنا كلهم ولم يذكر فيه خلافا – انتهى . وقال النووي في مناسكه : هل الأفضل أن يقدم الإشعار على التقليد فيه وجهان: أحدهما يقدم الإشعار فقد ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث ابن عمر مرفوعا ، والثاني وهو نص الشافعي تقديم التقليد ، وقد صح ذلك عن ابن عمر من فعله ، والأمر فيه قريب – انتهى . وقد تقدم قول الدردير أن ثالث السنن لمريد الإحرام تقليد هدي إن كان معه ثم إشعاره . وقال في موضع آخر : الأولى تقديم التقليد
ثم ركب راحلته ، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج . رواه مسلم .
2652 – (2) وعن عائشة ، قالت : أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة إلى البيت غنما ، فقلدها .

(18/398)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الإشعار لأنه السنة . قال الدسوقي : السنة تقديم التقليد فعلا خوفا من نفارها لو أشعرت أولا . قال الباجي : وقد قال ابن القاسم في المدونة : وكل ذلك واسع ، يريد أن الترتيب المذكور ليس بواجب – انتهى . ( ثم ركب راحلته ) أي غير التي أشعرها ( أهل بالحج ) أي لبى به وكذا بالعمرة لما في الصحيحين عن أنس قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة يقول : لبيك عمرة وحجا – انتهى . ومن حفظ حجة على من لم يحفظ . مع أنه يمكن أن الراوي اقتصر على ذكر الحج لأنه الأصل أو لأن مقصوده بيان وقت الإحرام والتلبية أو لعدم سماعه أولا أو لنسيانه آخرا ، قاله القاري . وقد تقدم نقل الخلاف في كيفية إحرامه - صلى الله عليه وسلم - وطريق الجمع بين المختلف فيه فليراجع ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 216 ، 254) والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدرامي والبيهقي وابن الجارود ، وقال الزيلعي : رواه الجماعة إلا البخاري .

(18/399)


2652 – قوله ( أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة إلى البيت ) أي بيت الله ( غنما ) أي قطعة من الغنم . ومعنى الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث بهديه قبل حجة الوداع مع من يحج وهو - صلى الله عليه وسلم - مقيم بالمدينة لا يحج ، وأنه بعث مرة غنما . وفي قولها (( مرة )) إشعار بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يهدي بالبدن لكونها أفضل ، وأهدى مرة بالغنم لبيان الجواز ، وقد ثبت إهداؤه بالبدن في حديث آخر لعائشة أيضا كما سيأتي ( فقلدها ) في الحديث دليل على جواز أن يكون الهدي من الغنم وأنها تقلد . وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء وخالف في ذلك الحنفية والمالكية فقالوا : إن الغنم لا تقلد . والحديث يرد عليهما . قال السندي في حاشية النسائي : الحديث صريح في جواز تقليد الغنم فلا وجه لمنع من منع ذلك . وقال النووي : فيه دلالة لمذهبنا ومذهب الكثرين أنه يستحب تقليد الغنم . وقال مالك وأبو حنيفة : لا يستحب بل خصا التقليد بالإبل والبقر ، وهذا الحديث صريح في الدلالة عليهما – انتهى . وحديث عائشة هذا هو من رواية الأسود عنها ، واللفظ المذكور لمسلم ، ولفظ البخاري (( قالت : أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة غنما )) وفي رواية له (( قالت : كنت أفتل القلائد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيقلد الغنم )) وفي لفظ له (( كنت أفتل قلائد الغنم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيبعث بها )) الحديث . وبوب البخاري على هذه الروايات (( تقليد الغنم )) قال الحافظ تحت هذه الترجمة : قال ابن المنذر : أنكر مالك وأصحاب الرأي تقليد الغنم ، زاد غيره وكأنهم لم يبلغهم الحديث ، ولم نجد لهم حجة إلا قول بعضهم أنها تضعف عن التقليد وهي حجة ضعيفة . لأن المقصود من التقليد العلامة ، وقد اتفقوا على أنها لا تشعر ، لأنها تضعف عنه فتقلد بما لا يضعفها . ثم ساق ابن المنذر من طريق عطاء وعبيد الله بن أبي يزيد وأبي جعفر محمد بن علي وغيرهم قالوا

(18/400)


: رأينا الغنم تقدم مقلدة . ولابن أبي شيبة عن ابن عباس
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نحوه ، والمراد بذلك الرد على من ادعى الإجماع على ترك إهداء الغنم وتقليدها وأعل بعض المخالفين حديث الباب بأن الأسود تفرد عن عائشة بتقليد الغنم دون بقية الرواة عنها من أهل بيتها وغيرهم . قال المنذري وغيره : وليست هذه بعلة لأنه حافظ ثقة لا يضره التفرد – انتهى . وقال العراقي في طرح التثريب : اختلفوا في استحباب تقليد الغنم فقال به الشافعي وأحمد ، ورواه ابن أبي شيبة عن عائشة وعن ابن عباس : لقد رأيت الغنم يؤتى بها مقلدة . وعن أبي جعفر : رأيت الكباش مقلدة . وعن عبد الله بن عبيد بن عمير أن الشاة كانت تقلد . وعن عطاء رأيت أناسا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسوقون الغنم مقلدة . وحكاه ابن المنذر عن إسحاق وأبي ثور قال : وبه أقول ، وإليه ذهب ابن حبيب من المالكية . وذهب آخرون إلى أنها لا تقلد كما أنها لا تشعر ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك . وحكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي ، ورواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر وسعيد بن جبير ويوافقه كلام البخاري فإنه بوب على هذا الحديث ( أي حديث عروة وعمرة عن عائشة : قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم ) (( باب فتل القلائد للبدن والبقر )) فحمل الحديث عليهما ولم يذكر الغنم – انتهى . قلت : ورد عليه الحافظ فقال : تنبيه : أخذ بعض المتأخرين من اقتصار البخاري في هذه الترجمة على الإبل والبقر أنه موافق لمالك وأبي حنيفة في أن الغنم لا تقلد وغفل هذا المتأخر عن أن البخاري أفرد ترجمة لتقليد الغنم بعد أبواب يسيرة كعادته في تفريق الأحكام في التراجم – انتهى . ثم قال العراقي : وظاهر حديث عروة عن عائشة

(18/401)


المذكور موافق للجمهور لأنها لم تخص بذلك هديا دون هدي ، وقد صرحت بالغنم في رواية الأسود عنها كما تقدم . وقال العيني : مذهب الحنفية أن التقليد في البدنة والغنم ليست من البدنة فلا تقلد لعدم التعارف بتقليدها ، ولو كان تقليدها سنة لما تركوها . وقالوا في الحديث المذكور : تفرد به الأسود ولم يذكره غيره ، وادعى صاحب المبسوط أنه أثر شاذ . فإن قلت : كيف يقال : تركوها ، وقد ذكر ابن أبي شيبة في مصنفه أن ابن عباس قال : لقد رأيت الغنم يؤتى بها مقلدة ؟ وعن أبي جعفر (( رأيت الكباش مقلدة )) وعن عبد الله بن عبيد بن عمير (( أن الشاة كانت تقلد )) وعن عطاء (( رأيت أناسا من الصحابة يسوقون الغنم مقلدة )) قلت : ليس في ذلك كله أن التقليد كان في الغنم التي سيقت في الإحرام ، وأن أصحابها كانوا محرمين ، على أنا نقول إنهم ما منعوا الجواز وإنما قالوا بأن التقليد في الغنم ليس بسنة – انتهى . قلت : الآثار المذكورة نص في تقليد الغنم وظاهر في أنه كان في الغنم التي سيقت إلى الحرم ونص أيضا في أن تقليد الغنم من الهدي كان معتادا متعارفا معمولا به في ما بين الصحابة والتابعين ، وحملها على غير ذلك ادعاء محض فلا يلتفت إليه ، وكذا اعتذار صاحب المبسوط وغيره عن حديث الأسود عن عائشة عند الشيخين وغيرهما بادعاء أنه شاذ لم يتابعه عليه أحد ، ليس مما يصغى إليه . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 549) : وقال مالك وأبو حنيفة : لا يسن تقليد الغنم لأنه لو كان سنة لنقل كما نقل عن الإبل ، ولنا أن عائشة قالت :
..................................................................................... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/402)


كنت أفتل القلائد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيقلد الغنم ويقيم في أهله حلالا ، وفي لفظ " كنت أفتل قلائد الغنم للنبي - صلى الله عليه وسلم - " رواه البخاري . ولأنه هدي فيسن تقليده كالإبل ، ولأنه إذا سن تقليد الإبل مع إمكان تعريفها بالإشعار فالغنم أولى وليس التساوي في النقل شرطا لصحة الحديث ، ولأنه كان يهدي الإبل أكثر فكثر نقله – انتهى . قلت : حديث الباب مشكل على الحنفية والمالكية جدا ، وقد تمحل الحنفية للتخلص عنه بوجوه منها ما تقدم ، ومنها ما سيأتي آنفا . وقال الشنقيطي (ج 5 : ص 575) : واعلم أن الهدي من الغنم يسن تقليده عند عامة أهل العلم . وخالف مالك وأصحابه الجمهور . وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى غنما فقلدها . وقال بعض أهل العلم : لا تقلد بالنعال لضعفها . وإنما تقلد بنحو عرى القرب . والظاهر أن مالكا لم يبلغه حديث تقليد الغنم ، ولو بلغه لعمل به بأنه صحيح متفق عليه – انتهى . وأجاب بعض الحنفية عن حديث الباب بأنه أراد فقهاءنا من نفي تقليد الغنم التقليد بالنعل لا بالخيط المفتول ، فإذا صح الحديث بتقليد الغنم ولا شك أنه من العهن وهو الصوف المصبوغ فمحل نفي تقليد الغنم هو تقليدها بالنعال وما يشبهها ، ومحل إثبات التقليد هو بالخيوط المفتولة من الصوف والوبر فإذا لا يخالف حديث الباب مذهب أبي حنيفة وفقهائنا الحنفية لم يذكروا التقليد بالخيط لا نفيا ولا إثباتا ، فالقول والتمسك بهذا الحديث لا يخالف المذهب – انتهى . وفيه أن ذكر فتل القلائد من العهن لا يدل على الاكتفاء بالتقليد بالعهن في الغنم بل كان ذلك لأن يربط به النعل في عنق الهدي سواء كان إبلا أو بقرا أو غنما ، كما أن ذكر فتل القلائد للبدن في الرواية الآتية لا يدل على الاقتصار على ذلك في الإبل والبقر ، وقد ذكر البخاري في "باب تقليد الغنم" بعد رواية حديث الأسود عن عائشة حديث مسروق عنها قالت

(18/403)


: فتلت لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - تعني القلائد قبل أن يحرم . قال الحافظ : أما إردافه برواية مسروق مع أنه لا تصريح فيها بكون القلائد للغنم فلأن لفظ الهدي أعم من أن يكون لغنم أو لغيرها ، فالغنم فرد من أفراد ما يهدي ، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى الإبل وأهدى البقر فمن ادعى اختصاص الإبل بالتقليد فعليه البيان – انتهى . علا أنه يخالف التأويل المذكور ما تقدم عن القاري والعيني وغيرهما من نقلة المذاهب أن أبا حنيفة أنكر استنان تقليد الغنم مطلقا ، ولم يثبت عنه ولا عن غيره من فقهاء الحنفية أنهم فرقوا بين تقليد الغنم بالنعل وتقليدها بالخيوط بل أنكروه مطلقا كما تقدم . وعلى هذا فمذهب أبي حنيفة مخالف للحديث الصحيح من غير شك ، والظاهر أنه لم يبلغه الحديث ، ولا ما تقدم من الآثار المذكورة في كلام العراقي والعيني وغيرهما ، هذا . وقد احتج الكاساني على عدم استنان تقليد الغنم بقوله تعالى ? ولا الهدي ولا القلائد ? (2 : 5) قال الكاساني في البدائع (ج 2 : ص 162) : والدليل على أن الغنم لا يقلد قوله تعالى ? ولا الهدي ولا القلائد ? عطف القلائد على الهدي ، والعطف يقتضي المغايرة في الأصل ، واسم الهدي يقع على الغنم والإبل والبقر جميعا فهذا يدل على أن الهدي نوعان ما يقلد وما لا يقلد ، ثم الإبل والبقر يقلدان بالإجماع ، فتعين أن الغنم لا تقلد
متفق عليه .
2653- (3) وعن جابر ، قال : ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(18/404)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليكون عطف القلائد على الهدي عطف الشيء على غيره فيصح – انتهى . قال بعض الحنفية : ويؤيد ذلك ما قال الجصاص في أحكام القرآن : قد روي في تأويل القلائد وجوه عن السلف ، فقال ابن عباس : أراد الهدي المقلد ، قال أبو بكر ( الرازي الجصاص ) هذا يدل على أن من الهدي ما يقلد ومنه ما لا يقلد ، والذي يقلد الإبل والبقر والذي لا يقلد الغنم – انتهى . ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من التكلف والتعسف فإنه يلزم على هذا التفسير أن يكون المراد بالهدي في الآية الغنم فقط ولم يقل به أحد مع أنهم اختلفوا في تفسير القلائد على أقوال منها أن المراد القلائد حقيقة سواء كانت للإبل أو للبقر أو للغنم . وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد للنهي عن إحلال الهدي ، يعني أن فيه مبالغة عن التعرض للهدي المقلد ، فإنه إذا نهى عن قلادة أن يتعرض لها فبطريق الأولى أن ينهى عن التعرض للهدي المقلد بها ، وهذا كما في قوله : ? ولا يبدين زينتهن ? (24 : 31) لأنه إذا نهى عن إظهار الزينة فما بالك بموضعها من الأعضاء ، ومنها أن المراد بالقلائد الحيوانات المقلدة بها ويكون عطف القلائد على الهدي لزيادة التوصية بالهدي ، والمعنى : ولا الهدايا ذوات القلائد ، وعلى هذا القول إنما عطف القلائد على الهدي مبالغة في التوصية بها لأنها من أشرف البدن المهداة والمعنى : ولا تستحلوا الهدي خصوصا المقلدات منها . وقيل المراد أصحاب القلائد ، والمعنى : لا تتعرضوا للهدايا ولا لأصحابها . والتفسير الأول أولى . وعلى كل حال ليس في عطف القلائد على الهدي دلالة أو أدنى إشارة إلى أن الهدي الغير المقلد هو الغنم خاصة ، أو إلى أن الغنم من الهدي لا تقلد ( متفق عليه) قد تقدم أن اللفظ المذكور لمسلم وبهذا اللفظ رواه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي . وقد تقدم أيضا أن البخاري روى مثله لكن أسقط قوله "فقلدها" وكذا رواه الدارمي

(18/405)


ورواه أبو داود وابن الجارود بلفظ " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى غنما مقلدة " والحديث رواه أيضا أحمد والشيخان والترمذي والنسائي بألفاظ أخرى متقاربة .
2653- قوله ( وعن جابر ، قال : ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وفي الحديث الأتي " نحر " مكان " ذبح " والفرق بين النحر والذبح أن النحر يكون في اللبة (بفتح اللام وتشديد الموحدة ، هي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر) والذبح يكون في الحلق ، فالذبح هو قطع العروق التي في أعلى العنق تحت اللحيين ، قال ابن عابدين : النحر قطع العروق في أسفل العنق عند الصدر والذبح قطعها في أعلاه تحت اللحيين . وفي تكملة البحر : ولا بأس بالذبح في الحلق كله أسفله وأوسطه وأعلاه ، لأن ما بين اللبة واللحيين هو الحلق ، ولأن كله مجتمع العروق فصار حكم الكل واحد – انتهى . وفي البدائع : الذبح هو فري الأوداج ومحله ما بين اللبة واللحيين ، والنحر فري الأوداج ومحله آخر الحلق – انتهى . والحديث دليل
.................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/406)


لما ذهب إليه جمهور العلماء من أن نحر البقر جائز وإن كان الذبح مستحبا عندهم لقوله تعالى ? إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ? (2 : 67) وخالف الحسن بن صالح ومجاهد فاستحبا نحرها . وقال مالك : إن ذبح الجزور من غير ضرورة أو نحر الشاة من غير ضرورة لم تؤكل . وقال في الدر المختار : حب النحر للإبل وكره ذبحها ، والحكم في غنم وبقر عكسه ، فندب ذبحها وكره نحرها لترك السنة . وقال في البدائع : لو نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر يحل لوجود فري الأوداج لكنه يكره ( أي فعله لا المذبوح ) لأن السنة في الإبل النحر ، وفي غيرها الذبح ، لأن الأصل في الذكاة إنما هو الأسهل على الحيوان ، وما فيه نوع راحة له فهو أفضل والأسهل في الإبل النحر لخلو لبتها عن اللحم واجتماع اللحم فيما سواه من خلفها ، والبقر والغنم جميع حلقها لا يختلف – انتهى . وفي شرح الإقناع من فروع الشافعية يسن نحر إبل وذبح بقر وغنم ، ويجوز بلا كراهة عكسه . قال البجيرمي : لكنه خلاف الأولى ، خلافا للإمام مالك حيث قال : لا يجوز ذلك . وقال الدردير : وجب نحر إبل ووجب ذبح غيره من غنم وطير ، فإن نحرت ولو سهوا لم تؤكل إن قدر ، وجاز للضرورة ، أي جاز الذبح في الإبل والنحر في غيرها للضرورة كوقوع في مهواة أو عدم آلة ذبح أو نحر إلا البقر فيندب فيها الذبح . قال الدسوقي : ونحرها خلاف الأولى . ومثل البقر الجاموس وبقر الوحش فيجوز كل من الذبح والنحر فيهما . ومثل البقر في جواز الأمرين ونبد الذبح ما أشبه من حمار الوحش وغيره – انتهى . وقال ابن قدامة : لا خلاف بين أهل العلم في أن المستحب نحر الإبل وذبح ما سواها قال الله تعالى ? فصل لربك وأنحر ? (108 : 2) وقال الله تعالى ? إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ? (2 : 67) ومعنى النحر أن يضربها بحربة أو نحوها في الوهدة التي بين أصل عنقها وصدرها ، فإن ذبح ما ينحر أو نحر ما يذبح فجائز ، هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والزهري

(18/407)


وقتادة ومالك والليث والثوري وأبوحنيفة والشافعي وإسحاق وأبو ثور ، وحكي عن داود أن الإبل لا تباح إلا بالنحر ولا يباح غيرها إلا بالذبح ، لأن الله تعالى قال ? إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ? وقال تعالى ? فصل لربك وأنحر ? والأمر يقتضي الوجوب ، وحكي عن مالك أنه لا يجزئ في الإبل إلا النحر ، ولنا قوله - صلى الله عليه وسلم - أمرر الدم بما شئت ، وعن عائشة قالت : نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بقرة واحدة – انتهى مختصرا . وقال ابن رشد : اتفقوا على أن الذكاة في بهيمة الأنعام نحر وذبح ، وأن من سنة الغنم والطير الذبح ، وأن من سنة الإبل النحر ، وأن البقر يجوز فيها الذبح والنحر واختلفوا هل يجوز النحر في الغنم والطير والذبح في الإبل ؟ فذهب مالك إلى أنه لا يجوز النحر في الغنم والطير ، ولا الذبح في الإبل ، وذلك في غير موضع الضرورة . وقال قوم : يجوز جميع ذلك من غير كراهة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة العلماء . وقال أشهب : إن نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر أكل ، ولكنه يكره ، وفرق ابن بكير بين الغنم والإبل فقال : يؤكل البعير بالذبح ولا تؤكل الشاة بالنحر ، ولم يختلفوا في جواز ذلك في موضع الضرورة . وسبب اختلافهم معارضة
عن عائشة بقرة يوم النحر . رواه مسلم .
2654 – (4) وعنه ، قال : نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بقرة في حجته .

(18/408)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفعل للعموم . فأما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام " ما أنحر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا " وأما الفعل فإنه ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر الإبل والبقر وذبح الغنم ، وإنما اتفقوا على جواز ذبح البقر لقوله تعالى ? إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ? انتهى . ( عن عائشة ) أي لعائشة ولسائر نساءه كما سيأتي في الحديث الآتي ( بقرة ) ويحتمل أنه ذبح عن عائشة وحدها بقرة وجعل بقرة أخرى عن الكل تمييزا لها لأنها انفردت بسبب موجب وهو القران ، لأنها أردفت الحج على عمرتها ، وهن لما اشتركن في سبب غيره أشرك بينهن ويكون في ذلك تخصيص وتفضيل ، لأن الواجب في ذلك شاة أو سبع بدنة أو بقرة ، كما فعل في حق صواحبها ، ولعل إيثار البقر لأنه المتيسر حين إذن ، وإلا فالإبل أفضل منه ، وقيل إنه لبيان الجواز (يوم النحر) أي في حجته كما في رواية محمد بن بكر عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عند أحمد ومسلم ( رواه مسلم ) من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن ابن جريج . والحديث من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري . ورواه أيضا أحمد والبيهقي (ج 5 : ص 238) .

(18/409)


2654 – قوله ( وعنه ) أي عن جابر ( نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بقرة في حجته ) وفي الباب أيضا عن عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر عن أزواجه بقرة في حجة الوداع " . أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبري وابن ماجة كلهم من رواية يونس عن الزهري عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة ، لفظ أحمد ولفظ الثلاثة "بقرة واحدة " وعن أبي هريرة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن" أخرجه أبو داود والنسائي في الكبرى وابن ماجة ، والحديثان سكت عنهما أبو داود والمنذري . وحديث جابر مع حديثي عائشة وأبي هريرة يدل على جواز الاشتراك في الهدي إذا كان من الإبل أو البقر ، وللعلماء خلاف في ذلك فذهب الشافعي وأحمد والجمهور إلى جواز الاشتراك في الهدي سواء أكان تطوعا أم واجبا ، وسواء أكانوا كلهم متقربين أو بعضهم يريد القربة ، وبعضهم يريد اللحم ، واستدل لهم بما ورد من أحاديث الاشتراك المتقدمة وغيرها مما ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 209) والحافظ في الدراية (ص 324) والمجد في المنتقي (ج 4 : ص 330 ، 331) والمحب الطبري في القرى (ص 518 ، 527 ، 528) وقال داود وبعض المالكية : يجوز الاشتراك في هدي التطوع دون الواجب وهو مردود بحديث عطاء عن جابر قال : كنا نتمتع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنذبح البقرة عن سبع نشترك فيها . أخرجه أحمد والنسائي وغيرهما . فهذا صريح في جواز الاشتراك في دم التمتع وهو واجب لقوله عز وجل : ? فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ? (2 : 196) وذهب مالك إلى عدم جواز الاشتراك في الهدي مطلقا ، وأحاديث الباب تخالفه ، وروي عن ابن عمر
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/410)


نحو ذلك ، ولكنه روى عنه أحمد ما يدل على الرجوع عنه وموافقة الجمهور ، ولعل مالكا لم يبلغه ذلك . وذهب أبو حنيفة إلى جوازه إن كانوا كلهم متقربين سواء أكان هدي تطوع أم واجب وليس فيهم من يريد اللحم . وقد تقدم الكلام على مسألة الاشتراك في الهدي والإضحية في باب الإضحية . قلت : ويدل أيضا على جواز الاشتراك في الهدي من البقر ما رواه مالك في الموطأ والبخاري من طريقه في " باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن" عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة تقول : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج – الحديث . وفيه : قالت : فدخل علينا يوم النحر بلحم بقرة فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه ، وللشيخين من رواية سليمان بن بلال عن يحيى بلفظ " ذبح " قال ابن بطال : أخذ بظاهره جماعة فأجازوا الاشتراك في الهدي والإضحية ولا حجة فيه ، لأنه يحتمل أن يكون عن كل واحدة بقرة وأما رواية يونس عن الزهري عن عمرة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر عن أزواجه بقرة واحدة ، فقد قال إسماعيل القاضي : تفرد يونس بذلك ، وقد خالفه غيره – انتهى . قال الحافظ : رواية يونس أخرجها النسائي وأبو داود وغيرهما ويونس ثقة حافظ ، وقد تابعه معمر عند النسائي أيضا ، ولفظه أصرح من لفظ يونس قال : ما ذبح عن آل محمد في حجة الوداع إلا بقرة . وروى النسائي أيضا من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمن اعتمر من نسائه في حجة الوداع بقرة بينهن . صححه الحاكم وهو شاهد قوي لرواية الزهري ، وأما ما رواه عمار الدهني عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت : ذبح عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حججنا بقرة بقرة ، أخرجه النسائي أيضا ، فهو شاذ مخالف لما تقدم ، وقد رواه

(18/411)


البخاري في الأضاحي ومسلم أيضا من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ " ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه البقر " ولم يذكر ما زاده عمار الدهني – انتهى . وتعقبه الزرقاني فقال : لا شذوذ فيه ، فإن عمار الدهني – بضم المهملة وإسكان الهاء ونون – ثقة صدوق من رجال مسلم والأربعة ، فزيادته مقبولة فإنه قد حفظ ما لم يحفظ غيره ، وزيادته ليست مخالفة لغيره فإن رواية معمر " ما ذبح إلا بقرة " المراد بها جنس بقرة أي لا بعير ولا غنم ، فلا تنافي الرواية الصريحة أن عن كل واحدة بقرة ، فمن شرط الشذوذ أن يتعذر الجمع ، وقد أمكن فلا تأييد فيها لرواية يونس التي حكم إسماعيل القاضي بشذوذها لأنه انفرد بقوله " واحدة " وإسماعيل من الحفاظ لا يجهل أن يونس ثقة حافظ وإنما حكم بشذوذ روايته ومخالفة غيره له على القاعدة أن الشاذ ما خالف الثقة فيه الملأ . وحديث أبي هريرة لا شاهد فيه فضلا عن قوته إذ قوله "ذبح بقرة بينهن" لا صراحة فيه أنه لم يذبح سواها وإن كان ظاهره ذلك فتعارضه الرواية الصريحة في التعدد – انتهى . وفي هذا التعقب نظر لأن عمارا ويونس اختلفا في ذلك ، عمار وإن كان ثقة صدوقا فلا يساوي يونس لأنه ثقة حافظ كما تقدم في كلام الحافظ . وقال في التقريب عن عمار
......................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/412)


الدهني : إنه صدوق ، فإذا تعارضا في الوحدة والتعدد ترجح حديث يونس ، وقول الزرقاني " أن زيادته ليست مخالفة لغيره " ليس بصحيح ، فإن رواية يونس صريحة في نحر البقرة الواحدة عن أزواجه ، ورواية عمار صريحة في التعدد ولا يمكن الجمع بينهما ، ولا يصح إرادة الجنس في رواية معمر للتاء الفارقة بين الواحدة والجنس . قال العيني : الفرق بين البقرة والبقر كتمرة وتمر وعلى تقدير عدم التاء يحتمل التضحية بأكثر من واحدة – انتهى . واتفق من قال بالاشتراك على أنه لا يكون في أكثر من سبعة إلا إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب فقال : تجزئ عن عشرة ، وبه قال إسحاق بن راهويه وابن خزيمة من الشافعية واحتج لذلك في صحيحه وقواه ، وبه قال بن حزم ، وبسط في إثباته واستدل لذلك بما تقدم من أحاديث عائشة وأبي هريرة وجابر . وأجاب الجمهور عن ذلك بوجوه قال الشوكاني : قد استدل بقول عائشة المذكور على أن البقرة تجزئ عن أكثر من سبعة ، فإن الظاهر أنه لم يتخلف أحد من زوجاته يومئذ وهن تسع ، ولكن لا يخفى أن مجرد هذا الظاهر لا تعارض به الأحاديث الصريحة الصحيحة الواردة في إجزاء البقرة عن سبعة فقط المجمع على مدلولها . وقيل إن البقرة كانت عن سبع منهن وعن الباقية لعله ذبح غير البقر ، ولا يخفى ما فيه . وأجاب ابن القيم بأن أحاديث السبعة أكثر وأصح ، وحاصله أن الروايات في ذلك مختلفة ، وحديث عائشة يدل على الإجزاء لأكثر من سبعة ، لكن أحاديث الإجزاء لسبعة فقط أكثر وأصح فتقدم . تنبيه : اختلف في أن البقرة المذكورة في حديث عائشة عند مالك والشيخين إضحية كانت أو هديا وبكلا اللفظين وردت الروايات فروى البخاري في الأضاحي ومسلم أيضا من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن ابن القاسم بلفظ " ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بالبقر " وأخرجه مسلم من طريق ابن الماجشون عن عبد الرحمن بلفظ " أهدى " بدل " ضحى " قال الحافظ : والظاهر أن التصرف من الرواة

(18/413)


لأنه ثبت في الحديث ذكر النحر كما تقدم ، فحمله بعضهم على الأضحية ، فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك كان عن من اعتمر من نسائه فقويت رواية من رواه بلفظ " أهدى " وتبين أنه هدي التمتع فليس فيه حجة على مالك في قوله " لا ضحايا على أهل منى " وتبين توجيه الاستدلال به على جواز الاشتراك في الهدي والأضحية – انتهى كلام الحافظ . وهذا كما ترى يدل على أنه مال إلى أن البقرة المذكورة كانت هديا ، ونحى في كتاب الأضاحي إلى كونها أضحية حيث قال : قوله " ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه بالبقر " ظاهر في أن الذبح المذكور كان على سبيل الإضحية وحاول ابن التين تأويله ليوافق مذهبه فقال : المراد أنه ذبحها وقت ذبح الأضحية وهو ضحى يوم النحر ، قال : وإن حمل على ظاهره فيكون تطوعا لا على أنها سنة الأضحية ، كذا قال . ولا يخفى بعده ، واستدل به الجمهور على أن ضحية الرجل تجزئ عنه وعن أهل بيته ، وخالف في ذلك الحنفية ، وادعى الطحاوي أنه مخصوص أو منسوخ ولم يأت لذلك بدليل – انتهى . وهذا كما ترى رجح ها هنا خلاف ما رجحه في كتاب الحج . وذهب ابن القيم إلى أن الصواب رواية
رواه مسلم .
2655 – (5) وعن عائشة ، قالت : فتلت قلائد بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي ، ثم قلدها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/414)


الهدي فقد قال بعد ذكر مذهب ابن حزم " أن الحاج شرع له التضحية مع الهدي " : والصحيح إن شاء الله أن هدي الحاج له بمنزلة الأضحية للمقيم ، ولم ينقل أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه جمعوا بين الهدي والأضحية بل كان هديهم هو أضاحيهم فهو هدي بمنى وإضحية بغيرها ، وأما قول عائشة " ضحى عن نسائه بالبقر " فهو هدي أطلق عليه اسم الأضحية وأنهن كن متمتعات وعليهن الهدي ، فالبقر الذي نحره عنهن هو الهدي الذي يلزمهن – انتهى . لكن تبويب البخاري في كتاب الأضاحي على حديث عائشة المذكور " باب الأضحية للمسافر والنساء " و " باب من ذبح ضحية غيره " يدل على أنه حمل الحديث على الإضحية ، ولذلك استدل به لمالك على أن التضحية بالبقر أفضل خلافا للجمهور إذا قالوا : إن الأفضل البدنة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من راح في الساعة الأولى ( إلى الجمعة ) فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة " إلى آخره . مع أنه ليس في حديث عائشة تفضيل البقر ولا عموم لفظ . إنما هي قضية عين محتملة لأمور فلا حجة فيها لمالك ، واستدل به أيضا على الأضحية على النساء والأضحية على المسافر وعلى الحاج بمنى وغير ذلك من المسائل ليس هذا موضع تفصيلها . هذا . وقد ترجم البخاري على حديث عائشة كما تقدم " باب ذبح الرجل عن نسائه من غير أمرهن" قال الحافظ : أما قوله من غير أمرهن فأخذه من استفهام عائشة عن اللحم لما دخل به عليها ولو كان ذبحه بعلمها لم تحتج إلى الاستفهام ، لكن ليس ذلك دافعا للاحتمال فيجوز أن يكون علمها بذلك تقدم بأن يكون استأذنهن في ذلك . لكن لما أدخل اللحم عليها أحتمل عندها أن يكون هو الذي وقع الاستئذان فيه ، وأن يكون غير ذلك فاستفهمت عنه لذلك ، وقال النووي : هذا محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - استأذنهن في ذلك فإن تضحية الإنسان عن غيره لا يجوز إلا بإذنه – انتهى . وهكذا قال الطيبي كما في المرقاة .

(18/415)


قلت : وقد تقدم أن عائشة كانت قارنة فهي داخلة في قولها " وضحى عن نسائه بالبقر " لأن القارن يجب عليه دم القران فكان لابد من استيذانها كسائر النساء ، والله أعلم ( رواه مسلم ) من طريق سعيد بن يحيى الأموي عن أبيه عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر ، وهو أيضا من إفراد مسلم لم يخرجه البخاري .
2655 – قوله (فتلت قلائد بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) القلائد جمع قلادة بكسر القاف وهي ما تعلق بالعنق والبدن بضم الباء وإسكان الدال جمع البدنة بفتح الباء والدال وهي ناقة أو بقرة تنحر بمكة سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها والبدن التثمين والاكتناز وبدن إذا ضخم وبدن بالتشديد إذا أسن ( بيدي ) بفتح الدال وتشديد الياء على التثنية ، وروي بالإفراد على الجنسية . قال الحافظ : فيه رفع مجاز أن تكون أرادت أنها فتلت بأمرها ، وفيه دليل على استحباب فتل القلائد للهدي واستخدام الإنسان أهله في مثل هذا ( ثم قلدها ) زاد في رواية " بيده " قال ابن التين : يحتمل أن يكون قول عائشة
وأشعرها وأهداها ، فما حرم عليه كان أحل له .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/416)


" ثم قلدها بيده " بيانا لحفظها للأمر ومعرفتها به ويحتمل أن تكون أرادت أنه - صلى الله عليه وسلم - تناول ذلك بنفسه وعلم وقت التقليد ومع ذلك فلم يمتنع من شيء يمتنع منه المحرم لئلا يظن أحد أنه استباح ذلك قبل أن يعلم بتقليد الهدي . وقال الباجي : يحتمل أن تكون أرادت بذلك تبيين حفظها للأمر ومعرفتها من تناول كل شيء منه ، ويدل ذلك على اهتبالها بهذا الأمر ومعرفتها به ويحتمل أنها أرادت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تناول ذلك بنفسه وعلم وقت التقليد لئلا يظن أحد أنه استباح محظور الإحرام بعد تقليد هديه وقبل أن يعلم هو بذلك فتبين من ذلك أنه لم يأت شيئا من هذا إلا وهو عالم بتقليد هديه – انتهى . ( وأهداها ) أي مع أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة ، وفي الرواية الآتية دليل استحباب بعث الهدي إلى الحرم وإن لم يسافر معه مرسله ولا أحرم في تلك السنة ( فما حرم ) بفتح الحاء وضم الراء ( عليه ) أي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ( شيء كان أحل له ) بصيغة المجهول من الإحلال . وسبب هذا القول من عائشة رضي الله عنها أنها بلغها فتيا ابن عباس رضي الله عنهما فيمن بعث هديا إلى مكة أنه يحرم عليه ما يحرم على الحاج من لبث المخيط وغيره حتى ينحر هديه بمكة فقالت ذلك ردا عليه لأن باعث الهدي المقيم في بلده لا يصير بمجرد البعث محرما فلا يحرم عليه شيء ، روى البخاري في " باب إذا بعث بهديه ليذبح ( وأقام ) لم يحرم عليه شيء " من كتاب الأضاحي بسنده عن مسروق أنه أتى عائشة فقال لها : يا أم المؤمنين إن رجل يبعث بالهدي إلى الكعبة ويجلس في المصر فيوصي أن تقلد بدنته فلا يزال من ذلك اليوم محرما حتى يحل الناس ، قال : فسمعت تصفيقها من وراء الحجاب فقالت : لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه مما حل للرجال من أهله حتى يرجع الناس – انتهى . وفي الصحيحين " أن زياد بن

(18/417)


أبي سفيان كتب إلى عائشة أن عبد الله بن عباس قال : من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه ؟ فقالت عائشة : ليس كما قال ابن عباس ، " أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا أحله الله له حتى نحر الهدي " وروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى رجلا متجردا بالعراق فسأل الناس عنه ؟ فقالوا : أنه أمر بهديه أن يقلد فلذلك تجرد . قال ربيعة : فلقيت عبد الله بن الزبير فذكرت له ذلك فقال : بدعة ورب الكعبة – انتهى . قال الطحاوي : ولا يجوز عندنا أن يكون ابن الزبير حلف على ذلك أنه بدعة إلا وقد علم أن السنة خلاف ذلك . قال الحافظ : ورواه ابن أبي شيبة عن الثقفي عن يحيى بن سعيد أخبرني محمد بن إبراهيم أن ربيعة أخبره أنه رأى ابن عباس وهو أمير على البصرة في زمان علي متجردا على منبر البصرة فذكره ، فعرف بهذا اسم المبهم في رواية مالك – انتهى . وما ذهب إليه ابن عباس من أن الرجل إذا بعث هديا يحرم عليه ما يحرم على المحرم من محظورات الإحرام ، قال الحافظ : ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر ، رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب ، وابن المنذر من طريق ابن جريج كلاهما
......................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/418)


عن نافع أن ابن عمر كان إذا بعث بالهدي يمسك عما يمسك يمسك عنه المحرم إلا أنه لا يلبي . ومنهم قيس بن سعد بن عبادة . أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيب عنه نحو ذلك . وروى ابن أبي شيبة من طريق محمد بن علي بن الحسين عن عمر وعلي أنهما قالا في الرجل يرسل ببدنته أنه يمسك عما يمسك المحرم . وهذا منقطع . وقال ابن المنذر : قال عمر وعلي وقيس بن سعد وابن عمر وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون : من أرسل الهدي وأقام حرم عليه ما يحرم على المحرم . وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وآخرون : لا يصير بذلك محرما يعني لا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم . وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار ( ومنهم الأئمة الأربعة ) ومن حجة الأولين ما رواه أحمد والطحاوي وغيرهما من طريق عبد الرحمن بن عطاء عن عبد الملك بن جابر ( بن عيتك ) عن جابر بن عبد الله قال : كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه وقال : إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر على مكان كذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي – الحديث . قال الحافظ : وهذا لا حجة فيه لضعف إسناده . قلت : عبد الرحمن بن عطاء ضعفه عبد الحق في أحكامه ووافقه ابن القطان وقال ابن عبد البر : لا يحتج بما انفرد به فكيف إذا خالفه من هو أثبت منه وقد تركه مالك وهو جاره والحديث أخرجه عبد الرزاق من طريق البزار في مسنده عن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع ابني جابر يحدثان عن أبيهما جابر بن عبد الله قال : بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - جالس مع أصحابه إذ شق قميصه حتى خرج فسئل فقال : واعدتهم يقلدون هديي اليوم فنسيت – انتهى . وهذا أيضا لا حجة فيه لما تقدم ، وذكره ابن القطان من جهة البزار فقال : ولجابر ثلاثة أولاد : عبد الرحمن ومحمد وعقيل ، والله أعلم من هما من الثلاثة – انتهى . وقد ظهر بما قدمنا أن المسألة كان

(18/419)


فيها خلاف في السلف من الصحابة والتابعين لكن انقرض هذا الخلاف بعد ذلك واستقر الأمر على أن بمجرد تقليد الهدي وبعثه مع أحد لا يكون الرجل في حكم المحرم ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم . قال الحافظ : جاء عن الزهري ما يدل على أن الأمر استقر على خلاف ما قال ابن عباس ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه ، وأخرجه البيهقي (ج 5 : ص 233) من طريقه قال : أول من كشف العمى عن الناس وبين لهم السنة في ذلك عائشة فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها . قال : فلما بلغ الناس قول عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس – انتهى . قلت : وها هنا مسألة أخرى خلافية بين الأئمة ربما تلتبس على بعض الناس بالمسألة الأولى المتقدمة وهي أن من قلد الهدي وتوجه معه أي ساقه معه وأراد النسك هل يكون بتقليد الهدي وسوقه معه محرما أم لا ؟ فقال الحنفية يصير بالتقليد والتوجه معه ونية النسك محرما خلافا لمالك والشافي . قال الحافظ : ذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أن من أراد النسك صار بمجرد تقليده الهدي محرما حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق . قال : وقال أصحاب الرأي : من ساق الهدي وأم البيت ثم قلد وجب عليه الإحرام .
متفق عليه .
2656 – (6) وعنها ، قالت : فتلت قلائدها من عهن كان عندي ، ثم بعث بها مع أبي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/420)


وقال الجمهور : لا يصير بتقليد الهدي محرما ولا يجب عليه شيء – انتهى . وفي الهداية : من قلد بدنة تطوعا أو نذرا أو جزاء صيد وتوجه معها يريد الحج فقد أحرم لقوله - صلى الله عليه وسلم - : من قلد بدنة فقد أحرم . ولأن سوق الهدي في معنى التلبية في إظهار الإجابة لأنه لا يفعله إلا من يريد الحج أو العمرة ، وإظهار الإجابة قد يكون بالفعل كما يكون بالقول فيصير به محرما لاتصال النية بفعل هو من خصائص الإحرام ، فإن قلدها وبعث بها ولم يسقها لم يصر محرما لما روي عن عائشة قالت : كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث بها وأقام في أهله حلالا – انتهى . قال ابن الهمام : أفاد أنه لابد من ثلاثة : التقليد والتوجه معها ، ونية النسك ، وقوله لقوله - صلى الله عليه وسلم - : من قلد بدنة ، إلخ . غريب مرفوعا ، ووقفه ابن أبي شيبه في مصنفه على ابن عباس وابن عمر – انتهى مختصرا بقدر الضرورة . واستدل الزيلعي على الكنز بقول ابن عمر المذكور ثم قال : والأثر في مثله كالمرفوع وهو محمول على ما إذا ساقه لحديث عائشة المذكور أي جمع بين أثر ابن عمر وحديث عائشة . قلت : الراجح عندنا أنه لا يصير الرجل محرما بمجرد تقليد الهدي وسوقه معه حتى يلبي مع نية النسك ، لأن إيجاب الإحرام يحتاج إلى دليل وقد دلت النصوص على أنه لا يجب الإحرام إلا إذا بلغ الميقات وأراد مجاوزته ، وأما قبل الوصول إلى الميقات فلم يقم دليل على أنه يصير محرما أو يجب عليه الإحرام بمجرد تقليد الهدي أو سوقه . أما أثر ابن عمر وابن عباس فهو معارض لحديث عائشة المرفوع ، وحمله على سوق الهدي والتوجه معه خلاف الظاهر ، ولا دليل على أن التقليد والسوق يقوم مقام التلبية . تنبيه قال الحافظ : ما وقع في الأحاديث من استحباب التقليد والإشعار وغير ذلك يقتضي أن إظهار التقرب بالهدي أفضل من إخفاءه والمقرر أن إخفاء العمل الصالح غير الفرض أفضل من إظهاره فأما

(18/421)


أن يقال إن أفعال الحج مبنية على الظهور كالإحرام والطواف والوقوف فكان الإشعار والتقليد كذلك فيخص الحج من عموم الإخفاء ، وأما أن يقال : لا يلزم من التقليد والإشعار إظهار العمل الصالح ، لأن الذي يهديها يمكنه أن يبعثها مع من يقلدها ويشعرها ولا يقول إنها لفلان فتحصل سنة التقليد مع كتمان العمل – انتهى . ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وأخرج الترمذي معناه .
2656 – قوله ( فتلت قلائدها ) أي قلائد بدن النبي من ( عهن ) بكسر المهملة وسكون الهاء أي صوف مصبوغ بأي لون كان ، وقيل هو الأحمر خاصة ( كان عندي ) صفة عهن ( ثم بعث بها ) أي بالبدن المقلدة ( مع أبي ) بفتح الهمزة ، وكسر الموحدة الخفيفة تريد بذلك أباها أبا بكر الصديق ، واستفيد من ذلك وقت البعث وأنه كان في سنة تسعة عام حج أبو بكر بالناس . قال ابن التين : أرادت عائشة بذلك علمها بجميع القصة ، ويحتمل أن تريد أنه آخر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -
متفق عليه .
2657 – (7) وعن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يسوق بدنة ، فقال : " اركبها " . فقال : إنها بدنة . قال : " اركبها " . فقال : إنها بدنة . قال : " اركبها ويلك " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/422)


لأنه حج في العام الذي يليه حجة الوداع لئلا يظن ظان أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ ، فأرادت إزالة هذا اللبس وأكملت ذلك بقولها ( كما في رواية ) : فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله له حتى نحر الهدي أي وانقضى أمره ولم يحرم ، وترك إحرامه بعد ذلك أحرى وأولى ، لأنه إذا انتفى في وقت الشبهة فلأن ينتفي عند انتفاء الشبهة أولى ، كذا في الفتح ، وفي رواية لمسلم (( فأصبح فينا حلالا يأتي ما يأتي الحلال من أهله )) والحديث يدل على ما دل عليه الحديث السابق . قال الحافظ : وفيه رد على من كره القلائد من الأوبار واختار أن تكون من نبات الأرض ، وهو منقول عن ربيعة ومالك . وقال ابن التين : لعله أراد أنه الأولى مع القول بجواز كونها من الصوف والله أعلم . وفي حديث عائشة هذا والذي قبله دلالة على استحباب إرسال الهدي لمن لم يرد الحج وأنه يقلده ويشعره من بلده بخلاف من يخرج بهديه يريد الحج أو العمرة فإنه إنما يشعره ويقلده حين يحرم من الميقات كما تقدم ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج 5 : ص 233)

(18/423)


2657 – قوله ( رأى رجلا ) قال الحافظ : لم أقف على اسمه بعد طول البحث ، وقال العيني : لم يدر اسمه ( يسوق بدنة ) بفتحات . قال الحافظ : كذا في معظم الأحاديث ، ووقع لمسلم من طريق بكير بن الأخنس عن أنس رضي الله عنه (( مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ببدنة أو هدية )) ولأبي عوانة من هذا الوجه (( أو هدي )) وهو مما يوضح أنه ليس المراد بالبدنة مجرد مدلولها اللغوي . قال القسطلاني : البدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة وهي بالإبل أشبه ، وكثر استعمالها فيما كان هديا ، ولمسلم من طريق المغيرة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة (( بينا رجل يسوق بدنة مقلدة )) وكذا في طريق همام عن أبي هريرة ، وللبخاري وأحمد (ج 2 : ص 278) من طريق عكرمة عن أبي هريرة : فلقد رأيته راكبا يساير النبي - صلى الله عليه وسلم - والنعل في عنقها ( فقال : اركبها ) زاد النسائي من طريق سعيد عن قتادة ، والجوزقي من طريق حميد عن ثابت كلاهما عن أنس (( وقد جهده المشي )) ولأبي يعلى من طريق الحسن عن أنس (( حافيا )) لكنها ضعيفة ( فقال : إنها بدنة ) قال الحافظ : تبين بما تقدم من الطرق أنه أطلق البدنة على الواحدة من الإبل المهداة إلى البيت الحرام ولو كان المراد مدلولها اللغوي لم يحصل الجواب بقوله (( إنها بدنة )) لأن كونها من الإبل معلوم ، فالظاهر أن الرجل ظن أنه خفي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كونها هديا فلذلك قال : إنها بدنة ، والحق أنه لم يخف ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونها كانت مقلدة ، ولهذا قال له لما زاد في مراجعته (( ويلك )) ( قال : اركبها ويلك ) ووقع في رواية أحمد (ج 2 : ص 254) وابن ماجى (( اركبها ويحك )) قال الهروي : ويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة يستحقها ، وويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها ، وكان الأصمعي يقول :
في الثانية أو الثالثة .

(18/424)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (( ويل )) كلمة عذاب و (( ويح )) كلمة رحمة . وقال سيبويه : (( ويح )) زجر لمن أشرف على هلكة . وفي الحديث (( ويل واد في جهنم )) وكل ذلك أصل معنى الكلمة ، ولكن الظاهر المتبادر أنه - صلى الله عليه وسلم - قالها زاجرا وتأديبا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه . قال القرطبي : قالها له تأديبا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه . وبهذا جزم ابن عبد البر وابن العربي وبالغ حتى قال : الويل لمن راجع في ذلك بعد هذا . قال : ولو لا أنه - صلى الله عليه وسلم - اشترط على ربه ما اشترط لهلك ذلك الرجل لا محالة . قال القرطبي : ويحتمل أن يكون فهم عنه أنه يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة وغيرها فزجره عن ذلك ، فعلى الحالتين هي إنشاء ، ورجحه عياض وغيره ، قالوا : والأمر ها هنا وإن قلنا أنه للإرشاد لكنه استحق الذم بتوقفه على امتثال الأمر ، والذي يظهر أنه ما ترك الامتثال عنادا ، ويحتمل أن يكون ظن أنه يلزمه غرم بركوبها أو إثم ، وأن الإذن الصادر له بركوبها إنما هو للشفقة عليه فتوقف ، فلما أغلظ له بادر إلى الامتثال ، وقيل لأنه كان أشرف على هلكة من الجهد ، وويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة فالمعنى : أشرفت على الهلكة فاركب ، فعلى هذا فهي إخبار ، وقيل : هي كلمة تدعم بها العرب كلامها ولا تقصد معناها تجري على لسانهم في المخاطبة من غير قصد لمدلولها كما قيل في قوله عليه الصلاة والسلام : تربت يداك ، عقرى حلقى ، أفلح وأبيه ، وكما تقول العرب : لا أم له ، لا أب له ، قاتله الله ، ما أشجعه ، وأشباه ذلك ، ويقويه ما وقع بدله (( ويحك )) عند أحمد فإذا لا يكون إنشاء ولا إخبارا ( في الثانية ) أي في المرة الثانية ( أو الثالثة ) أي أو قال ذلك في المرة الثالثة ، وهذا شك من الراوي . قال القاري : في الثانية أو الثالثة أي في إحدى المرتين متعلق به قال ، وفي رواية

(18/425)


همام عن أبي هريرة عند مسلم (( قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ويلك اركبها ، فقال : بدنة يا رسول الله ، قال : ويلك اركبها ، ويلك اركبها )) قال الولي العراقي : فإن قلت : في هذه الرواية أنه عليه الصلاة والسلام بدأه بقوله : ويلك ، ثم قاله له في المرة الثانية والثالثة ، وفي الرواية الأولى أنه قال له ذلك في الثانية أو الثالثة فكيف الجمع بينهما ؟ قلت : يحتمل أنه قال له ذلك في الأولى لأمر دنيوي وهو ما حصل له من الجهد والمشقة بالمشي فكان محتاجا إلى الركوب ، وقال له ذلك في الثانية أو الثالثة لأمر ديني وهو مراجعته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتأخر امتثاله أمره – انتهى . والحديث يدل على جواز ركوب الهدي سواء كان واجبا أو متطوعا به لكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يفصل في قوله ولا استفصل صاحب الهدي عن ذلك وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال فدل على أن الحكم لا يختلف بذلك ، وأصرح من هذا ما أخرجه أحمد (ج 1 : ص 121) من حديث علي أنه سئل يركب الرجل هديه ؟ فقال : لا بأس به قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر بالرجال يمشون فيأمرهم يركبون هديه أي هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال : ولا تتبعون شيئا أفضل من سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، قال الحافظ : إسناده صالح – انتهى . وقد اختلفوا في ركوب الهدي على أقوال يأتي بيانها في شرح حديث جابر ، وفي الحديث تكرير العالم للفتوى والندب إلى المبادرة إلى امتثال الأمر وزجر من لم يبادر إلى ذلك وتوبيخه وجواز
متفق عليه .
2658 – (8) وعن أبي الزبير ، قال : سمعت جابر بن عبد الله سئل عن ركوب الهدي ، فقال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا " .

(18/426)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسايرة الكبار في السفر ، وأن الكبير إذا رأى مصلحة للصغير لا يأنف عن إرشاده إليها ، واستنبط البخاري من هذا الحديث جواز انتفاع الواقف بوقفه حيث بوب على هذا الحديث (( باب هل ينتفع الواقف بوقفه ؟ )) قال : وقد اشترط عمر لا جناح على من وليه أن يأكل ، وقد يلي الواقف وغيره . قال : وكذلك من جعل بدنة أو شيئا لله فله أن ينتفع بها كما ينتفع غيره وإن لم يشترط – انتهى . فهذا كما ترى أشار إلى إلحاق الوقف في ذلك بالهدي . قال الحافظ : وهو موافق للجمهور في الأوقاف العامة ، أما الخاصة فالوقف على النفس لا يصح عند الشافعية ومن وافقهم ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي الوصايا وفي الأدب ، ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 245 ، 254 ، 278) ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن أبي شيبة وأبو الشيخ ابن حبان في الأضاحي وابن الجارود في المنتقى ، وفي الباب عن أنس أخرجه أحمد والشيخان والنسائي والترمذي وابن ماجه والبيهقي والدارمي ، وأبو الشيخ ابن حبان في الضحايا .

(18/427)


2658 – قوله ( وعن أبي الزبير ) اسمه محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي مولاهم المكي روى عن العبادة الأربعة وجابر وأبي الطفيل وسعيد بن جبير وعكرمة وغيرهم ، وروى عنه عطاء وهو من شيوخه والزهري وابن جريج ومالك والأعمش وهشام بن عروة وأبو عوانة وخلق كثير ، وهو من رجال الستة . قال الحافظ في التقريب : صدوق إلا أنه يدلس ، من الرابعة ، مات سنة ست وعشرين ومائة ( اركبها بالمعروف ) أي بوجه لا يلحقها ضرر ( إذا ألجئت إليها ) أي إذا اضطررت إلى ركوبها ( حتى تجد ظهرا ) أي مركوبا آخر . والحديث يدل على جواز ركوب الهدي عند الضرورة وقد اختلفوا في هذا على أقوال ، والأول : الجواز مطلقا ، وهذا هو الذي جزم به الرافعي والنووي في مناسكه ، وفي الروضة في كتاب الضحايا ، وحكاه في شرح المهذب عن الماوردي والقفال وحكاه ابن المنذر عن عروة بن الزبير وأحمد وإسحاق وكذا حكاه النووي في شرحي مسلم والمهذب عنهم وعن مالك في رواية وعن أهل الظاهر ، وحكاه الخطابي في المعالم عن أحمد وإسحاق وصرح عنهما بأنهما لم يشترطا منه حاجة إليها ، ورواه ابن نافع عن مالك كما في الزرقاني . الثاني الجواز بشرط الاحتياج لذلك لا مطلقا فلا يركبها من غير حاجة ، نقله النووي في شرح المهذب عن أبي حامد والبندنيجي وغيرهما . وقال الرؤياني : تجويزه بغير حاجة يخالف النص وهو الذي نقله الترمذي عن الشافعي وأحمد وإسحاق حيث قال : وقد رخص قوم من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم في ركوب البدنة إذا احتاج إلى ظهرها وهو
...............................................................................................

(18/428)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قول الشافعي وأحمد وإسحاق ، وقال النووي في شرح مسلم : مذهب الشافعي أنه يركبها إذا احتاج ولا يركبها من غير حاجة ، وبهذا قال ابن المنذر وجماعة وهو رواية عن مالك – انتهى . وبه جزم في الروض المربع من فروع الحنابلة حيث قال : ويركب لحاجة فقط بلا ضرر ، وقال في المغني : وله ركوبه عند الحاجة على وجه لا يضر به . قال أحمد : لا يركبه إلا عند الضرورة . وهو قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي . الثالث : الجواز بشرط الاضطرار لذلك فلا تركب إلا عند شدة الحاجة والاضطرار إليه ، وهو المنقول عن جماعة من التابعين كالشعبي والحسن البصري وعطاء ابن أبي رباح . قال الولي العراقي : وهو الذي يقتضيه نص الشافعي فإنه قال : يركب الهدي إذا اضطر إليه . وإن كان النووي استشهد به للتجويز بشرط الحاجة ، فقد علم أن الضرورة أشد من الحاجة . وكذا نقله ابن المنذر والخطابي عن الشافعي فقالا : وقال الشافعي يركبها إذا اضطر ركوبا غير فادح ولا يركبها إلا من ضرورة . ورواه البيهقي عن عروة بن الزبير وهو قول أبي حنيفة وأصحابه فلذلك قيده صاحب الهداية من الحنفية بالاضطرار إلى ذلك . وهو قول الثوري إذ قال : لا يركب إلا إذا اضطر ، وبه جزم الدردير والدسوقي إذ قيداه بالاضطرار لجواز ابتداء الركوب لا الدوام . قال الحافظ : وقال ابن العربي عن مالك : يركب للضرورة فإذا استراح نزل ، ومقتضى من قيده بالضرورة أن من انتهت ضرورته لا يعود إلى ركوبها إلا من ضرورة أخرى . والدليل على اعتبار هذه القيود الثلاثة وهي الاضطرار والركوب بالمعروف وانتهاء الركوب لانتهاء الضرورة ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعا بلفظ (( اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا )) فإن مفهومه أنه إذا وجد غيرها تركها . وروى سعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي قال : يركبها إذا أعيي قدر ما يستريح على ظهرها . الرابع : الجواز مع

(18/429)


الكراهة من غير حاجة ، نسبه ابن عبد البر إلى الشافعي ومالك . الخامس : المنع مطلقا ، نقله ابن العربي عن أبي حنيفة وشنع عليه ، ورده الحافظ والعيني فإن مذهبه الإباحة عند الاضطرار كما تقدم . السادس : وجوب ذلك مطلقا حكاه ابن عبد البر والقاضي عياض عن بعض أهل الظاهر تمسكا بظاهر الأمر ولمخالفة ما كانوا عليه في الجاهلية من إكرام البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وإهمالها بلا ركوب . ورده ابن عبد البر بأن الذين ساقوا الهدي في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا كثيرا ولم يأمر أحدا منهم بذلك – انتهى . وتعقبه الحافظ فقال : وفيه نظر لما تقدم من حديث علي عند أحمد . وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح رواه أبو داود في المراسيل عن عطاء كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركبها غير منهكها . قال الحافظ : ولا يمتنع القول بوجوبه إذا تعين طريقا إلى إنقاذ مهجة إنسان من الهلاك – انتهى . قال الولي العراقي : من قال بالجواز مطلقا تمسك بظاهر حديث أبي هريرة ، فإنه عليه الصلاة والسلام أمر بذلك ، والأمر هنا للإباحة ، ولم يقيد ذلك بشيء ( واستدلوا أيضا بقوله تعالى ? لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ? (22 : 33) على أحد
..................................................................................

(18/430)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التفسيرين ، ولا تنتهض به الحجة لأنه محمول على كونه تدعوه للحاجة أو الضرورة إلى ذلك بدليل حديث جابر فهو أخص في محل النزاع ) قال العراقي : ومن قيد الجواز بالحاجة أو الضرورة قال : هذه واقعة محتملة وقد دلت رواية أخرى على أن هذا الرجل كان محتاجا للركوب أو مضطرا له ، روى النسائي عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يسوق بدنة وقد جهده المشي قال : اركبها – الحديث . ثم ذكر العراقي حديث جابر الذي نحن في شرحه ثم قال : ومن منع مطلقا فهذا الحديث حجة عليه ، ولعله لم يبلغه ، ومن أوجب فإنه حمل الأمر على الوجوب ، ووجهه أيضا مخالفة ما كانت الجاهلية عليه من إهمال السائبة والبحيرة والوصيلة والحام بلا ركوب . ودليل الجمهور أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى ولم يركب هديه ولم يأمر الناس بركوب الهدايا . قلت : القول الراجح عندي هو أنه إن دعته ضرورة لركوب الهدي جاز وإلا فلا ، وذلك لأن حديث جابر عند مسلم صريح في أن ركوب الهدي إنما يجوز بالمعروف إذا احتاج إليه واضطر لذلك ، فإن زالت الضرورة بوجود ظهر يركبه غير الهدي ترك ركوب الهدي ، فالقيد الذي في حديث جابر يقيد به حديث أبي هريرة وما في معناه الخالي عن القيد لوجوب حمل المطلق على المقيد عند جماهير العلماء لا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا ، ويفيد المعنى منع الركوب مطلقا فإنه جعلها كلها لله تعالى فلا ينبغي أن يصرف منها شيئا لمنفعة نفسه لكن السمح ورد بإطلاقه بشرط الحاجة رخصة فيبقى فيما وراءه على المنع الأصلي الذي هو مقتضى المعنى ، واعلم أن محل جواز ركوب الهدي ما لم يضر به الركوب ، وهذا متفق عليه بينهم ، وعليه يدل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر (( اركبها بالمعروف )) ومتى نقصت بالركوب ضمن النقصان عند الشافعية والحنفية والحنابلة ، ومقتضى نقل ابن عبد البر عن مالك أنه لا يضمن . قال

(18/431)


الطحاوي في اختلاف العلماء قال أصحابنا والشافعي : يركب إذا احتاج ، فإن نقصه ذلك ضمن . وقال مالك : لا يركب إلا عند الحاجة ، فإن ركب لم يغرم ، وصرح في الهداية وغيرها من فروع الحنفية بأنه لو ركبها فانتقص بركوبه فعليه ضمان ما نقص . وقال ابن قدامة في الشرح الكبير : وله ركوبها عند الحاجة ما لم يضر بها . قال أحمد : لا يركبها إلا عند الضرورة ، وهو قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا ، ولأنه تعلق بها حق المساكين فلم يجز ركوبها من غير ضرورة كملكهم ، و إنما جوزناه عند الضرورة للحديث ، فإن نقصها الركوب ضمن النقص لأنه تعلق بها حق غيره ، وفي الركوب مع عدم الحاجة روايتان إحداهما لا يجوز لما ذكرنا ، والثانية يجوز لحديث أبي هريرة وأنس – انتهى . واختلف المجيزون في أن جواز الركوب المقيد بالحاجة أو الضرورة هل ينتهي بانتهاء الحاجة أو يمتد إلى ما بعد ذلك ، وهما قولان لمالك ، فقال الجمهور يتقيد بذلك وينتهي بانتهاء الحاجة كما تقدم في بيان القول الثالث ما قال الحافظ من أن مقتضي من قيده بالضرورة أن من انتهت ضرورته لا يعود إلى ركوبها إلا من ضرورة أخرى . وقال عياض : قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا )) فيه حجة لأحد قولي
رواه مسلم .
2659 – (9) وعن ابن عباس ، قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة عشر بدنة

(18/432)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مالك أنه إذا ركب واستراح ينزل ، قال إسماعيل : وهذا الذي يدل عليه المذهب . وقال ابن القاسم : لا يلزمه النزول لأنه أبيح له الركوب فجاز له الاستصحاب . وقال الأبي : قوله حتى يجد ظهرا يرد قول ابن القاسم لأنه إذا زال العذر صار دوام ركوبه كابتداءه لا لعذر – انتهى . لكن مختار الدردير هو قول ابن القاسم حيث قال : فإن ركب حينئذ أي حين كان مضطرا فلا يلزم النزول بعد الراحة وإنما يندب فقط . قال الدسوقي : فإن نزل بعد الراحة فلا يركبها ثانيا إلا إذا اضطر كالأول . واختلفوا أيضا هل يحمل عليها متاعه فمنعه مالك وأجازه الجمهور قياسا للحمل على الركوب ، ورواه ابن أبي شيبة عن عطاء وطاوس ، وهل يحمل عليها غيره ؟ أجازه الجمهور أيضا على التفصيل المتقدم من جوازه مطلقا أو بقيد الحاجة أو الضرورة . قال الولي العراقي : قال أصحابنا : كما يجوز له الركوب بنفسه يجوز له إقامة غيره في ذلك مقام نفسه بالعارية فله أن يعيرها لركوب غيره ، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنه قال : له أن يحمل المعي والمضطر على هديه ومنعوا إجارتها لأنها بيع للمنافع ، ونقل القاضي عياض الإجماع على أنه لا يؤجرها ، وأما لبنها فقال الطحاوي : قال أصحابنا والشافعي : إن احتلب منها شيئا تصدق به فإن أكله تصدق بثمنه ، وقال مالك : لا يشرب من لبنه فإن شرب لم يغرم – انتهى . قال الشنقيطي : والظاهر أن شرب ما فضل من لبنها عن ولدها لا بأس به لأنه لا ضرر فيه عليها ولا على ولدها ، وقال ابن قدامة في المغني : وللمهدي شرب لبن الهدي لأن بقاءه في الضرع يضر به ، فإذا كان ذا ولد لم يشرب إلا ما فضل عن ولده لما رواه سعيد بن منصور والأثرم عن علي أنه أتاه رجل ببقرة قد أولدها فقال له : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها ، فإذا كان يوم الأضحى ضحيت بها وولدها عن سبعة . قال ابن قدامة : فإن شرب ما يضر بالأم أو ما لا

(18/433)


يفضل عن الولد ضمنه لأنه تعدى بأخذه – انتهى . ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي وابن الجارود .
2659 – قوله ( بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة عشر بدنة ) كذا وقع في جميع نسخ المشكاة ، وفي صحيح مسلم (( ست عشرة )) وهكذا في جامع الأصول ونسخ المصابيح . قال الطيبي : كلاهما صحيح ، لأن البدنة تطلق على الذكر والأنثى – انتهى . واختلفت الروايات في مقدار البدن التي بعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ففي هذا الرواية أنها ست عشر بدنة ، وفي أخرى عند مسلم أيضا أنها ثماني عشرة ، ويمكن الجمع بتعدد القصة أو يصار إلى ترجيح الرواية المشتملة على الزيادة إن كانت القصة واحدة ، قاله الشوكاني . وقال النووي : يجوز أنهما قضيتان ، ويجوز أن تكون قضية واحدة والمراد ثمان عشرة ، وليست في قوله (( ست عشرة )) نفي الزيادة لأنه مفهوم عدد ولا عمل عليه ، والله أعلم – انتهى . وأسند الواقدي
مع رجل ، وأمره فيها ، فقال : يا رسول الله ! كيف أصنع بما أبدع علي منها ؟ قال : " انحرها ، ثم اصبغ نعليها في دمها ، ثم اجعلها على صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك " .

(18/434)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في أول غزوة الحديبية القصة بطولها ، وفيها أنه عليه الصلاة والسلام استعمل على هديه ناجية بن جندب الأسلمي وأمره أن يتقدمه بها ، وقال : كان سبعين بدنة . قال القاري : نقل الواقدي مخالف لرواية مسلم اللهم إلا أن يقال العدد المذكور في رواية مسلم مختص بخدمة ناجية له ، والباقي لغيره من رفقائه كما يدل عليه قوله : وأمره فيها ( مع رجل ) أي ناجية الأسلمي قاله القاري ( وأمره ) بتشديد الميم أي جعله أميرا ( فيها ) أي لينحرها بمكة ( فقال يا رسول الله ) وفي مسلم (( قال : مضى ثم رجع فقال : يا رسول الله )) ( كيف أصنع بما أبدع ) بضم الهمزة وإسكان الباء وكسر الدال وفتح العين بصيغة المبني للمفعول ( على ) أي بما حبس على من الكلال ( منها ) أي من تلك البدن ، يقال أبدعت الراحلة إذا كلت وأعيت حتى وقفت من الإعياء ، وأبدع بالرجل على بناء المجهول إذا انقطعت راحلته به لكلال ، ولذا لم يقل أبدع بي لأنه لم يكن هو راكبا لأنها كانت بدنة يسوقها بل قال : أبدع على لتضمين معنى الحبس كما ذكرنا ( ثم اصبغ ) بضم الموحدة ويجوز فتحا وكسرها ( نعليها ) وفي حديث ابن عباس عن ذويب أبي قبيصة عند مسلم أيضا (( نعلها )) بالإفراد ، أي التي قلدتها في عنقها ( في دمها ) ليعلم أنه هدي عطب فينبغي أن يأكله من يجوز له أكله ، وحكي عن مالك أنه قال : أمره بذلك ليعلم أنه هدي فلا يستباح إلا على الوجه الذي ينبغي ( ثم اجعلها على صفحتها ) قال القاري : أي كل واحدة من النعلين على صفحة من صفحتي سنامها – انتهى . وقوله (( ثم اجعلها )) كذا في جميع نسخ المشكاة ، وفي صحيح مسلم (( ثم اجعله )) وهكذا في جامع الأصول ، وفي المصابيح (( ثم اجعلهما )) أي بضمير التثنية ، وفي حديث ذويب (( ثم اضرب به صفحتها )) ( ولا تأكل منها أنت ) للتأكيد ( ولا أحد ( أي ولا يأكل أحد ( من أهل رفقتك ) بضم الراء وسكون الفاء

(18/435)


، وفي القاموس : الرفقة مثلثة ، وقال الشوكاني : الرفقة بضم الراء وكسرها لغتان مشهورتان ، أي رفقاؤك فأهل زائد ، وقال البوصيري : بضم الراء وكسرها وسكون الفاء جماعة ترافقهم في سفرك والأهل مقحم . قال الطيبي : سواء كان فقيرا أو غنيا ، وإنما منعوا ذلك قطعا لأطماعهم لئلا ينحرها أحد ويتعلل بالعطب – انتهى . قال النووي : وفي المراد بالرفقة وجهان لأصحابنا ، أحدهما أنهم الذين يخالطون المهدى في الأكل وغيره دون باقي القافلة . والثاني وهو الأصح الذي يقتضيه ظاهر نص الشافعي وكلام جمهور أصحابنا أن المراد بالرفقة جميع القافلة ، لأن السبب الذي منعت به الرفقة هو خوف تعطيبهم إياه ، وهذا موجود في جميع القافلة . فإن قيل : إذا لم تجوزوا لأهل القافلة أكله وقلتم بتركه في البرية كان طعمة للسباع ، وهذا إضاعة مال . قلنا : ليس فيه إضاعة مال بل العادة الغالبة أن سكان البوادي وغيرهم يتتبعون منازل الحجيج لالتقاط ساقطة ونحو ذلك ، وقد تأتي قافلة في أثر قافلة ، والله أعلم – انتهى . والحديث يدل على أن من بعث معه هدي إلى الحرم فعطب في الطريق
..................................................................................

(18/436)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قبل بلوغ محله أنه ينحره ثم يصبغ نعليه في دمه ويضرب بالنعل المصبوغ بالدم صفحة سنامها ليعلم من مر بها أنها هدي ويخلي بينها وبين الناس ولا يأكل منها هو لا أحد من أهل رفقته . والظاهر أن علة منعه ومنع رفقته هو سد الذريعة لئلا يتوسل هو أو بعض رفقته إلى نحره بدعوى أنه عطب أو بالتسبب له في ذلك للطمع في أكل لحمه لأنه صار للفقراء وهم يعدون أنفسهم من الفقراء ، والظاهر عدم الفرق بين هدي التطوع والفرض لكن خصص ذلك بهدي التطوع لأن الهدي الذب بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هدي تطوع ، والظاهر أنه لا يجوز الأكل منه للأغنياء بل للفقراء . واختلف الفقهاء في حكم هدي التطوع إذا عطب قبل محله . قال الشنقيطي : أما هدي التطوع فالظاهر أنه إن عطب في الطريق ألقيت قلائده في دمه وخلى بينه وبين الناس وإن كان له سائق مرسل معه لم يأكل منه هو ولا أحد من رفقته ، وليس لصاحبه الأكل منعه عند مالك وأصحابه وهو ظاهر مذهب أحمد وليس عليه بدله لأنه لم يتعلق بذمته . قلت : مذهب مالك على ما يدل عليه فروع المالكية وكلام ابن قدامة أنه يجوز أكله للرفقاء مطلقا سواء كانوا أغنياء أو فقراء فضلا عن غير الرفقة ولا يجوز لصاحبه ولو فقيرا ولا لرسوله ولا يجوز له الأمر لأحد أن يأكل ولا أن يفرقه على الناس بل يخلي بينه وبينهم ، وارجع للتفصيل إلى المغني (ج 3 : ص 537 ، 538) وحملت المالكية حديث ابن عباس على سد الذريعة كما جزم به المازري والقرطبي والزرقاني والأبي . قال الشنقيطي : وأما مذهب الشافعي وأصحابه فهو أن هدي التطوع باق على ملك صاحبه فله ذبحه وأكله وبيعه وسائر التصرفات فيه ولو قلده ، لأنه لم يوجد منه إلا نية ذبحه والنية لا تزيل ملكه عنه حتى يذبحه بمحله ، فلو عطب في الطريق فلمهديه أن يفعل به ما يشاء من بيع وأكل وإطعام لأنه لم يزل في ملكه ولا شيء عليه في شيء من ذلك . قلت : وهكذا

(18/437)


ذكر مذهب الشافعي النووي في شرح مسلم وفي مناسكه والطيبي والقسطلاني ، وحمل الطيبي حديث ابن عباس على الهدي الواجب حيث حكى القاري عنه في شرح حديث ابن عباس تحت قوله (( ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك )) أنه قال : سواء كان فقيرا أو غنيا هذا إذا أوجبه على نفسه ، وأما إذا كان تطوعا فله أن ينحره ويأكل منه ، فإن مجرد التقليد لا يخرجه عن ملكه – انتهى . قال الشنقيطي : وأما مذهب أبي حنيفة في هدي التطوع إذا عطب في الطريق قبل بلوغ محله فهو أنه لا يجوز لمهديه الأكل منه ولا لغني من الأغنياء ، وإنما يأكله الفقراء . قلت : حاصل مذهب الحنفية أكله للفقراء سواء كانوا رفقة أم لا ، ولا يجوز للأغنياء مطلقا . قال الزيلعي في التبيين : حديث ابن عباس محمول على أنه ورفقته كانوا أغنياء . قال الشنقيطي : ووجه قول من قال : إن هدي التطوع إذا عطب في الطريق لا يجوز لمهديه أن يأكل منه ، هو أن الإذن له في الأكل جاء النص به بعد بلوغه ملحه ، أما قبل بلوغه محله فلم يأت الإذن بأكله ، ووجه خصوص الفقراء به لأنه حينئذ يصير صدقة لأن كونه صدقة خير من أن يترك للسباع تأكله ، هكذا قالوا ، والعلم عند الله تعالى – انتهى . وأما حكم الهدي الواجب إذا عطب قبل محله فقال
...................................................................................

(18/438)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخرقي : من ساق هديا واجبا فعطب دون محله صنع به ما شاء وعليه مكانه ، قال ابن قدامة (ج 3 : ص 534) الواجب من الهدي قسمان : أحدهما وجب بالنذر في ذمته ، والثاني وجب بغيره ، كدم التمتع والقرآن والدماء الواجبة بترك واجب أو فعل محظور ، وجميع ذلك ضربان ، أحدهما أن يسوقه ينوي به الواجب الذي عليه من غير أن يعينه بالقول ، فهذا لا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى أهله ، وله التصرف فيه بما شاء من بيع وهبة وأكل وغير ذلك ، وإن عطب تلف من ماله ، وإن تعيب لم يجزئه ذبحه ، وعليه الهدي الذي كان واجبا ، الضرب الثاني أن يعين الواجب عليه بالقول فيقول : هذا الواجب علي ، فإنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة منه ، فإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه وعاد الوجوب إلى ذمته وهذا كله لا نعلم فيه مخالفا ، وروي عن أحمد أنه يذبح المعيب وما في ذمته جميعا ، ولا يرجع المعين إلى ملكه . ثم قال الخرقي : وإن ساقه تطوعا نحره موضعه وخلى بينه وبين المساكين ولم يأكل منه هو ولا أحد من أهل رفقته ولا بدل عليه ، قال ابن قدامة (ج 3 : ص 537) : من تطوع بهدي غير واجب لم يخل من حالين : أحدهما أن ينوي به هديا ولا يوجب بلسانه ولا بإشعاره وتقليده ، فهذا لا يلزمه إمضاؤه وله أولاده ونماؤه والرجوع فيه متى شاء ما لم يذبحه لأنه نوى الصدقة بشيء من ماله فأشبه ما لو نوى الصدقة بدرهم . الثاني أن يوجب بلسانه فيقول هذا هدي أو يقلده أو يشعره ينوي بذلك إهداءه فيصير واجبا معينا يتعلق الوجوب بعينه دون ذمة صاحبه ويصير في يدي صاحبه كالوديعة يلزمه حفظه وإيصاله إلى محله ، فإن تلف بغير تفريط منه أو سرق أو ضل لم يلزمه شيء لأنه لم يجب في الذمة ، إنما تعلق الحق بالعين فسقط بتلفها كالوديعة ، وقد روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من أهدى

(18/439)


تطوعا ثم ضلت فليس عليه البدل إلا أن يشاء ، فإن كان نذرا فعليه البدل ، فأما إن أتلفه أو تلف بتفريطه فعليه ضمانه ، لأنه أتلف واجبا لغيره فضمنه كالوديعة ، وإن خاف عطبه أو عجز عن المشي وصحبة الرفاق نحره موضعه وخلى بينه وبين المساكين ولم يبح له أكل شيء منه ، ولا لأحد من صحابته ، وإن كانوا فقراء ويستحب له أن يضع نعل الهدي المقلد في عنقه في دمه ثم يضرب به صفحته ليعرفه الفقراء فيعلموا أنه هدي وليس بميتة فيأخذوه – انتهى . وقال عياض : أما ما عطب من الهدى الواجب قبل النحر فقال مالك والجمهور : يأكل منه صاحبه والأغنياء لأن صاحبه يضمنه لأنه تعلق بذمته ، واختلف هل له بيعه فمنعه مالك وأجازه الجمهور – انتهى . وهكذا ذكر ابن رشد ، والأبي في الإكمال ، وأما مذهب الشافعية فقال النووي في شرح مسلم : إن كان هديا منذورا لزمه ذبحه ، فإن تركه حتى هلك لزمه ضمانه كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت ، فإذا ذبحه غمس نعله التي قلده إياها في دمه ليعلم من مر به أنه هدي فيأكله ولا يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي الأكل منه ، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه مطلقا ، لأن الهدي مستحق للمساكين فلا يجوز لغيرهم ويجوز للفقراء من غير أهل هذه الرفقة ولا يجوز لفقراء الرفقة – انتهى . وهذا خلاف ما ذكره الشافعي في الأم
.........................................................................................

(18/440)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حيث قال (ج 2 : ص 183) : إذا عطب الهدي الواجب دون المحرم صنع به صاحبه ما شاء من بيع وهبة وإمساك وعليه بدله بكل حال ، لأنه قد خرج من أن يكون هديا حين عطب قبل أن يبلغ محله – انتهى . وحاصل مذهب الحنفية على ما في مناسكهم كالغنية وشرح اللباب وغيرهما أنه إن عطب الهدي الواجب قبل وصوله إلى محله فعليه أن يقيم غيره بدله وصنع بالأول ما شاء من بيع وغيره ، وقال الشنقيطي (ج 5 : ص 583) : اعلم أن الهدي إما واجب وإما تطوع ، والواجب إما بالنذر أو بغيره ، والواجب بالنذر إما معين أو غير معين ، فالظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه : أن الهدي الواجب بغير النذر كهدي التمتع والقرآن والدماء الواجبة بترك واجب أو فعل محظور ، والواجب بالنذر في ذمته كأن يقول (( لله علي نذر أن أهدي هديا )) أن لجميع ذلك حالين : الأولى أن يكون ساق ما ذكر من الهدي ينوي به الهدي الواجب عليه من غير أن يعينه بالقول كأن يقول : هذا الهدي سقته أريد به أداء الهدي الواجب علي . والحالة الثانية هي أن بسوقه ينوي الهدي المذكور مع تعيينه بالقول ، فإن نواه ولم يعينه بالقول فالظاهر أنه لا يزال في ضمانه ولا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى مستحقيه ، ولذا إن عطب في الطريق فله التصرف فيه بما شاء من أكل وبيع ، لأنه لم يزل في ملكه ، وهو مطالب بأداء الهدي الواجب عليه بشيء آخر غير الذي عطب ، لأنه عطب في ضمانه ، فهو بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه يقصد دفعه إليه ، فتلف قبل أن يوصله إليه ، فعليه قضاء الدين بغير التالف لأنه تلف في ذمته ، وإن تعيب الهدي المذكور قبل بلوغه محله ، فعليه بدله سليما ويفعل بالذي تعيب ما شاء لأنه لم يزل في ملكه وضمانه ، والذي يظهر أن له التصرف فيه ، ولو لم يعطب ولم يتعيب لأن مجرد نية إهدائه عن الهدي الواجب لا ينقل ملكه عنه ، والهدي المذكور لازم له في ذمته حتى يوصله إلى

(18/441)


مستحقه ، والظاهر أن له نماؤه . وأما الحالة الثانية وهي ما إذا نواه وعينه بالقول كأن يقول : هذا هو الهدي الواجب علي . والظاهر أن الإشعار والتقليد كذلك ، فالظاهر أنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة فليس له التصرف فيه ما دام سليما ، وإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه وعاد الوجوب إلى ذمته فيجب عليه هدي آخر ، لأن الذمة لا تبرأ بمجرد التعيين بالنية والقول أو التقليد والإشعار ، والظاهر أنه إن عطب فعل به ما شاء ، لأن الهدي لازم في ذمته وهذا الذي عطب صار كأنه شيء من ماله لا حق فيه لفقراء الحرم ، لأن حقهم باق في الذمة فله بيعه وأكله وكل ما شاء ، وعلى هذا جمهور أهل العلم ، وعن مالك يأكل ويطعم من شاء من الأغنياء والفقراء ، ولا يبيع منه شيئا ، وإن بلغ الهدي محله فذبحه وسرق فلا شيء عليه عند أحمد . قال في المغني (ج 3 : ص 535) : وبهذا قال الثوري وابن القاسم صاحب مالك ، وأصحاب الرأي ، وقال الشافعي : عليه الإعادة لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه ، فأشبه ما لو لم يذبحه ، ولنا أنه أدى الواجب عليه فبرئ منه كما لو فرقه ، ودليل أنه أدى الواجب أنه لم يبق إلا التفرقة وليست واجبة بدليل أنه لو خلى بينه وبين الفقراء أجزأه ، ولذلك لما نحر النبي - صلى الله عليه وسلم -
...............................................................................................

(18/442)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البدنات قال : من شاء اقتطع – انتهى . قال الشنقيطي : وأظهر القولين عندي أنه لا تبرأ ذمته بذبحه حتى يوصله إلى المستحقين ، لأن المستحقين إن لم ينتفعوا به ، لا فرق عندهم بين ذبحه وبين بقائه حيا ، ولأن الله تعالى يقول : ? وأطعموا البائس الفقير ? (22 : 28) ويقول : ? وأطعموا القانع والمعتر ? ( 2 : 36) والآيتان تدلان على لزوم التفرقة والتخلية بينه وبين الفقراء يقتسمونه تفرقة ضمنية ، لأن الإذن لهم في ذلك وهو متيسر لهم كإعطائهم إياه بالفعل ، والعلم عند الله تعالى . وقول من قال إن الهدي المذكور إن تعيب في الطريق فعليه نحره ، ونحر هدي آخر غير معيب لا يظهر كل الظهور ، إذ لا موجب لتعدد الواجب عليه وهو لم يجب عليه إلا واحد ، وحجة من قال بذلك : أنه لما عينه متقربا به إلى الله لا يحسن انتفاعه به بعد ذلك ولو لم يجزئه ، وأما الواجب المعين بالنذر كأن يقول : نذرت لله إهداء هذا الهدي المعين ، فالظاهر أنه يتعين بالنذر ولا يكون في ذمته ، فإن عطب أو سرق لم يلزمه بدله ، لأن حق الفقراء إنما يتعلق بعينه لا بذمة المهدي ، والظاهر أنه ليس له الأكل منه ، سواء عطب في الطريق أو بلغ محله ، وحاصل ما ذكرنا راجع إلى أن ما عطب بالطريق من الهدي إن كان متعلقا بذمته سليما فالظاهر أن له الأكل منه والتصرف فيه ، لأنه يلزمه بدله سليما ، وقيل : يلزم الذي عطب والسليم معا لفقراء الحرم ، وأن ما تعلق الوجوب فيه بعين الهدي كالنذر المعين للمساكين ليس له تصرف فيه ولا الأكل منه إذا عطب ولا بعد نحره إن بلغ محله على الأظهر – انتهى . تنبيه : اختلف فيما إذا ضل المعين فذبح غيره ثم وجد الضال . قال الشنقيطي : الأظهر عندي أنه إذا عين هديا بالقول أو التقليد والإشعار ثم ضل ثم نحر هديا آخر مكانه ثم وجد الهدي الأول الذي كان ضالا ، أن عليه أن ينحره أيضا ، لأنه صار هديا للفقراء فلا

(18/443)


ينبغي أن يرده لملكه مع وجوده ، وكذلك إن عين بدلا عنه ، ثم وجد الضال فإنه ينحرهما جميعا ، قال ابن قدامة في المغني (ج 3 : ص 535) : وإن ضل المعين فذبح غيره ثم وجده ، أو عين غير الضال بدلا عما في الذمة ، ثم وجد الضال ذبحهما معا . روى ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وفعلته عائشة ، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق ، ويتخرج على قولنا فيما إذا تعيب الهدي فأبدله ، فإن له أن يصنع به ما شاء أن يرجع إلى ملك أحدهما ، لأنه قد ذبح ما في الذمة فلم يلزمه شيء آخر كما لو عطب المعين ، وهذا قول أصحاب الرأي . ووجه الأول ما روى عن عائشة أنها أهدت هديين فأضلتهما فبعث إليها ابن الزبير هديين فنحرتهما ، ثم عاد الضالان فنحرتهما ، وقالت : هذه سنة الهدي ، رواه الدارقطني ، وهذا منصرف إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأنه تعلق حق الله بهما بإيجابهما أو ذبح أحدهما ، وإيجاب الآخر – انتهى كلام ابن قدامة . قال الشنقيطي بعد ذكره : وليس في المسألة شيء مرفوع ، والأحوط ذبح الجميع كما ذكرنا أنه الأظهر والعلم عند الله تعالى ، ثم قال الشنقيطي : إن الهدي إن كان معينا بالنذر من الأصل بأن قال : نذرت إهداء هذا الهدي بعينه أو معينا تطوعا إذا رآه صاحبه في حالة يغلب على الظن أنه سيموت فإنه تلزمه ذكاته ، وإن فرط فيها حتى مات كان
........................................................................................

(18/444)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه ضمانه ، لأنه كالوديعة عنده ، أما لو مات بغير تفريطه أو ضل أو سرق فليس عليه بدل عنه لأنه لم يتعلق الحق بذمته بل بعين الهدي ، والأظهر عندي إن لزمه بدله بتفريطه أنه يشتري هديا مثله وينحره بالحرم بدلا عن الذي فرط فيه ، وإن قيل بأنه يلزمه التصدق بقيمته على مساكين الحرم فله وجه من النظر ، والله أعلم ، ولا نص في ذلك – انتهى . وأما ما يجوز الأكل منه من الهدايا إذا بلغت محلها وما لا يجوز فقد اختلفوا فيه أيضا فذهب مالك وأصحابه إلى جواز الأكل من جميع الهدي واجبه وتطوعه إذا بلغ محله إلا ثلاثة أشياء : جزاء الصيد ، وفدية الأذى ، والنذر الذي هو للمساكين . قال الأبي : أما ما بلغ من الهدي محله فمشهور مذهب مالك أنه لا يأكل من ثلاثة : من الجزاء والفدية ونذر المساكين ، ويأكل مما سوى ذلك ، وبه قال فقهاء الأمصار وجماعة من السلف – انتهى . وهكذا حكى الباجي ، وقال الدردير : لما كان الأكل من دماء الحج ينقسم منعا وإباحة باعتبار بلوغ المحل وعدمه أربعة أقسام أشار للأول منها وهو المنع مطلقا بقوله ( ولم يؤكل ) أي يحرم على رب الهدي أن يأكل ( من نذر مساكين عين لهم ) باللفظ أو النية بأن قال هذا نذر الله ونوى أن يكون للمساكين ( مطلقا ) بلغ محله أو لم يبلغ ، ومثل نذر المساكين هدي التطوع إذا نواه للمساكين وكذا الفدية إن لم يجعل هديا فهذه ثلاثة يحرم الأكل منها طلقا ، وأشار للقسم الثاني بقوله ( عكس الجميع ) أي جمع الهدايا غير ما ذكر من تطوع أو واجب لنقص بحج أو عمرة من ترك واجب أو فساد أو فوت أو تعدي ميقات أو متعة أو قران أو نذر لم يعين فله الأكل منها مطلقا بلغت محلها أو لا ، وإذ جاز له الأكل في الجميع ( فله إطعام الغني والقريب ) وأولى غيرهما ثم استثنى مما يؤكل منه مطلقا ما يؤكل في حال دون حال ، وتحته قسمان أولهما ثالث الأقسام الأربعة بقوله ( إلا )

(18/445)


ثلاثة ( نذرا لم يعين ) مثل لله علي هدي للمساكين ( والفدية ) إذا جعلت هديا ( والجزاء ) للصيد فلا يأكل من هذه الثلاثة ( بعد بلوغ المحل ) سالمة ، فأما إن عطبت قبله فيأكل منها لأن عليه بدلها وأشار لرابع الأقسام بقوله ( وهدي تطوع ) لم يجعله للمساكين بلفظ (( ولا نية )) ومثله النذر المعين الذي لم يجعل لهم ( إن عطب ) قبل محله فلا يأكل منه ، وأما إن وصل لمحله سالما فإنه يأكل منه – انتهى ، وقال اللخمي : كل هدي واجب في الذمة عن حج أو عمرة من فساد أو متعة أو قران أو تعدي ميقات أو ترك النزول بعرفة نهارا أو ترك النزول بمزدلفة أو ترك رمي الجمار أو أخر الحلق يجوز الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده ، أما جزاء الصيد وفدية الأذى فيوكل منهما قبل بلوغهما محلهما ولا يؤكل منهما بعده ، وأما النذر المضمون إذا لم يسمعه للمساكين فإنه يأكل منه بعد بلوغه محله ، وإن كان منذورا معينا ولم يسمه للمساكين أو قلده أو أشعره من غر نذر أكل منه بعد بلوغه محله ولم يأكل منه قبله ، وإن عين النذر للمساكين أو نوى ذلك حين التقليد والإشعار لم يأكل منه قبل ولا بعد ، والحاصل أن النذر المعين للمساكين لا يجوز له الأكل منه مطلقا عند مالك ، وأن النذر المضمون للمساكين حكمه عند المالكية حكم جزاء الصيد وفدية الأذى فيمتنع الأكل منه
.......................................................................................

(18/446)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعد بلوغه محله ويجوز قبله ، لأنه باقي في الذمة حتى يبلغ محله ، وأما النذر المضمون الذي لم يسم للمساكين كقوله : لله علي نذر أن أتقرب إليه بنحر هدي . فله عند المالكية الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده ، وقد تقدم أن هدي التطوع إن عطب في الطريق لا يجوز له الأكل منه عند المالكية ، وذهب أحمد في المشهور عنه إلى أنه لا يؤكل من الهدايا إلا دم التمتع والقران والتطوع ، وبه قالت الحنفية كما سيأتي . قال الحافظ في الفتح تحت ما روى البخاري عن ابن عمر معلقا أنه قال : لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ويؤكل من سوى ذلك : وهذا القول إحدى الروايتين عن أحمد وهو قول مالك وزاد (( إلا فدية الأذى )) الأخرى عن أحمد (( لا يؤكل إلا من هدي التطوع والتمتع والقرآن )) وهو قول الحنفية بناء على أصلهم أن دم التمتع والقران دم نسك لا دم جبران – انتهى . وقال الخرقي : ولا يأكل من كل واجب إلا من هدي التمتع ، قال ابن قدامة (ج 3 : ص 541) : المذهب أنه يأكل من هدي التمتع والقران دون ما سواهما نص عليه أحمد ، ولعل الخرقي ترك ذكر القران لأنه متعة أو اكتفى بذكر المتعة لأنهما سواء في المعنى ، فإن سببهما غير محظور فأشبها هدي المتطوع ، وهذا قول أصحاب الرأي وعن أحمد أنه لا يأكل من المنذور وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما ، وهو قول ابن عمر وعطاء والحسن وإسحاق ، لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله الله تعالى بخلاف غيرهما . وقال ابن أبي موسى : لا يأكل أيضا من الكفارة ويأكل مما سوى هذه الثلاثة ، ونحوه مذهب مالك لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين ولا مدخل للإطعام فيه فأشبه التطوع ، وقال الشافعي : لا يأكل من واجب لأنه هدي وجب بالإحرام ، فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة ، ولنا أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تمتعن معه في حجة الوداع وأدخلت عائشة الحج على العمرة فصارت قارنة ، ثم ذبح عنهن النبي - صلى

(18/447)


الله عليه وسلم - البقرة فأكلن من لحومها ، قال أحمد : قد أكل من البقرة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة خاصة ، وقال ابن عمر : تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج فساق الهدي من ذي الحليفة ، متفق عليه . وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها ، رواه مسلم . ولأنهما دماء نسك فأشبها التطوع ولا يؤكل من غيرهما لأنه يجب بفعل محظور فأشبه جزاء الصيد ، فأما هدي التطوع وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته ، وما نحره تطوعا من غير أن يوجبه فيستحب أن يأكل منه لقول الله تعالى ? فكلوا منها ? (22 : 28) وأقل أحوال الأمر الاستحباب ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من بدنة . وقال جابر : كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث ، فرخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كلوا وتزودوا ، فأكلنا وتزودنا . رواه البخاري ، وإن لم يأكل فلا بأس فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نحر البدنات الخمس قال : من شاء اقتطع ولم يأكل منهن شيئا – انتهى . وقال في الهداية : يجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران لأنه دم نسك فيجوز الأكل منها بمنزلة الإضحية ، وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من لحم هديه وحسا من المرقة ، ويستحب له أن يأكل منها لما روينا وكذلك
رواه مسلم .
2660 – (10) وعن جابر ، قال : نحرنا مع رسول الله عام الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة .

(18/448)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا ، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا لأنها دماء كفارات – انتهى . وقال في شرح اللباب : الهدي على نوعين ، هدي شكر وهو هدي المتعة والقران والتطوع ، وهدي جبر وهو سائر الدماء الواجبة ما عدا الثلاثة ، وكل دم وجب شكرا فلصاحبه أن يأكل منه ما شاء ولا يتقيد ببعض منه ويؤكل الأغنياء والفقراء ، ولا يجب التصدق لا بكله ولا ببعضه ، بل يستحب أن يتصدق بثلثه ، ويطعم ثلثه ، ويهدي للأغنياء ثلثه ، وكل دم وجب جبرا لا يجوز له الأكل منه ولو كان فقيرا ولا للأغنياء ، ويجب التصدق بجميعه حتى لو استهلكه بعد الذبح كله أو بعضه لزمه قيمته للفقراء فيتصدق بها عليهم – انتهى . ومذهب الشافعية أنه لا يجوز أكل شيء من الدماء الواجبة حتى دم التمتع والقران ويجوز الأكل من دم التطوع مع وجوب التصدق ببعض لحمه . قال النووي : وكذا قال الأوزاعي وداود الظاهري : لا يجوز الأكل من الواجب ، قال الشنقيطي بعد ذكر مذاهب الأئمة : الذي يرجحه الدليل في هذه المسألة هو جواز الأكل من هدي التطوع وهدي التمتع والقران دون غير ذلك ، والأكل من هدي التمتع لا خلاف فيه من بين العلماء بعد بلوغه محله ، وإنما خلافهم في استحباب الأكل منه أو وجوبه ، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع أنه أهدى مائة من الإبل ، ومعلوم أن ما زاد على الواحدة منها تطوع ، وقد أكل منها وشرب من مرقها جميعا . وأما الدليل على الأكل من هدي التمتع والقران فهو ما ثبت في الصحيح أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح عنهن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرا ودخل عليهن بلحمه وهن متمتعات وعائشة منهن قارنة وقد أكلن جميعا مما ذبح عنهن في تمتعهن وقرانهن بأمره - صلى الله عليه وسلم - ، وهو نص صحيح صريح في جواز الأكل من هدي التمتع والقران ، أما غير

(18/449)


ما ذكرنا من الدماء فلم يقم دليل يجب الرجوع إليه على الأكل منه ، ولا يتحقق دخوله في عموم قوله تعالى ? فكلوا منها ? لأنه لترك واجب أو فعل محظور ، فهو بالكفارات أشبه ، وعدم الأكل منه أظهر وأحوط ، والعلم عند الله تعالى - انتهى . ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 243) وفي الباب أيضا عن ذويب أبي قبيصة عند أحمد ومسلم وابن ماجة والبيهقي ، وعن ناجية الخزاعي وسيأتي في الفصل الثاني ، وعن عمرو بن خارجة الثمالي عند أحمد (ج 4 : ص 187 ، 238) والطبراني في الكبير وعن أبي قتادة عند الطبراني في الأوسط وعن شهر بن حوشب عن الأنصاري صاحب بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أحمد (ج 4 : ص 64) .
2660 – قوله ( عام الحديبية ) بالتخفيف وقيل بالتشديد ( البدنة ) أي الإبل ( عن سبعة والبقرة عن سبعة ) ظاهره
......................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/450)


أن البقرة لا تسمى بدنة وهو كذلك بالنسبة لغالب استعمالها ففي القاموس البدنة محركة ، من الإبل والبقر كالإضحية من الغنم تهدي إلى مكة المكرمة للذكر والأنثى ، وفي الصحاح للجوهري : البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة ، وفي النهاية : البدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة وهي بالإبل أشبه ، وقال في الفتح : إن أصل البدن ممن الإبل وألحقت بها البقرة شرعا – انتهى . والحديث فيه دليل على جواز اشتراك السبعة في الهدي من البدنة وهو قول الجمهور ، وعن داود وبعض المالكية يجوز في هدي التطوع دون الواجب ، وعن مالك لا يجوز مطلقا ، وأولت المالكية حديث جابر بوجوه كلها تكلفات باردة من شاء الوقوف عليها رجع إلى شرحي الموطأ للزرقاني والباجي . وأجاب إسماعيل القاضي عن حديث جابر بأنه كان بالحديبية حيث كانوا محصرين ، وهذا الجواب لا يدفع الاحتجاج بالحديث بل ثبت عن جابر عند مسلم أنهم اشتركوا الاشتراك المذكور معه - صلى الله عليه وسلم - أيضا في حجه ولا شك أن المراد بحجه حجة الوداع لأنه لم يحج بعد الهجرة حجة غيرها . روى مسلم عن جابر قال : اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة فقال رجل لجابر : أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور ؟ فقال : ما هي إلا من البدن ، وفي لفظ له عنه قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة . وفي لفظ له عنه أيضا (( قال : حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة . وفي لفظ له عنه وهو يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم . وهذا يدل على صحة أصل الاشتراك . وفي لفظ له عنه أيضا قال : كنا نتمتع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم

(18/451)


- فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها – انتهى . فهذه الروايات الصحيحة تدل على أن دم التمتع يكفي فيه الاشتراك للسبع في بدنة أو بقرة ويدل على جواز الاشتراك أيضا ما رواه البخاري عن أبي جمرة قال : سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها وسألته عن الهدي فقال فيها : جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم – انتهى . قال الحافظ : قوله (( أو شرك )) بكسر الشين المعجمة وسكون الراء ، أي مشاركة في دم أي حيث يجزئ الشيء الواحد عن جماعة ، وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر قال : خرجا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممهلين بالحج فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة . وقال الشنقيطي : قوله (( أو شرك في دم )) يعني به ما بينته الروايات المذكورة الصحيحة عن جابر أن البدنة والبقرة كلتاهما تكفي عن سبعة من المتمتعين . وأجاب إسماعيل القاضي عن حديث ابن عباس هذا بأنه خالف أبا جمرة في ذكره الاشتراك المذكور ثقات أصحاب ابن عباس فرووا عنه أن ما استيسر من الهدي شاة ، ثم ساق ذلك بأسانيد صحيحة عنهم عن ابن عباس . قال : وحدثنا سليمان عن حماد بن زيد عن أيوب عن محمد ابن سيرين عن ابن عباس ، قال : ما كنت أرى أن دما واحدا يقضي عن أكثر من واحد – انتهى . قال الحافظ : ليس بين رواية أبي جمرة ورواية غيره منافاة ، لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك ووافقهم على ذكر الشاة ، وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على
رواه مسلم .
2661 – (11) وعن ابن عمر ، أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها ، قال : ابعثها قياما

(18/452)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشاة الرد على من زعم اختصاص الهدي بالإبل والبقر وذلك واضح فيما سنذكره بعد هذا ، وأما رواية محمد عن ابن عباس فمنقطعة ومع ذلك لو كانت متصلة احتمل أن يكون ابن عباس أخبر أنه كان لا يرى ذلك من جهة الاجتهاد حتى صح عنده النقل بصحة الاشتراك فأفتى به أبا جمرة ، وبهذا تجتمع الأخبار وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء على توثيقه والاحتجاج بروايته ، وهو أبو جمرة الضبعي ، وقد روى عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك ، ثم رجع عن ذلك لما بلغته السنة ، ثم ذكر الحافظ رجوع ابن عمر عن ذلك عن أحمد بسنده من طريق الشعبي عن ابن عمر ، واستدل بقوله (( كل سبعة منا في بدنة )) من قال : (( عدل البدنة سبع شياه )) وهو قول الجمهور أي في الهدي والإضحية كليهما ، وادعى الطحاوي وابن رشد أنه إجماع وتعقب عليهما بأن الخلاف في ذلك مشهور حكاه الترمذي في سننه عن إسحاق بن راهويه وكذا الحافظ في الفتح ، وقال : هو ( أي إجزاء البدنة عن عشرة ) إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب ، وإليه ذهب ابن خزيمة من الشافعية واحتج له في صحيحه وقواه ، واحتج له ابن حزم وكذا ابن خزيمة بحديث رافع بن خديج أنه - صلى الله عليه وسلم - قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير – الحديث . وهو في الصحيحين ، واحتجوا أيضا بحديث ابن عباس ، قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضر الأضحى فذبحنا البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة ، رواه الخمسة إلا أبا داود ، ويجاب عنه بأنه خارج عن محل النزاع لأنه في الإضحية ، فإن قالوا يقاس الهدي عليها ، قلنا : هو قياس فاسد الاعتبار لمصادمته النصوص ويجاب عن حديث رافع أيضا بمثل هذا الجواب لأن ذلك التعديل كان في القسمة وهي غير محل النزاع ، وأيضا حديث جابر في خصوص الهدي والأخص في محل النزاع مقدم على الأعم ، ويؤيد كون البدنة عن سبعة فقط أمره - صلى الله عليه وسلم - لمن

(18/453)


لم يجد البدنة أن يشتري سبعا فقط ، ولو كانت تعدل عشرا لأمره بإخراج عشر لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد ومالك في الأضاحي والترمذي في الحج وابن ماجه في الأضاحي وابن حبان والبيهقي (ج 5 : ص 234) وغيرهم .
2661 - قوله ( وعن ابن عمر أنه ) أي ابن عمر ( أتى ) أي مر ( على رجل ) أي بمنى كما في مسند أحمد ، وهذا الرجل لم يعرف ولم يسمعه أحد من أصحاب الأصول ( قد أناخ بدنته ينحرها ) أي حال كونه يريد نحرها ، وهذا لفظ البخاري ، ولمسلم (( وهو ينحر بدنته باركة )) ( ابعثها ) أي أقمها ( قياما ) قال القاري : حال مؤكدة أي قائمة ، وقد صحت الرواية بها ، وعاملها محذوف دل عليه أول الكلام أي انحرها قائمة لا ابعثها ، لأن البعث إنما يكون قبل القيام ، اللهم إلا أن تجعل حالا مقدرة أي ابعثها مقدرا قيامها ، وقال الحافظ : قوله (( ابعثها )) أي أثرها يقال : بعثت الناقة أثرتها ، وقوله
مقيدة ، سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - .

(18/454)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (( قياما )) مصدر بمعنى قائمة وهي حال مقدرة ، أو قوله (( ابعثها )) أي أقمها أو العامل محذوف تقديره انحرها ، وقد وقع في رواية عند الإسماعيلي (( انحرها قائمة )) ( مقيدة ) حال ثانية أي معقولة الرجل قائمة على ما بقي من قوائمها ، ولأبي داود من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها ( سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ) بنصب سنة على المفعولية أي فاعلا بها سنة محمد أو متبعا سنة محمد ، ويجوز رفعه خبرا لمبتدأ محذوف ، ويدل عليه رواية الحربي في المناسك بلفظ (( فقال له : انحرها قائمة فإنها سنة محمد )) والحديث يدل على استحباب نحر الإبل قياما مقيدة ، قال الباجي : وهو مذهب مالك وجمهور الفقهاء غير الحسن البصري في قوله (( تنحر باركة )) والأصل في ذلك حديث أنس عند البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحره بيده سبعة بدن قياما . قال الشيخ أبو بكر : إنما كان ذلك في الإبل لأنه أمكن لمن ينحرها لأنه يطعن في لبتها ، وأما البقر والغنم التي سنتها الذبح فإن إضجاعها أمكن لتناول ذبحها ، فالسنة إضجاعها ، وروى محمد عن مالك أن الشأن أن تنحر البدن قائمة قد صفت يداها بالقيد ، وقال ذلك ابن حبيب في قوله تعالى : ? فاذكروا اسم الله عليها صواف ? (22 : 36) وقد روى محمد عن مالك أيضا (( لا يعقلها إلا من خاف أن يضعف عنها )) – انتهى . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 431) : السنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فيضربها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ، وممن استحب ذلك مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر ، واستحب عطاء نحرها باركة ( وهذا مخالف للسنة ) وجوز الثوري وأصحاب الرأي كل ذلك ، ولنا حديث ابن عمر عند الشيخين وحديث جابر عند أبي داود . وفي قول الله تعالى : ? وجبت جنوبها ? دليل على أنها

(18/455)


تنحر قائمة ، ويروى في تفسير قوله تعالى : ? فاذكروا اسم الله عليه صواف ? أي قياما وتجزئه كيف ما نحر . قال أحمد : ينحر البدن معقولة على ثلاث قوائم ، وإن خشى عليها أن تنفر أناخها - انتهى . قلت : وبذلك قالت الحنفية ، ففي المضمرات : السنة أن ينحر البعير قائما ، وتذبح الشاة والبقرة مضطجعة ، ذكره ابن عابدين . وفي الهداية : الأفضل في البدن النحر ، وفي البقر والغنم الذبح ، ثم إن شاء نحر الإبل في الهدايا قياما أو أضجعها وأي ذلك فعل فهو حسن ، والأفضل أن ينحرها قياما لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - نحر الهدايا قياما وأصحابه كانوا ينحرونها قياما معقولة يدها اليسرى - انتهى . وقال ابن الهمام بعد ذكر حديث جابر عن أبي داود المتقدم : وإنما سن النبي - صلى الله عليه وسلم - النحر قياما عملا بظاهر قوله تعالى : ? فإذا وجبت جنوبها ? (22 : 36) والوجوب السقوط ، وتحققه في حال القيام أظهر . قال : والاستدلال بقول الله تعالى : ? فاذكروا اسم الله عليها صواف ? أظهر ، وقد فسره ابن عباس بقوله قياما على ثلاث قوائم ، وهو إنما يكون بعقل الركبة ، والأولى كونه اليسرى للإتباع ، رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم . قال : والحاصل أن القيام أفضل ، فإن لم يتسهل فالقعود أفضل من الاضطجاع – انتهى . قال الحافظ في الفتح : في حديث ابن عمر استحباب نحر الإبل على الصفة المذكورة ، وعن الحنفية يستوي قائمة وباركة في الفضيلة – انتهى .
متفق عليه .
2662 – (12) وعن علي ، قال : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه ، وأن أتصدق بلحمها وجلودها

(18/456)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت : هذا خلاف ما وقع في عامة فروع الحنفية كما تقدم ، ولعل منشأ ما حكى الحافظ والنووي عن الحنفية من استواء البروك والقيام في الفضيلة هو ما ذكره ابن الهمام في فتح القدير عن أبي حنيفة نحرت بدنة قائمة فكدت أهلك قياما من الناس ، لأنها نفرت فاعتقدت أن لا أنحر بعد ذلك إلا باركة معقولة ، وأستعين عليه بمن هو أقوى مني - انتهى . وهذا كما ترى مبني على خشية النفور لا مطلقا . قال الحافظ : وفي الحديث تعليم الجاهل وعدم السكوت على مخالف السنة وإن كان مباحا ، وفيه أن قول الصحابي (( من السنة كذا )) مرفوع عند الشيخين لاحتجاجهما بهذا الحديث في صحيحيهما ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 3) وأبو داود والنسائي والدارمي والبيهقي (ج 5 : ص 237) .

(18/457)


2662 – قوله ( أن أقوم على بدنه ) بضم الباء وسكون الدال جمع بدنة ، والمراد بدنه التي أهداها إلى مكة في حجة الوداع ومجموعها مائة كما تقدم ، وفيه جواز الإنابة في نحر الهدي وتفرقته . قال الحافظ : قوله (( أن أقوم على بدنه )) أي عند نحرها للاحتفاظ بها ، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك ، أي على مصالحها في علفها ورعيها وسقيها وغير ذلك ( وأن أتصدق بلحمها ) المراد أنه يقسم لحومها على المساكين إلا ما أمر به من كل بدنة ببضعة فطبخت كما مر في حديث جابر الطويل ( وجلودها ) قال الكرماني : فيه أنه لا يجوز بيع جلود الهدايا والضحايا كما هو ظاهر الحديث إذ الأمر حقيقة في الوجوب - انتهى . وتعقبه في اللامع فقال : فيه نظر ، فذلك صيغة افعل لا لفظ أمر . وقال الحافظ : استدل به على منع بيع الجلد . قال القرطبي : فيه دليل على أن جلود الهدي وجلالها لا تباع لعطفها على اللحم وإعطاءها حكمه ، وقد اتفقوا على أن لحمها لا يباع فكذلك الجلود والجلال ، وأجازه الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو وجه عند الشافعية ، قالوا : ويصرف ثمنه مصرف الإضحية . واستدل أبو ثور على أنهم اتفقوا على جواز الانتفاع به وكل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه وعورض باتفاقهم على جواز الأكل من لحم هدي التطوع ، ولا يلزم من جواز أكله جواز بيعه وأقوى من ذلك في رد قوله ما أخرجه أحمد في حديث قتادة بن النعمان مرفوعا : (( لا تبيعوا لحوم الأضاحي والهدي وتصرفوا وكلوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوا ، وإن أطعمتم من لحومها فكلوا إن شئتم )) - انتهى كلام الحافظ . وقال النووي في شرح المهذب : مذهبنا أنه لا يجوز بيع جلد الهدي والإضحية ولا غيره من أجزائها لا بما ينتفع به في البيت ولا بغيره ، وبه قال عطاء ومالك وأحمد وإسحاق ، هكذا حكاه عنهم ابن المنذر ، ثم حكى عن ابن عمر وأحمد وإسحاق أنه لا بأس أن يبيع جلد هديه ويتصدق بثمنه ، قال : ورخص فيه أبو ثور ، وقال النخعي

(18/458)


والأوزاعي : لا بأس أن يشترى به الغربال والمنخل والفأس والميزان ونحوها - انتهى . قلت : ونحوه مذهب الحنفية ،
وأجلتها ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ففي الدر المختار : ويتصدق بجلدها أو يعمل منه نحو غربال وجراب وقربة وسفرة ودلو أو يبدله بما ينتفع به باقيا لا بمستهلك كخل ولحم ونحوه كدارهم ، فإن بيع اللحم أو الجلد به أي بمستهلك أو بدارهم تصدق بثمنه ، ومفاده صحة البيع ( وهو قول أبي حنيفة ومحمد كما في البدائع ) مع الكراهة ، وعن أبي يوسف باطل لأنه كالوقف - انتهى . فالنهي في حديث قتادة محمول عندهما على الكراهة أو على البيع مع الانتفاع بثمنه ، وقال ابن عابدين : أفاد أي صاحب الدر المختار أنه ليس له بيعهما بمستهلك وأن له بيع الجلد بما تبقى عينه ، وسكت عن بيع اللحم للخلاف فيه ، ففي الخلاصة وغيرها : لو أراد بيع اللحم ليتصدق بثمنه ليس له ذلك ، وليس له فيه إلا أن يطعم أو يأكل - انتهى . والصحيح كما في الهداية وشروحها أنهما سواء في جواز بيعهما بما ينتفع بعينه دون ما يستهلك ، وأيده في الكفاية بما روى ابن سماعة عن محمد : لو اشترى باللحم ثوبا فلا بأس به - انتهى . قلت : ظاهر حديث قتادة بن النعمان أنه لا يجوز بيع جلد الهدي والإضحية ولحمهما مطلقا لا بما ينفع بعينه ولا بمستهلك ، والله أعلم ( وأجلتها ) بكسر الجيم وتشديد اللام جمع جلال بكسر الجيم وتخفيف اللام وهي جمع جل بضم الجيم وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه ، وفيه دليل على مشروعية تجليل البدن ، وهو مستحب وليس بواجب ، قال الأبي في الإكمال : تجليل البدن ليس بلازم ولكن مضى عليه عمل السلف وأئمة الفتوى ، وتجلل بعد الإشعار لئلا تتطلخ بالدم ، والجلال على قدر سعة المهدي – انتهى . وفي شرح مسلم للنووي (( قال القاضي : التجليل سنة وهو عند العلماء مختص بالإبل وهو مما اشتهر من عمل السلف ، قال : وممن رآه مالك والشافعي وأبو ثور

(18/459)


وإسحاق ، قالوا : ويكون بعد الإشعار لئلا يتطلخ بالدم ، قالوا : ويستحب أن تكون قيمتها ونفاستها بحسب حال المهدي وكان بعض السلف يجلل بالوشي وبعضهم بالحبرة وبعضهم بالقباطي والملاحف والأزر ، قال مالك : وتشق على الأسنمة إن كانت قليلة الثمن لئلا تسقط ، قال مالك : وما علمت من ترك ذلك إلا ابن عمر استبقاء للثياب ، لأنه كان يجلل الجلال المرتفعة من الأنماط والبرود والحبر ، قال : وكان لا يجلل حتى يغدو من منى على عرفات ، قال : وروي عنه أنه كان يجلل من ذي الحليفة ، قال : وكان يعقد أطراف الجلال على أذنابها ، فإذا مشى ليلة نزعها ، فإذا كان يوم عرفة جللها فإذا كان عند النحر نزعها لئلا يصيبها الدم . قال مالك : وأما الجل فينزع في الليل لئلا يخرقها الشوك . قال : واستحب إن كانت الجلال مرتفعة أن يترك شقها وأن لا يجللها حتى يغدو إلى عرفات ، فإن كانت بثمن يسير فمن حين يحرم يشق ويجلل ، قال القاضي : وفي شق الجلال على الأسنمة فائدة أخرى وهي إظهار الإشعار لئلا يستر تحتها ، وفي هذا الحديث الصدقة بالجلال وهكذا قاله العلماء ، وكان ابن عمر أولا يكسوها الكعبة ، فلما كسيت الكعبة تصدق بها – انتهى . قال الباجي : معنى ذلك أن جلال البدن كانت كسوة الكعبة وكانت أولى بها من غيرها ، فلما كسيت الكعبة رأى أن الصدقة بها أولى من غير ذلك ، لأن الهدي وإن كان له تعلق بالبيت فإن مصرفه إلى المساكين ومستحقي
وأن لا أعطي الجزار منها قال :

(18/460)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصدقة ، ويحتمل أن يكون ابن عمر كان يكسو جلال بدنه الكعبة قبل أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم جلال بدنه ، فلما علم ذلك رجع إليه وأخذ به – انتهى . قال القسطلاني . قال الشافعي في القديم : ويتصدق بالنعال وجلال البدن . وقال المهلب : ليس التصدق بجلال البدن فرضا وإنما صنع ذلك ابن عمر لأنه أراد أن لا يرجع في شيء أهداه الله ولا في شيء أضيف إليه – انتهى . وقال المرداوي من الحنابلة في تنقيحه : وله أن ينتفع بجلدها وجلها أو يتصدق به ويحرم بيعهما وشيء منهما . وقال المالكية : وخطام الهدايا كلها وجلالها كلحمها فحيث يكون اللحم مقصورا على المساكين يكون الجلال والخطام كذلك ، وحيث يكون اللحم مباحا للأغنياء والفقراء يكون الخطام والجلال كذلك تحقيقا للتبعية ، فليس له أن يأخذ من ذلك ، ولا يأمر بأخذه في الممنوع من أكل لحمه ، فإن أمر أحدا بأخذ شيء من ذلك أو أخذ هو شيئا رده ، وإن أتلفه غرم قيمته للفقراء ، وقال العيني من الحنفية : وقال أصحابنا : يتصدق بجلال الهدي وزمامه لأنه عليه الصلاة والسلام أمر عليا بذلك ، والظاهر أن هذا الأمر أمر استحباب – انتهى . وقال محمد في موطأه بعد رواية أثر ابن عمر في التصدق بجلال بدنه : وبهذا نأخذ ، ينبغي أن يتصدق بجلال البدن وخطمها ولا يعطي الجزار من ذلك شيئا ولا من لحومها ، بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مع علي بن أبي طالب بهدي فأمر أن يتصدق بجلاله وخطمه وأن لا يعطي الجزار من خطمه وجلاله شيئا – انتهى . ( وأن لا أعطي الجزار ) أي شيئا ( منها ) المراد منع عطية الجزار من الهدي عوضا عن أجرته كما بينته رواية أخرى لمسلم بلفظ (( ولا يعطي في جزارتها منها شيئا )) قال ابن الأثير : الجزارة بالضم كالعمامة ، ما يأخذه الجزار من الذبيحة عن أجرته ، وأصلها أطراف البعير : الرأس واليدان والرجلان ،

(18/461)


سميت بذلك لأن الجزار كان يأخذها عن أجرته – انتهى . قال ابن خزيمة : النهي عن إعطاء الجزار المراد به أن لا يعطي منها عن أجرته ، وكذا قال البغوي في شرح السنة ، قال : وأما إذا أعطي أجرته كاملة ثم تصدق عليه إذا كان فقيرا كما يتصدق على الفقراء فلا بأس بذلك ، وقال غيره : إعطاء الجزار منها على سبيل الأجرة ممنوع لكونه معاوضة ، وأما أعطاه صدقة أو هدية أو زيادة على حقا فالقياس الجواز . قال الحافظ : ولكن إطلاق الشارع ذلك قد يفهم منه منع الصدقة لئلا تقع مساحة في الأجرة لأجل ما يأخذه فيرجع إلى المعاوضة . قال القرطبي : ولم يرخص في إعطاء الجزار منها في أجرته إلا الحسن البصري وعبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : وفي حديث علي من الفوائد : سوق الهدي والوكالة في نحر الهدي والاستئجار عليه ، والقيام عليه وتفرقته ، وأن من وجب عليه شيء لله فله تخليصه ونظيره الزرع يعطي عشره ولا يحسب شيئا من نفقته على المساكين – انتهى ( قال ) أي على أو النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الأظهر ، قاله القاري . وقوله (( قال )) كذا في نسخ المشكاة والمصابيح ، وهكذا وقع في جامع الأصول وفي بعض طرق أحمد وبعض نسخ مسلم ، ووقع في بعض نسخه وبعض طرق أحمد (( وقال )) أي بزيادة الواو ، وهكذا ذكره الزيلعي والمجد ، وهكذا وقع في سنن
نحن نعطيه من عندنا . متفق عليه .
2663 – (13) وعن جابر ، قال : كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث ، فرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " كلوا وتزودوا " . فأكلنا وتزودنا .

(18/462)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبي داود وابن ماجة ، وللبيهقي بلفظ (( ثم قال )) ( نحن نعطيه ) أي أجرته ( من عندنا ) وفي رواية أحمد (ج 1 : ص 123) (( وقال : نحن نعطيه من عندنا الأجر )) ( متفق عليه ) أي على أصل الحديث ، لأن قوله (( قال : ونحن نعطيه من عندنا )) ليس عند البخاري بل لمسلم فقط ، وهكذا أخرجه أحمد (ج 1 : ص 89 ، 123 ، 154) وأبو داود وابن ماجة وابن الجارود ( ص 173 ) والبيهقي (ج 5 : ص 241) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 112 ، 132 ، 160) والدارمي وابن الجارود بدون الزيادة المذكورة .

(18/463)


2663 – قوله ( كنا لا نأكل من لحوم بدننا ) أي التي نهديها ونضحي بها ( فوق ثلاث ) وفي الصحيحين (( فوق ثلاث منى )) قال القسطلاني : بإضافة ثلاث إلى منى أي الأيام الثلاثة التي يقام بها بمنى وهي الأيام المعدودات . وقال في المصابيح : والأصل ثلاث ليال منى كما في قولهم (( حب رمان زيد )) فإن القصد إضافة الحب المختص بكونه للرمان إلى زيد ، ومثله ابن قيس الرقيات ، فإن الملتبس بالرقيات ابن قيس لا قيس . قال الشيخ سعد الدين التفتازاني : وتحقيقه أن مطلق الحب مضاف إلى الرمان ، والحب المقيد بالإضافة إلى الرمان مضاف إلى زيد ، قال الدماميني : وفيه نظر فتأمله ( فرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) قال الطيبي : نهى أولا أن يؤكل لحم الهدي والإضحية فوق ثلاثة أيام ثم رخص ( فقال : كلوا وتزودوا ) أي ادخروا ما تزودونه فيما تستقبلونه مسافرين أو مجاورين ، وفي رواية لمسلم (( كنا لا نمسك لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نتزود منها ونأكل منها يعني فوق ثلاث )) وفي أخرى له أيضا (( أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث )) ثم قال بعد (( كلوا وتزودوا وادخروا )) ( فأكلنا وتزودنا ) هذا للبخاري وحده ، وانتهت رواية مسلم إلى قوله (( كلوا وتزودوا )) وفيها بعد هذا (( قلت ( قائله ابن جريج ) لعطاء : قال جابر : حتى جئنا المدينة ؟ قال : نعم )) . ووقعت هذه الزيادة عند البخاري بعد قوله (( فأكلنا وتزودنا )) بلفظ (( قال ( أي ابن جريج ) قلت لعطاء : أقال حتى جئنا المدينة ؟ قال : لا )) قال النووي : فيحتمل أنه نسي في وقت فقال : لا ، وذكر في وقت فقال : نعم . قال الحافظ : والذي وقع عند البخاري هو المعتمد ، فإن أحمد أخرجه في مسنده عن يحيى بن سعيد ( أي عن ابن جريج ) كذلك ، وكذلك أخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد ، وقد نبه على اختلاف البخاري ومسلم في هذه اللفظة الحميدي في جمعه وتبعه عياض

(18/464)


ولم يذكرا ترجيحا ، وأغفل ذلك شراح البخاري أصلا فيما وقفت عليه ، قال : ثم ليس المراد بقوله (( لا )) نفي الحكم ، بل مراده أن جابرا لم يصرح باستمرار ذلك منهم حتى قدموا ، فيكون على هذا معنى قوله في رواية عمرو بن دينار عن عطاء (( كنا نتزود لحوم الهدي إلى المدينة )) أي لتوجهنا إلى المدينة ، ولا يلزم من ذلك بقاؤها معهم حتى يصلوا المدينة والله أعلم ، لكن قد أخرج
........................................................................................

(18/465)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مسلم من حديث ثوبان قال : ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - أضحيته ، ثم قال : لي يا ثوبان أصلح لحم هذه فلم أزل أطعمه منه حتى قدم المدينة – انتهى . قيل : قول الحافظ : بل المراد أن جابرا لم يصرح باستمرار ذلك . إلخ . معناه جواز البقاء وعدمه في نفس الأمر لا وقوع أحدهما على القطع ، ورواية عمرو بن دينار عن عطاء أخرجها الشيخان بلفظ (( كنا نتزود لحوم الأضاحي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة )) قال علي بن المديني : قال سفيان بن عيينة غير مرة : لحوم الهدي يعني أن سفيان كان تارة يقول : لحوم الأضاحي ، ومرارا يقول : لحوم الهدي . والظاهر أن معنى هذه الرواية أنهم كانوا يتزودون لحوم الهدي من مكة فيأكلون منه في سفرهم إلى المدينة فإن بقي منهم شيء أكلوه بالمدينة في الحضر أيضا كما يستفاد من رواية أحمد عن جابر قال : ( أكلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القديد بالمدينة من قديد الأضحى )) يعني قديد هدي يوم الأضحى . ولا مانع من كونهم أهدوا وضحوا وتزودوا من لحمي الهدي والضحية ، فإن كان لحم هدي فهو من هدي التطوع الذي يهدى إلى البيت ، ومن هدي المتعة ، وإن كان لحم ضحية فهو دليل لمن قال : بمشروعية الضحية للحاج ، وعلى كل حال فهو يفيد جواز الأكل من هدي التطوع والواجب أي المتعة وادخاره والتزود منه ، والله أعلم ، هذا وحديث جابر نص في جواز الادخار والأكل من لحوم الهدي والإضحية فوق ثلاث ، وهذا يخالف ما رواه مسلم عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث . وفي لفظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا ، وروى أيضا عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يأكل أحدكم من لحم إضحيته فوق ثلاث أيام . قال القاضي : اختلف العلماء

(18/466)


في الأخذ بهذه الأحاديث فقال قوم : يحرم إمساك لحوم الأضاحي والأكل منها بعد ثلاث وأن حكم التحريم باق كما قاله علي وابن عمر . وقال جماهير العلماء : يباح الأكل والإمساك بعد الثلاث ، والنهي منسوخ بحديث جابر وحديث بريدة عند أحمد ومسلم والترمذي وحديث عبد الله بن مسعود عند أحمد وحديث قتادة بن النعمان عند أحمد والطحاوي وغير ذلك من الأحاديث . قال : وهذا من نسخ السنة بالسنة . وقال بعضهم : ليس هو نسخا بل كان التحريم لعلة ، فلما زالت زال التحريم ، وتلك العلة هي الدافة ، وكانوا منعوا من ذلك في أول الإسلام من أجل الدافة فلما زالت العلة الموجبة لذلك أمرهم أن يأكلوا ويدخروا كما يدل عليه رواية مسلم من حديث مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الله بن واقد قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث . قال عبد الله بن أبي بكر : فذكرت ذلك لعمرة فقالت : صدق ، سمعت عائشة تقول : دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ادخروا ثلاث ثم تصدقوا بما بقى ، فلما كان بعد ذلك قالوا : يا رسول الله ! إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون فيها الودك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وما ذاك ؟ قالوا : نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ، فقال : إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت ،
............................................................................................

(18/467)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فكلوا وادخروا وتصدقوا . والمراد بالدافة هنا من ورد من شعفاء الأعراب للمواساة . وقيل : كان النهي الأول للكراهة لا للتحريم ، قال هؤلاء : والكراهية باقية إلى يومنا هذا ولكن لا يحرم ، قالوا : ولو وقع مثل تلك العلة اليوم فدفت دافة واساهم الناس وحملوا على هذا مذهب علي وابن عمر . والصحيح نسخ النهي مطلقا وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة ، فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث والأكل إلى متى شاء لصريح حديث جابر ، وحديث بريدة أيضا يدل على ذلك ، فروى مسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ض : نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم . وفي رواية (( فكلوا وتزودوا وادخروا )) قلت : حكى الحازمي في الاعتبار عن علي والزبير وعبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر أنهم قالوا : يحرم الإمساك بلحوم الأضاحي بعد ثلاث وأن حكم التحريم باق . قال : وخالفهم في ذلك جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار ورأوا جواز ذلك وتمسكوا في ذلك بأحاديث تدل على نسخ الحكم الأول ، ثم ذكر ما يدل على النسخ من حديث جابر وبريدة وعائشة ، وقال ابن قدامة (ج 8 : ص 633) يجوز الادخار فوق ثلاث في قول عامة أهل العلم ولم يجزه علي ولا ابن عمر ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن ذلك . ولنا قوله - صلى الله عليه وسلم - : كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم . رواه مسلم . وقال أحمد فيه أسانيد صحاح ، فأما علي وابن عمر فلم يبلغهما ترخيص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا سمعوا النهي فرووا على ما سمعوا – انتهى مختصرا . وقال الحافظ في الفتح : قال الشافعي : لعل عليا لم يبلغه النسخ . وقال غيره : يحتمل أن يكون الوقت الذي قال علي فيه ذلك كان بالناس حاجة كما وقع في عهد النبي - صلى

(18/468)


الله عليه وسلم - ، وبذلك جزم ابن حزم فقال : إنما خطب علي بالمدينة في الوقت الذي كان عثمان حوصر فيه ، وكان أهل البوادي قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة فأصابهم الجهد ، فلذلك قال علي ما قال ، وبنحو ذلك جمع الطحاوي . قال الحافظ : وكذلك يجاب عما أخرج أحمد ( في مسند فاطمة (ج 6 : ص 282) من طريق أم سليمان قالت : دخلت على عائشة فسألتها عن لحوم الأضاحي ، فقالت : قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها ثم رخص فيها فقدم علي من سفر فأتته فاطمة بلحم من ضحاياها فقال : أو لم ينه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إنه قد رخص فيها ، قالت : فدخل علي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن ذلك فقال : كلها من ذي الحجة إلى ذي الحجة . فهذا علي قد اطلع على الرخصة ومع ذلك خطب بالمنع فطريق الجمع ما ذكرته ، وقد جزم به الشافعي في الرسالة في آخر باب العلل في الحديث (ص 239 بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر) فقال ما نصه : فإذا دفت الدافة ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث ، وإذا لم تدف دافة فالرخصة ثابتة بالأكل والتزود والادخار والصدقة . قال الشافعي : ويحتمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث منسوخا في كل حال . قال الحافظ : وبهذا الثاني أخذ المتأخرون من الشافعية ، فقال الرافعي : الظاهر أنه لا يحرم اليوم بحال ، وتبعه
........................................................................................

(18/469)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النووي فقال في شرح المهذب : الصواب المعروف أنه لا يحرم الادخار اليوم بحال ، وحكى في شرح مسلم عن جمهور العلماء أنه من نسخ السنة بالسنة قال : والصحيح نسخ النهي مطلقا وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث والأكل إلى متى شاء – انتهى . وإنما رجح ذلك لأنه يلزم من القول بالتحريم إذا دفت الدافة إيجاب الإطعام ، وقد قامت الأدلة عند الشافعية أنه لا يجب في المال حق سوى الزكاة . ونقل ابن عبد البر ما يوافق ما نقله النووي فقال : لا خلاف بين فقهاء المسلمين في إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وأن النهي عن ذلك منسوخ كذا أطلق ، وليس بجيد ، فقد قال القرطبي : حديث سلمة ( الآتي في الفصل الثالث ) وعائشة نص على أن المنع كان لعلة فلما ارتفعت ارتفع لارتفاع موجبة فتعين الأخذ به ، ويعود الحكم بعود العلة ، فلو قدم على أهل بلد ناس محتاجون في زمان الأضحى ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا تعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث . قال الحافظ : والتقييد بالثلاث واقعة حال وإلا فلو لم تستد الخلة إلا بتفرقة الجميع لزم على هذا التقرير عدم الإمساك ولو ليلة واحدة . وحكى البيهقي عن الشافعي أن النهي عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث كان في الأصل للتنزيه ، قال : وهو كالأمر في قوله تعالى : ? فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ? (22 : 36) وقال المهلب : إنه الصحيح لقول عائشة : وليس بعزيمة والله أعلم . فائدة : قال القرطبي : اختلف في أول الثلاث التي كان الادخار فيها جائزا ، فقيل : أولها يوم النحر فمن ضحى فيه جاز له أن يمسك يومين بعده ، ومن ضحى بعده أمسك ما بقي له من الثلاثة . وقيل : أولها يوم يضحي فلو ضحى في آخر أيام النحر جاز له أن يمسك ثلاثا بعدها ، ويحتمل أن يأخذ من قوله فوق ثلاث ( في حديث علي ) أن لا يحسب اليوم الذي يقع فيه النحر من

(18/470)


الثلاث ، وتعتبر الليلة التي تليه وما بعدها ، قال الحافظ : ويؤيده ما في حديث جابر (( كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى )) فإن (( ثلاث منى )) تتناول يوما بعد يوم النحر لأهل النفر الثاني – انتهى . وقال الشوكاني : قال القاضي عياض : يحتمل أن يكون ابتداء الثلاث من يوم ذبح الأضحية وإن ذبحت بعد يوم النحر ويحتمل أن يكون من يوم النحر وإن تأخر الذبح عنه . قال : وهذا أظهر . ورجح الحافظ ابن القيم الأول . وهذا الخلاف لا يتعلق به فائدة عند من قال بالنسخ إلا باعتبار ما سلف من الاحتجاج بذلك على أن يوم الرابع ليس من أيام الذبح – انتهى . فائدة أخرى : اختلف في أن النهي عن أكل لحوم الأضاحي وادخارها فوق ثلاث في أي سنة كان ؟ فقيل كان ذلك سنة خمس من الهجرة كما جزم به صاحب الخميس حيث قال : وفي هذه السنة دفت دافة العرب فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، كذا في الوفاء ، ثم رخص لهم في الادخار ما بدا لهم – انتهى . وقيل إن النهي عن ذلك كان في سنة واحدة سنة تسع من الهجرة ، والرخصة فيه كانت في حجة الوداع سنة عشر ، والدليل على ذلك ما جاء في حديث قتادة بن النعمان عند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في حجة الوداع فقال : إني كنت أمرتكم
متفق عليه .
( الفصل الثاني )
2664 – (14) عن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى عام الحديبية في هدايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جملا كان لأبي جهل

(18/471)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن لا تأكلوا الأضاحي فوق ثلاثة أيام لتسعكم وإني أحله لكم فكلوا منه ما شئتم – الحديث . ففيه بيان وقت الرخصة وهو سنة حجة الوداع ، ويستفاد من حديث سلمة بن الأكوع الآتي في الفصل الثالث أن النهي كان في العام السابق لعام الرخصة ، وثبت في حديث قتادة المتقدم أن الرخصة كانت في حجة الوداع أي سنة عشر ، فيكون النهي سنة تسع . قال الحافظ بعد ذكر حديث قتادة : فبين في هذا الحديث وقت الإحلال وأنه كان في حجة الوداع . وقال في شرح حديث سلمة بن الأكوع : يستفاد منه أن النهي كان سنة تسع لما دل عليه الذي قبله أن الإذن كان في سنة عشر – انتهى . واعترض عليه أن قيامه - صلى الله عليه وسلم - بذلك في حجة الوداع لا يوجب أن يكون ذلك وقت الإباحة والإحلال فقد أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بأمور كثيرة كانت منهية عنها قبل ذلك كالمتعة والحمر الأهلية . وأيضا كان نسخ المنع حين كان أبو سعيد الخدري في سفر كما وقع في روايته عند أحمد ومالك والشيخين وغيرهم مفصلا، وقد كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فهو كالنص في أنه نسخ المنع قبل حجة الوداع ، ووقع نحو هذه القصة مع علي رضي الله عنه عند أحمد في مسند فاطمة من حديث عائشة كما تقدم ، وهو أيضا يدل على أن نسخه وقع حين كان علي في السفر عند الأضحى ، وقد كان معه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ( متفق عليه ) . أخرجه البخاري في الحج ومسلم في الأضاحي ، وأخرجه أيضا أحمد . وللحديث ألفاظ أخرى عند أحمد والشيخين ومالك في الأضاحي والنسائي في الحج ، وقد تقدم ذكر بعضها .

(18/472)


2664- قوله ( أهدى عام الحديبية ) بالتخفيف على الأفصح ، وهي السنة السادسة من الهجرة ، توجه فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة للعمرة فأحصره المشركون بالحديبية وهو موضع من أطراف الحل ( في هدايا ) أي في جملة هدايا ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) من وضع المظهر موضع المضمر تنويها بذكره - صلى الله عليه وسلم - في مقابلة ذكر اسم أبي جهل ( جملا ) ذكر الإبل باتفاق أهل اللغة ، ونقل الجوهري عن ابن السكيت : إنما يسمى جملا إذا أربع أي دخل في السنة الرابعة ، وذكر المنذري أن اسم هذا الجمل عصيفير ، قال القاري (( جملا )) نصب بأهدى ، و (( في هدايا )) صلة له ، وكان حقه أن يقول (( في هداياه )) فوضع المظهر موقع المضمر ، والمعني جملا كائنا في هداياه ( كان لأبي جهل) أي عمرو بن هشام المخزومي فرعون هذه الأمة الأحول ، كنته العرب (( أبا الحكم )) وكناه النبي - صلى الله عليه وسلم - (( بأبي جهل )) فغلبت عليه هذه الكنية . قتل كافرا يوم بدر في السنة الثانية من الهجرة . وعند أحمد (ج 1 : ص 269) : أهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة بدنة فيها جمل أحمر لأبي جهل .
في رأسه برة من فضة ، وفي رواية من ذهب . يغيظ بذلك المشركين .

(18/473)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي أخرى له أيضا (ج 1 : ص 261) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان أهدى جمل أبي جهل الذي كان استلب يوم بدر عام الحديبية في هديه ( في رأسه ) أي أنفه ( برة ) بضم الموحدة وفتح الراء المخففة ، وأصلها بروة كغرفة لأنها تجمع على برات وبرون كثبات وثبون ، وهي حلقة من صفر ونحوه تجعل في أنف البعير أو لحمة أنفه ، يشد بها الزمام ( من فضة كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح ، وهكذا وقع عند أحمد (ج 1 : ص 261 ، 269 ، 273) وابن ماجة والبيهقي في رواية وفي أبي داود (( برة فضة )) بالإضافة وهكذا ذكره في جامع الأصول ، أي في أنفه حلقة فضة ، فإن البرة حلقة من صفر ونحوه تجعل في لحم أنف البعير . وقال الأصمعي : في أحد جانبي المنخرين ، لكن لما كان الأنف من الرأس قال (( في رأسه )) على الاتساع ، أو هو مجاز المجاورة من حديث قربه من الرأس لا من إطلاق الكل على البعض وعند أحمد (ج 1 : ص 234) عبرته قصة )) وإنما جعلها أبو جهل من فضة أو ذهب إظهارا للفخر والعظمة ، وقد وقع هذا الجمل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في غنائم بدر فجعله في هديه عام الحديبية ليغيظ به المشركين كما سيأتي ( وفي رواية (( من ذهب )) ) ويمكن التعدد باعتبار المنخرين ( يغيظ بذلك المشركين ) بفتح حرف المضارعة أي يوصل الغيظ إلى قلوبهم في نحر ذلك الجمل ، وفيه تلميح إلى قوله تعالى : ? ليغيظ بهم الكفار ? (48 : 29) قال الخطابي : قوله (( يغيظ بذلك المشركين )) معناه أن هذا الجمل كان معروفا بأبي جهل فحازه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سلبه فكان يغيظهم أن يروه في يده وصاحبه قتيل سليب . وفي الحديث دليل على جواز الذكر في الهدي ، وإليه ذهب جماهير أهل العلم . قال الخطابي : في الحديث من الفقه أن الذكر في الهدي جائزة ، وقد روى عن عبد الله بن عمر أنه كان يكره ذلك في الإبل ، ويرى أن يهدي الإناث منها

(18/474)


– قلت : وترجم له البيهقي (( باب جواز الذكر والأنثى في الهدايا )) وابن ماجة (( باب الهدي من الإناث والذكور )) قال البوصيري : قوله (( أهدي في بدنه جملا )) أي ذكرا ، وكأنه أراد أن النوق كانت هي الغالب ، فإذا ثبت إهداء الذكور لزم جواز النوعين – انتهى . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 550) والذكر والأنثى في الهدي سواء ، وممن أجاز ذكران الإبل ، ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومالك وعطاء والشافعي ، وعن ابن عمر أنه قال : ما رأيت أحدا فاعلا ذلك ، وأن أنحر أنثى أحب إلى . والأول أولى ، لأن الله تعالى قال : ? والبدن جعلناها لكم من شعائر الله ? (22 : 36) ولم يذكر ذكرا ولا أنثى ، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى جملا لأبي جهل في أنفه برة من فضة ، ولأن القصد اللحم ، ولحم الذكر أو فر ، ولحم الأنثى أرطب فيتساويان – انتهى . وقال النووي في مناسكه : إن صفات الهدي المطلق كصفات الإضحية المطلقة ، ويجزئ الذكر والأنثى ، وقال ابن حجر في شرحه : والذكر أفضل إن لم يكثر نزواته ، وإلا فالأنثى التي لم تلد – انتهى . وفي المدونة : الذكور والإناث عند مالك بدن كلها ، وتعجب مالك ممن يقول لا يكون إلا في الإناث . قال مالك : وليس هكذا ، قال الله تبارك وتعالى : ? والبدن جعلناها لكم من شعائر الله ? ولم يقل ذكرا ولا
رواه أبو داود .

(18/475)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنثى ، قلت لابن القاسم : فالهدي من البقر والغنم والإبل هل يجوز من ذلك الذكر والأنثى في قول مالك ؟ قال نعم – انتهى . ( رواه أبو داود ) في باب الهدي من كتاب المناسك ، قال : حدثنا النفيلي نا محمد بن سلمة ثنا محمد بن إسحاق ح وثنا محمد بن المنهال نا يزيد بن زريع عن ابن إسحاق المعنى قال : قال عبد الله يعني ابن نجيح حدثني مجاهد عن ابن عباس ، وقد سكت عنه أبو داود . وقال المنذري : في إسناده محمد بن إسحاق ، قلت : وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث والسماع بل قال : قال عبد الله يعني ابن أبي نجيح . وقال البيهقي : واختلف فيه على محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق فقيل (( برة فضة )) وقيل : من ذهب . ثم روى البيهقي بسنده عن عبد الله بن علي المديني عن أبيه قال : كنت أرى أن هذا من صحيح حديث ابن إسحاق فإذا هو قد دلسه . حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق قال حدثني من لا أتهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس ، ثم روى البيهقي بسنده وكذا أحمد (ج 1 : ص 273) عن جرير بن حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى في هديه بعيرا كان لأبي جهل في أنفه برة من فضة . قال البيهقي : وهذا إسناد صحيح إلا أنهم يرون أن جرير بن حازم أخذه من محمد بن إسحاق ثم دلسه ، فإن بين فيه سماع جرير من ابن أبي نجيح صار الحديث صحيحا ، والله أعلم – انتهى . قلت : روى الحديث أحمد (ج 1 : ص 261) والحاكم (ج 1 : ص 467) من طريق ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نحيح عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان أهدى جمل أبي جهل – الحديث . قال الحاكم : حديث صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي . وهذا كما ترى قد صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث ، فالحديث صحيح أو حسن ، وقد رواه أيضا أحمد (ج 1 : ص 269) وابن ماجة والبيهقي من طريق

(18/476)


سفيان الثوري عن ابن أبي ليلي عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس ، قال : أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل – الحديث . وهذا أيضا إسناد حسن . قال البيهقي : ورواه مالك بن أنس في الموطأ ( في باب ما يجوز من الهدي ) مرسلا وفيه قوة لما مضى – انتهى . وفي الباب أيضا عن أبي بكر الصديق عند الدارقطني والبيهقي . تنبيه : روى الترمذي في (( باب ما جاءكم حج النبي - صلى الله عليه وسلم - )) ؟ من طريق زيد بن الحباب عن سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج ثلاث حجج ، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر معها عمرة ، فساق ثلاثة وستين بدنة ، وجاء علي من اليمن ببقيتها ( أي ببقية المائة أو ببقية البدن التي ذبحها النبي - صلى الله عليه وسلم - ) فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من فضة فنحرها – الحديث . وهذا كما ترى مخالف لحديث الباب ولم ينبه على هذا الاختلاف ابن العربي وغيره من شراح الترمذي . والصواب عندنا ما وقع في رواية أبو داود ومن وافقه وذلك لوجوه منها أنه موافق لما في كتب السير ، فإن جميع أهل السير ذكروا إهداء جمل أبي جهل في عمرة الحديبية لا في حجة الوداع . قال ابن القيم في الهدى (ج 1 : ص 385) في الفصل الذي عقده لبيان ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية : ومنها
2665 – (15) وعن ناجية الخزاعي ، قال : قلت : يا رسول الله ! كيف أصنع بما عطب من البدن ؟ قال : " انحرها ،

(18/477)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استحباب مغايظة أعداء الله فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى في جملة هديه جملا لأبي جهل في أنفه برة من فضة يغيظ به المشركين إلى آخر ما قال . ومنها ما وقع في رواية ابن عباس عند أحمد وأبي داود والبيهقي وعند أهل السير من تعليل إهداء جمل أبي جهل بإغاظة المشركين ، فإن هذا لا يناسب حجة الوداع فإنه لم يكن فيها كافر بمكة . ومنها أن رواية الترمذي ضعيفة . قال الترمذي : هذا حديث غريب من حديث سفيان ، وسألت محمدا عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري عن جعفر عن أبيه عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورأيته لا يعد هذا الحديث محفوظا ، وقال : إنما عن الثوري عن أبي إسحاق عن مجاهد مرسل – انتهى . ولا يبعد أن يقال إن سفيان الثوري جمع بين الحديثين حديث جابر في قصة هدايا حجة الوداع وحديث ابن عباس في قصة هدايا عمرة الحديبية ، كما يدل عليه سياق ابن ماجه في باب حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه روى عن القاسم بن محمد المهلبي عن عبد الله بن داود عن سفيان قال : حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حجات ، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر من المدينة وقرن مع حجته عمرة . واجتمع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به علي مائة بدنة منها جمل لأبي جهل في أنفه برة من فضة فنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده ثلاثا وستين ونحر علي ما غبر . قيل له ( أي لسفيان ) من ذكره ؟ قال : جعفر عن أبيه عن جابر وابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس – انتهى . ويؤيد ذلك أنه روى الحاكم من طريق زيد بن الحباب عن الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر ( وهو طريق الترمذي كما تقدم ) أول الحديث أي إلى قوله (( حجة قرن معها عمرة )) واقتصر عليه . ولم يذكر قصة جمل أبي جهل ، وقد صحح الحديث الحاكم على شرط مسلم وقرره الذهبي .

(18/478)


2665 - قوله ( وعن ناجية ) بالنون والجيم ( الخزاعي ) بمضمومة وخفة زاي ، نسبه إلى خزاعة . قال الحافظ في التقريب : ناجية بن جندب بن كعب ، وقيل : ابن كعب بن جندب الخزاعي ، صحابي تفرد بالرواية عنه عروة بن الزبير ، ووهم من خلطه بناجية بن جندب بن عمير الأسلمي الصحابي الذي روى عنه مجزأة بن زاهر وغيره – انتهى بتصرف يسير . وهو معدود في أهل المدينة . قال سعيد بن عفير : كان اسمه ذكوان فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - ناجية ، إذ نجا من قريش ، وهو الذي نزل القليب في الحديبية بسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يقال . مات بالمدينة في زمن معاوية ، وسيأتي مزيد الكلام في ترجمته عند تخريج الحديث ( كيف أصنع بما عطب ) بكسر الطاء من باب علم من العطب بفتحتين وهو الهلاك وأريد به ها هنا قربه للهلاك بأن اعترته آفة تمنعه من السير فيكاد يعطب . وقال القاري : بكسر الطاء أي عيي وعجز عن السير ووقف في الطريق ، وقيل : أي قرب من العطب وهو الهلاك . وقال في النهاية : عطب الهدي هلاكه . وقد يعبر بالعطب عن آفة تعتريه فتمنعه عن السير ويخاف عليه الهلاك فينحر ( من البدن ) أي من الهدي المهداة إلى الكعبة
ثم اغمس نعلها في دمها ، ثم خل بين الناس وبينها فيأكلونها " . رواه مالك ، والترمذي وابن ماجة . ورواه أبو داود ، والدارمي عن ناجية الأسلمي .

(18/479)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بيان لما ( ثم اغمس ) بكسر الميم من باب ضرب ( نعلها ) أي المقلدة بها ( في دمها ) أي ثم اجعلها على صفحتها ( ثم خل ) بصيغة الأمر من التخلية ( بين الناس وبينها ) قال الطيبي : التعريف للعهد . والمراد بهم الذين يتبعون القافلة أو جماعة غيرهم من قافلة أخرى – انتهى . قلت : اختلفوا في المراد بالناس ، فعند المالكية يدخل فيهم الفقراء والأغنياء من الرفقة وغيرهم غير صاحب الهدي ورسوله ، وعند الحنفية هم الفقراء خاصة سواء كانوا من الرفقة أو من غيرهم ، وأما عند الشافعية والحنابلة فهم الفقراء لكن من غير أهل الرفقة وهو الراجح عندنا لما تقدم في حديث ابن عباس من قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك ، وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا ( فيأكلونها ) أي فهم يأكلونها على حد قوله تعالى ? ولا يؤذن لهم فيعتذرون ? (77 : 36) وإلا لكان الظاهر أن يقال : فيأكلوها . أي بإسقاط النون لجواب الأمر كقوله تعالى ? ذرهم يأكلوا ? (15 : 3) ( رواه مالك والترمذي وابن ماجة ) أي عن ناجية الخزاعي ، هذا هو ظاهر معنى كلام المصنف ، وفيه أن الإمام مالكا روى الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه فقال (( عن صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدي )) – الحديث . فهذا كما ترى لم يسم الرجل ولم ينسبه بل أبهم فقال (( عن صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) ورواه الترمذي من طريق عبدة بن سليمان ، وابن ماجة من طريق وكيع كلاهما عن هشام عن عروة فقالا : عن ناجية الخزاعي ، وهكذا رواه أحمد (ج 4 : ص 334) ومن طريقه الحاكم (ج 1 : ص 447) من رواية وكيع وأبي معاوية عن هشام وأخرجه أيضا ابن حبان من رواية أبي خازم عن هشام فقال : (( عن ناجية الخزاعي )) فاتفق عبدة عند الترمذي ووكيع عند أحمد وابن ماجة والحاكم وأبو معاوية عند أحمد

(18/480)


وأبو خازم عند ابن حبان على التسمية والنسبة .
قوله ( ورواه أبو داود والدارمي عن ناجية الأسلمي ) أخرجه أبو داود من طريق سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه ومن طريق أبي داود رواه البيهقي (ج 5 : ص 243) وأخرجه الدارمي من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام فقالا (( عن ناجية الأسلمي )) قال الزرقاني : وكذا رواه جعفر بن عون وروح بن القاسم وغيرهم عن هشام – انتهى . ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب من طريق وهيب بن خالد عن هشام بن عروة عن أبيه فقال (( عن ناجية صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) فلم يذكر النسبة لا الأسلي ولا الخزاعي . قال الحافظ في الإصابة بعد ذكر طرقه : ولم يسم أحد منهم والد ناجية لكن قال بعضهم الخزاعي وبعضهم الأسلمي ، ولا يبعد التعدد ، فقد ثبت من حديث ابن عباس أن ذويبا الخزاعي حدثه أنه كان مع البدن أيضا (( ففي لفظ عند أحمد أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث معه بالبدن فيقول : إن عطب منها
..............................................................................................

(18/481)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شيء فخشيت عليه فانحرها واغمس نعلها في دمها واضرب صفحتها ولا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك ) قال : وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عروة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث ناجية الخزاعي عينا في فتح مكة ، وقد جزم أبو الفتح الأزدي وأبو صالح المؤذن بأن عروة تفرد بالرواية عن ناجية الخزاعي ، فهذا يدل على أنه غير الأسلمي – انتهى . وقال في تهذيب التهذيب : ناجية بن كعب بن جندب ، ويقال ابن جندب بن كعب ، ويقال عمير بن معمر الأسلمي الخزاعي ، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان صاحب بدنه فيما يصنع بما عطب من البدن ، روى عنه عروة بن الزبير ومجزأة بن زاهر الأسلمي .... قلت ( قائله الحافظ ) قوله أي قول صاحب تهذيب الكمال ) (( الأسلمي الخزاعي )) عجيب ، وقد بينت في معرفة الصحابة أن ناجية بن جندب الأسلمي غير ناجية بن جندب بن كعب الخزاعي ، وأن كلا منهما وقع له استصحاب البدن وأن الذي روى عنه عروة هو الخزاعي ، وقيل فيه الأسلمي ، وأن الذي روى عنه مجزأة هو الأسلمي بلا خلاف ، والأسلمي قد ذكر ابن سعد أنه شهد الحديبية ، وزعم الأزدي وأبو صالح المؤذن أن عروة تفرد بالرواية عن الخزاعي ، وأما الأسلمي فروى عنه مجزأة بن زاهر وعبد الله بن عمرو الأسلمي أيضا – انتهى . قلت : كلام الحافظ هذا وكذا كلامه في التقريب وفي الإصابة يدل على أن ناجية الأسلمي غير ناجية الخزاعي ، والأول ناجية بن جندب بن عمير ، والثاني هو ناجية بن جندب بن كعب أو ناجية بن كعب بن جندب وأن كليهما من أصحاب البدن المهداة التي وقع السؤال فيها عما يصنع بما عطب منها ، وأن الصواب في حديث عروة (( ناجية الخزاعي )) لا الأسلمي ، ويؤيد ذلك أن الإمام أحمد في مسنده وضع الحديث في مسند ناجية الخزاعي لما وقع في سنده (( عن عروة عن ناجية الخزاعي )) وذكر الزرقاني كلام الحافظ المتقدم عن الإصابة ثم تعقبه بأن جزم

(18/482)


أبي الفتح الأزدي وأبي صالح المؤذن بتفرد عروة بالرواية عن الخزاعي لا يدل على أن هذا الحديث عنه فلعل الصواب رواية من قال إنه الأسلمي لا سيما وهم حفاظ ثقات ، وقد جزم ابن عبد البر بأنه ناجية بن جندب الأسلمي – انتهى . قلت : لم يتفق أصحاب هشام على نسبة الأسلمي ، بل قال أكثرهم : الخزاعي كما تقدم ، نعم صنيع عامة أصحاب الرجال يؤيد أنه الأسلمي حيث نسبوا الحديث إلى الأسلمي ولم يذكروا الخزاعي كالمصنف في الإكمال وابن عبد البر في الاستيعاب والجزري في رجال جامع الأصول ، وذكر الذهبي في تجريده والجزري في أسد الغابة الحديث في ترجمة الأسلمي والخزاعي كليهما ، وقال الجزري في ترجمة ناجية بن جندب بعد ذكر الحديث عن الترمذي بسنده وعن الموطأ : والصحيح أنه أسلمي . ثم ذكر القصة من رواية ابن إسحاق وفيها أن الذي نزل القليب بسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناجية ابن جندب الأسلمي صاحب بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى . والظاهر أن البغوي صاحب المصابيح تبع في ذلك الإمام أحمد والمصنف تبع ابن عبد البر ومن وافقه ، فإنه لم يذكر ناجية الخزاعي في إكماله ، والراجح عندنا هو ما ذهب إليه الحافظ ، والله أعلم . والحديث صححه الترمذي وسكت عنه أبو داود والمنذري وصححه الحاكم على شرط الشيخين وقرره الذهبي
2666 – (16) وعن عبد الله بن قرط ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ، ثم يوم القر " . قال ثور : وهو اليوم الثاني . قال : وقرب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنات خمس أو ست ، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/483)


2666 – قوله ( وعن عبد الله بن قرط ) بضم القاف وسكون الراء وإهمال الطاء الأزدي الثمالي بضم المثلثة وتخفيف الميم صحابي ، روى أحمد بن حنبل بإسناد حسن وأبو نعيم في الصحابة بإسناد لا بأس به أنه كان اسمه في الجاهلية شيطانا فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماه عبد الله . شهد اليرموك وفتح دمشق ، وأرسله يزيد بن أبي سفيان بكتابه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهم ، واستعمله أبو عبيدة على حمص في عهد عمر مرتين ، ولم يزل عليها حتى توفي أبو عبيدة ، ثم استعمله معاوية على حمص أيضا . قال ابن يونس : قتل عبد الله بأرض الروم شهيدا سنة ست وخمسين ( إن أعظم الأيام ) أي أيام عيد الأضحى ، فلا ينافي ما في الأحاديث الصحيحة أن أفضل الأيام يوم عرفة فيكون المراد بتلك الأيام يوم النحر وأيام التشريق . وقال الطيبي : أي من أعظم الأيام ، لأن العشر ( أي عشر رمضان أو عشر ذي الحجة ) أفضل مما عداها قال القاري : ولا يبعد أن يقال : الأفضلية مختلفة باعتبار الحيثية أو الإضافية والنسبية فلا يحتاج إلى تقدير (( من )) التبعيضية ( يوم النحر ) أي أول أيام النحر لأنه العيد الأكبر ويعمل فيه أكبر أعمال الحج حتى قال تعالى فيه ? يوم الحج الأكبر ? ( ثم يوم القر ) بفتح القاف وتشديد الراء ، هو اليوم الأول من أيام التشريق ، سمي بذلك لأن الناس يقرون يومئذ في منازلهم بمنى ولا ينفرون عنه بخلاف اليومين الأخيرين ، قاله القاري . وقال في اللمعات : سمي بذلك لأن الناس يقرون ويسكنون فيه بمنى بعد ما تعبوا في أداء المناسك . وقال الجزري والخطابي : هو اليوم الذي يلي يوم النحر ، سمي بذلك لأن الناس يقرون فيه بمنى وقد فرغوا من طواف الإفاضة والنحر فاسترحوا وقروا ( قال ثور ) بفتح مثلثة ، أحد رواة هذا الحديث وهو ثور بن يزيد الكلاعي ويقال الرحبي أبو خالد الحمصي أحد الحفاظ الأثبات العلماء . قال ابن معين : ما رأيت شاميا أوثق منه . وقال في

(18/484)


التقريب : ثقة ثبت إلا أنه يرى القدر ، من كبار أتباع التابعين . مات سنة خمسين ومائة وقيل ثلاث أو خمس وخمسين ( وهو ) أي يوم القر هو ( اليوم الثاني ) أي من أيام النحر أو من أيام العيد ، فلا ينافي ما سبق من أنه أول أيام التشريق ( قال ) أي عبد الله ( وقرب ) بتشديد الراء مجهولا ( بدنات خمس أو ست ) شك من الراوي أو ترديد من عبد الله ، يريد تقريب الأمر أي بدنات من بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فطفقن ) بكسر الفاء الثانية أي شرعن ( يزدلفن ) أي يتقربن ويسعين ( إليه بأيتهن يبدأ ) يعني يقصد كل من البدنات أن يبدأ في النحر بها . قال الطيبي : أي منتظرات بأيتهن يبدأ للتبرك بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نحرهن ، ولا يخفى ما فيه من المعجزة الباهرة . قال الخطابي : قوله (( يزدلفن )) معناه يقتربن من قولك (( زلف الشيء )) إذا قرب ، ومنه قوله تعالى ? وأزلفنا ثم الآخرين ? (26 : 64) ومعناه والله
قال : فلما وجبت جنوبها ، قال فتكلم بكلمة خفية لم أفهمها فقلت : ما قال ؟ قال ، قال : " من شاء اقتطع " . رواه أبو داود . وذكر حديث ابن عباس وجابر ، في باب الإضحية .
( الفصل الثالث )
2667 – (17) عن سلمة بن الأكوع ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء " .

(18/485)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أعلم القرب والدنو من الهلاك ، وإنما سميت المزدلفة لاقتراب الناس فيها إلى منى بعد الإفاضة من عرفات ( قال ) أي عبد الله ( فلما وجبت جنوبها ) أي سقطت على الأرض لأنها تنحر قائمة كما تقدم . قال الخطابي : معناه زهقت أنفسها فسقطت على جنوبها ، وأصل الوجوب السقوط ( قال ) أي عبد الله ، وهو تأكيد ، وقال الطيبي : أي الراوي ( فتكلم ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال القاري : فيلزم منه أن يقال بزيادة الفاء ، وعندي أن ضمير (( قال )) راجع إليه - صلى الله عليه وسلم - ، وقوله (( فتكلم بكلمة خفيفة )) عطف تفسير لقال – انتهى . قلت : ولفظ البيهقي (( فلما وجبت جنوبها تكلم بكلمة خفية لم أفهمها )) وهذا واضح لا يحتاج إلى تأويل ( لم أفهمها ) قال القاري : أي لخفاء لفظها ( فقلت ) أي للذي يليني ( ما قال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قال ) أي المسؤل ( قال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من شاء اقتطع ) قال الخطابي : فيه دليل على جواز هبة المشاع ، وفيه دلالة على أخذ النثار في عقد الأملاك ، وأنه ليس من باب النهبى ، وإنما هو من باب الإباحة وقد كره بعض العلماء خوفا أن يدخل فيما نهي عنه من النهبى ( رواه أبو داود ) وأخرجه أيضا البيهقي (ج 5 : ص 241) كلاهما من طريق ثور بن يزيد عن راشد بن سعد عن عبد الله بن عامر بن لحي عن عبد الله بن قرط . وسكت عنه أبو داود والمنذري ، وقال المنذري : وأخرجه النسائي أي في الكبرى وذكره الحافظ في الإصابة في ترجمة عبد الله بن قرط ، وعزاه لأبي داوود والنسائي وابن حبان والحاكم وقال : قال الطبراني تفرد به ثور بن يزيد ( وذكر حديث ابن عباس ) وقع في بعض النسخ (( حديثا ابن عباس )) وهو الظاهر ويريد بحديث ابن عباس قوله : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة سبعة وفي الجزور عشرة ( وجابر ) أي

(18/486)


البقرة عن سبعة والجزور عن سبعة ( في باب الإضحية ) الأظهر أنه اعتراض من صاحب المشكاة بأنه حولهما عن هذا الباب ، لأنهما أنسب إلى ذلك الباب ، ويحتمل أن يكون اعتذارا منه بأنه أسقطهما عن تكرار ، والله أعلم . والحديثان قد تقدم البسط في شرحهما في باب الأضحية ، وقد بينا هناك أن حديث جابر أنسب لباب الهدي .
2667 – قوله ( من ضحى ) بتشديد الحاء ( فلا يصبحن ) بالصاد المهملة الساكنة والموحدة المكسورة ( بعد ثالثة ) من الليالي من وقت التضحية ( وفي بيته ) قال القسطلاني : ولأبي ذر (( وبقى في بيته )) ( منه ) أي من الذي ضحى به ( شيء ) من لحمة لحرمة ادخار شيء من لحم الأضحية في هذا العام لأجل القحط الذي وقع فيه حتى امتلأت المدينة من أهل البادية
فلما كان العام المقبل قالوا : يا رسول الله ! نفعل كما فعلنا العام الماضي ؟ قال : " كلوا وأطعموا

(18/487)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فأمر أهلها بإخراج جميع ما عندهم من لحوم الأضاحي التي اعتادوا ادخار مثلها في كل عام ( فلما كان العام المقبل ) أي الآتي بعده ( قالوا ) أي بعض الأصحاب ( نفعل ) بتقدير الاستفهام ( كما فعلنا العام الماضي ؟ ) من ترك الادخار ، قال ابن المنير : وكأنهم فهموا أن النهي ذلك العام كان على سبب خاص وهو الدافة ، وإذا ورد العام حاك في النفس من عمومه وخصوصه إشكال ، فلما كان مظنة الاختصاص عاودوا السؤال فبين لهم - صلى الله عليه وسلم - أنه خاص بذلك السبب ، ويشبه أن يستدل بهذا من يقول : إن العام يضعف عمومه بالسبب فلا يبقى على أصالته ولا ينتهي به إلى التخصيص ، إلا ترى أنهم لو اعتقدوا بقاء العموم على أصالته لما سألوا ، ولو اعتقدوا الخصوص أيضا لما سألوا ، فسؤالهم يدل على أنه ذو شأنين ، وهذا اختيار الإمام الجويني . وحاصل كلام ابن المنير أن وجه قولهم (( هل نفعل كما كنا نفعل )) مع أن النهي يقتضي الاستمرار لأنهم فهموا أن ذلك النهي ورد على سبب خاص فلما احتمل عندهم عموم النهي أو خصوصه من أجل السبب سألوا ، فأرشدهم إلى أنه خاص بذلك العام من أجل السبب المذكور ، واستدل به على أن العام إذا ورد على سبب خاص ضعفت دلالة العموم حتى لا يبقى على أصالته ، لكن لا يقتصر فيه على السبب ، كذا في الفتح ( قال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( كلوا ) بصيغة الأمر من الأكل . قال الحافظ : تمسك به من قال بوجوب الأكل من الأضحية ، ولا حجة فيه لأنه أمر بعد حظر ، فيكون للإباحة . وقال النووي : يستحب الأكل من الأضحية ، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا ما حكي عن بعض السلف أنه أوجب الأكل منها وهو قول أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا ، حكاه عنه الماوردي لظاهر هذا الحديث في الأمر بالأكل مع قوله تعالى ? فكلوا منها ? وحمل الجمهور هذا الأمر على الندب أو الإباحة ، لا سيما وقد ورد بعد الحظر

(18/488)


كقوله تعالى ? وإذا حللتم فاصطادوا ? (5 : 2) وقد اختلف الأصولين والمتكلمون في الأمر الوارد بعد الحظر ، فالجمهور من أصحابنا وغيرهم على أنه للوجوب ، وقال جماعة منهم من أصحابنا وغيرهم : إنه للإباحة ، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك ( وأطعموا ) بهمزة قطع وكسر العين المهملة ، وفي حديث عائشة وأبي سعيد (( تصدقوا )) قال الخطابي : استدل بإطلاق الأحاديث على أنه لا تقييد في القدر الذي يجزئ من الإطعام . ويستحب للمضحي أن يأكل من الأضحية شيئا ويطعم الباقي صدقة وهدية ، وعن الشافعي يستحب قسمتها أثلاثا لقوله (( كلوا وتصدقوا وأطعموا )) قال ابن عبد البر : وكان غيره يقول : يستحب أن يأكل النصف ويطعم النصف ، وقد أخرج أبو الشيخ في كتاب الأضاحي ( وأحمد ) من طريق عطاء بن يسار عن أبي هريرة رفعه (( من ضحى فليأكل من أضحيته )) ورجاله ثقات لكن قال أبو حاتم الرازي : الصواب عن عطاء مرسل ، قال النووي : مذهب الجمهور أنه لا يجب الأكل من الأضحية ، وإنما الأمر فيه للأذن . وذهب بعض السلف إلى الأخذ بظاهر الأمر ، وحكاه المارودي عن أبي الطيب بن سلمة من الشافعية ، وأما
..............................................................................................

(18/489)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصدقة منها فالصحيح أنه يجب التصدق من الأضحية بما يقع عليه الاسم ، والأكمل أن يتصدق بمعظمها ، ولنا وجه أنه لا تجب الصدقة بشيء منها ، كذا في الفتح . وقال ابن حزم في المحلى : فرض على كل مضح أن يأكل من أضحيته ، ولا بد ولو لقمة ، وفرض عليه أن يتصدق أيضا منها بما شاء قل أو أكثر ولا بد ، ومباح له أن يطعم منها الغني والكافر وأن يهدي منها إن شاء ذلك – انتهى . وقال ابن قدامة في المغني (ج 8 : ص 632) قال أحمد : نحن نذهب إلى حديث عبد الله (( يأكل هو الثلث ويطعم من أراد الثلث ويتصدق على المساكين بالثلث )) قال علقمة : بعث معي عبد الله بهدية فأمرني أن آكل ثلثا وأن أرسل إلى أهل أخيه عتبة بثلث وأن أتصدق بثلث . وعن ابن عمر قال : الضحايا والهدايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين . وهذا قول إسحاق وأحد قولي الشافعي . وقال في الآخر : يجعلها نصفين ، يأكل نصفا ويتصدق بنصف لقول الله تعالى ? فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ? (22 : 28) وقال أصحاب الرأي : ما كثر من الصدقة فهو أفضل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى مائة بدنة وأمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل هو وعلى من لحمها وحسيا من مرقها ونحر خمس بدنات أو ست بدنات وقال :من شاء فليقتطع ولم يأكل منهن شيئا . ولنا ما روي عن ابن عباس في صفة أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلث ، ويتصدق على السؤال بالثلث . رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في الوظائف وقال : حديث حسن ، ولأنه قول ابن مسعود وابن عمر ، ولم نعرف لهما مخالفا في الصحابة ، فكان إجماعا ، ولأن الله تعالى قال ? فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ? والقانع السائل يقال : قنع قنوعا إذا سأل ، وقنع قناعة إذا رضي ، والمعتر الذي يعتريك أي يتعرض لك لتطعمه فلا يسأل ، فذكر ثلاثة أصناف ، فينبغي أن

(18/490)


يقسم بينهم ثلاثا ، قال : والأمر في هذا واسع ، فلو تصدق بها كلها أو بأكثرها جاز ، وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز ، وقال أصحاب الشافعي : يجوز أكلها كلها . ولنا أن الله تعالى قال ? فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ? وقال ? وأطعموا البائس الفقير ? والأمر يقتضي الوجوب . وقال بعض أهل العلم : يجب الأكل منها ولا تجوز الصدقة بجميعها للأمر بالأكل منها – انتهى مختصرا . وقال في الدر المختار : يأكل من لحم الأضحية ويؤكل غنيا ويدخر ، وندب أن لا ينقص التصدق عن الثلث وندب تركه لذي عيال توسعة عليهم ، وفي البدائع (( يستحب أن يأكل من إضحيته والأفضل أن يتصدق بالثلث ويتخذ الثلث ضيافة لأقربائه وأصدقائه ويدخر الثلث ، وله أن يهبه جميعا ، ولو تصدق بالكل جاز ، ولو حبس لنفسه الكل جاز ؛ لأن القربة بالدم والتصدق باللحم تطوع )) – انتهى ملخصا . قلت : اختلفوا في قوله تعالى : ? فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ? وفي قوله : ? فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ? أن حكم الأكل المأمور به في الآيتين هل هو الوجوب لظاهر صيغة الأمر أو الندب والاستحباب ؟ فجمهور أهل العلم على أن الأمر بالأكل فيهما للاستحباب لا للوجوب ، والقرينة الصارفة عن الوجوب هي ما زعموا من أن المشركين كانوا لا
وادخروا ، فإن ذلك العام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18/491)


يأكلون هداياهم فرخص للمسلمين في ذلك ، وعليه فالمعنى : فكلوا إن شئتم ولا تحرموا الأكل على أنفسكم كما يفعله المشركون . وقال ابن كثير في تفسيره : إن القول بوجوب الأكل غريب وعزا للأكثرين أن الأمر للاستحباب . قال : وهو اختيار ابن جرير في تفسيره . وقال القرطبي في تفسيره : (( فكلوا منها )) أمر معناه الندب عند الجمهور ، ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وإضحيته وأن يتصدق بالأكثر مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل . وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فكلوا وادخروا وتصدقوا " – انتهى كلام القرطبي . ورجح الشنقيطي الوجوب حيث قال : أقوى القولين دليلا وجوب الأكل والإطعام من الهدايا والضحايا ، لأن الله تعالى قال : ? فكلوا منها ? في موضعين ، فأمر بالأكل من الذبائح مرتين ، ولم يقم دليل يجب الرجوع إليه صارف عن الوجوب ، وكذلك الإطعام هذا هو الظاهر بحسب الصناعة الأصولية . قال : ومما يؤيد أن الأمر في الآية يدل على وجوب الأكل وتأكيده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر مائة من الإبل فأمر بقطعة من لحم من كل واحدة منها فأكل منها وشرب من مرقها ، وهو دليل واضح على أنه أراد أن لا تبقي واحدة من تلك الإبل الكثيرة إلا وقد أكل منها أو شرب من مرقها . وهذا يدل على أن الأمر في قوله ? فكلوا منها ? ليس بمجرد الاستحباب والتخيير إذ لو كان كذلك لاكتفى بالأكل من بعضها وشرب مرقة دون بعض . وكذلك الإطعام ، فالأظهر فيه الوجوب – انتهى . وقال أبو حيان في البحر المحيط : والظاهر وجوب الأكل والإطعام ، وقيل باستحبابهما . وقيل باستحباب الأكل ووجوب الإطعام ، والأظهر أنه لا تحديد للقدر الذي يأكله ، والقدر الذي يتصدق به ، فيأكل ما شاء ويتصدق بما شاء ، وقد قال بعض أهل العلم : يتصدق بالنصف ويأكل النصف . واستدل لذلك بقوله تعالى : ? فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ? قال : فجزأها نصفين ،

(18/492)


نصف له ونصف للفقراء ، وقال بعضهم : يجعلها ثلاثة أجزاء ، يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ويهدي الثلث ، واستدل بقوله تعالى : ? فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ? فجزأها ثلاثة أجزاء ، ثلث له وثلث للقانع وثلث للمعتر ، هكذا قوله ، وأظهرها الأول ، والعلم عند الله تعالى ( وادخروا ) بتشديد الدال المهملة وأصله من ذخر بالمعجمة ، دخلت عليها تاء الافتعال ثم أدغمت ، ومنه قوله تعالى : ? وادكر بعد أمة ? (12 : 45) أي اجعلوا ذخيرة ، وهو أمر إباحة . قال الحافظ : يؤخذ من الإذن في الادخار الجواز خلافا لمن كرهه . وقد ورد في الادخار (( كان يدخر لأهله قوت سنة )) وفي رواية (( كان لا يدخر للغد )) والأول في الصحيحين ، والثاني في مسلم ، والجمع بينهما أنه كان لا يدخر لنفسه ويدخر لعياله ، أو أن ذلك كان لاختلاف الحال فيتركه عند حاجة الناس إليه ويفعله عند عدم الحاجة – انتهى . ( فإن ذلك العام ) أي الواقع فيه النهي علة لتحريم الادخار السابق وإيماء إلى أن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما
كان بالناس جهد ، فأردت أن تعينوا فيهم " . متفق عليه .
2668 – (18) وعن نبيشة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنا كنا نهينا عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاث لكي تسعكم ، جاء الله بالسعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( كان بالناس جهد ) بفتح الجيم أي مشقة من جهة قحط السنة ( فأردت ) أي بالنهي عن الادخار ( أن تعينوا فيهم ) بالعين المهملة من الإعانة : قال الطيبي : أي توقعوا الإعانة فيهم – انتهى . قال القاري : فجعله من باب التضمين كقول الشاعر :
يجرح في عراقيبها نصلي

(18/493)


ومنه قوله تعالى حكاية : ? وأصلح لي في ذريتي ? (46 : 15) ويمكن أن يكون التقدير : أن تعينوني في حقهم فإن فقرهم كان صعبا عليه - صلى الله عليه وسلم - . قلت : قوله (( أن تعينوا فيهم )) هكذا وقع في جميع نسخ المشكاة ، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج 4 : ص 156) وهو خطأ ، والصواب (( أن تعينوا فيها )) كما وقع في البخاري ، يعني تعينوا الفقراء في المشقة ، والضمير في (( تعينوا فيها )) للمشقة المفهومة من الجهد . قال الحافظ : قوله (( أن تعينوا فيها )) كذا هنا من الإعانة وفي رواية مسلم عن محمد بن المثنى عن أبي عاصم شيخ البخاري فيه (( فأردت أن يفشو فيهم )) أي بالفاء والشين ، وللإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي خيثمة عن أبي عاصم : فأردت أن تقسموا فيهم كلوا وأطعموا وادخروا . قال عياض : الضمير في تعينوا فيها للمشقة المفهومة من الجهد أو من الشدة أو من السنة لأنها سبب الجهد ، وفي (( يفشو فيهم )) أي في الناس يعني يشيع لحم الأضاحي في الناس المحتاجين إليها . قال في المشارق : ورواية البخاري أوجه . وقال في شرح مسلم : ورواية مسلم أشبه . قال الحافظ : قد عرفت أن مخرج الحديث واحد ، ومداره على أبي عاصم وأنه تارة قال هذا وتارة قال هذا ، والمعني في كل صحيح فلا وجه للترجيح – انتهى . ( متفق عليه ) أخرجاه في الأضاحي ، وهو الحديث الثامن عشر من ثلاثيات الإمام البخاري رواه عن أبي عاصم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع . قال القاري : لا يظهر وجه إيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب كما لا يخفي ، ولعله أراد به تفسير الحديث جابر في آخر الفصل الأول . والحديث أخرجه البيهقي في الأضاحي (ج 9 : ص 292) .

(18/494)


2668- قوله ( وعن نبيشة ) بضم النون وفتح الموحدة ، وهو نبيشة الخير الهذلي ، تقدم ترجمته ( إنا كنا نهيناكم عن لحومها ) أي الأضاحي أو الهدايا ، فيظهر وجه المناسبة للباب قاله القاري . قلت : وقع في رواية لأحمد (( إني كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي )) ( أن تأكلوها ) بدل اشتمال ( فوق ثلاث ) أي ليال ( لكي تسعكم ) من الوسع أي ليصيب لحومها كلكم من ضحى ومن لم يضح ( جاء الله ) وفي بعض نسخ أبي داود (( فقد جاء الله )) وهكذا وقع في مسند أحمد بالسعة بفتح السين ، ومنه قوله تعالى : ? لينفق ذو سعة من سعته ? (65 : 7) استئناف مبين لتغير الحكم ، أي أتي الله
فكلوا وادخروا وائتجروا ، ألا وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله " . رواه أبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالخصب وسعة الخير وأتى بالرخاء وكثرة اللحم ، فإذا كان الأمر كذلك ( فكلوا وادخروا وائتجروا ) افتعال من الأجر أي اطلبوا الأجر بالتصدق ، قال المنذري : افتعلوا من الأجر يريد الصدقة التي يتبعها أجرها وثوابها ، وليس من باب التجارة ، لأن البيع في الضحايا فاسد . قلت : وقع في بعض نسخ أبي داود (( واتجروا )) بتشديد التاء ، وكان أصله ائتجروا ، ثم أدغم كما في (( اتخذ )) قال الخطابي : (( واتجروا )) أصله

(18/495)


ايتجروا على وزن افتعلوا ، يريد الصدقة التي يبتغي أجرها وثوابها ، ثم قيل اتجروا كما قيل اتخذت الشيء ، وأصله ايتخذته ، وهو من الأخذ ، فهو من الأجر ، وليس من باب التجارة ، لأن البيع في الضحايا فاسد ، إنما تؤكل ويتصدق منها – انتهى ( ألا ) للتنبيه ( وإن هذه الأيام ) أي أيام منى وهي أربعة ، قاله القاري ( أيام أكل وشرب ) بضم الشين وفتحها فيحرم الصيام فيها ، وقد علل ذلك علي رضي الله عنه بأن القوم زاروا الله وهم في ضيافته في هذه الأيام وليس للضيف أن يصوم دون إذن من أضافه ، رواه البيهقي بسند مقبول ، ومن ثم قال جمع : سر ذلك أنه تعالى دعا عباده إلى زيارة بيته ، فأجابوه وقد أهدى على كل قدر وسعه ، وذبحوا هديهم فقبله منهم وجعل لهم ضيافة وهي ثلاثة أيام ، فأوسع زواره طعاما وشرابا ثلاثة أيام ، وسنة الملوك إذا أضافوا أطعموا من على الباب كما يطعمون من في الدار ، والكعبة هي الدار ، وسائر الأقطار باب الدار ، فعم الله الكل بضيافته فمنع صيامها ، ذكره الزرقاني ( ذكر الله ) أي كثرة ذكره تعالى لقوله تعالى : ? فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ? (2 : 200) ولقوله عز وجل : ? واذكروا الله في أيام معدودات? (2 : 203) قال الزرقاني : وعقب الأكل والشرب بقوله (( وذكر الله )) لئلا يستغرق العبد في حظوظ نفسه وينسى حقوق الله تعالى . قال الطيبي : هذا من باب التتميم ، فإنه لما أضاف الأكل والشرب إلى الأيام أوهم أنها لا تصلح إلا لهما ، لأن الناس أضياف الله فيها ، فتدارك بقوله (( وذكر الله )) لئلا يستغرقوا أوقاتهم باللذات النفسانية فينسوا نصيبهم من الروحانية ، ونظيره في التتميم للصيانة أي الاحتراس قول الشاعر :
-
-
فسقي ديارك غير مفسدها _ -
-
صوب الربيع وديمة تهمى ( -
-

(18/496)


قال الخطابي : قوله (( هذه الأيام أيام أكل وشرب )) فيه دليل على أن صوم أيام التشريق غير جائز لأنه قد وسمها بالأكل والشرب كما وسم يوم العيد بالفطر ثم لم يجز صيامه فكذلك أيام التشريق ، وسواء كان ذلك تطوعا من الصائم أو نذرا أو صامها الحاج عن التمتع – انتهى . قلت : رواه مسلم في كتاب الصوم بلفظ (( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله )) وقد ذكره المصنف في باب صيام التطوع ، وتقدم هناك الكلام في صيام أيام التشريق مفصلا ( رواه أبو داود ) في الأضاحي وسكت عليه . قال المنذري : وأخرجه النسائي بتمامه ، وأخرجه ابن ماجه مختصرا على الإذن في الادخار فوق ثلاث ، وأخرج مسلم الفصل الثاني في ذكر الأكل والشرب والذكر – انتهى . قلت : وأخرجه أيضا مطولا أحمد (ج 5 : ص 75 ، 76) والبيهقي (ج 9 : ص 292) .
(8) باب الحلق

(18/497)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( باب الحلق ) أي والقصر ، واكتفى بأفضلهما ، والكلام ها هنا في ستة أمور بسطها الباجي في شرح (( باب ما جاء في الحلاق )) من الموطأ ، الأول : في حكم الحلق ، الثاني : في صفته . الثالث : في موضعه ، الرابع : في وقته ، الخامس : فيما يتعلق به من الأحكام ، السادس : في أنه هل هو نسك أو تحلل ، قال العيني : قال شيخنا زين الدين العراقي في شرح الترمذي : إن الحلق نسك ، قاله النووي . وهو قول أكثر أهل العلم ، وهو القول الصحيح للشافعي ، وفيه خمسة أوجه أصحها أنه ركن لا يصح الحج والعمرة إلا به ، والثاني أنه واجب ، والثالث أنه مستحب ، والرابع أنه استباحة محظور ، والخامس أنه ركن في الحج واجب في العمرة ، وإليه ذهب الشيخ أبو حامد وغير واحد من الشافعية – انتهى . وصحح النووي في مناسكه أنه نسك وأنه ركن لا يصح الحج إلا به ، ولا يجبر بدم . وقال في شرح مسلم : مذهبنا المشهور أن الحلق أو التقصير نسك من مناسك الحج والعمرة وركن من أركانهما لا يحصل واحد منهما إلا به ، وبهذا قال العلماء كافة ، والشافعي قول شاذ ضعيف أنه استباحة محظور كالطيب واللباس وليس بنسك ، والصواب الأول – انتهى . وبوب البخاري في صحيحه (( باب الحلق والتقصير عند الإحلال )) قال ابن المنير في الحاشية : أفهم البخاري بهذه الترجمة أن الحلق نسك لقوله (( عند الإحلال )) وليس هو نفس التحلل ، وكأنه استدل على ذلك بدعائه - صلى الله عليه وسلم - لفاعله ، والدعاء يشعر بالثواب ، والثواب لا يكون إلا على العبادة لا على المباحات ، وكذلك تفضيله الحلق على التقصير يشعر بذلك ، لأن المباحات لا تتفاضل ، والقول بأن الحلق نسك قول الجمهور إلا رواية مضعفة عن الشافعي أنه استباحة محظور ، وقد أوهم كلام ابن المنذر أن الشافعي تفرد بها ، لكن حكيت أيضا عن عطاء وعن أبي يوسف ، وهي رواية عن أحمد وعن بعض المالكية ، كذا في الفتح ،

(18/498)


وقال الباجي : وعندنا أنه نسك وهو أحد قولي الشافعي ، والدليل على أنه نسك يثاب صاحبه على فعله قوله تعالى : ? لتدخلن المسجد الحرام ? (48 : 27) الآية . فوصف دخول المسجد على هذه الصفة فيما وعدهم به ، ولو لم يكن نسكا مقصودا لما وصف دخولهم به كما لم يصف دخولهم بلبسهم الثياب ، ووجه ثان أنه كناية عن الحج أو العمرة ولو لم يكن من النسك لما كنى به عنه ، ودليلنا من جهة السنة حديث ابن عمر في الدعاء للمحلقين ، فلو لم يكن فعلا يثاب عليه فاعله لما دعا له ، وأيضا إنه عليه السلام أظهر تفضيل الحلاق على التقصير ، ولو لم يكن نسكا له فضيلة لما كان أفضل من التقصير كما أنه ليس لبس نوع من الثياب أفضل من لبس غير ذلك – انتهى . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 435) : الحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة في ظاهر مذهب أحمد وقول الخرقي ، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي ، وعن أحمد أنه ليس بنسك ، وإنما هو إطلاق من محظور كان محرما عليه بالإحرام ، فأطلق فيه عند الحل كاللباس والطيب وسائر محظورات الإحرام ، فعلى هذه الرواية لا شيء على تاركه ، ويحصل الحل بدونه ، وجهها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالحل من العمرة قبله فروى أبو موسى قال : قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : بم أهللت ؟ قلت :
( الفصل الأول )
2669 – (1) عن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلق رأسه في حجة الوداع ، وأناس من أصحابه ، وقصر بعضهم .

(18/499)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لبيك بإهلال كإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : أحسنت ، فأمرني فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة ، ثم قال لي : أحل ، متفق عليه . وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سعى بين الصفا والمروة قال : من كان معه هدي فليحل وليجعلها عمرة . رواه مسلم . وعن سراقة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي . رواه أبو إسحاق الجوزجاني ، والرواية الأولى أصح ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به فروى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل . وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : احلوا إحرامكم بطواف بالبيت ( والصفا والمروة ) وقصروا . وأمره يقتضي الوجوب . ولأن الله تعالى وصفهم به بقوله سبحانه : ? محلقين رؤوسكم ومقصرين ? (48 : 27) ولم يكن من المناسك لما وصفهم به كاللبس وقتل الصيد ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترحم على المحلقين ثلاثا وعلى المقصرين مرة . ولو لم يكن من المناسك لما دخله التفضيل كالمباحات ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعلوه في جميع حجهم وعمرهم ولم يخلوا به ، ولو لم يكن نسكا لما داوموا عليه بل لم يفعلوه ، لأنه لم يكن من عادتهم فيفعلوه عادة ، ولا فيه فضل فيفعلوه لفضله ، وأما أمره بالحل فإنما معناه – والله أعلم – الحل بفعله ، لأن ذلك كان مشهورا عندهم ، فاستغنى عن ذكره ، ولا يمتنع الحل من العبادة بما كان محرما فيها كالسلام من الصلاة – انتهى . قال الولي العراقي في شرح التقريب : القائلون بأنه نسك اختلفوا في أنه ركن الحج لا يتم إلا بفعله ولا يجبر بدم أو واجب ، فذهب إلى الأول أكثر الشافعية . وقال إمام الحرمين : إنه متفق عليه ، وقال النووي : إنه الصواب ،

(18/500)


وذهب الداركي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى أنه واجب ، وهو مذهب الأئمة الثلاثة ، وذهب الشيخ أبو حامد الإسفرائيني وجماعة إلى أنه ركن في العمرة واجب في الحج .
2669 – قوله ( حلق رأسه ) بتشديد اللام وتخفيفها أي أمر بحلقه ( في حجة الوداع وأناس من أصحابه ) أي حلقوا لإدراك شرف متابعته وفضيلة الحلق التي بينه بالدعاء للمحلقين مرات ( وقصر ) بتشديد الصاد ( بعضهم ) أي بعض أصحابه أخذا بالرخصة بعد دعائه للمقصرين في المرة الأخيرة بالتماسهم . قال القاري : ويمكن أن يكون المراد من قوله (( وقصر بعضهم )) أي بعد عمرتهم قبل حجتهم – انتهى . واللفظ المذكور للبخاري في المغازي ، أخرجه من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن عبد الله بن عمر ، وأخرج مسلم من طريق الليث بن سعد عن نافع أن عبد الله قال : حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم ، قال عبد الله : إن سول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : رحم الله المحلقين . مرة أو مرتين
متفق عليه .
2670 - (2) وعن ابن عباس ، قال : قال لي معاوية : إني قصرت من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - عند المروة بمشقص .

(19/1)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( الشك من الليث ) ثم قال (( والمقصرين )) ومجموع الروايتين يدل على أن الحلق والدعاء للمحلقين كان في حجة الوداع ، وسيأتي الكلام فيه مفصلا . تنبيه : أفاد ابن خزيمة في صحيحه من الوجه الذي أخرجه البخاري منه في المغازي من طريق موسى بن عقبة عن نافع متصلا بالمتن المذكور ، قال : وزعموا أن الذي حلقه معمر بن عبد الله بن نضلة ، وبين أبو مسعود في الأطراف أن قائل (( وزعموا )) ابن جريج الراوي له عن موسى بن عقبة ، كذا في الفتح ، وقال النووي : اختلفوا في اسم الحالق فالصحيح أنه معمر بن عبد الله ( العدوي ) كما ذكر البخاري . وقيل هو خراش بن أمية ، وهو بمعجمتين ( الأولى مكسورة ) انتهى . قال الحافظ : والصحيح أن خراشا كان الحالق بالحديبية ، والله أعلم . قلت : وقد بينه ابن عبد البر فقال في ترجمة خراش بن أمية بن الفضل الكعبي الخزاعي : وهو الذي حلق رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية – انتهى . ولمعمر بن عبد الله الذي حلقه في حجة الوداع قصة رواها أحمد والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد ، والبخاري في تاريخه الكبير كما حكاها العيني ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي المغازي ، ومسلم في الحج ، واللفظ المذكور للبخاري في المغازي ، وأخرجه أيضا الترمذي والبيهقي (ج 5 : ص 103 ، 134) .

(19/2)


2670 – قوله ( قال لي معاوية ) أي ابن أبي سفيان ( إني قصرت من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي من شعر رأسه ، واستدل به من ذهب إلى اجتزاء تقصير بعض شعر الرأس كالحلق لأن ظاهر حرف (( من )) للتبعيض . ووقع عند أحمد (ج 4 : ص 92) والنسائي من طريق عطاء أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيام العشر – الحديث . قال : فلو ثبت هذا لكفى في تقدير الحلق والقصر ببعض الرأس – انتهى . قلت : اختلفت ألفاظ الرواية ، وفي بعضها (( قال قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) وهذا كما ترى مجمل ، وأما ما وقع في بعض الروايات من قوله (( قصرت من رأسه )) أو (( أخذ من أطراف شعره )) فالظاهر أن المراد به نفي المبالغة في التقصير بحيث يبلغ إلى أصل الشعر لا الاجتزاء بأخذ بعض الرأس وترك بعضه على أن حمل فعله على المتفق عليه أولى من حمله على المختلف فيه بل هو المتعين ، والله أعلم . قال النووي : في هذا الحديث جواز الاقتصار على التقصير وإن كان الحلق أفضل ، وسواء في ذلك الحاج والمعتمر إلا أنه يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج ليقع الحلق في أكمل العبادتين ، وقد سبقت الأحاديث في هذا – انتهى ( عند المروة ) فيه أنه يستحب أن يكون تقصير المعتمر أو حلقه عند المروة لأنها موضع تحلله كما يستحب للحاج أن يكون حلقه أو تقصيره في منى لأنها موضع تحلله ، وحيث حلقا أو قصرا من الحرم كله جاز ( بمشقص ) بكسر الميم وإسكان
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/3)


الشين المعجمة وفتح القاف وآخره صاد مهملة أي نصل طويل عريض أو غير عريض له حدة ، وقيل المراد به المقص وهو الأشبه في هذا المحل ، قاله القاري . وقال في اللمعات : مشقص كمنبر ، وهو نصل عريض أو سهم فيه ذلك ، وقيل المراد به الجلم بالجيم بفتحتين وهو الذي يجز به الشعر والصوف وهو أشبه . ثم اعلم أن في الحديث إشكالا وهو أنه لا يدري أن تقصير رأسه - صلى الله عليه وسلم - الذي أخبر به معاوية كان في الحج أو في العمرة ؟ ولا يصح الحمل على الأول ، لأن الحلق والتقصير من الحاج يكون بمنى لا عند المروة . وأيضا قد ثبت حلق رأسه في الحج فتعين أن يكون في العمرة ، ثم في أي عمرة من عمره كان ؟ لا يجوز أن يكون في العمرة الحكمية التي كانت بالحديبية لأنه حلق يومئذ فيها ولم يدخل مكة ولم يسلم معاوية يومئذ ، ولا يصح أن يحمل على عمرة القضاء لأنه قد ثبت عن أهل العلم بالسير أن معاوية إنما أسلم عام الفتح ، نعم قد ينقل عنه نفسه أنه كان يقول : أسلمت عام القضية ، لكن الصحيح أنه أسلم عام الفتح . وفي هذا النقل وهن ، أو يحمل على عمرة الجعرانة وكان في ذي القعدة عام الفتح ، وذلك أيضا لا يصح لأنه قد جاء في بعض ألفاظ الصحيح (( وذلك في حجته )) وفي رواية النسائي بإسناد صحيح (( وذلك في أيام العشر )) وهذا إنما يكون في حجة الوداع ، كذا في المواهب فتعين حمله على عمرة حجة الوداع ، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحل يومئذ ولا من كان معه هدي ، وإنما أمر بحل من لم يسق الهدي ، نعم قد توهم بعض الناس أنه - صلى الله عليه وسلم - حج متمتعا حل فيه من إحرامه ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدي ، وتمسكوا بهذا الحديث من معاوية لكن الصواب أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحل يومئذ . وقد قالوا : إن الصحابة أنكروا هذا القول على معاوية وغلطوه فيه كما أنكروا على ابن عمر في قوله (( إن إحدى عمره - صلى الله عليه وسلم - كان في رجب )) قال

(19/4)


التوربشتي : الوجه فيه أن نقول : نسي معاوية أنه كان في حجة الوداع ، ولا يستبعد ذلك في من شغلته الشواغل ونازعته الدهور والأعصار في سمعه وأبصاره وذهنه ، وكان قد جاوز الثمانين وعاش بعد حجة الوداع خمسين سنة – انتهى . فحينئذ يحمل ذلك على عمرة الجعرانة ، ويكون ذكر الحجة وأيام العشر سهوا والله أعلم – انتهى ما في اللمعات . وقال ابن الهمام : حديث معاوية ( أي في إحلاله بالتقصير عند المروة ) إما هو خطأ أو محمول على عمرة الجعرانة فإنه قد كان أسلم إذ ذاك وهي عمرة خفيت على بعض الناس لأنها كانت ليلا على ما في الترمذي والنسائي ، وعلى هذا فيجب الحكم على الزيادة التي في النسائي وهو قوله (( في أيام العشر )) بالخطأ ولو كانت بسند صحيح إما للنسيان من معاوية أو من بعض الرواة ، كذا في المرقاة . وقال الحافظ بعد ذكر رواية الباب : هذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة لكن وقع عند مسلم والنسائي ما يدل على أن ابن عباس حمل ذلك على وقوعه في حجة الوداع لقوله لمعاوية : إن هذه حجة عليك إذ لو كان في العمرة لما كان فيه على معاوية حجة ، وأصرح منه ما وقع عند أحمد (ج 4 : ص 92) من طريق قيس بن سعد عن عطاء أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيام العشر بمشقص
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/5)


معي وهو محرم ، وفي كونه في حجة الوداع نظر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحل حتى بلغ الهدي محله فكيف يقصر عنه على المروة وقد بالغ النووي هنا في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع فقال : هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الجعرانة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع كان قارنا وثبت أنه حلق بمنى ، وفرق أبو طلحة شعره بين الناس فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع ولا يصح حمله أيضا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع ، لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما ، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان ، هذا هو الصحيح المشهور ، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع ، وزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متمتعا ، لأن هذا غلط فاحش ، فقد تظاهرت الأحاديث في مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له : ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر . قلت ( قائله الحافظ ) : ولم يذكر الشيخ هنا ما مر في عمرة القضية والذي رجحه من كون معاوية إنما أسلم يوم الفتح صحيح من حيث السند لكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية وكان يكتم إسلامه ، ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح . وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق من ترجمة معاوية تصريح معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضية ، وأنه كان يخفي إسلامه خوفا من أبويه ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل في عمرة القضية مكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظرونه وأصحابه يطوفون بالبيت ، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة بسبب اقتضاه . ولا يعارضه أيضا قول سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه مسلم وغيره : فعلناها يعني العمرة في أشهر الحج ، وهذا يومئذ كافر بالعرش – بضمتين – يعني بيوت مكة ، يشير إلى معاوية ، لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله ولم يطلع على إسلامه لكونه

(19/6)


كان يخفيه . ويعكر على ما جوزوه أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة ولم يستصحب أحدا معه إلا بعض أصحابه المهاجرين فقدم مكة فطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة فأصبح بها كبائت ، فخفيت عمرته على كثير من الناس ، كذا أخرجه الترمذي وغيره ، ولم يعدوا معاوية فيمن كان صحبه حينئذ ولا كان معاوية فيمن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين حتى يقال لعله وجده بمكة ، بل كان مع القوم وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة مع جملة المؤلفة ، وأخرج الحاكم في الإكليل في آخر قصة غزوة حنين أن الذي حلق رأسه - صلى الله عليه وسلم - في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة . فإن ثبت هذا وثبت أن معاوية كان حينئذ معه وكان بمكة فقصر عنه بالمروة أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أولا وكان الحلاق غائبا في بعض حاجته ثم حضر فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق لأنه أفضل ففعل ، وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضية ، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - حلق فيها جاء هذا الاحتمال بعينه وحصل التوفيق بين الأخبار كلها ، وهذا مما فتح الله علي به في هذا الفتح ولله الحمد ثم لله الحمد أبدا . قال صاحب الهدي : الأحاديث الصحيحة المستفيضة تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر كما أخبر عن
متفق عليه .
2671 - (3) وعن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/7)


نفسه بقوله (( فلا أحل حتى أنحر )) وهو خبر لا يدخله الوهم بخلاف خبر غيره ، ثم قال : فلعل معاوية قصر عنه في عمرة الجعرانة فنسي بعد ذلك وظن أنه كان في حجته – انتهى . ولا يعكر على هذا إلا رواية قيس بن سعد المتقدمة لتصريحه فيها بكون ذلك في أيام العشرة إلا أنها شاذة . وقد قال قيس بن سعد عقبها : والناس ينكرون ذلك على معاوية – انتهى . وأظن قيسا رواها بالمعنى ثم حدث بها فوقع له ذلك . وقد أشار النووي إلى ترجيح كونه في الجعرانة وصوبه المحب الطبري وابن القيم وفيه نظر لأنه جاء أنه حلق في الجعرانة واستبعاد بعضهم أن معاوية قصر عنه في عمرة الحديبية لكونه لم يكن أسلم ليس ببعيد – انتهى كلام الحافظ . قلت : لا إشكال في رواية الشيخين فإنها تحمل على عمرة من عمره كما وقع في التصريح بذلك في رواية النسائي ، والمراد بها عمرة الجعرانة ، كما قال النووي والمحب الطبري وابن القيم وغيرهم ، وأما ما وقع في رواية الحاكم في الإكليل ورواية الملا في سيرته على ما حكاه الطبري من أنه حلق في عمرة الجعرانة فقد تقدم وجه الجمع بينه وبين روايات (( أنه قصر عنه )) والمشكل إنما هو رواية أبي داود بلفظ (( قصرت عنه على المروة بحجته )) ورواية أحمد والنسائي بلفظ (( أخذ من أطراف شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام العشر )) وأول المنذري رواية أبي داود بأن قوله (( لحجته )) يعني لعمرته ، قال : وقد أخرجه النسائي أيضا ، وفيه (( في عمرة على المروة )) وتسمى العمرة حجا ، لأن معناها القصد ، وقد قالت حفصة : ما بال الناس حلوا ، ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قيل : إنما تعني من حجتك – انتهى . وأما راوية أحمد والنسائي فهي محمولة على الخطأ والنسيان والوهم كما قال التوربشتي وابن القيم وابن الهمام والطيبي والحافظ ، والله أعلم ( متفق عليه ) واللفظ لمسلم ، وقوله (( عند المروة )) مما تفرد به مسلم دون البخاري ، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج 4 : ص

(19/8)


95 ، 96 ، 97 ، 98 ، 102) وأبو داود في باب الأقران ، والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 102) .
2671 – قوله ( قال في حجة الوداع ) هكذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح وهو خطأ من المصنف والبغوي ، فإن الحديث رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر ومن طريق مالك رواه أحمد (ج 2 : ص 79) والبخاري ومسلم وأبو داود وليس عندهم قوله (( في حجة الوداع )) وقد اختلف المتكلمون على هذا الحديث في الوقت الذي قال فيه رسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقال ابن عبد البر : كونه في الحديبية هو المحفوظ . وقال النووي : الصحيح المشهور أنه كان في حجة الوداع . قال القاضي عياض : لا يبعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله في الموضعين . قال العيني : ما قاله القاضي هو الصواب جمعا بين الأحاديث ، وهو الذي اختاره الحافظ حيث قال : قال ابن عبد البر : لم يذكر أحد من رواة نافع عن
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/9)


ابن عمر أن ذلك كان يوم الحديبية ، وهو تقصير وحذف ، وإنما جرى ذلك يوم الحديبية حين صد عن البيت ، وهذا محفوظ مشهور من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وحبشي بن جنادة وغيرهم ، ثم أخرج حديث أبي سعيد بلفظ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة ، وحديث ابن عباس بلفظ (( حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : رحم الله المحلقين )) الحديث . وحديث أبي هريرة من طريق محمد بن فضيل الذي أخرجه البخاري بلفظ (( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : والمقصرين ، قال : اللهم اغفر للمحلقين . قالوا : والمقصرين ؟ قالها ثلاثا . قال : وللمقصرين . ولم يسق ابن عبد البر لفظه بل قال : نذكر معناه وتجوز في ذلك فإنه ليس في رواية أبي هريرة تعيين الموضع ، ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع لأنه شهدها ، ولم يشهد الحديبية ، ولم يسق ابن عبد البر عن ابن عمر في هذا شيئا ولم أقف على تعيين الحديبية في شيء من الطريق عنه ، وقد قدمت في صدر الباب ( أي باب الحلق والتقصير عند الإحلال ) أنه مخرج من مجموع الأحاديث عنه أن ذلك كان في حجة الوداع كما يؤمئ إليه صنيع البخاري ، وحديث أبي سعيد الذي أخرجه ابن عبد البر أخرجه أيضا الطحاوي من طريق الأوزاعي ، وأحمد وابن أبي شيبة وأبو داود الطيالسي من طريق هشام الدستوائي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم الأنصاري عن أبي سعيد ، وزاد فيه أبو داود ( وأحمد ) أن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان وأبا قتادة ، وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجة من طريق ابن إسحاق حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه وهو عند ابن إسحاق في المغازي بهذا الإسناد وأن ذلك كان بالحديبية ، وكذلك أخرجه أحمد

(19/10)


وغيره من طريقه ، وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عنه ولم يعين المكان ، وأخرجه أحمد من هذا الوجه (ج 4 : ص 164 ، 165) وزاد في سياقه (( عن حبشي وكان ممن شهد حجة الوداع )) فذكر هذا الحديث ، وهذا يشعر بأنه كان في حجة الوداع ، وأما قول ابن عبد البر فوهم ، فقد ورد تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة في السنن ، ومن طريق الطبراني في الأوسط ، ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق في المغازي ، وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة ، ومن حديث أم الحصين عند مسلم ، ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة ، ومن حديث أم عمارة عند الحارث . فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا وأصح إسنادا ( لأن بعضها في صحيح مسلم بخلاف الحديبية ) ولهذا قال النووي عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وابن الحصين : هذه الأحاديث تدل على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع . قال : وهو الصحيح المشهور ، وقيل : كان في الحديبية ، وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في النهاية . ثم قال النووي : لا يبعد أن يكون وقع في الموضعين – انتهى . وقال عياض : كان
" اللهم ارحم المحلقين " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/11)


في الموضعين . وقال ابن دقيق العيد : إنه الأقرب . قلت ( قائله الحافظ ) : بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين كما قدمناه إلا أن السبب في الموضعين مختلف . فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل ، والقصة مشهورة ، فلما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحلال توقفوا ، فأشارت أم سلمة أن يحل هو - صلى الله عليه وسلم - قبلهم ففعل فتبعوه ، فحلق بعضهم وقصر بعض ، وكان من بادر على الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس المشار إليه قبل ، فإن في آخره عند ابن ماجة وغيره أنهم قالوا : يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة ؟ قال : لأنهم لم يشكوا ( في أن ما فعلته أحسن مما قام في أنفسهم ، أو معناه أي ما عاملوا معاملة من يشك في أن الإتباع أحسن ، وأما من قصر فقد عامل معاملة الشاك في ذلك حيث ترك فعله - صلى الله عليه وسلم - ) وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال ابن الأثير في النهاية : كان أكثر من حج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسق الهدي ، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤؤسهم شق عليهم ، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق ففعله أكثرهم ، فرجح النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل من حلق لكونه أبين في امتثال الأمر – انتهى . قال الحافظ : وفيما قاله نظر ، وإن تابعه عليه غير واحد ، لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا ، وقد كان ذلك في حقهم كذلك ، فالأولى ما قاله الخطابي وغيره أن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر

(19/12)


والتزين به وكان الحلق فيهم قليلا وربما كانوا يرونه من الشهرة ، ومن زي الأعاجم ، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير ، قلت : ما حكاه الحافظ عن الخطابي يأبى عنه كلام الخطابي في المعالم (ج 2 : ص 418) حيث قال في شرح حديث ابن عمر : قلت : كان أكثر من أحرم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة ليس معهم هدي ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد ساق الهدي ، ومن كان معه هدي فإنه لا يحلق حتى ينحر هديه ، فلما أمر من ليس معه هدي أن يحل وجدوا من ذلك في أنفسهم وأحبوا أن يأذن لهم في المقام على إحرامهم حتى يكملوا الحج ، وكان طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بهم ، فلما لم يكن لهم بد من الإجلال كان التقصير في نفوسهم أحب من الحلق فمالوا إلى التقصير ، فلما رأي ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم أخرهم في الدعاء وقدم عليهم من حلق وبادر إلى الطاعة وقصر بمن تهيبه وحاد عنه ، ثم جمعهم في الدعوة وعمهم بالرحمة – انتهى . وهذا كما ترى هو عين ما قاله ابن الأثير في النهاية ( اللهم ارحم المحلقين حيث عملوا بالأفضل لأن العمل بما بدأ الله تعالى في قوله ? محلقين رؤوسكم ومقصرين ? (48 : 27) أكمل . وقضاء التفث المأمور به في قوله عز وجل ? ثم ليقضوا تفثهم ? (22 : 29)
قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : " اللهم ارحم المحلقين " . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : " والمقصرين " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/13)


يكون به أجمل ، ويكون في ميزان العمل أثقل ، وفيه دليل على الترحم على الحي وعدم اختصاصه بالميت ( قالوا ) أي الصحابة ، قال الحافظ : لم أقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد ( والمقصرين يا رسول الله ) قال الحافظ : الواو معطوفة على شيء محذوف تقديره (( قل : والمقصرين ، أو قل : وارحم المقصرين ) وهو يسمى العطف التلقيني كقوله تعالى ? ومن ذريتي ? بعد قوله ? إني جاعلك للناس إماما ? (2 : 124) قال الآلوسي : ? ومن ذريتي ? عطف على كاف ? جاعلك ? يقال : سأكرمك ، فتقول : وزيدا ، أي وتكرم زيدا ، تريد تلقينه بذلك ، قال ? ومن ذريتي ? في معني بعض ذريتي ، فكأنه قال : (( وجاعل بعض ذريتي )) وهو من قبيل عطف التلقين فيكون خبرا في معني الطلب ، وكأن أصله واجعل بعض ذريتي ، لكنه عدل إلى المنزل لما فيه من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم كأنه مستحق مثل المعطوف عليه وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم ، والعدول من صيغة الأمر للمبالغة في الثبوت ومراعاة الأدب في التفادي عن صورة الأمر ، وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر ، قلت : ومن هذا القبيل قوله تعالى ? قال ومن كفر ? بعد قوله ? وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ? (2 : 126) فإنه يصح التقدير : وارزق من كفر بصيغة الأمر ، فالطلب بمعني الخبر على عكس ? ومن ذريتي ? وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف ، أو التقدير وأرزق من كفر ، بصيغة المتكلم ، وقال الآلوسي : ولك أن تجعل العطف على محذوف أي ارزق من آمن ومن كفر ( قال : اللهم ارحم المحلقين ) تنبيها على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكتف على المحلقين أولا لعدم الالتفات إلى المقصرين بل دعي لهم قصدا وكرر الدعاء لهم خاصة لإظهار فضيلة التحليق ( قالوا : والمقصرين يا رسول الله ) تأكيد لاستدعاء الرحمة للمقصرين . قال القاري : هل هو قول

(19/14)


المحلقين أو المقصرين أو قولهما جميعا ؟ احتمالات ثلاث ، أظهرها بعض الكل من النوعين ( قال : والمقصرين ) قال الحافظ : فيه إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه ولو تخلل بينهما السكوت بلا عذر ثم هو هكذا في معظم الروايات عن مالك الدعاء للمحلقين مرتين ، وعطف المقصرين عليهم في المرة الثالثة ، وانفرد يحيى بن بكير دون رواة الموطأ بإعادة ذلك ثلاث مرات ، نبه عليه ابن عبد البر في التقصي وأغفله في التمهيد ، بل قال فيه : إنهم لم يختلفوا على مالك في ذلك ، وقد راجعت أهل سماعي من موطأ يحيى بن بكير فوجدته كما قال في التقصي . وفي رواية الليث عن نافع عند مسلم وعلقها البخاري (( رحم الله المحلقين مرة أو مرتين ، قالوا : والمقصرين ، قال (( والمقصرين )) والشك فيه من الليث وإلا فأكثرهم موافق لما رواه مالك ، ولمسلم أيضا وعلقه البخاري من رواية عبيد الله – بالتصغير – العمري عن نافع ، قال في الرابعة (( والمقصرين )) ولمسلم من
..............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/15)


وجه آخر عن عبيد الله بلفظ مالك سواء ، قال الحافظ : وبيان كونها في الرابعة أن قوله والمقصرين معطوف على مقدر ، تقديره (( يرحم الله المحلقين )) وإنما قال ذلك بعد أن دعا للمحلقين ثلاثا صريحا فيكون دعاؤه للمقصرين في الرابعة ، وقد رواه أبو عوانة في مستخرجه من طريق الثوري عن عبيد الله بلفظ (( قال في الثالثة : والمقصرين )) والجمع بينهما واضح بأن من قال (( في الرابعة )) فعلى ما شرحناه ، ومن قال (( في الثالثة )) أراد أن قوله ? والمقصرين ? معطوف على الدعوة الثالثة أو أراد بالثالثة مسألة السائلين في ذلك ، وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يراجع بعد ثلاث كما ثبت ، ولو لم يدع لهم بعد ثالث مسألة ما سألوه في ذلك ، وأخرجه أحمد (ج 2 : ص 34) من طريق أيوب عن نافع بلفظ (( اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : وللمقصرين حتى قالها ثلاثا أو أربعا ، ثم قال : والمقصرين )) ورواية من حزم مقدمة على من شك – انتهى . وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : والمقصرين . قال : اللهم اغفر للمحلقين . قالوا : والمقصرين ، قالها ثلاثا . قال : وللمقصرين . قال الحافظ : قوله (( قالها ثلاثا )) أي قوله : اللهم اغفر للمحلقين ، وهذه الرواية شاهدة لأن عبيد الله العمري حفظ الزيادة – انتهى . واستدل بقوله (( المحلقين )) على مشروعية حلق جميع الرأس لأنه الذي تقتضيه الصيغة ( إذ لا يقال لمن حلق بعض رأسه أنه حلقه إلا مجازا ) وقال بوجوب حلق جميعه مالك وأحمد ، واستحبه الكوفيون والشافعي ويجزئ البعض عندهم ، واختلفوا فيه فعن الحنفية الربع إلا أبا يوسف فقال : النصف . وقال الشافعي : أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات ، وفي وجه لبعض أصحابه شعرة واحدة ، والتقصير كالحلق فالأفضل أن يقصر من جميع شعر رأسه ، ويستحب أن لا ينقص عن قدر الأنملة ، وإن اقتصر على دونها أجزأ . هذا للشافعية ، وهو

(19/16)


مرتب عند غيرهم على الحلق ، وهذا كله في حق الرجال ، كذا في الفتح . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 393) : يلزم التقصير أو الحلق من جميع شعره ، كذلك المرأة ، نص عليه أحمد ، وبه قال مالك ، وعن أحمد يجزئه البعض مبنيا على المسح في الطهارة ، وكذلك قال ابن حامد ، وقال الشافعي : يجزئه التقصير من ثلاث شعرات ، واختار ابن المنذر أنه يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير لتناول اللفظ له ، ولنا قول الله تعالى : ? محلقين رؤوسكم ? وهذا عام في جميعه ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق جميع رأسه تفسيرا لمطلق الأمر به فيجب الرجوع إليه ، ولأنه نسك تعلق بالرأس فوجب استيعابه به كالمسح – انتهى . واختار ابن الهمام قول مالك في وجوب استيعاب الرأس بالحلق والتقصير ، وقال بعد بسط الكلام فيه : فكان مقتضى الدليل في الحلق وجوب الاستيعاب كما هو قول مالك ، وهو الذي أدين الله به . قال : وقياسه على المسح قياس مع الفارق . وقال الشنقيطي بعد ذكر مذاهب الأئمة في ذلك : أظهر الأقوال عندي أنه يلزم حلق جميع الرأس أو تقصير جميعه ، ولا يلزم تتبع كل شعرة في التقصير ، لأن فيه مشقة كبيرة ، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة ، وأنه لا يكفي الربع ولا ثلاث شعرات خلافا للحنفية والشافعية ،
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/17)


لأن الله تعالى يقول : ? محلقين رؤوسكم ? ولم يقل : بعض رؤوسكم ? ومقصرين ? أي رؤوسكم لدلالة ما ذكر قبله عليه ، وظاهره حلق الجميع أو تقصيره ، ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دع ما يريبك إلا ما لا يريبك " . فمن حلق الجميع أو قصره ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ، ومن اقتصر على ثلاث شعرات أو على ربع الرأس لم يدع ما يريبه ، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة على الاكتفاء بواحد منهما ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حلق في حجة الوداع حلق جميع رأسه وأعطى شعر رأسه لأبي طلحة ليفرقه على الناس ، وفعله في الحلق بيان للنصوص الدالة على الحلق كقوله : ? محلقين رؤوسكم ? الآية ، وقوله : ? ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ? (2 : 196) وقد قدمنا أن فعله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بيانا لنص مجمل يقتضي وجوب حكم أن ذلك الفعل المبين لذلك النص المجمل واجب ، ولا خلاف في ذلك بين من يعتد به من أهل الأصول – انتهى . قال الحافظ : وفي الحديث من الفوائد أن التقصير يجزئ عن الحلق وهو مجمع عليه إلا ما روي عن الحسن البصري أن الحلق يتعين في أول حجة . حكاه ابن المنذر بصيغة التمريض ، وقد ثبت عن الحسن خلافه . قال ابن أبي شبيبة : حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن في الذي لم يحج قط ، فإن شاء حلق وإن شاء قصر ، نعم روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال : إذا حج الرجل أول حجة حلق ، فإن حج أخرى فإن شاء حلق وإن شاء قصر ، ثم روي عنه أنه قال : كانوا يحبون أن يحلقوا في أول حجة وأول عمرة – انتهى . وهذا يدل على أن ذلك للاستحباب لا المزوم . نعم عند المالكية والحنابلة أن محل تعيين الحلق والتقصير أن لا يكون المحرم لبد شعره أو ضفره أو عقصه ، وهو قول الثوري والشافعي في القديم والجمهور ، وقال في الجديد وفاقا للحنفية : لا يتعين إلا إن نذره أو

(19/18)


كان شعره خفيفا لا يمكن تقصيره أو لم يكن له شعر فيمر الموسى على رأسه ، وأغرب الخطابي فاستدل بهذا الحديث لتعين الحلق لمن لبد ، ولا حجة فيه – انتهى . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 434) : وهو أي المحرم مخير بين الحلق والتقصير أيهما فعل أجزأه في قول أكثر أهل العلم . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ ، يعني في حق من لم يوجد منه معنى يقتضي وجوب الحلق عليه ، إلا أنه يروي عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة حجها ولا يصح هذا ، لأن الله تعالى قال ? محلقين رؤوسكم ومقصرين ? (48 : 27) ولم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال : رحم الله المحلقين والمقصرين . وقد كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من قصر فلم يعب عليه ، ولو لم يكن مجزيا لأنكر عليه ، واختلف أهل العلم فيمن لبد أو عقص أو ضفر ، فقال أحمد : من فعل ذلك فليحلق وهو قول النخعي ومالك والشافعي وإسحاق ، وكان ابن عباس يقول : من لبد أو ضفر أو عقد أو فتل أو عقص فهو على ما نوى ، يعني إن نوى الحلق فليحلق وإلا فلا يلزمه ، وقال أصحاب الرأي : هو مخير على كل حال لأن ما ذكرناه يقتضي التخيير على العموم ، ولم يثبت في خلاف ذلك دليل ، واحتج من نصر القول الأول بأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من لبد
متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/19)


فليحلق ، وثبت عن عمر وابنه أنهما أمرا من لبد رأسه أن يحلقه ، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبد رأسه وأنه حلقه ، والصحيح أنه مخير إلا أن يثبت الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول عمر وابنه قد خالفهما فيه ابن عباس ، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له لا يدل على وجوبه بعد ما بين لهم جواز الأمرين – انتهى . وقال النووي في مناسكه : إذا فرغ من النحر حلق رأسه أو قصر وأيهما فعل أجزأ ، والحلق أفضل . هذا في من لم ينذر الحلق ، أما من نذر الحلق في وقته فيلزمه حلق الجميع ، ولا يجزئه التقصير ، ولو لبد رأسه عند الإحرام لم يكن ملتزما للحلق على المذهب الصحيح ، وللشافعي قول قديم أن التلبيد كنذر الحلق – انتهى . وقال الدردير : والتقصير مجزئ لمن له الحلق أفضل ، قال الدسوقي : أي إن لم يكن لبد شعره وإلا تعين الحلق ، ونص المدونة : من ضفر أو عقص أو لبد فعليه الحلاق ، ومثله في الموطأ ، وعلله ابن الحاجب تبعا لابن شاس بعدم إمكان التقصير ، ورده في التوضيح بأنه يمكن أن يغسله ثم يقصر ، وإنما علل علماؤنا تعين الحلق في حق هؤلاء بالسنة – انتهى . ومذهب الحنفية أنه لو تعذر الحلق لعارض تعين التقصير أو التقصير لعارض تعين الحلق كأن لبده بصمغ فلا يعمل فيه المقراض ، ومتى نقض تناثر بعض شعره وذلك لا يجوز للمحرم قبل الحلق كذا في العالمكيرية . وقال في الدر المختار : ومتى تعذر أحدهما لعارض تعين الآخر ، فلو لبد بصمغ بحيث تعذر التقصير تعين الحلق ، قال ابن عابدين : مثال لتعذر التقصير ومثله ما لو كان الشعر قصيرا فيتعين الحلق ، وكذا لو كان معقوصا أو مضفورا كما عزى إلى المبسوط ، ووجهه أنه إذا نقضه تناثر بعض الشعر فيكون جناية على إحرامه ، لكن قد يقال : إن هذا التناثر غير جناية لأنه في وقت جواز إزالة الشعر بحلق أو غيره ، ولو نتفا منه أو من غيره ، فبقى ما في المبسوط مشكلا ، تأمل . ومثال تعذر الحلق مع إمكان

(19/20)


التقصير أن يفقد آلة الحلق أو من يحلقه أو يضره الحلق بنحو صداع أو قروح برأسه ، وتقدم مثال تعذرهما جميعا في الأقرع وذي قروح شعره قصير – انتهى . وفي الحديث أيضا أن الحلق أفضل من التقصير ووجهه مع قطع النظر عن سببه الوارد في الحديبية وحجة الوداع أنه أبلغ في العبادة وأبين للخضوع والذلة وأدل على صدق النية ، والذي يقصر يبقى على نفسه شيئا مما يتزين به بخلاف الحالق فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله تعالى ، وأما قول النووي تبعا لغيره في تعليل ذلك بأن المقصر يبقي على نفسه الشعر الذي هو زينة والحاج مأمور بترك الزينة بل هو أشعث أغبر ، ففيه نظر ، لأن الحلق إنما يقع بعد انقضاء زمن الأمر للتقشف فإنه يحل له عقبه كل شيء إلا النساء في الحج خاصة ، وفيه أيضا مشروعية الدعاء لمن فعل ما شرع له وتكرار الدعاء لمن فعل الراجح من الأمرين المخير فيهما ، والتنبيه بالتكرار على الرجحان وطلب الدعاء لمن فعل الجائز وإن كان مرجوحا ، هذا . وقد بسط الكلام في فوائد الحديث ومباحثه الولي العراقي في طرح التثريب (ج 5 : ص 110 إلى ص 118) فارجع إليه إن شئت ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 79) وأبو داود والبيهقي (ج 5 : ص 103) وغيرهم .
2672 – (4) وعن يحيى بن الحصين ، عن جدته ، أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، دعا للمحلقين ثلاثا ، وللمقصرين مرة واحدة . رواه مسلم .
2673 – (5) وعن أنس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى منى ، فأتى الجمرة فرماها ، ثم أتى منزله بمنى ، ونحر نسكه ، ثم دعا بالحلاق ، وناول الحالق شقه الأيمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/21)


2672 – قوله ( وعن يحيى بن الحصين ) بمهملتين مصغرا الأحمسي البجلي الكوفة ثقة ، قال الحافظ : يحيى بن الحصين الأحمسي البجلي عن جدته أم الحصين ولها صحبة ، وعن طارق بن شهاب وعنه أبو إسحاق السبيعي وزيد بن أبي أنيسة وشعبة . قال ابن معين والنسائي : ثقة . وزاد أبو حاتم (( صدوق )) وذكره ابن حبان في الثقات . وقال العجلي (( كوفي ثقة )) ( عن جدته ) أي أم الحصين بنت إسحاق الأحمسية الصحابية لم تسم . قال ابن عبد البر : أم الحصين بنت إسحاق الأحمسية روى عنها ابن ابنها يحيى بن الحصين والعيزار بن حريث شهدت حجة الوداع . قال الحافظ : سمي ابن عبد البر أباها إسحاق ولم أرها لغيره ورواية العيزار بن حريث عنها عند ابن مندة وأحمد (ج 6 : ص 402) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث ، قال : سمعت الأحمسية يعني أم الحصين تقول : رأيت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردا قد التحف به من تحت إبطه – الحديث ( أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ) هذا نص في شهود أم الحصين حجة الوداع وأن الدعاء المذكور كان في حجة الوداع ، وتقدم الكلام في هذا ( مرة واحدة ) هكذا في جميع النسخ وكذا وقع في جامع الأصول (ج 4 : ص 108) وطرح التثريب (ج 5 : ص 111) والذي في صحيح مسلم (( مرة )) أي بدون لفظة (( واحدة )) وهكذا في المصابيح والسنن للبيهقي والقرى (ص 412) للمحب الطبري ، ولفظ أحمد في رواية : أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى دعا للمحلقين ثلاث مرات ، فقيل له (( والمقصرين )) فقال في الثالثة ( أي عقب الثالثة فتكون رابعة لتتفق مع الرواية الآتية ) وفي لفظ له قالت : سمعت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات ( في الطريق الأولى (( بمنى )) فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كرر الدعاء في خطبته بعرفات ثم في خطبته بمنى فسمعته في الموضعين ) يقول : غفر الله للمحلقين ، ثلاث مرار ، قالوا : والمقصرين ،

(19/22)


فقال : والمقصرين ، في الرابعة ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 6 : ص 402 ، 403) والبيهقي (ج 5 : ص 103) .
2673 – قوله ( فأتى الجمرة ) أي جمرة العقبة ( فرماها ثم أتى منزله بمنى ) فيه أنه يستحب إذا قدم منى أن لا يعرج على شيء قبل الرمي ، بل يأتي الجمرة الكبرى جمرة العقبة راكبا كما هو فيرميها ثم يذهب فينزل حيث شاء من منى ( ونحر نسكه ) بسكون السين ويضم جمع نسيكة وهي الذبيحة ، والمراد بدنه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد نحر بيد ثلاثا وستين وأمر عليا أن ينحر بقية المائة ، وفيه استحباب نحر الهدي بمنى ، ويجوز حيث شاء من بقاع الحرم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كل منى منحر ، وكل فجاج مكة منحر ( ثم دعا بالحلاق ) هو معمر بن عبد الله العدوي ( وناول الحالق شقه ) أي جانبه ( الأيمن )
فحلقه ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/23)


أي من الرأس ( فحلقه ) فيه أنه يستحب في حلق الرأس أن يبدأ بالشق الأيمن من رأس المحلوق وإن كان على يسار الحالق وإلى ذلك ذهب الجمهور ، وقال أبو حنيفة يبدأ بجانبه الأيسر لأنه على يمين الحالق ، والحديث يرد عليه ، قال الطيبي : دل الحديث على أن المستحب الابتداء بالأيمن ( من رأس المحلوق ) وذهب بعضهم إلى أن المستحب الأيسر – انتهى . قال القاري : أي ليكون أيمن الحالق ، ونسب إلى أبي حنيفة إلا أنه رجع عن هذا ، وسبب ذلك أنه قاس أولا يمين الفاعل كما هو المتبادر من التيامن ، ولما بلغه أنه عليه الصلاة والسلام اعتبر يمين المفعول رجع عن ذلك القول المبني على المعقول إلى صريح المنقول إذ الحق بالإتباع أحق ، ولو وقف الحالق خلف المحلوق أمكن الجمع بين الأيمنين ( أي اجتمع الابتداء بيمين الحالق والمحلوق وارتفع الخلاف وإذا تعذر الجمع فلا بد من ترجيح ما يدل عليه حديث أنس ) وقال ابن عابدين في رد المحتار (ج 2 : ص 249) تنبيه : قالوا : ( أي الحنفية ) يندب البداءة بيمين الحالق لا المحلوق إلا أن ما في الصحيحين يفيد العكس وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للحلاق : خذ ، وأشار على الجانب الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس ، قال ( أي ابن الهمام ) في الفتح : وهو الصواب وإن كان خلاف المذهب – انتهى . وأقول ( قائله ابن عابدين ) : يوافقه ما في الملتقط عن الإمام ، حلقت رأسي فخطأني الحلاق في ثلاثة أشياء لما أن جلست قال : استقبل القبلة ، وناولته الجانب الأيسر ، فقال : ابدأ بالأيمن ، فلما أردت أن أذهب قال : ادفن شعرك ، فرجعت فدفنته – انتهى ( نهر ) أي فهذا يفيد رجوع الإمام إلى قول الحجام ، ولذا قال في اللباب : هو المختار ، قال شارحه : كما في منسك ابن العجمي ، والبحر ، وقال في النخبة : وهو الصحيح ، وقد روى رجوع الإمام عما نقل عنه الأصحاب فصح تصحيح قوله الأخير ، واندفع ما هو المشهور عنه عند المشائخ من البداءة من يمين

(19/24)


الحالق وأيسر المحلوق ، وقال السروجي : وعند الشافعي يبدأ بيمين المحلوق ، وذكر كذلك بعض أصحابنا ولم يعزه إلى أحد ، والسنة أولى ، وقد صح بداءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشق رأسه الكريم من الجانب الأيمن ، ولا لأحد بعده كلام ، وقد كان يحب التيامن في شأنه كله ، وقد أخذ الإمام بقول الحجام ولم ينكره ، ولو كان مذهبه خلافه لما وافقه – انتهى ملخصا . ومثله في (( المعراج )) و (( غاية البيان )) انتهى كلام ابن عابدين . قلت : قصة أبي حنيفة مع الحجام مشهورة كما قال الحافظ ، وأخرجها أبو الفرج بن الجزري في (( مثير الغرام الساكن )) بإسناده إلى وكيع عنه ، قال وكيع قال لي أبو حنيفة : أخطأت في خمسة أبواب من المناسك فعلمنيها حجام فذكرها ، ثم قال : فقلت : له ( أي الحجام ) من أين لك ما أمرتني به ؟ قال : رأيت عطاء بن أبي رباح يفعل هذا ، وذكر هذه القصة المحب الطبري في (( القرى )) (ص 114) مفصلا ، والحافظ في (( التلخيص )) مختصرا ، ولا اضطراب فيها أصلا ، وهي تدل على أن أبا حنيفة رجع عن قوله الأول بتعليم الحجام وتدل على عظم شأنه حيث ترك قياسه ورأيه وقبل الحق عمن هو دونه ، وتدل أيضا على أنه لم يبلغه حديث الابتداء في حلق الرأس بيمين المحلوق وإلا لما خالفه ، وهو نص في مورد النزاع قاطع
ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه ، ثم ناول الشق الأيسر . فقال " احلق " . فحلقه فأعطاه أبا طلحة ، فقال : " اقسمه بين الناس " .

(19/25)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للخلاف اتفقت روايته عند مخرجيه على التصريح بالبداءة بشق الرأس الأيمن ، وفيه بيان أن التيامن المحجوب المطلوب في حلق الرأس وهو ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله وعمله لا ما فهمه أبو حنيفة أو لا ، ولذلك اضطر ابن الهمام والسروجي والإتقاني وابن نجيم والعيني وغيرهم من الحنفية إلى تصحيح قول أبي حنيفة الأخير وتصويبه واختياره ( ثم دعا أبا طلحة الأنصاري ) زوج أم سليم والدة أنس راوي هذا الحديث واسم أبي طلحة زيد بن سهل الجاري ، تقدم ترجمته (ج 1 : ص 406) قال القاري : وكان له عليه الصلاة والسلام بأبي طلحة وأهله مزيد خصوصية ومحبة ليست لغيرهم من الأنصار وكثير من المهاجرين الأبرار رضي الله عنهم ( فأعطاه ) أي أبا طلحة ( إياه ) أي الشعر المحلوق ( ثم ناول ) وفي مسلم (( ثم ناوله )) أي الحالق ( الشق الأيسر ) من الرأس ( فأعطاه أبا طلحة فقال : اقسمه بين الناس ) الحديث ظاهر بل نص في أن شعر شقيه - صلى الله عليه وسلم - أعطاه أبا طلحة وفي أنه أمر بقسم شعر الشق الأيسر بين الناس ويدل عليه أيضا رواية أبي عوانة في صحيحه بلفظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الحلاق فحلق رأسه ودفع إلى أبي طلحة الشق الأيمن ثم حلق الشق الآخر فأمره أن يقسمه بين الناس ، وفي رواية لمسلم أنه قسم الأيمن بين من يليه وأعطى الأيسر أم سليم ، وفي لفظ له (( فوزعه ( أي الأيمن ) الشعرة والشعرتين بين الناس ودفع الأيسر إلى أبي طلحة )) . قال الحافظ : ولا تناقض في هذه الروايات بل طريق الجمع بينها أنه ناول أبا طلحة كلا من الشقين ، فأما الأيمن فوزعه أبو طلحة بأمره ، وأما الأيسر فأعطاه لأم سليم زوجته بأمره - صلى الله عليه وسلم - أيضا ، زاد أحمد في رواية له لتجعلها في طيبها ، وعلى هذا فالضمير في قوله يقسمه في رواية أبي عوانة يعود على الشق الأيمن وكذا قوله في رواية الباب فقال :

(19/26)


اقسمه بين الناس – انتهى . وقال المحب الطبري : والصحيح أن الذي وزعه على الناس - صلى الله عليه وسلم - الشق الأيمن على ما تضمنه حديث توزيع الشعرة والشعرتين بين الناس ، وأعطى الأيسر أبا طلحة أو أم سليم على ما تضمنه أيضا ولا تضاد بين الروايتين ، لأن أم سليم امرأة أبي طلحة فأعطاه - صلى الله عليه وسلم - لهما ، فنسبت العطية تارة إليه وتارة إليها – انتهى . قال النووي : في الحديث فوائد منها بيان السنة في أعمال الحج يوم النحر بعد الدفع من مزدلفة ووصوله منى وهي أربعة : رمي جمرة العقبة أولا ، ثم نحر الهدي أو ذبحه ، ثم الحلق أو التقصير ، ثم دخوله مكة وطواف الإفاضة ، وكلها ذكرت في هذا الحديث إلا طواف الإفاضة . والسنة في هذه الأعمال الأربعة أن تكون مرتبة كما ذكرنا لهذا الحديث الصحيح ، فإن خالف ترتيبها فقدم مؤخرا أو أخر مقدما جاز لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( افعل ولا حرج )) وسيأتي الكلام على هذا في الباب الآتي ، ومنها طهارة شعر الآدمي وهو الصحيح من مذهبنا ، وبه قال جماهير العلماء ، ومنها التبرك بشعره - صلى الله عليه وسلم - وجواز اقتنائه للتبرك ، ومنها مواساة الإمام والكبير بين أصحابه وأتباعه فيما يفرقه عليهم
متفق عليه .
2674 - (6) وعن عائشة ، قالت : كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحرم ، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت ،

(19/27)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من عطاء وهدية قال الحافظ : وفيه أن المواساة لا تستلزم المساواة ، وفيه تنفيل من يتولى التفرقة على غيره ، قال العيني : وفيه أن حلق الرأس سنة أو مستحبة إقتداء بفعله - صلى الله عليه وسلم - . قال الزرقاني : وإنما قسم شعره في أصحابه ليكون بركة باقية بينهم وتذكرة لهم ، وكأنه أشار بذلك إلى اقتراب الأجل ، وخص أبا طلحة بالقسمة التفاتا إلى هذا المعنى ، لأنه هو الذي حفر قبره ولحد له وبنى فيه اللبن – انتهى . ( متفق عليه ) أي على أصل الحديث ، فإن البخاري رواه في (( باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان )) من كتاب الطهارة مختصرا جدا بلفظ (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره )) قال العيني : لم يخرجه أحد من الستة غيره بهذه العبارة . وقال المزي في الأطراف (ج 1 : ص 373) بعد ذكره : هو مختصر من حديث قد تقدم (ج 1 : ص 371) يريد بذلك حديث الباب ، وقد أخرجه مسلم في الحج مطولا بألفاظ مختلفة متقاربة المعنى والسياق المذكور في الكتاب مأخوذ من روايتين لمسلم فقوله (( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى )) وقع عنده في رواية يحيى بن يحيى عن حفص بن غياث عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أنس ، وقوله (( ونحر نسكه وناول الحالق شقه الأيمن )) إلخ . وقع في رواية ابن أبي عمر عن ابن عيينة عن هشام عن ابن سيرين ، وقوله (( ثم دعا بالحلاق )) ليس عند مسلم بل هو عند أبي داود فقط . فالمصنف أخذ صدر الرواية الأولى وترك عجزها ، وترك أول الرواية الثانية وأدخل في الوسط فقرة من رواية أبي داود ولا يخفى ما في هذا الصنيع من الخلل . والحديث أخرجه أحمد والترمذي والنسائي في الكبرى وأبو داود وابن الجارود (ص 173) والبيهقي (ج 5 : ص 103 ، 134) قال المزي في الأطراف (ج 1 : ص 371) : حديث عبيد بن هشام الحلبي

(19/28)


وعمرو بن عثمان الحمصي عن ابن عيينة ( عند أبي داود ) في رواية أبي الحسن بن العبد وأبي بكر بن داسة ولم يذكره أبو القاسم .
2674 – قوله ( كنت أطيب رسول الله قبل أن يحرم ) فيه دليل على جواز استعمال الطيب بل استحباب التطيب قبل الإحرام بما شاء من طيب سواء كان يبقى عينه ولونه أو أثره بعد الإحرام أو لا يبقى ، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والثوري وهو مذهب أكثر الصحابة وجماعة من التابعين ، وقال مالك : يكره التطيب عند إرادة الإحرام إذا يبقى أثر الطيب وريحه أو عينه بعد التلبس بالإحرام ، وإليه ذهب محمد بن الحسن واختاره الطحاوي ( ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت ) أي طواف الإفاضة يعني بعد التحلل الأول وهو بالحلق ، وبه يظهر المناسبة بين الباب وبين هذا
بطيب فيه مسك . متفق عليه .
2675 - (7) وعن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر ، ثم رجع فصلى الظهر بمنى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث ( بطيب ) متعلق بأطيب ( فيه ) أي في أجزائه ( مسك ) في الحديث دليل على حل التطيب بعد رمي الجمرة والحلق قبل طواف الإفاضة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، وكرهه مالك ، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث مستوفى في باب الإحرام والتلبية ، وهو أول أحاديث الباب المذكور فعليك أن تراجعه ( متفق عليه ) واللفظ لمسلم ، رواه عن أحمد بن منيع ويعقوب الدورقي كلاهما عن هشيم عن منصور عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة ، (( قالت : كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - )) إلخ . وليس عند البخاري لفظ المسك .

(19/29)


2675 – قوله ( أفاض يوم النحر ) أي نزل من منى إلى مكة بعد رميه ونحره وحلقه فطاف طواف الفرض أي طواف الزيارة والإفاضة وقت الضحى ( ثم رجع ) أي في ذلك اليوم ( فصلى الظهر بمنى ) فيه تصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الإفاضة نهارا وصلى صلاة الظهر بمنى بعد ما رجع من مكة ، ويوافقه في وقت الطواف حديث جابر الطويل في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويخالفه في الموضع الذي صلى فيه ظهر يوم النحر حيث قال : (( ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر )) ففيه التصريح بأنه أفاض نهارا وهو نهار يوم النحر ، وأنه صلى ظهر يوم النحر بمكة ، وكذلك قالت عائشة أنه طاف يوم النحر وصلى الظهر بمكة ، فاتفق الحديثان في وقت طواف الإفاضة واختلفا في موضع صلاته لظهر ذلك اليوم . ووجه الجمع بينهما أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بمكة كما قال جابر وعائشة ، ثم رجع إلى منى فصلى بأصحابه الظهر مرة أخرى كما صلى بهم صلاة الخوف مرتين مرة بطائفة ومرة بطائفة أخرى في بطن نخل ، فرأى جابر وعائشة صلاته في مكة فأخبر بما رأيا ، وقد صدقا ، ورأى ابن عمر صلاته بهم في منى فأخبر بما رأى وقد صدق ، وبهذا الجمع جزم النووي وغير واحد ، وقد جمع بعضهم بينهما بوجوه أخرى وصار بعضهم إلى الترجيح كما تقدم مفصلا في شرح حديث جابر في قصة حجة الوداع . هذا ، وقد ورد في بعض الرويات ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الإفاضة ليلا . قال البخاري في صحيحه : وقال الزبير عن عائشة وابن عباس : أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيارة إلى الليل ، وقد تقرر أن كل ما علقه البخاري بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علق عنه مع أنه وصله أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من طريق سفيان الثوري عن أبي الزبير به ، وزياراته ليلا في هذا الحديث المروي عن عائشة وابن عباس مخالفة لما تقدم في حديثي جابر وابن عمر وللجمع

(19/30)


بينهما أوجه كما سبق منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الزيارة في النهار يوم النحر كما أخبر به جابر وعائشة وابن عمر ثم بعد ذلك صار يأتي البيت ليلا ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ، وإتيانه البيت في ليالي منى هو مراد عائشة وابن عباس . وقال البخاري في صحيحه بعد أن ذكر هذا الحديث الذي علقه بصيغة الجزم ما نصه : ويذكر عن أبي حسان
رواه مسلم .
( الفصل الثاني )
2676 ، 2677 - (8 ، 9) عن علي ، وعائشة ، قالا : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها .

(19/31)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزور البيت أيام منى – انتهى . قال الحافظ في الفتح : فكأن البخاري عقب هذا بطريق أبي حسان ليجمع بين الأحاديث بذلك ، فيحمل حديث جابر وابن عمر على اليوم الأول ، وحديث ابن عباس هذا على بقية الأيام ، وهذا الجمع مال إليه النووي ، ومنها أن الطواف الذي طافه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلا طواف الوداع فنشأ الغلط من بعض الرواة في تسميته بالزيارة ، ومعلوم أن طواف الوداع كان ليلا ، فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم رقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به )) وسيأتي في باب خطبة يوم النحر وهو واضح في أنه طاف طواف الوداع ليلا ، وإلى هذا الجمع مال ابن القيم ، ولو فرضنا أن أوجه الجمع غير مقنعة فأحاديث جابر وعائشة وابن عمر (( أنه طاف طواف الزيارة نهارا )) أصح مما عارضها فيجيب تقديمها عليه ، وفي الحديث دلالة على أن رميه وحلقه وقع قبل الظهر بالاتفاق وإن اختلف في كونه بمكة أو بمنى ، إذ الترتيب بين الحلق والإفاضة معتبر فظهر المناسبة بين الباب وبين حديث ابن عمر فتدبر ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 34) وأبو داود وابن الجارود (ص 174) والبيهقي (ج 5 : ص 144) وقد عزا بعضهم هذا الحديث إلى الشيخين وهو خطأ ، فإن الحديث من أفراد مسلم لم يخرجه البخاري ، وقد تقدم التنبيه على ذلك في شرح حديث جابر الطويل في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فتذكر .

(19/32)


2676 ، 2677 – قوله ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها ) أي في التحلل من الإحرام أو مطلقا إلا لضرورة فإن حلقها مثلة كحلق اللحية للرجل ، قاله القاري . قلت : الظاهر أن المرأة ممنوعة من حلق الرأس مطلقا إلا لضرورة ولو كان الحلق يجوز لها لأمرت به في الحج لأن الحلق نسك كما تقدم ، قال الحافظ : وهذا أي التخيير بين الحلق والتقصير وكون الحلق أفضل من التقصير إنما هو في حق الرجال ، وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير بالإجماع ، وفيه حديث لابن عباس عند أبي داود يعني الذي يأتي بعد هذا ، ثم ذكر حديث علي ، ثم قال : وقال جمهور الشافعية : لو حلقت أجزأها ويكره . وقال القاضيان أبو الطيب وحسين : لا يجوز – انتهى . وقال ابن قدامة : المشروع للمرأة التقصير دون الحلق لا خلاف في ذلك ، قال ابن المنذر : أجمع على هذا أهل العلم ، وذلك لأن الحلق في حقهن مثلة ، ثم ذكر حديث ابن عباس وحديث علي ، وقال في اللباب وشرحه للقاري : التقصير واجب لهن لكراهة الحلق كراهة تحريم في حقهن إلا لضرورة – انتهى . وقال الباجي : وأما المرأة فقد قال ابن حبيب : ليس على من حج من النساء حلاق وقد نهى عنه النبي
..............................................................................................

(19/33)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ - صلى الله عليه وسلم - المرأة في حج أو عمرة ، وقال : هي مثلة . وهو الذي رواه ابن حبيب وإن لم نعرف له إسنادا صحيحا إلا أنه من قول العلماء ، وهو الصحيح ، لأنه مثلة لأنه حلاق غير معتاد كحلاق الرجل لحيته وشاربه – انتهى . قال الخرقي : والمرأة تقصر من شعرها مقدار الأنملة ، قال ابن قدامة : الأنملة رأس الإصبع من المفصل الأعلى . قال : وكان أحمد يقول : تقصر من كل قرن قدر الأنملة وهو قول ابن عمر والشافعي وإسحاق وأبي ثور ، وقال أبو داود : سمعت أحمد سئل عن المرأة تقصر من كل رأسها ؟ قال : نعم تجمع شعرها إلى مقدم رأسها ثم تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة – انتهى . وقال مالك : في المرأة إذا قصرت تأخذ قدر الأنملة أو فوقه بقليل أو دونه بقليل وليست كالرجل في أنه يجزه جزا كذا في طرح التثريب للولي العراقي . وقال الشنقيطي : اعلم أن محل كون الحلق أفضل من التقصير إنما هو بالنسبة إلى الرجال خاصة ، وأما النساء فليس عليهن حق وإنما عليهن التقصير ، والصواب عندنا وجوب تقصير المرأة جميع رأسها ويكفيها قدر الأنملة لأنه يصدق عليه أنه تقصير من غير منافاة لظواهر النصوص ، ولأن شعر المرأة من جمالها وحلقه مثلة ، وتقصيره جدا إلى قرب أصول الشعر نقص في جمالها ، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النساء لا حلق عليهن وإنما عليهن التقصير ، ثم ذكر حديث ابن عباس الآتي برواية أبي داود والبزار والدارقطني ، ثم قال ويعتضد عدم حلق النساء رؤوسهن بخمسة أمور غير ما ذكرنا ، الأول : الإجماع على عدم حلقهن في الحج ولو كان الحلق يجوز لهن لشرع في الحج ، الثاني : أحاديث جاءت بنهي النساء عن الحلق ، الثالث : أنه ليس من عملنا ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ، الرابع : أنه تشبه بالرجال ، وهو حرام ، الخامس : أنه مثلة ، والمثلة لا تجوز ، أما الإجماع فقد قال النووي في شرح النهذب :

(19/34)


قال ابن المنذر : أجمعوا على أن لا حلق على النساء وإنما عليهن التقصير ، ويكره لهن الحلق لأنه بدعة في حقهن ، وفيه مثلة ، واختلفوا في قدر ما تقصره ، فقال ابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور : تقصر من كل قرن مثل الأنملة . وقال قتادة : تقصر الثلث أو الربع ، وقالت حفصة بنت سيرين : إن كانت عجوزا من القواعد أخذت نحو الربع ، وإن كانت شابة فلتقلل ، وقال مالك : تأخذ من جميع قرونها أقل جزء ولا يجوز من بعض القرون – انتهى . وتراه نقل عن ابن المنذر الإجماع على أن النساء لا حلق عليهن في الحج ولو كان الحلق يجوز لهن لأمرن به في الحج ، لأن الحلق نسك على التحقيق كما تقدم إيضاحه ، وأما الأحاديث الواردة في ذلك فقد قال الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 95) : في نهي النساء عن الحلق أحاديث ، منها ما رواه الترمذي في الحج والنسائي في الزينة ، فذكره وهو الذي نحن في شرحه ، ثم قال : حديث آخر أخرجه البزار في مسنده فذكره من رواية عائشة مرفوعا بلفظ حديث علي
مع الكلام عليه ثم قال : حديث آخر رواه البزار في مسنده أيضا فذكره من رواية عثمان باللفظ المتقدم . قال الشنقيطي : وهذه الروايات التي ذكرنا في نهي المرأة عن حلق رأسها عن علي وعثمان وعائشة يعضد بعضها بعضا كما تعتضد بما تقدم ( يعني حديث ابن عباس في أن على النساء التقصير لا الحلق ) وبما
..............................................................................................

(19/35)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سيأتي : وأما كون حلق المرأة رأسها ليس من عمل نساء الصحابة فمن بعدهم فهو أمر معروف لا يكاد يخالف فيه إلا مكابر ، فالقائل بجواز الحلق للمرأة قائل بما ليس من عمل المسلمين المعروف . وفي الحديث الصحيح : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ، فالحديث يشمل عمومه الحلق بالنسبة للمحرمة بلا شك . وإذا لم يبح لها حلقه في حال النسك فغيره من الأحوال أولى ، وأما كون حلق المرأة رأسها تشبها بالرجال فهو واضح ولا شك أن الحالقة رأسها متشبهة بالرجال لأن الحلق من صفاتهم الخاصة بهم دون الإناث عادة ، وقد ورد الحديث الصحيح في لعن المتشبهات من النساء بالرجال ، وأما كون حلق رأس المرأة مثلة فواضح ، لأن شعر رأسها من أحسن أنواع جمالها ، وحلقه تقبيح لها وتشويه لخلقتها كما يدركه الحس السليم وعامة الذين يذكرون محاسن النساء في أشعارهم وكلامهم مطبقون على أن شعر المرأة الأسود من أحسن زينتها لا نزاع في ذلك بينهم في جميع طبقاتهم ، وهو في أشعارهم مستفيض استفاضة يعلمها كل من له أدنى إلمام ، ثم ذكر أمثلة لذلك من شعراء العرب كامرئ القيس والأعشى ميمون بن قيس وعمر بن أبي ربيعة وغيرهم ، ثم قال : هذا كله يدل على أن حلق المرأة شعر رأسها نقص في جمالها وتشويه لها فهو مثلة ، وبه تعلم أن العرف الذي صار جاريا في كثير من البلاد بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة إفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين ونساء العرب قبل الإسلام فهو من جملة الانحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق والسمت وغير ذلك . فإن قيل : جاء من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على حلق المرأة رأسها وتقصيرها إياه ، فما دل على الحلق فهو ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث وهب بن جرير ، ثنا أبي سمعت أبا فزارة يحدث عن يزيد بن الأصم عن ميمونة (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها حلالا وبنى

(19/36)


بها وماتت بسرف فدفناها في الظلة التي بنى بها فيها فنزلنا أنا وابن عباس ، فلما وضعناها في اللحد مال رأسها فأخذت ردائي فوضعته تحت رأسها فأجتذبه ابن عباس فألقاه ، وكانت قد حلقت رأسها في الحج ، فكان رأسها محجما )) فهذا الحديث يدل على أن ميمونة حلقت رأسها ولو كان حراما ما فعلته ، وأما التقصير فما رواه مسلم في صحيحه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاع فسألها عن غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة ، فدعت بإناء قدر صاع ، فاغتسلت وبيننا وبينها ستر ، وأفرغت على رأسها ثلاثا ، قال : وكان أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة . فالجواب عن حديث ميمونة على تقدير صحته أن فيه أن رأسها كان محجما ، وهو يدل على أن الحلق المذكور لضرورة المرض لتتمكن آلة الحجم من الرأس ، والضرورة يباح لها ما لا يباح بدونها ، وقد قال تعالى : ? وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ? (6 : 119) انتهى . وقيل إن ميمونة إنما حلقت رأسها في الحج عند التحلل من الإحرام ولعل ذلك أن نهي النساء عن الحلق يكون عندها نهي إرشاد لا نهي حكم فحلقت رأسها اختيار منها لترك الزينة . قال الشنقيطي : وأما الجواب عن حديث مسلم فعلى القول بأن الوفرة أطول من اللمة التي هي ما ألم بالمنكبين من الشعر
...............................................................................................

(19/37)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فلا إشكال ، لأن ما نزل عن المنكبين طويل طولا يحصل به المقصود . قال النووي في شرح مسلم : والوفرة أشبع وأكثر من اللمة ، واللمة ما يلم بالمنكبين من الشعر ، قاله الأصعمي – انتهى كلام النووي . وأما على القول الصحيح المعروف عند أهل اللغة من أنها لا تجاوز الأذنين . قال في القاموس : والوفرة الشعر المجتمع على الرأس ، وأما ما سال على الأذنين منه ، أو ما جاوز شحمة الأذن ، ثم الجمة ثم اللمة ، وقال الجوهري في صحاحه : والوفرة الشعر إلى شحمة الأذن ثم الجملة ثم اللمة ، وهي التي ألمت بالمنكبين – انتهى . فالجواب أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصرن رؤسهن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لأنهن كن يتجملن له في حياته ، ومن أجمل زينتهن شعرهن ، أما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فلهن حكم خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة واحدة من نساء جميع أهل الأرض ، وهو انقطاع أملهن انقطاعا كليا من التزويج ويأسهن منه اليأس الذي لا يمكن أن يخالطه طمع فهن كالمعتدات المحبوسات بسببه إلى الموت . قال تعالى ? وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ? واليأس من الرجال بالكلية قد يكون سببا للترخيص في الإخلال بأشياء من الزينة لا تحل لغير ذلك السبب . وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على هذا الحديث : قال عياض : المعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون والذوائب ، ولعل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلن هذا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لتركهن التزين واستغنائهن عن تطويل الشعر وتخفيفا لمؤنة رؤسهن ، وهذا الذي ذكره القاضي عياض من كونهن فعلنه بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لا في حياته ، كذا قاله أيضا غيره ( كالمازري والقرطبي والأبي ) وهو متعين ، ولا يظن بهن فعله في حياته - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه

(19/38)


دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء – انتهى كلام النووي . قال الشنقيطي : وقوله (( فيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء )) فيه عندي نظر لما قدمنا من أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته لا يقاس عليهن غيرهن ، لأن قطع طمعهن في الرجال بالكلية خاصة بهن دون غيرهن ، وقد يباح له من الإخلال ببعض الزينة ما لا يباح لغيره حتى إن العجوز من غيرهن لتتزين للخطاب ، وربما تزوجت لأن كل ساقطة لها لاقطة ، وقد يحب بعضهم العجوز كما قال القائل :
-
-
أبي القلب إلا أم عمرو وحبها _ -
-
عجوزا ومن يحبب عجوزا يفند ( -
- -
- -
كثوب اليماني قد تقادم عهده _ -
-
ورقعته ما شئت في العين واليد ( -
-
وقال الآخر :
-
-
ولو أصبحت ليلى تدب على العصا _ -
-
لكان هوى ليلى جديدا أوائله ( -
-
انتهى كلام الشنقيطي ببعض الاختصار . وقيل أيضا في الجواب عن هذا الحديث أن المراد أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يقصرن شعورهن المسترسلة ويعقدنها على القفا أو على الرأس من غير أن يتخذنها قرونا وضفائر فتكون كالوفرة في عدم مجاوزتها الأذنين كما يفعله كثير من العجائز والأيامى في عصرنا بل عامة النساء في حالة الاغتسال بعد غسل الرأس ،
رواه الترمذي .

(19/39)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن الشعور الطويلة لو استرسلت على حالها فإيصال الماء إلى البدن المستور تحت الشعور المسترسلة لا يخلو عن كلفة ومشقة ( رواه الترمذي ) حديث علي رواه الترمذي في باب كراهية الحلق للنساء من كتاب الحج ، والنسائي في باب النهي عن حلق المرأة رأسها من كتاب الزينة ، قالا حدثنا محمد بن موسى الحرشي عن أبي داود الطيالسي عن همام عن قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها . ثم رواه الترمذي عن محمد بن بشار عن أبي داود الطيالسي عن همام عن خلاس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه مرسلا أي لم يذكر فيه عن علي . وقال : حديث علي فيه اضطراب ، وروي هذا الحديث عن حماد بن سلمة عن قتادة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق المرأة رأسها – انتهى . وحكى الزيعلي (ج 3 : ص 95) كلام الترمذي هذا بلفظ : قال الترمذي : هذا حديث فيه اضطراب ، وقد روي عن حماد بن سلمة عن قتادة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا – انتهى . وإنما قال : مرسلا أي منقطعا لما حكى الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة قتادة (ج 8 : ص 355) عن الحاكم أنه قال في (( علوم الحديث )) لم يسمع قتادة من صحابي غير أنس . قال : وقد ذكر ابن أبي حاتم عن أحمد بن حنبل مثل ذلك ، وقال أبو حاتم : قتادة عن أبي الأحوص مرسل ، وأرسل عن أبي موسى وعائشة وأبي هريرة ومعقل بن يسار – انتهى . ثم قال الزيعلي : وقال عبد الحق في أحكامه : هذا حديث يرويه همام بن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي ، وخالفه هشام الدستوائي وحماد بن سلمة فروياه عن قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا انتهى . قال الحافظ في الدراية : رواته موثوقون إلا أنه اختلف في وصله – انتهى . وحاصل ما وقع في هذا الحديث من الاضطراب أنه اختلف أصحاب قتادة عليه فروى همام عنه عن

(19/40)


خلاس عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي جعله من مسند علي ، وخالفه حماد بن سلمة فروى عن قتادة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعله من مسند عائشة وخالفهما هشام الدستوائي فرواه عن قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا ، وكذا روي عن حماد بن سلمة عن قتادة مرسلا أيضا ، واختلف أيضا على همام فروى محمد بن موسى عن الطيالسي عن همام عن قتادة عن خلاس عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وروى محمد بن بشار عن الطيالسي عن همام عن خلاس نحوه مرسلا ولم يذكر فيه عن علي . قلت : خلاس بن عمرو ثقة من رجال الستة غير أنه قال أبو داود ويحيى بن سعيد : لم يسمع خلاس من علي . وقال أحمد بن حنبل : روايته عن علي كتاب ، وكذا قال يحيى بن سعيد وأبو حاتم والبخاري في تاريخه ولكن قال الجوزجاني والعقيلي : كان خلاس على شرطة علي ، وقد سمع من عمار وعائشة وابن عباس كما في تهذيب التهذيب ، وإذا فسماعه عن علي ليس ببعيد ، ومحمد بن موسى الحرشي عن الطيالسي عن همام سلسلة الرواة الثقات ، فالرواية المسندة بذكر علي مقبولة معتبرة لا يضرها رواية من رواها مرسلة ، وللحديث طريق آخر عند البزار يعتضد به . قال الزيلعي : حديث آخر أخرجه البزار في مسنده عن معلى بن عبد الرحمن الواسطي ثنا عبد الحميد بن جعفر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق المرأة رأسها . قال البزار : ومعلى بن
2678 – (10) وعن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على النساء الحلق ، إنما على النساء التقصير " . رواه أبو داود ، والدارمي .

(19/41)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عبد الرحمن الواسطي روى عن عبد الحميد بأحاديث لم يتابع عليها ، ولا نعلم أحدا تابعه على هذا الحديث – انتهى . ورواه ابن عدي في الكامل وقال : أرجو أنه لا بأس به . قال عبد الحق : وضعفه أبو حاتم وقال : إنه متروك الحديث – انتهى . وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء : يروى عن عبد الحميد بن جعفر المقلوبات ، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد – انتهى . وفي الباب أيضا عن عثمان ، قال الزيلعي : رواه البزار في مسنده من طريق روح بن عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن وهب بن عمير قال سمعت عثمان يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها . قال البزار : ووهب بن عمير لا نعلمه روى غير هذا الحديث ، ولا نعلم حدث عنه إلا عطاء بن أبي ميمونة ، وروح ليس بالقوي -انتهى . وقال الهيثمي بعد عزوه إلى البزار (ج 3 : ص 263) : وفيه روح بن عطاء وهو ضعيف – انتهى . والحديثان وإن كانا ضعيفين لكنهما يصلحان للاستشهاد .

(19/42)


2678 – قوله ( ليس على النساء الحلق ) أي لا يجب عليهن الحلق في التحلل ( إنما على النساء التقصير ) أي إنما الواجب عليهن التقصير بخلاف الرجال ، فإنه يجب عليهم أحدهما والحلق أفضل ، قاله القاري . وفيه دليل على أن المشروع في حق النساء التقصير ، وقد حكى الحافظ وغيره الإجماع على ذلك كما تقدم ( رواه أبو داود ) قال : حدثنا محمد بن الحسن العتكي ثنا محمد بن بكر ثنا ابن جريج قال : بلغني عن صفية بنت شيبة بن عثمان قالت أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إلخ . ثم قال أبو داود : حدثنا أبو يعقوب البغدادي ثقة ، ثنا هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن صفية بنت شيبة قالت : أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال ، إلخ ( والدارمي ) قال : أخبرنا علي بن عبد الله المديني ثنا هشام بن يوسف ثنا ابن جريج أخبرني عبد الحميد بن جبير عن صفية ، إلخ . والحديث قد سكت عنه أبو داود والمنذري ، وقال النووي في شرح المهذب : رواه أبو داود بإسناد حسن . وقال الحافظ في التلخيص : حديث (( ليس على النساء حلق وإنما يقصرن )) رواه أبو داود والدارقطني والطبراني من حديث ابن عباس وإسناده حسن ، وقواه أبو حاتم في العلل والبخاري في التاريخ ، وأعله ابن القطان ، ورد عليه ابن المواق فأصاب – انتهى . قلت : قال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر هذا الحديث من رواية أبي داود : قال ابن القطان في كتابه : هذا ضعيف ومنقطع ، أما الأول فانقطاعه من جهة ابن جريج قال : بلغني عن صفية فلم يعلم من حدثه به ، وأما الثاني فقول أبي داود : حدثنا رجل ثقة يكنى أبا يعقوب وهذا غير كاف ، وإن قيل : إنه أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه ، وأما ضعفه فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها – انتهى ما في

(19/43)


...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نصب الراية . قلت : حديث ابن عباس أقل درجاته الحسن ، فقول النووي إنه حديث رواه أبو داود بإسناد حسن ، وكذا قول من وافقه في تحسين إسناد الحديث وتقويته أصوب مما نقله الزيلعي عن ابن القطان وسكت عليه ، فقول ابن جريج في رواية أبي داود (( بلغني عن صفية بنت شيبة )) تفسره الرواية التي بين فيها ابن جريج أن من بلغه عن صفية المذكورة هو عبد الحميد بن جبير بن شيبة وهو ثقة معروف وقد صرح في رواية الدارمي والدارقطني والبيهقي بما يدل على سماعه عن عبد الحميد بن جبير ، وأما قول ابن القطان : أن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها ، ففيه قصور ظاهر جدا ، لأن أم عثمان المذكورة من الصحابيات المبايعات ، قد روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس كما في الاستيعاب والإصابة وأسد الغابة ، فدعوى أنها لا يعرف حالها ظاهرة السقوط ، وأما قول ابن القطان : أن توثيق أبي داود لأبي يعقوب غير كاف وأن أبا يعقوب المذكور إن قيل إنه إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه ، فجوابه أن أبا يعقوب المذكور هو إسحاق بن أبي إسرائيل ، واسم أبي إسرائيل ، إبراهيم بن كامجرا المروزي نزيل بغداد ، وقد وثقه أبو داود ، وأثنى عليه غير واحد من أجلاء العلماء بالرجال ، وقال فيه الذهبي في الميزان (ج 1 : ص 85) : حافظ شهير ، قال : ووثقه يحيى بن معين والدارقطني ، وقال صالح جزرة : صدوق إلا أنه كان يقف في القرآن ولا يقول غير مخلوق ، بل يقول (( كلام الله )) ويسكت . وقال فيه الحافظ في تهذيب التهذيب (ج 1 : ص 223) : قال ابن معين : ثقة ، وقال أيضا : من ثقات المسلمين ما كتب حديثا قط عن أحد من الناس إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه ، وقال أيضا : ثقة مأمون أثبت من القواريري

(19/44)


وأكيس ، والقواريري ثقة صدوق ، وليس هو مثل إسحاق ، وذكر غير هذا من ثناء ابن معين عليه وتفضيله على بعض الثقات المعروفين ، ثم قال : وقال الدارقطني : ثقة ، وقال البغوي : كان ثقة مأمونا إلا أنه كان قليل العقل ، وثناء أئمة الرجال عليه في الحفظ والعدالة كثير مشهور ، وإنما نقموا عليه أنه كان يقول : القرآن كلام الله ويسكت عندها ولا يقول غير مخلوق ، ومن هنا جعلوه واقفيا ، وتكلموا في حديثه ، كما قال فيه صالح جزرة : صدوق في الحديث إلا أنه يقول : القرآن كلام الله ، ويقف . وقال الساجي : تركوه لموضع الوقف وكان صدوقا . وقال أحمد : إسحاق بن إسرائيل واقفي مشئوم إلا أنه صاحب حديث كيس . وقال السراج : سمعته يقول : هؤلاء الصبيان يقولون : كلام الله غير مخلوق ، ألا قالوا : كلام الله وسكتوا ، وقال عثمان بن سعيد الدارمي : سألت يحيى بن معين عنه ، فقال : ثقة . قال عثمان : لم يكن أظهر الوقف حين سألت يحيى عنه ، ويوم كتبنا عنه كان مستورا . وقال عبدوس النيسابوري : كان حافظا جدا ، ولم يكن مثله في الحفظ والورع ، وكان لقي المشائخ فقيل كان يتهم بالوقف ؟ قال : نعم اتهم وليس بمتهم ، وقال مصعب الزبيري : ناظرته فقال : لم أقل على الشك ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي ، والحاصل أنهم متفقون على ثقته وأمانته بالنسبة إلى الحديث إلا أنهم كانوا يتهمونه بالوقف . وقد رأيت قول من نفي عنه التهمة
وهذا الباب خال عن الفصل الثالث .
(9) باب
( الفصل الأول )
2679 – (1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع بمنى للناس

(19/45)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقول من ناظره أنه قال له لم : أقل على الشك ولكني سكت كما سكت القوم قبلي . ومعنى كلامه أنه لا يشك في أن القرآن غير مخلوق ولكنه يقتدي بمن لم يخض في ذلك ، ولما حكى الذهبي في الميزان قول الساجي : إنهم تركوا الأخذ عنه لمكان الوقف ، قال بعده قلت : قل من ترك الأخذ عنه – انتهى . وهو تصريح منه بأن الأكثرين على قبول فحديثه لا يقل عن درجة الحسن ، وروايته عند أبي داود تعتضد بالرواية المذكورة قبلها ، وكذا تعتضد بما رواه الدارقطني عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز إملاء عن إسحاق بن أبي إسرائيل ، وبما روى الدارقطني أيضا عن أبي محمد بن صاعد عن إبراهيم بن يوسف الصيرفي عن أبي بكر بن عياش عن يعقوب بن عطاء عن صفية بنت شيبة ، وبما رواه الدارمي والبيهقي من طريق عبد الله بن على المديني عن هشام بن يوسف . قال الزيلعي بعد ذكره كلام ابن القطان المتقدم ما نصه : وأخرجه الدارقطني في سننه (ص 277) والطبراني في معجمه عن أبي بكر بن عياش عن يعقوب بن عطاء عن صفية بنت شيبة به . وأخرجه الدارقطني والبزار في مسنده عن حجاج بن محمد عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير عن صفية به . وقال البزار : لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه – انتهى . فتبين من جميع ما ذكر أن حديث ابن عباس في أن على النساء المحرمات إذا أردن قضاء التفث التقصير لا الحلق ، أنه لا يقل عن درجة الحسن كما جزم النووي بأن إسناده عند أبي داود حسن ، وقد رأيت اعتضاده بما ذكرنا من الروايات المتابعة له عند الدارمي والبيهقي والطبراني والدارقطني والبزار ( وهذا الباب خال عن الفصل الثالث ) كذا وقع في بعض النسخ ، ولا يحتاج إلى الاعتذار ، ولعله لدفع وهم الإسقاط .
( باب ) قال القاري : بالتنوين والسكون ، وفي نسخة (( باب جواز التقديم والتأخير في بعض أمور الحج )) .

(19/46)


2679 – قوله ( وقف ) أي على ناقته كما في رواية صالح بن كيسان عند البخاري ومعمر عند مسلم وابن الجارود ، ورواية يونس عند مسلم ، ومعمر أيضا عند أحمد والنسائي بلفظ (( وقف على راحلته )) كلهم عن ابن شهاب الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو فرواية يحيى القطان عن مالك عن الزهري (( أنه جلس في حجة الوداع فقام رجل )) محمولة على أنه ركب ناقته وجلس عليها ( بمنى للناس ) أي لأجلهم ولم يعين مكان الوقوف بمنى ولا اليوم ، ووقع في رواية عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزهري عند البخاري في العلم (( عند الجمرة )) وهو أول منى ، وفي رواية ابن جريج عن الزهري عند
...............................................................................................

(19/47)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشيخين وابن الجارود (( يخطب يوم النحر )) وفي رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري عند مسلم وأحمد (( أتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة )) قال عياض : جمع بعضهم بين هذه الروايات بأنه موقف واحد على أن معنى خطب أي علم الناس ، لا أنها من خطب الحج المشروعة ، قال : ويحتمل أن يكون ذلك في موطنين : أحدهما على راحلته عند الجمرة ولم يقل في هذا (( خطب )) وإنما فيه (( وقف وسئل )) والثاني يوم النحر بعد صلاة الظهر ، وذلك وقت الخطبة المشروعة من خطب الحج يعلم الإمام الناس ما بقي عليهم من مناسكهم . قال النووي : هذا الاحتمال الثاني هو الصواب ، قال الحافظ : فإن قيل : لا منافاة بين هذا الذي صوبه وبين الذي قبله فإنه ليس في شيء من طريق الحديثين حديث عبد الله بن عباس ( الآتي بعد ذلك ) وحديث عبد الله بن عمرو بيان الوقت الذي خطب فيه من النهار ، قلت : نعم لم يقع التصريح بذلك لكن في رواية ابن عباس ( عند البخاري ) إن بعض السائلين قال : رميت بعد ما أمسيت ، وهذا يدل على أن هذه القصة كانت بعد الزوال لأن المساء يطلق على ما بعد الزوال وكأن السائل علم أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يقدم ضحى ، فلما أخرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك ، على أن حديث عبد الله بن عمرو من مخرج واحد لا يعرف له طريق إلا طريق الزهري ، عن عيسى عنه ، والاختلاف من أصحاب الزهري ، وغايته أن بعضهم ذكر ما لم يذكر الآخر واجتمع من مرويهم ورواية ابن عباس أن ذلك كان يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة ، وإذا تقرر أن ذلك كان بعد الزوال يوم النحر تعين أنها الخطبة التي شرعت لتعليم بقية المناسك ، فليس قوله (( خطب )) مجازا عن مجرد التعليم بل حقيقة ، ولا يلزم من وقوفه عند الجمرة أن يكون حينئذ رماها ، ففي حديث ابن عمر عند البخاري في آخر باب الخطبة أيام منى : أنه - صلى الله عليه وسلم -

(19/48)


وقف يوم النحر بين الجمرات فذكر خطبته فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض ورجع إلى منى – انتهى . قلت : ولا يشكل عليه ما في حديث عبد الله بن عمرو أنه وقف بمنى للناس يسألونه ، بناء على أن المتبادر منه أن وقوفه كان لتعليم الناس وسؤالهم لا للخطبة فإنه لا منافاة بين الأمرين ، فكان أصل وقوفه للخطبة وكان وقت سؤال أيضا فسأله في ذلك الوقت السائل عما فاته من حجه وعما أدرك وعما قدم وأخر ، وسأله قوم عن المستقبل فعلمهم دينهم وأفتى وأجاب عن مسائلهم ، وذكر ابن حزم في صفة حجة الوداع أن هذه الأسئلة عن التقديم والتأخير كانت بعد عوده إلى منى من إفاضته يوم النحر – انتهى . نعم يشكل على ما قال الحافظ من كون الخطبة يوم النحر بعد الزوال ما وقع في رواية رافع بن عمرو المزني الآتي في الفصل الثاني من باب خطبة يوم النحر بلفظ (( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى )) – الحديث . فإنها تدل على أن هذه الخطبة كانت وقت الضحى من يوم النحر ( يعني قبل طواف الإفاضة ) ومشى على ذلك ابن القيم في الهدي ولم أقف على دليل صريح من الأحاديث في كون هذه الخطبة بعد الظهر بمنى بعد طواف الإفاضة كما ذهب إليه القائلون بمشروعية الخطبة يوم النحر ،
يسألونه ، فجاءه رجل فقال : لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح . فقال : " اذبح ولا حرج " .

(19/49)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويمكن أن يجاب عن ذلك بالحمل على التعدد كما تقدم عن عياض أنه حكاه احتمالا . وقال المحب الطبري بعد ذكر قول ابن حزم المتقدم ، قلت : ويحتمل أن الأسئلة تكررت قبله أي قبل الزوال وبعده وفي الليل ، والله أعلم ( يسألونه ) هو في محل النصب على الحال من الضمير الذي في وقف أو من الناس أي وقف لهم حال كونهم سائلين عنه ، أو هو استئناف بيانا لسبب الوقوف ، ويؤيد الأخير رواية وقف على راحلته فطفق ناس يسألونه )) وفي رواية (( وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه )) ( فجاءه ) عطف على قوله وقف ( رجل ) قال الحافظ : لم أعرف اسم هذا السائل ولا الذي بعده في قوله : فجاء آخر ، والظاهر أن الصحابي لم يسم أحدا لكثرة من سأل إذ ذاك ، وقال في موضع آخر : لم أقف على اسم هذا السائل بعد البحث الشديد ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة وكانوا جماعة ، لكن في حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره (( كان الأعراب يسألونه )) فكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسماءهم – انتهى . ويدل على كون السائلين جماعة متفرقين اختلاف أسألتهم عن التقدم والتأخير كما سيأتي بيانها ( لم أشعر ) بضم العين من باب نصر أي لم أفطن ، يقال شعرت بالشيء شعورا إذا فطنت له ، قيل : وعلى هذا يكون مؤدى الاعتذار النسيان ، قال الباجي : يحتمل أن يريد به نسيت فقدمت الحلاق – انتهى ، وقيل الشعور العلم وعلى هذا المعنى لم أعلم المسألة قبل هذا ، ويؤيده لفظ يونس عند مسلم (( لم أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل أن أرمي ، وقال آخر : لم أشعر أن النحر قبل الحلق فحلقت قبل أن أنحر )) فبين يونس متعلق الشعور أي العلم ولم يفصحه مالك في روايته ، وإلى الاحتمالين معا أشار البخاري في صحيحه إذ ترجم على حديث ابن عباس (( باب إذا رمى بعد ما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسيا أو جاهلا )) قال العيني : فإن قلت : قيد في الترجمة كونه ناسيا أو

(19/50)


جاهلا وليس في الحديث ذلك ، قلت : جاء في حديث عبد الله بن عمرو ذلك وهو قوله : لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح – الحديث . فإن عدم الشعور أعم من أن يكون يجهل أو نسيان ، فكأنه أشار إلى ذلك لأن أصل الحديث واحد وإن كان المخرج متعددا – انتهى . وبالاحتمالين معا فسره القاري حيث قال : لم أشعر أي ما عرفت تقديم بعض المناسك وتأخيرها فيكون جاهلا لقرب وجوب الحج أو فعلت ما ذكرت من غير شعور لكثرة الاشتغال فيكون مخطئا ( فحلقت ) أي شعر رأسي ( قبل أن أذبح ) أي الهدي وفي رواية (( قبل أن أنحر )) والفاء سببية جعل الحلق مسببا عن عدم الشعور كأنه يعتذر لتقصيره ( اذبح ) وفي رواية (( أنحر )) أي الآن ( ولا حرج ) أي لا ضيق عليك ، ثم من قال : بعدم الفدية بمخالفة الترتيب في وظائف يوم النحر حمل نفي الحرج على نفي الإثم والفدية معا ، قال عياض : قوله (( اذبح ولا حرج )) ليس أمرا بالإعادة وإنما هو إباحة لما فعل لأنه سأل عن أمر فرغ منه ، فالمعنى افعل متى شئت ، ونفي الحرج بين في رفع الفدية عن العامد والساهي وفي رفع الإثم عن الساهي ، وأما العامد فالأصل أن تارك السنة عمدا لا يأثم إلا
فجاء آخر ، فقال : لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي . فقال : " ارم ولا حرج " . فما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم ولا أخر إلا قال : " افعل ولا حرج " .

(19/51)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يتهاون فيأثم للتهاون لا للترك – انتهى . ومن ذهب إلى وجوب الدم حمله على نفي الإثم فقط ، قال الباجي : يحتمل أن يريد لا إثم عليك لأن الحرج الإثم ، ومعظم سؤال السائل إنما كان ذلك خوفا من أن يكون قد أثم ، فأعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا حرج ، إذ لم يقصد المخالفة وإنما أتى ذلك عن غير علم ولا قصد مع خفة الأمر – انتهى . وقال السندي الحنفي في حاشية ابن ماجة معناه عند الجمهور أنه لا إثم ولا دم ، ومن أوجب الدم حمله على دفع الإثم وهو بعيد ، إذ الظاهر عموم النفي لحرج الدنيا وحرج الآخرة ، وأيضا لو كان دم لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إذ ترك البيان أو تأخيره عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم - ( فجاء ) رجل ( آخر فقال : لم أشعر ) أي لم أفطن أو لم أعلم أن الرمي قبل النحر ( فنحرت ) الهدي ( قبل أن أرمي ) أي الجمرة ( فقال ارم ) أي الآن ( ولا حرج ) وفي رواية ابن جريج عن الزهري عند البخاري : فقام إليه رجل فقال : كنت أحسب أن كذا قبل كذا ، ثم قام آخر فقال : كنت أحسب أن كذا قبل كذا ، حلقت قبل أن أنحر ، ونحرت قبل أن أرمي ، وأشباه ذلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : افعل ولا حرج ، لهن كلهن ، فما سئل يومئذ عن شيء إلا قال : افعل ولا حرج . وفي رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري عند مسلم كما سيأتي حلقت قبل أن أرمي ، وقال آخر : أفضت إلى البيت قبل أن أرمي ، وفي حديث معمر عند أحمد زيادة الحلق قبل الرمي أيضا ، فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمر والسؤال عن أربعة أشياء ، الحلق قبل الذبح ، والحلق قبل الرمي ، والنحر قبل الرمي ، والإفاضة قبل الرمي ، والأولان في حديث ابن عباس أيضا في الصحيح وللدارقطني من حديثه أيضا السؤال عن الحلق قبل الرمي وكذا في حديث جابر ، وفي حديث أبي سعيد عند الطحاوي ، وفي حديث علي عند أحمد السؤال عن

(19/52)


الإفاضة قبل الحلق ، وفي حديثه عند الطحاوي السؤال عن الرمي والإفاضة معا قبل الحلق ، وفي حديث جابر الذي علقه البخاري ووصله ابن حبان وغيره السؤال عن الإفاضة قبل الذبح ، وفي حديث أسامة بن شريك الآتي في الفصل الثالث السؤال عن السعي قبل الطواف ، وقد تقدم في مسألة اشتراط الطهارة للسعي في شرح حديث عائشة في باب قصة حجة الوداع أن الجمهور القائلين بعدم إجزاء السعي قبل الطواف حملوا حديث أسامة على من سعى بعد طواف القدوم قبل طواف الإفاضة فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف أي طواف الركن ، قيل : ولا إشكال في الحديث على مذهب الحنفية ، فإنهم يحملونه كسائر الأحاديث الواردة في الباب على نفي الحرج بمعني نفي الإثم لعذر الجهل أو النسيان ( فما سئل ) بصيغة المجهول ( النبي - صلى الله عليه وسلم - ) زاد في رواية (( يومئذ )) ( عن شيء قدم ) بصيغة المجهول من التفعيل فيه وفي (( أخر )) أي وحقه التأخير ( ولا أخر ) أي ولا عن شيء أخر وحقه التقديم ( إلا قال ) - صلى الله عليه وسلم - في جوابه ( افعل ) الآن ما بقي وقد أجزأك فيما فعلت ( ولا حرج ) عليك في التقديم والتأخير .
...............................................................................................

(19/53)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفي رواية يونس عند مسلم (( فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلا قال : افعلوا ذلك ولا حرج )) قال الباجي : لا يقتضي هذا رفع الحرج في تقديم شيء ولا تأخيره غير المسألتين المنصوص عليهما ، لأننا لا ندري عن أي شيء غيرهما سئل في ذلك اليوم ، وجوابه إنما كان عن سؤال السائل فلا يدخل فيه غيره كما لا يدخل في قوله (( انحر ولا حرج ، ارم ولا حرج ) غير ذلك مما لم يسئل عنه – انتهى . وكذا قال ابن التين أن هذا الحديث لا يقتضي رفع الحرج في غير المسألتين المنصوص عليهما يعني المذكورتين في رواية مالك لأنه خرج جوابا للسؤال ، ولا يدخل فيه غيره – انتهى . وتعقبه الحافظ فقال : كأنه غفل عن قوله في بقية الحديث (( فما سئل عن شيء قدم ولا أخر )) وكأنه حمل ما أبهم فيه على ما ذكر ، لكن قوله في رواية ابن جريج (( وأشباه ذلك )) يرد عليه ، وقد تقدم فيما حررناه من مجموع الأحاديث عدة صور وبقيت عدة صور لم تذكرها الرواة إما اختصارا وإما لكونها لم تقع ، وبلغت بالتقسيم أربعا وعشرين صورة ، منها صورة الترتيب المتفق عليها وهي رمي جمرة العقبة ثم نحر الهدي أو ذبحه ثم الحلق أو التقصير ثم طواف الإفاضة ، وهي وظائف يوم النحر بالاتفاق ، وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب إلا أن ابن الجهم من المالكية استثني القارن فقال : لا يجوز له الحلق قبل الطواف ، وكأنه لاحظ أنه في عمل العمرة ، والعمرة يتأخر فيها الحلق عن الطواف ، يعني أنه رأى أن القارن عمرته وحجه قد تداخلا ، فالعمرة قائمة في حقه والعمرة لا يجوز الحلق فيها قبل الطواف ، ورد عليه النووي بنصوص الأحاديث والإجماع المتقدم عليه ، ونازعه ابن دقيق العيد في ذلك حيث قال : وكأنه يريد بنصوص الأحاديث ما ثبت عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا في آخر الأمر وقد حلق قبل

(19/54)


الطواف ، وهذا إنما ثبت بأمر استدلالي لا نصي أعني كونه عليه السلام قارنا ، وابن الجهم بنى على مذهب مالك والشافعي ومن قال بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مفردا ، وأما الإجماع فبعيد الثبوت إن أراد به الإجماع النقلي القولي ، وإن أراد السكوتي ففيه نظر ، وقد ينازع فيه أيضا – انتهى . قال الحافظ : واختلف العلماء في جواز تقديم بعضها على بعض فأجمعوا على الإجزاء في ذلك أي في التقديم والتأخير كما قاله ابن قدامة في المغني إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع ، قال القرطبي : روي عن ابن عباس أن من قدم شيئا على شيء فعليه دم . وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي وأصحاب الرأي – انتهى . وفي نسبة ذلك إلى النخعي وأصحاب الرأي نظر فإنهم لا يقولون بذلك إلا في بعض المواضع كما سيأتي ، قال : وذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث إلى الجواز وعدم وجوب الدم لقوله للسائل : " لا حرج " . فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معا ، لأن إثم الضيق يشملهما – انتهى . وقال ابن دقيق العيد (ج 3 : ص 48 ، 49) : إذا ثبت أن الوظائف في يوم النحر أربع فقد اختلفوا فيما لو تقدم بعضها على بعض ، فاختار الشافعي جواز التقديم وجعل الترتيب مستحبا ، ومالك وأبو حنيفة يمنعان تقديم الحلق
..............................................................................................

(19/55)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على الرمي لأنه يكون حينئذ حلقا قبل وجود التحللين ، وللشافعي قول مثله ، وقد بنى القولان له على أن الحلق نسك أو استباحة محظور ، فإن قلنا : إنه نسك جاز تقديمه على الرمي وغيره ، لأنه يكون من أسباب التحلل ، وإن قلنا إنه استباحة محظور لم يجز لما ذكرناه من وقوع الحلق قبل التحللين . قال : وفي هذا البناء نظر ، لأنه لا يلزم من كون الشيء نسكا أن يكون من أسباب التحلل ، وهذا مالك يرى أن الحلق نسك ويرى مع ذلك أنه لا يقدم على الرمي ، إذ معنى كون الشيء نسكا أنه مطلوب مثاب عليه ، ولا يلزم من ذلك أن يكون سببا للتحلل – انتهى . وقال الأوزاعي : إن أفاض قبل الرمي اهراق دما . وقال عياض : اختلف عن مالك في تقديم الطواف على الرمي ، روى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يجب عليه إعادة الطواف ، فإن توجه إلى بلده بلا إعادة وجب عليه دم ، قال ابن بطال : هذا يخالف حديث ابن عباس ، وكأنه لم يبلغه . قال الحافظ : وكذا هو في رواية ابن أبي حفصة عن الزهري في حديث عبد الله بن عمرو ، وكأن مالكا لم يحفظ ذلك عن الزهري – انتهى . وقال الأبي : أما الإفاضة فاختلف قول مالك إذا قدمها قبل الرمي فقيل : يجزئه ويهدي ، وقيل : لا يجزئه ويعيدها بعد الرمي وهو كمن لم يفض ، وكلك اختلف في قوله إذا قدمها على الحلق فرمى ثم أفاض ثم حلق ، فقال : مرة يجزئه وقال : مرة يعيدها بعد الحلق ، وقال في الموطأ في باب التقصير : أحب إلى أن يريق دما ، وكذلك اختلف قول مالك في النحر قبل الحلق ، وقال في آخر (( باب ما جاء في الحلاق )) من الموطأ : الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن أحدا لا يحلق رأسه ولا يأخذ من شعره حتى ينحر هديا إن كان معه ، وقال : في (( باب العمل في النحر )) : لا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه ، وارجع لشرح هذه الأقوال إلى المنتقى للباجي . وقال ابن قدامة : (ج 3 : ص 446) : وفي يوم

(19/56)


النحر أربعة أشياء : الرمي ، ثم النحر ، ثم الحلق ثم الطواف ، والسنة ترتيبها هكذا ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتبها ، كذلك وصفه جابر في حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وروى أنس (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى ثم نحر ثم حلق )) رواه أبو داود . فإن أخل بترتيبها ناسيا أو جاهلا بالسنة فيها فلا شيء عليه في قوله كثير من أهل العلم ، منهم الحسن وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والشافعي وإسحاق وأبو ثور وداود ومحمد بن جرير الطبري . وقال أبو حنيفة : إن قدم الحلق على الرمي أو على النحر فعليه دم ، فإن كان قارنا فعليه دمان ، وقال زفر : عله ثلاثة دماء ، لأنه لم يجد التحلل الأول فلزمه الدم كما لو حلق قبل يوم النحر ، ولنا ما روى عبد الله بن عمرو قال : قال رجل : يا رسول الله حلقت قبل أن أذبح ، قال : " اذبح ولا حرج " . فقال آخر : ذبحت قبل أن أرمي . قال : " ارم ولا حرج " . متفق عليه . وفي لفظ (( قال : فجاء رجل فقال : يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح – وذكر الحديث – قال : فما سمعته يسئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعضها وأشباهها إلا قال : افعلوا ولا حرج عليكم )) رواه مسلم . وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له يوم النحر وهو بمنى في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال : لا حرج . متفق عليه ، ورواه عبد الرزاق
...............................................................................................

(19/57)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن معمر الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمرو ، وفيه : فحلقت قبل أن أرمي . وتابعه على ذلك محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن عيسى عن عبد الله بن عمرو ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – وأتاه رجل – فقال : يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي ، قال : ارم ولا حرج . قال : وأتاه آخر فقال : إني أفضت قبل أن أرمي ، قال : ارم ولا حرج ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع . على أنه لا يلزم من سقوط الدم بفقد الشيء في وقته سقوطه قبل وقته . فإنه لو حلق في العمرة بعد السعي لا شيء عليه ، وإن كان الحل ما حصل قبله ، وكذلك في مسألتنا إذا قلنا إن الحل يحصل بالحلق فقد حلق قبل التحلل ولا دم عليه ، فأما إن فعله عمدا عالما بمخالفة السنة في ذلك ففيه روايتان : إحداهما لا دم عليه ، وهو قول عطاء وإسحاق لإطلاق حديث ابن عباس ، وكذلك حديث عبد الله بن عمرو ، من رواية سفيان بن عيينة ، والثانية عليه دم ، روى نحو ذلك عن سعيد بن جبير وجابر بن زيد وقتادة والنخعي ، لأن الله تعالى قال ? ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ? (2 : 196) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتب وقال : خذوا عني مناسككم . والحديث المطلق قد جاء مقيدا فيحمل المطلق على المقيد . قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسئل عن رجل حلق قبل أن يذبح ؟ فقال : إن كان جاهلا فليس عليه ، فأما التعمد فلا ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل فقال : لم أشعر ، قيل لأبي عبد الله سفيان بن عيينة لا يقول : لم أشعر ، فقال : نعم ولكن مالكا والناس عن الزهري : لم أشعر . وهو في الحديث . وقال مالك : إن قدم الحلق على الرمي فعليه دم ، وإن قدمه على النحر أو النحر على الرمي فلا شيء عليه ، لأنه بالإجماع ممنوع من حلق شعره قبل التحلل الأول ولا يحصل إلا برمي الجمرة ، فأما النحر قبل الرمي فجائز

(19/58)


، لأن الهدي قد بلغ محله ، ولنا الحديث ، فإنه لم يفرق بينهما ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له في الحلق والنحر والتقديم والتأخير فقال : لا حرج ، ولا نعلم خلافا بينهم في أن مخالفة الترتيب لا تخرج هذه الأفعال عن الأجزاء ولا يمنع وقوعها موقعها ، وإنما اختلفوا في وجوب الدم على ما ذكرنا ، والله أعلم ، فإن قدم الإفاضة على الرمي أجزاه طوافه ، وبهذا قال الشافعي ، وقال مالك : لا تجزئه الإفاضة فليرم ثم لينحر ثم ليفض ، ولنا ما روى عطاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له رجل : أفضت قبل أن أرمي ؟ قال : " ارم ولا حرج " . وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قدم شيئا قبل شيء فلا حرج " . رواهما سعيد في سننه ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه آخر فقال : إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي ؟ قال : ارم ولا حرج ، فما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم أو أخر إلا قال : افعل ولا حرج . رواه أبو داود والنسائي والترمذي – انتهى . وقد ظهر بما ذكرنا من كلام القرطبي وابن دقيق العيد وابن قدامة والحافظ أنه لم يقل بظاهر أحاديث الباب وعمومها أحد من الأئمة بل خالفتها المالكية والحنفية في بعض الأمور كما سيأتي ، نعم عمل بعمومها الشافعية والحنابلة كما سيأتي أيضا ، قال الدردير : يفعل في يوم النحر أربعة أمور مرتبة الرمي فالنحر فالحلق فالإفاضة ، فتقديم الرمي على الحلق والإفاضة
..............................................................................................

(19/59)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ واجب وما عداه مندوب – انتهى . وحاصله أن تقديم الرمي على الحلق والإفاضة واجب يجبر بالدم وأما تقديمه على النحر أو تقديم النحر على كل واحد من الحلق والإفاضة أو تقديم الحلق على الإفاضة فمستحب ، فالمراتب ستة ، الوجوب في اثنين والندب في أربعة ، ومذهب الحنفية على ما قال ابن عابدين هو أن الطواف لا يجب ترتيبه على شيء من الثلاثة ، وإنما يجب ترتيب الثلاثة الرمي ثم الذبح ثم الحلق لكن المفرد لا ذبح عليه فيجيب عليه الترتيب بين الرمي والحلق فقط ، وحاصله أنه لا يجب الدم بتقديم الطواف على الثلاثة ، والمفرد ليس عليه الذبح ، وإنما يجب الترتيب في الثلاثة على القارن والمتمتع ، فإن قدم المفرد الحلق على الرمي فعليه دم ولو حلق القارن أو المتمتع دون المفرد قبل الذبح أو ذبح قبل الرمي فعليه دمان ، دم للقران أو التمتع . ودم لهذه الجناية ، سواء كان عامدا أو جاهلا أو ناسيا . وقال النووي : الأعمال المشروعة يوم النحر أربعة : الرمي ثم الذبح ثم الحلق ثم الطواف ، وهي على هذا الترتيب مستحبة ، فلو خالف فقدم بعضها على بعض جاز وفاته الفضيلة ، وقال أيضا : السنة ترتيبها هكذا فلو خالف وقدم بعضها على بعض جاز ولا فدية عليه لهذه الأحاديث ، وبهذا قال جماعة من السلف وهو مذهبنا – انتهى ، وفي كشاف القناع من فروع الحنابلة : وإن قدم الحلق على الرمي أو على النحر أو طاف للزيارة قبل رميه أو نحر قبل رميه جاهلا أو ناسيا فلا شيء عليه ، وكذا لو كان عالما ، لكن يكره ذلك للعالم ، وإن قدم طواف الإفاضة على الرمي أجزأه – انتهى . وكذا في منتهى الإرادات والروض المربع ، هذا ، وقد احتج لما روى الأثرم عن أحمد من تخصيص الرخصة بالناسي والجاهل دون العامد بقوله في رواية مالك : لم أشعر ، كما تقدم ، وبقوله في رواية يونس : فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور

(19/60)


على بعض أو أشباهها إلا قال : افعلوا ولا حرج . وأجاب بعض الشافعية بأن الترتيب لو كان واجبا لما سقط بالسهو كالترتيب بين السعي والطواف فإنه لو سعى قبل أن يطوف وجب إعادة السعي ، قال : وأما ما وقع في حديث أسامة بن شريك ( الآتي في الفصل الثالث ) فمحمول على من سعى بعد طواف القدوم ثم طاف طواف الإفاضة فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف أي طواف الركن . قال الحافظ : ولم يقل بظاهر حديث أسامة إلا أحمد وعطاء فقالا : لو لم يطف للقدوم ولا لغيره وقدم السعي قبل طواف الإفاضة أجزأه . أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عنه – انتهى . وقال الخطابي في المعالم (ج 2 : ص 433) : أما قوله : سعيت قبل أن أطوف . فيشبه أن يكون هذا السائل لما طاف طواف القدوم قرن به السعي ، فلما طاف طواف الإفاضة لم يعد السعي ، فأفتاه بأن لا حرج ، لأن السعي الأول الذي قرنه بالطواف الأول قد أجزأه ، فأما إذا لم يكن سعى إلى أن أفاض فالواجب عليه أن يؤخر السعي عن الطواف ، لا يجزيه غير ذلك في قول عامة أهل العلم ، إلا في قول عطاء وحده فإنه قال : يجزئه ، وهو قول كالشاذ لا اعتبار له – انتهى .
..............................................................................................

(19/61)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت : وقد ذهب إليه ابن حزم أيضا ورد على من فرق بين تقديم السعي وسائر ما قدم وأخر ، وأما تأويل الخطابي وغيره فلا يخفى ما فيه من التعسف ، وقال ابن دقيق العيد (ج 3 : ص 79) بعد حكاية قول الإمام أحمد المذكور : وهذا القول في سقوط الدم عن الجاهل والناسي دون العامد قوي من جهة الدليل أن الدليل دل على وجوب إتباع أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحج بقوله : " خذوا عني مناسككم " . وهذه الأحاديث المرخصة في التقديم لما وقع السؤال عنه إنما قرنت بقول السائل (( لم أشعر )) فيختص الحكم بهذه الحالة ويبقى حالة العمد على أصل وجوب إتباع الرسول في الحج ، وأيضا الحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يجز إطراحه وإلحاق غيره مما لا يساويه ، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم التكليف والمؤاخذة والحكم علق به ، فلا يمكن إطراحه وإلحاق العمد به إذ لا يساويه ، فإن تمسك بقول الراوي (( فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال : افعل ولا حرج )) فإنه قد يشعر بأن الترتيب مطلقا غير مراعى في الوجوب ، فجوابه أن الراوي لم يحك لفظا عاما عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقتضي جواز التقديم والتأخير مطلقا ، وإنما أخبر عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا حرج " . بالنسبة إلى كل ما سئل عنه من التقديم والتأخير حينئذ ، وهذا الإخبار من الراوي إنما تعلق بما وقع السؤال عنه . وذلك مطلق بالنسبة إلى حال السؤال وكونه وقع عن العمد أو عدمه ، والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه فلا يبقى حجة في حال العمد ، والله أعلم – انتهى . وتعقبه الشنقيطي بأنه لا يتضح حمل الأحاديث على من قدم الحق جاهلا أو ناسيا وإن كان سياق حديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه يدل على أن السائل جاهل ، لأن بعض تلك الأحاديث ليس فيها ذكر النسيان ولا الجهل فيجب استصحاب عمومها حتى يدل دليل على التخصيص في

(19/62)


النسيان والجهل . وقد تقرر أيضا في علم الأصول أن جواب المسئول لمن سأله لا يعتبر فيه مفهوم المخالفة ، لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة الجواب للسؤال فلم يتعين كونه لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق . وقال الشوكاني : وتعليق سؤال بعضهم بعدم الشعور لا يستلزم سؤال غيره به حتى يقال إنه يختص الحكم بحالة عدم الشعور ولا يجوز إطراحها بإلحاق العمد بها ، وبهذا يعلم أن التعويل في التخصيص على وصف عدم الشعور المذكور في سؤال بعض السائلين غير مفيد للمطلوب – انتهى بقدر الضرورة ، وقد عرفت مما قدمنا أن أحاديث الباب مخالفة للحنفية والمالكية في بعض الصور فاعتذروا عن ذلك بوجوه ، منها : أن معنى الحرج في هذه الأحاديث الإثم وهو المنفي ها هنا ، قال الأبي في الإكمال : قوله (( لا حرج )) محمول عندنا على نفي الإثم فقط – انتهى . وبذلك جزم الطحاوي وغيره من الحنفية أن المنفي هو الإثم فقط دون الفدية ، وتعقبه الحافظ في الفتح فقال : العجب ممن يحمل قوله (( ولا حرج )) على نفي الإثم فقط ، ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض ، فإن كان الترتيب واجبا يجب بتركه دم ، فليكن في الجميع وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج – انتهى . قلت : التعقب المذكور قوي متجه ، وجوابه متعذر جدا ،
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/63)


وقد اعترف بذلك بعض الحنفية حيث قال : يلزم على ما قررنا القول بوجوب الترتيب في الأعمال الأربعة من الرمي والنحر والحلق والطواف ، وكلام أصحابنا صريح في نفي وجوبه مطلقا في الطواف دون سائر الأعمال ، ولم أجد إلى الآن مع البحث الشديد في الفرق بين الطواف وبين الأفعال الثلاثة وجها شافيا ، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا – انتهى . وقد تعرض الزرقاني للجواب عن التعقب المذكور فقال : إن مالكا خص من العموم تقديم الحلق على الرمي فأوجب فيه الفدية لعلة أخرى وهي إلقاء التفث قبل فعل شيء من التحلل وقد أوجب الله ورسوله الفدية على المريض أو من برأسه أذى إذا حلق قبل المحل مع جواز ذلك له لضرورته فكيف بالجاهل والناسي ، وخص منه أيضا تقديم الإفاضة على الرمي لئلا يكون وسيلة إلى النساء والصيد قبل الرمي ، ولأنه خلاف الواقع منه - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت عنده زيادة ذلك فلا يلزمه زيادة غيره ، وهو أثبت الناس في ابن شهاب ، ومحل قبول زيادة الثقة ما لم يكن من لم يزدها أوثق منه . وابن أبي حفصة الذي روى ذلك عن ابن شهاب وإن كان صدوقا وروى له الشيخان لكنه يخطئ بل ضعفه النسائي ، واختلف قول ابن معين في تضعيفه ، وكان يحيى بن سعيد يتكلم فيه – انتهى . وحاصل هذا الجواب أن المراد في أحاديث الباب بنفي الحرج هو نفي الإثم فقط ، وأما وجوب الدم في بعض الصور فإنما أوجبه مالك أو غيره لدلائل أخرى . قلت : لم يثبت بحديث مرفوع صحيح أو ضعيف وجوب الدم في شيء من التقديم والتأخير ، وأما ما يذكر فيه من قول ابن عباس أو غيره فسيأتي الجواب عنه ، وزيادة الثقة مقبولة إذا لم يعارض لرواية من هو أوثق منه ، ولا معارضة ها هنا بين الروايات فيجب قبولها ، وقال ابن دقيق العيد : من قال بوجوب الدم في العمد والنسيان عند تقديم الحلق على الرمي فإنه يحمل قوله عليه السلام : " لا حرج " . على نفي الإثم ولا يلزم من نفي الإثم نفي وجوب الدم ، وادعى بعض

(19/64)


الشارحين أن قوله عليه السلام لا حرج ظاهر في أنه لا شيء عليه ، وعنى بذلك نفي الإثم والدم معا ، وفيما ادعاه من الظهور نظر وقد ينازعه خصومه فيه بالنسبة إلى الاستعمال العرفي فإنه قد استعمل (( لا حرج )) كثيرا في نفي الإثم وإن كان من حيث الوضع اللغوي يقتضي نفي الضيق ، نعم من أوجب الدم وحمل نفي الحرج على نفي الإثم يشكل عليه تأخير بيان وجوب الدم ، فإن الحاجة تدعوا إلى بيان هذا الحكم فلا يؤخر عنها بيانه ، ويمكن أن يقال : إن ترك ذكره في الرواية لا يلزم منه ترك ذكره في نفس الأمر – انتهى . قلت : ذكر هذا الإشكال الحافظ أيضا فقال : تعقب بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ، ولو كان واجبا لبينه - صلى الله عليه وسلم - حينئذ لأنه وقت الحاجة ولا يجوز تأخيره ، وأجاب العيني عن هذا التعقب فقال : لا ، ثم دليل أقوى من قوله تعالى ? ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ? (2 : 196) وبه احتج النخعي فقال : فمن حلق قبل الذبح اهراق دما ، رواه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح – انتهى . وقد ورد الحافظ هذا الاحتجاج بأن المراد ببلوغ محله وصوله إلى الموضع الذي يحل ذبحه
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/65)


فيه وقد حصل ، وإنما يتم ما أراد أن لو قال : ولا تحلقوا حتى تنحروا – انتهى . وقال ابن حزم . أما قول إبراهيم في أن من حلق قبل الذبح والنحر فعليه دم واحتجاجه بقول الله تعالى ? ولا تحلقوا رؤوسكم ? فغفلة منه ، لأن محل الهدي هو يوم النحر بمنى ذبح أو نحر أو لم يذبح ولا نحر ، إذا دخل يوم النحر والهدي بمنى أو بمكة فقد بلغ محله فحل الحلق ولم يقل تعالى حتى تنحروا أو تذبحوا ، وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كل ذلك مباح ولا حجة في قول أحد سواه عليه السلام – انتهى . وأجاب عن هذا العيني بأنه ليس المراد الكلي مجرد البلوغ إلى المحل الذي يذبح فيه ، بل المقصد الكلي الذبح ، ولذا لو بلغ ولم يذبح يجب عليه الفدية – انتهى . وأجاب بعض الحنفية عن الإشكال المذكور بأنه قد يترك البيان في مثل تلك الحالة اعتمادا على القواعد العامة المعلومة من الشرع ، ويحسب أن فيها غنية عن بيان المسألة في ذلك الوقت بخصوصه ، قال : ونظيره ما رواه البخاري في صحيحه من طريق هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء بنت أبي بكر قالت أفطرنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم غيم ، ثم طلعت الشمس ، قيل لهشام : فأمروا بالقضاء ؟ قال : بد من قضاء . وقال معمر : سمعت هشاما يقول : لا أدري أقضوا أم لا . قال الحافظ : جزم هشام بالقضاء محمول على أنه استند فيه إلى دليل آخر ، وأما حديث أسماء فلا يحفظ فيه إثبات القضاء ولا نفيه – انتهى . قال هذا البعض : فالقضاء واجب في تلك الصورة عند جمهور الأمة ولكن لم يبينه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت مع احتياج الناس إليه ، ولو بينه لنقل إلينا ، وهكذا هو في حديث الباب قلت : لم يعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك بيان قاعدة عامة أو خاصة تدل على وجوب الدم في مثل تلك الحالة ، وتغني عن البيان في ذلك الوقت أي في ابتداء الإسلام حينما كان الناس محتاجين إلى تقرير قواعد الحج فسكوته - صلى الله

(19/66)


عليه وسلم - عن البيان حين ذاك دليل على عدم وجوب الفدية على من خالف الترتيب ، وأما تنظير ذلك بما رواه البخاري من حديث أسماء فليس في محله ، فإنه ليس فيه إثبات قضاء الصوم ولا نفيه ، وإنما رجح الجمهور إيجاب القضاء فيه خلافا لمجاهد والحسن وإسحاق وأحمد في رواية وابن خزيمة بأنه لو غم هلال رمضان فأصبحوا مفطرين ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق فكذلك هذا ، وأما ما نحن فيه فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم ذلك بقوله (( لا حرج )) وهو يدل دلالة لا لبس فيها على من قدم أو أخر لا شيء عليه من إثم ولا فدية ، لأنه نكرة في سياق النفي ركبت مع لا فبقيت على الفتح والنكرة إذا كانت كذلك فهي صريح في العموم ، فالأحاديث إذن نص صريح في عموم النفي لجميع أنواع الحرج من إثم وفدية . قلت : واستدل بعضهم على كون المراد بنفي الحرج في الحديث نفي الإثم فقط لا غيره بما وقع في حديث أسامة بن شريك الآتي من الاستثناء بقوله : إلا على رجل افترض عرض رجل مسلم وهو ظالم ، فذلك الذي حرج وهلك قالوا فيه : دلالة ظاهرة على أن الحرج المنفي في الحديث هو الإثم والفساد فقط لا الفدية ونحوها . ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن هذا الاستدلال إنما يتم إذا كان الاستثناء في هذا الحديث متصلا ، وأما إذا كان منقطعا فلا كما لا يخفى فافهم
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/67)


واحتج بعضهم لذلك أيضا بأن ابن عباس روى مثل حديث عبد الله بن عمرو كما سيأتي ، وأوجب الدم ، فقد روى الطحاوي بسنده عنه أنه قال : من قدم شيئا من حجه أو أخره فليهرق لذلك دما ، فلولا أنه فهم أن المراد بنفي الحرج نفي الإثم فقط دون الفدية لما أمر بخلافه ، وفيه أنه قد روى عن ابن عباس مرفوعا ما يعارضه فقد روى البيهقي (ج 5 : ص143) عن أبي الحسن العلوي عن عبد الله بن محمد بن شعيب البزمهراني عن أحمد بن حفص بن عبد الله عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – الحديث . وفيه (( فما علمته سئل عن شيء يومئذ إلا أنه قال : لا حرج ولم يأمر بشيء من الكفارة )) قال البيهقي : هذا إسناد صحيح ، وروى البيهقي أيضا (ج 5 ص 143، 144) بسنده عن ابن عباس قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من قدم من نسكه شيئا أو أخر فلا شيء عليه " . قال الشيخ محمد عابد السندي في المواهب اللطيفة بعد ذكره : هذا مرفوع مقدم على موقوفه – انتهى . وأجاب ابن التركماني عن الرواية الأولى بأن الزيادة المذكورة وهي قوله (( ولم يأمر بشيء من الكفارة )) غريبة جدا لم أجدها في شيء من الكتب المتداولة بين أهل العلم وشيخ البيهقي وشيخ شيخه لم أعرف حالهما بعد الكشف والتتبع إلى آخر ما قال . وأجاب بعضهم عن الرواية الثانية بأنه أي شيء يزيد فيه على حديثه المرفوع الذي سيأتي بلفظ لا حرج ؟ فقوله (( لا شيء عليه )) أيضا يحمل على ما حملنا عليه قوله (( لا حرج )) أي لا شيء عليه من الإثم وإعادة فعل فعله على غير ترتيب . قال : والظاهر أن حديث البيهقي مختصر من حديث الباب ، قد اختصره بعض الرواة ورواه بالمعنى – انتهى ، ومن الوجوه التي اعتذروا بها عن أحاديث الباب أن فتوى الراوي إذا كان مخالفا لروايته يعمل بفتواه ، وهذا ابن عباس الراوي لحديث الباب قد أفتى بوجوب الدم كما تقدم ،

(19/68)


وتعقب بأن الطريق بذلك إلى ابن عباس فيها ضعف ، وأيضا قد روي عنه ما يعارض فتواه صريحا كما تقدم أيضا ، وأيضا قد روى البيهقي بسنده عن مقاتل أنهم سألوا أنس بن مالك عن قوم حلقوا من قبل أن يذبحوا ، قال : أخطأتم السنة ولا شيء عليكم . وهذا كما ترى مخالف لفتوى ابن عباس وموافق لحديثه المرفوع ، وأيضا نحن متعبدون بما بلغ إلينا من الحديث ولم نتعبد برأي الراوي أو بما فهمه كما بسطه ابن القيم في الإعلام والعلامة القنوجي في حصول المأمول ، ومنها أن أحاديث الباب معارضة لدلالة آية الأذى فإن الله تعالى إذ أوجب الفدية لعذر الأذى فكيف بدون العذر . قال ابن رشد في البداية : وعمدة مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم على من حلق قبل محله من ضرورة بالفدية فكيف من غير ضرورة – انتهى . وتعقبه ابن الهمام فقال : أما الاستدلال بدلالة قوله تعالى ? فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ? (2 : 196) الآية فإن إيجاب الفدية للحلق قبل أوانه حالة العذر يوجب الجزاء مع عدم العذر بطريق أولى ، فمتوقف على أن ذلك التأقيت الصادر عنه - صلى الله عليه وسلم - بالقول كان لتعيينه لا لاستنانه – انتهى . وأما ما قال مالك في باب الحلاق من موطأه : الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن أحدا لا يحلق رأسه ولا يأخذ من شعره حتى ينحر هديا إن كان معه ولا يحل من شيء حرم
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/69)


عليه حتى يحل بمنى يوم النحر ذلك أن الله تعالى قال ? ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ? فهو محمول على كراهة التنزيه والسنة والاستحباب على ما هو المشهور من مذهب مالك ، ومنها ما قال ابن الهمام أن قول القائل لم أشعر ففعلت ما يفيد أنه ظهر له بعد فعله أنه ممنوع من ذلك فلذا قدم اعتذاره على سؤاله وإلا لم يسأل أو لم يعتذر ، لكن قد يقال : يحتمل أن الذي ظهر له مخالفة ترتيبه لترتيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظن أن ذلك الترتيب متعين فقدم ذلك الاعتذار وسأل عما يلزمه به فبين عليه الصلاة والسلام في الجواب عدم تعينه عليه بنفي الحرج وأن ذلك الترتيب مسنون لا واجب ، والحق أنه يحتمل أن يكون كذلك ، وأن يكون الذي ظهر له كان هو الواقع إلا أنه صلي الله عليه وسلم عذرهم للجهل وأمرهم أن يتعلموا مناسكهم ، وإنما عذرهم بالجهل لأن الحال إذ ذاك كان في ابتداءه ، وإذا احتمل كلا منهما فالاحتياط اعتبار التعيين والأخذ به واجب في مقام الاضطراب – انتهى . ومنها أن قوله (( ولا حرج )) يحتمل أن يراد به نفي الإثم والفدية معا عن هؤلاء السائلين الذين جهلوا الحكم الشرعي بأعيانهم لكون الجهل عذرا مقبولا في حقهم إذ ذاك ، وإن لم يكن عذر اليوم لشيوع الأحكام الشرعية وقدم العهد بها . روى الطحاوى عن أبي سعيد الخدري قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بين الجمرتين عن رجل حلق قبل أن يرمي ، قال : لا حرج ، وعن رجل ذبح قبل أن يرمي ، قال : لا حرج ، ثم قال : عباد الله ! وضع الله عز وجل الضيق والحرج ، وتعلموا مناسككم فإنها من دينكم . قال العيني : فدل ذلك على أن الحرج الذي رفعه الله عنهم إنما كان لجهلهم بأمر المناسك لا لغير ذلك ، وذلك لأن السائلين كانوا أناسا أعرابا لا علم لهم بالمناسك فأجابهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : لا حرج يعني فيما فعلتم بالجهل لا أنه أباح لهم ذلك فيما بعد – انتهى . وقال

(19/70)


الطحاوي بعد رواية الحديث أفلا ترى أنه أمرهم بتعلم مناسكهم لأنهم كانوا لا يحسنونها فدل ذلك أن الحرج والضيق الذي رفعه الله عنهم هو لجهلهم بأمر مناسكهم لا لغير ذلك ، وفيه أن حاصل هذا الاعتذار أن رفع الإثم والفدية عن السائلين الأعراب كان لجهلهم ويرجع ذلك إلى أن يكون الحكم المذكور خاصا بهم ولا يخفى ما فيه ، ومنها ما تقدم في كلام الباجي وابن التين أن ذلك لا يقتضي رفع الحرج في تقديم شيء ولا تأخيره غير المسألتين المنصوص عليهما يعني المذكورتين في رواية مالك ، لأنا لا ندري عن أي شيء غيرهما سئل في ذلك اليوم ، وجوابه إنما كان عن سؤال السائل فلا يدخل فيه غيره – انتهى . وتعقبه الحافظ فقال : كأنه غفل عن قوله في بقية الحديث فما سئل عن شيء قدم ولا أخر . وكأنه حمل ما أبهم فيه على ما ذكر لكن قوله في رواية ابن جريج وأشباه ذلك يرد عليه وتقدم فيما حررناه من مجموع الأحاديث عدة صور – انتهى . وأجاب عنه الزرقاني بأن مالكا أوجب الدم في تقديم الإفاضة على الرمي لأنه لم يقع في روايته حديث الباب ولا يلزم بزيادة غيره ، لأنه أثبت الناس في ابن شهاب ، وأوجب الفدية في تقديم الحلق على الرمي لوقوعه قبل شيء من التحلل – انتهى . وفيه أن الإمام مالكا معذور لكونه لم يبلغه ما
متفق عليه . وفي رواية لمسلم : أتاه رجل فقال : حلقت قبل أن أرمي . قال : " ارم ولا حرج " . وأتاه آخر ، فقال : أفضت إلى البيت قبل أن أرمي . قال : " ارم ولا حرج " .
2680 – (2) وعن ابن عباس ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل يوم النحر بمنى ، فيقول : " لا حرج " . فسأله رجل فقال : رميت بعد ما أمسيت . فقال : " لا حرج " .

(19/71)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقع عند غيره من أصحاب الزهري ، وأما المالكية ومن وافقهم فلا عذر لهم في ترك القول والعمل بما رواه غيره من الرواة الثقات الأثبات عن الزهري زيادة على رواية مالك ، وأما ما ذكر من التعليل لإيجاب الدم في تقديم الحلق على الرمي فهو مما لا يلتفت إليه بعد وروده نصا في الحديث لكونه في مقابلة النص ، وأيضا إذا كان الحلق نسكا كان هو من أسباب التحلل ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في العلم والحج والنذور ومسلم في الحج بألفاظ مختلفة المذكور ها هنا أحدها ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 160 ، 192 ، 202 ، 210) ومالك والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي وابن الجارود (ص 174 ، 175) والدارمي والبيهقي (ج 5 : ص 141 ، 142) ( وفي رواية لمسلم ) رواها من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري وكذا أخرجه من طريقه أحمد (ج 2 : ص 210) وابن أبي حفصة هذا من رجال الصحيحين ومن أصحاب الزهري المشهورين ، وثقه ابن معين وأبو داود وقال علي بن المديني : ليس به بأس ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال : يخطئ . وقال النسائي : ضعيف ، وهذا جرح مبهم على أن النسائي متعنت فلا يلتفت إلى تضعيفه ( أتاه رجل فقال : حلقت قبل أن أرمي ، قال : ارم ولا حرج ، وأتاه آخر فقال : أفضت إلى البيت قبل أن أرمي ، قال : " ارم ولا حرج " . قد تقدم أن الترتيب بين الرمي والذبح والحلق للقارن والمتمتع ، وبين الرمي والحلق للمفرد واجب عند الحنفية ، وأما الترتيب بين الرمي والطواف وبين الحلق والطواف فليس بواجب عندهم ، ففرقوا بين الطواف وبين الأشياء الثلاثة في ذلك مع أنه وقع في جملة الروايات السؤال عن جميع هذه الصور وورد الجواب في كلها بلفظ (( لا حرج )) وقد تقدم ما قال بعضهم أنه لم يجد مع البحث الشديد للفرق بين الطواف وبين الأفعال الثلاثة وجها شافيا ، ورواية مسلم هذه صريحة في الرد على المالكية إذ نفى فيها الحرج

(19/72)


في تقديم الحلق والإفاضة على الرمي ، وقد سبق ما أجاب به الزرقاني عنها .
2680- قوله كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسئل يوم النحر بمنى ) أي عن التقديم والتأخير ( فيقول : لا حرج ، فسأله رجل فقال : رميت بعد ما أمسيت . فقال : لا حرج ) قد تقدم في شرح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال الحافظ بعد ذكر رواية ابن عباس هذه : إنها تدل على أن هذه القصة كانت بعد الزوال لأن المساء يطلق على ما بعد الزوال ، وكأن السائل علم أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يقدم ضحى ، فلما أخرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك - انتهى . وقال الشوكاني : قوله (( رميت بعد ما أمسيت )) فيه دليل على أن من رمى بعد دخول وقت المساء وهو الزوال صح رميه ولا حرج عليه في ذلك . قلت : وقد تقدم في شرح حديث ابن عباس في الفصل الثاني من باب الدفع من
رواه البخاري .
( الفصل الثاني )
2681 – (3) عن علي ، قال : أتاه رجل ، فقال : يا رسول الله ! إني أفضت قبل أن أحلق . قال : " احلق أو قصر ولا حرج " . وجاء آخر ، فقال : ذبحت قبل أن أرمي . قال : " ارم ولا حرج " .

(19/73)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عرفة أنهم اختلفوا فيمن فاته يوم النحر ولم يرم الجمرة حتى غربت الشمس ، فمن قائل يرميها ليلا وهو أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما . ومن قائل لا يرميها ليلا ولكن يؤخر رميها حتى تزول الشمس من الغد وهو الإمام أحمد ، ومن ذهب إلى جواز الرمي ليلا استدل بحديث ابن عباس هذا ، قال : لأن اسم المساء يصدق بجزء من الليل ، بل قال بعضهم المساء من بعد الغروب . قال القاري : قوله (( أمسيت )) ضد (( أصبحت )) على ما في القاموس ، فظاهره أنه بعد الغروب ، وأجاب الذين ذهبوا إلى عدم جواز الرمي ليلا بأن قوله (( يوم النحر )) في هذا الحديث يدل على أن السؤال وقع في النهار ، والرمي بعد الإمساء وقع في النهار ، لأن المساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل ، قالوا : فالحديث صريح في أن المراد بالإمساء فيه آخر النهار بعد الزوال لا الليل وإذن فلا حجة فيه الرمي ليلا ( رواه البخاري ) في باب الذبح قبل الحلق من طريق عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس . وفي باب (( إذا رمى بعد ما أمسى )) من طريق يزيد بن زريع عن خالد عن عكرمة ، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والطحاوي والبيهقي (ج 5 : ص 143) وزاد البيهقي في روايته (( ولم يأمر بشيء من الكفارة )) وقد ذكرناها قبل ذلك مع ما أجاب به عنها ابن التركماني ، ولحديث ابن عباس في السؤال عن التقديم والتأخير طرق وألفاظ عند الشيخين ، من شاء الوقوف عليها رجع إلى جامع الأصول (ج 4 : ص 110 ، 111) وقد أخرجه أيضا الدارقطني وأحمد بألفاظ مختلفة مختصرا ومطولا (ج 1 : ص 216 ، 258 ، 269 ، 291 ، 300 ، 311 ، 316) .

(19/74)


2681- قوله ( أتاه ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إني أفضت ) أي طفت طواف الإفاضة ( قبل أن أحلق ، قال : احلق أو قصر ) (( أو )) للتخيير ( ولا حرج ) أي لا إثم ولا فدية ( وجاء آخر فقال : ذبحت قبل أن أرمي ، قال : ارم ولا حرج . قال القاري : أي لا إثم ولا فدية على المفرد ، وأما القارن والمتمتع فليس عليهما الإثم إذا لم يكن عن عمد لكن عليهما الكفارة – انتهى ؟ قلت : إنما فسر القاري بذلك لأنه لا ذبح على المفرد ولا يجب الترتيب عليه عند الحنفية إلا في الرمي والحلق فقط ، وأما القارن والمتمتع فيجب عليهما الترتيب في الرمي والذبح والحلق . قال الخطابي : وتأول بعض من ذهب إلى هذا القول ( أي وجوب الدم في التقديم والتأخير ) من أصحاب الرأي قوله (( ارم ولا حرج )) على أنه أراد رفع الحرج في الإثم دون الفدية ، قال : وقد يجوز أن يكون هذا السائل مفردا فلا يلزمه دم ، وإذا كان متطوعا بالدم
رواه الترمذي .
( الفصل الثالث )
2682 – (4) عن أسامة بن شريك ، قال : خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجا ، فكان الناس يأتونه ، فمن قائل : يا رسول الله ! سعيت قبل أن أطوف ، أو أخرت شيئا أو قدمت شيئا . فكان يقول : " لا حرج ، إلا على رجل

(19/75)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لم يلزمه في تقديمه وتأخيره شيء . قلت ( قائله الخطابي ) : قوله (( لا حرج )) ينتظم الأمرين جميعا الإثم والفدية لأنه كلام عام ، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما متمتعين أو قارنين على ما دلت عليه الأخبار ، والدم على القارن والمتمتع واجب ، على أن السائل عن هذا الحكم لم يكن رجلا واحدا فقط ، إنما كانوا جماعة ، ألا تراه يقول ( في حديث أسامة ابن شريك ) : فمن قائل أخرت شيئا أو قدمت شيئا ، وهؤلاء لا يتفق أن يكونوا كلهم مفردين ، فكان هذا الاعتراض غير لازم – انتهى . ( رواه الترمذي ) في حديث طويل في صفة الحج في (( باب أن عرفة كلها موقف )) وأشار إليه في (( باب من حلق قبل أن يذبح أو نحر قبل أن يرمي )) حيث قال بعد إيراد حديث عبد الله بن عمرو : وفي الباب عن علي ، إلخ . والحديث قد صححه الترمذي ورواه أيضا الطحاوي (ج 1 : ص 423) بهذا اللفظ وأحمد (ج 1 : ص 75 ، 76) باختلاف يسير ، ورواه عبد الله بن أحمد من غير طريق أبيه (ج 1 : ص 76) (( ثم أتاه رجل فقال : إني رميت الجمرة وأفضت ولبست ولم أحلق ، قال : فلا حرج فاحلق ، ثم أتاه رجل آخر فقال : إني رميت وحلقت ولبست ولم أنحر ؟ فقال : لا حرج فانحر ، وهكذا أخرجه الطحاوي أيضا (ج 1 : ص 424) .

(19/76)


2682 – قوله ( عن أسامة بن شريك ) الثعلبي بالمثلثة والمهملة من بني ثعلبة بن سعد ، وقيل من ثعلبة بن يربوع ، وقيل من ثعلبة بن بكر بن وائل ، والأول أصح ، صحابي عداده في أهل الكوفة ، روى عنه زياد بن علاقة وعلي بن الأقمر ، وقال الأزدي وسعيد بن السكن والحاكم وغيرهم : لم يرو عنه غير زياد ، وقال الحافظ في التقريب : تفرد بالرواية عنه زياد بن علاقة على الصحيح . قال الخزرجي : له ثمانية أحاديث ( خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجا ) أي مريدا للحج ( سعيت ) أي للحج عقيب الإحرام بعد طواف قدوم الآفاقي أو طواف نفل للمكي ( قبل أن أطوف ) أي طواف الإفاضة . قال القاري : وهو بظاهره يشمل الآفاقي والمكي وهو مذهبنا على اختلاف في أفضلية التقديم والتأخير ، خلافا للشافعي حيث قيده بالآفاقي ( أو أخرت شيئا أو قدمت شيئا ) أي في أفعال أيام منى ( فكان يقول : لا حرج ) كذا في جميع نسخ المشكاة وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول ، والذي في سنن أبي داود (( لا حرج ، لا حرج )) أي مرتين . قال القاري : أي لا إثم ( إلا على رجل ) قال القاري : الاستثناء يؤيد أن معنى الحرج هو الإثم ، وقد تقدم الكلام على هذا
اقترض عرض مسلم وهو ظالم ، فذلك الذي حرج وهلك " . رواه أبو داود .
(10) باب خطبة يوم النحر ، ورمي أيام التشريق ، والتوديع
( الفصل الأول )
2683 – (1) عن أبي بكرة ، قال : خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ،

(19/77)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعلى مسألة تقديم السعي على الطواف ( اقترض ) بالقاف والضاد المعجمة ، أي اقتطع افتعال من القرض ، وهو القطع ، وسمي المقراض لأنه يقطع ، وقرض الفار قطع ( عرض مسلم ) كذا في جميع النسخ ، والذي في سنن أبي داود (( عرض رجل مسلم )) والعرض بكسر العين المهملة وسكون الراء يعني نال منه وعابه وقطعه بالغيبة ونحوها ( وهو ) أي والحال أن ذلك الرجل ( ظالم ) فيخرج جرح الرواة والشهود فإنه مباح ( فذلك الذي ) أي الرجل الموصوف ( حرج ) بكسر الراء أي وقع منه حرج ( وهلك ) أي بالإثم ، والعطف تفسيري ( رواه أبو داود ) وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه أيضا الطحاوي (ج 1 : ص 223 ، 224) والدارقطني (ص 268) والبيهقي (ج 5 : ص 146) .

(19/78)


( باب خطبة يوم النحر ) بضم الخاء المعجمة ، مصدر خطب يخطب خطابة وخطبة ، أي وعظ ، ويطلق على الكلام الذي يخطب به ، كذا في القاموس . وفي عرف الشرع عبارة عن كلام يشتمل على الذكر والتشهد والصلاة والوعظ ( ورمى أيام التشريق ) عطف على خطبة ، وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، أولها اليوم الحادي عشر من ذي الحجة ، وسميت هذه الأيام أيام التشريق لكثرة تشريق اللحم في الشمس فيها بعد تقطيعه وتقديده ، وقيل : لأن الهدايا والضحايا تقع فيها وابتداؤها من يوم النحر بعد شروق الشمس ، فانسحب عليها اسم التشريق ، وهذا القول اختاره أبو عبيد القاسم بن سلام . واليوم الأول من هذه الأيام الثلاثة يقال له : يوم القر ، لأن الناس يستقرون فيه بمنى ، وسمي يوم الرؤوس أيضا لأن الناس يأكلون فيه رؤوس ذبائحهم يوم النحر . واليوم الثاني سمي يوم النفر الأول ويقال له : يوم الأكارع ، واليوم الثالث يقال له : يوم النفر الآخر ، ذكره الطبري . وقال الجزري : وإنما سميت بذلك لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي أي يقطعونها ويقددونها ، وتشريق اللحم تقديده ، وقيل سميت بذلك لقولهم : أشرق ثبير كيما نغير . وقيل سميت بذلك لأن الهدي لا يذبح ولا ينحر حتى تشرق الشمس - انتهى . وفي اللسان : لأن لحم الأضاحي يشرق فيها للشمس ( والتوديع ) عطف على رمى أو خطبة ، قال في القاموس : ودعه كوضعه وودعه ( بتشديد الدال ) بمعنى ، والاسم الوداع ، يقال : ودع المسافر القوم وودعهم أي خلفهم خافضين ، وقال في العناية : الوداع - بفتح الواو - اسم للتوديع كسلام وكلام .
2683 – قوله ( عن أبي بكرة ) الثقفي الصحابي اسمه نفيع بن الحارث ( خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ) فيه دليل
..............................................................................................

(19/79)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على مشروعية الخطبة يوم النحر . ويدل عليه أيضا حديث ابن عمر عند البخاري قال : وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بين الجمرات في حجة الوداع فقال : أي يوم هذا - الحديث ، وحديث ابن عباس عند البخاري وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم النحر فقال : يا أيها الناس أي يوم هذا ؟ وحديث جابر عند أحمد ، قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقال أي يوم أعظم حرمة ؟ وحديث الهرماس بن زياد الباهلي قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى بمنى . أخرجه أحمد (ج 3 : ص 485 ، وج 5 : ص 7) وأبو داود . وحديث أبي أمامة عند أبي داود قال : سمعت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى يوم النحر ، وحديث رافع بن عمرو المزني الآتي في الفصل الثاني من هذا الباب قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يوم النحر يخطب على بغلة شهباء ، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم النحر فقام إليه رجل - الحديث . أخرجه الشيخان وغيرهما . وهذه الأحاديث نص في مشروعية الخطبة في يوم النحر وهي ترد على من زعم أن يوم النحر لا خطبة فيه للحاج ، وأن المذكور في أحاديث الباب إنما هو من قبيل الوصايا العامة لا أنه خطبة من شعار الحج . ووجه الرد أن الرواة سموها خطبة كما سموا التي وقعت بعرفات خطبة ، وقد اتفق على مشروعية الخطبة بعرفات ، ولا دليل على ذلك إلا ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب بعرفات ، والقائلون بعدم مشروعية الخطبة يوم النحر هم المالكية والحنفية ، وقالوا خطب الحج ثلاث : سابع ذي الحجة ويوم عرفة ، وثاني يوم النحر ، ووافقهم الشافعية إلا أنهم قالوا بدل ثاني النحر ثالثه ، وزادوا خطبة رابعة وهي يوم النحر . قال الإمام الشافعي :

(19/80)


وبالناس إليها حاجة ليتعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف . وتعقبه الطحاوي بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج لأنه لم يذكر فيها شيئا من أعمال الحج وإنما ذكر فيها وصايا عامة ، قال : ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئا مما يتعلق بالحج يوم النحر فعرفنا أنها لم تقصد لأجل الحج . وقال ابن القصار : إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا فظن الذي رآه أنه خطب ، قال : وأما ما ذكره الشافعي أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين ، لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة – انتهى . وأجيب بأنه نبه - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر وعلى تعظيم شهر ذي الحجة وعلى تعظيم البلد الحرم ، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة كما تقدم ، فلا يلتفت إلى تأويل غيرهم ، وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة يعكر عليه كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر ، وكان يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يأتي بعده من أعمال الحج ، لكن لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجدد الأسباب . وقد بين الزهري وهو عالم أهل زمانه أن الخطبة ثاني يوم النحر نقلت من خطبة يوم النحر ، وأن ذلك من عمل الأمراء يعني من بني أمية كما أخرج ذلك ابن أبي شيبة عنه ، وهذا وإن كان مرسلا لكنه معتضد بما سبق وبان به أن السنة
قال : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ،

(19/81)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخطبة يوم النحر لا ثانيه . وأما قول الطحاوي أنه لم يعلمهم شيئا من أسباب التحلل فلا ينفي وقوع ذلك أو شيء منه في نفس الأمر ، بل قد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كما تقدم أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم النحر ، وذكر فيه السؤال عن تقديم بعض المناسك على بعض فكيف ساغ للطحاوي هذا النفي المطلق مع روايته هو لحديث عبد الله بن عمرو ، وثبت أيضا في بعض أحاديث الباب أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للناس حينئذ : خذوا عني مناسككم . فكأنه وعظهم بما وعظهم به وأحال في تعليمهم على تلقي ذلك من أفعاله ، أفاده الحافظ . قلت : حديث رافع بن عمرو المزني الآتي بلفظ (( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء )) يدل على أن الخطبة المذكورة كانت وقت الضحى يعني قبل طواف الإفاضة وهو مشكل على مذهب الشافعية حيث قالوا : أنه يسن أن يخطب الإمام أو نائبه الناس بعد صلاة الظهر يوم النحر بمنى بعد طواف الإفاضة ، وقد تقدم التنبيه على ذلك في شرح حديث عبد الله بن عمرو في الباب الذي قبل هذا ( إن الزمان ) هو اسم لقليل الوقت وكثيره ، والمراد هنا السنة ( قد استدار ) أي دار ( كهيئته ) قال الطيبي : الهيئة صورة الشيء وشكله وحالته ، والكاف صفة مصدر محذوف أي استدار استدارة مثل حالته ( يوم خلق الله السموات ) أي وما فيها من النيرين الذين بهما تعرف الأيام والليالي والسنة والأشهر ( والأرض ) قال القاري : أي عاد ورجع إلى الموضع الذي ابتدأ منه يعني الزمان في انقسامه إلى الأعوام والأعوام إلى الأشهر عاد إلى أصل الحساب والوضع الذي اختاره الله تعالى ووضعه يوم خلق السموات والأرض . وقال بعض المحققين من علمائنا ( الحنفية ) أي دار على الترتيب الذي اختاره الله تعالى ووضعه يوم خلق السموات والأرض وهو أن يكون كل عام اثني عشر شهرا

(19/82)


وكل شهر ما بين تسعة وعشرين إلى ثلاثين يوما ، وكانت العرب في جاهليتهم غيروا ذلك فجعلوا عاما اثني عشر شهرا وعاما ثلاثة عشر فإنهم كانوا ينسؤن الحج في كل عامين من شهر إلى شهر آخر بعده ويجعلون الشهر الذي أنسؤه ملغي ، فتصير تلك السنة ثلاثة عشر ، وتتبدل أشهرها فيحلون الأشهر الحرم ويحرمون غيرها كما قال تعالى في سورة التوبة ? إنما النسيء زيادة في الكفر ? ( الآية 37) فأبطل الله ذلك وقرره على مداره الأصلي فالسنة التي حج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع هي السنة التي وصل ذو الحجة إلى موضعه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الزمان قد استدار كهيئته ، يعني أمر الله أن يكون ذو الحجة في هذا الوقت ، فاحفظوه واجعلوا الحج في هذا الوقت ولا تبدلوا شهرا بشهر كعادة أهل الجاهلية – انتهى . وقال النووي ، قال العلماء : معناه أنهم في الجاهلية يتمسكون بملة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في تحريم الأشهر الحرم وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الذي بعده وهو صفر ، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر ، وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة
السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " .

(19/83)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حتى اختلط عليهم الأمر وصادفت حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريمهم ، وقد تطابق الشرع ، وكانوا في هذه السنة قد حرموا ذا الحجة لموافقة الحساب الذي ذكرنا ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الاستدارة صادفت ما حكم الله تعالى به يوم خلق السموات والأرض ، وقال أبو عبيد : كانوا ينسؤن أي يؤخرون ، وهو الذي قال الله تعالى فيه ? إنما النسيء زيادة في الكفر ? فربما احتاجوا إلى الحرب في المحرم فيؤخرون تحريمه إلى صفر ، ثم يؤخرون صفرا في سنة أخري فصادف تلك السنة رجوع المحرم إلى موضعه – انتهى . وقال البيضاوي : كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد – انتهى . فكأن العرب كانوا مختلفين في النسيء ، والله تعالى أعلم ( السنة ) إلخ ، أي السنة العربية الهلالية . قال الطيبي : جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى ( منها أربعة حرم ) قال تعالى ? فلا تظلموا فيهن أنفسكم ? ( سورة التوبة ، الآية 36 ) قال البيضاوي : أي بهتك حرمتها وارتكاب حرامها ، وقال الحافظ : ? فلا تظلموا فيهن أنفسكم ? أي في الأربعة باستحلال القتال . وقيل : بارتكاب المعاصي ( ثلاث ) هو تفسير الأربعة الحرم ( متواليات ) أي متتابعات . قال الطيبي : اعتبر ابتداء الشهور من الليالي فحذف التاء ، وقال ابن التين : الصواب ثلاثة متوالية يعني لأن المميز الشهر قال : ولعله أعاده على المعنى ، أي ثلاث مدد متواليات – انتهى . قال الحافظ : أو باعتبار العدة مع أن الذي لا يذكر التمييز معه يجوز فيه التذكير والتأنيث ( ذو القعدة ) بفتح القاف وقد يكسر ، شهر كانوا يقعدون فيه عن الأسفار ( وذو الحجة ) بكسر الحاء وقد تفتح ( والمحرم ) عطف على ذو القعدة . قال الحافظ ذكرها من سنتين لمصلحة التوالي بين الثلاثة ، وإلا فلو بدأ بالمحرم لفات مقصود التوالي ،

(19/84)


وفيه إشارة إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من تأخير بعض الأشهر الحرم فقيل كانوا يجعلون المحرم صفرا ويجعلون صفر المحرم لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يتعاطون فيها القتال فلذلك قال متواليات . وكانوا في الجاهلية على أنحاء منهم من يسمى المحرم صفرا فيحل فيه القتال ويحرم القتال في صفر ويسميه المحرم ، ومنهم من كان يجعل ذلك سنة هكذا وسنة هكذا ، ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا ، ومنهم من يؤخر صفرا إلى ربيع الأول وربيعا إلى ما يليه ، وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة ، وذو القعدة ذا الحجة ، ثم يعود فيعيد العدد على الأصل – انتهى . ( ورجب مضر ) عطف على ثلاث ، ومضر على وزن عمر غير منصرف قبيلة عظيمة ، وأضاف الشهر إليها لأنها كانت تشدد في تحريم رجب وتحافظ على ذلك أشد من محافظة سائر القبائل من العرب ولا توافق غيرها من العرب في استحلاله ( الذي بين جمادى ) بضم الجيم وفتح الدال وبعده ألف ورسمه بالياء ( وشعبان ) وصفه بكونه بين جمادى وشعبان لزيادة البيان وتوكيده كما قال في أسنان الصدقة : فإن لم تكن ابنة مخاض
وقال : " أي شهر هذا ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فقال : " أليس

(19/85)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فابن لبون ذكر . ومعلوم أن ابن اللبون لا يكون إلا ذكرا ، ويحتمل أن يكون إنما قال ذلك من أجل أنهم قد كانوا نسؤا رجبا و... ه عن موضعه وسموه به بعض الشهور الأخر فنحلوه اسمه فبين لهم أن رجبا هو الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء . قال النووي : قد أجمع المسلمون على أن الأشهر الحرم الأربعة هي هذه المذكورة في الحديث ، ولكن اختلفوا في الأدب المستحب في كيفية عدها ، فقالت طائفة من أهل الكوفة وأصل الأدب ، يقال المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة ليكون الأربعة من سنة واحدة ، وقال علماء المدينة والبصرة وجماهير العلماء : هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ثلاثة سرد وواحد فرد ، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة منها هذا الحديث الذي نحن في فيه ، وعلى هذا الاستعمال أطبق الناس من الطوائف كلها – انتهى . قيل الحكمة في جعل المحرم أول السنة أن يحصل الابتداء بشهر حرام ويختم بشهر حرام وتتوسط السنة بشهر حرام وهو رجب ، وإنما توالى شهران في الآخر لإرادة تفضيل الختام ، والأعمال بالخواتيم ، قال الحافظ : أبدى بعضهم لما استقر عليه الحال من ترتيب هذه الأشهر الحرم مناسبة لطيفة ، حاصلها أن للأشهر الحرم مزية على ما عداها ، فناسب أن يبدأ بها العام وأن تتوسطه وأن تختم به ، وإنما كان الختم بشهرين لوقوع الحج ختام الأركان الأربع لأنها تشتمل على عمل مال محض وهو الزكاة وعمل بدن محض وذلك تارة يكون بالجوارح وهو الصلاة وتارة بالقلب وهو الصوم ، لأنه كف عن المفطرات ، وتارة عمل مركب من مال وبدن وهو الحج ، فلما جمعهما ناسب أن يكون له ضعف ما لواحد منهما فكان له من الأربعة الحرم شهران ، والله أعلم ( وقال : أي شهر هذا ؟ ) أراد بهذا الاستفهام أن يقرر في نفوسهم حرمة الشهر والبلدة واليوم ليبني عليه ما أراده . قال القرطبي : سؤاله - صلى الله

(19/86)


عليه وسلم - عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم ، وليقبلوا عليه بكليتهم وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه . ولذلك قال بعد هذا فإن دماءكم ، إلى آخره . مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء – انتهى . وقال النووي : هذا السؤال والسكوت والتفسير أراد به التفخيم والتقرير والتنبيه على عظم مرتبة هذا الشهر والبلد واليوم ( قلنا : الله ورسوله أعلم ) قال التوربشتي : إحالتهم الجواب عليه فيما استبان أمره وتحقق ، نوع من الأدب بين يدي من حق عليهم التأدب بين يديه ، ثم إنهم لم ييأسوا من أن يكون في الأمر المسؤل عنه علم لم يبلغ إليهم فأحالوا العلم على علام الغيوب ، ثم إلى المستأثر من البشر بنوع من ذلك العلم ، وينبئك عن هذا المعني قولهم : حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه – انتهى . وقال الحافظ : قولهم (( الله ورسوله أعلم )) هذا من حسن أدبهم لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب وأنه ليس مراده مطلق الإخبار بما يعرفونه ، ولهذا قال : حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، ففيه إشارة إلى تفويض الأمور بالكلية إلى الشارع ( فقال : أليس ) أي هذا الشهر أو اسمه
ذا الحجة ؟ " قلنا : بلى . قال : " أي بلد هذا ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : " أليس البلدة " ؟ قلنا : بلى . قال " فأي يوم هذا ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : " أليس يوم النحر ؟ " قلنا : بلى . قال :

(19/87)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( ذا الحجة ؟ قلنا بلى . قال : أي بلد هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : ) بلا فاء ( أليس ) أي البلد ( البلدة ) قال الخطابي : يقال : إن البلدة اسم خاص بمكة وهي المرادة بقوله تعالى ? إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة ? ( سورة النمل الآية 91 ) وقال الطيبي : المطلق محمول على الكامل وهي الجامعة للخير المستجمعة للكمال كما أن الكعبة تسمى البيت ويطلق عليها ذلك ، كذا في الفتح . وقال التوربشتي : قيل إن البلدة اسم خاص لمكة عظم الله حرمتها ، ويؤيد ذلك هذا الحديث ، ووجه تسميتها بالبلدة وهي تقع على سائر البلدان أنها البلدة الجامعة للخير المستحقة أن تسمى بهذا الاسم لتفوقها سائر مسميات أجناسها حتى كأنها هي المحل المستحقة للإقامة بها من قولهم بلد بالمكان أي أقام ( قال : فأي يوم هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ) إلخ . وفي البخاري من حديث ابن عباس أنهم قالوا : يوم حرام . وقالوا عند سؤاله عن الشهر : شهر حرام ، وعند سؤاله عن البلد : بلد حرام ، وعند البخاري أيضا من حديث ابن عباس : وظاهرهما أي ظاهر حديثي أبي بكرة وابن عباس التعارض ، والجمع بينهما أن الطائفة الذين كان فيهم ابن عباس أجابوا ، والطائفة الذين كان فيهم أبو بكرة لم يجيبوا بل قالوا : الله ورسوله أعلم . أو تكون رواية ابن عباس بالمعنى ، لأن في حديث أبي بكرة عند البخاري في الحج وفي الفتن أنه لما قال : أليس يوم النحر ؟ قالوا : بلى . فقولهم (( بلى )) بمعنى قولهم يوم حرام بالاستلزام ، وغايته أن أبا بكرة نقل السياق بتمامه ، واختصر ابن عباس ، وكأن ذلك كان بسبب قرب أبي بكرة منه لكونه كان آخذا بخطام الناقة ، وقال بعضهم : يحتمل تعدد الخطبة ، فإن أراد أنه كررها في يوم النحر فيحتاج لدليل ، فإن في حديث ابن عمر عند البخاري في الحج أن ذلك كان يوم النحر بين الجمرات في

(19/88)


حجته ، وقال الحافظ في كتاب الحج : قيل في الجمع بين الحديثين : لعلهما واقعتان ، قال الحافظ : وليس بشيء لأن الخطبة يوم النحر إنما تشرع مرة واحدة ، وقد قال في كل منهما أن ذلك كان يوم النحر ، وقيل في الجمع بينهما أن بعضهم بادر بالجواب وبعضهم سكت ، وقيل في الجمع أنهم فوضوا أولا كلهم بقولهم : الله ورسوله أعلم ، فلما سكت أجاب بعضهم دون بعض ، وقيل وقع السؤال في الوقت الواحد مرتين بلفظين فلما كان في حديث أبي بكرة فخامة ليست في الأول لقوله فيه (( أتدرون ؟ )) سكتوا عن الجواب بخلاف حديث ابن عباس لخلوه عن ذلك ، أشار إلى ذلك الكرماني ، وقيل في حديث ابن عباس اختصار بينته رواية أبي بكرة فكأنه أطلق قولهم (( قالوا : يوم حرام )) باعتبار أنهم قرروا ذلك
" فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ،

(19/89)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حيث قالوا : بلى . قال الحافظ : وهذا جمع حسن ( فإن دماءكم وأموالكم ) إلخ . تقدم شرح هذه الجملة في شرح حديث جابر الطويل المذكور في باب صفة الحج والمراد بهذا كله بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض والتحذير من ذلك ( وستلقون ربكم ) أي يوم القيامة ( فيسألكم عن أعمالكم ) أي القليلة والكثيرة ( ألا ) للتنبيه ( فلا ترجعوا بعدي ) أي لا تصيروا بعد فراقي من موقفي هذا ، أو بعد موتي ووفاتي ، وهو الأظهر ، وفيه استعمال رجع كصار معني وعملا . قال ابن الملك : وهو مما خفي على أكثر النحويين . أي لا تصيروا بعدي ( ضلالا ) بضم الضاد وتشديد اللام جمع ضال وفي رواية أخرى (( كفارا )) أي كالكفار أو لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا القتال ، أو لا تكن أفعالكم شبيهة بأفعال الكفار ( يضرب بعضكم رقاب بعض ) برفع الباء من يضرب على أنها جملة مستأنفة مبينة لقوله (( لا ترجعوا بعدي ضلالا )) ويجوز الجزم . قال أبو البقاء : على تقدير شرط مضمر أي (( إن ترجعوا بعدي يضرب )) وقال الحافظ : قوله (( يضرب )) بجزم الباء على أنه جواب النهي ، وبرفعها على الاستيناف أو يجعل حالا . وقال النووي : الرواية (( يضرب )) برفع الباء هذا هو الصواب ، وهكذا رواه المتقدمون والمتأخرون ، وبه يصح المقصود هنا . ونقل القاضي عياض أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء . قال القاضي : وهو إحالة للمعنى والصواب الضم . قال النووي : في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : فلا ترجعوا بعدي كفارا ، إلخ . سبعة أقوال أحدها أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق ، والثاني أن المراد كفر النعمة وحق الإسلام ، والثالث أنه يقرب من الكفر ويؤدي إليه ، والرابع أنه فعل كفعل الكفار ، والخامس المراد حقيقة الكفر ، ومعناه لا تكفروا بل دوموا مسلمين ، والسادس حكاه الخطابي وغيره أن المراد المتكفرون بالسلاح ، يقال : تكفر الرجل

(19/90)


بسلاحه إذا لبسه ، قال الأزهري في كتابه ( تهذيب اللغة )) يقال للابس السلاح كافر . والسابع معناه : لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا قتال بعضكم بعضا ، قاله الخطابي . قال النووي : وأظهر الأقوال الرابع وهو اختيار القاضي عياض . وقال الحافظ : جملة ما فيه من الأقوال ثمانية ، أحدها قول الخوارج أنه على ظاهره ، ثانيها هو في المستحلين ، ثالثها المعني كفارا بحرمة الدماء وحرمة المسلمين وحقوق الوالدين ، رابعها تفعلون فعل الكفار في قتل بعضهم بعضا ، خامسها لابسين السلاح يقال : كفر درعه إذا لبس فوقها ثوبا ، سادسها كفارا بنعمة الله ، سابعها المراد الزجر عن الفعل ، وليس ظاهره مرادا ، ثامنها لا يكفر بعضكم بعضا كأن يقول أحد الفريقين للآخر يا كافر فيكفر أحدهما ، ثم وجدت تاسعا وهو أن المراد ستر الحق ، والكفر لغة الستر ، لأن حق المسلم على المسلم أن ينصره ويعينه ، فلما قاتله
ألا هل بلغت ؟ " قالوا : نعم . قال : " اللهم اشهد ، فليبلغ الشاهد الغائب ، فرب مبلغ أوعى من سامع " .

(19/91)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كأنه غطى على حقه الثابت له عليه ، وعاشرا وهو أن الفعل المذكور يفضي إلى الكفر لأن من اعتاد الهجوم على كبار المعاصي جره شؤم ذلك إلى أشد منها فيخشى أن لا يختم له بخاتمة الإسلام . وقال الداودي : معناه لا تفعلوا بالمؤمنين ما تفعلون بالكفار ، ولا تفعلوا بهم ما لا يحل وأنتم ترونه حراما . قلت ( قائله الحافظ ) : وهو داخل في المعاني المتقدمة قلت : واستشكل بعض الشراح غالب هذه الأجوبة بأن راوي الخبر وهو أبو بكرة فهم خلاف ذلك ( لأنه ترك القتال في الفتنة ) والجواب أن فهمه ذلك إنما يعرف من توقفه عن القتال واحتجاجه بهذا الحديث فيحتمل أن يكون توقفه بطريق الاحتياط لما يحتمله ظاهر اللفظ ، ولا يلزم أن يكون يعتقد حقيقة كفر من باشر ذلك ، ويؤيده أنه لم يمتنع من الصلاة خلفهم ولا امتثال أوامرهم ولا غير ذلك مما يدل على أنه يعتقد فيهم حقيقته – انتهى . ( ألا ) للتنبيه ( هل بلغت ؟ ) بتشديد اللام ، أي أعلمتكم ما أنزل إلي من ربي وما أمرني به ( اللهم اشهد ) أي لي وعليهم ، وإنما قال ذلك لأنه كان فرضا عليه أن يبلغ فأشهد الله على أنه أدى ما أوجبه عليه ( فليبلغ ) بالتشديد ويخفف أي ليخبر ( الشاهد أي الحاضر في المجلس ( الغائب ) أي الغائب عنه ، والمراد إما تبليغ القول المذكور أو تبليغ جميع الأحكام ، قال السندي : قوله (( الشاهد )) بالرفع فاعل ليبلغ ، و (( الغائب )) بالنصب على أنه مفعول أول والمفعول الثاني محذوف ، أي العلم الذي حضر سماعه أي ليعم البلاغ الكل كما هو مقتضى عموم الرسالة إليهم ، ولأنه قد يفهم المبلغ ما لا يفهمه الحامل من الأسرار والعلوم وهذا معنى قوله : ( فرب مبلغ ) بتشديد اللام المفتوحة اسم مفعول أي من يبلغه كلامي بواسطة ( أوعى ) أي أحفظ لمبناه وأفهم لمعناه ( من سامع ) سمعه مني مباشرة . قال الحافظ : أي رب شخص بلغه كلامي فكان أحفظ له وأفهم لمعناه من

(19/92)


الذي نقله . قال المهلب : فيه أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدمه إلا أن ذلك يكون في الأقل ، لأن (( رب )) موضوعة للتقليل . قلت ( قائله الحافظ ) : هي في الأصل كذلك إلا أنها استعملت في التكثير بحيث غلبت على الاستعمال الأول ، لكن يؤيد أن التقليل هنا مراد أنه وقع في رواية للبخاري بلفظ (( عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه )) وقوله (( أوعى من سامع )) نعت لمبلغ ، والذي يتعلق به رب محذوف وتقديره يوجد أو يكون ، ويجوز على مذهب الكوفيين في أن رب اسم أن تكون هي مبتدأ وأوعى الخبر فلا حذف ولا تقدير وفي الحديث من الفوائد الحث على تبليغ العلم وجواز التحمل قبل كمال الأهلية وأن الفهم ليس شرطا في الأداء . قال الحافظ : في الحديث دلالة على جواز تحمل الحديث لمن لم يفهم معناه ولا فقهه إذا ضبط ما يحدث به ، ويجوز وصفه بكونه من أهل العلم بذلك ، وفيه أيضا وجوب تبليغ العلم على الكفاية ، وقد يتعين في حق بعض الناس ، وفيه تأكيد التحريم وتغليظه بأبلغ ممكن من تكرار ونحوه ،
متفق عليه .
2684 – (2) وعن وبرة ، قال : سألت ابن عمر : متى أرمي الجمار ؟ قال : إذا رمى إمامك فارمه . فأعدت عليه المسألة ، فقال : كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا . رواه البخاري .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وفيه مشروعية ضرب المثل وإلحاق النظير بالنظير ليكون أوضح للسامع ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في العلم والمناسك وبدء الخلق والمغازي ( في باب حجة الوداع ) وفي تفسير براءة وفي الأضاحي والفتن والتوحيد ومسلم في الديات ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 5 : ص 37 ، 39 ، 40 ، 45 ، 49) وأبو داود والبيهقي (ج 5 : ص 140) وأخرجه ابن ماجه في السنة مختصرا جدا .

(19/93)


2684- قوله ( وعن وبرة ) بفتح الواو الموحدة بعدها راء – هو ابن عبد الرحمن المسلمي بضم الميم وسكون المهملة بعدها لام – أبو خزيمة أو أبو العباس الكوفي ، ثقة تابعي ، مات في ولاية خالد بن عبد الله القسري على الكوفة سنة ست عشرة ومائة ( متى أرمي الجمار ؟ ) يعني في غير يوم الأضحي ( إذا رمى إمامك فارمه ) بهاء ساكنة للسكت وقال القاري : بهاء الضمير أو السكت ، وعلى الأول تقديره ارم موضع الجمرة أو ارم الرمي أو الحصى – انتهى . قال الحافظ : قوله (( إذا رمى إمامك فارمه )) يعني الأمير الذي على الحج ، وكأن ابن عمر خاف عليه أن يخالف الأمير فيحصل له منه ضرر ، فلما أعاد عليه المسألة لم يسعه الكتمان فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد رواه ابن عيينة عن مسعر عن وبرة عن ابن عمر فقال فيه : فقلت له : أرأيت إن أخر إمامي ؟ أي الرمي فذكر له الحديث . أخرجه ابن أبي عمر في مسنده عنه ومن طريقه الإسماعيلي – انتهى ( فأعدت عليه المسألة ) أردت تحقيق وقت رمي الجمرة ( كنا نتحين ) نتفعل من الحين وهو الزمان ، أي نراقب الوقت المطلوب وهو زوال الشمس . قال الطيبي : أي ننتظر دخول وقت الرمي – انتهى . وقال الطبري : أي نطلب حينها والحين الوقت ، ومنه كانوا يتحينون وقت الصلاة أي يطلبون حينها ، ولفظ أبي داود (( كنا نتحين زوال الشمس ( فإذا زالت الشمس رمينا ) بلا ضمير أي الجمرة يعني قبل صلاة الظهر ، فقد روى ابن ماجة من طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرمي الجمار إذا زالت الشمس قدر ما إذا فرغ من رميه صلى الظهر . قال السندي : هذا يدل على أنه بعد الزوال يبدأ برمي الجمار ثم يصلي أي الظهر – انتهى . وفي الحديث دليل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد زوال الشمس ، وأنه لا يجزئ رميها قبل زوالها بل وقته بعد الزوال ، وإلى هذا ذهب الجمهور . وخالف في ذلك

(19/94)


عطاء وطاوس فقالا : يجوز الرمي قبل الزوال مطلقا ، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال . وقال إسحاق : إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه ، والحديث يرد على الجميع ، وقد تقدم البسط في هذه المسألة في شرح حديث جابر في الفصل الأول من باب رمي الجمار ( رواه البخاري ) وأخرجه أيضا أبو داود والبيهقي (ج 5 : ص 148) .
2685 – (3) وعن سالم عن ابن عمر ، أنه كان يرمي جمرة الدنيا بسبع حصيات ، يكبر على إثر كل حصاة ، ثم يتقدم حتى يسهل ، فيقوم مستقبل القبلة طويلا ، ويدعو ويرفع يديه ، ثم يرمي الوسطى بسبع حصيات ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/95)


2685- قوله ( كان يرمي جمرة الدنيا ) كذا في جميع النسخ وهكذا وقع في المصابيح أي بإضافة الجمرة إلى الدنيا . وفي البخاري (( الجمرة الدنيا )) قال التوربشتي : الجمرة واحدة جمرات المناسك . وهي ثلاث جمرات واحد منها ذات العقبة وهي مما يلي مكة ولا يرمي يوم النحر إلا جمرة ذات العقبة ، وبعد يوم النحر يرمي الثلاث ، والسنة فيها ما ذكر في الحديث ، والدنيا هي التي يبدأ بها ، ووصفها بالدنيا ( أي القربى ) لكونها أقرب إلى منازل النازلين عند مسجد الخيف ، وهنالك كان مناخ النبي - صلى الله عليه وسلم - وإضافتها إلى الدنيا كإضافة المسجد إلى الجامع من إضافة الموصف إلى الصفة ، ويحتمل أن يكون فيه حذف أي جمرة البقعة الدنيا كقولك (( حق اليقين )) ( بسبع حصيات ) في كل يوم من أيام التشريق ( يكبر على إثر كل حصاة ) بكسر الهمزة وسكون المثلثة وبفتحهما أي عقيب كل واحدة من الحصى ، وظاهر هذا تأخير التكبير عن الرمي . وفي رواية أحمد (ج 2 : ص 152) يكبر مع كل حصاة ، وكذا وقع في حديث جابر عند مسلم وغيره وحديث ابن مسعود عند الشيخين ، ويأتي في حديث ابن عمر في رمي جمرة العقبة (( يكبر عند كل حصاة )) قال القاري : وهو أعم ، والمراد بالمعية خروج الجمرة من اليد فهو مع الرمي باعتبار الابتداء ، أو أثره باعتبار الانتهاء – انتهى . وأول بعضهم قوله (( إثر كل حصاة )) بأن المراد عقب إرادة الرمي بها ، وإلى المعية أي مقارنة التكبير لكل حصاة ذهب أتباع الأئمة الأربعة كما صرح به الباجي وابن قدامة والنووي ، قال الدسوقي : ظاهر المدونة أن التكبير مع كل حصاة سنة ، وأشعر قول الدردير مع رمي كل حصاة أنه لا يكبر قبل رميها ولا بعده ، ويفوت المندوب بمفارقة الحصاة ليده قبل النطق بالتكبير – انتهى . وفي الهداية (( يكبر مع كل حصاة )) كذا روي عن ابن مسعود وابن عمر – انتهى ( ثم يتقدم ) أي يذهب قليلا من ذلك الموضع وفي رواية (( ثم تقدم أمامها )) ( حتى

(19/96)


يسهل ) بضم أوله وسكون المهملة ، يقال : أسهل الرجل إذا صار إلى السهل من الأرض ، قال الحافظ : أي يقصد السهل من الأرض وهو المكان المستوي الذي لا ارتفاع فيه – انتهى . وقال القاري : أي يدخل المكان السهل وهو اللين ضد الحزن بفتح الحاء وسكون الزاي أي الصعب ( فيقوم ) مرفوع عطفا على يتقدم ( مستقبل القبلة ) أي حال كونه مقابل الكعبة ( طويلا ) وفي رواية (( فيقوم قياما طويلا )) ( ويدعو ) أي قدر سورة البقرة كما تقدم ( ويرفع يديه ) أي في الدعاء ( ثم يرمي الوسطى ) وفي رواية (( ثم يرمي الجمرة الوسطى )) أي الجمرة التي بين الأولى والأخرى . قال ابن الهمام : هل هذا الترتيب متعين أو أولى ؟ مختلف فيه والذي يقوى عندي استنان الترتيب لا تعيينه ، والله أعلم . قال القاري : والأحوط مراعاة الترتيب لأنه واجب عند الشافعي
يكبر كلما رمي بحصاة ، ثم يأخذ بذات الشمال

(19/97)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وغيره ، ثم الظاهر أن الموالاة سنة كما في الوضوء أو واجب وفق مذهب مالك هنالك – انتهى . وقال ابن قدامة في المعني (ج 3 : ص 452) : والترتيب في هذه الجمرات واجب على ما وقع في حديث ابن عمرو وحديث عائشة عند أبي داود ، فإن نكس فبدأ بجمرة العقبة ثم الثانية ثم الأولى أو بدأ بالوسطى ورمي الثلاث لم يجزه إلا الأولى وأعاد الوسطى والقصوى ، نص عليه أحمد ، وإن رمى القصوي ثم الأولى ثم الوسطى أعاد القصوى وحدها ، وبهذا قال مالك والشافعي ، وقال الحسن وعطاء : لا يجب الترتيب وهو قول أبي حنيفة ، فإنه قال : إذا رمى منكسا يعيد ، فإن لم يفعل أجزأه ، واحتج بعضهم بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من قدم نسكا بين يدي نسك فلا حرج ، ولأنها مناسك متكررة في أمكنة متفرقة في وقت واحد ليس بعضها تابعا لبعض فلم يشترط الترتيب فيها كالرمي والذبح . ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتبها في الرمي وقال : خذوا عني مناسككم ، ولأنه نسك متكرر فاشترط الترتيب فيه كالسعي ، وحديثهم إنما جاء في من يقدم نسكا على نسك لا في تقديم بعض النسك على بعض ، وقياسهم يبطل بالطواف والسعي – انتهى . وقال الشنقيطي :

(19/98)


اعلم أنه يجب الترتيب في رمي الجمار أيام التشريق فيبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم ينصرف إلى الجمرة الوسطى فيرميها كالتي قبلها ، ثم ينصرف إلى جمرة العقبة فيرميها كذلك ، وهذا الترتيب على النحو الذي ذكرنا هو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بأخذ المناسك عنه ، فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الترتيب المذكور ، ثم ذكر حديث ابن عمر الذي نحن في شرحه ، ثم قال : روى البخاري هذا الحديث في ثلاثة أبواب متوالية ، وهو نص صحيح صريح في الترتيب المذكور ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : لتأخذوا عني مناسككم ، فإن لم يرتب الجمرات بأن بدأ بجمرة العقبة لم يجزئه الرمي منكسا لأنه خالف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الحديث : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ، وتنكيس الرمي عمل ليس من أمرنا فيكون مردودا ، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم . وقال أبو حنيفة : الترتيب المذكور سنة ، فإن نكس الرمي أعاده ، وإن لم يعد أجزأه ، وهو قول الحسن وعطاء ، واحتجوا بأدلة لا تنتهض ، وعلى الصحيح الذي هو قول الجمهور : أن الترتيب شرط لو بدأ بجمرة العقبة ثم الوسطى ثم الأولى أو بدأ بالوسطى ورمي الثلاث لم يجزه إلا الأولى لعدم الترتيب في الوسطى والأخيرة ، فعليه أن يرمي الوسطى ثم الأخيرة ، ولو رمى جمرة العقبة ثم الأولى ثم الوسطى أعاد جمرة العقبة وحدها ، هذا هو الظاهر – انتهى كلام الشنقيطي ( يكبر كلما رمى بحصاة ) قال الباجي : وذلك أنه إذا كان التكبير مشروعا عند الرمي فإنه يتكرر عند كل رمية ، وكذلك كل عبادة شرع فيها التكبير فإنه يتكرر بتكرر محله كالانتقال من ركن إلى ركن في الصلاة ، وقد قال مالك يكبر مع كل حصاة – انتهى . والأصل في ذلك ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكبر مع كل حصاة – انتهى . ( ثم يأخذ بذات الشمال ) في

(19/99)


فيسهل ، ويقوم مستقبل القبلة ، ثم يدعو ويرفع يديه ، ويقوم طويلا ، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ، يكبر عند كل حصاة ، ولا يقف عندها ، ثم ينصرف فيقول : هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله . رواه البخاري .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ البخاري (( ذات الشمال )) أي بدون الباء أي يمشي إلى جهة شماله ( فيسهل ) قال القاري : أي يذهب على شمال الجمرة الوسطى حتى يصل إلى موضع سهل يعني ليقف داعيا في مكان لا يصيبه الرمي . وفي رواية (( ثم ينحدر ذات الشمال مما يلي الوادي فيقف مستقبل القبلة )) ( ثم يرمي جمرة ذات العقبة ) بإضافة الجمرة ، قال الحافظ : هو نحو يا نساء المؤمنات ، أي يأتي الجمرة ذات العقبة ، وثبت كذلك في رواية سليمان ( عن يونس عن الزهري عن سالم ) عند البخاري ، وفي رواية عثمان بن عمر ( عن يونس ) ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة ( ولا يقف عندها ) أي للدعاء ( ثم ينصرف ) أي ابن عمر . وفي الحديث مشروعية التكبير عند رمي كل حصاة ، وقد أجمعوا على أن من تركه لا يلزمه شيء إلا الثوري فقال : يطعم وإن جبره بدم أحب إلي ، وعلى الرمي بسبع وعلى استقبال القبلة والقيام طويلا عند الجمرتين أي الأولى والثانية والتضرع عندهما ، وفيه التباعد من موضع الرمي عند القيام بالدعاء حتى لا يصيب رمي غيره ، وفيه مشروعية رفع اليدين في الدعاء وترك الدعاء والقيام عند جمرة العقبة . قال ابن قدامة : لا نعلم لما تضمنه حديث ابن عمر هذا مخالفا إلا ما روي عن مالك من ترك رفع اليدين عند الدعاء بعد رمي الجمار ، فقال ابن المنذر : لا أعلم أحدا أنكر رفع اليدين في الدعاء عند الجمرة إلا ما حكاه ابن القاسم عن مالك – انتهى . قال الحافظ : ورده ابن المنير بأن الرفع لو كان هنا سنة ثابتة ما خفي عن أهل المدينة وغفل رحمه الله تعالى عن أن الذي رواه من أعلم أهل المدينة من الصحابة في زمانه وابنه

(19/100)


سالم أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة ، والراوي عنه ابن شهاب عالم المدينة ثم الشام في زمانه ، فمن علماء المدينة إن لم يكونوا هؤلاء ؟ والله المستعان – انتهى . ونقل في المحلى عن ابن المنذر أنه قال : لا أعلم أحدا أنكر ذلك غير مالك فإن ابن القاسم حكى عنه أنه لم يكن يعرف رفع اليدين هناك . قال وإتباع السنة أفضل ، وقيل يرفع حكاه ابن التين وابن الحاجب – انتهى . وحكى القسطلاني عن ابن فرحون من المالكية في مناسكه في رفع اليدين في الدعاء قولان – انتهى . ولم يذكر في الحديث حال الرمي في المشي والركوب ، وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن ابن عمر كان يمشي إلى الجمار مقبلا ومدبرا ، وعن جابر أنه كان لا يركب إلا من ضرورة ، وروى الترمذي عن ابن عمر وصححه والبيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رمى الجمار مشي إليها ذاهبا وراجعا ، وفي لفظ عنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبا وسائر ذلك ماشيا ، ويخبرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك . رواه أحمد (ج 2 : ص 114 ، 138 ، 156) وأبو داود والبيهقي ( رواه البخاري ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : 152) والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 148) .
2686 – (4) وعن ابن عمر ، قال : استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته ، فأذن له .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/101)


2686- قوله ( استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى ) المراد بها ليلة الحادي عشر واللتين بعده ( من أجل سقايته ) قال القاري : أي التي بالمسجد الحرام المملوءة من ماء زمرم المندوب الشرب منها عقب طواف الإفاضة وغيره إذا لم يتيسر الشرب من البئر للخلق الكثير ، وهي الآن بركة ، وكانت حياضا في يدي قصي ، ثم منه لابنه عبد مناف ثم منه لابنه هاشم ، ثم منه لابنه عبد المطلب ثم منه لابنه العباس ثم منه لابنه عبد الله ثم منه لابنه علي وهكذا إلى الآن ، لكن لهم نواب يقومون بها .قالوا : وهي لآل عباس أبدا – انتهى . وروى الفاكهي بسنده عن عطاء قال : سقاية الحاج زمرم . وقال الأزرقي : كان عبد مناف يحمل الماء في الروايا والقرب إلى مكة ويسكبه في حياض من أدم بفناء الكعبة للحجاج ، ثم فعله ابنه هاشم بعده ، ثم عبد المطلب ، فلما حفر زمزم كان يشترى الزبيب فينبذه في ماء زمزم ويسقي الناس . قال ابن إسحاق : لما ولى قصي بن كلاب أمر الكعبة كان إليه الحجابة والسقاية واللواء والرفادة ودار الندوة ، ثم تصالح بنوه على أن لعبد مناف السقاية والرفادة ، والبقية للأخوين ، ثم ذكر نحو ما تقدم ، وزاد (( ثم ولي السقاية من بعد عبد المطلب ولده العباس وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا ، فلم تزل بيده حتى أقام الإسلام وهي بيده ، فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه فهي اليوم إلى بني العباس )) كذا في الفتح . وقال الطبري : قال أهل التواريخ : كان أصل السقاية حياض من أدم توضع على عهد قصي بفناء الكعبة ويستقي فيها الماء للحاج ، وأصل الرفادة خرج كانت قريش تخرجه من أموالها إلى قصي يصنع به طعاما للحاج يأكله من ليس له سعة ..... وما زال ذلك الأمر حتى قام به هاشم ثم أخوه عبد المطلب ثم عبد المطلب ثم قام به العباس ( فأذن له ) وفي رواية : رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس أن يبيت بمكة

(19/102)


أيام منى من أجل سقايته ، والمراد بأيام منى لياليها كما وقع في رواية البخاري ، وهي ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر . والحديث دليل على مشروعية المبيت في منى ليالي أيام التشريق ، وعلى جواز التخلف عن المبيت فيه لأجل السقاية . واتفق العلماء على ذلك ، ثم اختلفوا هل المبيت فيه واجب أو سنة فذهب مالك وأصحابه إلى أنه واجب ولو بات ليلة واحدة منها أو جل ليلة وهو خارج عن منى لزمه دم لأثر ابن عباس (( من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما )) أخرجه البيهقي ، وروى مالك في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال : لا يبين أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة . ومذهب أبي حنيفة هو أن عدم المبيت بمنى ليالي منى مكروه لأنه - صلى الله عليه وسلم - بات بمنى ، وعمر كان يؤدب على ترك المقام بها ، ولو بات بغيرها متعمدا لم يلزمه شيء عند أبي حنيفة وأصحابه لأنهم يرون أن المبيت بمنى لأجل أن يسهل
...............................................................................................

(19/103)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه الرمي في أيامه فلم يكن من الواجبات عندهم . وللشافعي في هذه المسألة قولان أصحهما وأشهرهما وأظهرهما أنه واجب ، والثاني أنه سنة ، فعلى القول بأنه واجب فالدم واجب في تركه وعلى أنه سنة فالدم سنة في تركه ولا يلزم عندهم الدم إلا في ترك المبيت في الليالي كلها لأنها عندهم كأنها نسك واحد ، وإن ترك المبيت في ليلة من الليالي الثلاث ففيه الأقوال المذكورة في ترك الحصاة الواحدة عندهم ، أصحها أن في ترك مبيت الليلة الواحدة مدا والثاني أن فيه درهما ، والثالث أن فيه ثلث دم ، وحكم الليلتين معلوم ، والمعتبر في المبيت عندهم الكون بمنى معظم الليل إذ المبيت ورد مطلقا والاستيعاب غير واجب اتفاقا فأقيم المعظم مقام الكل ، ولا فرق بين أول الليل وآخره ، وفي قوله أن المعتبر الكون بمنى عند طلوع الفجر ومن حضر بها قبله فقد أدى واجب المبيت ، ومذهب الإمام أحمد أن المبيت بمنى ليالي منى واجب فلو ترك المبيت بها في الليالي الثلاث فعليه دم على الصحيح من مذهبه ، وعنه يتصدق بشيء وعنه لا شيء عليه ، فإن ترك المبيت في ليلة من لياليها ففيه ما في الحصاة الواحدة من الأقوال التي قدمنا : قيل مد ، وقيل درهم ، وقيل ثلث دم ، وأظهر الأقوال دليلا أن المبيت بمنى أيام منى نسك من مناسك الحج يدخل في قول ابن عباس : من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليرهق دما ، والدليل على ذلك ثلاثة أمور ، الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بها الليالي المذكورة وقال لتأخذوا عني ماسككم ، فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا البيتوتة بمنى الليالي المذكورة . الثاني هو حديث ابن عمر في الترخيص للعباس الذي نحن في شرحه . قال الحافظ : في الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى ، وأنه من مناسك الحج ، لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة ، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة ، وإذا لم توجد هي أو ما في معناها لم

(19/104)


يحصل الإذن ، وبالوجوب قال الجمهور ، وفي (( قول للشافعي ورواية عن أحمد وهو مذهب الحنفية أنه سنة ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الاختلاف ، ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل – انتهى . وما ذكره من أخذ الوجوب من الحديث المذكور واضح . الأمر الثالث هو ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يمنع الحجاج من المبيت خارج منى ويرسل رجالا يدخلونهم في منى ، وهو من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بالإقتداء بهم والتمسك بسنتهم ، والظاهر أن من ترك المبيت بمنى لعذر لا شيء عليه كما دل عليه الترخيص للعباس من أجل السقاية والترخيص لرعاء الإبل في عدم المبيت . قال الحافظ : وهل يختص الإذن بالسقاية وبالعباس أو بغير ذلك من الأوصاف المعتبرة في هذا الحكم ، فقيل يختص الحكم بالعباس وهو جمود ، وقيل يدخل معه آلة ، وقيل قومه وهم بنو هاشم ، وقيل كل من احتاج إلى السقاية فله ذلك ، ثم قيل أيضا : يختص الحكم بسقاية العباس حتى لو عملت سقاية لغيره لم يرخص لصاحبها في المبيت لأجلها ، ومنهم من عممه ، وهو الصحيح في الموضعين ، والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين ، وهل يختص ذلك بالماء أو يلتحق به ما في معناه من الأكل وغيره ، محل احتمال ، وجزم الشافعية بإلحاق من له مال يخاف ضياعه أو أمر يخاف فوته أو مريض يتعاهده بأهل السقاية كما جزم الجمهور
...............................................................................................

(19/105)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بإلحاق الرعاء خاصة . قال الزرقاني : لكنهم لم يجزموا بذلك بالإلحاق ، إنما هو بالنص الذي رواه مالك وأصحاب السنن الأربع عن عاصم بن عدي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى . قال الحافظ : وهو قول أحمد ، واختاره ابن المنذر أعني الاختصاص بأهل السقاية ورعاء الإبل ، والمعروف عن أحمد اختصاص العباس بذلك ، وعليه اقتصر صاحب المغني حيث قال بعد ذكر حديث ابن عمر : وتخصيص العباس بالرخصة لعذره دليل على أنه لا رخصة لغيره ، وعن ابن عباس قال لم يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد يبيت بمكة إلا العباس من أجل سقايته رواه ابن ماجة – انتهى . وقال أيضا : يجوز للرعاة ترك المبيت بمنى ليالي منى ويؤخرون رمي اليوم الأول ويرمون يوم النفر الأول عن الرميين جميعا لما عليهم من المشقة في المبيت والإقامة للرمي لحديث أبي البداح بن عاصم بن عدي ( الآتي وكذلك الحكم في أهل سقاية الحاج لحديث ابن عمر ( الذي نحن في شرحه ) إلا أن الفرق بين الرعاء وأهل السقاية أن الرعاء إذا قاموا حتى غربت الشمس فقد انقضى وقت الرعي وأهل السقاية يشتغلون ليلا ونهارا فافترقا وصار الرعاء كالمريض الذي يباح له ترك الجمعة لمرضه ، فإذا حضرها تعينت عليه ، والرعاء أبيح لهم ترك المبيت لأجل الرعي ، فإذا فات وقته وجب المبيت ، وأهل الأعذار من غير الرعاء كالمرضى ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم كالرعاء في ترك البيتوتة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لهؤلاء تنبيها على غيرهم . أو نقول : نص عليه لمعنى وجد في غيرهم فوجب إلحاقه بهم – انتهى . وقال النووي في مناسكه : من ترك مبيت منى لعذر فلا شيء عليه ، والعذر أقسام أحدها أهل سقاية العباس يجوز لهم تركه سواء تولى بنو العباس أو غيرهم . ولو حدثت سقاية للحجاج فللمقيم بشأنها ترك المبيت كسقاية العباس ( هذا هو المعتمد ،

(19/106)


وإن أطال الأسنوي وغيره في رده ) الثاني رعاء الإبل يجوز لهم ترك المبيت لعذر الرعي ( ينبغي حمله على ما إذا احتاجوا إليه ليلا أو كانوا مع الذهاب إليه لا يمكنهم المجيء إلى المبيت وإن لم يحتاجوا إليه ليلا فلا منافاة بين هذا وفرقه الآتي بين السقاة والرعاة ) ومتى أقام الرعاء بمنى حتى غربت الشمس لزمهم المبيت بها تلك الليلة ، ولو أقام أهل السقاية حتى غربت الشمس فلهم الذهاب إلى السقاية بعد الغروب ، لأن شغلهم يكون ليلا ونهارا . الثالث من له عذر بسبب آخر كمن له مال يخاف ضياعه لو اشتغل بالمبيت أو يخاف على نفسه أو مال معه أو له مريض يحتاج إلى تعهده أو يطلب عبدا آبقا أو يكون به مرض يشق معه المبيت أو نحو ذلك فالصحيح أنه يجوز لهم ترك المبيت ، ولهم أن ينفروا بعد الغروب ولا شيء عليهم – انتهى . وقال الدردير : إن ترك المبيت بها جل ليلة فأكثر فدم ولو لضرورة ورخص لراعي إبل فقط بعد رمي العقبة يوم النحر أن ينصرف إلى رعيه ويترك المبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر ، ويأتي اليوم الثالث من أيام النحر فيرميه فيه لليومين . وكذا يرخص لصاحب السقاية في ترك المبيت خاصة فلا بد أن يأتي نهارا للرمي ثم ينصرف ، لأن ذا السقاية ينزع الماء من زمزم ليلا ويفرغه في الحياض . قال الدسوقي : قوله : (( ولو
متفق عليه .
2687 – (5) وعن ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى السقاية فاستسقى ، فقال العباس : يا فضل ! اذهب إلى أمك فأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراب من عندها . فقال : " اسقني " . فقال : يا رسول الله ! إنهم يجعلون أيديهم فيه .

(19/107)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كان الترك لضرورة )) أي لخوف على متاعه وهو الذي يقتضيه مذهب مالك حسبما رواه عنه ابن نافع في من حبسه مرض فبات بمكة فإن عليه هديا ، وقوله (( لراعي إبل فقط )) لأن الرخصة كما في الموطأ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لرعاة الإبل ، ومعلوم أن الرخصة لا تتعدى محلها ، وفي القياس عليها نزاع ، وظاهر المصنف ( أي الشيخ خليل ) وابن شاس وابن الحاجب وابن عرفة الإطلاق ( أي في رعاء الإبل ورعاء غير الإبل ) قوله ويأتي اليوم الثالث ولا دم عليه لترك المبيت ولا لتأخير رمي اليوم الثاني لليوم الثالث ، قوله (( في ترك المبيت خاصة )) أي لا في ترك الإتيان يوم الحادي عشر والإتيان في الثاني عشر كالرعاة – انتهى . وقال في الأنوار عن حاشية الصاوي : رخص مالك جوازا لراعي الإبل فقط بعد رمي العقبة أن ينصرف إلى رعيه ويترك المبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر ، ويأتي اليوم الثالث من أيام النحر فيرمي فيه لليومين الذي فاته والذي حضر فيه ، ورخص لصاحب السقاية في ترك المبيت خاصة فلا بد أن يأتي نهارا للرمي ثم ينصرف لأن ذا السقاية ينزع الماء من زمزم ويفرغه في الحياض – انتهى . وكذا قال الزرقاني : إن أهل السقاية إنما يرخص لهم في ترك البيات بمنى لا في ترك رمي اليوم الأول من أيام الرمي فيبيتون بمكة ويرمون الجمار نهارا ويعودون لمكة ، كما في الطراز المذهب – انتهى . وقد تقدم أن المبيت بمنى سنة عند الحنفية وعدم المبيت بها مكروه تنزيها عندهم فضلا أن يكون للعذر . وفي الحديث استئذان الأمراء والكبراء فيما يطرأ من المصالح والأحكام وبدار من استؤمر إلى الإذن عند ظهور المصلحة ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 19 ، 22 ، 28) وأبو داود وابن ماجة والدارمي والبيهقي (ج 5 : ص 153) .

(19/108)


2687 – قوله ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى السقاية ) قال في المجمل : السقاية هي المحل الذي يتخذ فيه الشراب في الموسم كان يشتري الزبيب فينبذ في ماء زمزم ويسقي للناس وكان يليها العباس جاهلية وإسلاما ، وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - له ، فهي لآل العباس أبدا فلا يجوز لأحد نزعها منهم ما بقى منهم أحد – انتهى ( فاستسقى ) أي طلب الشراب ( فقال العباس : يا فضل : اذهب إلى أمك ) الفضل هو ابن العباس أخو عبد الله وأمه هي أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية ، وهي والدة عبد الله أيضا ( فأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراب ) أي خالص خاص ما وصله استعمال ( اسقني ) بهمزة وصل أو قطع أي من هذا الشراب الحاضر في السقاية ( فقال ) أي العباس ( يا رسول الله إنهم ) أي الناس ( يجعلون أيديهم فيه ) أي في هذا الشراب والغالب عليهم عدم النظافة . قال الحافظ : في رواية الطبراني من طريق يزيد بن أبي زياد عن عكرمة في هذا
قال : " اسقني " . فشرب منه ، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها ، فقال : " اعملوا فإنكم على عمل صالح " . ثم قال : " لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه " . وأشار إلى عاتقه .

(19/109)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث أن العباس قال له: إن هذا قد مرث ( أي وسخوه بإدخال أيديهم فيه ) أفلا أسقيك من بيوتنا ، قال : لا ، ولكن اسقني مما يشرب منه الناس – انتهى . وعند أحمد (ج 1 : ص 320 ، 336) بسند ضعيف ، قال ابن عباس : جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عباسا فقال : اسقونا ، فقال : إن هذا النبيذ شراب قد مغث ومرث ، أفلا نسقينك لبنا أو عسلا ؟ قال : اسقونا مما تسقون منه الناس ( قال : اسقني ) زاد أبو علي بن السكن في روايته (( فناوله العباس الدلو )) ( فشرب منه ) قال الحافظ في رواية يزيد المذكورة (( فأتى به فذاقه فقطب ثم دعا بماء فكسره )) قال : وتقطيبه إنما كان لحموضته وكسره بالماء ليهون عليه شربه وعرف بهذا جنس المطلوب شربه إذ ذاك ، وقد أخرج مسلم من طريق بكر بن عبد الله المزني . قال : كنت جالسا مع ابن عباس فقال : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة وقال : أحسنتم ، كذا فاصنعوا ( ثم أتى زمزم وهم يسقون ) أي الناس عليها ( ويعملون فيها ) أي يكدحون بالجذب والصب ( فإنكم على عمل أي قائمون أو ثابتون أي تسعون على عمل ( صالح ) أي خير ( لولا أن تغلبوا ) بضم أوله على البناء للمجهول ، أي لو لا كراهة أن يغلبكم الناس ويأخذوا هذا العمل الصالح من أيديكم ( لنزلت ) أي عن ناقتي ، قال التوربشتي : أعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الذي يكدحون فيه من سقاية الحاج بمكان من العمل الصالح لحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشاركهم فيه غيره أنه لا يأمن عليهم إن فعل ذلك غائلة الولاة وتنافسهم وتنازعهم فيه حرصا على حيازة هذه المأثرة لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغبته فيها فتغلبوا عليها وينتزع عنكم فهذا هو المانع الذي صدني عن النزع معكم – انتهى . وقال الحافظ : معناه لو لا أن يغلبكم الناس على هذا

(19/110)


العمل إذا رأوني قد عملته لرغبتهم في الإقتداء بي فيغلبوكم بالمكاثرة لفعلت . ويؤيد هذا ما أخرج مسلم من حديث جابر : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال : انزعوا بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ، واستدل بهذا على أن سقاية الحاج خاصة ببني العباس . وقال ابن بزيزة : أراد بقوله (( لولا أن تغلبوا )) قصر السقاية عليهم وأن لا يشاركوا فيها ، واستدل به على أن الذي أرصد للمصالح العامة لا يحرم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على آله تناوله ، لأن العباس أرصد سقاية زمزم لذلك ، وقد شرب منها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن المنير في الحاشية : يحمل الأمر في مثل هذا على أنها مرصدة للنفع العام فتكون للغني في معنى الهدية وللفقير صدقة ( حتى أضع ) بالنصب والرفع ( وأشار إلى عاتقه ) هو أحد طرفي رقبته ، قال الحافظ : في الحديث من الفوائد أنه لا يكره طلب السقي من الغير ولا رد ما يعرض على المرء من الإكرام إذا عارضته مصلحة أولى منه ، لأن رده لما عرض عليه العباس مما يؤتى به من نبيذ لمصلحة التواضع التي ظهرت من شربه مما يشرب منه الناس . وفيه الترغيب في سقي
رواه البخاري .
2688 – (6) وعن أنس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ثم رقد رقدة بالمحصب ، ثم ركب إلى البيت فطاف به .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الماء خصوصا ماء زمزم وفيه تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - وحرص أصحابه على الإقتداء به ، وكراهة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات . قال ابن المنير في الحاشية : وفيه أن الأصل في الأشياء الطهارة لتناوله - صلى الله عليه وسلم - من الشراب الذي غمست فيه الأيدي – انتهى ( رواه البخاري ) وأخرجه أيضا الطبراني والبيهقي (ج 5 : ص 147) .

(19/111)


2688 – قوله ( صلى الظهر ) أي بعد النفر من منى في اليوم الرابع من يوم النحر ، وهذا صريح في تقديم رمي الجمار على الظهر أثر الزوال وأنه ينفر من منى قبل أداء صلاة الظهر . قال الحافظ : قوله (( صلى الظهر )) لا ينافي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرم إلا بعد الزوال لأنه رمى فنفر فنزل المحصب
فصلى الظهر به ( ثم رقد رقدة ) أي نام نومة خفيفة ، وفي حديث ابن عمر عند أحمد وأبي داود (( ثم هجع هجعة )) أي اضطجع ونام يسيرا ( بالمحصب ) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الصاد المهملة المفتوحة وفي آخره باء موحدة ، مكان متسع بين مكة ومنى سمي به لاجتماع الحصباء فيه بحمل السيل فإنه موضع منهبط ، قال في شرح اللباب : المحصب وهو الأبطح ويسمى الحصباء والبطحاء والخيف ، قيل هو إلى منى أقرب وليس بصحيح ، والمعتمد أنه بفناء مكة وحده على الصحيح ما بين الجبل الذي عند مقابر مكة ، والجبل الذي يقابله مصعدا إلى جهة الأعلى في الشق الأيسر وأنت ذاهب إلى منى مرتفعا عن بطن الوادي وليس المقبرة من المحصب . وقال في المرقاة : قوله (( بالمحصب )) تنازع في الجار والمجرور (( صلى )) و (( رقد )) وهو في الأصل كل موضع كثر حصباؤه ، والمراد الشعب الذي أحد طرفيه منى والآخر متصل بالأبطح وينتهي عنده ، ولذلك لم يفرق الراوي بينهما ، فروى في هذا الحديث أنه صلى بالمحصب ، وفي حديثه الآخر (( أنه صلى بالأبطح )) ويقال له البطحاء ، وقال التوربشتي : قوله (( بالمحصب )) متعلق بأول الحديث إلى قوله ثم رقد كأنه قال : وذلك بالمحصب ، والمعنى أنه صلى الصلوات الأربع بالمحصب ثم رقد به رقدة ثم ركب إلى البيت فطاف به أي طواف الصدر وهو طوف الوداع والمراد من المحصب في هذا الحديث هو الأبطح الذي في الحديث الذي يليه ، والمحصب يصح أن يقال لكل موضع كثر حصباؤه ، والأبطح مسيل واسع فيه دقاق الحصى وهذا الموضع المذكور في الحديث تارة بالأبطح والأخرى بالمحصب أوله

(19/112)


منقطع الشعب من وادي منى وآخره متصل بالمقبرة التي يسميه أهل مكة المعلي – انتهى . وهذا الحديث صريح في أن أول صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المحصب صلاة الظهر ، والمتبادر من الحديث الآتي أنه العصر فيقدم الصريح على الظاهر ( ثم ركب ) أي من المحصب متوجها ( إلى البيت فطاف به ) أي طواف الوداع ، والحديث فيه دليل على مشروعية النزول بالمحصب واستحبابه لمن لم يكن
رواه البخاري .
2689 – (7) وعن عبد العزيز بن رفيع ، قال : سألت أنس بن مالك . قلت : أخبرني بشيء عقلته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أين صلى الظهر يوم التروية ؟ قال : بمنى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ متعجلا . واختلفوا في أنه سنة أو منزل اتفاقي على القولين ، وسيأتي تفصيل الكلام فيه شرح حديث عائشة الآتي ( رواه البخاري ) وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى والبيهقي (ج 5 : ص 110) .

(19/113)


2689- قوله ( عن عبد العزيز بن رفيع ) بضم الراء وفتح الفاء مصغرا ، الأسدي أبو عبد الله المكي نزيل الكوفة من مشاهير التابعين وثقاتهم ، قال البخاري عن علي : له نحو ستين حديثا ، مات سنة ثلاثين ومائة . وقيل بعدها وليس لعبد العزيز بن رفيع عن أنس في الصحيحين إلا هذا الحديث الواحد ( قلت ) بدل من سألت أو بيان ( عقلته ) بفتح القاف أي علمته وحفظته . وهي جملة في محل الجر لأنها وقعت صفة لقوله شيء ( أين صلى الظهر ) زاد في رواية البخاري (( والعصر )) ( يوم التروية ؟ )) أي اليوم الثامن من ذي الحجة ، وقد تقدم وجه تسميته بذلك . وقال الحافظ : سمي التروية بفتح المثناة وسكون الراء وكسر الواو وتخفيف التحتانية لأنهم كانوا يروون فيها إبلهم ويتروون من الماء ، لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبار ولا عيون ، وأما الآن فقد كثرت جدا واستغنوا عن حمل الماء ، وقد روى الفاكهي في كتاب مكة من طريق مجاهد قال : قال عبد الله بن عمر : يا مجاهد إذا رأيت الماء بطريق مكة ورأيت البناء يعلوا أخاشبها فخذ حذرك ، وفي رواية (( فاعلم أن الأمر قد أظلك )) . وقيل في تسمية التروية أقوال أخرى شاذة ، منها أن آدم رأى فيه حواء واجتمع بها . ومنها أن إبراهيم رأى في ليلة أنه يذبح ابنه فأصبح متفكرا يتروى . ومنها أن جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم مناسك الحج . ومنها أن الإمام يعلم الناس فيه مناسك الحج ، ووجه شذوذها أنه لو كان من الأول لكان يوم الرؤية ، أو الثاني لكان يوم التروي بتشدد الواو ، أو من الثالث لكان من الرؤيا ، أو من الرابع لكان من الرواية ( قال بمنى ) فيه أن السنة أن يصلي الحاج الظهر يوم التروية بمنى وهو قول الجمهور ، ويدل عليه أيضا ما تقدم في حديث جابر الطويل في صفة الحج (( فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر )) الحديث

(19/114)


. وروى أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم من حديث ابن عباس ، قال : صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى خمس صلوات ، ولأحمد عن ابن عمر أنه كان يحب إذا استطاع أن يصلي الظهر بمنى يوم التروية ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بمنى . ولابن خزيمة والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن الزبير قال : من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر وما بعدها والفجر بمنى ثم يغدون إلى عرفة . وروى الثوري في جامعه عن عمرو بن دينار قال : رأيت ابن الزبير صلى الظهر يوم التروية بمكة . قال الحافظ : لعله فعل ما نقله عمرو عنه لضرورة أو لبيان الجواز ، وروى ابن المنذر من طريق ابن عباس قال : إذ زاغت الشمس فليرح إلى منى . قال ابن المنذر في حديث
قال : فأين صلى العصر يوم النفر ؟ قال : بالأبطح . ثم قال افعل كما يفعل أمرآؤك . متفق عليه .

(19/115)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن الزبير أن من السنة أن يصلي الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى ، قال به علماء الأمصار . قال : ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه أوجب على من تخلف عن منى ليلة التاسع شيئا ، ثم روى عن عائشة أنها لم تخرج من مكة يوم الترويه حتى دخل الليل وذهب ثلثه . قال ابن المنذر : والخروج إلى منى في كل وقت مباح . قلت : الظاهر من سياق حديث أنس وجابر أن توجهه - صلى الله عليه وسلم - كان قبل الزوال . وذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب (( شرف المصطفى )) أن خروجه - صلى الله عليه وسلم - يوم التروية كان ضحوة النهار ، وهذا يدل على استحباب الغدو من الغد . وفي سيرة الملا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى منى بعد ما زاغت الشمس . وهذا يدل على استحباب الرواح بعد الزوال . قال الطبري : يمكن أن يكون - صلى الله عليه وسلم - تأهب للتوجه ضحوة النهار وتوجه في أول الزوال ، ويكون أمره بالرواح على ما رواه الشافعي عن الحسن بن مسلم للراكب المخف الذي يصل إلى منى قبل فوات الصلاة وأمره بالغدو للماشي أو لذي الثقل أو يكون أمر بهما توسعة فيهما ، فالمتوجه إلى منى مخير بين الغدو والرواح لذلك . وقد اتفقت الروايات كلها على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بها الظهر والعصر – انتهى . وقال المهلب : الناس في سعة من هذا يخرجون متى أحبوا ويصلون حيث أمكنهم ، ولذلك قال أنس : صل حيث يصلي أمراؤك ، والمستحب في ذلك ما فعله الشارع ، صلى الظهر والعصر بمنى ، وهو قول مالك والثوري أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ( قال ) كذا في جميع النسخ من المشكاة ، وفي الصحيحين (( قلت )) بدل (( قال )) قال القاري : في قوله (( قال )) التفات ، إذ حقه أن يقول (( قلت )) ( يوم النفر ) بفتح النون وسكون الفاء وهو الرجوع والانصراف من منى . قال القاري : أي النفر الثاني وهو اليوم الثالث من أيام

(19/116)


التشريق ( قال : بالأبطح ) أي البطحاء التي بين مكة ومنى وهي ما انبطح من الوادي واتسع ، وهي التي يقال لها المحصب ، وحدها ما بين الجبلين إلى المقبرة ، قاله الحافظ . وقد تقدم ما ذكره القاري في الفرق ( ثم قال ) أي أنس ( افعل كما يفعل أمراؤك ) قال الحافظ : خشي عليه أن يحرص على ذلك فينسب إلى المخالفة أو تفوته الصلاة مع الجماعة فقال له : صل مع الأمراء حيث يصلون ، وفيه إشعار لأن الأمراء إذ ذاك كانوا لا يواظبون على صلاة الظهر ذلك اليوم بمكان معين فأشار أنس إلى أن الذي يفعلونه جائز ، وأن الإتباع أفضل يعني إتباعهم أفضل خوفا من حدوث فتنة . وقال القاري : أي لا تخالفهم فإن نزلوا به أي ( بالأبطح ) فانزل ، وإن تركوه فاتركه حذرا مما يتولد على المخالفة من المفاسد فيفيد أن تركه لعذر لا بأس به . انتهى . قال الحافظ : وفي الحديث الإشارة إلى متابعة أولي الأمر والاحتراز عن مخالفة الجماعة ( متفق عليه ) وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والدرامي وابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحه ، وابن الجارود في المنتقى وسمويه في فوائده وابن المنذر والإسماعيلي والبيهقي .
2690 – (8) وعن عائشة ، قالت : نزول الأبطح ليس بسنة ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/117)


2690 – قوله ( نزول الأبطح ) أي المحصب تعني النزول فيه ( ليس بسنة ) زاد في رواية أبي داود (( فمن شاء نزل ومن شاء لم ينزل )) قال القاري : ليس بسنة ، أي قصدية أو من سنن الحج . وروى الشيخان عن ابن عباس ، قال : ليس التحصيب بشيء . قال ابن المنذر : أي من أمر المناسك الذي يلزم فعله . وروى أحمد من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة قالت : ثم ارتحل حتى نزل الحصبة . قالت : والله ما نزلها إلا من أجلي . وروى مسلم وأبو داود وغيرهما من طريق سليمان ابن يسار عن أبي رافع قال لم يأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنزل الأبطح حين خرج من منى ولكن جئت فضربت قبته فنزل ، وروى مسلم من طريق الزهري عن سالم أن أبا بكر وعمر وابن عمر كانوا ينزلون الأبطح . قال الزهري : وأخبرني عروة عن عائشة أنها لم تكن تفعل ذلك وقالت : إنما نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان منزلا أسمح لخروجه . قال الحافظ : لكن لما نزله النبي - صلى الله عليه وسلم - كان النزول به مستحبا إتباعا له ولتقريره على ذلك وفعله الخلفاء بعده كما رواه مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر ينزلون الأبطح . ومن طريق أخرى عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى التحصيب سنة ، قال نافع : قد حصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده . فالحاصل أن من نفى أنه سنة كعائشة وابن عباس أراد أنه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شيء ، ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - لا الإلزام بذلك ، ويستحب أن يصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت به بعض الليل كما دل عليه حديث أنس ( المتقدم ) وحديث ابن عمر – انتهى . قلت : نقل ابن المنذر الاختلاف في استحبابه مع الاتفاق على أنه ليس من المناسك . وادعى الحافظ زكي الدين المنذري استحبابه عند جميع العلماء

(19/118)


، وكذلك ادعى قبله القاضي عياض . قال العراقي : فيه نظر ، لأن الترمذي حكى استحبابه عن بعض أهل العلم ، وقال النووي : إن عائشة وابن عباس كانا لا يقولان به ، ويقولان هو منزل اتفاقي لا مقصود ، فحصل خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم ، ومذهب الشافعي ومالك والجمهور استحبابه اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين وغيرهم . قال العيني : وهذا هو الصواب ، وقد كان من أهل العلم من لا يستحبه فكانت أسماء وعروة بن الزبير رضي الله عنهما لا يحصبان ، حكاه ابن عبد البر في الاستذكار عنهما ، وكذلك سعيد بن جبير ، فقيل لإبراهيم إن سعيد بن جبير لا يفعله ، فقال : قد كان يفعله ثم بدأ له ، وقد تقدم أن عائشة لم تكن تفعل ذلك . قلت : ومما يدل على استحباب التحصيب ما أخرجه الجماعة من حديث أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث تقاسمت قريش على الكفر يعني المحصب ، وذلك أن بني كنانة حالفت قريشا على بني هاشم أن لا يناكحوهم ولا يؤووهم ولا يبايعوهم وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين أراد أن ينفر من منى : نحن نازلون غدا
إنما نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج . متفق عليه .

(19/119)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فذكر نحوه ، وكان نزوله - صلى الله عليه وسلم - بالمحصب شكرا لله تعالى على ما منحه فيه من الظهور فيه على أعدائه الذين تقاسموا فيه على قطيعته ومضرته ، وتذكيرا للنعمة من القضاء على الكفر وإظهار دينه ونصرته وتأييده . وقال ابن الهمام بعد ذكر حديث أسامة وأبي هريرة : فثبت بهذا أنه نزله قصدا ليرى لطيف صنع الله به وليتذكر فيه نعمته سبحانه عليه عند مقايسته نزوله به الآن إلى حاله قبل ذلك ، أعني حال انحصاره من الكفار في ذات الله تعالى . وهذا أمر يرجع إلى معنى العبادة ، ثم هذه النعمة التي شملته عليه الصلاة والسلام من النصر والاقتدار على إقامة التوحيد وتقرير قواعد الوضع الإلهي الذي دعا الله تعالى إليه عباده لينتفعوا به في دنياهم ومعادهم لا شك في أنها النعمة العظمى على أمته لأنهم مظاهر المقصود من ذلك المؤيد ، فكل واحد منهم جدير بتفكرها والشكر التام عليها لأنها عليه أيضا فكان سنة في حقهم ، لأن معنى العبادة في ذلك يتحقق في حقهم أيضا ، وعن هذا حصب الخلفاء الراشدون ، وعلى هذا الوجه لا يكون كالرمل ولا على الأول ، لأن الإراءة لم يلزم أن يراد بها إراءة المشركين ، ولم يكن بمكة مشرك عام حجة الوداع ، بل المراد إراءة المسلمين الذين كان لهم علم بالحال الأول ، كذا في المرقاة . قلت : ومذهب الحنفية في ذلك على ما في فروعهم وفي مناسكهم أن السنة أن ينزل به ولو ساعة ويدعو أو يقف على راحلته ويدعو . قال في الدر المختار : وإذا نفر إلى مكة نزل استنانا ولو ساعة بالمحصب . قال ابن عابدين : قوله (( ولو ساعة )) يقف فيه على راحلته يدعو فيحصل بذلك أصل السنة . وأما الكمال فما ذكره الكمال ابن الهمام من أنه يصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويهجع هجعة ثم يدخل مكة ( بحر ) وفي شرح النقاية للقاري : والأظهر أن يقال إنه سنة كفاية لأن ذلك الموضع لا يسع الحاج جميعهم ،

(19/120)


وينبغي لأمراء الحج وكذا غيرهم أن ينزلوا فيه ولو ساعة إظهار للطاعة – انتهى . وفي المدونة : استحب مالك لمن يقتدي به أن لا يدع النزول به ووسع لمن لا يقتدي به في تركه ، وكان يفتي به سرا وفي العلانية يفتي بالنزول به لجميع الناس ( إنما نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان أسمح لخروجه ) أي أسهل لمخرجه إلى المدينة ليجتمع الناس إليه مدة مقامه ثم يرحلوا لرحيله ، فليس ذاك لقصد النسك حتى يكون سنة ( إذا خرج ) أي إذا أراد الخروج إلى المدينة . قال الحافظ : قوله (( أسمح )) أي أسهل لتوجهه إلى المدينة يستوي في ذلك البطيء والمعتدل ويكون مبيتهم وقيامهم في السحر ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة . وقال الطيبي : لأنه كان يترك فيه ثقله ومتاعه ، أي كان نزوله بالأبطح ليترك ثقله ومتاعه هناك ويدخل مكة فيكون خروجه منها إلى المدينة أسهل – انتهى . قال القاري : وفيه أنه لا ينافيه قصد النزول به للمعنى الذي ذكره ابن الهمام كما مر ( متفق عليه ) وتفرد مسلم منه بقولها (( نزول الأبطح ليس بسنة )) والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة والبيهقي .
2691 – (9) وعنها ، قالت : أحرمت من التنعيم بعمرة ، فدخلت فقضيت عمرتي ، وانتظرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح حتى فرغت ، فأمر الناس بالرحيل ، فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ، ثم خرج إلى المدينة . هذا الحديث ما وجدته برواية الشيخين ، بل برواية أبي داود مع اختلاف يسير في آخره .
2692 – (10) وعن ابن عباس ، قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه ،

(19/121)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 2691-قوله ( أحرمت من التنعيم بعمرة ) قد تقدم الكلام على إحرامها من التنعيم بالعمرة في الفصل الأول من باب قصة حجة الوداع في شرح حديث عائشة ( فدخلت ) أي مكة ( فقضيت عمرتي ) أي أديتها منفردة عن الحج ( وانتظرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح حتى فرغت ) أي من العمرة ( فأمر الناس بالرحيل فخرج ) أي من الأبطح ( فطاف به ) أي طواف الوداع ( هذا الحديث ما وجدته برواية الشيخين ) أي أحدهما ( بل ) وجدته ( برواية أبي داود مع اختلاف يسير ) أي بينه وبين لفظ المصابيح ( في آخره ) قال القاري : فيه اعتراضان على صاحب المصابيح حيث ذكر الحديث في الفصل الأول وحيث خالف لفظ أبي داود ، والله أعلم . قلت روى أبو داود حديث عائشة في باب طواف الوداع أولا من طريق وهب بن بقية عن خالد عن أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : أحرمت من التنعيم بعمرة فدخلت فقضيت عمرتي وانتظرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح حتى فرغت وأمر الناس بالرحيل . قالت : وأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت فطاف به ثم خرج . ثم رواه من طريق محمد بن بشار عن أبي بكر الحنفي عن أفلح عن القاسم عن عائشة قالت : خرجت معه تعني مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في النفر الآخر فنزل المحصب . قال أبو داود : ولم يذكر ابن بشار قصة بعثها إلى التنعيم في هذا الحديث . قالت : ثم جئنه بسحر فأذن في أصحابه بالرحيل فارتحل فمر بالبيت قبل صلاة الصبح فطاف به حين خرج ، ثم انصرف متوجها إلى المدينة – انتهى . وقد اتضح بهذا ما وقع عن البغوي من التصرف والاختلاف في نقل لفظ الحديث . وقال المناوي في الكشف : لم أقف على هذا الحديث بجملة في الصحيحين ، إنما الذي في الصحيحين القطعة الأخير منه ، وهي قوله (( فأمر الناس بالرحيل )) إلى آخره ، وأول الحديث معناه في الصحيحين لا لفظه ، ولفظه في أبي داود ،

(19/122)


هذا ما ظهر لي بعد الكشف – انتهى . كذا في تنقيح الرواة . والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ، وأخرجه البيهقي (ج 5 : ص 161) من طريق أبي داود عن محمد بن بشار ثم قال : رواه البخاري في الصحيح عن محمد بن بشار .
2692- قوله ( كان الناس ينصرفون في كل وجه ) أي في كل طريق بعد انقضاء أيام منى ، منهم من يطوف ومنهم
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من لم يطف . وقال القاري : أي بعد حجهم في كل طريق طائفا وغير طائف ( لا ينفرن أحدكم ) أي النفر الأول وهو الذي يكون في اليوم الثاني من التشريق لمن تعجل أو النفر الثاني وهو في اليوم الثالث لمن تأخر ، أو لا يخرجن أحدكم من مكة . والمراد به الآفاقي ، وقوله (( أحدكم )) هكذا وقع في نسخ المشكاة ، والذي في صحيح مسلم (( لا ينفرن أحد )) ( حتى يكون آخر عهده بالبيت ) أي الطواف به كما رواه أبو داود ، وقوله بالبيت خبر كان والسياق المذكور لمسلم ، ولفظ البخاري (( قال ابن عباس : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض )) وكذا وقع في رواية لمسلم . قال الحافظ : قوله (( أمر الناس )) كذا في رواية سفيان عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس على البناء لما لم يسم فاعله ، والمراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا قوله (( خفف )) وقد رواه سفيان أيضا عن سليمان الأحوال عن طاوس فصرح فيه بالرفع ، ولفظه عن ابن عباس قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهد بالبيت ، وأخرجه مسلم هو والذي قبله عن سعيد بن منصور عن سفيان بالإسنادين فرقهما فكأن طاوسا حدث به على الوجهين ، ولهذا وقع في رواية كل من الروايين عنه ما لم يقع في رواية الآخر . وفيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكد به وللتعبير في حق

(19/123)


الحائض بالتخفيف كما سيأتي ، والتخفيف لا يكون إلا من أمر مؤكد . قال النووي : في الحديث دلالة لمن قال بوجوب طواف الوداع وأنه إذا تركه لزمه دم وهو الصحيح في مذهبنا ، وبه قال أكثر العلماء منهم الحسن البصري والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وقال مالك وداود وابن المنذر : هو سنة لا شيء في تركه ، وعن مجاهد روايتان كالمذهبين – انتهى . قال الحافظ : والذي رأيته في الأوسط لابن المنذر أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء – انتهى . قال الشوكاني : قد اجتمع في طواف الوداع أمره - صلى الله عليه وسلم - به ونهيه عن تركه وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب ، ولا شك أن ذلك يفيد الوجوب . وقال ابن قدامة : طواف الوداع واجب ينوب عنه الدم إذا تركه ، وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي . وقال أيضا : من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها أو الخروج منها فإن أقام بها فلا وداع عليه لأن الوداع من المفارق لا من الملازم ، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده ، وبهذا قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر لم يسقط عنه الطواف ولا يصح ، لأنه غير مفارق ، فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر ، وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت ، وهذا ليس بنافر . فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف ، وهو واجب من تركه لزمه دم ، وبذلك قال الحكم وحماد والثوري وإسحاق وأبو ثور . وقال الشافعي في قول له ( ضعيف ) : لا يجب بتركه شيء ، وبه قال مالك كما تقدم ، لأنه يسقط عن الحائض فلم
...............................................................................................

(19/124)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يكن واجبا . ولنا ما روى ابن عباس قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلخ . ولمسلم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ، وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها ، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها ، إذ لو كان ساقطا عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى . ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله ، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : حتى يكون آخر عهده بالبيت . ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه ، ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يخرج حتى يودع البيت ، وهذا قول أبي ثور ، وقال : أصحاب الرأي في أهل المواقيت إنهم بمنزلة أهل مكة في عدم وجوب طواف الوداع . ولنا عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت . ولأنه خارج من مكة فلزمه التوديع كالبعيد ، فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج ففيه روايتان : إحداهما يجزئه عن طواف الوداع لأنه أمر يكون آخر عهده بالبيت ، وقد فعل ، ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة ، وعنه ( أي عن أحمد وهي الرواية الثانية ) لا يجزئه عن طواف الوداع لأنهما عبادتان واجبتان فلم تجزئ إحداهما عن الأخرى كالصلاتين الواجبتين ، فإن طاف للوداع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته ، وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور . وقال أصحاب الرأي : إذا طاف للوداع بعد ما حل له النفر أجزأه ، وإن أقام شهرا أو أكثر ( أي لا إعادة عليه ، والأفضل أن يعيد ) لأنه طاف بعد ما حل له النفر فلم يلزمه إعادته كما لو نفر عقبيه . ولنا

(19/125)


قوله عليه السلام : لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ، ولأنه إذا أقام بعده خرج عن أن يكون وداعا في العادة ، فلم يجزئه كما لو طافه قبل حل النفر . فأما إن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه لم يعده ، لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت ، وبهذا قال مالك والشافعي ، ولا نعلم مخالفا لهما ، فإن خرج قبل طواف الوداع رجع إن كان بالقرب ( فطاف ) وإن بعد بعث بدم ، هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور . والقريب هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر ، والبعيد من بلغ مسافة القصر . نص عليه أحمد وهو قول الشافعي . وقال الثوري : حد ذلك الحرم ، فمن كان في الحرم فهو قريب ومن خرج منه فهو بعيد ، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ، ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم ، إلى آخر ما بسط الكلام في هذه المسألة . وقال العيني : قال أصحابنا الحنفية : هو واجب على الآفاقي دون المكي والميقاتي ومن دونهم : وقال أبو يوسف : أحب إلى أن يطوف المكي لأنه يختم المناسك ، ولا يجب على الحائض والنفساء ولا على المعتمر ، لأن وجوبه عرف نصا في الحج فيقتصر عليه ( وما ورد في ثبوته على المعتمر فهو حديث ضعيف أخرجه
إلا أنه خفف عن الحائض " .

(19/126)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الترمذي ) ولا على فائت الحج لأن الواجب عليه العمرة وليس لها طواف الوداع ، وقال مالك : من أخر طواف الوداع وخرج ولم يطف إن كان قريبا رجع فطاف ، وإن لم يرجع فلا شيء عليه . وقال عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي في أظهر قوليه وأحمد وإسحاق وأبو ثور : إن كان قريبا رجع فطاف ، وإن تباعد مضى واهراق دما ، واختلفوا في حد القرب فروي أن عمر رد رجلا من مر الظهران لم يكن ودع وبينه وبين مكة ثمانية عشر ميلا ( رواه مالك ولم يحد له هو حدا بل أراد الحكم على المشقة كما قال الباجي ) وعند أبي حنيفة يرجع ما لم يبلغ المواقيت ، وعند الشافعي وأحمد يرجع من مسافة لا تقصر فيها الصلاة ، وعند الثوري يرجع ما لم يخرج من الحرم ( إلا أنه خفف ) بصيغة المجهول من التخفيف أي طواف الوداع ( عن الحائض ) وفي معناها النفساء وعلى هذا الاستثناء اتفاق جميع أهل العلم . واستدل به على أن الطهارة شرط لصحة الطواف ، وقد تقدم الكلام في ذلك ، وصنيع البغوي يدل على أن قوله (( إلا أنه خفف عن الحائض )) تتمة قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا ينفرن أحدكم ، إلخ . والأمر ليس كذلك ، فإنه قد انتهى إلى قوله (( بالبيت )) والاستثناء المذكور إنما هو تتمة قول ابن عباس عند الشيخين : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، كما تقدم وهو دليل على سقوط طواف الوداع عن المرأة الحائضة ، فلا يكون واجبا عليها ولا يلزمها دم بتركه . قال ابن قدامة : المرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت ولا وداع عليها ولا فدية ، وهذا قول عامة فقهاء الأمصار ، وقد روى عن عمر وابنه أنهما أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع . وكان زيد بن ثابت يقول به ، ثم رجع عنه كما روى مسلم . وروى عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضا ، وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين قالوا : يا رسول الله إنها حائض ، فقال : أحابستنا هي قالوا : يا رسول

(19/127)


الله إنها قد أفاضت يوم النحر ، قال : فلتنفر إذا ، ولا أمرها بفدية ولا غيرها . وفي حديث ابن عباس : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض . والحكم في النفساء كالحكم في الحائض – انتهى . وقال النووي : حديث ابن عباس دليل لوجوب طواف الوداع على غير الحائض وسقوطه عنها ، ولا يلزمها دم بتركه ، هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا ما حكى ابن المنذر عن عمر وابنه وزيد بن ثابت أنهم أمروا بالمقام لطواف الوداع ، ودليل الجمهور هذا الحديث وحديث صفية – انتهى . وروى البخاري من طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت ، قال : وسمعت ابن عمر يقول : إنها لا تنفر . ثم سمعته يقول بعد : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لهن . قال الحافظ : قوله (( ثم سمعته يقول بعد )) إن ذلك كان قبل موت ابن عمر بعام كما وقع للطحاوي من رواية عقيل عن الزهري عن طاوس ، وقال ابن المنذر : قال عامة الفقهاء بالأمصار : ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع ،
متفق عليه .
2693 – (11) وعن عائشة ، قالت : حاضت صفية

(19/128)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وروينا عن عمر بن الخطاب وابن عمر وزيد بن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضا لطواف الوداع ، وكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها ، ثم أسند عن عمر بإسناد صحيح إلى نافع عن ابن عمر قال : طافت امرأة بالبيت يوم النحر ثم حاضت فأمر عمر بحبسها بمكة بعد أن ينفر الناس حتى تطهر وتطوف بالبيت . قال : وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك وبقي عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة ، يشير بذلك إلى حديثها الآتي وما في معناه ، وقد روى ابن أبي شيبة من طريق القاسم بن محمد كان الصحابة يقولون : إذا أفاضت المرأة قبل أن تحيض فقد فرغت إلا عمر فإنه كان يقول : يكون آخر عهدها بالبيت . وقد وافق عمر على رواية ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غيره ، فروى أحمد وأبو داود والنسائي والطحاوي واللفظ لأبي داود من طريق الوليد بن عبد الرحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوس الثقفي قال : أتيت عمر فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض ، قال : ليكن آخر عهدها بالبيت ، فقال الحارث كذلك أفتاني ، وفي رواية أبي داود : هكذا حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واستدل الطحاوي بحديث عائشة على نسخ حديث الحارث في حق الحائض ، وكذلك استدل على نسخه بحديث أم سليم عند أبي داود الطيالسي أنها قالت : حضت بعد ما طفت بالبيت فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنفر ، والحق مع الجمهور ، ولعل عمر لم يبلغه حديث الرخصة وإلا لكان أو الناس عملا به ( متفق عليه ) قد تقدم أن أول الحديث إلى قوله بالبيت لمسلم وحده وقوله (( إلا أنه خفف عن الحائض )) إنما هو تتمة الرواية الأخرى التي اتفق عليها الشيخان ، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 222) وأبو داود والنسائي وابن ماجة والشافعي وابن الجارود والدارمي والبيهقي والبغوي في شرح السنة .

(19/129)


2693 – قوله ( حاضت صفية ) بفتح الصاد المهملة وكسر الفاء وتشديد الياء آخر الحروف ، وهي أم المؤمنين صفية بنت حيي – بضم الحاء المهملة ويجوز كسرها وفتح التحتية الأولى المخففة وشدة الأخرى – ابن أخطب ، بفتح الهمزة وإسكان الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة آخرها باء موحدة ، بن سعنة بن ثعلبة الإسرائيلية من سبط لاوي بن يعقوب ثم من سبط هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام ، كانت تحت سلام بن مشكم اليهودي ، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق ، وهما شاعران فقتل زوجها كنانة في غزوة خيبر حين افتتحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة سبع فوقعت في السبي فاصطفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه وأسلمت فأعتقها وتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خيبر في سنة سبع من الهجرة . قيل : كان اسمها زينب فلما صارت من الصفاء سميت صفية وكانت حليمة عاقلة فاضلة توفيت في رمضان سنة (50 أو 52) في زمن
ليلة النفر ، فقالت : ما أراني إلا حابستكم . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " عقرى حلقى

(19/130)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معاوية ، وقيل سنة ( 36 ) وهو غلط ، فإن علي بن الحسين لم يكن ولد ، وقد ثبت سماعه منها في الصحيحين ودفنت بالبقيع ولها نحو ستين سنة لقولها : ما بلغت سبع عشرة سنة يوم دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الحافظ : قوله (( حاضت )) أي بعد أن أفاضت يوم النحر كما في رواية البخاري في باب الزيارة يوم النحر من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة قالت : حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية – الحديث . ثم قال البخاري : ويذكر عن القاسم وعروة والأسود عن عائشة : أفاضت صفية يوم النحر . قال الحافظ : غرضه بهذا أن أبا سلمة لم ينفرد عن عائشة بذلك وإنما لم يجزم به لأن بعضهم أورده بالمعنى ، ثم ذكر الحافظ تخريج روايات هؤلاء الثلاثة من الصحيحين ( ليلة النفر ) أي ليلة يوم النفر لأن النفر لم يشرع في تلك الليلة بل في يومها . قال القاري : والنفر يحتمل الأول والثاني وجزم به ابن حجر ، قلت : يدل على أن المراد هو الثاني ما رواه مسلم من طريق الحكم عن إبراهيم عن عائشة قالت : لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة فقال : عقرى حلقى إنك لحابستنا – الحديث ( فقالت ) أي صفية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ( ما أراني ) بصيغة المجهول من الإراءة ، أي ما أظن نفسي ( إلا حابستكم ) بكسر الباء وفتح التاء نصبا على المفعولية ، أي مانعتكم عن الخروج إلى المدينة بل تنظرون إلي أن أطهر فأطوف طواف الوداع ظنا منها أن طواف الوداع كطواف الإفاضة لا يجوز تركه بالأعذار . قال العيني : قولها ما أراني إلا حابستكم أي ما أظن نفسي إلا حابستكم لانتظار طهري وطوافي للوداع فإني لم أطف للوداع ، وقد حضنت فلا يمكنني الطواف الآن ، وظنت أن طواف الوداع لا يسقط عن الحائض – انتهى . وفي رواية للبخاري قالت صفية : ما أراني إلا

(19/131)


حابستهم . قال العيني : أي ما أظن نفسي إلا حابسة القوم عن التوجه إلى المدينة لأني حضت وما طفت بالبيت ( أي للوداع ) فلعلهم بسببي يتوقفون إلى زمان طوافي بعد الطهارة ، وإسناد الحبس إليها على سبيل المجاز – انتهى ( قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : عقرى حلقى ) بالفتح فيهما ثم السكون ، وبالقصر بغير تنوين في الرواية ، ويجوز في اللغة التنوين ، وصوبه أبو عبيد ، لأن معناه الدعاء بالعقر والحلق كما يقال سقيا ورعيا ونحو ذلك من المصادر التي يدعى بها ، وعلى الأول هو نعت لا دعاء ، ثم معنى (( عقرى )) عقرها الله أي جرحها وقيل جعلها عاقرا لا تلد وقيل عقر قومها ، ومعنى (( حلقى )) حلق شعرها وهو زينة المرأة ، أو أصابها وجع في حلقها ، أو حلق قومها بشؤمها أي أهلكهم ، وحكى القرطبي أنها كلمة تقولها اليهود للحائض ، فهذا أصل هاتين الكلمتين ، ثم اتسع العرب في قولهما بغير إرادة حقيقتهما كما قالوا : قاتله الله ، وتربت يداه ، ونحو ذلك . وقال الطيبي : قوله عقرى حلقى ، هكذا روي على وزن فعلى بلا تنوين والظاهر عقرا وحلقا بالتنوين ، أي عقرها الله عقرا وحلقها الله حلقا يعني قتلها وجرحها أو أصاب حلقها بوجع ، وهذا دعاء لا يراد وقوعه ، بل عادة العرب التكلم بمثله على
أطافت يوم النحر ؟ " قيل : نعم . قال : " فانفري " . متفق عليه .
( الفصل الثاني )
2694 – (12) عن عمرو بن الأحوص ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول في حجة الوداع : " أي يوم هذا ؟ " قالوا : يوم الحج الأكبر .

(19/132)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سبيل التلطف وقيل هما صفتان للمرأة يعني أنها تحلق قومها وتعقرهم أي تستأصلهم من شؤمها – انتهى . وقيل إنهما مصدران والعقر الجرح والقتل وقطع العصب ، والحلق إصابة وجع في الحلق أو الضرب على الحلق أو الحلق في شعر الرأس لأنهن يفعلن ذلك عند شدة المصيبة ، وحقهما أن ينونا لكن أبدل التنوين بالألف إجراء للوصل مجرى الوقف – انتهى . قال القاري : وفيه أنه لا يساعده رسمها بالياء ، وقيل إنهما تأنيث فعلان ، أي جعلها عقرى أي عاقرا أي عقيما وحلقى أي جعلها صاحبة وجع الحلق ، ثم هذا وأمثال ذلك مثل تربت يداه وثكلته أمه مما يقع في كلامهم للدلالة على تهويل الخبر وأن ما سمعه لا يوافقه لا للقصد إلى وقوع مدلوله الأصلي والدلالة على التماسه – انتهى . قال القرطبي وغيره : شتان بين قوله - صلى الله عليه وسلم - هذا لصفية وبين قوله لعائشة لما حاضت معه في الحج : هذا شيء كتبه الله على بنات آدم ، لما يشعر به من الميل لها والحنو عليها بخلاف صفية . قال الحافظ : وليس فيه دليل على اتضاع قدر صفية عنده ، لكن اختلف الكلام باختلاف المقام فعائشة دخل عليها وهي تبكي أسفا على ما فاتها من النسك فسلاها بذلك ، وصفية أراد منها ما يريد الرجل من أهله ( كما ورد في رواية ) فأبدت المانع فناسب كلا منهما ما خاطبها به في تلك الحالة – انتهى ( أطافت ؟ ) أي صفية ( يوم النحر ) أي طواف الإفاضة ( قيل : نعم ) وفي رواية للبخاري ثم قال ( أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ) : كنت طفت يوم النحر ؟ قالت : نعم ( قال : فانفري ) بكسر الفاء أي اخرجي إلى المدينة من غير طواف الوداع فإن وجوبه ساقط بالعذر ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في كتاب الحيض وفي الحج ومسلم في الحج ، واللفظ المذكور للبخاري في باب الادلاج من المحصب ، وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن الجارود والبيهقي بألفاظ

(19/133)


مختلفة .
2694- قوله ( عن عمرو ) بفتح أوله ( بن الأحوص ) بمفتوحة وسكون حاء وبصاد مهملتين . هو عمرو بن الأحوص الجشمي بضم الجيم وفتح المعجمة ، من بني جشم بن سعد ، قال الحافظ في التقريب : صحابي ، له حديث في حجة الوداع . ونسبه ابن عبد البر فقال : عمرو بن الأحوص بن جعفر بن كلاب الجشمي الكلابي . اختلف في نسبه ، روى عنه ابنه سليمان بن عمرو بن الأحوص ، حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة في حجة الوداع ، وفي رمي الجمار أيضا . يقال : إنه شهد حجة الوداع مع أمه وامرأته ، وحديثه في الخطبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيح – انتهى . قال الحافظ : وقد شهد اليرموك في زمن عمر ( يقول في حجة الوداع ) أي يوم النحر كما سبق ( أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم الحج الأكبر ) وفي
قال : " فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا . ألا لا يجني جان على نفسه ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/134)


رواية (( قال : أي يوم أحرم ؟ ( أي أعظم وأشد حرمة وأكثر احتراما ) فقال الناس : يوم الحج الأكبر )) وفيه دليل لمن يقول : إن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر ، وقد وردت في ذلك أحاديث أخرى ذكرها السيوطي في الدر المنثور والحافظ ابن كثير في تفسيره . منها ما رواه البخاري في باب الخطبة أيام منى تعليقا من حديث ابن عمر قال : وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج بها وقال : هذا يوم الحج الأكبر . فطفق النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم اشهد . وودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع ، ووصل هذا التعليق أبو داود وابن ماجة والطبراني . ومنها ما رواه البخاري أيضا في باب كيف ينبذ إلى أهل العهد من كتاب الجهاد من حديث أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى .... إلى أن قال : ويوم الحج الأكبر يوم النحر . واختار هذا القول الحافظ ابن جرير ، وهو قول مالك والشافعي والجمهور ، وسمي بذلك لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ، وقال الحافظ : لأن فيه تتكمل بقية المناسك ، وذهب آخرون منهم عمر وابن عباس وطاوس إلى أنه يوم عرفة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : الحج عرفة . وفيه أقوال أخرى ، ذكرها العيني والحافظ في الفتح في تفسير سورة براءة ، والقول الأول أرجح وأما ما اشتهر على ألسنة العوام من أن يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة كان الحج حجا أكبر يعني أن الحج الأكبر ما كان فيه الوقوف بعرفة يوم الجمعة ، فهذا مما لا أصل له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة ولا هو المراد بالحج الأكبر المذكور في الكتاب والسنة ، نعم له فضل ومزية كما يدل عليه ما ذكره رزين في تجريده عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلا مرفوعا ، ولكن لا يعرف إسناده ولا من خرجه ، وقد تقدم التنبيه على هذا في باب الوقوف بعرفة ثم قولهم (( يوم الحج الأكبر )) بظاهره ينافي جوابهم السابق (( والله

(19/135)


ورسوله أعلم )) وقد تقدم وجه التوفيق فتذكر ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا ) أي مكة أو الحرم المحترم وزاد في رواية ابن ماجة والترمذي في التفسير (( في شهركم هذا )) أريد بذلك أن دم كل واحد حرام عليه وعلى غيره . وأما في المال فالمراد أن مال كل واحد حرام على غيره لا عليه إلا في الباطل فقد يصير حراما عليه أن يصرفه فيه ، قاله السندي ( ألا ) للتنبيه ( لا يجني جان على نفسه ) قال الطيبي : خبر في معنى النهي ليكون أبلغ يعني كأنه نهاه فقصد أن ينتهي فأخبر به ، والمراد الجناية على الغير إلا أنها لما كانت سببا للجناية على نفسه أنذرها في صورتها ليكون أدعى إلى الامتناع ، ويدل على ذلك أنه روي في بعض طرق الحديث (( إلا على نفسه )) وحينئذ يكون خبرا بحسب المعنى أيضا ، كذا في المرقاة ، وقال في اللمعات : قوله (( ألا لا يجني جان على نفسه )) خبر بمعنى النهي . والمراد لا يجني أحدكم على الغير فيكون سببا للجناية على نفسه اقتصاصا ومجازاة ، ولما كان هذا في
ألا لا يجني جان على ولده ، ولا مولود على والده . ألا وإن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا ، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به " .

(19/136)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معنى النهي عن الجناية على الغير والغير أعم أردفه بذكر النهي عن الجناية على والد ومولود تخصيصا بعد تعميم لاختصاصه بمزيد قبح وشناعة ، وقد روى : ألا لا يجني جان إلا على نفسه ، وحينئذ يكون خبرا بحسب المعنى أيضا انتهى . قلت : قوله (( لا يجني جان على نفسه )) هكذا وقع في جميع نسخ المشكاة ، والذي في الترمذي وابن ماجة : لا يجني جان إلا على نفسه ، وكذا وقع في المصابيح ، فالظاهر أن ما وقع في المشكاة خطأ من المصنف أو الناسخ . قال السندي : لا يجني جان إلا على نفسه أي لا يرجع وبال جنايته من الإثم أو القصاص إلا إليه . وقال الجزري في النهاية : الجناية الذنب والجرم وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العذاب أو القصاص في الدنيا والآخرة ، المعنى أنه لا يطالب بجناية غيره من أقاربه وأباعده ، فإذا جنى أحدهما جناية لا يعاقب بها الآخر كقوله تعالى :???ولا تزر وازرة وزر أخرى ? انتهى ( ألا لا يجني جان على ولده ولا مولود على والده ) قال القاري : يحتمل أن يكون المراد النهي عن الجناية عليه لاختصاصها بمزيد قبح ، وأن يكون المراد تأكيد لا يجني جان على نفسه ، فإن عادتهم جرت بأنهم يأخذون أقارب الشخص بجنايته . والحاصل أن هذا ظلم يؤدي إلى ظلم آخر ، والأظهر أن هذا نفي فيوافق قوله تعالى :?? ولا تزر وازرة وزر أخرى ? وإنما خص الولد والوالد لأنهما أقرب الأقارب ، فإذا لم يؤاخذا بفعله فغيرهما أولى ، وفي رواية (( لا يؤخذ الرجل بجريمة أبيه )) وضبط بالوجهين ( ألا وإن الشيطان ) هو إبليس الرئيس أو الجنس الخسيس ( قد أيس ) أي قنط ( أن يعبد ) قال القاري : أي من أن يطاع في عبادة غير الله تعالى ، لأنه لم يعرف أنه عبده أحد من الكفار – انتهى . وقيل معناه إن الشيطان أيس أن يعود أحد من المؤمنين إلى عبادة الصنم ، ولا يرد على هذا مثل أصحاب مسيلمة ومانعي الزكاة وغيرهم ممن ارتد لأنهم لم

(19/137)


يعبدوا الصنم . ويحتمل معنى آخر وهو أنه أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أن المصلين من أمتي لا يجمعون بين الصلاة وعبادة الشيطان كما فعلته اليهود والنصارى ، ولك أن تقول : معنى الحديث أن الشيطان أيس من أن يتبدل دين الإسلام ويظهر الإشراك ويستمر ويصير الأمر كما كان من قبل ، ولا ينافيه ارتداد من ارتد بل لو عبد الأصنام أيضا لم يضر في المقصود فافهم ، كذا في اللمعات مع زيادة ( في بلدكم هذا ) أي مكة ، قال القاري : أي علانية ، إذ قد يأتي الكفار مكة خفية ، قلت : قوله (( في بلدكم هذا )) كذا وقع في رواية ابن ماجة ، وللترمذي في الفتن (( في بلادكم هذه )) يعني مكة وما حولها من جزيرة العرب ( ولكن ستكون له طاعة ) أي انقياد أو إطاعة ( فيما تحتقرون ) من الاحتقار أي تحسبون ذلك حقيرة صغيرة ، ويكون فيها طاعة ومرضاة للشيطان ( من أعمالكم ) أي دون الكفر من القتل والنهب ونحوهما من الكبائر وتحقير الصغائر ( فسيرضى ) بصيغة المعلوم أي الشيطان ( به ) أي بالمحتقر حيث لم يحصل له الذنب
رواه ابن ماجة ، والترمذي وصححه .
2695 – (13) وعن رافع بن عمرو المزني ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء ، وعلي يعبر عنه ،

(19/138)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأكبر ، ولهذا ترى المعاصي من الكذب والخيانة ونحوهما توجد كثيرا في المسلمين وقليلا في الكافرين لأنه قد رضي من الكفار بالكفر فلا يوسوس لهم في الجزئيات ، وحيث لا يرضى عن المسلمين بالكفر فيرمهم في المعاصي ، وروي عن علي رضي الله عنه : الصلاة التي ليس لها وسوسة إنما هي صلاة اليهود والنصارى . ومن الأمثال (( لا يدخل اللص في بيت إلا فيه متاع نفيس )) وقال الطيبي : قوله (( فيما تحتقرون )) أي مما يتهجس في خواطركم وتتفوهون عن هناتكم وصغائر ذنوبكم فيؤدي ذلك إلى هيج الفتن والحروب كقوله - صلى الله عليه وسلم - : إن الشيطان قد يئس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم ، كذا في المرقاة ، وقوله (( فيما تحتقرون )) إلخ . هو لفظ الترمذي ، وفي ابن ماجة (( في بعض ما تحتقرون من أعمالكم فيرضى بها )) والحديث دليل على مشروعية الخطبة يوم النحر ، وقد سبق الكلام على ذلك ( رواه ابن ماجة ) في الحج ( والترمذي ) في تفسير سورة التوبة وفي كتاب الفتن ، ونسبه في تنقيح الرواة للنسائي أيضا ( وصححه ) أي الترمذي ، وكذا صححه ابن عبد البر كما تقدم .

(19/139)


2695 – قوله ( وعن رافع بن عمرو المزني ) نسبة إلى قبيلة مزينة بضم الميم وفتح الزاي ، وهو رافع بن عمرو بن هلال المزني أخو عائد بن عمرو ، لهما ولأبيهما صحبة . قال ابن عبد البر : سكن رافع وعائذ جميعا البصرة . روى عن رافع هذا عمرو بن سليم المزني وهلال بن عامر المزني . وقال الحافظ في تهذيب التهذيب : روى رافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين أحدهما (( العجوة من الجنة )) عند ابن ماجة ( من رواية عمرو بن سليم المزني عنه ) والآخر شهوده حجة الوداع عند أبي داود والنسائي ( من رواية هلال بن عامر المزني عنه ) قال ابن عساكر : كان رافع في حجة الوداع خماسيا أو سداسيا – انتهى ورواية هلال بن عامر عنه تدل على أنه بقى إلى خلافة معاوية ( يخطب الناس بمنى ) أي أول النحر بقرينة قوله ( حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء ) أي بيضاء يخالطها قليل سواد ، ولا ينافيه حديث قدامة : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء ، قاله القاري . قلت : وروى أحمد وأبو داود من حديث الهرماس بن زياد البهلي قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى . قال الطبري بعد ذكر حديث الهرماس ورافع المزني : وهذه الخطبة الثالثة من خطب الحج ، ولا تضاد بين الحديثين إذ قد يجوز أن يكون خطب على الناقة ثم تحول إلى البغلة ويجوز أن يكون الخطبتان في وقتين ، وكانت إحدى الخطبتين تعليما للناس لا أنها من خطب الحج – انتهى فتأمل ( وعلي يعبر عنه ) من التعبير أي يبلغ حديثه من هو بعيد من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو رضي الله عنه وقف حيث يبلغه صوت
والناس بين قائم وقاعد . رواه أبو داود .
2696 ، 2697 – (14 ، 15) وعن عائشة ، وابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخر طواف الزيارة يوم النحر إلى الليل .

(19/140)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النبي - صلى الله عليه وسلم - ويفهمه فيبلغه للناس ويفهمهم من غير زيادة ونقصان ( والناس بين قائم وقاعد ) أي بعضهم قاعدون وبعضهم قائمون وهم كثيرون حيث بلغوا مائة ألف وثلاثين ألفا ، كذا في المرقاة . وفي هذا الحديث أيضا دليل على مشروعية الخطبة في يوم النحر ( رواه أبو داود ) وأخرجه أيضا النسائي والبيهقي (ج 5 : ص 140) وسكت عنه أبو داود والمنذري ، وقال النووي في شرح المهذب : رواه أبو داود بإسناد حسن والنسائي بإسناد صحيح .

(19/141)


2696 ، 2697 – قوله ( أخر طواف الزيارة يوم النحر إلى الليل ) هذا يعارض ما وقع في حديث جابر الطويل في صفة حجة الوداع من أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر ، وكذا يعارض ما تقدم في باب الحلق من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى ، واختلفوا في الجواب عن ذلك فذهب جماعة منهم ابن القطان الفاسي وابن القيم وابن حزم إلى تضعيف حديث عائشة وابن عباس هذا بل إلى تغليطه . قال ابن القطان : عندي أن هذا الحديث يعني حديث عائشة هذا ليس بصحيح ، إنما طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ نهارا ، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه التي فيها أنه أخر الطواف إلى الليل ، وهذا شيء لم يرو إلا من هذا الطريق وأبو الزبير مدلس لم يذكر ها هنا سماعا عن عائشة – انتهى . وقال ابن القيم أفاض - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة قبل الظهر راكبا فطاف طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة ، ولم يطف غيره ولم يسع معه ، هذا هو الصواب . وطائفة زعمت أنه لم يطف في ذلك اليوم ، وإنما أخر طواف الزيارة إلى الليل وهو قول طاوس ومجاهد وعروة ، واستدلوا بحديث أبي الزبير المكي عن عائشة المخرج في سنن أبي داود والترمذي قال الترمذي : حديث حسن ، وهذا الحديث غلط بين خلاف المعلوم من فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يشك فيه أهل العلم بحجته - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن حزم : هذا أي حديث عائشة الذي نحن في شرحه حديث معلول لأنه يرويه أبو الزبير عن ابن عباس وعائشة ، وهو يدلس فيما لم يقل فيه أخبرنا أو حدثنا أو سمعت فهو غير مقطوع إلا ما كان من رواية الليث عنه عن جابر فإنه كله سماع ، ولسنا نحتج من حديثه إلا بما كان فيه بيان أنه سمعه ، وليس في هذا بيان سماعه منهما – انتهى . وذهب بعضهم إلى ترجيح حديث ابن عمر وجابر وتقديمه على

(19/142)


حديث عائشة وابن عباس ، قال البيهقي بعد ذكر روايات ابن عمر وجابر وعائشة وابن عباس ما لفظه : أصح هذه الروايات حديث نافع عن ابن عمر وحديث جابر وحديث أبي سلمة عن عائشة يعني حديث البخاري بلفظ (( قالت : حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يوم النحر )) وذهب جماعة منهم البخاري وابن
رواه الترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حبان والنووي والسندي إلى الجمع بين هذه الروايات ، قال البخاري في باب الزيارة يوم النحر : وقال أبو الزبير عن عائشة وابن عباس : أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيارة إلى الليل ، ويذكر عن أبي حسان عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزور البيت أيام منى ، وقال لنا أبو نعيم ثنا سفيان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه طاف طوافا واحدا ثم يقيل ثم يأتي منى يعني يوم النحر ، ورفعه عبد الرزاق قال : حدثنا عبيد الله ثم ذكر البخاري حديث أبي سلمة أن عائشة قالت : حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يوم النحر – الحديث . قال الحافظ : كأن البخاري عقب هذا ( أي حديث أبي الزبير عن عائشة وابن عباس ) بطريق أبي حسان ليجمع بين الأحاديث بذلك فيحمل حديث جابر وابن عمر على اليوم الأول ، وحديث ابن عباس وعائشة هذا على بقية الأيام . قال الحافظ : وحديث أبي حسان عن ابن عباس وصله الطبراني ( والبيهقي ج 5 : ص 146) قال : ولرواية أبي حسان هذه شاهد مرسل أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة حدثنا ابن طاوس عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفيض كل ليلة ( يعني ليالي منى ) . وقال النووي : قوله (( أخر طواف الزيارة يوم النحر إلى الليل )) محمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه لا لطواف الإفاضة . قال : ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأحاديث وقال ابن حبان : يشبه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى ثم أفاض ثم رجع فصلى

(19/143)


الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة ثم ركب إلى البيت فطاف طوافا ثانيا بالليل . قال الطبري بعد ذكر حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزور البيت أيام منى ما لفظه : هذا يؤيد أبي حاتم فلعل زيارته - صلى الله عليه وسلم - وقعت في تلك المرة ليلا ، ويجوز أن يكون هذا منشأ اختلاف الروايات فأراد بعضهم يوم النحر وبعضهم غير يوم النحر ، وقد سمى الزيارة إفاضة لأن معنى الإفاضة الدفع بكثرة ، ولم يذكر جميعهم أنه كان يوم النحر – انتهى . وقال السندي في حاشية ابن ماجة (( قوله أخر طواف الزيارة إلى الليل )) المعلوم الثابت من فعله - صلى الله عليه وسلم - هو أنه طاف طواف الإفاضة وهو الطواف الفرض قبل الليل ، فلعل المراد بهذا الحديث أنه رخص في تأخيره إلى الليل ، أو المراد بطواف الزيارة غير طواف الإفاضة ، أي إنه كان يقصد زيارة البيت أيام منى بعد طواف الإفاضة فإذا زار طاف أيضا ، وكان يؤخر طواف تلك الزيارة إلى الليل بتأخير تلك الزيارة إلى الليل ولا يذهب على مكة لأجل تلك الزيارة في النهار بعد العصر مثلا . وقال القاري : قوله أخر طواف الزيارة أي جوز تأخيره يوم النحر إلى الليل إما مطلقا أو للنساء لما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر ثم صلى الظهر بمكة أو منى . وقال شيخنا في شرح الترمذي : حديث ابن عباس وعائشة المذكور ضعيف كما ستعرف ( وكما تقدم ) فلا حاجة إلى الجمع الذي أشار إليه البخاري ( وغيره ) وأما على تقدير الصحة فهذا الجمع متعين ، هذا وقد سبق شيء من الكلام في الجواب عن هذا الحديث في شرح حديث جابر الطويل في صفة الحج ( رواه الترمذي ) إلخ . وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 288 ، 309)
2698 – (16) وعن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه . رواه أبو داود ، وابن ماجة .

(19/144)


2699 – (17) وعن عائشة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا رمى أحدكم جمرة العقبة ، فقد حل له كل شيء إلا النساء " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والبيهقي (ج 5 : ص 144) وذكره البخاري في صححه تعليقا بصيغة الجزم كما تقدم . وقال الترمذي : هذا حديث حسن وسكت عنه أبو داود ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره . وقال شيخنا في شرح الترمذي في كون هذا الحديث حسنا نظر ، فإن أبا الزبير ليس له سماع من ابن عباس وعائشة كما صرح به الحافظ ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل – انتهى . وقال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند : أبو الزبير هو المكي محمد بن مسلم تدرس ثقة ولكن في سماعه من ابن عباس وعائشة شك ، روى ابن أبي حاتم في المراسيل (ص 71) عن سفيان بن عيينة قال : يقولون : إن المكي لم يسمع من ابن عباس ، وروى عن أبيه أبي حاتم قال : أبو الزبير رأى ابن عباس رؤية ولم يسمع من عائشة . قلت : وقال البيهقي (ج 1 : ص 144) بعد رواية هذا الحديث : وأبو الزبير سمع من ابن عباس وفي سماعه من عائشة نظر ، قاله البخاري .

(19/145)


2698 – قوله ( لم يرمل ) بضم الميم من باب نصر ( في السبع الذي أفاض فيه ) أي في طواف الزيارة يعني لا رمل في طواف الإفاضة كما في طواف الوداع ، وإنما هو في طواف القدوم ، ففيه دليل على أنه لا يشرع الرمل الذي سلفت مشروعيته في طواف القدوم في طواف الزيارة ، قال الطبري : فيه دلالة على اختصاص الرمل بطواف القدوم أو بكل طواف يعقبه سعي وهما قولان للشافعي . وقال أيضا في شرح حديث ابن عمر (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعة )) قوله (( الطواف الأول )) هو الذي يأتي به أول ما يقدم يعني طواف القدوم ، وفيه دلالة على تخصيص الرمل بطواف القدوم وهو أظهر قولي الشافعي ، والقول الآخر أنه يرمل في كل طواف يعقبه سعي بين الصفا و المروة – انتهى ( رواه أبو داود وابن ماجة ) وأخرجه أيضا النسائي والبيهقي (ج 5 : ص 84) كلهم من طريق ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس ، وقد سكت عنه أبو داود ثم المنذري .
2699 – قوله ( إذا رمى أحدكم جمرة العقبة ) أي وحلق أو قصر ، قاله القاري بناء على مذهب الحنفية أن المؤثر في التحلل هو الحلق ( فقد حل له كل شيء ) أي حرم بالإحرام ، ومنه الحلق ( إلا النساء ) بالنصب على الاستثناء ، أي وطئا ومباشرة وقبلة ولمسا بشهوة وعقد نكاح حتى يطوف طواف الإفاضة . والحديث يدل على أنه يحل كل محظور
رواه في شرح السنة ، وقال : إسناده ضعيف .
2700 – (18) وفي رواية أحمد ، والنسائي عن ابن عباس ، قال : " إذا رمى الجمرة ، فقد حل له كل شيء إلا النساء " .
2701 – (19) وعنها ، قالت: أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه

(19/146)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من محظورات الإحرام إلا الوطئ ودواعيه بعد الرمي وإن لم يحلق لكن وقع في رواية لأحمد وغيره (( إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء )) وهو يدل على أنه بمجموع الأمرين رمي جمرة العقبة والحلق يحل كل محرم على المحرم إلا النساء ، وقد بسطنا الكلام في ذلك في شرح حديث عائشة (( كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت )) وهو أول أحاديث الفصل الأول من باب الإحرام والتلبية ( رواه ) أي صاحب المصابيح ( في شرح السنة ) أي بسنده ، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والدارقطني (ص 279) والبيهقي (ج 5 : ص 136) والطحاوي وسعيد بن منصور ( وقال : إسناده ضعيف ) لأن مداره على الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف ومدلس ، وقال المنذري : قد ذكر غير واحد من الحفاظ أنه لا يحتج بحديثه – انتهى . وأيضا اضطرب هو في إسناده ، ففي رواية قال عن أبي بكر بن حزم ، وفي رواية قال : عن الزهري . ولم يسمع من الزهري شيئا . وقال البيهقي بعد ذكر الاختلاف في سنده ومتنه : وهذا من تخليطات الحجاج بن أرطاة - انتهى . لكن أخرج مثلها ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عائشة كما قال الحافظ في الدراية (ص 189) قلت : وذكر ابن الهمام إسناده فقال : أخرج ابن أبي شيبة ثنا وكيع عن هشام بن عروة عن عائشة رضي الله عنها – الحديث . وفي الباب عن ابن عباس كما سيأتي ، وعن أم سلمة أخرجه أحمد (ج 6 : ص 295 ، 303) وأبو داود والحاكم (ج 1 : ص 489 ، 490) ، والبيهقي (ج 5 ص 136 ، 137) مطولا وفيه قصة وزيادات ، وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا فيصح الاحتجاج بها على أنه يحل بالرمي كل محرم من محرمات الإحرام سوى النساء .

(19/147)


2700 – قوله ( وفي رواية أحمد والنسائي ) وابن ماجة والطحاوي والبيهقي (ج 5 : ص 136) من طريق الحسن العرني ( عن ابن عباس ) مرفوعا وموقوفا ( قال : إذا رمى الجمرة ) أي جمرة العقبة ( فقد حل له كل شيء إلا النساء ) أي حتى يطوف طواف الإفاضة ، وهذا أيضا يدل على أن الرمي هو السبب للتحلل الأول كما هو مذهب المالكية ، ويحمله الحنفية على إضمار الحلق أي إذا رمى وحلق جمعا بينه وبين ما وقع في بعض الروايات من عطفه على الرمي وحديث ابن عباس هذا منقطع ، لأن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس كما قاله الإمام أحمد وغيره ، وقد تقدم شيء من الكلام في حديث ابن عباس هذا وحديث عائشة الذي قبله في شرح أول أحاديث باب الإحرام والتلبية .
2701- قوله ( أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه ) أي طاف طواف الإفاضة في آخر يوم النحر ، وهو
حين صلى الظهر ، ثم رجع إلى منى ، فمكث بها ليالي أيام التشريق ، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس ، كل جمرة بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، ويقف عند الأولى والثانية ، فيطيل القيام ويتضرع ، ويرمي الثالثة فلا يقف عندها . رواه أبو داود .
2702 - (20) وعن أبي البداح بن عاصم بن عدي ،

(19/148)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أول أيام النحر ( حين صلى الظهر ) فيه دلالة على أنه صلى الظهر بمكة موافقا لما دل عليه حديث جابر الطويل وأنه وقع طوافه بعد الزوال بل بعد صلاة الظهر لقوله (( من آخر يومه ، وهذا مخالف لما وقع في حديث ابن عمر وغيره أنه طاف قبل الظهر . وقال الطيبي : أي أفاض يوم النحر من منى إلى مكة حين صلى الظهر ، فيفيد أنه صلى الظهر بمنى ثم أفاض وهو خلاف ما ثبت في الأحاديث لاتفاقها على أنه صلى الظهر بعد الطواف مع اختلافها أنه صلاها بمكة أو بمنى . قال القاري : لا يبعد أن يحمل على يوم آخر من أيام النحر بأن صلى الظهر بمنى ونزل في آخر يومه مع نسائه لطواف زيارتهن – انتهى . ولا يخفى ما في هذا الجمع من التكلف والتعسف ، وقد تفرد باللفظ المذكور محمد بن إسحاق ورواه بعن ، فلا حاجة إلى الجمع ( فمكث ) بفتح الكاف وضمها ، أي لبث وبات ( بها ) أي بمنى ( إذا زالت الشمس ) فيه دليل على أن وقت رمى الجمرات في غير يوم النحر بعد الزوال ( كل جمرة ) بالنصب على البدلية وبالرفع على الابتدائية ( ويقف عند الأولى ) أي أولى الجمرات الثلاث وهي التي تلي مسجد الخيف ( والثانية ) هي الوسطى ( فيطيل القيام ) للأذكار من التكبير والتوحيد والتسبيح والتحميد والاستغفار ( ويتضرع ) أي إلى الله بأنواع الدعوات وعرض الحاجات ( ويرمي الثالثة ) هي جمرة العقبة التي رماها يوم النحر ( فلا يقف عندها ) أي للذكر والدعاء ( رواه أبو داود ) وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي (ج 5 : ص 148) وفي سنده عندهم محمد بن إسحاق وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث ، والمدلس إذا قال (( عن )) ولم يتابعه أحد على روايته لا يحتج بروايته .

(19/149)


2702- قوله ( وعن أبي البداح ) بفتح الموحدة وتشديد الدال المهملة فألف فحاء مهملة ( بن عاصم بن عدي ) بن الجد – بفتح الجيم – ابن العجلان بن حارثة بن ضبيعة القضاعي البلوي ثم الأنصاري ، حليف لبني عمرو بن عوف من الأنصار . قال الواقدي : أبو البداح لقب غلب عليه ، وكنيته أبو عمرو – انتهى . وكذا قال على بن المديني وابن حبان : كنيته أبو عمرو ، وقيل كنيته أبو بكر وقيل أبو عمر . يقال : اسمه عدي . مات سنة (117) فيما ذكره جماعة ، وقيل سنة (110) قال ابن عبد البر في الاستيعاب : اختلف فيه فقيل الصحبة لأبيه وهو من التابعين ، وقيل له صحبة وهو الذي توفي عن سبيعة الأسلمية ، وخطبها أبو السنابل بن بعكك ذكره ابن جريج وغيره ، وهو الصحيح في أن له صحبة ، والأكثر يذكرونه في الصحابة – انتهى . وذكره الحافظ في القسم الرابع من حرف الباء من الإصابة ، وتعقب ابن عبد البر فقال : عليه
عن أبيه ، قال : رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرعاء الإبل في البيتوتة : أن يرملوا يوم النحر ، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرموه

(19/150)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مؤاخذات ، الأولى أن مالكا أخرج في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن أبي البداح حديثا ، وهذا يدل على تأخر أبي البداح عن عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم لم يدرك العصر النبوي ، وقد روى أيضا عن أبي البداح أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابنه عبد الملك وغير واحد وأرخ جماعة وفاته سنة (117) وقال الواقدي : مات سنة (110) وله أربع وثمانون سنة ، فعلى هذا يكون مولده سنة ( 26 ) بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمس عشرة سنة ، وهذا كله يدفع أن يكون له صحبة ، ويدفع قول ابن مندة : أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن فتحون : قول أبي عمر (( توفي عن سبيعة )) وهم – انتهى . قال ابن سعد : كان أبو البداح ثقة قليل الحديث . وقال الحافظ في التقريب : ثقة من الثالثة ، ووهم من قال : له صحبة ( عن أبيه ) عاصم بن عدي ، كان سيد بني عجلان وهو أخو معن بن عدي يكنى أبا عمرو ويقال أبا عبد الله . قال الحافظ في الإصابة : اتفقوا على ذكره في البدريين ، ويقال : إنه لم يشهدها بل خرج فكسر فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - من الروحاء واستخلفه على العالية من المدينة وهذا هو المعتمد ، وبه جزم ابن إسحاق ، وأورد الواقدي بسنده إلى أبي البداح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلف عاصما على أهل قباء والعالية لشيء بلغه عنهم ، وضرب له بسهمه وأجره ( فكان كمن شهدها ولهذا ذكروه في البدريين ) وقال شهد أحدا وما بعدها ، وله ذكر في الصحيح في قصة اللعان . قال ابن سعد وابن السكن وغيرهما : مات سنة (45) وهو ابن مائة وخمس عشرة ، وقيل عشرين – انتهى ( رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي جوز وأباح ( لرعاء الإبل ) بكسر الراء والمد جمع راع أي لرعاتها بضم الراء ( في البيتوتة ) مصدر بات أي رخص لهم في

(19/151)


البيتوتة خارج منى أو في ترك البيتوتة ، والمعنى : أباح لهم ترك البيتوتة بمنى ليالي أيام التشريق ، لأنهم مشغولون برعي الأبل وحفظها ، فلو أخذوا بالمقام والمبيت بمنى ضاعت أموالهم . قال الباجي : قوله (( رخص )) يقتضي أن هناك منع خص هذا منه لأن لفظ الرخصة لا تستعمل إلا فيما يخص من المحظور للعذر ، وذلك أن للرعاء عذرا في الكون مع الظهر الذي لابد من مراعاته ، والرعي به للحاجة إلى الظهر في الانصراف إلى بعيد البلاد ، فأبيح لهم ذلك لهذا المعنى – انتهى . وقد تقدم بيان اختلاف الأئمة في البيتوتة بمنى هل هو واجب أو سنة ، وتقدم أيضا أنهم اتفقوا على سقوطه للرعاء وأهل السقاية ، واختلفوا في أنه يختص السقوط بالرعاء وبأهل السقاية أو يعم أهل الأعذار كلها من مرض أو شغل أو حاجة ( أن يرموا يوم النحر ) أي جمرة العقبة كسائر الحجاج ، قال الباجي : أخبر أن رميهم يوم النحر لا يتعلق به رخصة ولا يغير عن وقته ولا إضافته إلى غيره ( ثم يجمعوا رمي يومين ) أي الحادي عشر والثاني عشر ( فيرموه ) أي رمي اليومين وقوله (( فيرموه )) هكذا في المشكاة والمصابيح والذي في الترمذي (( فيرمونه )) وكذا وقع عند أحمد وابن
في أحدهما .

(19/152)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ماجة ، وهكذا نقله الجزري ( في أحدهما ) أي في أحد اليومين ، ومعناه أنهم يجمعون رمي اليوم التالي ليوم النحر مع اليوم الذي يليه وهو يوم النفر الأول جمع تقديم فيرمون في اليوم التالي ليوم النحر ولا يرمون في يوم النفر الأول ، أو جمع تأخير فيرمون في يوم النفر الأول ولا يرمون في اليوم التالي ليوم النحر . فظاهر الحديث أنهم بالخيار ، إن شاءوا رموا يوم القر لذلك اليوم ولما بعده تقديما ، وإن شاءوا أخروا فرموا يوم النفر الأول ليومين تأخيرا ، وإلى ذلك ذهب بعضهم كما حكاه الخطابي إذ قال : قال بعضهم : هم بالخيار إن شاءوا قدموا وإن شاءوا أخروا – انتهى . ويؤيد ذلك رواية النسائي بلفظ (( رخص للرعاء في البيتوتة يرمون يوم النحر واليومين الذين بعده يجمعونهما في أحدهما )) ورواية أحمد وابن ماجة بلفظ ثم يجمعوا رمي يومين بعد النحر فيرمونه في أحدهما ، ورواية مالك في الموطأ ( على ما في طبعات الهند ) وفي مسند أحمد والمستدرك للحاكم بلفظ (( ثم يرمون من الغد أو من بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر ( الآخر ) )) لكن الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة لم يقولوا بجمع التقديم فأولوا الحديث إلى جمع التأخير ، فقال مالك كما في مسند أحمد : ظننت أنه في الآخر منهما وفسره في الموطأ بعبارة أوضح فقال : وتفسير الحديث الذي أرخص فيه رسول الله لرعاء الإبل في رمي الجمار فيما نرى والله أعلم أنهم يرمون يوم النحر ( جمرة العقبة كسائر الناس ثم ينصرفون لرعيهم فيغيبون عن منى في أول أيام التشريق ، وهو اليوم الذي يلي يوم النحر ) فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد ( أي من غد هذا اليوم الذي يلي يوم النحر وهو اليوم الثالث من أيام النحر واليوم الثاني من أيام التشريق ) وذلك يوم النفر الأول ( لمن تعجل ) فيرمون ( أي في هذا اليوم ) لليوم الذي مضى ( أي لليوم الحادي عشر ) ثم يرمون ليومهم

(19/153)


ذلك ( أي لليوم الثاني عشر ) لأنه لا يقضي أحد شيئا ( مما يجب عليه قضاؤه ) حتى يجب عليه ، فإذا وجب عليه ( الأداء ) ومضى ( وقته ولم يؤد فيه كان القضاء بعد ذلك ، فإن بدا لهم النفر ( بعد رمى يومين الذي رمى لهما في الثاني ) فقد فرغوا ( ويجوز لهم النفر ) وإن أقاموا إلى الغد ( أي إلى اليوم الثالث عشر رموا مع الناس يوم النفر الآخر ونفروا – انتهى . وقال الخطابي : قد اختلف الناس في تعيين اليوم الذي يرمون فيه ، فكان مالك يقول يرمون يوم النحر ، وإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد وذلك يوم النفر الأول يرمون لليوم الذي مضى ويرمون ليومهم ذلك ، وذلك أنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه . وقال الشافعي نحوا من قول مالك – انتهى . وقال القاري في المرقاة : قال الطيبي : رخص لهم أن لا يبيتوا بمنى وأن يرموا يوم العيد جمرة العقبة ثم لا يرموا في الغد بل يرموا بعد الغد رمى اليومين القضاء والأداء ، ولم يجوز الشافعي ومالك أن يقدموا الرمي في الغد – انتهى . قال القاري : وهو كذلك عند أئمتنا يعنى لم يجوزوا التقديم ، ويؤيد تفسير مالك ومن واثقه رواية أحمد والبيهقي من طريق ابن جريج عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن أبي البداح عن عاصم بن عدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص
...............................................................................................

(19/154)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للرعاء أن يتعاقبوا فيرموا يوم النحر ثم يدعوا يوما وليلة ثم يرموا الغد . ولفظ الطحاوي من هذا الطريق : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للرعاء أن يتعاقبوا فكانوا يرمون غدوة يوم النحر ويدعون ليلة ويوما ثم يرمون من الغد . ويؤيده أيضا ما ورد في حديث الباب من طريق سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن أبي البداح عن أبيه عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي وغيرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما . قال الشوكاني : أي يجوز لهم أن يرموا اليوم الأول من أيام التشريق ، ويذهبوا إلى إبلهم فيبيتوا عندها ويدعوا يوم النفر الأول ثم يأتوا في اليوم الثالث فيرموا ما فاتهم في اليوم الثاني مع رمى اليوم الثالث ، وفيه تفسير ثان وهو أنهم يرمون جمرة العقبة ويدعون رمي ذلك اليوم ويذهبون ثم يأتون في اليوم الثاني من أيام التشريق فيرمون ما فاتهم ثم يرمون عن ذلك اليوم كما تقدم ، وكلاهما جائز – انتهى . فهذه الروايات ظاهرة بل صريحة في ما قال به الجمهور من جمع التأخير وموافقة لتفسير الموطأ المذكور وأما رواية مالك على ما في النسخ الهندية للموطأ وأحمد وغيرهما بلفظ (( ثم يرمون الغد أو من بعد الغد ليومين )) فقال في المحلى في تأويلها : قوله ( ثم يرمون الغد ) من يوم النحر ، وهو اليوم الحادي عشر إن شاءوا ، وذلك هو العزيمة ( أو من بعد الغد ليومين ) لذلك اليوم واليوم الماضي إن لم يرم من الغد من يوم النحر فقوله (( ليومين )) متعلق بقوله (( أو من بعد الغد )) وهذا المعنى على مذهب مالك والشافعي وغيره ممن لم يجوز تقديم الرمي على يومه لأنه لا قضاء حتى يجب وإلا فظاهر الحديث أنهم بالخيار إن شاءوا رموا يوم القر لذلك اليوم ولما بعده ، وإن شاءوا أخروا فرموا يوم النفر الأول ليومين ، وبه قال بعضهم – انتهى . وقال

(19/155)


الزرقاني : ظاهر رواية الموطأ بلفظ (( ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين )) ( على ما في النسخ المصرية ) أنهم يرمون لهما في يوم النحر ، وليس بمراد كما بينه الإمام مالك بعد – انتهى . وقال الباجي : يريد (ص ) أنه يرمي لليومين الغد ومن بعد الغد ، فذكر الأيام التي يرمي لها وهي الغد من يوم النحر وبعد الغد وهما أول أيام التشريق وثانيها ولم يذكر وقت الرمي وإنما يرمي لهما في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال ولذا جمع بينهما في اللفظ فقال (( ليومين )) وقد فسر ذلك مالك – انتهى . قلت : ويشكل على تفسير الموطأ وعلى ما وقع عند أحمد في آخر الحديث (( قال مالك : ظننت أنه في الآخر منهما )) ما حكاه الترمذي وابن ماجة عن مالك بعد قول عاصم بن عدي في الحديث فيرمونه في أحدهما (( قال مالك : ظننت أنه قال في الأول منهما ثم يرمون يوم النفر )) واختلفوا في دفع هذا الإشكال والاختلاف فذهب بعضهم إلى أن ما في الترمذي وابن ماجة سهو وخطأ من بعض الرواة والصحيح ما في مسند أحمد لأنه موافق لتفسير الموطأ الصريح الواضح ، وذهب بعضهم إلى توجيه رواية الترمذي وتأويلها إلى ما في الموطأ والمسند فقال معنى قوله (( في الأول منهما )) أي بترك الرمي في الأول ( أي في الحادي عشر ) منهما ( وقضائه في اليوم الثاني من أيام التشريق ) وليس المراد الرمي في الأول منهما ، ولا يخفى ما في هذا التأويل من التعسف ، وقيل معناه أنهم يرمون في الأول منهما
...............................................................................................

(19/156)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي في الحادي عشر كسائر الحجاج ثم يروحون إلى إبلهم في المراعي ولا يأتون اليوم الثاني من أيام التشريق أي اليوم الثالث من أيام النحر وهو يوم النفر الأول بل يأتون يوم النفر الآخر فيجمعون فيه بين رمي يومين أي رمي اليوم الثاني عشر ورمي الثالث عشر أي النفر الآخر . وفيه أن هذا شيء آخر لا يناسب ما في المسند والموطأ ، وقيل في معنى رواية الترمذي غير ذلك ، ثم إن الجمهور بعد ما اتفقوا على جمع التأخير ونفي جمع التقديم أي تقديم رمي يوم على ذلك اليوم اختلفوا في أنه هل يجب الدم في جمع التأخير أو لا يجب وهل هو أداء أو قضاء ، فذهبت الأئمة الثلاثة وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة إلى أنه لا يجب عليه دم . وقال أبو حنيفة : إذا طلع الفجر من الغد في اليوم الثاني والثالث من أيام النحر فات وقت الأداء فيجب عليه القضاء مع الجزاء إلى غروب آخر أيام التشريق . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 455) : إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده أو أخر الرمي كله إلى آخر أيام التشريق ترك السنة ولا شيء عليه إلا أنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث ، وبذلك قال الشافعي وأبو ثور ، لأن أيام التشريق وقت للرمي ، فإذا أخره من أول وقته إلى آخره لم يلزمه شيء . قال القاضي : ولا يكون رميه في اليوم الثاني قضاء لأنه وقت واحد ، والحكم في رمي جمرة العقبة إذا أخرها كالحكم في رمي أيام التشريق في أنها إذا لم ترم يوم النحر رميت من الغد . وقال أيضا : آخر وقت الرمي آخر أيام التشريق فمتى خرجت قبل رميه فات وقته واستقر عليه الفداء الواجب في ترك الرمي ، هذا قول أكثر أهل العلم – انتهى . وقال النووي في مناسكه : إذا ترك شيئا من الرمي نهارا فالأصح أنه يتداركه فيرميه ليلا أو فيما بقي من أيام التشريق سواء تركه عمدا أو سهوا ، وإذا تداركه فيها فالأصح أنه أداء لا قضاء ، وإذا لم يتداركه حتى زالت الشمس

(19/157)


من اليوم الذي يليه فالأصح أنه يجب عليه الترتيب فيرمي أولا عن اليوم الفائت ثم عن الحاضر ، ومتى تدارك فرمى في أيام التشريق فائتها أو فائت يوم النحر فلا دم عليه ، ومتى فات ولم يتداركه حتى خرجت أيام التشريق وجب عليه جبره بالدم – انتهى . وقال الشيخ المواق في شرحه المختصر خليل بن إسحاق المالكي في الكلام على قوله (( والليل قضاء )) : قال ابن شاس : للرمي وقت أداء ووقت قضاء ووقت فوات ، فوقت الأداء في يوم النحر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس . قال : وتردد الباجي في الليلة التي تلي يوم النحر هل هي وقت أداء أو وقت قضاء ، ووقت الأداء في كل يوم من الأيام الثلاثة من بعد الزوال إلى مغيب الشمس ويتردد في الليل كما تقدم – انتهى . وقال الدردير : في جملة ما يجب فيه الدم تأخير الرمي حتى خرجت أيام الرمي وتأخير رمي كل حصاة من العقبة أو غيرها أو تأخير جميع الحصيات عن وقت الأداء وهو النهار لليل وهو وقت القضاء فأولى لو فات الوقتان فدم واحد وقضاء كل من الجمار ولو العقبة ينتهي إلى غروب الرابع ، والليل عقب كل يوم قضاء لذلك اليوم يجب به الدم ، ووقت أداء كل من الزوال للغروب – انتهى . فعلم من هذا أن الرمي في الليل وفي ما بعد الليل قضاء على ما هو
رواه مالك ، والترمذي ، والنسائي ، وقال

(19/158)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المشهور عند المالكية فيجب به الدم لكنه يرخص للرعاة مطلقا أو رعاة الإبل خاصة في جمع التأخير ولا يجب عليهم دم . وقال في الغنية : لو لم يرم في الليل رماه في النهار ، ولو قبل الزوال قضاء عند أبي حنيفة وعليه الكفارة للتأخير وأداء عندهما ولا شيء عليه – انتهى . قال القاري : والحاصل أن الرمي موقت عند أبي حنيفة وعندهما ليس بموقت فإذا أخر رمي يوم إلى يوم آخر فعنده يجب القضاء مع الدم ، وعندهما يجب القضاء لا غير ، لأن الأيام كلها وقت لها انتهى . وقال محمد في موطأه بعد رواية حديث عاصم بن عدي : من جمع رمي يومين في يوم من علة أو غير علة فلا كفارة عليه إلا أنه يكره أن يدع ذلك من غير علة حتى الغد . وقال أبو حنيفة : إذا ترك ذلك حتى الغد فعليه دم . وروى الطحاوي في المعاني حديث ابن عباس مرفوعا (( الراعي يرعى بالنهار ويرمي بالليل )) ثم قال : ذهب أبو حنيفة إلى أن في هذا الحديث دلالة على أن الليل والنهار وقت واحد للرمي ، فقال : إن ترك رجل رمي العقبة في يوم النحر ثم رماها بعد ذلك في الليلة التي بعده فلا شيء عليه ، وإن لم يرمها حتى أصبح من غده رماها وعليه دم لتأخيره إياها إلى خروج وقتها وهو طلوع الفجر من يومئذ ، وخالفه في ذلك أبو يوسف ومحمد فقال : إذا ذكرها في شيء من أيام الرمي رماها ولا شيء عليه غير ذلك من دم ولا غيره ، وإن لم يذكرها حتى مضت أيام الرمي فذكرها لم يرمها وكان عليه في تركها دم . ثم احتج الطحاوي لهما بحديث الباب واستظهره بالنظر . وقد ظهر من هذا كله أنه يجب الدم في جمع التأخير عند أبي حنيفة ولا شك أن قوله بلزوم الجزاء أي الدم مخالف لحديث عاصم بن عدي . وقد أجاب بعض الحنفية عن ذلك بوجوه كلها مخدوشة واهية . والراجح عندنا أن أيام التشريق كاليوم الواحد بالنسبة إلى الرمي في حق الرعاة ، فمن رمى عن يوم منها في يوم آخر منها أجزأه ولا شيء عليه ،

(19/159)


والدليل على ذلك حديث عاصم بن عدي ، فلو كان يجب الجزاء بتأخير رمي يوم عن ذلك اليوم لبينه - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأما ما روي عن ابن عباس مرفوعا (( من قدم شيئا من حجه أو أخره فليهرق لذلك دما )) فهو محمول على عدم العذر ، والله أعلم . قال الشنقيطي بعد ذكر حديث عاصم بن عدي : التحقيق أن أيام الرمي كلها كاليوم الواحد ، وأن من رمى عن يوم في الذي بعده لا شيء عليه لإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للرعاء في ذلك ولكن لا يجوز تأخير يوم إلى يوم آخر إلا لعذر فهو وقت له ولكنه كالوقت الضروري والله تعالى أعلم ( رواه مالك ) في باب الرخصة في رمي الجمار بلفظ (( أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد أو من بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر )) وكذا رواه أبو داود والدارمي ( والترمذي والنسائي ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 5 : ص450) والشافعي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والبيهقي (ج 5 : ص 450) وفي رواية للترمذي وأبي داود والنسائي وابن الجارود والحاكم قال : رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما ( وقال
الترمذي : هذا حديث صحيح .
(11) باب ما يجتنبه المحرم
( الفصل الأول )
2703 - (1) عن عبد الله بن عمر ، أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما يلبس المحرم من الثياب ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الترمذي : هذا حديث صحيح ) وسكت عنه أبو داود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وقرره ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين وسكت عنه الذهبي .
( باب ما يجتنبه المحرم ) أي من المحظورات يعني وما لا يجتنبه من المباحات ، قاله القاري . والمقصود بيان ما يحرم على المحرم وما يباح له ، والمراد بالمحرم من أحرم بحج أو عمرة أو قرن ، وقد تقدم الكلام على معنى الإحرام وحقيقته في باب الإحرام والتلبية .

(19/160)


2703 – قوله ( عن عبد الله ابن عمر أن رجلا ) قال الحافظ : لم أقف على اسمه في شيء من الطرق ( سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما يلبس ) كلمة استفهامية أو موصولة أو موصوفة في محل النصب على أنه مفعول ثان لسأل ، و (( يلبس )) بفتح الموحدة من اللبس بضم اللام ، يقال : لبس الثوب يلبس من باب علم يعلم . وأما اللبس بفتح اللام فهو من باب ضرب يضرب ، يقال لبست عليه الأمر ألبس بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل إذا خلطت عليه ، ومنه التباس الأمر وهو اشتباهه ( المحرم ) قال الحافظ : أجمعوا على أن المراد به ها هنا الرجل ولا يلتحق به المرأة في ذلك . قال ابن المنذر : أجمعوا على أن للمرأة لبس جميع ما ذكر ، وإنما تشترك مع الرجل في منع الثوب الذي مسه الزعفران أو الورس وسيأتي الكلام على ذلك ( من الثياب ) أي من أنواع الثياب وهو بيان لما ، أو للمسئول عنه وعند أحمد (ج 2 : ص 77) والنسائي من طريق عمر بن نافع عن أبيه (( ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا ؟ )) وهكذا عند أحمد (ج 2 : ص 54) من طريق عبيد الله و (ص 65) من طريق أيوب كلاهما عن نافع ، وهو مشعر بأن السؤال كان قبل الإحرام . وللبيهقي من طريق عبد الله بن عون عن نافع عن ابن عمر قال : قام رجل من هذا الباب يعني بعض أبواب مسجد المدينة فقال : يا رسول الله ما يلبس المحرم ؟ وله أيضا من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : (( نادى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب وهو بذاك المكان ، وأشار نافع إلى مقدم المسجد )) فظهر أن السؤال كان بالمدينة . وفي حديث ابن عباس عند الشيخين أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب بذلك في عرفات فيحمل على التعدد . ويؤيده أن في حديث ابن عمر أجاب به السائل . وفي حديث ابن عباس ابتدأ به الخطبة . وقوله (( ما يلبس المحرم من الثياب )) هي الرواية المشهورة عن نافع عن ابن عمر . وقد رواه أبو عوانة من طريق ابن جريج عن نافع بلفظ (( ما يترك==

22. مرعاة المفاتيح

المحرم )) قال الحافظ : وهي شاذة ، والاختلاف فيها على ابن جريج لا على
فقال : " لا تلبسوا القمص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نافع ، وأخرجه أحمد (ج 2 : ص 8) عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن ابن عمر فقال مرة : ما يترك ؟ ومرة : ما يلبس ؟ وأخرجه أبو داود عن ابن عيينة بلفظ (( ما يترك )) من غير شك . ورواه سالم عن ابن عمر بلفظ (( أن رجلا قال : ما يجتنب المحرم من الثياب )) أخرجه أحمد (ج 2 : ص 34) وابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحيهما من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عنه ، وأخرجه البخاري في أواخر الحج من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ نافع فالاختلاف فيه على الزهري يشعر بأن بعضهم رواه بالمعني فاستقامت رواية نافع لعدم الاختلاف فيها ( لا تلبسوا أي مريدوا الإحرام . وفي رواية للبخاري (( لا يلبس )) بالرفع على الخبر على الأشهر وهو في معنى النهي ، وروى بالجزم على أنه نهى ، وهذا الجواب مطابق للسؤال على إحدى الروايتين وهي قول السائل ما يترك المحرم أو ما يجتنب المحرم ؟ وأما على الرواية المشهورة أي قول السائل (( ما يلبس )) فإن المسئول عنه ما يلبسه المحرم فأجيب بذكر ما لا يلبسه ، والحكمة فيه أن ما يجتنبه المحرم ويمتنع عليه لبسه محصور فذكره أولى ويبقى ما عداه على الإباحة بخلاف ما يباح له لبسه فإنه كثير غير محصور فذكره تطويل ، وفيه تنبيه على أن السائل لم يحسن السؤال وأنه كان الأليق السؤال عما يتركه فعدل عن مطابقته إلى ما هو أولى ، وبعض علماء المعاني يسمى هذا أسلوب الحكيم ، وقريب منه قوله تعالى ? يسألونك ماذا ينفقون ، قل ما أنفقتم من خير فللوالدين ? (سورة البقرة ، الآية 215 ) فالسؤال عن جنس المنفق فعدل عنه في الجواب إلى ذكر المنفق عليه لأنه أهم . وكان اعتناء السائل بالسؤال عنه أولى . قال النووي : قال العلماء : هذا الجواب من بديع الكلام وجزله فإنه - صلى الله عليه وسلم -

(19/162)


سئل عما يلبسه المحرم فقال : لا يلبس كذا وكذا فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات ويلبس ما عداها ، فكان التصريح بما لا يلبس أولى لأنه منحصر ، وأما الملبوس الجائز للمحرم فغير منحصر فضبط الجميع بقوله لا يلبس كذا وكذا يعني ويلبس ما سواه – انتهى . وقال البيضاوي : سئل عما يلبس فأجاب بما لا يلبس ليدل بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز ، وإنما عدل عن الجواب لأنه أخصر وأحصر ، وفيه إشارة إلى أن حق السؤال أن يكون عما لا يلبس لأنه الحكم العارض في الإحرام المحتاج لبيانه ، إذ الجواز ثابت بالأصل معلوم بالاستصحاب فكان الأليق السؤال عما لا يلبس . وقال ابن دقيق العيد : يستفاد منه أن المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود كيف ما كان ، ولو بتغيير أو زيادة ولا يشترط المطابقة ( القمص ) بضمتين جمع قميص نوع من الثياب معروف وهو الدرع ، وذكر ابن الهمام في أبواب النفقة من فتح القدير أنهما سواء إلا أن القميص يكون مجيبا من قبل الكتف والدرع من قبل الصدر – انتهى . ونبه به وبالسراويلات على جميع ما في معناهما وهو ما كان محيطا أو مخيطا معمولا على قدر البدن أو قدر عضو منه ، وذلك مثل الجبة والقميص والقباء والتبان والقفار ، وفي البحر عن مناسك ابن أمير الحاج الحلبي أن ضابطه لبس كل شيء معمول على قدر البدن أو
...............................................................................................

(19/163)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعضه بحيث يحيط به بخياطة أو تلزيق بعضه ببعض أو غيرهما ، ويستمسك عليه بنفس لبس مثله إلا المكعب – انتهى . وفي شرح الإحياء للزبيدي (( ثم إن قولهم : إن المحرم لا يلبس المخيط )) ترجمة لها جزآن لبس ومخيط ، فأما اللبس فهو مرعي في وجوب الفدية على ما يعتاد في كل ملبوس إذ به يحصل الترفه والتنعم ، فلو ارتدى بقميص أو قباء أو التحف فيهما أو اتزر بسراويل فلا فدية عليه ( فإنه لا يعد لابسا له في العرف ) كما لو اتزر بإزار خيط عليه رقاع ، وأما المخيط فخصوص الخياطة غير معتبر بل لا فرق بين المخيط والمنسوج كالدرع والمعقود كجبة اللبد والملزق بعضه ببعض قياسا لغير المخيط على المخيط والمتخذ من القطن والجلد وغيرهما سواء – انتهى . فإن قلت : تقييد اللبس المنتهي عنه باللبس المعتاد يخالف ما سيأتي في الفصل الثالث من حديث نافع أن ابن عمر وجد القر فقال : ألق على ثوبا يا نافع ، فألقيت عليه برنسا ، فقال : تلقي على هذا ؟ وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلبسه المحرم . قلت : قال ابن عبد البر :هذا من ورعه وتوقيه كره أن يلقى عليه البرنس وسائر أهل العلم إنما يكرهون الدخول فيه ولكنه رضي الله عنه استعمل العموم في اللباس لأن التغطية والامتهان قد يسمى لباسا ، ألم تسمع إلى قول أنس : فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس – انتهى . وهو يقتضي أن ابن عمر إنما فعل ذلك احتياطا لا لاعتقاده الوجوب . وقال العراقي في شرح الترمذي : ويحتمل أن البرنس كان مفرجا كالقباء بحيث لو قام عد لابسا له ، فإن بعض البرانس كذلك . وقد حكى الرافعي عن إمام الحرمين فيما لو ألقي على نفسه قباء أو فرجية وهو مضطجع أنه إن أخذ من بدنه ما إذا قام عد لابسه فعليه الفدية ، وإن كان بحيث لو قام أو قعد لم يستمسك عليه إلا بمزيد أمر فلا – انتهى ، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك عند شرح حديث نافع

(19/164)


المذكور . تنبيه : قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مناسك الحج (( والسنة أن يحرم في إزار ورداء سواء كانا مخيطين أو غير مخيطين باتفاق الأئمة )) قال صديقنا العلامة عبد الرحمن الافريقي رحمه الله في كتابه (( توضيح الحج والعمرة )) (ص 44) : ومعنى (( مخيطين )) أن تكون في الرداء والإزار خياطة عرضا وطولا ،وقد غلط في هذا كثير من العوام ، يظنون أن المخيط الممنوع هو كل ثوب خيط سواء في صورة عضو الإنسان أم لا ، بل كونه مخيطا مطلقا ، وهذا ليس بصحيح ، بل المراد بالمخيط الذي نهي عن لبسه هو ما كان على صورة عضو الإنسان كالقميص والفنيلة والجبة والصدرية والسراويل وكل ما على صفة الإنسان محيط بأعضائه لا يجوز للمحرم لبسه ولو بنسج ، وأما الرداء الموصل لقصره أو لضيقة أو خيط لوجود الشق فيه فهذا جائز – انتهى . قال النووي : قال العلماء : الحكمة في تحريم اللباس المذكور في الحديث على المحرم ولباسه الإزار والرداء أن يبعد عن الترفه ويتصف بصفة الخاشع الذليل وليتذكر أنه محرم في كل وقت فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته وامتناعه من ارتكاب المحظورات وليتذكر به الموت ولباس الأكفان ويتذكر البعث يوم القيامة حفاء عراة مهطعين إلى الداع ، والحكمة في تحريم الطيب
ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف ،

(19/165)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والنساء أن يبعد عن الترفه وزينة الدنيا وملاذها ، ولأن الطيب داع إلى الجماع ولأنه ينافي الحاج فإنه أشعث أغبر ، ومحصله أن يجمع همه لمقاصد الآخرة – انتهى بزيادة يسيرة . وقال الشيخ ولى الله الدهلوي : الفرق بين المخيط وما في معناه وبين غير ذلك أن الأول ارتفاق وتحمل وزينة والثاني ستر عورة ، وترك الأول تواضع لله وترك الثاني سوء أدب . وقال أيضا : إن الإحرام في الحج والعمرة بمنزلة التكبير في الصلاة ، فيه تصوير الإخلاص والتعظيم وضبط عزيمة الحج بفعل ظاهر ، وفيه جعل النفس متذللة خاشعة لله بترك الملاذ والعادات المألوفة وأنواع التجمل ، وفيه تحقيق معاناة التعب والتشعث والتغبر لله ، وإنما شرع أن يجتنب المحرم هذه الأشياء تحقيقا للتذلل وترك الزينة والتشعث وتنويها لاستشعار خوف الله وتعظيمه ومؤاخذة نفسه أن لا تسترسل في هواها – انتهى . ( ولا العمائم ) جمع عمامة بكسر العين ، سميت بذلك لأنها تعم جميع الرأس ، ونبه به على كل ساتر للرأس مخيطا أو غير مخيط حتى العصابة فإنها حرام ( ولا السراويلات ) هو واحد جاء بلفظ الجمع ، وقيل جمع سروالة ، وهو ثوب خاص بالنصف الأسفل من البدن ولفظه أعجمي لا عربي على الصحيح ، يقال : هو فارسي معرب (( شلوار )) في الهندية . في القاموس : السراويل فارسية معربة جمعها سراويلات أو هي جمع سروال وسروالة – انتهى . فالسراويلات تكون حينئذ جمع الجمع . وقال صاحب المحكم : السراويل فارسي معرب يذكر ويؤنث ولم يعرف الأصمعي فيها إلا التأنيث والجمع سراويلات، والسراوين ( بالنون ) السراويل . زعم يعقوب أن النون فيها بدل من اللام . وقال أبو حاتم السجستاني وسمعت من الأعراب من يقول : الشراويل بالشين المعجمة ( ولا البرانس ) بفتح الموحدة وكسر النون ، جمع البرنس بضمهمها . قال الأزهري وصاحب المحكم وغيرهما : البرنس كل ثوب رأسه منه ملتزق به دراعة كانت

(19/166)


أو جبة أو ممطرا ( الممطر بكسر الميم الأولى وفتح الطاء ما يلبس في المطر يتوقى به ) من البرس بكسر الباء وهو القطن والنون زائدة ، قال النووي : نبه بالعمام والبرانس على كل ساتر للرأس مخيطا كان أو غيره حتى العصابة فإنها حرام ، فإن احتاج إليها لشجة أو صداع أو غيرهما شدهما ولزمته الفدية – انتهى . وقال الخطابي : ذكر العمامة والبرنس معا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر . قال : ومن النادر المكتل يحمله على رأسه . قال الحافظ : إن أراد أنه يجعله على رأسه كلابس القبع صح ما قال ، وإلا فمجرد وضعه على رأسه على هيأة الحامل لحاجته لا يضر ، ومما لا يضر أيضا الانغماس في الماء فإنه لا يسمى لابسا وكذا ستر الرأس باليد ( ولا الخفاف ) بكسر الخاء المعجمة جمع خف . قال النووي : نبه - صلى الله عليه وسلم - بالخفاف على كل ساتر للرجل من مداس وجمجم وجورب وغيرها . وهذا وما قبله كله حكم الرجال ، وأما المرأة فيباح لها ستر جميع بدنها بكل ساتر من مخيط وغيره إلا ستر وجهها فإنه حرام بكل ساتر وفي ستر يديها بالقفازين خلاف
إلا أحد لا يجد نعلين ،

(19/167)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للعلماء وهما قولان للشافعي أصحهما تحريمه – انتهى . قال الغزالي في الإحياء : وللمرأة أن تلبس كل مخيط بعد أن لا تستر وجهها بما يماسه ، فإن إحرامها في وجهها – انتهى . قال الزبيدي في شرحه : أي إن الوجه في حق المرأة كالرأس في حق الرجل ويعبر عن ذلك بأن إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها ، والأصل في ذلك ما روى البخاري من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعا : لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين ( سيأتي الكلام على هذا بعد تخريج الحديث حيث ذكره المصنف ) ثم إن قوله : فإن إحرامها في وجهها هو لفظ حديث أخرجه البيهقي في المعرفة ( وفي السنن ج 5 : ص 47) عن ابن عمر قال : إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه . وأخرج الدارقطني والطبراني والعقيلي وابن عدي ( والبيهقي في السنن ج 5 : ص 47 مرفوعا ) من حديثه بلفظ (( ليس على المرأة إحرام إلا في وجهها )) وإسناده ضعيف ( لأن في سنده أيوب بن محمد أبا الجمل . قال البيهقي : وهو ضعيف عند أهل العلم بالحديث ، ضعفه ابن معين وغيره ) وقال العقيلي : لا يتابع على رفعه ، إنما يروى موقوفا . وقال الدارقطني في العلل : الصواب وقفه ، وليس للرجل لبس القفازين كما ليس له لبس الخفين ، وهل للمرأة فيه قولان : أحدهما لا يجوز ، قاله في الأم والإملاء ، وبه قال مالك وأحمد . والثاني وهو منقول المزني نعم ، وبه قال أبو حنفية . وفي الوجيز أنه أصح القولين لكن أكثر النقلة على ترجيح الأول * انتهى . وسيأتي الكلام في هذه المسألة عند شرح قوله : لا تلبس القفازين ( إلا أحد ) قال القاري : بالرفع على البدلية من واو الضمير ، وقال الزرقاني في شرح الموطأ : بالنصب عربي جيد ، وروي بالرفع وهو المختار في الاستثناء المتصل بعد النفي وشهبه . قال الزين بن المنير : يستفاد منه جواز استعمال أحد في الإثبات خلافا لمن خصه بضرورة الشعر كقوله :
-
-

(19/168)


وقد ظهرت فلا تخفى على أحد _ -
-
إلا على أحد لا يعرف القمرا ( -
-
قال : والذي يظهر لي بالاستقراء أنه لا يستعمل في الإثبات إلا أن كان يعقبه نفي وكان الإثبات حينئذ في سياق النفي ( لا يجد نعلين ) في محل الرفع لأنه صفة لأحد ، وزاد معمر في روايته عن الزهري عن سالم في هذا الموضع زيادة حسنة تفيد ارتباط ذكر النعلين بما سبق ، وهي قوله : وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين ، فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين واستدل بقوله (( فإن لم يجد نعلين )) على أن واجد النعلين لا يلبس الخفين المقطوعين وهو قول الجمهور . وأجازه الحنفية وبعض الشافعية . وقال ابن العربي : إن صار كالنعلين جاز ، وإلا متى سترا من ظاهر الرجل شيئا لم يجز إلا للفاقد . قال الزرقاني : فإن لبسهما مع وجود نعلين افتدى عند مالك والليث ، وعن الشافعي قولان – انتهى . وصرح في الشرح الكبير والدسوقي بالفدية إن لبسهما مع وجود النعلين سواء قطعهما أولا ، وقال في شرح الإحياء : هل يجوز لبس الخف المقطوع والمكعب مع وجود النعلين ، فيه وجهان أحدهما نعم لشهبه بالنعل وأصحهما لا ، لأن الإذن في الخبر
فيلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ،

(19/169)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مقيد بشرط أن لا يجدهما - انتهى . وقال القاري في شرح المناسك : ويجوز لبس المقطوع مع وجود النعلين لكن لا ينافي الكراهة المرتبة على مخالفة السنة – انتهى . قال الحافظ : والمراد بعدم الوجدان أن لا يقدر على تحصيله إما لفقده أو ترك بذل المالك له أو عجزه عن الثمن إن وجد من يبيعه أو الأجرة ، ولو بيع بغبن لم يلزمه شراؤه أو وهب له لم يجب قبوله إلا أن أعير له ( فيلبس الخفين ) كذا في نسخ المشكاة بصيغة المضارع وهكذا وقع في بعض نسخ الموطأ . وفي الصحيحين (( فليلبس )) بزيادة اللام على صيغة الأمر . قال الحافظ : ظاهر الأمر للوجوب لكنه لما شرع للتسهيل لم يناسب التثقيل فهو للرخصة ( وليقطعهما ) بكسر اللام وسكونها ( أسفل من الكعبين ) وفي رواية حتى يكونا تحت الكعبين . والمراد قطعهما بحيث يصير الكعبان وما فوقهما من الساق مكشوفا لا قطع موضع الكعبين فقط . قال العيني والحافظ : والمراد كشف الكعبين في الإحرام وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم ، ويؤيده ما روى ابن أبي شيبة عن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال : إذا اضطر المحرم إلى الخفين خرق ظهورهما وترك فيهما قدر ما يستمسك رجلاه – انتهى . اعلم أن المراد بالكعبين ها هنا هو المراد بهما في الوضوء عند الجمهور وهما العظمان الناتئان في جانبي القدم ، والمراد بهما عند محمد بن الحسن ومن تبعه من الحنفية هو العظم الشاخص في ظهر القدم عند معقد الشراك . قال ابن عابدين تحت قول المصنف (( فيقطعهما أسفل من الكعبين عند معقد الشراك )) وهو المفصل الذي في وسط القدم ، كذا رواه هشام عن محمد بخلافه في الوضوء ، فإنه العظم الناتي أي المرتفع ولم يعين في الحديث أحدهما لكن لما كان الكعب يطلق عليهما حمل على الأول احتياطا لأن الأحوط فيما كان أكثر كشفا – انتهى . قال الحافظ : لا يلزم من نقل ذلك عن محمد بن الحسن على تقدير صحته

(19/170)


عنه أن يكون قول أبي حنفية ونقل عن الأصمعي وهو قول الإمامية أن الكعب عظم مستدير تحت عظم الساق حيث مفصل الساق والقدم ، وجمهور أهل اللغة على أن في كل قدم كعبين – انتهى . وقال الجوهري : الكعب العظم الناشز عند ملتقي الساق والقدم وأنكر الأصمعي قول الناس إنه في ظهر القدم – انتهى . وقال في القاموس الكعب كل مفصل للعظام والعظم الناشز فوق القدم والناشزان من جانبيها أي القدم . قال في تاج العروس (ج 1 : ص 456) : وأنكر الأصمعي قول الناس : إنه في ظهر القدم وسأل ابن جابر أحمد بن يحيى عن الكعب فأومأ ثعلب إلى رجله إلى المفصل منها بسبابته عليه . ثم قال : هذا قول المفضل وابن الأعرابي . قال وأومأ إلى الناتئين . قال : وهذا قول أبي عمرو بن العلاء والأصمعي ، وكل قد أصاب ، كذا في لسان العرب (ج 1 : ص 213) قلت : وهذا يدل على أن لفظ الكعب في اللغة يستعمل بالمعنيين بمعنى العظم الناتئ عند مفصل الساق والقدم ، وبمعنى العظم في ظهر القدم عند معقد الشراك ، فأخذه محمد بهذا المعنى في المحرم لكونه أحوط عنده .
...............................................................................................

(19/171)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قلت : والظاهر عندنا هو قول الجمهور . ثم ظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبسهما بعد القطع إذا لم يجد النعلين ، وهو مذهب الجمهور . وقال الحنفية تجب ، وتعقب بأنها لو وجبت لبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه وقت الحاجة ، وأيضا لو وجبت فدية لم يكن للقطع فائدة لأنها تجب إذا لبسهما بلا قطع ، قاله الزرقاني . وهذا الذي حكاه عن الحنفية قد اختاره الطحاوي في معاني الآثار ورجحه من حيث الدليل وعزاه إلى أبي حنيفة وصاحبيه ، ولكن قال القاري في المرقاة بعد نقل كلام الطحاوي : وفي منسك ابن جماعة : وإن شاء قطع الخفين من الكعبين ولبسهما ولا فدية عند الأربعة – انتهى . وأغرب الطبري والنووي والقرطبي و ( الحافظ ) ابن حجر فحكوا عن أبي حنيفة أنه يجب عليه الفدية إذا لبس الخفين بعد القطع عند عدم النعلين وهو خلاف المذهب ، بل قال في مطلب الفائق : وهذه الرواية ليس لها وجود في المذهب بل هي منتقدة – انتهى . وقال في شرح المناسك : إذا لبسهما قبل القطع يوما فدم ، وفي أقل من يوم صدقة ، وإن لبسهما بعد القطع أسفل من موضع الشراك فلا شيء عليه عندنا . وأغرب الطبري والنووي والقرطبي فحكوا عن أبي حنيفة أنه يجب عليه الفدية إذا لبس الخفين بعد القطع عند عدم النعلين – انتهى . وبهذا ظهر أن مذهب الحنفية هو كالجمهور ، واستدل بالحديث على أن لبس الخفين مشروط بالقطع ، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة مع الاختلاف فيما بينهم في موضع القطع ، وعن أحمد في المشهور عنه لا يلزمه قطعهما بل يجوز لبسهما من غير قطع قال ابن قدامة : ويروى ذلك عن علي ، وبه قال عطاء وعكرمة وسعيد بن سالم القداح ، واحتج أحمد بإطلاق حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ (( ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين )) ومثله حديث جابر عند مسلم ، وتعقب بأنه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيد فينبغي أن يقول بها ها هنا ، وبأن ابن

(19/172)


عباس حفظ لبس الخفين ولم ينقل صفة اللبس بخلاف ابن عمر فهو أولى . قال الحافظ : وأجاب الحنابلة عن حديث القطع بأشياء : منها دعوى النسخ في حديث ابن عمر فقد روى الدارقطني من طريق عمرو بن دينار أنه روى عن ابن عمر حديثه ، وعن جابر بن زيد عن ابن عباس حديثه وقال : انظروا أي الحديثين قبل . ثم حكى الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري أنه قال : حديث ابن عمر قبل ، لأنه كان بالمدينة قبل الإحرام ، وحديث ابن عباس بعرفات فيكون ناسخا لحديث ابن عمر ، لأنه لو كان القطع واجبا لبينه للناس إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأجاب الشافعي عن هذا في الأم فقال : كلاهما صادق حافظ وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس لاحتمال أن تكون عزبت عنه أو شك أو قالها فلم يقلها عنه بعض رواته – انتهى . وسلك بعضهم الترجيح بين الحديثين . قال ابن الجوزي : حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه ، وحديث ابن عباس لم يختلف في رفعه – انتهى . وهو تعليل مردود بل لم يختلف على ابن عمر في رفع الأمر بالقطع إلا في رواية شاذة على أنه اختلف في حديث ابن عباس أيضا فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا ولا يرتاب أحد
ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه زعفران

(19/173)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من المحدثين أن حديث ابن عمر أصح من حديث ابن عباس لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد وصف بكونه أصح الأسانيد واتفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفاظ منهم نافع وسالم ، بخلاف حديث ابن عباس فلم يأت مرفوعا إلا من رواية جابر بن زيد عنه حتى قال الأصيلي : إنه شيخ بصري لا يعرف ، كذا قال ، وهو معروف موصوف بالفقه عند الأئمة . واستدل بعضهم بالقياس على السراويل كما سيأتي البحث فيه في حديث ابن عباس إن شاء الله تعالى ، وأجيب بأن القياس مع وجود النص فاسد الاعتبار ، واحتج بعضهم بقول عطاء : إن القطع فساد والله لا يحب الفساد ، وأجيب بأن الإفساد إنما يكون فيما نهى الشرع عنه لا فيما أذن فيه ، وقال ابن الجوزي : يحمل الأمر بالقطع على الإباحة لا على الاشتراط عملا بالحديثين ، ولا يخفي تكلفه - انتهى كلام الحافظ ، وهكذا ذكر العيني ، ثم قال : والأحسن في الجواب أن يقال إن حديث ابن عباس قد ورد في بعض طرقه الصحيحة موافقته لحديث ابن عمر في قطع الخفين ، رواه النسائي في سننه من طريق إسماعيل بن مسعود عن يزيد بن زريع عن أيوب عن عمرو عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا لم يجد إزار فليلبس السراويل ، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين " . قال العيني : وهذا إسناد صحيح وإسماعيل بن مسعود الجحدري وثقه أبو حاتم وغيره ، وباقيهم رجال الصحيح . والزيادة من الثقة مقبولة على المذهب الصحيح – انتهى . قلت : وكذا ورد الأمر بالقطع في حديث جابر أيضا عند الطبراني الأوسط بإسناد حسنه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 3 : ص 219) فاتفقت الأحاديث كلها . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 302) والأولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الخلاف وأخذا بالاحتياط – انتهى . وقال الخطابي (ج 2 : ص 345) : أنا أتعجب من أحمد في هذا فإنه لا يكاد

(19/174)


يخالف سنة تبلغه ، وقلت سنة لم تبلغه ، ويشبه أن يكون إنما ذهب إلى حديث ابن عباس ، وليست هذه الزيادة فيه ، إنما رواها ابن عمر إلا أن الزيادات مقبولة – انتهى ( ولا تلبسوا ) بفتح أوله وثالثه ، وهذا الحكم شامل للنساء ، والدليل الصريح على تعميم هذا الحكم ما سيأتي من حديث ابن عمر في نهى النساء في الإحرام عن لبس ما مسه الزعفران والورس في الفصل الثاني من هذا الباب . قال القاري : نكتة الإعادة اشتراك الرجال والنساء في هذا الحكم إما وجه التغليب أو التبعية – انتهى . وقال الحافظ : قيل عدل عن طريقة ما تقدم ذكره إشارة إلى اشتراك الرجال والنساء في ذلك ، وفيه نظر . بل الظاهر أن نكتة العدول أن الذي يخالطه الزعفران والورس لا يجوز لبسه سواء كان مما يلبسه المحرم أو لا يلبسه . قال الزرقاني : والظاهر أنه لا تنافي بين النكتتين ( من الثياب شيئا مسه ) أي صبغه ( زعفران ) بالتنكير والتنوين لأنه ليس فيه إلا ألف ونون فقط وهو لا يمنع الصرف ، وفي بعض الروايات الزعفران بالتعريف وهو بفتح الزأي المعجمة وسكون العين
ولا ورس " .

(19/175)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المهملة وفتح فاء وراء مهملة بعدها ألف ونون اسم عربي ، كذا في المحيط . وقال العيني : الزعفران اسم أعجمي صرفته العرب فقالوا : ثوب مزعفر وقد زعفر ثوبه يزعفره زعفرة ويجمع على زعافر ( ولا ورس ) وفي بعض الروايات ولا الورس – وهو بفتح الواو وإسكان الراء آخره سين مهملة – كذا في المحيط ، قال المجد : نبات كالسمسم ليس إلا باليمن يزرع فيبقى عشرين سنة ، نافع للكلف طلاء والبهق شربا ، وقال العيني : نباته مثل حب السمسم ، فإذا جف عند إدراكه تفتق فينفض منه مثل الورق . وقال الجوهري : الورس نبت أصفر يكون باليمن . وقال ابن بيطار : يؤتى بالورس من الصين واليمن والهند ، وهو يشبه زهر العصفر . وقال الحافظ : الورس نبت أصفر طيب الريح يصبغ به وذكر ابن العربي أنه ليس بطيب فقال : والورس وإن لم يكن طيبا فله رائحة طيبة ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين تجنب الطيب المحض وما يشبه الطيب في ملائمة الشم فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم وهو مجمع عليه فيما يقصد به التطيب – انتهى . واستدل بقوله (( مسه )) على تحريم ما صبغ كله أو بعضه ولو خفيت رائحته بعد ذلك للغسل أو لمرور الزمان ، وقال الشافعية : إذا صار الثوب بحيث لو أصابه الماء لم تفح له رائحة لم يمنع وإن بقى اللون ، والحجة فيه حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ (( ولم ينه عن شيء من الثياب إلا المزعفرة التي تردع الجلد )) وأما المغسولة فقال الجمهور : إذا ذهبت الرائحة جاز خلافا لمالك ، واستدل لهم بما روى أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث إلا أن يكون غسيلا ، أخرجه يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده عنه ، وروى الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران أن يحيى بن معين أنكره على الحماني فقال له عبد الرحمن بن صالح الأزدري قد كتبته عن أبي معاوية ، وقام في الحال فأخرج له أصله فكتبه عنه يحيى بن معين –

(19/176)


انتهى . قال : الحافظ وهي زيادة شاذة لأن أبا معاوية وإن كان متقنا لكن في حديثه عن غير الأعمش مقال . قال أحمد : أبو معاوية مضطرب الحديث في عبيد الله ولم يجيء بهذه الزيادة غيره . قال الحافظ : والحماني ضعيف وعبد الرحمن الذي تابعه فيه مقال – انتهى . وقال : العيني : في الحديث حرمة لبس الثوب الذي مسه ورس أو زعفران ، وأطلق حرمته جماعة منهم مجاهد وهشام بن عروة وعروة بن الزبير ومالك في رواية ابن القاسم عنه ، فإنهم قالوا : كل ثوب مسه ورس أو زعفران لا يجوز لبسه للمحرم سواء كان مغسولا أو لم يكن لإطلاق الحديث ، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري وخالفهم جماعة ، وهم سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وطاوس وقتادة وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور فإنهم أجازوا للمحرم لبس الثوب المصبوغ بالورس أو الزعفران إذا كان غسلا لا ينفض – انتهى . وفي الموطأ : سئل مالك عن ثوب مسه طيب ثم ذهب ريح الطيب منه هل يحرم فيه ؟ قال : نعم ما لم يكن فيه صباغ زعفران أو ورس . قال الباجي : إذا
...............................................................................................

(19/177)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زال من الثوب ريح الطيب ولم تكن في لونه زينة كلون الزعفران والورس أو كان مما في لونه زينة فزال اللون بالغسل فلا مانع يمنع من الإحرام فيه ، وقال أيضا في موضع آخر : إن كان الثوب مصبوغا فيجنب المصبوغ بالزعفران أو الورس يجتنبه الرجال والنساء لما فيه من الطيب والصبغ الذي يستعمله غالبا للتجمل ، وهذان المعنيان ينافيان الإحرام ، فمن لبسه من الرجال والنساء فعليه الفدية ، وفي المدونة كان مالك يكره الثياب المصبوغة بالورس والزعفران وإن كان قد غسل إلا أن يكون ذهب لونه فلم يبق فيه من لونه شيء – انتهى . وحاصل كلام الباجي والمدونة أن المحظور عند المالكية شيئان الطيب ولون الزينة والتجمل كلون الزعفران ، فإذا كان الثوب مصبوغا بشيء فيه ريح فقط وزال يجوز الإحرام فيه وإذا كان مصبوغا بنحو الزعفران لا يجوز الإحرام فيه بمجرد زوال الريح حتى يزول اللون أيضا . وقال العيني في موضع آخر : وقال أصحابنا ( الحنفية ) : ما غسل من ذلك حتى صار لا ينفض ( لأن المنع للطيب لا للون ) فلا بأس بلبسه في الإحرام وهو المنقول عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والحسن وطاوس وقتادة والنخعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، ومعنى (( لا ينفض )) لا يتناثر صبغه وقيل لا يفوح ريحه وهما منقولان عن محمد بن الحسن والتعويل على زوال الرائحة حتى لو كان لا يتناثر صبغه ولكنه يفوح ريحه يمنع من ذلك ، لأن ذلك دليل بقاء الطيب ، ثم ذكر العيني حديث أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر المذكور ثم قال : فإن قلت : ما حال هذه الزيادة أعني قوله (( إلا أن يكون غسيلا )) قلت : صحيح لأن رجاله ثقات وروى هذه الزيادة أبو معاوية الضرير وهو ثقة ثبت ، فإن قلت : قال ابن حزم : لا نعلمه صحيحا ، وقال أحمد بن حنبل : أبو معاوية مضطرب الحديث في أحاديث عبيد الله ، ولم يجيء أحد بهذه غيره ، قلت : كفى حجة لصحة هذه الزيادة

(19/178)


شهادة عبد الرحمن وكتابة يحيى بن معين ورواية أبي معاوية ، وأما قول ابن حزم (( لا نعلمه صحيحا )) فهو نفي لعلمه بصحته ، وهذا لا يستلزم نفي صحة الحديث في علم غيره فافهم . وقد روى أحمد في مسنده من حديث ابن عباس حديثا يدل على جواز لبس المزعفر للمحرم إذا لم يكن فيه نفض ولا ردع – انتهى . قلت : أبو معاوية الضرير المذكور في سند حديث ابن عمر عند الطحاوي هو مضطرب الحديث في غير حديث الأعمش سيما في عبيد الله بن عمر العمري كما قاله الإمام أحمد ومع ذلك كان يدلس كما صرح به يعقوب بن شيبة وابن سعد ، وروى هذا الحديث عن عبيد الله معنعنا ففي صحته نظر ، وأما حديث ابن عباس الذي أشار إليه العيني فأخرجه أحمد في مسند (ج 1 : ص 353) عن يزيد بن هارون عن الحجاج عن الحسين بن عبد الله بن عبيد الله عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا بأس أن يحرم الرجل في ثوب مصبوغ بزعفران قد غسل ، ليس فيه نفض ولا ردع . ثم رواه في (ج 1 : ص 362) عن ابن نمير عن حجاج بن أرطاة عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في الثوب المصبوغ ما لم يكن به نفض ولا ردع . والسندان ضعيفان لتدليس الحجاج وضعف الحسين بن عبيد الله ، وذكره
..............................................................................................

(19/179)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 29) من رواية إسحاق بن راهوية وابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلى الموصلي في مسانيدهم من طريق يزيد بن هارون عن الحجاج عن الحسين بن عبد الله وسكت عنه الزيلعي وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 3 : ص 219) وقال : رواه أبو يعلى والبزار وفيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله وهو ضعيف – انتهى . هذا وقد يستفاد من ظاهر الحديث جواز لبس المزعفر لغير المحرم لأنه قال ذلك في جواب السؤال عما يلبس المحرم فدل على جوازه لغيره ، ويؤيده حديث ابن عمر مرفوعا (( كان يصبغ بالصفرة ثيابه كلها حتى عمامته )) أخرجه أبو داود والنسائي ، وفي لفظ للنسائي أن ابن عمر كان يصبغ ثيابه بالزعفران ، وأصله في الصحيح ، ولفظه : وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها ، ويؤيده أيضا حديث قيس بن سعد قال : أتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له ماء يتبرد فاغتسل ثم أتيته بملحة صفراء فرأيت أثر الورس عليه ، أخرجه أبو داود وابن ماجة وغيرهما ، ويعارض ذلك في المزعفر للرجل ما رواه الشيخان عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتزعفر الرجل . قال الشافعي : وأنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر وأمره إذا تزعفر أن يغسله ، وحمل الخطابي والبيهقي النهي على ما صبغ من الثياب بعد نسجه ، فأما ما صبغ غزله ثم نسج فلا يدخل في النهي ، وجوز الزين العراقي في شرح الترمذي أمرين آخرين أحدهما أن النهي عن لبس ما مسه الورس والزعفران ليس داخلا في جواب السؤال عما يجتنبه المحرم بل هو كلام منفصل مستقل يعني أن جواب سؤاله انتهى عند قوله أسفل من الكعبين ، ثم استأنف قوله (( ولا تلبسوا شيئا مسه الزعفران )) ولا تعلق له بالمسؤل عنه ، ثم استعبد العراقي هذا الاحتمال وهو حقيق بالاستبعاد ، ومما رده به ما في الصحيحين عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي

(19/180)


- صلى الله عليه وسلم - نهى أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بورس أو زعفران . قال فقيد ذلك بالمحرم ، ثانيهما حمل النهي على لطخ البدن بالزعفران دون لبس الثوب المصبوغ به ، وأيده بما في سنن النسائي بإسناد صحيح عن أنس قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يزعفر الرجل جلده ، وبما تقدم من حديث ابن عمر وقيس بن سعد ذكره الولي العراقي في شرح التقريب ، وذهب ابن الهمام إلى ترجيح حديث أنس لكونه مرويا في الصحيحين ، ولكون المحرم مقدما على المبيح . قال الحافظ : واستنبط من منع لبس الثوب المزعفر منع أكل الطعام الذي فيه الزعفران ، وهذا قول الشافعية وعن المالكية خلاف . وقال الحنفية : لا يحرم لأن المراد اللبس والتطيب ، والآكل لا يعد متطيبا ، وقال الولي العراقي مورد النص في اللبس ، فلو أكل ما فيه من زعفران أو غيره من أنواع الطيب قال أصحابنا ( الشافعية ) : إن استهلك الطيب فلم يبق له طعم ولا لون ولا ريح لم يحرم بلا خلاف ، وإن ظهرت هذه الأوصاف حرم بلا خلاف ، وإن بقيت الرائحة وحدها حرم أيضا ، لأنه يعد طيبا ، وإن بقى الطعم وحده فالأظهر التحريم ، وإن بقى اللون وحده فالأظهر عدم التحريم ، وقال المالكية : لا شيء عليه في أكل الخبيض بالزعفران ، وقيل إن صبغ الفم فعليه الفدية . وما خلط بالطيب من غير طبخ ففي إيجاب
متفق عليه . وزاد البخاري في رواية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/181)


الفدية به روايتان . وقال الحنفية : إن أكل الطيب في طعام قد طبخ وتغير فلا شيء عليه ، وإن لم يطبخ وريحه موجود كره له ذلك ، وقد يقال : إن تحريم الأكل حيث حرم مأخوذ من طريق الأولى ، لأن الأكل أبلغ في مخالطة الجسد من اللبس ، تنبيه : قال الحافظ : زاد الثوري في روايته عن أيوب عن نافع في هذا الحديث (( ولا القباء )) أخرجه عبد الرزاق عنه ، ورواه الطبراني من وجه آخر عن الثوري ، وأخرجه البيهقي والدارقطني عن عبيد الله بن عمر عن نافع أيضا . والقباء معروف ويطلق على كل ثوب مفرج ، ومنع لبسه على المحرم متفق عليه إلا أن أبا حنيفة قال : يشترط أن يدخل يديه في كميه لا إذا ألقاه على كتفه ، ووافقه أبو ثور والخرقي من الحنابلة – انتهى . وقال الولي العراقي : ظاهر زيادة لفظ القباء أنه لا فرق بين أن يدخل يديه في كميه أم لا وبه قال مالك والشافعي وأحمد وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وحكاه ابن عبد البر عن سفيان الثوري والليث بن سعد وزفر ، وخص أبو حنيفة ذلك بما أدخل يديه في كميه ، فإن اقتصر على لبسه على كتفيه لم يحرم وبه قال إبراهيم النخعي وحكاه ابن عبد البر عن أبي ثور – انتهى . وقال الباجي : ليس له أن يدخل منكبيه ، فإن فعل ذلك افتدي ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا شيء عليه يدخل يديه في كميه – انتهى . وقال الدردير في محرمات الإحرام : وقباء وإن لم يدخل كما في يد بل وضعه على منكبيه مخرجا يديه من تحته ، ومحل المنع إن أدخل المنكبين في محلهما ، فإن نكسه بأن جعل أسفله على منكبيه فلا فدية – انتهى . ( متفق عليه أخرجه البخاري في العلم وفي الصلاة وفي المناسك وفي اللباس ، ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا مرارا ، ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والدارقطني والبيهقي وابن الجارود والطحاوي ( وزاد البخاري في رواية ) وكذا زاده أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي كلهم من رواية الليث بن سعد عن نافع عن

(19/182)


ابن عمر . وذكر البخاري وأبو داود وغيرهما الاختلاف في رفع هذه الزيادة ووقفها . قال البخاري بعد روايته : تابعه ( أي الليث ) موسى بن عقبة وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وجويرية وابن إسحاق في النقاب والقفازين ( أي في ذكرهما في الحديث المرفوع وقال عبيد الله ( يعنى ابن عمر العمري ) ولا ورس ، وكان يقول : ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين ، وقال مالك عن نافع عن ابن عمر : (( لا تنتقب المحرمة )) وتابعه ليث بن أبي سليم – انتهى . قال الحافظ : قوله (( وقال عبيد الله ولا ورس )) إلخ . يعنى أن عبيد الله المذكور خالف المذكورين قبل في رواية هذا الحديث عن نافع فوافقهم على رفعه إلى قوله (( زعفران ولا ورس )) وفضل بقية الحديث فجعله من قول ابن عمر ، وهذا التعليق عن عبيد الله وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عن محمد بن بشر وحماد بن مسعدة وابن خزيمة من طريق بشر بن المفضل ثلاثتهم عن عبيد الله بن عمر عن نافع فساق الحديث إلى قوله (( ولا ورس )) قال وكان عبد الله يعنى ابن عمر يقول : ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين . ورواه
" ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفازين " .

(19/183)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يحيى القطان عند النسائي وحفص بن غياب عند الدارقطني كلاهما عن عبيد الله ، فاقتصر على المتفق على رفعه ، وقوله (( وقال مالك )) إلخ . هو في الموطأ كما قال مالك ، والغرض أن مالكا اقتصر على الموقوف فقط . وفي ذلك تقوية لرواية عبيد الله ، وظهر الإدراج في رواية غيره . وقد استشكل ابن دقيق العيد الحكم بالإدراج في هذا الحديث لورود النهى عن النقاب والقفاز مفردا مرفوعا ( عند أبي داود من رواية إبراهيم بن سعد المدني عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وللابتداء بالنهي عنهما في رواية ابن إسحاق ( عن نافع عن ابن عمر عند أحمد وأبي داود والحاكم ) وقال في الاقتراح : دعوى الإدراج في أول المتن ضعيفة وأجيب بأن الثقات إذا اختلفوا وكان مع أحدهم زيادة قدمت ولا سيما إن كان أحفظ والأمر ها هنا كذلك ، فإن عبيد الله بن عمر في نافع أحفظ من جميع من خالفه ، وقد فصل المرفوع من الموقوف . وأما الذي اقتصر على الموقوف فرفعه ( وهو إبراهيم بن سعد ) فقد شذ بذلك وهو ضعيف ، وأما الذي ابتدأ في المرفوع بالموقوف ( وهو ابن إسحاق ) فإنه من التصرف في الرواية بالمعنى ، وكأنه رأي أشياء متعاطفة فقدم وأخر لجواز ذلك عنده ، ومع الذي فصل زيادة علم فهو أولى ، أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي – انتهى . قلت : وبسط الكلام على ذلك الولي العراقي في شرح التقريب (ج 5 : ص 42 ، 43) نقلا عن شرح الترمذي لوالده الزين العراقي ( لا تنتقب ) بفوقيتين مفتوحتين بينهما نون ساكنة ثم قاف مكسورة من باب الافتعال وهو مجزوم على النهي فتكسر لالتقاء الساكنين ، ويجوز رفعه على الخبرية ، والانتقاب هو أن تخمر المرأة وجهها أي تغطيه بالخمار وتجعل لعينيها خرقين تنظر منهما ( المرأة المحرمة ) قال الزرقاني : أي لا تلبس النقاب وهو الخمار الذي تشده المرأة على الأنف أو تحت المحاجر وأن قرب من العين حتى

(19/184)


لا يبدو أجفانها فهو الوصواص – بفتح الواو وسكون الصاد الأولى – فإن نزول إلى طرف الأنف فهو اللفاف – بكسر اللام وبالفاء – فإن نزل إلى الفم ولم يكن على الأرنبة منه شيء فهو اللثام بالمثلثة – انتهى . ( ولا تلبس ) بفتح الباء والجزم على النهي ويجوز رفعه ( القفازين ) بضم القاف وشد الفاء وبعد الألف زأي تثنية قفاز بوزن رمان شيء تلبسه نساء العرب في أيديهن يغطي الأصابع والكف والساعد من البرد ويكون فيه قطن محشو ، ذكره الطيبي . وقيل يكون له أزرار يزر على الساعد ، كذا في المرقاة . وقال الحافظ : القفاز ما تلبسه المرأة في يدها فيغطي أصابعها وكفيها عند معاناة الشيء كغزل ونحوه وهو لليد كالخف للرجل – انتهى ، قال الولي العراقي : النهي عن الانتقاب دل على تحريم ستر الوجه بما يلاقيه ويمسه دون ما إذا كان متجافيا عنه ، وهذا قول الأئمة الأربعة وبه قال الجمهور . قال ابن المنذر : أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله ، والخفاف وأن لها أن تغطى رأسها إلا وحهها فتسدل عليه الثوب سدلا خفيفا تستر به عن نظر الرجال ولا تخمر إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر قالت : كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق فلا تنكره علينا . قال ابن المنذر ويحتمل
...............................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/185)


أن يكون ذلك التخمير سدلا كما جاء عن عائشة . قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه ، أخرجه أبو داود وابن ماجة . وقال ابن المنذر أيضا : لا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله رخص فيه يعني النقاب ، ثم قال : وكانت أسماء بنت أبي بكر تغطي وجهها وهي محرمة ، وروينا عن عائشة أنها قالت : المحرمة تغطي وجهها إن شاءت . وقال ابن عبد البر : وعلي كراهة النقاب للمرأة جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار أجمعين إلا شيء روي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تغطى وجهها وهي محرمة ، وعن عائشة أنها قالت : تغطي المرأة وجهها إن شاءت وروي عنها أنها لا تفعل وعليه الناس – انتهى . وهذا كله يدل على اتفاق العلماء على وجوب كشف وجهها وعلى أن لها أن تسدل الثوب وترخيه من فوق رأسها على وجهها للتستر عن أعين الناس كما يدل عليه حديث عائشة المذكور . وعليه يحمل ما روي عن فاطمة بنت المنذر وأسماء بنت أبي بكر . وقال ابن القيم : أما نهيه - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر المرأة أن تنتقب وأن تلبس القفازين فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه فيحرم عليها فيه ما وضع وفصل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع ، ولا يحرم عليها ستره بالمقنعة والجلباب ونحوهما ، وهذا أصح القولين فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى بين وجهها ويديها ومنعها من القفازان والنقاب ، ومعلوم أنه لا يحرم عليها ستر يديها وأنهما كبدن المحرم يحرم ستررهما بالمفصل على قدرهما وهما القفازان ، فهكذا الوجه إنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه . وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام إلا النهي عن النقاب وهو كالنهي عن القفازين فنسبة النقاب إلى الوجه كنسبة القفازين إلى اليد سواء ،

(19/186)


وقد ثبت عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة ، وقالت عائشة : كانت الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها فإذا جاوزونا كشفنا ، ذكره أبو داود . واشتراط المجافاة عن الوجه – كما ذكره القاضي وغيره – ضعيف لا أصل له دليلا ولا مذهبا . قال صاحب المغنى : ولم أر هذا الشرط – يعنى المجافاة – عن أحمد ولا هو في الخبر مع أن الظاهر خلافه فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة ، فلو كان هذا شرطا لبين ، وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يعد لستر الوجه ، قال أحمد : لها أن تسدل على وجهها من فوق ، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل ، كأنه يقول : إن النقاب من أسفل على وجهها ، تم كلامه . فإن قيل : فما تصنعون بالحديث المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها ، فجعل وجه المرأة كرأس الرجل ، وهذا يدل على وجوب كشفه ؟ قيل : هذا الحديث لا أصل له أي في المرفوع ولم يروه أحد من أصحاب الكتب المعتمد عليها ولا يعرف له إسناد ولا تقوم به حجه ، ولا يترك له الحديث الصحيح الدال على أن وجهها كبدنها ، وأنه يحرم عليها فيه ما أعد للعضو كالنقاب والبرقع ونحوه ، لا مطلق الستر كاليدين – انتهى . ونحو ذلك قال ابن تيمية . وأما لبس
.............................................................................................

(19/187)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المرأة القفازين فمختلف فيه فذهب مالك وأحمد إلى منعه وهو أصح القولين عن الشافعي وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وعطاء ونافع وإبراهيم النخعي . وقال ابن المنذر : اتقاؤه أحب إلي للحديث الذي جاء فيه ( يعنى حديث ابن عمر الذي نحن في شرحه ) وقال ابن عبد البر : الصواب عندي نهي المرأة عنه ووجوب الفدية عليها به لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذهب آخرون إلى جوازه وحكاه ابن المنذر عن سعد بن أبي وقاص وعائشة وعطاء والثوري ومحمد بن الحسن ، وحكاه النووي وغيره عن أبي حنفية . قال ابن عبد البر : ويشبه أن يكون مذهب ابن عمر لأنه كان يقول : إحرام المرأة في وجهها – انتهى . قال الولي العراقي : وهو رواية المزني عن الشافعي وصححه من أصحابنا الغزالي والبغوي ، قال الرافعي : لكن أكثر النقلة على ترجيح الأول ، وحكى الخطابي عن أكثر أهل العلم أنه لا فدية عليها إذا لبست القفازين وهو قول عند المالكية – انتهى . قلت : اتفقت فروع المذاهب الثلاثة على منع المحرمة من لبس القفازين واستدلوا لذلك بحديث ابن عمر الذي نحن في شرحه ، ومذهب الحنفية على ما في البدائع أنه لا يكره لبس القفازين عندهم . قال الكاساني : وهو قول علي وعائشة . قال : وقال الشافعي : لا يجوز لحديث ابن عمر ، ولنا ما روي أن سعد بن أبي وقاص كان يلبس بناته وهن محرمات القفازين ولأن لبس القفازين ليس إلا تغطية يديها بالمخيط وأنها غير ممنوعة عن ذلك فإن لها أن تغطيهما بقميصها وأن كان مخيطا فكذا بمخيط آخر بخلاف وجهها ، وقوله لا تلبسن القفازين نهي ندب حملناه عليه جمعا بين الدلائل بقدر الإمكان – انتهى . وقال ابن القيم : تحريم لبس القفازين قول عبد الله بن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم النخعي ومالك والإمام أحمد والشافعي في أحد قوليه وإسحاق بن راهويه ، وتذكر الرخصة عن علي وعائشة وسعد بن أبي وقاص وبه قال الثوري

(19/188)


و أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر . ونهي المرأة عن لبسهما ثابت في الصحيح كنهي الرجل عن لبس القميص والعمائم ، وكلاهما في حديث واحد عن راو واحد ، وكنهيه المرأة عن النقاب وهو في الحديث نفسه ، وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى بالإتباع ، وهي حجة على من خالفها ، وليس قول من خالفها حجة عليه . فأما تعليل حديث ابن عمر في القفازين بأنه من قوله فإنه تعليل باطل ، وقد رواه أصحاب الصحيح والسنن والمسانيد عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث نهيه عن لبس القمص والعمائم والسراويلات وانتقاب المرأة ولبسها القفازين ، ولا ريب عند أحد من أئمة الحديث أن هذا كله حديث واحد من أصح الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا إليه ، ليس من كلام ابن عمر ، وموضع الشبهة في تعليله أن نافعا اختلف عليه فيه ، ثم ذكر ابن القيم عن أبي داود والبخاري ما وقع من الاختلاف في رفعه ووقفه ثم قال : فالبخاري ذكر تعليله ولم يرها علة مؤثرة فأخرجه في صحيحه عن عبد الله بن يزيد عن الليث عن نافع عن ابن عمر – انتهى . ثم ظاهرقوله ولا تنتقب المرأة اختصاصها بذلك ، وأن الرجل ليس كذلك وهو مقتضى ما ذكره أول الحديث فيما يتركه المحرم ، فإنه لم يذكر فيه ستر الوجه . ومذهب الشافعي وأحمد والجمهور
2704 - (2) وعن ابن عباس ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، وهو يقول : " إذا لم يجد المحرم نعلين لبس خفين ، وإذا لم يجد إزارا لبس سراويل " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/189)


أنه يجوز للمحرم ستر وجهه ولا فدية عليه ، وفيه آثار عن الصحابة عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى منعه كالرأس وهو رواية عن أحمد ، وقالوا : إذا حرم على المرأة ستر وجهها مع احتياجها إلى ذلك فالرجل أولى بتحريمه . وتمسكوا أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام في المحرم الذي وقصته ناقته ولا تخمروا وجهه ولا رأسه . وأجاب الجمهور عنه بأن النهي عن تغطية وجهه إنما كان لصيانة رأسه لا لقصد كشف وجهه . ولا بد من هذا التأويل لأن المتمسكين بهذا الحديث وهم الحنفية والمالكية لا يقولون ببقاء أثر الإحرام بعد الإحرام بعد الموت لا في الرأس ولا في الوجه ، والجمهور يقولون : لا إحرام في الوجه في حق الرجل فحينئذ لم يقل بظاهره أحد منهم ، ولا بد من تأويله على أن المالكية قالوا إنه لا فدية في تغطية المحرم وجهه إلا في رواية ضعيفة جزم بها ابن المنذر عن مالك ، وبنى بعضهم هذا الخلاف على أن التغطية حرام أو مكروهة ، وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن أنه إن غطى ثلثه أو ربعه فعليه دم ، وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة . ومذهب الحنفية أنه لو غطى جميع وجهه بمخيط أو غيره يوما وليلة فعليه دم وفي الأقل من يوم صدقة كما بسط في فروعهم . وروى سعيد بن منصور عن عطاء بن أبي رباح يغطي المحرم وجهه ما دون الحاجبين أي من أعلى . وفي رواية له ما دون عينيه . قال الزين العراقي : ويحتمل أنه أراد الاحتياط لكشف الرأس . ولكن هذا أمر زائد على الاحتياط لذلك ، وهو حاصل بدونه – انتهى . وفي المسألة قول رابع وهو أنه إن كان حيا فله تغطية وجهه ، وإن كان ميتا لم يجز ، قاله ابن حزم ، قال الحافظ : قال أهل الظاهر : يجوز للمحرم الحي تغطية وجهه ولا يجوز للمحرم الذي يموت عملا بالظاهر في الموضعين- انتهى .

(19/190)


2704 – قوله ( يخطب ) أي بعرفات كما تقدم ( إذا لم يجد المحرم نعلين لبس خفين ) أي بعد قطعهما أسفل من الكعبين كما هو مذهب الجمهور خلافا لأحمد ( وإذا لم يجد إزارا لبس سراويل ) فيه دليل على جواز لبس السراويل عند عدم الإزار من غير لزوم شيء ، وإليه ذهب أحمد والشافعي ، وعن أبي حنيفة منع السراويل للمحرم مطلقا ، ومثله عن مالك وكأنه لم يبلغه حديث ابن عباس ، ففي الموطأ أنه سئل عما ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من لم يجد إزارا فليلبس سراويل فقال : لم أسمع بهذا ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى ( في حديث ابن عمر ) عن لبس السراويلات ( مطلقا فيما نهي عنه من لبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها ولم يستثن فيها ( أي في السراويلات في حديث ابن عمر ) كما استثنى في الخفين – انتهى . قال ابن عبد البر : قال عطاء بن أبي رباح والشافعي وأصحابه والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود : إذا لم يجد المحرم إزارا لبس السراويل ولا
...............................................................................................

(19/191)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ شيء عليه ، وحكاه النووي عن الجمهور ، قال : ولا حجة في حديث ابن عمر لأنه ذكر فيه حالة وجود الإزار وذكر في حديث ابن عباس حالة العدم ولا منافاة . وقال الرازي من الحنفية : يجوز لبسه وعليه الفدية كما قال أصحابهم في الخفين ، وأجاب بعض الحنفية عن هذا الحديث بأنه متروك الظاهر ، ثم حكى عن القدوري أنه قال في التجريد : وافقونا على أن السراويل لو كان كبيرا يمكن أن يتزر به من غير فتق لم يجز لبسه لأنه واجد للإزار ، وكذا لو خاط إزاره سراويل قطعة واحدة لا يجوز لبسه وإن لم يجد إزارا غيره ، لأنه إزار في نفسه إذا فتقه . قال الزين العراقي في شرح الترمذي : لا يحصل الاعتراض بهاتين الصورتين لأنه واجد للإزار فيهما وقد علله القدوري بذلك ، وإنما يجوز لبس السراويل عند عدم وجدان الإزار فليس الحديث إذن متروك الظاهر ، كذا في شرح التقريب . وقال ابن رشد : اختلفوا في من لم يجد غير السراويل هل له لباسها ؟ فقال مالك وأبو حنيفة : لا يجوز له لباس السراويل وإن لبسها افتدى ، وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود : لا شيء عليه إذالم يجد إزارا ، وعمدة مذهب مالك ظاهر حديث ابن عمر المتقدم ، وعمدة الطائفة الثانية حديث ابن عباس – انتهى . قال الأبي : ما في حديث ابن عباس أخذ به الشافعي ولم يأخذ به مالك لسقوطه في حديث ابن عمر . وقال في الموطأ : لم أسمع بها ولا أرى أن يلبسها المحرم ، إلخ . وهذا يدل على أن هذه الزيادة لم تبلغه أو لم يبلغه أن المحرم يلبسه على حاله ، أما لو فتق وجعل منه شبه إزار جاز – انتهى . قلت : ومذهب الحنفية أنه إذا لم يجد غير سروال فلبسه من غير فتق فعليه دم ، وإن شقه واتزره فلا شيء عليه . قال الرازي : يجوز لبس السراويل من غير فتق عند عدم الإزار ، ولا يلزم منه عدم لزوم الدم لأنه قد يجوز ارتكاب المحظور للضرورة مع وجوب الكفارة كالحلق للأذى ولبس المخيط

(19/192)


للعذر . وقد صرح الطحاوي في الآثار بإباحة ذلك مع وجوب الكفارة . قال القاري : وليس في الحديث أنه لا يلزمه فتق السراويل حتى يصير غير مخيط كما قال به أبو حنيفة قياسا على الخفين . وأما اعتراض الشافعية بأن في إضاعة مال فمردود بما تقدم ، نعم لو فرض أنه بعد الفتق لا يستر العورة يجوز له لبسه من غير فتق بل هو متعين واجب إلا أنه يفدي . وأما قول ابن حجر : وعن أبي حنيفة ومالك امتناع لبس السراويل على هيئته مطلقا فغير صحيح عنهما ، وقال الولي العراقي : لم يأمر في الحديث بقطع السراويل عند عدم الإزار كما في الخف وبه قال أحمد وهو الأصح عند أكثر الشافعية . وقال إمام الحرمين والغزالي : لا يجوز لبس السراويل على حاله إلا إذا لم يتأت فتقه وجعله إزارا ، فإن تأتى ذلك لم يجز لبسه ، وإن لبسه لزمته الفدية . وقال الخطابي : يحكى عن أبي حنيفة أنه قال يفتق السراويل ويتزر به ، وقالوا : هذا كما جاء في الخف أنه يقطع . قال الخطابي : وهو الأصل في المال أن تضييعه حرام والرخصة إذا جاءت في لبس السراويل فظاهرها اللبس المعتاد ، وستر العورة واجب ، وإذا فتق السراويل واتزر به لم تستتر العورة ، وأما الخف فإنه لا يغطي عورة وإنما
متفق عليه .
2705 - (3) وعن يعلى بن أمية ، قال : كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة إذ جاءه رجل أعرابي ،

(19/193)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو لباس رفق وزينة فلا يشتبهان ، ومرسل الإذن في لبس السراويل إباحة لا تقتضي غرامة – انتهى . قال الحافظ : ومن أجاز لبس السراويل على حاله قيده بأن لا يكون في حالة لو فتقه لكان إزارا لأنه في تلك الحالة يكون واجد الإزار – انتهى . قلت : الظاهر عندنا ما ذهب إليه أحمد وأكثر الشافعية من أنه يجوز لبس السراويل بغير فتق عند عدم الإزار ، ولا يلزمه شيء ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي اللباس بلفظ (( من لم يجد النعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل للمحرم )) وأخرجه مسلم في الحج ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 215 ، 221 ، 228 ، 279 ، 285 ، 337) وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي (ج 5 : ص 50) .

(19/194)


2705 – قوله ( وعن يعلى ) بمفتوحة وسكون مهملة وفتح لام وقصر كيرضى ( بن أمية ) بمضمومة فخفة مفتوحة وشدة تحتية ، هو يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام التميمي حليف قريش وهو المعروف بيعلى بن منية بضم الميم وسكون النون وفتح التحتانية وهي أمه ، وقيل جدته أم أبيه ، كنيته أبو خلف ، ويقال أبو خالد ، ويقال أبو صفوان ، أسلم يوم الفتح وشهد الطائف وحنينا وتبوك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وروى عنه وعن عمر بن الخطاب وروى عنه أولاده صفوان ومحمد وعثمان وغيرهم ، واستعمله أبو بكر على حلوان في الردة ثم عمل لعمر على بعض اليمن فحمى لنفسه حمى فعزله ، ثم عمل لعثمان على صنعاء اليمن وحج سنة قتل عثمان فخرج مع عائشة في وقعة الجمل ، ثم شهد صفين مع علي ، وكان جوادا معروفا بالكرم ، له تسعة عشر حديثا ، مات سنة بضع وأربعين ( كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة ) أي معتمرين سنة ثمان في ذي القعدة بعد فتح مكة بالعمرة المسماة بعمرة الجعرانة ، وهو اسم مكان بين الطائف ومكة ، وهو إلى مكة أقرب وفي ضبطه لغتان مشهورتان . قال النووي : إحداهما إسكان العين ( يعني بعد الجيم المكسورة ) وتخفيف الراء ، والثانية كسر العين وتشديد الراء ، الأولى أفصح ، وبهما قال الشافعي وأكثر أهل اللغة – انتهى . وقال ابن الأثير : وهي قريب من مكة وهي في الحل وميقات الإحرام ، وقال القاري : الجعرانة موضع معروف ، أحرم منه النبي - صلى الله عليه وسلم - للعمرة ، وهو أفضل من التنعيم عند الشافعية خلافا لأبي حنيفة بناء على أن الدليل القولي أقوى ، لأن القول لا يصدر إلا عن قصده ، والفعل يحتمل أن يكون اتفاقيا لا قصديا ، وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي الله عنها أن تعتمر عن التنعيم وهو أقرب المواضع من الحرم – انتهى ، وقد تقدم الكلام على ذلك في شرح حديث عائشة ثاني أحاديث باب قصة حجة الوداع ( إذ جاءه رجل أعرابي ) منسوب

(19/195)


إلى الأعراب وهم سكان البادية أي بدوي . قال الحافظ في الفتح : لم أقف على اسمه . وقال في مقدمة الفتح : الصواب أنه أي الرجل المبهم يعلى بن أمية راوي الحديث كما أخرجه الطحاوي من طريق شعبة عن قتادة
عليه جبة وهو متضمخ بالخلوق ، فقال : يا رسول الله ! إني أحرمت بالعمرة وهذه علي . فقال : " أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات ، وأما الجبة فانزعها ، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن عطاء أن رجلا يقال له يعلى بن أمية أحرم وعليه جبة فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزعها ، قلت : روى الطحاوي بسنده إلى شعبة عن قتادة عن عطاء بن أبي رباح أن رجلا يقال له يعلى بن أمية أحرم وعليه جبة فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزعها . قال قتادة : قلت لعطاء : إنما كنا نرى أن نشقها فقال عطاء : إن الله لا يحب الفساد ، فإن صح الحديث فيكون هو يعلى بن أمية صاحب القصة كما قال الحافظ : وأبهم اسمه كما يحصل كثيرا من بعض الرواة لغرض ما والله أعلم ( عليه جبة ) ثوب معروف وفي رواية (( عليه قميص )) ( وهو ) أي الرجل ( متضمخ ) بالضاد والخاء المعجمتين أي متلوث ومتلطخ ، يقال : تضمخ بالطيب إذا تلطخ به وتلوث به ( بالخلوق ) بفتح الخاء المعجمة نوع من الطيب يجعل فيه زعفران ( إني أحرمت بالعمرة وهذه ) أي الجبة ( علي ) بتشديد الياء ( أما الطيب الذي بك ) أي لصق ببدنك من الجبة ( فاغسله ثلاث مرات ) قال عياض وغيره : يحتمل أنه من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون نصا في تكرار الغسل ويحتمل أنه من كلام الصحابي وأنه - صلى الله عليه وسلم - أعاد لفظ (( اغسله )) ثلاث مرات على عادته أنه إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاث مرات لتفهم عنه – انتهى . وقال القاري : ذكر الثلاث إنما هو لنوقف إزالة الخلوق عليها غالبا ، وإلا فالواجب إزالة العين بأي وجه كان - انتهى . وفي رواية

(19/196)


للبخاري (( قلت لعطاء : أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات ؟ فقال : نعم )) . قال الحافظ : القائل هو ابن جريج وهو دال على أنه فهم من السياق أن قوله (( ثلاث مرات )) من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكن يحتمل أن يكون من كلام الصحابي وأنه - صلى الله عليه وسلم - أعاد لفظة ( أغسله )) مرة ثم مرة على عادته أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه ، نبه عليه عياض – انتهى . وفي رواية أبي داود والبيهقي أمره أن ينزعها نزعا ويغتسل مرتين أو ثلاثا . قال النووي : إنما أمر بالثلاث مبالغة في إزالة لونه وريحه والواجب الإزالة ، فإن حصلت بمرة كفت ولم تجب الزيادة ، ولعل الطيب الذي كان على هذا الرجل كثير ويؤيده قوله متضمخ ( وأما الجبة فانزعها ) بكسر الزاي أي اقلعها فورا وأخرجها ( ثم اصنع في عمرتك ) هذا يدل على أن المأمور به من الأعمال ما زاد على الغسل والنزع ( كما تصنع في حجك ) قال الباجي : هذا يقتضي أنه - صلى الله عليه وسلم - علم من حال السائل أنه عالم بما يفعل في الحج وإلا فلا يصح أن يقول له ذلك لأنه إذا لم يعلم ما يفعل الحاج لم يمكنه أن يمتثله المعتمر – انتهى . اعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - هذا فقال ابن العربي : كأنهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثياب ويجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجوا وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مجراهما واحد . وقال ابن المنير في الحاشية : قوله (( واصنع )) معناه اترك ، لأن المراد بيان ما يجتنبه المحرم فيؤخذ منه فائدة حسنة وهي أن الترك فعل . قال : وأما قول ابن بطال : أراد الأدعية وغيرها مما يشترك فيه الحج والعمرة ففيه
...............................................................................................

(19/197)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نظر ، لأن التروك مشتركة بخلاف الأعمال . فإن في الحج أشياء زائدة على العمرة كالوقوف وما بعده . وقال النووي كما قال ابن بطال وزاد : ويستثنى من الأعمال ما يختص به الحج . وقال الباجي : يجب أن يكون ما أمره بأن يفعل غير ما أمره من إزالة القميص وغسل الصفرة لأنهما قد نص عليهما فلا معنى أن ينصرف قوله (( وافعل في عمرتك ما تفعل في حجك )) إليهما . والوجه الآخر أنه قد عطف هذا اللفظ الثاني على النزوع والغسل فالظاهر أنهما غيرهما ولا شيء يمكن أن يشار إليه في ذلك إلا الفدية . قال الحافظ : كذا قال الباجي : ولا وجه لهذا الحصر بل الذي تبين من طريق أخرى أن المأمور به الغسل والنزع ، وذلك أن عند مسلم والنسائي من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء في هذا الحديث ، فقال : ما كنت صانعا في حجك ؟ قال : أنزع عني هذه الثياب وأغسل عني هذا الخلوق ، فقال : ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك – انتهى ، واستدل بحديث يعلى على منع استدامة الطيب بعد الإحرام للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن وقد تقدم الكلام في هذا في شرح حديث عائشة أول أحاديث باب الإحرام والتلبية ، واستدل به أيضا على أن من أصابه طيب في إحرامه ناسيا أو جاهلا ثم علم فبادر إلى إزالته فلا كفارة عليه ( وهو مذهب الشافعي ) وقال مالك : إن طال ذلك عليه لزمته ، وعن أبي حنيفة وأحمد في رواية تجب مطلقا ، كذا في الفتح . وقال العيني : في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر الرجل بالفدية فأخذ به الشافعي والثوري وعطاء وإسحاق وداود وأحمد في رواية ، وقالوا : إن من لبس في إحرامه ما ليس له لبسه جاهلا فلا فدية عليه والناسي في معناه ، وقال أبو حنيفة والمزني في رواية عنه يلزمه إذا غطى رأسه متعمدا أو ناسيا يوما إلى الليل فإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة يتصدق بها . وقال مالك : يلزمه إذا انتفع بذلك أو طال لبسه

(19/198)


عليه – انتهى . قال ابن بطال : لو لزمته الفدية لبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - أي في هذا الحديث لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز . وفرق مالك في من تطيب أو لبس ناسيا بين من بادر فنزع وغسل وبين من تمادى والشافعي أشد موافقة للحديث ، لأن السائل في حديث الباب كان غير عارف بالحكم ، وقد تمادى ومع ذلك لم يؤمر بالفدية ، وقول مالك فيه احتياط ، وأما قول الكوفيين والمزني فهو مخالف لهذا الحديث وأجاب ابن المنير في الحاشية بأن الوقت الذي أحرم فيه الرجل في الجبة كان قبل نزول الحكم ، ولهذا انتظر النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي ( كما يدل عليه القصة ) قال : ولا خلاف أن التكليف لا يتوجه على المكلف قبل نزول الحكم فلهذا لم يؤمر الرجل بفدية عما مضى بخلاف من لبس الآن جاهلا ، فإنه جهل حكما استقر ، وقصر في علم ما كان عليه أن يتعلمه لكونه مكلفا به ، وقد تمكن من تعلمه ، وأجيب أيضا بأن الحديث ساكت عن الفدية نفيا وإثباتا . قال الباجي : لا يقتضي ذلك إثبات الفدية ولا نفيها ، وإنما أحاله على من قدم علم من حال من أحرم بالحج – انتهى . واستدل بالحديث على أن المحرم إذا صار عليه مخيط نزعه ولا يلزمه تمزيقه ولا شقه ، وأنه إذا نزعه من رأسه لم يلزمه دم ، وهو مذهب الجمهور ، وروى عن إبراهيم النخعي
متفق عليه .
2706 - (4) وعن عثمان ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب " .

(19/199)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والشعبي أنه لا ينزعه من قبل رأسه بل يشقه ويمزقه لئلا يصير مغطيا لرأسه ، أخرجه ابن أبي شيبة عنهما وعن علي نحوه ، وكذا عن الحسن وأبي قلابة وقد وقع عند أبي داود بلفظ (( اخلع عنك الجبة ، فخلعها من قبل رأسه )) – انتهى . قال الطبري : ووجه الحجة عليهما أي على الشعبي والنخعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالنزع والخلع والمتعارف فيهما إنما هو من قبل الرأس ، ولو أراد الشق لأمره به ، ثم لما نزعه من قبل رأسه أقره عليه ، ولو كان ممتنعا لما أقره عليه ، ولو وجب بذلك فدية لذكره وبينه كما بين غيره من الأحكام ، لأنه موضع ضرورة فإنه سأل عما يجب عليه في تلك العمرة ، والله أعلم ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي فضائل القرآن ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 4 : ص 222 ، 224) وأبو داود والترمذي والنسائي والطيالسي والبيهقي وغيرهم ، وأخرجه مالك مرسلا ، وفي الحديث قصة عند الشيخين وأحمد وهي أن يعلى بن أمية قال لعمر : أرني النبي - صلى الله عليه وسلم - حين يوحى إليه قال : فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة ومعه نفر من أصحابه جاءه رجل فقال : يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب ؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة فجاءه الوحي فأشار عمر إلى يعلى فجاء يعلى وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوب قد أظل به فأدخل رأسه ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمر الوجه وهو يغط ثم سري عنه ، فقال : أين الذي سأل عن العمرة ؟ فأتي بالرجل فقال : اغسل الطيب ، إلخ . وفيها دليل على أن المفتي والحاكم إذا لم يعرف الحكم يمسك عن الجواب حتى يتبين له وعلى أن بعض الأحكام ثبت بالوحي وإن لم يكن مما يتلى ، وعلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحكم بالاجتهاد إلا إذا لم يحضره الوحى .

(19/200)


2706- قوله ( لا ينكح ) بفتح الياء وكسر الكاف وتحريك الحاء بالكسر لالتقاء الساكنين على النهي وبالضم على النفي ، قال صاحب المحلى : مرفوع على الخبرية ، ويحتمل أن يكون مجزوما بالكسر . وقال الخطابي : الرواية الصحيحة بكسر الحاء على معنى النهي أي لا يعقد لنفسه ولا يتزوج امرأة ( المحرم ) بحج أو عمرة أو بهما ( ولا ينكح ) بضم الياء وكسر الكاف مجزوما أو بضم الحاء أي لا يعقد لغيره بولاية ولا وكالة ( ولا يخطب ) بضم الطاء من الخطبة بكسر الخاء ، أي لا يطلب امرأة بنكاح . وزاد ابن حبان في صحيحه (( ولا يخطب عليه )) كما في نصب الراية والدراية والفتح . قال التوربشتي : يروى هذا الحديث عن وجهين أحدهما على صيغة الخبر ويكون لا للنفي ، وعلى صيغة النهي ولا هي الجازمة والكلمات الثلاث مجزومة بها إلا أن الأولى منها تحرك بالكسر للوصل ، وذكر الخطابي أنها على صيغة النهي أصح . قال التوربشتي : قد أخرج هذا الحديث مسلم وأبو داود وأبو عيسى ( الترمذي ) وأبو عبد الرحمن ( النسائي ) في كتبهم والذي وجدناه الأكثر فيما يعتمد عليه من روايات الأثبات هو الرفع في تلك الكلمات . وقد ذهب الأكثرون من
..............................................................................................

(19/201)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقهاء الأمصار لا سيما من أصحاب الحديث إلى أن المراد منه النهي وإن روي على صيغة الخبر ، وإيراد الإنشاء بصيغة الخبر أبلغ من إيراده بصيغة الإنشاء كما هو مقرر في موضعه . والحديث يدل على أنه لا يجوز للمحرم أن يتزوج ولا أن يزوج غيره ، وإليه ذهب أكثر أهل العلم ، وعزاه النووي في شرح المهذب لجماهير العلماء من الصحابة والتابعن فمن بعدهم ، وقال : وهو مذهب عمر بن الخطاب وعثمان وعلى وزيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري ومالك وأحمد والشافعي وإسحاق وداود وغيرهم ، وقال في شرح مسلم : قال مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم : لا يصح نكاح المحرم – انتهى . وذهبت جماعة أخرى إلى أنه يجوز للمحرم أن يتزوج ويزوج غيره ، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة وهو مروي عن الحكم بن عتيبة والثوري والنخعي وعطاء وحماد بن أبي سليمان وعكرمة ومسروق . قيل : وهو قول ابن عباس وابن مسعود وأنس ومعاذ بن جبل ، وإليه يظهر ميل البخاري حيث ترجم في المناسك بلفظ (( باب تزويج المحرم )) وفي النكاح بلفظ (( باب نكاح المحرم )) وأورد فيهما حديث ابن عباس في تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة محرما . قال الحافظ في الحج : أورد فيه حديث ابن عباس في تزوج ميمونة ، وظاهر صنيعه أنه لم يثبت عنده النهي عن ذلك ولا أن ذلك من الخصائص ، وقد ترجم في النكاح باب نكاح المحرم ، ولم يزد على إيراد هذا الحديث – انتهى . وقال الحافظ في النكاح : كأنه يجنح إلى الجواز لأنه لم يذكر في الباب شيئا غير حديث ابن عباس في ذلك ، ولم يخرج حديث المنع كأنه لم يصح عنده على شرطه – انتهى . واستدل الأولون بحديث عثمان ومما روى عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ولا يخطب عليه ، ذكره الهيثمي وقال : رواه الطبراني في الأوسط عن

(19/202)


أحمد بن القاسم ، فإن كان أحمد بن القاسم بن عطية فهو ثقة ، وإن كان غيره فلم أعرفه وبقية رجاله لم يتكلم فيهم أحد ، واحتج الذين ذهبوا إلى أن الإحرام لا يمنع عقد النكاح بحديث ابن عباس الآتي ففيه التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم والله تعالى يقول ?ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ? ( سورة الأحزاب : الآية 21) وهو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره ، فلو كان تزويج المحرم حراما لما فعله - صلى الله عليه وسلم - ، واحتجوا أيضا بما روي عن عائشة مثل حديث ابن عباس أخرجه الطحاوي والبيهقي (ج 7 : ص 212) والبزار والطبراني في الأوسط ، قال الهيثمي (ج 4 : ص 268) بعد عزوه إلى البزار والطبراني : ورجال البزار رجال الصحيح – انتهى . وبما روي عن أبي هريرة مثل حديث ابن عباس أيضا أخرجه الطحاوي والدارقطني وابن حبان كما في موارد الظمآن (ص 309) قال الحافظ في الفتح في الحج : صح نحو حديث ابن عباس عن عائشة وأبي هريرة ، وقال في النكاح : قدمت في الحج أن حديث ابن عباس جاء مثله صحيحا عن عائشة وأبي هريرة فأما حديث عائشة فأخرجه النسائي من طريق أبي سلمة عنه . وأخرجه الطحاوي والبزار من طريق مسروق عنها وصححه ابن حبان وأكثر ما أعل بالإرسال وليس ذلك بقادح فيه .
......................................................................................

(19/203)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال النسائي : أخبرنا عمرو بن علي أنبأنا أبو عاصم عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة مثله . قال عمرو ابن علي : قلت لأبي عاصم أنت أمليت علينا من الرقعة ليس فيه عائشة ، فقال : دع عائشة حتى أنظر فيه ، وهذا إسناد صحيح لولا هذه القصة ، ولكن هو شاهد قوي أيضا . وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الدارقطني ، وفي إسناده كامل أبو العلاء وفيه ضعف لكنه يعتضد بحديثي ابن عباس وعائشة وفيه رد على قول ابن عبد البر أن ابن عباس تفرد من بين الصحابة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج وهو محرم ، وجاء عن الشعبي ومجاهد مرسلا مثله أخرجهما ابن أبي شيبة ، وأخرج الطحاوي من طريق عبد الله بن محمد بن أبي بكر قال : سألت أنسا عن نكاح المحرم فقال : لا بأس به ، وهل إلا كالبيع ، وإسناده قوي لكنه قياس في مقابل النص فلا عبرة به ، وكان أنس لم يبلغه حديث عثمان – انتهى . واعلم أن النفي أو النهى في قوله (( لا ينكح ولا ينكح )) للتحريم ، وفي قوله (( لا يخطب )) للتنزيه عند الأئمة الثلاثة ومن وافقهم ، وفي الكل للتنزيه عند أبي حنيفة ومن وافقه ، فاتفق الأئمة الأربعة على كون النفي في الثالث للتنزيه ، والظاهر عندنا أن النهي في الجميع للتحريم فلا يجوز للمحرم أن يخطب امرأة وكذلك المحرمة لا يجوز للرجل خطبتها ، فحرمة الخطبة كحرمة النكاح ، لأن الصيغه فيها متحدة ، فالحكم بحرمة أحدها دون الآخر يحتاج إلى دليل خاص ، ولا دليل عليه والظاهر من الحديث حرمة النكاح وحرمة وسيلته التي هي الخطبة كما تحرم خطبة المعتدة ، وما ذكروه من أن الخطبة لا تحرم في الإحرام وإنما تكره هو خلاف الظاهر من النص ولا دليل عليه ، وما استدل به بعض أهل العلم من الشافعية وغيرهم على أن المتعاطفين قد يكون أحدهما مخالفا لحكم الآخر كقوله تعالى ? كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ? سورة الأنعام ، الآية

(19/204)


141) قالوا : الأكل مباح وإيتاء الحق واجب لا دليل فيه ، لأن الأمر بالأكل معلوم أنه ليس للوجوب ، بخلاف قوله في الحديث (( ولا يخطب )) فلا دليل على أنه ليس للتحريم كقوله قبله (( لا ينكح المحرم )) هذا وأجاب القائلون بجواز عقد النكاح في الإحرام عن حديث عثمان بوجوه منها أن حديث ابن عباس أصح وأقوى لأنه اتفق عليه الشيخان ، وأما حديث عثمان فهو مما انفرد به مسلم وقد تعارضا فيقدم عليه حديث ابن عباس . وفيه أن حديث عثمان تشريع قولي عام مقطوع الدلالة في الحكم ، وحديث ابن عباس وما في معناه واقعة عين ومن المعلوم أن الحديث القولي العام يقدم على الفعلي عند التعارض : وإن كان أقوى إسنادا . قال الحافظ : يترجح حديث عثمان بأنه تقعيد قاعدة ، وحديث ابن عباس واقعة عين تحتمل أنواعا من الاحتمالات – انتهى . ومنها أن المراد بالنكاح في حديث عثمان وطأ الزوجة وهو حرام في حال الإحرام إجماعا وليس المراد به العقد ، وفيه أولا أن في نفس الحديث قرينتين دالتين على أن المراد عقد النكاح لا الوطء ، الأولى أن قوله (( ولا ينكح )) بضم الياء دليل على أن المراد لا يزوج لا الوطء ، لأن الولي إذا زوج قبل الإحرام وطلب الزوج وطأ زوجته في حال إحرام وليها فعليه أن يمكنه من ذلك إجماعا فدل ذلك على أن المراد بقوله (( ولا ينكح )) ليس الوطء بل التزويج كما هو ظاهر ، وأما ما قال ابن
...............................................................................................

(19/205)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهمام من أن المراد بالجملة الثانية التمكين من الوطء والتذكير باعتبار الشخص أي لا تمكن المحرمة من الوطء زوجها فلا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف ، على أنه ينافيه قوله (( ولا يخطب )) وهي القرينة الثانية الدالة على المراد بالنكاح في الجملتين الأوليين عقد النكاح لا الوطء ، لأن المراد بالخطبة هي خطبة المرأة التي هي طلب تزويجها ، وذلك دليل على أن المراد العقد لأنه هو الذي يطلب بالخطبة ، وليس من شأن وطء الزوجة أن يطلب بخطبة كما هو معلوم ، قال الحافظ : تأويل أهل الكوفة حديث عثمان بأن المراد به الوطء متعقب بالتصريح فيه بقوله (( ولا ينكح )) بضم أوله وبقوله فيه (( ولا يخطب )) وثانيا أن أبان بن عثمان راوي الحديث وهو من أعلم الناس بمعناه فسره بأن المراد بقوله (( ولا ينكح )) أي لا يزوج لأن السبب الذي أورد فيه الحديث هو أنه أرسل له عمر بن عبيد الله حين أراد أن يزوج ابنه طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير فأنكر عليه ذلك أشد الإنكار وبين له أن حديث عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على منع عقد النكاح في حال الإحرام ولم يعلم أنه أنكر عليه أحد تفسيره الحديث بأن المراد بالنكاح فيه العقد لا الوطء ، وثالثا أنه روى أحمد من حديث ابن عمر أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل وهو خارج من مكة فأراد أن يعتمر أو يحج فقال : لا تتزوجها وأنت محرم ، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه . فنراه صرح بأن النكاح المنهي عنه في الإحرام التزويج ، وروى مالك والبيهقي والدارقطني عن أبي غطفان بن طريف أن أباه طريفا تزوج امرأة وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه – انتهى . وهذا دليل على أن عمر يفسر النكاح الممنوع في الإحرام بالتزويج . وقد روى البيهقي في السنن الكبرى بإسناده عن الحسن عن علي قال : من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته ، وروى بإسناده أيضا عن جعفر بن محمد

(19/206)


عن أبيه أن عليا رضي الله عنه قال : لا ينكح المحرم فإن نكح رد نكاحه ، وروى بإسناده أيضا عن شوذب مولى زيد بن ثابت أنه تزوج وهو محرم ففرق بينهما زيد بن ثابت ، وروى بإسناده أيضا عن سعيد بن المسيب أن رجلا تزوج وهو محرم فأجمع أهل المدينة على أن يفرق بينهما . وقال الحافظ : قد ثبت أن عمر وعليا وغيرهما من الصحابة فرقوا بين محرم نكح وبين امرأته ولا يكون هذا إلا عن ثبت – انتهى . فهذه الآثار صريحة في أن النكاح المنهي عنه في الإحرام هو التزويج وأن النهي للتحريم ، وحمل هذه الآثار على أن عملهم ذلك كان من قبيل الزجر والتعزير سدا للذرائع بعيد جدا بل هو باطل . ومن الوجوه التي أجاب بها القائلون بجواز النكاح في الإحرام أن النهي في حديث عثمان للكراهة وأن المراد منه أن النكاح والخطبة ليست من شأن المحرم فإنه في شغل شاغل عن ذلك ، قال التوربشتي : قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك كف المحرم وتفتير رغبته عن النكاح والإنكاح والخطبة لكونها مدعاة إلى هيجان الشهوة ولم يقصد تحريمه ، وقال الشيخ محمد عابد السندي : الأولى أن يقال : النهى للكراهة جمعا بين الدلائل ، وذلك لأن المحرم في شغل عن مباشرة عقود الأنكحة ، لأن ذلك يوجب شغل خاطره عما هو بصدده من المناسك فكرهه النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك ، وإنما قلنا أنه الأولى لأنه لا قائل بعدم جواز الخطبة للمحرم ( كما تقدم )
رواه مسلم .
2707 – (5) وعن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم .

(19/207)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وحاصله أن قران النكاح والإنكاح بالخطبة دليل على أن النهي للكراهة لأنه لا خلاف في جواز الخطبة ، وإنما الخلاف في كراهتها ، فالخطبة تصح عندهم مع الكراهة فكذا النكاح والإنكاح . وقال ابن الهمام : يحمل قوله (( لا ينكح المحرم )) على نهي الكراهة جمعا بين الدلائل ، وذلك لأن المحرم في شغل عن مباشرة عقود الأنكحة ، لأن ذلك يوجب شغل قلبه عن الإحسان في العبادة لما فيه من خطبة ومراودات ودعوة واجتماعات ، ويتضمن تنبيه النفس لطلب الجماع ، وهذا محمل قوله (( ولا يخطب )) ولا يلزم كونه - صلى الله عليه وسلم - باشرا لمكروه ( أي في قصة تزويج ميمونة محرما ) لأن المعنى المنوط به الكراهة هو عليه الصلاة والسلام منزه عنه ، ولا بعد في اختلاف حكم في حقنا وحقه لاختلاف المناط فيه وفينا كالوصال نهانا عنه وفعله – انتهى . وقال التوربشتي : فإن قيل كيف يصرف معنى الحديث إلى التنزه عن الخلال الثلاث وأنت تأبي أن يقال وهم ابن عباس ( أي في قوله تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ) فترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتنزه عن ذلك ، قلنا : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مشرعا يفعل الشيء ليعلم أنه مباح ، ويفعل الشيء ليقتدى به وكان يفعل الشيء أيضا متخصصا به ولم يكن هذا من باب ما خص به لأنه لو كان كذلك لبينه ولم يكن للإقتداء لأنه لم يحث عليه بل منع عمه حالة الإحرام بالمفهوم عن الحديث ، وبعد فإن حاله - صلى الله عليه وسلم - في التمكن من الاستقامة والتصرف في القوي البشرية كانت خلاف حال غيره من الأمة ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - مسيطرا على حوائج النفس بتمكين الله إياه ، وفي هذا المعنى حديث عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لأربه . وفيه أن الأصل في النهي التحريم ، وهو الذي فهمه راوي الحديث أبان بن عثمان وغيره من

(19/208)


الصحابة كعمر وابنه وعلي وزيد بن ثابت فلا يعدل عنه إلا بدليل صريح ، وأما حديث ابن عباس فسيأتي الجواب عنه ، وقد سبق منا أن النهي في قوله (( لا يخطب )) أيضا للتحريم كالجملتين الأوليين ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 57 ، 64 ، 68 ، 73) ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وابن الجارود والدارمي والحميدي وغيرهم ، وليس للترمذي فيه (( ولا يخطب )) وزاد ابن حبان (( ولا يخطب عليه )) .
2707- قوله ( تزوج ميمونة ) أم المؤمنين وهي بنت الحارث الهلالية ، آخر امرأة تزوجها ممن دخل بهن ، تزوجها سنة سبع وتوفيت بسرف حيث بنى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة إحدى وخمسين على الراجح ( وهو محرم ) قد اشتهر عن ابن عباس برواية الثقات عنه أنه قال : تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم ، وقد تقدم أن له شاهدين قويين من حديث أبي هريرة وعائشة ، ويعارض ذلك ما سيأتي من حديث يزيد بن الأصم عن ميمونة ، ومن حديث أبي رافع أنه تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو حلال ، ويؤيد هذا ما رواه ابن سعد عن ميمون بن مهران قال
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/209)


دخلت على صفية بنت شيبة وهي عجوزة كبيرة فسألتها أتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم ؟ قالت : لا والله لقد تزوجها وهما حلالان ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج 4 : ص 268) وقال : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، ورجال الكبير رجال الصحيح ، وبهذا ظهر أن الروايات اختلفت في تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بميمونة . قال ابن القيم بعد ما حكى اختلاف الروايات في نكاحه - صلى الله عليه وسلم - : فالأقوال ثلاثة أحدها أنه تزوجها بعد حله من العمرة ، وهو قول ميمونة نفسها . وقول السفير بينها وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أبو رافع وقول جمهور أهل النقل ، والثاني أنه تزوجها وهو محرم وهو قول ابن عباس وأهل الكوفة وجماعة ، والثالث أنه تزوجها قبل أن يحرم – انتهى . هذا وقد تقدم أن حديث ابن عباس من مستدلات القائلين بجواز النكاح في الإحرام ، وقد أجاب المانعون عنه بأجوبة : منها ما ذكره الترمذي عن بعضهم أنه تزوجها حلالا وظهر أمر تزوجيها وهو محرم وبنى بها وهو حلال بسرف في طريق مكة . وحاصل هذا الجواب أن معنى قوله (( تزوجها وهو محرم )) أي ظهر أمر تزويجها وفشى واشتهر وهو محرم وإن كان عقد النكاح قبل الإحرام . وتعقب هذا الجواب أو الجمع بأنه قد ثبت بالروايات الصريحة أن نكاحه - صلى الله عليه وسلم - بميمونة كان بسرف فقد روى النسائي من طريق قتادة ويعلى بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس قال : تزوج رسول الله ميمونة بنت الحارث وهو محرم ، وفي حديث يعلى (( بسرف )) وروى ابن سعد من طريق ميمون بن مهران سألت صفية بنت شيبة فقالت : تزوج رسول الله ميمونة بسرف وبنى بها في قبة لها ، وماتت بسرف . وسرف قريب مكة خارج الحرم داخل الميقات . قال الطبري : وهو على عشرة أميال من مكة . وقال القاري : والصحيح أنه على ستة أميال ، وروى الطحاوي من طريق محمد بن إسحاق عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(19/210)


تزوج ميمونة وهو حرام فأقام بمكة ثلاثا فأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا : إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا ، فقال : وما عليكم لو تركتموني فعرست بين أظهركم فصنعنا لكم طعاما فحضرتموه ، فقالوا : لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا ، فخرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج بميمونة حتى عرس بها بسرف . ونقل ابن القيم في الهدي عن مغازي موسي بن عقبة نحو ذلك ، وهذا كله يدل على أن نكاحه - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وقع بسرف ذاهبا إلى مكة والبناء بها وقع فيها آئبا من مكة . وأما ما رواه مالك عن ربيعة بن عبد الرحمن عن سليمان بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا رافع ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة قبل أن يخرج ، وهو يدل على أن نكاحه بميمونة وقع بالمدينة قبل الخروج إلى عمرة القضاء فهو مأول بأن المراد بقوله (( زوجاه )) خطبا له فقط ، مجازا كما قال الزرقاني ، لأنه صح عند أحمد والنسائي من حديث ابن عباس قال : لما خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقيل معنى (( زوجاه )) بلغاه رضا ميمونة بالخطبة أو بتزوجها بالمدينة ، ثم إنه وقع التصريح في صحيح البخاري في غزوة الحديبية بإنشاء إحرامه - صلى الله عليه وسلم - من ذي الحليفة في عمرة الحديبية قبل القضاء التي وقع فيها نكاحه - صلى الله عليه وسلم - بميمونة ، وهذا ظاهر في
..............................................................................................

(19/211)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن توقيت المواقيت وقع قبل عمرة الحديبية خلافا لما حكى الأثرم عن أحمد أنه وقع عام حجة الوداع وإذا ثبت أنه تزوج بسرف ذاهبا إلى مكة للعمرة وأن توقيت المواقيت كان قبل عمرة الحديبية لزم أن يكون نكاحه في الإحرام وإلالزم تجاوز الميقات وهو ذو الحليفة بغير إحرام ، فإن سرف داخل الميقات قريب من مكة كما سبق ، وهذا يبطل التأويل المذكور على أنه يمكن أن يأول حديث ميمونة ويزيد بن الأصم بمثل التأويل الذي ذكره الترمذي في حديث ابن عباس ، فيقال : إنه تزوجها بسرف وهو محرم ، وظهر واشتهر أمر تزويجه وهو حلال حين بنى بها بسرف راجعا من مكة إلى المدينة أو حين أراد الوليمة بمكة ، وفيه أن إحرامه - صلى الله عليه وسلم - من ذي الحليفة في عمرة الحديبية لا يستلزم وقوع التوقيت قبل حجة الوداع ، وقد روى البخاري في باب ذكر العلم والفتيا في المسجد عن ابن عمر أن رجلا قام في المسجد فقال : يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل ، فقال رسول الله : يهل أهل المدينة إلخ . قال الحافظ : المراد بالمسجد مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويستفاد منه أن السؤال عن مواقيت الحج كان قبل السفر من المدينة ، وقال في الحج بعد ذكر ما حكاه الأثرم عن أحمد من توقيت المواقيت عام حجة الوداع : وقد سبق حديث ابن عمر في العلم بلفظ (( أن رجلا قام في المسجد فقال : يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل ؟ - انتهى . وهذا يدل على أن الحافظ وافق الإمام أحمد في ذلك ومنها أن معنى قول ابن عباس تزوجها وهو محرم أي في الشهر الحرام وهو حلال وقد تزوجها - صلى الله عليه وسلم - في الشهر الحرام وهو ذو القعدة عام سبع في عمرة القضاء كما ذكره البخاري في كتاب المغازي في باب عمرة القضاء ، ولا خلاف بين أهل اللسان العربي في إطلاق الإحرام على الدخول في حرمة لا تهتك كالدخول في الشهر الحرام أو في الحرم أو غير ذلك . وقال ابن

(19/212)


منظور في اللسان : وأحرم الرجل إذا دخل في حرمة لا تهتك ، ومن إطلاق الإحرام على الدخول في الشهر الحرام قد أنشده في اللسان شاهدا لذلك قول زهير :
-
-
جعلن القنان عن يمين وحزنه _ -
-
وكم بالقنان من محل ومحرم ( -
- -
- -
ولو أصبحت ليلى تدب على العصا _ -
-
لكان هوى ليلى جديدا أوائله ( -
-
وقول الآخر :
-
-
وإذ فتك النعمان بالناس محرما _ -
-
فملئ من عوف بن كعب سلاسله ( -
-
وقول الراعي :
-
-
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما _ -
-
ودعا فلم أر مثله مخذولا ( -
- -
- -
فتفرقت من بعد ذاك عصاهم - -
-
شققا وأصبح سيفهم مسلولا - -
-
ويروى فلم أر مثله مقتولا ، فقوله (( قتلوا ابن عفان محرما )) أي في الشهر الحرام وهو ذو الحجة . وقيل المعنى أنهم قتلوه في حرم المدينة لأن المحرم يطلق لغة على كل داخل في حرمة لا تهتك سواء كانت زمانية أو مكانية أو غير ذلك . وقال
..............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعض أهل اللغة منهم الأصمعي : إن معنى قول الراعي (( محرما )) في بيته المذكور : كونه حرمة الإسلام وذمته التي يجب حفظها ويحرم انتهاكها ، وأنه لم يحل من نفسه شيئا يستوجب به القتل ، ومن إطلاق المحرم على هذا المعنى الأخير قول عدى بن زيد :
-
-
قتلوا كسرى محرما _ -
-
غادروه لم يمتع بكفن ( -
-

(19/213)


ويروى (( فتولى ولم يمتع بكفن )) يريد قتل شيرويه أباه أبرويز بن هرمز مع أن له حرمة العهد الذي عاهدوه به حين ملكوه عليهم وحرمة الأبوة ولم يفعل لهم شيئا يستوجب منهم القتل ، وذلك هو مراده بقوله (( محرما )) وعلى تفسير قول ابن عباس (( وهو محرم )) بما ذكر فلا تعارض بين حديث ابن عباس وبين حديث ميمونة وأبي رافع ، وتعقب هذا الجواب بأن رواية البخاري في باب عمرة القضاء بلفظ أنه - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو محرم وبنى بها وهو حلال ، تدفع هذا التفسير أو تبعده كما قال الزيلعي ، فإن المقابلة بين المحرم والحلال تدل على أن المراد بالمحرم في قول ابن عباس ضد الحلال ، ولم يرد الحلال بمعنى الداخل في الحل أو في الشهر الحرام ، وفيه أنه لو فرضنا أن تفسير حديث ابن عباس بما ذكر ليس بمتعبن وليس بظاهر كل الظهور وأن التعارض بين الحديثين باق فالمصير إلى الترجيح إذن واجب وهو الجواب الثالث فيقال : حديث ميمونة وأبي رافع أرجح من حديث ابن عباس ، لأن ميمونة هي صاحبة الواقعة ، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره ، وقد تقرر في الأصول أن خبر صاحب القصة المروية مقدم على خبر غيره ، لأنه أعرف بالحال من غيره والأصولين يمثلون له بحديث ميمونة المذكور مع حديث ابن عباس ومما يرجح به حديث أبي رافع على حديث ابن عباس أن أبا رافع هو رسوله إليها يخطبها عليه فهو مباشر للواقعة وابن عباس ليس كذلك وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المباشر لما روى على خبر غيره ، لأن المباشر لما روى أعرف بحاله من غيره ، والأصولين يمثلون له بخبر أبي رافع مع حديث ابن عباس ، ومما يرجح به حديث ميمونة وحديث أبي رافع معا على حديث ابن عباس أن ميمونة وأبا رافع كانا بالغين وقت تحمل الحديث المذكور وابن عباس ليس ببالغ وقت التحمل ، وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المتحمل بعد البلوغ على المتحمل قبله لأن البالغ أضبط من الصبي بما

(19/214)


تحمل ، وللاختلاف في قبول خبر المتحمل قبل البلوغ مع الاتفاق على قبول خبر المتحمل بعد البلوغ وإن كان الراجح قبول خبر المتحمل قبل البلوغ إذا كان الأداء بعد البلوغ لأن المتفق عليه أرجح من المختلف فيه ، فإن قيل : يرجح حديث ابن عباس بأنه اتفق عليه الشيخان في صحيحهما ومعلوم أن ما اتفق عليه مسلم والبخاري أرجح مما انفرد به مسلم وهو حديث ميمونة ، وأرجح مما أخرجه الترمذي وأحمد وهو حديث أبي رافع ، فالجواب أن غاية ما يفيده اتفاق الشيخين على صحة الحديث إلى ابن عباس ، ونحن لو جزمنا بأنه قاله قطعالم يمنع ذلك من ترجيح حديث ميمونة وأبي رافع عليه لأنهما أعلم بحال الواقعة منه لأن ميمونة صاحبة الواقعة وأبو رافع
متفق عليه .

(19/215)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو الرسول المباشر لذلك فلنفرض أن عباس قال ذلك ، وأن أبا رافع وميمونة خالفا وهما أعلم بالحال منه لأن لكل منهما تعلقا خاصا بنفس الواقعة ليس لابن عباس مثله ، وأما ما قال الطحاوي من أنه يحتمل أنه خفى عن ميمونة وقت تزويجها وذهب عنها الوقت الذي عقد عليها عند ما فوضت إلى العباس أمرها فلم تشعر إلا في الوقت الذي بنى بها فيه وعلمه ابن عباس لحضوره وغيبتها عنه فهو مما لا يلتفت إليه لأنه احتمال ناشئ من غير دليل ولم يثبت أن ابن عباس شهد الواقعة بل يدل على كلام العيني على عدم شهوده حيث قال : من الجائز غير المنكر أن يرويه ابن عباس عنه - صلى الله عليه وسلم - أو يرويه عن أبيه الذي ولي عقد النكاح بمشهد عنه ومرأى أو يرويه عن خالته ميمونة ، فإن قيل : صح نحو حديث ابن عباس عن عائشة وأبي هريرة كما قال الحافظ وعلى هذا من روى أن تزويجها في حالة الإحرام أكثر ممن روى خلاف ذلك فيرجح حديثهم إذن بالكثرة ، فالجواب أنهم وإن كثروا فميمونة وأبو رافع أعلم منهم بالواقعة كما تقدم والمرجحات يرجح بعضها على بعض ، وضابط ذلك عند الأصوليين هو قوة الظن ومعلوم أن ما أخبرت به ميمونة رضي الله عنها عن نفسها وأخبر به الرسول بينها وبين زوجها - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أبو رافع أقوى في ظن الصدق مما أخبره به غيرهما ، ومن الأجوبة التي أجاب بها المانعون أنه لو سلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم لم تكن في ذلك حجة على جواز ذلك بالنسبة على أمته - صلى الله عليه وسلم - لأنه ثبت عنه من حديث عثمان ما يدل على منع النكاح في حال الإحرام وهو عام لجميع الأمة ، والأظهر دخوله هو - صلى الله عليه وسلم - في ذلك العموم فإذا فعل فعلا يخالف ذلك العموم المنصوص عليه بالقول دل على أن ذلك الفعل خاص به - صلى الله عليه وسلم - لتحتم تخصيص ذلك العموم القولي بذلك الفعل فيكون

(19/216)


خاصا به - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تقرر في الأصول أن النص القولي العام الذي يشمل النبي بظاهر عمومه لا بنص صريح إذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا يخالفه كان ذلك مخصصا لذلك العموم القولي فيكون ذلك الفعل خاصا به - صلى الله عليه وسلم - ، كذا حقق الشنقيطي . وقال الشوكاني في نيل الأوطار : يجعل فعله - صلى الله عليه وسلم - مخصصا له من عموم ذلك القول ( يعني حديث عثمان ) كما تقرر في الأصول إذا فرض تأخر الفعل عن القول ، فإن فرض تقدمه ففيه الخلاف المشهور في الأصول في جواز تخصيص العام المتأخر بالخاص المتقدم كما هو المذهب الحق أو جعل العام المتأخر ناسخا كما ذهب إليه البعض – انتهى . وقال في السيل الجرار : إن حديث ابن عباس غاية ما فيه على فرض أنه أرجح لكونه في الصحيحين أن ذلك جائز لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون خاصا به ، والنهي خاصا بالأمة كما تقرر في الأصول أن فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يعارض القول الخاص بالأمة ، وعلى تقدير شمول النهي له فيكون فعله مخصصا له – انتهى . وقال النووي وغيره من الشافعية : هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - فكان له أن يتزوج في حال الإحرام وهو مما خص به دون الأمة ، وتعقبه العيني فقال : دعوى التخصيص تحتاج إلى دليل ، ويأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح حديثي يزيد بن الأصم وأبي رافع ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي المغازي وفي النكاح ، ومسلم في النكاح ،
2708 – (6) وعن يزيد بن الأصم ، ابن أخت ميمونة ، عن ميمونة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأخرجه أيضا أحمد مرارا وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن الجارود والدرامي والبيهقي والطحاوي وغيرهم .

(19/217)


2708 – قوله ( وعن يزيد بن الأصم ) بن عبيد بن معاوية بن عبادة بن البكاء – بفتح الموحدة وتشديد الكاف – واسم الأصم عمرو أبو عوف البكائي الكوفي نزل الرقة ، ربته خالته ميمونة أم المؤمنين ، واسم أمه برزة بنت الحارث أخت ميمونة . قال الحافظ : يقال له رؤية ولا يثبت وهو ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين ، مات سنة ثلاث ومائة وذكر الواقدي أنه عاش ثلاثا وسبعين سنة ( ابن أخت ميمونة ) بنت الحارث أم المؤمنين ( تزوجها وهو حلال ) أي غير محرم ، قيل تزوجها قبل الإحرام كما يدل عليه رواية مالك عن ربيعة عن سليمان بن يسار المرسلة في وقوع التزويج بالمدينة قبل أن يخرج ، وقيل تزوجها بعد ما حل من عمرته بمكة أو بسرف وعلى كل حال هذا الحديث معارض لحديث ابن عباس السابق وأجاب القائلون بجواز النكاح في الإحرام عن ذلك بوجهين : الأول ترجيح حديث ابن عباس على حديث يزيد بن الأصم وذلك بوجوه منها أن حديث ابن عباس أقوى وأصح إسنادا لاتفاق الشيخين عليه بخلاف حديث ابن الأصم وما في معناه فإنه لم يخرجه البخاري ، وقد تقدم الجواب عن هذا ، ومنها أن ابن الأصم لا يقاوم بابن عباس حفظا واتقانا وفقها ، ولذا قال عمرو بن دينار للزهري : وما يدري ابن الأصم أعرابي كذا وكذا بشيء ؟ أتجعله مثل ابن عباس ، فابن عباس بمرتبة من العلم والفقه والحفظ والإتقان لا يدانيه ابن الأصم ، وأجاب عن هذا ابن حزم بما نصه : وأما ترجيحهم ابن عباس على يزيد فنعم ، والله لا يقرب يزيد بعبد الله ولا كرامة ، وهذا تمويه منهم لأن يزيد إنما رواه عن ميمونة ، وروى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس ونحن لا نقرن ابن عباس صغير من الصحابة إلى ميمونة أم المؤمنين لكن نعدل يزيد إلى أصحاب ابن عباس ولا نقطع بفضلهم عليه ، قال : وخبر يزيد عن ميمونة هو الحق ، وقول ابن عباس وهم لا شك فيه لأنها هي أعلم بنفسها منه وأنها كانت إذ ذاك امرأة كاملة ، وكان ابن عباس يومئذ ابن عشرة أعوام

(19/218)


وأشهر فبين الضبطين فرق لا يخفى ، هذا وقد تصدى العيني للجواب عن كلام ابن حزم ، من شاء الوقوف عليه رجع إلى العمدة (ج 10 : ص 196) ومنها أن حديث ابن عباس مثبت لأمر زائد وهو الإحرام وحديث ابن الأصم ناف له ، ومن المعلوم أن المثبت يقدم ويرجح على النافي . وفيه أن حديث يزيد عن ميمونة أيضا مثبت لوقوع عقد النكاح حلالا وحديث ابن عباس ناف لذلك وبه صرح أهل الأصول من الحنفية ، وهذا يقتضي أن يقدم حديث ابن الأصم ومن وافقه على حديث ابن عباس ومنها أن حديث ابن عباس محكم لا يحتمل تأويلا قريبا بخلاف رواية ابن الأصم وما في معناها فإنها تحمل على الخطبة أو فشو أمر التزويج واشتهاره عند البناء في الحل أي بسرف راجعا إلى المدينة . وفيه أن الأمر على العكس من ذلك كما تقدم . ومنها أن أمر النكاح كان إلى العباس
رواه مسلم ، قال الشيخ الإمام محيي السنة رحمه الله : والأكثرون على أنه تزوجها حلالا ، وظهر أمر تزويجها وهو محرم ، ثم بنى بها وهو حلال بسرف في طريق مكة .

(19/219)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكان هو وكيل عقد النكاح ، والوكيل أعرف من الموكل وكذا يكون ابن العباس أعرف بالقضية . وفيه ما تقدم أن صاحب القضية أي ميمونة أعرف بقضيتها ولم يرو عن العباس في وقت التزويج شيء ولم يثبت شهود ابنه واقعة النكاح ، ومنها أم حديث ابن عباس مؤيد بالقياس فإنه عقد كسائر العقود التي يتلفظ بها من شراء الأمة للتسري وغيره كما حكي عن أنس فيما رواه الطحاوي . وفيه أن الواجب حينئذ الرجوع إلى الحديث القولي أي حديث عثمان لا إلى القياس فإن تحكيم القياس عند التعارض بين حكايتي فعل مع وجود النص القولي غير صحيح فإن فيه تركا للنص وعملا بالقياس ، الوجه الثاني من الوجهين اللذين أجاب بهما القائلون بالجواز هو أن المراد بالنكاح والتزوج في حديث يزيد بن الأصم هو الدخول والبناء والوطء دون العقد . قال القاري : قوله تزوجها أي دخل بها . وقال ابن الهمام : يحمل لفظ التزوج في حديث ابن الأصم على البناء بها مجازا بعلاقة السببية العادية – انتهى . وبنحو ذلك قال الزبيدي في شرح الإحياء . وفيه أنه روى مسلم عن ابن نمير عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء أن ابن العباس أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم . قال عمرو بن دينار : فحدثت به الزهري فقال : أخبرني يزيد بن الأصم أنه نكحها وهو حلال ، زاد عبد الرزاق والبيهقي : قال عمرو بن دينار (( فقلت لابن شهاب : أتجعل أعرابيا بوالا على عقبيه على ابن عباس )) وهي خالة ابن عباس أيضا ؟ ولفظ الطحاوي (( أتجعله مثل ابن عباس ؟ )) قال البيهقي : ويزيد بن الأصم لم يقله عن نفسه إنما حدث به عن ميمونة بنت الحارث – انتهى . فهذه الرواية تدل على أن المراد بالنكاح والتزوج في حديثي ابن عباس ويزيد بن الأصم عند عمرو بن دينار وابن شهاب هو العقد لا الوطء والبناء وإلا لما صح المقابلة والمعارضة فافهم ، وكذا يدل على

(19/220)


بطلان التأويل المذكور رواية أحمد والترمذي والبيهقي لحديث يزيد بن الأصم عن ميمونة بلفظ (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها حلالا وبنى بها حلالا )) ( رواه مسلم ) في النكاح وأخرجه أيضا أحمد (ج 6 : ص 332 ، 333 ، 335) وأبو داود وابن ماجة والدرامي وابن الجارود والبيهقي (ج 5 : ص 66 ، و ج 7 : ص 211) ( قال الشيخ الإمام محيي السنة ) أي صاحب المصابيح ( والأكثرون ) قال القاري : يعني الأئمة الثلاثة وأتباعهم ( على أنه تزوجها حلالا ) أي عقد عليها قبل أن يحرم ( وظهر أمر تزويجها ) أي بسرف ذاهبا على مكة ( وهو محرم ثم بنى ) أي دخل بها ( وهو حلال بسرف ) على وزن كتف غير منصرف وقيل منصرف ( في طريق مكة ) أي إلى المدينة وذلك بعد فراغه من عمرته المسماة بعمرة القضاء ، قال الساعاتي في شرح المسند : وهذا الجمع وجيه وعليه فيقال إن ابن عباس لم يعلم بالعقد إلا بعد انتشاره والنبي - صلى الله عليه وسلم - محرم بسرف ، ففهم أن العقد لم يحصل إلا في المكان الذي يقال له
2709 – (7) وعن أبي أيوب : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل رأسه وهو محرم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سرف ، ولهذا قال في روايته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج بماء يقال له سرف وهو محرم ، وتقدم أن هذا الماء أقرب إلى مكة من المدينة ، وميقات أهل المدينة أقرب إلى المدينة من مكة فثبت أنه كان محرما بسرف ولم يبلغ ابن عباس خبر الزواج إلا بهذا المكان ففهم أنه حصل حينئذ .

(19/221)


2709 – قوله ( كان يغسل رأسه وهو محرم ) فيه دليل على جواز الاغتسال للمحرم وغسله رأسه وتشريبه شعره بالماء ، وفي الحديث قصة وهو مختصر من حديث طويل رواه الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن حنين أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال عبد الله بن عباس : يغسل المحرم رأسه . وقال المسور : لا يغسل المحرم رأسه . فأرسلني عبد الله بن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب فسلمت عليه ، فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا عبد الله بن حنين ، أرسلني إليك عبد الله بن عباس يسألك كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم ؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ، ثم قال لإنسان يصب عليه : اصبب ، فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر فقال : هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل . وقد ترجم البخاري لهذا الحديث (( باب الاغتسال للمحرم )) قال الحافظ : أي ترفها وتنظفا وتطهرا من الجنابة ، قال ابن المنذر : أجمعوا على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة ، واختلفوا فيما عدا ذلك ، وكأن المصنف ( أي البخاري ) أشار إلى ما روي عن مالك أنه كره للمحرم أن يغطي رأسه في الماء ، وروى في الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام . قال الحافظ : وفي الحديث جواز غسل المحرم وتشريبه شعره بالماء ودلكه بيده إذا أمن تناثره . وقال الزرقاني : دل حديث أبي أيوب على جواز ذلك ما لم يؤد إلى نتف الشعر ، وقال الباجي : ليس في إمرار اليد على الرأس قتل الدواب ولا إزالتها عن موضعها إلا مثل ما في صب الماء على الرأس خاصة ، ولذلك كانا مباحين فأما الانغماس في الماء فإنه محظور عند مالك على المحرم لأنه ربما زال القمل بكثرة الماء عن الشعر ، وقد روى عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس إجازة انغماس المحرم في الماء . قال العيني : وكان أشهب وابن

(19/222)


وهب يتغامسان في الماء وهما محرمان مخالفة لابن القاسم ، وكان ابن القاسم يقول : إن غمس رأسه في الماء أطعم شيئا من طعام خوفا من قتل الدواب ولا تجب الفدية إلا بيقين ، وعن مالك استحبابه ولا بأس عند جميع أصحاب مالك أن يصب المحرم على رأسه الماء لحر يجده – انتهى . قال الساعاتي في شرح المسند : اتفق العلماء على جواز غسل المحرم رأسه وجسده من الجنابة بل هو واجب عليه ، وأما غسله تبردا فمذهب الجمهور جوازه بلا كراهة ، واختلفوا في غسل المحرم رأسه فذهب الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري والأوزاعي إلى أنه لا بأس بذلك ، ووردت الرخصة به عن عمر بن الخطاب وابن عباس وجابر
.......................................................................................

(19/223)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعليه الجمهور ، وحجتهم حديث أبي أيوب وكان مالك يكره ذلك للمحرم لأثر ابن عمر أنه كان لا يغسل رأسه إلا من احتلام ، ويجوز غسل الرأس بالسدر والخطمى عند الشافعية ( ورواية للحنابلة ) مع الكراهة بحيث لا ينتف شعرا ولا فدية عليه . وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى التحريم ولزوم الفدية . وقال صاحبا أبي حنيفة : عليه صدقة لأن الخطمى تستلذ رائحته وتزيل الشعث وتقتل الهوام فوجبت به الفدية كالورس وقال ابن رشد : قال الجمهور ( أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري والأوزاعي ) : لا بأس بغسل المحرم رأسه ، وقال مالك يكره ، وعمدته أثر ابن عمر ( المذكور ) وعمدة الجمهور حديث أبي أيوب وحمله مالك على غسل الجنابة والحجة له إجماعهم على أن المحرم ممنوع من قتل القمل ونتف الشعر وإلقاء التفث ، والغاسل رأسه إما أن يفعل هذه كلها أو بعضها – انتهى . وقال الأبي في الإكمال : اختلف في غسل المحرم تبردا أو غسل رأسه فأجازه الجمهور كما قال عمر : لا يزيده الماء إلا شعثا ، وتؤول عن مالك مثله وتؤولت عنه الكراهة أيضا ، وكره غمس المحرم رأسه في الماء ، وعللت الكراهة بأنه من تحريك يده في غسله أو غمسه قد يقتل بعض الدواب أو يسقط بعض الشعر ، وقيل : لعله رآه من تغطية الرأس – انتهى . وقال الباجي : الغسل للتبرد جائز للمحرم وإن كان لغير ضرورة . وهذه رواية ابن القاسم عنه – انتهى . قلت : وأثر ابن عمر المذكور بظاهره معارض لما روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يدخل مكة إذا خرج حاجا أو معتمرا حتى يغتسل قبل أن يدخل إذا دنا من مكة بذي طوى ويأمر من معه فيغتسلون قبل أن يدخلوا مكة . قال الحافظ : ظاهره أن غسله لدخول مكة كان لجسده دون رأسه ، وهكذا قال الباجي وزاد (( قال ابن حبيب : إذا اغتسل المحرم لدخول مكة فإنما يغسل جسده دون رأسه فقد كان ابن عمر لا يغسله )) . وقال الشيخ أبو

(19/224)


محمد : لعل ابن عمر كان لا يغسل رأسه إلا من جنابة يعني في غير هذه المواضع الثلاثة فذهب إلى تخصيص ذلك وحكى ابن المواز عن مالك أن المحرم لا يتدلك رأسه في غسل دخول مكة ولا يغسل رأسه إلا بصب الماء فقط . واعتبر الباجي من قول مالك أنه في كل موضع أباح الغسل للمحرم لغير جنابة لا يذكر فيه إمرار اليد وإنما يذكر فيه صب الماء ، وإذا ذكر غسل الجنابة ذكر إمرار اليد . وقال الشافعي : نحن ومالك لا نرى بأسا أن يغسل المحرم رأسه من غير احتلام ، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه اغتسل وهو محرم وأطال الكلام إلى أن قال : وقد يذهب على ابن عمر وغيره السنن ولو علمها ما خالفها – انتهى . وقال في المحلى : قوله (( كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام )) أي تحريا لما هو الأفضل لما روى الترمذي عن ابن عمر مرفوعا (( الحاج الشعث التفل )) انتهى ، وأما غسل الرأس بالخطمى والسدر ونحوه فاختلفوا فيه أيضا كما تقدم ، قال العيني : إن غسل رأسه بالخطمى والسدر فإن الفقهاء يكرهونه وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأوجب مالك وأبو حنيفة عليه الفدية . وقال الشافعي وأبو ثور : لا شيء عليه ، وقال في البناية : لا يغسل رأسه ولا لحيته بالخطمى ،
متفق عليه .
2710- (8) وعن ابن عباس ، قال : احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم .

(19/225)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبه قال مالك . وفي شرح الوجيز : لا يكره بالخطمى والسدر ، وفي القديم يكره ولكن لا فدية عليه . وبه قال أحمد ، وفي الهداية : لا يغسل بالخطمى لأنه نوع طيب ولأنه يقتل هوام الرأس ، وقال القاري : يجوز للمحرم غسل رأسه بحيث لا ينتف شعرا بلا خلاف ، أما لو غسل رأسه بالخطمى فعليه دم عند أبي حنيفة ، وبه قال مالك وقالا : صدقة ، ولو غسل بأشنان فيه طيب فإن كان من رآه سماه أشنانا فعليه الصدقة ، وإن سماه طيبا فعليه الدم ، وكذا في قاضي خان ، ولو غسل رأسه بالحرض والصابون والسدر ونحوه لا شيء عليه بالإجماع ( متفق عليه ) فيه أن اللفظ المذكور ليس لهما ولا لأحدهما بل هو مفهوم ما فعله أبو أيوب ، ومقتضى ما نسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يظهر من سياق الحديث وتمامه عند الشيخين ، وقد أخرجه أيضا مطولا أحمد (ج 5 : ص 416 ، 418 ، 421 ) ومالك وأبو داود وابن ماجة والدرامي وابن الجارود والبيهقي وغيرهم .

(19/226)


2710 – قوله ( احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي في حجة الوداع كما جزم به الحازمي وغيره ( وهو محرم ) جملة حالية ، زاد في رواية للبخاري (( في رأسه من وجع كان به بماء يقال له لحي جمل )) وفي طريق أخرى له عن ابن عباس تعليقا (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به )) بشين معجمة وقافين وزن عظيمة : وجع يأخذ في أحد جانبي الرأس أو في مقدمه ، وفي حديث ابن بحينة الآتي في الفصل الثالث (( في وسط رأسه )) قال الحافظ بفتح المهلمة أي متوسطة وهو ما فوق اليافوخ فيما بين أعلى القرنين . قال الليث : كانت هذه الحجامة في فأس الرأس ، وفي حديث أنس الآتي في الفصل الثالث (( احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به )) وفي حديث جابر عند أحمد والنسائي (( احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم من وثئ كان بوركه أو ظهره )) ويجمع بين هذه الروايات بتعدد الحجامة منه في الإحرام ، ثم يحتمل أنها في إحرام واحد أي في حجة الوداع ، ويمكن أن يكون بعضها في إحدى عمراته ، وفي الحديث دليل على جواز الحجامة للمحرم ، وقد ترجم البخاري لحديث ابن عباس وابن بحينة (( باب الحجامة للمحرم )) قال الحافظ : أي هل يمنع منها أو تباح له مطلقا أو للضرورة ، والمراد في ذلك كله المحجوم لا الحاجم . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 305) : أما الحجامة إذا لم يقطع شعرا فمباحة من غير فدية في قول الجمهور لأنه تداو لإخراج دم فأشبه الفصد وبط الجرح وقال مالك : لا يحتجم إلا من ضرورة . وكان الحسن البصري يرى في الحجامة دما – انتهى . وقال العيني : وبجوازه مطلقا قال عطاء ومسروق وإبراهيم وطاوس والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق ، وقالوا : ما لم يقطع الشعر ، وقال قوم : لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة روى ذلك عن ابن عمر وبه قال مالك – انتهى . وقال النووي : أجمع

(19/227)


...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العلماء على جواز الحجامة له في الرأس وغيره إذا كان له عذر في ذلك وإن قطع الشعر حينئذ ، لكن عليه الفدية بقطع الشعر فإن لم يقطع فلا فدية عليه ، ودليل المسألة قوله تعالى : ? فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية ? ( سورة البقرة ، الآية 196) وهذا الحديث محمول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس ، لأنه لا ينفك عن قطع شعر . أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فإن تضمنت قطع شعر فهي حرام لتحريم قطع الشعر ، وإن لم تتضمن ذلك بأن كانت في موضع لا شعر فيه فهي جائزة عند الجمهور ولا فدية فيها وعن ابن عمر ومالك كراهتها ، وعن الحسن البصري : فيها الفدية وإن لم يقطع شعرا ، دليلنا أن إخراج الدم في الإحرام ليس بحرام – انتهى . وخص أهل الظاهر الفدية بشعر الرأس . ونقل الحطاب عن ابن بشير المالكي أنه ذكر قولا بسقوط الفدية مطلقا أي سواء أزال بسبب الحجامة شعرا أو لا . قال الشنقيطي : القول الذي ذكره ابن بشير من المالكية واستغربه خليل في التوضيح بسقوط الفدية مطلقا ولو أزال بسبب الحجامة شعرا ، له وجه من النظر ، ولا يخلو عندي من قوة والله تعالى أعلم ، وإيضاح ذلك أن جميع الروايات المصرحة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم في رأسه ، لم يرد في شيء منها أنه افتدى لإزالة ذلك الشعر من أجل الحجامة ، ولو وجبت عليه في ذلك فدية لبينها للناس ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، والاستدلال على وجوب الفدية في ذلك بعموم قوله تعالى : ? ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية ? ( سورة البقرة : الآية 196) لا ينهض كل النهوض ، لأن الآية واردة في حلق جميع الرأس لا في حلق بعضه ، وقد

(19/228)


قدمنا أن حلق بعضه ليس فيه نص صريح ، ولذلك اختلف العلماء فيه فذهب الشافعي إلى أن الفدية تلزم بحلق ثلاث شعرات فصاعدا ، وذهب أحمد في إحدى الروايتين إلى ذلك ، وفي الأخرى إلى لزومها بأربع شعرات ، وذهب أبو حنيفة إلى لزومها بحلق الربع ، وذهب مالك إلى لزومها بحلق ما فيه ترفه أو إماطة أذى ، وهذا الاختلاف يدل على عدم النص الصريح في حلق بعض الرأس ، فلا تتعين دلالة الآية على لزوم الفدية لمن أزال شعرا قليلا لأجل تمكن آلة الحجامة من موضع الوجع ، والله تعالى أعلم ، وممن قال بأن إزالة الشعر عن موضع الحجامة لا فدية فيه : محمد وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة بل قالا : في ذلك صدقة ، وقد قدمنا مرارا أن الصدقة عندهم نصف صاع من بر أو صاع كامل من غيره كتمر وشعير ، والحاصل أن أكثر أهل العلم منهم الأئمة الأربعة على أنه إن حلق الشعر لأجل تمكن آلة الحجامة لزمته الفدية على التفصيل المتقدم في قدر ما تلزم به الفدية من حلق الشعر كما تقدم إيضاحه وأن عدم لزومها عندنا له وجه من النظر قوي وحكاه ابن بشير من المالكية ، وأما إن لم يحلق بالحجامة شعرا فقد قدمنا قريبا أقوال أهل العلم فيها وتفصيلهم بين ما تدعو إليه الضرورة وبين غيره – انتهى . قال النووي : وفي حديث الحجامة بيان قاعدة من مسائل الإحرام ، وهي أن الحلق واللباس وقتل الصيد ونحو
متفق عليه .
2711 – (9) وعن عثمان ، حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم : ضمدهما بالصبر .

(19/229)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذلك من المحرمات يباح للحاجة وعليه الفدية كمن احتاج إلى حلق أو لباس لمرض أو حر أو برد أو قتل صيد للمجاعة وغير ذلك ، واستدل بهذا الحديث على جواز الفصد وبط الجرح والدمل وقطع العرق وقلع الضرس وغير ذلك من وجوه التداوي إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نهي عنه المحرم من تناول الطيب وقطع الشعر ولا فدية عليه في شيء من ذلك ، وفيه مشروعية التداوي واستعمال الطب والتداوي بالحجامة ، تنبيه : قال الزرقاني في شرح قول مالك (( لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة )) أي يكره ، لأنها قد تؤدي لضعفه كما كره صوم يوم عرفة للحاج مع أن الصوم أخف من الحجامة فبطل استدلال المجيز بأنه لم يقم دليل على تحريم إخراج الدم في الإحرام لأنا لم نقل بالحرمة بل بالكراهة لعلة أخرى عملت – انتهى . ومرادهم أن ضعفه بإخراج الدم منه قد يؤدي إلى عجزه عن إتمام بعض المناسك . وهذا يدل على أن المنع عند المالكية لاحتمال الضعف لا لمعنى في نفس الحجامة ، لكن قال الدردير : وكره حجامة بلا عذر خيفة قتل الدواب ، فإن تحقق نفي الدواب فلا كراهة ، ومحل الكراهة إذا لم يزل بسببها شعر وإلا حرم بلا عذر . وافتدى مطلقا لعذر أم لا ، وحكى الدسوقي اختلاف أصحابهم في إطلاق الكراهة وتقييدها باحتمال قتل الدواب ولم يذكر من كرهه لعارض الضعف ووجه بعض المالكية الكراهة المذكورة بأن الحجامة إنما تكون في العادة بشد الزجاج ونحوه والمحرم ممنوع من العقد والشد على جسده ، قاله الشيخ سند ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي الصوم وفي الطب ، ومسلم في الحج ، وأخرجه أحمد مرارا والترمذي وأبو داود والنسائي والحميدي والبيهقي والدرامي وابن الجارود وغيرهم .

(19/230)


2711 – قوله ( في الرجل ) أي في حقه وشأنه وكذا حكم المرأة المحرمة ( إذا اشتكى عينيه ) أي حين شكا وجعهما ( ضمدهما ) بصيغة الماضي مشددا من باب التفعيل . قال القاري : وفي نسخة يعني من المشكاة على بناء الأمر للإباحة . قلت : ويحتمل أن يكون بصيغة الماضي مخففا من باب ضرب ونصر ، يقال : ضمد الجرح يضمده ويضمده وضمده شده بالضمادة وهي العصابة كالضماد ، هذا أصله ثم استعمل في خلط الدواء بمائع فيلين ويوضع على العضو الماؤف ، قال الطيبي : أصل الضمد الشد ، يقال ضمد رأسه وجرحه إذا شده بالضماد وهو خرقة يشد بها العضو الماؤف أي المصاب بالآفة ، ثم قيل لوضع الدواء على الجرح وغيره وإن لم يشد – انتهى ( بالصبر ) ككتف بفتح الصاد المهملة وكسر الباء ويجوز إسكانها ، وقال في القاموس : ولا يسكن الباء إلا في ضرورة الشعر ، عصارة شجر مر ، وقال في بحر
رواه مسلم .
2712 – (10) وعن أم الحصين ، قالت : رأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر ، حتى رمى جمرة العقبة .

(19/231)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الجواهر : هو عصارة جامدة من نبات كالسوسن بين صفرة وحمرة منه سقو طري ومنه عربي ومنه سميخاني وأفضله سقو طري – انتهى . ويسمى بالأردية (( إيلوا )) والمقصود أن يخلط الصبر بالماء ويمرخ فيقطره في عينيه أو يكتحلهما به أو يضعه على عينيه . وفي الحديث دليل على جواز تضميد العين وغيرها بالصبر ونحوه . قال النووي : اتفق العلماء على جواز تضميد العين وغيرها بالصبر ونحوه مما ليس بطيب ولا فدية في ذلك ، فإن احتاج إلى ما فيه طيب جاز له فعله وعليه الفدية . واتفق العلماء على أن للمحرم أن يكتحل بكحل لا طيب فيه إذا احتاج إليه ولا فدية عليه فيه . وأما الاكتحال للزينة فمكروه عند الشافعي وآخرين ومنعه جماعة منهم أحمد وإسحاق ، وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين ، وفي إيجاب الفدية بذلك عندهم خلاف – انتهى . ومذهب الحنفية فيه مثل مذهب الشافعي ، وروى البيهقي عن عائشة أنها قالت : في الإثمد والكحل الأسود إنه زينة نحن نكرهه ولا نحرمه . وبه قال مالك وأحمد وإسحاق إلا عند الحاجة ، وأجمعوا على حلة حيث لا طيب فيه ( رواه مسلم )) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 60 ، 61 ، 65 ، 68) وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي وابن الجارود والحميدي .

(19/232)


2712- قوله ( وعن أم الحصين ) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين ثم ياء ساكنة ثم نون ، هي بنت إسحاق الأخمسية الصحابية ولا يعرف لها اسم ( رأيت أسامة ) هو ابن زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( وبلالا ) هو ابن رباح مولى أبي بكر الصديق ( وأحدهما ) أي والحال أن أحدهما . قال القاري : والظاهر أنه بلال ( آخذ ) بصيغة الفاعل ( بخطام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) الخطام بكسر الخاء ككتاب بمعنى الزمام ( والآخر ) أي أسامة ( رافع ) بالتنوين ( ثوبه ) أي ثوبا في يده ( يستره ) أي يظله بثوب مرتفع عن رأسه بحيث لم يصل الثوب إلى رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( من الحر ) وفي رواية (( رافع ثوبه على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشمس )) وروى أحمد عن أبي أمامة عمن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - (( راح إلى منى يوم التروية وإلى جانبه بلال ، بيده عود عليه ثوب يظلل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) وفي الحديث دليل على جواز تظليل المحرم على رأسه بثوب أو نحوه سواء كان راكبا أو نازلا وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي والجمهور محتجين بحديثي أم الحصين وأبي أمامة ، وذهب مالك وأحمد إلى عدم الجواز إلا إذا كان نازلا ، فإن استظل سائرا فعليه الفدية ، وعن أحمد رواية أخرى أنه لا فدية وأجمعوا على أنه لو قعد تحت خيمة أو سقف جاز . وقد احتج لمالك وأحمد على منع التظلل بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه أبصر رجلا على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس ،
.......................................................................................

(19/233)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقال : إضح لمن أحرمت له ، وبما أخرجه البيهقي أيضا بإسناد ضعيف عن جابر مرفوعا (( ما من محرم يضحي للشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه حتى يعود كما ولدته أمه )) وقوله (( أضح )) بالضاد المعجمة ، وكذا (( يضحي )) والمراد أبرز للشمس ، وروى البيهقي أيضا والشافعي وسعيد بن منصور عن عبد الله بن عياش بن ربيعة قال : حججت مع عمر بن الخطاب فما رأيت مضطربا فسطاطا حتى رجع ، قيل له : فما كان يصنع ؟ قال : يطرح النطع على الشجر فيجلس تحته ، قال الشوكاني : ويجاب بأن قول ابن عمر لا حجة فيه ، وبأن حديث جابر مع كونه ضعيفا لا يدل على المطلوب وهو المنع من التظلل ووجوب الكشف لأن غاية ما فيه أنه أفضل ، على أن يبعد منه - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل المفضول ويدع الأفضل في مقام التبليغ – انتهى . وقال النووي : حديث جابر ضعيف مع أنه ليس فيه نهي وكذا فعل عمر وقول ابن عمر ليس فيه نهي ولو كان فحديث أم الحصين مقدم عليه – انتهى . قلت : ويدل على الجواز مطلقا استظلاله - صلى الله عليه وسلم - بالقبة المضروبة في عرفة . وقال الشنقيطي : لا يجوز عند المالكية أن يظلل المحرم على رأسه أو وجهه بعصا فيها ثوب ، فإن فعل افتدى ، وفيه قول عندهم بعدم لزوم الفدية وهو الحق ، وحديث أم الحصين في التظليل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بثوب يقيه الحر وهو يرمي جمرة العقبة ، يدل على ذلك ، وعلى أنه جائز فالسنة أولى بالإتباع ، وأجاز المالكية للمحرم أن يرفع فوق رأسه شيئا يقيه من المطر ، واختلفوا في رفعه فوقه شيئا يقيه من البرد ، والأظهر الجواز لدخوله في معنى الحديث المذكور إذ لا فرق بين الأذى من البرد والحر والمطر ، وبعضهم يقول : إن الفدية المذكورة مندوبة لا واجبه ولا بأس عندهم باتقاء الشمس أو الريح باليد يجعلها على رأسه أو وجهه . قال الشنقيطي : ولا خلاف بين أهل العلم في الاستظلال

(19/234)


بالخباء والقبة المضروبة والفسطاط والشجرة وأن يرمي عليها ثوبا ، وعن مالك منع إلقاء الثوب على الشجرة ، وأجازه عبد الملك بن الماجشون قياسا على الخيمة وهو الأظهر . قال : والاستظلال بالثوب على العصا عند المالكية إذا فعله وهو سائر لا خلاف في منعه ، ولزوم الفدية فيه ، وإن فعله و هو نازل ففيه خلاف عندهم . والحق الجواز مطلقا للحديث المذكور لأن ما ثبتت فيه سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز العدول عنه إلى رأى مجتهد من المجتهدين ولو بلغ ما بلغ من العلم والعدالة لأن سنته - صلى الله عليه وسلم - حجة على كل أحد ، وليس قول أحد حجة على سنته - صلى الله عليه وسلم - ، وحديث أم الحصين نص صحيح صريح في جواز استظلال المحرم الراكب بثوب مرفوع فوقه يقيه حر الشمس والنازل أحرى بهذا الحكم عند المالكية من الراكب . وهذا الحديث الصحيح المرفوع لا يعارض بما روي من فعل عمر وقول ابنه عبد الله موقوفا عليهما ، ولا بحديث جابر الضعيف في منع استظلال المحرم – انتهى . قلت : وأجاب عن حديث أم الحصين بعض أصحاب مالك بأن هذا المقدار لا يكاد يدوم فهو كما أجاز مالك للمحرم أن يستظل بيده . وقال الطبري : حمل بعض أصحاب مالك الحديث على أنه تساهل لما قارب
رواه مسلم .
2713- (11) وعن كعب بن عجرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإحلال كما تساهل في الطيب قبل الإفاضة . قلت : وما رواه أحمد من حديث أبي أمامة يرد التأويلين ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد ( ج6 : ص 401) وأبو داود والنسائي والدرامي والبيهقي (ج 5 : ص 69) .

(19/235)


2713 – قوله ( وعن كعب بن عجرة ) بضم العين المهملة وسكون الجيم وبعدها راء مهملة ثم تاء تأنيث . نقل ابن عبد البر عن أحمد بن صالح المصري قال : حديث كعب بن عجرة في الفدية سنة معمول بها لم يروها من الصحابة غيره ولا رواها عنه إلا ابن أبي ليلي وابن معقل . قال : وهي سنة أخذها أهل المدينة عن أهل الكوفة . قال الزهري : سألت عنها علماءنا كلهم حتى سعيد بن المسيب فلم يبينوا كم عدد المساكين . قال الحافظ فيما أطلقه ابن صالح نظر فقد جاءت هذه السنة من رواية جماعة من الصحابة غير كعب فذكرهم ، قال : ورواه عن كعب بن عجرة غير المذكورين أبو وائل عند النسائي ومحمد بن كعب القرظي عند ابن ماجة ويحيى بن جعدة عند أحمد وعطاء عند الطبري فيقيد إطلاق أحمد بن صالح بالصحة ، فإن بقية الطرق التي ذكرتها لا تخلو عن مقال إلا طريق أبي وائل عن كعب بن عجرة عند النسائي ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به ) فيه تجريد أو التفات أو نقل بالمعنى ، قاله القاري . قلت : وفي رواية (( وقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية )) وفي أخرى (( أتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية )) وفي أخرى (( أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أدنه ، فدنوت ، فقال : أدنه ، فدنوت )) وفي رواية (( حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى )) وفي أخرى (( أنه خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - محرما فقمل رأسه ولحيته فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليه فدعا الحلاق فحلق رأسه )) والجميع بين هذا الاختلاف أن يقال : مر به أولا وهو يوقد تحت قدر فرآه على تلك الصورة رؤية إجمالية عن بعد يسير وقال : أيؤذيك هوامك هذه ؟ ولكنه لم يقدر قدر ما بلغ به من الوجع الشديد ، ثم بلغه ما هو فيه من البلاء وشدة الأذى فأرسل إليه واستدعاه حتى أتاه محمولا

(19/236)


فاستدناه فدنا كما في رواية ابن عون عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عند الشيخين وحك رأسه بإصبعه الكريمة كما في رواية أبي وائل عن كعب عند الطبري فخاطبه وقال له : ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى ، ودعا الحلاق فحلق رأسه بحضرته ، فنقل بعض الرواة ما لم ينقله الآخر . قال الحافظ بعد ما ذكر اختلاف الروايات في ذلك مفصلا ما لفظه : (( والجمع بين هذا الاختلاف في قول ابن أبي ليلى عن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به فرآه ، وفي قول عبد الله بن معقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليه فرآه ، أن يقال مر به أولا فرآه على تلك الصورة فاستدعى به إليه فخاطبه وحلق رأسه بحضرته فنقل كل واحد منهما ما لم ينقله الآخر ويوضحه قوله في رواية ابن عون حيث قال فيها (( فقال : ادن فدنوت )) فالظاهر أن هذا الاستدناء كان عقب رؤيته إياه
وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم ، وهو يوقد تحت قدر ، والقمل تتهافت على وجهه ، فقال : " أيؤذيك هوامك ؟ " . قال : نعم . قال : " فاحلق رأسك ،

(19/237)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إذ مر به وهو يوقد تحت القدر – انتهى . وقال الطبري : يحتمل أن يكون وقف عليه - صلى الله عليه وسلم - وأمره بذلك ثم حمل إليه لما كثر عليه فأمره ثانيا فلا يكون بين قوله (( فحملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قوله (( مر به )) تضاد . وقال العيني بعد ذكر اختلاف الروايات : لا تعارض في شيء من ذلك ووجهه أنه مر به وهو محرم في أول الأمر وسأله عن ذلك ، ثم حمل إليه ثانيا بإرساله إليه ، وأما إتيانه فبعد الإرسال ، وأما رؤيته فلا بد منها في الكل – انتهى باختصار يسير ( وهو ) أي كعب ( بالحديبية ) تقدم ضبطها والكلام عليها ، وكان ذلك سنة ست من الهجرة وكانوا محرمين بعمرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فصدهم المشركون عن دخول مكة ( قبل أن يدخل مكة ) أي وهو يتوقع دخولها حين لم يقع منع عن وصولها ، وفي رواية للبخاري : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآه وإنه ليسقط القمل على وجهه ، فقال : أيؤذيك هوامك ؟ قال نعم ، فأمره أن يحلق وهم بالحديبية ولم يبين لهم أنهم يحلون وهم على طمع أن يدخلوا مكة فأنزل الله الفدية ( وهو يوقد ) من الإيقاد ( تحت قدر ) وفي رواية (( برمة )) والقمل ) أي جنسه وهو بفتح القاف وسكون الميم ، دويبة تتولد من العرق والوسخ في بدن الإنسان أو ثوبه أو شعره تسمى بالفارسية (( سبس )) وبالأردوية (( جوين )) تتهافت ) بالتائين ، وفي مسلم (( يتهافت )) أي بصيغة التذكير يعنى تتساقط شيئا فشيئا ، من التهافت وهو تساقط الشيء قطعة قطعة كالثلج والرذاذ ونحوهما ( على وجهه ) وفي رواية لأحمد (( قملت حتى ظننت أن كل شعرة من رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها . وفي رواية له أيضا (( وقع القمل في رأسي ولحيتي حتى حاجبي وشاربي )) وفي رواية لأبي داود (( أصابتني هوام حتى تخوفت على بصري )) ( فقال أيؤذيك ) بالتذكير ، وفي بعض النسخ بالتأنيث ( هوامك )

(19/238)


بتشديد الميم جمع هامة وهي ما يدب من الأخشاش والمراد بها ما يلازم جسد الإنسان غالبا إذا طال عهده بالتنظيف ، وقد وقع في الرواية هذه نفسها القمل فهو المراد بالهوام .قال الحافظ : قد عين في كثير من الروايات أنها القمل ، وقال في موضع آخر : الهوام اسم للحشرات لأنها تهم أن تدب ، وإذا أضيفت إلى الرأس اختصت بالقمل . وقال القاري : الهوام جمع هامة بتشديد الميم وهي الدابة التي تسير على السكون كالنمل والقمل . قال القرطبي : قوله (( أيؤذيك هوامك ؟ )) هذا سؤال عن تحقيق العلة التي يترتب عليها الحكم فلما أخبره بالمشقة التي نالته خفف عنه – انتهى . قال الحافظ : واستدل به على أن الفدية مرتبة على قتل القمل ، وتعقب بذكر الحلق . فالظاهر أن الفدية مرتبة عليه ، وهما وجهان عند الشافعية . ويظهر أثر الخلاف فيما لو حلق ولم يقتل قملا ( فاحلق رأسك ) أمر إباحة ، قاله القاري . وفي رواية (( فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلق رأسه ، قال الباجي : والأمر وإن كان يقتضي الوجوب أو الندب ولا تكون الإباحة أمرا فقد يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ندبه
وأطعم فرقا بين ستة مساكين " . والفرق : ثلاثة آصع ،

(19/239)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى ذلك ، ورآه الأفضل له فقد نهى الإنسان عن أذى نفسه وتحمل المشقة الخارجة عن العادة المؤذية التي لا يطيقها الإنسان غالبا في العبادات ولذلك كره من الحولاء بنت تويت أن لا تنام الليل ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : اكلفوا من العمل ما تطيقون – انتهى . وقوله (( أن يلحق رأسه )) أي يزيل شعره أعم من أن يكون بموسى أو بمقص أو نورة ، قاله الزرقاني ، وقال ابن قدامه : لا نعلم خلافا في إلحاق الإزالة بالحلق سواء كان بموسى أو مقص أو نورة أو غير ذلك وأغرب ابن حزم فأخرج النتف عن ذلك ، فقال يلحق جميع الإزالات بالحلق إلا النتف ، كذا في الفتح ( وأطعم ) أمر وجوب وهو بيان لقوله تعالى : (( أو صدقة )) فرقا ) بفتح الفاء والراء وقد تسكن قاله ابن فارس . وقال الأزهري : كلام العرب بالفتح والمحدثون قد يسكنونه وآخره قاف ، مكيال معروف بالمدينة وهو ستة عشر رطلا . قال الحافظ : وإذا ثبت أن الفرق ثلاثة آصع كما سيأتي اقتضي أن الصاع خمسة أرطال وثلث خلافا لمن قال إن الصاع ثمانية أرطال ( بين ستة مساكين قال الطيبي : فلكل واحد نصف صاع بلا فرق بين الأطعمة ( والفرق ثلاثة آصع ) كذا في صحيح مسلم وكتاب الحميدي وشرح السنة ، وفي نسخ المصابيح (( أصوع )) وكلاهما جمع صاع . وأخطأ من قال (( آصع )) لحن قال الطيبي : صح هذا اللفظ في الحديث وهو من قبيل القلب وأصله أصوع – انتهى . والمراد بالقلب القلب المكاني بأن تجعل الواو مكان الصاد وعكسه بعد نقل حركة الواو إلى الصاد ثم تقلب الواو ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها ، وكذا في المرقاة وقال النووي : الآصع جمع صاع ، وفي الصاع لغتان ، التذكير والتأنيث وهو مكيال يسع خمسة أرطال وثلثا بالبغدادي ، هذا مذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء ، وقال أبو حنيفة يسع ثمانية أرطال ، وأجمعوا على أن الصاع أربعة أمداد ، وهذا الذي قدمناه من أن

(19/240)


الآصع جمع صاع صحيح ، وقد ثبت استعمال الآصع في هذا الحديث الصحيح من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك هو مشهور في كلام الصحابة والعلماء بعدهم ، وفي كتب اللغة وكتب النحو والتصريف ، ولا خلاف في جوازه وصحته – انتهى . وذكر الحافظ في الفتح هذه الرواية عن مسلم ثم قال : وأخرجه الطبري من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة فقال : فيه قال سفيان : والفرق ثلاثة آصع ، فأشعر بأن تفسير الفرق مدرج لكنه مقتضي الروايات الأخر ففي رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني عند أحمد (( لكل مسكين نصف صاع )) وفي رواية يحيى بن جعدة عند أحمد أيضا (( أو أطعم ستة مساكين مدين مدين )) وفي رواية زكريا عن ابن الأصبهاني عند مسلم (( أو يطعم ستة مساكين ، لكل مسكينين صاع )) وكذا أخرجه مسدد في مسنده عن أبي عوانة عن ابن الأصبهاني ، وللبخاري عن أبي الوليد عن شعبة عن ابن الأصبهاني (( أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع )) ثم أنه اختلفت الروايات في ذكر ما يخرج في الصدقة وفي مقدار الواجب لكل مسكين من المخرج ، فللطبراني كما قال الحافظ عن أحمد
.......................................................................................

(19/241)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن محمد الخزاعي عن أبي الوليد شيخ البخاري فيه (( لكل مسكين نصف صاع تمر )) ولمسلم وأحمد وأبي داود من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى (( أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين )) ولأحمد عن محمد بن جعفر وبهز عن شعبة نصف صاع طعام ، والمراد بالطعام هنا التمر كما صرح بذلك في عدة طريق عند أحمد وأبي داود وغيرهما ، وفي طريق لمسلم ، قال الحافظ : ولبشر بن عمر الزهراني عن شعبة ( عند الدارقطني في الغرائب ) نصف صاع حنطة ، ورواية الحكم عن ابن أبي ليلى ( عند أبي داود والبيهقي ) تقتضي أنه نصف صاع زبيب فإنه قال : يطعم فرقا من زبيب بين ستة مساكين . قال ابن حزم : لا بد من ترجيح إحدى هذه الروايات لأنها قصة واحدة في مقام واحد في حق رجل واحد . قال الحافظ : المحفوظ عن شعبة أنه قال نصف صاع من طعام ، والاختلاف عليه في كونه تمرا أو حنطة لعله من تصرف الرواة ، وأما الزبيب فلم أره إلا في رواية الحكم ، وقد أخرجها أبو داود ، وفي إسنادها ابن إسحاق وهو حجة في المغازي لا في الأحكام إذا خالف ، والمحفوظ رواية التمر فقد وقع الجزم بها عند مسلم من طريق أبي قلابة كما تقدم ، ولم يختلف فيه على أبي قلابة . وكذا أخرجه الطبري من طريق الشعبي عن كعب ، وأحمد من طريق سليمان بن قوم عن ابن الأصبهاني ، ومن طريق أشعث وداود عن الشعبي عن كعب ، وكذا في حديث عبد الله بن عمرو عند الطبراني ، وعرف بذلك قوة قول من قال : لا فرق في ذلك بين التمر والحنطة وأن الواجب ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع – انتهى . يشير بذلك إلى تضعيف ما هو محكي عن الحنفية ، ففي الدر المختار (( أو تصدق بثلاثة أصوع طعام على ستة مساكين )) قال ابن عابدين ناقلا عن القهستاني : والطعام البر بطريق الغلبة – انتهى . وقال ابن قدامة : قال الثوري وأصحاب الرأي : يجزئ من البر نصف صاع لكل مسكين ، ومن التمر والشعير صاع صاع ،

(19/242)


وإتباع السنة أولى ، وترجم البخاري (( باب الإطعام في الفدية نصف صاع )) قال الحافظ : أي لكل مسكين من كل شيء ، يشير بذلك إلى الرد على من فرق في ذلك بين القمح وغيره ، قال ابن عبد البر : قال أبو حنيفة والكوفيون : نصف صاع من قمح وصاع من تمر وغيره ، وعن أحمد رواية تضاهي قولهم ، قال عياض : وهذا الحديث يرد عليهم - انتهى . وأما رواية إسماعيل بن زكريا عن أشعث عن الشعبي عن عبد الله بن معقل عن كعب بلفظ (( لكل مسكين صاع من تمر )) فضعيفة كما قال ابن حزم (ج 7 : ص 210) هذا وقوله (( أطعم فرقا بين ستة مساكين )) يدل على أن الإطعام لستة مساكين ، وترجم البخاري (( باب قول الله : ? أو صدقة ? وهي إطعام ستة مساكين )) قال الحافظ : يشير بهذا إلى أن الصدقة في الآية مبهمة فسرتها السنة ، وبهذا قال جمهور العلماء ، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الحسن قال : الصوم عشرة أيام والصدقة على عشرة مساكين ، وروى الطبري عن عكرمة ونافع نحوه . قال ابن عبد البر : لم يقل بذلك أحد من فقهاء الأمصار - انتهى . وقال العيني : إن الإطعام لستة مساكين ولا يجزئ أقل من ستة ، وهو قول الجمهور ، وحكى عن أبي حنيفة أنه يجوز أن يدفع إلى مسكين واحد - انتهى .
أو صم ثلاثة أيام ، أو انسك نسيكة .

(19/243)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( أو صم ثلاثة أيام ) بيان لقوله تعالى ? ففدية من صيام ? قال ابن التين وغيره : جعل الشارع هنا صوم يوم معادلا بصاع ، وفي الفطر من رمضان عدل مد وكذا في الظهار والجماع في رمضان وفي كفارة اليمين بثلاثة أمداد وثلث ، وفي ذلك أقوى دليل على أن القياس لا يدخل في الحدود والتقديرات ، كذا في الفتح ، وفي الحديث دليل على أن الصوم في الفدية الواجبة بحلق الشعر ثلاثة أيام ، وقد تقدم ما روي عن الحسن أنه قال : الصيام عشرة أيام ، قال ابن كثير : هو قول غريب فيه نظر لأنه ثبت السنة في حديث كعب بن عجرة صيام ثلاثة أيام لا عشرة . وقال ابن عبد البر في الاستذكار : روي عن الحسن وعكرمة ونافع صوم عشرة أيام ولم يتابعهم أحد من العلماء على ذلك - انتهى ، هذا ولا تخصيص لصيام الفدية عند العلماء بموضع دون موضع بل يجوز له أن يصوم في أي موضع شاء بالاتفاق بين الأئمة الأربعة وغيرهم ، وأما الإطعام ففيه خلاف فذهب الشافعي إلى أن الإطعام لا يجزيه إلا في الحرم وبه قال أحمد ، قال أبو حنيفة ومالك : لا يختص ذلك بمكة ولا بالحرم فيطعم حيث شاء ( أو انسك ) بوصل الهمزة وضم السين ( نسيكة ) أي اذبح ذبيحة ، وفي رواية (( انسك شاة )) أي اذبح شاة ، والنسك يطلق على العبادة وعلى الذبح المخصوص . وقوله - صلى الله عليه وسلم - المذكور بيان لقوله تعالى : ? أو نسك ? وترجم البخاري (( باب النسك شاة )) قال الحافظ : أي النسك المذكور في الآية حيث قال : أو نسك ، وروى الطبري من طريق مغيرة عن مجاهد في آخر هذا الحديث (( فأنزل الله ? ففدية صيام أو صدقة أو نسك ? والنسك شاة )) ومن طريق محمد بن كعب القرظي عن كعب (( أمرني أن أحلق وأفتدى بشاة )) قال عياض ومن تبعه تبعا لأبي عمر : كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرا إنما ذكروا شاة وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء . قال الحافظ : يعكر عليه ما أخرجه أبو داود من

(19/244)


طريق نافع عن رجل من الأنصار عن كعب بن عجرة أنه أصابه أذى فحلق فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهدي بقرة ، وللطبراني من طريق عبد الوهاب بن بخت عن نافع عن ابن عمر قال : حلق كعب بن عجرة رأسه فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفتدي فافتدى ببقرة ، ولعبد بن حميد من طريق أبي معشر عن نافع عن ابن عمر قال : افتدى كعب من أذى كان برأسه فحلقه ببقرة قلدها وأشعرها ، ولسعيد بن منصور من طريق ابن أبي ليلى عن نافع عن سليمان بن يسار قيل لابن كعب بن عجرة : ما صنع أبوك حين أصابه الأذى في رأسه ؟ قال : ذبح بقرة ، فهذه الطرق كلها تدور على نافع . وقد اختلف عليه في الواسطة الذي بينه وبين كعب ، وقد عارضها ما هو أصح منها من أن الذي أمر به كعب وفعله في النسك إنما هو شاة ، وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميد من طريق المقبري عن أبي هريرة أن كعب بن عجرة ذبح شاة لأذى كان أصابه ، وهذا أصوب من الذي قبله ، واعتمد ابن بطال على رواية نافع عن سليمان بن يسار فقال : أخذ كعب بأرفع الكفارات ولم يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أمره به من ذبح الشاة بل وافق
..............................................................................................

(19/245)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وزاد ففيه أن من أفتى بأيسر الأشياء فله أن يأخذ بأرفعها كما فعل كعب . وقال الحافظ : هو فرع ثبوت الحديث ولم يثبت بما قدمته - انتهى . وقال الحافظ العراقي : لفظ بقرة شاذ منكر ، هذا واختلفت الروايات فيما افتدى به كعب بن عجرة ، قال الحافظ بعد ذكر رواية أبي الزبير عن مجاهد عند الطبراني بلفظ (( ما أجد هديا ؟ قال : فأطعم ، قال : ما أجد ؟ قال : صم )) ما نصه : عرف من رواية أبي الزبير أن كعبا افتدى بالصيام ، ووقع في رواية ابن إسحاق ما يشعر بأنه افتدى بالذبح لأن لفظه صم أو أطعم أو انسك شاة ، قال : فحلقت رأسي ونسكت . وروى الطبراني من طريق ضعيفة عن عطاء عن كعب في آخر هذا الحديث ، فقلت : يا رسول الله : خر لي قال . أطعم ستة مساكين - انتهى . كذا ذكر الحافظ ولم يجزم بشيء من الثلاثة ، لكن في كلامه السابق الإشارة إلى أن الذي فعله كعب إنما هو الافتداء بذبح الشاة حيث قال بعد ذكر رواية البقرة : وقد عارضها ما هو أصح منها من أن الذي أمر به كعب وفعله في النسك إنما هو شاة وتقدم أن ابن بطال اعتمد على رواية افتدائه بالبقرة ، وتعقبه الحافظ بأن ذلك لم يثبت ، ورواية أبي داود من طريق الحكم عن ابن أبي ليلى بلفظ : فحلقت رأسي ثم نسكت . تدل على أنه افتدى بالذبح وهي تؤيد رواية ابن إسحاق ، لكن يأباه حديث الشعبي عن كعب عند أبي داود أيضا ، قال - صلى الله عليه وسلم - : أمعك دم ؟ قال : لا ، قال : فصم ثلاثة أيام أو تصدق . وجمع بينهما بأنه يحتمل أنه لم يكن واجدا للشاة حين سأله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم بعد ذلك حصلت له فذبحها ، قال الزرقاني : يحتمل أنه وجدها بعد ما أخبر أنه لا يجدها فنسك بها ، وأما ما أخرجه ابن عبد البر أنه قال : فحلقت وصمت ، فإما أنها رواية شاذة أو أنه فعل الصوم أيضا باجتهاده ، واختلف العلماء في موضع ذبح فدية الأذى فقال مالك وأحمد : يذبح حيث شاء

(19/246)


ولا يختص ذلك بمكة ولا بالحرم ، وقال الشافعي وأبو حنيفة يختص بالحرم . قال العيني : احتج بعموم الحديث مالك على أن الفدية يفعلها حيث يشاء سواء في ذلك الصيام والإطعام والكفارة لأنه لم يعين له موضعا للذبح أو الإطعام ولا يجوز تأخير البيان عن وقت البيان ، وقد اتفق العلماء في الصوم أن له أن يفعله حيث شاء لا يختص ذلك بمكة ولا بالحرم ، وأما النسك والإطعام فجوزهما مالك أيضا كالصوم ، وخصص الشافعي ذلك بمكة أو بالحرم ، واختلف فيه قول أبي حنيفة فقال مرة : يختص بذلك الدم دون الإطعام ، وقال مرة : يختصان جميعا بذلك . وقال هشيم : أخبرنا ليث عن طاوس أنه كان يقول : ما كان من دم أو إطعام فبمكة ، وما كان من صيام فحيث شاء ، وكذا قال عطاء ومجاهد والحسن - انتهى . وقال الخرقي : كل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم إن قدر على إيصاله إليهم إلا من أصابه أذى من رأسه فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه ، قال ابن قدامة : أما فدية الأذى فتجوز في الموضع الذي حلق فيه نص عليه أحمد ، وقال الشافعي : لا يجوز إلا في الحرم لقوله تعالى ? ثم محلها إلى البيت العتيق ? ( سورة الحج ، الآية 33) ولنا أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية ولم يأمر ببعثه إلى الحرم ، وروى الأثرم وإسحاق والجوزجاني في كتابيهما
...............................................................................................

(19/247)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر قال : كنت مع عثمان وعلي وحسين بن على رضي الله عنهم حجاجا فاشتكى حسين بن علي بالسقيا فأومأ بيده إلى رأسه فحلقه علي ونحر عنه جزورا بالسقيا ، هذا لفظ رواية الأثرم ولم يعرف لهم مخالف ، والآية وردت في الهدي ، وظاهر كلام الخرقي اختصاص ذلك بفدية الشعر ، وما عداه من الدماء فبمكة ، وقال القاضي في الدماء الواجبة بفعل محظور كاللباس والطيب هي كدم الحلق ، وفي الجميع روايتان إحدهما يفدي حيث وجد سببه والثانية محل الجميع الحرم ، وأما جزاء الصيد فهو لمساكين الحرم نص عليه أحمد ، إلى آخر ما قال . وقال الدردير : لم يختص النسك بمعنى الفدية بأنواعها الثلاثة ( شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام ) بزمان كأيام منى أو بمكان كمكة أو منى بخلاف الهدي فإنه يختص بهما إلا أن ينوي بالذبح الهدي بأن يقلد أو يشعر ، والمعتمد أن مجرد النية كاف فحكمه حكم الهدي في الاختصاص بمنى أو مكة – انتهى . وفي الهداية الصوم يجزيه في أي موضع شاء لأنه عبادة في كل مكان ، وكذلك الصدقة عندنا ، وأما النسك فيختص بالحرم لأن الإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان ، وهذا الدم لا يختص بزمان فتعين اختصاصه بالمكان – انتهى . قال الحافظ : واحتج ( للمالكية ) القرطبي بقوله في حديث كعب (( أو اذبح نسكا )) قال : فهذا يدل على أنه ليس بهدي ، قال : فعلى هذا يجوز أن يذبحها حث شاء ، قلت : ( قائله الحافظ ) : لا دلالة فيه إذ لا يلزم من تسميتها نسكا أو نسيكة أن لا تسمى هديا أو لا تعطي حكم الهدي ، وقد وقع تسميتها هديا في رواية للبخاري حيث قال : أو تهدي شاة ، وفي رواية مسلم (( واهد هديا )) وفي رواية للطبري (( هل لك هدي ؟ قلت : لا أجد )) فظهر أن ذلك من تصرف الرواة ، ويؤيده قوله في رواية مسلم (( أو اذبح شاة )) واستدل به على أن الفدية لا يتعين لها مكان ، وبه

(19/248)


قال أكثر التابعين ، وقال الحسن : تتعين مكة ، وقال مجاهد : النسك بمكة ومنى ، والإطعام بمكة ، والصيام حيث شاء ، وقريب منه قول الشافعي وأبي حنيفة : الدم والإطعام لأهل الحرم والصيام حيث شاء إذ لا منفعة فيه لأهل الحرم ، وألحق بعض أصحاب أبي حنيفة وأبو بكر بن الجهم من المالكية الإطعام بالصيام – انتهى . والأظهر عندنا في النسك والصدقة أيضا أن له أن يفعلهما حيث شاء ، لأن فدية الأذى أشبه بالكفارة منها بالهدي ، ولأن الله لم يذكر للفدية محلا معينا ولم يذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماها نسكا ، والله أعلم ، هذا وقد تقدم أن الحديث تفسير لقوله تعالى : ? فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ? وسياق الحديث موافق للآية و (( أو )) فيهما للتخيير ، وقد ترجم البخاري في الحج من صحيحه بالآية وقال بعد ذكرها : وهو مخير والصيام ثلاثة أيام . قال الحافظ : قوله (( مخير )) من كلام المصنف ، استفاده من أو المكررة ، وقد أشار إلى ذلك في أول باب كفارات الأيمان ، فقال : وقد خير النبي - صلى الله عليه وسلم - كعبا في الفدية ، ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة : ما كان في القرآن أو فصاحبه بالخيار ، قال الحافظ : وأقرب ما وقفت عليه من طريق حديث الباب إلى التصريح ما أخرجه أبو داود من طريق الشعبي
..............................................................................................

(19/249)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : إن شئت فانسك نسيكة ، وإن شئت فصم ثلاثة أيام ، وإن شئت فأطعم – الحديث . وفي رواية مالك في الموطأ عن عبد الكريم بإسناده في آخر الحديث (( أي ذلك فعلت أجزأ )) . قال الحافظ : لكن رواية عبد الله بن معقل عند الشيخين تقتضي أن التخيير إنما هو بين الإطعام والصيام لمن لم يجد النسك ، ولفظه عند البخاري قال : أتجد شاة ؟ قال : لا ، قال : فصم أو أطعم ، ولأبي داود في رواية أخرى : أمعك دم ؟ قال : لا ، قال : فإن شئت فصم )) ونحوه للطبراني من طريق عطاء عن كعب ، ووافقهم أبو الزبير عن مجاهد عند الطبراني ، وزاد بعد قوله (( ما أجد هديا )) قال : فأطعم . قال : ما أجد . قال : فصم ، ولهذا قال أبو عوانة في صحيحه : فيه دليل على أن من وجد نسكا لا يصوم يعني ولا يطعم لكن لا أعرف من قال بذلك من العلماء إلا ما رواه الطبري وغيره عن سعيد بن جبير (( قال : النسك شاة ، فإن لم يجد قومت الشاة دراهم ، والدراهم طعاما فتصدق به أو صام لكل نصف صاع يوما )) أخرجه من طريق الأعمش عنه ، قال : فذكرته لإبراهيم فقال : (( سمعت علقمة مثله )) فحينئذ يحتاج إلى الجمع بين الروايتين وقد جمع بينهما بأوجه ، منها : ما قال ابن عبد البر : إن فيه الإشارة إلى ترجيح الترتيب لا لإيجابه ، ومنها ما قال النووي : ليس المراد أن الصيام أو الإطعام لا يجزئ إلا لفاقد الهدي بل المراد أنه استخبره هل معه هدي أو لا ، فإن كان واجده أعلمه أنه مخير بينه وبين الصيام والإطعام وإن لم يجده أعلمه أه مخير بينهما ، ومحصله أنه لا يلزم من سؤاله عن وجدان الذبح تعيينه لاحتمال أنه لو أعلمه أنه يجده لأخبره بالتخيير بينه وبين الإطعام والصوم . ومنها : ما قال غيرهما : يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أذن له في حلق رأسه بسبب الأذى أفتاه بأن يكفر

(19/250)


بالذبح على سبيل الاجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم - أو بوحي غير متلو فلما أعلمه أنه لا يجد نزلت الآية بالتخيير بين الذبح والإطعام والصوم فخيره حينئذ بين الصيام والإطعام لعلمه بأنه لا ذبح معه فصام لكونه لم يكن معه ما يطعمه ، ويوضح ذلك رواية مسلم في حديث عبد الله بن معقل المذكور حيث قال : أتجد شاة ؟ قلت : لا ، فنزلت هذه الآية (( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك )) فقال : فصم ثلاثة أيام أو أطعم ، وفي رواية عطاء الخراساني قال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين ، قال : وكان قد علم أنه ليس عندي ما أنسك به ، ونحوه في رواية محمد بن كعب القرظي عن كعب ، وسياق الآية يشعر بتقديم الصيام على غيره ، وليس ذلك لكونه أفضل في هذا المقام من غيره بل السر فيه أن الصحابة الذين خوطبوا شفاها بذلك كان أكثرهم يقدر على الصيام أكثر مما يقدر على الذبح أو الإطعام – انتهى كلام الحافظ . ثم إن التخيير في الفدية بأنواعها الثلاثة هل يختص بالعذر والضرورة أو يعم ، وأن الفدية المذكورة تختص بالحلق أو تعم الحلق وغيره من محرمات الإحرام كاللبس والتطيب ؟ وهل تختص بالعمد أو تعم العمد والخطأ والنسيان ؟ وما هو حكم بعض شعر الرأس وحكم شعر الجسد غير الرأس ؟ العلماء مختلفون في ذلك كله من أراد الوقوف على مذاهبهم ومستندات
متفق عليه .
( الفصل الثاني )
2714 – (12) عن ابن عمر ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين ، والنقاب ، وما مس الورس والزعفران من الثياب ، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معصفر

(19/251)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أقوالهم فليرجع إلى العيني (ج 10 : ص 152) والمغني (ج 3 : ص 492، 493 ،494 ) وأضواء البيان (ج 5 : ص 360 إلى 400) وفي الحديث من الفوائد أن السنة مبينة لمجمل الكتاب لإطلاق الفدية في القرآن وتقييدها بالسنة وتحريم حلق الرأس على المحرم والرخصة له في حلقها إذا آذاه القمل أو غيره من الأوجاع مع الكفارة المذكورة ، وأن النسك ها هنا شاة ، فلو تبرع بأكثر من هذا جاز ، وفيه تلطف الكبير بأصحابه وعنايته بأحوالهم وتفقده لهم ، وإذا رأى ببعض أصحابه ضررا سأل عنه وأرشده إلى المخرج منه ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج والمغازي والتفسير والمرضى والطب والنذور ، ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا مالك فيه ، وأحمد (ج 4 : ص 241 ، 242 ، 243 ، 244) والترمذي في الحج وفي التفسير وأبو داود والنسائي وابن ماجة في الحج ، وأخرجه أيضا الشافعي وابن الجارود والحميدي والبيهقي وغيرهم .

(19/252)


2714- قوله ( عن ابن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين ) أي عن لبسهما في أيديهن ( والنقاب ) أي البرقع في وجوههن بحيث يماس بشرتهن ، فيه دليل على منع المحرمة من لبس القفازين والنقاب ، وهو الحق والصواب ، وقد تقدم الكلام في ذلك ( وما مس ) أي وعما صبغه ( الورس والزعفران من الثياب ) تقدم الكلام في ذلك أيضا ( ولتلبس ) قال الطيبي كأنه قال سمعته يقول : لا تلبس النساء القفازين والنقاب ولتلبس ( بعد ذلك أي ما ذكر ( ما أحبت من ألوان الثياب ) أي أنواعها وأصنافها ( معصفر ) بالجر على أنه بدل من ألوان الثياب أي المصبوغ بالعصفر وهو بضم عين وسكون صاد مهملتين فضم فاء آخره راء ، يقال له بالهندية (( كسم وكسنبة )) قلت : قوله (( معصفر )) كذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح ، وفي أبي داود (( معصفرا )) بالنصب وهكذا ذكر المجد في المنتقى والنووي في شرح المهذب والحافظ في التخليص والبيهقي في السنن والزيلعي في نصب الراية ، وفي المستدرك للحاكم (( من معصفر )) أي بزيادة (( من )) وكذا في جامع الأصول وفي الحديث دلالة على لبس الثوب المعصفر للمحرمة وإليه ذهب الشافعي وأحمد وكرهه مالك إذا كان ينتفض ، ومنع منه الثوري وأبو حنيفة . قال الخرقي : لا بأس بما صبغ بالعصفر . قال ابن قدامة : إن العصفر ليس بطيب ولا بأس باستعماله وشمه ولا بما صبغ به ، وهذا قول جابر وابن عمر وعبد الله بن جعفر وعقيل بن أبي طالب وهو مذهب الشافعي ، وعن عائشة وأسماء وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهن كن يحرمن في المعصفرات
أوخز أو حلي أو سروايل أو قميص أو خف . رواه أبو داود .

(19/253)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكرهه مالك إذا ينتفض في بدنه ولم يوجب فيه فدية ، ومنع منه الثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وشبهوه بالمورس والمزعفر لأنه صبغ طيب الرائحة فأشبه ذلك . قال : ولنا ما روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب – الحديث . وروى الإمام أحمد في المناسك بإسناده عن عائشة بنت سعد قالت : كنا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - نحرم في المعصفرات ، ولأن قول سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا ، ولأنه ليس بطيب فلم يكره ما صبغ به كالسواد والمصبوغ بالمغرة ، وأما الورس والزعفران فإنه طيب بخلاف مسألتنا – انتهى . وقال الشنقيطي : الأظهر أن العصفر ليس بطيب مع أنه لا يجوز لبس المحرم ولا غيره للمعصفر ، وقد تقدم حديث ابن عمر عند أبي داود يريد حديثه الذي نحن في شرحه ، قال : وهو صريح في أن العصفر ليس بطيب ، وعن ابن عباس قال : (( كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يختضبن بالحناء وهن محرمات ويلبسن المعصفر وهن محرمات )) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ، وقال : رواه الطبراني في الكبير وفيه يعقوب بن عطاء وثقه ابن حبان وضعفه جماعة ، وأما ما ورد من منع لبس المعصفر مطلقا فهو محمول على الرجال فلا يجوز لهم لبس المعصفر في الإحرام ولا في غير الإحرام ، وأما النساء فيجوز لهن مطلقا . وأجاب الحنفية عن حديث ابن عمر هذا بأوجه : منها أنه محمول على معصفر مغسول لا يوجد منه رائحة ، ومنها أن المراد بالمعصفر في الحديث ما يصبغ بالطين الأرمني كذا ذكره القاري ، ولا يخفى ما فيه ، ونحوه ما ذكره في البدائع أن المراد بالمعصفر المصبوغ بمثل العصفور كالمغرة ونحوها ، ومنها ما قال ابن الهمام أن مبنى الخلاف على أن العصفر طيب الرائحة أم لا ؟ فقلنا : نعم . فلا يجوز ، قال : والنص المذكور ورد بمنع المورس وهو دون

(19/254)


المعصفر في الرائحة فيمنع المعصفر بطريق أولى ، قال : والجواب المحقق من حديث ابن عمر إن شاء الله أن نقول : ولتلبس بعد ذلك ، إلخ . مدرج فإن المرفوع صريحا هو قوله : سمعته ينهى عن كذا ، وقوله (( ولتلبس بعد ذلك )) ليس من متعلقاته ، ولا يصح جعله عطفا على نهى لكمال الانفصال بين الخبر والإنشاء فكان الظاهر أنه مستأنف من كلام ابن عمر فتخلو تلك الدلالة عن المعارض الصريح أعني منطوق المورس ومفهومه الموافق فيجب العمل به – انتهى . وقد تقدم الجواب عن ذلك في كلام الطيبي والشنقيطي فتأمل ( أو خز ) بفتح الخاء المعجمة والزاي المشددة ، ثوب من إبريسم وصوف ، وفي المغرب : الخز اسم دابة سمى المتخذ من وبرها خزا ( أو حلي ) بفتح الحاء وإسكان اللام وبضم الحاء مع كسر اللام وتشديد الياء جمع حلي بالفتح ، وهو ما تتحلى به المرأة من جلجل وسوار وخرص وتتزين به من ذهب أو فضة أو غيرهما من المعدنيات أو الحجارة الثمينة ، قال الطيبي : جعل الحلي من الثياب تغليبا أو أدخل في الثياب مجازا لعلاقة إطلاق اللبس عليه في قوله تعالى : ? وتستخرجون منه حلية تلبسونها ? (سورة النحل ، الآية 14) ( رواه أبو داود وأخرجه أيضا الحاكم (ج 1 : ص 486) والبيهقي (ج 5 : ص 52) وأخرجه أحمد (ج 2 : ص 22) إلى قوله (( من
2715- (13) وعن عائشة ، قالت : كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرمات ، فإذا جازوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه .

(19/255)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الثياب )) وفي سنده عندهم جميعا محمد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث ، فالحديث حسن وقد سكت عنه أبو داود والحافظ في الفتح والتلخيص ، وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، وقرره الذهبي ، وقال النووي في شرح المهذب : رواه أبو داود بإسناد حسن وهو من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي ، إلا أنه قال حدثني نافع عن ابن عمر ، وأكثر ما أنكر على ابن إسحاق التدليس وإذا قال المدلس (( حدثني )) أحتج به على المذهب الصحيح المشهور – انتهى .

(19/256)


2715- قوله ( كان الركبان ) بضم الراء جمع الراكب ( يمرون بنا ) أي علينا معشر النساء ( محرمات ) بالرفع على الخبرية أي مكشوفات الوجوه ( فإذا جازوا بنا ) كذا في بعض نسخ المشكاه ، وهكذا وقع في السنن للبيهقي ، وهو من الجواز بمعنى المرور أي مروا علينا وفي بعض النسخ (( جاوزوا بنا )) من المجاوزة ، وهكذا وقع في جامع الأصول ، أي أرادوا المجاوزة والمرور بنا ولفظ أبي داود (( حاذوا بنا )) بفتح الذال من المحاذاة بمعنى المقابلة ، وهكذا وقع في مسند أحمد وفي القرى للطبري والمنتقي للمجد ، وفي بعض نسخ أبي داود (( حاذونا )) وهكذا وقع في نسخة معالم السنن وفي السيل الجرار والمغني والتلخيص والمصابيح وهو الأظهر ( سدلت ) أي أرسلت ( جلبابها ) بكسر الجيم أي ملحفتها وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة إذا خرجت لحاجة ، وقال الطبري : الجلباب هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها ، وجمعه جلايب وقد يطلق على الإزار والملحفة ( فإذا جاوزونا ) أي تعدوا عنا وتقدموا علينا ( كشفناه ) أي أزلنا الجلباب ، قال القاري : ولو جعل الضمير إلى الوجه لقرينة المقام فله وجه ، والمعنى أنهن كن يسترن وجوههن إذا مر عليهن الرجال بجلابيبهن ، فإذا أبعدوا عنهن كشفن وجوههن ، وفي الحديث الرخصة للمرأة في ستر وجهها للحاجة كما فعلت عائشة ومن معها من النسوة وهن محرمات عند مرور الرجال عليهن . قال الخطابي : قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى المحرمة عن النقاب فأما سدل الثوب على وجهها من رأسها فقد رخص فيه غير واحد من الفقهاء ومنعوها أن تلف الثوب أو الخمار على وجهها أو تشد النقاب أو تتلثم أو تتبرقع ، وممن قال بأن للمرأة أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها عطاء ومالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق ، وهو قول محمد بن الحسن وقد علق الشافعي القول فيه أي على صحته – انتهى . وقال الشوكاني : استدل بهذا الحديث على أنه يجوز

(19/257)


للمرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها بمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره مطلقا كالعورة لكن إذا سدلت يكون الثوب متجافيا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة ، هكذا قال أصحاب الشافعي وغيرهم ، وظاهر الحديث خلافه لأن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة ، فلو كان التجافي شرطا لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -
رواه أبو داود ، ولابن ماجة معناه .
2716- (14) وعن ابن عمر ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدهن بالزيت وهو محرم غير المقتت يعني غير المطيب.

(19/258)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ انتهى . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 326) : إذا احتاجت المرأة إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها ، روى ذلك عن عثمان وعائشة ، وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وإسحاق ومحمد بن الحسن ، ولا نعلم فيه خلافا ، وذلك لحديث عائشة عند أبي داود والأثرم فذكر حديثها الذي نحن في شرحه قال : ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره على الإطلاق كالعورة ، وذكر القاضي أن الثوب يكون متجافيا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة ، فإن أصابها ثم زال أو أزالته بسرعة فلا شيء عليها كما لو أطارت الريح الثوب عن عورة المصلى ثم عاد بسرعة لا تبطل الصلاة ، فإن لم ترفعه مع القدرة افتدت لأنها استدامت الستر ، ولم أر هذا الشرط عن أحمد ولا هو في الخبر مع أن الظاهر خلافه فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة ، فلو كان هذا شرطا لبين ، وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يعد لستر الوجه . قال أحمد : أنما لها أن تسدل على وجهها من فوق وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل ، كأنه يقول إن النقاب من أسفل على وجهها – انتهى ( رواه أبو داود ) أي بهذا اللفظ وأخرجه أيضا أحمد (ج 6 : ص 30) والبيهقي وابن خزيمة كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة ، وقد سكت عنه أبو داود ، وقال المنذري : ذكر شعبة ويحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين أن مجاهدا لم يسمع من عائشة ، وقال أبو حاتم الرازي : مجاهد عن عائشة مرسل ، وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث مجاهد عن عائشة أحاديث ، وفيها ما هو ظاهر في سماعه منها وفي إسناده يزيد بن أبي زياد ، وقد تكلم فيه غير واحد ، وأخرج له مسلم في جماعة غير محتج به _ انتهى . وقال الحافظ في التخليص : وقال ابن خزيمة : في القلب من يزيد بن أبي زياد ، ولكن ورد من وجه آخر من طريق ثم أحرج من

(19/259)


طريق فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر وهي جدتها نحوه ، وصححه الحاكم ، وقال في الفتح بعد ذكر حديث عائشة : أخرجه ابن المنذر من طريق مجاهد عنها ، وفي إسناده ضعف . وقال الشوكاني : يزيد بن أبي زياد المذكور قد أخرج له مسلم أي مقرونا . في الخلاصة عن الذهبي أنه صدوق رديء الحفظ ، قلت : وقال ابن معين : ضعيف الحديث لا يحتج بحديث ، وقال أبو داود : لا أعلم أحدا ترك حديثه وغيره أحب إلى منه ، كذا في تهذيب الحافظ .
2716- قوله ( كان يدهن ) بتشديد الدال ( غير المقتت ) بقاف وتائين مثناتين فوقيتين الأولى مشددة من التقتيت حال من الزيت أو صفة له ، وهو الذي يطبخ فيه الرياحين حتى يطيب ريحه ، قال في القاموس زيت مقتت ، طبخ فيه الرياحين أو خلط بأدهان طيبة – انتهى ( يعنى ) هو كلام بعض الرواة يعنى يريد ابن عمر بغير المقتت ( غير المطيب )
...............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/260)


وفي الحديث دلالة على جواز الإدهان بالزيت الذي لم يخلط بشيء من الطيب ، لكن الحديث ضعيف كما ستعرف ، ويستدل بمفهومه على أنه لو كان مطيبا لم يجز الإدهان به قال ابن المنذر : أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن والشيرج وأن يستعمل ذلك في جميع بدنه سوى رأسه ولحيته . قال : وأجمعوا على أن الطيب لا يجوز استعماله في بدنه ففرقوا بين الطيب والزيت في هذا . قال الحافظ : فقياس كون المحرم ممنوعا من استعمال الطيب في رأسه أن يباح له استعمال الزيت في رأسه – انتهى . قلت : في نقل الإجماع على جواز استعمال الزيت ونحوه في جميع البدن نظر ، فكلام الحنفية والمالكية يدل على أن الإدهان ممنوع عندهم ، ففي الهداية : ولا يمس طيبا لقوله عليه السلام : الحاج الشعث التفل ، وكذا لا يدهن لما روينا – انتهى . قال ابن الهمام : والشعث انتشار الشعر وتغيره لعدم تعهده ، فأفاد منع الإدهان – انتهى . وقال القاري في شرح المناسك : إن ادهن بدهن غير مطيب كالزيت الخالص وأكثر منه فعليه دم عند أبي حنيفة وصدقة عندهما ، وروي عنه مثل قولهما وإن استقل منه فعليه صدقة اتفاقا ، هذا إذا استعمله على وجه الطيب ، أما إذا استعمله على وجه التداوي أو الأكل فلا شيء عليه اتفاقا . ولو ادهن بسمن أو شحم أو ألية أو أكله فلا شيء عليه ، ولا فرق بين الشعر والجسد في الدهن – انتهى . وفي البدائع : لو ادهن بدهن فإن كان الدهن مطيبا فعليه دم إذا بلع عضوا كاملا ، وإن كان غير مطيب بأن ادهن بزيت فعليه دم في قول أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد عليه صدقة ولو داوى بالزيت جرحه أو شقوق رجليه فلا كفارة عليه لأنه ليس بطيب بنفسه . وإن كان أصل الطيب لكنه ما استعمله على وجه الطيب فلا يجب به الكفارة بخلاف ما إذا تداوى بالطيب أنه تجب به الكفارة لأنه طيب في نفسه فيستوي فيه استعماله للتطيب أو لغيره ، وإن ادهن بشحم أو سمن فلا شيء عليه لأنه ليس بطيب

(19/261)


في نفسه ، ولا أصل للطيب بدليل أنه لا يطيب بإلقاء الطيب فيه ولا يصير طيبا بوجه ، وقد قال أصحابنا : إن الأشياء التي تستعمل في البدن على ثلاثة أنواع : نوع هو طيب محض معد للتطيب كالمسك ونحوه فتجب به الكفارة على أي وجه استعمل حتى قالوا لو داوى عينه بطيب تجب عليه الكفارة ، ونوع ليس بطيب بنفسه وليس فيه معنى الطيب ولا يصير طيبا بوجه كالشحم فسواء أكل أو ادهن به أو جعل في شقوق الرجل لا تحب الكفارة ، ونوع ليس بطيب بنفسه لكنه أهل الطيب يستعمل على وجه الطيب ويستعمل على وجه الإدام كالزيت والشيرج فيعتبر فيه الاستعمال ، فإن استعمل استعامل الإدهان في البدن يعطى له الحكم الطيب ، وإن استعمل في مأكول أو شقاق رجل لا يعطى له الحكم الطيب كالشحم – انتهى . وقال في اللباب : لا فرق بين الشعر والجسد في الدهن . وقال الباجي : الإدهان بعد الإحرام وقبل وجود شيء من التحلل ممنوع بدهن مطيب وغير مطيب ، وروى ابن حبيب عن الليث إباحة ذلك بكل ما يجوز له أكله من الأدهان ، وقال : أنه قول عمر وعلي ، فإن فعل شيئا من ذلك فقد روى ابن حبيب عن مالك أن عليه الفدية ، واختار ابن حبيب أن لا فدية
.......................................................................................

(19/262)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه – انتهى . وقال في موضع آخر : استعمال الدهن الذي ليس بمطيب يكون في ثلاثة مواضع : أحدهما أن يستعمله في باطن جسده بأن لا يظهر منه كتقطيره في الأذن والاستسعاط به والمضمضة فإن هذا كله جائز للمحرم أن يفعله ولا شيء عليه فيه لأنه بمنزلة أكله وهو الذي ذكره مالك في الموطأ ( في باب ما يجوز للمحرم أن يفعله ) والثاني أن يستعمله في ظاهر بدنه غير باطن يديه وقدميه، فإن فعل فهذا ممنوع ، وعليه الفدية عند مالك وجميع أصحابه . قال ابن حبيب : وقد روى إباحة ذلك ، وبه أخذ الليث . وجه قول مالك أنه إزالة شعث لأنه مما يفعل للجمال والتنظف ، وإن دهن بطون قدميه أو يديه لشقوق بهما فلا بأس بذلك ، وإن فعل ذلك لغير علة فعليه الفدية ، ووجه ذلك أنهما ظاهران ظهور سائر الأعضاء فإذا لم يقصد بدهنهما دفع مضرة فلا غرض في ذلك غير تحسين ظاهر الجسد وإزالة الشعث فوجبت بذلك الفدية ، وإن قصد بذلك دفع المضرة أو القوة على العمل فلا فدية في ذلك لأنهما وإن ظهرا فإنهما باطنان من ظاهر الجسد ويختصان بالعمل وبذلك فارقا سائر الأعضاء من الجسد – انتهى . وقال النووي في المناسك : أما الأدهان فضربان دهن هو طيب ، ودهن ليس بطيب كالزيت والشيرج والسمن فلا يحرم الإدهان به في غير الرأس واللحية ، وأما ما هو طيب كدهن الورد والبنفسج فيحرم استعماله في جميع البدن والثياب ، ثم قال في مبحث شعر الرأس واللحية : يحرم عليه دهنهما بكل دهن سواء كان مطيبا أو غير مطيب كالزيت ودهن الجوز واللوز ولو دهن الأقرع رأسه بهذا الدهن فلا بأس به . وكذا لو دهن الأمرد ذقنه فلا بأس ، ولو دهن محلوق الشعر رأسه عصى على الأصح ولزمه الفدية ( بناء على أن الشعر إن نبت جمله ذلك الدهن الذي جعل عليه وهو محلوق ، والوجه الثاني لا فدية ، لأنه لا يزول به شعث ، واختاره المزني وغيره ) وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 322) : أما المطيب من

(19/263)


الأدهان كدهن الورد والبنفسج فليس في تحريم الإدهان به خلاف في المذهب ، وأما ما لا طيب فيه كالزيت والشيرج والسمن والشحم ودهن ألبان الساذج فقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسئل عن المحرم يدهن بالزيت والشيرج ؟ فقال : نعم يدهن به إذا احتاج إليه ويتداوى المحرم . قال ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن للمحرم أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن ، ونقل الأثرم جواز ذلك عن ابن عباس وأبي ذر والأسود بن يزيد ، ونقل أبو داود عن أحمد أنه قال : الزيت الذي يؤكل لا يدهن المحرم به رأسه ، فظاهر أنه لا يدهن رأسه بشيء من الأدهان ، وهو قول عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ، لأنه يزيل الشعث ويسكن الشعر ، فأما دهن سائر البدن فلا نعلم عن أحمد فيه منعا وقد ذكرنا إجماع أهل العلم على إباحته في اليدين (1) ، وإنما الكراهة في الرأس خاصة لأنه محل الشعر . وقال القاضي في إباحته في جميع البدن روايتان ، فإن فعله فلا فدية فيه في ظاهر كلام أحمد سواء دهن رأسه أو غيره إلا أن
رواه الترمذي .
( الفصل الثالث )
2717 – (15) عن نافع ، أن ابن عمر وجد القر ، فقال : ألق علي
__________
(1) كهذا في الأصل ، والظاهر عندي ( البدن ) .

(19/264)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يكون مطيبا . وقد روي عن ابن عمر أنه صدع وهو محرم فقالوا : ألا ندهنك بالسمن ؟ فقال : لا . قالوا : أليس تأكله ؟ قال : ليس أكله كالإدهان به وقال الذين منعوا من دهن الرأس : فيه الفدية لأنه مزيل للشعث أشبه ما لو كان مطيبا ، ولنا أن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولا دليل فيه من نص ولا إجماع ، ولا يصح قياسه على الطيب فإن الطيب يوجب الفدية وإن لم يزل شعثا ، ويستوي فيه الرأس وغيره والدهن بخلافه – انتهى . قلت : احتج الشافعية لما ذهبوا إليه من جواز دهن جميع البدن غير الرأس واللحية بالزيت والسمن ونحوهما مما ليس بطيب بحديث ابن عمر . وأجاب الحنفية ومن وافقهم عنه بأوجه ، منها أن الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج كما ستعرف ، ومنها أن الصحيح أنه موقوف ليس بمرفوع ، كذا قيل ، ومنها أنه اختلف فيه على سعيد بن جبير فقيل عن ابن عباس مكان ابن عمر كما في السنن للبيهقي ، ومنها أنه على تقدير صحة الاحتجاج به فظاهره عدم الفرق بين الرأس واللحية وبين سائر البدن لأن الإدهان فيه مطلق غير مقيد بما سوى الرأس واللحية ، ومنها أن الحديث محمول على حال الضرورة لأنه - صلى الله عليه وسلم - كما كان لا يفعل ما يوجب الدم كان لا يفعل ما يوجب الصدقة ، ثم ليس فيه أنه لم يكفر فيحتمل أنه فعل وكفر فلا يكون حجة ، ومنها أنه يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - ادهن قبل الإحرام وبقي أثره بعد الإحرام ويؤيده ما وقع في رواية لأحمد (ج 2 : ص 25 ، 59) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدهن عند الإحرام بالزيت غير المقتت ( راوه الترمذي ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 25 ، 29 ، 59 ، 72 ، 145) وابن ماجة والبيهقي (ج 5 : ص 58) كلهم من طريق فرقد السبخي عن سعيد بن جبير عن ابن عمر ، وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث فرقد السبخي عن سعيد بن جبير ، وقد تكلم يحيى بن سعيد في فرقد

(19/265)


السبخي ، وروى عنه الناس – انتهى . قلت : قال الحافظ في التقريب : فرقد بن يعقوب السبخي بفتح المهملة والموحدة وبخاء معجمة أبو يعقوب البصري صدوق عابد لكنه لين الحديث كثير الخطأ ، وقال الذهبي في الميزان : قال أبو حاتم : ليس بقوي ، وقال ابن معين : ثقة ، وقال البخاري : في حديثه مناكير ، وقال النسائي : ليس بثقة ، وقال أيضا هو والدارقطني : ضعيف ، وقال يحيى القطان : ما يعجبنا الرواية عن فرقد – انتهى . وقال في ترجمة محمد بن يونس القرشي الشامي نقلا عن ابن حبان : فقد السبخي : ليس بشيء .
2717 – قوله ( القر ) بضم القاف وتشديد الراء ، أي البرد ، يقال قر اليوم قرا بالفتح برد ، والاسم القر بالضم فهو قر بالفتح تسمية بالمصدر ، وقار على الأصل أي بارد ، وليلة قرة وقارة ( ألق ) أمر من الإلقاء أي اطرح ( علي ) بتشديد
ثوبا يا نافع ! فألقيت عليه برنسا ، فقال : تلقي علي هذا وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلبسه المحرم . رواه أبو داود .
2718 - (16) وعن عبد الله بن مالك بن بحينة ، قال : احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم بلحي جمل من طريق مكة في وسط رأسه . متفق عليه .

(19/266)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الياء ( برنسا ) تقدم ضبطه ومعناه ( تلقي علي ) بحذف الاستفهام الإنكاري ( هذا ) أي الثوب المخيط ( وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلبسه المحرم ) قال القاري : فجعل طرحه عليه لبسا ، ومذهبنا أنه يحرم على المحرم لبس المخيط وتغطية بعض الأعضاء بالمخيط وغيره على الوجه المعتاد ، والمخيط الملبوس المعمول على قدر البدن أو قدر عضو منه بحيث يحيط به سواء بخياطة أو نسج أو لصق أو غير ذلك ، وتفسير لبس المخيط على الوجه المعتاد أن لا يحتاج في حفظه إلى تكلف عند الاشتغال بالعمل ، وضده أن يحتاج إليه ، قال : ولعل ابن عمر كره ذلك للتشبه بالمخيط ، وأطلق اللبس على الطرح مجازا ، ويمكن أنه ألقي عليه على وجه غطى رأسه ووجهه فأنكر عليه فعلى هذا معنى كلامه أتلقي هذا الإلقاء والحال أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى المحرم عن ستر الرأس وتغطيته – انتهى . وقال في اللمعات : لعل مذهب ابن عمر اجتناب المخيط مطلقا أو فعله احتياطا ، وإلا فالمراد النهي عن لبس المخيط على وجه يتعارف فيه وقد صرحوا به – انتهى . وتقدم شيء من الكلام في ذلك في شرح حديث ابن عمر أول أحاديث هذا الباب ( رواه أبو داود ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 31 ، 141) والبيهقي (ج 5 : ص 52) وقد سكت عنه أبو داود ، وقال المنذري : وأخرج البخاري والنسائي المسند منه بنحوه أتم منه .

(19/267)


2718 – قوله ( وعن عبد الله بن مالك بن بحينة ) بضم الموحدة وفتح الحاء المهملة بعدها ياء ساكنة ثم نون بعدها هاء ، اسم أم عبد الله ، ولذا كتبت الألف في ابن بحينة ( بلحي جمل ) بفتح اللام ويجوز كسرها وسكون الحاء وياء مثناة تحتية ، وفي بعض الروايات (( بلحيي جمل )) أي بيائين بصيغة التثنية ، وجمل بفتح الجيم والميم اسم موضع بطريق مكة كما وقع مبينا في الرواية ، قال الحافظ ذكر البكري في معجمه في رسم العقيق ، قال : هي بئر جمل التي ورد ذكرها في حديث أبي جهم في التيمم ، وقال غيره يعني ابن وضاح : هي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا – انتهى . وقال صاحب القاموس : (( لحي جمل )) موضع بين الحرمين ، وإلى المدينة أقرب ، وزعم أن السقيا بالضم موضع بين المدينة ووادي الصفراء ، وما ظنه بعضهم من أن المراد بلحي جمل أحد فكي الجمل الذي هو ذكر الإبل وأن فكه كان هو آلة الحجامة أي احتجم بعظم جمل فهو غلط لا شك فيه ( من طريق مكة ) وفي رواية (( بطريق مكة )) ( في وسط رأسه ) بفتح السين المهملة أي متوسطه ، وهذا الاحتجام لا يتصور بدون إزالة الشعر فيحمل على حال الضرورة ، والله تعالى أعلم ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي الطب ، ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 5 : ص 345) والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 65) .
2719 – (17) وعن أنس ، قال : احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به . رواه أبو داود ، والنسائي .
2720 – (18) وعن أبي رافع ، قال : تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو حلال ، وبنى بها وهو حلال ، وكنت أنا الرسول بينهما .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/268)


2719 – قوله ( احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به ) وفي رواية النسائي (( من وثئ كان به )) وهو بفتح الواو وسكون المثلثة آخره همزة ، وجع يصيب اللحم ولا يبلغ العظم ، أو وجع يصيب العظم من غير كسر والاحتجام على ظهر القدم يتصور بدون قطع الشعر فلا إشكال مع التصريح بالعذر ، ثم يمكن تعدد الاحتجام في إحرام واحد أو في إحرامين ، قاله القاري . قلت : ذكر في هذا الحديث أن الحجامة كانت على ظهر القدم ، وفي حديثي ابن عباس وابن بحينة أنها كانت في الرأس من صداع وجده ، وفي حديث جابر عند أحمد من وثئ كان بوركه أو ظهره فيحتمل أنه كان به الأمران فاحتجم مرة لوجع الرأس ومرة للوثئ بظهر القدم وبالورك ، وأن الحجامة تعددت منه - صلى الله عليه وسلم - في إحرام حجة الوداع ، ويحتمل أنها كانت مرة في عمرة ومرة في حجة الوداع . قال الحافظ : اتفقت الطرق عن ابن عباس أنه احتجم - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم في رأسه ، ووافقها حديث ابن بحينة وخالف ذلك حديث أنس فأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق معمر عن قتادة عنه قال (( احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به )) ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا داود حكى عن أحمد أن سعيد بن أبي عروبة رواه عن قتادة فأرسله ، وسعيد أحفظ من معمر وليست هذه بعلة قادحة ، والجمع بين حديثي ابن عباس واضح بالحمل على التعدد أشار إلى ذلك الطبري – انتهى . ( رواه أبو داود والنسائي ) وأخرجه أيضا أحمد وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي (ج 5 : ص 65) وأخرجه الترمذي في أواخر الشمائل بلفظ (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم بملل على ظهر القدم )) قال القاري : هو بفتح الميم واللام الأولى موضع بين مكة والمدينة على سبعة عشر ميلا من المدينة .

(19/269)


2720 – قوله ( وعن أبي رافع ) مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - ( بنى بها ) أي دخل عليها وهو كناية عن الزفاف ( وكنت أنا الرسول ) أي الواسطة في أمر الزواج ( بينهما ) أي بينه وبين ميمونة أو بينه وبين العباس وكيلها في الزواج ، وهذا الحديث صريح كحديث يزيد بن الأصم المتقدم في الفصل الأول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو حلال خلافا لما روى ابن عباس ، قال الحازمي في كتابه في بيان الناسخ والمنسوخ (ص 11) : والأخذ بحديث أبي رافع أولى لأنه كان السفير
رواه أحمد ، والترمذي ، وقال : هذا حديث حسن .

(19/270)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بينهما وكان مباشرا للحال ، وابن عباس كان حاكيا ، ومباشر الحال مقدم على حاكيه ألا ترى عائشة كيف أحالت على علي حين سئلت عن مسح الخف وقالت : سلوا عليا فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – انتهى بتغيير يسير ، وعزاه الزيلعي (ج 3 : ص 174) للطحاوي وسكت عنه ، هذا وقد تقدم الكلام في مسألة التزوج في الإحرام مبسوطا في شرح أحاديث عثمان وابن عباس ويزيد بن الأصم ( رواه أحمد ) (ج 6 : ص 392) ( والترمذي ) في الحج ، وأخرجه أيضا ابن خزيمة ، والبيهقي (ج 5 : ص 66 ، و ج 7 : ص 211) وابن حبان في صحيحه عن ابن خزيمة كما في نصب الراية كلهم من طريق حماد بن زيد عن مطر الوراق عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع ( وقال ) أي الترمذي ( هذا حديث حسن ) وبعده (( ولا نعلم أحدا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر الوراق عن ربيعة )) وروى مالك بن أنس عن ربيعة عن سليمان بن يسار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو حلال ، مرسلا . ورواه أيضا سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلا – انتهى . قال ابن عبد البر في التمهيد بعد ذكر رواية مطر الوراق : هذا عندي غلط من مطر لأن سليمان بن يسار ولد سنة أربع وثلاثين ، وقيل سبع وعشرين ، ومات أبو رافع بالمدينة بعد قتل عثمان بقليل ، وقتل عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين فلا يمكن أن يسمع سليمان من أبي رافع ، ومن صحيح أن يسمع سليمان بن يسار من ميمونة لما ذكرنا من مولده ، ولأن ميمونة مولاته – انتهى . وقال ابن أبي حاتم في المراسيل : حديث سليمان بن يسار عن أبي رافع مرسل ، ورد ذلك بما قال الزرقاني بعد ذكر كلام ابن عبد البر من أن سماع سليمان عن أبي رافع ممكن على القول الثاني في ولادته لأنه أدرك نحو ثمان سنين من حياة أبي رافع فلا يتغرب سماعه منه – انتهى . وقال الحافظ في تهذيب التهذيب بعد ذكر كلام ابن

(19/271)


عبد البر وابن أبي حاتم ما لفظه : كذا قالا وحديثه عنه في مسلم وصرح بسماعه منه عند ابن أبي خيثمة في تاريخه – انتهى . وقال الطحاوي : حديث أبي رافع إنما رواه مطر الوراق ومطر عندهم ليس ممن يحتج بحديثه وقد رواه مالك وهو أضبط منه فقطعه يعني رواه مرسلا ، قلت : مطر الوراق صدوق صالح الحديث من رواة مسلم ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال : ربما أخطأ وقال الذهبي في الميزان : هو من رجال مسلم حسن الحديث . وقال البيهقي : قد احتج به مسلم بن الحجاج – انتهى . ومن تكلم فيه إنما تكلم في حديثه عن عطاء خاصة ، قال في الميزان : قال أحمد ويحيى : هو ضعيف في عطاء خاصة ، وقال في تهذيب التهذيب قال أحمد : ما أقربه من ابن أبي ليلى في عطاء خاصة – انتهى . فحديثه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن لا ينحط عن درجة الحسن ولذا حسنه الترمذي ولم ير إرسال مالك قادحا في وصله على أنهما حديثان متغايران كما لا يخفى ، فلا تعارض بين رواية مطر ورواية مالك حتى يحتاج إلى الترجيح أو الجمع فافهم .
(12) باب المحرم يجتنب الصيد

(19/272)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( باب ) يجوز سكونه على الوقف ورفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف هو (( هذا )) ويحتمل الإضافة ( المحرم يجتنب الصيد ) أي اصطياده وقتله وإن لم يأكله ، وأكله وإن ذكاه محرم آخر ، قال القاري : والمراد بالصيد حيوان متوحش بأصل الخلقة بأن كان توالده وتناسله في البر ، أما صيد البحر فيحل اصطياده للحلال والمحرم جميعا مأكولا أو غير مأكول لقوله تعالى ? أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ? ( المائدة : الآية 96 ) قال الشنقيطي : ظاهر عموم قوله تعالى ? أحل لكم صيد البحر ? يدل على إباحة صيد البحر للمحرم بحج أو عمرة وهو كذلك كما بينه تخصيصه تعالى تحريم الصيد على المحرم بصيد البر في قوله ? وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ? ( المائدة : الآية 96 ) فإنه يفهم منه أن صيد البحر لا يحرم على المحرم كما هو ظاهر . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 344) : يحل للمحرم صيد البحر لقوله تعالى : ? أحل لكم صيد البحر وطعامه ? وأجمع أهل العلم على أن صيد البحر مباح للمحرم اصطياده وأكله وبيعه وشراؤه ، وصيد البحر الحيوان الذي يعيش في الماء ويبيض فيه ويفرخ فيه كالسمك والسلحفاة والسرطان ونحو ذلك ، فإن كان جنس من الحيوان نوع منه في البحر ونوع في البر كالسلحفاة فلكل نوع حكم نفسه كالبقر منها الوحشي محرم والأهلي مباح - انتهى . وأما صيد البر فقد أجمع العلماء على منعه للمحرم بحج أو عمرة ، وهذا الإجماع في مأكول اللحم الوحشي كالظبي والغزال ونحو ذلك وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه لحديث أبي قتادة الآتي . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 309) : لا خلاف بين أهل العلم في تحريم قتل الصيد واصطياده على المحرم وقد نص الله تعالى عليه في كتابه فقال سبحانه : ? يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ? ( المائدة : الآية 95 ) وقال تعالى ? وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ? وتحرم عليه

(19/273)


الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه ، قال : ولا تحل له الإعانة عليه بشيء - انتهى . والصيد عند الشافعي هو مأكول اللحم فقط فلا شيء عنده في قتل ما لم يؤكل لحمه إلا المتولد من بين مأكول اللحم وغير مأكوله فلا يجوز اصطياده عنده ، وإن كان يحرم أكله كالسمع وهو المتولد من بين الذئب والضبع ، وقال : ليس في الرخمة والخنافس والقردان والحلم وما لا يؤكل لحمه شيء لأن هذا ليس من الصيد لقوله تعالى : ? وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ? فدل على أن الصيد الذي حرم عليهم هو ما كان حلالا لهم قبل الإحرام ، وهذا هو مذهب الإمام أحمد . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 506) : والصيد ( أي الذي يجب بقتله الجزاء ) ما جمع ثلاثة أشياء وهو أن يكون مباحا أكله لا مالك له ، ممتنعا ، فيخرج بالوصف الأول كل ما ليس بمأكول لا جزاء فيه كسباع البهائم والمستخبث من الحشرات والطير وسائر المحرمات . قال أحمد : إنما جعلت الكفارة في الصيد المحلل أكله ، وهذا قول أكثر أهل العلم ، إلا أنهم أوجبوا الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره كالسمع المتولد من الضبع والذئب تغليبا لتحريم قتله ،
.......................................................................................

(19/274)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوصف الثاني أن يكون وحشيا وما ليس بوحشي لا يحرم على المحرم ذبحه ولا أكله كبهيمة الأنعام كلها ، والخيل والدجاج ونحوها لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافا ، والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال ، فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء ، ولو توحش الأهلي لم يجب فيه شيء . وقال الحافظ : اتفقوا على أن المراد بالصيد ما يجوز أكله للحلال من الحيوان الوحشي وأن لا شيء فيما يجوز قتله ، واختلفوا في المتولد ( أي بين المأكول وغيره ) فألحقه الأكثر بالمأكول – انتهى . قال ابن قدامة (ج 3 : ص 343) : ولا تأثير للإحرام ولا للحرم في تحريم شيء من الحيوان الأهلي كبهيمة الأنعام ونحوها لأنه ليس بصيد ، وإنما حرم الله تعالى الصيد ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذبح البدن في إحرامه في الحرم يتقرب إلى الله سبحانه بذلك ، وقال : أفضل الحج العج والثج ، يعني إسالة الدماء بالذبح والنحر وليس في هذا اختلاف . وقال البخاري في صحيحه : لم ير ابن عباس وأنس بالذبح ( أي بذبح المحرم ، وظاهر العموم يتناول الصيد وغيره ، ولكن مراده الذبح في غير الصيد ) بأسا ، وهو غير الصيد نحو الإبل والغنم والبقر والدجاج والخيل . قال الحافظ : أثر ابن عباس وصله عبد الرزاق من طريق عكرمة أن ابن عباس أمره أن يذبح جزورا وهو محرم ، وأما أثر أنس فوصله ابن أبي شيبة من طريق الصباح البجلي سألت أنس بن مالك عن المحرم يذبح ؟ قال : نعم . وقوله (( وهو )) أي المذبوح ، إلخ من كلام المصنف قاله تفقها ، وهو متفق عليه فيما عدا الخيل فإنه مخصوص بمن يبيح أكلها – انتهى . وقال العيني قوله (( وهو غير الصيد )) إلخ . من كلام البخاري أشار به إلى تخصيص العموم الذي فهم من قوله بالذبح وقوله (( وهو )) أي الذبح أي المراد من الذبح المذكور في أثر ابن عباس وأنس هو الذبح في الحيوان الأهلي وهو الذي ذكره بقوله نحو الإبل إلى

(19/275)


آخره ، وهذا كله متفق عليه في غير ذبح الخيل ، فإن فيه خلافا معروفا – انتهى . قال القاري : البري المأكول حرام اصطياده على المحرم بالاتفاق وأما غير المأكول فقسمه صاحب البدائع على نوعين ، نوع يكون موذيا طبعا مبتدئا بالأذى غالبا ، فللمحرم أن يقتله ولا شيء عليه نحو الأسد والذئب والنمر والفهد ، ونوع لا يبتدئ بالأذى غالبا كالضبع والثعلب وغيرهما ، فله أن يقتله إن عدا عليه ولا شيء عليه ، وهو قول أصحابنا الثلاثة ، وقال زفر : يلزمه الجزاء وإن لم يعد عليه لا يباح له أن يبتدئه بالقتل ، وإن قتله ابتداء فعليه الجزاء عندنا – انتهى . قلت : ليست الضبع مثل ما ذكر معها من الثعلب ونحوه لورود النص فيها لأنها صيد يلزم فيه الجزاء كما سيأتي ، والراجح عندنا في المراد من الصيد هو ما قدمنا عن الشافعي وأحمد أنه الحيوان البري الوحشي المأكول اللحم فقط وهو ظاهر القرآن العظيم ، هذا وقد علم مما تقدم من كلام ابن قدامة أنه لا يجوز للمحرم أكل الصيد إن صاده الحلال بأمره أو بإعانته أو بدلالته أو بإشارته ، وهذا مما اتفق العلماء عليه واختلفوا فيما عدا ذلك على ثلاثة أقوال . أحدها : أنه لا يجوز له الأكل مطلقا أي سواء صيد لأجله أو لا ، وحكي هذا عن علي وابن عباس وابن عمر والليث والثوري وإسحاق بن راهويه وطاوس
( الفصل الأول )
2721 – (1) عن الصعب بن جثامة ، أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمارا وحشيا

(19/276)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجابر بن زيد ، واحتج لهم بحديث الصعب بن جثامة الآتي ، وبحديث زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى له عضو من لحم صيد فرده وقال إنا لا نأكله ، أنا حرم ، أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي . واحتج لهم أيضا بعموم قوله تعالى : ? وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ? بناء على أن المراد بالصيد الحيوان المصيد ، القول الثاني : أنه يجوز له الأكل مطلقا أي وإن صيد لأجله ولم يكن بإذنه وإعانته أو دلالته وإشارته ، وإليه ذهب أبو حنيفة ، وحكي ذلك عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة والزبير بن العوام وعائشة وطلحة بن عبيد الله وكعب الأحبار ومجاهد وسعيد بن جبير ، واحتج لهم بحديث طلحة بن عبيد الله الآتي في الفصل الثالث وبحديث البهزي واسمه زيد بن كعب أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حمار وحشي عقير في بعض وادي الروحاء وهو صاحبه : شأنكم بهذا الحمار ، فأمر - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر فقسمه في الرفاق وهم محرومون ، أخرجه مالك وأحمد والنسائي وابن خزيمة وغيرهم . واحتج لهم أيضا بحديث أبي قتادة ثاني أحاديث الباب كما ستعرف ، القول الثالث : التفصيل بين ما صاده الحلال لأجل المحرم وما صاده لا لأجله فيمنع الأول دون الثاني وهو مذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وحكي ذلك عن عثمان بن عفان وعطاء وأبي ثور وإسحاق في رواية ، واحتج لهم بحديث جابر الآتي في الفصل الثاني ، وهو القول الراجح عندنا ، وسيأتي الكلام في ذلك مفصلا .

(19/277)


2721 – قوله ( عن الصعب ) بفتح الصاد وسكون العين المهملتين بعدها موحدة ( جثامة ) بفتح الجيم وتشديد المثلثة فألف فميم ، ابن قيس بن ربيعة بن عبد الله الليثي حليف قريش ، أمه فاختة أخت أبي سفيان بن حرب ، يقال : هو أخو محلم بن جثامة ، وكان الصعب ينزل بودان ، قال الحافظ في التقريب : مات في خلافة الصديق على ما قيل ، والأصح أنه عاش إلى خلافة عثمان ، قال الخزرجي في الخلاصة : له أحاديث اتفقا على حديثين ، وانفرد البخاري بآخر ، وعنه ابن عباس فقط عندهم في هدية الصيد وغيرها ، وآخى - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عوف بن مالك ( أهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي في حجة الوداع ، قال العيني : الأصل في (( أهدى )) التعدي بإلى ، وقد تعدى باللام ويكون بمعناه ، وقيل : يحتمل أن تكون اللام بمعنى (( أجل )) وهو ضعيف ( حمارا وحشيا ) كذا في رواية مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس عن الصعب . قال في شرح المواهب : وهو باتفاق الرواة عن مالك وتابعه عليه تسعة من حفاظ أصحاب الزهري ، وقال في شرح الموطأ (( لا خلاف عن مالك في هذا )) وتابعه معمر وابن جريج وعبد الرحمن بن الحارث وصالح بن كيسان والليث وابن أبي ذئب وشعيب بن أبي حمزة ويونس ومحمد بن عمرو بن
..............................................................................................

(19/278)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ علقمة كلهم قالوا : حمارا وحشيا ، كما قال مالك ، وخالفهم سفيان بن عيينة عن الزهري فقال : أهديت له من لحم حمار وحش ، رواه مسلم ، وله عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (( رجل حمار وحش )) وله عن شعبة عن الحكم (( عجز حمار وحش يقطر دما )) وفي أخرى له (( شق حمار وحش )) فهذه الروايات صريحة في أنه عقير ، وأنه إنما أهدى بعضه لا كله ، ولا معارضة بين رجل وعجز وشق لأنه يحمل على أنه أهدي رجلا معها الفخذ وبعض جانب الذبيحة – انتهى . وقال الحافظ : لم تختلف الرواة عن مالك في ذلك وتابعه عامة الرواة عن الزهري ، وخالفهم ابن عيينة عن الزهري فقال : لحم حمار وحش . أخرجه مسلم ، لكن بين الحميدي صاحب سفيان (ج 2 : ص 344) أنه كان يقول في هذا الحديث : حمار وحش ، ثم صار يقول : لحم حمار وحش ، فدل على اضطرابه فيه ، وقد توبع على قوله (( لحم حمار وحش )) من أوجه فيها مقال ثم ذكرها مع الكلام فيها ، ثم قال : ويدل على وهم من قال فيه : عن الزهري ، ذلك أن ابن جريج قال : قلت للزهري : الحمار عقير ؟ قال : لا ادري . أخرجه ابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحهما . وقد جاء عن ابن عباس من وجه آخر أن الذي أهداه الصعب لحم حمار فذكر ما تقدم في كلام الزرقاني في شرح الموطأ . وقد اختلفوا في هذه الروايات فمنهم من اختار الجمع بينها ومنهم من سلك مسالك الترجيح . قال الزرقاني بعد ذكر هذه الروايات : فمنهم من رجح رواية مالك وموافقيه ، قال الشافعي في الأم : حديث مالك (( أن الصعب أهدى حمارا )) أثبت من حديث من روى (( أنه أهدى لحم حمار )) وقال الترمذي : قد روى بعض أصحاب الزهري عن الزهري هذا الحديث وقال : أهدى لحم حمار وحش . وهو غير محفوظ . وقال البيهقي : كان ابن عيينة يضطرب فيه ، فرواية العدد الذين لم يشكوا فيه أولى - انتهى . وقد تقدم عن الحافظ أنه قال : من قال ذلك فيه عن الزهري أي ذكر

(19/279)


اللحم في حديث الزهري وهم . وإليه يظهر ميل البخاري حيث بوب في صحيحه (( باب إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل )) ثم أورد فيه الحديث برواية مالك . قال الحافظ : كذا قيده البخاري في الترجمة بكونه حيا ، وفيه إشارة إلى أن الرواية التي تدل على أنه كان مذبوحا موهمة – انتهى . وإليه مال الباجي إذ قال : قوله (( حمارا وحشيا ) هكذا رواه الزهري عن عبيد الله وهو أثبت الناس فيه وأحفظهم عنه . وفي المبسوط من رواية ابن نافع عن مالك ، بلغني إنما رده عليه من أجل أن الحمار كان حيا – انتهى . مختصرا . وبه جزم ابن العربي حيث قال : وإنما رد الصيد على الصعب لأنه كان حيا . ومنهم من رجح رواية اللحم . قال ابن القيم : أما الاختلاف في كون الذي أهداه حيا أو لحما فرواية من روى (( لحما )) أولى لثلاثة أوجه ، أحدها : أن راويها قد حفظها وضبط الواقعة حتى ضبطها أنه يقطر دما ، وهذا يدل على حفظه للقصة حتى لهذا الأمر الذي لا يؤبه له . الثاني : أن هذا صريح في كونه بعض الحمار وأنه لحم منه فلا يناقض قوله (( أهدي له حمارا )) بل يمكن حمله على رواية من روى لحما ، تسمية للحم باسم الحيوان ، وهذا مما لا تأباه اللغة . الثالث : أن سائر الروايات متفقة على أنه
وهو بالأبواء أو بودان ،

(19/280)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعض من أبعاضه ، وإنما اختلفوا في ذلك البعض هل هو عجزه أو شقة أو رجله أو لحم منه ، ولا تناقض بين هذه الروايات إذ يمكن أن يكون الشق الذي فيه العجز وفيه الرجل فصح التعبير عنه بهذا وهذا ، وقد رجع ابن عيينة عن قوله (( حمارا )) وثبت على قوله (( لحم حمار )) حتى مات . وهذا يدل على أنه تبين له أنه أهدى له لحما لا حيوانا – انتهى . وفيه ما تقدم عن الحافظ وغيره أنه لا خلاف فيه عن مالك أنه أهدى حمارا ، وتابعه عامة الرواة عن الزهري ، وأن من قال فيه عن الزهري لحما وهم . ومنهم من جمع بحمل رواية (( أهدى حمارا )) على النجوز من إطلاق اسم الكل على البعض كما بسطه الزرقاني في شرح الموطأ وابن الهمام في فتح القدير ، وكما تقدم في كلام ابن القيم ، وكما ذكره القرطبي احتمالا . ومنهم من جمع بأن الصعب أحضر الحمار مذبوحا ثم قطع منه عضوا بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدمه له . فمن قال : أهدى حمارا ، أراد بتمامه مذبوحا لا حيا ، ومن قال (( لحم حمار )) أراد ما قدمه للنبي - صلى الله عليه وسلم - حكاه الحافظ عن القرطبي احتمالا . ومنهم من جمع بأنه أحضره له حيا ، فلما رده عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظانا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بحملته فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد حكم الكل ، حكاه الحافظ عن القرطبي أيضا احتمالا . قال الزرقاني بعد ذكره : هذا الجمع قريب وفيه إبقاء اللفظ على المتبادر منه الذي ترجم عليه البخاري (( إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل )) مع أنه لم يقل في الحديث (( حيا )) فكأنه فهمه من قوله (( حمارا )) ومنهم من جمع بالحمل على التعدد ، قال ابن بطال : اختلاف روايات حديث الصعب تدل على أنها لم تكن قضية واحدة وإنما كانت قضايا فمرة أهدى إليه الحمار كله ، ومرة عجزه ، ومرة رجله ، لأن مثل هذا لا يذهب على الرواة ضبطه حتى يقع

(19/281)


فيه التضاد في النقل والقصة واحدة ذكره العيني ( وهو بالأبواء ) بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة وبالمد ، جبل قرب مكة وعنده بلدة تنسب إليه ، قيل سمي بذلك لوبائه وهو على القلب وإلا لقيل : الأوباء . وقيل لأن السيول تتبوأه أي تحله ، قال ياقوت : وهذا أحسن . وقال الزرقاني : جبل بينه وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا ، سمي بذلك لتبوأ السيول به لا لما فيه من الوباء إذ لو كان كذلك لقيل (( الأوباء )) أو هو مقلوب منه – انتهى . قال العيني : به توفيت أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أو بودان ) شك من الراوي وهو بفتح الواو وتشديد الدال المهملة فألف فنون ، موضع بقرب الجحفة . قال الحافظ : هو أقرب إلى الجحفة من الأبواء فإن من الأبواء إلى الجحفة للآتي من المدينة ثلاثة وعشرون ميلا ، ومن ودان إلى الجحفة ثمانية أميال ، وبالشك جزم أكثر الرواة وجزم ابن إسحاق وصالح بن كيسان عن الزهري بودان ، وجزم معمر وعبد الرحمن بن إسحاق ومحمد بن عمرو (( بالأبواء )) والذي يظهر لي أن الشك فيه من ابن عباس ، لأن الطبراني أخرج الحديث من طريق عطاء عنه على الشك أيضا ، وسيأتي برواية البيهقي أن ذلك في الجحفة ، وروى الطحاوي
فرد عليه ، فلما رأى ما في وجهه ، قال : " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " .

(19/282)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الصعب بن جثامة أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - عجز حمار وهو بقديد يقطر دما فرده ( فرد عليه ) أي رد النبي على الصعب الحمار الذي صاده ثم أهداه إليه . قال الحافظ : اتفقت الروايات كلها على أنه رده عليه إلا ما رواه ابن وهب والبيهقي (ج 5 : ص 193) من طريقه بإسناده حسن من طريق عمرو بن أمية أن الصعب أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - عجز حمار وحش وهو بالجحفة فأكل منه وأكل القوم . قال البيهقي : إن كان هذا محفوظا فلعله رد الحي وقبل اللحم . قلت ( قائله الحافظ ) وفي هذا الجمع نظر لما بينته ( يشير إلى الروايات التي فيها ذكر إهداء جزء من الحمار ورده عليه ) فإن كانت الطرق كلها محفوظة فلعله رده حيا لكونه صيد لأجله ورد اللحم تارة لذلك ، وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصد لأجله ، وقد قال الشافعي : إن كان الصعب أهدى له حمارا حيا فليس للمحرم أن يذبح حمار وحشي حي وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد لأجله ، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر ، وهو حال رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من مكة ، ويؤيده أنه جازم فيه بوقوع ذلك بالجحفة وفي غيرها من الروايات بالأبواء أو بودان – انتهى . قال الزرقاني فكأنه لما رده لأنه محرم أهدى له بعد ما حل فقبله وهذا جمع حسن ( فلما رأى ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ما في وجهه ) أي في وجه الصعب من الكراهة لما حصل له من الكسر برد هديته ، ففي رواية الترمذي (( فلما رأى ما في وجهه من الكراهة )) وكذا لأحمد وابن خزيمة ، وفي رواية للبخاري (( فلما عرف في وجهي رده هديتي )) قال الباجي : يريد من التغير والإشفاق لرد النبي - صلى الله عليه وسلم - هديته مع أنه - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويأكلها فخاف الصعب أن يكون ذلك لمعنى يخصه ( قال ) أي

(19/283)


تطييبا لقلبه ( إنا ) بكسر الهمز لوقعها في الابتداء ( لم نرده ) بفتح الدال رواه المحدثون ، وقال محققو النحاة : إنه غلط والصواب ضم الدال . قال عياض : ضبطناه في الروايات (( لم نرده )) بفتح الدال ، وأبي ذلك المحققون من أهل العربية وقالوا : الصواب أنه بضم الدال لأن المضاعف المجزوم الذي اتصل به ضمير المذكر يراعى فيه الواو التي توجبها ضمة الهاء بعدها لخفاء الهاء فكأن ما قبلها ولي الواو ولا يكون ما قبل الواو إلا مضموما ، هذا في المذكر أما المؤنث مثل لم تردها فمفتوح الدال مراعاة للألف . قال عياض : وليس الفتح بغلط بل ذكره ثعلب في الفصيح ، نعم تعقبوه عليه بأنه ضعيف وأوهم صنيعه أنه فصيح وأجازوا أيضا الكسر ، وهو أضعف الأوجه . قال الحافظ : ووقع في رواية الكشمهيني بفك الإدغام (( لم نردده )) بضم الدال الأولى وسكون الثانية فلا إشكال ، وفي رواية شعيب عن الزهري عند البخاري وابن جريج عنه عند أحمد وابن خزيمة (( ليس بنا رد عليك )) وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عند الطبراني (( إنا لم نرده عليك كراهية له ولكنا حرم )) ( عليك ) لعلة من العلل ( إلا أنا ) بفتح الهمزة أي لأجل أنا ( حرم ) بضم الحاء والراء جمع
..............................................................................................

(19/284)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حرام وهو من أحرم بنسك أي المحرمون . قال الجوهري : رجل حرام ، أي محرم ، والجمع حرم ، مثل قذال وقذل ، قال العيني : قوله (( إلا أنا حرم )) بفتح الهمزة في (( أنا )) على أنه تعدى إليه الفعل بحرف التعليل فكأنه قال لأنا ، وقال أبو الفتح القشيري : إنا مكسورة الهمزة لأنها ابتدائية لاستئناف الكلام ، وقال الكرماني : لام التعليل محذوفة والمستثنى منه مقدر أي لا نرده لعلة من العلل إلا لأننا حرم ، قال الحافظ : زاد صالح بن كيسان عند النسائي (( لا نأكل الصيد )) وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس (( لو لا أنا محرمون لقبلناه منك )) . واستدل بالحديث من حرم أكل لحم الصيد على المحرم مطلقا سواء صاده الحلال لنفسه أو لمحرم وذلك لأنه اقتصر في التعليل على كونه محرما فدل على أنه سبب الامتناع خاصة ، وأجاب الجمهور عنه بما ذكر عن الشافعي أنه قال : إن كان الصعب أهدى حمارا حيا فليس للمحرم أن يذبح حمارا وحشيا حيا وإن كان أهدى لحما فيحتمل أن يكون علم أنه صيد له . قال الحافظ : جمع الجمهور بين ما اختلف من الأحاديث في الرد والقبول بأن أحاديث القبول ( كحديث طلحة وحديث البهزي وحديث أبي قتادة ) محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه ثم يهدي منه للمحرم ، وأحاديث الرد ( كحديث الصعب وحديث زيد بن أرقم ) محمولة على ما صاده الحلال لأجل المحرم ، قالوا : والسبب في الاقتصار على الإحرام عند الاعتذار للصعب أن الصيد لا يحرم على المحرم إذا صيد له إلا إذا كان محرما ، فبين الشرط الأصلي وسكت عما عداه فلم يدل على نفيه ، وقد بينه الأحاديث الأخر ، ويؤيد هذا الجمع حديث جابر يعني الذي يأتي في الفصل الثاني وقال الزرقاني : حمل الجمهور حديث الصعب على أنه قصدهم باصطياده لأنه كان عالما بأنه - صلى الله عليه وسلم - يمر به فصاده لأجله ، قال : وتعليله - صلى الله عليه وسلم - للصعب بأنه

(19/285)


محرم لا يمنع كونه صيد له ولأنه بين الشرط الذي يحرم الصيد على الإنسان إذا صيد له وهو الإحرام وقبل حمار البهزي وفرقه على الرفاق لأنه كان يتكسب بالصيد فحمله على عادته في أنه لم يصد لأجله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : وهذا على رواية أن الصعب أهدى لحما أما على أنه أهداه حيا فواضح ، فالإجماع على أنه يحرم على المحرم قبول صيد وهب له وشراؤه واصطياده واستحداث ملكه بوجه من الوجوه ، وأجاب الحنفية عن حديث الصعب بأنه مضطرب كما قال الطحاوي ، وبأن الأظهر بل الصحيح في الرواية رد الحمار الحي كما تقدم عن الجمهور ، وبأنه يحتمل أنه علم أنه صيد بدلالة المحرم أو إشارته وبأن حديث أبي قتادة أولى لأنه ليس فيه اضطراب مثل ما في حديث الصعب ، وبأن رده - صلى الله عليه وسلم - يمكن أن يكون تنزها وسدا لذرائع التوسع في أكل الصيد للمحرم وحسما لمادته لئلا يفضي استعمال ما لا بأس به إلى التساهل فيما به بأس في آخر الأمر ، وهذه الأجوبة كلها مخدوشة لا يخفى على المصنف ما فيها من الخدشات والتعسفات ، هذا . وفي حديث الصعب من الفوائد : الحكم بالعلامة لقوله : فلما رأى ما في وجهه ، وفيه جواز رد الهدية إذا وجد مانع من قبولها وترجم له البخاري (( من رد الهدية لعلة )) وفيه كراهية رد هدية الصديق لما يقع في قلبه فإنه - صلى الله عليه وسلم - طيب نفسه بذكر
متفق عليه .
2722 – (2) وعن أبي قتادة ، أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،

(19/286)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عذر الرد ، وفيه إخبار المهدي إليه بسبب الرد لتطمئن نفس المهدي وتزول وساوسه ويطيب قلبه ، وفيه أن الهبة لا تدخل في الملك إلا بالقبول وإن قدرته على تملكها لا تصيره مالكا لها ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي الهبة ومسلم في الحج وأخرجه أيضا أحمد (ج 4 : ص 37 ، 38 ، 71 ، 72 ، 73) ومالك والترمذي والنسائي وابن ماجة والدرامي وابن الجارود (ص 154) وابن خزيمة وعبد الرزاق (ج 4 : ص 426) والحميدي (ج 2 : ص 344) والطحاوي والبيهقي وغيرهم .

(19/287)


2722 – قوله ( وعن أبي قتادة أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي عام الحديبية كما في رواية يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عند الشيخين وغيرهما . قال الحافظ : قوله (( الحديبية )) أصح من رواية الواقدي من وجه آخر عن عبد الله ابن أبي قتادة أن ذلك كان في عمرة القضية ، ووقع في رواية أبي عوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عند الشيخين أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجا فخرجوا معه . قال الإسماعيلي : هذا غلط فإن القصة كانت في عمرة ، وأما الخروج إلى الحج فكان في خلق كثير وكان كلهم على الجادة لا على ساحل البحر ، ولعل الراوي أراد (( خرج محرما )) فعبر عن الإحرام بالحج غلطا . قال الحافظ : لا غلط في ذلك بل هو من المجاز السائغ ، وأيضا فالحج في الأصل قصد البيت فكأنه قال : خرج قاصدا للبيت ، ولهذا يقال للعمرة الحج الأصغر ، ثم وجدت الحديث من رواية محمد بن أبي بكر المقدمي عن أبي عوانة بلفظ (( خرج حاجا أو معتمرا )) أخرجه البيهقي ، فتبين أن الشك فيه من أبي عوانة ،وقد جزم يحيى بن أبي كثير بأن ذلك في عمرة الحديبية ، وهذا هو المعتمد – انتهى . واعلم أنه اختلفت الروايات في قصة اصطياد أبي قتادة الحمار الوحشي إجمالا وتفصيلا وتأخيرا ، وقد أجمل الكلام عليها الحافظ في الفتح والشيخ محمد عابد السندي في المواهب اللطيفة ، قال الحافظ : حاصل القصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج في عمرة الحديبية فبلغ الروحاء وهي من ذي الحليفة على أربعة وثلاثين ميلا أخبروه بأن عدوا من المشركين بوادي غيقة ( بفتح الغين المجمعة بعدها ياء ساكنة ثم قاف مفتوحة ثم هاء ، قال السكوني : هو ماء لبني غفار بين مكة والمدينة . وقال يعقوب : هو قليب لبني ثعلبة يصب فيه ماء رضوى ويصب هو في البحر ) يخشى منهم أن يقصدوا غرته فجهز طائفة من أصحابه فيهم أبو قتادة

(19/288)


إلى جهتهم ليأمن شرهم ، فلما أمنوا ذلك لحق أبو قتادة وأصحابه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فأحرموا إلا هو ( يعني أن أصحابه كانوا أحرموا من الميقات أو أحرموا في أثناء تجواله وحده لاستطلاع أخبار العدو إلا هو فإنه لم يحرم ) فاستمر هو حلالا لأنه إما لم يجاوز الميقات وإما لم يقصد العمرة ، وقال أيضا إن الروحاء هو المكان
...............................................................................................

(19/289)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الذي ذهب أبو قتادة وأصحابه منه إلى جهة البحر ثم التقوا بالقاحة ( بالقاف والحاء المهملة المخففة ، واد على نحو ميل من السقيا وعلى ثلاث مراحل من المدينة ) وبها وقع له الصيد المذكور وكأنه تأخر هو ورفقته للراحة أو غيرها وتقدمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السقيا حتى لحقوه ، قال : ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن حبان والبزار أن ذلك وقع وهم بعسفان ، وفيه نظر ، والصحيح ما سيأتي بعد باب أي عند البخاري من طريق صالح بن كيسان عن أبي محمد مولى أبي قتادة عنه ، قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقاحة ومنا المحرم وغير المحرم ( يريد بغير المحرم نفسه فقط ) فرأيت أصحابي يتراؤن شيئا فنظرت ، فإذا حمار وحش – الحديث . قال الحافظ : وبهذا يعني بما ذكره من حاصل القصة وأن أبا قتادة استمر حلالا لأنه إما لم يجاوز الميقات وإما لم يقصد العمرة يرتفع الإشكال الذي ذكره أبو بكر الأثرم ، قال : كنت أسمع أصحابنا يتعجبون من هذا الحديث ويقولون : كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز المقيات وهو غير محرم ولا يدرون ما وجهه . قال : حتى وجدته في رواية من حديث أبي سعيد فيها : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحرمنا فلما كنا بمكان كذا إذا نحن بأبي قتادة ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه في وجه - الحديث . قال : فإذا أبو قتادة إنما جاز له ذلك لأنه لم يخرج يريد مكة . قال الحافظ : والذي يظهر أن أبا قتادة إنما أخر الإحرام لأنه لم يتحقق أنه يدخل مكة فساغ له التأخير ، قال : والرواية التي أشار إليها الأثرم تقتضي أن أبا قتادة لم يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة ، وليس كذلك أي لأن عامة الروايات من حديث أبي قتادة على أن أبا قتادة خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة وأن بعثه أبا قتادة ومن معه كان من الروحاء ، وأخرج ابن حبان في صحيحه

(19/290)


والبزار والطحاوي من طريق عياض بن عبد الله عن أبي سعيد ، قال : بعث رسول الله أبا قتادة على الصدقة وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم محرمون حتى نزلوا بعسفان – الحديث . قال الحافظ : فهذا سبب آخر ويحتمل جمعهما . وقال في المواهب اللطيفة : الحاصل أن أبا قتادة خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بأخذ الصدقات ، وكانت طريقهم متحدة فأحرموا كلهم غيره بناء على أنه لم يقصد إذ ذاك مكة ثم سار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء على اتحاد الطريق حتى بلغوا الروحاء فأخبروا بالعدو فوجهه - صلى الله عليه وسلم - مع أصحاب له محرمين فلما أمنوا رجع على حالته التي كان عليها فساغ له التأخير لذلك – انتهى . وقال القاري : إن أبا قتادة لم يحرم لقصده الإحرام من ميقات آخر وهو الجحفة ، فإن المدنى مخير ( عند الحنفية )بين أن يحرم من ذي الحليفة وبين أن يحرم من الجحفة ، وفيه أن رواية أبي سعيد التي فيها ذكر عسفان تدل على تأخير أبي قتادة الإحرام من الجحفة ولكن نظر فيها الحافظ وصحح خلافها كما تقدم ، وقال القسطلاني : لم يحرم لاحتمال أنه لم يقصد نسكا إذ يجوز دخول الحرم بغير إحرام لمن يرد حجا ولا عمرة كما هو مذهب الشافعية ، وأما على مذهب القائلين بوجوب الإحرام فيجاب بأنه إنما لم يحرم لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أرسله إلى جهة أخرى ليكشف أمر عدو - انتهى . وقيل كانت هذه
فتخلف مع بعض أصحابه وهم محرمون وهو غير محرم ، فرأوا حمارا وحشيا قبل أن يراه ، فلما رأوه تركوه حتى رآه أبو قتادة ،

(19/291)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القصة قبل أن يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - المواقيت ( فتخلف ) أي تأخر أبو قتادة ( مع بعض أصحابه ) الضمير راجع إلى أبي قتادة أو النبي - صلى الله عليه وسلم - ( وهم ) أي البعض ( محرمون وهو ) أي أبو قتادة ( غير محرم ) تقدم بيان وجه عدم إحرامه ، وفي رواية لمسلم (( حتى إذا كانوا ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم )) وفي رواية للبخاري (( قال أي أبو قتادة انطلقنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية فأحرم أصحابه ولم أحرم فأنبئنا بعدو بغيقة فتوجهنا نحوهم فبصر أصحابي بحمار وحش )) وفي أخرى له أيضا (( كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقاحة من المدينة على ثلاث ( أي مراحل ) ومنا المحرم ومنا غير المحرم فرأيت أصحابي يتراؤن شيئا )) وقد تقدم أن الروحاء هو المكان الذي ذهب أبو قتادة وأصحابه منه إلى جهة البحر ثم التقوا بالقاحة وبها وقع له الصيد المذكور فالظاهر أن المراد في رواية المشكاة تخلفهم بالقاحة بعد ما انصرفوا عن ساحل البحر وفيها وقع أمر الصيد ( فرأوا حمارا وحشيا ) نوع من الصيد على صفة الحمار الأهلي وبينهما بعض الميزات ، وجمعه حمر ، ونسب إلى الوحش لتوحشه وعدم استئناسه . قال النووي : قوله (( حمارا وحشيا )) كذا ذكر في أكثر الروايات ، وفي رواية أبي كامل الجحدري عن أبي عوانة (( إذ رأوا حمر وحش ، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا )) فهذه الرواية تبين أن الحمار في أكثر الرواية المراد به أنثى وهي الأتان سميت حمارا مجازا – انتهى . قلت : وهكذا وقع في رواية موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة عند البخاري ، قال الحافظ : قوله (( فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا )) في هذا السياق زيادة على جميع الروايات لأنها متفقة على إفراد الحمار بالرؤية وأفادت هذه الرواية أنه من جملة الحمر ، وأن المقتول كان أتانا أي أنثى ،

(19/292)


فعلى هذا في إطلاق الحمار عليها تجوز - انتهى . وكذا قال القسطلاني . وزاد (( أو أن الحمار يطلق على الذكر والأنثى )) ( قبل أن يراه ) أي قبل رؤية أبي قتادة ذلك الحمار ( فلما رأوه تركوه ) أي الحمار ( حتى رآه أبو قتادة ) أي حتى رأى أبو قتادة الحمار ، وزاد في رواية عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عند البخاري (( فبينما أنا مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض )) وقد بسط شراح الصحيحين في أن ضحك بعض المحرمين إلى بعض هل هو داخل في الدلالة على الصيد أم لا ؟ ومال الحافظ وغيره من العلماء إلى أنه ليس بدلالة . وقد ترجم البخاري على هذه الرواية (( باب إذا رأى المحرمون صيدا فضحكوا ففطن الحلال )) قال الحافظ في شرحه : أي لا يكون ذلك منهم إشارة له إلى الصيد فيحل لهم أكل الصيد ، قلت : ووقع في هذه الرواية عند مسلم (( يضحك بعضهم إلي )) أي بتشديد الياء . قال عياض : وهو خطأ وتصحيف وإنما سقط عليه لفظة (( بعض )) والصواب يضحك بعضهم إلى بعض كما في سائر الطرق والروايات ، وتعقبه النووي وذهب الحافظ إلى تصويب ما قال القاضي من شاء الوقوف على كلام القاضي وتعقب
فركب فرسا له ، فسألهم أن يناولوه سوطه فأبوا فتناوله فحمل عليه فعقره ، ثم أكل فأكلوا فندموا ، فلما أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه ،

(19/293)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النووي وجواب الحافظ رجع إلى الفتح في شرح باب (( إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد )) من كتاب الحج ( فركب ) أي أبو قتادة بعد ما رأى الحمار ( فرسا له ) وعند البخاري بعده (( يقال له الجرادة )) قال الحافظ : هو بفتح الجيم وتخفيف الراء والجراد اسم جنس ، ووقع في السيرة لابن هشام أن اسم فرس أبي قتادة (( الحزوة )) أي بفتح المهملة وسكون الزأي بعدها واو ، فإما أن يكون له اسمان وإما أن أحدهما تصحف والذي في الصحيح هو المعتمد – انتهى. ( فسألهم أن يناولوه ) أي يعطوه ( سوطه ، فأبوا ) لعدم جواز المعاونة ( فتناوله ) أي أخذ بيده ، وفي رواية أبي حازم عند البخاري في الهبة (( فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنوني به وأحبوا لو أني أبصرته فالتفت فأبصرته فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم : ناولوني السوط والرمح فقالوا : لا والله لا نعينك عليه بشيء فغضبت فنزلت فأخذتهما ثم ركبت )) وفي رواية (( وكنت نسيت سوطي فقلت : لهم ناولوني سوطي ، فقالوا : لا نعينك عليه فنزلت فأخذته )) ( فحمل عليه ) أي وجه الفرس نحوه فأدركه ( فعقره ) أي قتله ، وأصل العقر الجرح ، وفي رواية (( فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات )) وفي أخرى (( حتى عقرته فأتيت إليهم فقلت لهم : قوموا فاحتملوا فقالوا : لا نمسه . فحملته حتى جئتهم به )) ( ثم ) أي بعد طبخه ( أكل ) أي أبو قتادة منه ( فأكلوا ) تبعا له ( فندموا ) لظنهم أنه لا يجوز للمحرم أكل الصيد مطلقا ، وفي رواية لمسلم (( فأكل بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بعضهم )) وفي رواية للشيخين (( فأتيت به أصحابي فقال بعضهم : كلوا ، وقال بعضهم : لا تأكلوا )) قال الحافظ : قد تقدم من عدة أوجه أنهم أكلوا ، والظاهر أنهم أكلوا أول ما أتاهم ثم طرأ عليهم الشك كما في لفظ عثمان بن موهب عن عبد

(19/294)


الله بن أبي قتادة عند البخاري (( فأكلنا من لحمها ثم قلنا : أنأكل من لحم صيد ونحن محرمون ؟ )) وأصرح من ذلك رواية أبي حازم عند البخاري في الهبة بلفظ (( ثم جئت به فوقعوا فيه يأكلون ، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم )) ( فلما أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي لحقوه وقد تقدمهم إلى السقيا ، قال الحافظ : في الحديث من الفوائد أن عقر الصيد ذكاته وجواز الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن العربي : هو اجتهاد بالقرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا في حضرته ، وفيه العمل بما أدى إليه الاجتهاد ولو تضاد المجتهدان ، ولا يعاب واحد منهما على ذلك لقوله : فلم يعب ذلك علينا . وكأن الآكل تمسك بأصل الإباحة والممتنع نظر إلى الأمر الطارئ ، وفيه الرجوع إلى النص عند تعارض الأدلة يعني لأن الصحابة بعد ما أكلوا من الحمار الوحشي مجتهدين وحصل لهم شك في جواز أكلهم رجعوا في تحقيق ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ( سألوه ) أي عن ذلك هل يجوز أكله أم لا ؟ وفي رواية عند البخاري (( فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أمامنا
قال : " هل معكم منه شيء ؟ " قالوا : معنا رجله فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكلها .

(19/295)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فسألته ، فقال : كلوه حلال )) ( قال ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما سألهم عن إشارتهم ودلالتهم وقتلهم ( هل معكم منه شيء ؟ قالوا : معنا رجله ) وفي رواية أبي حازم عند البخاري في الهبة (( فرحنا وخبأت العضد معي )) وفيه (( فقال : معكم منه شيء ؟ فناولته العضد فأكلها حتى تعرقها )) وفي رواية المطلب عند سعيد بن منصور (( قد رفعنا لك الذراع فأكل منها )) وجمع بأنه أكل من كليهما ( فأخذها ) أي رجله ( فأكلها ) إشارة إلى أن الجواب بالفعل أقوى من القول . قال الحافظ : فيه الاستيهاب من الأصدقاء وقبول الهدية من الصديق ، وقيل عياض : عندي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من أبي قتادة ذلك تطييبا لقلب من أكل منه ، بيانا للجواز بالقول والفعل لإزالة الشبهة التي حصلت لهم – انتهى . والحديث دليل على جواز أكل الحمار الوحشي وأنه من الصيد بخلاف الحمار الأهلي فإنه رجس ، وأن تمني المحرم أن يقع من الحلال الصيد ليأكل المحرم منه لا يقدح في إحرامه ، وأنه يجوز للمحرم الأكل من صيد الحلال إذا لم يصده لأجله ، وهذا يقوي من حمل الصيد في قوله تعالى : ? وحرم عليكم صيد البر ? على الاصطياد ، تنبيه : روى أحمد (ج 5 : ص 304) وابن ماجة وعبد الرزاق في مصنفه (ج 4 : ص 430) والدراقطني وإسحاق بن راهوية وابن خزيمة والبيهقي (ج 5 : ص 190) من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه ، قال : خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم أنا فرأيت حمار وحش فحملت عليه فاصطدته ، فذكرت شأنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلت له : إنما اصطدته لك فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فأكلوه ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له . قال ابن خزيمة وأبو بكر النيسابوري والدراقطني والجوزقي تفرد بهذه الزيادة معمر ، قال ابن خزيمة :

(19/296)


إن كانت هذه الزيادة محفوظة احتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - أكل من لحم ذلك الحمار قبل أن يعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله فلما أعلمه امتنع – انتهى . قال الحافظ : وفيه نظر لأنه لو كان حراما ما أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأكل منه إلى أن أعلمه أبو قتادة بأنه صاده لأجله ، ويحتمل أن يكون ذلك لبيان الجواز فإن الذي يحرم على المحرم إنما هو الذي يعلم أنه صيد من أجله ، وأما إذا أتي بلحم لا يدري ألحم صيد أو لا فحمله على أصل الإباحة فأكل منه لم يكن ذلك حراما على الآكل . وعندي بعد ذلك فيه وقفة ، فإن الروايات المتقدمة ظاهرة في أن الذي تأخر هو العضد وأنه - صلى الله عليه وسلم - أكلها حتى تعرقها أي لم يبق منها إلا العظم ، ووقع عند البخاري في الهبة حتى نفدها أي فرغها ، فأي شيء يبقى منها حينئذ حتى يأمر أصحابه بأكله ، لكن رواية أبي محمد في الصيد عند البخاري (( أبقي معكم شيء منه ؟ قلت : نعم . قال : كلوا فهو طعمة أطعمكموها الله )) فأشعر بأنه بقي منها غير العضد والله أعلم – انتهى . وقال الزيلعي : قال صاحب التنقيح : والظاهر أن هذا اللفظ الذي تفرد به معمر غلط فإن في الصحيحين (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل منه )) وفي لفظ لأحمد (ج 5 : ص 306) (( قلت : هذه العضد قد شويتها وأنضجتها فأخذها
متفق عليه . وفي رواية لهما : فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ " قالوا : لا . قال : " فكلوا ما بقي من لحمها " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/297)


فنهشها - صلى الله عليه وسلم - وهو حرام حتى فرغ منها )) – انتهى . وقال الشيخ محمد عابد السندي في المواهب اللطيفة : والأولى أن يقال إن رواية معمر شاذة لمخالفته للثقات الأثبات فلا عبرة بها والله أعلم – انتهى . قلت : معمر ثقة لا يضر تفرده وقد تقدم وجه الجمع بين الروايتين في كلام ابن خزيمة ، ويشهد للزيادة المذكورة في رواية معمر حديث جابر الآتي في الفصل الثاني ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الجهاد والأطعمة والهبة والحج والمغازي والصيد ، ومسلم في الحج واللفظ المذكور في للبخاري في الجهاد ، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج 5 : ص 301 ، 302 ، 306 ، 307 ، 308) ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ، والحميدي (ج 1 : ص 204) والبيهقي (ج 5 : ص 187 ، 188 ، 189) والدراقطني وابن الجارود (ص 153 ، 154) والشافعي والطحاوي وغيرهم ( وفي رواية لهما ) أي للشيخين المعلوم من متفق عليه ، واللفظ الآتي للبخاري في الحج ، ولفظ مسلم (( فقال : هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء ؟ )) وفي رواية أخرى له (( قال : أشرتم أو أعنتم أو أصدتم )) ( أمنكم أحد أمره ) أي بالصريح أو الدلالة ( أن يحمل عليها ) قال القاري : أي على الحمار أو الصيد وتأنيثه باعتبار الدابة ، قلت : الضمير راجع إلى الأتان لأنه لا يطلق إلا على الأنثى وهي مذكورة في رواية البخاري التي هذه تتمتها وقد ذكرنا لفظها ( أو أشار إليها ؟ ) عطف على (( أمره )) قال القاري : والفرق بين الدلالة والإشارة أن الأولى باللسان والثانية باليد ، وقيل الأولى في الغائب والثانية في الحضور ، وقيل كلتاهما بمعنى واحد – انتهى . وفيه دليل على أن مجرد الأمر من المحرم للصائد بأن يحمل على الصيد ، والإشارة منه مما يوجب عدم لحل لمشاركته للصائد ( فكلوا ما بقي من لحمها ) قال الحافظ : صيغة الأمر هنا للإباحة لا للوجوب لأنها وقعت جوابا عن سؤالهم عن الجواز لا عن الوجوب فوقعت الصيغة على

(19/298)


مقتضى السؤال ولم يذكر في هذه الرواية أنه - صلى الله عليه وسلم - أكل من لحمها ، وذكره في الروايات الأخرى كما تقدم ، وفي الحديث أنه لا يجوز للمحرم الاصطياد ولا الإعانة عليه بدلالة أو إشارة أو مناولة سلاح أو غير ذلك مما يعين على قتله أو صيده ، وفيه جواز أكل المحرم مما صاده الحلال إذا لم يكن من المحرم إعانة أو إشارة أو دلالة ، وهو إجماع إذا لم يصد لأجله فإن صيد لأجله فكذلك عند الجمهور منهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد خلافا للحنفية إذ قالوا : يجوز له أكل ما صيد لأجله ، وقد تقدم في أول الباب ذكر الخلاف في المسألة وأن حديث أبي قتادة هذا من مستدلات الحنفية ، فإن ظاهره أنه صاده لأجل رفقهم المحرمين ، قال القاري في شرح النقاية : الأولى في الاستدلال على المطلوب حديث أبي قتادة فإنهم لما سألوه - صلى الله عليه وسلم - لم يجب لحله لهم حتى سألهم عن موانع الحل أكانت موجودة أم لا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا : لا .
2723 – (3) وعن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ،

(19/299)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فقال : فكلوا إذا . فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه في سلك ما يسأل عنه منها في التفحص عن الموانع ليجيب بالحكم عند خلوه عنها ، وهذا المعنى كالصريح في نفي كون الاصطياد لهم مانعا – انتهى كلام القاري . وهو مأخوذ من تقرير ابن الهمام ، وذكر بعض الحنفية كلام ابن الهمام وزاد عليه أن العادة قاضية بأن مثل هذا الحيوان أي الحمار الوحشي في عظم جثته وكثرة لحمه لا يصيده الصائد لأن يأكله هو وحده ، وكان أبو قتادة إذ ذاك في السفر ولم يكن معه إلا رفقته المحرمون فيغلب على الظن – والله أعلم – أنه كان نوى تشريكهم في أكله ولا سيما بعد ما علم بقرائن الحال من تمنيهم اصطياده كما يدل عليه قوله في بعض الروايات (( فلم يؤذنوني به وأحبوا لو أني أبصرته )) – انتهى . وأجيب عن ذلك بأن رواية معمر عند أحمد وابن ماجة وابن خزيمة وغيرهم صريحة في أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل منه حينما أخبره أبو قتادة بأنه إنما اصطاده لأجله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا يقتضي أن أبا قتادة لم يصد لأجل رفقته وأن الاصطياد لأجل المحرم من موانع الأكل ولذا امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكله وأذن لرفقته فيه ، وأما استبعاد أن يصيد أبو قتادة الحمار الوحشي لأجله فقط دون رفقته فقد أجاب عنه صاحب تيسير العلام بما نصه : قد يستبعد أن يصيد أبو قتادة الحمار الوحشي لأجله وحده دون رفقته وهو إشكال في موضعه ، والذي يزيل هذا الإشكال هو أن نفهم أن الصيد عند العرب هواية محببة لديهم وظرف يتعشقه ملوكهم وكبارهم ، فلا يبعد أن أبا قتادة لما رأى حمر الوحش شاقه طرادها قبل أن يفكر في أنه سيصيدها ليأكل لحمها هو وأصحابه ، وهذا شيء علمناه من أنفسنا فلقد تعبنا في طراد الصيد وأنفقنا في سبيله الوقت والمال لذة وشوقا فإذا ظفرنا به رخص لدينا وذهب خطره من قلوبنا ، والله أعلم .

(19/300)


2723 - قوله ( وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) كذا في رواية مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر عند الشيخين ، وهكذا وقع في رواية ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه عند مسلم ، ووقع عند البخاري من رواية أبي عوانة عن زيد بن جبير قال : سمعت ابن عمر يقول حدثتني إحدى نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعند الشيخين من رواية يونس عن الزهري عن سالم قال : قال عبد الله بن عمر قالت حفصة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خمس من الدواب – الحديث . قال الحافظ : هذا والذي قبله قد يوهم أن عبد الله بن عمر ما سمع هذا الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن وقع في بعض طرق نافع عنه (( سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - )) أخرجه مسلم من طريق ابن جريج ، قال : أخبرني نافع ، وقال مسلم بعده : لم يقل أحد عن نافع عن ابن عمر (( سمعت )) إلا ابن جريج ، وتابعه محمد بن إسحاق ثم ساقه من طريق ابن إسحاق عن نافع كذلك ، فالظاهر أن ابن عمر سمعه من أخته حفصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسمعه أيضا من النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث به حين سئل عنه فقد وقع عند أحمد من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : نادى رجل ، ولأبي عوانة في المستخرج من هذا
قال : " خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام :

(19/301)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوجه ، (( أن أعرابيا نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نقتل من الدواب إذا أحرمنا ؟ )) والظاهر أن المبهمة في رواية زيد بن جبير هي حفصة ، ويحتمل أن تكون عائشة ، وقد رواه ابن عيينة عن ابن شهاب فأسقط حفصة من الإسناد ، والصواب إثباتها في رواية سالم – انتهى . وقال الولي العراقي بعد ذكر اختلاف الروايات في الصحابي الذي روى هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ولا يضر هذا الاختلاف ، فالحديث مقبول سواء كان من رواية ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بواسطة حفصة أو غيرها من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن . وقد تقدم من حديث ابن جريج في صحيح مسلم بسماع ابن عمر له من النبي - صلى الله عليه وسلم - ( خمس ) أي من الدواب ، كما في رواية عند الشيخين ، وهي بتشديد الموحدة جمع دابة وهي في الأصل ما يدب على وجه الأرض ، والهاء للمبالغة ، تقع على المذكر والمؤنث . قال الحافظ : الدواب جمع دابة وهو ما دب من الحيوان ، وقد أخرج بعضهم منها الطير لقوله تعالى ? وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ? ( الأنعام : الآية 38) وحديث الباب يرد عليه فإنه ذكر في الدواب الخمس الغراب والحدأة ، ويدل على دخول الطير أيضا عموم قوله تعالى ? وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ? ( سورة هود : الآية 7) وقوله تعالى ? وكأين من دابة لا تحمل رزقها ? ( العنكبوت : الآية 60 ) وفي حديث أبي هريرة عند مسلم في صفة بدء الخلق (( وخلق الدواب يوم الخميس )) ولم يفرد الطير بذكر ، وقد تصرف أهل العرف في الدابة فمنهم من يخصها بالحمار ومنهم من يخصها بالفرس ، وفائدة ذلك تظهر في الحلف – انتهى . وقال العيني : الدابة في الأصل لكل ما يدب على وجه الأرض ، ثم نقله العرف العام إلى ذوات القوائم الأربع من الخيل والبغال والحمير ، ويسمى هذا منقولا عرفيا ، فإن قلت : في أحاديث

(19/302)


الباب الغراب والحدأة وليسا من الدواب ، ولو قال من الحيوان لكان أصواب ، قلت : أكثر ما ذكر في أحاديث الباب الدواب فنظر إلى هذا الجانب – انتهى . وكلمة (( خمس )) مرفوع على الابتداء لتخصصها بالصفة وهي قوله (( لا جناح على من قتلهن )) والخبر قوله (( الفارة والغراب )) إلخ ، وأما على ما وقع في الرواية الأخرى بلفظ (( خمس من الدواب )) فالصفة المخصصة هي قوله (( من الدواب )) والخبر قوله ( لا جناح على من قتلهن ) بضم الجيم أي لا إثم ولا جزاء والمعنى لا حرج ( في الحرم ) أي في أرضه ، بفتح الحاء والراء المهملتين وهو الحرم المشهور أي حرم مكة ( والإحرام ) أي في حاله ، ولفظ الكتاب لمسلم ، أخرجه من رواية ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه ، واللفظ المتفق عليه (( خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح )) أخرجاه من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر . قال الحافظ : ويؤخذ من الحديث جواز قتلهن الحلال ، وفي الحل من باب الأولى ، وقد وقع ذكر الحل صريحا عند مسلم من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة بلفظ (( يقتلن في الحل والحرم )) ويعرف حكم الحلال بكونه لم يقم به مانع وهو الإحرام فهو بالجواز أولى – انتهى .
..............................................................................................

(19/303)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الولي العراقي : نص في الحديث على المحرم لكونه جوبا للسؤال عنه ، ويعلم حكم الحلال من طريق أولى فإنه لم يقم به مانع من ذلك . فإذا أبيح مع قيام المانع فمع فقده أولى . قال : واقتصر في حديث ابن عمر على نفي الجناح وهو الإثم عن قتل هذه المذكورات وليس في ذلك ترجيح فعل قتلها على تركه ، وفي حديث عائشة ( عند مسلم ) الأمر ، وهو يدل على ترجيح قتلها على تركه ، وهو محتمل للوجوب والندب بناء على أن المندوب مأمور به وهو المرجح في الأصول ومذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية استحباب قتل المؤذيات وهي الخمس المذكورة وما في معناها ، وتمسكوا بالأمر به في هذا الحديث ، وفيه زيادة على نفي الجناح الذي في حديث ابن عمر . وقال الحافظ : ليس في نفي الجناح وكذا الحرج في طريق سالم دلالة على أرجحية الفعل على الترك لكن ورد في طريق زيد بن جبير عند مسلم بلفظ (( أمر )) وكذا في طريق معمر ( عند مسلم وعبد الرزاق ) ولأبي عوانة من طريق ابن نمير عن هشام عن أبيه بلفظ (( ليقتل المحرم )) وظاهر الأمر الوجوب ، ويحتمل الندب والإباحة . قال : ويؤيد الإباحة رواية الليث عن نافع عن ابن عمر عند النسائي بلفظ (( أذن )) وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره (( خمس قتلهن حلال للمحرم )) ثم إنه وقع التقييد بالخمس في حديث عائشة أيضا كما سيأتي ، قال الحافظ : التقييد بالخمس وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك لكنه مفهوم عدد وليس بحجة عند الأكثر ، وعلى تقدير اعتباره يحتمل أن يكون قاله - صلى الله عليه وسلم - أولا ثم بين بعد ذلك أن غير الخمس يشترك معها في الحكم فقد ورد في بعض طرق حديث عائشة بلفظ (( أربع وفي بعض طرقها بلفظ (( ست )) فأما طريق (( أربع )) فأخرجها مسلم عن طريق القاسم عنها فأسقط العقرب وأما طريق (( ست )) فأخرجها أبو عوانة في المستخرج من طريق المحاربي عن هشام عن أبيه عنها

(19/304)


فأثبت الخمس وزاد (( الحية )) ويشهد لها طريق شيبان عن أبي عوانة عند مسلم وإن كانت خالية عن العدد ، ولفظها (( سأل رجل ابن عمر : ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم فقال : حدثتني إحدى نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفارة والعقرب والحدأة والغراب والحية ، قال : وفي الصلاة أيضا . فلم يقل في أوله خمسا وزاد الحية وزاد في آخره ذكر الصلاة لينبه بذلك على جواز قتل المذكورات في جميع الأحوال ، وقد وقع في حديث أبي سعيد عند أبي داود نحو رواية شيبان وزاد السبع العادي فصارت سبعا ، وفي حديث أبي هريرة عند ابن خزيمة وابن المنذر زيادة ذكر الذئب والنمر على الخمس المشهورة فتصير بهذا الاعتبار تسعا ، لكن أفاد ابن خزيمة عن الذهلي أن ذكر الذئب والنمر من تفسير الراوي للكلب العقور ، ووقع ذكر الذئب في حديث مرسل أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور ( وعبد الرزاق والبيهقي ) وأبو داود من طريق سعيد بن المسيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يقتل المحرم الحية والذئب ورجاله ثقات ، وأخرج أحمد من طريق حجاج بن أرطاة عن وبرة عن ابن عمر قال (( أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الذئب للمحرم )) وحجاج ضعيف وخالفه مسعر عن وبرة فرواه موقوفا ، أخرجه ابن أبي شيبة ، فهذا جميع
الفأرة والغراب

(19/305)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ما وقفت عليه في الأحاديث المرفوعة زيادة على الخمس المشهورة ولا يخلو شيء من ذلك من مقال – انتهى . قال بعض الحنفية : مرسل سعيد بن المسيب يكفي للاحتجاج فإن مراسليه مقبولة ، قال : فهذا المرسل في قوة المسند عندنا ، وقد تأيد بحديث الحجاج بن أرطاة ، وبما أخرجه الطحاوي بإسناده عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ (( والحية والذئب والكلب العقور )) قال الشيخ عابد السندي في شرح مسند أبي حنيفة فإلحاق الذئب بالخمس إنما هو إلحاق بالنص كإلحاق الحية ، نعم من لا معرفة له بالأدلة من الحنفية ألحقه من حيث المعنى ، ولجامع الابتداء بالأذى – انتهى ( الفأرة ) بهمزة ساكنة ، ويجوز فيها التسهيل أي تخفيفها ألفا وجمعها (( فأر )) قال القاري : الفأرة بالهمزة ويبدل أي الوحشية والأهلية – انتهى . وبالأمر بقتلها قال الجمهور من السلف والخلف إلا إبراهيم النخعي فإنه منع المحرم من قتلها حكاه عنه الساجي وابن المنذر وغيرهما ، وزاد الساجي : وأراه قال : فإن قتلها ففيها فدية . قال ابن المنذر : وهذا لا يعنى له لأنه خلاف السنة وقول أهل العلم . وقال الخطابي : هذا مخالف للنص خارج عن أقاويل أهل العلم ، وعند المالكية خلاف في قتل ما انتهى صغره منها إلى حد لا يمكن منه الأذى وليس هذا الخلاف عند غيرهم كذا في شرح التقريب ، وقال الحافظ : لم يختلف العلماء في جواز قتل الفأرة للمحرم إلا ما حكي عن إبراهيم النخعي فإنه قال : فيها جزاء إذا قتلها المحرم ، أخرجه ابن المنذر وقال : هذا خلاف السنة وخلاف قول جميع أهل العلم . وروى البيهقي بإسناد صحيح عن حماد بن زيد قال : لما ذكروا له هذا القول (( ما كان بالكوفة أفحش ردا للآثار من إبراهيم النخعي لقلة ما سمع منها ولا أحسن إتباعا لها من الشعبي لكثرة ما سمع )) ونقل ابن شاس عن المالكية خلافا في جواز قتل الصغير منها الذي لا يتمكن من

(19/306)


الأذى ، والفار أنواع ، منها الجرذ ، بالجيم بوزن عمر ، والخلد بضم المعجمة وسكون اللام ، وفأرة الإبل ، وفارة المسك ، وفارة الغيط وحكمهما في تحريم الأكل وجواز القتل سواء ، وقد أطلق الفويسقة عليه في حديث جابر عند البخاري في الأدب ، وذكر سبب تسميتها بذلك في حديث أبي سعيد عند ابن ماجة ، قيل له : لم قيل للفأرة الفويسقة ؟ فقال : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استيقظ وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت ، وقيل إنما سميت بذلك لأنها قطعت حبال سفينة نوح ( والغراب ) أي الأبقع كما في الرواية الآتية ، قال الحافظ : زاد في رواية سعيد بن المسيب عن عائشة عند مسلم (( الأبقع )) وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض . وأخذ بهذا القيد بعض أصحاب الحديث كما حكاه ابن المنذر وغيره وقد اختاره ابن خزيمة وهو قضية حمل المطلق على المقيد ، قال ابن قدامة : يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء وتحريم الأكل ، وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك ، ويقال له غراب الزرع ، ويقال له (( الزاغ )) وأفتوا بجواز أكله فبقي ما عداه من الغربان ملتحقا بالأبقع . ومنها الغداف على الصحيح في الروضة بخلاف تصحيح الرافعي ، وسمى ابن قدامة
والحدأة والعقرب

(19/307)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الغداف (( غراب البين )) والمعروف عند أهل اللغة أنه الأبقع ، قيل : سمى غراب البين لأنه بان عن نوح لما أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض فلقى جيفة فوقع عليها ولم يرجع إلى نوح ، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون به فكانوا إذا نعب مرتين قالوا : آذن بشر ، وإذا نعب ثلاثا قالوا : آذن بخير فأبطل الإسلام ذلك . وقال صاحب الهداية المراد بالغراب في الحديث الغداف والأبقع لأنهما يأكلان الجيف ، وأما غراب الزرع فلا ، وكذا استثناءه ابن قدامة ، وما أظن فيه خلافا ، وعليه يحمل ما جاء في حديث أبي سعيد إن صح حيث قال فيه : ويرمي الغراب ولا يقتله ، وروى ابن المنذر وغيره عن علي ومجاهد ، وعند المالكية اختلاف آخر في الغراب والحدأة هل يتقيد جواز قتلهما بأن يبتدءا بالأذى ، وهل يختص ذلك بكبارها والمشهور عنهم كما قال ابن شاس : لا فرق وفاقا للجمهور ، ومن أنواع الغربان الأعصم وهو الذي في رجليه أو في جناحيه أو بطنه بياض أو حمرة ، وحكمه حكم الأبقع ، ومنها العقعق وهو قدر الحمامة على شكل الغراب ، قيل سمي بذلك لأنه يعق فراخه فيتركها بلا طعم ، والعرب تتشاءم به أيضا ، وحكمه حكم الأبقع على الصحيح ، وقيل حكم غراب الزرع . وقال أحمد : إن أكل الجيف وإلا فلا بأس به – انتهى كلام الحافظ باختصار . وقال الولي العراقي : إن مذاهب الأئمة الأربعة متفقة على أنه يستثنى من الأمر بقتل الغراب غراب الزرع خاصة ، فإما أن يكونوا اعتمدوا التقييد الذي في حديث عائشة بالأبقع وألحقوا به ما في معناه في الأذى وأكل الجيف وهو الغداف ، وإما أن يكونوا أخذوا بالروايات المطلقة وجعلوا التقييد بالأبقع لغلبته لا لاختصاص الحكم به ، وأخرجوا عن ذلك غراب الزرع وهو الزاغ لحل أكله ، فهو مستثنى منفصل ( والحدأة ) بكسر الحاء وفتح الدال المهملتين وبعد الدال همزة بغير مد ، وحكى صاحب المحكم المد فيه ندورا بزيادة الهاء

(19/308)


فيه للوحدة وليست للتأنيث بل هي كالهاء في التمرة ، وحكى الأزهري فيها حدوة بواو بدل الهمزة ، وجمع الحدأة حدأ بكسر الحاء والقصر والهمز كعنبة وعنب ، ووقع في حديث عائشة الآتي بلفظ ( الحديا )) بضم الحاء وفتح الدال وتشديد التحتانية مقصور تصغير الحدأة ، وقال القاري : (( الحديا )) تصغير حد ، لغة في الحدإ أو تصغير حدأة ، قلبت الهمزة بعد ياء التصغير ياء وأدغم ياء التصغير فيه فصار حدية ثم حذفت التاء وعوض عنها الألف لدلالته على التأنيث أيضا وقال الحافظ : قال قاسم بن ثابت : الوجه فيه الهمزة وكأنه سهل ثم أدغم ، وقيل : هي لغة حجازية وغيرهم يقولون حدية ، ومن خواص الحداة أنها تقف في الطيران ويقال إنها لا تخطف إلا من يمين من تخطف منه دون شماله ( والعقرب ) يطلق على الذكر والأنثى سواء وجمعه العقارب ، وقد يقال للأنثى عقربة وعقرباء ممدود غير مصروف ، وليس منها العقربان بل هي دويبة طويلة كثيرة القوائم ، قاله صاحب المحكم ، ويقال : إن عينها في ظهرها وأنها لا تضر ميتا ولا نائما حتى يتحرك ، ويقال لدغته العقرب بالغين
والكلب العقور " .

(19/309)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعجمة ولسعته بالمهملتين ، وقد تقدم اختلاف الرواة في ذكر الحية بدلها ومن جميعها . قال الحافظ : والذي يظهر لي أنه - صلى الله عليه وسلم - نبه بإحداهما على الأخرى عند الاقتصار ، وبين حكمهما معا حيث جمع . قال ابن المنذر : لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب . وقال نافع : لما قيل له : فالحية ؟ قال : لا يختلف فيها ، وفي رواية (( ومن يشك فيها )) وتعقبه ابن عبد البر بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شعبة أنه سأل الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان فقالا : لا يقتل المحرم الحية ولا العقرب ، وقال : ومن حجتهما أن هذين من هوام الأرض فليزم من أباح قتلهما مثل ذلك في سائر الهوام . قال : وهذا اعتلال لا معنى له ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أباح للمحرم قتلهما ، نعم عند المالكية خلاف في قتل صغير الحية والعقرب التي لا تتمكن من الأذى ( والكلب العقور ) قال الحافظ : الكلب معروف والأنثى كلبة . واختلف العلماء في المراد بها ها هنا وهل لوصفه بكونه عقورا مفهوم أو لا . فروى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن أبي هريرة قال : الكلب العقور الأسد ، وعن سفيان عن زيد بن أسلم أنهم سألوه عن الكلب العقور فقال : وأي كلب أعقر من الحية ؟ وقال زفر : المراد بالعقور هنا الذئب خاصة . وقال مالك في الموطأ : كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب هو العقور ، وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان وهو قول الجمهور ، وقال أبو حنيفة : المراد بالكلب هنا الكلب المتعارف خاصة ولا يلتحق به في هذا الحكم سوى الذئب . واحتج للجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فقتله الأسد . وهو حديث حسن أخرجه الحاكم – انتهى . قال الشوكاني بعد ذكره : غاية ما في ذلك جواز الإطلاق لا أن اسم الكلب هنا متناول لكل ما يجوز إطلاقه عليه وهو محل النزاع فإن قيل :

(19/310)


اللام في الكلب تفيد العموم . قلنا بعد تسليم ذلك : لا يتم إلا إذا كان إطلاق الكلب على كل واحد منها حقيقة وهو ممنوع ، والسند أنه لا يتبادر عند إطلاق لفظ الكلب إلا الحيوان المعروف ، والتبادر علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز ، والجمع بين الحقيقة والمجاز لا يجوز ، نعم إلحاق ما عقر من السباع بالكلب العقور بجامع العقر صحيح ، وأما أنه داخل تحت لفظ الكلب فلا – انتهى . وقال النووي : اتفق العلماء على جواز قتل الكلب العقور للمحرم والحلال في الحل والحرم واختلفوا في المراد به ، فقيل : هذا الكلب المعروف خاصة حكاه القاضي عن الأوزاعي وأبي حنيفة والحسن بن صالح وألحقوا به الذئب . وحمل زفر الكلب على الذئب وحده ، وقال الجمهور : ليس المراد تخصيص هذا الكلب بل المراد كل عاد مفترس كالسبع والنمر ، وهذا قول الثوري والشافعي وأحمد وغيرهم ، ومعنى العاقر الجارح – انتهى ، قال الحافظ : واختلف العلماء في غير العقور مما لم يؤمر باقتنائه فصرح بتحريم قتله القاضيان : حسين والماوردي وغيرهما ، ووقع في الأم للشافعي الجواز ، واختلف كلام النووي فقال في البيع من شرح المهذب : لا خلاف بين أصحابنا في أنه
...............................................................................................

(19/311)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محترم لا يجوز قتله ، وقال في التيمم والغصب : إنه غير محترم ، وقال في الحج : يكره قتله كراهة تنزيه ، وهذا اختلاف شديد وعلى كراهة قتله اقتصر الرافعي وتبعه في الروضة وزاد أنها كراهة تنزيه ، وقال الولي العراقي : سواء حمل الكلب على مدلوله المعروف أو على كل سبع مفترس فتقييده بالعقور يخرج غيره ويقتضي أن غير العقور من الكلاب محترم لا يجوز قتله ، وبه صرح الرافعي في كتاب الأطعمة والنووي في البيع في شرح المهذب ، وزاد أنه لا خلاف فيه بين أصحابنا ، وقال الرافعي في الحج : إن قتله مكروه ، وقال النووي : هناك مراده كراهة تنزيه ، وذكر الرافعي في الغصب أنه غير محترم ، وكذا ذكر النووي في التيمم ، وهذه مواضع مختلفة ، وقال شيخنا الأسنوي في المهمات : جزم بالتحريم القاضي الحسين والمارودي وإمام الحرمين ، ومذهب الشافعي جواز قتله ، صرح به في الأم في باب الخلاف في ثمن الكلب – انتهى . ومن يقول بجواز قتل غير العقور يجيب عن هذا التقييد بأنه للاستحباب وغير العقور يجوز قتله ولا يستحب ، والله أعلم ، ثم إنه قال الحافظ : وذهب الجمهور كما تقدم إلى إلحاق غير الخمس بها في هذا الحكم إلا أنهم اختلفوا في المعنى في ذلك فقيل لكونها مؤذية فيجوز قتل كل مؤذ ، وهذا قضية مذهب مالك . وقيل لكونها مما لا يؤكل ، فعلى هذا كل ما يجوز قتله لا فدية على المحرم فيه ، وهذا قضية مذهب الشافعي ، وقد قسم هو أصحابه الحيوان بالنسبة للمحرم إلى ثلاثة أقسام : قسم يستحب كالخمس وما في معناه مما يؤذي ، وقسم يجوز كسائر ما لا يؤكل لحمه ، وهو قسمان : ما يحصل منه نفع وضرر فيباح لما فيه من منفعة الاصطياد ولا يكره لما فيه من العدوان ، وقسم ليس فيه نفع ولا ضرر فيكره قتله ولا يحرم ، والقسم الثالث ما أبيح أكله أو نهي عن قتله ولا يجوز ففيه الجزاء إذا قتله المحرم ، وخالف الحنفية فاقتصروا على الخمس إلا أنهم

(19/312)


ألحقوا بها الحية لثبوت الخبر والذئب لمشاركته للكلب في الكلبية ، وألحقوا بذلك ما ابتداء بالعدوان والأذى من غيرها . وتعقب بظهور المعنى في الخمس وهو الأذى الطبيعي والعدوان المركب ، والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه تعدى الحكم إلى كل ما وجد فيه ذلك المعنى كما وافقوا عليه في مسائل الربا ، قال ابن دقيق العيد : والتعدية بمعنى الأذى إلى كل مؤذ قوي بالإضافة إلى تصرف أهل القياس فإنه ظاهر من جهة الإيماء بالتعليل بالفسق وهو الخروج عن الحد ، وأما التعليل بحرمة الأكل ففيه إبطال لما دل عليه إيماء النص من التعليل بالفسق ، لأن مقتضى العلة أن يتقيد الحكم بها وجودا وعدما ، فإن لم يتقيد وثبت الحكم عند عدمها بطل تأثيرها بخصوصها وهو خلاف ما دل عليه ظاهر النص من التعليل بها – انتهى . وقال غيره : هو راجع إلى تفسير الفسق ، فمن فسره بأنه الخروج عن بقية الحيوان بالأذى علل به ، ومن قال بجواز القتل وتحريم الأكل علل به ، وقال من علل بالأذى : أنواع الأذى مختلفة ، وكأنه نبه بالعقرب على ما يشاركها في الأذى باللسع ونحوه من ذوات السموم كالحية والزنبور والبرغوث ، وبالفارة على ما يشاركها في الأذى بالنقب والقرض كابن العرس ،
متفق عليه .
2724 – (4) وعن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " خمس فواسق يقتلن

(19/313)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وبالغراب والحدأة على ما يشاركها بالاختطاف كالصقر والبازي ، وبالكلب العقور على ما يشاركه في الأذى بالعدوان والعقر والافتراس بطبعه كالأسد والنمر والفهد . وقال من علل بتحريم الأكل وجواز القتل : إنما اقتصر على الخمس لكثرة ملابستها للناس بحيث يعم أذاها ، والتخصيص لأجل الغلبة إذا وقع لم يكن له مفهوم على ما عرف في الأصول . قلت : وفي مذهب الحنيفة في السباع وفي قتل غير العقور روايتان كما يظهر من فروعهم من شاء الوقوف على ذلك رجع إلى الهداية والدر المختار وشرح اللباب وفتح القدير والبدائع ، وهذا وقد أطنب الولي العراقي على عادته في شرح حديث ابن عمر وعائشة في طرح التثريب (ج 5 : ص 56 – 72) وأجمل المحب الطبري في القرى ( ص 215 ، 216) فأحسن فراجعهما إن شئت ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي بدء الخلق المسلم في الحج ، وأخرجه أيضا احمد (ج 2 : ص 3 ، 8 ، 32 ، 37 ، 38 ، 54 ، 65 ، 77 ، 82 ، 138) ومالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة وعبد الرزاق (ج 4 : ص 442) والطحاوي والدرامي وابن الجارود (ص 155) والبيهقي (ج 5 : ص 209 ، 210) وغيرهم .

(19/314)


2724 – قوله ( خمس ) بالتنوين مبتدأ ، وقوله ( فواسق ) صفته وهو غير منصرف والخبر قوله ( يقتلن ) قال الطيبي : وروى بلا تنوين مضافا إلى فواسق ، قال التوربشتي : والصحيح هو الأول ، ويدل عليه رواية البخاري في أحد طرقه (( خمس من الدواب كلهن فاسق )) أي كل واحدة أو واحد منها فاسق ، وهو جمع فاسقة ، وأراد بفسقهن خبثهن وكثرة الضرر فيهن – انتهى . وقال النووي: هو بإضافة خمس لا بتنوينه ، وجوز ابن دقيق العيد الوجهين وأشار إلى ترجيح الثاني فإنه قال : رواية الإضافة تشعر بالتخصيص فيخالفها غيرها في الحكم من طريق المفهوم ، ورواية التنوين تقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى فيشعر بأن الحكم المرتب على ذلك وهو القتل معلل بما جعل وصفا وهو الفسق فيدخل فيه كل من فاسق من الدواب ، ويؤيده رواية البخاري من طريق يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة بلفظ (( خمس من الدواب كلهن فاسق )) وفي رواية لمسلم (( كلها فواسق )) قال الحافظ : قال النووي وغيره : تسمية هذه الخمس فواسق تسمية صحيحة جارية على وفق اللغة ، فإن أصل الفسق لغة الخروج ، ومنه فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها ، وقوله تعالى : ? ففسق عن أمر ربه ? ( سورة الكهف : الآية 48) أي خرج ، وسمي الرجل فاسقا لخروجه عن طاعة ربه فهو خروج مخصوص ، وزعم ابن الأعرابي أنه لا يعرف في كلام الجاهلية ولا شعرهم فاسق يعني بالمعنى الشرعي ، وأما المعنى في وصف الدواب المذكورة بالفسق فقيل لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله ، وقيل في حل أكله لقوله تعالى : ? أو فسقا أهل لغير الله به ? ( سورة الأنعام : الآية 146) وقوله : ? ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ، وإنه لفسق ? ( سورة الأنعام : الآية 121) وقيل لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد
في الحل والحرم : الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا " . متفق عليه .
( الفصل الثاني )

(19/315)


2725 – (5) عن جابر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لحم الصيد لكم في الإحرام حلال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وعدم الانتفاع ، ومن ثم اختلف أهل الفتوى ، فمن قال بالأول ألحق بالخمس كل ما جاز قتله للحلال في الحرم وفي الحل ، ومن قال بالثاني ألحق ما لا يؤكل إلا ما نهي عن قتله ، وهذا قد يجامع الأول ، ومن قال بالثالث يخص الإلحاق بما يحصل منه الإفساد ، ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن ماجة (( قيل له لم قيل للفارة فويسقة ؟ فقيل : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استيقظ وقد أخذت الفتلية لتحرق بها البيت )) فهذا يؤمي إلى أن سبب تسمية الخمس بذلك لكون فعلها يشبه فعل الفساق وهو يرجح القول الأخير ، والله أعلم ( في الحل والحرم ) أي حلالا كان أو محرما ( الحية ) بأنواعها وفي معناها العقرب ، ( و الغراب الأبقع ) أي الذي فيه سواد وبياض ( والكلب العقور ) قال الحافظ : في الكلب بهيمية وسبعية كأنه مركب ، وفيه منافع للحراسة والصيد ، وفيه من اقتفاء الأثر وشم الرائحة والحراسة وخفة النوم والتودد وقبول التعليم ما ليس لغيره وقيل : إن أول من اتخذه للحراسة نوح عليه السلام ( والحديا ) بصيغة التصغير . قال التوربشتي : إنما خص هذه الخمس من الدواب المؤذية والضارية وذوات السموم لما أطلعه الله تعالى عليه من مفاسدها أو لأنها أقرب ضررا إلى الإنسان وأسرع في الفساد ، وذلك بغير تمكن الإنسان من دفعها والاحتراز عنها ، فإن منها ما يطير فلا يدرك ومنها ما يختبئ في نفق من الأرض كالمنتهز للفرصة ، فإذا أمكن من الصرر يبادر إليه ، وإذا أحس بطلب استكن ، ومنها ما لا يمتنع بالكف والزجر بل يصول صولة العدو المباسل ، وقد يصيب المعرض عنه بالمكروه كما يصيب المتعرض له ، ثم إنه يتمكن من الهجوم على الإنسان لمخالطته بهم ولا كذلك السباع العادية فإنها متنفرة عن العمرانات في أماكنها يتخذ الإنسان منها حذره –

(19/316)


انتهى . واستدل بالحديث على جواز قتل من لجأ إلى الحرم ممن وجب عليه القتل ، لأن إباحة قتل هذه الأشياء معلل بالفسق ، والقاتل فاسق فيقتل ، بل هو أولى لأن فسق المذكورات طبيعي والمكلف إذا ارتكب الفسق هاتك لحرمة نفسه فهو أولى بإقامة مقتضى الفسق عليه . وأشار ابن دقيق العيد إلى أنه بحث قال للنزاع ، وسيأتي بسط القول في (( باب حرم مكة )) إن شاء الله ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي بدء الخلق ومسلم في الحج وأخرجه أيضا أحمد مرارا والنسائي والترمذي وابن ماجة والدرامي وعبد الرزاق (ج 4 : ص 422) والبيهقي (ج 5 : ص 209) .
2725 – قوله ( لحم الصيد في الإحرام حلال ) يعني لحم صيد ذبحه حلال من غير دلالة المحرم وإعانته وإشارته وأمره حلال لكم ، وقوله (( لحم الصيد لكم في الإحرام حلال )) كذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح ، وهكذا
ما لم تصيدوه أو يصاد لكم " .

(19/317)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رواه الشافعي في الأم (ج 2 : ص 176) ولفظ أبي داود والنسائي وابن حبان كما في الموارد (ص 243) والبيهقي (ج 5 : ص 190) (( صيد البر ( أي مصيده ) لكم حلال )) وزاد أحمد (ج 3 : ص 362) وعبد الرزاق (ج 4 : ص 434) والترمذي والدراقطني (ص 285) (( وأنتم حرم )) ( بضمتين جمع حرام بمعنى المحرم كردح جمع رداح ويقال رجل حرام وامرأة حرام ) وفي رواية الحاكم ج 1: ص352) وابن الجارود (ص 154) ((لحم صيد البر لكم حلال وأنتم حرم )) وكذا وقع في رواية للبيهقي (ج 5 : ص 190) ( ما لم تصيدوه ) أي بأنفسكم مباشرة ( أو يصاد لكم ) أي لأجلكم ، وقوله (( يصاد )) كذا بالألف عند أبي داود والنسائي والدارقطني وابن حبان والبيهقي والطحاوي ، ووقع عند أحمد (ج 3 : ص 362) والترمذي وابن الجارود والشافعي (( أو يصد لكم )) أي مجزوما بدون الألف ، وهكذا وقع في رواية للحاكم كما قال الحافظ في التلخيص (ص 225) وهكذا وقع عند أحمد (ج 3 : ص 387) ويؤيد ذلك ما وقع عنده أيضا (ج 3 : ص 389) بلفظ (( لحم الصيد حلال للمحرم ما لم يصده أو يصده له )) ورواه عبد الرزاق بلفظ (( إلا ما اصطدتم أو اصطيد لكم )) ورواية الجزم أي بدون الألف ظاهرة لا إشكال فيها فأنها جارية على قوانين العربية ، لأن قوله (( أو يصد )) معطوف على المجزوم ، وأما رواية الألف فقيل هي جارية على لغة منها قول الشاعر :

(19/318)


ألم يأتيك والأخبار تنمى ومنها قوله تعالى : (( ومن يتقي ويصبر )) سورة يوسف : الآية 90 بإثبات الياء ولا يخفى ما فيه ، وقال السندي الوجه نصب (( يصاد )) على أن (( أو )) بمعنى (( إلا أن )) فلا إشكال – انتهى . وقال القاري : قال بعض علمائنا : بالنصب بإضمار أن وأو بمعنى إلا يعني لحم صيد ذبحه حلال من غير دلالة المحرم وإعانته حلال لكم إلا أن يصاد لأجلكم وبهذا يستدل مالك والشافعي على حرمة لحم ما صاده الحلال لأجل المحرم ، قلت : ما ذهب مالك والشافعي هو مذهب جمهور العلماء كما قدمنا في أول الباب ، واحتج لهم بحديث جابر : فما صاده الحلال لأجل المحرم حرم على المحرم وما لم يصده لأجله حل له ، وقد صح هذا التفصيل عن عثمان بن عفان ، وأراد هؤلاء بهذا التفصيل الجمع بين الأحاديث المطلقة في التحريم أو الجواز لأن كلها صحيح لا يمكن رده ، وبالجمع المذكور تجتمع الأدلة وإعمالها أحسن من إهمال بعضها مع صحتها وهو جمع مستقيم ليس فيه تكلف أو تعسف . قال الشنقيطي : أظهر الأقوال وأظهرها دليلا هو القول المفصل بين ما صيد لأجل المحرم فلا يحل له وبين ما صاده الحلال لا لأجل المحرم ، فإنه يحل له ، والدليل على هذا أمران : الأول أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن ، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ولا طريق للجمع إلا هذا الطريق ومن عدل عنها لا بد أن يلغي نصوصا صريحة . الثاني حديث جابر الذي نحن في شرحه ، قلت : وهو صريح في الفرق
.............................................................................................

(19/319)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والجمع المذكور ، وظاهر في الدلالة لمذهب الجمهور . قال الشوكاني : هذا الحديث صريح في التفرقة بين أن يصيده المحرم أو يصيده غيره له ، وبين أن لا يصيده المحرم ولا يصاد له بل يصيده الحلال لنفسه ويطعمه المحرم ومقيد لبقية الأحاديث المطلقة كحديث الصعب وطلحة وأبي قتادة ومخصص لعموم الآية المتقدمة يعني أنه يحمل ما جاء مطلقا في بعض طرق حديث أبي قتادة ونحوه على أنه لم يقصدهم باصطياده ، ويحمل حديث الصعب وما وافقه على أنه قصدهم باصطياده لأنه كان عالما بأنه يمر به فصاده لأجله ، وتحمل الآية الكريمة على الاصطياد وعلى لحم ما صيد للمحرم للأحاديث المبينة من الآية ، ويؤيد ذلك حديث أبي قتادة عند أحمد وابن ماجة وعبد الرزاق والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة وفيه (( وذكرت أني لم أكن أحرمت وإني إنما اصطدته لك فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ، فأكلوا ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له )) وقد تقدم الكلام عليه . هذا وأجاب الحنفية عن حديث جابر بثلاثة أوجه : أحدها تأويله بحيث لا يخالف مذهبهم بل يوافقه ، والثاني الكلام في سنده وإعلاله ، والثالث ترجيح حديث أبي قتادة وتقديمه على حديث جابر أما التأويل فبوجوه وكلها مخدوشة باطلة لا يخفى بطلانها على المنصف فمنها ما قال صاحب الهداية والطحاوي أن معناه أن يصاد لكم بأمركم ، وهذا لأن الغالب في عمل الإنسان لغيره أن يكون بطلب منه ، ومنها ما قاله صاحب الهداية أيضا أن اللام في أو يصاد لكم للملك ، والمعنى أن يصاد ويجعل له فيكون تمليك عين الصيد من المحرم وهو ممتنع أن يتملكه فيأكل من لحمه ، وقال القاري : وأبو حنيفة رحمه الله يحمله على أن يهدى إليكم الصيد دون اللحم انتهى . ويبطل هذا التأويل رواية الحديث بلفظ (( لحم الصيد لكم حلال )) إلخ . ومنها ما قيل : (( إن لكم )) بمعنى (( إعانتكم )) أو (( إشارتكم )) قال النبوري

(19/320)


بعد ذكره : هذا تأويل محض لا يطمئن بمثله القلب . قلت : وهو نحو ما تقدم من تأويل صاحب الهداية والطحاوي . ومنها ما قيل : إن اللام ليس في معنى (( لأجلكم )) بل هي للتوكيل كما في قوله بعت له ثوبا ، واشتريت له لحما ، وإذا احتمل كلا الوجهين لم يبق حجة في الحمل على الوجه الأول ، وفيه أن الوجه الأول هو المتعين أعني أن اللام في (( لكم )) بمعنى لأجلكم لا للتوكيل يدل عليه رواية أبي قتادة عند أحمد وابن ماجة وغيرهما بلفظ (( ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له )) ويدل عليه أيضا قول عثمان رضي الله عنه حين أبي من أكل لحم الصيد (( إني لست كهيئتكم ، إنما صيد لأجلي )) ومنها ما قال بعضهم إن غرض الحديث كما قاله الجمهور ، ولكن ليس الغرض المنع والحرمة وإنما الغرض الكراهة فقط ، والنهي من قبيل سد الذرائع ، كما أنه عليه الصلاة والسلام أخذ صيد أبي قتادة بيانا للجواز ولم يأخذ صيد صعب بن جثامة لسد الزرائع ، وفيه أن حمله على الكراهة فقط بعيد جدا لأنه خلاف الظاهر ويبطله أيضا رواية أبي قتادة عند أحمد وابن ماجة والحكم عليها بالوهم من غير دليل ليس مما يلتفت إليه ، وأما الجواب عن حديث جابر بالكلام في سنده فهو أن في إسناد هذا الحديث عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن
...............................................................................................

(19/321)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عبد الله بن حنطب عن مولاه المطلب عن جابر بن عبد الله ، وعمرو مختلف فيه ، فقال الدوري عن ابن معين : في حديثه ضعف ، ليس بالقوى ، وقال ابن أبي خثيمة عن ابن معين : ضعيف : وقال النسائي : ليس بالقوي وقد اضطرب هو في هذا الحديث فقال أكثر أصحابه عنه عن المطلب بن عبد الله عن جابر بن عبد الله ، وقال الدراوردي عنه عن رجل من بني سلمة عن جابر ، وهو عند الشافعي والدارقطني والبيهقي والحاكم ، وقال يوسف بن خالد السمتي عنه عن المطلب بن عبد الله عن أبي موسى الأشعري ، وهو عند الطبراني في الكبير وابن عدي في الكامل ، ووافقه إبراهيم بن سويد عن عمرو عند الطحاوي ، والمطلب بن عبد الله قال فيه ابن سعد : ليس يحتج بحديثه لأنه يرسل كثيرا وليس له لقي وعامة أصحابه يدلسون . وقال الحافظ في التقريب : المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب ، صدوق كثير التدليس والإرسال ، وقال الترمذي : لا يعرف له سماع عن جابر ، وقال في موضوع آخر : قال محمد يعني البخاري : لا أعرف له سماعا من أحد من الصحابة إلا قوله : حدثني من شهد خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال ابن أبي الحاتم في المراسيل عن أبيه لم يسمع من جابر ، وعلى هذا فالحديث مرسل ، قال ابن التركماني : هذا الحديث معلول ، عمرو بن أبي عمرو مع اضطرابه في هذا الحديث متكلم فيه ، قال ابن معين وأبو داود : ليس بالقوي . زاد يحيى : وكان مالك يستضعفه ، وقال السعدي : مضطرب الحديث ، والمطلب قال فيه ابن سعد : ليس يحتج بحديثه لأنه يرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا وعامة أصحابه يدلسون ، ثم الحديث مرسل أي منقطع ، قال الترمذي : المطلب لا يعرف له سماع من جابر ، فظهر بهذا أن الحديث فيه أربع علل : إحداها الكلام في المطلب ، ثانيتها أنه ولو كان ثقة فلا سماع له من جابر فالحديث مرسل ، ثالثتها الكلام في عمرو ، ورابعتها أنه ولو

(19/322)


كان ثقة فقد اختلف عليه فيه كما مر وقد أخرجه الطحاوي من وجه آخر عن المطلب عن أبي موسى ، وقال ابن حزم في المحلى : هو خبر ساقط – انتهى . وأجيب أن هذا كله ليس فيه ما يقتضي ضعف هذا الحديث ورده ، لأن عمرو المذكور ثقة وهو من رجال البخاري ومسلم ، وممن روى عنه مالك بن أنس وكل ذلك يدل على أنه ثقة ، وقال الحافظ في التقريب : ثقة ربما وهم . وقال فيه النووي في شرح المهذب : أما تضعيف عمرو بن أبي عمرو فغير ثابت لأن البخاري ومسلما رويا له في صحيحيهما واحتجا به وهما القدوة في هذا الباب ، وقد احتج به مالك وروى عنه وهو القدوة وقد عرف من عادته أن لا يروي في كتابه إلا عن ثقة ، وقال أحمد بن حنبل فيه : ليس به بأس ، وقال أبو زرعة : هو ثقة ، وقال أبو حاتم : لا بأس به ، وقال ابن عدي : لا بأس به لأن مالكا روى عنه ولا يروي مالك إلا عن صدوق ثقة ، قلت : وقد عرف أن الجرح لا يقبل ولا يثبت إلا مفسرا ، ولم يفسره ابن معين والنسائي بما يثبت تضعيف عمرو المذكور ، وقال الشيخ ولي الدين : قد تبع النسائي على هذا ابن حزم وسبقهما إلى تضعيفه يحيى بن معين وغيره ، لكن وثقه أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم وابن عدي وغيرهم ، وأخرج له الشيخان في
..............................................................................................

(19/323)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صحيحيهما وكفى بهما فوجب قبول خبره وقد سكت عنه أبو داود على خبره فهو عنده حسن أو صحيح كذا ذكر السندي . قلت : وصححه الحاكم وقال : إنه على شرط الشيخين ، وقرره الذهبي ، وقال الشافعي : هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس ، وأما إعلال الحديث بأن عمروا اضطرب في هذا الحديث وأنه اختلف عليه فيه فالجواب أن الاضطراب والاختلاف إنما يضر إذا تساوت الطرق ولم يترجح واحد منها بوجه من وجوه الترجيح كما تقرر في موضعه ، وأما إذا ترجح واحد منها فيقدم هو على غيره فإنه لا يعل الراجح بالمرجوح ، وها هنا رواية من روى عن عمرو عن المطلب عن جابر أرجح من رواية من روى عن عمرو عن رجل عن جابر لكثرة من روى بعدم ذكر الواسطة ، ولذا قال الحاكم بعد روايته من طريق يعقوب بن عبد الرحمن ويحيى بن عبد الله بن سالم عن عمرو عن المطلب عن جابر : وهكذا رواه مالك بن أنس وسليمان بن بلال ويحيى بن عبد الله بن سالم عن عمرو بن أبي عمرو متصلا مسندا ،، ثم أخرج أحاديثهم ثم أخرجه من طريق الشافعي ، أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن رجل من بني سلمة عن جابر ، قال الحاكم : وهذا لا يعلل حديث مالك وسليمان بن بلال ويعقوب بن عبد الرحمن الاسكندراني فإنهم وصلوه وهم ثقات – انتهى ، كذا في نصب الراية ، وأما الاختلاف عليه في الصحابي فلا يضر أيضا فإن يوسف بن خالد السمتي متروك ، وأما رواية إبراهيم بن سويد عند الطحاوي فقال الحافظ في التلخيص بعد ذكرها : قد خالفه إبراهيم بن أبي يحيى وسليمان بن بلال والدراوردي ويحيى بن عبد الله بن سالم ويعقوب بن عبد الرحمن ومالك فيما قيل وآخرون وهم أحفظ منه وأوثق – انتهى . وأما إعلال هذا الحديث بعدم سماع المطلب من جابر وكون الحديث مرسلا فقد أجاب عنه الشنقيطي بأن قول الترمذي المذكور وكذا قول البخاري ليس في شيء من ذلك ما يقتضي رد روايته لما

(19/324)


قدمنا في سورة النساء من أن التحقيق هو الاكتفاء بالمعاصرة ولا يلزم ثبوت اللقي ، وأحرى ثبوت السماع كما أوضحه مسلم في مقدمة صحيحه بما لا مزيد عليه مع أن البخاري ذكر في كلامه هذا الذي نقله عنه الترمذي أن المطلب مولى عمرو المذكور صرح بالتحديث ممن سمع خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو تصريح بالسماع من بعض الصحابة بلا شك ، وقال النووي في شرح المهذب : وأما إدراك المطلب لجابر فقال ابن أبي حاتم ( في الجرح والتعديل ) : وروى عن جابر قال : ويشبه أن يكون أدركه ، هذا هو كلام ابن أبي حاتم ، فحصل شك في إدراكه ، ومذهب مسلم الذي ادعى في مقدمة صحيحه الإجماع فيه أنه لا يشترط في اتصال الحديث اللقاء بل يكتفي بإمكانه ، والإمكان حاصل قطعا ، ومذهب علي بن المديني والبخاري والأكثرين اشتراط ثبوت اللقاء ، فعلى مذهب مسلم الحديث متصل ، وعلى مذهب الأكثرين يكون مرسلا لبعض كبار التابعين ، وقد سبق أن مرسل التابعي الكبير يحتج به عندنا إذا اعتضد بقول الصحابة أو قول أكثر العلماء أو غير ذلك مما سبق ، وقد اعتضد هذا الحديث فقال به من
رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي .

(19/325)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الصحابة من سنذكره في فرع مذاهب العلماء – انتهى كلام النووي . قال الشنقيطي : فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور على كل التقديرات على مذاهب الأئمة الأربعة ، لأن الشافعي منهم هو الذي لا يحتج بالمرسل ، وقد عرفت احتجاجه بهذا الحديث على تقدير إرساله ، قال الشنقيطي : نعم يشترط في قبول رواية المدلس التصريح بالسماع والمطلب المذكور مدلس لكن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد صحة الاحتجاج بالمرسل لا سيما إذا اعتضد بغيره كما ها هنا وقد علمت من كلام النووي موافقة الشافعية ، ومن المعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى ، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند مالك وأبي حنيفة وأحمد مع أن هذا الحديث له شاهد عند الخطيب وابن عدي من رواية عثمان بن خالد المخزومي عن مالك عن نافع عن ابن عمر كما نقله الحافظ في التلخيص ( والزيلعي في نصب الراية ) وهو يقويه وإن كان عثمان المذكور ضعيفا لأن الضعيف يقوي المرسل كما عرف في علوم الحديث ، فالظاهر أن حديث جابر هذا صالح وأنه نص في محل النزاع ، وهو جمع بين هذه الأدلة بعن الجمع الذي ذكرنا أولا ، فاتضح بهذا أن الأحاديث الدالة على منع أكل المحرم مما صاده الحلال كلها محمولة على أنه صاده من أجله ، وأن الأحاديث الدالة على إباحة الأكل منه محمولة على أنه لم يصده من أجله – انتهى كلام الشنقيطي . وأما الوجه الثالث مما أجاب به الحنيفة عن حديث جابر وهو ترجيح حديث أبي قتادة عليه فقال ابن الهمام في تقريره إن في حديث أبي قتادة أنهم لما سألوه عليه السلام لم يجب بحله لهم حتى سألهم عن موانع الحل أكانت موجودة أم لا ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو إشارة إليها ؟ قالوا : لا . قال : فكلوا إذا . فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه في سلك ما يسئل عنه منها في التفحص عن الموانع ليجيب

(19/326)


بالحكم عند خلوه عنها ، وهذا المعنى كالصريح في نفي كون الاصطياد للمحرم مانعا فيعارض حديث جابر ، ويقدم عليه لقوة ثبوته إذ هو في الصحيحين وغيرهما من الكتب الستة بخلاف ذلك بل قيل في حديث جابر انقطاع يعني فالأولى هو ترجيح حديث أبي قتادة ، وتعقب بأنه لا تعارض بين الحديثين ، فإن في رواية أبي قتادة عند أحمد وابن ماجة وعبد الرزاق وغيرهم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل من صيده حين أخبره أبو قتادة أنه اصطاده له وعلى هذا فحديث أبي قتادة موافق لحديث جابر لا معارض ( رواه أبو داود ) إلخ . وأخرجه أيضا أحمد (ج 3 : ص 362 ، 387 ، 389) وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج 1 : ص 452) والدراقطني (ص 285) والبيهقي (ج 5 : ص 190) وعبد الرزاق (ج 4 : ص 435) والشافعي في الأم (ج 2 : ص 176) وابن الجارود في المنتقى (ص 154) والطحاوي (ج 1 : ص 388) من حديث عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن مولاه المطلب عن جابر وهو إسناد صالح حسن أو صحيح وقد تقدم الكلام والبحث في هذا فتذكر .
2726 – (6) وعن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " الجراد من صيد البحر " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/327)


2726 – قوله ( الجراد ) بفتح الجيم وتخفيف الراء حيوان معروف ، والواحدة جرادة ، والذكر والأنثى سواء كالحمامة ، ويقال : إنه مشتق من الجرد لأنه لا ينزل على شيء إلا جرده . قال الدميري : هو مشتق من الجرد والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدا . يقال ثوب جرد أي أملس ، وهو نوعان بري وبحري ، وهو أصناف مختلفة فبعضه كبير الجثة وبعضه صغيرها وبعضه أحمر وبعضه أصفر وبعضه أبيض ، وإذا خرج من بيضه يقال له الدبي فإذا طالت أجنحته وكبرت فهو الغوغاء الواحدة غوغاة وذلك حين يموج بعضه في بعض . فإذا بدت فيه الألوان واصفرت الذكور واسودت الإناث سمى جرادا حينئذ ، ولها ست أرجل ، يدان في صدرها وقائمتان في وسطها ورجلان في مؤخرها وطرفا رجليها منشاران ، وهو من الحيوان الذي ينقاد لرئيسه فيجتمع كالعسكر إذا ظعن أوله تتابع جميعه ظاعنا ، وإذا نزل أوله نزل جميعه . قال : وفي الجراد خلقة عشرة من جبابرة الحيوان مع ضعفه : وجه فرس وعينا فيل وعنق ثور وقرنا أيل وصدر أسد وبطن عقرب وجناحا نسر وفخذا جمل ورجلا نعامة وذنب حية – انتهى . وقال الحافظ في الفتح : وخلقة الجراد عجيبة فيها عشر من الحيوانات ذكر بعضها ابن الشهرزوري في قوله :
-
-
لها فخذ بكر وساقا نعامة _ -
-
وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم ( -
- -
- -
حبتها أفاعي الرمل بطنا وأنعمت _ -
-
عليها جياد الخيل بالرأس والفم ( -
-

(19/328)


قيل : وفاته عين الفيل وعنق الثور وقرن الأيل وذنب الحية ، وهو صنفان : طيار ووثاب ، ويبيض في الصخر ويتركه حتى ييبس وينتشر فلا يمر بزرع إلا اجتاحه ( من صيد البحر ) قيل إن الجراد يتولد من الحيتان كالديدان فيدسرها البحر ويطرحها إلى الساحل . وقيل : فيه بيان لأول خلقه فروى الباجي عن كعب قال : خرج أوله من منخر حوت فأفاد أن أول خلقه من ذلك قال الزرقاني . وفيه دليل على أن الجراد من صيد البحر وأنه في حكمه فلا جزاء في قتله ، ويؤيده حديث جابر وأنس عند ابن ماجة مرفوعا (( إن الجراد نثرة الحوت في البحر )) لكن الحديثين ضعيفان كما ستعرف ، واختلف العلماء في ذلك فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد في رواية : إنه من صيد البر وفيه الجزاء ، قال النووي في شرح المهذب : يجب الجزاء على المحرم بإتلاف الجراد عندنا ، وبه قال عمر وعثمان وابن عباس وعطاء . قال العبدري : وهو قول أهل العلم كافة إلا أبا سعيد الأصطخري قال : لا جزاء فيه ، وحكاه ابن المنذر عن كعب الأحبار وعروة بن الزبير قالوا : هو من صيد البحر فلا جزاء فيه ، واحتج لهم بحديث أبي المهزم عن أبي هريرة يعني حديث الباب ، ثم قال : واتفقوا على تضعيفه لضعف أبي المهزم – انتهى . وقال ابن قدامة : اختلفت الرواية أي عن الإمام أحمد في الجراد فعنه هو من صيد البحر لا جزاء فيه وهو مذهب أبي سعيد . قال ابن المنذر : قال ابن عباس وكعب : وهو من
...............................................................................................

(19/329)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صيد البحر ، وقال عروة : هو نثرة حوت ، ثم ذكر حديث أبي هريرة ثم : قال وروي عن أحمد أنه من صيد البر وفيه الجزاء وهو قول الأكثرين لما رواه الشافعي في مسنده عن عمر أنه قال لكعب في جرادتين : ما جعلت في نفسك ؟ قال : درهمان . قال : بخ ! درهمان خير من مائة جرادة ، ولأنه طير يشاهد طيرانه في البر ويهلكه الماء إذا وقع فيه فأشبه العصافير ، فعلى هذا يضمنه بقيمته لأنه لا مثل له ، وهو قول الشافعي ، وعن أحمد : يتصدق بتمرة عن الجرادة ، وهو يروي عن عمر وعبد الله بن عمر ، وقال ابن عباس : قبضة من طعام . قال القاضي : هذا محمول على أنه أوجب ذلك على طريق القيمة ، والظاهر أنهم لم يريدوا بذلك التقدير وإنما أرادوا أن فيه أقل شيء – انتهى . وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث أبي هريرة : وسنده ضعيف ، فلو صح لكان فيه حجة لمن قال : لا جزاء فيه إذا قتله المحرم ، وجمهور العلماء على خلافه . قال ابن المنذر : لم يقل لا جزاء فيه غير أبي سعيد الخدري وعروة بن الزبير ، واختلف عن كعب الأحبار ، وإذا ثبت فيه الجزاء دل على أنه بري – انتهى . والقول الراجح المعول عليه أن الجراد من صيد البر فيجب الجزاء على المحرم في قتله وهو قول عامة العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم إلا أبا سعيد الخدري وعروة بن الزبير ، واختلفت الرواية في ذلك عن كعب ، وأما حديث أبي هريرة وأنس فضعيف بالاتفاق لا يصلح للاحتجاج كما سيأتي ، وأيضا تدفعه المشاهدة والحس لاستقراره في البر وإرزازه في الأرض وتقوته بما يخرجه الأرض من نباتها وثمراتها . قال النووي : ودعوى أنها بحري لا تقبل بغير دليل وقد دلت الأحاديث الصحيحة والإجماع على أنه مأكول فيجب جزاءه كغيره والله أعلم – انتهى . والظاهر أنه إنما عده من صيد البحر لأنه يشبه صيد البحر من حيث أنه يحل ميتته ولا يفتقر إلى التذكية يعني أنه جعله من صيد البحر لمشاركته

(19/330)


صيد البحر في حكم الأكل منه من غير تذكية على ما ورد به الحديث (( أحلت لنا ميتتان )) إلخ . وقيل : إن الجراد على نوعين بحري وبري فيعمل في كل منهما بحكمه ، ثم إنهم اختلفوا في أصله على أقوال ، فقيل : أنه نثرة حوت كما تقدم ، وقيل : متولد من روث السمك حكاه العيني ، وقيل : أنه يتولد من الحيتان فيطرحها البحر إلى الساحل ، وقيل : أول خلقه من نثرة الحوت كما سبق ، وقال الباجي : روي عن سعيد بن المسيب أن الله تعالى خلق الجراد مما بقي من طينة آدم ، ورواه عبد الرزاق (ج 4 : ص 531) عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب قال : لم يخلق الله بعد آدم شيئا إلا الجراد بقي من طينته شيء فخلق منها الجراد ، وهذا أيضا لا يعرف إلا بخير نبي ، ولا نعلم في ذلك خبرا يثبت فلا يصح التعلق بشيء من ذلك – انتهى . وقال الحافظ : اختلف في أصله فقيل : أنه نثرة حوت فلذلك كان أكله بغير ذكاة ، وهذا ورد في حديث ضعيف أخرجه ابن ماجة عن أنس رفعه (( إن الجراد نثرة حوت من البحر )) ومن حديث أبي هريرة (( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل من جراد فجعلنا نضرب بنعالنا وأسواطنا فقال : كلوه فإنه من صيد البحر )) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وسنده ضعيف ، إلى آخر ما نقلنا
رواه أبو داود ، والترمذي .

(19/331)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ من كلامه قبل ذلك . هذا والحديث يدل أيضا على جواز أكل الجراد مطلقا وقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على إباحة أكله ، لكن فصل ابن العربي في شرح الترمذي بين جراد الحجاز وجراد الأندلس ، فقال في جراد الأندلس : لا يؤكل لأنه محض ، وهذا إن ثبت أنه يضر أكله بأن يكون فيه سمية تخصه دون غيره من الجراد البلاد تعين استثناؤه ، كذا في الفتح . قال الدميري : أجمع المسلمون على إباحة أكله ، وقد قال عبد الله بن أبي أوفى : غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد ، رواه أبو داود والبخاري ، وزاد أبو نعيم (( ويأكله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معنا )) وروى ابن ماجة عن أنس : كن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهادين الجراد في الأطباق . وفي الموطأ أن عمر رضي الله عنه سئل عن الجراد فقال : إن عندى قفة آكل منها – انتهى . وقال النووي : أجمع المسلمون على إباحة أكل الجراد ، ثم قال الشافعي وأبو حنفية والجماهير : يحل سواء مات بذكاة أو باصطياد مسلم أو مجوسي ، أو مات حتف أنفه ، وقال مالك في المشهور عنه وأحمد في رواية : يحل إذا مات بسبب بأن يقطع بعضه أو يلقى في النار حيا فإن مات حتف أنفه لا يحل ، وقال الحافظ : قد أجمع العلماء على جواز أكله بغير تذكية إلا أن المشهور عند المالكية اشتراط تذكيته ، واختلفوا في صفتها فقيل بقطع رأسه ، وقيل : إن وقع في قدر أو نار حل ، وقال ابن وهب : أخذه ذكاته ، ووافق مطرف منهم الجمهور في أنه لا يفتقر إلى ذكاته لحديث ابن عمر : (( أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال )) أخرجه أحمد والدارقطني مرفوعا ، وقال إن الموقوف أصح ، ورجح البيهقي أيضا الموقوف ، إلا أنه قال : إن له حكم الرفع – انتهى . وقال ابن قدامة (ج 8 : ص 572) : يباح أكل الجراد بإجماع أهل العلم وقد قال عبد الله بن أبي أوفى :

(19/332)


غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد . رواه البخاري . ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب في قول عامة أهل العلم منهم الشافعي وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وابن المنذر ، وعن أحمد أنه إذا قتله البرد لم يؤكل ، وعنه لا يؤكل إذا مات بغير سبب ، وهو قول مالك ، ويروى أيضا عن سعيد بن المسيب ، ولنا عموم قوله عليه السلام : أحلت لنا ميتتان ودمان ، فالميتتان السمك والجراد ، ولم يفصل ، ولأنه تباح ميتته فلم يعتبر له سبب كالسمك – انتهى . ( رواه أبو داود والترمذي ) أخرجه أبو داود أولا من طريق ميمون بن جابان عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الجراد من صيد البحر . ثم روى هو والترمذي من طريق أبي المهزم عن أبي هريرة قال : أصابنا صرما من جراد فكان رجل يضرب بسوطه وهو محرم فقيل له : إن هذا لا يصلح ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إنما هو من صيد البحر " . ولفظ الترمذي (( قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل من جراد فجعلنا نضربه بأسياطنا وعصينا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كلوه فإنه من صيد البحر ، وبنحو ذلك رواه أحمد (ج 2 : ص 306) وابن ماجة
2727 – (7) وعن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " يقتل المحرم السبع العادي " . رواه الترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجة .
2728 – (8) وعن عبد الرحمن بن أبي عمار ، قال : سألت جابر بن عبد الله عن الضبع

(19/333)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والبيهقي (ج 5 : ص 207) قال المنذري : ميمون بن جابان لا يحتج به ، وأبو المهزم – بضم الميم وفتح الهاء وكسر الزاي وتشديدها ، بعدها ميم – اسمه يزيد بن سفيان بصري ، متروك ، وقال أبو داود : أبو المهزم ضعيف ، والحديثان جميعا وهم – انتهى . وأما حديث جابر وأنس عند ابن ماجة فهو أيضا ضعيف جدا ، وفي إسناده موسى بن محمد متروك ، منكر الحديث ومن أفراد ابن ماجة .
2727- قوله ( يقتل المحرم السبع العادي )بتخفيف الياء وفتحها ، أي الظالم الذي يفترس الناس ويعقر فكل ما كان هذا الفعل نعتا له من أسد ونمر وفهد وذئب ونحوها فحكمه هذا الحكم وليس على قاتلها فدية ، والحديث كذا ذكره المصنف مختصرا وهو عند الترمذي بلفظ (( يقتل المحرم السبع العادي والكلب العقور والفارة والعقرب والحدأة والغراب )) وبنحو ذلك رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وغيرهم . قال الترمذي : والعمل على هذا عند أهل العلم ، قالوا : المحرم يقتل السبع العادي والكلب ، وهو قول سفيان الثوري والشافعي ، وقال الشافعي : كل سبع عدا على الناس أو على دوابهم فللمحرم قتله – انتهى . قلت : وهو قول مالك وأحمد والجمهور كما تقدم ( رواه الترمذي ) وقال : هذا حديث حسن ( وأبو داود ) وسكت عنه ( وابن ماجة ) وأخرجه أيضا أحمد والطحاوي والبيهقي (ج 5 : ص 210) وفي إسناده عندهم جميعا يزيد بن أبي زياد مختلف فيه ، وروى له مسلم مقرونا بغيره . وقال المنذري بعد نقل تحسين الترمذي : وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وقد تقدم الكلام عليه ، وقد أطال الشنقيطي الكلام في تقوية هذا الحديث وترجح مذهب الجمهور فارجع إلى أضواء البيان (ج 2 : ص 139 ، 140) إن شئت .

(19/334)


2728- قوله ( وعن عبد الرحمن بن أبي عمار ) بفتح العين وتشديد الميم ، هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار المكي القرشي حليف بني جمح الملقب بالقس – بفتح القاف وتشديد السين المهملة – ثقة عابد من الطبقة الوسطى من التابعين . قال ابن أبي خيثمة : كان حليفا لبني جمح وكان ينزل مكة وكان من عبادها فسمي القس لعبادته ( سألت جابر بن عبد الله ) أي الأنصاري الصحابي ( عن الضبع ) قال الزرقاني : بضم الباء لغة قيس ، وسكونها لغة تميم وهي أنثى ، وقيل يقع على الذكر والأنثى ، وربما قيل في الأنثى ضبعة بالهاء . والذكر ضبعان ، والجمع ضباعين ( كسرحان وسراحين ) ويجمع مضموم الباء على ضباع وساكنها على أضبع – انتهى . وقال شيخنا : الضبع – بفتح الضاد المعجمة وضم الباء الموحدة – حيوان معروف يقال له بالفارسية كفتار ( بفتح كاف وسكون فاء ) وبالهندية (( بجو )) بكسر الموحدة وضم الجيم
أصيد هي ؟ فقال : نعم .

(19/335)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المشددة كما في نفائس اللغات ومخزن الأدوية وغيرهما . وقيل : هو بالهندية (( هندار )) كما في غياث اللغات ، والأول هو الظاهر لأن الضبع معروف بنبش القبور ، والحيوان الذي يقال له بالهندية (( هندار )) لم يعرف بنبش القبور قال في النيل : ومن عجيب أمره أنه يكون سنة ذكرا وسنة أنثى ، فيلقح في حال الذكورة ويلد في حال الأنوثة ، وهو مولع بنبش القبور لشهوته للحوم بني آدم . وقال الدميري : الضبع معروفة ولا تقل ضبعة ، لأن الذكر ضبعان ، ومن عجيب أمرها أنها كالأرنب تكون سنة ذكرا وسنة أنثى فتلقح في حال الذكورة وتلد في حال الأنوثة ، وهي مولعة بنبش القبور لكثرة شهوتها للحوم بني آدم ، ومتى رأت إنسانا نائما حفرت تحت رأسه وأخذت بحلقه فتقتله وتشرب دمه ( أصيد هي ؟ ) أي أفي قتلها جزاء ؟ ( فقال : نعم ) زاد في رواية أبي داود وغيره كما سيأتي (( ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم ، والحديث نص في أن الضبع صيد يلزم فيه الجزاء . وهذه المسألة متفق عليها بين الأئمة الأربعة ، وأما إيجاب الكبش أو الشاة في الضبع فهو مذهب الأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وأحمد كما صرح به أهل الفروع ، ففي الروض المربع : وفي الضبع كبش ، وهكذا في مناسك النووي وشرح الإقناع ، ونص الدردير على أن في الضبع شاة ، وأما عند الحنفية فالواجب القيمة . قال في الهداية : الجزاء عند أبي حنيفة وأبي يوسف أن يقوم الصيد في المكان الذي قتل فيه أو في أقرب المواضع ويقومه ذوا عدل ، ثم هو مخير في الفداء إن شاء اشترى به هديا إن بلغته أو اشترى طعاما وتصدق به وإن شاء صام ، وقال محمد والشافعي : تجب في الصيد النظير فيما له نظير ، ففي الظبي شاة ، وفي الضبع شاة لأن الصحابة أوجبوا النظير من حيث الخلقة . وقال عليه الصلاة والسلام : " الضبع صيد وفيه الشاة " . – انتهى بقدر الضرورة . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 509) : إن جزاء

(19/336)


ما كان دابة من الصيد نظيره من النعم ، هذا قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي ، وقال أبو حنيفة : الواجب القيمة ، ويجوز فيها المثل لأن الصيد ليس بمثلي ، ولنا قول الله تعالى ? فجزاء مثل ما قتل من النعم ? سورة المائدة الآية 96 . وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الضبع كبشا وأجمع الصحابة على إيجاب المثل ، وقال عمر وعثمان وعلي وزيد ابن ثابت وابن عباس ومعاوية : في النعامة بدنة ، وحكم عمر في حمار الوحش ببقرة ، وحكم عمر وعلي في الظبي بشاة ، وإذا حكموا بذلك في الأزمنة المختلفة والبلدان المتفرقة دل ذلك على أنه ليس على وجه القيمة ولأنه لو كان على وجه القيمة لاعتبروا صفة المتلف التي تختلف بها القيمة إما برؤية أو إخبار ولم ينقل منهم السؤال عن ذلك حال الحكم ، إذا ثبت هذا فليس المراد حقيقة المماثلة فإنها لا تتحقق بين النعم والصيد لكن أريدت المماثلة من حيث الصورة ، والمتلف من الصيد قسمان أحدهما ما قضت فيه الصحابة فيجب فيه ما قضت ، وبهذا قال عطاء والشافعي وإسحاق ، وقال مالك : يستأنف الحكم فيه ، قال ابن قدامة : والذي بلغنا قضاء الصحابة في الضبع كبش ، قضى به عمر وعلي
...............................................................................................

(19/337)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وجابر وابن عباس ، وفيه عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في الضبع يصيدها المحرم كبشا . رواه أبو داود وابن ماجة . قال أحمد : حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضبع بكبش ، وبه قال عطاء والشافعي وأبو ثور وابن المنذر ، وقال الأوزاعي : إن كان العلماء بالشام يعدونها من السباع ، ويكرهون أكلها ، وهو القياس إلا أن إتباع السنة والآثار أولى . القسم الثاني : ما لم تقض فيه الصحابة فيرجع إلى قول عدلين من أهل الخبرة لقول الله تعالى ? يحكم به ذوا عدل منكم ? فيحكمان فيه بأشبه الأشياء به من النعم من حيث الخلقة لا من حيث القيمة بدليل أن قضاء الصحابة لم يكن بالمثل في القيمة - انتهى مختصرا . وقال الشنقيطي : اعلم أن الصيد ينقسم إلى قسمين : قسم له مثل من النعم كبقرة الوحش ، وقسم لا مثل له من النعم كالعصافير وجمهور العلماء يعتبرون المثلية بالمماثلة في الصورة والخلقة ، وخالف أبو حنيفة الجمهور فقال : إن المماثلة معنوية وهي القيمة أي قيمة الصيد في المكان الذي قتله فيه أو أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله فيشترى بتلك القيمة هديا إن شاء أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين . واحتج أبو حنيفة بأنه لو كان الشبه من طريق الخلقة والصورة معتبرا في النعامة بدنة وفي الحمار بقرة وفي الظبي شاة لما أوقفه على عدلين يحكمان به لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر ، وإنما يفتقر إلى العدلين والنظر ما تشكل الحال فيه ويختلف فيه وجه النظر . ودليل الجمهور على أن المراد بالمثل من النعم المشابهة للصيد في الخلقة والصورة منها قوله تعالى : ? فجزاء مثل ما قتل من النعم ? فالمثل يقتضي بظاهره المثل الخلقي الصوري دون المعنوي ، ثم قال ? من النعم ? فصرح ببيان جنس المثل ، ثم قال : ? يحكم به ذوا عدل منكم ? وضمير (( به )) راجع إلى (( المثل من النعم

(19/338)


)) لأنه لم يتقدم ذكر لسواه حتى يرجع إليه الضمير ، ثم قال (( هديا بالغا الكعبة )) والذي يتصور أن يكون هديا مثل المقتول من النعم ، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا ولا جرى لها ذكر في نفس الآية ، وادعاء أن المراد شراء الهدي بها بعيد من ظاهر الآية ، فاتضح أن المراد مثل من النعم، وقوله (( لو كان الشبه الخلقي معتبرا لما أوقفه على عدلين )) أجيب عنه بأن اعتبار العدلين إنما وجب بالنظر في حال الصيد من كبر وصغر وما لا جنس له مما له جنس ، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص ، قاله القرطبي . قال الشنقيطي : المراد بالمثلية في الآية التقريب وإذا فنوع المماثلة قد يكون خفيا لا يطلع عليه إلا أهل المعرفة والفطنة التامة ككون الشاة مثلا للحمامة لمشابهتها في عب الماء والهدير ...... قال : والمثل من النعم له ثلاث حالات : الأولى أن يكون تقدم فيه حكم من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، الثانية أن يكون تقدم فيه حكم من عدلين من الصحابة أوالتابعين مثلا ، الثالثة أن لا يكون تقدم فيه حكم منه - صلى الله عليه وسلم - ولا منهم رضي الله عنهم ، فالذي حكم - صلى الله عليه وسلم - فيه لا يجوز لأحد الحكم فيه بغير ذلك كالضبع ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قضى فيها بكبش ، ثم ذكر حديث جابر الذي نحن في شرحه ، ونقل تصحيحه عن البخاري وعبد الحق والبيهقي ، ثم ذكر الاختلاف فيه بالوقف والإرسال ، ثم قال : قضاءه - صلى الله عليه وسلم - في الضبع ثابت كما رأيت
فقلت : أيؤكل ؟

(19/339)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تصحيح البخاري وعبد الحق له ، وكذلك البيهقي والشافعي وغيرهم ، والحديث إذا ثبت صحيحا من وجه لا يقدح فيه الإرسال ولا الوقف من طريق أخرى كما هو الصحيح عند المحدثين ، لأن الوصل والرفع من الزيادات وزيادة العدل مقبولة كما هو معروف . وأما إن تقدم فيه حكم من عدلين من الصحابة أو ممن بعدهم فقال بعض العلماء : يتبع حكمهم ولا حاجة إلى نظر عدلين وحكمهما من جديد لأن الله تعالى قال : ? يحكم به ذوا عدل منكم ? وقد حكما بأن هذا مثل لهذا ، وقال بعض العلماء : لا بد من حكم عدلين من جديد ، وممن قال به مالك . قال القرطبي : ولو اجتزأ بحكم الصحابة لكان حسنا ، وروي عن مالك أيضا أنه يستأنف الحكم في كل صيد ما عدا حمام مكة وحمار الوحش والظبي والنعامة فيكتفي فيها بحكم من مضى من السلف ، ثم ذكر الآثار في ذلك عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد وابن عباس وعثمان وعلى وزيد بن ثابت ومعاوية وابن مسعود وغيرهم . وقال الخطابي في المعالم (ج 5 : ص 314) : وفي الحديث دليل على أن المثل المجعول في الصيد إنما هو من طريق الخلقة دون القيمة ولو كان الأمر في ذلك موكولا إلى الاجتهاد لأشبه أن يكون بدله مقدرا ، وفي ذلك ما دل على أن في الكبش وفاء لجزاءه كانت قيمته مثل قيمة المجزي أو لم تكن – انتهى . وقال الشوكاني : قوله (( ويجعل فيه كبش )) فيه دليل على أن الكبش مثل الضبع ، وفيه أن المعتبر في المثلية بالتقريب في الصورة لا بالقيمة ، ففي الضبع الكبش سواء كان مثله في القيمة أو أقل أو أكثر – انتهى ( أيؤكل ) كذا بالتذكير في جميع نسخ المشكاة ، ووقع في المصابيح (( أتوكل ؟ )) بالتأنيث وهكذا في كتاب الأم (ج 2 : ص 164) وهو الأظهر ، والذي في جامع الترمذي (( قلت : آكلها ؟ )) أي بصيغة المتكلم وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى وفي مسند الإمام أحمد ، قال ( أي عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار )

(19/340)


: سألت جابرا فقلت : الضبع آكلها ؟ قال نعم . قلت : أصيد هي ؟ قال : نعم . قلت : أسمعت ذاك من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم . وفيه دليل على أن الضبع حلال . قال الشوكاني : فيه دليل على جواز أكل الضبع وإليه ذهب الشافعي وأحمد ، قال الشافعي : ما زال الناس يأكلونها ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير ، ولأن العرب تستطيبه وتمدحه ، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى تحريمه ، واستدل لهم بما صح من تحريم كل ذي ناب من السباع ، وبما سيأتي من حديث خزيمة بن جزء . قال الشوكاني : ويجاب عن الأول بأن حديث الباب يعني حديث جابر خاص فيقدم على حديث كل ذي ناب ، ويجاب عن الثاني بأنه ضعيف أي لا يصلح للاحتجاج ، لأن في إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق وهو متفق على ضعفه . وقال الخطابي في المعالم : إذا كان قد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - صيدا ورأى فيه الفداء فقد أباح أكله كالظباء والحمر الوحشية وغيرها من أنواع صيد البر ، وإنما أسقط الفداء في قتل ما لا يؤكل فقال : خمس لا جناح على من قتلهن في الحل والحرم – الحديث . قال : وقد اختلف الناس في أكل الضبع فروي عن
...............................................................................................

(19/341)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضبع ، وروي عن ابن عباس إباحة أكل لحم الضبع ، وأباح أكلها عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور ، وكرهه الثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وروي ذلك عن سعيد بن المسيب ، واحتجوا بأنها سبع وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع . قال الخطابي : وقد يقوم دليل الخصوص فينزع الشيء من الجملة وخبر جابر خاص ، وخبر تحريم السباع عام – انتهى . وقال ابن رسلان : وقد قيل : إن الضبع ليس لها ناب وسمعت من يذكر أن جميع أسنانها عظم واحد كصفيحة نعل الفرس ، فعلى هذا لا يدخل في عموم النهي – انتهى ، كذا ذكره الشوكاني . وقال الخرقي : ولا بأس بأكل الضبع . قال ابن قدامة (ج 8 : ص 604) : رويت الرخصة في الضبع عن سعد وابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعكرمة وإسحاق . وقال عروة : ما زالت العرب تأكل الضبع ولا ترى بأكلها بأسا . وقال أبو حنيفة والثوري ومالك : هو حرام . وروى نحو ذلك عن سعيد بن المسيب لأنها من السباع ، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وهي من السباع فتدخل في عموم النهي ، ولنا ما روى جابر قال : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأكل الضبع ، قلت : صيد هي ؟ قال : نعم . احتج به أحمد ، قال ابن عبد البر : هذا لا يعارض حديث النهي عن كل ذي ناب من السباع لأنه أقوى منه . قلنا : هذا تخصيص لا معارض ، ولا يعتبر في التخصيص كون المخصص في رتبة المخصص بدليل تخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد ، ولأن الضبع قد قيل إنها ليس لها ناب وسمعت من يذكر أن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس ، فعلى هذا لا تدخل في عموم النهي - انتهى ، وقال الشنقيطي بعد ذكر كلام ابن عبد البر : للمخالف أن يقول : أحاديث النهي عامة في كل ذي ناب من السباع ودليل إباحة الضبع خاص ولا يتعارض عام

(19/342)


وخاص لأن الخاص يقضي على العام فيخصص عمومه به كما هو مقرر في الأصول – انتهى ، وقال الحافظ ابن القيم في الإعلام (ج 1 : ص 192 ، طبعة الحجر ) : أما الضبع فروى عنه فيها حديث صححه كثير من أهل العلم بالحديث فذهبوا إليه وجعلوه مخصصا لعموم أحاديث التحريم كما خصصت العرايا لأحاديث المزابنة ، وطائفة لم تصححه وحرموا الضبع لأنها من جملة ذات الأنياب ، وقالوا : وقد تواترت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وصحت صحة لا مطعن فيها من حديث علي وابن عباس وأبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني ، قالوا : وأما حديث الضبع فتفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار وأحاديث تحريم ذوات الأنياب كلها تخالفه ، قالوا : ولفظ الحديث يحتمل معنين أحدهما أن يكون جابر رفع الأكل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيدا فقط ولا يلزم من كونها صيدا جواز أكلها فظن جابر أن كونها صيدا يدل على أكلها فأفتى به من قوله ورفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سمعه من كونها صيدا ، فروى الترمذي عن عبد الرحمن بن أبي عمار قال : قلت لجابر بن عبد الله : آكل الضبع ؟ قال : نعم . قلت : أصيد هي ؟ قال : نعم . قلت : أسمعت ذلك من رسول
.............................................................................................

(19/343)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم . وهذا يحتمل أن المرفوع منه هو كونها صيدا ، ويدل على ذلك أن جرير بن حازم قال عن عبيد بن عمير عن ابن أبي عمار عن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الضبع فقال : هي صيد وفيها كبش ، قالوا : وكذلك حديث إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر يرفعه : الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسن ويؤكل ، قال الحاكم : حديث صحيح ، وقوله (( ويؤكل )) يحتمل الوقف والرفع ، وإذا احتمل ذلك لم يعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تبلغ مبلغ التواتر في التحريم ، قالوا : ولو كان حديث جابر صريحا في الإباحة لكان فردا وأحاديث تحريم ذوات الأنياب مستفيضة متعددة ادعى الطحاوي وغيره تواترها فلا يقدم حديث جابر عليها ، قالوا : والضبع من أخبث الحيوان وأشرهه وهو مغرى بأكل لحوم الناس ونبش قبور الأموات وإخراجهم وأكلهم ويأكل الجيف ويكسر بنابه ، قالوا : والله سبحانه قد حرم علينا الخبائث وحرم رسول الله ذوات الأنياب والضب لا يخرج عن هذا وهذا ، قالوا : وغاية حديث جابر يدل على أنها صيد يفدى في الإحرام ولا يلزم من ذلك أكلها ، وقد قال بكر بن محمد : سئل أبو عبد الله يعني الإمام أحمد عن محرم قتل ثعلبا فقال : عليه الجزاء ، هي صيد ولكن لا يؤكل . وقال جعفر بن محمد : سمعت أبا عبد الله سئل عن الثعلب فقال : الثعلب سبع . فقد نص على أنه سبع وأنه يفدى في الإحرام ، ولما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الضبع كبشا ظن جابر أنه يؤكل فأفتى به ، والذين صححوا الحديث جعلوه مخصصا لعموم تحريم ذي الناب من غير فرق بينهما حتى قالوا : ويحرم أكل كل ذي ناب من السباع إلا الضبع وهذا لا يقع مثله في الشريعة أن يخصص مثلا على مثل من كل وجه من غير فرقان بينهما ، وبحمد الله إلى ساعتي هذا ما رأيت في الشريعة مسألة واحدة كذلك أعني شريعة

(19/344)


التنزيل لا شريعة التأويل ، ومن تأمل ألفاظه - صلى الله عليه وسلم - الكريمة تبين له اندفاع هذا السؤال ، فإنه إنما حرم ما اشتمل على الوصفين أن يكون له ناب وأن يكون من السباع العادية بطبعها كالأسد والذئب والنمر والفهد . وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين وهو كونها ذات ناب وليست من السباع العادية ، ولا ريب أن السباع أخص من ذوات الأنياب ، والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المغتذي بها شبهها ، فإن الغاذي شبيه بالمغتذي ، ولا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم ، ولا تعد الضبع من السباع لغة وعرفا – انتهى ما في الإعلام . قال شيخنا في شرح الترمذي (ج 3 : ص 77) بعد ذكر كلام ابن القيم ما لفظه (( قلت : في أقوال المحرمين التي نقلها الحافظ ابن القيم خدشات ، أما قولهم : إن حديث الضبع تفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار ففيه أنه ثقة ولم يتفرد به . قال الحافظ في التلخيص : وأعله ابن عبد البر ( في التمهيد (ج 1 : ص 152 ، 155) بعبد الرحمن بن أبي عمار فوهم لأنه وثقه أبو زرعة والنسائي ولم يتكلم فيه أحد ، ثم إنه لم ينفرد به – انتهى . وقال في الفتح : وقد ورد في حل الضبع أحاديث لا بأس بها – انتهى ، وأما قولهم : لفظ الحديث يحتمل معنين أحدهما
فقال : نعم . فقلت : سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم . رواه الترمذي ، والنسائي ، والشافعي . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

(19/345)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن يكون جابر رفع الأكل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيدا فقط ففيه أن ظاهر لفظ الحديث يدل على أن جابرا رضي الله عنه رفع الأكل وكونها صيدا كليهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويؤيده رواية أحمد ( وعبد الرزاق (ج 4 : ص 512) بلفظ سألت جابر بن عبد الله عن الضبع ، فقال : حلال ، فقلت : عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ وأما قولهم : والضبع لا يخرج عن هذا وهذا ففيه أن حديث جابر المذكور صحيح ثابت قابل للاحتجاج فخروج الضبع عن هذا وهذا ظاهر – انتهى . قلت : ويدل أيضا على عدم كونه من الخبائث وذوات الأنياب ما تقدم عن الإمام الشافعي أن لحوم الضباع تباع عندنا بمكة بين الصفا والمروة ، وما تقدم عن الشوكاني أن العرب تستطيبه وتمدحه وتأكله ، وقال عروة بن الزبير : ما زالت العرب تأكل الضبع ولا ترى بأكلها بأسا ، وما تقدم عن ابن رسلان وابن قدامة أن الضبع ليس لها ناب وأن جميع أسنانها عظم واحد كصفيحة نعل الفرس ، وأما قول المحرمين أنه لو كان حديث جابر صريحا في الإباحة لكان فردا ، وأحاديث تحريم ذوات الأنياب مستفيضة متعددة فلا يقدم حديث جابر عليها ففيه أن حديث جابر صريح في الإباحة كما تقدم ، ولا يضر كونه فردا ، لأنه لا معارضة بينه وبين أحاديث تحريم ذوات الأنياب من السباع . فإن الضبع ليس من ذوات الأنياب كما ذكر ابن رسلان وابن قدامة ، ولا من السباع العادية كما قرره ابن القيم والإمام الشافعي في الأم (ج 2 : ص 220) تنبيه : قد صرح الحافظ ابن القيم في آخر ما بسط من الكلام المذكور أن الضبع ليست من السباع العادية ، وعلى هذا فلا تدخل في أحاديث تحريم ذوات الأنياب من السباع وهذا كالصريح في أنه لم يوافق الحنفية في تحريم الضبع ولم يرجع تحريمه بل وافق القائلين بالإباحة حيث قال : لا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد

(19/346)


والنمر والفهد ليس في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم ولا تعد الضبع من السباع لغة وعرفا والله أعلم ( رواه الترمذي ) في الحج وفي الأطعمة ( والنسائي ) في الحج وفي الصيد والذبائح ( والشافعي ) في الأم (ج 2 : ص 164) وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان وعبد الرزاق (ج 4 : ص 513) والدارقطني (ص 266) وابن عبد البر في التمهيد (ج 1 : ص 153) والحاكم (ج 1 : ص 452) والبيهقي (ج 5 : ص 183) وابن الجارود (ص 155 ، 299) والدارمي في آخر كتاب الحج كلهم من طريق ابن جريج عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار عن جابر ( وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ) وقال : قال يحيى القطان : وروى جرير بن حازم هذا الحديث عن عبد الله ابن عبيد بن عمير عن ابن أبي عمار عن جابر عن عمر قوله ، وحديث ابن جريج أصح ، والحديث أخرجه أيضا أبو داود وابن ماجة كما سيأتي )) .
2729 – (9) وعن جابر ، قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضبع ، قال : " هو صيد ، ويجعل فيه كبشا إذا أصابه المحرم " .

(19/347)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد سكت عنه أبو داود ، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره . وقال الحافظ في التلخيص (ص 226) ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره . وقال الحافظ في التلخيص (ص 226) : قال الترمذي : سألت عنه البخاري فصححه ، وكذا صححه عبد الحق ، وقد أعل بالوقف . وقال البيهقي : هو حديث جيد تقوم به الحجة . ورواه البيهقي من طريق الأجلح عن أبي الزبير عن جابر عن عمر ، قال : لا أراه إلا قد رفعه أنه حكم في الضبع بكبش – الحديث . ورواه الشافعي عن مالك عن أبي الزبير به موقوفا وصحح وقفه من هذا الوجه الدارقطني ، ورواه الدارقطني والحاكم من طريق إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الضبع صيد ، فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل ، وفي الباب عن ابن عباس رواه الدارقطني والبيهقي من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عنه ، وقد أعل بالإرسال ، رواه الشافعي من طريق ابن جريج عن عكرمة مرسلا وقال : لا يثبت مثله لو انفرد ، ثم أكده بحديث ابن أبي عمار ، وقال البيهقي : روي موقوفا عن ابن عباس أيضا – انتهى كلام الحافظ . وقال الشنقيطي بعد نقل كلام الحافظ عن التلخيص : قضاؤه - صلى الله عليه وسلم - في الضبع بكبش ثابت كما رأيت تصحيح البخاري وعبد الحق له وكذلك البيهقي والشافعي وغيرهم ، والحديث إذا ثبت صحيحا من وجه لا يقدح فيه الإرسال ولا الوقف من طريق أخرى كما هو الصحيح عند المحدثين ، لأن الوصل والرفع من الزيادات ، وزيادة العدل مقبولة كما هو معروف .

(19/348)


2729 – قوله ( قال : هو صيد ) قال القاري : تذكيره باعتبار خبره أو المراد به الجنس فيجوز تذكيره وتأنيثه وفي رواية (( هي صيد ( ويجعل ) على بناء المعلوم أي قاتله ( فيه ) أي في جزاء قتله ( كبشا ) بالنصب ، وفي بعض النسخ لأبي داود (( كبش )) بالرفع ، وعلى هذا يكون (( يجعل )) على بناء المجهول ( إذا أصابه المحرم ) أي بالاصطياد وقوله (( إذا أصابه )) كذا في سنن الدارمي وهكذا ذكره الحافظ في التلخيص (ص 225) ولفظ أبي داود (( إذا صاده )) وكذا ذكره المجد في المنتقى والحافظ في التلخيص (ص 389) وفي بعض نسخ أبي داود (( إذا اصاده )) وفي رواية للحاكم (( جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضبع يصيبه المحرم كبشا نجديا وجعله من الصيد )) وكذا عند ابن ماجة ، إلا أنه لم يقل (( نجديا )) قال القاري : وليس هذا الحديث حجة علينا إذ لا تنافي بين كونه حراما أكله وبين كونه صيدا ويلزم الكبش في قتله ، وإنما يصلح دليلا للخصم حيث أنه يخص تحريم الصيد بما يؤكل لحمه – انتهى . قلت : في رواية جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر قال : قلت أيؤكل الضبع ؟ قال : نعم ، قلت : أصيد هي ؟ قال : نعم ، قال : أسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم . رواه الحاكم وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين . قال الشافعي : في مسألة ابن أبي عمار جابرا أصيد هي ؟ قال : نعم . ومسألته أتؤكل ؟ قال : نعم ، وسألته : أسمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم . فهذا دليل على أن الصيد الذي
رواه أبو داود ، وابن ماجة ، والدارمي .
2730 – (10) وعن خزيمة بن جزء ، قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الضبع ، قال : " أو يأكل الضبع أحد ؟ وسألته عن

(19/349)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نهى الله تعالى المحرم عن قتله ما كان يحل أكله من الصيد ، وأنهم إنما يقتلون الصيد ليأكلوه لا عبثا بقتله – انتهى فتأمل ( رواه أبو داود ) في الأطعمة ( وابن ماجة ) في الحج ( والدارمي ) في آخر الحج ، وأخرجه أيضا الحاكم (ج 1 : ص 452) وابن الجارود (ص 155) وابن حبان كما في الموارد (ص 243) والدارقطني (ص 266) وابن عبد البر في التمهيد (ج 1 : ص 153) كلهم من رواية جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر ، تنبيه صنيع المصنف تبعا للبغوي يوهم أن حديث جابر هذا والذي قبله حديثان ولا يخفى ما فيه ، والصواب أنه حديث واحد روي من طريق ابن جريج عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن أبي عمار ، ومن طريق جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير به بألفاظ مختلفة مختصرا ومطولا ولذلك قال المنذري في مختصر السنن : وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، وقال الحافظ في التلخيص (ص 225) : حديث (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في الضبع بكبش )) رواه أصحاب السنن وابن حبان وأحمد والحاكم في المستدرك من طريق عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر ، وقال في الأطعمة (ص 389) منه : حديث جابر (( أنه سئل عن الضبع أصيد هو ؟ قال : نعم ، قيل : أيؤكل ؟ قال : نعم . قيل : أسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم . الشافعي والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وصححه البخاري والترمذي وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي ..... ورواه أبو داود بلفظ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضبع ، فقال : صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم – انتهى . وقال المجد في المنتقى بعد ذكره بلفظ الترمذي : رواه الخمسة وصححه الترمذي ، ولفظ أبي داود عن جابر : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضبع فقال : هي صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم .

(19/350)


2730 – قوله ( وعن خزيمة ) بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي ( بن جزء ) قال الحافظ في التقريب : خزيمة بن جزء – بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة – صحابي لم يصح الإسناد إليه ، وقال في الإصابة : خزيمة بن جزي – بفتح الجيم وكسر الزاي بعدها ياء أي مشددة – له حديث في أكل الضب والضبع وغير ذلك ، أخرجه الترمذي وابن ماجة والبارودي وابن السكن وقالا : لم يثبت حديثه ومداره على أبي أمية بن أبي المخارق أحد الضعفاء ، وقال في تهذيب التهذيب : قال البخاري في التاريخ لما ذكر حديثه في الحشرات : فيه نظر . وقال البغوي : لا أعلم له غيره . وقال الأزدي : لا يحفظ روى عنه إلا ( أخوه ) حبان ولا يحفظ له غير هذا الحديث . قال : وفي إسناده نظر ( أو يأكل الضبع أحد ؟ ) كذا في جميع نسخ المشكاة والمصابيح وهكذا ذكره الشوكاني في النيل ، وفي الترمذي (( ويأكل الضبع أحد ؟ )) أي بتقدير همزة الاستفهام الإنكاري . وفي رواية ابن ماجة : ومن يأكل الضبع ؟ قال السندي : يشير إلى أنه مكروه طبعا ( وسألته عن
أكل الذئب ، قال : " أو يأكل الذئب أحد فيه خير ؟ " .رواه الترمذي ، وقال : ليس إسناده بالقوي .

(19/351)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أكل الذئب ) بالهمز ويبدل ( قال : أويأكل ) أي أجهلت حكمه ويأكل ( الذئب أحد فيه خير ) أي صلاح وتقوى صفة أحد ، وفي الترمذي (( ويأكل )) أي بحذف همزة الاستفهام ، واستدل بهذا الحديث من قال بحرمة الضبع . والحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج ( رواه الترمذي ) في الأطعمة وأخرجه أيضا ابن ماجة في الذبائح ( وقال : ليس إسناده بالقوي ) لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن مسلم عن عبد الكريم أبي أمية وقد تكلم بعض أهل الحديث في إسماعيل وعبد الكريم أبي أمية ، وهو عبد الكريم بن قيس بن أبي المخارق – انتهى . قال الزيلعي في نصب الراية (ج 4 : ص 193) بعد نقل كلام الترمذي هذا : وضعفه ابن حزم بأن إسماعيل بن مسلم ضعيف وابن أبي المخارق ساقط وحبان بن جزء مجهول – انتهى . وقال الحافظ في التقريب : إسماعيل بن مسلم المكي أبو إسحاق ضعيف الحديث . وقال في التلخيص (ص 389) : وأما ما رواه الترمذي من حديث خزيمة بن جزء قال : أيأكل الضبع أحد ؟ فضعيف لاتفاقهم على ضعف عبد الكريم أبي أمية ، والراوي عنه إسماعيل بن مسلم – انتهى . تنبيه قال القاري في المرقاة معترضا على قول الترمذي (( ليس إسناده بالقوي )) ما لفظه : وفيه أن الحسن أيضا يستدل به على أن اجتهاد المستند إليه سابقا يدل على أنه صحيح في نفس الأمر وإن كان ضعيفا بالنسبة إلى إسناد واحد من المحدثين ، ويقويه رواية ابن ماجة ولفظه (( ومن يأكل الضبع ؟ )) ويؤيده أنه ذو ناب من السباع فأكله حرام ، ومع تعارض الأدلة في التحريم والإباحة فالأحوط حرمته ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : الضبع لست آكله ولا أحرمه ، كما رواه الشيخان وغيرهما فيفيد ما اختاره مالك من أنه يكره أكله ، إذ المكروه عندنا ما أثم آكله ولا يقطع بتحريمه ، ومقتضى قواعد أئمتنا أن أكله مكروه كراهة تحريم ، لا إنه حرام محض لعدم دليل قطعي مع اختلاف فقهي – انتهى كلام القاري .

(19/352)


وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي كلامه ثم رد عليه فقال : في كلام القاري هذا أوهام وأغلاط ، فأما قوله (( إن الحسن أيضا يستدل به )) ففيه أنه لا شك أن الحديث الحسن يستدل به لكن حديث خزيمة بن جزء هذا ليس بحسن بل هو ضعيف لا يصلح للاحتجاج كما عرفت . وأما قوله : أن اجتهاد المستند إليه سابقا يدل على أنه صحيح في نفس الأمر إلخ . ففاسد ، وقد بينا فساده فيما سبق (ج 1 : ص 134 طبعة الحجر) وأما قوله : ويقويه رواية ابن ماجة ولفظه (( ومن يأكل الضبع ؟ )) ففيه أن في رواية ابن ماجة أيضا عبد الكريم فكيف تقويه ؟؟ وأما قوله (( أنه ذو ناب من السباع )) فممنوع ، وسند المنع حديث جابر المذكور في الباب ، ولو سلم أنه ذو ناب من السباع فحرمته ممنوعة لهذا الحديث ، وأما قوله (( ومع تعارض الأدلة في التحريم والإباحة فالأحوط حرمته )) ففيه أن هذا إذا كان دليل الحرمة ودليل الإباحة كلاهما صحيحين . وأما إذا كان دليل الحرمة ضعيفا ودليل الإباحة صحيحا كما فيما نحن فيه فكون الحرمة أحوط ممنوع ، وأما قوله (( إن قوله
( الفصل الثالث )
2731 – (11) عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي ، قال : كنا مع طلحة بن عبيد الله ، ونحن حرم ، فأهدي له طير ، وطلحة راقد ، فمنا من أكل ، ومنا من تورع ، فلما استيقظ طلحة ، وافق من أكله ، قال : فأكلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . رواه مسلم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عليه الصلاة والسلام : الضبع لست آكله ولا أحرمه ، كما رواه الشيخان وغيرهما يفيد )) إلخ . ففيه وهم فاحش ، فإنه لم يرو الشيخان ولا غيرهما (( الضبع لست آكله ولا أحرمه )) بل رووا (( الضب لست آكله ولا أحرمه )) والضب غير الضبع – انتهى .

(19/353)


2731 – قوله ( عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي ) هو عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة التيمي القرشي وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله وكان يلقب شارب الذهب أسلم يوم الحديبية ، وأول مشاهده عمرة القضاء ، وقيل أسلم يوم الفتح وشهد اليرموك مع أبي عبيدة بن الجراح وكان من أصحاب ابن الزبير فقتل معه في يوم واحد بمكة سنة ثلاث وسبعين ودفن بالحزورة ، فلما زيد في المسجد دخل قبره في المسجد الحرام ، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمه طلحة بن عبيد الله وعثمان بن عفان ، وعنه ابناه عثمان ومعاذ وغيرهما ( كنا مع طلحة بن عبيد الله ) هو أحد العشرة المبشرة تقدم ترجمته في الجزء الأول (ص 63) ( ونحن ) أي كلنا ( حرم ) بضمتين جمع حرام أي محرومون ( فأهدى له ) أي لطلحة ( طير ) أي مشوي أو مطبوخ ( فمنا من أكل ) اعتمادا على الصداقة وتجويزا للمحرم من لحم الصيد ( ومنا تورع ) ظنا منه أنه لا يجوز للمحرم أكله ( وافق من أكله ) أي بالقول أو الفعل ، والمراد بطير إما جنس وكان متعددا ، وإما طير كبير كفى جماعة ، قاله القاري . وقوله (( وافق )) كذا في المشكاة ، وهكذا وقع في بعض النسخ الهندية لسنن النسائي ، وفي صحيح مسلم (( وفق )) بفتح أوله وتشديد الفاء مفتوحة من التوفيق ، وهكذا وقع في المسند ، أي صوبه ، قاله النووي . قال الشوكاني : ويحتمل أن يكون معناه : دعا له بالتوفيق ( قال ) أي طلحة ( فأكلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي أكلنا نظيره معه - صلى الله عليه وسلم - ، وقوله (( فأكلناه )) هكذا في جميع نسخ المشكاة ، والذي في صحيح مسلم (( أكلناه )) أي بدون الفاء ، وهكذا وقع في مسند الإمام أحمد والسنن للنسائي ، وكذا ذكره المجد في المنتقى والجزري في الجامع والحافظ في الفتح ، والظاهر أن ما وقع في المشكاة خطأ من الناسخ ، والحديث مما استدل به من ذهب إلى جواز أكل الصيد

(19/354)


للمحرم مطلقا ، وهو عند الأئمة الثلاثة محمول على أن من أهدى لهم الطير صاده لنفسه ثم أهدى لهم . قال الشوكاني : لا بد من تقييد حديث طلحة بأن لا يكون من أهدى لهم الطير صاده لأجلهم جمعا بين الأدلة ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 1 : ص 161 ، 162) والنسائي والبيهقي (ج 5 : ص 188) .
(13) باب الإحصار ، وفوت الحج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( باب الإحصار ) هو في اللغة المنع والحبس مطلقا ، وفي الشرع المنع عن الوقوف والطواف ، فإن قدر على أحدهما فليس بمحصر ( وفوت الحج ) بأن يكون محرما ولم يدرك مكان الوقوف وهو عرفة في زمانه ، وهو من بعد الزوال إلى طلوع فجر يوم النحر ولو ساعة ، قاله القاري . وقال العيني : الإحصار المنع والحبس عن الوجه الذي يقصده ، يقال أحصره المرض أو السلطان إذا منعه عن مقصده فهو محصر ، والحصر الحبس ، يقال حصره إذا حبسه فهو محصور . وقال القاضي إسماعيل : الظاهر أن الإحصار بالمرض والحصر بالعدو ومنه (( فلما حصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) وقال تعالى : ? فإن أحصرتم ? وقال الكسائي : يقال من العدو حصر فهو محصور ، ومن المرض أحصر فهو محصر ، وحكى عن الفراء أنه أجاز كل واحد منهما مكان الآخر ، وأنكره المبرد والزجاج وقالا : هما مختلفان في المعنى ، ولا يقال في المرض (( حصره )) ولا في العدو (( أحصره )) – انتهى . وقال صاحب فيض الباري : اعلم أن الإحصار عندنا ( الحنفية ) وعند جماعة من السلف وأهل اللغة عام للمريض والعدو كما نقل عن الفراء أيضا ، وعند الشافعية يختص بالعدو ، وادعى بعض من الحنفية أن المحصر لا يقال إلا في المرض ، أما في العدو فيقال له محصور لا محصر ، قلت : وليس بجيد فإن الآية حينئذ تقتصر على المرض مع أنها نزلت في العدو بالاتفاق ، فإنها نزلت في قصة الحديبية ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها مريضا ، وها هنا دقيقة وهي أن اللفظ قد يشتهر

(19/355)


في نوع من الجنس ثم يرد استعماله في نوع آخر من ذلك الجنس أو في الجنس بعينه فيجعله الناس مقابلا كالإحصار فإنه عام للمرض والعدو إلا أنه اشتهر الإحصار في المرض والحصر في العدو حتى ذهبت أوهام العامة أنهما متقابلان فجعلوا الإحصار مختصا بالمرض والحصر بالعدو وليس كذلك ، وإنما أخذ القرآن في النظم اللفظ العام لئلا يختص الحكم بالعدو ويعم المرض والعدو كليهما – انتهى ، وقال الآلوسي في تفسيره (ج 2 : ص 80) : الإحصار والحصر كلاهما في أصل اللغة بمعنى مطلقا ، وليس الحصر مختصا بما يكون من العدو والإحصار بما يكون من المرض ونحوه كما توهم الزجاج من كثرة استعمالها كذلك فإنه قد يشيع استعمال اللفظ الموضوع للمعنى العام في بعض أفراده ، والدليل على ذلك أنه يقال حصره العدو وأحصره كصده وأصده ، فلو كانت النسبة إلى العدو معتبرة في مفهوم الحصر لكان التصريح بالإسناد إليه تكرارا ، ولو كانت النسبة إلى المرض ونحوه معتبرة في مفهوم الإحصار لكان إسناده إلى العدو مجازا وكلاهما خلاف الأصل ، والمراد من الإحصار هنا حصر العدو عند مالك والشافعي لقوله تعالى : ? فإذا أمنتم ? فإن الأمن لغة في مقابلة الخوف ولنزوله عام الحديبية ، ولقول ابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو . فقيد إطلاق الآية وهو أعلم بموقع التنزيل ، وذهب أبو حنيفة إلى أن المراد به ما يعم كل منع من عدو ومرض وغيرهما لحديث الحجاج بن عمرو ( الآتي في الفصل الثاني ) ولما روى الطحاوي من حديث عبد الرحمن
...............................................................................................

(19/356)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابن زيد قال : أهل رجل بعمرة يقال له عمر بن سعيد فلسع فبينا هو صريع إذ طلع عليه ركب فيهم ابن مسعود فسألوه فقال : ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة فإذا كان ذلك فليحل ، وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال : لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس ، وروى البخاري مثله عنه . وقال عروة : كل شيء حبس المحرم فهو إحصار ، وما استدل به الخصم ( الشافعي ومن وافقه ) مجاب عنه ، وأما الأول : فإنه يقال للمريض إذا زال مرضه وبرئ : أمن كما روى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس من طريق إبراهيم قال الآلوسي : فيضعف استدلال الشافعي ومالك بالآية على ما ذهبا إليه ، وأما الثاني : فإنه لا عبرة بخصوص السبب والحمل على أنه للتأييد يأبى عنه ذكره باللام استقلالا والقول بأن (( أحصرتم )) ليس عاما إذا الفعل المثبت لا عموم له فلا يراد إلا ما ورد فيه وهو حبس العدو بالاتفاق ليس بشيء لأنه وإن لم يكن عاما لكنه مطلق فيجري على إطلاقه ، وأما الثالث : فلأنه بعد تسليم حجية قول ابن عباس في أمثال ذلك معارض بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه في تفسير الآية أنه قال : يقول من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي فكما خصص في الرواية الأولى عمم في هذه ، وهو أعلم بمواقع التنزيل ، والقول (( بأن حديث الحجاج ضعيف )) ضعيف إذ له طرق مختلفة في السنن ، وحمله على ما إذا اشترط المحرم الإحلال عند عروض المانع من المرض له وقت النية لقوله - صلى الله عليه وسلم - لضباعه : حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني . لا يتمشى على ما تقرر في أصول الحنفية من أن المطلق يجري على إطلاقه إلا إذا اتحد الحادثة والحكم وكان الإطلاق والتقييد في الحكم إذ ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى ، انتهى كلام الآلوسي . وإن شئت مزيد البسط فيما أجاب به الحنفية عن الآية

(19/357)


وقرروا به مذهبهم فارجع إلى شرح البخاري للقسطلاني والعيني والجوهر النقي للمارديني وأحكام القرآن لأبي بكر الرازي الجصاص وفتح القدير لابن الهمام ، وقال الشنقيطي : اختلف العلماء في المراد بالإحصار في قوله تعالى : ? فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ? ( سورة البقرة : الآية 192) فقال قوم : هو صد العدو المحرم ومنعه إياه من الطواف بالبيت ، وقال قوم : المراد به حبس المحرم بسبب مرض نحوه ، وقال قوم : المراد به ما يشتمل الجميع من عدو ومرض ونحو ذلك ، لكن قوله تعالى بعد هذا : ? فإذا أمنتم ? يشير إلى أن المراد بالإحصار هنا صد العدو للمحرم ، لأن الأمن إذا أطلق في لغة العرب انصرف إلى الأمن من الخوف لا إلى الشفاء من المرض ونحو ذلك ، ويؤيده أنه لم يذكر الشيء الذي منه الأمن ، فدل على أن المراد به ما تقدم من الإحصار فثبت أنه الخوف من العدو ، فما أجاب به بعض العلماء من أن الأمن يطلق على الأمن من المرض كما في حديث (( من سبق العاطس
..............................................................................................

(19/358)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالحمد أمن من الشوص واللوث والعلوص )) أخرجه (1) ابن ماجة في سننه فهو ظاهر السقوط ، لأن الأمن فيه مقيد بكونه من المرض فلو أطلق لانصرف إلى الأمن من الخوف ، وقد يجاب أيضا بأنه يخاف وقوع المذكور من الشوص الذي هو وجع السن ، واللوث الذي هو وجع الأذن ، والعلوص الذي هو وجع البطن ، لأنه قبل وقوعها به يطلق عليه أنه خائف من وقوعها ، فإذا أمن من وقعها به فقد أمن من خوف . أما لو كانت وقعت به بالفعل فلا يحسن أن يقال أمن منها لأن الخوف في لغة العرب هو الغم من أمر مستقبل لا واقع بالفعل فدل هذا على أن زعم إمكان إطلاق الأمن على الشفاء من المرض خلاف الظاهر ، وحاصل تحرير هذه المسألة في مبحثين : الأول في معنى الإحصار في اللغة العربية ، الثاني في تحقيق المراد به في الآية الكريمة وأقوال العلماء ، وأدلتها في ذلك ، فاعلم أن أكثر علماء العربية يقولون : إن الإحصار هو ما كان عن مرض أو نحوه ، قالوا : تقول العرب : أحصره المرض يحصره بضم الياء وكسر الصاد إحصارا ، وأما ما كان من العدو فهو الحصر ، تقول العرب : حصره العدو يحصره بفتح الياء وضم الصاد حصرا بفتح فسكون ، ومن إطلاق الحصر في القرآن على ما كان من العدو
__________
(1) كذا ذكر الشنقيطي وهو وهم منه أو ممن نقل ذلك عنه ، فإن الحديث المذكور ليس في سنن ابن ماجة ولم أقف على من خرجه ، نعم ذكره ابن الأثير الجزري في النهاية (ج 1 : ص 261) قال الفتني في تذكرة الموضوعات (ص 165) : هو حديث ضعيف ، وقال العجلوني في كشف الخفاء (ج 2 : ص 252) : ذكره ( ابن الأثير ) في النهاية وهو ضعيف- انتهى . وروي في معناه عن غير واحد من الصحابة بأسانيد ضعيفة من شاء الوقوف على ذلك رجع إلى الفوائد المجموعة (ص 222) للشوكاني ، وكشف الخفاء (ج 2 : ص 252) للعجلوني ، وتنزيه الشريعة (ج 2 : ص 292) لابن العراق واللآلئ المصنوعة (ج 2 : ص 153) للسيوطي .

(19/359)


قوله تعالى : ? وخذوهم واحصروهم ? ( سورة التوبة : الآية 5) ومن إطلاق الإحصار على غير العدو كما ذكرنا عن علماء العربية قوله تعالى ? للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ? ( سورة البقرة : الآية 275) وقول ابن ميادة :
-
-
وما هجر ليلي أن تكون تباعدت _ -
-
عليك ولا أن أحصرتك شغول ( -
-
وعكس بعض علماء العربية فقال : الإحصار من العدو ، والحصر من المرض ، قاله ابن فارس في المجمل نقله عنه القرطبي ونقل البغوي نحوه عن ثعلب ، وقال جماعة من علماء العربية : إن الإحصار يستعمل في الجميع وكذلك الحصر ، ومن قال باستعمال الإحصار في الجميع الفراء ، وممن قال بأن الحصر والإحصار يستعملان في الجميع أبو نصر القشيري ، قال الشنقيطي : لا شك في جواز إطلاق الإحصار على ما كان من العدو كما سترى تحقيقه ، هذا حاصل كلام أهل العربية في معنى الإحصار ، وأما المراد به في الآية الكريمة فقد اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال ، الأول : أن المراد به حصر العدو خاصة دون المرض ونحوه ، وهذا قول ابن عباس وابن عمر وأنس وابن الزبير وهو
..............................................................................................

(19/360)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ، وبه قال مروان وإسحاق وهو الرواية المشهورة الصحيحة عن أحمد بن حنبل ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وعلى هذا القول أن المراد بالإحصار ما كان من العدو خاصة فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل ( إلا أن يشترط عند الإحرام عند الشافعي وأحمد كما سيأتي ) حتى يبرأ من مرضه ويطوف بالبيت ويسعى فيكون متحللا بعمرة ، وحجة هذا القول متركبة من أمرين ، الأول : أن الآية الكريمة التي هو قوله تعالى : ? فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ? نزلت في صد المشركين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست بإطباق العلماء ، وقد تقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول فلا يمكن إخراجها بمخصص فشمول الآية الكريمة لإحصار العدو الذي هو سبب نزولها قطعي فلا يمكن إخراجه من الآية بوجه ، وروي عن مالك أن صورة سبب النزول ظنية الدخول لا قطعيته وهو خلاف قول الجمهور ، وبهذا تعلم أن إطلاق الإحصار بصيغة الرباعي على ما كان من عدو صحيح في اللغة العربية بلا شك كما ترى وأنه نزل به القرآن العظيم الذي هو في أعلى درجات الفصاحة والإعجاز ، الأمر الثاني : ما ورد في الآثار في أن المحصر بمرض ونحوه لا يتحلل إلا بالطواف والسعي ، فمن ذلك ما رواه الشافعي في مسنده والبيهقي (ج 5: ص 219) عن ابن عباس أنه قال : لا حصر إلا حصر العدو ، قال النووي في شرح المهذب : إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم وصححه أيضا ( الحافظ ) ابن حجر ، ومن ذلك ما رواه البخاري والنسائي عن ابن عمر أنه كان يقول : أليس حسبكم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم يحل من كل شيء حتى يحج عاما قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا ، ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي (ج 5 : ص 219) عن ابن عمر أنه قال : المحصر

(19/361)


بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة فإذا اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى ، ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي أيضا (ج 5 : ص 219) عن أيوب السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديما أنه قال : خرجت إلى مكة حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي ، فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس فلم يرخص لي أحد أن أحل فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر حتى أحللت بعمرة ، والرجل البصري المذكور الذي أبهمه مالك ، قال ابن عبد البر : هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي شيخ أيوب كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة ، ورواه ابن جرير من طريق ، وسمى الرجل يزيد بن عبد الله بن الشخير ، ومن ذلك ما رواه مالك في الموطأ والبيهقي أيضا (ج 5 : ص 220) عن سليمان بن يسار أن سعيد بن حزابة المخزومي صرع ببعض طريق مكة وهو محرم فسأل - على الماء الذي كان عليه - عن العلماء فوجد عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم فذكرهم الذي عرض لهم فكلهم أمره أن يتداوى بما لا بد منه ، ويفتدي ،
..............................................................................................

(19/362)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه ثم عليه حج قابل ويهدي ما استيسر من الهدي . قال مالك : وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو ، وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج وأتيا يوم النحر أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالا ، ثم يحجان عاما قابلا ويهديان ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله . هذا هو حاصل أدلة القول بأن المراد بالإحصار في الآية هو ما كان من خصوص العدو دون ما كان من مرض ونحوه ، القول الثاني في المراد بالإحصار أنه يشمل ما كان من عدو ونحوه وما كان من مرض ونحوه من جميع العوائق المانعة من الوصول إلى الحرم ، وممن قال بهذا القول ابن مسعود ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي وعلقمة والثوري والحسن وأبو ثور وداود وهو مذهب أبي حنيفة ، وحجة هذا القول من جهة شموله لإحصار العدو قد تقدمت في حجة الذي قبله ، وأما من جهة شموله للإحصار بمرض فهي ما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة والحاكم والبيهقي عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى ، فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا : صدق ، وفي رواية لأبي داود وابن ماجة : من عرج أو كسر أو مرض ، فذكر معناه ، وفي رواية ذكرها أحمد في رواية المروزي (( من حبس بكسر أو مرض )) وبهذا تعلم قوة حجة أهل هذا القول ، ورد المخالفون الاحتجاج بحديث عكرمة هذا من وجهين ، الأول : ما ذكره البيهقي في السنن الكبرى (ج 5 : ص 220) قال : وقد حمله بعض أهل العلم إن صح أنه يحل بعد فواته بما يحل به من يفوته الحج بغير مرض فقد روينا عن ابن عباس ثابتا عنه قال : لا حصر إلا حصر عدو ، والله أعلم - انتهى ، الوجه الثاني : هو حمل حله المذكور في الحديث على ما إذا

(19/363)


اشترط في إحرامه أنه يحل حيث حبسه الله بالعذر ، والتحقيق جواز الاشتراط في الحج بأن يحرم ويشترط أن محله حيث حبسه الله ، ولا عبرة بقول منع الاشتراط لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( كما سيأتي ) القول الثالث في المراد بالإحصار : أنه ما كان من المرض ونحوه خاصة دون ما كان من العدو وقد قدمنا أنه المنقول عن أكثر أهل اللغة ، وإنما جاز التحلل من إحصار العدو عند من قال بهذا القول ، لأنه من إلغاء الفارق وأخذ حكم المسكوت عنه من المنطوق به فإحصار العدو عندهم ملحق بإحصار المرض بنفي الفارق ، ولا يخفى سقوط هذا القول لما قدمنا من أن الآية الكريمة نزلت في إحصار العدو عام الحديبية ، وأن صورة سبب النزول قطيعة الدخول كما عليه الجمهور وهو الحق قال الشنقيطي : الذي يظهر لنا رجحانه بالدليل من الأقوال المذكورة هو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه أن المراد بالإحصار في الآية إحصار العدو وأن من أصابه مرض أو نحوه لا يحل إلا بعمرة ، لأن هذا هو الذي نزلت فيه الآية ودل عليه قوله تعالى : ? فإذا أمنتم ? الآية ، ولا سيما على قول من قال من العلماء : إن الرخصة لا تتعدى محلها ، وهو
............................................................................................

(19/364)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قول جماعة من أهل العلم . وأما حديث عكرمة الذي رواه عن الحجاج بن عمرو وابن عباس وأبي هريرة فلا تنتهض به حجة لتعين حمله على ما إذا اشترط ذلك عند الإحرام لحديث عائشة عند الشيخين ، وحديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب السنن وغيرهم من أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لضباعه بنت الزبير بن عبد المطلب : حجي واشترطي ، ولو كان التحلل جائزا دون شرط كما يفهم من حديث الحجاج بن عمرو ، لما كان للاشتراط فائدة ، وحديث عائشة وابن عباس بالاشتراط أصح من حديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو والجمع بين الأدلة واجب إذا أمكن ، وهو ممكن في الحديثين بحمل حديث الحجاج بن عمرو على ما إذا اشترط ذلك في الإحرام فيتفق مع الحديثين الثابتين في الصحيح ، فإن قيل : يمكن الجمع بين الأحاديث بغير هذا ، وهو حمل أحاديث الاشتراط على أنه يحل من غير أن تلزمه حجة أخرى ، وحمل حديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو وغيره على أنه يحل وعليه حجة أخرى ، ويدل لهذا الجمع أن أحاديث الاشتراط ليس فيها ذكر حجة أخرى ، وحديث الحجاج بن عمرو قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : فقد حل وعليه حجة أخرى . فالجواب أن وجوب البدل بحجة أخرى أو عمرة أخرى لو كان يلزم لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يقضوا عمرتهم التي صدهم عنها المشركون ، قال البخاري في صحيحه في باب (( من قال : ليس على المحصر بدل )) ما نصه (( وقال مالك وغيره : ينحر هديه ويحلق في أي موضع كان ، ولا قضاء عليه ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالحديبية نحروا وحلقوا وحلوا من كل شيء قبل الطواف ، وقبل أن يصل الهدي إلى البيت ثم لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدا أن يقضوا شيئا ولا يعودوا له والحديبية خارج من الحرم )) - انتهى . وقد قال مالك : إنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حل هو وأصحابه بالحديبية ، فنحروا الهدي

(19/365)


وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي ، ثم لم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا يعودوا لشيء - انتهى . ولا يعارض ما ذكرنا بما رواه الواقدي في المغازي من طريق الزهري ومن طريق أبي معشر وغيرهما ، قالوا : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يعتمروا فلم يتخلف منهم إلا من قتل بخيبر أو مات ، وخرج معه جماعة معتمرين ممن لم يشهدوا الحديبية وكانت عدتهم ألفين ، لأن الشافعي قال : والذي أعقله في أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت ، لأنا علمنا من متواطئ أحاديثهم أنه كان معه عام الحديبية رجال معرفون ، ثم اعتمر عمرة القضية فتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال ، فهذا الشافعي جزم بأنهم تخلف منهم رجال معروفون من غير ضرورة في نفس ولا مال ، وقد تقرر في الأصول أن المثبت مقدم على النافي . وقال الحافظ ابن حجر في الفتح : ويمكن الجمع بين هذا إن صح وبين الذي قبله بأن الأمر كان على طريق الاستحباب ، لأن الشافعي جازم بأن جماعة تخلفوا بغير عذر ، وقال الشافعي في عمرة القضاء ، إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش ، لا على
( الفصل الأول )
2732 – (1) عن ابن عباس ، قال : قد أحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلق رأسه ، وجامع نساءه ، ونحر هديه ،

(19/366)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة ، وقد روى الواقدي أيضا من حديث ابن عمر قال : لم تكن هذه العمرة قضاء ولكن كان شرطا على قريش أن يعتمر المسلمون من قابل في الشهر الذي صدهم المشركون فيه . وقال البخاري في صحيحه في الباب المذكور : وقال روح عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ ، فأما من حبسه عذر أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع – انتهى . وقد ورد عن ابن عباس نحو هذا بإسناد آخر أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه ، وفيه : فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها ، وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه ، فإذا علمت هذا وعلمت أن ابن عباس ممن روى عنه عكرمة الحديث الذي روى عن الحجاج بن عمرو وأن راوي الحديث من أعلم الناس به ولا سيما إن كان ابن عباس الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه التأويل ، وهو مصرح بأن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الحجاج بن عمرو (( وعليه حجة أخرى )) محله فيما إذا كانت عليه حجة الإسلام ، تعلم أن الجمع الأول الذي ذكرنا هو المتعين ، واختاره النووي وغيره من علماء الشافعية ، وأن الجمع الأخير لا يصح لتعين حمل الحجة المذكورة على حجة الإسلام ، وأما على قول من قال إنه لا إحصار إلا بالعدو خاصة وأن المحصر بمرض لا يحل حتى يبرأ ويطوف بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم يحل من كل شيء حتى يحج عاما قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا كما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر كما تقدم ، فهو من حيث أن المريض عندهم غير محصر ، فهو كمن أحرم وفاته وقوف عرفة ، يطوف ويسعى ويحج من قابل ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديا – انتهى كلام الشنقيطي ، وسيأتي بسط الكلام في مسألة الاشتراط في شرح حديث عائشة آخر أحاديث هذا الفصل وتعيين القول الراجح في مسألة الإحصار بالمرض في شرح حديث الحجاج بن

(19/367)


عمرو في الفصل الثاني .
2732 – قوله ( قد أحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي منع عن عمرته التي أحرم بها في عام الحديبية ( فحلق رأسه ) أي بنية التحلل ( وجامع نسائه ) أي بعد تحلله الكامل كما يشير إليه قوله ( ونحر هديه ) إذ الواو لمطلق الجمع ، وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - تحلل هو وأصحابه بالحديبية لما صده المشركون وكان محرما بالعمرة فنحر ثم حلق ثم قال لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا . وفي حديث المسور بن مخرمة عند البخاري في الشروط (( فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا . واختلف العلماء هل نحر هديه يوم الحديبية في الحل أو في
حتى اعتمر عاما قابلا .

(19/368)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحرم ؟ وظاهر قوله تعالى : ? والهدي معكوفا أن يبلغ محله ? ( سورة الفتح : الآية 25) أنهم نحروه في الحل ، وفي محل نحر الهدي للمحصر أقوال ، الأول للجمهور أنه يذبح هديه حيث يحيث يحل في حل أو حرم الثاني للحنفية أنه لا ينحره إلا في الحرم الثالث لابن عباس وجماعة : أنه إن كان يستطيع البعث إلى الحرم وجب عليه ولا يحل حتى ينحر في محله وإن كان لا يستطيع البعث به إلى الحرم نحره في محل إحصاره ، وقيل : إنه نحره في طرف الحديبية وهو من الحرم ، والأول أظهر كذا في السبل ( حتى اعتمر ) غاية للمجموع أي تحلل حتى اعتمر . قال القسطلاني : ولأبي ذر عن المستملى (( ثم اعتمر )) ( عاما قابلا ) أي آتيا يعني السنة السابعة من الهجرة التي اعتمر فيها حسب المقاضاة التي وقعت بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش ، وقيل قضاء لعمرة حل عنها ، وفيه نظر ، وهذا الحديث فيه حذف يدل عليه ما رواه ابن السكن في كتاب الصحابة كما نبه عليه الحافظ وقال : إنه لم ينبه عليه من شراح هذا الكتاب غيره ولا بينه الإسماعيلي ولا أبو نعيم ، ولفظه عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال : قال عبد الله بن رافع مولى أم سلمة أنها سألت الحجاج بن عمرو الأنصاري عمن حبس وهو محرم فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من عرج أو كسر أو حبس فليجزي مثلها وهو في حل . قال : فحدثت به أبا هريرة فقال : صدق . وحدثته ابن عباس فقال : قد أحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلق ونحر هديه وجامع نسائه حتى اعتمر عاما قابلا ، والسبب في حذف البخاري ما ذكر أن الزائد ليس على شرطه لأنه قد اختلف في حديث الحجاج بن عمرو على يحيى بن أبي كثير عن عكرمة كما بينه الحافظ مع كون عبد الله بن رافع ليس من شرط البخاري فاقتصر على ما هو من شرط كتابه ، واستدل بالحديث على وجوب القضاء على المحصر ، قال المحب الطبري : هكذا يستدل به

(19/369)


من قال بوجوب القضاء ، ولا دلالة فيه على وجوب القضاء لأنه تضمن حكاية ما وقع ، وقد تخلف بعض من كان معه في عمرة الحديبية عن عمرة القضية بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال ، ولو وجب عليهم القضاء لأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يتخلفوا عنه ، وإنما سميت عمرة القصاص وعمرة القضية لأن الله تعالى اقتص لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليهم كما منعوه لا على أن ذلك وجب عليه . قال البيهقي : وروى الواقدي بسنده عن ابن عمر قال : لم تكن العمرة قضاء ولكن كان شرطا على المسلمين أن يعتمروا من قابل في الشهر الذي صدهم المشركون فيه - انتهى . وقال الأمير اليماني : قوله (( حتى اعتمر عاما قابلا )) قيل إنه يدل على إيجاب القضاء على من أحصر ، والمراد من أحصر عن النفل ، وأما من أحصر عن واجبه من حج أو عمرة فلا كلام أنه يجب عليه الإتيان بالواجب إن منع من أدائه ، والحق أنه لا دلالة في كلام ابن عباس على إيجاب القضاء ، فإن ظاهر ما فيه أنه أخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر عاما قابلا ، ولا كلام أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر في عام القضاء ولكنها عمرة أخرى ليست قضاء عن عمرة الحديبية ، إلى آخر ما ذكر من الدلائل على ذلك ، والحديث فيه دليل على أن المعتمر إذا أحصر يحل ، وأن
رواه البخاري .
2733 – (2) وعن عبد الله بن عمر ، قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحال كفار قريش دون البيت ، فنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - هداياه ، وحلق ، وقصر أصحابه .

(19/370)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التحلل بالإحصار لا يختص بالحاج وقد أورد البخاري هذا الحديث في باب إذا أحصر المعتمر ، قال الحافظ ، قيل : غرض المصنف بهذه الترجمة الرد على من قال : التحلل بالإحصار خاص بالحاج ، بخلاف المعتمر فلا يتحلل بذلك بل يستمر على إحرامه حتى يطوف بالبيت ، لأن السنة كلها وقت للعمرة فلا يخشى فواتها بخلاف الحج ، وهو محكي عن مالك ، واحتج له إسماعيل القاضي بما أخرجه بإسناد صحيح عن أبي قلابة قال : خرجت معتمرا فوقعت على راحلتي فانكسرت فأرسلت إلى ابن عباس وابن عمر فقالا : ليس لها وقت كالحج يكون على إحرامه حتى يصل إلى البيت - انتهى . وقال العيني : روي ذلك القول عن مالك ، وهو محكي عن محمد بن سيرين وبعض الظاهرية ، وقضية الحديبية حجة تقضي عليهم - انتهى . قلت : هكذا ذكر خلاف مالك للجمهور في مسألة الإحصار في العمرة عامة نقلة المذاهب كابن قدامة وغيره ، لكن الظاهر أن هذه الحكاية ليست بصحيحة ، فإن عامة فروع المالكية كالشرح الكبير والدسوقي والمدونة وغيرها مصرحة بصحة الحصر عن العمرة وجواز التحلل عنها عند الحصر فلا خلاف في هذه المسألة بين الأئمة الأربعة ( رواه البخاري ) من طريق يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس ، وأخرجه أيضا الإسماعيلي وأبو نعيم وابن السكن .

(19/371)


2733 - قوله ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي معتمرين كما في رواية ، وكان خروجهم يوم الاثنين مستهل ذي القعدة سنة ست من الهجرة ( فحال كفار قريش دون البيت ) أي منعونا من دخول مكة والوصول إلى البيت ( فنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - هداياه ) أي بالحديبية ، وفي رواية (( بدنه )) بضم الموحدة وسكون الدال جمع بدنة ( وحلق ) أي رأسه كما في رواية ، يعني ثم حلق فتحلل كما بينته الروايات الصحيحة الصريحة ( وقصر أصحابه ) أي بعضهم وحلق آخرون ، وذلك أنهم توقفوا في الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت فأشارت أم سلمة إلى أن يحل هو - صلى الله عليه وسلم - قبلهم ففعل فتبعوه فحلق بعضهم وقصر بعض وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير ، واعلم أنهم اختلفوا في المحصر هل يجب عليه الحلق أو التقصير إذا نحر هديه أم لا ؟ فذهب الشافعية إلى الوجوب بناء على المشهور عندهم أنه نسك ، وقال به أبو يوسف في إحدى الروايتين ، وهو رواية عن أحمد ، والمشهور عنه أنه لا يجب ، وبه قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن ، وإليه ذهب المالكية كما في الدردير والدسوقي ، قال ابن قدامة (ج 3 : ص 316) : هل يلزمه الحلق أو التقصير مع ذبح الهدي أو الصيام ؟ ظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه ، لأنه
رواه البخاري .
2734 – (3) وعن المسور بن مخرمة ،

(19/372)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لم يذكره ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، لأن الله تعالى ذكر الهدي وحده ولم يشترط سواه ، والثانية عليه الحلق أو التقصير ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق يوم الحديبية وفعله في النسك دال على الوجوب ، ولعل هذا ينبني على أن الحلاق نسك أو إطلاق من محظور ، ولا يتحلل إلا بالنية مع ما ذكرنا ، فيحصل الحل بشيئين النحر أو الصوم والنية إن قلنا : الحلاق ليس بالنسك ، وإن قلنا : هو نسك حصل بثلاثة أشياء : الحلاق مع ما ذكرنا - انتهى ، وقال النووي في مناسكه : اعلم أن التحلل يحصل بثلاثة أشياء ذبح ونية التحلل بذبحها والحلق إذا قلنا بالأصح أنه نسك - انتهى . وفي غنية الناسك وبذبحه يحل بلا حلق وتقصير إلا أنه لو حلق أو قصر فحسن كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام الحديبية ليعرف استحكام عزيمته على الانصراف ويأمن المشركون منهم فلا يشتغلون بمكيدة أخرى هذا عندهما ، وعليه المتون وهو ظاهر الرواية عن أبي يوسف - انتهى ، وقال في البحر العميق بعد ما حكى خلاف أبي يوسف : وقال الجصاص : إنما لا يجب الحلق عندهما إذا أحصر في الحل لأن الحلق يختص بالحرم وأما إذا أحصر في الحرم يجب الحلق عندهما وعليه حمل حلقه - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ، وأجيب أيضا بأنه محمول على الاستحباب لأنهم كانوا يمتنعون عن التحلل طمعا في دخول مكة ويرون التحلل بالحلق فقطع بالأمر به أطماعهم تسليما لأمر الله تعالى . قلت : ومال الطحاوي إلى وجوب الحلق كما ذكره القاري في المرقاة وفي شرح اللباب وقال القاري أيضا : وإذا لم يجب عليه الحلق وأراد أن يتحلل فإنه يفعل أدنى ما يخطره الإحرام كذا في البحر الزاخر ، والأظهر وجوب الحلق لقوله تعالى : ? ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ? ولفعله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام - انتهى ( رواه البخاري ) في الحج وفي غزوة الحديبية وعمرة

(19/373)


القضاء من كتاب المغازي مختصرا ومطولا ، واللفظ المذكور له في غزوة الحديبية وهو طرف من حديث طويل ، وأخرجه أيضا أحمد مرارا والبيهقي ولم يخرجه مسلم ولا أصحاب السنن .
2734 - قوله ( وعن المسور) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو فراء ( بن مخرمة ) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء ، ابن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهري أبو عبد الرحمن ، له ولأبيه صحبة ، مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين وسمع منه وحفظ عنه ، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين وقدم به أبوه المدينة في ذي الحجة بعد الفتح سنة ثمان وهو أصغر من ابن الزبير بأربعة أشهر ، وكان فقيها من أهل الفضل والدين ، لم يزل مع خاله عبد الرحمن بن عوف مقبلا ومدبرا في أمر الشورى ، وبقى بالمدينة إلى أن قتل عثمان ، ثم انتقل إلى مكة ولم يزل بها إلى أن حاصرها عسكر يزيد فقتله حجر من حجارة المنجنيق وهو يصلي في الحجر وذلك مستهل ربيع الأول سنة
قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر قبل أن يحلق ، وأمر أصحابه بذلك . رواه البخاري .
2735 – (4) وعن ابن عمر ، أنه قال : أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

(19/374)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أربع وستين وصلى عليه ابن الزبير بالحجون ، توفي وهو ابن اثنتين وستين سنة وقيل إن وفاته كانت يوم جاء نعي يزيد إلى ابن الزبير وحصين بن نمير محاصر لابن الزبير ( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك ) أي بالنحر قبل الحلق ، وفيه دلالة على تقديم النحر قبل الحلق ، وقد تقدم أن المشروع تقديم الحلق قبل الذبح فقيل حديث المسور هذا إنما هو إخبار عن فعله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الحديبية حيث أحصر فتحلل - صلى الله عليه وسلم - بالذبح ، وقد بوب عليه البخاري (( باب النحر قبل الحلق في الحصر )) وأشار البخاري إلى أن هذا الترتيب يختص بالمحصر على جهة الوجوب فإنه أخرجه بمعناه ، هذا وقد أخرجه بطوله في كتاب الشروط ، وفيه أنه قال لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا ، قال الشوكاني : فيه دليل على أن المحصر يقدم النحر على الحلق ولا يعارض هذا ما وقع في حديث ابن عباس المتقدم أنه حلق رأسه وجامع نسائه ونحر هديه ، لأن العطف بالواو إنما هو لمطلق الجمع ولا يدل على الترتيب ، فإن قدم الحلق على النحر فروى ابن أبي شيبة عن علقمة أن عليه دما ، وعن ابن عباس مثله ، والظاهر عدم وجوب الدم لعدم الدليل - انتهى . قال الحافظ : وهذا الحديث طرف من حديث طويل أخرجه البخاري في الشروط ولفظه في أواخر الحديث (( فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا - الحديث . وفيه قول أم سلمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك ، فخرج فنحر بدنه ودعا حالقه فحلقه ، وعرف بهذا أن البخاري أورد القدر المذكور هنا بالمعنى وأشار بقوله في الترجمة (( في الحصر )) إلى أن هذا الترتيب يختص بحال من أحصر . قال ابن التيمي : ذهب مالك إلى أنه لا هدي على المحصر ، والحجة عليه هذا الحديث

(19/375)


لأنه نقل فيه حكم وسبب فالسبب الحصر والحكم النحر ، فاقتضى الظاهر تعلق الحكم بذلك السبب ، والله أعلم ، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح حديث ابن عمر الذي يليه ( رواه البخاري ) في الحج مختصرا باللفظ المذكور ، وفي الشروط مطولا كما تقدم ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 4 : ص 327) والبيهقي (ج 5 : ص 220) مطولا .
2735 - قوله ( وعن ابن عمر أنه قال : أليس حسبكم سنة رسول الله ) كذا عند البخاري ولأحمد والترمذي والنسائي : أنه كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول : أليس حسبكم سنة نبيكم ؟ قال العيني : قوله (( أليس حسبكم سنة رسول الله )) يريد به عدم الاشتراط كما هو مبين عند النسائي أنه كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول : (( أما حسبكم سنة نبيكم ؟ إنه لم يشترط )) وهكذا رواه الدارقطني ، ومعنى قوله (( أليس حسبكم سنة رسول الله )) أي أليس يكفيكم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ لأن معنى الحسب الكفاية ، ومنه حسبنا الله أي كافينا ، وحسبكم مرفوع لأنه اسم
إن حبس أحدكم عن الحج ، طاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم حل من كل شيء حتى يحج عاما قابلا ، فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا .

(19/376)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليس ، و (( سنة رسول الله )) منصوب على أنه خبر ليس ، والجملة الشرطية وهي قوله (( إن حبس ، إلخ )) تفسير للسنة فمحلها النصب أو الرفع خبر مبتدأ محذوف أي هي . وقال عياض : ضبطنا سنة بالنصب على الاختصاص أو على إضمار فعل أي تمسكوا ونحوه ، وقال السهيلي : من نصب سنة فهو بإضمار الأمر كأنه قال : الزموا سنة نبيكم ، ويمكن أن يقال أن يكون خبر ليس (( طاف بالبيت )) على قول عياض والسهيلي . قال العيني : خبر ليس على وجه نصب سنة على قول عياض والسهيلي قوله (( طاف بالبيت )) وهو أيضا سد مسد جواب الشرط . قال الطبري : قوله (( حسبكم سنة نبيكم )) فيه إشعار بالتسوية بين حصر العدو والمرض ، فإن معنى قوله حسبكم سنة نبيكم أي في جواز التحلل بهذا العذر دون اشتراط وأشار ابن عمر بإنكار الاشتراط إلى ما كان يفتي به ابن عباس من جواز الاشتراط ، قال البيهقي : لو بلغ ابن عمر حديث ضباعه في الاشتراط لقال به ، وسيأتي الكلام في مسألة الاشتراط مفصلا إن شاء الله ( إن حبس ) بصيغة المجهول أي منع ( أحدكم عن الحج ) أي عن ركنه الأعظم وهو الوقوف بعرفة ( طاف بالبيت ) أي إذا أمكنه ذلك ، فقد وقع في رواية عبد الرزاق (( إن حبس أحدا منكم حابس عن البيت فإذا وصل إليه طاف به )) الحديث ( وبالصفا والمروة ) أي طاف بهما ، أي سعى بينهما ( ثم حل ) أي بالحلق والذبح ( من كل شيء ) حرم عليه بالإحرام ( حتى يحج عاما قابلا ) عاما ظرف وقابلا صفة ( فيهدي ) أي يذبح شاة ، إذ التحلل لا يحصل إلا بنية التحلل والذبح والحلق ، قاله الكرماني ( أو يصوم إن لم يجد هديا ) حيث شاء ، واستدل بقوله (( حتى يحج عاما قابلا )) على وجوب الحج من القابل على من أحصر ، وقد اختلف العلماء في أنه هل يجب على المحصر القضاء أم لا فأوجب الحنفية القضاء ولم يوجب الشافعية والمالكية ، وعن أحمد روايتان ، قالوا : فإن كان حج فرض بقى

(19/377)


وجوبه على حاله ؛ قال ابن قدامة في الشرح الكبير : في وجوب القضاء على المحصور روايتان ، إحداهما لا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا ، فيفعله بالوجوب السابق ، هذا هو الصحيح من المذهب وبه قال مالك والشافعي ، والثانية عليه القضاء روي ذلك عن عكرمة ومجاهد والشعبي ، وبه قال أبو حنيفة ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما تحلل زمن الحديبية قضى من قابل وسميت عمرة القضية ، ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه القضاء كما لو فاته ، ووجه الرواية الأولى أنه تطوع جاز التحلل منه ، وأما الخبر فإن الذين صدوا كانوا ألفا وأربعمائة ، والذين اعتمروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسيرا ، ولم ينقل إلينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدا بالقضاء وأما تسميتها عمرة القضية فإنما يعني بها القضية التي اصطلحوا عليها ، ولو أرادوا غير ذلك لقالوا : عمرة القضاء - انتهى . ويشير بذلك إلى أن تسميتها بعمرة القضاء إنما كان من بعض الصحابة ومن أصحاب المغازي والسير لا من عامة الصحابة ، وأما ما ذكره
..............................................................................................

(19/378)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بعض أصحاب المغازي أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه حين رأوا هلال ذي القعدة أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صد عنها المشركون بالحديبية وأن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية فلم يتخلف أحد منهم إلا من استشهد منهم بخيبر ومن مات وادعى تواتر الأخبار بذلك ، فهو مجرد دعوى فلا يلتفت إليها . قلت : واستدل لوجوب القضاء أيضا لقوله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? فإنه يقتضي وجوب الإتمام من غير فرق بين حج الفرض والنفل ولا يخفى ما فيه ، وبحديث حجاج بن عمرو الأنصاري الآتي بدون التفريق بينهما ، وبحديث عائشة إذ أمرها - صلى الله عليه وسلم - برفض العمرة ثم اعمرها من التنعيم وقال : هذه مكان عمرتك . وقد تقدم الجواب عن حديث الحجاج بن عمرو في كلام الشنقيطي المذكور في أول الباب ، وسيأتي أيضا عند شرحه ، وأما حديث عائشة فقد سبق الكلام فيه مفصلا في باب قصة حجة الوداع فراجعه ، واستدل أيضا بقوله (( فيهدي )) على وجوب الهدي على المحصر في الحج . قال الشوكاني : ولكن الإحصار الذي وقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما وقع في العمرة فقاس العلماء الحج على ذلك ، وهو من الإلحاق بنفي الفارق ، وإلى وجوب الهدي ذهب الجمهور ، وهو ظاهر الأحاديث الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك في الحديبية ، ويدل عليه قوله تعالى : ? فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ? وذكر الشافعي أنه لا خلاف في ذلك في تفسير الآية ، وخالف في ذلك مالك فقال : أنه لا يجب الهدي على المحصر ، وعول على قياس الإحصار على الخروج من الصوم للعذر والتمسك بمثل هذا القياس في مقابل ما يخالفه من القرآن والسنة من الغرائب التي يتعجب من وقوع مثلها من أكابر العلماء - انتهى كلام الشوكاني . وقال ابن قدامة (ج 3 : ص 356) وعلى من تحلل بالإحصار ( في الحج أو العمرة ) الهدي في قول أكثر أهل العلم ، وحكي عن مالك

(19/379)


: ليس عليه هدي لأنه تحلل أبيح له من غير تفريط أشبه من أتم حجه ، وليس بصحيح لأن الله تعالى قال : ? فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ? قال الشافعي : لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية ولأنه أبيح له التحلل قبل إتمام نسكه فكان عليه الهدي كالذي فاته الحج ، وبهذا فارق من أتم حجه . قال : وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه ، فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه ، وإن لم يكن معه لزمه شراءه إن أمكنه - انتهى . وقال النووي في مناسكه : يلزم المتحلل بالإحصار ذبح شاة يفرقها حيث أحصر - انتهى . وفي شرح المنهاج : من أراد التحلل بالإحصار ذبح وجوبا شاة أو سبع بدنة أو بقرة حيث أحصر ولو في الحل - انتهى . وقال في الهداية : إذا أحصر المحرم فمنعه من المضى جاز له التحلل ، ويقال له : ابعث شاة تذبح في الحرم وواعد من تبعثه بيوم بعينه يذبح فيه ثم تحلل . وفي شرح اللباب : إذا أحصر المحرم بحجة أو عمرة وأراد التحلل أي الخروج من إحرامه يجب عليه أن يبعث الهدي - إلى آخر ما بسطه . وقال الباجي : أما تحلله للحصر فلا يوجب هديا عند مالك . وبه قال ابن القاسم . وقال أشهب عليه الهدي ، وبه
رواه البخاري .
2736 – (5) وعن عائشة ، قالت : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير ،

(19/380)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قال أبو حنيفة والشافعي . ودليلنا أنه تحلل مأذون عار عن التفريط وإدخال النقص فلم يجب عليه الهدي ، ودليل ثان يختص بالشافعي أن هذه عبادة لها تحرم وتحلل ، فإذا سقط قضاؤها بالفوات يجب أن يسقط جبرانها . واحتج أشهب ومن تابعه بقوله تعالى : ? فإن أحصرتم ? الآية ، وقال : هذا ممن احصر بعدو وقد خالف سائر أصحابنا أشهب في هذا وقالوا : الإحصار إنما هو إحصار المرض ، وأما العدو فإنما يقال فيه حصر حصرا فهو محصور - على آخر ما بسط الكلام في ذلك . وقال الدسوقي في شرح قول الدردير (( إن منعه عدو أو فتنة بحج أو عمرة فله التحلل ولا دم عليه )) : أي خلافا لأشهب حيث قال بوجوبه واستدل بالآية ، وأجيب بأن الهدي في الآية لم يكن لأجل الحصر ، وإنما ساقه بعضهم تطوعا فأمروا بذبحه فلا دليل فيها للوجوب - انتهى . وقد ظهر بهذا كله أنه يلزم الهدي في الإحصار عند الحنابلة والشافعية والحنفية خلافا لمالك وأصحابه غير أشهب ، لكن لا يخفى أن وجوب الهدي عند الحنابلة مقيد بعدم اشتراط التحلل عند الإحرام ، فأما إذا اشترط التحلل فلا يلزمه الهدي سواء كان الإحصار بالعدو أو المرض كما يدل عليه كلام ابن قدامة في المغنى (ج 3 : ص 282 ، 364) ويجب الهدي عند الشافعية في الإحصار بالعدو مطلقا ، أي سواء اشترط أو لم يشترط ، وأما في الإحصار بالمرض فلا يجب إلا إذا اشترط التحلل بالهدي ، وأما إذا لم يشترط ذلك بأن سكت في اشتراطه عن الهدي أو نفاه فلا يلزم كما في شرح الإقناع ، والقول الراجح عندنا هو ما ذهب إليه الحنابلة ، والله أعلم ( رواه البخاري ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 33) والترمذي والنسائي وعبد الرزاق والدراقطني والبيهقي بعضهم مختصرا وبعضهم مطولا .

(19/381)


2736 - قوله ( دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة ) بضم الضاد المعجمة بعدها باء موحدة مخففة وبعد الألف عين مهملة ( بنت الزبير ) ابن عبد المطلب الهاشمية بنت عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، تزوجها المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة ، يعرف بالمقداد بن الأسود لتبنيه له ، فولدت له عبد الله وكريمة ، فقتل عبد الله يوم الجمل مع عائشة ، روت ضباعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن زوجها المقداد ، وعنها ابنتها كريمة بنت المقداد وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعروة ابن الزبير وغيرهم ، قال ابن عبد البر : لضباعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث منها الاشتراط في الحج ، قال الزبير بن بكار : لم يكن للزبير بن عبد المطلب عقب إلا من ضباعة وأختها أم الحكم ، ودخوله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة عيادة أو زيارة وصلة فإنها قريبته كما تقدم ، وفيه بيان تواضعه وصلته وتفقده - صلى الله عليه وسلم - ، وهو محمول على أن الخلوة هناك كانت منتفية ، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يخلو بالأجنبيات ، وإن كان لو فعل ذلك لم يلزمه منه مفسدة لعصمته ، لكنهم لم يعدوا
فقال لها : " لعلك أردت الحج ؟ " قالت : والله ما أجدني إلا وجعة . فقال لها : " حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني " .

(19/382)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ذلك من خصائصه ، فهو في ذلك كغيره في التحريم ( فقال لها ) أي وهي في المدينة ( لعلك أردت الحج ) أي معنا ، وهذا لفظ البخاري ، وفي رواية لمسلم (( أردت الحج )) أي بدون لفظ (( لعلك )) وفي أخرى له أيضا (( قالت : إني أريد الحج )) وقد يقتضي ظاهر هذه الرواية أنها قالت له ذلك ابتداء ، ولا منافاة ، فقد تكون إنما قالت : إني أريد الحج ، في جواب استفهامه لها ، وليس اللفظ صريحا في أنها قالت ذلك ابتداء ، وكذا قوله في رواية ابن ماجة من حديث ضباعة أنه عليه الصلاة والسلام قال لها : أما تريدين الحج العام ؟ ومن رواية أسماء أو سعدى عند ابن ماجة أيضا (( ما يمنعك من الحج ؟ )) كل ذلك يقتضي أن كلامها كان جوابا لسؤاله لكن في حديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب السنن الأربعة أن ضباعة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت ، وهذا قد ينافي قوله في حديث عائشة : دخل على ضباعة . وقد يجمع بينهما بأنها أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن إذ ذاك في منزله ، ثم جاء فدخل عليها وهي في منزله ، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي أنها قالت له : إني أريد الحج فأشترط ؟ فقال لها : نعم . وهذا يقتضي أن أمره بالاشتراط ما كان إلا بعد استئذانها ( قالت : والله ما أجدني ) أي ما أجد نفسي ، واتحاد الفاعل والمفعول مع كونهما ضميرين لشيء واحد من خصائص أفعال القلوب . وفي الحديث جواز اليمين في درج الكلام بغير قصد ( إلا وجعة ) بفتح الواو وكسر الجيم ، وهو من الصفات المشبهة ، أي إني ذات وجع أي مرض ، وفي رواية لمسلم (( وأنا شاكية )) بالشين المعجمة أي مريضة ، والشكوى والشكو والشكاية المرض ، وفي حديث ابن عباس عند مسلم (( إني امرأة ثقيلة )) أي أثقلها المرض ( فقال لها : حجي ) أي أحرمي بالحج ( واشترطي وقولي ) عطف تفسيري ( اللهم محلي ) بفتح الميم وكسر الحاء أي محل خروجي من الحج

(19/383)


وموضع تحللي من الإحرام أو وقت تحللي من الإحرام ، والمحل يقع على المكان والزمان ( حيث حبستني ) أي منعتني من السير بسبب ثقل المرض . قال العيني : أي إنك حيث عجزت عن الإتيان بالمناسك وانحبست عنها بسبب قوة المرض تحللت ، وقولي : اللهم مكان تحللي عن الإحرام مكان حبستني فيه عن النسك لعلة المرض . وقال القاري : قال بعض علمائنا قوله (( قولي : اللهم محلي )) إلخ ، تفسير الاشتراط يعني اشترطي أن أخرج من الإحرام حيث مرضت وعجزت عن إتمام الحج ، فمن لم ير الإحصار بالمرض يستدل بهذا الحديث بأن يقول لو كان المرض ينتج التحلل لم يأمرها بالاشتراط لعدم الإفادة ، وإليه ذهب الشافعي ومن وافقه ، ومن يرى الإحصار بالمرض ، وهو مذهب أبي حنيفة يستدل بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري الآتي - انتهى . قلت : حديث عائشة يدل على جواز الاشتراط في الحج خوفا من حدوث طارئ يطرأ عليه أثناء الحج من مرض أو نحوه ، وأن من اشترط الاشتراط المذكور في إحرامه
...............................................................................................

(19/384)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم عرض له ما يحبسه من المرض ونحوه عن الحج جاز له أن يتحلل ، وأن من لم يشترط في إحرامه فليس له التحلل قال الولي العراقي : في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر ضباعة أن تشترط في إحرامها التحلل عند المرض ، وقد اختلف العلماء في هذا الأمر هل هو على سبيل الإباحة أو الاستحباب أو الإيجاب ، وهذه الأقوال متفقة على الاشتراط في الجملة ، ومنهم من أنكره لعدم صحة الحديث عنده أو لتأويله كما سيأتي ، وحاصل هذا الخلاف أقوال أحدها جوازه ، وهو المشهور من مذهب الشافعي فإنه نص عليه في القديم ، وعلق القول به في الجديد على صحته ، وقد صح كما سيأتي ، ولذلك قطع الشيخ أبو حامد بصحته ، وأجرى غيره فيه قولين في الجديد ، أظهرهما الصحة ، وروى ابن أبي شيبة فعله عن علي وعلقمة والأسود وشريح وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، والأمر به عن عائشة وعبد الله بن مسعود ، وعن عثمان أنه رأى رجلا واقفا بعرفة فقال له : أشارطت ؟ فقال : نعم . وعن الحسن وعطاء في المحرم قالا : له شرطه . وروى البيهقي الأمر به عن أم سلمة وقال ابن المنذر : ممن روينا عنه أنه رأى الاشتراط عند الإحرام عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر ، وهو مذهب عبيدة السلماني والأسود بن يزيد وشريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعكرمة وعطاء بن يسار وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وبه قال الشافعي إذ هو بالعراق ، ثم وقف عنه بمصر ، وبالأول أقول ( وهو المصحح عند الشافعية ) وحكاه ابن حزم عن جمهور الصحابة ، وحكاه والدي يعني الزين العراقي في شرح الترمذي عن جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، والثاني استحبابه وهو مذهب أحمد فإن ابن قدامة جزم به في المغني (ج 3 : ص 282) وهو المفهوم من قول الخرقي والمجد بن تيمية في مختصريهما عند ذكر الإحرام (( ويشترط )) أي المحرم إن لم يفهم منه الوجوب ، الثالث

(19/385)


إيجابه ، ذهب إليه ابن حزم الظاهري تمسكا بالأمر ، الرابع إنكاره ، وهذا مذهب الحنفية والمالكية ( ومعنى إنكار الاشتراط وعدم صحته وبطلانه أنه لا ينفعه الاشتراط ولا يفيده وإنه لا تأثير له في جواز التحلل ولا حاجة إليه ولا حكم له : فإن الإحصار عند الحنيفة يتحقق بالمرض أيضا ولو لم يشترط فيصير المريض عندهم محصرا له حكم المحصر ) وروى ابن أبي شيبة عن هشام بن عروة قال : كان أبي لا يرى الاشتراط في الحج شيئا ، وعن إبراهيم النخعي : كانوا لا يشترطون ولا يرون الشرط شيئا ، وعن طاوس والحكم وحماد : الاشتراط في الحج ليس بشيء ، وعن سعيد بن جبير : المستثنى وغير المستثنى سواء ، وعن إبراهيم التيمي : كان علقمة لا يرى الاشتراط شيئا ، وروى الترمذي وصححه والنسائي عن ابن عمر أنه كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول : أليس حسبكم سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ؟ زاد النسائي في روايته (( أنه لم يشترط )) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في صحيح البخاري بدون أوله . وحكى ابن المنذر إنكاره عن الزهري أيضا ، وحكاه ابن عبد البر عن سفيان الثوري ، وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد سقوط الدم ، فأما التحلل فهو ثابت عنده بكل إحصار ،
.............................................................................................

(19/386)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ثم قال الولي العراقي : فمن قال بالجواز تمسك بهذا الحديث ورأى أن الأمر به ترخيص وتوسعة وتخفيف ورفق وأنه يتعلق بمصلحة دنيوية ، وهي ما يحصل لها من المشقة بمصابرة الإحرام مع المرض ، ومن قال بالاستحباب رأى المصلحة فيه دينية ، وهو الاحتياط للعبادة ، فإنها بتقدير عدمه قد يعرض لها من مرض يشعث العبادة ويوقع فيها الخلل ، وهذا بعيد ، ومن قال بالوجوب حمل الأمر على حقيقته ، وهو أبعد من الذي قبله ، ولو كان واجبا لما أخل النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله ولا الصحابة ، ولو فعلوا ذلك في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - لنقل ، وقد صرح ابن عمر بأنه لم يشترط كما تقدم ذكره ، ولما لم يأمر به إلا هذا المرأة الواحدة بعد شكايتها له علمنا أن ذلك ترخيص حرك ذكره هذا السبب وهو شكواها ، ومن قال بالإنكار منهم من ضعف الحديث كما سيأتي ذكره ورده ، ومنهم من أوله وفي تأويله أوجه : أحدها أنه خاص بضباعة ، حكاه الخطابي عن بعضهم . قال : وقال يشبه أن يكون بها مرض أو حال كان غالب ظنها أنها تعوقها عن إتمام الحج فأذن لها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاشتراط كما أذن لأصحابه في رفض الحج ، وليس ذلك لغيرهم ، وقال النووي في شرح مسلم بعد ذكره هذا المذهب : وحملوا الحديث على أنها قضية عين وأنه مخصوص بضباعة ، وحكاه في شرح المهذب عن الرؤياني من أصحابنا الشافعية ، ثم قال : وهذا تأويل باطل ومخالف لنص الشافعي ، فإنه إنما قال : لو صح الحديث لم أعده ولم يتأوله ولم يخصه . الثاني أن معناه : حيث حبستني بالموت أي إذا أدركتني الوفاة انقطع إحرامي ، حكاه النووي في شرح المهذب عن إمام الحرمين ، ثم قال : وهذا تأويل ظاهر الفساد ، وعجبت من جلالة الإمام كيف قاله ، الثالث أن المراد التحلل بعمرة لا مطلقا حكاه المحب الطبري عن بعضهم ، ويرده حديث ضباعة عند ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي في سننه من

(19/387)


رواية يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عنها قالت ، قلت : يا رسول الله إني أريد الحج فكيف أهل بالحج ، قال ، قولي : اللهم إني أهل بالحج إن أذنت له به وأعنتني عليه ويسرته لي ، وإن حبستني فعمرة ، وإن حبستني عنهما جميعا فمحلي حيث حبستني ، فإن فيه التصريح بالتحلل المطلق عن الحج والعمرة معا . وحكى ابن حزم عن بعضهم : أن هذا الحديث مخالف لقوله تعالى : ? وأتموا الحج والعمرة لله ? ولقوله تعالى ? فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ? وعن بعضهم أن هذا الخبر رواه عروة وعطاء وسعيد بن جبير وطاوس ، وروى عنهم خلافه يعني فهذا مما يوهن الاشتراط ، ثم قال ابن حزم : سمعناكم تعتلون بهذا في الصاحب فعديتموه إلى التابع وإن درجتموه بلغ إلينا وإلى من بعدنا فصار كل من بلغه حديث فتركه حجة في رده ، ولئن خالف هؤلاء ما رووا فقد رواه غيرهم ولم يخالفه ، وأطنب ابن حزم في رد هذه المقالات ، وهي حقيقة بذلك ، والظن بمن يعتمد عليه ممن خالف هذا الحديث أنه لم يبلغه . قال البيهقي : عندي أن ابن عمر لو بلغه حديث ضباعة في الاشتراط لم ينكره كما لم ينكره أبوه - انتهى . واستدل بالحديث على أن المشترط لذلك يحل بمجرد المرض والعجز ولا يحتاج
...............................................................................................

(19/388)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلا إحلال ، وقد قال الشافعية إن اشتراط التحلل بذلك فلا يحل إلا بالتحلل ، وإن قال : إذا مرضت فأنا حلال فهل يحتاج في هذه الصورة إلى تحلل أو يصير حلالا بنفس المرض ، فيه للشافعية وجهان ، الذي نص عليه الشافعي أنه يصير حلالا بنفس المرض ، ودلالة الحديث محتملة ، فإن قوله (( فإن محلي )) يحتمل أن يكون موضع حلي ، ويحتمل أن يكون معناه ، موضع إحلالي ، قال الولي العراقي : والحديث ورد في الحج ، والعمرة في معناه ، فلو أحرم بعمر فشرط التحلل منها عند المرض كان كذلك . ولا خلاف في هذا بين المجوزين للاشتراط فيما أعلم ، ولعل العمرة داخلة في قوله في رواية النسائي من حديث ابن عباس (( فإن لك على ربك ما استثنيت )) قال : والمراد بالتحلل أن يصير نفسه حلالا فلو شرط أن يقلب حجه عمرة عند المرض فذكر أصحابنا أنه أولى بالصحة من شرط التحلل ونص عليه الشافعي ، وإذا جاز إبطال العبادة للعجز فنقلها إلى عبادة أخرى أولى بالجواز – انتهى . واعلم أن سبب الحديث إنما هو في التحلل بالمرض لكن قوله (( حبستني )) يصدق بالحبس بالمرض وبغيره من الأعذار كذهاب النفقة وفراغها وضلال الطريق والخطأ في العدد وقد صرح الشافعية والحنابلة بأن هذه الأعذار كالمرض في جواز شرط التحلل بها ، وظاهر الحديث أنه لا يجب عليه عند التحلل بالشرط دم ، إذ لو وجب لذكره ، فإنه وقت الاحتياج إليه ، وبهذا صرح الحنابلة والظاهرية ، وهو الأصح عند الشافعية ، ومحل الخلاف عندهم في حالة الإطلاق ، فلو شرط التحلل بالهدي لزمه قطعا ، وإن شرطه بلا هدي لم يلزمه قطعا ، قال ابن قدامة (ج 3 : ص 282) : يستحب لمن أحرم بنسك أن يشترط عند إحرامه فيقول : إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني ، ويفيد هذا الشرط شيئين أحدهما أنه إذا عاقه من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة ونحوه أن له التحلل ، والثاني أنه متى حل بذلك فلا دم عليه ولا صوم – انتهى .

(19/389)


وفي شرح الإقناع : لا يسقط عنه الدم إذا شرط عند الإحرام أنه يتحلل إذا أحصر ، بخلاف ما إذا شرط في المرض أنه يتحلل بلا هدي فإنه لا يلزمه ، لأن حصر العدو لا يفتقر إلى شرط ، أي التحلل بالإحصار جائز بلا شرط ، فالشرط فيه لاغ ولو أطلق في التحلل من المرض بأن لم يشترط هديا لم يلزمه شيء بخلاف ما إذا شرط التحلل بالهدي فإنه يلزمه قال البجيرمي : حاصله أن المرض ونحوه لا يبيح التحلل بدون شرط ، أما إذا شرطه جاز التحلل به وأما الدم فإن شرط التحلل به فلا بد منه أيضا ، فإن سكت عنه أو نفاه فلا يجب – انتهى . قال الولي العراقي : واستدل بالحديث الجمهور على أنه لا يجوز التحلل بالإحصار بالمرض من غير شرط ، إذ لو جاز التحلل به لم يكن لاشتراطه معنى قال : وظاهر الحديث أنه لا قضاء عند التحلل بالمرض بالشرط وبه صرح أصحابنا وغيرهم ، ويعود فيه قول من قال بوجوب القضاء عند الإطلاق على ما تقدم بيانه ، والمفهوم من لفظ الشرط أنه لا بد من مقارنته للإحرام فإنه متى سبقه أو تأخر عنه لم يكن شرطا ، وقد صرح بذلك في قوله في حديث ابن عباس : اشترطي عند إحرامك ، وهو بهذا اللفظ في مصنف ابن أبي شيبة ، وقد صرح بها المارودي وغيره
متفق عليه .

(19/390)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كما نقله النووي في شرح المهذب ، وكذا قال ابن قدامة في المغني : يستحب أن يشترط عند إحرامه – انتهى . وهو واضح ، قال : وظاهر الحديث أنه لا بد من التلفظ بهذا الاشتراط كغيره من الشروط وهو ظاهر كلام أصحابنا الشافعة ، وذكر فيه ابن قدامة احتمالين : أحدهما هذا ، قال : ويدل عليه ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس (( قولي : محلي من الأرض حيث تحبسني )) قلت : وكذا في حديث عائشة في الصحيحين (( وقولي : اللهم محلي حيث حبستني )) والثاني أنه تكفي فيه النية . ووجهه بأنه تابع لعقد الإحرام ، والإحرام ينعقد بالنية فكذلك تابعه ، قال : وقد يفهم منه أنه يتعين في الاشتراط اللفظ المذكور في الحديث ، وليس كذلك ، بل كل ما يؤدي معناه يقوم مقامه في ذلك . قال ابن قدامة : وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه يقوم مقامه ، لأن المقصود المعنى والعبارة إنما تعتبر لتأدية المعنى . قال : وفي قوله (( محلي حيث حبستني )) أن المحصر يحل حيث يحبس ، وهناك ينحر هديه ولو كان في الحل ، وبه قال الشافعي وأحمد ، وقال أبو حنيفة : لا ينحره إلا في الحرم ، فائدة : قد يتشوف لحال ضباعة هل حبسها المرض أم لا ؟ وقد جاء في رواية لمسلم في حديث ابن عباس (( فأدركت )) ومعناه أنها أدركت الحج ولم تتحلل حتى فرغت منه ( متفق عليه ) أخرجه مسلم في الحج والبخاري في كتاب النكاح في باب الأكفاء في الدين لقوله في رواية الصحيحين في آخر الحديث : (( وكانت تحت المقداد بن الأسود )) يشير إلى تزوجها بالمقداد ، وليس كفؤا لها من حيث النسب فإنه كندي وليس كندة أكفاء لقريش فضلا عن بني هاشم ، وإنما هو كفؤ لها في الدين فقط . قال الحافظ : قوله (( وكانت تحت المقداد بن الأسود )) هذا القدر هو المقصود من هذا الحديث في هذا الباب فإن المقداد هو ابن عمرو الكندي ، نسب الأسود بن عبد يغوث لكونه تبناه فكان من حلفاء

(19/391)


قريش ، وتزوج ضباعة وهي هاشمية ، فلولا أن الكفاءة لا تعتبر بالنسب لما جاز له أن يتزوجها ، لأنها فوقه في النسب ، والذي يعتبر الكفاءة في النسب أن يجيب بأنها رضيت هي وأولياءها ، فسقط حقهم من الكفاءة ، وهو جواب صحيح إن ثبت أصل اعتبار الكفاءة في النسب ، وقال في موضع آخر : لم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث ، وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ رفعه : العرب بعضهم أكفاء بعض ، والموالي بعضهم أكفاء بعض ، فإسناده ضعيف ، واحتج البيهقي بحديث واثلة مرفوعا (( إن الله اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل – الحديث . وهو صحيح أخرجه مسلم لكن في الاحتجاج به لذلك نظر ، لكن ضم بعضهم إليه حديث (( قدموا قريشا ولا تقدموها )) )- انتهى . والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي والبيهقي وابن حبان والدارقطني وابن الجارود وغيرهم ، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه أحمد ومسلم والأربعة والبيهقي وابن الجارود والدارمي وغيرهم ، وعن أنس عند البيهقي وعن جابر عند الطبراني والبيهقي ، وعن ابن مسعود وأم سليم عند البيهقي
...............................................................................................

(19/392)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أيضا ، وعن أم سلمة عند أحمد والطبراني في الكبير ، وسنده جيد ، وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير ، وفيه علي بن عاصم وهو ضعيف ، وعن ضباعة أخرجه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة والبيهقي ، وعن أسماء بنت أبي بكر أو سعدى بنت عوف ، أخرجه ابن ماجة على الشك هكذا . قال العقيلي : روى عن ابن عباس قصة ضباعة بأسانيد ثابتة جياد ، وقال ابن حزم في المحلى بعد ذكر هذه الأحاديث سوى حديث أسماء أو سعدى : فهذه آثار متظاهرة متواترة لا يسع أحدا الخروج عنها . وقال الشوكاني : وقد غلط الأصيلي غلطا فاحشا فقال : إنه لا يثبت في الاشتراط حديث ، وكأنه ذهل عما في الصحيحين – انتهى . وقال الولي العراقي : قال النسائي : لا أعلم أحدا أسنده عن الزهري غير معمر ، وقال في موضع آخر : لم يسنده عن معمر غير عبد الرازق فيما أعلم ، وأشار القاضي عياض إلى تضعيف الحديث فإنه قال في الأصيلي : لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح . قال النووي في شرح مسلم : وهذا الذي عرض به القاضي وقاله الأصيلي من تضعيف الحديث غلط فاحش جدا نبهت عليه لئلا يغتر به لأن هذا الحديث مشهور في صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وسائر كتب الحديث المعتمدة من طرق متعددة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة ، وفيما ذكره مسلم من تنويع طرقه أبلغ كفاية . وقال والدي في شرح الترمذي : والنسائي لم يقل بانفراد معمر به مطلقا بل بانفراده به عن الزهري . ولا يلزم من الانفراد المقيد الانفراد المطلق فقد أسنده معمر وأبو أسامة وسفيان بن عيينة عن هشام عن أبيه عن عائشة ، وأسنده القاسم عنها ، ولو انفرد به معمر مطلقا لم يضره ، وكم في الصحيحين من الانفراد ولا يضر إرسال الشافعي له ، فالحكم لمن وصل ، هذا معنى كلامه – انتهى كلام الولي العراقي . تنبيه قال الشيخ محمد أنور الكشميري : وافقنا البخاري في مسألة الاشتراط حيث لم

(19/393)


يخرج حديث ضباعة في كتاب الحج مع كونه صريحا في الاشتراط ، وإنما أخرجه في كتاب النكاح ، ومن آدابه وعاداته في التراجم والأبواب أنه لا يعقد ترجمة على الحديث إذا لم يذهب إليه ، وأن الحديث إذا ورد في مسألة ولم يخرجه في بابه مع كونه صريحا فيه بل حوله من مظنته ، فكأن هذا تنبيه منه على أنه لا يأخذه ولا يذهب إليه ، ونظير ذلك أنه روى حديث الركعتين بعد الوتر جالسا ولم يبوب عليه الترجمة ولم يخرجه في أبواب الوتر بل أخرجه في السنة أي الركعتين قبل الفجر . قال : وما نبه أحد على هذه العادة ، هذا معنى كلامه . وفيه ما قال صاحب فتح الملهم أنه قد تنبه لها ابن المرابط وأشار إليها كما حكاه العيني عنه فقال : زعم ابن المرابط أن عدم ذكر البخاري حديث ضباعة في الحج دلالة على أن الاشتراط عنده لا يصح ، ثم قال العيني : فيه نظر لا يخفى ، ولم يبين وجه النظر ، وما ادعاه الشيخ الأنور من عادة البخاري ليس بمطرد ، فقد روى البخاري حديث الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوات ولم يخرجه في أبواب الصلاة أصلا مع أنه لا شبهة في كونه أليق بها فيما بين باب التشهد وباب الدعاء قبل السلام كما هو الظاهر
( الفصل الثاني )
2737 – (6) عن ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء . رواه ........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/394)


2737 – قوله ( أمر أصحابه أن يبدلوا ) بالتشديد والتخفيف ( الهدي الذي نحروا عام الحديبية ) أي يذبحوا مكان ما ذبحوه هديا آخر ( في عمرة القضاء ) يعني أمرهم بأن ينحروا الهدي في عمرة القضاء بدل ما نحروا عام الحديبية أي في السنة المتقدمة ، واستدل بقوله (( عمرة القضاء )) من رأى القضاء على المحصر ، قالوا : كانت عمرة العام المقبل قضاء العمرة التي صد عنها في العام الماضي ، وهذا الاسم تابع للحكم ، ومن لم ير القضاء قال : القضاء هنا من المقاضاة لأنه قاضى أهل مكة عليها لا أنه من قضى يقضي قضاء ، ولهذا سميت عمرة القضية . قال الطيبي : يستدل بهذا الحديث من يوجب القضاء على المحصر إذا حل حيث أحصر ، ومن يذهب إلى أن دم الإحصار لا يذبح إلا في الحرم فإنه أمرهم بالإبدال لأنه نحروا هداياهم في الحديبية خارج الحرم – انتهى . وقال الخطابي : أما من لا يرى عليه القضاء في غير الفرض فإنه لا يلزمه بدل الهدي ، ومن أوجبه فإنما يلزمه البدل لقوله عز وجل ? هديا بالغ الكعبة ? ومن نحر الهدي في الموضع الذي أحصر فيه وكان خارجا من الحرم فإن هديه لم يبلغ الكعبة ، فيلزمه إبداله وإبلاغه الكعبة ، وفي الحديث حجة لهذا القول – انتهى . وقال في اللمعات : هذا أي الأمر بإبدال الهدي يدل على أن هدي الإحصار لا يذبح إلا في الحرم كما هو مذهب أبي حنيفة ، وهذا إن قلنا إنهم نحروا في الحديبية في غير الحرم ، وإن قلنا إنهم ذبحوها في الحرم فإن الحديبية أكثرها حرم ، فالتبديل للاحتياط وإدراك الفضيلة ثانيا ، والأمر للاستحباب ، والله أعلم . وقوله (( في عمرة القضاء )) تسميته عمرة القضاء ظاهر في مذهبنا ، والشافعية يقولون إن المراد بالقضاء الصلح ، والقضاء والمقاضاة يجيء بمعنى الصلح والمصالحة ، وقد ذكروا في الصلح أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العام المقبل . وقال البيهقي : لعله إن صح الحديث استحب الإبدال وإن لم يكن واجبا كما استحب

(19/395)


الإتيان بالعمرة وإن لم يكن قضاء ما أحصروا عنه واجبا بالتحلل والله أعلم ، ذكره المنذري في مختصر السنن والمحب الطبري في القرى ( رواه .... ) قال القاري : هنا بياض في الأصل ، وفي نسخة ألحق به (( أبو داود )) وزاد في نسخة (( وفيه قصة )) وفي سنده محمد بن إسحاق – انتهى . قلت : الحديث رواه أبو داود في باب الإحصار من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن ميمون عن أبي حاضر الحميري وهو عثمان بن حاضر ، قال : خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معي رجال من قومي بهدي ، فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم ، فنحرت الهدي مكاني ثم أحللت ثم رجعت ، فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي فأتيت ابن عباس فسألته فقال : أبدل الهدي فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي ، إلخ .
2738 – (7) وعن الحجاج بن عمرو الأنصاري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كسر ، أو عرج فقد حل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقد سكت عنه أبو داود . قال المنذري : في سنده محمد بن إسحاق وقد تقدم الكلام فيه – انتهى . قلت : قد تقدم أنه مدلس ولم يصرح في روايته لهذا الحديث بالتحديث والسماع ففي كون الحديث حسنا نظر .

(19/396)


2738 – قوله ( وعن الحجاج بن عمرو الأنصاري ) هو الحجاج بن عمرو بن غزية – بفتح المعجمة وكسر الزاي وتشديد التحتانية – الأنصاري الخزرجي المازني ، نسبة إلى جده مازن بن النجار ، قال البخاري : له صحبة روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين ، هذا أحدهما ، وقد صرح بسماعه فيه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والآخر : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهجد من الليل بعد نومه . روى عنه ابن أخيه حمزة بن سعيد وكثير بن العباس وعبد الله بن رافع وعكرمة ، وقيل عن عكرمة عن عبد الله بن رافع ، والحجاج بن عمرو هذا هو الذي ضرب مروان بن الحكم يوم الدار حتى أسقطه وحمله أبو حفصة مولاه وهو لا يعقل ، وقال أبو نعيم : شهد مع علي صفين ( من كسر ) بضم الكاف وكسر السين على بناء المجهول ( أو عرج ) بفتح المهملة على بناء المعلوم من باب نصر وضرب ، أي أصابه شيء في رجله وليس بخلقة ، فإذا كان خلقة قيل عرج بالكسر كفرح من باب سمع ، قال في الصحاح : عرج في الدرجة والسلم يعرج عروجا إذا ارتقى ، وعرج أيضا إذا أصابه شيء في رجله فخمع ومشى مشية العرجان ، وليس بخلقة ، فإذا كان ذلك خلقة قلت : عرج بالكسر فهو أعرج بين العرج ، وفي القاموس عرج عروجا ارتقى وأصابه شيء في رجله فخمع وليس بخلقة ، فإذا كان خلقة فعرج كفرح أو يثلث في غير الخلقة – انتهى . وزاد أبو داود وابن ماجة في رواية (( أو مرض )) وقال المجد في المنتقى : وفي رواية ذكرها أحمد في رواية المروزي (( من حبس بكسر أو مرض )) يعني من حدث له بعد الإحرام مانع غير إحصار العدو ( فقد حل ) أي يجوز له أن يترك الإحرام ويرجع إلى وطنه ، قاله القاري . وقال السندي : قوله (( من كسر أو عرج )) إلخ . أي من أحرم ثم حدث له بعد الإحرام مانع من المضي على مقتضى الإحرام غير إحصار العدو بأن كان أحد كسر رجله أو صار أعرج من غير صنيع من أحد يجوز له أن يترك الإحرام وإن لم يشترط التحلل ، وقيده

(19/397)


بعضهم ( الشافعية والحنابلة ) بالاشتراط ، ومن يرى أنه من باب الإحصار ( وهم الحنفية ) لعله يقول : معنى (( حل )) كاد أن يحل قبل أن يصل إلى نسكه بأن يبعث الهدي مع أحد ويواعده يوما بعينه يذبحها فيه في الحرم فيتحلل بعد الذبح – انتهى . وقال التوربشتي : إن قيل ما وجه قوله (( فقد حل )) والمتمسك بهذا الحديث يرى أن المحصر ليس له أن يحل حتى يبلغ الهدي محله ، وعنده أن محله مكانه الذي يجب أن ينحر به وهو الحرم فكيف يقول (( فقد حل )) ولم يبلغ الهدي محله ، قلنا : قد قيل إن وجه قوله (( فقد حل )) له أن يحل من
وعليه الحج من قابل " .

(19/398)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ غير أن يصل إلى البيت ، ومثله قولك للمرأة إذا انقضت عدتها (( قلت : قد حلت للرجل )) يعني أن يخبطها ويعقد عليها ، ويجوز أن يكون بمعنى المقاربة ، أي قرب له ذلك وحان فكان كقولك من بلغ ذات عرق فقد حج – انتهى . ( وعليه الحج من قابل ) وفي رواية (( وعليه حجة أخرى )) وللحديث تتمة من قول عكرمة وهو أحد الرواة عن الحجاج بن عمرو وذلك قوله (( فذكرت ذلك لأبي هريرة وابن عباس فقال صدق )) وفي رواية فحدثت بذاك ابن عباس وأبا هريرة فقالا : صدق . قال الخطابي : في الحديث حجة لمن رأى الإحصار بالمرض والعذر يعرض للمحرم من غير حبس العدو وهو مذهب الثوري وأصحاب الرأي ، وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق : لا حصر إلا حصر العدو ، وقد روي ذلك عن ابن عباس وعلل بعضهم حديث الحجاج بن عمرو بأنه قد ثبت عن ابن عباس خلافه وهو أنه قال : لا حصر إلا حصر العدو وتأوله بعضهم على أنه إنما يحل بالكسر والعرج إذا كان قد اشترط ذلك في عقد الإحرام على معنى حديث ضباعة ، قالوا : ولو كان الكسر عذرا لم يكن لاشتراطها معنى ، ولا كانت بها إلى ذلك حاجة ، وأما قوله (( وعليه الحج من قابل )) فإنما هذا فيمن كان حجه عن فرض ، فأما المتطوع بالحج إذا أحصر فلا شيء عليه غير هدي الإحصار وهذا على مذهب مالك والشافعي ، وقال أصحاب الرأي : عليه حجة وعمرة وهو قول النخعي ، وعن مجاهد والشعبي وعكرمة عليه حجة من قابل – انتهى . باختصار يسير . وقال ابن القيم في مختصر السنن : إن صح حديث الحجاج بن عمرو فقد حمله بعض أهل العلم على أنه يحل بعد وفاته بما يحل به من يفوته الحج بغير مرض فقد روينا عن ابن عباس ثابتا عنه أنه قال : لا حصر إلا حصر عدو ، وقال غيره : معنى حديث الحجاج بن عمرو أن تحلله بالكسر والعرج إذا كان قد اشترط ذلك في عقد الإحرام على معنى حديث ضباعة ، قالوا : ولو كان الكسر مبيحا للحل لم يكن للاشتراط معنى

(19/399)


، قالوا : وأيضا فلا يقول أحد بظاهر الحديث فإنه لا يحل بمجرد الكسر والعرج فلا بد من تأويله فنحمله على ما ذكرناه ، قالوا : وأيضا فإنه لا يستفيد بالحل زوال عذره أي التخلص من الأذى الذي به ولا الانتقال من حاله بخلاف المحصر بالعدو . وقوله (( وعليه الحج من قابل )) هذا إذا لم يكن حج الفرض ، فأما إذا كان متطوعا فلا شيء عليه غير هدي الإحصار . وقال البيهقي : وحديث الحجاج بن عمرو قد اختلف في إسناده ، والثابت عن ابن عباس خلافه وأنه لا حصر إلا حصر العدو – انتهى . ونحو ذلك قرر ابن قدامة مذهب الجمهور ، من شاء الوقوف عليه رجع إلى المغني (ج 3 : ص 363) ، ثم قال ابن القيم : اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم فيمن منع الوصول إلى البيت بمرض أو كسر أو عرج هل حكمه حكم المحصر في جواز التحلل ؟ فروي عن ابن عباس وابن عمر ومروان بن الحكم : أنه لا يحلله إلا الطواف بالبيت ، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وأحمد في المشهور من مذهبه ، وروي عن ابن مسعود أنه كالمحصر بالعدو وهو قول عطاء والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وإبراهيم النخعي وأبي ثور وأحمد في الرواية الأخرى
...............................................................................................

(19/400)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عنه ومن حجة هؤلاء حديث الحجاج وأبي هريرة وابن عباس ، قالوا : وهو حديث حسن يحتج بمثله ، قالوا : وأيضا ظاهر القرآن بل صريحه يدل على أن الحصر يكون بالمرض فإن لفظ الإحصار إنما هو للمرض ، يقال : أحصره المرض وحصره العدو ، فيكون لفظ الآية صريحا في المريض وحصر العدو ملحق به ، فكيف يثبت الحكم في الفرع دون الأصل ؟ قال الخليل وغيره : حصرت الرجل حصرا : منعته وحبسته ، وأحصر هو عن بلوغ المناسك بمرض أو نحوه ، قالوا : وعلى هذا خرج قول ابن عباس (( لا حصر إلا حصر العدو )) ولم يقل لا إحصار إلا إحصار العدو فليس بين رأيه وروايته تعارض ، ولو قدر تعارضهما فالأخذ بروايته دون رأيه لأن روايته حجة ورأيه ليس بحجة . وأما قولكم : إن معناه أنه يحل بعد وفاته بما يحل به من يفوته الحج لغير مرض ففي غاية الضعف ، فإنه لا تأثير للكسر ولا للعرج في ذلك ، فإن المفوت يحل صحيحا كان أو مريضا ، وأيضا فإن هذا يتضمن تعليق الحكم بوصف لم يعتبره النص وإلغاء الوصف الذي اعتبره ، وهذا غير جائز ، وأما قولكم : إنه يحمل على الحل بالشرط . فالشرط إما أن يكون له تأثير في الحل عندكم أو لا تأثير له ، فإن كان مؤثرا في الحل لم يكن الكسر والعرج هو السبب الذي علق الحكم به ، وهو خلاف النص ، وإن لم يكن له تأثير في الحل بطل حمل الحديث عليه ، قالوا : وأما قولكم : إنه لا يقول أحد بظاهره ، فإن ظاهره أنه بمجرد الكسر والعرج يحل ، فجوابه أن المعنى : فقد صار ممن يجوز له الحل بعد أن كان ممنوعا منه ، وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم " . وليس المراد به أنه أفطر حكما وإن لم يباشر المفطرات ، بدليل إذنه لأصحابه في الوصال إلى السحر ، ولو أفطروا حكما لاستحال منهم الوصال . ولقوله تعالى ? فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ? (

(19/401)


سورة البقرة : الآية 230) فإذا نكحت زوجا آخر حلت ، لا بمجرد نكاح الثاني ، بل لا بد من مفارقته وانقضاء العدة وعقد الأول عليها ، قالوا : وأما قولكم : إنه لا يستفيد بالإحلال الانتقال من حاله التي هو عليها ولا التخلص من أذاه ، بخلاف من حصره العدو . فكلام لا معنى تحته ، فإنه قد يستفيد بحله أكثر مما يستفيد المحصر بالعدو ، فإنه إذا بقى ممنوعا من اللباس وتغطية الرأس والطيب مع مرضه تضرر بذلك أعظم الضرر في الحر والبرد ، ومعلوم أنه قد يستفيد بحله من الترفه ما يكون سبب زوال أذاه ، كما يستفيد المحصر بالعدو بحله ، فلا فرق بينهما ، فلو لم يأت نص بحل المحصر بمرض لكن القياس على المحصر بالعدو يقتضيه ، فكيف وظاهر القرآن والسنة والقياس يدل عليه ؟ والله أعلم – انتهى كلام ابن القيم . قلت : وأما قول الجمهور : أنه ولو كان التحلل جائزا بدون شرط لم يكن للاشتراط معنى ، ولو كان المرض ونحوه من الأعذار يبيح الحل ما احتاجت إلى شرط فقد أجاب عنه بعض الحنفية بأنه ليس المراد بنفي الاشتراط وعدم الاحتياج في التحلل إليه كون الاشتراط لغوا وعبثا وأنه لا فائدة فيه أصلا ، بل فيه فائدة عظيمة وإن لم يتغير به حكم ، والفائدة فيه تسكين قلب ضباعة وتسلية نفسها حيث كانت مريضة
....................................................................................

(19/402)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تخاف من عدم إتمام ما أحرمت به فلو حدث لها مفاجئة ما يعوقها من الإتمام لكان أشق عليها وأبلغ في التفجيع لها كما شق على الصحابة التحلل في الحديبية وكما شق عليهم فسخ الحج إلى العمرة في حجة الوداع بخلاف ما إذا اشترطت وصرحت بتعليق الإتمام على الشرط واستحضرت من أول الأمر أنها في خيرة من تركه عندما يتفق لها من الموانع ، فهذا مما لا شك فيه أنه لا يحصل في قلبها ضيق وحرج في التحلل عند حدوث عارض يمنعه من الإتمام والإكمال ، ويكون شروعها في أعمال الحج أهون عليها وأسهل وأيسر ، وهذه فائدة لا يمكن إنكارها مع جواز التحلل من غير اشتراط ، على أنه روي عن أبي حنيفة كما في المغني أن الاشتراط يفيد سقوط الدم مع كون التحلل ثابتا عنده بكل إحصار ، وأما ما ذكره الجمهور من قول ابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو . فقد تقدم الجواب عنه في كلام الآلوسي أيضا فتذكر . وقال التوربشتي : قد نقل عنه في معنى الإحصار برواية الثقات ما يؤيد حديث الحجاج ، وروي عن سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة ، فإن أحصرتم ، قال : من حبس أو مرض ، قال إبراهيم : حدثت به سعيد بن جبير فقال : هكذا قال ابن عباس . ولو ثبت عنه أيضا لا حصر إلا حصر العدو ، فالسبيل أن يؤول لئلا يخالف حديث حجاج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وليوافق حديث سعيد بن جبير عنه ، ورأيت التأويل الجامع أن نقول : لا حصر إلا حصر العدو بمثابة قول من قال : لا هم إلا هم الدين ، وذلك أن الحصر بالعدو من أعظم أسباب الحصر لأنه متعلق بالعموم وغيره متعلق بالخصوص والأفراد كما كان من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين صد عن البيت وأحصر بالعدو ، أحصر هو وسائر من معه ، ولو مرض أحد القوم لم يكن كذلك ، فهذا معنى قوله : لا حصر إلا حصر العدو – انتهى . قلت : والقول الراجح عندي في معنى الإحصار أنه يكون من كل حابس يحبس الحاج من عدو

(19/403)


ومرض وغير ذلك كما ذهب إليه الحنفية وكثير من الصحابة . قال الأمير اليماني في السبل : القول بتعميم الإحصار هو أقوى الأقوال وليس في غيره من الأقوال إلا آثار وفتاوي للصحابة – انتهى . قلت : وإليه مال البخاري في صحيحه إذ ذكر في باب المحصر بعد آية الإحصار : قال عطاء : الإحصار من كل شيء يحبسه . قال الحافظ : وفي اقتصاره على تفسير عطاء إشارة إلى أنه اختار القول بتعميم الإحصار – انتهى . وإليه ذهب ابن حزم حيث قال في المحلى : كل من عرض له ما يمنعه من إتمام حجه أو عمرته من عدو أو مرض أو خطأ طريق أو خطأ في رؤية الهلال فهو محصر . قلت : ويدل عليه عموم قوله تعالى : ? فإن أحصرتم ? ( الآية ) وإن كان سبب نزولها إحصار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعدو ، فالعام لا يقصر على سببه . قال الشوكاني في السيل الجرار (ج 2 : ص 231) هذه الآية وإن كان سببها خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ كما تقرر في الأصول ، وبنحو ذلك قال الأمير اليماني في السبل : وقال ابن جرير في تفسيره بعد تفصيل طويل : وأولى التأويلين للصواب في قوله تعالى : ? فإن أحصرتم ? تأويل من تأوله بمعنى فإن أحصركم خوف أو مرض أو علة عن
رواه الترمذي ، وأبو دواد ، والنسائي ، وابن ماجة ، والدارمي ، وزاد أبو داود في رواية أخرى : " أو مرض " . وقال الترمذي : هذا حديث حسن . وفي المصابيح : ضعيف .
2739 – (8) وعن عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : " الحج عرفة ،

(19/404)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوصول إلى البيت أي صيركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم فتحبسونها عن النفوذ لما أوجبتموه على أنفسكم من عمل الحج والعمرة فلذا قيل (( أحصرتم )) إلى آخر ما قال . قلت : ويدل على التعميم أيضا حديث الحجاج بن عمرو بل هو مع الآية المذكورة نص على كون الإحصار عاما للعدو والمرض ، وفيهما بيان قاعدة كلية خرجت مخرج التشريع العام فلا تترك بما ورد مما يخالفها من الآثار والوقائع الجزئية التي تحتمل محامل من الخصوصية وغيرها ، والله أعلم ( رواه الترمذي وأبو داود ) إلخ . وأخرجه أيضا أحمد (ج 3 : ص 450) وابن خزيمة والحاكم (ج 1 : ص 483) والبيهقي (ج 5 : ص 220) والدارقطني (ص 279) ( وقال الترمذي : هذا حديث حسن ) وقد سكت عنه أبو داود ونقل المنذري تحسين الترمذي وقرره ، وقال الحاكم : صحيح على شرط البخاري وأقره الذهبي ( وفي المصابيح : ضعيف ) لعل البغوي ضعفه للاختلاف في سنده كما بينه الترمذي والبيهقي والحافظ في الفتح وغيرهم ، والحق أن الاختلاف الواقع في سنده لا يضر ولا يستلزم ضعفه كما حققه الحافظ ، ولذلك حسنه الترمذي وسكت عليه أبو داود وأقر المنذري تحسين الترمذي والذهبي تصحيح الحاكم .

(19/405)


2739 - قوله ( وعن عبد الرحمن بن يعمر ) بفتح المثناة التحتية وسكون العين المهملة وفتح الميم ويضم ، غير منصرف ( الديلي ) بكسر الدال وسكون التحتانية ، منسوب إلى الديل – بمكسورة وسكون ياء – وقيل الدؤلي بضم الدال وفتح الهمزة مكان الياء ، وحينئذ تكتب بصورة الواو وقد تكسر الدال مع فتح همزة وقد تضم مع كسر همزة . قال الحافظ في التقريب : عبد الرحمن بن يعمر الديلي صحابي نزل بالكوفة ، ويقال : مات بخراسان . وقال في الإصابة : قال ابن حبان في الصحابة : مكي سكن الكوفة ، يكنى أبا الأسود ، مات بخراسان ، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث (( الحج عرفة )) وفيه قصة ، وحديث النهي عن الدباء والمزفت ، وصحح حديثه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني وصرح بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرقه إليه ( الحج عرفة ) مبتدأ وخبر على تقدير مضاف من الجانبين أي معظم الحج أو ملاكه الوقوف بعرفة لفوت الحج بفواته . وقال الطيبي : تعريفه للجنس وخبره معرفة فيفيد الحصر نحو : ذلك الكتاب . وقال التوربشتي : أي معظم الحج وملاكه الوقوف بعرفة وذلك مثل قولهم : المال الإبل ، وإنما كان ذلك ملاكه وأصله لأنه يفوت بفواته ويفوت الوقوف لا إلى بدل ، وقيل : تقديره : إدراك الحج إدراك وقوف عرفة ، والمقصود أن إدراك الحج يتوقف على إدراك الوقوف بعرفة ، وأن من أدركه فقد أمن حجه من الفوات ، وقال
من أدرك عرفة ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج . أيام منى ثلاثة ، فمن تعجل

(19/406)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشوكاني : أي الحج الصحيح حج من أدرك يوم عرفة . وقال المحب الطبري : معناه أن فوات الحج متعلق بفوات وقته ، وغيره من الأركان وقته ممتد – انتهى . وفي الحديث قصة ، وهي أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفة فسألوه فأمر مناديا فنادي : الحج عرفة . هذا لفظ الترمذي وفي رواية أبي داود قال ( عبد الرحمن بن يعمر ) : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ولأحمد والنسائي (( شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) ) وهو بعرفة فجاء ناس أو نفر من أهل نجد فأمروا رجلا فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف الحج ؟ ( أي كيف حج من لم يدرك يوم عرفة كما بوب عليه أبو داود ) فأمر رجلا فنادي الحج الحج يوم عرفة ( بتكرير لفظ الحج ، وزاد في رواية (( ثم أردف رجلا خلفه فجعل ينادي بذلك )) ) وفي رواية للدارقطني والبيهقي : الحج عرفات الحج عرفات ، وفي المنتقي لابن الجارود : الحج عرفات ثلاثا ، وعند أحمد (ج 4 : ص 309 ، 310) (( الحج يوم عرفة أو عرفات )) وكلاهما اسم للموضع الذي يقف به الحاج ، وكل ذلك خارج عن الحرم ( من أدرك عرفة ) أي الوقوف بها ( ليلة جمع ) أي ولو ليلة المبيت بالمزدلفة وهي ليلة العيد ( قبل طلوع الفجر ) أي قبل طلوع فجر يوم النحر ، وفيه رد على من زعم أن الوقوف يفوت بغروب الشمس يوم عرفة ، ومن زعم أن وقته يمتد إلى ما بعد الفجر إلى طلوع الشمس قاله القاري . وقوله (( من أدرك عرفة ليلة جمع )) كذا وقع في المشكاة والمصابيح ، وهكذا في المنتقي لابن الجارود ، وفي رواية الحميدي (( من أدرك عرفة قبل الفجر )) وللنسائي (( من أدرك ليلة عرفة )) وفي أخرى له (( من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح )) ولفظ الترمذي (( من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر )) ولفظ أبي داود (( من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع )) وهكذا وقع عند أحمد (ج 4 : ص 309 ،

(19/407)


335) وابن ماجة ، والمعني : من جاء عرفة ووقف ليلة المزدلفة قبل طلوع فجر يوم النحر ، ولأحمد أيضا (ج 4 : ص 309) والدارمي من أدرك ليلة جمع قبل صلاة الصبح ( فقد أدرك الحج ) أي لم يفته وأمن من الفساد ، وهذا لفظ الترمذي والحميدي والدارمي وابن الجارود وأحمد في رواية ولأبي داود والنسائي وابن ماجة ، وأحمد في رواية (( فقد تم حجه )) قال السندي : أي أمن من الفوات ، وإلا فلابد من الطواف ، وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه على النسائي أي قارب التمام . وقال الخطابي : قوله (( فقد تم حجه )) يريد به معظم الحج وهو الوقوف بعرفة ، لأنه هو الذي يخاف عليه الفوات ، فأما طواف الزيارة فلا يخشى فواته وهكذا كقوله : الحج عرفة ، أي معظم الحج هو الوقوف بعرفة – انتهى ( أيام منى ) مرفوع على الابتداء وخبره قوله ( ثلاثة ) أي ثلاثة أيام ، وهي الأيام المعدودات وأيام التشريق وأيام رمي الجمار ، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر وليس يوم النحر منها لإجماع الناس على أنه لا يجوز النفر يوم ثاني النحر ، ولو كان يوم النحر من الثلاث لجاز أن ينفر من شاء في ثانيه ( فمن تعجل ) أي استعجل بالنفر
في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه " .

(19/408)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي الخروج من منى ( في يومين أي من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني منها . قال الألوسي : النفر في أول منها لا يجوز فظرفية اليومين له على التوسع باعتبار أن الاستعداد له في اليوم الأول ، والقول بأن التقدير في أحد يومين إلا أنه مجمل فسر باليوم الثاني أو في آخر يومين خروج عن مذاق النظر ( فلا إثم عليه ) في تعجيله ( ومن تأخر ) أي عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث ( فلا إثم عليه ) في تأخيره ، وقيل : المعنى : ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع العامة فلا إثم عليه ، والتخيير ها هنا وقع بين الفاضل والأفضل لأن المتأخر أفضل ، فإن قيل : إنما يخاف الإثم المتعجل فما بال المتأخر الذي أتى بالأفضل ألحق به ؟ فالجواب أن المراد من عمل بالرخصة وتعجل فلا إثم عليه في العمل بالرخصة ومن ترك الرخصة وتأخر فلا إثم عليه في ترك الرخصة ، كذا في النيل ، وقال التوربشتي : إن قيل ما وجه التخيير بين الأمرين وأحدهما أفضل من الآخر ؟ وما وجه التسوية بين المتعجل والمتأخر ؟ والمتأخر أخذ بالأسد والأفضل ؟ قلنا : قد ذكر أهل التفسير أن أهل الجاهلية كانوا فئتين ، فإحداهما ترى المتعجل آثما والأخرى ترى المتأخر آثما ، فورد التنزيل بنفي الحرج عنهما ، وهذا قول مطابق لسياق الآية لو كان له في أسباب النزول أصل ثابت ، والظاهر أن الإعلام الذي جاءهم من قبل الله إنما جاء ليعلموا أن الأمر موسع عليهم فلهم أن يأخذوا من الأمرين بأيهما شاءوا )) ونظيره التخيير بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل . وأما وجه التسوية بين المتعجل والمتأخر في نفي الجرح فهو أن من الرخص ما يقع من العامل موقع العزيمة ، ويكون الفضل في إتيانه دون إتيان ما يخالفه ، وذلك مثل قصر الصلاة للمسافر ، فمنهم من يراه عزيمة ولا شك أنه في الأصل رخصة ، والذي يراه أيضا رخصة يرى إتيان هذه الرخصة

(19/409)


أفضل ، ولما كان التعجل في يومين رخصة والرخصة محتملة للمعاني التي ذكرناها وقع قوله (( فلا إثم عليه )) موضع البيان في إتيان الرخصة ، وقوله (( ومن تأخر )) موقع البيان لترك الرخصة ، وإذا كانت الرخصة من هذا القبيل الذي لن يبين لنا فضله على ما يخالفه فلا شك أن الإتيان بالأتم والأكمل أولى وأفضل – انتهى . والحديث فيه دليل على أن الوقوف بعرفة في وقته ركن لا يصح الحج إلا به وقد أجمع العلماء على ذلك ، حكى هذا الإجماع غير واحد من شراح الحديث ونقلة المذاهب ، منهم ابن قدامة وابن رشد وغيرهما . ودل الحديث أيضا على أن وقت الوقوف ممتد إلى ما قبل طلوع الفجر من ليلة المزدلفة وقد أجمعوا عليه أيضا لكنهم اختلفوا في وقت الفرض والواجب للوقوف كما ستعرف ، قال ابن قدامة (ج 3 : ص 410 ، 413) : الوقوف ركن لا يتم الحج إلا به إجماعا ، ثم ذكر حديث عبد الرحمن بن يعمر ثم قال : ويجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة : فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة حتى غابت الشمس كما تقدم في حديث جابر ( الطويل ) وفي حديث علي وأسامة (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع حين غابت الشمس )) .
....................................................................................

(19/410)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح في قول جماعة الفقهاء إلا مالكا . قال : لا حج له ، قال ابن عبد البر : لا نعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول مالك ، وحجته ما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج ، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة ، وعليه الحج من قابل ، ولنا ما روى عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة – الحديث ، وفيه (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه )) فأما خبره فإنما خص الليل لأن الفوات يتعلق به إذا كان يوجد بعد النهار ، فهو آخر وقت الوقوف كما قال عليه السلام : " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها ، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها " . وعلى من دفع قبل الغروب دم في قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن تبعهم ، وقال ابن جريج : عليه بدنة . وقال الحسن البصري : عليه هدي من الإبل ، ولنا أنه واجب لا يفسد الحج بفواته فلم يوجب البدنة كالإحرام من الميقات ، فإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهارا فوقف حتى غربت الشمس فلا دم عليه . وبهذا قال مالك والشافعي ، وقال الكوفيون وأبو ثور : عليه دم لأنه بالدفع لزمه الدم فلم يسقط برجوعه ، كما لو عاد بعد غروب الشمس . ولنا أنه أتى بالواجب وهو الجمع بين الوقوف في الليل والنهار فلم يجب عليه دم كمن تجاوز الميقات غير محرم ثم رجع فأحرم منه ، فإن لم يعد حتى غربت الشمس فعليه دم لأن عليه الوقوف حال الغروب وقد فاته بخروجه – انتهى . قلت : وما نسب إلى الكوفيون من وجوب الدم فيما إذا دفع قبل الغروب ثم عاد نهارا فوقف حتى غربت الشمس ، وهو

(19/411)


قول مرجوح للحنفية ، والراجح سقوط الدم كما ذهب إليه الجمهور ، قال القاري : إن دفع قبل الغروب فإن جاوز حد عرفة بعد الغروب فلا شيء عليه اتفاقا ، وإن جاوزه قبل فعليه دم ، فإن لم يعد أصلا أو عاد بعد الغروب لم يسقط الدم ، وإن عاد قبل الغروب فدفع بعد الغروب سقط الدم على الصحيح – انتهى . ثم قال ابن قدامة (ج 3 : ص 415) : ومن لم يدرك جزءا من النهار ولا جاء عرفة حتى غابت الشمس فوقف ليلا فلا شيء عليه ، وحجه تام لا نعلم مخالفا فيه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من أدرك عرفات بليل ... " ولأنه لم يدرك جزءا من النهار فأشبه من منزله دون الميقات إذ أحرم منه ، ووقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر . لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن آخر الوقت طلوع فجر يوم النحر . قال جابر : لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع . قال أبو الزبير : فقلت له : أقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ؟ قال : نعم . رواه الأثرم ، وأما أوله فمن طلوع الفجر يوم عرفة . وقال مالك والشافعي أول وقته زوال الشمس من يوم عرفة ، واختاره أبو حفص العكبري ، وحكى ابن عبد البر ذلك إجماعا ، ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عروة بن مضرس (( من شهد صلاتنا هذه
....................................................................................

(19/412)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه )) ولأنه من يوم عرفة فكان وقتا للوقوف كبعد الزوال ، وترك الوقوف لا يمنع كونه وقتا للوقوف كبعد العشاء ، وإنما وقفوا في وقت الفضيلة ولم يستوعبوا جميع وقت الوقوف – انتهى . وقد ظهر من كلام ابن قدامة أنهم اختلفوا في فرض الوقت للوقوف على ثلاثة أقوال ، الأول : قول أحمد : إنه من طلوع الفجر من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة النحر من غير فرق بين الليل والنهار ، وبه جزم عامة أهل الفروع من الحنابلة ، والثاني : قول مالك : إنه ليلة النحر من الغروب إلى طلوع الفجر . فالمعتمد عنده في الوقوف بعرفة ليلة النحر ، والنهار من يوم عرفة تبع ، والأفضل الجمع بينهما ، فإن أفرد الليل جاز ، وإن عكس لم يجزه ، والحاصل أن الوقوف بجزء من الليل ركن عنده فمن خرج من عرفات قبل الغروب ولم يرجع حتى يتداركه بجزء من الليل فاته الحج وعليه الحج من قابل ، ومن وقف ليلا ولم يقف بالنهار فعليه دم . قال الدردير : الركن الرابع للحج حضور عرفة ساعة ليلة النحر ، وتدخل بالغروب ، وأما الوقوف نهارا فواجب ينجبر بالدم ويدخل وقته بالزوال – انتهى . وظاهر الحديث حجة على مالك ، والقول الثالث : قول الشافعي وأبي حنيفة إنه من زوال عرفة إلى فجر النحر ، وهو مختار اللخمي وابن العربي وابن عبد البر من المالكية ، وأما الوقت الواجب للوقوف فاختلفوا فيه على قولين ، الأول : أن يجمع في وقوفه بين الليل والنهار في أي جزء منهما ، وهو قول مالك . قال الدردير : أما الوقوف نهارا فواجب ينجبر بالدم ويدخل وقته بالزوال ويكتفي فيه أي جزء منه ، قال الدسوقي : أي يكفي في تحصيل الوقوف الواجب الوقوف في أي جزء من ذلك – انتهى . وهو مختار صاحب الروض المربع من الحنابلة ، وبه جزم النووي في مناسكه ، والثاني : قول الحنفية وعامة الحنابلة أن الواجب أن

(19/413)


يمتد الوقوف إلى ما بعد الغروب كما تقدم عن ابن قدامة وعلي القاري إذا وقف بالنهار وإن لم يتفق له الوقوف بالنهار فلا امتداد ، وقال الشنقيطي : اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يصح الحج بدونه ، وأنهم أجمعوا على أن الوقوف ينتهي وقته بطلوع فجر يوم النحر ، فمن طلع فجر يوم النحر وهو لم يأت عرفة فقد فاته الحج إجماعا ، ومن جمع في وقوف عرفة بين الليل والنهار وكان جزء النهار الذي وقف فيه من بعد الزوال فوقوفه تام ، ومن اقتصر على جزء من الليل دون النهار صح حجه ولزمه دم عند المالكية خلافا لجماهير أهل العلم القائلين بأنه لا دم عليه ، ومن اقتصر على جزء من النهار دون الليل لم يصح حجه عند مالك ، وهو رواية عن أحمد ، وعند الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى : حجه صحيح وعليه دم . والدليل على أن الوقوف بعرفة ركن وأن وقته ينتهي بطلوع الفجر ليلة النحر ما رواه أحمد وأصحاب السنن غيرهم من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، ودليل الإجماع على أن من جمع في وقوفه بعرفة بين جزء من الليل وجزء من النهار من بعد الزوال أن وقوفه تام هو ما ثبت في الروايات الصحيحة
....................................................................................

(19/414)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل وقال : (( لتأخذوا عني مناسككم )) فمن الروايات الصحيحة الدالة على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر الطويل في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه قد صرح فيه بأنه جمع في وقوفه بين النهار من بعد الزوال ، وبين جزء قليل من الليل مع قوله : " لتأخذوا عني مناسككم " . ودليل القائلين بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على جزء من الليل دون النهار فقد تم حجه : حديث عبد الرحمن بن يعمر المذكور ، فإن فيه من تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن من أدرك عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه ، و (( جمع )) هي المزدلفة ، وليلتها هي الليلة التي صبيحتها يوم النحر ، ودليل من ألزموه دما مع وقوفه بعرفة في جزء من الليل وهم المالكية : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكتف بالليل بل وقف معه جزءا من النهار ، فتارك الوقوف بالنهار تاركا نسكا ، وفي الأثر المروي عن ابن عباس : من ترك نسكا فعليه دم ، ولكن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الديلي (( فقد تم حجه ) لا يساعد على لزوم الدم ، لأن لفظ التمام يدل على عدم الحاجة إلى الجبر بدم ، فهو يؤيد مذهب الجمهور ، والعلم عند الله تعالى ، ودليل من قال : بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على النهار دون الليل أن وقوفه صحيح وحجه تام : حديث عروة بن مضرس ، فإن فيه (( وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه )) قال المجد في المنتقى بعد أن ساق هذا الحديث : رواه الخمسة وصححه الترمذي ، وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف – انتهى . وقد قدمنا إجماع أهل العلم على أن وقت الوقوف ينتهي بطلوع الفجر ليلة جمع ، وإجماعهم على أن ما بعد الزوال من يوم عرفة وقت للوقوف ، وأما ما قبل الزوال من يوم عرفة فجمهور أهل العلم على أنه ليس وقتا للوقوف ، وخالف أحمد الجمهور في ذلك قائلا

(19/415)


إن يوم عرفة كله من طلوع فجره إلى غروبه وقت للوقوف ، واحتج لذلك بحديث عروة بن مضرس فإن فيه (( وقد وقف بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه )) فقوله - صلى الله عليه وسلم - (( ليلا أو نهارا )) يدل على شمول الحكم لجميع الليل والنهار ، وقد قدمنا قول المجد في المنتقى بعد أن ساق هذا الحديث : وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف ، وحجة الجمهور هي أن المراد بالنهار في حديث عروة خصوص ما بعد الزوال بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين بعده لم يقفوا إلا بعد الزوال ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله ، قالوا : ففعله - صلى الله عليه وسلم - وفعل خلفائه من بعده مبين للمراد من قوله (( أو نهارا )) والحاصل أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج إجماعا ، وأن من جمع بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام إجماعا ، وأن من اقتصر على الليل دون النهار فوقوفه تام ولا دم عليه عند الجمهور خلافا للمالكية القائلين بلزوم الدم ، وأن من اقتصر على النهار دون الليل لم يصح وقوفه عند المالكية ، وعند جمهور العلماء حجه صحيح ، منهم الشافعي وأبو حنيفة وعطاء الثوري وأبو ثور ، وهو الصحيح من مذهب أحمد . ولكنهم اختلفوا في وجوب الدم ، فقال أحمد وأبو حنيفة يلزمه دم ، وعن الشافعية قولان : أحدهما لا دم عليه وصححه النووي وغيره ، والثاني : عليه دم ، قيل وجوبا وقيل استنانا ، وقيل
رواه الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، والدارمي . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

(19/416)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ندبا والأصح أنه سنة على القول به كما جزم به النووي ، وأن ما قبل الزوال من يوم عرفة ليس وقتا للوقوف عند جماهير العلماء خلافا لأحمد وقد رأيت أدلة الجميع . قال الشنقيطي : أما من اقتصر في وقوفه على الليل دون النهار أو النهار من بعد الزوال دون الليل فأظهر الأقوال فيه دليلا عدم لزوم الدم ، أما المقتصر على الليل فلحديث عبد الرحمن بن يعمر فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه (( فقد تم حجه )) مرتبا ذلك على إتيانه عرفة قبل طلوع فجر يوم النحر نص صريح في أن المقتصر على الوقوف ليلا حجة تام ، وظاهر التعبير بلفظ التمام عدم لزوم الدم ، ولم يثبت ما يعارضه من صريح الكتاب أو السنة ، وعلى هذا جمهور أهل العلم خلافا للمالكية ، وأما المقتصر على النهار دون الليل فلحديث عروة بن مضرس فإن فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه )) فقوله (( فقد تم حجه )) مرتبا له بالفاء على وقوفه بعرفة ليلا أو نهارا يدل على أن الواقف نهارا يتم حجه بذلك والتعبير بلفظ التمام ظاهر في عدم لزوم الجبر بالدم ولم يثبت نقل صريح في معارضة ظاهر هذا الحدث ، وعدم لزوم الدم للمقتصر على النهار ، هو الصحيح من مذهب الشافعي لدلالة هذا الحديث على ذلك كما ترى ، وأما الإكتفاء بالوقوف يوم عرفة قبل الزوال فقد قدمنا أن ظاهر حديث ابن مضرس المذكور يدل عليه لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - (( أو نهارا )) صادق بأول النهار وآخره كما ذهب إليه أحمد ، ولكن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من بعده كالتفسير للمراد بالنهار في الحديث المذكور وأنه بعد الزوال ، وكلاهما له وجه من النظر ، ولا شك أن عدم الاقتصار على أول النهار أحوط ، والعلم عند الله تعالى . وحجة مالك في أن الوقوف نهارا لا يجزئ إلا إذا وقف معه جزءا من الليل هي أن النبي -

(19/417)


صلى الله عليه وسلم - فعل كذلك وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " . فيلزمنا أن نأخذ عنه من مناسكنا الجمع في الوقوف بين الليل والنهار ، ولا يخفى أن هذا لا ينبغي أن يعارض به الحديث الصريح في محل النزاع الذي فيه (( وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه )) كما ترى – انتهى كلام الشنقيطي مختصرا بقدر الضرورة . ( رواه الترمذي ) إلخ ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 4 : ص 309 ، 310 ، 335) والحميدي (ج 2 : ص 399) وأبو داود الطيالسي وابن حبان والحاكم (ج 1 : ص 464) وقال : حديث صحيح الإسناد كما في نصب الراية ، وقال الذهبي : صحيح . والبزار والبيهقي (ج 5 : ص 116) والدارقطني ( ص 264) وابن الجارود - صلى الله عليه وسلم - (165) ( وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ) كذا في جميع نسخ المشكاة ، وإني لم أجد كلام الترمذي هذا في جامع الترمذي ولا ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج 3 : ص 92) والحافظ في التلخيص (ص 216) والمنذري في مختصر السنن (ج 2 : ص 408 ، 409) والمناوي في كشف المناهج وفيض القدير ، ولا ذكره المجد في المنتقى والشوكاني في النيل ، بل سكتوا كلهم كما سكت عليه أبو داود ، فهو حديث صالح قابل للاحتجاج عندهم . وقال النووي
(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالى

(19/418)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في شرح المهذب : حديث عبد الرحمن الديلي صحيح ، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون بأسانيد صحيحة ، وقال بعد ذكر رواية الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن سفيان الثوري عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر : وإسناد هذه الرواية صحيح ، وهو من رواية سفيان بن عيينة عن الثوري . قال ابن عيينة : ليس عندكم بالكوفة حديث أشرف ولا أحسن من هذا – انتهى كلام النووي . وذكر الترمذي عن سفيان بن عيينة أنه قال : هذا أجود حديث رواه سفيان الثوري . قال السيوطي : أي من حديث أهل الكوفة ، وذلك لأن أهل الكوفة يكثر فيهم التدليس والاختلاف ، وهذا الحديث سالم من ذلك ، فإن الثوري سمعه من بكير ، وسمعه بكير من عبد الرحمن ، وسمعه عبد الرحمن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يختلف رواته في إسناده ، وقام الإجماع على العمل به – انتهى . ونقل ابن ماجة في سننه عن شيخه محمد بن يحيى : ما أرى للثوري حديثا أشرف منه .

(19/419)


( باب حرم مكة ) أي حرمة حرمها ، وسيأتي ذكر حدوده ( حرسها الله تعالى ) أي حماها وحفظها من الآفات الحسية والعاهات المعنوية ، واعلم أن مكة هي الاسم المشهور لتلك البقعة المباركة ولها أسماء أخرى كثيرة وقد عني الناس بجمعها منهم العلامة اللغوي مجد الدين الشيرازي والنووي ، وقد ذكرها التقي الفاسي في شفاء الغرام مع بيان معاني بعض الأسماء ، وقال المحب الطبري : سمى الله تعالى مكة بخمسة أسماء : مكة وبكة والبلد والقرية وأم القرى ، فأما مكة ففي قوله تعالى ? ببطن مكة ? ( سورة الفتح : الآية 24) وفي تسميتها بهذا الاسم أربعة أقوال أحدها : لأنها يؤمها الناس من كل مكان ، فكأنهم تجذبهم إليها من قول العرب : إمتك الفصيل ما في ضرع الناقة إذا لم يبق فيه شيئا ، الثاني : لأنها تملك من ظلم فيها أي تهلكه ، والثالث : لجهد أهلها ، ومن قولهم (( تمككت العظم ) إذا أخرجت مخه ، والتمكك الاستقصاء ، الرابع : لقلة الماء بها ، وأما بكة ففي قوله تعالى ? للذي ببكة ? ( سورة آل عمران : الآية 90) وفي تسميتها بذلك ثلاثة أقوال ، أحدها : لازدحام الناس بها يقال هم فيها يتاكبون أي يزدحمون ، قاله ابن عباس والثاني : لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي تدقها ، وما قصدها جبار إلا قصمه الله تعالى ، والثالث : لأنها تضع من نخوة المتكبرين ، وأما تسميتها بالبلد ففي قوله تعالى ? لا أقسم بهذا البلد ? قال المفسرون : أراد مكة ، والبلد في اللغة صدر القرى ، وأما تسميتها بالقرية ففي قوله تعالى ? ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ? ( سورة النحل : الآية 113) ، الإشارة إلى مكة ، فإنها كانت ذات أمن يأمن أهلها أن يغار عليهم ، وكانوا أهل طمأنينة لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق ، والقرية اسم لما يجمع جماعة كثيرة من الناس ، من قولهم : قريت الماء في الحوض ، إذا جمعته فيه ، وأما تسميتها أم القرى ففي قوله تعالى : ? لتنذر أم القرى ومن حولها

(19/420)


? ( سورة الأنعام : الآية 92) يعني مكة ، وفي
....................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تسميتها بذلك أربعة أقوال ، أحدها : أن الأرض دحيت من تحتها ، قاله ابن عباس . وقال ابن قتيبة : لأنها أقدم الأرض ، والثاني : لأنها قبلة يؤمها جميع الأمة ، الثالث : لأنها أعظم القرى شأنا ، الرابع : لأن فيها بيت الله تعالى : ولما جرت العادة أن بلد الملك وبيته مقدمان على جميع الأماكن سمي أما لأن الأم متقدمة ، قلت : وسماها الله أيضا في القرآن بالبلد الأمين وبالبلدة وبمعاد بفتح الميم ، فأما الأول : ففي قوله تعالى ? وهذا البلد الأمين ? ( سورة التين : الآية 3) قال ابن عباس : يعني مكة ، وأما الثاني : ففي قوله تعالى : ? إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة ? ( سورة النمل : الآية 93) قال الواحدي في الوسيط : هي مكة ، وأما الثالث : ففي قوله تعالى : ? إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ? ( القصص : الآية 85) قال ابن عباس : إلى مكة ، قال التقي الفاسي بعد ذكر هذه الأسماء الثمانية : فهذه ثمانية أسماء لمكة مأخوذة من القرآن العظيم ، ولم يذكر المحب الطبري من أسمائها المأخوذة من القرآن إلا خمسة لأنه قال : سمى الله تعالى مكة بخمسة أسماء : بكة ومكة والبلد والقرية وأم القرى – انتهى ، أما حرم مكة فهو ما أحاطها وأطاف بها من جوانبها ، جعل الله تعالى له حكمها في الحرمة تشريفا لها ، وسمي حرما لتحريم الله تعالى فيه كثيرا مما ليس بمحرم في غيره من المواضع ، وحده من طريق المدينة عند التنعيم على ثلاثة أميال من مكة ، وقيل أربعة ، وقيل خمسة ، ومن طريق اليمن طرف أضاة لبن على ستة أميال من مكة ، وقيل سبعة ، ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال – بتقديم المثناة الفوقية على السين – ومن طريق الطائف على عرفات من بطن نمرة سبعة أميال – بتقديم

(19/421)


السين على الباء – وقيل : ثمانية . ومن طريق جدة عشرة أميال . وقال الرافعي : هو من طريق المدينة على ثلاثة أميال ، ومن العراق على سبعة ، ومن الجعرانة على تسعة ومن الطائف على سبعة ومن جدة على عشرة ، والسبب في بعد بعض الحدود وقرب بعضها ما قيل إن الله تعالى لما أهبط على آدم بيتا من ياقوتة أضاء لهم ما بين المشرق والمغرب ، فنفرت الجن والشياطين ليقربوا منها ، فاستعاذ منهم بالله وخاف على نفسه منهم ، فبعث الله ملائكة فحفوا بمكة من كل جانب ، ووقفوا مكان الحرم ، أي في موضع أنصاب الحرم يحرسون آدم ، فصار حدود الحرم موضع وقوف الملائكة ، وقيل : إن الخليل عليه السلام لما وضع الحجر الأسود في الركن حين بنى الكعبة أضاء له نور وصل إلى أماكن الحدود فجاءت الشياطين فوقفت عند الأعلام فبناها الخليل عليه السلم حاجزا ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وعنه أن جبرئيل عليه السلام أرى إبراهيم عليه السلام موضع أنصاب الحرم فنصبها ثم جددها إسماعيل عليه السلام ثم جددها قصي بن كلاب ثم جددها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما ولي عمر رضي الله عنه بعث أربعة من قريش فنصبوا أنصاب الحرم ثم جددها معاوية رضي الله عنه ثم عبد الملك بن مروان كذا ذكر القسطلاني في شرح البخاري ، ونحوه في القرى (ص 602) للمحب الطبري ، وارجع لمزيد من البسط إلى شفاء الغرام (ج 1 : ص 54 إلى ص 66) تنبيه : إن علمي الحرم من
( الفصل الأول )
2740 – (1) عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة : " لا هجرة ، ولكن جهاد ونية ،

(19/422)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ طريق جدة هما العلمان القديمان من زمن نبينا إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بإشارة جبريل عليه السلام بوضعهما في تلك البقعة كسائر حدود الحرم من الجهات الأخرى ، أما العلمان الجنوبيان المسامتان لعلمي الحرم المذكورين فقد أحدثا في جمادى الثانية سنة ست وسبعين وثلثمائة وألف من أجل طريق السيارات المؤدي بينهما ، ثم صار عدول السيارات من هذا الطريق الجنوبي الذي يمر بين العلمين المحدثين إلى الطريق الشمالي الذي يمر بين علمي الحرم القديمين ، ولإزالة اللبس لزم التنبيه على ذلك ، وحيث الحال ما تقدم من أن حدود الحرم مختلفة في القرب والبعد ، وأن وضع حدود الحرم هو بإيقاف جبريل عليه الصلاة والسلام لأبينا إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - على حدود الحرم وظهور أن حد الحرم من طريق المدينة ثلاثة أميال ومن طريق جدة عشرة أميال مع أن الحدين متجاوران فبذلك تبين أنه ليس للاجتهاد في تحديد الحرم مساغ وأنه لا يجوز لأحد أن يحدث حدا للحرم ويضع عليه أنصابا من تلقاء نفسه لأنه قد لا يكون ذلك حدا للحرم في نفس الأمر ، أما إذا أتى على محل ليس به أعلام فإنه ينظر إلى محاذاة أقرب الأعلام إليه ، وليس في الإمكان سوى ذلك مع عدم الجزم بأن هذا حد للحرم ، والله أعلم ، كذا في مفيد الأنام .

(19/423)


2740 – قوله ( يوم فتح مكة ) منصوب لأنه ظرف لقال ( لا هجرة ) أي بعد الفتح ، وأفصح بذلك في بعض الروايات أي لا هجرة من مكة إلى المدينة مفروضة بعد الفتح كما كانت قبله ، وقد عقد البخاري في أواخر الجهاد (( باب لا هجرة بعد الفتح )) قال الحافظ : أي بعد فتح مكة ، أوالمراد ما هو أعم من ذلك . إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها ، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون ، أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحدد ثلاثة ، الأول : قادر على الهجرة منها ، لا يمكنه إظهار دينه بها ولا أداء واجباته فالهجرة منه واجبة ، الثاني : قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته ، فمستحبة لتكثير المسلمين ومعونتهم وجهاد الكفار والأمن من غدرهم والراحة من رؤية المنكر بينهم ، الثالث : عاجز بعذر من أسر أو مرض أو غيره فتجوز له الإقامة فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر ( ولكن جهاد ونية ) أي لكن لكم طريق إلى تحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة ، وذلك بالجهاد ونية الخير في كل شيء ، وارتفاع (( جهاد )) على الابتداء ، وخبره محذوف مقدما تقديره (( لكم جهاد )) قال الحافظ : المعنى أن وجوب الهجرة من مكة انقطع بفتحها إذا صارت دار إسلام ولكن بقى وجوب الجهاد على حاله عند الاحتياج إليه ، وفسره بقوله (( فإذا استنفرتم فانفروا )) أي إذا دعيتم إلى الغزو فأجيبوا ، قال الخطابي وغيره : كانت الهجرة فرضا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع ، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجا ، فسقط فرض
وإذا استنفرتم فانفروا " .

(19/424)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهجرة إلى المدينة ، وبقى فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو – انتهى . قال الحافظ : وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى ذويه من الكفار ، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه ، وفيهم نزلت : ? إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مسضعفين في الأرض ، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ? ( سورة النساء : الآية 99) وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار كفر وقدر على الخروج منها ، وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده مرفوعا : " لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم أو يفارق المشركين " . ولأبي داود من حديث سمرة مرفوعا : " أنا بريء من كل مشرك يقيم بين أظهر المشركين " . وهذا محمول على من لم يأمن على دينه ، قال : وقوله (( جهادا ونية )) قال الطيبي وغيره : وهذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله ، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت ، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية ، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك ( وإذا استنفرتم ) بصيغة المجهول أي إذا طلبتم للنفر وهو الخروج إلى الجهاد ( فانفروا ) بكسر الفاء أي اخرجوا ، والمعنى إذا دعاكم السلطان إلى غزو فاذهبوا . قال النووي : يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة ، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه ، وفي الحديث بشارة بأن مكة تبقى دار إسلام أبدا لا يتصور منها الهجرة ، وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام ، وأن الأعمال تعتبر بالنيات ، وقال الخطابي : في

(19/425)


الحديث إيجاب النفير والخروج إلى العدو إذا وقعت الدعوة ، وهذا إذا كان فيمن بإزاء العدو كفاية فإن لم يكن فيهم كفاية فهو فرض على المطيقين للجهاد ، والاختيار للمطيق له مع وقوع الكفاية بغيره أن لا يقعد عن الجهاد ، قال الله تعالى : ? لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ? ( سورة النساء : الآية 98) وقد ترجم البخاري لهذا الحديث (( باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية ، وقوله : ? انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ? ( سورة التوبة : الآية 42) قال الحافظ : قوله (( وما يجب من الجهاد والنية أي وبيان القدر الواجب من الجهاد ومشروعية النية في ذلك ، وللناس في الجهاد حالان ، إحداهما في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - والأخرى بعده ، فأما الأولى : فأول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقا ، ثم بعد أن شرع هل كان فرض عين أو كفاية قولان مشهوران للعلماء ، وهما في مذهب الشافعي ، وقال الماوردي : كان عينا على المهاجرين دون غيرهم ، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حق كل من أسلم إلى المدينة لنصر
وقال يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ،

(19/426)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإسلام ، وقال السهيلي : كان عينا على الأنصار دون غيرهم ، ويؤده مبياعتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة على أن يؤووا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينصروه ، فيخرج من قولهما أنه كان عينا على الطائفتين ، كفاية في حق غيرهم ، ومع ذلك فليس في حق الطائفين على التعميم ، بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق ، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء ، ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر فيما ذكره ابن إسحاق فإنه كالصريح في ذلك ، وقيل كان عينا في الغزوة التي يخرج فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيرها ، والتحقيق أنه كان عينا على من عينه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقه ولو لم يخرج . الحال الثاني بعده - صلى الله عليه وسلم - فهو فرض كفاية على المشهور إلا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العدو ، ويتعين على من عينه الإمام ، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور ، ومن حجتهم : أن الجزية تجب بدلا عنه ، لا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقا ، فليكن بدلها كذلك ، وقيل : يجب كلما أمكن ، وهو قوي ، والذي يظهر أنه استمر على ما كان عليه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد وانتشر الإسلام في أقطار الأرض ثم صار إلى ما تقدم ذكره ، والتحقيق أيضا أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه – انتهى . وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح هذا الحديث في آخر الفصل الأول من كتاب الجهاد ، ويأتي هناك بسط أحكام الجهاد إن شاء الله تعالى ( وقال يوم فتح مكة ) قال القاري : أعاده تأكيدا أو إشارة إلى وقوع هذا القول وقتا آخر من ذلك اليوم والله تعالى أعلم – انتهى . قلت : اللفظ المذكور لمسلم رواه في الحج عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير وروى البخاري هذا الحديث في باب لا يحل

(19/427)


القتال بمكة من كتاب الحج من طريق عثمان بن أبي شيبة عن جرير بلفظ (( فإذا استنفرتم فانفروا فإن هذا بلد )) إلخ . أي ليس فيه قوله (( وقال يوم فتح مكة )) قال الحافظ : الفاء أي في قوله (( فإن هذا )) جواب شرط محذوف تقديره إذا علمتم ذلك فاعلموا أن هذا بلد حرام ، وكأن وجه المناسبة أنه لما كان نصب القتال عليه حراما كان التنفير يقع منه لا إليه ، ولما روى مسلم هذا الحديث عن إسحاق عن جرير فصل الكلام الأول من الثاني بقوله (( وقال يوم الفتح : إن الله حرم )) إلى آخره . فجعله حديثا آخر مستقلا ، وهو مقتضى صنيع من اقتصر على الكلام الأول كعلي بن لمديني عن جرير كما سيأتي في الجهاد – انتهى . ( إن هذا البلد ) أي مكة يعني حرمها . قال القاري : أو المراد بالبلد أرض الحرم جميعها ( حرمه الله ) أي حكم بتحريمها وقضاه ، وظاهره أن حكم الله تعالى في مكة أن لا يقاتل أهلها ويؤمن من استجار بها ولا يتعرض له ، وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى : ? ومن دخله كان آمنا ? ( سورة آل عمران : الآية 91) وقوله : ? أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ? ( سورة العنكبوت : الآية 67) ( يوم خلق السموات والأرض ) يعني أن تحريمه أمر قديم وشريعة سالفة مستمرة وحكمه تعالى قديم لا يتقيد بزمان
فهو حرام بحرمة الله

(19/428)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهو تمثيل في تحريمه بأقرب متصور لعموم البشر ، إذ ليس كلهم يفهم معنى تحريمه في الأزل وليس تحريمه مما أحدثه الناس أو اختص بشرعه ، وهذا لا ينافي قوله في حديث جابر عند مسلم وحديث أنس عند البخاري " إن إبراهيم حرم مكة " ، لأن إسناد التحريم إليه من حيث أنه مبلغه فإن الحاكم بالشرائع والأحكام كلها هو الله تعالى ، والأنبياء يبلغونها ، فكما تضاف إلى الله تعالى من حيث أنه الحاكم بها تضاف إلى الرسل لأنها تسمع منهم وتبين على ألسنتهم ، والحاصل أنه أظهر تحريمها مبلغا عن الله بعد أن كان مهجورا إلا أنه ابتدأه ، وقيل إن حرمها بإذن الله يعني أنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة بأمر الله تعالى ، كذا في إرشاد الساري . وقال العيني : معنى قوله (( إن إبراهيم حرم مكة )) أعلن بتحريمها وعرف الناس بأنها حرام بتحريم الله إياها فلما لم يعرف تحريمها إلا أن في زمانه على لسانه أضيف إليه ، وذلك كما في قوله تعالى : ? الله يتوفى الأنفس ? ( سورة الزمر : الآية 43) فإنه أضاف إليه التوفي ، وفي آية أخرى : ? قل يتوفاكم ملك الموت ? ( سورة السجدة : الآية 11) فأضاف إلى الملك التوفي ، وقال في آية أخرى : ? الذين تتوفاهم الملائكة ? سورة النحل : الآية 30 ، 34) فأضاف إليهم التوفي ، وفي الحقيقة المتوفي هو الله عز وجل ، وأضاف إلى غيره لأنه ظهر على أيديهم – انتهى . وقال الحافظ : لا معارضة بين الحديثين لأن معنى قوله (( إن إبراهيم حرم مكة )) أي بأمر الله تعالى لا باجتهاده ، أو أن الله قضى يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة أو المعنى أن إبراهيم أول من أظهر تحريما بين الناس ، وكانت قبل ذلك عند الله حراما ، أو أول من أظهره بعد الطوفان ، وقال القرطبي : معناه : إن الله حرم مكة ابتداء من غير سبب ينسب لأحد ولا لأحد فيه مدخل ، قال :

(19/429)


ولأجل هذا أكد المعنى بقوله ( في حديث أبي شريح الآتي ) : ولم يحرمها الناس . والمراد بقوله (( ولم يحرمها الناس )) أن تحريمها ثابت بالشرع لا مدخل للعقل فيه ، أو المراد أنها من محرمات الله فيجب امتثال ذلك وليس من محرمات الناس يعني في الجاهلية كما حرموا أشياء من عند أنفسهم فلا يسوغ الاجتهاد في تركه ، وقيل معناه : إن حرمتها مستمرة من أول الخلق ، وليس مما اختصت به شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال الحافظ : واستدل بالحديث على اشتراط الإحرام على من دخل الحرم . قال القرطبي : معنى قوله (( حرمه الله )) أي يحرم على غير المحرم دخوله حتى يحرم ، ويجري هذا مجرى قوله تعالى : ? حرمت عليكم أمهاتكم ? ( سورة النساء : الآية 27) أي وطؤهن ? حرمت عليكم الميتة ? ( سورة المائدة : الآية 4) أي أكلها . فعرف الاستعمال يدل على تعيين المحذوف . قال : وقد دل على صحة هذا المعنى اعتذاره عن دخول مكة غير محرم مقاتلا بقوله (( لم تحل لي إلا ساعة من نهار )) الحديث - انتهى . وقد تقدم بسط القول في هذه المسألة في شرح حديث ابن عباس في بيان المواقيت (ج 6 : ص 243 إلى 246) وتقدم الجواب هناك عن الاستدلال بهذا الحديث على منع دخول الحرم بغير إحرام فتذكر ( فهو ) أي البلد ( حرام ) أي محرم محترم ( بحرمة الله )
إلى يوم القيامة ،

(19/430)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أي بسبب حرمة الله ، فالباء للسببية ، ويجوز أن تكون للملابسة فيكون متعلق الباء محذوفا ، أي متلبسا بحرمة الله ، وهو تأكيد للتحريم ( إلى يوم القيامة ) إيماء إلى عدم نسخه ، وقال الحافظ : قوله (( بحرمة الله )) أي بتحريمه ، وقيل : الحرمة الحق ، أي حرام بالحق المانع من تحليله ، قال : واستدل به على التحريم القتل والقتال بالحرم ، فأما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها ، وخص الخلاف بمن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم ، وممن نقل الإجماع على ذلك ابن الجوزي ، واحتج بعضهم بقتل ابن خطل بها ، ولا حجة فيه ، لأن ذلك كان في الوقت الذي أحلت فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وزعم ابن حزم أن مقتضى قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه لا يجوز القتل فيها مطلقا . ونقل التفصيل عن مجاهد وعطاء . وقال أبو حنيفة : لا يقتل في الحرم حتى يخرج إلى الحل باختياره لكن لا يجالس ولا يكلم ويوعظ ويذكر حتى يخرج ، وقال أبو يوسف : يخرج مضطرا إلى الحل وفعله ابن الزبير ، وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس : من أصاب حدا ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع ، وعن مالك والشافعي : يجوز إقامة الحد مطلقا فيها ، لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن ، وأما القتال فقال الماوردي : من خصائص مكة أن لا يحارب أهلها فلو بغوا على أهل العدل فإن أمكن ردهم بغير قتال لم يجز ، وإن لم يكن إلا القتال ، فقال الجمهور : يقاتلون لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى ، فلا يجوز إضاعتها ، وقال الآخرون : لا يجوز قتالهم ، بل يضيق عليهم إلى أن يرجعوا إلى الطاعة ، قال النووي : والأول نص عليه الشافعي وأجاب أصحابه عن الحديث بحمله على تحريم نصب القتال بما يعم أذاه كالمنجنيق ، بخلاف ما لو تحصن الكفار في بلد ، فإنه يجوز قتالهم على كل وجه ، وعن الشافعي

(19/431)


قول آخر بالتحريم اختاره القفال ، وجزم به في شرح التلخيص . وقال به جماعة من علماء الشافعية والمالكية ، قال الطبري : من أتى حدا في الحل واستجار بالحرم فللإمام إلجاؤه إلى الخروج منه ، وليس للإمام أن ينصب عليه الحرب بل يحاصره ويضيق عليه حتى يذعن للطاعة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : وإنما أحلت لي ساعة من نهار . وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس . فعلم أنها لا تحل لأحد بعده بالمعنى الذي حلت له به ، وهو محاربة أهلها والقتل فيها ، ومال ابن العربي إلى هذا ، وقال ابن المنير : قد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - التحريم بقوله (( حرمه الله )) ثم قال (( فهو حرام بحرمة الله )) ثم قال (( ولم تحل لي إلا ساعة من نهار )) وكان إذا أراد التأكيد ذكر الشيء ثلاثا ، قال : فهذا نص لا يحتمل التأويل . وقال القرطبي : ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - بالقتال لاعتذاره عما أبيح له من ذلك مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتال والقتل لصدهم عن المسجد الحرام وإخراجهم أهله منه وكفرهم ، وهذا الذي فهمه أبو شريح كما سيأتي وقال به غير واحد من أهل العلم . وقال ابن دقيق العيد : يتأكد القول بالتحريم بأن الحديث دال على أن المأذون للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه لم يؤذن لغيره فيه ، والذي وقع له إنما هو مطلق القتال لا القتال الخاص بما يعم كالمنجنيق فكيف
....................................................................................

(19/432)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يسوغ التأويل المذكور ، وأيضا فسياق الحديث يدل على أن التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم سفك الدماء فيها ، وذلك لا يختص بما يستأصل – انتهى كلام الحافظ . قلت : ومذهب الحنفية في مسألتي القتل والقتال في الحرم على ما ذكره في غنية الناسك (ص 163) هو أن من جنى في غير الحرم بأن قتل أو ارتد أو زنى أو شرب الخمر أو فعل غير ذلك مما يوجب الحد ثم لاذ إليه لا يتعرض له ما دام في الحرم ولكن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم سلم وإلا قتل لأن إباءه عن الإسلام جناية في الحرم ، وغير المرتد لا يبايع ولا يؤاكل ولا يجالس ولا يؤوى إلى أن يخرج منه فيقتص منه ، وأما إن فعل ما يوجب القصاص ثم لاذ إليه فإن كان القصاص في النفس لا يتعرض له ويضيق عليه حتى يخرج كما في الحد وإن كان فيما دون النفس يقتص منه في الحرم ، لأن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال ، ومن جنى على المال إذا لجأ إلى الحرم يؤخذ منه لأنه حق العبد أي فكذا يقتص منه في الأطراف بخلاف الحد لأنه حق الرب تبارك وتعالى ، وبخلاف القصاص في النفس لأنه ليس بمنزلة المال ، وإن فعل شيئا من ذلك في الحرم يقام عليه الحد ويقتص منه فيه ، وإن قتل في الحرم قتل فيه ، وإن قتل في البيت لا يقتل فيه . قال في رد المحتار : وكذا الحكم في سائر المساجد – انتهى . ومن دخل الحرم مقاتلا قتل فيه إلى آخر ما ذكر ، قلت : واستدل لما ذهب إليه مالك والشافعي ومن تبعهم من أن حكم الحرم كغيره فيقام فيه الحد ويسوفى فيه القصاص سواء كانت الجناية في الحرم أو في الحل ثم لجأ إلى الحرم بأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن ، واستدلوا لذلك أيضا بعمومات النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان ، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وبالقياس على من أتى في الحرم ما يوجب القتل ،

(19/433)


وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه من الفقهاء والإمام أحمد وبعض محدثيه مع أنه إن كانت الجناية في الحرم استوفيت العقوبة فيه ، وإن كانت في الحل ثم لجأ إلى الحرم لم تستوف منه فيه ويلجأ إلى الخروج منه ، فإذا خرج اقتص منه ، فاستدل لهم بمثل قوله تعالى ? ومن دخله كان آمنا ? ، ? أو لم نمكن لهم حرما آمنا ? ( سورة القصص : الآية 57) ونحوهما من الآيات ، ولو لم يكن للتخصيص فائدة ما ذكر ، وأجاب هؤلاء عن أدلة المعارضين بأن العمومات لا تتناوله لأن لفظها لا يدل عليه لا بالوضع ولا بالتضمن فهو مطلق بالنسبة إليها ، ولو فرض تناولها له لكانت مخصصة بالأدلة الواردة في منع إقامة الحد فيه لئلا يبطل موجبها . وأما قتل ابن خطل فليس فيه دليل لأنه قتل في الساعة التي أحل فيها الحرم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأما قياسه على من أتى في الحرم بما يوجب القتل فلا يستقيم ، لأن الجاني فيه هتك حرمته وحرمة الله تعالى فهما مفسدتان ولو لم يقم الحد على الجناة فيه لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله بخلاف الذي أتى ما يوجب القتل خارجه فذنبه أخف كثيرا وهو بلجوءه إلى الحرم كالتائب من الذنب النادم على فعله . قلت : ونصر ابن حزم في المحلى (ج 7 : ص 262) أن القصاص
وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ،

(19/434)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وأنواع الحدود لا تقام في الحرم مطلقا ، وقال من أتى فيه بما يوجب القتل والحد فليخرج ثم يقام عليه ، ونقل عمومات عن بعض الصحابة ظاهرها معه . قلت : والقول الراجح عندنا هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأحمد لقوة دليل هذا القول والله أعلم ( وإنه ) أي الشأن ، فالهاء فيه ضمير الشان ( لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ) زاد في بعض طرق البخاري (( ولا يحل لأحد بعدي )) قال المحب الطبري (ص 591) : هذا القول يحتمل وجوها ثم ذكرها ، وقال : الوجه الرابع وهو أقواها وأسلمها عن الاعتراض : أن يريد تحريم القتل بها وكان مستحقا ، حتى لو دخل كافر بغير أمان أو زان محصن أو من قتل إنسانا عمدا عدوانا لم يقتل بها بل يضيق عليه حتى يخرج ، وهذا مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد وقول بعض أصحاب مالك ، وكذلك القتال أيضا لا يكون بقتل ، بل بالحصر والتضييق والمدافعة حتى يخرجوا منها ، ولا كذلك سائر البلاد ، وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) أي وقتله ابن خطل وغيره وقد عاذوا بالحرم ، فيقال لهم : إن الله عز وجل أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، فمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس أن يقتدوا به في هذه الرخصة ، وأن يعد سببها تحقيقا لاختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بهذه الرخصة – انتهى . قال ابن بطال : المراد بقوله (( ولا تحل لأحد بعدي )) الإخبار عن الحكم في ذلك لا الإخبار بما سيقع لوقوع خلاف ذلك في الشاهد كما وقع من الحجاج وغيره – انتهى . ومحصله أنه خبر بمعنى النهي بخلاف قوله (( لم يحل القتال فيه لأحد قبلي )) فإنه خبر محض ، أو معنى قوله (( ولا تحل لأحد بعدي )) أي لا يحله الله بعدي ، لأن النسخ ينقطع بعده لكونه خاتم النبيين ، ( ولم يحل ) أي القتال ( لي إلا ساعة من نهار ) أي مقدارا من الزمان ، وهو ما بين طلوع

(19/435)


الشمس وصلاة العصر ، وقد ورد عند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (( لما فتحت مكة قال : كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر ، فأذن لهم حتى صلى العصر ، ثم قال : كفوا السلاح فلقى رجل من خزاعة رجلا من بني بكر من غد بالمزدلفة فقتله فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام خطيبا فقال : ورأيته مسندا ظهره إلى الكعبة )) فذكر الحديث . ويستفاد منه أن قتل من أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتلهم كابن خطل وقع في الوقت الذي أبيح للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه القتال خلافا لمن حمل قوله (( ساعة من نهار )) على ظاهره فاحتاج إلى الجواب عن قصة ابن خطل كذا في الفتح قال القاري : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولم يحل لي إلا ساعة من نهار " . أي أحل لي ساعة إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر ، وقال الخطابي ، قيل : إنما أحلت له في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر وسائر ما حرم على الناس منه – انتهى . قال الطبري : ويحتمل العموم ، فإن انتشار العسكر لا يخلو من تنفير صيد ودوس خلا وقطعه وغير ذلك ، والعمد والخطأ فيه سواء ، وقال أيضا : يحتمل أن يكون المراد جميع ما حرم فيه من تنفير الصيد واختلاء الخلا وعضد الشجر ، لأن ذلك من لوازم انتشار العسكر غالبا فالصيد ينفر
فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد

(19/436)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بذلك والدواب يختلى لها ويخبط فحصوله وإن كان تبعا وضمنا لكنه لما كان معلوما بالضرورة كان كالمباشر – انتهى . ثم قال القاري : قوله ((لم يحل لي إلا ساعة من نهار )) دل على أن فتح مكة كان عنوة وقهرا كما هو عندنا ، وقال الشيخ الدهلوي : يدل ظاهره على وقع القتال فيه ، وقد وقع من خالد بن الوليد ، وكان ذلك بأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بإذن منه - صلى الله عليه وسلم - ولهذا ذهب الأكثرون ، ومنهم أبو حنيفة إلى أن مكة فتحت عنوة ، وعن الشافعي وهو رواية عن أحمد أنها فتحت صلحا ، لأنهم لم يتهيؤا للحرب ، وإنما وقعت اتفاقا بعد دخول خالد وتعرض بعض المشركين ، واعتذاره - صلى الله عليه وسلم - بحل القتال له صريح في وقوع القتال والفتح عنوة ، وثمرة الخلاف أن من قال : فتحت عنوة لا يجوز بيع دورها وإجارتها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها من الكفار وجعلها وقفا بين المسلمين ، ومن قال بالفتح صلحا جوز ذلك لأنها مملوكة لأصحابها مبقاة على أملاكهم – انتهى . قلت : ذهب الأكثرون منهم أبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه إلى أن مكة فتحت عنوة ، وذهب الشافعي إلى أنها فتحت صلحا ، واستدل له على ذلك بأنها لو فتحت عنوة لقسمها النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الغانمين كخيبر ولملك الغانمون دورها وكانوا أحق بها من أهلها ، ولو كانت عنوة لم يؤمن أهلها . واستدل الجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم - ((لم يحل لي إلا ساعة من نهار )) وبقوله في حديث أبي شريح (( فإن ترخص أحد بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا له : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك )) واستدلوا أيضا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلها في حالة حرب وتعبئة فقد جعل للجيش ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وقلبا ، ودخلها وعلى رأسه المغفر غير المحرم . وحصل القتال بين خالد بن الوليد وبينهم حتى قتل

(19/437)


منهم جماعة . وقال - صلى الله عليه وسلم - للأنصار : " أترون أوباش قريش وأتباعهم احصدوهم حصدا ". حتى قال أبو سفيان : يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم ، وقال : " من أغلق بابه فهو آمن " . وغير ذلك من الأدلة الواضحة الصحيحة ، وأجابوا عن أدلة المعارضين فقالوا : أما كونه لم يقسم أرضها بين الغانمين فلأن الأرض غير داخلة في الغنائم التي تقسم ، وهذا عمل الخلفاء الراشدين في أرض العنوة التي يأخذونها لا يقسمونها ، وإنما يجعلونها فيئا على المسلمين أولهم وآخرهم على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - من على أهل مكة فأمنهم ، ومن تأمينهم ترك ما بأيديهم مع أن هناك خلافا بين العلماء هل يملك رباع مكة ودورها ؟ وقد رجح كثير من العلماء عدم تملكها وقالوا : إنه يستوي فيها المسلمون كالمساجد ، وأما تأمينه أهلها فبعد القتال من عليهم بذلك لكونهم جيران بيت الله تعالى ، وبعد أن رأوا أن لا طاقة لهم في القتال طلبوا الأمان فأجابهم لطفا بهم ورحمة ، كذا في تيسير العلام . وارجع لمزيد التفصيل إلى الفتح في شرح حديث هشام بن عروة عن أبيه من باب (( أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح ؟ )) ( فهو ) أي البلد ( حرام ) أي على كل أحد بعد تلك الساعة ( بحرمة الله ) أي المؤبدة ( لا يعضد ) بضم أوله وفتح الضاد المعجمة أي لا يقطع ،
شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته

(19/438)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والعضد القتل ، يقال : عضدت الشجر أعضده بالكسر قطعته ، قال ابن الجوزي : أصحاب الحديث يقولون يعضد بضم الضاد . وقال لنا ابن الخشاب : هو بكسرها ، والمعضد بكسر أوله الآلة التي يقطع بها . قال الخليل : المعضد الممتهن من السيوف في قطع الشجر . وقال الطبري : أصله من عضد الرجل إذا أصابه بسوء في عضده ( شوكه ) قال القاري : أي ولو يحصل التأذي به . وأما قول بعض الشافعية أنه يجوز قطع الشوك المؤذي فمخالف لإطلاق النص ، ولذا جرى جمع من متأخريهم على حرمة قطعه مطلقا ، وصححه النووي في شرح مسلم واختاره في عدة كتبه – انتهى . قلت : قال الخطابي في المعالم : أما الشوك فلا بأس بقطعه لما فيه من الضرر وعدم النفع ولا بأس بأن ينتفع بحطام الشجر وما يلي منه – انتهى . وقال الحافظ : وأجازوا ( أي الشافعية ) قطع الشوك لكونه يؤذي بطبعه فأشبه الفواسق ومنعه الجمهور لحديث ابن عباس ، وصححه المتولي من الشافعية ، وأجابوا بأن القياس المذكور في مقابلة النص فلا يعتبر به حتى ولو لم يرد النص على تحريم الشوك لكان في تحريم قطع الشجر (كما في حديث أبي هريرة الآتي ) دليل على تحريم قطع الشوك لأن غالب شجر الحرم كذلك ، ولقيام الفارق أيضا فإن الفواسق المذكورة تقصد بالأذى بخلاف الشجر . قال ابن قدامة : ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقطع من الشجر بغير صنع آدمي ولا بما يسقط من الورق نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا – انتهى . ( ولا ينفر ) بضم أوله وتشديد الفاء المفتوحة ( صيده ) أي لا يصاح عليه فينفر وقال سفيان بن عيينة : معناه أن يكون الصيد في ظل الشجرة . فلا ينفر ليجلس مكانه ويستظل . قال الطبري : لا خلاف أنه لو نفره وسلم فلا جزاء عليه لكنه يأثم بارتكابه النهي ، فلو أتلفه أو تلف بتنفيره وجب جزاءه ، وقال النووي : يحرم التنفير وهو الازعاج عن موضعه فإن نفره عصى سواء تلف أو لا

(19/439)


، فإن تلف في نفاره قبل سكونه ضمن وإلا فلا . قال العلماء : يستفاد من النهي عن التنفير تحريم الإتلاف بالأولى . وقال الحافظ : قيل : تنفير الصيد كناية عن الاصطياد ، وقيل : هو على ظاهره ، وقد روى البخاري عن عكرمة أنه قال : هو أن تنحيه من الظل تنزل مكانه ، قال الحافظ : قيل نبه عكرمة بذلك على المنع من الإتلاف كسائر أنواع تنبيها بالأدنى على الأعلى ، وقد خالف عكرمة عطاء ومجاهد فقالا : لا بأس بطرده ما لم يفض إلى قتله ، أخرجه ابن أبي شيبة ، وروى ابن أبي شيبة أيضا من طريق الحكم عن شيخ من أهل مكة أن حماما كان على البيت فذرق على يد عمر فأشار عمر بيده فطار فوقع على بعض بيوت مكة فجاءت حية فأكلته فحكم عمر على نفسه بشاة ، وروى من طريق أخرى عن عثمان نحوه ( ولا يلتقط ) بصيغة المعلوم ( لقطته ) بالنصب على أنه مفعول . قال القسطلاني : لقطته بفتح القاف في اليونينية وبسكونها في غيرها قال الأزهري : والمحدثون لا يعرفون غير الفتح ، ونقل الطيبي عن صاحب شرح السنة أنه قال : اللقطة بفتح القاف والعامة تسكنها .
إلا من عرفها ،

(19/440)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وقال الخليل : هو بالسكون ، وأما بالفتح فهو الكثير الالتقاط ، قال الأزهري : وهو القياس ، وقال ابن بري في حواش الصحاح : وهذا هو الصواب لأن العلة للفاعل كالضحكة للكثير الضحك ، وفي القاموس : واللقط محركة أي بغير هاء وكحزمة وهمزة وثمامة ما التقط – انتهى . وقال النووي : اللغة المشهورة فتحها . قال القسطلاني : وهي هنا نصب مفعول مقدم والفاعل قوله ( إلا من عرفها ) أي أشهرها ثم يحفظها لمالكها ولا يتملكها ، أي عرفها ليعرف مالكها فيردها إليه ، وهذا بخلاف غير الحرم ، فإنه يجوز تملكها بشرطه . وقال الحنفية والمالكية حكمها واحد في سائر البلاد لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة من غير فصل ، لنا أن قوله (( ولا يلتقط لقطته )) ورد مورد بيان الفضائل المختصة بمكة كتحريم صيدها وقطع شجرها ، وإذا سوى بين لقطة الحرم وبين لقطة غيره من البلاد بقي ذكر اللقطة في هذا الحديث خاليا عن الفائدة – انتهى . وقال التوربشتي : قوله (( لا يلتقط لقطته إلا من عرفها )) أي لا يلتقطها إلا من يريد تعريفها فحسب ، يدل عليه قوله في حديث أبي هريرة (( ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد )) أي ليس للملتقط أن يتصدق بها أو يستنفقها كسائر اللقطات وذلك لتعظيم أمر الحرم ، ولم يفرق أكثر العلماء بين لقطة الحرم ولقطة غيره من الأماكن ، ويعضد هذا الحديث وما ورد بمعناه قول من فرق بينهما لأن الكلام ورد مورد بيان الفضائل المختصة بها كتحريم صيدها وقطع شجرها وحصد خلاها ، ثم إن الخبر الخاص إنما يساق لعلم خاص وإذا سوى بين لقطة الحرم ولقطة غيره من البلاد وجدنا ذكر حكم اللقطة في هذا الحديث خاليا عن الفائدة – انتهى . قلت : ذهب الشافعية ومتأخروا المالكية فيما ذكره صاحب تحصيل المرام من المالكية إلى أن لقطة مكة بخلاف غيرها من البلاد وأنها لا تحل إلا لمن يعرفها أبدا ولا

(19/441)


يتملكها كما يتملكها في غيرها من البلاد ، والصحيح من مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد أنه لا خصوصية للقطة مكة وأن حكم اللقطة في سائر البلاد واحد ، والحديث عندهم محمول على المبالغة في التعريف ، فإن الحاج يرجع إلى بلاده فلا يعود إلا بعد أعوام فتدعو الضرورة إلى إطالة التعريف أو على قطع وهم من يظن أنه لا يحتاج إلى التعريف ، فإن الغالب أن الحجيج إذا تفرقوا مشرقين ومغربين وقد مدت المطايا أعناقها لا يعرجون على شيء فلا فائدة في التعريف . وقال القاري : المقصود من ذكرها أن لا يتوهم تخصيص تعريفها بأيام الموسم ، وقال ابن الهمام : تخصيص مكة لدفع وهم سقوط التعريف بها بسبب أن الظاهر أن ما وجد بها من لقطة فالظاهر أنه للغرباء ، وقد تفرقوا فلا يفيد التعريف فيسقط – انتهى ، قال الحافظ : استدل بحديثي ابن عباس وأبي هريرة على أن لقطة مكة لا تلتقط للتملك بل للتعريف خاصة وهو قول الجمهور ، وإنما اختصت بذلك عندهم لإمكان إيصالها إلى ربها لأنها إن كانت للمكي فظاهر ، وإن كانت للآفاقي فلا يخلو أفق غالبا من وارد إليها . فإذا عرفها واجدها في كل
ولا يختلى خلاها " . فقال العباس : يا رسول الله ! إلا الإذخر

(19/442)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها ، قاله ابن بطال . وقال أكثر المالكية وبعض الشافعية : هي كغيرها من البلاد وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود ، فاحتاج الملتقط بها إلى المبالغة في التعريف . واحتج ابن المنير لمذهبه بظاهر الاستثناء لأنه نفي الحل واستثنى المنشد ( في قوله لا تحل ساقطتها إلا لمنشد ) فدل على أن الحل ثابت للمنشد لأن الاستثناء من النفي إثبات . قال : ويلزم على هذا أن مكة وغيرها سواء ، والقياس يقتضي تخصيصها ، والجواب أن التخصيص إذا وافق الغالب لم يكن له مفهوم ، والغالب أن لقطة مكة ييأس ملتقطها من صاحبها وصاحبها من وجدانها لتفرق الخلق إلى الآفاق البعيدة فربما داخل الملتقط الطمع في تملكها من أول وهلة فلا يعرفها فنهى الشارع عن ذلك وأمر أن لا يأخذها إلا من عرفها ، وفارقت في ذلك لقطة العسكر ببلاد الحرب بعد تفرقهم فإنها لا تعرف في غيرهم باتفاق بخلاف لقطة مكة فيشرع تعريفها لإمكان عود أهل أفق صاحب اللقطة إلى مكة فيحصل التوصل إلى معرفة صاحبها – انتهى . ( ولا يختلى ) بضم الياء وسكون الخاء المعجمة وفتح الفوقية واللام أي لا يجز ولا يقطع ( خلاها ) بفتح المعجمة مقصور الرطب من الكلأ ، فإذا يبس فهو حشيش وهشيم قال الحافظ : الخلا هو الرطب من النبات واختلاؤه قطعه واحتشاشه ، واستدل به على تحريم رعيه لكونه أشد من الاحتشاش ، وبه قال مالك والكوفيون واختاره الطبري . وقال الشافعي : لا بأس بالرعي لمصلحة البهائم وهو عمل الناس بخلاف الاحتشاش فإنه المنهي عنه فلا يتعدى ذلك إلى غيره – انتهى . قلت : الظاهر أن الإمام مالكا وافق الشافعي في جواز الرعي لما في المدونة . قال مالك : لا بأس بالرعي في حرم مكة وحرم المدينة في الحشيش والشجر ، وفي آخر جامع الحج من الموطأ : سئل مالك هل يحتش الرجل لدابته من الحرم ؟ فقال : لا

(19/443)


. قال الباجي : وهذا كما قال : أن لا يحتش أحد في الحرم لدابته ولا لغير ذلك إلا الإذخر الذي أباحه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن احتش في الحرم فلا جزاء عليه ولا بأس أن يرعى الإبل في الحرم . والفرق بينه وبين الاحتشاش أن الاحتشاش تناول قطع الحشيش وإرسال البهائم للرعي ليس بتناول لذلك ، وهذا لا يمكن الاحتراز منه ، ولو منع منه لامتنع السفر في الحرم والمقام فيه لتعذر الامتناع منه والتحرز – انتهى . قال الحافظ : وفي تخصيص التحريم بالرطب إشارة إلى جواز رعي اليابس واختلاءه وهو أصح الوجهين للشافعية ، لأن النبت اليابس كالصيد الميت . قال ابن قدامة : لكن في استثناء الإذخر إشارة إلى تحريم اليابس من الحشيش ، ويدل عليه أن في بعض طرق حديث أبي هريرة (( ولا يحتش حشيشها )) قال : وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنته الناس في الحرم من بقل وزع ومشموم فلا بأس برعيه واختلاءه – انتهى . وسيأتي بسط الكلام في ذلك في شرح قوله الآتي (( لا يعضد شجرها )) ( فقال العباس ) أي ابن عبد المطلب ( إلا الإذخر ) يجوز فيه الرفع بدلا مما قبله
فإنه لقينهم ولبيوتهم . فقال : إلا الإذخر . متفق عليه .
2741 – (2) وفي رواية أبي هريرة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/444)


ونصبه لكونه مستثنى بعد النفي ، واختار ابن مالك النصب لكون الاستثناء وقع متراخيا عن المستثنى منه والإذخر بكسر الهمزة والخاء المعجمة بينهما ذال معجمة ساكنة نبت معروف عند أهل مكة طيب الريح له أصل مندفن أي ماض في الأرض ، وقضبان دواق ينبت في السهل والحزن ، وبالمغرب صنف منه فيما قاله ابن البيطار . قال : والذي بمكة أجوده ، وأهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب يعني يجعلونه تحت الطين وفوق الخشب ليسد الخلل فلا يسقط الطين ، وكذا يجعلونه في القبور يعني يسدون به الخلل بين اللبنات في القبور ، وكانوا يستعملونه بدلا من الحلفاء في الوقود ولهذا قال العباس : فإنه لقينهم . ووقع عند عمر بن شبة (( فقال العباس : يا رسول الله إن أهل مكة لا صبر لهم عن الإذخر لقينهم وبيوتهم )) وهذا يدل على أن الاستثناء في حديث الباب لم يرد به أن يستثنى هو ، وإنما أراد به أن يلقن النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستثناء ( فإنه لقينهم ) بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون أي الحداد وحاجته له ليوقد به النار وقال الطبري : القين عند العرب كل ذي صناعة يعالجها بنفسه ، وفي رواية للبخاري (( فإنه لصاغتنا وقبورنا ) ووقع في مرسل مجاهد عند عمر بن شبه الجمع بين الثلاثة ( ولبيوتهم ) أي لسقفها ( فقال : إلا الإذخر ) هو استثناء بعض من كل لدخول الإذخر في عموم ما يختلى ، قال الحافظ : اختلفوا هل كان قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إلا الإذخر )) باجتهاد أو وحي ؟ وقيل : كان الله فوض له الحكم في هذه المسألة مطلقا . وقيل : أوحي إليه قبل ذلك أنه إن طلب أحد استثناء شيء من ذلك فأجب سؤاله . وقال ابن المنير : الحق أن سؤال العباس كان على معنى الضراعة وترخيص النبي - صلى الله عليه وسلم - كان تبليغا عن الله إما بطريق الإلهام أو بطريق الوحي ، ومن ادعى أن نزول الوحي يحتاج إلى أمد متسع فقد وهم ، قال الحافظ : وفي الحديث بيان خصوصية النبي - صلى الله

(19/445)


عليه وسلم - بما ذكر في الحديث وجواز مراجعة العالم في المصالح الشرعية والمبادرة إلى ذلك في المجامع والمشاهد وعظيم منزلة العباس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنايته بأمر مكة لكونه كان بها أصله ومنشأه ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الجنائز وفي الحج وفي البيوع وفي اللقطة وفي الجهاد وفي الجزية وفي المغازي مختصرا ومطولا ، ومسلم في الحج والجهاد وأخرجه أيضا أحمد ( ج 1 : ص 226 ، 253 ، 259 ، 266 ، 315 ، 316 ، 355) مختصرا ومطولا ، والترمذي في السير وأبو داود في الحج والجهاد ، والنسائي في الحج وفي البيعة ، والدارمي مختصرا وابن الجارود والبيهقي ، وسعيد بن منصور وعبد الرزاق مطولا .
2741 – قوله ( وفي رواية أبي هريرة ) أي عند الشيخين فقد أخرجها البخاري في العلم وفي الديات وفي اللقطة ومسلم في الحج وأخرجها أيضا أحمد (ج 2 : ص 238) والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وابن الجارود ولفظها عند الشيخين من طريق شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم فقتلوه فأخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فركب راحلته فخطب ، فقال : إن الله
" لا يعضد شجرها

(19/446)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم رسول الله والمؤمنين ، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، ألا وإنها حلت لي ساعة من نهار ، ألا وإنها ساعتي هذه حرام ، لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد ( وفي رواية (( لا يلتقط ساقطتها إلا منشد )) فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما إن يعقل وإما أن يقاد أهل القتيل فجاء رجل من أهل اليمن فقال : اكتب لي يا رسول الله ، فقال : اكتبوا لأبي فلان ، فقال رجل من قريش . إلا الإذخر يا رسول الله ، فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إلا الإذخر ( لا يعضد ) بصيغة المجهول أي لا يقطع ووقع في رواية لعمر بن شبة بلفظ (( لا يخضد )) بالخاء المعجمة بدل العين المهملة ، وهو راجع إلى معني العضد ، فإن أصل الخضد الكسر ويستعمل في القطع ( شجرها ) قال القرطبي : خص الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما ينبته الله تعالى من غير صنع الآدمي ، فأما ما ينبت بمعاجلة آدمي فاختلف فيه ، والجمهور على الجواز . وقال الشافعي في الجميع الجزاء ، ورجحه ابن قدامة ، واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول فقال مالك : لا جزاء فيه بل يأثم ، وقال عطاء : يستغفر ، وقال أبو حنيفة : يؤخذ بقيمته هدي ، وقال الشافعي : في العظيمة بقرة وفي ما دونها شاة . واحتج الطبري بالقياس على جزاء الصيد ، وتعقبه ابن القصار بأنه كان يلزمه أن يجعل الجزاء على المحرم إذا قطع شيئا من شجر الحل ولا قائل به . وقال ابن العربي : اتفقوا على تحريم قطع شجر الحرم إلا أن الشافعي أجاز قطع السواك من فروع الشجرة كذا نقله أبو ثور عنه . وأجاز أيضا أخذ الورق والثمر إذا كان لا يضرها ولا يهلكها ، بهذا قال عطاء ومجاهد وغيرهما ، كذا في الفتح ، وقال ابن قدامة : أجمع أهل العلم على تحريم قطع شجر الحرم وإباحة أخذ الإذخر وما أنبته الآدمي من

(19/447)


البقول والزروع والرياحين ، حكى ذلك ابن المنذر ، والأصل فيه ما روينا من حديث ابن عباس ، وروى أبو شريح وأبو هريرة نحوا من حديث ابن عباس وكلها متفق عليها ، فأما ما أنبته الآدمي من الشجر فقال أبو الخطاب وابن عقيل : له قلعه من غير ضمان كالزرع ، وقال القاضي : ما نبت في الحل ثم غرس في الحرم فلا جزاء فيه ، وما نبت أصله في الحرم ففيه الجزاء بكل حال ، وقال الشافعي في شجر الحرم : الجزاء بكل حال أنبته الآدميون أو نبت بنفسه لعموم قوله عليه السلام (( لا يعضد شجرها )) وقال أبو حنيفة : لا جزاء فيما ينبت الآدميون جنسه كالجوز واللوز والنخل ونحوه ولا يجب فيما ينبته الآدمي من غيره كالدوح والسلم والعضاه لأن الحرم يختص تحريمه ما كان وحشيا من الصيد كذلك الشجر ، قال ابن قدامة : ويحرم قطع الشوك والعوسج ، وقال القاضي وأبو الخطاب : لا يحرم . وروى ذلك عن عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي . لأنه يؤذي بطبعه ، فأشبه السباع من الحيوان ، ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا يعضد شجرها )) وفي حديث أبي هريرة (( لا يختلى شوكها )) وهذا صريح ، ولأن الغالب في شجر
...............................................................................................

(19/448)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحرم الشوك ، فلما حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع شجرها والشوك غالبه كان ظاهرا في تحريمه قال : ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش لأنه بمنزلة الميت ، ولا يقطع ما انكسر ولم يبن ، لأنه قد تلف فهو بمنزلة الظفر المنكسر ، ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقلع من الشجر بغير فعل آدمي ولا ما سقط من الورق ، نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا ، لأن الخبر إنما ورد في القطع وهذا لم يقطع ، قال : وليس له أخذ ورق الشجر ، وقال الشافعي : له أخذه لأنه لا يضر به ، وكان عطاء يرخص في أخذ ورق السنا يستمشي به ولا ينزع من أصله ، ورخص فيه عمرو بن دينار ، ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها ، رواه مسلم . ولأن ما حرم أخذه حرم كل شيء منه كريش الطائر ، وقولهم (( لا يضر به )) لا يصح فإنه يضعفها وربما آل إلى تلفها . قال : ويحرم قطع حشيش الحرم إلا ما استثناه الشرع من الإذخر وما أنبته الآدميون واليابس لقوله عليه السلام : لا يختلى خلاها ، وفي لفظ (( لا يحتش حشيشها )) وفي استثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - الإذخر دليل على تحريم ما عداه . وفي جواز رعيه وجهان : أحدهما لا يجوز ، وهو مذهب أبي حنيفة ، لأن ما حرم إتلافه لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه كالصيد . والثاني يجوز ، وهو مذهب عطاء والشافعي ، لأن الهدي كانت تدخل الحرم فتكثر فيه ولم ينقل أنه كانت تسد أفواهها ، ولأن بهم حاجة إلى ذلك أشبه قطع الإذخر . قال : ويباح أخذ الكمأة من الحرم وكذلك الفقع لأنه لا أصل له فأشبه الثمرة ، وروى حنبل قال : يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق وما سقط من الشجر وما أنبت الناس – انتهى . وقال في الروض المربع : يحرم قطع شجر الحرم وحشيشه الأخضرين الذين لم يزرعهما آدمي ويجوز قطع اليابس والثمرة وما زرعه الآدمي والكمأة والفقع والإذخر ويباح

(19/449)


الانتفاع بما زال أو انكسر بغير فعل آدمي ولو لم يبن ، ويضمن حشيش وورق بقيمته وغصن بما نقص – انتهى . وفي نيل المآرب : يحرم قطع شجره حتى ما فيه مضرة كعوسج وشوك وسواك ونحوه إلا اليابس – انتهى . قال ابن قدامة : ويجب في إتلاف الشجر والحشيش الضمان . وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ، وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء وقال مالك وأبو ثور وداود وابن المنذر : لا يضمن لأن المحرم لا يضمنه في الحل فلا يضمن في الحرم كالزرع . وقال ابن المنذر : لا أجد دليلا أوجب به في شجر الحرم فرضا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ، وأقول كما قال مالك . نستغفر الله تعالى ، ولنا ما روى أبو هشيمة قال : رأيت عمر بن الخطاب أمر بشجر كان في المسجد يضر بأهل الطواف فقطع وفدى . قال : وذكر البقرة . رواه حنبل في المناسك ، وعن ابن عباس أنه قال في الدوحة : بقرة ، وفي الجزلة شاة ، والدوحة الشجرة العظيمة والجزلة الصغيرة ، وعن عطاء نحوه . ولأنه ممنوع من إتلافه لحرمة الحرم فكان مضمونا كالصيد ، ويخالف المحرم فإنه لا يمنع من قطع شجر الحل ولا زرع الحرم ، إذا ثبت هذا فإنه يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة والصغيرة بشاة والحشيش بقيمته والغصن بما نقص ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أصحاب الرأي يضمن الكل بقيمته
....................................................................................

(19/450)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لأنه لا مقدر فيه فأشبه الحشيش . ولنا قول ابن عباس وعطاء ، ولأنه أحد نوعي ما يحرم إتلافه فكان فيه ما يضمن بمقدر كالصيد – انتهى بقدر الضرورة ، وقال مالك في الموطأ : ليس على المحرم فيما قطع من الشجر في الحرم شيء ولم يبلغنا أن أحدا حكم فيه بشيء وبئس ما صنع . قال الباجي : ذكر في مسألتين : إحداهما : ليس على المحرم فيما قطع من الشجر في الحرم بشيء ، والثانية قوله : بئس ما صنع فنص على المنع من ذلك ، وتتعلق بذلك مسألة ثالثة وهي تبيين الشجر الممنوع قطعه وتمييزه من غيره ، فأما المسألة الأولى في أنه لا يجب به شيء فهو مذهب مالك ، وقال أبو حنيفة والشافعي : يجب عليه الجزاء – انتهى . وقال الدردير : لا جزاء على قاطع ما حرم قطعه لأنه قدر زائد على التحريم يحتاج لدليل – انتهى . واستدل لذلك الزرقاني بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة فتح مكة : " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة . في روايات أخر : ليس في شيء منها ذكر جزاء ولا غيره والكفارات لا يقاس عليها ، قال الباجي : وأما المسألة الثانية في المنع من قطع شجر الحرم فهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة ، والأصل في ذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ، وأما المسألة الثالثة أي تبيين ما يسباح قطعه من شجر الحرم وتمييزه مما هو ممنوع فإن الممنوع منه ما هو من شجرة البادية مما لا يملك غالبا ، وجرت العادة بأن ينبت من غير عمل آدمي كالطلح والسعدان وما جري مجري ذلك ، وكذلك سائر أنواع الحشيش ، والأصل في ذلك ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها " . فقال العباس : إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لصاغتنا وقبورنا . فقال - صلى الله عليه وسلم - : " إلا الإذخر " . قال الباجي : والسنا عندي

(19/451)


مثله وهذا فيما ينبت بنفسه ، وأما ما غرس منه واتخذ بالعمل وملكه العامل فعندي يجوز أخذه وهو قول أبي حنيفة وقال الشافعي : لا يجوز . وأما ما جرت العادة بأنه يملك ويغرس ويعمل كالنخل والرمان والجوز وما أشبهها فإنه غير ممنوع قطعه ، وكذا ما كان يتخذ من البقول سواء نبت بنفسه أو بصنع آدمي لأنه على أصله ، ويجري ذلك مجرى الحيوان ما كان أصله التأنيس ، فإنه لا يمنع من اصطياده في الحرم وإن توحش – انتهى . وفي المدونة : لا يقطع في الحرم من الشجر شيء يبس أو لم ييبس ، وقال مالك : كل شيء أنبته الناس في الحرم من الشجر مثل النخل والرمان وما أشبههما فلا بأس بقطع ذلك كله ، وكذلك البقل كله مثل الكراث والخس والسلق وما أشبه ذلك ، ولا بأس بالسنا والإذخر أن يقلع في الحرم - انتهى . وقال الدردير : ( حرم بالحرم قطع ما ينبت بنفسه ) من غير علاج كالبقل البري وشجر الطرفاء ، ولو استنبت نظرا لجنسه ، وكما يأتي في عكسه ( إلا الإذخر والسنا ) ومثلهما العصا والسواك وقطع الشجر للبناء والسكنى بموضعه أو قطعه لإصلاح الحوائط ( كما يستنبت ) من خس وسلق وكراث وبطيخ وخوخ وإن لم يعالج نظرا لأصله – انتهى . قال الدسوقي : قوله : ما ينبت بنفسه أي ولو كان قطعه لإطعام الدواب على المعتمد ، ولا فرق بين الأخضر واليابس ، وقوله كما يستنبت أي كما يجوز
....................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/452)


قطع ما يستنبته كالحنطة والقثاء والعناب والنخل والرمان – انتهى . وقال النووي في مناسكه : يضمن المحرم والحلال شجر حرم مكة ، فمن قلع شجرة كبيرة ضمنها ببقرة ، وإن كانت صغيرة ضمنها بشاة ثم يتخير بين البقرة والشاة والطعام والصيام كما سبق في جزاء الصيد ، وإن كانت صغيرة جدا وجبت القيمة ، ثم يتخير بين الطعام والصيام وكذا حكم الأغصان ، وأما الأوراق فيجوز أخذها لكن لا يخبطها مخافة أن يصيب قشورها ، ويحرم قطع حشيش الحرم ، فإن قلعه لزمه القيمة ، وإن كان يابسا فلا شيء في قطعه ، فلو قطعه لزمه الضمان لأنه لو لم يقلعه لنبت ، ويجوز تسريح البهائم في حشيش الحرم لترعى فلو أخذ الحشيش لعلف البهائم جاز على الأصح بخلاف من يأخذ للبيع أو غيره ، ويستثنى من البيع الإذخر ، ولو احتيج إلى شيء من نبات الحرم للدواء جاز قطعه على الأصح . قال ابن حجر المكي : قوله : (( يضمن شجر الحرم )) أي بالقلع والقطع سواء الذي في ملكه والمثمر والمستنبت وغيره ، وقوله (( فمن قلع شجرة )) أي رطبة غير مؤذية كالشوك ، وقوله (( يحرم قطع حشيش الحرم )) أي ليس من شأنه أن يستنبت سواء نبت بنفسه أو استنبت . أما إذا كان من شأنه ذلك وإن نبت بنفسه كالحنطة والشعير والبقول والخضروات فيجوز أخذه ، وقوله (( لأنه لو لم يقلعه لنبت )) محله ما إذا لم يفسد منبته وإلا جاز قلعه أيضا ، وقوله : يستثنى الإذخر ، ألحق به ما يتغذى به كالرجلة والنبات المسمى بالبقلة ونحوهما لأنه في معنى الزرع ، وكالإذخر غيره إذا احتاج إليه للتسقيف – انتهى . واختلف الشافعية في جواز أخذ المساويك وعدمه كما بسط ذلك ابن حجر ، وقال ابن عابدين : اعلم أن النابت في الحرم إما جاف أو منكسر أو إذخر أو غيرها ، والثلاثة الأول مستثناة من الضمان كما يأتي ، وغيرها إما يكون أنبته الناس أو لا ، والأول لا شيء فيه سواء كان من جنس ما ينبته الناس كالزرع أو لا ، كأم غيلان ، والثاني إن كان من جنس ما

(19/453)


ينبتونه فكذلك ، وإلا ففيه الجزاء ، فما فيه الجزاء هو النابت بنفسه ، وليس مما يستنبت ولا منكسرا ولا جافا ولا إذخرا كما قرره في البحر – انتهى . وفي شرح اللباب : أشجار الحرم ونباته أربعة أنواع ، الأول : كل شجر أنبته الناس حقيقة وهو من جنس ما ينبته الناس عادة كالزرع . الثاني : ما أنبته الناس وهو ليس مما ينبتونه عادة كالأراك وهو شجر المسواك ، الثالث : ما نبت بنفسه وهو من جنس ما ينبته الناس عادة فهذه الأنواع الثلاثة يحل قطعها وقلعها والانتفاع بها ولا جزاء فيها . وأما النوع الرابع : فكل شجر نبت بنفسه وهو من جنس ما لا ينبته الناس عادة كأم غيلان ، فهذا محظور القطع سواء كان مملوكا بأن يكون في أرض رجل أو لا إلا اليابس لعدم إطلاق الشجر والنبات عليه حينئذ فإنه صار حطبا ، وإلا الإذخر فيجوز قطعه رطبا ويابسا ، ويجوز أخذ الكمأة وما اجتنى من الزهر والثمر وما انكسر من الشجر بغير فعل آدمي ، ويحرم قطع الشوك والعوسج ، ولا ضمان فيه ، ولا يجوز اتخاذ المساويك من أراك الحرم ، وسائر أشجاره إذا كان أخضر ويجوز أخذ الورق ولا ضمان فيه إذا كان لا يضر
....................................................................................

(19/454)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالشجر ولا يجوز رعي الحشيش في قول أبي حنيفة ومحمد وأحمد ، وقال أبو يوسف ومالك والشافعي : لا بأس به ولو ارتعت دابته حالة المشي لا شيء عليه لوقوع رعيها من غير اختياره ، وهذا مما اتفق عليه – انتهى . وزاد في الغنية : يحل قطع الشجر المثمر ( أي وإن لم يكن من جنس ما ينبته الناس ) لأن إثماره أقيم مقام إنبات الناس – انتهى . وفي رد المحتار : ولا يرعى حشيشه أي عندهما ، وجوزه أبو يوسف للضرورة ، فإن منع الدواب عنه متعذر ، وتمامه في الهداية ونقل بعض المحشين عن البرهان تأييد قوله بما حاصله أن الاحتياج للرعي فوق الاحتياج للإذخر ، وأقرب حد الحرم فوق أربعة أميال ففي خروج الرعاة إليه ثم عودهم قد لا يبقي من النهار وقت تشبع فيه الدواب ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها )) وسكوته عن نفي الرعي إشارة لجوازه وإلا لبينه ولا مساواة بينهما ليلحق به دلالة ، إذ القطع فعل العاقل ، والرعي فعل العجماء وهو جبار وعليه عمل الناس وليس في النص دلالة على نفي الرعي ليلزم من اعتبار الضرورة معارضته بخلاف الاحتشاش – انتهى . قال ابن عابدين : لكن في قوله (( والرعي فعل العجماء )) نظر لأنها لو ارتعت بنفسها لا شيء عليه اتفاقا ، وإنما الخلاف في إرسالها للرعي وهو مضاف إليه – انتهى . وفي الهداية : إن قطع حشيش الحرم أو شجرة ليست بمملوكة وهو مما لا ينبته الناس ( كشجر أم غيلان والأثل ) فعليه قيمته إلا فيما جف منه لأن حرمتهما تثبت بسبب الحرم . قال عليه السلام : لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ، ولا يكون للصوم في هذه القيمة مدخل ( فلا يكفي في الجزاء الصوم ) لأن حرمة تناولها بسبب الحرم لا بسبب الإحرام فكان من ضمان المحال على ما بينا من أن الصوم يصلح جزاء للأفعال لا ضمان المحال ويتصدق بقيمته على الفقراء – انتهى . هذا وقد ظهر بما ذكرنا من عبارات كتب

(19/455)


الفروع أن ها هنا عدة مسائل اتفق الفقهاء على بعضها واختلفوا في البعض الآخر ، فمنها أنهم اختلفوا في مصداق المنهي عنه من الشجر وتمييزه من غيره ، فقال مالك كما ذكر الدردير : يحرم قطع ما ينبت جنسه بنفسه ولو استنبته أحد نظرا لجنسه . وقالت الحنفية : يحرم ما ينبت بنفسه وهو من جنس ما لا ينبته الناس عادة . وقال أحمد : يحرم قطع ما لم يزرعه آدمي من الشجر والحشيش ، ويباح ما زرعه الآدمي وأنبته ، وقالت الشافعية : يحرم قطع شجر الحرم وحشيشه أي الذي ليس من شأنه أن يستنبت مطلقا أي سواء أنبته الآدميون أو نبت بنفسه إلا الذي من شأنه أن يستنبت ، وإن نبت بنفسه كالبقول والخضراوات والحنطة والشعير ومنها أنهم أجمعوا على أن ما زرعه الآدمي وأنبته من البقول والزروع والرياحين يجوز قطعه ولا اختلاف في ذلك كما ذكره ابن قدامة وغيره ، ومنها أنه لا فرق بين الأخضر واليابس عند مالك كما في المدونة والدسوقي خلافا للأئمة الثلاثة ، إذا أباحوا قطع اليابس كما صرح به ابن قدامة والنووي وابن عابدين وغيرهم ، ومنها أن الشوك وغيره سواء في الحرمة عند مالك وأحمد كما في المغني ويجوز قطعه عند الشافعي والقاضي وأبي الخطاب من الحنابلة ، ويحرم قطعه بلا ضمان عند
ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد " .
2742 – (3) وعن جابر ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح " .

(19/456)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحنفية كما في شرح اللباب ، ومنها أنهم أجمعوا على إباحة قطع الإذخر رطبا ويابسا ومنها أنه لا يجوز قطع ما ينبت بنفسه لإطعام الدواب عند المالكية على المعتمد كما صرح به الدسوقي ، وبه قال أحمد كما في المغني والحنفية ، ويجوز على الأصح عند الشافعية كما صرح به النووي في مناسكه ، ومنها أنه يجوز رعى الدواب عند مالك والشافعي وأبي يوسف ولا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد وعند أحمد فيه وجهان كما ذكر ابن قدامة ، ولو ارتعت بنفسها يجوز إجماعا ، ومنها أنهم أجمعوا على جواز الانتفاع بالأوراق الساقطة ، ومنها أنه يجوز أخذ السواك من شجر الحرم عند المالكية كما صرح به الدردير وابن الحاج وكذا عند الشافعي على ما حكى عنه أبو ثور ، ولا يجوز عند أحمد كما في نيل المأرب ، وكذا عند الحنفية كما في شرح اللباب . واختلفت فيه الشافعية ، ومنها أنه لا يجوز قطع الورق عند الحنابلة كما في المغني والروض المربع ، ويجوز عند الشافعية والحنفية كما في مناسك النووي وفي شرح اللباب ( ولا يلتقط ) بصيغة المعلوم أي لا يأخذ ( ساقطتها ) بالنصب ( إلا منشد ) من الإنشاد أي معرف ( وهو الذي يعرف اللقطة ويحتفظ بها إلى أن يحضر صاحبها فيردها إليه ) وأما الطالب فيقال له الناشد تقول : نشدت الضالة إذا طلبتها وأنشدتها إذا عرفتها ، وأصل الإنشاد والنشيد رفع الصوت ، كذا في الفتح . فائدة : قال القاري : يحرم على الأصح عند الشافعية وأكثرهم على الكراهة نقل تراب الحرام وحجره إلى غيره ولو إلى حرم المدينة ، كما يمنع نقل تراب حرم المدينة وحجره إلى غيره ولو إلى حرم مكة – انتهى . وقال ابن جاسر في مفيد الأنام : قال الإمام أحمد : لا يخرج من تراب المدينة ، كذلك قال ابن عمر وابن عباس ، ولا يخرج من حجارة مكة إلى الحل . قال في المنتهى : وكره إخراج تراب الحرم وحجارته إلى الحل – انتهى . وقال المحب الطبري في القرى :

(19/457)


روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما كرها أن يخرج من تراب الحرم وحجارته إلى الحل شيء ، أخرجه الشافعي ، وقال : قال غير واحد من أهل العلم : لا ينبغي أن يخرج شيء من الحرم إلى غيره . وقال أبو حنيفة لا بأس ، وعن عطاء أنه كان يكره أن يخرج تراب الحرم إلى الحل ، أو يدخل تراب الحل إلى الحرم أخرجه سعيد بن منصور – انتهى . وارجع لمزيد البسط إلى شفاء الغرام (ج 1 : ص 71) .
2742- قوله ( لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح ) أي بلا ضرورة عند الجمهور ومطلقا عند الحسن وحجة الجمهور ما رواه البراء قال : اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة فأبي أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم لا يدخل مكة
رواه مسلم .
2743 – (4) وعن أنس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة يوم الفتح ،

(19/458)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سلاحا إلا في القراب . وما رواه ابن عمر (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج معتمرا فحال كفار قريش بينه وبين البيت )) الحديث . وفيه (( قاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفا )) إلخ . أخرجهما أحمد والبخاري . قال الشوكاني : في الحديثين دليل على جواز حمل السلاح بمكة للعذر والضرورة فيخصص بهذين الحديثين عموم حديث جابر عند مسلم يعني به حديث الباب . قال فيكون هذا النهى فيما عدا من حمله للحاجة والضرورة ، وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم أي أن النهى محمول على حمل السلاح بغير ضرورة ولا حاجة ، فإن كانت حاجة جاز ، قال : وهكذا يخصص بحديثي البراء وابن عمر عموم قول ابن عمر للحجاج (( وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم )) فيكون مراده لم يكن السلاح ، يدخل الحرم لغير حاجة ، فإنه قد دخل به - صلى الله عليه وسلم - غير مرة كما في دخوله يوم الفتح هو وأصحابه ، ودخوله - صلى الله عليه وسلم - للعمرة كما في حديث البراء وابن عمر – انتهى . وقال النووي في شرح حديث جابر . هذا النهى إذا لم تكن حاجة فإن كانت حاجة جاز ، هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء . قال القاضي عياض : هذا محمول عند أهل العلم على حمل السلاح لغير ضرورة ولا حاجة ، فإن كانت حاجة جاز ، قال القاضي : وهذا مذهب مالك والشافعي وعطاء قال : وكرهه الحسن البصري أي مطلقا تمسكا بظاهر هذا الحديث يعني النهى ، وحجة الجمهور دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - عام عمرة القضاء بما شرطه من السلاح في القراب ودخوله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح متأهبا للقتال – انتهى . وقال ابن قدامة بعد ذكر حديث البراء : هذا ظاهر في إباحة حمله عند الحاجة لأنهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن ينقضوا العهد ويخفروا الذمة واشترطوا حمل السلاح في قرابه ، فأما من غير خوف فإن أحمد قال : لا إلا

(19/459)


من ضرورة . وإنما منع منه لأن ابن عمر قال : لا يحمل المحرم السلاح في الحرم . وقال القاري بعد ذكر كلام القاضي عياض : وفيه بحث ظاهر ، إذا المراد بحمل السلاح ظاهرا بحيث يكون سبب لرعب مسلم أو أذى أحد كما هو مشاهد اليوم ويؤيده أنه كان ابن عمر يمنع ذلك في أيام الحجاج ، وأما عام الفتح فهو مستثنى من هذا الحكم فإنه كان أبيح له ما لم يبح لغيره من نحو حمل السلاح – انتهى . قلت : والحق ما ذهب إليه الجمهور من حمل حديث جابر على حمل السلاح لغير ضرورة وحاجة لأن فيه الجمع بين الأحاديث ، وأما تخصيصه بحمل السلاح ظاهر بحيث يكون سببا لرعب مسلم أو أذى أحد فلا يخفى ما فيه ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا البيهقي (ج 5 : ص 156) والحديث من أفراد مسلم ووهم المحب الطبري حيث عزاه إلى الشيخين .
2743- قوله ( دخل مكة ) لثلاث عشرة خلت من رمضان سنة ثمان من الهجرة ( يوم الفتح ) أي فتح مكة وكان خرج من المدينة إليها لليلتين خلتا من رمضان ، وقال الواقدي : خرج لعاشر رمضان قال الحافظ : هذا ليس بقوى
وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل ،

(19/460)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لمخالفة ما هو أصح منه ( وعلى رأسه المغفر ) بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء آخره راء ويقال له مغفرة بزيادة هاء التأنيث آخره ، وهو زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة ، حكاه في الصحاح عن الأصمعي ، وصدر به صاحب المحكم كلامه ، ثم قال : وقيل : هو رفرف البيضة ، وقيل : وهو حلق يتقنع به المتسلح وقال في المشارق : هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة والخمار ، وقال في التمهيد : هو ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة وشبهها من حديد كان أو غيره ، قال الحافظ في الحج : وفي رواية زيد بن الحباب عن مالك ( عن ابن شهاب عن أنس ) : وعليه مغفر من حديد . أخرجه الدارقطني في الغرائب والحاكم في الإكليل ، وكذا هو في رواية أبي أويس ( عن ابن شهاب عند ابن سعد وابن عدي ) وقال في المغازي : في رواية أبي عبيد القاسم بن سلام عن يحيى بن بكير عن مالك (( مغفر من حديد )) قال الدارقطني : تفرد به أبو عبيد ، وهو في الموطأ ليحيى بن بكير مثل الجماعة . ورواه عن مالك جماعة من أصحابه خارج الموطأ بلفظ (( مغفر من حديد ) ثم ساقه من رواية عشرة عن مالك كذلك ، وكذلك هو عند ابن عدي من رواية أبي أويس عن ابن شهاب ، وعند الدارقطني من رواية شبابة بن سوار عن مالك – انتهى . واعلم أنه لا معارضة بين حديث أنس هذا وبين حديث جابر الآتي أنه دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء ، لإمكان أن المغفر فوق العمامة وهي تحته وقاية لرأسه من صدء الحديد ، أو كانت العمامة السوداء ملفوفة فوق المغفر ، ويحتمل أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر بدليل قوله في حديث عمرو بن حريث عند مسلم : خطب الناس وعليه عمامة سوداء ، لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة . قال الزرقاني بعد ذكر هذه الوجوه : فزعم الحاكم في

(19/461)


الإكليل تعارض الحديثين متعقب بأنه إنما يتحقق التعارض إذا لم يمكن الجمع وقد أمكن ها هنا بوجوه حسان . وقال الحافظ زعم الحاكم في الإكليل أن بين حديث أنس وبين حديث جابر معارضة وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك فحكى كل منها ما رآه ، ويؤيده أن في حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء وكانت الخطبة عند باب الكعبة ، وذلك بعد تمام الدخول ، وهذا الجمع لعياض ، وقال غيره : يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدء الحديد ، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متهيأ للحرب وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم ( فلما نزعه ) أي المغفر من رأسه ( جاء رجل ) قال الحافظ : لم أقف على اسمه إلا أنه يحتمل أن يكون هو الذي باشر قتله وقد جزم الفاكهي في شرح العمدة بأن الذي جاء بذلك هو أبو برزة الأسلمي ، وكأنه لما رجح عنده أنه هو الذي قتله رأي أنه هو الذي جاء مخبرا بقصته ويوشحه قوله في رواية يحيى بن قزعة في المغازي فقال اقتله بصيغة
وقال : إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة . فقال : " اقتله " .

(19/462)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإفراد على أنه اختلف في اسم قاتله . وقال العيني : قوله (( جاءه رجل )) هو أبو برزة الأسلمي واسمه نضلة بن عبيد وجزم به الكرماني والفاكهي في شرح العمدة . قال الزرقاني : وكذا ذكره ابن طاهر وغيره . وقيل اسمه سعيد بن حريث ( إن ابن خطل ) بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة وآخره لام كان اسمه عبد العزي ، فلما أسلم سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله ، ومن قال : اسمه هلال التبس عليه بأخ له اسمه هلال ، بين ذلك الكلبي في النسب ، وقيل : هو عبد الله بن هلال بن خطل . وقيل : غالب بن عبد الله بن خطل ، واسم خطل عبد مناف من بني تيم بن فهر بن غالب ، كذا في الفتح ، وهو أحد من أهدر دمه يوم الفتح ، وقال : لا أؤمنهم في حل ولا حرم ، وقد جمع الواقدي عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس ستة رجال وأربع نسوة ، قاله الحافظ والعيني ، والسبب في قتل ابن خطل وعدم دخوله في قوله : من دخل المسجد فهو آمن ، ما رواه ابن إسحاق في المغازي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل مكة قال : لا يقتل أحد إلا من قاتل إلا نفرا سماهم فقال : اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة ، منهم عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد ، وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى يخدمه وكان مسلما فنزل منزلا فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا ولحق بمكة وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال الحافظ : وروى الفاكهي من طريق ابن جريج قال : قال مولى ابن عباس : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا من الأنصار ورجلا من مزينة وابن خطل وقال : أطيعا الأنصاري حتى ترجعا ، فقتل ابن خطل

(19/463)


الأنصاري وهرب المزني . وقال النووي : قال العلماء : إنما قتله لأنه كان قد ارتد عن الإسلام وقتل مسلما كان يخدمه وكان يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسبه ، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء المسلمين – انتهى . قال ابن عبد البر : فهذا القتل قود من دم مسلم . وكذا قال الخطابي : لم ينفذ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمان وقتله بحق ما جناه في الإسلام ( متعلق بأستار الكعبة ) جمع ستر وكان تعلقه بها استجارة بها ، وذلك كما ذكر الواقدي أنه خرج إلى الجندمة ليقاتل على فرس وبيده قناة ، فلما رأى خيل الله والقتل دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة فرجع حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه وطرح سلاحه ودخل تحت أستارها فأخذ رجل من الركب سلاحه وفرسه فاستوى عليه وأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ( فقال : اقتله ) زاد الوليد بن مسلم عن مالك : فقتل ، أخرجه ابن عائذ وصححه ابن حبان وأخرج عمر بن شبة في كتاب مكة عن السائب بن يزيد ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخرج من تحت أستار الكعبة ابن خطل فضربت عنقه صبرا بين زمزم ومقام إبراهيم وقال : " لا يقتل قرشي بعد هذا صبرا " . رجاله ثقات إلا أن في أبي معشر مقالا ، قاله الحافظ . واختلف في قاتله هل هو سعيد بن حريث أو عمار بن ياسر أو سعد بن أبي وقاص أو سعيد بن زيد أو أبو برزة - بفتح الموحدة وإسكان الراء المهملة ثم زاي معجمة مفتوحة –
....................................................................................

(19/464)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأسلمي ، وهو أصح ما جاء في تعيين قاتله ورجحه الواقدي ، وجزم به البلاذري وغيره ، وتحمل بقية الروايات المخالفة له على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر منهم أبو برزة ، وجزم ابن هشام في تهذيب السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة اشتركا في قتله ، قاله الزرقاني . وقال الحافظ في الحج بعد ذكر ما ورد من الروايات المختلفة في ذلك ما لفظه : وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وإسناده صحيح مع إرساله ، وله شاهد عند ابن المبارك في البر والصلة من حديث أبي برزة نفسه ، ورواه أحمد من وجه آخر وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله ، وبه جزم البلاذري وغيره من أهل العلم بالأخبار ، وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة ، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه ، فقد جزم ابن هشام في السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله ، ومنهم من سمى قاتله سعيد بن ذويب ، وحكى المحب الطبري أن الزبير بن العوام هو الذي قتل ابن خطل – انتهى . وقال في المغازي : اختلف في قاتله ، وقد جزم ابن إسحاق بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله ، وحكى الواقدي فيه أقوالا ، منها أن قاتله شريك بن عبدة العجلاني ، ورجح أنه أبو برزة - انتهى . واستدل بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة على أن الكعبة لا تعيذ من وجب عليه القتل ، وأنه يجوز قتل من وجب عليه القتل في الحرم . قال الحافظ : استدل بقصة ابن خطل على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة ، قال ابن عبد البر : كان قتل ابن خطل قودا من قتله المسلم ، وقال السهيلي : فيه أن الكعبة لا تعيذ عاصيا ولا تمنع من إقامة حد واجب . وقال النووي : تأويل من قال لا يقتل فيها على أنه - صلى الله عليه وسلم - قتله في الساعة التي أبيحت له ، وأجاب عنه

(19/465)


أصحابنا بأنها إنما أبيحت له ساعة الدخول حتى استولى عليها وأذعن أهلها ، وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك – انتهى . وتعقب بأن المراد بالساعة التي أحلت له ما بين أول النهار ودخول وقت العصر ، وقتل ابن خطل كان قبل ذلك قطعا لأنه قيد في الحديث بأنه كان عند نزعه المغفر ، وذلك عند استقراه بمكة . وقد قال ابن خزيمة : المراد بقوله في حديث ابن عباس ما أحل الله لأحد فيه القتل غيري أي قتل النفر الذين قتلوا يومئذ ابن خطل ومن ذكر معه ، قال : وكان الله قد أباح له القتال والقتل معا في تلك الساعة ، وقتل ابن خطل وغيره بعد تقضي القتال – انتهى . وقال في المغازي : في الاستدلال بقتل ابن خطل على ذلك نظر ، لأن المخالفين تمسكوا بأن ذلك إنما وقع في الساعة التي أحل للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيها القتال بمكة ، وقد صرح بأن حرمتها عادت كما كانت ، والساعة المذكورة وقع عند أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنها استمرت من صبيحة يوم الفتح إلى العصر – انتهى . قال الطيبي : دل الحديث على جواز الدخول بغير إحرام لمن لا يريد النسك ، وهذا أصح قولي الشافعي ، وقال الحافظ : هذا الحديث ظاهره أنه - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة يوم الفتح لم يكن محرما ، وقد صرح بذلك مالك راوي الحديث كما ذكره البخاري في
متفق عليه .
2744 – (5) وعن جابر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء

(19/466)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المغازي عن يحيى بن قزعة عن مالك عقب هذا الحديث . قال مالك : ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نرى والله أعلم يومئذ محرما . وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك جازما به ، أخرجه الدارقطني في الغرائب ، ووقع في الموطأ من رواية أبي مصعب وغيره قال مالك : قال ابن شهاب : ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ محرما ، وهذا مرسل ، ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر بلفظ : دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام – انتهى . وأجيب عن ذلك بأنه لا دلالة في قصة ابن خطل على جواز دخول مكة بغير إحرام لاحتمال أن يكون - صلى الله عليه وسلم - كان محرما ولكنه غطى رأسه لعذر ، وفيه أن هذا مخالف لتصريح جابر بأنه لم يكن يومئذ محرما . قال الحافظ : لكن فيه إشكال من وجه آخر لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان متأهبا للقتال ، ومن كان كذلك جاز له الدخول بغير إحرام عند الشافعية وإن كان عياض نقل الاتفاق على مقابله ، وأما من قال من الشافعية كابن القاص : دخول مكة بغير إحرام من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ففيه نظر لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل – انتهى . وقال الشمني كما في المرقاة : دخوله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح بغير إحرام حكم مخصوص بذلك الوقت ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم : " إنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما " – انتهى . وقد تقدم بسط الكلام على هذه المسألة مع بيان المذاهب ودلائلها في شرح حديث ابن عباس في المواقيت فارجع إليه . قال الحافظ : وفي الحديث مشروعية لبس المغفر وغيره من آلات السلاح حال الخوف من العدو وأنه لا ينافي التوكل ، وقد تقدم في باب متى يحل المعتمر من أبواب العمرة من حديث عبد الله بن أبي أوفي : اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(19/467)


فلما دخل مكة طاف وطفنا معه وكنا نستره من أهل مكة أن يرميه أحد – الحديث . وإنما احتاج إلى ذلك لأنه كان حينئذ محرما فخشي الصحابة أن يرميه بعض سفهاء المشركين بشيء يؤذيه فكانوا حوله يسترون رأسه ويحفظونه من ذلك ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي المغازي وفي اللباس ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا أحمد ومالك في الحج وأبو داود والترمذي في الجهاد والنسائي في الحج وفي السير وابن ماجة في الحج والدرامي والبيهقي (ج 5 : ص 177) .
2744 – قوله ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة ) بكسر العين ( سوداء ) قال النووي : فيه جواز لباس الثياب السود ، وفي الرواية الأخرى (( خطب الناس وعليه عمامة سوداء )) فيه جواز لباس الأسود في الخطبة وإن كان الأبيض أفضل منه كما ثبت في الحديث الصحيح (( خير ثيابكم البياض )) وأما لباس الخطباء السواد في حال الخطبة فجائز ولكن الأفضل البياض كما ذكرنا ، وإنما لبس العمامة السوداء في هذا الحديث بيانا للجواز – انتهى .
بغير إحرام . رواه مسلم .
2745 – (6) وعن عائشة ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يغزو جيش الكعبة ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم " . قلت : يا رسول الله ! وكيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( بغير إحرام ) هذا يرد ما أبدى الشيخ ابن دقيق العيد في شرح العمدة في ستر الرأس بالمغفر في حديث أنس احتمالا فقال : يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - كان محرما لكن غطى رأسه لعذر ، وقد تقدم في كلام الحافظ ما في أصل الاستدلال من الإشكال ، وقد بسطه الولي العراقي في طرح التثريب (ج 5 : ص 85) فارجع إليه ( رواه مسلم ) في الحج وأخرجه أيضا أحمد (ج 3 : ص 387) والنسائي وابن ماجة والدرامي والبيهقي (ج 5 : ص 177) .

(19/468)


2745 – قوله ( وعن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يغزو ) بالغين والزاي المعجمتين أي يقصد ( جيش ) أي عسكر عظيم في آخر الزمان ( الكعبة ) أي ليخربها . وقال العيني : قوله (( يغزو جيش الكعبة )) أي يقصد عسكر من العساكر تخريب الكعبة ، وهذا لفظ البخاري . وفي رواية مسلم (( عبث النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه فقلنا له : صنعت شيئا لم تكن تفعله ؟ قال النووي : قوله (( عبث )) هو بكسر الباء ، قيل معناه اضطراب بجسمه ، وقيل حرك أطرافه كمن يأخذ شيئا أو يدفعه ( فإذا كانوا ببيداء من الأرض ) في رواية لمسلم (( بالبيداء )) وفي حديث صفية عند الترمذي وابن ماجة (( بالبيداء أو ببيداء من الأرض )) أي على الشك . وفي راوية لمسلم عن أبي جعفر الباقر قال : هي بيداء المدينة . وهي بفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف ممدودة ، وهي في الأصل المفازة التي لا شيء فيها . قال العيني : وهي في هذا الحديث اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة . وقال النووي : قال العلماء : البيداء كل أرض ملساء لا شيء بها ، وبيداء المدينة الشرف الذي قدام ذي الحليفة أي إلى جهة مكة ( يخسف ) على بناء المفعول ( بأولهم وآخرهم ) أي يخسف بكلهم الأرض . قال الحافظ : زاد الترمذي في حديث صفية (( ولم ينج أوسطهم )) وزاد مسلم في حديث حفصة (( فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم )) واستغنى بهذا عن تكلف الجواب عن حكم الأوسط ، أو أن العرف يقضي بدخول الأوسط في من هلك أو لكونه آخرا بالنسبة للأول وأولا بالنسبة للآخر فيدخل ، وقال العيني : قوله (( يخسف بأولهم وآخرهم )) يعني كلهم ، هذا الذي يفهم منه بحسب العرف . قال الكرماني : لم يعلم منه العموم ، إذ حكم الوسط غير مذكور ، والجواب ما قلنا ، أو نقول : إن الوسط آخر بالنسبة إلى الأول وأول بالنسبة إلى الآخر ، على أن في رواية صفية (( ولم ينج أوسطهم )) وهذا يغني عن تكلف الجواب ( وفيهم

(19/469)


أسواقهم ) جملة حالية ، وهو جمع سوق والتقدير أهل أسواقهم الذين يبيعون ويشترون كما في المدن ، وعليه ترجم البخاري بلفظ (( باب ما ذكر في الأسواق )) وقال الطيبي : إن كان جمع سوق فالتقدير أهل أسواقهم ، وإن
ومن ليس منهم ؟ قال : " يخسف بأولهم وآخرهم ، ثم يبعثون على نياتهم " . متفق عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كان جمع سوقة وهي الرعايا فلا حاجة إلى التقدير . وفي مستخرج أبي نعيم (( وفيهم أشرافهم )) بالشين المعجمة والراء والفاء ، وفي رواية محمد بن بكار عند الإسماعيلي (( وفيهم سواهم )) قال الإسماعيلي : ووقع في رواية البخاري أسواقهم أي بالمهملة والقاف ، وأظنه تصحيفا ، فإن الكلام في الخسف بالناس لا بالأسواق . قال الحافظ : بل لفظ (( سواهم )) تصحيف فإنه بمعنى قوله الآتي (( ومن ليس منهم )) فيلزم منه التكرار ، بخلاف رواية البخاري ، نعم أقرب الروايات إلى الصواب رواية أبي نعيم ، وليس في لفظ أسواقهم ما يمنع أن يكون الخسف بالناس ، فالمراد بالأسواق أهلها أن يخسف بالمقاتلة منهم ومن ليس من أهل القتال كالباعة . وفي رواية مسلم (( فقلنا : إن الطريق قد يجمع الناس ، قال : نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل )) والمستبصر هو المستبين لذلك القاصد للمقاتلة عمدا ، والمجبور بالجيم والموحدة أي المكره . قال النووي : يقال أجبرته فهو مجبر ، هذه اللغة المشهورة ، ويقال أيضا جبرته فهو مجبور ، حكاها الفراء وغيره ، وجاء هذا الحديث على هذه اللغة ، وأما ابن السبيل فهو سالك الطريق معهم وليس منهم ، والغرض أنها استشكلت وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة فوقع الجواب بأن العذاب يقع عاما لحضور آجالهم ويبعثون بعد ذلك على نياتهم ( ومن ليس منهم ) أي في الكفر والقصد بتخريب الكعبة عطف على أسواقهم . قال الطيبي : أي من لا يقصد تخريب الكعبة بل هم الضعفاء والأسارى ( قال : يخسف

(19/470)


بأولهم وآخرهم ) فيدخل فيهم هؤلاء وإن لم يكن قصدهم لأنهم كثروا في سوادهم ( ثم يبعثون على نياتهم ) قال العيني : أي يخسف بالكل لشؤم الأشرار ، ثم إنه تعالى يبعث كلا منهم في الحشر بحسب قصده ونيته إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وفي رواية مسلم (( يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى )) قال النووي : أي يقع الهلاك على جميعهم ويبعثون مختلفين على قدر نياتهم فيجازون بحسبها انتهى . وفي حديث أم سلمة عند مسلم (( فقلت : يا رسول الله فكيف بمن كان كارها ؟ قال : يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته )) قال الحافظ : أي يخسف بالجميع لشؤم الأشرار ثم يعامل كل أحد عند الحساب بحسب قصده . وفي هذا الحديث من الفقه التباعد من أهل الظلم والتحذير من مجالستهم لئلا يناله ما يعاقبون به قال تعالى : ? واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ? ( سورة الأنفال : الآية 25) ، وفيه أن من كثر سواد قوم جرى عليهم حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا ، قال الحافظ : في هذا الحديث أن الأعمال تعتبر بنية العامل والتحذير من مصاحبة أهل الظلم ومجالستهم وتكثير سوادهم إلا لمن اضطر لذلك ، ويتردد النظر في مصاحبة التاجر لأهل الفتنة هل هي إعانة لهم على ظلمهم أو هي ضرورات البشرية ، ثم يعتبر عمل كل أحد بنيته وعلى الثاني يدل ظاهر الحديث – انتهى . ( متفق عليه) أخرجه البخاري في البيوع ومسلم في الفتن واللفظ للبخاري ، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج 6: ص 105) وفي
2746 – (7) وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الباب عن أم سلمة عند أحمد (ج 6 : ص 259 ، 290) ومسلم وابن ماجة والحاكم ، وعن حفصة عند أحمد (ج 6 : ص 286 ، 287) ومسلم والنسائي وابن ماجة والحاكم ، وعن صفية أخرجه أحمد (ج 6 : ص 336 ، 337) والترمذي وابن ماجة في الفتن .

(19/471)


2746 - قوله ( يخرب الكعبة ) بضم الياء وفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء المكسورة من التخريب ، وبإسكان الخاء وتخفيف الراء المكسورة من الإخراب ، والجملة فعل ومفعول والفاعل قوله ( ذو السويقتين ) بضم السين وفتح الواو تثنية سويقة مصغر الساق ألحق بها التاء للتصغير ، لأن الساق مؤنثة والتصغير للتحقير والإشارة إلى الدقة لأن الغالب على سيقان الحبشة الدقة والحموشة فلذا صغرها ( من الحبشة ) من للتبعيض أي يخربها ضعيف من هذه الطائفة ، وقال الطيبي : سر تصغير الإشارة إلى أن مثل هذه الكعبة المعظمة يهتك حرمتها مثل هذا الحقير الذميم الخلقة ، ويحتمل أن يكون الرجل اسمه ذلك ، أو أنه وصف له ، أي رجل من الحبشة دقيق الساقين رقيقهما جدا ، والحبشة وإن كان شأنهم دقة السوق لكن هذا يتميز بمزيد من ذلك - انتهى . والحبش والحبشة نوع من السودان ، قال في القاموس : الحبش والحبشة محركتين والأحبش بضم الباء جنس من السودان الجمع حبشان وأحابش - انتهى . قال الرشاطي : وهم من ولد كوش بن حام وهم أكثر السودان ، وقد وقع هذا الحديث عند أحمد (ج 2 : ص 351) من طريق سعيد بن سمعان عن أبي هريرة بأتم من هذا السياق ولفظه : يباع لرجل بين الركن والمقام ولم يستحل هذا البيت إلا أهله ، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب ثم تأتي الحبشة فيخربونه خرابا لا يعمر بعده أبدا ، وهم الذين يستخرجون كنزه ، وهذا التخريب يكون عند قرب الساعة حين لا يبقى في الأرض أحد يقول : الله الله . قال القرطبي : قيل إن خرابه يكون بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحف ، وذلك بعد موت عيسى عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح – انتهى . قلت : وقع عند أحمد (ج 2 : ص 310) من طريق ابن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " في آخر الزمان يظهر ذو السويقتين على الكعبة ، قال : حسبت أنه قال : فيهدمها . قال الحافظ : قيل حديث أبي هريرة يخالف قوله تعالى :

(19/472)


? أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ? ولأن الله حبس عن مكة الفيل ولم يمكن أصحابه من تخريب الكعبة ولم تكن إذ ذاك قبلة فكيف يسلط عليها الحبشة بعد أن صارت قبلة للمسلمين ، وأجيب بأن ذلك محمول على أنه يقع في آخر الزمان قرب قيام الساعة حيث لا يبقى على الأرض أحد يقول الله الله كما ثبت في صحيح مسلم : " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " . ولهذا وقع في رواية سعيد بن سمعان : لا يعمر بعده أبدا ، وقد وقع قبل ذلك فيه من القتال وغزو أهل الشام له في زمن يزيد بن معاوية ثم من بعده في وقائع كثيرة من أعظمها وقعة القرامطة بعد الثلاث مائة فقتلوا من
متفق عليه .

(19/473)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المسلمين في المطاف من لا يحصى كثرة وقلعوا الحجر الأسود فحولوه إلى بلادهم ثم أعادوه بعد مدة طويلة ثم غزى مرارا بعد ذلك وكل ذلك لا يعارض قوله تعالى ? أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ? لأن ذلك إنما وقع بأيدي المسلمين فهو مطابق لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولن يستحل هذا البيت إلا أهله . فوقع ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - ، وهو من علامات نبوته وليس في الآية ما يدل على استمرار الأمر المذكور فيها – انتهى كلام الحافظ . وقال العيني : لا يلزم من قوله (( حرما آمنا )) أن يكون ذلك دائما في كل الأوقات ، بل إذا حصلت له حرمة وأمن في وقت ما صدق عليه هذا اللفظ وصح المعنى ، ولا يعارضه ارتفاع ذلك المعني في وقت آخر . وقال عياض (( حرما آمنا )) أي إلى قرب القيامة . وقال ابن الجوزي إن قيل ما السر في حراسة الكعبة من الفيل ولم تحرس في الإسلام مما صنع بها الحجاج والقرامطة وذو السويقتين ؟ فالجواب : أن حبس الفيل كان من أعلام النبوة لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودلائل رسالته لتأكيد الحجة عليهم بالأدلة التي شوهدت بالبصر قبل الأدلة التي ترى بالبصائر ، وكان حكم الحبس أيضا دلالة على وجود الناصر – انتهى . هذا . وقد عقد البخاري باب قول الله تعالي : ? جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ? ( سورة المائدة : الآية 98) ثم أورد فيه حديث أبي هريرة هذا . قال العيني : أشار به إلى أن قوام أمور الناس وانتعاش أمر دينهم ودنياهم بالكعبة يدل عليه قوله ? قياما للناس ? فإذا زالت الكعبة على يد ذي السويقتين تختل أمورهم ، فذلك أورد حديث أبي هريرة فيه – انتهى . وقال الحافظ : كأنه يشير إلى أن المراد بقوله ? قياما ? أي قواما وأنها ما دامت موجودة فالدين قائم فلهذه النكتة أورد في الباب قصة هدم الكعبة في آخر الزمان ، ثم ترجم

(19/474)


البخاري لحديث أبي هريرة هذا ، وحديث ابن عباس الآتي (( باب هدم الكعبة )) وذكر فيه طرف حديث عائشة المتقدم بلفظ (( قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يغزو جيش الكعبة فيخسف بهم ، قال الحافظ : فيه إشارة إلى أن غزو الكعبة سيقع ، فمرة يهلكم الله قبل الوصول إليها وأخرى يمكنهم ، والظاهر أن غزو الذين يخربونه متأخر عن الأول ، وقال العيني : غزو الكعبة المذكور في حديث عائشة مقدمة لهدمها لأن غزوها يقع مرتين ففي الأولى هلاكهم وفي الثانية هدمها ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في الحج ومسلم في الفتن ، وأخرجه أيضا أحمد كما تقدم والحاكم والنسائي في الحج وفي التفسير ، هذا وقد جاء في تخريب الكعبة أحاديث ، منها حديث ابن عباس الآتي ومنها ما رواه أبو داود الطيالسي بسند صحيح ، ومنها ما رواه أحمد (ج 2 : ص 220) والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا (( يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها ، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله )) ومنها ما رواه ابن الجوزي من حديث حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا طويلا وفيه (( وخراب مكة من الحبشة على يد حبشي أفحج الساقين أزرق العينين أفطس
2747 – (8) وعن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " كأني به أسود أفحج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأنف كبير البطن معه أصحابه ينقضونها حجرا حجرا ويتناولونها حتى يرموا بها يعني الكعبة إلى البحر )) . وفي كتاب الغريب لأبي عبيد عن علي ، قال : استكثروا من الطوائف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه فكأني برجل من الحبشة أصلع وأصمع حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم ، وخرجه الحاكم مرفوعا ، وفيه (( أصمع أقرع ، بيده معول وهو يهدمها حجرا حجرا )) ذكره العيني .

(19/475)


2747– قوله ( كأني به ) قال الحافظ : كذا في جميع الروايات عن ابن عباس في هذا الحديث ، والذي يظهر أن في الحديث شيئا حذف ويحتمل أن يكون هو ما وقع في حديث علي عند أبي عبيد في غريب الحديث من طريق أبي العالية عن علي ، قال : استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه فكأني برجل من الحبشة أصلع أو قال : أصمع حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم ، ورواه الفاكهي من هذا الوجه ، ولفظه (( أصعل )) بدل (( أصلع )) وقال (( قائما عليها يهدمها بمسحاته )) ورواه يحيى الحماني في مسنده من وجه آخر عن علي مرفوعا – انتهى . وتعقبه العيني بأنه لا يحتاج إلى تقدير حذف لأنه إنما يقدر في موضع يحتاج إليه للضرورة ولا ضرورة ها هنا . قال : ودعواه الظهور غير ظاهرة لأنه لا وجه في تقدير محذوف لا حاجة إليه بما جاء في أثر عن صحابي ولا يقال الأحاديث يفسر بعضها بعضا ، لأنا نقول هذا إنما يكون عند الاحتياج إليه ولا احتياج ها هنا إلى ذلك . قال : والضمير في لفظ (( به )) يحتمل ثلاثة أوجه : الأول أن يعود إلى البيت والقرينة الحالية تدل عليه ، أي كأني متلبس به ، الثاني أن يعود إلى القالع ( الآتي ذكره ) بالقرينة الحالية أيضا ، الثالث ما قاله الطيبي وهو أنه ضمير مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز كقوله تعالى : ? فقضاهن سبع سموات ? ( سورة حم السجدة : الآية 11) فإن ضمير (( هن )) هو المبهم المفسر بسبع سموات وهو تمييز ، وهذه الأوجه صحيحة ماشية على قاعدة العربية فلا يحتاج إلى تقدير حذف ( أسود ) بالرفع على أنه مبتدأ خبره يقلعها والجملة حال بدون الواو والضمير في به للبيت أي كأني متلبس به وأنظر إليه أو يكون ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف والضمير في (( به )) للقالع ، والتقدير كأني بالقالع هو أسود ، ويروى أسود منصوبا على الذم أو الاختصاص أو الحال . قال التوربشي والدماميني : يجوز أن يكون أسود أفحج حالين متداخلتين أو

(19/476)


مترادفتين من الضمير في به ، وقال المظهري : هما بدلان من الضمير المجرور وفتحا لأنهما غير منصرفين ، ويجوز إبدال المظهر من المضمر الغائب نحو ضربته زيدا ، وتقدم ما قال الطيبي : أن الضمير في به مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز فهما منصوبان على التمييز ( أفحج ) بفتح الهمزة وسكون الفاء بعدها وفتح الحاء المهملة وبالجيم من الفحج بفاء ثم حاء مهملة ثم جيم وهو بالنصب أو الرفع كسابقه ، والفحج تداني صدور القدمين وتباعد العقبين من باب علم وفتح ، وقيل الفحج تباعد ما بين الساقين وقيل هو
يقلعها حجرا حجرا " . رواه البخاري .
( الفصل الثاني )
2748 – (9) عن يعلى بن أمية ، قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه " . رواه أبو داود .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يباعد ما بين الفخذين . قال في القاموس : فحج كمنع ، تكبر وفي مشيته تداني صدور قدميه وتباعد عقباه كفحج وهو أفحج بين الفحج محركة التفريج بين الرجلين – انتهى . والفجج بجيمين فتح ما بين الرجلين وهو أقبح من الفحج ( يقلعها ) أي يقلع الأسود الأفحج بناء الكعبة ( حجرا حجرا ) نصب على الحال من الهاء نحو بوبته بابا بابا ، أي مبوبا وقال الكرماني : أو هو بدل من الضمير أي المنصوب في يقلعها ( رواه البخاري ) في الحج وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 228) بلفظ : كأني أنظر إليه أسود أفحج ينقضها حجرا حجرا يعني الكعبة .

(19/477)


2748- قوله ( عن يعلى ) بفتح المثناة تحت واللام بينهما مهملة ساكنة ( بن أمية ) بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد الياء ( احتكار الطعام ) أي احتباسه لانتظار الغلاء به ، قال المناوي : وليس عموم الطعام مرادا بل المراد اشتراه ما يقتات وحبسه ليقل فيغلو فيبيعه بكثير . قال العزيزي : وخصه الشافعية بما اشتراه في زمن الغلاء وأمسكه ليزيد السعر ( في الحرم ) أي المكي بدليل حديث ابن عمر عند الطبراني في الأوسط بلفظ (( احتكار الطعام بمكة إلحاد )) والمراد بمكة جميع الحرم بدليل حديث يعلي ، فكل من الحديثين مبين للآخر ( إلحاد فيه ) الإلحاد الميل عن الاستقامة والانحراف عن الحق إلى الباطل ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها ولم يمله من دين إلى دين ، ذكره الزمخشري . قال الله تعالى : ? ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ? ( سورة الحج : الآية 26) أي ومن يهم فيه بعمل من المعاصي عذب عليه لعظم حرمة المكان . قال العلقمي : أصل الإلحاد الميل ، وهذا الإلحاد والظلم يعم جميع المعاصي الكبائر والصغائر لعظم حرمة المكان فمن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة ، قال المناوي : احتكار الطعام حرام في سائر البلاد وبالحرم المكي أشد تحريما ، وإنما سماه ظلما لأن الحرم واد غير ذي زرع فالواجب على الناس جلب الأقوات إليه للتوسعة على أهله فمن ضيق عليهم بالاحتكار فقد ظلم لأنه وضع الشيء في غير محله فاستحق الوعيد الشديد – انتهى . وقال العزيزي : احتكار الطعام هو شراء ما يقتات وحبسه إلى الغلاء فهو حرام ولو في غير الحرم وخص الحرم لأن الإثم به أشد ، وأما لو اشتري غير طعام أو طعاما غير مقتات بقصد ادخاره إلى الغلاء لم يحرم ، وخرج بالشراء ما لو كان عنده بر مثلا يأكله فادخره إلى الغلاء فلا يحرم ، وكذا لو اشتراه بقصد أن يبيعه حالا أوفي زمن الرخاء فلا حرمة ( رواه أبو داود ) في الحج من حديث جعفر بن يحيى بن ثوبان

(19/478)


عن عمه عمارة بن ثوبان عن
2749 – (10) وعن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكة : " ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك " . رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن صحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ موسى بن باذان عن يعلى ، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (ج 4 : ص 255) في ترجمة مسلم بن باذان ، قال البخاري : قال أبو عاصم عن جعفر بن يحيى بن ثوبان قال حدثني عمي عمارة بن ثوبان عن مسلم بن باذان سمع يعلى ، قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " احتكار الطعام بمكة إلحاد " . قال البخاري : هكذا وقع عندي . قال العنبري ( ؟ ) موسى ابن باذان – انتهى . قال ابن أبي حاتم في ترجمة موسى بن باذان سماه البخاري مسلم بن باذان فقال أبي وأبو زرعة جمعيا : أخطا البخاري في هذا ، أخرجه في مسلم بن باذان وإنما هو موسى بن باذان ، وحكى الحافظ في تهذيب التهذيب (ج 10 : ص 338) قول ابن أبي حاتم هذا ثم قال : قلت : قد حكى البخاري القولين في تاريخه ويظهر من سياقه ترجيح موسى – انتهى . والحديث سكت عنه أبو داود ، وقال المنذري : وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير عن يعلى بن أمية أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : احتكار الطعام بمكة إلحاد – انتهى . وأنت تعلم أن هذا مما لا مجال للرأي فيه فهو في حكم المرفوع ، وسكوت أبي داود على حديث أبي يعلى يدل على أنه حديث حسن عنده لكن نقل المناوي عن ابن القطان أنه قال : حديث لا يصح لأن موسى وعمارة وجعفرا كل منهم لا يعرف فهم ثلاثة مجهولون . وفي الميزان في ترجمة جعفر بن يحيى قال ابن المديني : أنه مجهول . وقال الذهبي : وعمه ( عمارة ) لين ، فمن مناكير جعفر عن عمه ثم ساق هذا الحديث ، ثم قال : هذا حديث واهي الإسناد . قال ابن المديني : لم يرو عن جعفر غير أبي عاصم . وقال الحافظ في تهذيب التهذيب بعد ذكر كلام ابن المديني :

(19/479)


جعفر بن يحيى ذكره ابن حبان في الثقات . وقال ابن القطان الفاسي : مجهول الحال ، وقال في التقريب : إنه مقبول ، وقال عن عمارة بن ثوبان : مستور ، وعن موسى بن باذان الفاسي : مجهول ففي كون حديث يعلى هذا حسنا نظر ، والله أعلم ، وفي الباب عن ابن عمر بن الخطاب أخرجه الطبراني في الأوسط وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال : فيه عبد الله بن المؤمل ، وثقه ابن حبان وغيره وضعفه جمع – انتهى .
2749 – وقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكة ) أي خطابا لها حين وداعها وذلك يوم فتح مكة ( ما أطيبك من بلد ) صيغة تعجب ( وأحبك إلي ) عطف عليه والأولى بالنسبة إلى حد ذاتها أو للإطلاق والثانية للتخصيص ، قاله القاري . ( ولو لا أن قومي أخرجوني ) أي صاروا سببا لخروجي ( ما سكنت غيرك ) قال القاري : هذا دليل للجمهور على أن مكة أفضل من المدينة خلافا للإمام مالك رحمه الله ، وقد صنف السيوطي رسالة في هذه المسألة ( رواه الترمذي ) في أواخر المناقب وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والحاكم (ج 1 : ص 486) كلهم من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير وأبي الطفيل عن ابن عباس ( وقال هذا حديث حسن صحيح ) وقال الحاكم حديث صحيح الإسناد
غريب إسنادا .
2750 – (11) وعن عبد الله بن عدي بن حمراء ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا على الحزورة فقال : " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ووافقه الذهبي ( غريب إسنادا ) تمييز ، وفي جامع الترمذي غريب من هذا الوجه .

(19/480)


2750- قوله ( وعن عبد الله بن عدي بن حمراء ) القرشي الزهري من أنفسهم ، وقيل إنه ثقفي حالف بني زهرة ، يكني أبا عمر ، وقيل أبا عمرو ، قال البخاري : له صحبة ورواية ، يعد في أهل الحجاز ، وكان ينزل فيما بين قديد وعسفان وهو من مسلمة الفتح ، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل مكة . روى عنه أبو سلمة ومحمد بن جبير بن مطعم ، وقوله (( حمراء )) كذا في المشكاة والمصابيح ، وهكذا وقع عند الترمذي وابن حبان ، وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجة (( الحمراء )) وهكذا ذكر الحافظ في التقريب والتهذيب والإصابة وابن عبد البر في الاستيعاب وكذا وقع في المنتقي للمجد بن تيمية والقرى للمحب الطبري ( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا على الحزورة ) بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي وفتح الواو بعدها راء ثم هاء : هي الرابية الصغيرة والجمع الحزاور ، قال الجزري : هو موضع بمكة عند باب الحناطين وهو بوزن قسورة . قال الشافعي : الناس يشددون الحزورة والحديبية وهما مخففتان – انتهى . وقال الطيبي : هو على وزن القسورة موضع بمكة وبعضهم شددها أي الواو ، والحزورة في الأصل بمعني التل الصغير ، سميت بذلك لأنه هناك كان تل صغير ، وقيل لأن وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد كان ولى أمر البيت بعد جرهم فبني صرحا هناك وجعل فيها أمة يقال لها حزورة فسميت حزورة مكة بها ، وارجع إلى شفاء الغرام (ج 1 : ص 76) ( فقال ) أي مخاطبا للكعبة وما حولها من حرمها ( والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ) فيه تصريح بأن مكة أفضل من المدينة كما عليه الجمهور . قال الشوكاني : فيه دليل على أن مكة خير أرض الله على الإطلاق وأحبها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبذلك استدل من قال إنها أفضل من المدينة ( ولو لا أني أخرجت منك ) أي بأمر من الله ( ما خرجت ) فيه دلالة على أنه لا ينبغي للمؤمن أن يخرج من مكة إلا أن يخرج منها حقيقة أو حكماه

(19/481)


، وهو الضرورة الدينية أو الدنيوية ، والحديث حجة للقائلين بفضل مكة على المدينة . قال الدميري : وأما ما روي من حديث (( اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي فأسكنني في أحب البلاد إليك )) فقال ابن عبد البر : لا يختلف أهل العلم في نكارته ووضعه ونسبوا وضعه إلى محمد بن الحسن بن زياد وتركوه لأجله ، وقال ابن دحية في تنويره : أنه حديث باطل بإجماع أهل العلم . وقال ابن مهدي : سألت عنه مالكا فقال : لا يحل أن تنسب الباطل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بين علته أبو بكر البزار والحافظ وغيرهما ، نعم السكنى بالمدينة أفضل لما ثبت من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد
رواه الترمذي ، وابن ماجة .

(19/482)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة ، ولم يرد بسكنى مكة شيء من ذلك بل كرهه جماعة من العلماء ، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها ـ وجعل ابن حزم التفضيل الحاصل بمكة ثابتا لجميع الحرم ، قاله السندي . وقال القاري : وأما خبر الطبراني (( المدينة خير من مكة )) فضعيف بل منكر واه كما قاله الذهبي ، وعلى تقدير صحته يكون محمولا على زمانه لكثرة الفوائد في حضرته وملازمة خدمته لأن شرف المدينة ليس بذاته بل بوجوده عليه الصلاة والسلام فيه ونزوله مع بركاته ، وأيضا نفس المدينة ليس أفضل من مكة اتفاقا إذ لا تضاعف فيه أصلا بل المضاعفة في المسجدين ، ففي الحديث الصحيح الذي قال بعض الحفاظ على شرط الشيخين (( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة ألف صلاة )) وصح عن ابن عمر موقوفا وهو في حكم المرفوع لأنه لا يقال مثله بالرأي : صلاة واحدة بالمسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة بمسجد النبي عليه الصلاة والسلام – انتهى . وإن شئت بسط الكلام على مسألة أفضلهما وعلى مسألة حكم المجاورة بمكة فارجع إلى النيل وشفاء الغرام (ج 1 : ص 78) والمرقاة والمحلى لابن حزم (ج 7 : ص 279) ووفاء الوفاء للسمهودي والقرى (ص 160) للمحب الطبري ( رواه الترمذي ) في آخر المناقب ( وابن ماجة ) في أواخر الحج ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 4 : ص 305) والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وسعيد بن منصور في سننه كلهم من طريق الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن حمراء ، والحديث صححه الترمذي ثم قال : ورواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء عندي أصح

(19/483)


– انتهى . وفيه أنه روى هذا الحديث أيضا الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة كما في المسند (ج 4 : ص 305) قال الحافظ في الإصابة : انفرد برواية حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء ابن شهاب الزهري ، واختلف عليه فيه ، فقال الأكثر عنه عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء وقال معمر فيه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، ومرة أرسله ، وقال ابن أخي الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدي ، والمحفوظ الأول – انتهى . قلت : روى أحمد من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ، ثم روى من طريق رباح عن معمر عن الزهري فقال عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن بعضهم ( أي الصحابة ) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ، إلخ . قال التقي الفاسي في شفاء الغرام (ج 1 : ص 76) بعد ذكر الروايتين ما لفظه : وذكر صحابنا الحافظ أبو الفضل العسقلاني أن رواية معمر شاذة يعني رواياته لهذا الحديث عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا . قال : والظاهر أن الوهم فيه من عبد الرزاق لأن معمرا كان
( الفصل الثالث )
2751 – (12) عن أبي شريح العدوي ، أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يحفظ اسم صحابيه كما جاءت رواية رباح عنه وعبد الرزاق سلك الجادة فقال عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، ثم قال : وإذا تقرر ذلك علم أن لا أصل له من حديث أبي هريرة والله أعلم – انتهى . قلت : رواه عبد الرزاق في المصنف (ج 5 : ص 27) عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة موقوفا عليه فيغلب على الظن أن الناسخ أسقط قوله (( عن أبي هريرة )) والله أعلم ، والحديث روي نحوه عن عبد الله بن عمرو أيضا كما ذكره التقي الفاسي في شفاء الغرام .

(19/484)


2751- قوله ( عن أبي شريح ) بضم الشين المعجمة وفتح الراء وبالحاء المهملة ( العدوي ) بفتح العين والدال ، قال الحافظ في كتاب الحج : كذا وقع هنا ، وفيه نظر لأنه خزاعي من بني كعب بن ربيعة بن لحي بطن من خزاعة ، ولهذا يقال له الكعبي أيضا ، وليس هو من بني عدي لا عدي قريش ولا عدي مضر ، فلعله كان حليفا لبني عدي بن كعب من قريش ، وقيل في خزاعة بطن يقال لهم : بنو عدي ، ثم قال في المغاري : كنت جوزت في الكلام على حديث الباب في الحج أنه من حلفاء بني عدي بن كعب ، وذلك لأنني رأيته في طريق أخري الكعبي نسبة إلى بني كعب بن ربيعة بن عمرو بن لحي ، ثم ظهر لي أنه نسب إلى بني عدي بن عمرو بن لحي ، وهم أخوة كعب ويقع هذا في الأنساب كثيرا ينسبون إلى أخي القبيلة ، وأبو شريح هذا صحابي مشهور ، اختلف في اسمه ، فقيل خويلد بن عمرو ، وقيل عمرو بن خويلد ، وقيل كعب بن عمرو ، وقيل هانئ بن عمرو ، وقيل عبد الرحمن بن عمرو ، وأصحها وأشهرها خويلد بن عمرو ، وهو خويلد بن عمرو بن صخر بن عبد العزي بن معاوية بن المحترش بن عمرو بن مازن بن عدي بن عمرو بن ربيعة الخزاعي ثم الكعبي أسلم قبل فتح مكة وكان يحمل أحد ألوية بني كعب بن خزاعة يوم فتح مكة ، روي له النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرون حديثا ، اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث ، وكان أبو شريح من عقلاء أهل المدينة سكن المدينة ومات بها سنة ثمان وستين ( أنه قال لعمرو ) بفتح العين ( بن سعيد ) أي ابن أبي العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي المعروف بالأشدق وليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان وعرف بالأشدق لأنه صعد المنبر فبالغ في شتم علي رضي الله تعالى عنه فأصابه لقوة ( وهو ) أي عمرو ( يبعث البعوث إلى مكة ) جملة حالية والبعوث جمع بعث بمعنى مبعوث وهو من تسمية المفعول بالمصدر ، والمراد به الجيش المجهز للقتال أي يرسل الجيوش إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير لكونه

(19/485)


امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية واعتصم بالحرم ، وكان عمرو والي يزيد على المدينة ، والقصة مشهورة وملخصها أن معاوية عهد بالخلافة بعده ليزيد بن معاوية فبايعه الناس إلا الحسين بن علي وابن الزبير ، وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فمات قبل موت معاوية ، وأما عبد الله بن عمر فبايع ليزيد عقب موت أبيه ، وأما الحسين بن علي فسار
ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح ، سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال : " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ،

(19/486)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلى الكوفة لاستدعائهم إياه ليبايعوه ، فكان ذلك سبب قتله ، وأما ابن الزبير فاعتصم ، ويسمى عائذ البيت ، وغلب على أمر مكة فكان يزيد بن معاوية يأمر أمراءه على المدينة أن يجهزوا إليه الجيوش ، فكان آخر ذلك أن أهل المدينة اجتمعوا على خلع يزيد من الخلافة وكان عمرو بن سعيد هذا قد أمر على الجيش الذي جهزه إلى مكة عمرو بن الزبير ، وكان معاديا لأخيه عبد الله ، وكان عمرو بن سعيد قد ولاه شرطته ثم أرسله إلى قتال أخيه فجاء مروان إلى عمرو بن سعيد فنهاه فامتنع ، وجاء أبو شريح فذكر القصة ، فلما نزل الجيش ذا طوى خرج إليهم جماعة من أهل مكة فهزموهم وأسر عمرو بن الزبير فسجنه أخوه بسجن عارم ، وكان عمرو قد ضرب جماعة من أهل المدينة ممن اتهم بالميل إلى أخيه ، فأقادهم عبد الله منه حتى مات عمرو من ذلك الضرب ، تنبيه : وقع في السيرة لابن إسحاق ومغازي الواقدي أن المراجعة المذكورة وقعت بين أبي شريح وبين عمرو بن الزبير فإن كان محفوظا احتمل أن يكون أبو شريح راجع الباعث والمبعوث والله أعلم ، قاله الحافظ ( إئذن ) بهمزتين وفتح الذال ، أمر من أذن يأذن ، وتبدل همزته الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فيقال : إيذن ( أيها الأمير ) أصله يا أيها الأمير ، حذف منه حرف النداء ، ويستفاد منه حسن التلطف في مخاطبة السلطان ليكون أدعى لقبوله النصيحة ، وأن السلطان لا يخاطب إلا بعد استئذانه ولا سيما إذا كان في أمر يعترض به عليه فترك ذلك ، والغلظة له قد يكون سببا لإثارة نفسه ومعاندة من يخاطبه ( أحدثك ) بالجزم لأنه جواب الأمر ( قولا ) مفعول ثان ( قام به ) صفة للقول والمقول هو حمد الله تعالى إلى آخره ( الغد ) بالنصب ( من يوم الفتح ) أي ثاني يوم الفتح يعني أنه خطب اليوم الثاني من فتح مكة ( أذناي ) هو فاعل سمعت وأصله أذنان لي ، فلما أضيف إلى ياء المتكلم سقطت نون التثنية ، وفيه

(19/487)


إشارة إلى بيان حفظه له من جميع الوجوه ، فقوله سمعته أي حملته عنه بغير واسطة ، وذكر الأذنين للتأكيد ، وقوله ( وعاه قلبي ) أي حفظه تحقيق لفهمه وتثبته ، وقوله ( وأبصرته عيناي )زيادة في تحقيق ذلك وأن سماعه منه ليس اعتمادا على الصوت فقط بل مع المشاهدة والروية ( حين تكلم به ) أي بالقول المذكور و (( حين )) نصب على الظرف لسمعت ووعاه وأبصرت ، ويؤخذ من قوله (( ووعاه قلبي )) أن العقل محله القلب ( حمد الله ) جملة استئنافية مبينة ، وفي رواية (( أنه حمد الله )) قال الحافظ : هو بيان لقوله تكلم ، ويؤخذ منه استحباب الثناء بين يدي تعليم العلم وتبيين الأحكام والخطبة في الأمور المهمة ، وقد تقدم من رواية ابن اسحاق أنه قال فيها (( أما بعد )) ( وأثنى عليه ) عطف على حمد من قبيل عطف العام على الخاص ( حرمها الله ) جملة وقعت في محل الرفع لأنها خبر إن ( ولم يحرمها الناس )
فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ، فقولوا له : إن الله قد أذن لرسوله ولم يؤذن لكم ، وإنما أذن لي

(19/488)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بالضم أي إن تحريمها كان بوحي من الله لا من اصطلاح الناس ( فلا يحل ) الفاء فيه جواب شرط محذوف تقديره إذا كان كذلك فلا يحل ( لامرئ ) هذا اللفظ من النوادر حيث كانت عينه دائما تابعة للامه في الحركة ( يؤمن بالله واليوم الآخر ) اكتفى بطرفي المؤمن به عن بقيته قال الحافظ : فيه تنبيه على الامتثال لأن من آمن بالله لزمته طاعته ومن آمن باليوم الآخر لزمه امتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه خوف الحساب عليه ، وقد تعلق به من قال إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة ، والصحيح عند الأكثر خلافه ، وجوابهم بأن المؤمن هو الذي ينقاد للأحكام وينزجر عن المحرمات فجعل الكلام معه ، وليس فيه نفي ذلك عن غيره ، وقال ابن دقيق العيد : الذي أراه أنه من خطاب التهبيج نحو قوله تعالى ? وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ? ( سورة المائدة : الآية 26) فالمعنى استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر بل ينافيه ، فهذا هو المقتضى لذكر هذا الوصف ، ولو قيل لا يحل لأحد مطلقا لم يحصل منه هذا الغرض ، وإن أفاد التحريم ( أن يسفك ) فاعل لا يحل وأن مصدرية ، تقديره فلا يحل سفك دم ، ويسفك بكسر الفاء على المشهور وحكي ضمها ، ومعنى السفك إراقة الدم وصبه ، والمراد به القتل ، واستدل به على تحريم القتل والقتال بمكة ، وتقدم البحث فيه في الكلام على حديث ابن عباس ( بها ) أي بمكة ، والباء بمعنى في أي فيها كما هي رواية المستملي للبخاري ( دما ) مفعول ليسفك ( ولا يعضد ) بالنصب أيضا لأنه عطف على يسفك والتقدير وأن لا يعضد ، وزيدت لا لتأكيد معنى النفي ، فمعناه لا يحل أن يعضد ، ويعضد بكسر الضاد المعجمة بصيغة المعلوم . والضمير الذي فيه يرجع إلى امرئ أي ولا يقطع ( بها ) أي بمكة ( شجرة ) بالنصب مفعول يعضد ، وفيه دليل على تحريم قطع شجر مكة وقد سبق الكلام في ذلك وتفصيل مذاهب الأئمة

(19/489)


في شرح حديث ابن عباس ( فإن ) شرطية ( أحد ) فاعل فعل محذوف مضمر ، والتقدير فإن ترخص أحد ، ويفسره قوله ( ترخص ) وإنما حذف لئلا يجتمع المفسر والمفسر ، وذلك كما في قوله تعالى : ? وإن أحد من المشركين استجارك ? ( سورة التوبة الآية : 6) وقوله (( ترخص )) على وزن تفعل مشتق من الرخصة ، وفي رواية ابن أبي ذئب عند أحمد (( فإن ترخص مترخص )) وهو المتكلف للرخصة ( بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) كذا في صحيح مسلم وفي البخاري (( لقتال رسول الله )) واللام فيه للتعليل ، وهو متعلق بقوله ترخص ( فقولوا ) جواب الشرط فلذلك دخلت فيه الفاء ( إن الله قد أذن ) بكسر الذال أي أجاز ( لرسوله ولم يأذن لكم ) معناه إن قال أحد بأن ترك القتال عزيمة والقتال رخصة يتعاطى عند الحاجة مستدلا بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا له : ليس الأمر كذلك ، فإن الله أذن لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يأذن لكم ( وإنما أذن لي ) بفتح الهمزة وكسر الذال على بناء الفاعل ، والضمير فيه يرجع إلى الله ، ويروى يضم الهمزة على البناء للمجهول ، وفي قوله (( لي )) التفات ، لأن نسق الكلام
ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد الغائب " . فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو ؟ قال : قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ! إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (( وإنما أذن له )) أي لرسوله ، قاله الحافظ . وقال العيني : وإنما التفت ثانيا بقوله (( وإنما أذن لي )) ولم يقل (( أذن له )) بيانا لاختصاصه بذلك بالإضافة إلى ضميره كما في قول امرئ القيس :
-
-
وذلك من نبأ جاءني _ -
-
وخبرته عن أبي الأسود ( -
-

(19/490)


( ساعة من نهار ) قد مضى في شرح حديث ابن عباس أن مقدار هذه الساعة ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر ، وكان قتل من قتل بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - كابن خطل وقع في هذا الوقت الذي أبيح فيه القتال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمأذون له فيه القتال لا قطع الشجر ، فليس في الحديث ما يدل على إباحة عضد الشجر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الساعة ( وقد عادت حرمتها ) أي الحكم الذي في مقابلة إباحة القتال المستفاد من لفظ الإذن ( اليوم كحرمتها بالأمس ) المراد باليوم الزمن الحاضر وبالأمس أي الأمس من يوم الفتح . وقال السندي : الظاهر أن المراد وقد عادت حرمتها بعد تلك الساعة كحرمتها قبل تلك الساعة - انتهى . ولم يبين غاية الحرمة هنا ، وقد بينها في رواية ابن أبي ذئب المذكورة بقوله (( ثم هي حرام إلى يوم القيامة )) وكذا في حديث ابن عباس السابق بقوله (( فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة )) ( وليبلغ ) بسكون اللام وكسرها وتشديد اللام الثانية ويجوز تخفيفها أي يوصل ( الشاهد ) بالرفع ( الغائب ) بالنصب ، قال ابن جرير : فيه دليل على جواز قبول خير الواحد لأنه معلوم أن كل من شهد الخطبة قد لزمه الإبلاغ وأنه لم يأمرهم بإبلاغ الغائب عنهم إلا وهو لازم له فرض العمل بما أبلغه كالذي لزم السامع سواء وإلا لم يكن للأمر بالتبليغ فائدة ( فقيل لأبي شريح ) لم يدر اسم القائل . وظاهر رواية ابن إسحاق أنه بعض قومه من خزاعة ( ما قال لك عمرو ؟ ) أي في جوابك ( قال) أي أبو شريح ( قال ) أي عمرو ( أنا أعلم بذلك ) أي بالمذكور من قول أبي شريح : أن مكة حرمها الله تعالى ، إلخ ( منك يا أبا شريح ) بإظهار الهمزة ويجوز حذفها للتخفيف فيقال يابا شريح ( إن الحرم ) أي حرم مكة ( لا يعيذ ) بالذال المعجمة أي لا يجير ولا يعصم ( ولا فارا بدم ) بالفاء وتثقيل الراء من الفرار وهو عطف على (( عاصيا )) والباء في (( بدم )) للمصاحبة ،

(19/491)


أي مصاحبا بدم ومتلبسا به يعني لا يجير هاربا عليه دم يعتصم بمكة كيلا يقتص منه ، قال الحافظ : المراد من وجب عليه حد القتل فهرب إلى مكة مستجيرا بالحرم ، وهي مسألة خلاف بين العلماء ، وأغرب عمرو بن سعيد في سياقه الحكم مساق الدليل وفي تخصيصه العموم بلا مستند ( ولا فارا بخربة ) عطف على ما قبله ، والباء فيه للسببية وقوله (( بخربة )) بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها باء موحدة وهي السرقة ، كذا ثبت
متفق عليه . وفي البخاري : الخربة الجناية .

(19/492)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تفسيرها في رواية المستملي أعني في روايته : ولا فار بخربة يعني السرقة . وقال ابن بطال : الخربة بالضم الفساد وبالفتح السرقة . قال الحافظ : قد تصرف عمرو في الجواب وآتى بكلام ظاهره حق ولكن أراد به الباطل . قال ابن حزم : لا كرامة للطيم الشيطان أن يكون أعلم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأغرب ابن بطال فزعم أن سكوت أبي شريح عن جواب عمرو بن سعيد دال على أنه رجع إليه في التفصيل المذكور ، ويعكر عليه ما وقع في رواية أحمد أنه قال في آخره : قال أبو شريح : فقلت لعمرو : قد كنت شاهدا وكنت غائبا وقد أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا وقد بلغت . فهذا يشعر بأنه لم يوافقه ، وإنما ترك مشاققته لعجزه لما كان فيه من قوة الشوكة . وقال ابن بطال أيضا : ليس قول عمرو جوابا لأبي شريح لأنه لم يختلف معه في أن من أصاب حدا في غير الحرم ثم لجأ إليه أنه يجوز إقامة الحد عليه في الحرم ، فإن أبا شريح أنكر بعث عمرو الجيش إلى مكة ونصب الحرب عليها ، فأحسن في استدلاله بالحديث ، وحاد عمرو عن جوابه وأجابه عن غير سؤاله ، وتعقبه الطيبي بأنه لم يحد في جوابه وإنما أجاب بما يقتضي القول بالموجب ، كأنه قال له صح سماعك وحفظك لكن المعنى المراد من الحديث الذي ذكرته خلاف ما فهمته منه ، فإن ذلك الترخص كان لسبب الفتح وليس بسبب قتل من استحق القتل خارج الحرم ثم استجار بالحرم ، والذي أنا فيه من القبيل الثاني . قلت ( قائله الحافظ ) : لكنها دعوى من عمرو بغير دليل ، لأن ابن الزبير لم يجب عليه حد فعاذ بالحرم فرارا منه حتى يصح جواب عمرو ، نعم كان عمرو يرى وجوب طاعة يزيد الذي استنابه وكان يزيد أمر ابن الزبير أن يبايع له بالخلافة ويحضر إليه في جامعة يعني مغلولا ، فامتنع ابن الزبير وعاذ بالحرم فكان يقال له بذلك عائذ الله ، وكان عمرو يعتقد أنه عاص بامتناعه من امتثال أمر يزيد ،

(19/493)


ولهذا صدر كلامه بقوله : إن الحرم لا يعيذ عاصيا . ثم ذكر بقية ما ذكر استطرادا ، فهذه شبهة عمرو وهي واهية ، وهذه المسألة التي وقع فيها الاختلاف بين أبي شريح وعمرو فيها اختلاف بين العلماء أيضا كما مر تفصليه في شرح حديث ابن عباس من هذا الباب ، وفي حديث أبي شريح من الفوائد غير ما تقدم : جواز إخبار المرء عن نفسه بما يقتضي ثقته وضبطه لما سمعه ونحو ذلك ، وإنكار العالم على الحاكم ما يغيره من أمر الدين ، والموعظة بلطف وتدريج ، والاقتصار في الإنكار على اللسان إذ لم يستطع باليد ، ووقوع التأكيد في الكلام البليغ ، وجواز المجادلة في الأمور الدينية ، وفيه الخروج عن عهدة التبليغ ، والصبر على المكاره لمن لا يستطيع بدا من ذلك ( متفق عليه ) أخرجه البخاري في العلم وفي الحج وفي المغازي ، ومسلم في الحج ، وأخرجه أيضا أحمد (ج 6 : ص 385) والترمذي في الحج وفي الديات والنسائي في الحج وفي العلم ( وفي البخاري : الخربة الجناية ) قال القاري : وفي نسخة (( الخيانة )) ضد الأمانة – انتهى . والذي في البخاري في الحج وفي المغازي ، قال أبو عبد الله : الخربة البلية . وقال ابن الأثير في النهاية : في الحديث (( الحرم
2752 – (13) وعن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها ، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا " . رواه ابن ماجة .

(19/494)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لا يعيذ عاصيا ولا فارا بخربة )) الخربة أصلها العيب والمراد بها ها هنا الذي يفر بشيء يريد أن ينفرد به ويغلب عليه مما لا تجيزه الشريعة ، والخارب أيضا سارق الإبل خاصة ثم نقل إلى غيرها اتساعا ، وقد جاء في سياق الحديث في كتاب البخاري أن الخربة الجناية والبلية . قال الترمذي : وقد روي بخزية ويجوز أن يكون بكسر الخاء ( وسكون الزاي ) وهو الشيء الذي يستحي منه أو من الهوان أن يكون بالفتح وهو الفعلة الواحدة منهما – انتهى . وارجع لمزيد التفصيل إلى الفتح بالحج ، والعيني والقسطلاني في العلم .

(19/495)


2752 – قوله ( وعن عياش ) بتشديد التحتانية وآخره معجمة ( بن أبي ربيعة ) اسم أبي ربيعة عمرو – ويلقب ذا الرمحين – ابن المغير بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي أبو عبد الله ، وقيل : أبو عبد الرحمن المخزومي ابن عم خالد بن الوليد بن المغيرة وأخو أبي جهل بن هشام لأمه ، أمهما أم الجلاس ، وأخو عبد الله بن أبي ربيعة لأبيه وأمه واسمها أسماء بنت سلمة بن مخرمة وهي أم الحارث وأبي جهل ابني هشام بن المغيرة ، كان هشام بن المغيرة قد طلقها فتزوجها أخوه أبو ربيعة بن المغيرة ، كان إسلام عياش بن أبي ربيعة قديما قبل أن يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم ، وهاجر إلى أرض الحبشة مع امرأته وولد له بها ابنه عبد الله ، ثم هاجر إلى المدينة فجمع بين الهجرتين قال الزبير : كان عياش بن أبي ربيعة قد هاجر إلى المدينة حين هاجر عمر بن الخطاب فقدم عليه أخواه لأمه أبو جهل والحارث ابنا هشام فذكر له أن أمه حلفت أن لا يدخل رأسها دهن ولا تستظل حتى تراه فرجع معهما فأوثقاه رباطا وحبساه بمكة فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له بالنجاة في القنوت كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة . روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعظيم مكة وعنه ابنه عبد الله وعبد الرحمن بن سابط وغيرهما استشهد باليمامة ، وقيل باليرموك ، وقيل مات سنة خمس عشرة بالشام في خلافة عمره ( لا تزال هذه الأمة ) أي أمة الإجابة ( بخير ) التنوين للتعظيم ( ما عظموا ) أي مدة تعظيمهم ( هذه الحرمة ) يعني الكعبة والحرم ، وقال القاري : أي حرمة مكة وحرمها المعهودة عند العرب بأجمعها . وقال السندي : أي حرمة شعائر الله ( فإذا ضيعوا ذلك ) أي التعظيم أو ما ذكر من الحرمة ( هلكوا ) أي بالإهانة جزاء وفاقا ( رواه ابن ماجة ) في آخر الحج من طريق يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن سابط عن عياش ، قال ابن عبد البر : ويقولون : إن عبد الرحمن بن سابط لم يسمع

(19/496)


منه ، وأنه أرسل حديثه عنه ، وروى عنه نافع مرسلا أيضا وروى عنه ابنه عبد الله بن عياش سماعا منه – انتهى . وقال السندي : قال في الزوائد : في إسناده يزيد بن أبي زياد واختلط بآخره – انتهى .
(15) باب حرم المدينة حرسها الله تعالى
( الفصل الأول )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والحديث ذكره المحب الطبري في القرى (ص 589 ) وقال : أخرجه ابن الحاج في منسكه ، وذكره الحافظ في الفتح في باب فضل مكة وبنيانها ثم قال : أخرجه أحمد وابن ماجة وعمر بن شبة في كتاب مكة وسنده حسن – انتهى .

(19/497)


( باب حرم المدينة ) قال الزرقاني : المدينة في الأصل المصر الجامع ثم صارت علما بالغلبة على دار هجرته - صلى الله عليه وسلم - ووزنها فعيلة لأنها من مدن ( بالمكان أي أقام به ) وقيل : مفعلة بفتح الميم لأنها من دان ( بمعنى أطاع ، والدين الطاعة ) والجمع مدن ومدائن بالهمز على القول بأصالة الميم ووزنها فعائل وبغير همز على القول بزيادة الميم ووزنها مفاعل انتهى . وقال الحافظ في الفتح : المدينة علم على البلدة المعروفة التي هاجر إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ودفن بها . قال الله تعالى : ? يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ? ( سورة المنافقون : الآية 8) فإذا أطلقت تبادر إلى الفهم أنها المراد ، وإذا أريد غيرها بلفظ المدينة فلا بد من قيد فهي كالنجم للثريا ، وكان اسمها قبل ذلك (( يثرب )) قال الله تعالى : ? وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب ? ( سورة الأحزاب : الآية 13) ويثرب اسم لموضع منها سميت كلها به ، قيل : سميت بيثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح ، لأنه أول من نزلها ، حكاه أبو عبيد البكري ، وقيل غير ذلك . ثم سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - طابة وطيبة كما سيأتي . وكان سكانها العماليق ثم نزلها طائفة من بني إسرائيل قيل أرسلهم موسى عليه السلام كما أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بسند ضعيف ثم نزلها الأوس والخزرج لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم – انتهى . قال النووي في مناسكه : لمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة أسماء : المدينة وطابة وطيبة والدار ويثرب ، قال تعالى : ? ما كان لأهل المدينة ? ( سورة التوبة : الآية 121) وفي مسلم عن جابر مرفوعا : " إن الله سمي المدينة طابة " . قال النووي : سميت طابة وطيبة لخلوصها من الشرك وطهارتها منه ، وقيل لطيب ساكنها ، وأما تسميتها الدار فللاستقرار بها لأمنها ، وأما المدينة فقال كثير من أهل اللغة : هي من دان أي أطاع ، سميت بها لأنه يطاع

(19/498)


لله تعالى فيها . قال ابن حجر في شرحه : اقتصر على هذه الأسماء مع أن أسمائها تقارب الألف كما بينها بعض المتأخرين لأنها أشهرها – انتهى . وقال السمهودي : إن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى ولم أجد أكثر من أسماء هذه البلدة الشريفة وقد استقصيتها بحسب القدرة حتى أني زدت على شيخ مشائخنا
المجد الشيرازي اللغوي وهو أعظم الناس في هذا الباب نحو ثلاثين اسما فرقمت على ذلك صورة ليتميزوها وأنا أوردها مرتبة على حروف المعجم ، ثم ذكر السمهودي أربعة وتسعين اسما مع بيان معانيها وسرد أحمد بن عبد الحميد العباسي ثمانية وخمسين اسما ثم ترجم كل اسم حسب ترتيبه الأبجدي ، من أحب الوقوف على ذلك رجع إلى وفاء الوفا (ص 8 إلى ص 27) وإلى عمدة الأخبار (ص 58 إلى ص 70) . واعلم أن للمدينة حرمة عند الحنفية لا حرما كما لمكة خلافا للأئمة الثلاثة ؛ فعندهم يحرم صيدها وقطع شجرها ، وعند الحنفية لا يحرم ذلك وسيأتي بسط الكلام في ذلك .
2753 – (1) عن علي رضي الله عنه ، قال : ما كتبنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قال :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19/499)


2753- قوله ( ما كتبنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا القرآن وما في هذه الصحيفة ) هذا لفظ البخاري في الجزية رواه من طريق سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي ، وروى مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن أبيه ، قال : ( أي يزيد بن شريك التيمي والد إبراهيم ) : خطبنا علي بن أبي طالب فقال : من زعم أن عندنا شيئا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة - قال : وصحيفة معلقة في قراب سيفه - فقد كذب . وروى البخاري أيضا في العلم من طريق مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال : قلت لعلي رضي الله عنه : هل عندكم كتاب ؟ قال : لا ، إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة . قال الحافظ : قوله (( هل عندكم )) الخطاب لعلي والجمع إما لإرادته مع بقية أهل البيت أو للتعظيم . وقوله (( كتاب )) أي مكتوب أخذتموه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما أوحي إليه ، ويدل على ذلك رواية المصنف يعني البخاري في الجهاد : هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله ؟ وله في الديات : (( هل عندكم شيء مما ليس في القرآن ؟ )) . وفي مسند إسحاق بن راهويه عن جرير عن مطرف (( هل علمت شيئا من الوحي ؟ )) وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت لا سيما عليا أشياء من الوحي خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بها لم يطلع غيرهم عليها . وقد سأل عليا عن هذه المسألة أيضا قيس بن عباد ( بضم العين وتخفيف الباء ) والأشتر النخعي وحديثهما في مسند النسائي ( ومسند الإمام أحمد ج 1 : ص 122) وقال النووي : قوله من زعم أن عندنا شيئا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب )) . هذا تصريح من علي رضي الله عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم أن عليا رضي الله عنه أوصى إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين وكنوز

(19/500)


الشريعة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم ، وهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها ويكفي في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا ، وفيه دليل على جواز كتابة العلم ( قال ) أي علي رضي الله عنه تفسيرا لما في الصحيفة ، وفي رواية أبي جحيفة عند البخاري في العلم قال : قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، إلخ . قال الحافظ : ووقع للبخاري ومسلم من طريق يزيد التيمي عن علي قال : ما عندنا شيء نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة ، فإذا فيها الجراحات وأسنان الإبل والمدينة حرم – الحديث . ولمسلم عن أبي الطفيل عن علي : ما خصنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما في قراب سيفي هذا . وأخرج صحيفة مكتوب فيها : لعن الله من ذبح لغير الله – الحديث . وللنسائي من طريق الأشتر وغيره عن علي (( فإذا فيها : المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم )) .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " المدينة حرام ما بين عير إلى ثور ،

(20/1)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث . ولأحمد من طريق طارق بن شهاب (( فيها فرائض الصدقة )) والجمع بين هذه الأحاديث أن الصحيفة كانت واحدة وكان جميع ذلك مكتوبا فيها فنقل كل واحد من الرواة عنه ما حفظه ، والله أعلم . وقد بين ذلك قتادة في روايته لهذا الحديث عن أبي حسان عن علي ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : المدينة حرام ) كذا في رواية البخاري في باب إثم من عاهد ثم غدر من كتاب الجهاد ، وهكذا وقع عند أحمد (ج 1 : ص 126) وأبي داود ولفظ مسلم (( المدينة حرم )) بفتحتين بدون ألف ، وهكذا عند البخاري في (( باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة )) وكذا وقع عند أحمد (ج 1 : ص 81) والترمذي والنسائي . والحرام بمعنى الحرم لأن الروايات يفسر بعضها بعضا . وقال القاري : حرام أي محترم ممنوع مما يقتضي إهانة الموضع المكرم ، وعند الشافعية : الحرام بمعنى الحرم . قلت : وهو الظاهر ( ما بين عير ) بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف بلفظ العير مرادف الحمار ، جبل مشهور في قبلة المدينة بقرب ذي الحليفة ميقات المدينة ، وفي رواية للبخاري (( ما بين عائر )) بألف بعد العين المهملة على وزن فاعل ( إلى ثور ) بفتح الثاء المثلثة وسكون الواو بلفظ الثور فحل البقر جبل صغير خلف أحد ، وهو غير جبل ثور الذي بمكة ، وقوله (( إلى ثور )) انفرد به مسلم ، ولفظ البخاري (( إلى كذا )) أي بإبهام النهاية . قال الحافظ : اتفقت روايات البخاري كلها على إبهام الثاني ، ووقع عند مسلم (( إلى ثور )) فقيل : إن البخاري أبهمه عمدا لما وقع عنده أنه وهم . وقال صاحب المشارق والمطالع : أكثر رواة البخاري ذكروا عيرا وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا ، ومنهم من ترك مكانه بياضا ، والأصل في هذا التوقف قول مصعب الزبيري (( ليس بالمدينة عير ولا ثور )) ، وأثبت غيره عيرا فوافقه على إنكار ثور . قال أبو عبيد ( القاسم بن سلام ) : قوله

(20/2)


: (( ما بين عير إلى ثور )) . هذه رواية أهل العراق ، وأما أهل المدينة فلا يعرفون جبلا عندهم يقال له ثور ، وإنما ثور بمكة ، ونرى أن أصل الحديث ما بين عير إلى أحد . قلت ( قائله الحافظ ) : وقد وقع ذلك في حديث عبد الله بن سلام عند أحمد والطبراني ( في الكبير قال عبد الله بن سلام : ما بين كذا وأحد حرام حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كنت لأقطع به شجرة ولا أقتل به طائرا . هذا لفظ أحمد (ج 5 : ص 450) ، ولفظ الطبراني (( قال : ما بين عير وأحد حرام )) . قال الهيثمي : ورجاله ثقات ) وقال عياض : لا معنى لإنكار عير بالمدينة فإنه معروف ، وقد جاء ذكره في أشعارهم ، وأنشد أبو عبيد البكري في ذلك عدة شواهد . وقال ابن السيد في المثلث : عير اسم جبل بقرب المدينة معروف . قال الحافظ : وقد سلك العلماء في إنكار مصعب الزبيري لعير وثور مسالك ، منها ما تقدم ، ومنها : قول ابن قدامة في المغنى (ج 3 : ص 354) : يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد قدر ما بين ثور وعير لا أنهما بعينهما في المدينة ، ويحتمل أنه أراد الجبلين الذين بطرفي المدينة وسماهما عيرا وثورا تجوزا وارتجالا – انتهى . وحكى ابن الأثير كلام أبي عبيد
....................................................................................

(20/3)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مختصرا ثم قال : وقيل إن عيرا جبل بمكة ، ويكون المراد أنه حرم من المدينة قدر ما بين عير وثور من مكة أو حرم المدينة تحريما مثل تحريم ما بين عير وثور بمكة ، على حذف المضاف ووصف المصدر المحذوف . وقال النووي : يحتمل أن ثورا كان اسما لجبل هناك إما أحد وإما غيره فخفي اسمه ، وقال صاحب البيان والانتصار : قد صحت الرواية بلفظ ثور فلا ينبغي الإقدام على توهيم الرواة بمجرد عدم العرفان فإن أسماء الأماكن قد تتغير أو تنسى ولا يعلمها كثير من الناس ، وأيضا فقد يكون للشيء اسمان فيعرف أحدهما دون الآخر . وقال المجد صاحب القاموس : لا أدري كيف وقعت المسارعة من هؤلاء الأعلام إلى إثبات وهم في الحديث المتفق على صحته بمجرد ادعاء أن أهل المدينة لا يعرفون جبلا يسمى ثورا وذكر احتمال طرق التغيير في الأسماء والنسيان لبعضها ، قال : حتى إني سألت جماعة من فقهاء المدينة وأمرائها وغيرهم من الأشراف عن فدك ومكانها فكلهم أجابوا بعدم معرفة موضع يسمى بذلك في بلادهم مع أن هذه القرية لم تبرح في أيدي الأشراف والخلفاء يتداولونها إلى أواخر الدولة العباسة فكيف بجبل صغير لا يتعلق به كبير أمر مع أنه معروف بين أهل العلم بالمدينة ونقل بعض الحفاظ وصفه بذلك خلفا عن سلف – انتهى . ونقل جماعة عن المحدث أبي محمد عفيف الدين عبد السلام بن مزروع البصري نزيل المدينة المشرفة أنه رآه غير مرة وأنه لما خرج رسولا من صاحب المدينة إلى العراق كان منه دليل يذكر له الأماكن والأجبل ، فلما وصلا إلى أحد إذا بقربه جبل صغير فسأله ما اسم هذا الجبل ؟ فقال له : يسمى ثورا. وقد حكى عنه نحو هذا القطب الحلبي في شرح البخاري ثم قال : فعلمت بذلك صحة الرواية . وقال المحب الطبري في الأحكام بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه : قد أخبرني الثقة الصدوق الحافظ العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن

(20/4)


يساره جانحا إلى وراءه جبل صغير يقال له ثور . وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور وتواردوا على ذلك . قال الطبري : فعلمنا بذلك أن ذكر ثور في الحديث صحيح ، وأن عدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه . قال : وهذه فائدة جليلة – انتهى . وقال الحافظ بعد حكاية كلام ابن مزروع البصري والمحب الطبري والقطب الحلبي : وذكر شيخنا أبو بكر بن حسين المراغي نزيل المدينة في مختصره لأخبار المدينة أن خلف أهل المدينة ينقلون عن سلفهم أن خلف أحد من جهة الشمال جبلا صغيرا يضرب لونه إلى الحمرة بتدوير يسمى ثورا . قال : وقد تحققته بالمشاهد – انتهى كلام الحافظ . ونقل السمهودي عن الإقشهري أنه قال : قد استقصينا من أهل المدينة تحقيق خبر جبل يقال له ثور عندهم فوجدنا ذلك اسم جبل صغير خلف جبل أحد يعرفه القدماء دون المحدثين من أهل المدينة . والذي يعلم حجة على من لا يعلم – انتهى . واعلم أن ما ورد في حديث على هذا من
....................................................................................

(20/5)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تحديد حرم المدينة بما بين عير وثور لا ينافي الحديث الآتي : (( إني أحرم ما بين لابتي المدينة )) . لأن اللابتين حرتان يكتنفانها ، كما في القاموس ، وعير وثور مكتنفان المدينة ، فحديث عير وثور يفسر اللابتين ، وقيل حديث : (( ما بين لابتيها )) يعني من جهة المشرق والمغرب ، فإن من جهة المشرق حرة ومن جهة المغرب أخرى ، وحديث : (( ما بين عير إلى ثور )) يعني من جهة الجنوب والشمال ، فثور من جهة الشمال ، وعير من جهة الجنوب ، والله أعلم . وفي حديث علي هذا وفيما يأتي من أحاديث سعد بن أبي وقاص ، وحديث أبي سعيد وحديث أنس دليل على أن المدينة حرما كحرم مكة ، وقد روي في هذا عن جماعة من الصحابة غير هؤلاء ، ذكر أحاديثهم المجد في المنتقى ، والعيني في العمدة (ج10 : ص 231) والهيثمي في مجمع الزوائد ( ج3 : ص 303) والسمهودي في وفاء الوفا (ص 89 ، 105 ، 108) . قال الشوكاني : استدل بما في هذه الأحاديث من تحريم شجر المدينة وخبطه وعضده وتحريم صيدها وتنفيره الشافعي ومالك وأحمد وجمهور أهل العلم على أن للمدينة حرما كحرم مكة يحرم صيده وشجره . قال الشافعي ومالك : فإن قتل صيدا أو قطع شجرا فلا ضمان لأنه ليس بمحل للنسك فأشبه الحمى . وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى : يجب فيه الجزاء كحرم مكة ، وبه قال بعض المالكية وهو ظاهر قوله (( كما حرم إبراهيم مكة )) ، وذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والناصر إلى أن حرم المدينة ليس بحرم على الحقيقة ولا تثبت له الأحكام من تحريم قتل الصيد وقطع الشجر ، والأحاديث ترد عليهم – انتهى . وقال العيني : احتج بأحاديث تحريم حرم المدينة محمد بن أبي ذئب والزهري والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق ، وقالوا : المدينة لها حرم فلا يجوز قطع شجرها ولا أخذ صيدها ، ولكنه لا يجب الجزاء فيه عندهم خلافا لابن أبي ذئب فإنه قال : يجب الجزاء ، وكذلك لا يحل سلب من يفعل ذلك

(20/6)


عندهم إلا عند الشافعي ، وقال في القديم : من اصطاد في المدينة صيدا أخذ سلبه ويروى فيه أثرا عن سعد ، وقال في الجديد بخلافه . وقال الثوري وعبد الله بن المبارك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : ليس للمدينة حرم كما كان لمكة ، فلا يمنع أحد من أخذ صيدها وقطع شجرها – انتهى . والمراد من المنع منع استحباب لا تحريم ، فلا يحرم عند الحنفية أخذ صيدها وقطع شجرها ، بل يكره فقط كما في المرقاة . قال في الكافي : لأن حل الاصطياد عرف بالنصوص القاطعة فلا يحرم إلا بقاطع كذلك ، ولم يوجد ، وأما تحريم مكة فنصوص الكتاب فيه صريحة . قال التوربشتي : قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مسلم (( لا تخبط منها شجرة إلا لعلف )) وأشجار حرم مكة لا يجوز خبطها بحال ، وأما صيد المدينة وإن رأى تحريمه نفر يسير من الصحابة فإن الجمهور منهم لم ينكروا اصطياد الطور بالمدينة ولم يبلغنا فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي من طريق يعتمد عليه – انتهى . وأيضا قال
....................................................................................

(20/7)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أصحابنا : قوله عليه الصلاة والسلام (( أحرم )) من الحرمة لا من التحريم بمعنى أعظم المدينة جمعا بين الدليلين بقدر الإمكان ، وبه نقول فنعظمها ونوقرها أشد التوقير والتعظيم ، لكن لا نقول بالتحريم لعدم القاطع احترازا عن الجرأة على تحريم ما أحل الله تعالى . فإن قيل : إنه شبه التحريم بمكة فكيف يصح الحمل على التعظيم ؟ أجيب : بأنه لا يخلو عن أمرين ، إما أن يكون المراد التشبيه من كل الوجوه أو من وجه دون وجه ، فإن كان الأول فلا يصح الحمل على ما حملتم عليه قوله (( كتحريم إبراهيم مكة )) فقلتم في الحرمة فقط لا في وجوب الجزاء في المشهور من المذهب ، وإن قلتم بوجوب الجزاء فلا نسلم لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة رضي الله عنهم إلا عن سعد فقط . وعن عمر في قول ، وهو سلب القاطع والصائد وقد أجمعنا أن ذلك لا يجب في حرم مكة فكيف يجب هناك ؟ وإن كان الثاني فكما حملتم على شيء ساغ لنا أن نحمل على آخر ، وهذا لأن تشبيه الشيء بالشيء يصح من وجه واحد وإن كان لا يشبهه من كل الوجوه كما في قوله تعالى ? إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ? ( سورة آل عمران : الآية 52) . يعني من وجه واحد وهو تخليقه بغير أب فكذلك نقول إن تشبيهه بمكة في تحريم التعظيم فقط لا في التحريم الذي يتعلق به أحكام أخر ، لأن ذلك يوجب التعارض بين الأحاديث ، وبالحمل على ما قلنا يدفع ودفعه هو المطلوب مهما أمكن بالإجماع ، فصار المصير إلى ما ذهبنا إليه أولى وأرجح بلا نزاع – انتهى . قال صاحب فتح الملهم بعد ذكر هذا كله : قلت : ولكن يرد هذا كله حديث جابر عند مسلم بلفظ : (( إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها )) . وأصرح منه حديث سعد بلفظ : (( إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها )) . وفي حديث ابن عباس عند أحمد

(20/8)


(ج 1 : ص 318) بإسناد حسن : (( لكل نبي حرم وحرمي المدينة ، اللهم إني أحرمها بحرمك أن لا يؤوى بها محدث ولا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا تؤخذ لقطتها إلا لمنشدها )) . فقد ثبت النهي عن الاصطياد بطريق يعتمد عليه ، وظهر أن التحريم فيه ليس بمعنى التوقير والتعظيم فقط بل هو واقع على قطع العضاه وقتل الصيد كالحرم المكي والله أعلم – انتهى . قلت : والأصل في المنع والنهي التحريم حتى تقوم دلالة على التنزيه ولم يقم دليل على كون النهي لكراهة التنزيه ، بل ورد ما يدل على كونه للتحريم فقد روى مسلم من طريق يزيد بن هارون عن عاصم الأحول قال : سألت أنسا أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ؟ قال : نعم هي حرام ، لا يختلى خلاها ، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . ففي هذه الرواية ترتب الوعيد الشديد على المختلي ، قال صاحب فتح الملهم : هذا مخالف لما ذهب إليه الحنفية من حمل النهي عن الاختلاء ونحوه على الكراهة مع إثبات الإباحة . قال : ولم أجد في غير هذا الطريق ويختلج في قلبي أن الرواية وقع فيها اختصار ، وحذف بعض الرواة ذكر الإحداث وإيواء المحدث وكان
....................................................................................

(20/9)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الوعيد مرتبا على ذلك المحذوف كما هو المصرح في سائر الروايات عن أنس ، وأيضا ليس في هذه الرواية التصريح برفع هذه الجملة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما لا يخفى على المتأمل – انتهى . قلت : ليس منشأ هذا الاختلاج إلا أن هذه الرواية مخالفة لمذهب الحنفية فاضطر إلى توهينها والتشكيك في رفعها ، وإلا فليس ها هنا ما يدل على كونها مخالفة لسائر الروايات فتأمل . وأحاب الحنفية أيضا عن الأحاديث المذكورة بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك لا لأنه لما ذكروه من تحريم صيد المدينة وشجرها ، بل إنما أراد بذلك بقاء زينة المدينة ليستطيبوها ويألفوها وذلك كمنعه - صلى الله عليه وسلم - من هدم آطام المدينة وقال : " إنها زينة المدينة " . قال الحافظ : قال الطحاوي : يحتمل أن يكون سبب النهي عن صيد المدينة وقطع شجرها كون الهجرة كانت إليها فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها ويدعو إلى ألفتها كما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هدم آطام المدينة فإنها من زينة المدينة فلما انقطعت الهجرة زال ذلك ، وما قاله ليس بواضح لأن النسخ لا يثبت إلا بدليل ، وقد ثبت على الفتوى بتحريمها سعد وزيد بن ثابت وأبو سعيد وغيرهم كما أخرجه مسلم . قال الحافظ : واحتج الطحاوي ( لما ذهب إليه الحنفية ) بحديث أنس في قصة أبي عمير (( ما فعل النغير )) قال : لو كان صيدها حراما ما جاز حبس الطير . وأجيب باحتمال أن يكون من صيد الحل . قال أحمد : من صاد من الحل ثم أدخله المدينة لم يلزمه إرساله لحديث أبي عمير ، وهذا قول الجمهور ، لكن لا يرد ذلك على الحنفية لأن صيد الحل عندهم إذا دخل الحرم كان له حكم الحرم ، ويحتمل أن تكون قصة أبي عمير كانت قبل التحريم ( لأنه في أول الهجرة ، وتحريم المدينة كان بعد رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من خيبر ) واحتج بعضهم بحديث أنس في قصة

(20/10)


قطع النخل لبناء المسجد ، ولو كان قطع شجرها حراما ما فعله - صلى الله عليه وسلم - ، وتعقب بأن ذلك كان في أول الهجرة كما سيأتي واضحا في أول المغازي ، وحديث تحريم المدينة كان بعد رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من خيبر كما سيأتي في حديث عمرو بن أبي عمرو عن أنس في الجهاد ، وفي غزوة أحد من المغازي واضحا . قلت : واستدل الحنفية أيضا بما رواه الطحاوي والطبراني وابن أبي شيبة عن سلمة أنه قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما إنك لو كنت تصيدت بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت وتلقيتك إذا جئت فإني أحب العقيق " . قال الطحاوي : ففي هذا الحديث ما يدل على إباحة صيد المدينة ألا ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دل سلمة وهو بها على موضع الصيد وذلك لا يحل بمكة فثبت أن حكم صيد المدينة خلاف حكم صيد مكة . وقال في النخبة : هذا تصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - على جواز صيد المدينة فإن الأئمة اتفقوا على أن العقيق من المدينة ولم يخالف فيه مخالف . وأجيب عن ذلك بما قال البيهقي أن حديث سلمة ضعيف ومن يدعي العلم بالآثار لا ينبغي له أن يعارض الأحاديث الثابتة في حرم المدينة بهذا
....................................................................................

(20/11)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحديث الضعيف ، وقد يجوز أن يكون الموضع الذي كان سلمة يصيد فيه خارجا من حرم المدينة ، والموضع الذي رأى فيه سعد بن أبي وقاص غلاما يقطع شجرا من حرم المدينة داخله حتى لا يتنافيان ، ولو اختلفا كان الحكم لرواية سعد لصحة حديثه وثقة رجاله دون حديث سلمة - انتهى . ويحتمل أن حديث سلمة كان قبل تحريم المدينة . قال صاحب فتح الملهم : والذي تحصل من مجموع الروايات – والله سبحانه وتعالى أعلم – أن لمكة حرما وللمدينة حرما يختلف عن حرم مكة في نوع من الأحكام كالنهي عن دخولها بغير إحرام وغيره ، ويشبهه في نوع منها كالنهي عن الاصطياد وقطع الشجر مع تفاوت الدرجات فيه من حيث ورود التشديد والتغليظ في شأن مكة وإيجاب العقوبات على من جنى فيها على غير شاكلة ما هو في شأن المدينة من وقوع التساهل والإغماض عمن ارتكب شيئا مما نهى عنه ، وهذا غير خاف على من تأمل في الأحاديث التي ذكرناها من الطحاوي وغيره ، ويشهد لهذا التخفيف أيضا ما رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في خبط شجرها لعلف الدواب ، وقال في حديث جابر عند أبي داود وغيره لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن يهش هشا رفيقا أي ينثر نثرا بلين ورفق ، ولهذا لم يجر التعامل على ما في حديث سعد من التعزير بالسلب ؛ بل قال ابن بطال : حديث سعد في السلب لم يصح عند مالك ولا رأى العمل عليه بالمدينة كما في عمدة القاري – انتهى . وقال الحافظ : قال ابن قدامة : يحرم صيد المدينة وقطع شجرها ، وبه قال مالك والشافعي وأكثر أهل العلم ، وقال أبو حنيفة : لا يحرم ثم من فعل مما حرم عليه فيه شيئا أثم ولا جزاء عليه في رواية لأحمد وهو قول مالك والشافعي في الجديد وأكثر أهل العلم وفي رواية لأحمد وهو قول الشافعي في القديم وابن أبي ذئب واختاره ابن المنذر وابن نافع من أصحاب مالك وقال القاضي عبد الوهاب : إنه الأقيس

(20/12)


واختاره جماعة بعدهم فيه الجزاء وهو كما في حرم مكة وقيل : الجزاء في حرم المدينة أخذ السلب لحديث صححه مسلم عن سعد بن أبي وقاص ، وفي رواية لأبي داود (( من وجد أحدا يصيد في حرم المدينة فليسلبه )) . قال القاضي عياض : لم يقل بهذا بعد الصحابة إلا الشافعي في القديم . قلت ( قائله الحافظ ) : واختاره جماعة معه وبعده لصحة الخبر فيه ، ولمن قال به اختلاف في كيفيته ومصرفه ، والذي دل عليه صنيع سعد عند مسلم وغيره أنه كسلب القتيل وأنه للسالب لكنه لا يخمس ، وأغرب بعض الحنفية فادعى الإجماع على ترك الأخذ لحديث السلب ثم استدل بذلك على نسخ أحاديث تحريم المدينة ، ودعوى الإجماع مردودة فبطل ما ترتب عليها . قال ابن عبد البر : لو صح حديث سعد لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط الأحاديث الصحيحة ، ويجوز أخذ العلف لحديث أبي سعيد في مسلم : (( ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف )) . ولأبي داود من طريق أبي حسان عن علي نحوه ، وقال المهلب : في حديث أنس دلالة على أن المنهي عنه في الحديث الماضي مقصور على القطع الذي
....................................................................................

(20/13)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يحصل به الإفساد ، فأما من يقصد الإصلاح كمن يغرس بستانا مثلا فلا يمتنع عليه قطع ما كان لتلك الأرض من شجر يضر بقاؤه . قال : وقيل : بل فيه دلالة على أن النهي إنما يتوجه إلى ما أنبته الله من الشجر مما لا صنع فيه للآدمي كما حمل عليه النهي عن قطع شجر مكة وعلى هذا يحمل قطعه - صلى الله عليه وسلم - النخل وجعله قبلة المسجد ولا يلزم منه النسخ المذكور – انتهى . ويأتي مزيد الكلام على حرم المدينة ومسألة السلب في شرح حديث سعد الآتي . فائدة : روى مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ، قال : حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابتي المدينة . قال أبو هريرة : فلو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها ، وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى . وروى أبو داود من حديث عدي بن زيد قال : حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل ناحية من المدينة بريدا بريدا لا يخبط شجره و يعضد إلا ما يساق به الجمل . وقد سكت عليه أبو داود وكذا سكت عليه الحافظ في الفتح ، وقال المنذري : في إسناده سليمان بن كنانة ، سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال : لا أعرفه ، ولم يذكره البخاري في تاريخه ، وفي إسناده أيضا عبد الله بن أبي سفيان وهو في معنى المجهول – انتهى . وقال في التقريب في عبد الله بن أبي سفيان : إنه مقبول . قال السمهودي (ص 96) : اعلم أن قوله في حديث مسلم (( وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى )) . ظاهر في التحريم لذلك القدر ، إذ حول المدينة إنما هو حرمها وحمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ليس بحرم لم يكن حول المدينة على ما سيأتي بيانه ، ولأن التقي السبكي قال : إن في سنن أبي داود تحديد حرم المدينة ببريد من كل ناحية . قال : وإسناده ليس بالقوي . والذي رأيته في أبي داود عن عدي بن زيد : حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل

(20/14)


ناحية من المدينة بريدا بريدا ، إلخ . قال : ورواه البزار بنحوه ، ورواه ابن زبالة بلفظ (( حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شجر المدينة بريدا في بريد منها ، وأذن في المسد والمنجدة ومتاع الناضح أن يقطع منه )) . وروى المفضل الجندي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في قصة العبد الذي وجده يعضد أو يخبط عضاها بالعقيق : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من وجد من يعضد أو يخبط شيئا من عضاه المدينة بريدا في بريد فله سلبه " . وروى البزار عن جابر قال : حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة بريدا من نواحيها كلها . ( قال الهيثمي بعد عزوه للبزار : وفيه الفضل بن مبشر وثقه ابن حبان وضعفه جماعة ) قال السمهودي : وفي الأوسط للطبراني : وفيه ضعيف عن كعب بن مالك ، قال : حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشجر بالمدينة بريدا في بريد فأرسلني فأعلمت على الحرم على شرف ذات الجيش وعلى شريب ، وعلى أشراف مخيض وعلى نبت ( قال الهيثمي : في طرقه عبد العزيز بن عمران بن أبي ثابت ، وهو ضعيف ) قال السمهودي : ورواه ابن النجار وابن زبالة بلفظ (( حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة بريدا في بريد وأرسلني فأعلمت على الحرم )) إلخ . قال : وروى ابن زبالة أيضا من طريق مالك بن أنس عن أبي بكر بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الحمى : إلى مضرب القبة . قال مالك : وذلك نحو من بريد . قال السمهودي بعد بيان الألفاظ المتعلقة بالتحديد ما نصه :
فمن أحدث فيها حدثا ، أو آوى

(20/15)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ والتحديد بهذه الأماكن مؤيد لكون مجموع الحرم بريدا ، ولذلك قال ابن زبالة عقب ما تقدم عنه : وذلك كله يشبه أن يكون بريدا في بريد – انتهى . ويحمل عليه قول أبي هريرة في حديث مسلم (( وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى )) لأن ذلك هو البريد أي ستة أميال من جهة قبلتها وستة أميال من جهة شاميها وكذلك في المشرق والمغرب ومثله حديث حمى كل ناحية من المدينة بريدا أي من القبلة إلى الشمال بريدا ، ومن المشرق إلى المغرب بريدا ، وقد أخذ بذلك مالك رحمه الله لكن فرق بين حرم الشجر وحرم الصيد ، وجعل البريد حرم الشجر وما بين اللابتين حرم الصيد . قال عياض في الإكمال : قال ابن حبيب : تحريم ما بين اللابتين مخصوص بالصيد ، قال : وأما قطع الشجر فبريد في بريد في دور المدينة كلها ، بذلك أخبرني مطرف عن مالك وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن وهب – انتهى . وحكى الباجي في المنتقى مثله عن ابن نافع ونقل ابن زبالة عن مالك أنه قال : الحرم حرمان : فحرم الطير والوحش من حرة واقم – أي وهي الحرة الشرقية ، إلى حرة العقيق – أي وهي الغربية – وحرم الشجر بريد في بريد . وقال البرهان بن فرحون : حرم الصيد ما بين حرارها الأربع ، وسماها أربعا لوجود الحرتين المذكورتين في الجهات الأربع ، لانعطاف بعض الشرقية والغربية من جهة الشمال والقبلة ، ولم يعول أصحابنا في تحديد الحرم على البريد مع ما فيه من الزيادة ؛ لأن أدلته ليست بالقوية فعولوا على ما اشتملت عليه الأحاديث الصحيحة من الجبلين واللابتين على أن إطلاق أحاديث التحريم مقترن بعدم الفرق بين حرم الشجر وحرم الصيد سواء كان الحرم بريدا أو دونه غير أن في أحاديث البريد ما يشعر بأنه للشجر ، مع أن ابن زبالة - ومحله من الضعف معلوم – روى عن ابن بشير المازني أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرم ما بين لابتيها – يعني المدينة – من

(20/16)


الصيد ، وعن أبي هريرة وغيره نحوه . وفي رواية له : (( من الطير أن يصاد بها )) ، وقد يقال : هو من باب إفراد فرد مما حرم بالذكر . فإن قيل : قوله في حديث مسلم (( حرم ما بين لابتيها وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى ، دال على الفرق المذكور ، قلنا : ممنوع لأن غايته أن يراد بالحمى الحرم فكأنه قال : وجعل اثني عشر ميلا حولها حرما ؛ إذ ليس فيه أنه جعله حمى الشجر – انتهى كلام السمهودي . ( فمن أحدث ) أي أظهر ( فيها ) أي في المدينة ( حدثا ) بفتحتين أي منكرا أو بدع وهي ما خالف الكتاب والسنة ، وقال العيني : هو الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنة ( أو آوى ) أي ضم وحمى ومكن وأجار . قال عياض : ويقال : أوى وآوى بالقصر والمد في الفعل اللازم والمتعدي جميعا ، لكن القصر في اللازم أشهر وأفصح ، والمد في المتعدي أشهر وأفصح . قال النووي : وبالأفصح جاء القرآن العزيز في الموضعين ، قال الله تعالى ? أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة ? ( سورة الكهف الآية : 62) وقال في المتعدي ? وآويناهما إلى ربوة ? ( سورة المؤمنون :
محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل ، ذمة المسلمين واحدة

(20/17)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الآية 52) ( محدثا ) بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول ، فمعنى الكسر : من نصر جانيا وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه . ومعنى الفتح هو الأمر المبتدع نفسه . ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به والصبر عليه ، فإنه إذا رضي ببدعته وأقر فاعله عليها ولم ينكرها فقد آواه ، قاله العيني . وقال القاري : بكسر الدال على الرواية الصحيحة أي مبتدعا ، وقيل : أي جانيا بأن يحول بينه وبين خصمه أن يقتص منه ، ويروى بفتح الدال أي أمرا مبتدعا ، وإيواؤه الرضاء به والصبر عليه فعليه ) أي فعلى كل منهما ( لعنة الله ) أي طرده وإبعاده ( والملائكة ) أي دعاؤهم عليه بالبعد عن رحمته ( والناس أجمعين ) قال الحافظ : قوله (( فعليه لعنة الله )) إلخ ، فيه جواز لعن أهل المعاصي والفساد لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعين . وفيه أن المحدث والمؤوي للمحدث في الإثم سواء . قال عياض : واستدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر لأن اللعنة لا تكون إلا في كبيرة ، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغ في الإبعاد عن رحمة الله ، فإن اللعن في اللغة هو الطرد والإبعاد . قال : والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر وليس هو كلعن الكافر الذي يبعد من رحمة الله كل الإبعاد . وقال ابن بطال : دل الحديث على أن من أحدث حدثا أو آوى محدثا في غير المدينة أنه غير متوعد بمثل ما توعد به من فعل ذلك بالمدينة وإن كان قد علم أن من آوى أهل المعاصي إنه يشاركهم في الإثم ، فإن من رضي فعل قوم وعملهم التحق بهم ولكن خصت المدينة بالذكر لشرفها ولكونها مهبط الوحي وموطن الرسول عليه الصلاة والسلام . ومنها انتشر الدين في أقطار الأرض فكان لها بذلك مزيد فضل على غيرها . وقال غيره : السر في تخصيص المدينة بالذكر أنها كانت إذ ذاك موطن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صارت

(20/18)


موضع الخلفاء الراشدين (( لا يقبل منه صرف ولا عدل ) بفتح أولهما ، وفي رواية (( لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا )) ، واختلف في تفسيرهما فعند الجمهور الصرف الفريضة والعدل النافلة ، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري وعن الحسن البصري بالعكس ، وعن الأصمعي الصرف التوبة والعدل الفدية ، وقيل غير ذلك . قال عياض : معناه لا يقبل قبول رضى وإن قبل قبول جزاء ، وقيل يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما ، وقد يكون معنى الفدية هنا أنه لا يجد يوم القيامة فداء يفتدي به بخلاف غيره من المذنبين بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري ( ذمة المسلمين ) أي عهدهم وأمانهم واحدة ) أي إنها كالشيء الواحد لا يختلف باختلاف المراتب ، ولا يجوز نقضها لتفرد العاقد بها ، وكان الذي ينقض ذمة أخيه كالذي ينقض ذمة نفسه ، وهي ما يذم الرجل على إضاعته من عهد وأمان كأنهم كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى بعضه اشتكى كله ، قاله القاري . وقال الحافظ : ذمة المسلمين واحدة أي أمانهم صحيح فإذا آمن الكافر واحد من المسلمين حرم على غيره التعرض له ، وللأمان شروط معروفة ، وقال البيضاوي : الذمة العهد سمي بها لأنه يذم متعاطيها
يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل ، ومن والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ،

(20/19)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على إضاعتها ( يسعى بها ) أي يتولاها ويلي أمرها ( أدناهم ) أي أدنى المسلمين مرتبة ، والمعنى أن ذمة المسلمين واحدة سواء صدرت من واحد أو أكثر ، شريف أو وضيع ، فإذا آمن أحد من المسلمين كافرا وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد لأن المسلمين كنفس واحدة . قال الحافظ : دخل في قوله (( أدناهم )) كل وضيع بالنص وكل شريف بالفحوى ؛ فدخل في (( أدناهم )) المرأة والعبد والصبي والمجنون ، فأما المرأة فقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئا ذكره عبد الملك يعني ابن الماجشون صاحب مالك لا أحفظ ذلك عن غيره ، قال : إن أمر الأمان إلى الإمام وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة ، قال ابن المنذر : وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( يسعى بذمتهم أدناهم )) دلالة على إغفال هذا القائل – انتهى . وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون فقال : هو إلى الإمام إن أجازه جاز وإن رده رد ، وأما العبد فأجاز الجمهور أمانه قاتل أو لم يقاتل . وقال أبو حنيفة : إن قاتل جاز أمانه وإلا فلا . وقال سحنون : إذا أذن له سيده في القتال صح أمانه وإلا فلا . وأما الصبي فقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم أن أمان الصبي غير جائز . قلت ( قائله الحافظ ) : وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين المراهق وغيره ، وكذلك المميز الذي يعقل ، والخلاف عن المالكية والحنابلة ، وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف كالكافر ، لكن قال الأوزاعي : إن غزا الذمي مع المسلمين فآمن أحدا فإن شاء الإمام أمضاه وإلا فليرده إلى مأمنه ، وحكى ابن المنذر عن الثوري أنه استثنى من الرجال الأحرار الأسير في أرض الحرب فقال : لا ينفذ أمانه وكذلك الأجير ( فمن أخفر مسلما ) بالخاء المعجمة والفاء أي نقض عهد مسلم وأمانه فتعرض لكافر آمنه مسلم . قال أهل اللغة : يقال : أخفرت الرجل

(20/20)


إذا نقضت عهده وخفرته بغير همز إذا آمنته ، فالهمزة في أخفر للإزالة والسلب نحو اشكيته أي أزلت شكايته فمعنى (( أخفر مسلما )) أزال خفرته أي عهده وأمانه ( ومن والى قوما ) أي اتخذهم أولياء ، وهو يحتمل أن يراد به ولاء المولاة والحلف بأن يكون لرجل موالي فأبطل مولاتهم واتخذ قوما آخرين موالي بغير إذن مواليه والاستشارة بهم فإن فيه نوعا من نقض العهد والإيذاء ، وقيل المراد من نسب نفسه إليهم كانتمائه إلى غير أبيه ، ويحتمل أن يراد ولاء العتاقة وهذا أنسب لما جاء في الرواية الأخرى من أقرانه وذكره مع قوله : (( من ادعى إلى غير أبيه )) يعني من انتسب إلى غير من هو معتق له كان كالدعي الذي ينتسب إلى غير أبيه ، قال النووي : معناه أن ينتمي العتيق إلى ولاء غير معتقه وهذا حرام لتفويته حق المنعم عليه . ولأن الولاء كالنسب فيحرم تضييعه كما يحرم تضييع النسب وانتساب الإنسان إلى غير أبيه ( بغير إذن مواليه ) تنبيه على ما هو المانع وهو إبطال حقهم وأمانتهم وإيراد الكلام على ما هو
لا يقبل منه صرف ولا عدل " . متفق عليه . وفي رواية لهما : " من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل " .

(20/21)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الغالب في الوقوع لا تقييد الحكم بعدم الإذن حتى يجوز الانتساب بإذنهم . قال النووي : احتج قوم بقوله (( بغير إذن مواليه )) على جواز التولي بإذن مواليه ، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يجوز وإن أذنوا كما لا يجوز الانتساب إلى غير أبيه وإن أذن أبوه فيه ، وحملوا التقييد في الحديث على الغالب لأن غالب ما يقع هذا بغير إذن الموالي فلا يكون له مفهوم يعمل به ونظيره قوله تعالى : ? وربائبكم اللاتي في حجوركم ? (سورة النساء : الآية 27) ، وقوله تعالى ? ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ? ( سورة الأنعام : الآية 122) وغير ذلك من الآيات التي قيد فيها بالغالب وليس لها مفهوم يعمل به - انتهى . وقال الخطابي : ليس إذن الموالي شرطا في ادعاء نسب وولاء ليس منه وإليه ، وإنما ذكر تأكيدا للتحريم لأنه إذا استأذنهم في ذلك منعوه وحالوا بينه وبين ما يفعل من ذلك – انتهى . قال الحافظ : وهذا لا يطرد لأنهم قد يتواطؤن معه على ذلك لغرض ما ، والأولى ما قال غيره أن التعبير بالإذن ليس لتقييد الحكم بعدم الإذن وقصره عليه ، وإنما ورد الكلام بذلك على أنه الغالب – انتهى . قال الحافظ : ويحتمل أن يكون كنى بذلك عن بيعه فإذا وقع بيعه جاز له الانتماء إلى مولاه الثاني وهو غير مولاه الأول ، أو المراد موالاة الحلف ، فإذا أراد الانتقال عنه لا ينتقل إلا بإذن ، وقال البيضاوي : الظاهر أنه أراد به ولاء العتق لعطفه ( في الرواية الآتية ) على قوله (( من ادعى إلى غير أبيه )) والجمع بينهما بالوعيد ، فإن العتق من حيث أنه لحمة كلحمة النسب فإذا نسب إلى غير من هو له كالدعي الذي تبرأ عمن هو منه وألحق نفسه بغيره ، فيستحق به الدعاء عليه بالطرد والإبعاد عن الرحمة ثم أجاب عن الإذن بنحو ما تقدم ، وقال : ليس هو للتقييد ، وإنما هو للتنبيه على ما هو المانع ، وهو إبطال حق مواليه ، فأورد الكلام على ما هو

(20/22)


الغالب ( متفق عليه ) . أخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي الفرائض وفي الاعتصام ، ومسلم في الحج وفي العتق ، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود في أواخر الحج والترمذي في الولاء والهبة ، والنسائي والطحاوي والبيهقي وغيرهم ( وفي رواية لهما ) أي للشيخين وفيه أن قوله (( من ادعى إلى غير أبيه )) ليس في رواية البخاري ( من ادعى ) أي انتسب ( إلى غير أبيه ) أي المعروف ) أو تولى غير مواليه ) هذا العطف يؤيد من فسر الموالاة بولاء العتاقة كما تقدم ( فعليه لعنة الله ) إلخ . قال النووي : هذا صريح في غلظ تحريم انتماء الإنسان إلى غير أبيه أو انتماء العتيق إلى ولاء غير مواليه لما فيه من كفر النعمة وتضييع حقوق الإرث والولاء والعقل وغير ذلك مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق .
2754 – (2) وعن سعد ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني أحرم ما بين لابتي المدينة : أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(20/23)


2754 – قوله ( وعن سعد ) أي ابن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة ( إني أحرم ما بين لابتي المدينة ) بتخفيف الموحدة تثنية لابة ، وهي الحرة وهي الأرض ذات الحجارة السود كأنها أحرقت بالنار وأراد بهما حرتين تكتفانها وجمع اللابة لوب ولابات ولاب . قال ابن حبيب : هما الحرتان الشرقية والغربية ، وللمدينة حرتان حرة بالقبلة ( من جهة الجنوب ) وحرة بالجرف ( من جهة الشمال ) فهي حرار أربع لكن يرجع كلها إلى الحرتين الشرقية والغربية لاتصالهما بهما ولذلك جمعها - صلى الله عليه وسلم - في اللابتين . وقال السمهودي : ما بين لابتيها أي حرتيها الشرقية والغربية ، والمدينة بينهما ، ولها أيضا حرة بالقبلة وحرة بالشام لكنهما يرجعان إلى الشرقية والغربية لاتصالهما بهما ، ولهذا جمعها - صلى الله عليه وسلم - كلها في اللابتين كما نبه عليه الطبري – انتهى . قال الحافظ : قد تكرر ذكر اللابتين في الحديث ووقع في حديث جابر عند أحمد (( وأنا أحرم المدينة ما بين حرتيها )) فادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب لأنه وقع في رواية (( ما بين جبليها )) وفي رواية (( ما بين لابتيها )) وفي رواية (( مازميها )) وتعقب بأن الجمع بينهما واضح وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة ، فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح ، ولا شك أن رواية ما بين لابتيها أرجح لتوارد الرواة عليها ، ورواية جبليها لا تنافيها فيكون عند كل لابة جبل أو لا بتيها من جهة الجنوب والشمال وجبليها من جهة الشرق والغرب ، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر ، وأما رواية مازميها فهي في بعض طرق أبي سعيد ، والمزم بكسر الزاي المضيق بين الجبلين ، وقد يطلق على الجبل نفسه كذا قال الحافظ في شرح حديث أنس في باب حرم المدينة . وفيه نظر فإنه ليس عند كل جبل لابة ولا أن لابتيها من جهة الجنوب والشمال وجبليها من جهة المشرق والمغرب بل الحقيقة أن حديث ما بين لابتيها يعني من جهة المشرق والمغرب ، فإن من جهة

(20/24)


المشرق حرة ومن جهة المغرب أخرى ، وحديث ما بين جبليها يعنى الحرتين الجنوبية والشمالية ، قال النووي : للمدينة لابتان شرقية وغربية وهي بينهما . قال : والمراد باللابتين الحرتان ، قال : وهذه الأحاديث كلها متفقة فما بين لابتيها بيان لحد حرمها من جهتي المشرق والمغرب وما بين جبليها لحده من جهة الجنوب والشمال . وقال الحافظ في باب لابتي المدينة في شرح حديث أبي هريرة ( ما بين لابتيها حرام )) : أن المدينة بين لابتين شرقية وغربية ولها لابتان أيضا من الجانبين الآخرين إلا أنهما يرجعان إلى الأوليين لاتصالهما بهما ، والحاصل أن جميع دورها كلها داخل ذلك – انتهى . قال النووي : ومعنى قوله (( ما بين لابتيها ، للابتان وما بينهما ، والمراد تحريم المدينة ولابتيها يعني أن اللابتين داخلتان أيضا . قال الأبي : ولعلها بدليل آخر وإلا فلفظ (( بين )) لا يشملهما – انتهى . ( أن يقطع ) بدل اشتمال من المفعول ( عضاهها ) بكسر العين المهملة ،
وقال : " المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، لا يدعها أحد رغبة عنها

(20/25)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهي كل شجر عظيم له شوك كالطلح والعوسج واحدها عضاهة وعضهة وعضه وعضة بحذف الهاء الأصلية كما يحذف من الشفة ( وقال : المدينة خير لهم ) قال القاري : أي لأهلها من المؤمنين في الدنيا والأخرى ، وذلك مطلق إن كان قبل الفتح ومقيد بغير مكة إن كان بعده ، أو المراد بالخيرية من جهة بركة المعيشة فلا ينافي بركة الفضيلة الزائدة الثابتة لمكة بالأحاديث الصحيحة الصريحة – انتهى . قلت : احتج ابن رشد بالحديث على تفضيل المدينة على مكة ، ولا دليل فيه لأن كونها خيرا مطلق يصدق بصورة ككونها خيرا من الشام لا من كل الأرض . وقال السندي في حاشية مسلم : قوله (( المدينة خير لهم )) قال ذلك في ناس يتركون المدينة إلى بعض بلاد الرخاء كالشام وغيره كما سيجيء ، وهؤلاء الناس هم المراد بضمير (( لهم )) أي المدينة خير لأولئك التاركين لها من تلك البلاد التي يتركون المدينة لأجلها فلا دليل في الحديث على تفضيل المدينة على مكة كما لا يخفى ( لو كانوا يعلمون ) أي ما فيها من الخير لما فارقوها وما اختاروا غيرها عليها وما تحولوا للتوسعة في الدنيا ، قال السندي : ليس المراد به أنها خير على تقدير العلم ، إذ المدينة خير لهم علموا أو لا ، بل المراد لو علموا بذلك لما فارقوها ، وقد يجعل كلمة لو للتمني لكن قد يقال : كثير منهم يبلغهم الخبر ويفارقونها فأولئك قد علموا بذلك لبلوغهم الخبر ومع ذلك فارقوها فكيف يصح (( لو علموا بذلك لما فارقوها )) ؟ قلت : يمكن دفعه بأن المراد لو علموا بذلك عيانا وليس الخبر كالمعاينة ، أو يقال هو من تنزيل العالم الذي لا يعمل بعلمه بمنزلة الجاهل ، كأنه ما علم هذا ، وقد يقال : المعنى المدينة خير لهم لو كانوا من أهل العلم ، إذ البلدة الشريفة لا ينتفع بها إلا الأهل الشريف الذين يعملون على مقتضى العلم ، وأما من ليس من أهل العلم فلا ينتفع بالبلدة الشريفة بل ربما

(20/26)


يتضرر ، فخيرية البلدة ليست إلا لأهلها ، ومن يليق للاقإمة فيها فافهم – انتهى . وقال الأبي : (( لو )) هذه إن كانت امتناعية فجوابها محذوف أي لو كانوا من أهل العلم لعلموا ذلك ولم يفارقوا المدينة ، وإن كانت متعدية فالتقدير لو كانوا يعلمون ذلك لما فارقوها ، وإن كانت للتمني لم تفتقر إلى جواب ، وعلى التقديرين هو تجهيل لمن فعل ذلك لتفويته عن نفسه أجرا عظيما ، ولذلك قال : إلا أبدل الله فيها خيرا منهم ، كما قال تعالى : ? وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ? ( سورة محمد : الآية40) ، أي يخلق خلقا سواكم على خلاف صفتكم من الرغبة في الإيمان ( لا يدعها ) استئناف مبين أي لا يتركها ( أحد ) ممن استوطنها ( رغبة عنها ) أي عن ثواب الساكن فيها ، وأما من خرج لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها . وقال القرطبي والمازري : رغبة عنها أي كراهة لها من رغبت عن الشيء إذا كرهته . وقال الباجي : الظاهر عندي أنه إنما أراد به الخروج عن استيطانها إلى استيطان غيرها ، وأما من كان مستوطنا غيرها يعني من كان وطنه غيرها فقدم عليها طالبا للقربة بإتيانها ورجع إلى وطنه أو كان مستوطنا بها فسافر عنها لحاجة أو لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها –
إلا أبدل الله فيها من هو خير منه ، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا

(20/27)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ انتهى . ( إلا أبدل الله فيها ) أي في المدينة ( من هو خير منه ) قال الباجي : بمولود يولد فيها أو بمنتقل ينتقل إليها من غيرها . قيل هذا خاص بزمن حياته - صلى الله عليه وسلم - ، وقيل : دائما . ويدل عليه قوله في حديث (( يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء ، المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون )) . وقال ابن عبد البر : هذا في حياته - صلى الله عليه وسلم - وذلك مثل الأعرابي القائل (( أقلني بيعتي )) ومعلوم أن من رغب عن جواره أبدله الله خيرا منه ، وأما بعد وفاته فقد خرج منها جماعة من أصحابه ولم تعوض المدينة خيرا منهم . قال الزرقاني : يعني كأبي موسى وابن مسعود ومعاذ وأبي عبيدة وعلي وطلحة والزبير وعمار وحذيفة وعبادة بن الصامت وبلال وأبي الدرداء وأبي ذر وغيرهم ، وقطنوا غيرها وماتوا خارجا عنها ولم تعوض المدينة مثلهم فضلا عن خير منهم ، فدل ذلك على التخصيص بزمنه - صلى الله عليه وسلم - . قال الأبي : الأظهر أن ذلك ليس خاصا بالزمن النبوي ومن خرج من الصحابة لم يخرج رغبة عنها بل إنما خرج لمصلحة دينية من تعليم أو جهاد أو غير ذلك – انتهى . قال الزرقاني : لا يقال ليس النزاع في أن خروجهم لما ذكر إنما هو في تعويضها بخير منهم ، وهذا لم يقع فالأظهر التخصيص لأنا نقول : الإبدال مقيد بالخروج رغبة عنها فلا يرد أن الخارج لمصلحة دينية لم تعوض مثلهم – انتهى . قلت : هذا هو الظاهر بل الصحيح فإن التعويض والإبدال لما كان مقيدا بترك المدينة والخروج رغبة عنها فلا مانع من حمله على الإطلاق والعموم ( ولا يثبت أحد ) أي بالصبر ( على لأوائها ) بالمد بسكون الهمزة الأولى وتبدل ألفا أي شدة جوعها ( وجهدها ) بفتح الجيم وقد تضم أي مشقتها مما يجد فيه من شدة الحر وكربة الغربة وأذية من فيها من أهل البدعة لأهل السنة . قال الجوهري : اللأواء الشدة ، لكن

(20/28)


المراد هنا ضيق المعيشة والقحط لما في أكثر الروايات على لأوائها وشدتها فلابد من الاختلاف في معناهما وإن كان يمكن أن يكون العطف تفسيريا وتأكيديا لأن التأسيس أولى ، والأصل في العطف التغاير فيحمل اللأواء على ضيق المعيشة والجهد على ما يصيبهم من الحر وعلى ما يصيب المهاجر فيها من وحشة الغربة وغير ذلك ، كذا في المرقاة ، وشرح المصابيح للتوربشتي . قال الأبي : الحديث خرج مخرج الحث على سكناها فمن لزم سكناها دخل في ذلك ولو لم تلحقه لأواء لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور كتعليل القصر بمشقة السفر ( إلا كنت ) بصيغة المتكلم ( له شفيعا أو شهيدا ) قال عياض : سئلت قديما عن معنى هذا الحديث يعنى أن (( أو )) هذه هل هي للشك أو غيره ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته - صلى الله عليه وسلم - وادخاره إياها لأمته ؟ قال : وأجبت عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه . قال : وأذكر الآن منه يعنى في شرح مسلم لمعا تليق بهذا الموضع قال بعض شيوخنا : أو هنا
يوم القيامة " . رواه مسلم .
2755 – (3) وعن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا

(20/29)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ للشك والأظهر عندنا أنها ليست للشك لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ ، ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة بل الأظهر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال هكذا ، فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا ( أي من الله تعالى ) وإما أن يكون أو للقسيم ويكون شهد لبعض أهل المدينة وشفيعا لباقيهم إما شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين وإما شهيدا لمن مات في حياته وشفيعا لمن مات بعده أو غير ذلك ، وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة لمكانة المذنبين يوم القيامة ، وعلى شهادته على جميع الأمة وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في شهداء أحد : أنا شهيد على هؤلاء فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية وزيادة منزلة وحظوة . قال : وقد تكون أو بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعا وشهيدا معا . قال : وقد روي : إلا كنت له شهيدا وله شفيعا – انتهى . قال الزرقاني : بالواو رواه البزار من حديث ابن عمر . قال عياض : وإذا جعلنا أو للشك كما قيل فإن كانت اللفظة الصحيحة (( شهيدا )) اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة المجردة لغيرهم ، وإن كانت (( شفيعا )) فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عموهما وادخارها لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي لإخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم منها بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - في القيامة وتكون هذه الشفاعة بزيادة الدرجات ورفعها أو تخفيف السيئات أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح أو على منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض- انتهى . كذا نقله عنه النووي في شرح مسلم

(20/30)


وغيره وأقروه ( يوم القيامة ) في الحديث إشارة إلى بشارة حسن الخاتمة وتنبيه على أنه ينبغي للمؤمن أن يكون صابرا بل شاكرا على إقامته في المدينة ولا ينظر إلى ما في عداها من النعم الصورية لأن العبرة بالنعم الحقيقية الأخروية ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 : ص 181 ، 185) والبيهقي (ج 5 : ص 197) .
2755- قوله ( لا يصبر على لأواء المدينة ) أي شدة جوعها ( وشدتها ) عطف تفسير على قول بعض الشراح ، وقال أبو عمر : يعني المدينة والشدة والجوع واللأواء تعذر الكسب وسوء الحال . وقال المازري : اللأواء الجوع وشدة المكسب ، وضمير شدتها يحتمل أن يعود على اللأواء
ويحتمل أن يعود إلى المدينة . وقال الباجي : اللأواء هو الجوع وتعذر التكسب والشدة يحتمل أن يريد بها اللأواء ويحتمل أن يريد بها كل ما يشتد به سكانها وتعظم مضرته ( أحد من أمتي إلا
كنت له شفيعا يوم القيامة " . رواه مسلم .
2756 – (4) وعنه قال : كان الناس إذا رأوا أول الثمرة جاءوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا أخذه قال : " اللهم بارك لنا في ثمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كنت له شفيعا يوم القيامة ) كذا وقع في المشكاة والمصابيح ، أي بذكر شفيعا فقط ، وفي صحيح مسلم كنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا . وهكذا عند أحمد والبخاري في الكبير والترمذي ، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج 10 : ص 199) والظاهر أنه سقط لفظ (( أو شهيدا )) في المشكاة والمصابيح . وقد تقدم أنهم اختلفوا في هذا فقيل هو مختص بمدة حياته - صلى الله عليه وسلم - ، وقال آخرون : هو عام أبدا ، وهذا أصح ، حكاه النووي عن عياض وأقره ( رواه مسلم ) وأخرجه أيضا أحمد (ج 2 : ص 288 ، ) ، والبخاري في التاريخ الكبير (ج2 : ص284 ، 285) والترمذي في فضل المدينة من آخر المناقب .

(20/31)


2756- قوله ( كان الناس ) أي الصحابة ( إذا رأوا أول الثمرة ) كذا في المشكاة والمصابيح وجامع الأصول ، ولفظ مسلم (( أول الثمر )) أي بغير التاء ، وهكذا في الموطأ وجامع الترمذي ، والظاهر أن ما وقع في المشكاة والمصابيح وجامع الأصول خطأ ، والثمر بفتح المثلثة والميم ، وأول الثمر يسمى الباكورة ، فالمعنى إذا رأوا باكورة الثمر وهي أول ما يدرك من الفاكهة ( جاءوا به ) أي بأول الثمر ( إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي هدية له - صلى الله عليه وسلم - كما يدل عليه إعطاؤه لوليد . قال العلماء : كانوا يفعلون ذلك رغبة في دعائه - صلى الله عليه وسلم - في الثمر وللمدينة والصاع والمد ، وإعلاما له - صلى الله عليه وسلم - بابتداء صلاحها بما يتعلق بها من الزكاة وغيرها ، وتوجيه الخارصين . وقال الأبي : وقيل : إنما كانوا يؤثرونه به على أنفسهم حبا له ، ويرونه أولى الناس بما يسبق إليهم من خير من ربهم . وقال الزرقاني : إما هدية وجلالة ومحبة وتعظيما ، وإما تبركا بدعائه لهم بالبركة وهو الذي يغلب على ظني ، وسياق الحديث يدل عليه ، والمعنيان محتملان ، قاله ابن عبد البر . وكذا ذكر هذين الاحتمالين التوربشتي . وقال الباجي : يريد بالثمر ثمر النخل لأنه هو المقصود ثمارها ، وأتوا به تبركا بدعائه وإعلاما له ببدو الصلاح ، إما لما كان يتعلق به من إرسال الخراص ليستحلوا أكلها والتصرف فيها ، وإما ليعلموه جواز بيع ثمارهم لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيعها قبل بدوها ( فإذا أخذه ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال الزرقاني : زاد في بعض طرق الحديث (( وضعه على وجهه )) أي إظهارا للفرح والمسرة ( اللهم بارك لنا في ثمرنا ) بالنماء والزيادة والبقاء ( وبارك لنا في مدينتنا أي في ذاتها من جهة سعتها ووسعة أهلها ، وقد استجاب الله دعاءه عليه الصلاة والسلام بأن وسع نفس المسجد وما حوله من المدينة وكثر الخلق فيها حتى عد

(20/32)


من الفرس المعد للقتال المهيأ بها في زمن عمر أربعون
وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مدنا ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ألف فرس ، والحاصل أن المراد بالبركة هنا ما يشمل الدنيوية والأخروية والحسبة ، قاله القاري . وقيل بارك لنا في مدينتنا في أمور أخرى أيضا سوى الثمار ( وبارك لنا في صاعنا ) أي فيما يكال به كمية وكيفية ( وبارك لنا في مدنا ) قال الزرقاني : أي بارك لنا في ما يكال في صاعنا وبارك لنا في ما يكال في مدنا ، فحذف المقدر لفهم السامع وهو من باب ذكر المحل وإرادة الحال . قال ابن عبد البر : هذا من فصيح كلامه وبلاغته - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه استعارة ، لأن الدعاء إنما هو للبركة في الطعام المكيل بالصاع والمد لا في الظروف ، ويحتمل على ظاهر العموم أن تكون فيهما . وقال القاضي عياض : البركة هنا بمعنى النماء والزيادة وتكون بمعنى الثبات واللزوم ، قال : فقيل يحتمل أن تكون هذه البركة دينية ، وهي ما تتعلق بهذه المقادير من حقوق الله تعالى في ذكر الزكوات والكفارات فتكون بمعنى الدعاء للثبات والبقاء لها كبقاء الحكم بها ببقاء الشريعة وثباتها ، ويحتمل أن تكون دنيوية من تكثير المال والقدر بهذه الأكيال حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة ، أو ترجع البركة إلى التصرف بها في التجارة وأرباحها أو إلى كثرة ما يكال بها من غلاتها وثمارها ، أو تكون الزيادة فيما يكال بها لاتساع عيشهم وكثرته بعد ضيقه بما فتح الله عليهم ووسع من فضله لهم وتمليكهم من بلاد الخصب والريف بالشام والعراق ومصر وغيرها حتى كثر الحمل إلى المدينة واتسع عيشهم حتى صارت هذه البركة في الكيل نفسه فزاد مدهم وصار هشاميا مثل مد النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين أو مرة ونصفا . وفي هذا كله ظهور إجابة دعوته - صلى الله عليه وسلم - وقبولها – انتهى كلام القاضي . قال النووي : الظاهر من هذا كله أن المراد==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.كتاب المزهر في معرفة اللغة للسيوطي الجزء الثالث والاخير{من النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي الي الخاتمة}

  النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي  أول ما يلزمه الإخلاص وتصحيح النية لقوله ﷺ: « الأعمال بالنيات » ثم التحري في الأخذ عن الثقات لق...