الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج3.وج4.كتاب:مرعاة المفاتيح

 

3.

الكتاب:مرعاة المفاتيح

267- قوله: (آفة العلم النسيان) أي بعد حصوله، فيه تنبيه على الاجتناب عن مباشرة الأسباب التي توجب النسيان، من اقتراف الذنوب، وارتكاب الخطايا، وتشعب الهموم، ومشاغل النفس والدنيا، والإعراض عن استحضاره. (وإضاعته أن تحدث به غير أهله) بأن لا يفهمه، أو لايعمل به من أرباب الدنيا. (رواه الدارمي مرسلا) أي معضلا. وكذا أخرجه عنه ابن أبي شبية، أي مرفوعا معضلا، وأخرج صدره فقط عن ابن مسعود موقوفا، قال
268- (71) وعن سفيان أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لكعب: "من أرباب العلم"؟ قال: "الذين يعملون بما يعلمون"، قال: "فما أخرج العلم من قلوب العلماء"؟ قال: "الطمع"، رواه الدارمي.
السيد: المراد بالإرسال المعنى اللغوى الذي هو الانقطاع؛ لأن الأعمش لم يسمع من أحد من الصحابة.

(2/248)


268- قوله: (عن سفيان) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، أبوعبدالله من كبار أتباع التابعين، وإمام المسلمين، وحجة الله على خلقه، جمع في زمنه بين الفقه والاجتهاد فيه، والحديث، والزهد، والعبادة، والورع، والثقة، وإليه المنتهى في علم الحديث وغيره من العلوم. أجمع الناس على دينه، وزهده، وورعه، وثقته، وهو أحد الأئمة المجتهدين، وأحد أقطاب الاسلام وأركان الدين. سمع خلقا كثيرا، وروى عنه الأوزاعي، ومالك، وابن جريج، وخلق كثير سواهم، حتى قيل: روى عنه عشرون ألفا، يبلغ حديثه ثلثين ألفا. وقال في التقريب: إنه ثقة، حافظ، فقيه؟ عابد، إمام، حجة. ولد سنة (97)، ومات بالبصرة سنة (161) وله أربع وستون. (قال لكعب) هو كعب بن ماتع الحميرى، أو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، جمع الحبر-بكسر الحاءوفتحها – بمعنى العالم والصالح، ويضاف إليه إما لكثرة كتابته، أو معناه ملجأ العلماء. وقال الطيبي: الإضافة كما في زيد الخيل. وهو من آل ذي رعين، وقيل: من ذى الكلاع. أدرك الجاهلية، ولم يره - صلى الله عليه وسلم - وأسلم في زمن عمر، وكان من أهل الكتاب. قال الحافظ: ثقة، من كبار التابعين، مخضرم، كان من أهل اليمن فسكن الشام، ومات في حمص، في خلافة عثمان سنة (32)، وقد بلغ مائة وأربع سنين. وخص عمر كعبا بذلك السؤال؛ لأنه كان ممن علم التوراة وغيرها، وأحاط بالعلم الأول. (من أرباب العلم) أي من هم أصحابه عندكم أو في كتابكم؟ قال الطيبي: أي من ملك العلم ورسخ فيه، واستحق أن يسمى بهذا الاسم. (الذين يعملون بما يعلمون) قال الطيبى: وهم الذين سماهم الله الحكماء في قوله: ?ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا? [269:2]؛ لأن الحكيم من علم دقائق الأشياء وأتقنها برصانة العلم ، فعلم منه أن العالم ما لم يعمل لم يكن من أرباب العلم، بل كان كمثل الحمار يحمل أسفارا. (فما أخرج العلم) أي نوره وهيبته وبركته، (من قلوب العلماء) أي العاملين، لما

(2/249)


تقدم أن غير العاملين ليسوا بعلماء. (قال: الطمع) أي في الدنيا؛ لأنه يؤدي إلى الرياء والسمعة، والعلم والعمل بدون الإخلاص لا يوصلان السالك إلى مقام الاختصاص، فمفهومه أن الورع يدخل العلم في قلوب العلماء. وقال الطيبي: الفاء أي في قوله: فما أخرج، جزاء شرط محذوف، والتعريف في العلم للعهد الخارجي، وهو ما يعلم من قوله: "أرباب العلم" أي إذا كان أرباب العلم من جمع بين العلم والعمل، فلم ترك العالم العمل، وما الذي دعاه إلى ترك العمل لينعزل عن هذا الاسم؟ قال: الطمع في الدنيا والرغبة فيها. (رواه الدارمي)أي موقوفا من قول كعب، وهو معضل أيضا فإن سفيان الثوري بينه وبين عمر مفاوز.
269- (72) وعن الأحوص بن حكيم، عن أبيه، قال: ((سأل رجل النبي- صلى الله عليه وسلم -عن الشر. فقال: لا تسألوني عن الشر، وسلوني عن الخير، يقولها ثلاثا، ثم قال: ألا إن شر الشر شرار العلماء، وإن خير الخير خيار العلماء)). رواه الدارمي.
270- (73) وعن أبي الدرداء قال: "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه". رواه الدارمي.

(2/250)


269- قوله: (عن الأحوص بن حكيم) بن عمير العنسى الحمصى، رأى أنسا وعبدالله بن بسر، ضعيف الحفظ، من صغار التابعين، قاله الحافظ وضعفه أيضا النسائى، وابن معين، وابن المديني، (عن أبيه) حكيم بن عمير بن الأحوص، قال أبوحاتم: لا بأس به. وقال الحافظ: صدوق يهم، من الثالثة، أي من أوساط التابعين (عن الشر) أي فقط يعني عن أشر الناس، كما يدل عليه الجواب. (لا تسألوني) بتخفيف النون، فإن لا ناهية. ( عن الشر) أي فحسب، قال ابن حجر: لأنى رؤف رحيم، نبي الرحمة. فالمراد النهي عن لازم ذلك من إيهام غلبة مظاهر الجلال فيه على مظاهر الجمال، وإلا فالسؤال عن الشر ليجتنب واجب كفاية أو عينا، فكيف ينهى عنه. (وسلوني عن الخير) إما منفردا أو منضما بالسؤال عن الشر. (يقولها ثلاثا) قال الطيبي: حال من فاعل قال، والضمير المؤنث راجع إلى الجملة، أعني لا تسألوني الخ، أو إلى الجملة القريبة. (ألا) بالتخفيف للتنبيه. (إن شر الشر) أي أعظمه (شرار العلماء) الخ. المراد بشرار العلماء من لا يعملون بعلمهم ولا ينتفع به غيرهم، كما يدل عليه أثر ابي الدرداء. قال الطيبي: وإنما كانوا شر الشر وخير الخير؛ لأنهم سبب لصلاح العالم وفساده، وإليهم تنتمى أمور الدين والدنيا، وبهم الحل والعقد. (رواه الدارمي) أي مرسلا من طريق بقية عن الأحوص عن أبيه ، وبقية مدلس، رواه عن الأحوص بالعنعنة، والأحوص ضعيف كما تقدم. وأخرج البزار وأبونعيم في الحلبة نحوه عن معاذ بن جبل ، وفيه الخليل بن مرة وهو ضعيف.

(2/251)


270- قوله: (إن من أشر الناس) قال الطيبي: من زائدة وعالم خبر إن، وقيل: من تبعيضية ، والتقدير: إن بعض أشرارهم. (لا ينتفع) بصيغة المعلوم، أي هو (بعلمه) بأن تعلم علما شرعيا وما عمل به، فإنه شر من الجاهل، وعذابه أشد من عقابه، روى الطبراني وابن عساكر والبيهقي عن أبي هريرة: "أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه"، وقيل بصيغة المجهول، أي لا ينتفع الناس بعامه لأجل كتمه عنهم، وعدم نشره بالتعليم والتدريس، أو التصنيف، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويؤيد هذا الاحتمال حديث أبي هريرة الاتى"مثل علم لا ينتفع به" الخ. (رواه الدارمي )أي موقوفا، قال الالباني: وإسناده ضعيف. رجاله ثقات غير ابن القاسم بن قيس فلم أعرفه، ورواه الطبراني في الصغير وابن عبد البر في الجامع عن أبي هريرة مرفوعا نحوه وسنده ضعيف جدا.
271- (74) وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: "هل تعرف ما يهدم الاسلام؟ قال:قلت: لا؛ قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين". رواه الدارمي.
272- (75) وعن الحسن ، قال: "العلم علمان، فعلم في القلب فذاك العلم النافع، وعلم على اللسان، فذاك حجة الله عزوجل على ابن آدم". رواه الدارمي.

(2/252)


271- قوله: (عن زياد بن حدير) بضم الحاء وفتح الدال المهملتين، بعدها تحتية ساكنة، بعدها راء، أبومغيرة الأسدى، روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، والعلاء الحضرمي، قال في التقريب: ثقة، عابد من كبار التابعين وثقة أبوحاتم، والدارقطني، وابن حبان. (مايهدم الإسلام) أي يزيل عزته. (زلة العالم) أي عثرته بتقصير منه (وجدال المنافق) الذي يظهر السنة ويبطن البدعة. (بالكتاب) أي القرآن، وإنما خص لأن الجدال به أقبح يؤدى إلى الكفر، وذلك لإفساده الدين. (وحكم الأئمة المضلين) أي على وفق أهوائهم وإكراههم الناس عليه، فالعلماء الزائغون عن الحق، والمنافقون المجادلون المبتدعون، وأمراء الجور هم الذين يضعفون أركان الإسلام ويعطلونها بأعمالهم. قال الطيبي: المراد بهدم الإسلام تعطيل أركانه الخمسة في قوله: - عليه السلام -: "بنى الإسلام على خمس" الحديث. وتعطيله إنما يحصل من زلة العالم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإتباع الهوى، ومن جدال المبتدعة وغلوهم في إقامة البدع بالتمسك بتأويلاتهم الزائغة، ومن ظهور ظلم الأئمة المضلين، وإنما قدمت زلة العالم؛ لأنها هي السبب في الخصلتين الأخيرتين، كما جاء "زلة العالم زلة العالم". (رواه الدارمي) أي موقوفا، وأخرجه أيضا ابن المبارك، وجعفر الفريابي في صفة المنافق، ونصر المقدسي في الحجة، وابن النجار وآدم بن أبي إياس وابن عبدالبر في العلم، وروي في "الخوف على الأمة من زلة العالم وجدال المنافق" وغير ذلك أحاديث عن جماعة من الصحابة، ذكرها الهيثمى في مجمع الزوائد (ج1:ص186، 187) مع الكلام عليها، وعلي المتقى في كنزل العمال (ج5:ص212، 232، 233).

(2/253)


272- قوله: (العلم) أي الشرعي (علمان) أي نوعان. (فعلم) الفاء تفصيلية أي فنوع منه. (في القلب) المراد بعلم في القلب. ما ظهر أثره ونوره في القلب بأن يعمل به ويجري على مقتضاه، ويظهر السنة ويبطل البدعة. (فذاك العلم النافع) المذكور المطلوب في الأدعية المأثورة. (وعلم على اللسان) أي ونوع آخر من العلم جار على اللسان، ظاهر عليه فقط، لم يظهر أثره ونوره في القلب، ولا أورث العمل، (فذاك حجة الله عزوجل على ابن آدم) فيقول له يوم القيامة: ماذا عملت فيما تعلمت؟ وهو الذي استعاذ منه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((أعوذبك من علم لا ينفع)). (رواه الدارمي) أي موقوفا، وأخرجه الخطيب في تاريخه، عن الحسن، عن جابر مرفوعا بإسناد حسن، وأبونعيم في الحلية، والديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعا، وأخرجه ابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن عبدالبر في كتاب
273- (76) وعن أبي هريرة، قال: ((حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعائين، فأما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم – يعني مجرى الطعام)) رواه البخارى.
274- (77) وعن عبدالله قال: "يا أيهاالناس من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم،
العلم عن الحسن مرسلا بإسناد صحيح، وأخرجه البيهقي عن الفضيل بن عياض من قوله: غير مرفوع.

(2/254)


273- قوله: (وعائين) بكسر الواو والمد، تثنية وعاء أي ظرفين، أطلق المحل وأراد الحال، أي نوعين من العلم، ومراده أن محفوظه من الحديث لو كتب لملأ وعائين. (فأما أحدهما) أي أحد ما في الوعائين من نوعي العلم (فبثثته) أي أظهرته ونشرته (فيكم) ليس هذا اللفظ في البخاري، قال الحافظ: زاد الإسماعيلي وقال القسطلاني: زاد الأصلي "في الناس"، (قطع هذا البلعوم) بضم الباء، كنى بذلك عن القتل، وفي وراية الإسماعيلي "لقطع هذا" يعني رأسه. (يعني مجرى الطعام) أي في الحلق، وهو المري، وأراد بالوعاء الذي لم يبثه، ما كتمه من أخبار الفتن والملاحم، وتغير الأحوال في آخر الزمان، وما أخبر به الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من فساد الدين على يدي أغيلمة من سفهاء قريش، وقد كان أبوهريرة يقول: لوشئت أن أسميهم بأسمائهم، أو المراد الأحاديث التي فيها تبيين أسماء أمراء الجور، وأحوالهم، وزمنهم، وقد كان أبوهريرة يكني عن بعض ذلك ولا يصرح خوفا على نفسه منهم، كقوله أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. قال ابن المنير: جعل الباطنية هذا الحديث ذريعة إلى تصحيح باطلهم، حيث اعتقدوا أن للشريعة ظاهرا وباطنا، وذلك الباطل إنما حاصله الانحلال من الدين، قال: وإنما أراد أبوهريرة بقوله: "قطع" أي قطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عيبه بفعلهم وتضليله لسعيهم. ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتومة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها؛ لما ذكر هو من الآية الدالة على ذم من كتم العلم. وقال غيره قد نفى أبوهريرة بثه على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك؟ وأبوهريرة لم يكشف مستوره فيما نعلم، فمن أين علم الذي كتمه؟ فمن ادعى ذلك فعليه البيان. (رواه البخاري) في العلم، قال القسطلاني: زاد في رواية ابن عساكر، والأصيلي، وأبي الوقت، وأبي ذر،

(2/255)


والمستملى قال أبوعبدالله: يعني البخاري "البلعوم" مجرى الطعام، وعلىهذا لا يخفى ما في المشكاة، إذ يفهم منه أن قوله: يعني "مجرى الطعام" من أحد رواة الحديث، ولا يفهم منه أنه للبخاري.
274- قوله: (وعن عبدالله) إذا أطلق فهو ابن مسعود. (قال يا أيهاالناس) الخ تعريضا بالرجل القائل: "يحئ دخان يوم القيامة" وإنكارا عليه، يعني لا تتكلفوا فيما لا تعلمون. (من علم شيئا) من علوم الدين فسأله عنه من هو متأهل لفهم جوابه. (فليقل به) أي بذلك الشيء المعلوم. (ومن لم يعلم فليقل) أي في الجواب (الله أعلم) أي أكثر علما. وقال ابن
فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم. قال الله تعالى لنبيه: ?قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين? متفق عليه.
275- (78) وعن ابن سيرين قال: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم" رواه مسلم.
276- (79) وعن حذيفة، قال: يا معشر القراء
حجر: "أعلم" بمعنى عالم لاستحالة المشاركة، قال القاري: المشاركة الاستقلالية هي المستحيلة. (فإن من العلم) أي من آدابه الواجب رعابتها على من نسب للعلم، أوالتقدير "فإن من جملة العلم"، وهو خبر إن واسمه قوله: "أن تقول" الخ قاله القاري، والثاني هو الظاهر، والمعنى أن تمييز المعلوم من المجهول نوع من العلم، وهذا مناسب لما اشتهر من أن "لا أدرى" نصف العلم، ولأن القول فيما لا يعمل قسم من التكلف. (أن تقول لما لا تعلم) أي لأجله أو عنه (قال الله تعالى لنبيه) وهو أعلم الخلق ?قل ما أسألكم عليه? أي على التبليغ ?من أجر? أي آخذه منكم ?وما أنا من المتكلفين? أي من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإستسقاء، وفي تفسير الروم والدخان، ومسلم في التوبة، وأخرحه أيضا أحمد، والترمذي، والنسائي في التفسير.

(2/256)


275- قوله: (وعن ابن سيرين) هو محمد بن سيرين، يكنى أبابكر، مولى أنس بن مالك، من أكابر التابعين، قال المصنف: كان فقيها عالما، زاهدا، عابدا، ورعا، محدثا، من مشاهير التابعين وجلتهم، وقال الحافظ: إنه ثقة، ثبت، عابد، كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى. مات سنة (110) وهو ابن سبع وسبعين سنة. قال القاري: وهو غير منصرف للعلمية والمزيدتين على مذهب أبى علي في اعتبار مجرد الزائدتين. (إن هذا العلم دين) اللام للعهد، يعني أن علم الإسناد من الدين، وقيل: المراد به، علم الكتاب والسنة، وهما أصول الدين، ويؤيد المعنى الأول ما رواه مسلم في مقدمة صحيحه عقب ذلك عن ابن سيرين أيضا، قال: لم يكن يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم. (فانظروا) أي فاعلموا وتحققوا (عمن تأخذون دينكم) تنبيه وحث على رعاية الوثوق والديانة، والحفظ، والورع، والسنة، حتى لا يؤخذ من كل من يروي، و"عن" متعلق بتأخذون على تضمين معنى تروون. (رواه مسلم) في مقدمه صحيحه موقوفا من قول ابن سيرين، وكذا الدارمي، وأخرجه الحاكم في تاريخه، وابن عدى في الكامل مرفوعا عن أنس، وكذا أخرجه مرفوعا أبونصر السجزي في الإبانة، والديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة، لكن المرفوع ضعيف، والصحيح أنه قول ابن سيرين.
276- قوله: (يامعشر القراء) أي الذين يحفظون القرآن قاله الطيبي: وقال الحافظ: المراد بهم العلماء بالقرآن،
استقيموا ، فقد سبقتم سبقا بعيدا ، وإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا)) رواه البخاري.
277- (80) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تعوذوا بالله من جب الحزن ، قالوا: يا رسول الله ، وما جب الحزن ؟ قال: واد في جهنم ، يتعوذ منه جهنم كل يوم أربع مائة مرة ، قيل: يا رسول الله ، ومن يدخلها ؟ قال: القراء

(2/257)


والسنة العباد. (استقيموا) أي على جادة الشريعة ، أي اسلكوا طريق الاستقامة ، بأن تتمسكوا بأمر الله فعلا وتركا. (فقد سبقتم) بفتح السين والموحدة ، قال الحافظ: هو المعتمد ، وحكي بضم السين وكسر الباء مبنيا للمفعول ، والمعنى على الأول: اسلكوا طريق الاستقامة ؛ لأنكم أدركتم أوائل الإسلام ، فإن تتمسكوا بالكتاب والسنة ، تسبقوا إلى كل خير ؛ لأن من جاء بعدكم إن عمل بعملكم لم يصل إليكم لسبقكم إلى الإسلام ، ومرتبة المتبوع فوق مرتبة التابع ، وإلا فهو أبعد منه حسا وحكما. وعلى الثاني: أي سبقكم المتصفون بتلك الاستقامة إلى الله ، فكيف ترضون لنفوسكم هذا التخلف المؤدي إلى الانحراف عن سنن الاستقامة يمينا وشمالا ، الموجب للهلاك الأبدي. (سبقا بعيدا) أي ظاهر التفاوت. (وإن أخذتم يمينا وشمالا) أي خالفتم المذكور بالإعراض عن الجادة والانحراف عن طريق الاستقامة. (فقد ضللتم ضلالا بعيدا) أي عن الحق بحيث يبعد رجوعكم عنه إليه، وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى: ?وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله? [6: 153]، والذي له حكم الرفع من حديث حذيفة هذا الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين مضوا على طريق الاستقامة. (رواه البخاري) في الاعتصام، وأخرجه أيضا أبونعيم في المستخرج، وابن أبي شيبة، وابن عساكر بنحوه.

(2/258)


277- قوله: (من جب الحزن) "الجب" بضم الجيم وتشديد الموحدة ، البئر التي لم تطو، و"الحزن" بفتحتين أو بضم فسكون ضد الفرح، أي من بئر فيها الحزن لا غير، قال الطيبي: جب الحزن علم والإضافة كما في دار الإسلام، أي دار فيها السلامة من كل حزن وآفة. (قال واد) أي هو واد عميق يشبه البئر من كمال عمقه. (يتعوذ منه) أي من شدة عذابه. (جهنم) أي سائر أودية جهنم. قيل: ينبغي أن يراد بجهنم ما أعد فيها لتعذيب العصاة من المسلمين، لا الكفرة والمنافقين. قال الطيبي: التعوذ من جهنم هنا كالنطق منها في قوله تعالى: ?وتقول هل من مزيد? [50: 30]، وكالتميز والتغيظ: ?تكاد تميز من الغيظ? [67: 8]، والظاهر أن يجري ذلك على المتعارف؛ لأنه تعالى قادر على كل شيء. (كل يوم) يحتمل النهار والوقت. (أربع مائة مرة) هذا لفظ ابن ماجه، وفي رواية الترمذي ((مائة مرة))، ولامنافاة ؛ لأن القليل لا ينافي الكثير ، وهو يحتمل التحديد والتكثير. (ومن يدخلها) أي تلك البقعة المسماة بجب الحزن، وهو عطف على محذوف، أي ذلك شيء عظيم هائل. فمن الذي يستحقها؟ ومن الذي يدخل فيها؟ (القراء) جمع قارئ ، والمراد العلماء
المراؤون بأعمالهم)). رواه الترمذي ، وكذا ابن ماجه ، وزاد فيه: ((وإن من أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء)) قال المحاربي: يعني الجورة .
278- (81) وعن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه ، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى ،

(2/259)


بالكتاب والسنة، العباد النساك. (المراؤون) من الرياء (بأعمالهم) السماعون بأقوالهم. (رواه الترمذي) في الزهد، وقال: "غريب" انتهى. وفيه سيف بن عمار ، وهو ضعيف الحديث، وفيه أيضا أبومعان البصري، وهو مجهول. (وكذا) رواه (ابن ماجه) في السنة، وفي سنده أيضا ما في سند الترمذي. (وإن من أبغض القراء) قيل: أي من القرائين المذكورين، وهم المراؤون، قرائين مخصوصين، وهم (الذين يزورون الأمراء) طمعا في مالهم وجاههم، لا لحاجة دينية، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لضرورة دنيوية تلجئهم بهم، كدفع شرهم وإيذائهم ونحو ذلك. (قال المحاربي) أحد رواة الحديث ، وهو بضم الميم وبالحاء المهملة، وبالراء المكسورة، وبالباء الموحدة، نسبة إلى محارب، وهو عبدالرحمن بن محمد بن زياد المحاربي، أبومحمد الكوفي، روى عن الأعمش، ويحيى بن سعيد، وعنه أحمد بن حنبل، وثقه النسائي وابن معين والبزار والدارقطني، وقال الحافظ: لا بأس به وكان يدلس، قاله أحمد. مات سنة (195). (يعني الجورة) كالظلمة لفظا ومعنا، جمع جائر؛ لأنه لا حرج في زيارة الأمير العادل، المتمسك بالكتاب والسنة. والحديث أخرجه أيضا الطبراني بنحوه إلا أنه قال: ((يلقى فيه الغرارون، قيل: يا رسول الله ، وما الغرارون ؟ قال: المراؤون بأعمالهم في الدنيا))، وأخرجه العقيلي في الضعفاء، والعسكري في المواعظ عن علي، وفيه عبدالله بن حكيم أبوبكر الداهري ليس بشيء.

(2/260)


278- قوله: (يوشك أن يأتي على الناس زمان) أي فاسد لفساد أهله، قال الطيبي: أتى متعد إلى مفعول واحد بلا واسطة، فعدي بـ"على" ليشعر بأن الزمان عليهم حينئذ بعد أن كان لهم. (لا يبقى من الإسلام) أي من شعائره. (إلا اسمه) أي إلا ما يصح إطلاق اسم الإسلام عليه كلفظ الصلاة والزكاة والحج، أو إلا العلم به، وأما العمل به فلا. (ولا يبقى من القرآن) أي من آدابه وعلومه (إلا رسمه) أي أثره الظاهر من قراءة لفظه، وكتابة خطه، بطريق الرسم والعادة لا على جهة تحصيل العلم والعبادة، وقيل: المراد برسم القرآن تجويد الحروف وإتقان الألفاظ، وتحسين الألحان فيه من غير التفكر في معانيه، والامتثال بأوامره والانتهاء عن نواهيه. (مساجدهم عامرة) أي بالأبنية المرتفعة ، والجدران المنقشة، والقناديل والبسط. (وهي خراب من الهدى) المراد بكون مساجدهم عامرة ، عمارة بنائها الظاهر ، وبكونها
علماؤهم شر من تحت أديم السماء، من عندهم تخرج الفتنة، وفيهم تعود)) رواه ا لبيهقي في شعب الإيمان.
279- (82) وعن زياد بن لبيد قال: ((ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا فقال: ذاك عند أوان ذهاب العلم ، قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال: ثكلتك أمك زياد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة ، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟)) رواه أحمد ، وابن ماجه ،

(2/261)


خرابا من الهدى، تركهم إياها عاطلة من الصلاة والجماعة، وإقامة الأذان فيها، والعلم والذكر، وإنما عبر عنها بالهدى لأنها سبب هداية الشخص، وقيل: التقدير من آثارها الهداية أو أهلها. (أديم السماء) أي وجهها. (من عندهم تخرج الفتنة) أي للناس. (وفيهم تعود) أي مضرتها وعاقبتها السوء، وفي مثلها في قوله تعالى: ?أو لتعودن في ملتنا? [7: 88]، يعني يستقر عود ضررهم فيهم، ويتمكن منهم. (رواه البيهقي في شعب الإيمان)، وأخرجه أيضا ابن عدي في الكامل، وأخرجه الحاكم في تاريخه بنحوه عن ابن عمر، والديلمي عن معاذ وأبي هريرة، وأخرجه العسكري في المواعظ عن علي موقوفا من قوله.

(2/262)


279- قوله: (وعن زياد بن لبيد) بفتح لام وكسر موحدة، ابن ثعلبة، يكنى أباعبدالله الأنصاري الخزرجي، خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فأقام معه حتى هاجر، فكان يقال له: مهاجري أنصاري، وشهد العقبة وبدرا والمشاهد، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عامله على حضر موت، وكان له بلاء حسن في قتال أهل الردة، وكان من فقهاء الصحابة. روى عنه عوف بن مالك، وسالم بن أبي الجعد، وجبير بن نفير، قال البخاري: ولا أرى سالما سمع منه، مات في أول خلافة معاوية. (ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا) أي هائلا (فقال: ذاك) أي الشيء المخوف يقع (عند أوان ذهاب العلم) أي وقت اندراسه. (وكيف يذهب العلم؟) الواو للعطف، أي متى يقع ذلك المهول؟ وكيف يذهب العلم؟ (ونحن نقرأ القرآن...)الخ يعني والحال أن القرآن مستمر بين الناس إلى يوم القيامة، فمع وجوده كيف يذهب العلم؟ (ثكلتك أمك) أي فقدتك، وأصله الدعاء بالموت، ثم يستعمل في التعجب. (زياد) أي يا زياد (إن كنت) إن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، أي إن الشأن كنت أنا (لأراك) بضم الهمزة، أي لأظنك، وبفتحها أي لأعلمك. (من أفقه رجل بالمدينة) ثاني مفعولي أراك، ومن زائدة في الإثبات، أي على مذهب الأخفش، أو متعلقة بمحذوف أي كائنا، قاله الطيبي: وأضاف أفعل التفضيل إلى النكرة المفردة؛ لأن المراد به الاستغراق. (أو ليس) أي أتقول هذا وليس (لا يعملون بشيء مما فيهما) الجملة حال من فاعل يقرؤون، أي يقرؤون غير عاملين، يعني ومن لم يعمل بعلمه هو والجاهل سواء، بل هو بمنزلة الحمار يحمل أسفارا. (رواه أحمد) (ج4:ص16، 218). (وابن ماجه) في الفتن، وأخرجه أيضا الحاكم (ج1:ص100) كلهم من
وروى الترمذي عنه نحوه .
280- (83) وكذا الدارمي عن أبي أمامة.

(2/263)


281- (84) وعن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((تعلموا العلم وعلموه الناس ، تعلموا الفرائض وعلموها الناس، تعلموا القرآن وعلموه الناس، فإني امرؤ مقبوض، والعلم سينقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف اثنان في فريضة لا يجدان أحدا يفصل بينهما)) رواه الدارمي والدارقطني.
طريق سالم بن أبي الجعد عن زياد. وسند الحديث صحيح، رجاله ثقات إلا أنه منقطع. قال البخاري في التاريخ الصغير: لم يسمع سالم بن أبي الجعد من زياد بن لبيد، وتبعه على ذلك الذهبي في الكاشف، وقال: ليس لزياد عند المصنف – أي ابن ماجه – سوى هذا الحديث، وليس له شيء في بقية الكتب. (وروى الترمذي عنه) أي عن زياد (نحوه) أي نحو هذا اللفظ، وهو معناه، وهذا وهم من المصنف ؛ لأن الترمذي روى هذا الحديث عن أبي الدرداء، لا عن زياد، ولأنه ليس لزياد شيء في الكتب الستة غير ابن ماجه.
280- قوله: (وكذا الدارمي) أي رواه بمعناه لكن (عن أبي أمامة) لا عن زياد. وأخرج عن أبي أمامة أيضا أحمد والطبراني وأبوالشيخ في تفسيره، وابن مردويه كما في الكنز (ج5:ص208).

(2/264)


281- قوله: (قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يحتمل أن ابن مسعود كان وحده، أو خصه بالخطاب وعم الحكم بقوله: (تعلموا العلم) أي الشرعي، أو الجمع للتعظيم. (تعلموا الفرائض) أي علم الفرائض خصوصا، سواء أريد بها فرائض الإسلام أو فرائض الإرث. (علموها الناس) كذا في بعض النسخ موافقا لرواية الدارقطني، ووقع في بعض النسخ "وعلموه الناس"، وكذا عند الدارمي، أي علموا هذا العلم، فالضمير إلى المضاف المقدر. (فإني امرؤ مقبوض) لكوني امرأ مثلكم، فلا أعيش أبدا ، فاغتنموا فرصة حياتي. (والعلم سينقبض) من الانقباض، أي بعدي بقبض أهله، وفي بعض النسخ "سيقبض" مجهول مجرد. (حتى يختلف) يجوز أن يتعلق بكل من الفعلين السابقين. (في فريضة) من فرائض الإسلام أو فرائض الإرث. (لا يجدان أحدا يفصل بينهما) لقلة العلم أو لكثرة الفتن. (رواه الدارمي والدارقطني) ص(459)، وسياق الحديث للدارمي، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي ولم يسق لفظه، والنسائي، والحاكم وصححه، قال الحافظ: رواته موثقون إلا أنه اختلف فيه اختلافا كثيرا...الخ، وقال الترمذي: إنه مضطرب، وقد تقدم بيان شيء من هذا الاختلاف عند تخريج حديث أبي هريرة: ((تعلموا الفرائض)) في الفصل الثاني، وأخرج نحوه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري من طريق عطية، وهو ضعيف.
282- (85) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل علم لا ينتفع به كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله)) رواه أحمد والدارمي.

(2/265)


282- قوله: (مثل علم لا ينتفع منه) أي بالعمل والتعليم، ولو كان العلم في نفسه نافعا. (كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله) أي لا على نفسه ولا على غيره في الجهاد وسائر وجوه الخير. قال الطيبي: التشبيه في عدم النفع والانتفاع والإنفاق منهما، لا في أمر آخر، وكيف لا والعلم يزيد بالإنفاق والكنز ينقص، والعلم باق والكنز فان. (رواه أحمد والدارمي)، وأخرجه أيضا البزار، ورجاله موثقون، قاله الهيثمي. وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط بنحوه، وفي إسناده ابن لهيعة، وأخرجه ابن عساكر عن ابن عمر، والقضاعي عن ابن مسعود.
بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الأول من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح ، ويليه الجزء الثاني - إن شاء الله تعالى -،
وأوله: كتاب الطهارة.

(2/266)


(3) كتاب الطهارة
?الفصل الأول?
283- (1) عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الطهور
(كتاب الطهارة) الطهارة لغة: النظافة والنزاهة من كل عيب حسي أو معنوي، وشرعا: طهارة البدن من النجاسة الحكمية، أي الحدثين الأكبر والأصغر، وطهارة البدن والثوب والمكان من النجاسة الحقيقة، أي الأخباث وفضلات الأعضاء، ولما كان العمل نتيجة العلم، وبعد العلم يكون العمل، وأفضل الأعمال البدنية الصلاة، ولا يتوصل إليها إلا بالطهارة، عقب كتاب العلم بكتاب الطهارة. وينبغي بل يجب للطالب أن يرجع لمعرفة أسرار الدين ومصالح أحكامه إلى إعلام الموقعين للإمام ابن قيم، وحجة الله البالغة، وإحياء علوم الدين مع تخريج أحاديثه للعراقي، والحصون الحميدية للجسر، وغير ذلك من كتب هذا الفن.

(3/1)


283- قوله: (عن أبي مالك الأشعري) اختلف في اسمه فقيل: عبيد. وقيل: عبيدالله. وقيل: عمرو. وقيل: كعب ابن كعب. وقيل: عامر بن الحارث. وقيل: الحارث بن الحارث. وقيل: غير ذلك. صحابي، مات في خلافة عمر في طاعون عمواس سنة (18). وقال الحافظ في المقدمة: لا يعرف اسمه، وهو من رواة مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وله عند البخاري تعليقا، روى عنه عبدالرحمن بن غنم الأشعري، وربيعة الجرشي، وأبوسلام ممطور الأسود وغيرهم، وروى أبوسلام أيضا عن عبدالرحمن بن غنم عنه. وفي الصحابة أبومالك الأشعري اثنان غير هذا. أحدهما الحارث بن الحارث الأشعري الشامي من رواة الترمذي والنسائي، تفرد بالرواية عنه أبوسلام ممطور الأسود، أخرج له الترمذي والنسائي حديثا قدسيا طويلا جامعا لأنواع من العلوم، وهو حديث: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات". والثاني كعب بن عاصم الأشعري نزل الشام ومصر، له حديثان فقط: أحدهما ماروته أم الدرداء عنه مرفوعا: "ليس من البر الصيام في السفر". أخرجه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم. والحديث الثاني: ما روى جابر بن عبدالله عنه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب عند الجمرة أوسط أيام النحر. أخرجه البغوي، وابن السكن وهو أي أبومالك كعب بن عاصم الأشعري راوى حديث: "الطهور شطر الإيمان" هو كعب بن عاصم الأشعري، كذا قال البخاري في التاريخ وغيره. وقيل: هو الحارث بن الحارث الأشعري المتقدم الذى روى الحديث القدسي الطويل. والراجح عندى أنه غيرهما، أعني هو أبومالك الأشعري الذي اختلف في اسمه حتى قال الحافظ في المقدمة فيه: أنه لا يعرف اسمه، فليس هو الحارث بن الحارث الأشعري؛ لأن هذا قد تأخرت وفاته، وأما أبومالك الأشعري المختلف في اسمه فقد تقدم أنه توفي في خلافة عمر. وليس هو كعب بن عاصم أيضا؛ لأنه لم يرو عنه غير أم الدرداء وجابر بن عبدالله، والله أعلم. (الطهور) بضم أوله على الأفصح،

(3/2)


شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن – أو تملأ – ما بين السماوات والأرض،
والمراد به المصدر أي التطهر، وروي بالفتح على حذف المضاف، أي استعماله، وفي بعض الروايات الوضوء بدل الطهور. (شطر الإيمان) أي نصفه، قيل: المراد به الترغيب في الطهور، وتعظيم ثوابه، حتى كأنه بلغ إلى نصف ثواب الإيمان. وقيل: الإيمان يكفر الصغائر والكبائر والوضوء لا يكفر إلا الصغائر، فكان في مرتبة نصف الإيمان. وقيل: المراد بالإيمان الصلاة، ولا تصح الصلاة إلا بالطهارة فصارت كالشطر. وتوضيحه أن صحة الصلاة باستجماع الشرائط الخارجة عنها، والأركان الداخلة فيها. والطهارة أقوى الشرائط وأعظمها. فجعلت كأنها لا شرط سواها، واعتبرت الأركان والشرائط نصفا، والطهارة وحدها نصفا آخر على سبيل المبالغة والإدعاء. وقيل: المراد بالطهور ههنا التخلية عن الرذائل من العقائد الزائغة، والأخلاق الذميمة، والجرائم، والآثام، ولأحداث والأخباث. ومن المعلوم أن الإيمان موجب التخلية عن الرذائل والتحلية بالفواضل، فيكون الطهور شطر الإيمان. ويرد هذا الاحتمال رواية "الوضوء شطر الإيمان" وكذا رواية إسباغ الوضوء. وقيل: المراد بالشطر الجزء، والمعنى أن الطهارة جزء من أجزاء الإيمان، وركن من أركان الإسلام، وقد تقدم أن الأعمال من أجزاء الإيمان. وهذا أيضا ضعيف، يرده حديث رجل من بني سليم بلفظ "الطهور نصف الإيمان"، وأيضا إنما يعرف استعمال الشطر لغة في النصف. (والحمد لله) أي تلفظه. (تملأ) بالتأنيث على تأويل الكلمة أو الجملة، وروي بالتذكير على إرادة اللفظ والكلام، أو المضاف المقدر أي ثوابها لو قدر مجسما لملأ. (الميزان) فمعناه بيان عظيم أجرها وأن ثوابها يملأ الميزان، أو محمول على أن الأقوال والأعمال والمعاني تتجسد يوم القيامة عند الوزن، وقد تظاهرت نصوص الشرع من القرآن والسنة على وزن الأعمال، وثقل الموازين وخفتها، وأما القول بأن

(3/3)


الأعمال والأقوال أعراض مستحيلة البقاء، غير متصفة بالثقل والخفة، فمن هفوات الأهفاء وسقطات الحمقاء، قد أبطلها وحقق خلافها الفلسفة الحديثة الجديدة. وقال السندى: ولعل الأعمال تصير أجساما لطيفة نورانية، لا تزاحم بعضها ولا تزاحم غيرها أيضا، كما هو المشاهد في الأنوار، إذ يمكن أن يسرج ألف سراج في بيت واحد مع أنه يمتلئ نورا من واحد من تلك السرج لكن لكونها لا يزاحم يجتمع معه نور ثاني ونور ثالث، ثم لا يمنع امتلاء البيت من النور جلوس القاعدين فيه لعدم التزاحم، فلا يرد أنه كيف يتصور ذلك مع كثرة التسبيحات والتقديسات، مع أنه يلزم من وجوده أن لا يبقى مكان لشخص من أهل المحشر، ولا لعمل آخر متجسد مثل تجسد التسبيح وغيره. (تملآن) أي هاتان الجملتان. (أو تملأ) أو للشك من الراوى والضمير في "تملأ" للجملة الشاملة لهما، ويمكن أن يكون الإفراد بتقدير كل واحدة منهما. (ما بين السماوات والأرض) معناه لو قدر ثوابهما جسما لملأ ما بين السماوات والأرض، وسب عظم فضلهما ما اشتملتا عليه من التنزيه لله تعالى بقوله: سبحان الله، والتفويض والإفتقار إليه بقوله: الحمد لله، وقد أوضحه الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات، فارجع إليها.
والصلاة نور، والصدقة برهان. والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو: فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها)) رواه مسلم.

(3/4)


(والصلاة نور) لتأثيرها في تنوير القلوب وإشراح الصدور وإشراق أنوار المعارف وكشف الحقائق لفراغ القلب فيها، وقيل: لأنها تمنع من المعاصي والشهوات، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب كما أن النور يستضاء به، وقيل: يكون أجرها نورا لصاحبها يوم القيامة. وقيل: إنها تكون نورا في ظلمة القبر، وقيل إن الصلاة تكون نورا ظاهرا على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدنيا أيضا على وجهه البهاء، بخلاف من لم يصل. (والصدقة برهان) أي دليل واضح على صدق صاحبه في دعوى الإيمان إذ الإقدام على بذله خالصا لله لا يكون إلا من صادق في إيمانه، وقيل: معناه يفزع إليها كما يفزع إلى البراهين، كأن العبد إذا سئل يوم القيامة عن مصرف ماله كانت صدقاته براهين في جواب هذا السؤال، فيقول تصدقت به، ويجوز أن يوسم المتصدق بسيما يعرف بها، فيكون برهانا له على حاله، ولا يسأل عن مصرف ماله. (الصبر) على الطاعة، وعن المعصية، وفي النائبات، وأنواع المكاره في الدنيا. (ضياء) أي نور قوي، شديد كامل، فإن الضياء أقوى من النور، قال تعالى ?هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا? [5:10]، وذلك لأن الصبر أوسع من الصلاة؛ لأن كل واحدة من الواجبات والمحظورات تحتاج إلى الصبر، بل مناط جميع أمور الدين على الصبر. وقيل معناه: الصبر المحمود المحبوب في الشرع لا يزال صاحبه مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب، وقيل: المراد بالصبر الصوم بقرينة ذكره مع الصلاة والصدقة، وهو لكونه قهرا على النفس، قامعا لشهواتها له تأثير عادة في تنوير القلوب أتم وجه، وقيل: خص الصبر بالضياء على تفسيره بالصوم لتخصيصه بالنهار كتخصيص الشمس به، لا لمزية الصوم على الصلاة. (والقرآن حجة لك) أي تنتفع به إن عملت به. (وعليك) أي إن أعرضت عنه، أو قصرت فيه بترك العمل بما فيه. (كل الناس يغدو) أي يصبح أو يسير، وهي جملة مستأنفة، جواب ما يقال: قد تبين الرشد مما تقدم، فما حال الناس؟ فأجيب

(3/5)


بأن كلهم يغدو أي يسعى ويعمل، فيبيع نفسه من الله أو من الشيطان، فالأول أعتقها؛ لأن الله أشترى أنفسهم، والثاني أوبقها ?ولبئس ماشرو به أنفسهم? [102:2]. وقال النووى: معناه كل إنسان يسعى بنفسه، فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته، فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى بإتباعهما فيوبقها أي يهلكها، وقوله. (فبائع) خبر لمبتدأ محذوف، أي فهو بائع أي باذل نفسه، فمن بذلها في طاعة الله فهو معتقها، ومن بذلها في هوى نفسه فهو مهلكها، وقوله: "فمعتقها"، قال الطيبي: الفاء فيه للسببية وهو خبر بعد خبر، ويجوز أن يكون بدل البعض من قوله فبائع. (رواه مسلم) في أول الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي في الدعوات، والنسائي في الزكاة، وابن ماجه في الطهارة إلا أنهما قالا: إسباغ الوضوء شطر الإيمان. والحديث أخرجه مسلم، وأحمد، والترمذي من طريق يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده أبي سلام، عن أبي مالك الأشعري، وأخرجه النسائي، وابن ماجه من طريق معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام، عن عبدالرحمن بن غنم، عن أبي مالك
وفي رواية: ((لا إله إلا الله والله أكبر، تملآن ما بين السماء والأرض)). لم أجد هذه الرواية في الصحيحين، ولا في كتاب الحميدى، ولا في الجامع، ولكن ذكرها الدارمي بدل: سبحان الله والحمد لله.
284- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط.

(3/6)


الأشعري. فتكلم الدارقطني وغيره في رواية مسلم، فقالوا: هي منقطعة، لسقوط عبدالرحمن بن غنم فيها بين أبي سلام وأبي مالك، قال النووى: ويمكن أن يجاب لمسلم عن هذا بأن الظاهر من حال مسلم أنه علم سماع أبي سلام لهذا الحديث من أبي مالك فيكون أبوسلام سمعه من أبي مالك، وسمعه أيضا من عبدالرحمن بن غنم عن أبي مالك، فرواه مرة عنه ومرة عن عبدالرحمن عنه. (وفي رواية لا إله إلا الله والله أكبر تملآن مابين السماء والأرض) هذا قول صاحب المصابيح. قال صاحب المشكاة. (لم أجد هذه الرواية) أي التي أوردها صاحب المصابيح في ما ذكر في قوله من الصحاح. (في الصحيحين) أي متنيهما. (ولا في كتاب الحميدى) الجامع بين الصحيحين. (ولا في الجامع) أي للأصول الستة. (ولكن ذكرها) أي هذه الرواية. (الدارمي) يعنى التزم صاحب المصابيح أن يكون جميع ما ذكر في قوله من الصحاح المعبر عنه بالفصل الأول مما أخرجه الشيخان أو أحدهما، وهذه الرواية ليست في أحدهما، فإيرادها في الصحاح خلاف لما التزمه، وقد يجاب بأن الإلتزام إنما هو في أصول الأحاديث، وأما هذه فإنما هي زيادة إفادة متفرعة على أصل الحديث الموجود في صحيح مسلم، والله أعلم.

(3/7)


284- قوله: (ألا أدلكم) الهمزة للاستفهام، ولا نافية، وليس إلا للتنبيه بدليل قولهم: بلى. (يمحو الله به الخطايا) أي يغفرها، أو يمحوها من كتب الحفظة، ويكون ذلك المحو دليلا على عفوه تعالى ومغفرته، والمراد بالخطايا الصغائر، مما يتعلق بحقوق الله. (يرفع به الدرجات) أي يعلي به المنازل في الجنة، ويحتمل رفع الدرجات في الدنيا أيضا. (قالوا: بلى) فائدة السؤال والجواب أن يكون الكلام أوقع في النفس بحكم الإبهام والتبيين. (إسباغ الوضوء) أي إكماله بتطويل الغرة والتحجيل والتثليث والدلك. (على المكاره) جمع مكره، بفتح الميم من الكره بمعنى المشقة، كبرد الماء، وألم الجسم، والإشتغال به مع ترك أمور الدنيا. قيل: ومنها الجد في طلب الماء مع إعوازه وشراءه بالثمن الغالي. (وكثرة الخطى إلى المساجد) إما لبعد الدار، أو على سبيل التكرار، والخطى بضم الخاء جمع خطوة وهي ما بين القدمين. (وانتظار الصلاة) بالجلوس لها في المسجد، أو تعلق القلب بها والتأهب والاهتمام لها مع إشتغاله بكسبه في بيته، كما ورد "ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه، حتى يعود". (فذلكم) الإشارة إلى ما ذكر من الأعمال الثلاثة، وقيل: إلى انتظار الصلاة. (الرباط) المرغب فيه، أو أفضل أنواع الرباط، كما قيل: الجهاد جهاد النفس، أو الرباط المتيسر الممكن، أي أنه من أنواع الرباط، أو
وفي حديث مالك بن أنس: ((فذلكم الرباط فذلكم الرباط مرتين)) رواه مسلم. وفي رواية الترمذي ثلاثا.
285- (3) وعن عثمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره)) متفق عليه.

(3/8)


أراد أن ثوابه كثواب الرباط. وقيل: أصل الرباط ملازمة ثغر العدو لمنعه، والمعنى أن هذه الأعمال هي المرابطة الحقيقة المذكورة في قوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا? [200:4]؛ لأنها تسد طرق الشيطان عنه، وتمنع النفس عن الشهوات، وعداوة النفس والشيطان لا تخفى، فهذا هو الجهاد الأكبر الذي فيه قهر أعدى عدوه، فلذلك قال: فذلكم الرباط، بالتعريف، أي هو الذي يستحق أن يسمى رباطا، والتكرار تعظيما لشأنه. (وفي حديث مالك بن أنس) إمام دار الهجرة، صاحب المذهب، راوي الحديث في سند مسلم. (فذلكم الرباط فذلكم الرباط مرتين) وفي بعض النسخ ردد مرتين، أي كرر "فذلكم الرباط" مرتين والذي في صحيح المسلم"وفي حديث مالك ثنتين فذلكم الرباط فذلكم الرباط" قال النووي: هكذا هو في الأصول "ثنتين" وهو صحيح ونصبه بتقدير فعل أي ثنتين أو كرر ثنتين انتهى. وهذا قول مسلم صاحب الصحيح، قاله بناء على رواية معن عنده، وإلا فأكثر المؤطات ثلاثا (رواه مسلم) في الطهارة، وأخرجه أيضا مالك، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة بمعناه (وفي رواية الترمذي ثلاثا) أخرجه الترمذي أولا من طريق على بن حجر، وذكر فيه "فذلكم الرباط" مرة، ثم رواه من طريق قتيبة: وقال: قال قتيبة: فذلكم الرباط ثلاثا"، أي ذكره ثلاثا تأكيدا أو تعظيما لشأنه، ولزيادة الحث عليه.

(3/9)


285- قوله: (فأحسن الوضوء)بضم الواو، والفاء لتفسير كيفية الوضوء على أحسن وجه بمراعاة سننه وآدابه، والمعنى من أراد الوضوء وشرع فيه فأحسنه. (خرجت خطاياه) هو محمول على الحقيقة بناء على أن الخطايا جواهر متعلقة ببدن الإنسان تتصل به وتنفصل عنه، لا أعراض كما قيل، قال السيوطي في قوت المغتذي: الظاهر حمله على الحقيقة، ثم حقق ذلك بأحاديث تدل على أن الذنوب جواهر وأجسام، ووافقه شيخنا في شرح الترمذي، لكن جعله السيوطي من عالم المثال، وعندنا ينبغي تفويض أمثال هذه الأمور إلى الله تعالى. وقيل: هو تمثيل وتصوير لبراءة البدن عن الذنوب ومجاز عن غفرانها. ثم الظاهر عموم الخطايا، والعلماء خصصوها بالصغائر المتعلقة بحقوق الله للتوفيق بين الأدلة، فإن منها ما يقتضي الخصوص كما سيأتي. (من جسده) أي جميع بدنه أو أعضائه. (حتى تخرج من تحت أظفاره) أي مثلا، والأظفار جمع ظفر بضمتين. (متفق عليه) قلت تفرد مسلم بهذا اللفظ، ولذا اقتصر المنذري في الترغيب. على عزوه لمسلم. وقال القاري: قال عبدالعزيز الأبهرى في منهاج المشكاة فيه: أنه من أفراد مسلم. وقال ابن حجر المكي: كذا في جامع الأصول. واقتصر شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلانى في "هداية الرواة إلى تخريج المصابيح والمشكاة" على عزوه لمسلم انتهى. وأخرجه أيضا أحمد، والنسائي، وابن ماجه بنحوه مختصرا.
286- (4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأ العبد المسلم – أو المؤمن – فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء – أومع آخر قطر الماء – فإذا غسل يديه، خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء – أو مع آخر قطر الماء – فإذا غسل رجليه، خرج كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء – أو مع آخر قطر الماء – حتى يخرج نقيا من الذنوب)) رواه مسلم.

(3/10)


287- 5) وعن عثمان، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها
286- قوله: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن) شك من الرواى في لفظ النبوة، وإلا فهما مترادفان شرعا. والمؤمنة في حكم المؤمن. (فغسل وجهه) عطف على توضأ عطف تفسير، أو المراد إذا أراد الوضوء. (خرج من وجهه) جواب إذا. (كل خطيئة نظر إليها) أي إلى الخطيئة يعني إلى سببها، إطلاقا لاسم المسبب على السبب مبالغة. (بعينيه) تأكيد. وسبب التخصيص بالعين مع أن الوجه مشتمل على الأنف والفم هو أن كلا من الفم والأنف، وكذا الأذن له طهارة مخصوصة خارجة عن طهارة الوجه، فكانت متكفلة بإخراج خطاياه، بخلاف العين، فإنه ليس لها طهارة إلا في غسل الوجه، فخصت خطيئتها بالخروج عند غسله دون غيرها مما ذكر، وسيأتي في الفصل الثالث حديث عبدالله الصنابحي، وهو صريح في ذلك. (مع الماء) أي مع انفصاله. (أو مع آخر قطر الماء) أو للشك من الراوى. (كل خطيئة كان بطشتها) أي أخذت. (يداه) كملامسة المحرمة، ويدخل فيه كتابة إثم. (كل خطيئة مشتها) الضمير للخطيئة، ونصبت بنزع الخافض، أي مشت إلى الخطيئة، أو في الخطيئة، أو يكون مصدرا أي مشت المشية. (نقيا من الذنوب) أي ذنوب أعضاء الوضوء، أو جميع الذنوب من الصغائر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا مالك، والترمذى، وليس عندهما غسل الرجلين.

(3/11)


287- قوله: (ما من امرئ مسلم) من زائدة لتأكيد النص على العموم. (فيحسن وضوءها) بمراعاة السنن والآداب والمكملات. (وخشوعها) بإتيان كل ركن على وجه هو أكثر تواضعا وإخباتا وتضرعا، ظاهرا وباطنا بالقلب والجوارح. (وركوعها) اكتفى بذكر الركوع عن السجود؛ لأنهما ركنان متتابعان، فإذا حث على إحسان أحدهما حث على الآخر، وفي تخصيصه بالذكر تنبيه على أن الأمر فيه أشد، فافتقر إلى زيادة توكيد؛ لأن الراكع يحمل نفسه في الركوع، ويتحامل في السجود على الأرض. وقيل: خص الركوع بالذكر لاستتباعه السجود إذ لا يستقل عباده وحده، بخلاف السجود
إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) رواه مسلم.
288- (6) وعنه، أنه توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا، ثم تمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا، ثم غسل يده اليسرى

(3/12)


فإنه يستقل عبادة، كسجود التلاوة والشكر. وقيل: تخصيص الركوع؛ لأنه من خصائص المسلمين، فأراد التحريض عليه، ولعل هذا في الأغلب لقوله تعالى في شأن مريم: ?و اسجدي واركعي مع الراكعين? [43: 3]. وقيل: معناه انقادى وصلى مع المصلين، فلا إشكال. (إلا كانت) أي الصلاة. (ما لم يؤت) بكسر التاء معلوما من الإيتاء وقيل مجهول، أي ما لم يعمل، وضع الإيتاء موضع العمل. (كبيرة) بالنصب لا غيره، كأن الفاعل يعطى العمل من نفسه، أو يعطيه غيره من الداعي أو المحرض عليه، فهو على حد ?ثم سئلوا الفتنة لآتوها? [33: 14] بالمد أي لأعطوها من أنفسهم، ثم ظاهره أن كون الصلاة كفارة الذنوب مشروط بعدم إتيان الكبائر، فإن أتى بالكبائر لم يكفر صغائره، وهو الظاهر من قوله تعالى: ?إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم? [4: 31] لكنهم قالوا: معناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فإنها لا تغفر. قال النووى: هذا هو المراد، والأول وإن كان محتمل العبارة فسياق الحديث يأباه، والكبائر إنما يكفرها التوبة، أو رحمة الله تعالى وفضله، وقد يقال: إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلاة؟ وإذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجماعات وغيرها مما ورد في الأحاديث من مكفرات الذنوب؟ وأجيب بأن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفر من الصغائر كفره، وإن صادفت كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيره يعنى غير مكفرة رجونا أن يخفف من الكبائر، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات ورفعت به درجات، . (وذلك) أي التكفير بسبب الصلاة. (الدهر) بالنصب على الظرفية، ومحله الرفع على الخبرية، أي ذلك الحكم من التكفير حاصل ومستمر في جميع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان. (كله) تأكيد للدهر. (رواه مسلم) هو من مفاريد مسلم لم يروه بهذا اللفظ غيره.

(3/13)


288- قوله: (فأفرغ) من الإفراغ عطف بيان وتفسير أي صب الماء. (على يديه) أي فغسلهما إلى رسغيه وفي رواية كفيه، والمراد غسل اليدين إلى الرسغين. وفيه دليل على غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ولو لم يكن عقب نوم احتياطا. وفي الحديث الترتيب في أعضاء الوضوء للإتيان بثم في جميعها. (واستنثر) الاستنثار هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، وهو جذب الماء بالنفس إلى الأقصى، ويدل عليه الرواية الأخرى "استنشق واستنثر، فجمع بينهما، وهو مأخوذ من النثرة وهو طرف الأنف، قال الحافظ: لم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييد ذلك بعدد، نعم، ذكره ابن المنذر من طريق يونس عن الزهرى، وكذا ذكره أي تقييد المضمضة والاستنشاق بثلاث أبوداود من وجهين آخرين
إلى المرفق ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا، ثم اليسرى ثلاثا، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا. ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم يصلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء، غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. ولفظه للبخاري.
289- (7) وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يتوضأ، فيحسن وضوءه،

(3/14)


عن عثمان. (إلى المرفق) بكسر الميم وفتح الفاء "وإلى" بمعنى منع عند الجمهور. (ثم مسح برأسه) ليس في شيء من طرق هذا الحديث في الصحيحين ذكر عدد المسح، فالظاهر الاكتفاء بالمرة الواحدة، وهو مذهب الجمهور. (ثم قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (من توضأ نحو وضوئي هذا) أي جامعا لفرائضه وسننه، وقوله "نحو وضوئي هذا" كذا وقع في الصيام من نسخ البخارى الموجودة عندنا، وقال الحافظ في شرح كتاب الوضوء: "وللبخارى في الصيام من رواية معمر: من توضأ بوضوئي هذا" أي بترك حرف الشبيه. (ثم يصلى ركعتين) فيه استحباب ركعتين عقب كل وضوء، ولو صلى فريضة حصلت له هذه الفضيلة كما تحصل تحية المسجد بذلك. (لا يحدث فيهما نفسه بشيء) من أمور الدنيا، وما يتعلق بالصلاة ولو عرض له حديث فأعرض عنه لمجرد عروضه، عفي عنه ذلك، وحصلت له هذه الفضيلة؛ لأن هذا ليس من فعله وكسبه، وقد عفي لهذه الأمة عن الخواطر التي تعرض ولا تستقر. وقال الحافظ: المراد ما تسترسل النفس معه، ويمكن المرء قطعه؛ لأن قوله "يحدث" يقتضى تكسبا منه فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذر دفعه فذلك معفو عنه. وقال السندهي: أي يدفع الوسوسة مهما أمكن. وقيل: يحتمل العموم إذ ليس هو من باب التكليف حتى يجب دفع الحرج والعسر، بل من باب ترتب ثواب مخصوص على عمل مخصوص، أي من باب الوعد على العمل، فمن حصل منه ذلك العمل يحصل له ذلك الثواب، ومن لا فلا. نعم، يجب أن يكون ذلك ممكن الحصول في ذاته وهو هنا كذلك، فإن المتجردين عن شواغل الدنيا يتأتى منهم هذا العمل على وجهه. انتهى. (غفر له ما تقدم من ذنبه) حملوه على الصغائر، لكن كثير من الأحاديث يقتضي أن مغفرة الصغائر غير مشروطة بقطع الوسوسة، فيمكن أن يكون الشرط لمغفرة الذنوب جميعا، قاله السندهي. ثم إنه يفهم من هذا الحديث أن غفران الذنوب مرتب على الوضوء الموصوف بتلك الصفة، وصلاة ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء، ومن الحديث المتقدم

(3/15)


ترتبه على مجرد الوضوء، ويمكن أن يقال كل منهما مكفر، أو الوضوء المجرد مكفر لذنوب أعضاء الوضوء، ومع الصلاة مكفر لذنوب جميع الأعضاء أو الوضوء مكفر للذنوب الظاهرة، ومع الصلاة مكفر للذنوب الظاهرة والباطنة. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي. (ولفظه للبخارى) أي في باب السواك الرطب واليابس للصائم من كتاب الصيام.
289- قوله: (وعن عقبة) بضم عين وسكون قاف. (بن عامر) الجهنى صحابي مشهور، اختلف في كنيته على سبعة أقوال، أشهرها أبوحماد، اختط البصرة، وولى إمرة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وحضر معه بصفين، وولي غزو البحر،
ثم يقوم فيصلى ركعتين، مقبلا عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة)) رواه مسلم.
290- (8) وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم أحد يتوضأ فيبلغ – أو فيسبغ –الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله – وفي رواية أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله – إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية،

(3/16)


وكان فصيحا، شاعرا، مفوها، كاتبا، قارئا لكتاب الله، عالما بالفرائض والفقه، قديم الهجرة، والسابقة، والصحبه، مات سنة (58) بمصر، ودفن بالمقطم، له خمسة وخمسون حديثا، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بتسعة، روى عنه خلق كثير. (ثم يقوم) حقيقة أو حكما سيما إذاكان بعذر، فإطلاقه جرى على الغالب لا أنه قيد احترازى، وثم للترقى. (مقبلا عليهما بقلبه وجهه) الإقبال بالقلب أن لا يغفل عنهما ولا يتفكر في أمر لا يتعلق بهما، ويصرف نفسه عنه مهما أمكن، والإقبال بالوجه أن لا يلتفت به إلى جهة لا يليق بالصلاة الالتفات إليها، ومرجعه الخشوع والخضوع، فإن الخشوع في القلب والخضوع في الأعضاء، قال السندهي: يمكن أن يكون هذا الحديث بمنزلة التفسير لحديث عثمان "وهو من توضأ نحو وضوئي" الخ، وعلى هذا فقوله "أحسن الوضوء" هو أن يتوضأ نحو ذلك الوضوء. وقوله في حديث عثمان: "لايحدث نفسه فيهما" هو أن يقبل عليهما بقلبه ووجهه. وقوله في ذلك الحديث "غفر له" الخ. أريد به أنه يجب له الجنة، ولا شك أن ليس المراد دخول الجنة مطلقا فإنه يحصل بالإيمان، بل المراد دخولا أوليا، وهذا يتوقف على مغفرة الصغائر والكبائر جميعا، بل مغفرة ما يفعل بعد ذلك أيضا، نعم لابد من اشتراط الموت على حسن الخاتمة، وقد يجعل هذا الحديث بشارة بذلك أيضا. انتهى. (إلا وجبت له الجنة) أي أنه تعالى يدخله الجنة بفضله بحيث لا يخالف وعده، كمن وجب عليه شيء. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي.

(3/17)


290- قوله: (ما منكم) من بيانية. (من أحد) مبتدأ ومن زائدة. (فيبلغ) من الإبلاغ. (أو فيسبغ) من الإسباغ وأو للشك. (الوضوء) بفتح الواو وقيل بضمها أي ماء الوضوء، والمراد بإبلاغ الوضوء أو إسباغه هو أن يتم الوضوء ويكمله فيوصله مواضعه على الوجه المسنون. (ثم يقول) أي عقيب وضوءه. (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) قال الطيبي: قول الشهادتين عقيب الوضوء إشارة إلى إخلاص العمل لله، وطهارة القلب من الشرك والرياء، بعد طهارة الأعضاء من الحدث والخبث. (إلا فتحت له) هو من باب "ونفخ في الصور" عبر عن الآتي بالماضى لتحقق وقوعه، والمراد تفتح له يوم القيامة. (أبواب الجنة الثمانية) أي تعظيما لعمله المذكور وإن كان الدخول يكفى فيه باب واحد. ثم الظاهر أن يوفق للدخول من الباب الذى غلب عليه عمل أهله، إذ أبواب الجنة معدة لأعمال مخصوصة، كالريان لمن غلب
يدخل من أيها شاء)). هكذا رواه مسلم في صحيحه، والحميدى في افراد مسلم، وكذا ابن الأثير في جامع الأصول. وذكر الشيخ محي الدين النووى في آخر حديث مسلم على ما رويناه، وزاد الترمذي: ((اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)).

(3/18)


عليه الصيام ونحو ذلك، قال ابن سيد الناس: فائدة تعدد الأبواب وفتحها والدعاء منها هو التشريف في الموقف والإشارة بذكر من حصل له ذلك على رؤوس الأشهاد، فليس من يؤذن له في الدخول من باب لا يتعداه، كمن يتلقى من كل باب ويدخل من حيث شاء. وحديث عمر هذا يدل على أن للجنة ثمانية أبواب، وقد جاء تعيين هذه الأبواب لبعض العمال، كباب الصلاة، وباب الجهاد، وباب الصدقة، وباب الصيام، وباب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ، وباب الراضين، وباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه، وذكر الحكيم الترمذي أبواب الجنة فعد أبوابا غير ما ذكر، وعلى قوله أبواب الجنة أحد عشر بابا، والتفصيل في تذكرة القرطبي. (هكذا رواه مسلم في صحيحه) وأخرجه أيضا أحمد، والنسائي، وأبوداود، وابن ماجه، وقال: فيحسن الوضوء، وفي رواية لأحمد وأبي داود "ثم رفع نظره إلى السماء فقال" الحديث، وفي سنده رجل مجهول، وأخرجه أيضا الترمذي وزاد "اللهم اجعلني" الخ وتكلم فيه بما يطول ذكره، إن شئت الوقوف عليه فارجع إلى تحفة الأحوذي، وجامع الترمذي المطبوع بتعليق العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر. واعلم أن حديث عقبة بن عامر المتقدم، وحديث عمر هذا، حديث واحد، رواهما بسياق واحد مسلم، وأبوداود، وابن حبان في قصة، لكن صدره أي الحديث المتقدم، سمعه عقبة بن عامر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والحديث الثاني تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل حضور عقبة، فأخبره عمر به ، فرواه عقبة بن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (والحميدي) أي وهكذا ذكره الحميدى. (في أفراد مسلم وكذا) ذكره. (ابن الأثير) الجزرى. (في جامع الأصول، وذكر الشيخ محي الدين) من الأحياء. (النووى) قال ابن حجر: بواوين ليس بينهما ألف، وبعضهم يقولون النواوى بالألف، والقياس الأول لأنه منسوب إلى "نوى" قرية قريب دمشق. (على ما رويناه) متعلق بآخر، وهو معلوم، وقيل مجهول أي على وفقه. (وزاد الترمذى)

(3/19)


الخ هذا مذكور النووي. (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) جمع بينهما إلماما بقوله تعالى ? إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين? [2: 222] ولما كانت التوبة طهارة الباطن عن أدران الذنوب، والوضوء طهارة الظاهرة عن الأحداث المانعة عن التقرب إلى الله تعالى ناسب الجمع بينهما، وقد تفرد بهذه الزيادة الترمذى وفي صحتها نظر، لما في سنده من الاضطراب والخطأ، وإنما جاءت في حديث بهذا المعنى عن ثوبان مرفوعا، نقله الهيثمى في مجمع الزوائد (ج1: ص239) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، وقال في الأوسط: تفرد به مسور بن مورع، ولم أجد من ترجمه، وفيه أحمد بن سهيل الوراق، ذكره ابن حبان في الثقات، وفي إسناد
والحديث الذى رواه محي السنة في الصحاح: "من توضأ فأحسن الوضوء" إلى آخره، رواه الترمذي في جامعة بعينه إلا كلمة "أشهد" قبل "أن محمدا".
291- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل))
الكبير أبوسعيد البقال، والأكثر على تضعيفه، ووثقه بعضهم، انتهى. ورواها أيضا عن ثوبان البزار كما في التلخيص، وابن السني، والخطيب، وابن النجار كما في كنز العمال. (الحديث الذى رواه محي السنة) أي ذكره في المصابيح. (في الصحاح) المعبر عنه في المشكاة بالفصل الأول. (رواه الترمذى في جامعه بعينه) الخ والحاصل ورود الاعتراض على صاحب المصابيح، حيث ذكر رواية الترمذى في الصحاح لإيهامها أنه كله في أحد الصحيحين أو كليهما وليس كذلك.

(3/20)


291- قوله: (إن أمتي) أي أمة الإجابة وهم المسلمون أي المتوضئون منهم. (يدعون) أي ينادون أو يسمون. (غرا) جمع أغر أي ذوى غرة، وأصلها لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، والمراد ههنا النور الكائن في وجود المسلمين. (محجلين) من التحجيل، وهو بياض يكون في قوائم الفرس، وأصله من الحجل بالكسر وهو القيد والخلخال، والمراد به هنا أيضا النور. وانتصابهما على الحال إذا كان يدعون بمعنى ينادون، ويحتمل أن يكون غرا مفعولا ثانيا ليدعون بمعنى يسمون، والمراد بيض مواضع الوضوء من الوجوه، والأيدى والأقدام، استعار أثر الوضوء في الوجه واليدين والرجلين للإنسان من البياض الذي يكون في وجه الفرس ويديه ورجليه، والمعنى: إذا دعوا على رؤس الأشهاد أو إلى الموقف، أو إلى الميزان، أو إلى الصراط، أو إلى الجنة نودوا بهذا الوصف، وكانوا على هذه الصفة، أو سموا بهذا الاسم. (من) أي لأجل. (آثار الوضوء) أو من سببية أي بسبب آثار الوضوء، وهو متعلق بمحجلين أو بيدعون على الخلاف في باب التنازع بين البصريين والكوفيين. والوضوء بضم الواو ويجوز فتحها، فإن الغرة والتحجيل نشأ عن الفعل بالماء، فيجوز أن ينسب إلى كل منها، وللغرة علتان الوضوء كما في هذا الحديث، والسجود كما يدل عليه حديث عبدالله بن بسر عند الترمذي، وأما التحجيل فعلته هو الوضوء. (فمن استطاع منكم) الخ ظاهر سياق الحديث أن قوله فمن استطاع إلى آخره من الحديث، وهو يدل على عدم الوجوب، إذ هو في قوة "فمن شاء منكم" فلو كان واجبا ما قيده بها، إذا الاستطاعة لذلك متحققة قطعا، وقال نعيم أحد رواته: لا أدرى قوله: "فمن استطاع" الخ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من قول أبي هريرة. قال الحافظ في الفتح: لم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة وهو عشرة، ولا ممن رواه عن أبي هريرة، غير رواية نعيم هذه. (غرته) أي وتحجيله وإنما اقتصر على أحدهما لدلالته على الآخر وآثر

(3/21)


الغرة وهي مؤنثة على التحجيل وهو مذكر لشرف موضعها. (فليفعل) أي ما ذكر من الغرة والتحجيل والإطالة، فحذف المفعول للعلم به. وفيه دليل
متفق عليه.
292-(10) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)) رواه مسلم
?الفصل الثاني?
293-(11) وعن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((استقيموا ولن تحصوا،
على مشروعية إطالة الغرة والتحجيل. واختلفوا في القدر المستحب من ذلك، فقيل: في اليدين إلى المنكب، وفي الرجلين إلى الركبة، وقد ثبت هذا عن أبي هريرة رواية ورأيا، وثبت من فعل ابن عمر، أخرجه ابن شيبة وأبوعبيد بإسناد حسن، وقيل: إلى نصف العضد والساق. والغرة في الوجه أن يغسل إلى صفحتي العنق، والقول بعدم مشروعيتهما وتأويل حديث أبي هريرة بأن المراد به المداومة على الوضوء خلاف الظاهر، ورد هذا التأويل أيضا بأن الراوي أعرف بما روى، كيف وقد رفع معناه كما في الحديث الآتي فلا وجه لنفيه، والغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة لا أصل الوضوء. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد، وأخرجه مع أبي هريرة عشرة من الصحابة، ذكر سبعة منهم ابن مندة في مستخرجه، وذكر أحاديث بعضهم الهيثمي في مجمع الزوائد، وعلي المتقى في كنز العمال.
292- قوله: (تبلغ الحلية) الخ. قال الطيبي: ضمن "يبلغ" معنى "يتمكن" وعدى بمن، أي تتمكن من المؤمن الحلية مبلغا يتمكنه الوضوء منه. (حيث يبلغ الوضوء) بالفتح أي ماءه، وقيل بالضم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا النسائي وابن خزيمة في صحيحه بنحوه إلا أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الحلية تبلغ مواضع الطهور، والمراد بالحلية الغرة والتحجيل، أي النور والبياض، وقيل: الزينة في الجنة وهو بعيد.

(3/22)


293- قوله: (عن ثوبان) بمفتوحة وسكون واو وبموحدة، الهاشمي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ثوبان بن بجدد، بضم الباء الموحدة وسكون الجيم وضم الدال المهملة الأولى، قيل: أصله من اليمن أصابه سباء فاشتراه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه فقال: إن تلحق بمن أنت منهم فعلت، وإن شئت أن تثبت فأنت منا أهل البيت، فثبت ولم يزل معه في حضره وسفره، ثم خرج إلى الشام فنزل الرملة ثم حمص، وابتنى بها دارا، ومات بها سنة (54). له مائة وسبعة وعشرون حديثا، روى له مسلم عشرة أحاديث، روى عنه خلق كثير. (استقيموا) الاستقامة إتباع الحق وملازمة المنهج المستقيم، من الإتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن جميع المناهي، وذلك خطب لا يطيقه إلا من استضاء قلبه بالأنوار القدسية، وتخلص عن الظلمات الإنسية، وأيده الله تعالى من عنده، وقليل ما هم، فأخبرهم بعد الأمر بذلك أنكم لا تقدرون على إيفاء حقه بقوله. (ولن تحصوا) أي لن تطيقوا أن تستقيموا حق الاستقامة لعسرها، لئلا يغفلوا عنه فلا يتكلوا على ما
واعلموا أن خير أعمالكم الصلوة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) رواه مالك، وأحمد، وابن ماجه، والدارمي.
294- (12) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ على طهر، كتب له عشر حسنات))

(3/23)


يأتون به، ولا ييأسوا من رحمته فيما يذرون عجزا وقصورا لا تقصيرا، وأصل الإحصاء العد والضبط والإحاطة بالشيء. وقيل: معناه لن تحصوا ثوابه وأجره لو استقمتم، قال الطيبي قوله : "لن تحصوا" إخبار وإعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه كما اعترض "ولن تفعلوا" بين الشرط والجزاء في قوله تعالى: ?فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقو النار? [2: 24]. وكأنه - صلى الله عليه وسلم - لما أمرهم بالاستقامة وهي شاقة جدا كما مر، تداركه بقوله: لن تحصوا، رحمة وشفقة، كما قال: ?فاتقو الله ما استطعتم? [64: 16] بعد قوله: ?اتقوا الله حق تقاته? [3: 102]. ثم نبههم على ما يتيسر لهم من ذلك بقوله: (واعلموا) أي إن لم تطيقوا ما أمرتم به من الاستقامة فحق عليكم أن تلزموا بعضها، وهي الصلاة الجامعة لأنواع العبادات: القراءة، والتسبيح، والتهليل، والإمساك عن كلام الغير، والمفطرات، فالزموها وأقيموا حدودها لاسيما مقدمتها التي هي شطر الإيمان وهو الوضوء، وأيضا في ذكر الصلاة إشارة إلى تطهير الباطن؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. وفي ذكر الوضوء إلى تطهير الظاهر، انتهى مختصرا. (إن خير أعمالكم) أي أفضلها وأتمها دلالة على الاستقامة. (الصلاة) أي المكتوبة أو جنسها. والأحاديث في خير الأعمال جاءت متعارضة صورة فينبغي التوفيق بحمل "خير أعمالكم" على معنى "من خير أعمالكم" كما يدل عليه حديث ابن عمرو، عند ابن ماجه. (ولا يحافظ على الوضوء) أي على الدوام، وتركه لبيان الجواز لئلا يلتبس الفضل بالفرض، واليان عليه واجب، فالترك في حقه خير من الدوام عليه، فإن غايته أن يكون مندوبا. (إلا مؤمن) أي كامل في إيمانه فإن الظاهر عنوان الباطن، فطهارة الظاهر دليل على طهارة الباطن سيما الوضوء على المكاره. والمراد بالمؤمن الجنس، والتنكير للتعظيم. (رواه مالك) أي بلاغا، ورواه (أحمد) من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان، ومن طريق حسان بن عطية عن أبي كبشة السلولي عن

(3/24)


ثوبان، ومن طريق حريز بن عثمان، عن عبدالرحمن بن ميسرة، عن ثوبان. والطريق الأول منقطع، فإن سالم بن الجعد لم يسمع من ثوبان بلا خلاف. (وابن ماجه) منقطعا من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان. (والدارمي) منقطعا ومتصلا. وأخرجه أيضا الحاكم منقطعا، وابن حبان في صحيحه متصلا، والبيهقي. وأخرجه ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو، وفيه ليث بن سليم، وعن أبي أمامة، وفيه أبوحفص الدمشقي، وهو مجهول، والطبراني عن سلمة بن الأكوع وعبادة بن الصامت.
294- قوله: (من توضأ على طهر) "على" بمعنى مع أي وضوء مصاحبا لطهر، وقيل: أو ثابتا على طهر تشبيها لثبوته على ظهر وصف الطهر بثبوت الراكب على مركوبه، واستعارة لفظة "على" المستعملة في الثاني للأول، كما قالوا في قوله تعالى ?أولئك على هدى? [2: 5]. (كتب له عشر حسنات) بالوضوء المجدد، وقيل: أي عشر وضوءات،
رواه الترمذي.
?الفصل الثالث?
295- (13) عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور)) رواه أحمد.

(3/25)


فان أقل ما وعد به من الأضعاف الحسنة بعشر أمثالها، وقد وعد بالواحد سبع مائة. ووعد ثوابا بغير حساب، قال البغوي: تجديد الوضوء مستحب إذا كان قد صلى بالوضوء الأول صلاة فريضة كانت أو تطوعا، وكرهه قوم إذا لم يصل بالأول صلاة، ذكره الطيبي. قال القاري: ولعل سبب الكراهة هو الإسراف. قلت: الحديث ساكت عن هذا التفصيل. قال المنذري في الترغيب: وأما الحديث الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الوضوء نور على نور، فلا يحضرني له أصل من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولعله من كلام بعض السلف. انتهى. (رواه الترمذى) من طريق عبدالرحمن بن زياد الإفريقي، عن أبى غطيف الهذلي، عن ابن عمر، وقال: هو إسناد ضعيف، وذلك لتفرد الإفريقي وأبي غطيف به، والأول مختلف فيه، والثاني مجهول الحال، لم أجد فيه جرحا ولا تعديلا إلا قول البخاري في حديثه هذا: "لم يتابع عليه"، وليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث، وأخرجه أيضا أبوداود وابن ماجه من طريق الإفريقي عن أبي غطيف، وسكت عنه أبوداود.

(3/26)


295- قوله: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور) فيكون مفتاح الجنة الطهور، وهو بضم الطاء ويجوز فتحها، والمراد به أيضا المصدر، قال الطيبي: جعلت الصلاة مقدمة لدخول الجنة كما جعل الوضوء مقدمة للصلاة، وكما لا تتأتى الصلاة بدون الوضوء كذلك لا يتهيأ دخول الجنة بدون الصلاة، وفيه دليل لمن يكفر تارك الصلاة، وأنها الفارقة بين الإيمان والكفر. وقال غيره: هو حث وتحريض على الصلاة، وأنها مما لا يستغنى عنه قط، فإنها من أسباب دخول الجنة أولا من غير سابقة عذاب. قال ابن العربي: سمى الطهور مفتاحا مجازا؛ لأن الحدث مانع من الصلاة، فالحدث كالقفل موضوع على المحدث حتى إذا توضأ انحل الغلق، وهذه استعارة بديعة لا يقدر عليها إلا النبوة، وكذلك مفتاح الجنة الصلاة؛ لأن أبواب الجنة مغلقة يفتحها الطاعات، وركن الطاعات الصلاة. (رواه أحمد) وأخرجه أيضا الترمذى على ما في نسخة الترمذى (ج1: ص10) طبعة مصر بتصحيح وتعليق العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر، وعلى ما في التلخيص الحبير (ص80) والبزار، والطبراني، والبيهقي من حديث سليمان بن قرم، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عمر، وسليمان سيء الحفظ، وأبويحيى لين الحديث، وقال ابن عدى: أحاديثه عندى حسان.
296- (14) وعن شبيب بن أبي روح عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الصبح، فقرأ الروم، فالتبس عليه، فلما صلى، قال: ما بال أقوام يصلون معنا لا يحسنون الطهور؟ وإنما يلبس علينا القرآن أولئك)) رواه النسائي.

(3/27)


296- قوله: (شبيب) كجيب (بن أبي روح) بفتح الراء بعدها واو ثم حاء مهملة، ويقال: إن أبا روح كنية شبيب، واسم أبيه نعيم الكلاعي، من ثقات التابعيين، قال الحافظ: أخطأ من عده من الصحابة. (عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) اسمه الأغر بفتح المعجمة بعدها راء مشددة، الغفارى، قال ابن عبدالبر في الاستيعاب (ج1: ص45) الأغر الغفارى روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعه يقرأ في الفجر بالروم. ولم يروه عنه إلا شبيب أبوروح وحده. انتهى. (فقرأ) فيها. (الروم) أي سورة الروم. (فالتبس عليه) أي اشتبه واستشكل واختلط، وضميره للروم باعتبار أنه اسم مقدار من القرآن، وفي حديث أبي روح عند أحمد: فقرأ بالروم فتردد في آية. (فلما صلى) أي فرغ من الصلاة. (لا يحسنون) من الإحسان أو التحسين. (الطهور) بضم الطاء ويجوز فتحها، والحمل على الماء لا يناسب المقام، أي لا يأتون بواجباته وسننه. ففي حديث أبي روح عند أحمد (ج3: ص471) "إنما لبس الشيطان القراءة من أجل أقوام يأتون الصلاة بغير وضوء"، أي بفقد ركن أو شرط من شروط الطهارة، فيعود شؤم خللهم على المصلى معهم. وفيه تشريع وتعليم للأمة أن المقصر يعود شؤمه على غيره. وقال الطيبي: فيه أن ترك السنن والآداب سد باب الفتوحات الغيبية، وأنه يسري إلى الغير، وأن بركتها تسرى في الغير، ثم تأمل أن مثله - صلى الله عليه وسلم - مع جلالة قدره وغاية كماله إذا كان يتأثر من مثل تلك الهيئة فكيف بغيره من صحبة أهل الأهواء والبدع، وصحبة الصالحين بعكسه. (رواه النسائي) في الصلاة، وأخرجه أيضا أحمد، وعبدالرزاق، والبغوي، والطبراني، وأبونعيم كلهم عن رجل من الصحابة، قال على المتقى: سماه مؤمل بن إسماعيل الأغر. قال أبوموسى: لا نعلم أحد أسماه غيره، وهو أحد الثقات، وقال البغوي عن الأغر: رجل من بنى غفار-انتهى. قال الحافظ: وسماه الطبراني وخلطه بالأغر المزنى صحابي آخر. وأما ابن عبدالبر فجعل

(3/28)


هذا غفاريا، وكذا ثبت في بعض طرقه-انتهى. قلت: رجال النسائي وكذا أحمد رجال الصحيح، لكن الحديث مضطرب الإسناد، اختلف أصحاب عبدالملك بن عمير عليه، فرواه سفيان عند النسائي، وشعبة عند أحمد، عن عبدالملك بن عمير، عن شبيب أبى روح، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه شريك وزائدة، عن عبدالملك، عن شبيب أبي روح الكلاعي أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح الحديث، فجعلا الحديث عن أبى روح نفسه، وهذا أيضا عند أحمد (ج3: ص471، 472) والراجح عندنا رواية سفيان وشعبة، وقد صوب الحافظ في تهذيب التهذيب (ج4: ص310) رواية شعبه، وخطأ في التقريب من عد شبيبا أبا روح في الصحابة.
297- (15) وعن رجل من بني سليم، قال: ((عدهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يدى- أو في يده- قال: التسبيح نصف الميزان، والحمد لله يملأه، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض، والصوم نصف الصبر، والطهور نصف الإيمان)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن.
298- (16) وعن عبدالله الصنابحي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

(3/29)


297- قوله: (وعن رجل) من الصحابة. (من بني سليم) بالتصغير. (عدهن) أي الخصال الآتية، فهو ضمير مبهم. يفسره ما بعده، والمفسر قوله "التسبيح". (في يدي) أي أخذ أصابع يدي، وجعل يعقدها في الكف خمس مرات على عد الخصال لمزيد التفهيم والاستحضار، (أو في يده) شك من الراوى. (التسبيح نصف الميزان) قيل: إنه ضرب مثل وأن المعنى: لو كان التسبيح جسما لملأ نصف الميزان.وقيل: بل الله يمثل أقوال بني آدم وأعمالهم صورا ترى يوم القيامة وتوزن وهذا هو الظاهر، وقيل: أي ثوابه بعد تجسمه يملأ نصف الميزان، والمراد به إحدى كفتيه الموضوعة لوضع الحسنات فيها. (والحمد لله يملأه) أي الميزان كله، فيكون المراد تفضيل الحمد على التسبيح، وأن ثوابه ضعف ثواب التسبيح أو نصفه الآخر، فيكون المقصود التسوية بين التسبيح والحمد بأن كل واحد منهما يأخذ نصف الميزان فيملآنه معا، وذلك؛ لأن الأذكار تنحصر في نوعين: التنزيه والتحميد، والأول أظهر، ويؤيده حديث أبي مالك الأشعري المتقدم في الفصل الأول، ولأن الحمد يشتمل على التنزيه ضمنا؛ لأن الوصف بالكمال متضمن نفى النقصان. وقال الطيبي: لأن الحمد جامع لصفات الكمال من الثبوتية والسلبية والتسبيح من السلبية. (والصوم نصف الصبر)؛ لأن الصبر حبس النفس على الطاعات، وعن المعاصي، وكان الصوم أقمع لشهوات النفس الباعثة على المعاصي فصار نصف الصبر بهذا الاعتبار، وقيل: الصوم صبر عن الحلق والفرج فيبقى نصفه الآخر من الصبر عن سائر الأعضاء. (رواه الترمذى وقال: هذا حديث حسن) وأخرجه أيضا أحمد، وأخرجه الترمذي أيضا من حديث عبدالله بن عمرو بنحوه، وزاد فيه: "ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه".

(3/30)


298- قوله: (عبدلله الصنابحي) مختلف في صحبته بل في وجوده، فقيل: هو صحابي مدني وإليه جنح الحاكم، وابن السكن، وابن معين، والترمذى، ففي بعض نسخ الترمذي الصحيحة القلمية: الصنابحي هذا الذى روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "فضل الطهور" هو عبدالله الصنابحي، والذى روى عن أبى بكر الصديق ليس له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، واسمه عبدالرحمن ابن عسيلة. انتهى. وإليه يميل كلام الحافظ في تهذيب التهذيب والإصابة، وابن الأثير الجزرى في أسد الغاية، والذهبي في التجريد، والمصنف في الإكمال، والمنذري في الترغيب. وقيل: هو أبوعبدالله الصنابحي عبدالرحمن بن عسيلة التابعى، ووهم من قال عبدالله الصنابحي، وأخطأ قلب كنيته فجعلها اسما، فأحاديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلة، صرح بذلك
إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض، خرجت الخطايا من فيه. وإذا استنثر، خرجت الخطايا من أنفه. وإذا غسل وجهه، خرجت الخطايا من وجهه، حتى تخرج من تحت أشفار عينيه. فإذا غسل يديه، خرجت الخطايا من يديه، حتى تخرج من تحت أظفار يديه. فإذا مسح برأسه، خرجت الخطايا من رأسه، حتى تخرج من أذنيه. فإذا غسل رجليه، خرجت الخطايا من رجليه، حتى تخرج من تحت أظفار رجليه. ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له)) رواه مالك، والنسائى.
299- (17) وعن أبي هريرة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين،

(3/31)


البخارى، وعلي بن المديني، ويعقوب بن شيبة، ومن تبعهم، والراجح عندنا هو القول الأول، فعبدالله الصنابحي صحابي له ثلاثة أحاديث، الأول هو هذا، والثاني يأتي في الفصل الثالث من باب أوقات النهى، وقد صرح في بعضها بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأبوعبدالله الصنابحي عبدالرحمن بن عسيلة رجل آخر تابعي، وارجع إلى تهذيب التهذيب (ج6: ص91، 229) والإصابة (ج2: ص384، 385) و(ج3: ص96). وسيكون لنا عودة إلى البحث عن ذلك في باب أوقات النهي إن شاءالله تعالى. (إذا توضأ) أي أراد الوضوء. (خرجت الخطايا) أي خطايا فيه من فيه، فاللام بدل من المضاف إليه، أو للعهد بالقرينة المتأخرة، وهكذا فيما بعد، فلا يرد: أن تمام الخطايا إذا خرجت من فيه فماذا يخرج من سائر الأعضاء؟ والمراد بخطايا الفم المراودة على الفاحشة، والمواعدة على المعصية، وغير ذلك من الصغائر. (خرجت الخطايا) كشم ما لا يجوز كطيب مغصوب. (من أنفه) أي مع الماء. (خرجت الخطايا من وجهه) كالنظر إلى ما لا يحل قصدا. (حتى تخرج من تحت أشفار عينيه) أشفار العين أطراف الأجفان التي ينبت عليها الشعر جمع شفر بالضم. (فإذا غسل يديه) أي إلى المرفقين. (خرجت الخطايا من يديه) كاللمس لما لا يجوز. (فإذا مسح برأسه) ظاهره الاستيعاب. (خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه) فيه دليل على أن الأذنين من الرأس، وأنهما يمسحان بماء الرأس لا بماء جديد؛ لأن خروج الخطايا منهما بمسح الرأس إنما يحسن إذا كانا منه، وهذا كما جعل العينين مخرجا لخطايا الوجه، والأظفار مخرجا لخطايا اليدين، وعليه بنى النسائي الكلام في سننه فقال: باب مسح الأذنين من الرأس، وما يستدل به على أنهما من الرأس. (فإذا غسل رجليه) أي إلى الكعبين. (خرجت الخطايا من رجليه) كالمشي فيما لا ينبغي. (وصلاته) فريضة كانت أو نافلة. (نافلة له) أي زائدة على تكفير تلك الخطايا المتعلقة بأعضاء الوضوء، فتكون لتكفير خطايا باق

(3/32)


الأعضاء إن كانت، وإلا فلتخفف الكبائر ثم لرفع الدرجات. (رواه مالك والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والحاكم، وقال صحيح على شرطهمان، ولا علة له، وعبدالله الصنابحي صحابي.
299- قوله: (أتى المقبرة) بتثليث الباء والكسر قليل، قيل: أنها البقيع. (السلام عليكم دار قوم مؤمنين)
وإن شاءالله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا. قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة، بين ظهرى خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا بلى، يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء

(3/33)


منصوب على الإختصاص أو النداء؛ لأنه مضاف، ويجوز الجر على البدلية من الكاف والميم في "عليكم". والمراد الجماعة وأهل الدار. (وإنا إن شاءالله بكم لاحقون) أتى بالاستثناء مع أن الموت لا شك فيه، وللعلماء فيه أقوال تبلغ إلى عشرة، أظهرها أنه للتبرك لا للشك، كما في قوله: ?لتدخلن المسجد الحرام إن شاءالله آمنين? [48: 27] وقيل لامتثال أمر الله في قوله: ?ولا تقولن لشائ إن فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله? [18: 23، 24] وقيل: باعتبار اللحوق في هذا الملكان والموت بالمدينة. (وددت) بكسر الدال أي تمنيت وأحببت. (أنا) بفتح الهمزة وتشديد النون أي أنا وأصحابي. (إخواننا) في الحياة الدنيا، وقيل بعد الموت، ووجه اتصال هذه الودادة بذكر أصحاب القبور أنه ذكر اللاحقين عند تصور السابقين، وذكرهم إظهارا لشرفهم وكرامتهم ومحته إياهم. (أولسنا) أي أتقول هذا ولسنا. (أنتم أصحابي) ليس هذا نفيا لأخوتهم ولكن ذكر مزيتهم الزائدة بالصحبة، فإن الاتصاف في محل الثناء يكون بأرفع حالاته وأفضل صفاته، وفضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، فإنها من الصفات التي لا يلحقهم فيها أحد فهؤلاء إخوة وصحابة، واللاحقون إخوة فحسب قال تعالى: ?إنما المؤمنون إخوة? [49: 10]. (وإخواننا) أي المراد بإخواني أو الذين لهم إخوة فقط. (الذين لم يأتوا بعد) أي لم يلحقوا إلى الآن. (فقالوا: كيف تعرف) أي يوم القيامة، وفي رواية مالك والنسائي وأنا فرطهم على الحوض، فقالوا يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كيف تعرف؟ الخ فكأنهم فهموا من تمنى الروية وتسميتهم باسم الإخوة دون الصحبة أنه لا يراهم في الدنيا فإنما يتمنى عادة ما لم يمكن حصوله، ولو حصل اللقاء في الدنيا لكانوا صحابة، وفهموا من قوله: "أنا فرطهم" أنه يعرفهم في الآخرة فسألوا عن كيفية ذلك. (أرأيت) أي أخبرني، والخطاب مع كل من يصلح له من الحاضرين أو السائلين، . (بين ظهرى خيل) أي بينها، ولفظ الظهر مقحم. (دهم) بضم الدال

(3/34)


وسكون الهاء جمع أدهم، وهو الأسود، والدهمة السوادة. (بهم) بضم الموحدة وسكون الهاء جمع بهيم، وقيل: المراد السود أيضا، وقيل: البهيم الذي لايخالط لونه لون سواءه، سواء كان أسود، أو أبيض، أو أحمر، بل يكون لونه خالصا. (ألا يعرف خيله؟) الهمزة للإنكار. (فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء) أي وسائر الناس ليسوا كذلك، لاختصاص الغرة والتحجيل بهذه الأمة من بين الأمم، ويكون الوجه كله متنورا من أثر الوضوء، ولكن الجبهة تكون أشد تنورا من أجل السجود، فلا يخالفه حديث
وأنا فرطهم على الحوض)) رواه مسلم.
300- (18) وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى ما بين يدى، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك. فقال رجل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: هم غر محجلون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم)) رواه أحمد.
عبدالله بن بسر عند الترمذي وغيره، وقد تقدم وجه آخر للجمع. (وأنا فرطهم على الحوض) بفتحتين، أي أنا أتقدمهم على الحوض، أهيئ لهم ما يحتاجون إليه. ففيه بشارة لهذه الأمة، هنيئا لمن كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: فرطه. (رواه مسلم(وأخرجه أيضا مالك والنسائي).

(3/35)


300- قوله: (فأنظر) أي فأرفع راسي فأنظر. (فأعرف) أي أميز، ليستقيم تعلق من به. (أمتي) أي الذين أجابوا. (ومن خلفي) أي أنظر من ورائي. (مثل ذلك) بالنصب أي فأعرف أمتي. (فيما بين نوح) بيان للأمم، حال منه، أي الأمم كائنة فيما بين نوح. (إلى أمتك) إلى للإنتهاء، أي مبتدأ من نوح منتهيا إلى أمتك. (ليس أحد كذلك غيرهم) بالرفع على البدلية، وبالنصب على الاستنثاء، هذا صريح في أن الغرة والتحجيل من خصوصيات أمته - صلى الله عليه وسلم -. (وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بإيمانهم) ظاهره أنه من خصوصياتهم إلا أن يحمل على أنهم يؤتون ذلك قبل غيرهم، أو على صفة لم تكن لغيرهم، إذ الذي دلت عليه الآيات وبقية الأحاديث العموم. (وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم) قال الطيبي: لم يأت بالوصفين هذين تفصلة وتميزا كالأول، بل أتى بهما مدحا لأمته، وابتهاجا بما أوتوا من الكرامة والفضيلة، انتهى. (رواه أحمد) وفيه ابن لهيعة قال المنذري: وهو حديث حسن في المتابعات، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير، وفيه أيضا ابن لهيعة.
(1) باب ما يوجب الوضوء
?الفصل الأول?
301-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ)) متفق عليه
302- (2) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول))
(باب ما يوجب الوضوء) أي وما يتعلق به، قال في القاموس: "الوضوء" بالضم الفعل، وبالفتح ماؤه، ومصدر أيضا، أو لغتان قد يعنى بهما المصدر، وقد يعنى بهما الماء، انتهى والمراد بيان الأشياء التي تنقض الوضوء، وتكون سببا لوجوب وضوء آخر. والموجب للوضوء وسببه في الحقيقة هي إرادة الصلاة المقرونة إليها، كما تدل عليه آية الوضوء، وقد يطلق على نواقص الوضوء لفظ الموجب كما هنا بالوجه الذي أشرنا إليه.

(3/36)


301- قوله: (لا تقبل) وفي رواية لا يقبل الله، والقبول ضد الرد، فمعنى لا تقبل أي ترد ولا تعتد ولا تجزئ، أي تبطل ولا تصح، فالقبول في معنى الإجزاء والصحة، وقد يطلق عدم القبول ويراد به نفى الإثابة لدليل خارجي (صلاة من أحدث) أي صار ذا حدث، والمراد به الخارج من أحد السبيلين. (حتى يتوضأ) أي فتقبل حينئذ، وقوله: "يتوضأ" أي حقيقة بالماء، أو حكما بما يقوم مقامه، وهو التيمم، وقد أطلق الوضوء على التيمم، أو يتوضأ بمعنى يتطهر، فيشمل الغسل والوضوء والتيمم. والحديث فيه دليل على بطلان الصلاة بالحدث، سواء كان خروجه اضطراريا أو اختياريا لعدم التفرقة في الحديث بين حدث وحدث، في حالة دون حالة، ففيه رد على من يقول وهو أبوحنيفة: أنه إذ سبقه الحدث يتوضأ، ويبني على صلاته، وفيه أن الصلوات كلها تفتقر إلى الطهارة، ويدخل فيها صلاة الجنازة والعيدين وغيرهما. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وفي ترك الحيل، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود.
302- قوله: (بغير طهور) أي بلا طهور، وليس المعنى صلاة متلبسة بشيء مغاير للطهور، إذ لا بد من ملابسة الصلاة بما يغاير الطهور، كسائر شروط الصلاة، إلا أن يراد بمغاير الطهور، ضد الطهور، حملا لمطلق المغاير على الكامل، وهو الحدث. والطهور بضم الطاء فعل المتطهر، وهو المراد ههنا، وبالفتح اسم للآلة كالماء والتراب، وقيل: بالفتح يطلق على الفعل أيضا، فيجوز ههنا الوجهان. (ولا صدقة من غلول) بضم الغين أي مال حرام. والغلول في الأصل الخيانة في المغنم، ولا سرقة من الغنيمة قبل القسمة، وكل من خان في شيء خفية فقد غل، قال ابن العربي: فالصدقة من مال حرام في
رواه مسلم.
303- (3) وعن علي، قال: قال: ((كنت رجلا مذاء، فكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فأمرت المقداد، فسأله، فقال: يغسل ذكره

(3/37)


عدم القبول والاستحقاق العقاب، كالصلاة بغير طهور في ذلك، انتهى. فكما أن الطهارة شرط للصلاة المقبولة، كذلك كون المال طيبا شرط للصدقة المقبولة. ولعل وجه تخصيص الغلول بالذكر، وإن كان الحكم عاما لجميع الأموال المحرمة – كثمن الخمر وأجرة المزنية والربا والسرقة ونحوها- أن الغنيمة فيها حق لجميع المسلمين، فإذا كان التصدق من المال الذي فيها حق غير مقبولة، فأولى أن لا تقبل من المال الذي ليس فيه حق. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي وابن ماجه، وأخرجه أبوداود والنسائي وابن ماجه، عن أبي المليح عن أبيه، وابن ماجه عن أنس وأبي بكرة.

(3/38)


303- قوله: (مذاء) صيغة مبالغة، أي كثير المذي، وفيه لغات أفصحها بفتح الميم وسكون الذال وتخفيف الياء ثم بكسر الذال وتشديد الياء، وهو ماء أبيض رقيق لزج، يخرج عند الملاعبة والتقبيل، أو تذكر الجماع، أو إرادته عادة، وقد لا يحس بخروجه. (أن أسأل النبي- صلى الله عليه وسلم -) أي عن حكم المذي، هل هو نجس موجب للغسل أم لا؟. (لمكان ابنته) أي فاطمة، لكونها تحته. والمذي كثيرا ما يخرج عند ملاعبة الزوجة. (فأمرت المقداد فسأله) أي مبهما بأن قال مثلا: رجل خرج من ذكره مذى، ما الحكم فيه؟ لا لعلى خاصة بالتعيين، وقد وقع الاختلاف في السائل هل المقداد؟ كما في هذه الرواية، أو عمار؟ كما رواية للنسائي، أو علي؟ كما في رواية لابن حبان، والإسماعيلي، والترمذي، وجمع ابن حبان بين ذلك، بأن عليا أمر عمارا أن يسأل ثم أمر المقداد بذلك، ثم سأل بنفسه، إلا أنه تعقب بأن قوله: فكنت أستحيي الخ. دال على أنه لم يباشر السؤال، فنسبة السؤال إليه في رواية من قال: إن عليا سأل، مجاز، لكونه الآمر بالسؤال، أو يقال: أنه سأل هو بنفسه بعد سؤالهما للإحتياط، أو يقال: إنه لما أبطأ في السؤال، سأل بنفسه لشدة إحتياجه إليه، وسألا أيضا في أوقات مختلفة، وأخبراه بذلك، وقد يجمع بأنه سألهما معا أن يسألاه - صلى الله عليه وسلم -، كما في رواية لعبدالرزاق: فسأله المقداد بحضرة عمار وعلي، فنسبة عمار إلى أنه سأل عن ذلك محمولة على المجاز لكونه قصده، ولكون المقداد سأله بحضرته، كما أن نسبة السؤال إلى علي محمولة على المجاز؛ لكونه الآمر ولكون المقداد سأله بحضرته. (يغسل ذكره) لنجاسته، وإطلاق لفظ "ذكره" ظاهر في غسل الذكر كله، وليس كذلك إذ الواجب غسل محل الخارج وموضع النجاسة فقط، وإنما هو من إطلاق لفظ الكل على البعض، والقرينة أن الموجب لغسله إنما هو خروج الخارج، فلا تجب المجاوزة إلى غير محله، ويؤيده ما عند الإسماعيلي في رواية فقال: توضأ واغسله" فأعاد

(3/39)


الضمير إلى المذي، وهذا مذهب الجمهور، وذهب بعض المالكية إلى أنه يغسله كله، عملا بلفظ الحديث، وذهب بعض الحنابلة إلى أنه يغسله كله مع الأنثيين. واستدل لذلك برواية أبي داود: يغسل ذكره وأنثييه، وفي رواية أخرى له: فتغسل من ذلك فرجك
ويتوضأ)) متفق عليه.
304-(4) وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((توضؤا مما مست النار)) رواه مسلم.
وأنثييك، وتوضأ للصلاة". وأجيب بأن رواية غسل الأنثيين قد طعن فيها بأنها من رواية عروة بن علي، وعروة لم يسمع من علي، وأيضا أكثر الروايات في الصحيحين وغيرهما خالية عن ذكر الأنثيين، إلا أنه رواه أبوعوانة في صحيحه، من طريق عبيدة عن علي بالزيادة، وإسناده لا مطعن فيه كما قال الحافظ في التخليص. وأجيب عنه بأنه محمول على الاستحباب، أو أمر بغسل الأنثيين لزيادة التطهير؛ لأن المذي ربما انتشر فأصاب الأنثيين. ويقال: إن الماء البارد إذا أصاب الأنثيين رد المذي، فلذلك أمره بغسلهما، قاله الخطابي. واستدل به على تعيين الماء فيه دون الأحجار ونحوها أخذا بالظاهر. وقالت الحنفية: يجوز الاقتصار بالأحجار الحاقا للمذى بالبول، وحملا للأمر بالغسل على الاستحباب، أو على أنه خرج مخرج الغالب، وهذا هو المعروف في مذهب الشافعي. (ويتوضأ) فيه أن المذي ينقص الوضوء، ولا يوجب الغسل، وهو إجماع. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم، وفي الطهارة، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضا النسائي فيها، وقد روي حديث علي هذا من طرق مختلفة عند أحمد، ومسلم، والترمذى، والنسائي وأبي داود، وابن ماجه، وغيرهم.

(3/40)


304- قوله: (توضؤوا مما مست النار) أي من أكل ما مسته النار، وهو الذى أثرت فيه النار بطبخ أو قلي أو شي. والمراد بالوضوء الوضوء الشرعي، أي وضوء الصلاة. وهو دليل على أن أكل ما أثرت فيه النار من أسباب وجوب الوضوء. واختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب الأكثر من السلف والخلف إلى عدم انتقاض الوضوء به. وذهبت طائفة إلى وجوب الوضوء الشرعي به، واستدلت بحديث أبي هريرة هذا وما في معناه. وأجاب الأولون عنه بوجوه: منها أن المراد بالوضوء غسل الفم والكفين، ورد بأن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها. ومنها أنه محمول على الاستحباب لا على الوجوب، وهذا اختيار الخطابي، وابن تيمية صاحب المنتقى، ورد بأن الأصل في الأمر الوجوب. ومنها أنه لما اختلف أحاديث الباب، ولم يتبين الراجح منها، نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرجحنا به أحد الجانبين، وارتضى بهذا النووي في شرح المهذب، وبهذا يظهر حكمة تصدير البخاري حديث ابن عباس الآتي بالأثر المنقول عن الخلفاء الثلاثة، قال النووي: كان الخلاف فيه معروفا بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مست النار، إلا ما تقدم استثناه من لحوم الإبل. ومنها أنه منسوخ بحديث ابن عباس الذى يتلوه، وبحديث أم سلمة، وحديث ابن عباس الآتيين في آخر الفصل الثاني، وما في معناهما من الأحاديث الدالة على ترك الوضوء مما مست النار، والحكمة في الأمر بالوضوء من ذلك في أول الإسلام، ما كانوا عليه من قلة التنظيف في الجاهلية، فلما تقررت النظافة وشاعت في الإسلام، نسخ الوضوء تيسيرا على المؤمنين. وأبدى الشاه ولي الله الدهلوي حكمة أخرى، وارجع إلى حجة الله. قلت: أقوى الأجوبة عندي هو الثالث فهو أولى من دعوى النسخ. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد، والنسائي، وغيرهما.

(3/41)


305- (5) قال الشيخ الإمام الأجل محي السنة، رحمه الله: هذا منسوخ بحديث ابن عباس: قال. ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ)) متفق عليه.
306- (6) وعن جابر بن سمرة، ((أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن
305- قوله: (قال الشيخ الإمام الأجل محي السنة) البغوي في شحر السنة (هذا) أي وجوب الوضوء الشرعي بأكل ما مسته النار. (منسوخ بحديث ابن عباس) الخ، واعتراض عليه بأنه إنما يتم ذلك لو علم تاريخهما، وتقدم الأول على الثاني، وأجيب بأن صحبة ابن عباس متأخرة، فإنه إنما صحبه بعد الفتح، قاله الشافعي فيما نقله البيهقي، ويدل على تأخر حديث ابن عباس، ما رواه أحمد في مسنده عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه عن ابن إسحاق: حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال: دخلت على ابن عباس بيت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - لغد يوم الجمعة، الحديث. وفيه: فأكل وأكلوا معه، قال: ثم نهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه إلى الصلاة، وما مس ولا أحد ممن كان معه ماء، قال: ثم صلى بهم، وكان ابن عباس إنما عقل من أمر رسول الله آخره، وهذا مع دلالته على تأخره، فيه رد على زعم الخصوصية. قيل: وأصرح من هذا في النسخ حديث جابر: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار، رواه أبوداود، والنسائي، وابن الحارود، والبيهقي، وغيرهم، وهو حديث صحيح ليس في إسناده مطعن، وليست له علة، وقد أعمله بعض الحفاظ بما لا يصلح تعليلا، وتأوله أبوداود بما هو بعيد جدا، يرده ما رواه أحمد عن جابر مطولا من طريق محمد بن إسحاق عن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، فإن فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل هو ومن معه، ثم بال، ثم توضأ للظهر، وأنه أكل بعد ذلك هو ومن معه، ثم صلوا العصر، ولم يتوضؤوا. (هذا معنى الحديث) فهذا يدل على أن الوضوء

(3/42)


الأول كان للحدث، وليس من أكل ما مست النار، حتى يصح أن يسمى الفعل الثاني بأكله ثم صلاته من غير أن يتوضأ، آخر الأمرين؛ لأنهما فعلان ليسا من نوع واحد، وقال ابن حزم في المحلى (ج1: ص243): القطع بأن ذلك الحديث مختصر من هذا، قول بالظن، والظن أكذب الحديث، بل هما حديثان كما وردا. انتهى. (أكل كتف شاة) أي أكل لحم كتف الشاة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وفي الأطعمة، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود.
306- قوله: (وعن جابر بن سمرة) بن جنادة السوائي، صحابي مشهور، ولأبيه أيضا صحبه، نزل الكوفة، ومات بها سنة (74) في خلافة عبدالملك بن مروان، في ولاية بشر بن مروان، له مائة وستة وأربعون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين، روى عنه جماعة. (أنتوضأ) بالنون، وفي بعض النسخ بالياء، وفي بعضها "أتوضأ" بالمتكلم المفرد، مع حذف همزة الاستفهام، وهي الصحيحة الموافقة لما في صحيح مسلم. (من لحوم الغنم) أي من أكلها.
شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلى في مبارك الإبل؟ قال: لا))

(3/43)


(قال: نعم، فتوضأ من لحوم الإبل) المراد به الوضوء الشرعي، أي وضوء الصلاة، لأن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها. والحديث نص على أن الأكل من لحم الإبل ناقص للوضوء على كل حال، نيئا كان أو مطبوخا، وإليه ذهب أحمد، وإسحاق ابن راهوية، وغيرهما، واختاره البيهقي، وحكى عن أصحاب الحديث مطلقا، وحكى عن جماعة من الصحابة، ورجحه النووي وغيره من الشافعية، وابن العربي من المالكية، والشيخ عبدالحي اللكنوى من الحنفية، وهذا القول هو المعمول عليه، الصحيح عندنا، وإن كان الجمهور على خلافه. ويدل عليه أيضا حديث البراء بن عازب، عند أحمد والترمذى وأبي داود وابن ماجه والطيالسي، وابن الجارود وابن حبان، وابن خزيمة وغيرهم، قال ابن خزيمة: لم أر خلافا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه، انتهى. وفي الباب عن أسيد بن حضير، وذى الغرة، وعبدالله بن عمر، ولكن أحاديثهم قد تكلم فيها من جهة السند، وذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقص الوضوء، وأجابوا عن حديثي جابر والبراء بوجوه كلها مخدوشة، قد رد عليها ابن قدامة في المغني (ج1: ص188، 183) ردا حسنا، وقد نقل كلامه شيخنا في شرح الترمذي، مع الرد على تقريرات صاحب بذل المجهور من الحنفية فارجع إليه. وأما السؤال عن الحكمة لوجوب الوضوء من لحم الإبل فواقع في غير محله؛ لأن هذا الحكم تعبد غير معقول المعنى، فلا نحاول أن نتلمس حكمة له. (أصلي) بحذف حرف الاستفهام. (في مرابض الغنم) جمع مربض بفتح الميم وكسر الباء، وهو موضع ربوض الغنم، أي مأوى الغنم. (قال : نعم) فيه دليل على جواز الصلاة في مرابض الغنم مطلقا، خلافا لمن قال: إن الإذن بالصلاة فيها كان قبل أن يبنى المسجد. واستدل بالحديث على طهارة أبوال الغنم وأبعادها؛ لأن مرابض الغنم لا تخلو عن ذلك، والإذن بالصلاة فيها مطلق، ليس فيه تخصيص موضع دون موضع، ولا تقييد بحائل بقى من الأبوال وهذا هو الحق خلافا لأبي حنيفة

(3/44)


والشافعي. (أصلي في مبارك الإبل) جمع مبرك بفتح الميم وكسر الراء، وهو موضع بروك الإبل. (قال: لا) فيه دليل على تحريم الصلاة في مبارك الإبل، وإليه ذهب أحمد، ومالك وابن حزم وهو الحق. وذهب الجمهور إلى حمل النهي على الكراهة مع عدم النجاسة، وعلى التحريم مع وجودها، وهذا إنما يتم على القول بأن علة النهي هي النجاسة، وذلك متوقف على نجاسة أبوال الإبل وأزبالها، وستعرف أن الحق طهارة أبوال مأكول اللحم وأزباله، ولو سلمنا النجاسة فيه لم يصح جعلها علة؛ لأن العلة لو كانت النجاسة لما افترق الحال بين أعطانها وبين مرابض الغنم، إذ لا قائل بالفرق. وقيل علة النهي ما فيها من النفور، وبهذا علل أصحاب الشافعي، وأصحاب مالك، وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في مباركها، وبين غيبتها عنها. وفيه أن النهي عن الصلاة فيها مطلق، سواء كانت الإبل فيها أو لم تكن، وقيل: علة النهي أن يجاء بها إلى مباركها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها أو يستمر فيها مع شغل خاطره، وفيه أيضا ما تقدم. وقيل: لأن الراعي يبول بينها، وفيه أن هذا ظن وتخمين لم يقم عليه دليل، فلا يلتفت إليه. وقيل: علة النهي
رواه مسلم.
307- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا. فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا))

(3/45)


شدة نتنها. وقيل: الحكمة في النهي كونها خلقت من الشياطين، ويدل عليه حديث ابن مغفل عند أحمد، والنسائي، وحديث البراء عند أبي داود، وحديث أي هريرة عند ابن ماجه، قال الإمام الشوكاني بعد بيان اختلافهم في تعليل النهي بنحو ما ذكرنا: إذا عرفت هذا الاختلاف في العلة، تبين لك أن الحق الوقوف على مقتضى النهي، وهو التحريم، كما ذهب إليه أحمد، والظاهرية، انتهى. ولا يعارضه حديث الصلاة إلى الراحلة بجعلها سترة في الصلاة؛ لأن ذلك كان في السفر حالة الضرورة، ولأن النهي مقصور على موضع بروكها وعطنها، وفرق بين الصلاة في العطن وبين جعلها سترة في الصلاة في حال شد الرحل عليها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود الطيالسي وابن ماجه وابن حبان.

(3/46)


307- قوله: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا) أي كالقرقرة بأن تردد في بطنه ريح في الصلاة أو خارج الصلاة. (فأشكل عليه) بفتح الهمزة أي التبس. (أخرج) الهمزة للاستفهام. (فلا يخرجن) أي للتوضوء؛ لأن المتيقن لا يبطله الشك. (من المسجد) يوهم أن حكم غير المسجد بخلاف المسجد، لكن أشير به إلى الأصل أن يصلى في المسجد؛ لأنه مكانها، فعلى المؤمن ملازمته، والمواظبة على إقامة الصلوات مع الجماعات. (حتى يسمع صوتا) أي صوت ريح يخرج منه. (أو يجد ريحا) أي رائحة ريح خرجت منه، ومعناه حتى يتيقن الحدث بطريق الكناية، أعم من أن يكون بسماع الصوت، أو وجدان رائحة أو يكون بشيء آخر، لا أن سماع الصوت أو وجدان الريح شريط، إذ وقد يكون الأصم فلا يسمع الصوت، وقد يكون أخشم فلا يجد الريح، وينتقض طهره إذا تيقن الحدث. وفيه دليل على أن الريح الخارجة من قبل المرأة وذكر الرجل توجب الوضوء، وبه قال الشافعي، وإليه ذهب بعض الحنفية، ورجحه الشيخ عبدالحي اللكنوى، لكونه موافقا للأحاديث، وقال بعض الحنفية: لا توجب. وإليه مال صاحب الهدايا، وعلل بأنها لا تنبعث عن محل النجاسة، وهو مبني على أن عين الريح ليست بنجسة وإنما يتنجس بمرورها على محل النجاسة، وهذا لا يتمشى على قول من قال من مشائخ الحنفية بتنجس عين الريح، وعلل بعضهم، بأنها اختلاج لا ريح، وليس بشيء خارج، لكن هذا أيضا قاصر، فإنه لا يتمشى فيما إذا وجد النتن، أو سمع الصوت من القبل أو الذكر، فإن هناك لاشك في خروج شيء. وفيه دليل على أن اليقين لا يزول بالشك الطارئ في شيء من أمر الشرع، وهو قول عامة أهل العلم، فمن حصل له شك أو ظن بأنه أحدث وهو على يقين من طهارته، لم يضره ذلك حتى يحصل له اليقين، كما أفاده قوله: "حتى يسمع" الخ، فإنه علقه بحصول ما يحسه، وذكرهما تمثيل، وإلا فكذلك سائر النواقض، كالمذي والودي، والحديث عام لمن كان في الصلاة أو خارجها، وهو
رواه مسلم.

(3/47)


308- (8) وعن عبدالله بن عباس، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب لبنا فمضمض، وقال: إن له دسما)) متفق عليه.
309- (9) وعن بريدة، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه فقال: عمدا صنعته يا عمر))
قول الجماهير، وللمالكية تفاصيل وفروق بين من كان داخل الصلاة أو خارجها، لا ينتهض عليها دليل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي، وأبوداود. وروى الجماعة إلا الترمذي عن عبادة بن تميم عن عمه بنحوه.
308- قوله: (فمضمض) أي غسل فمه. (إن له دسما) منصوب على أنه اسم إن، وقدم عليه خبره. "والدسم" بفتحتين الشيء الذي يظهر على اللبن من الدهن، وهي بيان لعله المضمضة من اللبن، فيدل على استحبابها من كل شيء دسم، لئلا يشغل ما بقى من دسومته في الفم قلب المصلى عن صلاته، ولينقطع لزوجته ودسمه ويتطهر فمه. ويستنبط منه استحباب غسل اليدين للتنظيف، قال القاري: مناسبة الحديث للباب، أن المضمضة المذكورة من متممات الوضوء أو مكملاته، انتهى. أو يقال: أورد الحديث في هذا الباب لبيان أن شرب اللبن ونحوه مما فيه دسم ليس من نواقص الوضوء، ولا من موجبات المضمضة التي هي من أركان الوضوء عند أحمد، ومن سننه عند غيره. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وروى ابن ماجه نحوه عن سهل بن سعد، وأم سلمة وأنس.

(3/48)


309- قوله: (وعن بريدة) بضم الموحدة، وفتح الراء، وسكون الياء، وهو بريدة بن الحصيب، بمهملتين مصغرا، ابن عبدالله بن الحارث الأسلمي، أبوعبدالله، وقيل: أبوسهل، وقيل: غير ذلك. أسلم قبل بدر ولم يشهدها. وبايع بيعة الرضوان. وشهد خيبر، وفتح مكة. واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقات قومه، وسكن المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو، فمات بها سنة (63) في خلافة يزيد بن معاوية. له مائة وأربعة وستون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأحد عشر، روى عنه جماعة. وهو آخر من مات بخراسان من الصحابة (صلى الصلوات) أي الخمس المعهودة. (يوم الفتح) أي يوم فتح مكة. (لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه) أي لم تكن تعتاده، وإلا فقد ثبت أنه كان يفعل قبل ذلك أحيانا، فقد فعله بالصهباء أيام خيبر، حين طلب الأزواد فلم يؤت إلا بالسويق، كما سيأتي في حديث سويد. وفي حديث بريدة هذا تصريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عادته الوضوء لكل صلاة عملا بالأفضل، ولما كان وقوع غير المعتاد يحتمل أن يكون عن سهو، دفع ذلك الاحتمال، ليعلم أنه جائز له ولغيره. (فقال: عمدا صنعته) يعنى بيانا للجواز، والضمير راجع إلى المذكور، وهو جمع الصلوات الخمس بوضوء واحد، "وعمدا" تمييز أو حال من الفاعل،
رواه مسلم.
310- (10) وعن سويد بن النعمان ((أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر حتى إذا كانوا بالصبهاء – وهي من أدنى خيبر –

(3/49)


قدم اهتماما لشرعية المسألة في الدين. وفيه دليل على أن قدر أن يصلى صلوات كثيرة من الفرائض والنوافل بوضوء واحد لا تكره صلاته، إلا أن يغلب عليه الأخبثان. وبه قال عامة أهل العلم، وأما قوله تعالى: ?إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم? [5: 6] الآية. فالمراد به إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، قال الآلوسي في روح المعاني (ج6: ص69): ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا، نظرا إلى عموم ?الذين آمنوا? من غير اختصاص بالمحدثين، وإن لم يكن في الكلام دلالة على تكرار الفعل، وإنما ذلك من خارج على الصحيح، لكن الإجماع على خلاف ذلك، ثم ذكر حديث بريدة هذا، وقال: فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة، والمعنى إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، بقرينه دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل، وهو التيمم، فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم، لم يكن البدل بدلا، وقوله: ?فلم تجدوا ماء? صريح في البدلية. وقال بعض المتأخرين: إن في الكلام شرطا مقدرا، أي إذا فمتم إلى الصلاة فاغسلوا الخ، إن كنتم محدثين؛ لأنه يلائمه كل الملائمة عطف ?وإن كنتم جنبا فاطهروا? عليه. وقيل: الأمر للندب، ويعلم الوجوب للمحدث بالسنة، واستبعد لإجماعهم على أن وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية مع الاحتياج إلى التخصيص بغير المحدثين من غير دليل، وأبعد منه أنه ندب بالنسبة إلى البعض ووجوب بالنسبة إلى آخرين. وقيل: هو للوجوب، وكان الوضوء واجبا على كل قائم أول الأمر ثم نسخ، فقد أخرج أحمد، وأبوداود وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي، عن عبدالله بن حنظلة الغسيل: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه، أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حديث، ولا يعارض ذلك خبر "أن المائدة آخر القرآن نزولا" الخ؛ لأنه ليس في القوة مثله، حتى قال العراقي:

(3/50)


لم أجده مرفوعا، نعم: الاستدلال على الوجوب على كل الأمة أولا، ثم نسخ الوجوب عنهم آخرا، بما يدل على الوجوب عليه، عليه الصلاة والسلام، أولا ونسخه عنه آخرا، لا يخلو عن شيء كما لا يخفى. وأخرج مالك والشافعي وغيرهما، عن زيد بن أسلم: أن تفسير الآية إذا قمتم من المضاجع يعنى النوم إلى الصلاة، والأمر عليه ظاهر، انتهى كلام الآلوسي. ومناسبة الحديث للباب أنه يدل على أن كل ما أريد القيام إلى الصلاة لا يجب الوضوء على ما يتوهم من رواية الآية. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
310- قوله: (وعن سويد) مصغرا (بن النعمان) بضم النون، ابن مالك بن عامر الأنصاري الأوسي المدني، صحابي، شهد أحدا وما بعدها، قال الخزرجي: له سبعة أحاديث، انفرد له البخاري بحديث المضمضة من السوبق، ما روى عنه سوى بشير بن يسار. (أنه خرج) في المحرم سنة سبع. (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر) أي عام غزوة خيبر، وهي بلدة معروفة، غير منصرف للعلمية والتأنيث. (حتى إذا كانوا) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. (وهي من أدنى خيبر) أي الصهباء – بفتح المهملة والمد –
صلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فثري، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ)) رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
311- (11) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وضوء إلا من صوت أو ريح)) رواه أحمد، والترمذي.
312- (12) وعن علي، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - من المذي، فقال: ((من المذي الوضوء، ومن المني الغسل)) رواه الترمذي.

(3/51)


موضع قريب من خيبر، قيل: على بريد منها (ثم دعا بالأزواد) ليصيب من الأزواد من لا زاد عنده، والأزواد جمع زاد. فيه أن حمل الزاد في السفر لا يقدح في التوكل. وأخذ المهلب من الحديث أنه يجوز للإمام أن يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته ليبيعوه من أهل الحاجة. (فلم يؤت إلا بالسويق) وهو ما يحرش من الشعير والحنطة وغيرهما. (فأمر به) أي بالسويق. (فثرى) أي بل بالماء، بضم الثاء وتشديد الراء، ويجوز تخفيفها. (فمضمض) فيه أنه يستحب المضمضة وإن لم يكن له دسومة لاحتباس بقاياه بين الأسنان. (ثم صلى ولم يتوضأ) أي من أكل السويق وإن كان مما مسته النار، ففيه دليل على أن أكل ما مسته النار ليس بناقص للوضوء، وأنه لا يجب الوضوء لكل صلاة ما لم يحدث. (رواه البخاري) في الطهارة، وفي الجهاد، وفي المغازى، وفي الأطعمة، وأخرجه أيضا مالك في المؤطا في ترك الوضوء مما مست النار، والنسائي وابن ماجه في الطهارة.
311- قوله: (لا وضوء إلا من صوت) الخ أي لا وضوء واجب إلا من سماع صوت، أو وجدان رائحة ريح خرجت منه، يعنى من حدث متيقن لا مشكوك، فلا إشكال في الحصر؛ لأن المقصود نفي جنس الشك وإثبات اليقين. (رواه أحمد والترمذي) وقال: حسن صحيح، وأخرجه أيضا ابن ماجه.
312- قوله: (من المذي) وفي بعض النسخ عن المذي، أي سألته عن حكم المذي. (من المذي الوضوء) أي واجب وفيه دليل على أن خروج المذي لا يوجب الغسل، وإنما يوجب الوضوء. (ومن المني الغسل) هذا من زيادة الإفادة، ونوع من جواب أسلوب الحكيم، على حد "أنتوضأ من ماء البحر، فقال هو الطهور ماءه والحل ميتته". (رواه الترمذي) وقال حسن صحيح، وأخرجه أيضا أحمد، وابن ماجه كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن علي، ويزيد هذا وثقه أحمد بن صالح المصرى، ويعقوب بن سفيان، وقال شعبة: ما أبالي إذا كتبت عن يزيد بن أبي زياد

(3/52)


313- (13) وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)) رواه أبوداود، والترمذي، والدارمي.
أن لا أكتب عن أحد، وضعفه الأكثرون من قبل أنه لما كبر ساء حفظه، وتغير واختلط، وصار يتلقن، فوقعت المناكير في حديثه، وجاء بالعجائب، فسماع من سمع منه قبل التغير صحيح، والظاهر أن الترمذي إنما صحح حديث يزيد هذا لأنه لم يخالف فيه أحدا، بل روى غيره كروايته، فقد روى أحمد وأبوداود والنسائي، والطيالسي من طريق ركين بن الربيع عن حصين بن قبيصة، وأحمد أيضا من طريق جواب التيمي عن يزيد بن شريك التيمي، ومن طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ كلهم عن علي بنحوه. وقد صحح الترمذي حديث يزيد هذا في مواضع أخرى أيضا، ولعل ذلك بمشاركة الأمور الخارجة عن نفس السند من اشتهار المتون ونحو ذلك.

(3/53)


313- قوله: (مفتاح الصلاة الطهور) بضم الطاء، أي التطهر بالماء أو التراب، وهذا للقادر على الطهورين، وأما فاقدهما فسيأتي حكمه. (وتحريمها التكبير) الخ أي تحريم ما حرم الله فيها من الكلام والأفعال، وتحليل ما حل خارجها من الكلام والأفعال، فالإضافة لأدنى ملابسة، وليست إضافة إلى القبول. (1) لفساد المعنى، والمراد بالتحريم والتحليل، المحرم والمحلل، على إطلاق المصدر بمعنى الفاعل مجازا، ثم اعتبار التكبير والتسليم محرما ومحللا مجاز، وإلا فالمحرم والمحلل هو الله تعالى. ويمكن أن يكون التحريم بمعنى الإحرام، أي الدخول في حرمتها، ولابد من تقدير مضاف، أي آلة الدخول في حرمتها التكبير، وكذا التحليل بمعنى الخروج عن حرمتها، والمعنى أن آلة الخروج عن حرمتها التسليم. والحديث كما يدل على أن باب الصلاة مسدود ليس للعبد فتحه إلا بطهور، كذلك يدل على أن الدخول في حرمتها لا يكون إلا بالتكبير، والخروج لا يكون إلا بالتسليم، وهو مذهب الجمهور. وارجع لتفصيل الاختلاف في مسألتي التكبير والتسليم مع الدلائل إلى شرح الترمذي لشيخنا العلامة المباكفورى، والمغني لابن قدامة المقدسي. (رواه أبوداود والترمذي) الخ. وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد والبزار وابن ماجه، وصححه الحاكم وابن السكن، كلهم من حديث عبدالله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية عن علي. وابن عقيل، هذا قد تكلم فيه بعضهم، والراجح أن حديثه في مرتبة الحسن، كما صرح به الذهبي في الميزان، فحديث علي هذا من طريق ابن عقيل، حسن صالح للاحتجاج، وقد سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: هذا أصح شيء في هذا الباب وأحسن، ونقل المنذري قول الترمذي وأقره. وقال النووي في الخلاصة: هو حديث حسن انتهى. وفي الباب عن جابر، وهو أول أحاديث الفصل الثالث من كتاب الطهارة. وعن أبي سعيد أخرجه الترمذي في الصلاة، وابن ماجه في الطهارة، وفيه أبوسفيان طريف السعدي، وهو ضعيف. وفي الباب أيضا عن عبدالله بن زيد،

(3/54)


وابن عباس، وغيرهما، ذكر أحاديثهم الحافظ في التلخيص، والزيلعي في نصب الراية.
(1) كذا في حاشية ابن ماجه للسندهي من الطبعتين العلمية والتازية وليحرر.
314- (14) ورواه ابن ماجه عنه، وعن أبي سعيد.
315- (15) وعن علي بن طلق، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا فسا أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أعجازهن)) رواه الترمذي، وأبوداود.
316- (16) وعن معاوية بن أبي سفيان، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

(3/55)


315- قوله: (وعن علي بن طلق) بفتح الطاء وسكون اللام وبالقاف، هو علي بن طلق بن المنذر بن قيس الحنفي السحيمي اليمامي، صحابي، له ثلاثة أحاديث، قاله الخزرجي. وقال الحافظ في التهذيب: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء من الريح وغير ذلك، وعلي بن طلق هذا، هو والد طلق بن علي. (إذا فسا أحدكم) أي خرج من دبره الريح بلا صوت يسمع، سواء تعمد خروجه أو لم يتعمد. (فليتوضأ) هذا لفظ الترمذي، ورواه أبوداود بلفظ "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف، فليتوضأ، وليعد الصلاة"، وقد ذكره المصنف بهذا اللفظ من حديث طلق بن علي في باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة. ويأتي هناك بسط الكلام في معناه. واللفظ المذكور هنا يدل على أن خروج الريح من الدبر ناقص للوضوء. (ولا تأتوا النساء) أي لا تجامعوهن. (في أعجازهن) جمع عجز بفتح العين وضم الجيم، أي أدبارهن، ووجه المناسبة بين الجملتين أنه لما ذكر الفساء الذي يخرج من الدبر ويزيل الطهارة والتقرب إلى الله، ذكر ما هو أغلظ منه في رفع الطهارة زجرا وتشديدا. (رواه الترمذي) في الرضاع من أبواب النكاح من طريقين، حسن إحداهما ولم يحكم على الطريق الأخرى بشيء. (وأبوداود) في الطهارة والصلاة، وسكت عنه، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وأخرجه أيضا أحمد (ج1: ص86) والنسائي في السنن الكبرى، والدارقطني. واعلم أنهم اختلفوا في أن هذا الحديث من رواية علي بن طلق، أو طلق بن علي، أو علي بن أبي طالب، أو طلق بن يزيد؟ وأن علي بن طلق، وطلق بن علي رجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو اسم لذات واحدة؟ والظاهر أن علي بن طلق وطلق بن علي رجلان، وأن هذا الحديث من رواية علي بن طلق، وليس من رواية طلق بن علي، ولا علي بن أبي طالب، ولا طلق بن يزيد، ونبسط الكلام في ذلك إن شاء الله في باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة.

(3/56)


316- قوله: (وعن معاوية بن أبي سفيان) قد تقدم ترجمة معاوية، وأما والده أبوسفيان فهو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي، صحابي شهير، ولد قبل الفيل بعشر سنين، كان من أشراف قريش في الجاهلية، وكان رئيس المشركين يوم أحد، ورئيس الأحزاب يوم الخندق، أسلم زمن الفتح، ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطريق قبل دخول مكة، وشهد حنينا والطائف، وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين مائة بعير وأربعين أوقية فيمن أعطاه من المؤلفة قلوبهم. وفقئت عينه يوم الطائف، فلم يزل أعور إلى يوم اليرموك، فأصاب عينه حجر فعميت. له أحاديث
إنما العينان وكاء السه، فإذا نامت العين استطلق الوكاء)) رواه الدارمي.
317- (17) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكاء السه العينان، فمن نام فليتوضأ)) رواه أبوداود.
318- (18) وقال الشيخ الإمام محي السنة، رحمه الله: هذا في غير القاعد، لما صح عن أنس

(3/57)


وعند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي حديث هرقل، توفي سنة (32) وقيل: (34). (إنما العينان) أي اليقظة، وكنى بالعين عن اليقطة؛ لأن النائم لا عين له تبصر. (وكاء السه) بفتح السين تخفيف الهاء، حلقة الدبر، أو هو من أسماء الدبر، وهو من الإست، وأسله ستة كفرس، وجمعه أستاه، فحذفت الهاء وعوضت الهمزة، فإذا ردت هاءه وحذفت تاءه حذفت الهمزة نحو سه، والوكاء بكسر الواو والمد: ما يشد به رأس القربة ونحوها، جعل اليقظة للإست كالوكاء للقربة، كما أن القربة ما دامت مربوطة بالوكاء باختيار صاحبها كذلك الإست مادام محفوظا بالعين، أي اليقظة باختيار الصاحب، والمعنى أن اليقظة وكاء الدبر، أي الحافظة لما فيه من الخروج؛ لأنه ما دام مستيقظا أحس بما يخرج منه، فإذا نام زال الضبط. فإن قيل: النوم ليس بحدث وأنتم أوجبتم الوضوء باحتمال خروج ريح، والأصل عدمه، فلا يجب الوضوء بالشك. قلنا: النائم غير متمكن يخرج منه الريح غالبا، فأقام الشارع هذا مقام اليقين، كما أقام شهادة الشاهدين التي تفيد الظن مقام اليقين في شغل الذمة. (فإذا نامت العين) أي جنسها. (استطلق الوكاء) أي انحل. (رواه الدارمي) وأخرجه أيضا أحمد وأبويعلى والطبراني في الكبير، والدارقطني والبيهقي كلهم من حديث أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس، عن معاوية. وأعل بوجهين، أحدهما الكلام في أبي بكر بن أبي مريم، فقد ضعفه أحمد وأبوحاتم وأبوزرعة، وقال الهيثمي: هو ضعيف لاختلاطه. وقال الحافظ: ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط. والثاني أن مروان بن جناح رواه عن عطية بن قيس، عن معاوية موقوفا. هكذا رواه ابن عدى، وقال: مروان أثبت من أبي بكر بن أبي مريم.

(3/58)


317- قوله: (وكاء السه العينان) يعنى إذا تيقظ الإنسان أمسك ما في بطنه، فإذا نام زال اختياره، واسترخت مفاصله، فلعله يخرج منه ما ينقص طهره. وحديث على هذا، وحديث معاوية المتقدم، يدلان على أن نقص الطهارة بالنوم ليس لنفسه، بل لأنه مظنة خروج ما ينتقض الطهر به، ولذلك خص عنه نوم ممكن المقعد من الأرض. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وأخرجه أيضا ابن ماجه، والدارقطني، وهو عند الجميع من رواية بقية بن الوليد عن الوضين بن عطاء. وبقية صدوق، كثير التدليس. والوضين، قال الجوزجاني: واه، وأنكر عليه هذا الحديث، وقال الحافظ: صدوق، سيء الحفظ، ووثقه عبدالرحمن بن إبراهيم وابن معين وأحمد، وقال ابن عدى: لم أر بحديثه بأسا. وقد حسن حديث علي هذا المنذري وابن الصلاح والنووي. وقال أحمد: حديث علي أثبت من حديث معاوية. وقد ضعف الحديثين أبوحاتم، وقال الحافظ في بلوغ المرام: في كلا الإسنادين ضعف.
318- قوله: (هذا) أي هذا الحكم. (في غير القائد) من النائمين يعنى فيمن نام مضطجعا أو مستلقيا على قفاه،
قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون)) رواه أبوداود والترمذي، إلا أنه ذكر فيه "ينامون" بدل "ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤسهم".
319- (19) وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الوضوء على من نام مضطجعا، فإنه إذا اضطجع استرخت

(3/59)


فأما من نام قاعدا ممكنا مقعده من الأرض ثم استيقظ ومقعده ممكن كما كان، فلا يبطل وضوؤه وهو قال الشافعي في الجديد. (ينتظرون العشاء) أي صلاتها بالجماعة فينامون جالسين. (حتى تخفق) أي تميل وتتحرك. (رؤسهم) من النوم من الخفوق وهو الاضطراب، وقيل المعنى: حتى تسقط أذقانهم على صدورهم. وتخفق بفتح التاء وكسر الفاء من ضرب. (ثم يصلون) بذلك الوضوء. (ولايتوضؤون) وضوءا جديدا. (رواه أبوداود والترمذى) وقال حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضا الشافعي في الأمام، وأحمد، وصححه الدارقطني والنووي، وأصله في مسلم كما سيأتي. (إلا أنه) أي الترمذي. (ذكر فيه) أي في حديثه. (ينامون) أي قاعدين، ورواية الترمذي هذه موافقة لرواية مسلم، وكأن المصنف ذهل عن رواية مسلم حيث لم يتعرض لها. وحديث أنس هذا قد نزله أكثر الناس كالبغوي على نوم الجالس. ودفع هذا التأويل بأن في رواية أنس عند البزار وأبي يعلى "يضعون جنوبهم". قال الهيثمي: رجالهما رجال الصحيح، لكن رواه أحمد بن حنبل عن يحيى القطان بسنده، والترمذي عن بندار عنه بدون هذه الزيادة، وقيل: يحمل على النوم الخفيف، فإن وضع الجنب لا يستلزم النوم الكثير المستغرق، وكذا الغطيط والإيقاظ، فإنه قد يغط من هو في مبادئ نومه قبل إستغرافه، وكذا الإيقاظ قد يكون لمن هو في مبادئ النوم، فينبه لئلا يستغرقه. وبالجملة حديث أنس هذا يدل على أن يسير النوم لا ينقض الوضوء.

(3/60)


319- قوله: (إن الوضوء) أي وجوبه. (على من نام مضطجعا) كذا في جميع النسخ للمشكاة بلفظ "إن الوضوء" الخ. وكذا وقع في المصابيح، ورواه الترمذي بلفظ "إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعا"، وأبوداود بلفظ "إنما الوضوء على من نام مضطجعا"، وفي كلتا الروايتين القصر على أنه لا ينقض الوضوء إلا نوم المضطجع لا غير ولو إستغرقه النوم، بخلاف اللفظ الذي ذكره المصنف عن المصابيح، فإنه لا يدل على القصر، فالجمع بين حديث ابن عباس هذا على ما رواه الترمذي وأبوداود، وبين حديث أنس عند البزار وأبي يعلى وغيرهما بلفظ "يضعون جنوبهم" إن ثبتت هذه الزيادة: أن حديث ابن عباس خرج على الأغلب، فإن الأغلب على من أراد النوم الاضطجاع، فلا معارضة. وقال. الزرقاني: هذا ونحوه محمول عند مالك على ما إذا كان النوم ثقيلا-انتهى. (فإنه إذا اضطجع استرخت) أي فترت
مفاصله)) رواه الترمذي وأبوداود.

(3/61)


وضعفت ولانت. (مفاصله) جمع مفصل، وهو رؤس العظام والعروق، يعنى أن الاضطجاع سبب لاسترخاء المفاصل فلا يخلو عن خروج شيء من الريح عادة، أي هو من عادة النائم المضطجع، والثابت بالعادة كالمتيقن به. واعلم أنه اختلف الناس في انتقاض الوضوء بالنوم على أقوال ثمانية، ذكرها النووي في شرح مسلم، وتبعه غيره، وهذه الأقوال ترجع إلى ثلاثة: الأول أن النوم ينقض الوضوء مطلقا على كل حال قليلة وكثيرة. والثاني أنه لا ينقض مطلقا. والثالث الفرق بين قليل النوم وكثيرة، وهو قول فقهاء الأمصار، والصحابة الكبار، والتابعين، وهو قول الأئمة الأربعة، وهذا هو الحق، فالنوم ليس بحدث أي ليس بناقض للوضوء بنفسه، بل لأنه سبب لاسترخاء المفاصل الداعي للخروج عادة. ثم اختلف هؤلاء في بيان قدر القليل والكثير، وتحديد النوم المعتبر في نقض الوضوء، وتعيين المقدار الذي يكون سببا لاسترخاء المفاصل، ولا يبقى فيه الشعور والإحساس ويغلب فيه العقل، على أقوال كثيرة ليس هذا محل بسطها، إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى شرح مسلم للنووي، وشرح الترمذي لابن العربي، والمغني لابن قدمة المقدسي. والراجح عندي: أن النوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدارك ناقض سواء كان من المضطجع والمستلقي أو غيرهما، فالاستغراق والغلبة على العقل هو الملاك عندي، فإذا حصل ذلك انتقض الوضوء على أي هيئة كان النائم، ولا يقصر الحكم على هيئة الاضطجاع كما يدل عليه حديث ابن عباس، فإنه ضعيف، ولا ينتقض الوضوء بنوم المضطجع إن كان النوم غير مستغرق. (رواه الترمذي وأبوداود) كلاهما من طريق يزيد بن عبدالرحمن أبي خالد الدالاني، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، ولم يحكم الترمذي عليه بشيء من الصحة والضعف إلا قوله "إن سعيد بن أبي عروبة رواه عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس قوله " ولم يذكر فيه أبالعالية، ولم يرفعه، وهو حديث ضعيف، ضعفه الترمذي في العلل المفرد، والبخاري وأحمد بن حنبل

(3/62)


والدارقطني والمنذري والبيهقي وأبوداود والبغوي وغيرهم. قال أبوداود: قوله "الوضوء على من نام مضطجعا" هو حديث منكر، لم يروه إلا يزيد أبوخالد الدالاني عن قتادة. وروى أوله جماعة عن ابن عباس، لم يذكروا شيئا من هذا، وقال يعني ابن عباس، أو الراوي عنه: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - محفوظا. وقالت عائشة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - تنام عيناي ولا ينام قلبي. وقال شعبة: إنما سمع قتادة عن أبي العالية أربعة أحاديث، يعنى وليس منها حديث يزيد أبي خالد الدالاني فيكون منطقعا. قال أبوداود: وذكرت حديث يزيد الدالاني لأحمد بن حنبل فانتهرني استعظاما له، فقال: ما ليزيد الدالاني يدخل على أصحاب قتادة ولم يعبأ بالحديث؟ وقال البيهقي: تفرد بهذا الحديث على هذا الوجه يزيد بن عبدالرحمن أبوخالد الدالاني. قال الترمذي يعنى في العلل المفرد: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال: هذا لا شيء. ورواه ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن ابن عباس قوله، ولم يذكر فيه أبا العالية، ولا أعرف لأبي خالد الدالاني سماعا من قتادة، وقال المنذري: قال أبوالقاسم البغوي: يقال إن قتادة لم يسمع هذا الحديث من أبي العالية. وقال الدارقطني: تفرد به يزيد الدالاني عن قتادة ولا يصح. وذكر ابن حبان أن يزيد الدالاني كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، يخالف الثقات في
320- (20) وعن بسرة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مس أحدكم ذكره، فليتوضأ)) رواه مالك وأحمد وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي.

(3/63)


الرواية حتى إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة علم أنها معلولة أو مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج بها إذا وافق الثقات فيكف إذا انفرد عنهم بالمعضلات. وذكر أبوأحمد الكرابيسى الدالاني بهذا فقال: لا يتابع في بعض أحاديثه. وسئل أبوحاتم الرازي عن الدالاني هذا فقال: صدوق ثقة. وقال أحمد بن حنبل: يزيد لا بأس به. وقال ابن معين والنسائي: ليس به بأس. وقال البيهقي: فأما هذا الحديث فإنه أنكره على أبي خالد الدالاني جميع الحفاظ، وأنكر سماعه من قتادة أحمد بن حنبل، والبخاري وغيرهما. ولعل الشافعي وقف على علة هذا الأثر حتى رجع عنه في الجديد، هذا آخر كلامه. ولو فرض استقامة حال الدالاني، كان فيما تقدم من الانقطاع في إسناده ومخالفه الثقات ما يعضد قول من ضعفه من الأئمة –انتهى كلام المنذري. والحديث الذي أشار إليه أبوداود في كلامه أنه رواه جماعة عن ابن عباس ولم يذكروا فيه شيئا مما انفرد به الدالاني، هو ما رواه أحمد ومسلم وأبوداود عن ابن عباس، قال: بت عند خالتي ميمونة فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، وفيه "ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فآذانه بالصلاة فقام فصلى ولم يتوضأ" وهذا هو الصحيح، وكون حديث يزيد أبي خالد الدالاني ضعيفا هو الراجح عندي، ولا ينجبر ضعفه بما له من الطرق والشواهد، وإن جنح إليه العلامة الشوكاني، وعليك أن ترجع للوقوف على تفصيل الكلام في حديث ابن عباس هذا إلى عون المعبود (ج1: ص80) والتلخيص الحبير.

(3/64)


320- وقوله. (وعن بسرة) بضم الموحدة وسكون المهملة، ابنة صفوان بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى القرشية الأسدية صحابية، لها سابقة وهجرة قديمة، عاشت إلى ولاية معاوية، لها أحد عشر حديثا، روى عنها عبدالله بن عمرو بن العاص، وعروة، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ولها صحبة، ومروان، وحميد بن عبدالرحمن بن عوف، وسعيد بن المسبب، قال مصعب: كانت من المبايعات، وكانت أخت عقبة بن أبي معيط لأمه. (إذا مس أحدكم) أي بيده من غير حائل لما سيأتي من حديث أبي هريرة. (فليتوضأ) أي وضوءه للصلاة كما في حديث ابن عمر عند الدارقطني، وحديث بسرة عند ابن حبان. والحديث فيه أن مس الرجل ذكره بيده ناقض للوضوء، والمراد مسه من غير حائل ببطن الكف كان أو بظهره، وهو أي انتقاض الوضوء بمس الذكر قول جماعة من الصحابة والتابعين، ومن أئمة المذاهب أحمد والشافعي، وهو المشهور من مذهب مالك، وكذلك مس المرأة فرجها، لما روى أحمد والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعا "أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ". قال الترمذي في العلل عن البخاري: هو عندي صحيح. وهو صريح في عدم الفرق بين الرجل والمرأة. (رواه مالك) الخ. وأخرجه أيضا الشافعي في الأم، وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي، وصححه أحمد والبخاري وابن معين والترمذي،
321- (21) وعن طلق بن علي، قال: ((سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ. قال: وهل هو إلا بضعة منه.
وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وصححه أيضا الدارقطني وابن خزيمة وابن حبان وابن السكن والحاكم والبيهقي وابن عبدالبر وأبوحامد بن الشرقي والحازمي والنووي والحافظ وآخرون، وضعفه الطحاوى وحده، وهو مندفع كما سيأتي، ولم يثبت عن ابن معين تضعيفه، قاله ابن الجوزى.

(3/65)


321- قوله: (وعن طلق بن علي) بن طلق بن عمرو، ويقال: ابن علي بن المنذر بن قيس بن عمرو الحنفي السحيمي اليمامي، يكنى أبا علي. وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم -: ، وعمل معه في بناء المسجد، وروى عنه، وله أربعة عشر حديثا، روى عنه ابنه قيس، وابنته خالدة، وعبدالله بن بدر، وعبدالرحمن بن علي شيبان. (هل هو إلا بضعة) بفتح الموحدة، أي قطعة لحم، وقد تكسر الباء أيضا في هذا المعنى كما في النهاية واللسان. (منه) أي من الرجل، وفي بعض النسخ "منك" وكذا وقع في رواية النسائي، يعني فهو كمس بقية أعضائه فلا ينتقض الوضوء بمسه. والحديث دليل على ما هو الأصل من عدم نقض مس الذكر للوضوء، وإليه ذهبت الحنفية، وأجابوا عن حديث بسرة بأجوبة تزيد على عشرة، كلها واهية مردودة، ذكر خمسة منها شيخنا في شرح الترمذي مع الرد عليها، وهاك بقيتها. قالوا: حديث بسرة من رواية عروة، عن مروان، وهو مطعون في عدالته لفسقه، أو عن حرسيه، وهو مجهول. وأجيب عنه بما قال عروة: كان مروان لا يتهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الصحابي، واعتمد مالك على حديثه، واحتج به البخاري في صحيحه، فهو من رجال الموطأ والبخاري، وقد أخذ عروة منه هذا الحديث قبل أن يبدو منه ما بدا من الفسق والخلاف على ابن الزبير، قال ابن حزم: لا نعلم لمروان شيئا يجرح به قبل خروجه على ابن الزبير، وعروة لم يلقه إلا قبل خروجه على أخيه، وأيضا قد ثبت أن عروة سمعه من بسرة من غير واسطة، كما جزم به ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم من أئمة الحديث، وارجع للتفصيل إلى التلخيص (ج1: 45) والمستدرك للحاكم (ج1: ص137) وتعليق الترمذي للشيخ أحمد محمد شاكر. وعدم إخراج الشيخين حديث بسرة في صحيحهما لا يدل على أنه لم يثبت عندهما سماع عروة من بسرة، فكم من حديث صحيح متصل على شرطهما لم يخرجاه في صحيحهما ولم يرد ابن المديني على يحيى بن معين قوله في مناظرته "ثم لم يقنع ذلك عروة حتى أتى بسرة

(3/66)


فسألها وشافهته بالحديث"، وأقره عليه أحمد وصوبه، فدل ذلك على أن سماع عروة من بسرة ثابت عند هؤلاء الأئمة الثلاثة ولذا صح أحمد وابن معين حديث بسرة، وقالوا: حديث بسرة مضطرب الإسناد، فرواه بعضهم عن عروة عن مروان عن بسرة، وبعضهم عن عروة عن بسرة، من غير واسطة مروان. وفيه أن هذا الإختلاف ليست علة يضعف بها الحديث؛ لأن الحديث سمعه عروة أولا من مروان عن بسرة، ثم أتى بسرة فشافهته بالحديث وسمعه منها من غير واسطة، وكان الرواة يسمعونه منه ويرويه عنهم غيرهم، فتارة يجعلونه عن عروة عن مروان عن بسرة، وتارة يجعلونه عن عروة عن بسرة، وهذا كما

(3/67)


ترى ليس باختلاف يقدح في صحة الحديث وقالوا: إن هشام بن عروة الراوي له عن أبيه لم يسمعه من أبيه كما تدل عليه رواية الطبراني وفيه أن رواية أحمد والترمذي والحاكم صريحة في أن هشاما سمعه من أبيه، ثم لو صحت هذه العلة ما أثرت؛ لأن غير هشام من الثقات رواه سماعا من عروة، وهو عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبوه أبوبكر، كما تدل عليه رواية مالك وأحمد وابن الجارود. وقالوا: الحديث يروى عن امرأة ، والحكم متعلق بالرجال فكيف تختص بروايته النساء وفيه أنه لم يختص النساء بروايته كما سيأتي. وقالوا: المسألة التي تعم بها البلوى لا يعتبر فيها خبر واحد لا سيما مثل هذا الخبر. وفيه أن هذه القاعدة التي اخترعها الحنفية لرد الأحاديث الصحيحة باطلة، قد أبطلها الشوكاني في إرشاد الفحول (ص49) وابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام(ج2: ص20،12) وابن قدامة في جنة المناظر (ج1:ص327) فارجع إلى تلك الكتب. ولو سلمت هذه القاعدة،فالحديث ليس من أخبار الآحاد، بل هو أشهر من حديث الوضوء بالنبيذ، رواه سبعة عشر من الصحابة. وقالوا: على تسليم صحته لا حجة فيه؛ لأنه متروك الظاهر عند الكل إجماعا، فإن المس لغة مطلق فما قيدوه من القيود بالشهوة، أو بباطن اليد، أو بعدم الحائل، أونحو ذلك، تقييدات لإطلاق الحديث، وصريح في أنهم أيضا لا يقولون بالحديث. وفيه أن المراد بالمس، المس باليد، سواء كان بباطنها أو بظهرها، لكن من غير حائل، يدل على ذلك حديث أبي هريرة الآتي، والروايات يفسر بعضها بعضا، فقد قلنا بأحاديث الباب، وعملنا بها وأما القيود الأخرى مما ذكرها فقهاء الشافعية وغيرهم، فلا نلتفت إليها؛ لأنها لا أثر لها في الأحاديث وقالوا: اضطرب القائلون بانتقاض الوضوء في مصداق حديث بسرة على أقوال كثيرة، وفروع مختلفة، تبلغ إلى قريب من أربعين، بسطها ابن العربي في شرح الترمذي، واختلافهم في مصداق الرواية الواحدة يورث الشبهة في الاحتجاج

(3/68)


بها، فإنه يدل على أنه لم يتحقق عندهم، ولم يتعين محمل الحديث، فلو صح الحديث وثبت ترجحه على حديث طلق فمجمل أيضا، لم يظهر مراده عند القائلين به، ولا خلاف بين القائلين بعدم النقض. وفيه أن معنى الحديث بين، ومصداقه ظاهر، ومحمله متعين، لكن عند المنصف الذي يحب السنة وصاحبها، وأما المتعسف الذي يتحيل لرد الأحاديث الصحيحة والسنن الثابتة فهو يتشبث بمثل هذه الأعذار الواهية الباطلة أبدا، ولا عبرة عندنا باختلاف الشافعية والمالكية وغيرهم في بيان معنى الحديث، والتفريع عليه بآرائهم وعقولهم، وبالجملة، الحديث ليس بمجمل بل هو بين المعنى. وقالوا: يحتمل أن يكون مس الذكر كناية عن الاستطابة بعد البول؛ لأنه غالبا يرادف خروج الحدث، فعبر به عنه، ومثل هذا من الكنايات كثير فيما يستقبح التصريح بذكره. وفيه أن هذا الاحتمال بعيد جدا، بل هو باطل، يرده حديث أبي هريرة الذي ذكره المصنف، وأيضا لم يخطر هذا الاحتمال ببال أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف، ولم يقل به أحد منهم ، بل حمله جميعهم على ظاهر معناه الذي يتبادر إليه الذهن. وقالوا: هو مقيد بما إذا خرج منه شيء. وفيه أنه لا دليل على هذا التقيد فهو مردود على قائله وقالوا: مفعول المس محذوف، تركه استهجانا بذكره، والمعنى "من مس ذكره بفرج امرأته فليتوضأ" إقامة للداعي والسبب مقام المدعو والمسبب، فإن التقاء الختانين داع إلى خروج شيء، ونفسه يتغيب عن البصر، فأدير الأمر على المس احتياطا وتيسيرا. وفيه أنه تحريف معنوي للحديث، يرده حديث أبي هريرة الآتي بلفظ" أفضى بيده" .
رواه أبوداود والترمذي والنسائي، وروى ابن ماجه نحوه.
322- (22) وقال الشيخ الإمام محي السنة: هذا منسوخ؛ لأن أبا هريرة أسلم بعد قدوم طلق، وقد روى أبوهريرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينه وبيتها شىء

(3/69)


قال بعضهم: هو رواية بالمعنى على ما فهم الراوي من معنى حديث بسرة. وفيه أن دعوى كون رواية أبي هريرة هذه بالمعنى تمشية للمذهب يمجها العقل والسمع ، فإنه يرتفع بذلك الأمان والوثوق بالروايات، قال هذا البعض: ويمكن أن يأول حديث أبي هريرة بأن المعنى أوصل ذكره بيده إلى فرج امرأته، فإن الإفضاء يستدعي مفعولا، واليد ليست إلا آلة. وهذا كما ترى أضحوكة لا حاجة إلى ردها؛ لأنها أظهر في تحريف الحديث من كل ما قالوا في تأويل حديث بسرة. وقالوا: الأمر في حديث بسرة محمول على الاستحباب، قال بعضهم: هذا يغنينا عن ارتكاب تكلف. وفيه أن الأصل في الأمر الوجوب، وأيضا يرده حديث أبي هريرة عند أحمد بلفظ "من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء"، ويرده أيضا حديث عائشة عند الدارقطني"ويل للذين يمسون فروجهم ولا يتوضئون" فإن دعاء الشر لا يكون إلا بترك واجب. (رواه أبوداود والترمذي والنسائي) أي بهذا اللفظ المذكور، وأخرجه أيضا أحمد، والدارقطني وابن الجارود والبيهقي وصححه عمرو بن علي الفلاس وعلى بن المديني والطحاوي وابن حبان والطبراني وابن حزم، وضعفه الشافعي وأبوحاتم وأبوزرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي. والراجح أن حديث طلق هذا لا ينحط عن مرتبة الحسن، وحديث بسرة أصح وأثبت وأرجح من حديثه؛ لأن حديث طلق لم يحتج الشيخان بأحد من رواته، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته، وأرجح أيضا لكثرة طرقه وصحتها، ولكثرة من صححه من الأئمة كما تقدم، ولكثرة شواهده، فقد روى نحوه ثمانية عشر صحابيا، ومنهم طلق بن على راوى حديث عدم النقض، ذكر تخريج أحاديثهم الحافظ في التلخيص (ج1: ص46، 45)؛ ولأن بسرة حدثت به في دار المهاجرين والأنصار وهم متوافرون، ولم يدفعه أحد، بل علمنا أن بعضهم صار إليه، ولرجحانه على حديث طلق وجوه أخرى لا تخفى على من له خبرة بوجوه الترجيح، وإطلاع على طرق حديث بسرة وحديث طلق. (وروى ابن ماجه نحوه) أي

(3/70)


بمعناه وهو "أنه سئل رسول - صلى الله عليه وسلم - عن مس الذكر، فقال: ليس فيه وضوء إنما هو منك"
322- قوله: (هذا) أي ما رواه طلق بن علي (منسوخ) وكذا ادعى النسخ ابن حبان، والطبراني، وابن العربي، والحازمي، وآخرون (لأن أبا هريرة أسلم) عام خيبر في السنة السابعة (بعد قدوم طلق) من اليمن، وذل في السنة الأولى من الهجرة حينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبنى المسجد، فكان خبر أبي هريرة بعد خبر طلق لسبع سنين. (إذا أفضى) أي أوصل (أحدكم بيده) الباء للتعدية (ليس بينه وبينها) أي بين ذكره وبين يده (شيء) أي حائل من الثياب أو غيرها
فليتوضأ)) رواه الشافعي والدارقطني.
323- (23) ورواه النسائي عن بسرة، إلا أنه لم يذكر ((ليس بينه وبينها شيء)).
324- (24) وعن عائشة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ)).
(فليتوضأ) أي وضوءه للصلاة (رواه الشافعي والدارقطني) وأخرجه أيضا البزار كلهم من طريق يزيد بن عبدالملك، وقد ضعفه أكثر الناس، ووثقه ابن سعد، وابن معين في رواية، وأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي والطبراني في الصغير من طريق نافع بن أبي نعيم، وفيه "فقد وجب عليه الوضوء" بدل قوله "فليتوضأ". قال ابن حبان: هذا حديث صحيح سنده، عدول نقلته، وصححه الحاكم وابن عبد البر، وقال ابن السكن: هو أجود ما روي في هذا الباب.

(3/71)


323- قوله: (ورواه النسائي عن بسرة) أي وهي متأخرة الإسلام وفيه أن الأمر بالعكس فإنها قديم هجرتها وصحبتها، كما قال الحازمي وغيره، ولو سلم ذلك لم يكن دليلا كتأخر إسلام أبي هريرة وصحبته على نسخ حديث طلق. قال الشوكاني في النيل: وأيدت دعوى النسخ بتأخر إسلام بسرة وتقدم إسلام طلق، ولكن هذا غير دليل على النسخ عند المحققين من أئمة الأصول- انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج1: ص239) : هذا أي حديث طلق خبر صحيح إلا أنهم لا حجة لهم فيه لوجوه: أحدها أن هذا الخبر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود الأمر بالوضوء من مس الفرج، هذا لا شك فيه، فإذا هو كذلك فحكمه منسوخ يقينا حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوضوء من مس الفرج، ولا يحل ترك ما تيقن أنه ناسخ، والأخذ بما تيقن منه أنه منسوخ. وثانيها أن كلامه عليه السلام "هل هو إلا بضعة منك" دليل بين على أنه كان الأمر بالوضوء منه؛ لأنه لو كان بعده لم يقل عليه السلام هذا الكلام، بل كان يبين أن الأمر بذلك قد نسخ، وقوله هذا يدل على أنه لم يكن سلف فيه حكم أصلا، وأنه كسائر الأعضاء-انتهى. وعندنا: القول بترجيح حديث بسرة أحسن من القول بالنسخ والتضعيف ، وقد تقدمت وجوه ترجيح حديثها على حديث طلق.

(3/72)


324- قوله: (ولا يتوضأ) فيه دليل عل أن القبلة وهي أقوى من اللمس المجرد ولا تخلوا عادة من مس بشهوة، لا تنقض الوضوء، وهذا هو الأصل، والحديث مقرر للأصل، وهو القول المعول عليه الراجح عندنا، ويدل عليه أيضا ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي-الحديث. واعتذار الحافظ في الفتح عن حديثها هذا، بأنه يحتمل أنه بحائل، أو أنه خاص به، تكلف ومخالفة للظاهر؛ لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، واحتمال الحائل لا يفكر فيه إلا مقلد متعصب لإمامه. وما رواه النسائي عنها قالت: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله. قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح. وقال الزيلعي في نصب الراية: إسناده على شرط الصحيح. وما رواه مسلم والترمذي عنها، قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش فالتمسته، فوضعت يدي على باطن قدميه
رواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي: لا يصح عند أصحابنا بحال إسناد عروة عن عائشة رضي الله عنها،

(3/73)


وهو في المسجد وهما منصوبتان-الحديث. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها الزيلعي في نصب الراية، وهذه الأحاديث تدل على أن المراد بالملامسة من قوله تعالى في سورة المائدة: ?أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء? [5: 6] الجماع دون غيره من معاني اللمس، وبه فسر ابن عباس وعلي رضي الله عنهما، ورجحه ابن جرير في تفسيره حيث قال: هو أولى القولين في ذلك بالصواب، لصحة الخبر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ. وارجع لتفصيل الكلام في الآية إلى أحكام القرآن لأبي بكر الرازي الجصاص. (رواه أبوداود)الخ. وأخرجه أيضا أحمد (ج2: ص21، 22) والدارقطني (ص50، 51) والطبراني في التفسير (ج5: ص67) وضعفه الثوري ويحيى القطان وابن معين والبخاري والبيهقي والدارقطني، ومال أبوداود، وابن عبدالبر إلى تصحيحه كما سيأتي. (وقال الترمذي) بعد إخراجه من طريق وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة (لا يصح عند أصحابنا) أي من أهل الحديث، قاله أبوالطيب السندي، والشيخ سراج أحمد السرهندي في شرحيهما لجامع الترمذي. (بحال) بالتنوين، وقوله "إسناده عروة" بالرفع على أنه فاعل لقوله "لا يصح"، وقوله "وإسناده إبراهيم" عطف على قوله "إسناد عروة" يعني لا يصح سند حديث عروة عن عائشة هذا؛ لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة، وحبيب لم يسمع من عروة فهو منقطع. وكذا لا يصح سند حديث إبراهيم التيمي عن عائشة؛ لأنه أيضا منقطع، إبراهيم لم يسمع عن عائشة بالاتفاق، وقيل: بترك التنوين في "حال" على أنه مضاف إلى "إسناد عروة" والباء للسببية، وفاعل "لا يصح"هو الضمير فيه، يرجع إلى ما يعود عليه الضمير المنصوب في قوله "رواه"، وهو حديث عائشة، والمعنى: لا يصح حديث عائشة هذا لحال إسناده، فإنه روي من طريقين: الأول طريق حبيب، عن عروة، عن عائشة. والثاني طريق أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة، وكلاهما منقطع، وهذا على أن

(3/74)


يكون المراد بعروة، عروة بن الزبير، وإن كان المراد به عروة المزني فسبب عدم صحته هي جهالة عروة المزني. قال الترمذي في جامعه بعد إخراجه حديث عائشة، من طريق حبيب، عن عروة، عن عائشة، ما نصه: وإنما ترك أصحابنا حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا؛ لأنه لا يصح عندهم لحال الإسناد، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث، وقال: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة، وقد روي عن إبراهيم التيمي، عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلها ولم يتوضأ. وهذا لا يصح أيضا، ولا نعرف لإبراهيم التيمي سماعا من عائشة-انتهى. (إسناد عروة عن عائشة) لم ينسب الترمذي عروة في حديثه، ونسبه أحمد وابن ماجه في روايتهما، فقالا: عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير. وجزم الثوري أنه عروة المزني، وهو مجهول، وبذلك ضعف الحديث، وتبعه وقلده في ذلك يحيى بن سعيد القطان وابن معين والدارقطني والبيهقي وآخرون. ويظهر من كلام الترمذي أنه مال إلى كونه عروة بن الزبير، وهو الصحيح عندنا، لرواية أحمد وابن ماجه هذه. ولأن المطلق يحمل على ما هو المشهور المتعارف،
وأيضا إسناد التيمي عنها. وقال أبوداود: هذا مرسل، وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة.

(3/75)


وليس هو إلا عروة بن الزبير. ولأن قول عروة "من هي إلا أنت" في رواية أبي داود والترمذي ظاهر في أنه ابن الزبير؛ لأن المزنى لا يجسر أن يقول ذلك الكلام لعائشة. ولأن هشاما وافق حبيب بن أبي ثابت، فرواه عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة، عند الدارقطني، وهذه قرينة ظاهرة على أنه ابن الزبير في رواية حبيب. وأما سند أبي داود الذي قال فيه: عن عروة المزني. فإنه من رواية عبدالرحمن بن مغراء عن ناس مجاهيل، وابن مغراء ليس بشيء في روايته عن الأعمش. وأما ما حكاه أبوداود عن الثوري أنه قال: ما حدثنا حبيب بن أبي ثابت إلا عن عروة المزني، يعني لم يحدثهم عن عروة بن الزبير بشيء، فلم يسنده أبوداود، وأيضا قال الثوري هذا القول من غير دليل يؤيده، وقد خالفه أبوداود، وأثبت صحة رواية حبيب عن عروة، حيث قال عقبة: وقد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير حديثا صحيحا. يشير بذلك إلى ما رواه الترمذي في الدعوات (ج2: ص205) وقال: هذا حديث حسن غريب، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئا-انتهى. وهذا يدل أولا على أن عروة في هذا الإسناد، هو عروة بن الزبير كما صرح بذلك في رواية أحمد وابن ماجه، خلافا لمن زعم أنه عروة المزني، وثانيا على أنه يرى صحة رواية حبيب عن عروة، وأما قول البخاري: إن حبيبا لم يسمع من عروة، فمبني على شرطه المعروف في الرواية، وهو شرط شديد، خالفه فيه أكثر أهل العلم، وقال ابن عبدالبر: صحح هذا الحديث الكوفييون، وثبتوه لرواية الثقات من أئمة الحديث له، وحبيب لا ينكر لقاءه عروة، ولروايته عمن هو أكبر من عروة وأقدم موتا. وقال في موضع آخر: لا شك أنه أدرك عروة، كذا في نصب الراية (ج1: ص72). ومن هذا كله ظهر أن أبا داود وابن عبدالبر قد صححا سماع حبيب من عروة بن الزبير، ولم يلتفتا إلى كون حبيب مدلسا. وحاصل ما علل به المضعفون طريق حبيب عن عروة عن عائشة: أن عروة

(3/76)


المذكور هنا إن كان هو المزني، كما قاله البيهقي وغيره، فهو مجهول، وإن كان هو ابن الزبير، وهو ما يدل عليه كلام الترمذي ، وبه صرح أحمد وابن ماجه في روايتهما، فالحديث منقطع، لكون حبيب بن أبي ثابت لم يدركه، فيكون ضعيفا لأنقطاعه، وقد عرفت ما فيه. ومع كل هذا، فإن حبيبا لم ينفرد برواية هذا الحديث، وقد تابعه عليه هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عند الدارقطني (ج1: ص50) وتكلم الدارقطني فيه بلا حجة بينه ودليل ظاهر. وقد جاء الحديث بأسانيد أخرى عند أحمد وابن ماجه والبزار والدارقطني والطبري، بعضها حسن جيد، وبعضها يقارب الحسن، ينجبر بها ضعف الانقطاع في حديث حبيب، عن عروة، عن عائشة، لو سلم. وانظر هذه الروايات في نصب الراية (ج1: ص75، 72). (وأيضا إسناد إبراهيم التيمي عنها) بين الترمذي سببه بقوله: ولا نعرف لإبراهيم التيمي سماعا من عائشة-انتهى. وحديث إبراهيم التيمي هذا، رواه أحمد وأبوداود والنسائي والدارقطني، كلهم من طريق الثوري، عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة (قال أبوداود: هذا مرسل) أي منقطع (وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة)
325- (25) وعن ابن عباس، قال: ((أكل رسول الله- صلى الله عليه وسلم -كتفا ثم مسح يده بمسح كان تحته، ثم قام فصلى)) رواه أبوداود، وابن ماجه.
326- (26) وعن أم سلمة رضي الله عنها، أنها قالت: ((قربت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -جنبا مشويا فأكل منه ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ)) رواه أحمد.
?الفصل الثالث?
327- (27) عن أبي رافع، قال: ((أشهد لقد كنت أشوي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطن الشاة،

(3/77)


هذا ما اتفقا عليه أئمة الجرح والتعديل، وقال الدارقطني بعد أن صرح بعدم سماع إبراهيم عن عائشة: وقد روى هذا الحديث معاوية بن هشام، عن الثوري، عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن عائشة، فوصل إسناده. ومعاوية هذا، أخرج له مسلم في صحيحه، ووثقه أبوداود، وذكره ابن حبان في الثقات، ومن هذا يتبين أن رواية إبراهيم التيمي عن عائشة هنا لها أصل، وليست من الضعيف الذي يعرض عنه، وقد تكلم الدارقطني في رواية معاوية بن هشام الموصولة، لكن لم ينصف في الكلام كما لا يخفى. وإبراهيم التيمي هذا هو إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، تيم الرباب، أبوأسماء الكوفي العابد، قال في التقريب: ثقه إلا أنه يرسل ويدلس، من صغار التابعين، مات سنة (92) وله أربعون سنة، وأما عروة بن الزبير، فهو عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، أبوعبدالله المدني، ولد سنة (23) وكان من كبار التابعين، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وقال الحافظ: ثقة فقيه مشهور. مات سنة (94) على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عمر الفاروق، وأما عروة المزني، فهو شيخ لا يدرى من هو؟
325- قوله: (كتفا) بفتح الكاف وكسر التاء، وبكسر الكاف وسكون التاء، وبفتح الكاف والتاء معا، ثلاث لغات، والمعنى لحم كتف شاة مشوي. (بمسح) بكسر الميم، ثوب من الشعر غليظ. (كان تحته) أي تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ثم قام) أي إلى الصلاة. (فصلى) أي ولم يتوضأ، وفيه دليل على أن أكل ما مسته النار لا ينقض الوضوء، وأن غسل اليد بعد الطعام ليس بواجب، بل يكفي مسحها. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (وابن ماجه) وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، وأصله في الصحيحين كما تقدم.

(3/78)


326- قوله: (جنبا) أي ضلعا. (مشويا) من شوى اللحم يشوى شيئا، أي عرضه للنار فنضج. (ولم يتوضأ) أي لا شرعيا ولا لغويا لبيان الجواز. (رواه أحمد) (ج6: ص307) وأخرجه أيضا الترمذي في الأطعمة، وقال: حسن صحيح غريب.
327- قوله: (عن أبي رافع) مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -. (أشهد) أي أقسم بالله. (لرسول الله) أي لأكله. (بطن الشاة) يعني
ثم صلى ولم يتوضأ)) رواه مسلم.
328- (28) وعنه، قال : ((أهديت له شاة، فجعلها في القدر، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا يا أبا رافع؟ فقال: شاة أهديت لنا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطبختها في القدر. قال: ناولني الذراع يا أبا رافع فناولته الذراع. ثم قال: ناولني الذراع الآخر، فناولته الذراع الآخر. ثم قال: ناولني الذراع الآخر: فقال: يا رسول الله إنما للشاة ذراعان. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إنك لو سكت لناولتني ذراعا فذرعا ما سكت. ثم دعا بماء فتمضمض فاه،
الكبد والطحال وما معهما من القلب وغيرهما. (ثم صلى) أي فأكل ثم صلى، وكان القياس ثم يصلى، لكن أتى به ماضيا؛ لأن قوله "كنت أشوى" ماض في المعنى؛ لأنه حكاية لصورة الحال الماضية. (رواه مسلم) في الطهارة، أخرجه أيضا أحمد (ج6: ص8، 9) .

(3/79)


328- قوله: (أهديت له) أي لأبي رافع. (شاة) برفعها على الفاعل، قيل: فيه التفات، والأظهر أنه نقل بالمعنى. (فجعلها في القدر) بكسر القاف أي للطبخ. (يا أبا رافع) يقرأ بالهمزة ولا تكتب. (ناولني الذراع) بكسر الذال من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى والساعد مؤنثة فيهما، وقد تذكر. وخص النبي - صلى الله عليه وسلم - الذراع بالطلب لمحبته واستحسانه للذراع، لسرعة نضجها، واستمرائها، مع زيادة لذتها، وحلاوة مذاقها، وبعدها عن مواضع الأذى. (فقال) أي أبورافع على سبيل الإلتفات، وفي رواية لأحمد "فقلت له". (إنما للشاة ذراعان) وفي رواية لأحمد "وهل للشاة إلا ذراعان"، وفي حديث أبي عبيد عند الدرامي، والترمذي في الشمائل "وكم للشاة ذراع"، والظاهر أن هذا استفهام استبعاد لا إنكار؛ لأنه لا يليق بهذا المقام، قاله القاري. (أما) بالتخفيف للتنبيه. (إنك لو سكت) أي عما قلت، وامتثلت أدبي. (لناولتني ذراعا فذراعا ما سكت) أي ما سكت أنت وطلبت أنا. قال الطيبي: الفاء في "فذراعا للتعاقب، كما في قوله: الأمثل فالأمثل. و"ما" في "ما سكت" للمدة، والمعنى ناولتني ذراعا غب ذراع إلى ما لا نهاية له مادمت ساكتا، فلما نطقت انقطعت-انتهى. وفي رواية لأحمد "لو سكت لناولتني منها ما دعوت به" أي ما طلبته، من الدعوة بالفتح؛ لأن الله تعالى يخلق ما يشاء، وكان يخلق فيها ذراعا بعد ذراع معجزة وكرامة له - صلى الله عليه وسلم -، وإنما منع كلامه من ذلك، قيل: لأنه شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التوجه إلى ربه، بالتوجه إليه أو إلى جواب سؤاله. وقيل: لأن ظهور شيء من عالم الغيب على سبيل خرق العادة مشروط بأن لا يتطرق إليه الشك والتردد، ولا يقع شيء من الخلل والنقص في اليقين والتصديق،
وغسل أطراف أصابعه، ثم قام فصلى، ثم عاد إليهم، فوجد عندهم لحما باردا فأكل، ثم دخل المسجد فصلى ولم يمس ماء)) رواه أحمد.

(3/80)


329- (29) ورواه الدارمي عن أبي عبيد إلا أنه لم يذكر ((ثم دعا بماء)) إلى آخره.
330- (30) وعن أنس بن مالك، قال: (كنت أنا، وأبي، وأبوطلحة جلوسا، فأكلنا لحما وخبزا، ثم دعوت بوضوء، فقالا: لم تتوضأ؟ فقلت: لهذا الطعام الذي أكلنا. فقالا: أتتوضأ من الطيبات؟ لم يتوضأ منه من هو خير منك)) رواه أحمد.
331- (31) وعن ابن عمر، كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسها
والله أعلم. (وغسل أطراف أصابعه) أي محل الدسومة والتلوث على قدر الحاجة. (ثم عاد إليهم) أي إلى أبي رافع وأهل بيته. (فوجد عندهم لحما باردا فأكل) ؛ لأنه كان يجب اللحم وما كان يجده دائما. (ولم يمس ماء) أي للوضوء ولا لغسل الفم قبل الصلاة. (رواه أحمد) (ج6: ص392) أي عن أبي رافع مطولا هكذا، ورواه أيضا عنه مختصرا (ج6: ص8) مثل رواية الدارمي عن أبي عبيد.
329- قوله: (ورواه الدارمي عن أبي عبيد) في باب ما أكرم به النبي - صلى الله عليه وسلم - في بركة طعامه، من أول مسنده، وكذا رواه الترمذي في شمائله، كلاهما من طريق شهر بن حوشب، عن أبي عبيد. قال الحافظ في الإصابة (ج4: ص131): ورجاله رجال الصحيح إلا شهر بن حوشب. وأبوعبيد هذا، مولى للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وصحابي لا يعرف اسمه، له هذا الحديث فقط.

(3/81)


330- قوله: (وأبي) أي أبي بن كعب. (وأبو طلحة) اسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري النجاري المدني مشهور بكنيته، من كبار الصحابة، شهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها، وهو أحد النقباء، وزوج أم سليم أم أنس ابن مالك، وكان من الرماة المذكورين. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة. قتل يوم حنين عشرين رجلا، وأبلى يوم أحد بلاء عظيما، وشلت يده التي وقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، له اثنان وتسعون حديثا، اتفقا على حديثين، انفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر، روى عنه نفر من الصحابة والتابعين. مات سنة (34) وقال أنس: عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة، لم يفطر فيها إلا يوم أضحى أو فطر، وكان في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصوم لاشتغاله بالغزو، وعلى هذا يكون وفاته سنة (51)، وبه جزم المدائني، قيل: وهذا أثبت. (أتتوضأ من الطيبات) فيه أن نفض الوضوء إنما يكون بخبيث ينافيه كالخارج من السبيلين، وهو معقول المعنى، وغيره ألحق به وإن لم يكن معقول المعنى، كالنوم والإغماء والجنون؛ لأنه مظنة لخروج الخبيث. (لم يتوضأ منه) أي من مثل هذا الطعام. (من هو خير منك) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، (رواه أحمد) قال الهيثمي (ج1: ص251) ورجاله ثقات.
331- قوله: (قبلة الرجل امرأته) بالنصب على المفعولية. (وجسها) بفتح الجيم وتشديد السين المهملة أي مسها.
بيده، من ملامسه. ومن قبل امرأته أو جسها بيده، فعليه الوضوء)) رواه مالك، والشافعي.
332- (32) وعن ابن مسعود، كان يقول: (من قبلة الرجل امرأته الوضوء) رواه مالك.
333- (33) وعن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: (إن القبلة من اللمس، فتوضؤوا منها.

(3/82)


(بيده) أي بلا حائل. (من الملامسة) أي المذكورة في قوله تعالى: ?أو لامستم النساء?. (ومن قبل امرأته أوجسها بيده) فقد لامس، ومن لامس. (فعليه الوضوء) قال الطيبي: تفريع على ما أصله من قبل، أى إذا كان التقبيل والجس من الملامسة فيلزم أن يتوضأ من قبل أو جس، والترتيب مفوض إلى ذهن السامع. (رواه مالك) عن الزهري، عن سالم بن عبدالله، عن أبيه عبدالله بن عمر. (والشافعي) عن مالك في الأم (ج1: ص12) وأخرجه أيضا الدارقطني (ج1: ص53) عن الحسين بن إسماعيل، عن أحمد بن إسماعيل، عن مالك. ومن طريق الشافعي رواه البيهقي (ج1: ص124) .
332- قوله: (من قبلة الرجل) من إضافة المصدر لفاعله. (امرأته) بالنصب على أنه مفعول "قبلة"؛ لأنها اسم مصدر. (الوضوء) مبتدأ مؤخر أي يجب منها الوضوء. قال الطيبي: في تقديم الخبر على المبتدأ المعرف إشعار بالخلاف، ورد على من يقول: ليس حكم التقبيل والجس حكم سائر النواقض، فرد وقيل: ليس حكمه إلا كحكمها، فيكون من قصر القلب. (رواه مالك) أنه بلغه أن عبدالله بن مسعود كان يقول: "من قبلة الرجل" الخ. وقد أخرج الطبراني والدارقطني والبيهقي وغيرهم بأسانيدهم نحوه، بألفاظ متقاربة، بمعنى أن اللمس ما دون الجماع، فمن قبل أو لمس فعليه الوضوء.

(3/83)


333- قوله: (إن القبلة من اللمس) أي المذكور في الآية. (فتوضؤوا منها) رواه الدارقطني (ج1: ص53) كما قال المصنف، وقال صحيح. وقال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر أثر عمر عن البيهقي (ج1: ص124) بنحو ما رواه الدارقطني: أما أثر عمر فضعفه ابن عبدالبر في التمهيد وقال: هو عندهم خطأ، وهو صحيح عن ابن عمر لا عن عمر –انتهى. وهذه الآثار الثلاثة كلها موقوفة على بعض الصحابة، ممن قالوا بكون اللمس ناقضا، وليست في حكم المرفوع، إذ للرأي فيه مجال فإنهم أخذوه من قوله تعالى: ?أو لمستم النساء? واستنبطوه عما فهموا من هذه الآية، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدم النقض بالقبلة واللمس، كما تقدم عن عائشة، وهو من أقوى القرائن على أن المراد باللمس في الآية هو الجماع، وبه فسر حبر القرآن عبدالله بن عباس وعلي رضي الله عنهما، فيجب الأخذ بالحديث المرفوع الصحيح الصريح، ولا ينبغي التردد في تفسير الآية، التفسير الصحيح أن اللمس كناية عن الجماع؛ لأنه لا حجة في قول الصحابي عند معارضة الحديث المرفوع الصحيح.
334- (34) وعن عمر بن عبدالعزيز، عن تميم الداري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوضوء من كل دم سائل))

(3/84)


334- قوله: (وعن عمر بن عبدالعزيز) هو عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، القرشي الأموي، أبوحفص المدني، ثم الدمشقي، أمير المؤمنين، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، واسمها ليلى. ولي إمرة المدينة للوليد، وكان مع سليمان كالوزير، وولى الخلافة بعده سنة (99) فعد مع الخلفاء الراشدين مات في رجب سنة (101) بدير سمعان من أرض حمص، وله أربعون سنة، ومدة خلافته سنتان وخمسة أشهر وأيام، وكان على صفة من الزهد، والعبادة، والتقى، والعفة، وحسن السيرة لاسيما أيام خلافته. وقال ميمون بن مهران: ما كانت العلماء عند عمر إلا تلامذته. وقال هشام بن حسان: لما جاء نعي عمر قال الحسن البصري: مات خير الناس. ومناقبة وفضائله كثيرة جدا. (عن تميم الداري) نسبة إلى أحد أجداده، الدار بن هاني بن حبيب، وهو تميم بن أوس بن خارجة الداري، أبورقية بقاف وتحتانية مصغرا، صحابي مشهور، سكن بيت المقدس بعد قتل عثمان، وكان إسلامه سنة (9) وكان من أهل الكتابيين، وقال ابن سيرين: كان يختم في ركعة. وقال مسروق: صلى ليلة حتى أصبح يقرأ آية يرددها ?أم حسب الذين يجترحون السيئات? وهو أول من أسرج السراج في المسجد، وكان أقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت حبرون. له ثمانية عشر حديثا، انفرد له مسلم بحديث، روى عنه سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - خبر الجساسة، وناهيك بهذه المنقبة الشريفة، قيل: مات سنة (40) وروى عنه أيضا جماعة. (الوضوء من كل دم سائل) أي كثير فاحش لا قليل. فيه أن خروج الدم السائل ولو كان من غير السبيلين، ناقض للوضوء، وإليه ذهب بعض الأئمة، لكن الحديث ضعيف جدا، لا يصلح للاحتجاج كما سيأتي، وقد استدل القائلون بالوضوء من الخارج النجس من غير السبيلين، كالقئ ملء الفم، والرعاف والدم الفاحش، بأحاديث وآثار عن الصحابة، وليس في شيء من ذلك حجة أصلا، فمن أقوى أدلتهم حديث عائشة عند البخاري وغيره، في

(3/85)


شأن فاطمة بنت أبي حبيش، وكانت من المستحاضات، ففيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما ذلك عرق، وفيه أيضا ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت، قالوا: المراد من السبيلين، سبيل البول وسبيل البراز، ودم الاستحاضة لا يخرج من ثقب البول، علم أن دم الاستحاضة وهو مما يخرج من غير السبيلين، من نواقض الوضوء، وأشير بقوله "إنما ذلك عرق" إلى تعميم الحكم بانتقاض الوضوء من خروج الدم من أي عرق كان من البدن غير السبيلين. وفيه أن فرج المرأة وقبلها الذي يخرج منه دم الاستحاضة، في حكم مخرج البول للمجاورة، ولذا عد الحيض والمني من نواقض الطهارة وأيضا دم الاستحاضة حدث بنفسه من جملة الأحدث المستقلة ناقض للوضوء، ولا يقاس عليه غيره؛ لأن الأصل عدم النقض، حتى يقوم ما يرفع هذا الأصل، ولم يقم دليل على ذلك. وأما قوله "إنما ذلك عرق" فإنما أراد به رد زعمها: أن دم الاستحاضة في حكم دم الحيض لا غير، يعني أن دمها ليس مما تعتاده النساء بل هو دم عرق انفجرت
رواهما الدارقطني، وقال: عمر بن عبدالعزيز لم يسمع من تميم الداري ولا رآه، ويزيد بن خالد، ويزيد بن محمد مجهولان.

(3/86)


لمرض، فافهم. واستدلوا أيضا بحديث أبي الدرداء عند الترمذي، وفيه "قا فتوضأ" ولا حجة لهم فيه، لاحتمال أن تكون الفاء للتعقيب فقط لا للسببية، كما في قوله: قاء فأفطر. ولو سلم أن الفاء للسببية، لم تدل أيضا على نقض الوضوء بالقيء؛ لأنه قد يتوضأ الإنسان بعده من أجل النظافة، وإزالة القذر الذي يبقى في الفم والأنف، وعلى بعض الأعضاء، فالقيء سبب له، ولكنه سبب عادي طبيعي، ولا يكون سببا شرعيا إلا بنص صريح من الشارع، والحاصل أن وجوب الوضوء أو نقض الوضوء لا يثبت بالفعل فقط؛ لأن الفعل لا يدل على الوجوب إلا أن يفعله ويأمر الناس بفعله، أو ينص على أن هذا الفعل ناقض للوضوء. ومن أصرح أدلتهم ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة مرفوعا "من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ" الحديث. وفيه أنه حديث ضعيف، ضعفه أحمد وغيره، وقد ذكر العلامة الشوكاني في النيل، والزيلعي في نصب الراية، ما فيه من العلة وكلام الأئمة مفصلا، فارجع إليهما. واستدلوا بأحاديث أخرى كلها ضعيفة ساقطة لا تقوم بها حجة، وأيضا هي معارضة لما ذكره البخاري معلقا عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة ذات الرقاع، فرمى رجل بسهم، فنزفه الدم، فركع وسجد، ومضى في صلاته. قال الحافظ: أخرجه أحمد وأبوداود، والدارقطني، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وذكر العيني في شرح الهداية (ج1: ص122) حديث جابر هذا من رواية سنن أبي داود، وصحيح ابن حبان والدارقطني والبيهقي، وزاد فيه: فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فدعا لهما. قال: ولم يأمره بالوضوء، ولا بإعادة الصلاة، انتهى. وفي عدم الانتقاض بخروج الدم من البدن غير السبيلين أحاديث وآثار كلها مقررة للأصل، ذكرها الزيلعي والدارقطني والشوكاني. (رواهما) أي الحديثين السابقين. (الدارقطني) الحديث الثاني رواه الدارقطني من طريق يزيد بن خالد، عن يزيد بن محمد، عن عمر بن عبدالعزيز، قال: قال تميم

(3/87)


الداري: الخ ورواه ابن عدى في الكامل عن زيد بن ثابت، وفيه أحمد بن الفرج، أبوعتبة الحمصي، وهو ممن لا يحتج بحديثه، ولكنه يكتب، قاله ابن عدى. وقال ابن أبي حاتم: محله الصدق. وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ. وكذبه محمد بن عوف الطائي. (وقال) أي الدارقطني بعد إخراج الحديث. (عمر بن عبدالعزيز لم يسمع من تميم الداري ولا رآه، ويزيد بن خالد) قال الحافظ في لسان الميزان: يزيد بن خالد شيخ لبقية، لا يدرى من هو. (ويزيد بن محمد) الراوي عن عمر بن عبدالعزيز، قال الحافظ في اللسان: لا يدرى من هو. (مجهولان) هذا آخر كلام الدارقطني في سننه. وقد ظهر بهذا أن حديث تميم هذا ضعيف من وجهين: الانقطاع بين عمر بن عبدالعزيز وبين تميم، وجهالة اليزيدين. وذكر الزيلعي كلام الدارقطني هذا في نصب الراية وأقره.
(2) باب آداب الخلاء
?الفصل الأول?
335- (1) عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا))
(باب آداب الخلاء) قيل: "الأدب" مراعاة حد كل شيء، وقيل: هو استعمال ما يحمد قولا وفعلا، ويطلقون الآداب على ما يليق بالشيء، أو بالشخص، فيقال: آداب الدرس وآداب القاضي. و"الخلاء" بفتح الخاء والمد، موضع فضاء الحاجة، سمى به لخلاءه في غير أوقات قضاء الحاجة، أو؛ لأن الإنسان يخلو فيه، وأصله الملكان الخالي، ثم كثر استعماله حتى تجوز به عن ذلك.

(3/88)


335- (1) قوله: (عن أبي أيوب الأنصاري) هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي النجاري، أبوأيوب المدني، شهد العقبة، وشهد بدرا، وأحدا، والمشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل عنده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة شهرا حتى بنى المسجد، وكان مسكنه المدينة، وحضر مع على حرب الخوارج، وورد المدائن في صحبته، وعاش بعد ذلك زمانا طويلا حتى مات بالقسطنطينية مرابطا سنة (51) في خلافة معاوية، وكان ذلك مع يزيد بن معاوية لما غزاه، فخرج معه فمرض، ولما ثقل قال لأصحابه: إذا أنا مت فأحملوني، فإذا صاففتم العدو فادفنوني تحت أقدامكم. قال البغوي: قبر ليلا وأمر يزيد بالخيل تقبل وتدبر حتى عمي قبره. وقال ابن حبان: كان المسلمون على حصار القسطنطينية فقدموه حتى دفن إلى جانب حائط. له مائة وخمسون حديثا، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، وله فضائل. (إذا أتيتم الغائط) هو في الأصل اسم للمكان المطمئن الواسع من الأرض في الفضاء، ثم صار يطلق على كل مكان أعد لقضاء الحاجة؛ لأن العادة أن يقضي في المنخفض لكونه أستر له، ثم اتسع حتى أطلق على النجو نفسه، أي الخارج من الإنسان، تسمية للحال باسم المحل، والمراد ههنا هو الأول، إذ لا يحسن استعمال الإتيان في النجو الخارج، إذ لا يقال: أتى البول أو العذرة، بخلاف إستعمال الإتيان بالنظر إلى المكان فإنه كثير شائع، وأيضا لا يحسن النهي عن الاستقبال والاستدبار إلا قبل المباشرة بإخراج الخارج، وذلك عند حضور المكان لا عند المباشرة بإخراج ذلك، فليتأمل. وقد أوضح ذلك السندهي في حاشيته على البخاري، فارجع إليها. (فلا تستقبلوا القبلة) أي جهة الكعبة. (ولكن شرقوا أو غربوا) أي استقبلوا جهة الشرق أو الغرب لقضاء الحاجة، وهذا خطاب لأهل المدينة ومن قبلته في تلك الجهة، والمقصود الإرشاد إلى جهة أخرى لا

(3/89)


يكون فيها إستقبال القبلة ولا
متفق عليه.
336- (2) قال الشيخ الإمام محي السنة، رحمه الله: هذا الحديث في الصحراء، وأما في البنيان، فلا بأس لما روي عن عبدالله بن عمر، قال: ((ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت
إستدبارها، وهذا مختلف بحسب البلاد، فللكل أن يأخذوا بهذا الحديث بالنظر إلى المقصود لا بالنظر إلى المفهوم. والحديث بظاهره دليل على منع الإستقبال والإستدبار عند قضاء الحاجة مطلقا من غير فرق بين الصحراء والبنيان. والمسألة مختلف فيها بين العلماء لتعارض الأحاديث في ذلك، فقال بعضهم بعموم النهي أخذا بظواهر أحاديث النهي، وترجيحا لها على أحاديث الرخصة أو التخصيص. وقال بعضهم بخصوص النهي بالصحراء جمعا بين الأحاديث؛ لأن إعمال الأدلة كلها أولى من إهمال بعضها. وقال بعضهم بالإباحة والجواز مطلقا رجوعا إلى البرأة الأصلية، أو حملا للنهى على التنزيه، أو النسخ، فجعلوا أحاديث الإباحة قرينة على حمل النهي علىالتنزيه، أو ناسخه لأحاديث المنع. وقال بعضهم بالفرق بين الإستقبال فيحرم مطلقا، والإستدبار فيجوز مطلقا. وههنا أقوال أخرى لكنها غير مشهورة. والأول هو المشهور عن أبي حنفية، واختاره ورجحه من المالكية ابن العربي في شرح الترمذي، ومن الظاهرية ابن حزم في المحلي، ومن فقهاء أهل الحديث ابن القيم في الهدي (ج1: ص272) والشوكاني في النيل (ج1: ص81) وفي السيل الجرار، وشيخنا الأجل المباكفورى في شرح الترمذي (ج1: ص19) والثاني مذهب الأئمة الثلاثة، ومال إليه الطحاوي من الحنفية، وقال الأمير اليماني في السبل (ج1: ص119): هو أقرب الأقوال. وقال الحافظ: هو أعدل الأقوال، ويؤيده ما روى عن ابن عمر، أنه قال: إنما نهي عن ذلك في القضاء. وإليه يظهر ميلان السندهي في حواشيه على البخاري، وغيره كما سيأتي. وعندي: الاحتراز عن الإستقبال والإستدبار في البيوت أحوط وجوبا لا ندبا، والمقام من معارك النظار فتدبره ولا تعجل.

(3/90)


(متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وغيرهم.
336- قوله: (قال الشيخ الإمام محي السنة) البغوي في المصابيح. (هذا الحديث) أي حكمه. (وأما في البنيان) قال ابن حجر: يعني الخلاء ليطابق الحديث الذي استدل به. (ارتقيت) أي صعدت. (فوق بيت حفصة) أي سطحه، وهي أخت عبدالله بن عمر، أم المؤمنين زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت عمر بن الخطاب العدوية، قيل: إنها ولدت قبل المبعث بخمسة أعوام، وكانت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت خنيس بن حذافة السهمي، هاجرت معه، ومات عنها بعد غزوة بدر، فلما مات ذكرها عمر على أبي بكر وعثمان فلم يجبه واحد منهما، فخطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنكحه إياها سنة ثلاث، وقيل: سنة اثنتين. لها ستون حديثا، اتفقا منها على ثلاثة، وانفرد مسلم بستة، روى عنها جماعة من الصحابة والتابعين. ماتت في شعبان سنة (45) وهي ابنة ستين سنة، وقيل: ماتت سنة (41) وإضافة البيت إلى حفصة مجازية باعتبار تعلق السكني، وإلا فالبيت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام)) متفق عليه.
337- (3) وعن سلمان رضي الله عنه، قال: ((نهانا، يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(3/91)


كان ملكا للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (يقضي حاجته) أي في الخلاء (مستدبر القبلة) هذا هو أصل الأئمة الثلاثة في جواز الاستدبار في الأبنية، وابتنوا عليه جواز الإستقبال، ويظهر من صنيع البغوي أنه ذهب إلى أن النهي ورد أولا عاما، ثم خص عمومه بحديث ابن عمر، وفيه خدشات من وجوه كثيرة، ذكرها ابن القيم، وابن العربي، وغيرهما، وهي تضعف القول بكونه مخصصا لأحاديث النهي، قال السندهي في حاشيته على البخاري بعد بيان بعض هذه الخدشات: فالوجه أن حديث النهي من أصله مخصوص بالفضاء لا يعم البناء أصلا، وهو الموافق للقرائن. (وقد أشرنا إلى بعض هذه القرائن في بيان معنى الغائط) فلعل من فهم عموم الحكم ما فهم من لفظ الحديث، إنما فهم من ظنه أن علة النهي إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، ففهم من عموم هذه العلة عموم الحكم. وقال في حاشيته على ابن ماجه: ويؤيد القول بالخصوص تقييد حديث النهي بإتيان الغائط في كثير من الروايات، والمراد به المكان المنخفض في الفضاء كما قررنا، وبه يظهر التوفيق بين الأحاديث. وقال في حاشيته على النسائي: ويمكن أن يكون محمل الحديث الصحراء، وإطلاق اللفظ جاء على ما كان عليه العادة يومئذ، إذا لم يكن لهم كنف في البيوت في أول الأمر-انتهى. قال: ومن قرائن حمل الغائط في حديث أبي أيوب على معناه اللغوى أي المكان المطمئن من الأرض في الفضاء أي الصحراء، أن النهي عن جهتين، والتخيير بين جهتين آخرين عند إتيان الغائط إنما يحسنان في الفضاء لا في البيوت، فإن الإنسان في الفضاء متمكن عند إتيان الغائط من الجهات الأربع، فيمكن أن ينهى عن بعضها، ويخير بين بعضها، وأما في البيوت فلا يتمكن عادة عند إتيان الغائط من الجهات الربع، بل يتمكن منها عند بناء الكنيف، وأما بعد البناء عند إتيان الغائط فهو يصير تابعا لكيفية البناء –انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

(3/92)


337- قوله: (وعن سلمان) هو سلمان الفارسي أبوعبدالله، ابن الإسلام، ويقال له: سلمان الخير. أصله من أصبهان، وقيل: من رامهرمز. أسلم عند قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وأول مشاهده الخندق، وقال ابن عبدالبر: ويقال إنه شهد بدرا. سافر يطلب الدين من قريته، فدان أولا بالنصرانية، وقرأ الكتب وصبر في ذلك على مشقات متتالية، فأخذه قوم من العرب فباعوه من اليهود، ثم إنه كوتب فأعانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابته، ويقال: إنه تداوله بضعة عشر سيدا حتى أفضى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقال: سلمان منا أهل البيت. وهو أحد الذين اشتاقت إليهم الجنة، وكان من المعمرين، قيل: عاش (250) سنة. وقيل: (350) سنة، والأول أصح، وكان يأكل من يده، ويتصدق بعطاءه، مات بالمدائن سنة (35) وقيل: سنة (33) وقيل: غير ذلك، له ستون حديثا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بثلاثة، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. (قال: نهانا يعني) أي يريد سلمان بالناهي رسول الله- صلى الله عليه وسلم -.
أن تستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجى باليمين، أو أن نستنجى بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجى برجيع، أو بعظم)) رواه مسلم.
338- (4) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء يقول:

(3/93)


(أن نستقبل القبلة) أى بفروجنا عند خروج الغائط أو البول. (لغائط) قال النووي: كذا ضبطناه في مسلم "لغائط" باللام، وروى في غيره بغائط أي بالباء، وهما بمعنى (أو أن نستنجى باليمين) أو فيه وفيما بعده للعطف، والاستنجاء إزالة النجو وقطعه بالماء أو بالحجارة، وفيه دليل على تحريم الاستنجاء باليمين؛ لأنه الأصل في النهي ولا صارف له، فلا وجه للحكم بالكراهة فقط، وهذا تنبيه على شرف اليمين وصيانتها عن الأقذار. (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) وفي رواية أحمد الآتية في الفصل الثالث: ولا نكتفى بدون ثلاثة أحجار. وفي كلتا الروايتين دليل واضح على أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز، وإن حصل الإنقاء بما دونها، ولا يعارضه حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني بلفظ "من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" أخرجه أبوداود وغيره؛ لأن حديث سلمان هذا أصح منه، فيقدم عليه أو يجمع بينهما بما قال الحافظ في الفتح: أخذ بهذا أي بحديث سلمان، الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث، فاشترطوا أن لا ينقص من الثلاث مع مراعاة الإنقاء إذا لم يحصل بها فيزداد حتى ينقى، ويستحب حينئذ الإيتار لقوله: من استجمر فليوتر. وليس بواجب لزيادة في أبي داود حسنة الإسناد قال: ومن لا فلا حرج. وبهذا يحصل الجمع بين الروايات في هذا الباب، انتهى. وقال ابن تيمية في المنتقى بعد ذكر حديث أبي هريرة المذكور: وهذا محمول على أن القطع على وتر سنة فيما زاد على ثلاث جمعا بين النصوص-انتهى. (أو أن نستنجى برجيع أو بعظم) أو للعطف بمعنى الواو لا للشك. والرجيع هو الخارج من الإنسان أو الحيوان يشمل العذرة والروث، فعيل بمعنى فاعل، سمي رجيعا؛ لأنه رجع عن حالته الأولى فصار ما صار بعد أن كان علفا أو طعاما. وفي حديث رويفع عند أبي داود رجيع دابة. وأما عذرة الإنسان فهي داخلة تحت قوله - صلى الله عليه وسلم - "فإنها ركس" في بعض الأحاديث. وفي الحديث دليل

(3/94)


على أن لا يجوز الاستنجاء بالرجيع والعظم، وعلة النهي عن الاستنجاء بالرجيع أنه علف لدواب الجن، ولأنه لا يطهر، ولأنه رجس بكسر الراء، وهو المستقذر المكروه، والتعليل بعدم التطهير عائد إلى كونه رجسا، وفيه تنبيه على جنس الرجس فلا يجزئ الاستنجاء بالرجس مطلقا، والعلة في النهي عن العظم أنه طعام الجن، أي فيجدون عليه من اللحم أوفر ما كان عليه، ولأنه لا يطهر فإنه لزج لا يكاد يتماسك فلا ينشف النجاسة، ولا يقطع البلة. وقيل: إنه لا يخلو في الغالب عن الدسومة، وقيل: لأنه ربما يجرح. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
338- قوله: (إذا دخل الخلاء) أي أراد دخول موضع قضاء الحاجة. ولا يختص هذا بالأمكنة المعدة لذلك،
اللهم إني أعوذبك من الخبث والخبائث)) متفق عليه.
339- (5) وعن ابن عباس، قال: ((مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لايستتر من البول)). وفي رواية لمسلم: ((لا يستنزه من البول. وأما الآخر فكان يمشى بالنميمة. ثم أخذ جريدة رطبة فشقها بنصفين، ثم غزر في كل قبر واحدة. قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم صنعت هذا؟ فقال: لعله أن يخفف عنهما

(3/95)


بل يعم ويشمل حتى لو بال في إناء مثلا في جانب البيت مالم يشرع قضاء الحاجة، فيقول في الأمكنة المعدة قبيل دخولها، وفي غيرها في أول الشروع كتشمير ثيابه مثلا، ومن نسي يستعيذ بقلبه لا بلسانه. (اللهم إني أعوذ بك) كان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ إظهارا للعبودية ويجهر بها للتعليم. (من الخبث) بضمتين جمع الخبيث، وهو الموذي من الجن والشياطين. (والخبائث) جمع الخبيثة، والمراد ذكور الشياطين وإناثهم، وقد جاءت الرواية بإسكان الباء في الخبث أيضا إما على التخفيف أو على أنه اسم بمعنى الشر، فالخبائث صفة النفوس، فيشمل ذكور الشياطين وإناثهم جميعا، والمراد التعوذ من الشر وأصحابه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

(3/96)


339- قوله: (مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين) أي جديدين كما في رواية ابن ماجه، قال الحافظ: الظاهر من مجموع طرق الحديث أن المقبورين كانا مسلمين. (فقال: إنهما) أي صاحبي القبرين. وقيل: أعاد الضمير إلى غير مذكور؛ لأن سياق الكلام يدل عليه، وقيل: الضمير يرجع إلى قبرين بتقدير المضاف كما ذكرنا. (وما يعذبان في كبير) أي في أمر كان يكبر ويشق عليهما الاحتراز عنه لو أراداه، لا أنه في نفسه ليس بكبير، كيف وهما يعذبان فيه. فإن عدم التنزه يبطل الصلاة، والنميمة سعي بالفساد المفضي إلى سفك الدماء، وأيضا ورد في رواية للبخاري "وإنه لكبير" فيحمل قوله: وإنه لكبير على كبر الذنب، وقوله "مايعذبان في كبر" على سهولة الدفع والاحتراز والتوقى. (لايستتر من البول) أي من بوله كما في رواية، فاللام عوض عن المضاف إليه، أو للعهد، والمعنى: لا يجعل بينه وبين بوله سترة، يعنى لا يتحفظ منه، وفيه دليل على نجاسة بول الإنسان، ووجوب اجتنابه وهو إجماع، وعظم أمره، وأنه من أعظم أسباب عذاب القبر كالنميمة. (لا يستنزه من البول) أي لا يجتنب ولا يحترز عن وقوعه عليه، وقيل: أي لا يستبرئ ولا يتطهر ولا يستبعد عنه. (فكان يمشي) أي بين الناس. (بالنميمة) هي نقل كلام الغير لقصد الإضرار. والباء للمصاحبة أو التعدية على أنه بمعنى يشهر النميمة بين الناس ويشيعها. (ثم أخذ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (جريدة رطبة) بفتح الراء وسكون الطاء، أي غصنا من النخل. (فشقها بنصفين) مفعول مطلق، والباء زائدة للتأكيد، وقيل: حال أي جعلها مشقوقة حال كونها متلبسة بنصفين. (واحدة) أي من كل من الشقين. (لم صنعت هذا؟) أي الغزر. (لعله) أي العذاب، أو الهاء ضمير الشأن. (أن يخفف عنهما) أي صاحبى القبرين.
ما لم يبسا)) متفق عليه.

(3/97)


340- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يارسول الله- صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم)) رواه مسلم.
341- (7) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا شرب أحدكم
(ما لم يبسا) بالتذكير، وبفتح الباء الموحدة، ويجوز كسرها، أي مادام لم يبس النصفان أو القضيبان، قيل: وجه هذا التحديد أنه - صلى الله عليه وسلم - سأل التخفيف عنهما وشفع لهما فأجيبت شفاعته بالتخفيف إلى مدة بقاء النداوة، أي جعل زمان بقاء النداوة والرطوبة علامة لتخفيف العذاب بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - ودعاءه، كما صرح به في حديث جابر في آخر صحيح مسلم، لا أن في الجريد معنى خصة، ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس، وهذا بناء على أن القصة في حديث ابن عباس وحديث جابر واحدة كما رجحه النووي. وفيه نظر. وقيل تخفيف العذاب كان ببركة يده - صلى الله عليه وسلم -، فالحديث واقعة حال خاص لا يفيد العموم. وقيل: هو عام بدليل أنه تأسى بذلك بريدة بن الحصيب الصحابي فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان، وروى نحوه عن أبي برزة الأسلمي، والظاهر عندي: أنه مخصوص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بعام، وأما ما يفعله القبوريون من وضع الرياحين على القبور، وغرس الأشجار عليها، وسترها بالثياب، وإجمارها وتبخيرها بالعود، وإتخاذ السرج عليها فلا شك في كونه بدعة وضلالة. ومن زعم أن هذا الحديث أصل لهذه الأمور المحدثة فقد جهل وافترى على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، والجنائز، والأدب، والحج، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وغيرهم.

(3/98)


340- قوله: (اللاعنين) أي الأمرين الجالبين للعن، الحاملين للناس عليه، الداعيين إليه، فكأنهما لاعنان من باب تسمية الحامل والداعي فاعلا، أي الذين هما سببا اللعنة غالبا، وقد يكون اللاعنين بمعنى الملعون، أي الملعون فاعلهما، ولفظ مسلم: اتقو اللعانين. والمعنى: اتقوا فعل اللعانين أي صاحبى اللعن، وهما اللذان يلعنهما الناس في العادة. (الذي يتخلى) أي يتغوط أو يبول، بحذف المضاف، أي أحدهما تخلى الذي يتخلى. (أو في ظلهم) أو للتنويع، والمراد بالظل مستظل الناس الذي اتخذوه مقيلا ومناخا ينزلونه ويقعدون فيه، إذ ليس كل ظل يحرم القعود لقضاء الحاجة تحته، فقد قعد النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت حائش النخل لحاجته وله ظل بلا شك، ويدل له حديث أحمد "أو ظل يستظل به". والحديث يدل على تحريم التخلي في طرق الناس وظلهم لما فيه أذية المسلمين بتنجيس من يمر به ونتنه واستقذاره. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود.
341- قوله: (وعن أبي قتادة) هو أبوقتادة الأنصاري السلمي فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اسمه الحارث، وقيل: عمرو، وقيل: النعمان، وقيل: عون بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة مكسورة، والمشهور الحارث بن ربعي بن
فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه)) متفق عليه.
342- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليؤتر)) متفق عليه.
343- (9) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء

(3/99)


بلدمة، وهو ممن غلبت عليه كنيته. صحابي مشهور، شهد أحدا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرا. توفي بالكوفة سنة (54) وهو ابن سبعين سنة، له مائة وسبعون حديثا، اتفقا على أحد عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثمانية. روى عنه جماعة. (فلا يتنفس) بالجزم ولا ناهية في الثلاثة، وروى بالضم فيها على أن لا نافية، والمعنى لا يخرج نفسه. (في الإناء) أي في داخله لئلا يقل برودة الماء الكاسرة للعطش بحرارة النفس، أو كراهة أن ينحدر قذرة من نفسه، بل إذا أراد التنفس فليرفع فمه عن الإناء فيتنفس ثم يشرب. (وإذا أتى الخلاء فلا يمس) بفتح الميم على الأفصح. (ذكره بيمينه) وفي رواية "إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه" وفي الأخرى "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول". وهذه الروايات كلها تدل على أن النهي عن مس الذكر باليمين مقيد بحالة البول، فيكون ما عداها مباحا، ويحمل على هذا المقيد ما ورد في بعض الروايات من النهي المطلق عن مس الذكر باليمين لاتحاد المخرج والحديث. وقيل: يكون ممنوعا أيضا من باب الأولى؛ لأنه نهى عن ذلك مع مظنة الحاجة في تلك الحالة، ويؤيد القول الأول حديث طلق بن علي، وقد سأل - صلى الله عليه وسلم - عن مس ذكره فقال: إنما هو بضعة منك؛ لأنه يدل على الجواز في كل حال، فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح، وبقي ما عداها على الإباحة، وإنما خص النهي بحالة البول من جهة أن مجاور الشيء يعطي حكمه، فلما منع الاستنجاء باليمين منع مس آلته حسما للمادة. (ولا يتمسح) بالسكون وضمها. (بيمينه) أي لا يستنجي باليد اليمنى تكريما لليمين. والحديث دليل على تحريم الأمور الثلاثة المذكورة؛ لأنه الأصل في النهي، ولا صارف له، وحمله الجمهور على التنزيه. (متفق عليه) أخرجاه في الطهارة والأشربة، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم مطولا ومختصرا.

(3/100)


342- قوله: (من توضأ فليستنثر) من الاستنثار وهو طرح الماء الذي يستنشقه، ولم يذكر الاستنشاق؛ لأن ذكر الاستنثار دليل عليه، إذ لا يكون إلا منه. وفيه دليل على وجوب الاستنثار، وفيه خلاف وسيأتي الكلام فيه في سنن الوضوء إن شاءالله تعالى. (ومن استجمر) أي استنجى بالجمرة أي الحجر. (فليؤتر) يشمل الإنقاء بالواحد أيضا لكن يحمل هذا المطلق على المقيد في الروايات الأخر. والمعنى فليؤتر بثلاث أو خمس أو سبع أو غير ذلك، والواجب الثلاثة لتلك الروايات وما زاد عليها مستحب لقوله: ومن لا فلا حرج. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه.
343- قوله: (يدخل الخلاء) المراد بالخلاء ههنا الفضاء بقرينة العنزة؛ لأنه كان إذا توضأ صلى إليها في الفضاء، أو
فأحمل أنا وغلام إداوة من ماء وعنزة، يستنجى بالماء)) متفق عليه.
?الفصل الثاني?
344- (10) عن أنس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا دخل الخلاء نزع خاتمه)) رواه أبوداود والنسائي والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال أبوداود: هذا حديث منكر.

(3/101)


يستتر بها بأن يضع عليها ثوبا أو يركزها بجنبه لتكون إشارة إلى منع من يروم المرور بقربه، أو ينبش الأرض الصلبة لئلا يرتد البول إليه، أو لغير ذلك من قضاء الحاجات التي تعرض له، ولأن خدمته في البيوت تختص بأهله. (وغلام) زاد في رواية لمسلم "نحوي" والغلام هو المترعرع، قيل: إلى حد السبع سنين، وقيل: إلى الالتحاء، ويطلق على غيره مجازا، قيل: أراد بالغلام الآخر ابن مسعود، وأراد بقوله "نحوي" أي في كونه كان يخدمه - صلى الله عليه وسلم - ، فإن ابن مسعود كان صاحب سواد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحمل نعله وسواكه، أو أطلق عليه الغلام مجازا، وقيل: هو أبوهريرة، وقيل جابر بن عبدالله، وفيه دليل على جواز الاستخدام للصغير. (إداوة) بكسر الهمزة أي مطهرة، وهي إناء صغير من جلد يتخذ للماء. (من ماء) أي مملوءة منه. (عنزة) بالنصب عطفا على الإداوة، بفتح النون أطول من العصا وأقصر من الرمح فيها سنان. (يستنجى بالماء) يؤخذ منه ومن غيره أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقتصر على الماء تارة وعلى الحجر أخرى، وكثيرا ما كان يجمع بينهما، قاله القاري. وفيه رد على من أنكر أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - استنجى بالماء وهو مالك ومن وافقه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي.

(3/102)


344- قوله: (إذا دخل الخلاء) أي أراد دخوله. (نزع) أي أخرج من إصبعه. (خاتمه) بفتح التاء، وقيل: بكسرها؛ لأن نقشة "محمد رسول الله" وفيه دليل على تبعيد ما فيه ذكر الله عند قضاء الحاجة، والقرآن بالأولى، حتى قيل: يحرم إدخال المصحف في الخلاء لغير ضرورة. قال الأمير اليماني: هذا فعل منه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد عرف وجهه، وهو صيانة ما فيه ذكر الله عزوجل عن المحلات المستخبثة فدل على ندبه، وليس خاصا بالخاتم بل في كل ملبوس فيه ذكر الله –انتهى. وقال الطيبي: فيه دليل على وجوب تنحية المستنجى اسم الله واسم رسوله والقرآن، قيل: فلو غفل عن تنحية ما فيه ذكر الله حتى اشتغل بقضاء الحاجة، أو خاف ضياعه، غيبه في فمه، أو في عمامته، أو نحوها. (رواه أبوداود) الخ. وأخرجه أيضا ابن ماجه وابن حبان والحاكم كلهم من طريق همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس. (وقال) أي الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح غريب) وافقه المنذري في تصحيحه وصوبه، وقال: رواته ثقات أثبات. وتبعه أبوالفتح القشيري في آخر الاقتراح، ومال إلى تصحيحه موسى بن هارون، وصححه ابن حبان، وقال النووي في الخلاصة: هذا أي تصحيح الترمذي مردود عليه. (وقال أبوداود، هذا حديث منكر) وقال النسائي: إنه غير محفوظ، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه، وأشار إلى شذوذه. والمنكر ما رواه الضعيف مخالفا للثقة، ومقاله المعروف، وهو ههنا حديث ابن جريج،
وفي روايته: وضع بدل نزع.
345- (11) وعن جابر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد))

(3/103)


عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه"، والوهم فيه من همام كما قاله أبوداود، ولم يرو حديث أنس بلفظ "إذا دخل الخلاء وضع خاتمه"، وقد خالف أصحاب ابن جريج. وإطلاق المنكر على حديث همام هذا إنما هو على مذهب ابن الصلاح من عدم الفرق بين الشاذ والمنكر، وحكم النسائي عليه بكونه غير محفوظ أصوب، فإنه شاذ في الحقيقة على مذهب الجمهور من الفرق بين المنكر والشاذ، إذا المتفرد به وهو همام، من شرط صحيح، وثقة ابن معين وغيره، وقال أحمد: ثبت في كل المشائخ لكنه بالمخالفة صار حديثه شاذا. وقد نوزع أبوداود في حكمه على هذا الحديث بالنكارة مع أن رجاله رجال الصحيح، نازعه المنذري وموسى بن هارون وغيرهما، قال موسى بن هارون: لا أدفع أن يكون حديثين، ومال أيضا إليه ابن حبان فصحح حديثين معا، وقد تابع همام يحيى بن الضريس البجلي، ويحيى بن المتوكل البصري، أخرجهما الحاكم والدارقطني، وقد رواه عمرو بن عاصم وهو من الثقات عن همام موقوفا على أنس، وقال المارديني في الجوهر النقي: الحديثان مختلفان متنا وكذا سندا؛ لأن الأول رواه ابن جريج عن الزهري بلا واسطة والثاني بواسطة، فانتقال الذهن من الحديث الذي قاله أبوداود فيه: إنما يعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه" إلى حديث وضع الخاتم مع اختلافهما سندا ومتنا كما بيناه، لا يكون إلا عن غفلة شديدة، وحال همام لا يحتمل مثل ذلك، هذا مع أن له شاهدا أخرجه البيهقي، عن يحيى بن المتوكل عن ابن جريج عن الزهري عن أنس الخ. وذكر الدارقطني في كتاب العلل: أن يحيى بن الضريس رواه عن ابن جريج كرواية همام، فهذه متابعة ثانية، وابن ضريس ثقة، فتبين بذلك أن الأمر فيه كما ذكر الترمذي من الحسن والصحة – انتهى مختصرا. وقال الحافظ بعد بيان وجه حكم أبي داود

(3/104)


على هذا الحديث بالنكارة والكلام في متابعة يحيى بن المتوكل ما نصه: على أن للنظر مجالا في تصحيح حديث همام؛ لأنه مبنى على أن أصله حديث الزهري عن أنس في اتخاذ الخاتم، ولا مانع أن يكون هذا متنا آخر غير ذلك المتن، وقد مال إلى ذلك ابن حبان فصححهما جميعا، ولا علة له عندي إلا تدليس ابن جريج، فإن وجد عنه تصريح بالسماع فلا مانع من الحكم بصحته –انتهى. وإن شئت مزيد التفصيل فارجع إلى التلخيص (ج1: ص39) وعون المعبود (ج1: ص9، 8) والجوهر النقي (وفي روايته) أي أبي داود (وضع) أي من يده (بدل نزع) أي من إصبعه، ولا تفاوت واختلاف بينهما معنى.
345- قوله: (البراز) أي الفضاء أو قضاء الحاجة بفتح الباء والكسر لغة قليلة، الفضاء الواسع من الأرض، ثم كنوا به عن الغائط، يقال: تبرز أي تغوط، وهو أن يخرج إلى البراز كما قيل: تخلى إذا صار إلى الخلاء، (انطلق) أي ذهب في الصحراء. (حتى لا يراه أحد) أي إلى أن يصل إلى موضع لا يراه فيه أحد، وفيه دليل على مشروعية التباعد
رواه أبوداود.
346- (12) وعن أبي موسى، قال: ((كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فأراد أن يبول، فأتى دمثا في أصل جدار، فبال. ثم قال: إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله)) رواه أبوداود.
347- (13) وعن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)) .

(3/105)


عند الحاجة عن حضور الناس إذا كان في مراح من الأرض، ويدخل في معناه الاستتار بالأبنية، وضرب الحجب، وإرخاء الستر وأعماق الآبار والحفائر ونحو ذلك من الأمور الساترة للعورات، وكل ما ستر العورة عن الناس. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وفيه إسماعيل بن عبد الملك الكوفي قد تكلم فيه غير واحد، وقال الحافظ: صدوق كثير الوهم، وأخرجه أيضا ابن ماجه، وفيه أيضا إسماعيل بن عبدالملك، ويؤيده حديث المغيرة بن شعبة عند الترمذي وصححه، وأبي داود والنسائي وابن ماجه بلفظ : كان إذا ذهب المذهب أبعد.
346- قوله: (ذات يوم) أي يوما وذات زائدة، وقيل كناية عن الساعة، أي كنت يوما أو ساعة يوم معه عليه الصلاة والسلام. (دمثا) بفتح الدال وكسر الميم، قال الخطابي: الدمث المكان السهل الذي يجذب فيه البول فلا يرتد على البائل، يقال للرجل إذا وصف باللين والسهولة "إنه لدمث الأخلاق، وفيه دماثة" ويقال: دمث المكان كفرح دمثا أي؛ لأن وسهل (في أصل جدار) أي قريب منه (فليرتد) بسكون الدال المخففة من الارتياد، أي فليطلب مكانا مثل هذا فحذف المفعول لدلالة الحال عليه. وفيه دليل على أنه ينبغي لمن أراد قضاء الحاجة أن يعمد إلى مكان لين سهل لا صلابة فيه ليأمن من رجوع رشاش البول ونحوه عليه. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد، والبيهقي. والحديث في سنده رجل مجهول ولذا ضعفه النووي، وهو وإن كان ضعيفا فأحاديث الأمر بالتنزه عن البول تفيد ذلك، وقد روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبوأ لبوله كما يتبوأ لمنزله، قال الهيثمي (ج1: ص204) : هو من رواية يحيى بن عبيد بن دجى عن أبيه، ولم أر من ذكرها، وبقية رجاله موثقون.

(3/106)


347- قوله (إذا أراد الحاجة) أي قضاء الحاجة يعني إذا أراد القعود للغائط أو البول (لم يرفع ثوبه) مبالغة في دوام التستر (حتى يدنو) أي يقرب (من الأرض) احتراز عن كشف العورة، وهذا من أدب قضاء الحاجة، ويستوي فيه الصحراء والبنيان؛ لأن في رفع الثوب كشف العورة، وهو لا يسوغ إلا عند الحاجة، ولا ضرورة في الرفع قبل القرب من الأرض قاله الطيبي، وقال العزيزي: لم يرفع ثوبه أي لم يتم رفعه حتى يدنو من الأرض، فيندب رفعه شيئا محافظة على الستر ما لم يخف تنجس ثوبه وإلا رفعه بقدر حاجته-انتهى، ويمكن أن نستنبط منه قولهم: ما أبيح للضرورة يتقدر بقدر
رواه الترمذي وأبوداود والدارمي.
348- (14) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((إنما أنا لكم مثل الوالد لولده، أعلمكم: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، وأمر بثلاثة أحجار. ونهى عن الروث والرمة، ونهى أن يستطيب الرجل بيمينه)) رواه ابن ماجه والدارمي.
الضرورة. (رواه الترمذي وأبوداود والدارمي) أخرجه الترمذي والدارمي من طريق عبدالسلام بن حرب عن الأعمش عن أنس. وقال الترمذي: وروى وكيع والحماني عن الأعمش قال: قال ابن عمر: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الحاجة" الحديث، قال: وكلا الحديثين مرسل أي منقطع، لم يسمع الأعمش من أنس بن مالك، ولا من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه أبوداود من طريق وكيع، عن الأعمش عن رجل عن ابن عمر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان "الحديث، قال: رواه عبد السلام ابن حرب، عن الأعمش عن أنس بن مالك وهو أي الحديث ضعيف أي لجهالة الراوي عن ابن عمر في الأول، والانقطاع في الثاني. وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط عن الأوسط عن جابر، قال الهيثمي: وفيه الحسين بن عبيد الله العجلي، قيل فيه: كان يضع الحديث.

(3/107)


348- قوله: (إنما أنا لكم مثل الوالد لولده) أي في الشفقة (أعلمكم) كما يعلم الوالد ولده كل مل يحتاج إليه ولا يبالي بما بذكره، فهذا تمهيد لما يبين لهم من آداب الخلاء، إذ الإنسان كثيرا ما يستحي من ذكرها، سيما في مجلس العظماء، وفي هذا بيان وجوب إطاعة الآباء، وأن الواجب عليهم تأديب أولادهم وتعليمهم ما يحتاجون إليه من أمور دينهم (وأمر بثلاثة أحجار)؛ لأن المطلوب شرعا الإنقاء والإيتار، وهما يحصلان بثلاثة أحجار (ونهى عن الروث والرمة) أي عن استعمالها في الاستنجاء. الروث رجيع ذوات الحوافر، ذكره صاحب المحكم وغيره، قال السندهي: والأشبه أن يراد ههنا رجيع الحيوان مطلقا ليشمل رجيع الإنسان وذكر بإطلاق اسم الخاص على العام، ويحتمل أن يقال: ترك ذكر رجيع الإنسان؛ لأنه أغلظ فيشمله النهي بالأولى، والرمة بكسر الراء وتشديد الميم، العظم البالي، ولعل المراد ههنا مطلق العظم. ويحتمل أن يقال: العظم البالي لا ينتفع به فإذا منع عن تلويثه فغيره أولى، قاله السندهي. ويجوز أن يكون الرمة جمع الرميم أي العظام البالية، قال في شرح السنة: تخصيص النهي بهما يدل على أن الاستنجاء يجوز بكل ما يقوم مقام الأحجار في الإنقاء، وهو كل جامد طاهر قالع للنجاسة، غير محترم من مدر وخشب وخرق وخزف انتهى (أن يستطيب) أي يستنجي (الرجل) وكذا المرأة، قال الطيبي: سمى الاستنجاء استطابة لما فيه من إزالة النجاسة وتطهيرها (رواه ابن ماجه والدارمي) بسند حسن، وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد وأبوداود والنسائي وابن حبان وابن خزيمة، وأبوعوانة في صحيحه بألفاظ متقاربة، وسكت عنه أبوداود والمنذري.
349- (15) وعن عائشة، قالت: ((كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده
اليسرى لخلائه وما كان من أذى)) رواه أبوداود.
350- (16) وعنها، قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة

(3/108)


أحجار يستطيب بهن، فإنها تجزئ عنه)) رواه أحمد وأبوداود والنسائي والدارمي.
351- (17) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنها
349- قوله (لطهوره) بضم الطاء أي لوضوءه فيما لم يعهد فيه المقارنة، ويكون من باب التشريف بخلاف غسل الوجه ومسح الرأس والأذن، فإن المعهود في هذه الأشياء قران اليسار باليمين (وطعامه) أي لأكله وشربه وما كان من مكرم كالإعطاء واللبس والسواك والتنعل والترجل والمصافحة والإكتحال. (لخلائه) أي لأجل استنجائه في الخلاء. (وما كان) تامة أي ما وجد ووقع (من أذى) من بيانه أي ما تستكرهه النفس الزكية كالمخاط والرعاف وخلع الثوب. والظاهر أن إدخال الماء في الأنف باليمين والامتخاط باليسار. (رواه أبوداود) في الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد والطبراني كلهم من طريق إبراهيم النخعي عن عائشة، قال المنذري: إبراهيم لم يسمع من عائشة فهو منقطع. وأخرجه أبوداود من طريق أخرى عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة بمعناه. وأخرجه في اللباس من حديث مسروق عن عائشة، ومن ذلك الوجه أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه، ويأتي في آخر الفصل الأول من سنن الوضوء.

(3/109)


350- قوله: (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط) أي الخلاء (فليذهب) أمر وجوب (معه بثلاثة أحجار) الباء للتعدية (يستطيب) بالرفع مستأنف، علة للأمر أو حال بمعنى عازما على الاستطابة (بهن) الباء للآلة (فإنها) أي الأحجار (تجزئ) من الإجزاء أي تكفي وتغنى، وفي بعض النسخ "تجزى" بفتح التاء وكسر الزاي بعده ياء، من جزى يجزى مثل قضى يقضي وزنا ومعنى، قاله القاري (عنه) أي عن المستنجي، أو عن الماء المفهوم من المقام، وهو الأظهر معنى. والحاصل أن الاستطابة بالأحجار تكفي المستنجي، أو تكفي عن الماء وتنوب عنه، وإن بقي أثر النجاسة بعد ما زالت عين النجاسة وجرمها وذلك رخصة، ففيه دليل على كفاية الأحجار وعدم وجوب الاستنجاء بالماء، وهو أيضا يدل على وجوب الإستجمار بثلاثة أحجار؛ لأن الإجزاء يستعمل غالبا في الواجب (رواه أحمد) الخ. وأخرجه أيضا الدارقطني، وقال: إسناده صحيح.
351- قوله: (فإنها) وفي بعض النسخ فإنه. قال الطيبي: الضمير في "فإنه" راجع إلى الروث والعظام باعتبار المذكور، كما ورد في شرح السنة، وجامع الأصول، وفي بعض نسخ المصابيح. وفي بعضها وجامع الترمذي "فإنها"
زاد إخوانكم من الجن)) رواه الترمذي والنسائي، إلا أنه لم يذكر: ((زاد إخوانكم من الجن)).
352- (18) وعن رويفع بن ثابت، قال: قال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((يا رويفع! لعل الحياة ستطول بك بعدي، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة، أو عظم، فإن محمدا منه بريء)) رواه أبوداود.

(3/110)


فالضمير راجع إلى العظام، والروث تابع لها، عليه قوله تعالى: ?وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها? [62: 11] انتهى. وقال ابن حجر المكي: وسكت عن الروث؛ لأن كونه زادا لهم إنما هو مجاز، لما تقرر أنه لدوابهم –انتهى. وفي رواية أحمد ومسلم في قصة ذهابه إلى الجن وقراءته عليهم القرآن وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام الجن (زاد إخوانكم من الجن) قال الطيبي: فيه أن الجن مسلمون حيث سماهم إخوانا وأنهم ليأكلون (رواه الترمذي) في الطهارة وفي التفسير (والنسائي) في الطهارة. وأصل حديث ابن مسعود هذا عند مسلم، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والدارقطني والحاكم من طرق عنه.

(3/111)


352- قوله (وعن رويفع) بضم الراء وكسر الفاء تصغير رافع، بكسر الفاء، ابن ثابت بن السكن بن عدي بن حارثة الأنصاري المدني، صحابي سكن مصر، وأمره معاوية على طرابلس سنة (46) فغزا إفريقية. قال أحمد بن البرقي الفتياني: توفي ببرقة سنة (56) وهو أمير عليها، وقد رأيت قبره بها. له ثمانية أحاديث، روى عنه حنش الصنعاني وبسر بن عبيدالله. (لعل الحياة ستطول بك) الباء للإلصاق (بعدي) أي بعد موتي، وقد ظهر مصداق ذلك، فطالت به الحياة حتى مات سنة (56) بإفريقية، وهو آخر من مات بها من الصحابة كما ذكره أبوزكريا بن مندة. (فأخبر الناس) الفاء جزاء شرط محذوف والتقدير فإذا طالت فأخبر، والمعنى: لعل الحياة ستمتد حال كونها ملتصقة بك، حتى ترى الناس قد ارتكبوا أمورا من المعاصي يتجاهرون بها، فإذا رأيت ذلك فأخبرهم. (من عقد لحيته) قيل: هو معالجتها حتى تنعقد وتنجعد. وقيل: كانوا يعقدونها في الحرب فأمرهم بإرسالها، كانوا يفعلون ذلك تكبرا وعجبا، وقيل: هو فتلها كفتل الأعاجم. (أو تقلد وترا) بفتحتين وتر القوس، أو مطلق الحبل والخيط. قيل: المراد به ما كانوا يعلقونه عليهم وعلى أولادهم وخيلهم من العوذ والتمائم التي يشدونها بتلك الأوتار، ويرون أنها تعصم من الآفات والعين. وقيل: النهي من جهة تعليق الأجراس عليها. وقيل: لئلا تختنق الخيل عند شدة الركض. (أو استنجى برجيع دابة) هو الروث والعذرة. (فإن محمدا منه بريء) هذا من باب الوعيد والمبالغة في الزجر الشديد، وقوله: منه بريء، هكذا في بعض النسخ وكذا وقع عند أبي داود، وفي بعض نسخ المشكاة "برئ منه" وهكذا وقع في رواية النسائي. (رواه أبوداود) في الطهارة وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا النسائي في الزينة.

(3/112)


353- (19) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن أكل فما تخلل فليلفظ، وما لاك بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم،
353- قوله: (من اكتحل) أي أراد الاكتحال. (فليؤتر) أي ثلاثا متوالية في كل عين، وقيل: ثلاثا في اليمنى واثنين في اليسرى ليكون المجموع وترا، والتثليث علم من فعله - صلى الله عليه وسلم -، ففي شمائل الترمذي أنه كانت له مكحلة يكتحل كل ليلة ثلاثة في هذه وثلاثة في هذه. (من فعل) كذلك. (فقد أحسن) أي فعل فعلا حسنا ويثاب عليه؛ لأنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ومن لا) أي لا يفعل الوتر. (فلا حرج) فيه دليل على أن أمره - صلى الله عليه وسلم - يدل على الوجوب وإلا لما احتاج إلى بيان سقوط وجوبه بقوله: لا حرج أي لا إثم، قاله الطيبي. (ومن استجمر فليؤتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج) هذا محمول على أن القطع على وتر سنة فيما إذا زاد على ثلاث جمعا بين النصوص، وقال الشوكاني: الأدلة المتعارضة قد دلت على عدم جواز الإستجمار بدون ثلاث، وليس لمن جوز دليل يصلح للتمسك به في مقابلتها- انتهى وقد تقدم الكلام عليه في شرح حديث سلمان من الفصل الأول. (فبما تخلل) ما شرطية أي أخرج من بين أسنانه بعود ونحوه. (فليلفظ) بكسر الفاء أي فليرم به وليخرجه من فمه، وهو جزاء قوله: ما تخلل، والشرطية جزاء الشرط الأول. (ومالاك) عطف على ما تخلل، واللوك إدارة الشيء في الفم، قيل: معناه أنه ينبغي للآكل أن يلقي ما يخرج من بين أسنانه بعود ونحوه لما فيه من الاستقذار، ويبتلع ما يخرج بلسانه، وهو معنى "لاك"؛ لأنه لا يسقذر، ويحتمل أن يكون المراد "بمالاك" ما بقي من آثار الطعام

(3/113)


على لحم الأسنان وسقف الحلق وأخرجه بإدارة لسانه، وأما الذي يخرج من بين أسنانه فيرميه مطلقا سواء أخرجه بعود أو باللسان؛ لأنه يحصل له التغيير غالبا. (من فعل) أي ما ذكر من رمى ذاك وابتلاع هذا. (ومن أتى الغائط) أي الخلاء. (فليستتر فإن لم يجد) أي شيئا ساترا. (إلا أن يجمع كثيبا) أي كومة. (من رمل فليستدبره) أي ليجعله خلفه لئلا يراه أحد، قال الطيبي: الاستثناء متصل، أي فإن لم يجد ما يستتربه إلا جمع كثيب من رمل فليجمعه ويستدبره؛ لأن القبل يسهل ستره بالذيل ونحوه. (فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم) أي يقصد الإنسان بالشر في تلك المواضع، يعني يحضر تلك الأمكنة وترصدها بالأذى والفساد؛ لأنها موضع يهجر ذكر الله فيه، فأمر بستر العورات ما أمكن، والامتناع من التعرض لأبصار الناظر، وهبوب الرياح، وترشش البول على ثيابه وبدنه،
من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج)) رواه أبوداود وابن ماجه والدارمي.
354- (20) وعن عبدالله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يغتسل فيه،

(3/114)


وكل ذلك من لعب الشيطان به، وقصده إياه بالأذى. والمقاعد جمع مقعده يطلق على أسفل البدن، وعلى موضع القعود لقضاء الحاجة، وكلاهما يصح إرادته، وعلى الأول الباء للإلصاق وعلى الثاني للظرفية. قال السندهي: لابد من اعتبار قيد على الأول، أي يلعب بالمقاعد إذا وجدها مكشوفة فليستتر ما أمكن –انتهى. (من فعل) أي جمع الكثيب والستر. (فقد أحسن) بإتيان السنة (ومن لا) بأن كان في الصحراء من غير ستر. (فلا حرج) أي إذا لم يره أحد، وأما عند الضرورة فالحرج على من نظر إليه. (رواه أبوداود) الخ. وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والبيهقي كلهم من طريق حصين الحبراني، قال الذهبي: لا يعرف، وقال الحافظ: مجهول، عن أبي سعيد الحبراني الحمصي التابعي، قال أبوزرعة: لا يعرف، وقال الحافظ: مجهول، وذكرهما ابن حبان في الثقات، وقال أبوزرعة: حصين الحبراني شيخ، وقال الحافظ في الفتح في حديث أبي هريرة هذا: حسن الإسناد.

(3/115)


354- قوله: (وعن عبدالله بن مغفل) بمعجمه وفاء مثقلة مفتوحة كمعظم ابن عبد نهم بن عفيف، يكنى أبا عبدالرحمن المزني صحابي بايع تحت الشجرة، سكن المدينة، ثم تحول إلى البصرة، قال الحسن البصري: كان أحد العشرة الذين بعثهم عمر إلينا يفقهون الناس، وكان من نقباء أصحابه، وهو أول من دخل تستر حين فتحت. له ثلاثة وأربعون حديثا، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديث. مات سنة (57)، وقيل: بعد ذلك. (لا يبولن أحدكم في مستحمة) بفتح الحاء وتشديد الميم، أصله الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم، وهو الماء الحار، ثم قيل للاغتسال بأي ماء كان استحمام. وذكر ثعلب: أن الحميم يطلق أيضا على الماء البارد من الأضداد، وفي معنى المغتسل المتوضأ، ولذا قال فيما بعد: أو يتوضأ. واختلفوا في تعيين محمل النهي، فحمله بعضهم على الأرض اللينة التي لا منفذ فيها كالبالوعة ونحوها، نظرا إلى أن البول في الرخوة يستقر موضعه، وفي الصلبة يجرى ولا يستقر، فإذا صب عليه الماء ذهب أثره بالكلية، وعكس بعضهم فحمل النهي على الأرض الصلبة، نظرا إلى أنه في الصلبة يخشى عود الرشاش بخلاف الرخوة، والأولى أن يحمل الحديث على إطلاقه، ولا يقيد المغتسل بشيء من القيود فيحترز عن البول فيه مطلقا، فإن حصول الوسواس ليس مختصا باللين ولا بالصلب بل قد يحصل من البول فيهما جميعا. (ثم يغتسل فيه) ثم استبعادية يعني بعيد من العاقل أن يجمع بين ما قبلها وما بعدها، يريد أن النهي عنه ما دام مراه أن يغتسل فيه وأما إذا ترك الاغتسال فيه ويريد أن لا يعود إليه أي جعله مهجورا من الاغتسال أو اغتسل فيه ابتداء ولم يبل فيه فلا نهي، ويجوز في "يغتسل" الرفع أي ثم
أو يتوضأ فيه، فإن عامة الوسواس منه)) رواه أبوداود والترمذي والنسائي، إلا أنهما لم يذكرا: ثم يغتسل فيه، أو يتوضأ فيه.

(3/116)


355- (21) وعن عبدالله بن سرجس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يبولن أحدكم في جحر)) رواه أبوداود والنسائي.
356- (22) وعن معاذ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق،
هو يغتسل، والجزم بالعطف على فعل النهي، وجوز النصب بإعطاء "ثم" حكم واو الجمع. (فإن عامة الوسواس منه) أي أكثر الوسواس يحصل بسبب مجموع ما تقدم، وهو البول في المستحم أو المتوضأ، ثم الغسل أو الوضوء فيه؛ لأنه يصير ذلك الموضع نجسا فيقع في قلبه وسوسة بأنه هل أصابه منه رشاش أم لا؟ ويجوز في الواو الأولى الفتح والكسر وهو بالكسر المصدر، وبالفتح الاسم. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والترمذي) وقال: غريب. (والنسائي (وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين. والضياء في المختارة.

(3/117)


355- قوله: (وعن عبدالله بن سرجس) بفتح المهملة، وسكون الراء وكسر الجيم، بعدها مهملة كنرجس، غير منصرف للعجمة والعلمية، هو عبدالله بن سرجس المزني حليف بني مخزوم، صحابي، سكن البصرة. له سبعة عشر حديثا، انفرد له مسلم بحديث، روى عنه نفر من التابعين. (لا يبولن أحدكم في جحر) أي ثقب بتقديم الجيم المضمومة وسكون الحاء المهملة، كل شيء تحتفره السباع والهوام لأنفسها. وجه النهي أن الجحر مأوى الهوام وذوات السموم فلا يؤمن أن تصيبه مضرة من قبل ذلك. ويقال: إن الذي يبول في الجحر يخشى عليه عادية الجن كما عند أبي داود، والنسائي. قالوا لقتادة أي الراوى عن عبدالله بن سرجس: وما يكره البول من الجحر؟ فقال: يقال إنها مساكن الجن. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين والبيهقي. قيل: إن قتادة لم يسمع من عبدالله بن سرجس، حكاه حرب عن أحمد، وأثبت سماعه منه علي بن المديني، وأبوزرعة. وقال أبوحاتم: لم يلق أحدا من الصحابة إلا أنسا وعبدالله بن سرجس، وصححه ابن خزيمة، وابن السكن.
356- قوله: (الملاعن) قال زين العرب: جمع ملعن مصدر ميمي أو اسم مكان، من لعن إذا شتم-انتهى. فعلى الأول معناه: اتقوا اللعنات أي أسبابها، أو المصدر بمعنى الفاعل يعني اجتنبوا اللاعنات أي الحاملات والباعثات على اللعن، فيصير نظيرا "اتقوا اللاعنين" مع زيادة واحد. (البراز) بالنصب على البدلية أو بتقدير أعني، والمراد به التغوط. (الموارد) جمع مورد وهو الموضع الذي يأتيه الناس من رأس عين أو نهر لشرب الماء أو للتوضئ. (وقارعة الطريق)
والظل)) رواه أبوداود وابن ماجه.
357- (23) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك)) رواه أحمد وأبوداود وابن ماجه.

(3/118)


أي وسطه يقرعه الناس بأرجلهم ونعالهم أي يدقونه ويمرون عليه، فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الطريق المقروعة. (والظل) تقدم بيان المراد منه. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (وابن ماجه) وأخرجه أيضا الحاكم كلهم من حديث أبي سعيد الحميري عن معاذ بن جبل، وصححه ابن السكن والحاكم، وقال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن أبا سعيد لم يسمع من معاذ، ولا يعرف هذا الحديث بغير هذا الإسناد، قاله ابن القطان، وأبوسعيد مجهول.

(3/119)


357- قوله: (لا يخرج الرجلان) وكذا المرأتان. (يضربان الغائط) يقال: ضربت الأرض إذا أتيت الخلاء، وضربت في الأرض إذا سافرت، وقال الطيبي: قيل: نصب الغائط بنزع الخافض أي للغائط، وفي مختصر النهاية: يضرب الغائط والخلاء والأرض إذا ذهب لقضاء الحاجة، فالمعنى يمشيان لقضاء الحاجة. (كاشفين) منصوب على الحال. (عن عورتهما) ينظر كل إلى عورة صاحبه عند التغوط. (يتحدثان) حال ثانية، وقال الطيبي "يضربان ويتحدثان" صفتا الرجلان؛ لأن التعريف فيه للجنس، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف أي هما يضربان ويتحدثان استئنافا، و"كاشفين" حال مقدرة من ضمير يضربان، ولو جعل حالا من ضمير يتحدثان لم تكن مقدرة، وعلى هذه التقادير النهي منصب على الجميع-انتهى. ورواه ابن حبان في صحيحه بلفظ: لا يقعد الرجلان على الغائط يتحدثان، يرى كل واحد منهما عورة صاحبه، فإن الله يمقت على ذلك. وهو صريح في أن المقت على المجموع، لا على مجرد الكلام، ورواه ابن ماجه بلفظ: لا يتناجى اثنان على غائطهما، ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه، فإن الله عزوجل يمقت على ذلك، قال السندهي: الحديث يدل على منع تحدث كل واحد من المتخليين بالآخر مع نظره إلى عورة الآخر، ولا يلزم منه منع تحدث المتخلى مطلقا، إلا أن يقال مدار المنع على كون المتكلم مخليا، ولا دخل فيه لكون المتكلم معه متخليا، وإنما جاء فرض المتكلم معه متخليا من جهة أنه لا يحضر مع المتخلي في ذلك الموضع إلا مثله، وأما ذكر النظر فلزيادة التقبيح، ضرورة أن النظر حرام مع قطع النظر عن التحديث والتخلي، فليتأمل. (فإن الله يمقت) من المقت وهو البغض. (على ذلك) أي على ما ذكر، وهو كشف العورة بحضرة الآخر، والتحديث وقت قضاء الحاجة. والحديث دليل على وجوب ستر العورة، والنهي عن التحدث حال قضاء الحاجة، والأصل في النهي التحريم، وتعليله بمقت الله عليه أي شدة بغضه لفاعل ذلك زيادة في التحريم. وقيل: إن الكلام في

(3/120)


تلك الحالة مكروه فقط، لكنه يبعد حمل النهي على الكراهة ربطه بتلك العلة. (رواه أحمد وأبوداود وابن ماجه) وهو عند الجميع من حديث عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن عياض بن هلال عن أبي سعيد، قال أبوداود: لم يسنده إلا عكرمة بن عمار-انتهى. وعكرمة هذا وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما، وتكلم البخاري وأحمد
358- (24) وعن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء، فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث)) رواه أبوداود وابن ماجه.
359- (25) وعن علي، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء،
وأبوداود ويحيى بن سعيد وابن حبان والنسائي في حديثه عن يحيى بن أبي كثير. وقال الحافظ: صدوق يغلط. وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب، وقال الشوكاني: لا وجه للتضعيف بهذا، فقد أخرج مسلم حديثه عن يحيى، واستشهد بحديثه البخاري عن يحيى أيضا-انتهى. وعياض بن هلال مجهول. قال المنذري في الترغيب: عياض بن هلال لا أعرفه بجرح ولا عدالة، وهو في عداد المجهولين، وروى أحمد عن جابر مرفوعا: إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه، ولا يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك. وصححه ابن السكن، وابن القطان، قال الحافظ: وهو معلول.

(3/121)


358- قوله: (وعن زيد بن أرقم) بفتح همزة وقاف وسكون راء وبترك صرف، هو زيد بن أرقم بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي، صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع عشرة غزوة، وأنزل الله تصديقه في سورة المنافقين، ونزل الكوفة، له تسعون حديثا، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بستة، روى عنه جماعة مات بالكوفة سنة (66) أو (68) وهو ابن خمس وثمانين، كان من خواص علي، شهد معه صفين. (إن الحشوش) بضم الحاء المهملة وشينين معجمتين، هي الكتف ومواضع قضاء الحاجة، واحدها حش مثلث الحاء، وأصله جماعة النخل المتكاثفة، وكانوا يقضون حوائجهم إليها قبل اتخاذ الكنف في البيوت. (محتضرة) بفتح الضاد أي تحضرها الجن والشياطين يترصدون بني آدم بالأذى والفساد؛ لأنها مواضع تكشف فيه العورات وتهجر عن ذكر الله. فيتمكنون منهم في تلك المواضع ما لا يتمكنون في غيرها من المواضع. (أعوذ بالله) قد تقدم أنه- صلى الله عليه وسلم - يقول: (اللهم إني أعوذبك). فيتخير بين الصيغتين، أو يقول هذا مرة والآخر مرة (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري (وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم وابن أبي شيبة. قال الترمذي: حديث زيد بن أرقم في إسناده اضطراب، ثم بين الترمذي هذا الاضطراب، وقد أوضحه ثم رفعه شيخنا الأجل المباركفوري في شرح الترمذي فارجع إليه.
359- قوله (ستر) بفتح السين مصدر، وقيل بالكسر، وهو الحجاب (ما بين أعين الجن) قال الطيبي"ستر"مبتدأ و"ما بين" موصولة مضاف إليها وصلتها الظرف أي الفعل الذي تعلق به، وخبر المبتدأ قوله أن يقول: بسم الله. (عورات بني آدم) بسكون الواو جمع عورة (إذا دخل أحدهم الخلاء) أي وقت دخول أحد بني آدم، ثم هذا الظرف
أن يقول: بسم الله)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب وإسناده ليس بقوي.

(3/122)


360- (26) وعن عائشة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك )). رواه الترمذي
قيد واقعي غالبي للتكشف المحتاج إلى الستر بالبسملة المتقدمة، لا أنه احترازي، فإنه ينبغي أن يبسمل إذا أراد كشف العورة عند خلع الثوب، أو إرادة الغسل، يدل على ما قلنا من عموم الحكم ما روي عن أنس مرفوعا: ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضعوا ثيابهم أن يقولوا "بسم الله"، أخرجه الطبراني في الأوسط بإسنادين أحدهما فيه محمد بن مسلمة الأموي، ضعفه البخاري وغيره، ووثقه ابن حبان وابن عدي، وبقية رجاله الموثقون. (أن يقول: بسم الله) وذلك لأن اسم الله كالطابع على بني آدم فلا يستطيع الجن فكه، قال المناوي: وقال بعض أئمة الشافعية: ولا يزيد "الرحمن الرحيم" اقتصارا على الوارد ووقوفا مع ظاهر هذا الخبر. ولا منافاة بين حديث على هذا وبين ما تقدم من ذكر التعوذ عند دخول الخلاء في حديث زيد بن أرقم وحديث أنس المتقدم في الفصل الأول، إذ ليس أن يقول: هذا وذاك، أحدهما تسمية الله والآخر دعاء يستعيذ به من الخبث والخبائث، ويدل على الجمع ما رواه العمري حديث أنس في التعوذ بلفظ: إذا دخلتم الخلاء فقولوا: "بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث". قال الحافظ في الفتح: إسناده على شرط مسلم. فالجمع أفضل، ولو اكتفى بكل منهما لحصل أصل السنة. (رواه الترمذي) في آخر الصلاة، وأخرجه أيضا ابن ماجه بإسناد الترمذي. (وإسناده ليس بقوي) ولفظ الترمذي في النسخ الموجودة: وإسناده ليس بذاك. أي ليس بالقوي؛ لأن فيه محمد بن حميد الرازي شيخ الترمذي وهو ضعيف، قال البخاري: فيه نظر، ورماه بعضهم بالكذب، وكان ابن معين حسن الرأي فيه، ووثقه أحمد وغيره، وقد صحح المناوي حديث علي هذا في شرح الجامع الصغير، ويشهد له حديث أنس عند الطبراني، وقد ذكرنا لفظه مع الكلام فيه، والترمذي نفسه قد حسن حديث محمد بن حميد الرازي في مواضع، فالظاهر

(3/123)


أن حديث علي هذا حديث حسن إن شاء الله تعالى.
360- قوله: (إذا خرج) هذا يشعر بالخروج عن المكان كما سلف في لفظ "دخل" لكن المراد أعم منه ولو كان في الصحراء. (قال: غفرانك) أي طلب أو أسأل غفرانك. فهو منصوب على أنه مفعول به، ويحتمل أن يكون منصوبا على المصدرية أي الغفران اللائق بجنابك، أو الناشئ من فضلك بلا إستحقاق مني، فلا يرد أنه لا فائدة للإضافة، إذ لا يتصور غفران غيره هناك. قيل: إنه استغفر لتركه الذكر في تلك الحالة، لما ثبت أنه كان يذكر الله على كل أحواله إلا حال قضاء الحاجة، فجعل ترك الذكر في هذه الحالة تقصيرا وذنبا يستغفر منه، وقيل: استغفر لتقصيره في شكر نعمة الله عليه بإقداره على إخراج ذلك الخارج، فإن انحباسه من أسباب الهلاك، فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة بدونها، وهذا أنسب ليوافق حديث أنس الآتي في آخر الفصل الثالث. (رواه الترمذي) وقال: حديث غريب
وابن ماجه والدارمي.
361- (27) وعن أبي هريرة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تور أو ركوة، فاستنجى، ثم مسح يده على الأرض، ثم أتيته بإناء آخر، فتوضأ)) رواه أبوداود وروى الدارمي والنسائي معناه.
362- (28) وعن الحاكم بن سفيان، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بال توضأ ونضح فرجه))
حسن، ولا يعرف في الباب إلا حديث عائشة (وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي في "عمل اليوم الليلة" وابن الجارود، وصححه الحاكم، وأبوحاتم وابن خزيمة وابن حبان. وقال النووي: حديث عائشة حديث حسن صحيح، وجاء في الذي يقال عقب الخروج من الخلاء أحاديث كثيرة ليس فيها شيء ثابت إلا حديث عائشة المذكور، قال: وهذا مراد الترمذي بقوله: ولا يعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة.

(3/124)


361- قوله: (أتيته بماء في تور) بفتح المثناة وسكون الواو، إناء من صفر، أو حجارة يتوضأ منه ويؤكل فيه ويشرب منه. (أو ركوة) بفتح الراء وسكون الكاف، إناء صغير من جلد يشرب منه ويتوضأ، و"أو" للشك من الراوي عن أبي هريرة أو للتنويع، أي إن أبا هريرة يأتيه تارة بهذا وتارة بهذا. (ثم مسح يده على الأرض) عند غسلها مبالغة في تنظيفها وتعليما للأمة بذلك. (ثم أتيته بإناء آخر) ليتوضأ به. (فتوضأ) بالماء، إتيانه بإناء آخر، ليس لأنه لا يجوز التوضيء بالماء الباقي من الإستنجاء، أو بالإناء الذي استنجى به، بل لأنه لم يبق من الأول شيء، أو بقى قليل غير كاف. وقال بعضهم: قد يؤخذ من هذا الحديث أنه يندب أن يكون إناء الاستنجاء غير إناء الوضوء. (رواه أبوداود) أي بهذا اللفظ وسكت عنه هو والمنذري. (وروى الدارمي والنسائي) وكذا ابن ماجه. (معناه) وأخرج النسائي وابن ماجه وابن خزيمة والدارمي عن جرير بن عبدالله نحوه.
362- قوله: (الحكم بن سفيان) وقيل: سفيان بن الحكم، وقيل: أبوالحكم بن سفيان، وقيل: عن ابن الحكم عن أبيه، وقيل: غير ذلك إلى عشرة أقوال بسطها الحافظ في تهذيب التهذيب (ج2: ص425، 426) والسيوطي في التدريب (ص95) في مثال الاضطراب في السند. قال ابن المديني والبخاري وأبوحاتم: الصحيح الحكم بن سفيان. وقال أحمد والبخاري وابن عيينة: ليست للحكم صحبة، وقال أبوزرعة وإبراهيم الحربي وابن عبدالبر وغيرهم له صحبة. وقال الحافظ في التقريب: له صحبة، وذكره في الإصابة في القسم الأول من حرف الحاء، وذكره المصنف في فصل الصحابة له هذا الحديث فقط. (إذا بال توضأ) للصلاة أو ليدوم على الطهارة. (ونضح فرجه) أي رش الإزار الذي يلي الفرج
رواه أبوداود والنسائي.
363- (29) وعن أميمة بنت رقيقة، قالت: ((كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه
بالليل)) رواه أبوداود والنسائي.

(3/125)


364- (30) وعن عمر، قال: ((رآني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبول قائما، فقال: يا عمر لا تبل قائما، فما بلت قائما بعد)) رواه الترمذي وابن ماجه.
بقليل من الماء ليكون مذهبا للوسواس، ولتعليم الأمة. رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه، وقد تقدم أن الحديث مضطرب الإسناد، وانظر علل ابن أبي حاتم (ج1: ص46) والتدريب (ص95) .
363- قوله: (وعن أميمة بنت رقيقة) بالتصغير فيهما واسم أبيها عبدالله بن بجاد التيمي، صحابية، لها أحاديث، وأمها رقيقة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى، أخت خديجة أم المؤمنين. قال ابن عبدالبر: كانت أميمة من المبايعات وهي بنت خالة فاطمة الزهراء، وأميمة هذه هي غير أميمة بنت رقيقة الثقفية تلك تابعية. (كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قدح) بفتحتين. (من عيدان) بفتح العين جمع عيدانة، وهي أطول ما يكون من النخل المتجرة من السعف، أتى بلفظ الجمع حملا على الجنس، وضبطه بعضهم بكسر العين، جمع عود وهو الخشب، وجمع اعتبارا للأجزاء، لا أنه مركب من عيدان. (تحت سريره) أي موضوع تحت سريره. (يبول فيه بالليل) قيل: يعارضه ما رواه الطبراني في الأوسط بسند جيد من حديث عبدالله بن يزيد مرفوعا "لا ينقع بول في طست في البيت، فإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه بول منتقع". والجواب لعل المراد بالنقاعة طول مكثه، وما يجعل في الإناء لا يطول مكثه غالبا. وقال المغلطائي: يحتمل أن يكون أراد كثرة النجاسة في البيت بخلاف القدح فإنه لا يحصل به نجاسة لمكان آخر. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم، قال في عون المعبود: والحديث وإن كان فيه مقال لكنه يؤيده حديث عائشة الذي أخرجه النسائي، وحديث الأسود الذي أخرجه الشيخان، وفيهما "أنه قد دعا بالطست ليبول فيها" الحديث. لكن وقع هذا في المرض-انتهى.

(3/126)


364- قوله: (وأنا أبول قائما) حالان متداخلان. (لا تبل قائما) محمول على ما إذا لم يأمن الرشاش وهذا إن صح الحديث. (فما بلت قائما بعد) بالبناء على الضم أي بعد هذا النهي. (رواه الترمذي) أي معلقا. (وابن ماجه) وكذا البيهقي في السنن الكبرى كلاهما موصولا من حديث عبدالكريم بن أبي المخارق عن نافع عن ابن عمر عن عمر، قال الترمذي: وإنما رفع هذا الحديث عبدالكريم وهو ضعيف عند أهل الحديث، قال: وروى عبيدالله عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر: ما بلت قائما منذ أسلمت. قال: وهذا أي حديث عمر الموقوف أصح من حديث عبدالكريم-انتهى. وأثر عمر هذا
365- (31) قال الشيخ الإمام محي السنة رحمه الله: قد صح عن حذيفة قال: ((أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم، فبال قائما)) متفق عليه. قيل: كان ذلك لعذر.
نقله الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1: ص206) ونسبه للبزار، وقال: رجاله ثقات، وهو يدل على أن عمر ما بال قائما منذ أسلم، لكن قال الحافظ في الفتح: قد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن ثابت، وغيرهم أنهم بالوا قياما، وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش-انتهى.

(3/127)


365- قوله: (أتى سباطة قوم) بضم المهملة بعدها موحدة هي المزبلة والكناسة تكون بفناء الدار مرفقا لأهلها، وتكون في الغالب سهلة لا يرتد فيه البول على البائل، وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا إضافة ملك؛ لأنها لا تخلوا عن النجاسة فكانت مباحة. (فبال قائما) للتشريع وبيان الجواز، وإنما خالف النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة لما قيل: إنه كان مشغولا بمصالح المسلمين فلعله طال عليه المجلس حتى احتاج إلى البول، فلو أبعد لتضرر. وقيل: فعل ذلك لبيان الجواز. وقيل: إنه فعل ذلك في البول، وهو أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة تكشف، ولما يقترن به من الرائحة. وقيل: إن الغرض من الإبعاد التستر، وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر. والحديث يدل على جواز البول من قيام من غير كراهة وعذر. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه. (قيل: كان ذلك لعذر) اعلم أنهم اختلفوا في البول قائما، فرخص قوم من أهل العلم في البول قائما إذا أمن الرشاش، واستدلوا بحديث حذيفة هذا، وبحديث سهل بن سعد، وحديث عصمة بن مالك أخرجهما الطبراني، وبآثار موقوفة على عمر وعلي وزيد بن ثابت، وغيرهم، وهو القول الراجح عندنا. وقال قوم بكراهة البول قائما إلا من عذر، واستدلوا بحديث عمر المتقدم، وقد عرفت أنه ضعيف لا يصلح للاحتياج، وبحديث عائشة الآتي في أول الفصل الثالث، وسيأتي الجواب عنه، وبحديث جابر قال: "نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن يبول الرجل قائما"، رواه ابن ماجه. والجواب عنه أن في سنده عدي بن الفضل وهو متروك. وبحديث بريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من الجفاء أن يبول الرجل قائما" الحديث. والجواب عنه أنه غير محفوظ، قال الترمذي: حديث بريدة في هذا غير محفوظ. وبحديث عائشة قالت: ما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائما منذ أنزل عليه القرآن. أخرجه

(3/128)


أبوعوانة في صحيحه، والحاكم. والجواب عنه أنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع في البيوت، فقد ثبت أن بوله - صلى الله عليه وسلم - عند سباطه قوم كان بالمدينة كما جاء في بعض الروايات الصحيحة، قال الحافظ: وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة، فتضمن الرد على ما نفته من أن ذلك لم يقع بعد نزول القرآن-انتهى. وقال هؤلاء: إن بوله - صلى الله عليه وسلم - قائما كان لعذر، فقالوا: فعل ذلك لحرج في مأبضة، واستدلوا بما روى الحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة قال: "إنما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائما لحرج كان في مأبضه"، والمأبض باطن الركبة، فكأنه لم يتمكن لأجله من القعود. قال الحافظ: لو صح هذا الحديث
?الفصل الثالث?
366- (32) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((من حدثكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبول قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا)) رواه أحمد والترمذي والنسائي.
367- (33) وعن زيد بن حارثة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((إن جبرئيل أتاه في أول ما أوحى إليه
لكان فيه غنى، لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي. وذكروا وجوها أخرى على الاحتمال مما لا دليل عليها ولا قرينة، ولا أثر فلا يلتفت إليها. والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود.

(3/129)


366- قوله: (فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا) فيه حجة لمن كره البول قائما إلا من عذر، فإنه يدل على أنه- صلى الله عليه وسلم - ما كان يبول قائما بل كان هديه في البول القعود، والجواب عنه أن في سند حديث عائشة هذا، شريك بن عبدالله النخعي، وهو صدوق يخطئ كثيرا تغير حفظه منذ ولي قضاء الكوفة، قال الشيخ ولي الدين: هو متكلم فيه بسوء الحفظ، وعلى تقدير صحته فحديث حذيفة أصح منه بلا تردد أو تكافأ في الصحة. والجواب عنه أنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة. وقيل: معنى حديث عائشة هذا أي من حدثكم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعتاد البول قائما فلا تصدقوه، ما كان يعتاد البول إلا قاعدا. فلا ينافي حديث حذيفة؛ لأن ما وقع منه قائما كان نادرا لبيان الجواز، والمعتاد الغالب خلافه. (رواه أحمد والترمذي) وقال: حديث عائشة أحسن شيء في هذا الباب وأصح-انتهى. وقد تقدم أن في سنده شريكا القاضي وهو متكلم فيه بسوء الحفظ، قال الحافظ: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن البول قائما شيء، كما بينته في أوائل شرح الترمذي-انتهى. فمعنى قول الترمذي هذا: أن حديث عائشة أقل ضعفا، وأرجح مما ورد في هذا الباب. (والنسائي) وأخرجه أيضا ابن ماجه والحاكم وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين، قال ابن القطان: لا يقال فيه: أنه صحيح. وتساهل الحاكم في التصحيح معروف، وكيف يكون على شرط الشيخين مع أن البخاري لم يخرج لشريك بالكلية، ومسلم خرج له استشهادا لا احتجاجا. ثم رأيت عند الطبعة الثانية "الأحاديث الصحيحة" للشيخ الألباني، وقد حكم هو بصحة هذا الحديث لمتابعة سفيان الثوري شريك بن عبدالله بن المقدام بن شريح عند أحمد (ج6: ص136، 192، 213) وأبي عوانة في صحيحه (ج1: ص198) (والحاكم (ج1: ص181) والبيهقي (ج1: ص101) وقد وافق الذهبي للحاكم

(3/130)


في تصحيحه، وقال في المهذب (1/22/2): "سنده صحيح"، والأمر كما قال الألباني.
367- قوله: (وعن زيد بن حارثة) بن شراحيل الكلبي حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومولاه، يكنى أبا أسامة، وأمه سعدي بنت ثعلبة من بنى معن، خرجت أمه تزور قومها فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية على أبيات من بني
فعلمه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء، أخذ غرفة من الماء، فنضح بها فرجه)) رواه أحمد والدارقطني.
368- (34) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((جاءني جبرئيل، فقال: يا محمد إذا توضأت فانتضح))

(3/131)


معن رهط أم زيد، فاحتملوا زيدا وهو يومئذ غلام يقال: له ثمان سنين فوافوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربع مائة درهم، فلما تزوجها وهبته له فقبضه، ثم إن خبره اتصل بأهله فحضر أبوه حارثة وعمه كعب في فدائه فخيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بين نفسه والمقام عنده، وبين أهله والرجوع، فاختار النبي - صلى الله عليه وسلم - لما يرى من بره وإحسانه إليه، فحينئذ خرج به النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحجر فقال: يا من حضر! أشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه، فصار يدعى زيد بن محمد إلى أن جاء الله بالإسلام، ونزل ?ادعوهم لآبائهم، هو أقسط عند الله? [33: 5) فقيل له: زيد بن حارثة. وهو أول من أسلم من الذكور بعد علي بن أبي طالب. وكان النبي أكبر منه بعشر سنين، وقيل بعشرين سنة. وزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولاته أم أيمن فولدت له أسامة، ثم تزوج زينب بنت جحش، ولم يسم الله تعالى في القرآن أحدا من الصحابة غيره في قوله: ?فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها? [33: 37] قال أسامة بن زيد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي: أنت مني وإلي وأحب القوم إلي. استشهد في غزوة موتة وهو أمير الجيش في جمادى الأولى سنة (8) وهو ابن (55) سنة، ونعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في اليوم الذي قتل فيه وعيناه تذرفان. له أربعة أحاديث، روى عنه ابنه أسامة والبراء وابن عباس وغيرهم. (فعلمه الوضوء) فنزول سورة المائدة آخرا كان للتأكيد الحكم وتائيد الأمر. (فلما فرغ من الوضوء) هذا صريح في أن النضح بعد الوضوء، وأنه ليس المراد بالنضح غسل الفرج كما قيل. (أخذ غرفة) بالفتح والضم. (فنضح بها فرجه) أي إزاره حذاء فرجه، وذلك لتعليم الأمة ما يدفع الوسوسة، أو لقطع البول، فإن النضح بالماء البارد يردع البول فلا ينزل منه شيء بعد شيء. (رواه أحمد والدارقطني) وكذا ابن ماجه، وفي سندهم جميعا ابن

(3/132)


لهيعة وفيه مقال مشهور، وأخرجه أحمد والدارقطني عن أسامة بن زيد بنحوه، وفيه رشدين بن سعد، وثقه هيثم بن خارجة، وأحمد في رواية، وضعفه آخرون.
368- قوله: (إذا توضأت) أي فرغت من الوضوء. (فانتضح) الانتضاح رش الماء على الثوب ونحوه، والمراد به أن يرش على فرجه بعد الوضوء ماء ليذهب عنه الوسواس الذي يعرض للإنسان أنه قد خرج من ذكره بلل، فإذا كان ذلك المكان بللا ذهب ذلك الوسواس، وفي معناه أقوال أخرى لا نتعرض لها؛ لأنها لا تناسب الأحاديث الواردة في
رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. وسمعت محمدا يعنى البخاري، يقول: الحسن بن علي الهاشمي الراوي منكر الحديث.
369- (35) وعن عائشة، قالت: ((بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام عمر خلفه بكوز من ماء، فقال: ما هذا ياعمر؟ فقال: ماء تتوضأ به. قال: ما أمرت كلما بلت أن أتوضأ، ولو فعلت لكانت سنة)) وراه أبوداود وابن ماجه.
هذا الباب. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا ابن ماجه وليس فيه ذكر جبريل. (الحسن بن علي الهاشمي الراوي) أي راوي هذا الحديث الذي تفرد به، وهو ضعيف جدا، ليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث عند الترمذي وابن ماجه. (منكر الحديث) هذا من ألفاظ الجرح وهو أشد من قولهم "ضعيف". وكان البخاري دقيق العبارة فيما يجرح به الرواة، وأقسى ما يقول في الراوي: "منكر الحديث". وقد نقل ابن القطان من البخاري قال: من قلت فيه "منكر الحديث" فلا تحل الرواية عنه. نقله الذهبي في الميزان، فالحديث ضعيف جدا/ لكن في الباب أحاديث عديدة يدل على أن له أصلا.

(3/133)


369- قوله: (بكوز من ماء) بضم الكاف، جمعه كيزان وأكواز، وهو ماله عروة من أواني الشرب، ومالا عروة له فهو كوب، وجمعه أكواب. (ما هذا) أي الكوز أي ما حملك على قيامك خلفي ولم جئتني بماء؟. (فقال ماء نتوضأ به) بعد البول الوضوء الشرعي، أو المراد به الوضوء اللغوي، وهو الاستنجاء بالماء وعليه بني الكلام أبوداود حيث أورده في باب الاستبراء، وابن ماجه فذكره في باب من بال ولم يمس ماء. (ما أمرت) أي وجوبا. (كلما بلت) بضم الباء. (أن أتوضأ) الوضوء الشرعي بعد البول، أو استنجى بالماء، وكان قد يترك ما هو أولى وأفضل تخفيفا على الأمة، وإبقاء وتيسيرا عليهم. (ولو فعلت لكانت) أي الفعلة. (سنة) قيل: معناه لو واظبت على غسل محل البول بالماء، أو على الوضوء بعد الحدث لكان طريقة واجبة لازمة لأمتي، فيمتنع عليهم الترخص باستعمال الحجر أو ترك المحافظة على الوضوء، فتأنيث ضمير كانت لتأنيث الخبر. ويحتمل أن يكون المعنى: لكانت فعلتي سنة مؤكدة، يعني أن المراد بالسنة هو المندوب المؤكد كما هو المشهور على ألسنة الفقهاء، إذ الوجوب بمجرد المواظبة محل النظر. قال المناوى: حمل الوضوء في الحديث على المعنى اللغوي مخالف للظاهر بلا ضرورة، والظاهر كما قاله ولي العراقي، حمله على الشرعي المعهود، فأراد عمر أن يتوضأ - صلى الله عليه وسلم - عقب الحدث، فتركه - صلى الله عليه وسلم - تخفيفا وبيانا للجواز. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد كلهم من رواية عبدالله بن يحيى التوأم، عن عبدالله بن أبي مليكة، عن أمه، عن عائشة. وعبدالله بن يحيى ضعيف، وذكره ابن حبان في الثقات، وأم ابن أبي مليكة قال الهيثمي (ج1: ص241): لم أر من ترجمها. ورواه أبويعلى، عن ابن أبي مليكة، عن أبيه، عن عائشة-انتهى. قلت أم عبدالله بن أبي مليكة هذه، ميمونة بنت وليد بن الحارث بن عامر بن نوفل

(3/134)


370-372- (36-38) وعن أبي أيوب، وجابر، وأنس، أن هذه الآية لما نزلت ?فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين?. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟ قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء. فقال: فهو ذاك، فعليكموه)) رواه ابن ماجه.
الأنصارية بنت أم ورقة ثقة، قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج12: ص454) : هي والدة عبدالله بن عبيدالله بن أبي مليكة روت عن عائشة، قالت: "بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام عمر خلفه بكوز من ماء" الحديث. وروى عنها ابنها، ذكرها ابن حبان في الثقات من التابعين، وأورد لها هذا الحديث، وقد ذكرها المزي في المبهمات في أواخر الكتاب؛ لأنها لم تسم في رواية أبي داود، وابن ماجه- انتهى.

(3/135)


370، 371، 372- قوله: (أن هذه الآية) أي الآية. (لما نزلت فيه رجال) ضمير "فيه" لمسجد قباء، والجملة بدل من الآية. (والله يحب المطهرين) أصله المتطهرين أبدلت التاء طاء وأدغمت. (يامعشر الأنصار) المراد بهم أهل قباء كما جاء صريحا في بعض الأحاديث، وتخصيص الأنصار بالخطاب يدل على أن غالب المهاجرين كانوا يكتفون في الإستنجاء على الأحجار. (في الطهور) بضم الطاء وكذا قوله "فما طهوركم" على الأفصح الأشهر. (فهو ذاك) أي ثناء الله عليكم أثر تطهركم البالغ، قاله الطيبي، والأظهر أن الإشارة إلى الاستنجاء فإنه أقرب مذكور ومخصوص بهم، وإلا فالوضوء والاغتسال كان المهاجرون يفعلونهما أيضا، ورواية الحاكم الآتية صريحة في ذلك. (فعليكموه) أي الزموا الاستنجاء بالماء، وفي رواية الحاكم: فقالوا: يا رسول الله، نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، فقال: فهل مع ذلك غيره، قالوا: لا، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء، قال: هو ذاك، وظاهر الحديث أنهم يكتفون بالماء عن الأحجار، وهو المعروف في طرق الحديث، وأما ما رواه البزار عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أهل قباء، فقال: إن الله يثني عليكم، فقالوا: "إنا نتبع الحجارة الماء" ففيه محمد بن عبدالعزيز وقد ضعفه البخاري والنسائي وغيرهما، وهو الذي أشار بجلد مالك، وفيه أيضا عبدالله بن شبيب وهو ضعيف، وقد روى الحاكم من حديث مجاهد عن ابن عباس أصل هذا الحديث، وليس فيه إلا ذكر الاستنجاء بالماء حسب. وحديث أبي أيوب هذا يدل على ثبوت الاستنجاء بالماء والثناء على فاعله لما فيه من كمال التطهير، قال العلماء: الاستنجاء بالماء أفضل من الحجارة، والجمع بينهما أفضل من الكل، قال الأمير اليماني: ولم نجد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع بينهما. (رواه ابن ماجه) وكذا الحاكم من طريق عتبة بن أبي حكيم، عن طلحة بن نافع أبي سفيان، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم

(3/136)


يخرجاه، وأقره الذهبي، لكن قال الحافظ في التلخيص (ص41):
373- (39) وعن سلمان، قال: ((قال بعض المشركين، وهو يستهزئ: إني لأرى صاحبكم يعملكم حتى الجزاءة. قلت أجل، أمرنا أن لا نستقبل القبلة، ولا نستنجي بأيماننا، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا عظم)) رواه مسلم وأحمد واللفظ له.
374- (40) وعن عبدالرحمن بن حسنة، قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إسناده ضعيف. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه الترمذي وأبوداود وابن ماجه بسند ضعيف. وعن عويم بن ساعدة، أخرجه أحمد وابن خزيمة والطبراني والحاكم. وعن ابن عباس، أخرجه الحاكم والطبراني. وعن محمد بن عبدالله بن سلام أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة وعبدلله بن سلام وخزيمة بن ثابت أخرج أحاديثهم الطبراني.

(3/137)


373- قوله: (وهو يستهزئ) أي بسلمان. (إني لأرى صاحبكم) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. (يعلمكم) يعني كل شيء. (حتى الخراءة) أي أدبها، وهي بكسر الخاء المعجمة والراء المهملة ممدودا، وقيل: بفتح الخاء مع المد، اسم لفعل الحدث أي التغوط، وقيل: التخلي والقعود عند الحاجة، وقيل: المراد هيئة القعود للحدث، لكن كون المراد هيئة القعود يقتضي أن يكون بكسر الخاء وسكون الراء وهمزة كجلسة لهيئة الجلوس، قيل: ولعله بالفتح مصدر وبالسكر اسم. قال عياض: وأما الحدث نفسه فبحذف التاء وبالمد مع كسر الخاء وفتحها. (أجل) بسكون اللام أي نعم. (أمرنا) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آداب قضاء الحاجة. (أن لا نستقبل القبلة) أي ولا نستدبرها كما مر. (ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار) أي بأقل من ثلاثة أحجار، هذا نص صريح في أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز. وإن وقع الإنقاء بدونها، قال الطيبي: جواب سلمان من باب أسلوب الحكيم؛ لأن المشرك لما استهزأ كان من حقه أن يهدد أو يسكت عن جوابه، لكنه رضي الله عنه لم يلتفت إلى استهزائه، وأخرج الجواب مخرج المرشد الذي يرشد السائل المجد، يعني ليس هذا مكان الاستهزاء، بل هو جد وحق، فالواجب عليك ترك العناد والرجوع إليه، قال السندهي: والأقرب أنه رد له بأن ما زعمه سببا للاستهزاء ليس بسبب يصرح المسلمون به عند الأعداء، وأيضا هو أمر يحسنه العقل عند معرفة تفصيله، فلا عبرة للاستهزاء به بسبب الإضافة إلى أمر يستقبح ذكره في الإجمال، والجواب بالرد لا يسمى باسم أسلوب الحكيم. (ليس فيها رجيع ولا عظم) هذه الجملة صفة مؤكدة لأحجار مزيلة لتوهم أنها مجاز أو واردة على سبيل التغليب. (رواه مسلم وأحمد) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

(3/138)


374- قوله: (وعن عبدالرحمن بن حسنة) بفتح المهملتين ثم نون، هو عبدالرحمن بن المطاع بن عبدالله بن الغطريف أخو شرجيل بن حسنة، وحسنة أمها، صحابي، له هذا الحديث فقط، روى عنه زيد بن وهب، وذكر مسلم والأزدي، والحاكم في المستدرك، وأبوصالح المؤذن، وابن عبدالبر: أنه تفرد بالرواية عنه، وأنكر العسكري تبعا لابن
وفي يده الدرقة فوضعها، ثم جلس فبال إليها. فقال بعضهم: أنظروا إليه يبول كما تبول المرأة. فسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ويحك أما علمت ما أصاب صاحب بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم البول قرضوه بالمقاريض، فنهاهم فعذب في قبره))

(3/139)


أبي خيثمة أن يكون عبدالرحمن أخا شرجيل، وقال الترمذي لما أشار إلى حديثه: يقال إنه أخو شرجيل (وفي يده الدرقة) بالفتحات الترس من جلود ليس فيه خشب ولا عصب. (فوضعها ثم جلس فبال إليها) أي جعل الدرقة حائلة بينه وبين الناس وبال مستقبلا إليها. (فقال بعضهم: انظروا إليه) وفي رواية الأحمد قال أي عبدالرحمن بن حسنة: كنت أنا وعمرو بن العاص جالسين، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه درقة أو شبهها فاستتر بها فبال جالسا قال: فقلنا: أيبول، الخ. وفي رواية الحاكم فقلت لصاحبي: ألا ترى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يبول؟ وهذه الرواية تدل على أن القائل كان مؤمنا إلا أنه قال ذلك تعجبا لما رآه مخالفا لما عليه عادتهم في الجاهلية، وكانوا قريبي العهد بها. (كما تبول المرأة) أي في التستر، وعليه حمل النووي فقال: إنهم كرهوا ذلك، وزعموا أن شهامة الرجل لا تقتضي التستر على هذا الحال على ما كانوا عليه في الجاهلية، وقيل في الجلوس أو فيهما، وكان شأن العرب البول قائما. ويؤيد الثاني رواية البغوي في معجمه: فقال بعضنا لبعض: يبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تبول المرأة وهو قاعد. وفي معجم الطبراني: يبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس كما تبول المرأة. (ويحلك) كلمة تقال لمن ينكر عليه فعله مع ترفق وترحم في حال الشفقة. (أما علمت ما أصاب) ما الأولى نافية دخلت عليه همزة الاستفهام للإنكار والثانية موصولة، والمراد به العذاب (صاحب بني إسرائيل) بالنصب وقيل بالرفع، أي من العذاب لنهيه عن المعروف وهو الإحتراز من البول، والتنزه عنه بقطع موضعه، ومقصوده - صلى الله عليه وسلم - بذكر صاحب بني إسرائيل لهم بيان سبب القعود في حالة البول، كأنه قال: بلت جالسا لا قائما لئلا يصيبني شيء من البول، فاستنزهت من البول بهذا الوضع الخاص، وفي تعريضك منع عن الاستنزاه كمنع صاحب بني إسرائيل. (كانوا) أي

(3/140)


بنو إسرائيل. (قرضوه) أي قطعوه، وكان هذا القطع مأمورا به في دينهم. (بالمقاريض) وفي رواية أبي داود: قطعوا ما أصابه البول منهم. يعني قطعوا الموضع الذي أصابه البول من ثيابهم، ففي حديث أبي موسى عند البخاري "كان إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه"، ووقع في مسلم "جلد أحدهم" قال القرطبي: المراد بالجلد واحد الجلود التي كانوا يلبسونها. وحمله بعضهم على ظاهره، وزعم أنه من الإصر الذي حملوه، ويؤيده رواية أبي داود ففيها "كان إذا أصاب جسد أحدهم" لكن رواية البخاري صريحة في الثياب، فلعل بعضهم رواه بالمعنى، قاله الحافظ. (فنهاهم) أي صاحبهم عن القطع. (فعذب في قبره) بسبب مخالفة حكم شرعه، ونهيه عن العمل عليه وهو الاحتراز عن البول وقطع موضعه من الثوب. والمعنى تعجبك من فعلي بهذا التعريض فيه شبه إنكار وشائبة نهي عن المعروف، وهو الإستنزاه من البول
رواه أبوداود وابن ماجه.
375- (41) ورواه النسائي عنه عن أبي موسى.
376- (42) وعن مروان الأصفر، قال: ((رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبدالرحمن أليس قد نهى عن هذا؟ قال: بل إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس)) رواه أبوداود.
377- (43) وعن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال:
بالبول جالسا، أى فنهيك بهذا التعريض يشبه نهى صاحب بني إسرائيل فيخاف أن يؤدي إلى العذاب كما أدى نهيه إليه. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد، والنسائي، وابن حبان والحاكم، والبيهقي، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ومن شرط الشيخين إلى يبلغ تفرد زيد بن وهب بالرواية عن عبدالرحمن بن حسنة، قال الذهبي: رواه عدة عن الأعمش عن زيد بن وهب وهو على شرطهما.

(3/141)


375- قوله: (ورواه النسائي عنه) أي عن عبدالرحمن بن حسنة، وهو صحابي كما تقدم. (عن أبي موسى) فيكون رواية الصحابي عن الصحابي، لكن لم أجده في السنن الصغرى، ولعله في السنن الكبرى.
376- قوله: (وعن مروان الأصفر) بالفاء، قيل: اسم أبيه خاقان، وقيل: سالم، أبوخليفة البصري ثقة تابعي. (أناخ) أي أقعد (راحلته) الراحلة المركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى. (يبول إليها) أي الراحلة. (أليس قد نهي عن هذا) أي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة. (قال بل) للإضراب أي لا مطلقا. (إنما نهي عن ذلك في الفضاء) بفتح الفاء أي الصحراء. (فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك) بضم التاء. (فلا بأس) قول ابن عمر هذا يدل على أن النهي عن الاستقبال والإستدبار إنما هو في الصحراء مع عدم الساترة، واستدل به من فرق بين الصحراء والبنيان، وأجاب من قال بالمنع مطلقا بأن قول ابن عمر هذا يحتمل أنه قد علم ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أنه قال ذلك استنادا إلى الفعل الذي شاهده ورواه، فكأنه لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت حفصة مستدبر القبلة فهم اختصاص النهي بالبنيان، فلا يكون هذا الفهم حجة، ولا يصلح هذا القول للاستدلال به، وأقل شيء الإحتمال فلا ينتهض لإفادة المطلوب. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وذكره الحافظ في التلخيص، ولم يتكلم عليه بشيء، وذكر في الفتح أنه أخرجه أبوداود والحاكم بإسناد حسن.
377- قوله: (إذا خرج من الخلاء) أي أو انتقل عن محل قضاء الحاجة الذي في الصحراء وإن لم يكن معدا فإنه
الحمد لله الذي أذهب عنى الأذى وعافاني)) رواه ابن ماجه.
378- (44) وعن ابن مسعود، قال: ((لما قدم وفد الجن على النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله! إنه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة، فإن الله جعل لنافيها رزقا. فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك)) رواه أبوداود.
(3) باب السواك

(3/142)


?الفصل الأول?
يسن قول ذلك مطلقا. (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى) أي لمؤذي. (وعافاني) أي من احتباسه، أو من نزول الأمعة معه. وفي حمده - صلى الله عليه وسلم - إشعار بأن هذه نعمة جليلة ومنة جزيلة، فإن انحباس ذلك الخارج من أسباب الهلاك، فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة بدونها. وحق على من أكل ما يشتهيه من طيبات الأطعمة، فسد به جوعته، وحفظ به صحته وقوته، ثم لما قضى منه وطره، ولم يبق فيه نفع واستحال إلى تلك الصفة الخبيثة المنتنة، خرج بسهولة من مخرج معد لذلك، أن يستكثر من محامد الله جل جلاله. (رواه ابن ماجه) وفيه إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف الحديث، وأخرجه النسائي، وعبدالرزاق وسعيد بن منصور في سننه عن أبي ذر، ورمز السيوطي بصحته.
378- قوله: (إنه) بسكون النون وفتح الهاء أمر من نهى ينهى. (أو حممة) بضم الحاء وفتح الميم على وزن رطبه، الفحم وما احترق من الخشب أو العظام ونحوهما. (فإن الله جعل لنا) أي ولدوابنا. (فيها رزقا) قال القاري: قوله رزقا للجن أي انتفاعا لهم بالطبخ والدفاء والإضاءة. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وقال المنذري: في إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال مشهور-انتهى. قلت: إسماعيل بن عياش هذا حمصي، وهو صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم، وقد روي هذا الحديث عن يحيى بن أبي عمر والسيباني الحمصي فالحديث حسن صالح للاحتجاج على النهي عن الإستنجاء بالحممة.

(3/143)


(باب السواك) بكسر السين يطلق على الفعل، وعلى العود الذي يستاك به، والمراد هنا الأول وهو الظاهر، أو الثاني، والمراد استعماله على حذف المضاف، وقال الجزري: السواك والمسواك ما يدلك به أسنان من العيدان، يقال: ساك فاه يسوكه إذا دلكه بالسواك، فإذا لم يذكر الفم، يقال: إستاك-انتهى. قال القاري: في إفراد هذا الباب من سنن الوضوء إيماء إلى أن السواك ليس من أجزاء الوضوء المتصل به، وإشارة إلى جواز تقديم السواك على الوضوء، وأنه ليس يتعين أن يكون محله قبل المضمضة-انتهى. وينبغي أن يكون السواك من الأراك لحديث أبي الخيرة الصباحي

(3/144)


قال: كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزودنا الأراك نستاك به، فقلنا: يارسول الله! عندنا الجريد، ولكن نقبل كرامتك وعطيتك. وفي لفظ "ثم أمر لنا بأراك فقال: إستاكوا بهذا" أخرجه البخاري في تاريخه، والطبراني في الكبير، وأبوأحمد الحاكم في الكنى، وأبونعيم في المعرفة، ذكره الحافظ في التلخيص (ص26) وسكت عنه. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص100) : إسناده حسن. ولحديث ابن مسعود، قال كنت اجتني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواكا من أراك. أخرجه أبويعلى في مسنده، وابن حبان، والطبراني، وصححه الضياء في أحكامه، وأخرجه أحمد موقوفا على ابن مسعود: أنه كان يحتني سواكا من أراك-الحديث. ولم يقل فيه: أنه كان يجتنيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ولحديث أبي زيد الغافقي رفعه: الأسوكة ثلاثة: أراك فإن لم يكن أراك، فعنم أو بطم. قال راويه: العنم الزيتون. أخرجه أبونعيم في معرفة الصحابة. فإن تعذر الأراك فقيل: الأفضل الزيتون، لحديث أبي زيد الغافقي، ولحديث معاذ بن جبل رفعه: نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة، تطيب الفم، وتذهب بالحفر، وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي. أخرجه أبونعيم في كتاب السواك، والطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: فيه معلل بن محمد، ولم أجد من ذكره، وقيل: الأفضل عند عدم الأراك جريدة النخل لحديث عائشة في قصة سواك عبدالرحمن بن أبي بكر أنه كان جريدة رطبة، ووقع في مستدرك الحاكم: أنه كان من أراك رطب، فالله أعلم، فإن تعذرت إستاك بما تيسر مما يزيل التغير والصفرة، فإن تعذر، أو كان مقلوع الأسنان أجزأ السواك بالإصابع، لما روى في ذلك من حديث أنس عند ابن عدي والدارقطني والبيهقي، وفي إسناده نظر، ومن حديث عائشة عند أبي نعيم والطبراني وابن عدى، وفيه المثنى بن الصباح، وهو ضعيف اختلط بآخره ومن حديث كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده عند أبي نعيم، والطبراني في الأوسط،

(3/145)


وكثير ضعفوه. ومن حديث علي عند أحمد في مسنده، وهو أصح مما تقدم: أنه دعا بكوز من ماء فغسل وجه وكفيه ثلاثا، وتمضمض فأدخل بعض أصابعه في فيه-الحديث. وفي آخره "هذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ومن حديث عائشة أيضا عند الطبراني في الأوسط قالت: قلت: يارسول الله! الرجل يذهب فوه يستاك؟ قال: نعم! قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل إصبعه في فيه فيدلكه، وفيه عيسى بن عبدالله الأنصاري وهو ضعيف. وأما الأبراش التي تعمل في معامل أوروبا أو غيرها لتصفية الأسنان وتنقيتها فالاحتراز منها أولى وأحوط عندي، فإن أكثرها كما قيل تصنع من أشعار الخنازير إلا أن يعلم أنها عملت من غيرها مما يؤكل لحمه. وينبغي أن يستاك على الأسنان عرضا لئلا يدمى لحم لسانه، وفيه حديث مرفوع رواه أبوداود في مراسيله من طريق عطاء بلفظ: إذا استكتم فاستاكوا عرضا. وروى البغوي والعقيلي والطبراني والبيهقي وغيرهم من حديث سعيد بن المسيب عن بهز قال "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك عرضا" الحديث. وفي إسناده ثبيت بن كثير، وهو ضعيف، واليمان بن عدى، وهو أضعف منه، وأما اللسان فيستاك طولا كما في حديث أبي موسى عند الشيخين، ولفظ أحمد "وطرف السواك على لسانه يستن إلى فوق" قال الراوي: كأنه يستن طولا.
379- (1) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء، وبالسواك عند كل صلاة))

(3/146)


379- قوله: (لولا أن أشق على أمتي) أي لولا خشية المشقة عليهم. (لأمرتهم) أي أمر إيجاب وإلا فالندب ثابت، وفيه دلالة على أن مطلق الأمر للإيجاب. (بتأخير العشاء) أي إلى ثلث الليل أو نصف الليل. (وبالسواك) أي باستعماله إن كان المراد به الآلة، وإن كان المراد به الفعل فلا تقدير. (عند كل صلاة) فريضة أو نافلة، وهذا لفظ مسلم، وكذا وقع عند الترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه، ووقع في رواية البخاري في الجمعة "مع كل صلاة"، وحقيقة كلمة مع وعند فيما اتصل حسا أو عرفا فيدل على كون السواك سنة عند الصلاة أيضا خلافا لمن لم يجعله من سنن الصلاة نفسها، فربما يفضي إلى حرج. ورد هذه السنة الصحيحة الصريحة بتعليلات واهية منها أنه مظنة جراحة اللثة وخروج الدم، وهو ناقض عند الحنفية، فربما يفضي إلى حرج. وفيه أن هذا تعليل في مقابلة النص فلا يلتفت إليه، على أنه مبنى على كون خروج الدم من غير السبيلين ناقضا للوضوء، ولم يثبت ذلك كما تقدم، ولو سلم فمن يخاف ذلك فليستعمل بالرفق على نفس الأسنان واللسان دون اللثة، ومنها أنه لا ينبغي عمله في المساجد؛ لأنه من إزالة المستقذرات. وفيه أن هذا التعليل أيضا مردود. قال الشيخ محمد طاهر الفتني الحنفي في مجمع البحار (ج2: ص158): لأن الحديث دل على استحبابه لكل صلاة، فكيف بمن هو في الصف الأول ينتظر الصلاة، هل يخرج إذا أقيمت أو يترك الصلاة فيخالف الحديث، أو يستاك قبل الدخول فلا يكون استاك عند الصلاة، وقوله "من المستقذرات" معارض بأنه عبادة، والمفروض فيما إذا لم يحصل بصاق ولا تفل، انتهى. وقال العلامة العظيم آبادي في غاية المقصود: ولا نسلم أنه من إزالة المستقذرات، كيف وقد كان زيد بن خالد الجهني يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب لا يقوم إلى الصلاة إلا استن، ثم رده إلى موضعه؟. (وسيأتي هذا الحديث) وروى الخطيب في كتاب أسماء من روى عن مالك من طريق يحيى

(3/147)


بن ثابت، عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سوكهم على آذانهم يستنون بها لك صلاة. وروى ابن أبي شيبة عن صالح بن كيسان: أن عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله كانوا يروحون والسواك على آذانهم. ومنها أنه لم يرو أنه عليه الصلاة والسلام استاك عند قيامه إلى الصلاة، فيحمل قوله "لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" على كل وضوء صلاة، بدليل ما في بعض الروايات من قوله: عند كل وضوء، وفيه أنه من البعيد كل البعد أن يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمة بالسواك عند الصلاة، ويؤكده عليهم، ولا يفعل ذلك هو بل يترك، مع أنه ثبت عمله بذلك، فقد روى الطبراني في الكبير عن زيد بن خالد الجهني، قال: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من بيته لشيء من الصلوات حتى يستاك، قال الهيثمي: رجاله موثقون، انتهى. ومن المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يخرج بعد سماع الأذان إلا عند إقامة الصلاة، فكان استياكه في البيت عند قيامه إلى الصلاة، وليس بين الروايتين تعارض حتى تحمل رواية الصلاة على الوضوء، بل يقال:
متفق عليه.
380- (2) وعن شريح بن هانئ، قال: ((سألت عائشة: بأي شيء كان يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك)) رواه مسلم.

(3/148)


إن كلا منهما سنة. قال القاري: قال بعض علمائنا من الصوفية في نصائحه العبادية: ومنها مداومة السواك لا سيما عند الصلاة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة، أو عند كل صلاة. رواه الشيخان. وروى أحمد: أنه عليه السلام قال: صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك، والباء للإلصاق أو المصاحبة، وحقيقتهما فيما اتصل حسا أو عرفا، وكذا حقيقة كلمة "مع" و"عند". والنصوص محمولة على ظواهرها إذا أمكن، وقد أمكن ههنا فلا مساغ إذا على الحمل على المجاز، أو تقدير مضاف، كيف وقد ذكر السواك عند نفس الصلاة في بعض كتب الفروع المعتبرة. قال في التتارخانية نقلا عن التتمة: ويستحب السواك عندنا عند كل صلاة، ووضوء، وكل شيء يغير الفم، وعند اليقظة-انتهى. وقال الفاضل المحقق ابن الهمام في شرح الهداية: ويستحب في خمسة مواضع: اصفرار السن، وتغير الرائحة، والقيام من النوم، والقيام إلى الصلاة وعند الوضوء –انتهى. والسر في كون السواك سنة عند القيام إلى الصلاة أنها حال تقرب إلى الله، فاقتضى أن يكون حال كمال ونظافة إظهارا لشرف العبادة، وقد ورد من حديث علي عند البزار بسند رجاله ثقات، ما يدل على أنه لأمر يتعلق بالملك الذي يستمع القرآن من المصلي، فلايزال يدنو منه حتى يضع فاه على فيه فيتأذى بالرائحة الكريهة، فسن السواك لأجل ذلك. وقيل: لأنه يقطع البلغم، ويزيد في الفصاحة، وتقطيع البلغم مناسب للقراءة لئلا يطرأ عليه فيمنعه القراءة وكذا الفصاحة. (متفق عليه) فيه أن الشيخين أخرجا فضل السواك فقط، نعم أخرج الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه الفضلين، قال ابن مندة: إسناد الحديث مجمع على صحته.

(3/149)


380- قوله: (وعن شريح) بضم الشين المعجمة. (بن هانئ) بالهمزة، هو شريح بن هانئ بن يزيد الحارثي المذحجي أبوالمقدام الكوفي، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، وكان من أصحاب علي، وشهد معه المشاهد، وكان ثقة، وله أحاديث ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وذكر مسلم في المخضرمين، وكان على شرطة علي رضي الله عنه، قتل بسجستنان مع عبيدالله بن أبي بكرة. سنة (78). (بالسواك) أي يبدأ به وفيه بيان فضيلة السواك في جميع الأوقات، وشدة الإهتمام به وتكراره لعدم تقييده بوقت الصلاة والوضوء؛ لأن دخول البيت لا يختص بوقت دون وقت فكذا السواك، ولعله إذا انقطع عن الناس يستعد للوحي، وقيل: كان ذلك لاشتغاله بالصلاة النافلة في البيت، وقيل: لأنه ربما يتغير رائحة الفم بمحادثة الناس فمن حسن معاشرة الأهل إزالته. (رواه مسلم) وأخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
381- (3) وعن حذيفة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قام للتهجد من الليل يشوص فاه بالسواك)) متفق عليه.
382- (4) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط،
381- قوله: (إذا قام للتهجد من الليل يشوص فاه) بضم المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة، أي يدلك أسنانه وينقيها وينظفها. (بالسواك)؛ لأن النوم مقتض لتغير الفم لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة، والسواك ينظفه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وفي صلاة الجمعة، وفي صلاة الليل، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

(3/150)


382- قوله: (عشر) مبتدأ بتقدير عشرة خصال، أو عشرة أفعال أو خصال عشرة، أو أفعال عشرة، وقوله "من الفطرة" خبر له، أو صفة ما بعده خبر. ورواية الخمس لا تنفي الزيادة إذ لا مفهوم للعدد. (من الفطرة) بكسر الفاء بمعنى الخلقة، والمراد ههنا السنة أي من السنن القديمة التي اختارها الله تعالى للأنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم فكأنها أمر جبلي فطروا عليه. (وقص الشارب) أي إحفاءه حتى بيد وحمرة الشفة العليا، لقوله: أحفوا الشوارب في حديث ابن عمر عند الشيخين، والإحفاء هو الإستيصال. وقيل: هو مخير بين الإحفاء والقص أي القطع. والشارب هو الشعر النابت على الشفة العليا. (وإعفاء اللحية) أي توفيرها وتكثيرها وإرسالها. وأما الأخذ من طولها أو عرضها شيئا للتناسب، ولئلا يصل إلى حد الشهرة فقد جوزه بعض السلف. واللحية شعر الخدين والذقن. وسيأتي الكلام مفصلا في قص الشارب وإحفاء اللحية، والختان في باب الترجل إن شاءالله تعالى. (واستنشاق الماء) أي مع الاستنثار، وهو يحتمل حمله على ما ورد فيه الشرع باستحبابه من الوضوء والاستيقاظ وعلى مطلقه، وعلى حال الاحتياج باجتماع الأوساخ في الأنف، وكذا السواك يحتمل كلا منهما كذا في المجمع. (وقص الأظفار) جمع ظفر، والمراد قطع ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظفر؛ لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة. (وغسل البراجم) بفتح الباء وكسر الجيم جمع "برجمة" بضم الباء والجيم. وهي عقد الأصابع ومعاطفها ومفاصلها. ونبه بها على ما عداها من المواضع التي يجتمع فيها الوسخ فينظف كلها. (ونتف الابط) بالسكون وبكسر أي أخذ شعره بالأصابع؛ لأنه يضعف الشعر، وهل يكفي الحلق والنوير في السنة؟ فيه اختلاف، فمن نظر إلى المعنى وهو النظافة أجازه بكل مزيل، وقال: يكفي الحلق والتنوير، ويتأدى أصل السنة بذلك، لاسيما من يؤلمه النتف، ومن نظر إلى اللفظ وقف مع النتف

(3/151)


وهو في الابتداء موجع، ولكن يسهل على من اعتاده. والحكمة في تخصيص الإبط
وحلق العانة، وانتقاض الماء- يعني الاستنجاء- قال الراوي: ونست العاشرة إلا أن تكون المضمضة)) وراه مسلم. وفي رواية "الختان" بدل "إعفاء اللحية". لم أجد هذه الرواية في الصحيحين، ولا في كتاب الحميدي.
بالنتف أنه محل الرائحة الكريهة باحتباس الأبخرة عند المسام، والنتف يضعف أصول الشعر، والحلق يقويها، وقد جوز الحلق لمن لا يقدر على النتف. (وحلق العانة) هو الشعر الذي فوق القبل من ذكر أو أنثى، أو منبته، وقيل: هو الشعر النابت حول حلقة الدبر، فتحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وما حولهما، وقيل يستحب للمرأة النتف. وروى ابن ماجه عن أم سلمة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا طلى بدأ بعورته، فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله، رجاله ثقات، وهو منقطع، حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من أم سلمة، قاله أبوزرعة. (واتقاص الماء) بالقاف والصاد المهملة على المشهور. (يعني الاستنجاء) بالماء، هذا التفسير من وكيع، أحد رواة الحديث كما بينه قتيبة في رواية مسلم، وقيل: معناه انتقاص البول بالماء، وهو أن يغسل ذكره بالماء ليرتد البول بردع الماء، ولو لم يغسل نزل منه شيء فشيء فيعسر الاستبراء منه، فالماء على تفسير وكيع المستنجى به، وعلى القول الثاني البول، فالمصدر مضاف إلى المفعول، وإن أريد به الماء المستنجى به أي المغسول به فالإضافة إلى الفاعل، أي وانتقاص الماء البول، وانتقص لازم ومتعد. وقيل: معناه انتفاض الماء بالفاء والضاد المعجمة والمهملة أيضا، وهو الانتضاح بالماء على الذكر بعد الوضوء لنفي الوسواس، وهذا أقرب؛ لأن في حديث عمار عند أبي داود وابن ماجه بدله "والانتضاح". (قال الراوي) هو مصعب بن شيبة. (إلا أن تكون المضمضة) قال ابن الملك: لأن المضمضة والاستنشاق يذكران معا، وهو استثناء مفرغ، قال ابن حجر ضمن "نسي" معنى النفي؛ لأن الترك

(3/152)


موجود في ضمن كل، أي لم أنذكر فيما أظن شيئا يتم الخصال به عشر، إلا أن يكون مضمضة، انتهى. وقال السندهي: أي نسيت العاشرة كل وقت إلا وقت كونها المضمضة، أو على كل تقدير إلا على تقدير أن تكون المضمضة، يريد أنه يظن أن العاشرة هي المضمضة، فإن كانت هي المضمضة في الواقع فهو غير ناس للعاشر، وإلا فهو ناس لها، فهذا استثناء مفرغ من أعم الأوقات أو التقديرات كما قدرنا، انتهى. قال عياض: هذا شك من مصعب فيها، ولعلها الختان المذكور مع الخمس في حديث أبي هريرة، أي الآتي في الترجل، وتبعه النووي والقرطبي. (رواه مسلم) في الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في الأدب وحسنه، وأبوداود في الطهارة والنسائي في الزينة، وابن ماجه في الطهارة، وفي سندهم جميعا مصعب بن شيبة، قال الحافظ: وثقه ابن معين، والعجلي، وغيرهما، ولينه أحمد وأبوحاتم وغيرهما، فحديثه حسن، وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره، فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ انتهى. (وفي رواية الختان) هو قطع الجلدة التي تغطي الحشفة. (بدل) بالنصب. (إعفاء اللحية) برفع "إعفاء" على الحكاية، وقيل بالجر على الإضافة. (لم أجد هذه الرواية) أي رواية الختان التي ذكرها البغوي في المصابيح.
383- (5) ولكن ذكرها صاحب "الجامع، وكذا الخطابي في "معالم السنن" عن أبي داود برواية عمار بن ياسر.
?الفصل الثاني?
384- (6) عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب))

(3/153)


383- قوله: (ولكن ذكرها) أي هذه الرواية (صاحب الجامع) أي للأصول وهو ابن الأثير. (وكذا) أي ذكرها. (الخطابي في معالم السنن) الذي شرح به سنن أبي داود. (عن أبي داود) متعلق بذكرها المذكور. (برواية عمار ابن ياسر) أي لا برواية عائشة، كأنه اعتراض على البغوي حيث ذكر رواية الختان في الصحاح مع أنها ليست في الصحيحين، ولا في أحدهما، وهو مخالف لما وعد في أول كتابه. والجواب أن ذلك في مقاصد الباب والأصول، دون ما ذكر من اختلاف ألفاظ الحديث ونحوها مما يشمل الفائدة، ورواية عمار هذه أخرجها أيضا ابن ماجه، وصححها ابن السكن، وهي معلولة؛ لأنها إما مرسلة، أو منقطعة. وعمار بن ياسر، هو عمار بن ياسر بن مالك العنسي، أبواليقظان مولى بني مخزوم وحليفهم، وذلك أن ياسرا والد عمار قدم من اليمن مكة مع أخوين له يقال بهما : الحارث ومالك في طلب أخ لهم رابع، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فحالف أبا حذيفة بن المغيرة، فزوجه أبوحذيفة أمة له يقال لها: سمية فولدت له عمارا، فأعتقه أبوحذيفة، فعمار مولى وأبوه حليف، أسلم عمار وأبوه قديما، وكانا من المستضعفين الذين عذبوا بمكة ليرجعوا عن الإسلام. وقتل أبوجهل سمية، فهي أول شهيدة في الإسلام، وأحرق المشركون عمارا بالنار، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمر به فيمر يده عليه ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت على إبراهيم، وهو من المهاجرين الأولين، شهد بدرا والمشاهد كلها، وأبلى فيها، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الطيب المطيب. قتل بصفين وكان مع علي بن أبي طالب سنة (37) وهو ابن (93) سنة، ودفن هناك بصفين، وتواترت الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية، ومناقبه وفضائله كثيرة جدا، روي له اثنان وستون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث، روى عنه جماعة منهم علي وابن عباس.

(3/154)


384- قوله: (السواك مطهرة للفم) بفتح الميم وكسرها لغتان، والفتح أفصح، والكسر أشهر، وهو كل آلة يتطهر بها، والسواك بمعنى العود الذي يدلك به الأسنان، لاشك في كونه آلة لطهارة الفم بمعنى نظافته. (مرضاة للرب) بفتح ميم وسكون راء، والمراد أنه آلة لرضا الله تعالى، باعتبار أن استعماله سبب لذلك، وقيل: مطهرة ومرضاة بفتح ميم كل منهما مصدر بمعنى اسم الفاعل، أي مطهر للفم، ومرض للرب، أوهما باقيان على المصدرية أي سبب للطهارة والرضا. وجاز
رواه الشافعي وأحمد والدارمي والنسائي، ورواه البخاري في "صحيحه" بلا إسناد.
385- (7) وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع من سنن المرسلين، الحياء – ويروى الختان – والتعطر، والسواك، والنكاح)) رواه الترمذي.
أن يكون مرضاة بمعنى المفعول أي مرضى للرب. قال السندهي: والمناسب بهذا المعنى أن يراد بالسواك: استعمال العود لا نفس العود، إما على ما قيل: إن اسم السواك قد يستعمل بمعنى استعمال العود أيضا، أو على تقدير المضاف، ثم لا يخفى أن المصدر إذا كان بمعنى اسم الفاعل يكون بمعنى اسم الفاعل من ذلك المصدر لا من غيره، فينبغي أن يكون ههنا مطهرة ومرضاة بمعنى طاهر وراض لا بمعنى مطهر ومرض، ولا معنى لذلك فليتأمل، ثم المقصود من الحديث، الترغيب في استعمال السواك وهذا ظاهر. (رواه الشافعي) وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي، وقد طول الحافظ الكلام فيه في التلخيص (ص21) فارجع إليه. (ورواه البخاري في صحيحه) في كتاب الصيام. (بلا إسناد) أي تعليقا بصيغة جزم، فقال: وقالت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب" وتعليقات البخاري المجزومة صحيحة قاله المنذري، والصواب أن يقول المصنف: ذكره البخاري تعليقا، أو يقول: علقه البخاري فإنه لا يقال في مثل هذا "رواه البخاري تعليقا".

(3/155)


385- قوله: (أربع من سنن المرسلين) يعني من طريقتهم، والمراد الرسل من البشر، قال المناوى: والمراد أن الأربع من سنن غالب الرسل، فنوح لم يختتن، وعيسى لم يتزوج. (الحياء) بفتح المهملة بعدها تحتية، يعني به ما يقضي الحياء من الدين كستر العورة، والتنزه عما تأباه المروءة، ويذمه الشرع من الفواحش وغيرها، لا الحياء الجبلي نفسه، فإنه مشترك بين الناس، وإنه خلق غزيري لا يدخل في جملة السنن، قاله التوربشتي. (ويروى الختان) أي بخاء معجمة ومثناة فوقية. ونون، وهو من سنة الأنبياء من لدن إبراهيم عليه السلام إلى زمن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الرواية أنسب لحديث عمار المتقدم، وحديث أبي هريرة الآتي في الترجل، فإنه ذكر فيهما "الختان من خصال الفطرة". ويروى الحناء بمهملة ونون مشددة، وهذه الرواية غير صحيحة، ولعلها تصحيف؛ لأنه يحرم على الرجال خضاب اليد والرجل تشبها بالنساء، وأما خضاب الشعر به فلم يكن قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - فلا يصح إسناده إلى المرسلين. (والتعطر) أي استعمال العطر وهو الطيب في البدن والثياب. (رواه الترمذي) في أول النكاح وحسنه. قال شيخنا في شرح الترمذي: في تحسين الترمذي هذا الحديث نظر، فإنه تفرد به أبوالشمال بن ضباب، وهو مجهول، إلا أن يقال: إن الترمذي عرفه، ولم يكن عنده مجهولا، أو يقال: إنه حسنة لشواهده، فروى نحوه عن غير أبي أيوب، قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر حديث أبي أيوب هذا: رواه
386- (8) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ، إلا يتسوك قبل أن يتوضأ)) رواه أحمد وأبوداود.
387- (9) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك، فيعطيني السواك لأغسله فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله وأدفعه إليه)) رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
388- (10) عن ابن عمر: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أراني في المنام

(3/156)


أحمد والترمذي. ورواه ابن أبي خيثمة من حديث مليح بن عبدالله عن أبيه عن جده نحوه، ورواه الطبراني من حديث ابن عباس انتهى.
386- قوله: (لا يرقد) بضم القاف أي لا ينام. (من ليل) أي بعض ليل أو في الليل. (فيستيقظ) يجوز فيه الرفع للعطف، ويكون النفي منصبا عليهما معا، والنصب جوابا للنفي؛ لأن الاستيقاظ مسبوق بالنوم؛ لأنه مسبب عنه، قاله الطيبي. (إلا يتسوك)؛ لأن النوم يغير الفم فيتأكد السواك عند الاستيقاظ منه إزالة لذلك التغير. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، قال الترمذي: صدوق إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره، وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: وعلي ضعيف. وفي استحباب السواك عند الاستيقاظ من النوم أحاديث متعددة، ذكرها الحافظ في التلخيص مع الكلام عليها.
387- قوله: (لأغسله) للتليين، أو للتطيب والتنظيف. قال ابن حجر: يؤخذ منه أن غسل السواك في أثناء التسوك به وبعده قبل وضعه سنة. (فأبدأ به) أي باستعماله قبل الغسل لنيل البركة، ولا أرضى أن يذهب بالماء ما صحبه السواك من ماء أسنانه. (فأستاك) أي قبل الغسل أستاك به تبركا، وهذا دال على عظيم أدبها، وكبير فطنتها؛ لأنها لم تغسله ابتداء حتى لا يفوتها الاستشفاء بريقه، ثم غسلته تأدبا وامتثالا، وفيه التبرك بآثار الصالحين، والتلذذ بها. وفيه أن استعمال سواك الغير برضاه جائز. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري.

(3/157)


388- قوله: (أراني) بفتح الهمزة من الرؤية أي أرى نفسي، فالفاعل والمفعول للمتكلم، وهذا من خصائص أفعال القلوب، وأصله رأيت نفسي، وعدل إلى المضارع لحكاية الحال الماضية. (في المنام) هذا لفظ مسلم، وهو صريح في أن القضية كانت في المنام، وأخرجه أحمد والبيهقي بلفظ: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستن فأعطاه أكبر القوم، ثم قال: إن جبرئيل أمرني أن أكبر، وهذا يقتضي أن تكون القضية وقعت في اليقظة، ويشهد لرواية أحمد والبيهقي، وما رواه أبوداود بإسناد حسن عن عائشة أعني الذي ذكره المصنف بعد حديثين، ويجمع بين الروايتين أن ذلك لما وقع في اليقظة
أتسوك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي : كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما)) متفق عليه.
389-(11) وعن أبي أمامة، أن رسول الله قال: ((ما جاءني جبرئيل عليه السلام قط إلا أمرني بالسواك، لقد خشيت أن أحفي مقدم في)) رواه أحمد.
390-(12) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد أكثرت عليكم في السواك)) رواه البخاري.

(3/158)


أخبرهم - صلى الله عليه وسلم - بما رآه في المنام، تنبيها على أن أمره بذلك بوحي متقدم، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ بعض (أحدهما أكبر من الآخر) أي سنا. (فناولت السواك) أي أردت إعطاء السواك. (الأصغر منهما) لعله لقربه، أو لأنه - صلى الله عليه وسلم - عدا السواك شيئا حقيرا. (كبر) أي قدم الكبير على الصغير في مناولة السواك، أي ادفع إلى الأكبر، والظاهر أنهما كانا في أحد جانبيه، أو في يساره، قال القاري: وهو الأنسب، فأراد تقديم الأقرب، فأمر بتقديم الأكبر، فلا ينافي حديث ابن عباس أو الأعرابي في إيثاره بسؤره - صلى الله عليه وسلم - من اللبن لكونه على اليمين، على الأشياخ من أبي بكر، وعمر وغيرهما لكونهم على اليسار-انتهى. وفيه ما يدل على فضيلة السواك. (متفق عليه) أخرجه البخاري بلا رواية في آخر الوضوء، ولم يذكر في المنام، وأخرجه مسلم رواية في الرؤيا، وأخرجه أيضا أحمد وأبوعوانة والبيهقي وغيرهم.
389- قوله: (أحفي) من الإحفاء وهو الاستيصال. (مقدم في) بكسر الفاء وتشديد الياء، أي فمى، والمراد من مقدم الفم هي اللثة، بكسر اللام وتخفيف المثلثة، وما حول الأسنان من اللحم، يعني خفت أن استأصل لثتي من كثرة مداومتي على السواك بسبب إكثار جبرئيل في الوصية. (رواه أحمد) (ج5: ص263) وفي سنده علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف، أخرجه ابن ماجه مطولا، وفيه عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد الألهاني، وعثمان متروك، قال الحافظ في التقريب: ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني، وروي نحوه عن ابن عباس وأنس وسهل بن سعد وعائشة، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص98، 99) مع الكلام عليها.

(3/159)


390- قوله: (لقد أكثرت عليكم) بصيغة المعلوم، أي أكثرت عليكم الأمر والوصية في حق السواك. وقال الحافظ: أي بالغت في تكرير طلبه منكم، أو في إيراد الأخبار في الترغيب فيه. وقال ابن التين: معناه أكثرت عليكم، وحقيق أن أفعل، وحقيق أن تطيعوا. وحكى الكرماني أنه روى "أكثرت" بصيغة الماضي المجهول، أي بولغت من عندالله بطلبه منكم. (في السواك) أي في أمره وشأنه. وفائدة هذا الكلام مع كونهم عالمين به إظهار الاهتمام بشأنه. وقال السندهي: هذا بمنزلة التأكيد لما سبق من التكرير لمن علم به سابقا، وبمنزلة التكرير والتأكيد جميعا لمن لم يعلم به. (رواه البخاري) في الجمعة، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي في أول سننه.
391- (13) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستن وعنده رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فأوحي إليه في فضل السواك أن كبر، أعط السواك أكبرهما)) رواه أبوداود.
392- (14) وعنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تفضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعين ضعفا)) رواه البيهقي في شعب الايمان.
393- (15) وعن أبي سلمة:

(3/160)


391- قوله: (يستن) بفتح الياء وسكون المهملة وفتح التاء وتشديد النون من الاستنان، وهو استعمال السواك، من السن بالكسر؛ لأن السواك يمر على الأسنان، وقيل: من السن بالفتح؛ لأن السواك يسن الأسنان أي يحددها، يقال: سننت الحديد أي حككته على الحجر حتى يتحدد، والمسن بكسر الميم، الحجر الذي يحد به السكين. (أحدهما أكبر من الآخر) أي سنا. (فأوحي) بصيغة المجهول. (إليه) أي من غير أن يميل إلى الآخر، فيكون تأكيدا للوحي المنامي. (أن كبر) بصيغة الأمر نائب فاعل أوحي، أي أوحي إليه أن فضل السواك وحقه أن يقدم من هو أكبر، وفيه تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام، والشراب، والمشي، والكلام، والركوب، وهذا ما لم يترتب القوم في الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة حينئذ تقديم الأيمن، كما أشرنا إليه في شرح حديث ابن عمر. (أعط السواك أكبرهما) الظاهر أن هذا تفسير من أحد الرواة، ويحتمل أن يكون من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. (رواه أبوداود) بسند حسن كما قال الحافظ في الفتح والتلخيص. وقال المنذري: وأخرج مسلم معناه من حديث ابن عمر مسندا، وأخرجه البخاري تعليقا، انتهى. كأنه يشير إلى أن حديث عائشة هذا محمول على حال حكاية المنام، وأن القضية واحدة، وفيه نظر فتأمل.

(3/161)


392- قوله: (تفضل الصلاة) أي تزيد في الفضيلة وزيادة المثوبة. (سبعين) مفعول مطلق أو ظرف، أي تفضل مقدار سبعين وقوله. (ضعفا) بكسر الضاد تمييز أريد به مثل العدد المذكور، وهي كناية عن الكثرة، أو أريد به خصوص هذا العدد، والله تعالى أعلم. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضا أحمد (ج6: ص272)، والبزار، وأبويعلى، وابن خزيمة، والدارقطني، وابن عدي، وأبونعيم، ومداره عندهم على محمد بن إسحاق، ومعاوية بن يحيى الصدفي، كلاهما عن الزهري عن عروة. ورواه الحاكم (ج1: ص146) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم، كذا قال. ومحمد بن إسحاق إنما أخرج له مسلم في المتابعات، قال المنذري: وروى أبونعيم نحوه عن ابن عمر بإسناد جيد، وعن ابن عباس بإسناد صحيح-انتهى. وقد أطال الحافظ الكلام على حديث عائشة في التلخيص، وقال: رواه أبونعيم من حديث ابن عمر ومن حديث ابن عباس ومن حديث جابر، وأسانيده معلولة.
393- قوله: (وعن أبي سلمة) بفتح اللام، هو أبوسلمة بن عبدالرحمن بن عوف الزهري القرشي المدني، قيل:
عن زيد بن خالد الجهني، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل. قال: فكان زيد بن خالد يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم إلى الصلاة إلا استن، ثم رده إلى موضعه)) رواه الترمذي وأبوداود، إلا أنه لم يذكر. ((ولأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل)). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(3/162)


اسمه عبدالله وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه وكنيته واحد، قال ابن سعد: كان ثقة، فقيها، كثير الحديث. وقال المصنف: هو أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالفقه في المدينة في قول، ومن مشاهير التابعين وأعلامهم، وهو كثير الحديث ، روى عن خلق كثير من الصحابة والتابعين، وروى عنه خلائق. مات سنة (94) وقيل سنة (104) وهو ابن (74) سنة. (عن زيد بن خالد الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء نسبة إلى جهينة، وهو زيد بن خالد الجهني أبوعبد الرحمن ، ويقال: أبوطلحة المدني من مشاهير الصحابة. قال ابن عبدالبر: كان صاحب لواء جهينة يوم الفتح، له أحد وثمانون حديثا، اتفقا على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة، روى عنه ابنه خالد، وابن المسيب، وغيرهما. توفي بالكوفة سنة (68) أو (78) وهو ابن (85) سنة. (ولأخرت صلاة العشاء) أي حكمت بتأخيرها وجوبا. (قال) أي أبوسلمة (فكان زيد بن خالد يشهد الصلوات) أي الخمس (في المسجد) أي يحضرها للجماعة (وسواكه على أذنه) بضم الذال ويسكن والجملة حال (موضع القلم من أذن الكاتب) أي والحال أن سواكه كان موضوعا على أذنه موضع القلم الكائن من أذن الكاتب. (لا يقوم إلى الصلاة إلا استن) أي إستاك للصلاة أخذا بظاهر الحديث، قال القاري: قد انفرد زيد بن خالد به فلا يصلح حجة، أو إستاك لطهارتها، انتهى. قلت: فيه أنه لم يتفرد به زيد بن خالد، فقد تقدم عن أبي هريرة أنه قال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سوكهم على آذانهم ، يستنون بها لكل صلاة، وإن عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كانوا يروحون والسواك على آذانهم، ثم صنيع زيد بن خالد هذا يدل عليه ظاهر الحديث الذي رواه، وليس ينفيه شيء من الأحاديث المرفوعة، فكيف لا يكون حجة، وبهذا ظهر بطلان تأويل القارئ بقوله: إستاك لطهارتها. (ثم رده إلى موضعه) أي من الأذن. قال ابن حجر: وحكمته أن وضعه في ذلك المحل يسهل تناوله، ويذكر صاحبه به فيستاك من غير ذهول.

(3/163)


(رواه الترمذي وأبوداود) وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وأخرجه أيضا أحمد (ج4: ص116 وج5: ص193) وأخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة كما تقدم.
(4) باب سنن الوضوء
?الفصل الأول?
394- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده)).
(باب سنن الوضوء) لم يرد بالسنن، سنن الوضوء فقط، أي ما يقابل الفرض بل أراد بالسنن، أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله، أعم من أن تكون سنة أو فرضا، يقال: جاء في السنة كذا، أي في الحديث.

(3/164)


394- قوله (من نومه) هذا يدل على عموم الحكم عقب كل نوم ليلا أو نهارا، لكن جاء عند الترمذي، وأبي داود وابن ماجه من الليل، مكان قوله من نومه، والمطلق محمول على المقيد، فيدل على خصوصه بنوم الليل، ويؤيده قوله في آخر الحديث "باتت يده"، فإن حقيقة المبيت تكون بالليل، إلا أن التعليل المنصوص الآتي يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما نوم الليل بالذكر للغلبة، بل قيل: ليس حكم الغسل قبل الغمس في الإناء مخصوصا بالقيام من النوم، بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فإن الظاهر أن المقصود من الحديث إذا شك أحدكم في يديه مطلقا، سواء كان لأجل الاستيقاظ من النوم أو لأمر آخر، إلا أنه فرض الكلام في جزئي واقع بينهم على كثرة، ليكون بيان الحكم فيه بيانا في الكلى بدلالة العقل، فالتقييد بالاستيقاظ لأن توهم نجاسة اليد في الغالب يكون من المستيقظ، فلا مفهوم له (فلا يغمس) بتخفيف الميم من باب ضرب، هو المشهور، ويحتمل أن يكون بالتشديد من باب التفعيل (في الإناء) أي في الظرف الذي فيه الماء وغيره من المائعات، وخرج بذكر الإناء البرك والحياض التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها. (حتى يغسلها) إلى رسغها (ثلاثا) كذا في جميع طبعات الهند للمشكاة وفي النسخة القاري وسقط هذا اللفظ في نسخة الألباني طبعة دمشق وهو من إفراد مسلم (فإنه لا يدري أين باتت يده) يعني لا يدري تعيين الموضع الذي باتت، أي صارت يده منه، يعني هل لاقت مكانا طاهرا أو نجسا، وفيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بغسل اليد احتمال النجاسة؛ لأن الشرع إذا ذكر حكما وعقبه بعلة دل على أن ثبوت الحكم لأجلها. قال الشافعي وغيره من العلماء: سبب الحديث أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالحجارة، وبلادهم حارة، فإذا ناموا عرقوا فلا يومن أن تطوف يده على موضع النجاسة، أو على قذر غير ذلك، فعلم بهذا أن حكم الغسل للشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كره له غمسها

(3/165)


في الإناء قبل غسلها، سواء قام من نوم الليل أو النهار، أو شك في نجاستها من غير نوم. وقال التور بشتى: هذا في حق من بات مستنجيا بالأحجار معروريا، ومن بات على خلاف ذلك ففي أمره سعة ويستحب له أيضا غسلها؛ لأن السنة إذا وردت لمعنى لم تكن لتزول بزوال ذلك المعنى. وقال الباجي: الأظهر في سبب الحديث أن النائم لا يكاد أن يسلم من حك جسده، وموضع بثرة في بدنه، ومس رفغه وإبطه، وغير ذلك من
متفق عليه.
395- (2) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه))

(3/166)


مغابن جسده، ومواضع عرقه، فاستحب له غسل اليد تنظفا وتنزها، قال: وتعليقه بنوم الليل لا يدل على الاختصاص؛ لأن المستيقظ لا يمكنه التحرز من مس رفغه وإبطه، وفتل ما يخرج من أنفه، وقتل برغوث، وحك موضع عرق، فإذا كان المعنى الذي شرع له غسل اليد موجودا في المستيقظ لزمه ذلك الحكم، ولا يسقط عنه بأن الشرع علقه على النائم- انتهى مختصرا ملتقطا. وعلى هذا يكون الحكم عاما لكل متوضئ، ولا يختص بالنائم، وأما على ما قال الشافعي وغيره في سبب الحديث فيكون استحباب الغسل للمتوضئ المستيقظ من النوم خاصة، وهذا القدر يكفي لمناسبة الحديث بالباب. وأما من يريد الوضوء من غير نوم فيستحب له، لما سيأتي في صفة الوضوء من أفعاله- صلى الله عليه وسلم - . ثم النهي عن الغمس قبل الغسل للتنزيه، والأمر في رواية "فليغسل" للندب عند الجمهور، فلو خالف، وغمس قبل الغسل فقد أساء، ولا يفسد الماء والقرينة الصارفة التقييد بالثلاث في غير النجاسة العينية، فإنه يدل على ندبية الغسل، ولأنه علل بأمر يقتضي الشك في نجاسة اليدين، والوجوب لا يبني على الشك. وحمله أحمد على كراهة التحريم، وقال: بوجوب الغسل في نوم الليل، ولا يبعد من الشارع الإيجاب لرفع الشك، ومن قال: بأن الأمر بالغسل للتعبد كمالك، لا يفرق بين الشاك والمتيقن، والراجح عندي ما ذهب إليه الجمهور، والله أعلم. والحديث فيه مسائل كثيرة، منها استحباب غسل النجاسة ثلاثا؛ لأنه إذا أمر به في المتوهمة ففي المحققة أولى. ومنها استحباب الأخذ بالاحتياط في العبادات وغيرها ما لم يخرج عن حد الاحتياط إلى حد الوسوسة. (متفق عليه) واللفظ لمسلم وأخرجه أيضا مالك والشافعي وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وفي الباب عن ابن عمر وجابر عند الدارقطني وابن ماجه.

(3/167)


395- قوله (فتوضأ) أي أراد الوضوء وسقط هذا اللفظ من نسخة الألباني (فليستنثر) أي فليخرج ماء الاستنشاق والقذر اليابس المجتمع من المخاط، يعني فليستنثر بعد الاستنشاق، فإن الاستنثار هو إخراج الماء الذي جذبه بريح الأنف إلى أقصاه، فهو من تمام الاستنشاق، والأمر للندب عند الجمهور، وللوجوب عند الظاهرية. (فإن الشيطان) الفاء للسببية (يبيت على خيشومه) بفتح الخاء قيل: أعلى الأنف، وقيل: كله، وقيل: هو أقصى الأنف المتصل بالبطن المقدم من الدماغ، وقيل: غير ذلك. قال عياض وغيره: بيتوتة الشيطان إما حقيقية، فإن الأنف أحد المنافذ التي يتوصل منها إلى القلب، والمقصود من الاستنثار إزالة آثاره، وليس عليه ولا على الأذن غلق، وفي الحديث "إن الشيطان لا يفتح غلقا". وجاء الأمر بكظم الفم في التثاؤب من أجل دخول الشيطان في الفم. وإما مجاز، فإن ما ينعقد فيه من الغبار والرطوبة قذرات توافق الشيطان، فالمراد أن الخيشوم محل قذر يصلح لبيتوتة الشيطان، فينبغي للإنسان تنظيفه، والراجح أنه محمول على
متفق عليه.
396- (3) وقيل لعبدالله بن زيد بن عاصم: ((كيف كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنثر
الحقيقة، وموكول معرفته وعلمه إلى الشارع، فإن الله تعالى خص نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأسرار يقصر عن دركها العقول والأفهام. فالصواب في أمثال هذه الأحاديث أن يؤمن بظواهرها، ويحترز عن بيان كيفياتها، وظاهر الحديث يقتضي أن يحصل لكل نائم. ويحتمل أن يكون مخصوصا بمن لم يحترز من الشيطان بشيء من الذكر، كما في حديث آية الكرسي: (ولا يقربك شيطان) متفق عليه، أخرجه البخاري في بدء الخلق، ومسلم في الطهارة، واللفظ المذكور للبخاري، وأخرجه أيضا النسائي.

(3/168)


396- قوله (وقيل) القائل هو عمرو بن أبي الحسن الأنصاري، أخو عمارة بن أبي الحسن، جد عمرو بن يحيى بن عمارة، ففي رواية للبخاري من طريق وهيب، قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبدالله بن زيد، وفي رواية أبي نعيم في المستخرج عن عمرو بن أبي حسن قال: كنت كثير الوضوء، فقلت لعبدالله بن زيد" الحديث. فهاتان الروايتان صريحتان في أن القائل والسائل هو عمرو بن أبي الحسن. (لعبدالله بن زيد بن عاصم) بن كعب الأنصاري المازني المدني صحابي شهير، له هذا الحديث، وأحاديث أخرى، قيل: شارك وحشيا في قتل مسيلمة الكذاب. مختلف في شهوده بدرا، استشهد بالحرة، وكان في آخر ذي الحجة سنة (63) وهو ابن (70) سنة، وهو غير عبدالله بن زيد بن عبد ربه الذي أرى النداء في المنام، وليس لابن عبد ربه إلا حديث الأذان فقط. (فدعاء بوضوء) بفتح الواو ما يتوضأ به والباء للتعدية أي طلبه (فأفرغ) أي صب الماء (على يديه) بالتثنية أي إحدى يديه، وفي المصابيح : على يده اليمنى، وكذا في رواية النسائي، ويؤيد رواية الإفراد الإظهار في موضع الإضمار في قوله (فغسل يديه) أي إلى الرسغين، وفيه غسل اليد قبل إدخالها في الإناء ولو كان من غير نوم. (مرتين مرتين) وفي المصابيح بدون التكرار، قال ابن حجر: وجه الاحتياج إلى التكرير أن الاقتصار على الأول يوهم التوزيع- انتهى. قال الحافظ: كذا لمالك بلفظ مرتين، ووقع في رواية وهيب عند البخاري، وخالد عند مسلم، والدراوردي عند أبي نعيم بلفظ "ثلاثا". وهؤلاء حفاظ قد اجتمعوا، فروايتهم مقدمة على رواية الحافظ الواحد، ولم يحمل على وقعتين؛ لأن المخرج واحد، والأصل عدم التعدد-انتهى. وقال ابن حجر: اقتصر على مرتين في بعض الأحيان لبيان الجواز، وإلا فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - : أنه فعل الثلاث- انتهى. ثم غسلهما في أول الوضوء سنة باتفاق العلماء كما قاله النووي. قال الأمير اليماني: وليس هو غسلهما عند الاستيقاظ، أي الذي تقدم

(3/169)


حديثه، بل هذا سنة الوضوء، فلو استيقظ وأراد الوضوء فظاهر الحديثين أنه يغسلهما للاستيقاظ ثلاث مرات، ثم للوضوء كذلك، ويحتمل تداخلهما- انتهى. قلت هذا الأخير هو الراجح عندي (ثم مضمض) المضمضة لغة تحريك الماء في الفم (واستنثر) أي
ثلاثا، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يديه مرتين مرتين. إلى المرفقين،
استنشق الماء، ثم استخرج ذلك بنفس الأنف بإعانة اليد اليسرى، فلم يذكر الاستنشاق؛ لأن ذكر الاستنثار دليل عليه، فإنه لا يكون إلا بعد الاستنشاق. ثم إنهم اختلفوا في وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار، فذهب أحمد إلى وجوب الثلاثة في الوضوء، وغسل الجنابة، وهو الراجح، واستدل له بأدلة. منها مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها بالفعل في جميع وضوئه. ومنها حديث عائشة عند البيهقي بلفظ: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لابد منه. ومنها أنه من تمام غسل الوجه، فالأمر بغسله أمر بها، ولا موجب لتخصيصه بظاهره دون باطنه، فإن الجميع في لغة العرب يسمى وجها. ومنها حديث أبي هريرة المتفق عليه: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر. ومنها حديث سلمة بن قيس عند الترمذي والنسائي: بلفظ إذا توضأت فاتنثر. ومنها حديث لقيط بن صبرة الآتي في الفصل الثاني، وفيه "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما." وفي رواية من هذا الحديث "إذا توضأت فمضمض" أخرجها أبوداود وغيره. ومنها حديث أبي هريرة عند الدارقطني: بلفظ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمضمضة والاستنشاق. واستدل من قال: بالسنية في الوضوء بقوله عليه السلام للأعرابي "توضأ كما أمرك الله"، فأحال على الآية، وليس فيها ذكر المضمضة والاستنشاق والاستنثار. وأجيب عنه بأنه قد صح أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، والواجب الأخذ بما صح عنه، ولا يكون الاقتصار على البعض في مبادئ التعليم ونحوها موجبا لصرف ما ورد بعده وإخراجه عن

(3/170)


الوجوب، وبأن الأمر بغسل الوجه أمر بها كما تقدم، وارجع لمزيد التفصيل إلى النيل للشوكاني، والهدي لابن القيم، والمغني لابن قدامة. (ثلاثا) أي بثلاث غرفات وهذا ظاهر في الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة، والرواية الآتية المتفق عليها أظهر في ذلك، واختلفوا في الأفضل بعدما اتفقوا على جواز الوصل والفصل كليهما، فذهب أحمد والشافعي إلى أفضلية الوصل والجمع، وهو المذهب الصحيح المختار عندي؛ لأن رواية الجمع أكثر وأصرح وأصح، وأما ما جاء في بعض الأحاديث من الفصل فهو محمول على الجواز، وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي أحاديث الوصل مع الجواب عن دلائل الحنفية والمالكية القائلين بأفضلية الفصل فارجع إليه. (ثم غسل) أي بيديه لحديث على عند أبي داود وغيره. (وجهه) هو من منابت شعر الرأس إلى أسفل الذقن طولا، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا. (ثم غسل يديه مرتين مرتين) وفي رواية لمسلم: غسل يده اليمنى ثلاثا، ثم الأخرى ثلاثا، فيحمل على أنه وضوء آخر لكون مخرج الحديث غير متحد. (إلى المرفقين) ، أي مع المرفقين، فهما داخلان في غسل اليدين. والدليل على ذلك فعله - صلى الله عليه وسلم -، ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء: فغسل يديه إلى المرفقين، حتى مس أطراف العضدين، وفيه عن جابر، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه، لكن إسناده ضعيف. وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء: وغسل ذراعيه حتى جاوز المرافق. وفي الطحاوى من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعا: ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه. فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا. قال إسحاق بن راهوية "إلى" في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغاية وأن تكون بمعنى مع، فينبت السنة

(3/171)


ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه)) رواه مالك، والنسائي، ولأبي داود نحوه ذكره صاحب "الجامع".
وفي المتفق عليه: قيل لعبدالله بن زيد بن عصام: توضأ لنا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بإناء، فأكفأ منه على يديه، فغسلهما ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها، فمضمض واستنشق من كف
أنها بمعنى. (ثم مسح رأسه) أي كله، كما في رواية، واختلفوا في مقدار المفروض، فذهب مالك إلى وجوب الاستيعاب، وهو الراجح لأن لفظ الآية مجمل؛ لأنه يحتمل أن يراد منها مسح الكل على أن الباء زائدة، أو مسح البعض على أنها تبعيضية، فتبين بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد الأول، ولم ينقل أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة، لكن فيه "أنه مسح على ناصيته وعماته، فلا حجة فيه على الاكتفاء ببعض الرأس". قال ابن القيم: لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض راسه البتة، لكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة كما في حديث المغيرة، ولم يذكر العدد في مسح الرأس كغيره، فاقتضى الاقتصار على مرة واحدة. (فأقبل بهما وأدبر) الإدبار هو الذهاب إلى جهة القفاء والإقبال عكسه، والواو لمطلق الجمع لا تقتضي الترتيب، فكأن الأصل فأدبر بهما وأقبل، وقد وقع كذلك في رواية للبخاري. والتفسير الآتي يؤيد بل يعين ذلك. وقيل: إنه من تسمية الفعل بإبتداءه، أي بدأ بقبل الرأس وذهب إلى جهة فقاه، وأدبر أي بدء بدبر الرأس، وقيل غير ذلك. (بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب) الخ هذا عطف بيان لقوله: فأقبل بهما وأدبر. ومن ثم لم تدخل الواو على بدأ، أي وضع كفيه وأصابعه عند مقدم رأسه، ثم أمرهما حتى وصل إلى قفاه أي مؤخر رأسه. (ثم ردهما) أي على جنب الرأس. (حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه) وهو مقدم الرأس، أي مبتدأ شعره. (ثم غسل رجليه) أي إلى الكعبين

(3/172)


كما في رواية للبخاري. (رواه مالك والنسائي) أي بهذا اللفظ. (ولأبي داود نحوه) أي بمعناه. (ذكره صاحب الجامع) أي جامع الأصول وهو ابن الأثير، وأصل الحديث أخرجه أيضا أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه بألفاظ متقاربة مختصرا ومطولا.
قوله. (وفي المتفق عليه) هذا من زيادات المصنف على المصابيح، واللفظ المذكور هنا لمسلم، وللبخاري معناه. (توضأ) بصيغة الأمر. (وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي نحو وضوئه. (فدعا بإناء) فيه ماء. (فأكفأ) يقال كفأ الإناء إذا كبه، وأكفأه أماله (منه) قال الأبهري: ضمن أكفأ معنى أفرغ وصب فعداه بمن. (ثم أدخل يده) اليمنى في الإناء. (فاستخرجها) أي اليد من الإناء مع الماء. (فمضمض واستنشق) أي واستنثر، وقد ذكر في رواية الثلاثة كما سيأتي. (من كف
واحدة، ففعل ذلك ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل وجهه ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها، فمسح برأسه، فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي رواية: فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه.
وفي رواية: فمضمض، واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات من ماء.

(3/173)


واحدة) بأن جعل ماء الكف بعضه في فمه وبعضه في أنفه، والكف يذكر ويؤنث. (ففعل ذلك) أى المذكور من المضمضة والاستنشاق. (ثلاثا) أي ثلاث مرات بأن تمضمض واستنشق من غرفة ثم تمضمض واستنشق من غرفة ثم تمضمض واستنشق من غرفة، وهو صريح في المجمع، وحجة واضحة للشافعي في الوصل، صرح به ابن الملك وغيره من الأئمة الحنفية، والقول بأن قيد الوحدة احتراز من التثنية سخيف جدا، فإن الظاهر على هذا أن يقال بكف واحدة لا من كف واحدة. (ثم أدخل يده) أي في الإناء، والظاهر أن المراد بها الجنس، قاله القاري. (ثلاثا) قيد للأفعال الثلاثة لا للأخير فقط. (مرتين مرتين) قيد للأفعال. (فمسح برأسه) هو موافق للآية في الإتيان بالباء، ومسح يتعدى بها وبنفسه، قال القرطبي: إن الباء ههنا للتعدية يجوز حذفها وإثباتها. وقيل: دخلت الباء ههنا لمعنى تفيده، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لا يقتضي ممسوحا به، فلو قال: امسحوا رؤوسكم، لأجزاء المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء، وهو من باب القلب والأصل فيه امسحوا رؤوسكم بالماء. (فأقبل بيديه وأدبر) يعني استوعب المسح. (ثم غسل رجليه) ظاهره الاكتفاء بمرة، ويحتمل مرتين بقرينة ما قبله، ويحتمل التثليث على ما هو المعروف من دأبه - صلى الله عليه وسلم -، قاله القاري. (إلى الكعبين) أي مع الكعبين، والكعب هو العظم الناشز عند متلقى الساق والقدم. (هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي غالبا، وقيل: أي في بعض الأوقات.
قوله. (وفي رواية) أي لمسلم. (ثم ردهما) أي على أطراف الرأس.

(3/174)


قوله. (وفي رواية) أي للبخاري، وقد ذكرها في باب مسح الرأس مرة. (فمضمض واستنشق واستنثر) فيه حجة واضحة لمن فرق بين الاستنشاق والاستنثار إلا أن الاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس. (ثلاثا بثلاث غرفات) بفتح الغين والراء وقيل: بضهما جمع غرفة. قيل: الغرفة بالفتح في الأصل المرة من الاغتراف، وبالضم الماء المغروف في اليد. وقيل هي ملأ الكف من الماء، يعني أخذ غرفة، ومضمض واستنثر بها، وكذا في الثانية والثالثة، وهذا أيضا نص صريح في الجمع والوصل.
وفي أخرى: فمضمض واستنشق من كفة واحدة، ففعل ذلك ثلاثا.
وفي رواية للبخاري: فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين.
وفي أخرى له: فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة.
قوله. (وفي أخرى) أي للشيخين لكن وقع في مسلم من كف واحدة، وهذه الرواية أوردها البخاري في باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة. (فمضمض واستنشق من كفة واحدة) المراد بالكفة الغرفة والحفنة، فاشتق لذلك من اسم الكف، وجعل عبارة عن ذلك المعنى وسمي الشيء باسم ما كان فيه، وليست تأنيث الكف. وقيل: قوله "من كفة" هي بالضم والفتح كغرفة وغرفة، أي مما ملأ كفه من الماء. (ففعل ذلك) أي ما ذكر من المضمضة والاستنشاق. (ثلاثا) أي ثلاث مرات، فيه أيضا دليل صريح على ما تقدم من أن تقدم من أن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يكون بثلاث غرفات، يتمضمض ويستنشق من كل واحدة منها.

(3/175)


قوله. (وفي رواية للبخاري) ذكرها في باب غسل الرجلين إلى الكعبين. (مرة واحدة) نص صريح في عدم تكرار مسح الرأس، وحجة واضحة للجمهور في عدم تثليث مسح الرأس خلافا للشافعي، ومن أقوى الأدلة على ذلك أيضا الحديث المشهور الذي صححه ابن خزيمة وغيره من طريق عبدالله بن عمرو بن العاص في صفة الوضوء، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فرغ: من زاد على هذا فقد أساء وظلم، فإن رواية سعيد بن منصور فيها تصريح بأنه مسح رأسه مرة واحد، فدل على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحبة، ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح كحديث علي عند الدارقطني، وحديث عثمان عند أبي داود في بعض طرقه إن صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنه مسحات مستقلة لجميع الرأس جمعا بين الأدلة.
قوله. (وفي أخرى له) أي للبخاري ذكرها في باب الوضوء من التور. (من غرفة واحدة) يتعلق بقوله: فمضمض واستنثر، والمعنى أنه جمع بينهما ثلاث مرات، كل مرة من غرفة. ويحتمل أن يتعلق بقوله: ثلاث مرات، والمعنى أنه جمع بينهما ثلاث مرات من غرفة واحدة، والأول موافق لباقي الروايات، فهو أولى، كذا في الفتح. قال المؤلف: وإنما أطنبنا الكلام في الحديث؛ لأن ما ذكر في المصابيح بلفظه لم يوجد إلا في رواية مالك والنسائي. فأما معناه فما ذكرته في المتفق عليه عقبه. وبقية الروايات إنما أوردتهما تنبيها على أن ما في المصابيح منها، ذكره الطيبي. قال السيد جمال الدين: كأنه اعتراض على الشيخ محي السنة حيث أورد حديث عبدالله بن زيد بهذا اللفظ في الصحاح مع أنه غير مذكور في أحد الصحيحين انتهى.
وعن عبدالله بن عباس قال: ((توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة، لم يزد على هذا)). رواه البخاري.
(5) وعن عبدالله بن زيد، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين)). رواه البخاري.

(3/176)


(6) وعن عثمان رضي الله عنه، ((أنه توضأ بالمقاعد، فقال: ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.؟ فتوضأ ثلاثا ثلاثا)).
397- قوله: (مرة مرة) نصب على المصدر، يعنى غسل كل عضو مرة واحدة، ومسح برأسه مرة (لم يزد على هذا)، أي: في هذا الوضوء، أو في ذلك الوقت، أو باعتبار علمه، وإلا فقد صحت الزيادة في روايات كثيرة، وإنما فعل ذلك لبيان الجواز، أو لمراعاة الحال في الاستعجال، أو قلة الماء، وبيان الجواز يكفي فيه إطلاق القرآن. وفيه دليل على أن الواجب من الوضوء مرة مرة، ولهذا اقتصر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان الواجب مرتين مرتين، أو ثلاثا ثلاثا، لما اقتصر على مرة مرة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، وبعض الأعضاء ثلاثا وبعضها مرتين. قال الترمذي: وقد ذكر في غير حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بعض وضوئه مرة وبعضه ثلاثا. والاختلاف دليل على جواز ذلك كله، وأن الثلاث هي الكمال. والواحدة تجزئ. (رواه البخاري)، أي: في باب الوضوء مرة مرة، والحديث مجمل، وقد رواه البخاري في باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة مطولا ومفصلا، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه مختصرا، وأبوداود مطولا ومختصرا. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة، ذكرها الشوكاني في النيل مع الكلام عليها.

(3/177)


398- قوله: (توضأ مرتين مرتين) أي لكل عضو من أعضاء الوضوء لبيان الجواز أيضا، والنصب في مرتين على المفعول المطلق المبين للكمية. (رواه البخاري) في باب الوضوء مرتين مرتين، والظاهر أن حديث عبدالله بن زيد هذا غير حديثه المفصل المتقدم، فإنه ليس فيه الغسل مرتين إلا في اليدين إلى المرفقين، نعم روى النسائي من طريق سفيان بن عينية في حديث عبدالله بن زيد التثنية في اليدين والرجلين، ومسح الرأس، وتثليث غسل الوجه، لكن في الرواية المذكورة نظر، قاله الحافظ. والحديث أخرجه أيضا أحمد. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه أبوداود والترمذي وصححه وابن حبان: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين".
399- قوله: (توضأ بالمقاعد) بفتح ميم جمع مقعد، والمراد بها دكاكين عند دار عثمان. وقيل: درج. وقيل: موضع بقرب المسجد اتخذ للقعود فيه للحوائج والوضوء. (ألا) للتنبيه أو الهمزة للإنكار. (أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي كيفية وضوئه. (فتوضأ ثلاثا ثلاثا) هذا هو الأكمل، وقد استدل به للشافعي على سنية تثليث مسح الرأس، وأجيب عنه بأنه
رواه مسلم.
400- (7) وعن عبدالله بن عمرو قال: ((رجعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر، فتوضؤوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء))
مجمل تبين في الروايات الصحيحة التي فصلت فيها أعضاء الوضوء أن المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب، أو يختص بالمغسول. (رواه مسلم). وأخرجه أيضا أحمد، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم العيني في شرح البخاري.

(3/178)


400- قوله: (حتى إذا كنا) أي صرنا. (بماء بالطريق) قال الطيبي: الظرف الأول خبر كان والثاني صفة، أي إذا كنا نازلين بماء كائن في طريق مكة. (تعجل) بتشديد الجيم. (قوم عند العصر فتوضؤوا وهم عجال) بضم العين وتشديد الجيم. جمع عاجل كجهال جمع جاهل. وقيل: بكسر العين وتخفيف الجيم كقيام جمع قائم، وقيل: جمع عجلان بمعنى المستعجل، وكغضاب جمع غضبان. قال الطيبي: تعجل بمعنى استعجل، يعني تطلبوا تعجيل الوضوء عند العصر فتوضؤوا عاجلين. وقيل: الأظهر أن معناه استعجلوا في السير، وتقدموا علينا عند دخول العصر مبادرة إلى الوضوء، فتوضؤا على العجلة بحكم ضيق الوقت في السفر. (وأعقابهم) عقب بكسر القاف مؤخر القدم، وهي مؤنثة (تلوح) أي يظهر للناظر فيها بياض لم يصبها الماء الذي أخذوه لغسل الأرجل مع إصابته سائر القدم، وذلك لعجلتهم في الوضوء بسب ضيق الوقت، فكأن مقصودهم الغسل، إلا أنهم كانوا يتعجلون فيه لئلا تفوتهم الصلاة، فلم يحصل لذلك إسباغ الأرجل. وفي رواية ذكرها العيني: رأى قوما توضؤوا وكأنهم تركوا من أرجلهم شيئا، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال ذلك الوعيد. (لم يمسها الماء) جملة حالية مبنية لتلوح. (ويل) قيل: الويل الخزى والهلاك والمشقة من العذاب. قال الأبهري: جاز الابتداء بالنكرة لأنه دعاء، وأصح الأقوال في معناه ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد: واد في جهنم. (للأعقاب) أي المرئية إذ ذاك، فاللام للعهد، ويلتحق بها ما يشاركها في ذلك، ففي حديث عبدالله بن الحارث بن جزء الزبيدي عند ابن خزيمة والطبراني "ويل للاعقاب وبطون الأقدام من النار". قيل: معناه "ويل لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها" نحو ?واسأل القرية? [82:12] والأعقاب تختص بالعقاب إذا قصر في غسلها. (من النار) بيان للويل كما في قوله: ?فاجتنبوا الرجس من الأوثان? [30:22] ويجوز أن تكون بمعنى "في"

(3/179)


كما في قوله تعالى: ?من يوم الجمعة? [9:62] أي في يوم الجمعة. وفي الوعيد والإنكار دليل على أن وظيفة الرجلين الغسل الوافي لا المسح، ولا الغسل الخفيف المبقع المشابه للمسح، لأن الوعيد لا يكون إلا على ترك الواجب. (أسبغوا الوضوء) أي أتموه وأكملوه، والوضوء هو غسل الأعضاء الثلاثة، ومسح الرأس، فالأمر بإسباغ الوضوء أمر
بتكميل الغسل وإبلاغ الماء كل ظاهر أعضائه، فقوله: (أسبغوا) تأكيد للوعيد المذكور عام، يشمل الرجلين وغيرهما من أعضاء الوضوء، لأنه لم يقل أسبغوا الرجلين، بل قال: أسبغوا الوضوء، ومطلوبية الإسباغ غير مختصة بالرجلين فكما أنه مطلوب فيهما كذلك مطلوب في غيرهما.وتخصيص الوعيد بلفظ الأعقاب؛ إنما هو لأجل تقصيرهم في وظيفة الرجلين. والحديث يدل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وهو مذهب جمهور المحدثين والمفسرين من أهل السنة. قال الحافظ: قد تواترت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة وضوئه أنه غسل رجليه، وهو المبين لأمر الله، وقد قال في حديث عمرو بن عبسة الذى رواه ابن خزيمة وغيره مطولا في فضل الوضوء: ثم يغسل قدميه كما أمره الله، ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا من علي، وابن عباس، وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك. قال عبدالرحمن بن أبي ليلى أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين، رواه سعيد بن منصور. وقال الطيبي: ذهب الشيعة إلى أنه يمسح على الرجلين، لقوله تعالى: ?وامسحوا برؤسكم وأرجلكم? [6:5] على قراءة الجر، فإنه تعالى عطف الرجل على الرأس والرأس يمسح فكذا الرجل. قلنا: وقد قرئ بالنصب عطفا على قوله: ? وأيديكم? وإذا ذهب إلى المسح يبقى مقتضى النص غير معمول به، بخلاف العكس فإن المسح مغمور بالغسل، على أن الأحاديث الصحيحة تواترت معاضدة لقراءة النصب، فوجب تأويل القراءة بالكسر، وفيه وجوه: أحدها العطف على الجوار كقوله تعالى: ?عذاب يوم أليم? [26:11) والأليم صفة

(3/180)


العذاب فأخذ إعراب "اليوم" للمجاورة، وقوله تعالى: ?عذاب يوم محيط? [84:11] ?وحور عين? بالجر بعد قوله: ?يطوف عليهم ولدان مخلدون، بأكواب وأباريق? [18،17:56] لأن حور لا يصلح عطفها على أكواب، لأن الحور لا يطاف بها. والثاني الاستغناء بأحد الفعلين عن الآخر، والعرب إذا اجتمع فعلان متقاربان في المعنى، ولكل واحد منهما متعلق جوزت ذكر أحد الفعلين وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور على حسب ما يقتضيه لفظه، حتى كأنه شريكه في أصل الفعل كما قال الشاعر:
يا ليت بعلك قد غدا……متقلدا سيفا ورمحا
وكقول الأخر:…… علفتها تبنا وماء باردا
تقديره علفتها تبنا وسقيتها ماءا باردا، ومتقلدا سيفا، وحاملا رمحا. والثالث قول الزجاج: يجوز ?أرجلكم? بالخفض على معنى فاغسلوا؛ لأن قوله تعالى: ?إلى الكعبين? قد دل عليه؛ لأن التحديد يفيد الغسل، كما في قوله تعالى: ?إلى المرافق? ولو أريد المسح لم يحتج إلى التحديد، كما في قوله: ?وامسحوا برؤسكم? من غير تحديد، ويطلق المسح على الغسل انتهى. قال العلامة السيد محمود الآلوسي البغدادي المتوفي سنة 1270هـ في تفسيره روح المعاني (ج6 : ص73): وفي الأرجل ثلاث قراءات، واحدة شاذة، واثنتان متواترتان، أما الشاذة فالرفع وهي قراءة الحسن، وأما المتواترتان فالنصب وهي قراءة نافع، وابن عامر، وحفص، والكسائي، ويعقوب. والجر وهي قراءة ابن كثير، وحمزة، وأبي عمرو، وعاصم، وفي رواية أبي بكر عنه. ومن هنا اختلف الناس في غسل الرجلين ومسحهما، قال الإمام الرازي: فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وعكرمة،و الشعبي، وأبي جعفر محمد بن علي الباقر: أن الواجب فيهما المسح وهو مذهب

(3/181)


الإمامية، وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما الغسل. وقال داوود: يجب الجمع بينهما، وهو قول الناصر للحق من الزيدية. وقال الحسن البصري، ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل. وحجة القائلين بالمسح قراءة الجر، فإنها تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤس، فكما وجب المسح فيها وجب فيها، والقول أنه جر بالجوار كما في قولهم: هذا جحر ضب خرب، وقوله:
كأن ثبيرا في عرانين وبله كبير أناس في بجاد مزمل

(3/182)


باطل من وجوه: أولها أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله تعالى يجب تنزيهه عنه. وثانيها أن الكسر إنما يصار إليه حيث حصل الأمن من الالتباس كما في ما استشهدوا به، وفي الآية الأمن من الالتباس غير حاصل. وثالثها أن الجر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب، وردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر فقالوا: إنها تقتضي المسح أيضا لأن العطف حينئذ على محل الرؤوس لقربه فيتشاركان في الحكم، وهذا مذهب مشهور للنحاة. ثم قالوا: أو لا يجوز رفع ذلك بالأخبار، لأنها بأسرها من بابا الآحاد، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز، ثم قال الإمام: واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين الأول: أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه، وعلى هذا يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحهما والثاني: أن فرض الأرجل محدود إلى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا المسح، والقوم أجابوا منه بوجهين: الأول: أن الكعب عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يمسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين، وحينئذ لا يبقى هذا السؤال. انتهى. ولا يخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام، وطالما زلت فيه الأقدام، وما ذكره الإمام يدل على أنه راجل في هذا الميدان، وضالع لا يطيق العروج إلى شاوى ضليع، وتحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان، فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغما لأنوف الشيعة، السالكين من السبل كل سبيل هالك، فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين، بل بإطباق أهل الإسلام كلهم، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين، أن القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين، فلا بد لنا أن نسعى ونجتهد في تطبيقهما أولا مهما

(3/183)


أمكن؛ لأن الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول، ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما، ثم إذا لم يتيسر لنا الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة، وقد ذكر الأصوليون أن الآيات إذا تعارضت بحيث لا يمكن التوفيق ثم الترجيح بينهما يرجع إلى السنة، فإنها لما لم يمكن لنا العمل بها صارت معدومة في حقنا من حيث العمل، وإن تعارضت السنة كذلك نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت، أو نرجع إلى القياس عند القائلين بأن قياس المجتهد يعمل به عند التعارض، فلما تأملنا في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما على قواعدنا من وجهين: الأول أن يحمل المسح على الغسل كما صرح به أبوزيد الأنصاري وغيره من أهل اللغة، فيقال للرجل إذا توضأ: تمسح. ويقال: مسح الله تعالى ما بك، أي أزال عنك المرض. ومسح الأرض المطر إذا غسلها، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس في قراءة الجر لا يتعين كونها ممسوحة بالمعنى الذي يدعيه الشيعة، واعترض ذلك من وجوه: أولها:

(3/184)


أن فائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة، وقد فرق الله تعالى بين الأعضاء المغسولة والممسوحة فكيف يكون معنى الغسل والمسح واحدا. وثانيها: أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤوس وكان الفرض في الرؤوس المسح الذي ليس بغسل بلا خلاف وجب أن يكون حكم الأرجل كذلك، وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وثالثها: أنه لو كان المسح بمعنى الغسل يسقط الاستدلال على الغسل بخبر أنه - صلى الله عليه وسلم -غسل رجليه؛ لأنه على هذا يمكن أن يكون مسحهما، فسمى المسح غسلا، ورابعها: أن استشهاد أبي زيد بقولهم: تمسحت للصلاة، لا يجدى نفعا، لاحتمال أنهم لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز، ولم يجز أن يقولوا تغسلت للصلاة، لأن ذلك يوهم الغسل، قالوا بدله: تمسحت، لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا، فتجوزوا بذلك تعويلا على فهم المراد، وذلك لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل. وأجيب عن الأول بأنا لا ننكر اختلاف فائدة اللفظين لغة وشرعا، ولا تفرقة الله تعالى بين المغسول والممسوح من الأعضاء، لكنا ندعى أن حمل المسح على الغسل في بعض المواضع جائز، وليس في اللغة والشرع ما يأباه على أنه قد ورد ذلك في كلامهم. وعن الثاني بأنا نقدر لفظ "امسحوا" قبل ?أرجلكم? أيضا وإذا تعدد اللفظ فلا بأس بأن يتعدد المعنى، ولا محذور فيه، فقد نقل شارح زبدة الأصول من الإمامية أن هذا القسم من الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز، بحيث يكون ذلك اللفظ في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي، وفي المعطوف بالمعنى المجازى، وقالوا في الآية ?لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنبا إلا عابرى سبيل? [43:4]: أن الصلاة في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي الشرعي، وهو الأركان المخصوصة، وفي المعطوف بالمعنى المجازى، وهو المسجد، فإنه محل الصلاة، وادعى ذلك الشارح أن هذا نوع من الإستخدام، وبذلك فسر جمع من مفسرى الإمامية وفقهائهم. وعليه فيكون هذا

(3/185)


العطف من عطف الجمل في التحقيق، ويكون المسح المتعلق بالرؤوس بالمعنى الحقيقي، والمسح المتعلق بالأرجل بالمعنى المجازي، على أن من أصول الإمامية كالشافعية جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكذا استعمال المشترك في معنييه. ويحتمل هنا إضمار الجار تبعا للفعل فتدبر. ولا يشكل أن في الآية حينئذ إبهاما، ويبعد وقوع ذلك في التنزيل، لأنا نقول: إن الآية نزلت بعد ما فرض الوضوء، وعلمه عليه الصلاة والسلام روح القدس إياه في إبتداء البعثة بسنين، فلا بأس أن يستعمل فيها هذا القسم من الإبهام، فإن المخاطبين كانوا عارفين بكيفية الوضوء، ولم تتوقف معرفتهم بها على الاستنباط من الآية ولم تنزل الآية لتعليمهم بل سوقها لإبدال التيمم من الوضوء والغسل في الظاهر، وذكر الوضوء فوق التيمم للتمهيد، والغالب فيما يذكر لذلك عدم البيان المشبع. وعن الثالث: بأن حمل المسح على الغسل لداع لا يستلزم حمل الغسل على المسح بغير داع، فكيف يسقط الاستدلال؟ سبحان الله تعالى هذا هو العجب العجاب. وعن الرابع: بأنا لا نسلم أن العدول عن "تغسلت" لإبهامه الغسل، فإن "تمسحت" يوهم ذلك أيضا، بناء على ما قاله من أن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا، سلمنا ذلك، لكنا لم نقتصر في الاستشهاد على ذلك، ويكفي مسح الأرض المطر في الفرض. والوجه الثاني: أن يبقى المسح على الظاهر، وتجعل الأرجل على تلك القراءة معطوفة على المغسولات، كما في قراءة النصب والجر للمجاورة، واعتراض أيضا من وجوه، الأول والثاني والثالث ما ذكره الإمام من عد الجر بالجوار لحنا، وأنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس، ولا أمن فيما

(3/186)


نحن فيه، وكونه إنما يكون بدون حرف العطف. والرابع: أن في العطف على المغسولات سواء كان المعطوف منصوب اللفظ أو مجروره، الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ليست اعتراضية، وهو غير جائز عند النحاة، على أن الكلام حينئذ من قبيل "ضربت زيدا وأكرمت خالدا وبكرا" بجعل بكر عطفا على زيد، أو إرادة أنه مضروب لا مكرم، وهو مستهجن جدا تنفر عنه الطباع، ولا تقبله الأسماع فكيف يجنح إليه أو يحمل كلام الله تعالى عليه وأجيب عن الأول بأن إمام النحاة الأخفش وأبا البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها جوزوا جر الجوار، وقالوا بوقوعه في الفصيح كما ستسمعه إنشاء الله تعالى ولم ينكره إلا الزجاج، وإنكاره مع ثبوته يدل على قصور تتبعه، ومن هنا قالوا: المثبت مقدم على النافي. وعن الثاني: بأنا لا نسلم أنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس، ولا نقل في ذلك عن النحاة في الكتب المعتمدة، نعم: قال بعضهم: شرط حسنه عدم الالتباس مع تضمن نكتة وهو هنا كذلك، لأن الغاية دلت على أن هذا المجرور ليس بمسموح، إذا المسح لم يوجد مغيا في كلامهم، ولذا لم يغي في آية التيمم، وإنما يغي الغسل، ولذا غي في الآية حين احتج إليه، فلا يرد أنه لم يغي غسل الوجه لظهور الأمر فيه، ولا قول المرتضى أنه لا مانع من تغييه. والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيف الغسل حتى كأنه مسح. وعن الثالث: بأنهم صرحوا بوقوعه في النعت كما سبق من الأمثلة، وقوله تعالى: ?عذاب يوم محيط? [84:11] بجر ?محيط? مع أنه نعت للعذاب. وفي التوكيد كقوله:
الأبلغ ذوى الزوجات (كلهم)……أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
بجر "كلهم" على ما حكاه الفراء. وفي العطف كقوله تعالى: ?وحور عين، كأمثال اللؤ لؤ المكنون? [23،22:56] على قراءة حمزة، والكسائي، وفي رواية المفضل عن عاصم فإنه مجرور بجر ?أكواب وأباريق? ومعطوف على ?ولدان مخلدون?. وقول النابغة:

(3/187)


لم يبق إلا أسير غير منفلت……و (موثق) في حبال القد مجنوب
يجر "موثق" مع أن العطف على "أسير" وقد عقد النحاة لذلك بابا على حدة لكثرته، ولما فيه من المشاكلة،وقد كثر في الفصيح حتى تعدوا عن اعتباره في الإعراب إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك، وكلام ابن الحاجب في هذا المقام لايعبأ به. وعن الرابع بأن لزوم الفصل بالجملة إنما يخل إذا لم تكن جملة ?وامسحوا برؤسكم? متعلقة بجملة المغسولات، فإن كان معناها وامسحوا الأيدي بعد الغسل برؤسكم فلا إخلال كما هو مذهب كثير من أهل السنة، من جواز المسح ببقية ماء الغسل واليد المبلولة من المغسولات، ومع ذلك لم يذهب أحد من أئمة العربية إلى امتناع الفصل بين الجملتين المتعاطفتين، أو معطوف ومعطوف عليه، بل صرح الأئمة بالجواز، بل نقل أبوالبقاء إجماع النحويين على ذلك، نعم! توسط الأجنبي في كلام البلغاء يكون لنكتة وهي هنا ما أشرنا إليه. أو الإيماء إلى الترتيب، وكون الآية من قبيل ما ذكر من المثال في حين المنع، وربما تكون كذلك لو كان النظم "وامسحوا رؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين" والواقع ليس كذلك وقد ذكر بعض أهل السنة أيضا وجها آخر في التطبيق، وهو أن قراءة الجر محمولة على حالة التخفف، وقراءة النصب على حال دونه واعترض بأن الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما، لأن الخف اعتبر

(3/188)


مانعا سراية الحدث إلى القدم فهي طاهرة، وماحل بالخف أزيل بالمسح، فهو على الخف حقيقة وحكما، وأيضا المسح على الخفين لا يجب إلى الكعبين اتفاقا وأجيب بأنه يجوز أن يكون لبيان المحل الذي يجزئ عليه المسح، لأنه لايجزء المسح على ساقه، نعم! هذا الوجه لا يخلو عن بعد والقلب لا يميل إليه وإن ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما قيل في الآية. وللإمامية في تطبيق القراءتين وجهان أيضا لكن الفرق بينهما وبين ما سبق من الوجهين اللذين عند أهل السنة، أن قراءة النصب التي هي ظاهرة في الغسل عند أهل السنة، وقراءة الجر تعاد إليها، وعند الإمامية بالعكس. الوجه الأول: أن تعطف الأرجل في قراءة النصب على محل ?برؤوسكم? فيكون حكم الرؤوس والأرجل كليهما مسحا. الوجه الثاني: أن الواو فيه بمعنى مع من قبيل "استوى الماء والخشبة" وفي كلا الوجهين بحث لأهل السنة من وجوه: الأول: أن العطف على المحل خلاف الظاهر بإجماع الفريقين، والظاهر العطف على المغسولات والعدول عن الظاهر إلى خلافه بلا دليل لا يجوز، وإن استدلوا بقراءة الجر قلنا: إنها لا تصلح دليلا على ذلك لما علمت، والثاني: أنه لو عطف ?وأرجلكم? على محل ?برؤسكم? جاز أن نفهم منه معنى الغسل، إذ من القواعد المقررة في العلوم العربية أنه إذا اجتمع فعلان متغايران في المعنى ويكون لكل منهما متعلق، جاز حذف أحدهما، وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور كأنه متعلقة، ومن ذلك قوله:
ياليت بعلك قد غدا……متقلدا سيفا ورمحا
فإن المراد وحاملا رمحا ومنه قوله:
إذا ما الغانيات برزن يوما… … وزججن الحواجب والعيونا
فإنه أراد وكحلن العيونا، وقوله:
تراه كأن مولاه يجدع أنفه…وعينيه إن مولاه كان له وفر

(3/189)


أى يفقئ عينيه إلى ما لا يحصى كثرة. والثالث: أن جعل الواو بمعنى مع بدون قرينة مما لا يكاد يجوز، ولا قرينة ههنا على أنه يلزم كما قيل فعل المسحين معا بالزمان، ولا قائل به بالاتفاق. بقى لو قال قائل: لا أقنع بهذا المقدار في الاستدلال على غسل الأرجل بهذه الآية مالم ينضم إليها من خارج ما يقوى تطبيق أهل السنة، فإن كلامهم وكلام الإمامية في ذلك عسى أن يكون فرسي رهان. قيل له: إن سنة خير الورى - صلى الله عليه وسلم - وآثار الأئمة - رضي الله عنهم - شاهدة على ما يدعيه أهل السنة، وهي من طريقهم أكثر من أن تحصى، وأما من طريق القوم فقد روى العياشي، عن علي، عن أبي حمزة قال: سألت أباهريرة عن القدمين فقال: تغسلان غسلا. وروى محمد بن النعمان، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله - رضي الله عنه - قال: إذا نسيت مسح رأسك حتى غسلت رجليك فامسح رأسك، ثم اغسل رجليك. وهذا الحديث رواه أيضا الكلبي، وأبوجعفر الطوسي بأسانيد صحيحة بحيث لا يمكن تضعيفها، ولا الحمل على التقية، لأن المخاطب بذلك شيعي حاضر. وروى محمد بن الحسن الصفار، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده أمير المؤمنين - كرم الله وجهه - أنه قال: جلست أتوضأ فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما غسلت قدمي قال: يا علي! خلل بين الأصابع. ونقل الشريف الرضي عن علي - كرم الله وجهه - في نهج البلاغة حكاية وضوئه - صلى الله عليه وسلم -، وذكر فيه غسل الرجلين، وهذا يدل على أن مفهوم الآية كما قال أهل السنة،ولم يدع

(3/190)


أحد منهم النسخ حتى يتكلف لإثباته كما ظنه من لا وقوف له وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس - رضي الله عنهما-، وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفتري عليهم، فإن أحدا منهم ما روى عنه بطريق صحيح أنه جوز المسح إلا ابن عباس، فإنه قال بطريق التعجب: لا نجد في كتاب الله تعالى إلا المسح ولكنهم أبوا إلا الغسل. ومراده أن ظاهره الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل، ففي كلامه هذا إشارة إلى أن قراءة الجر مؤولة متروكة الظاهر بعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم-، ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية، وعكرمة، والشعبي زور وبهتان أيضا، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح، أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري - عليه الرحمة-، ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة، ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق ولا سند، واتسع الخرق على الراقع. ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب الإيضاح للمترشد في الإمامة، لا أبوجعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح، ولا الجمع، ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه. ولا حجة لهم في دعوى المسح بما روى عن أمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه- : أنه مسح وجهه ويديه، ومسح رأسه ورجليه، وشرب فضل طهوره قائما، وقال: إن الناس يزعمون أن الشرب قائما لا يجوز، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع مثل ما صنعت، وهذا وضوء من لم يحدث. لأن الكلام في وضوء المحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف، كما يدل عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقا. وأما ما روى عن عبادة بن

(3/191)


تميم، عن عمه بروايات ضعيفة: أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على قدميه. فهو كما قال الحافظ: شاذ منكر، لا يصلح للاحتجاج، مع احتمال حمل القدمين على الخفين ولو مجازا، واحتمال اشتباه القدمين المتخففين بدون المتخففين من بعيد، ومثل ذلك عند من اطلع على أحوال الرواة ما رواه الحسين بن سعيد الأهوازي، عن فضالة، عن حماد بن عثمان، عن غالب بن هذيل، قال: سألت أبا جعفر - رضي الله عنه- عن المسح على الرجلين فقال: هو الذي نزل به جبرئيل عليه السلام، وما روى عن أحمد بن محمد قال: سألت أبا الحسن موسى بن - جعفر رضي الله عنه- عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين، فقلت له، لو أن رجلا قال بأصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين أيجزئ؟ قال: لا إلا بكفه كلها إلى غير ذلك مما روته الإمامية في هذا الباب، ومن وقف على أحوال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم، وقد ذكرنا نبذة من ذلك في كتابنا "النفحات القدسية في رد الإمامية" على أن لنا أن نقول: لو فرض أن حكم الله تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية فالغسل يكفي عنه، ولو كان هو الغسل لا يكفي عنه فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح، وذلك لأن الغسل محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة وهذا مراد من عبر بأنه مسح وزيادة، فلا يرد ما قيل من أن الغسل والمسح متضادان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض، وأيضا كان يلزم الشيعة الغسل لأنه الأنسب بالوجه المعقول من الوضوء، وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب- سبحانه وتعالى لأنه الأحوط أيضا لكون
رواه مسلم.
401- (8) وعن المغيرة بن شعبة قال: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين))

(3/192)


سنده متفقا عليه للفريقين كما سمعت، دون المسح للاختلاف في سنده - انتهى (رواه مسلم). الحديث بهذا اللفظ من إفراد مسلم، وأخرجه أيضا أبوداود، والنسائي، وابن ماجه مختصرا، وهو عند جميعهم من حديث منصور عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبدالله بن عمرو قال المنذري: واتفق البخاري ومسلم على إخراجه من يوسف بن ماهك عن عبدالله بن عمرو نحوه.
401- قوله: (فمسح بناصيته وعلى العمامة) بكسر العين، وفي رواية للنسائي: مسح ناصيته وعمامته. واستدل به لما ذهب إليه مالك والشافعي ومن معهما: من أنه لايجوز اقتصار المسح على العمامة، بل لا بد مع ذلك من المسح على الناصية. قيل: رواية مسلم هذه مفصلة، يحمل عليها ما في بعض طرقها: من أنه - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والعمامة. أخرجها الترمذي وصححها. وذهب أحمد وغيره من فقهاء أصحاب الحديث إلى جواز الاقتصار على العمامة، واحتجوا بحديث عمرو بن أمية عند أحمد والبخاري وابن ماجه. وبحديث بلال عند أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وبحديث سلمان عند أحمد، وبأحاديث أبي أمامة، وخزيمة بن ثابت، وأبي طلحة، وأبي ذر عند الطبراني. وبحديث أنس عند البيهقي، وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرها الزيلعي في نصب الراية واعتذر الأولون عن هذه الأحاديث بوجوه كلها مخدوشة، فمنها أنها معلولة مضطربة الأسانيد وفيها رجال مجهولون وفيه أن أكثر هذه الأحاديث صحيحة مستقيمة، كما حقق صحتها واستقامتها الحافظ في التلخيص وغيره. ومنها أن أحاديث المسح على العمامة من أخبار الآحاد فلا تعارض الكتاب، لأن الكتاب يوجب مسح الرأس. وفيه أن الآية لا تنفي الاقتصار على المسح على العمامة، لأن من قال: قبلت رأس فلان يصدق ولو بحائل وسيأتي توضيحه. ومنها أن الله تعالى فرض المسح على الرأس، والحديث في العمامة محتمل التأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل، والمسح على العمامة ليس بمسح على الرأس وفيه أن هذا الوجه يرجع إلى

(3/193)


الوجه الثاني، وقد تقدم جوابه وتوضيحه أنه أجزئ المسح على الشعر، ولا يسمى رأسا. فإن قيل: يسمى رأسا مجازا بعلاقة المجاورة. قيل: والعمامة كذلك بتلك العلاقة، فإنه يقال: قبلت رأسه، والتقبيل على العمامة، ويؤيد ذلك حملهم قراءة الجر في ?أرجلكم? في آية على حالة التخفف، فتأمل. ومنها أن أحاديث المسح على العمامة مجملة، وحديث المغيرة عند مسلم مفصل مفسر فتحمل عليه، ويقال: إن أداء المفروض من مسح الرأس وقع بمسح الناصية إذ هي جزء الرأس، وصارت العمامة تبعا له، يعني أن المسح على العمامة كان زائدا على أصل الفرض، وتعميما وتكميلا، فرخص لهم - صلى الله عليه وسلم - بفعله بعد مسح الواجب أن يقتصروا من الاستيعاب على مسح العمائم.وفيه أنه لا موجب لحمل أحاديث المسح على العمامة على حديث المغيرة، فإنها وقائع مختلفة ليست حكاية عن فعل واحد في وقت واحد، وأما إن المسح على العمامة كان زائدا على أصل الفرض وإتماما ففيه أنه مجرد دعوى لا دليل عليها فلا يلتفت إليها. ومنها أنها حكاية حال فيجوز
رواه مسلم.
402- (9) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله

(3/194)


أن تكون العمامة صغيرة رقيقة بحيث تنقع البلة منها إلى الرأس. وفيه أن الكل من قوله وفعله وتقريره حجة لنا، وفي إنشاء مثل هذه الاحتمالات في أفعاله وأحواله من غير دليل رد للسنة الصحيحة الثابتة، وأيضا لا يتحقق وصول البلة إلى الرأس إلا إذا كانت العمامة غير ذات أكوار، وفيه إبطال لمسمى العمامة. ومنها أنه يحتمل أن ذلك كان قبل نزول المائدة. وفيه أنه لايثبت النسخ بالاحتمال حتى يعلم التاريخ، وأيضا لا منافة بين الآية وبين أحاديث المسح حتى يحتاج إلى التوفيق، أو إدعاء النسخ. ومنها ما قال محمد بن الحسن في موطئه: بلغنا أن المسح على العمامة كان فترك. وفيه أنه لا يثبت النسخ بمجرد قول الإمام محمد، ولا بد لمن يدعى النسخ أن يأتي بالحديث الناسخ الصحيح الصريح. ومنها أن الخطاب في قوله: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. كالخطاب في قوله: وامسحوا برؤسكم، ولا يجوز مسح الوجه في التيمم بحائل، فكذلك الرأس. وفيه أنه قد ثبت بالأحاديث الصحيحة المسح على العمامة فقلنا به ولم يثبت مسح الوجه في التيمم بحائل، لا بحديث صحيح، ولا ضعيف، ولا بأثر صحابي، ولذلك لم يذهب إليه أحد من الأئمة، ولا حاجة إلى رد أحاديث المسح على العمامة بمثل هذا العذر الواهي. ومنها أن المراد بقوله (مسح عمامته) مسح ما تحتها، ومن قبيل إطلاق اسم الحال على المحل وفيه أن هذا مجاز خلاف الأصل فلا يحمل عليه من غير دليل. ومنها أنه يحتمل أنه مسح ناصيته وسوى عمامته بيديه فحسب الراوي تسوية العمامة عند المسح مسحا لكونه بعيدا. وفيه أنه نسبة الخطأ إلى الصحابة من غير دليل، ويرتفع الأمان عن الأحاديث بمثل هذه الإحتمالات. ومنها أنه يحتمل أنه كان ذلك لمرض منعه كشف رأسه، فصارت العمامة كالجبيرة. وفيه أن هذا أيضا احتمال محض فلا يلتفت إليه، لما فيه من رد السنة الصحيحة الثابتة، وبهذا علمت أن الحق ما ذهب إليه أحمد وغيره، فقد ثبت المسح على الرأس فقط. وعلى العمامة فقط، وعلى

(3/195)


الرأس والعمامة، والكل صحيح ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجود في كتب الأئمة الصحاح، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مبين لأمر الله، فقصر الإجزاء على بعض ما ورد لغير موجب ليس من دأب المنصفين (رواه مسلم) وأخرجه أيضا النسائي والبيهقي وأخرجه الترمذي بلفظ: مسح على الخفين والعمامة.
402- قوله: (يجب التيمن) أي الإبتداء باليمين، أي فيما لم يعهد فيه المقارنة من باب التشريف، بخلاف غسل الوجه، ومسح الرأس والأذنين فإن المعهود في هذه الأشياء قران اليسار باليمين (ما استطاع ) ما إما موصول فهو بدل من التيمن، وإما بمعنى مادام، وبه احتراز عما لا يستطيع فيه التيمن شرعا كالخروج من المسجد، والدخول في الخلاء، والتمخط، والاستنجاء (في شأنه) متعلق بالتيمن، أو بالمحبة، أو بهما على سبيل التنازع، والشأن الأمر والحال، والخطب (كله) تأكيد، وهو يدل على التعميم، أي استحباب التيمن في دخول الخلاء وأمثاله أيضا، ويمكن أن يقال: حقيقة
في طهوره وترجله وتنعله) متفق عليه.
?الفصل الثاني?
403- (10) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إذا لبستم وإذا توضأتم، فابدؤا بأيامنكم)) رواه أحمد وأبوداود.

(3/196)


الشأن ما كان فعلا مقصودا، وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة، بل هي إما تروك وإما أفعال غير مقصودة (في طهوره) بضم الطاء أي تطهره (وترجله) أي تمشيط الشعر بالماء أو بالدهن من اللحية والرأس (وتنعله) أي لبسه النعل، وقوله (في طهوره) الخ. بدل من (في شأنه) بإعادة العامل بدل البعض من الكل، فيكون تخصيصا بعد تعميم، وخص هذه الثلاثة بالذكر اهتماما بها وبيانا لشرفها، ولا مانع أن يكون بدل الكل من الكل، إذ الطهور مفتاح أبواب العبادات فبذكره يستغنى عنها، والترجل يتعلق بالرأس، والتنعل بالرجل، وأحوال الإنسان إما أن تتعلق بجهة الفوق، أو بجهة التحت، أو بالأطراف، فجاء لكل منها بمثال قاله العيني. والحديث دليل على استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن في الترجل، والغسل، والحلق، وبالميامن في الوضوء والغسل، والأكل، والشرب، وغير ذلك. قال النووي: قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدها استحب فيه التياسر. والكلام في تقديم اليمين في الوضوء يأتي في شرح حديث أبي هريرة الذي يتلوه (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب التيمن في دخول المسجد وغيره من كتاب الصلاة، وأخرجه أيضا في الطهارة، والأطعمة، واللباس، وأخرج مسلم في الطهارة معناه، وأخرجه أيضا الترمذي في آخر الصلاة، والنسائي في الطهارة، وفي الزينة، وأبوداود في اللباس، وابن ماجه في الطهارة.

(3/197)


403- قوله: (إذا لبستم) أي قميصا أو سراويل أو نعلا أو خفا ونحوها يعني أردتم اللبس (وإذا توضأتم) أي أردتم التطهر بالوضوء أو الغسل (فابدؤوا بأيامنكم) جمع الأيمن وهو بمعنى اليمين، وفي رواية (بميامنكم) جمع الميمنة، ولا فرق بين اللفظين في العربية، والأمر محمول على الندب كما يدل عليه حديث: "كان يحب التيمن"، وكذلك اقتران الوضوء بالتيامن في اللبس المجمع على عدم وجوبه في حديث أبي هريرة هذا يصلح أن يكون قرينة لصرف الأمر إلى الندب، ودلالة الاقتران وإن كانت ضعيفة ولكنها لا تقصر عن الصلاحية للصرف، لاسيما مع اعتضادها بقول علي - رضي الله عنه - وفعله. أخرجه الدارقطني من طرق، وبدعوى الإجماع على عدم الوجوب. قال النووي: أجمع العلماء - أي أهل السنة - على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة، لو خالفها فاته الفضل، وصح وضوئه، ولا اعتداد بخلاف الشيعة (رواه أحمد وأبوداود) في اللباس وسكت عنه، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الطهارة، وابن خزيمة، لكن ليس
404- (11) وعن سعيد بن زيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه))
في روايتهما إذا لبستم، وابن حبان والبيهقي كلهم من طريق زهير، عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال ابن دقيق العيد: هو حقيق بأن يصح. وللنسائي، والترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم -إذا لبس قميصا بدأ بميامنه.

(3/198)


404- قوله: (وعن سعيد بن زيد) هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي القرشي أبوالأعور، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، والمهاجرين الأولين. قال المصنف: أسلم قديما، وشهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير بدر، فإنه كان مع طلحة بن عبيد الله يطلبان خبر عير قريش وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسهم، وكانت فاطمة أخت عمر بن الخطاب تحته، وبسببها كان إسلام عمر، كان آدم طوالا أشعر. له ثمانية وثلاثون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديث، وروى عنه جماعة. مات بالعقيق فحمل إلى المدينة، ودفن بالبقيع سنة(51) وقيل(50) وله بضع وسبعون سنة. (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) أي لا يصح الوضوء ولا يوجد شرعا إلا بالتسمية، إذ الأصل في النفي الحقيقة، ونفى الصحة أقرب إلى الذات، وأكثر لزوما للحقيقة فيستلزم عدمها عدم الذات، وما ليس بصحيح لا يجزئ ولا يعتد به فالحديث نص على افتراض التسمية عند ابتداء الوضوء، وإليه ذهب أحمد في رواية، وهو قول أهل الظاهر. وذهبت الشافعية، والحنفية، ومن وافقهم إلى أن التسمية سنة فقط، واختار ابن الهمام من الحنفية وجوبها، وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة: هو أي الحديث نص على أن التسمية ركن أو شرط، ويحتمل أن يكون المعنى لا يكمل الوضوء، لكن لا أرتضى بمثل هذا التأويل، فإنه من التأويل البعيد الذي يعود بالمخالفة على اللفظ انتهى. قلت: ويبعده أيضا القرآن بقوله: لا صلاة لمن لا وضوء له، وفي بعض الروايات، ويبعده أيضا أن الحمل على نفى الكمال مجاز، ولا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة، وقيام القرينة على إرادة المجاز وهو منتف ههنا. وحديث "من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهورا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لأعضاء وضوئه" ضعيف جدا، أخرجه الدارقطني والبيهقي مرفوعا من حديث ابن عمر، وفيه أبوبكر الداهري عبدالله بن الحكم، وهو

(3/199)


متروك ومنسوب إلى الوضع. وأخرجاه أيضا من حديث أبي هريرة، وفيه مرداس بن محمد بن عبدالله بن أبان عن أبيه، وهما ضعيفان، وأخرجاه أيضا من حديث ابن مسعود، وفيه يحيى بن هشام السمسار، وهو متروك والحاصل أن هذا الحديث لا يصلح لشدة وهنه أن يكون قرينة لتوجه ذلك النفي إلى الكمال، لا يقال: إنه تعاضد لكثرة طرقه، واكتسب قوة، لأن هذا إنما يفيد إذا كان الضعف في طرق الحديث يسيرا، وأما إذا اشتد الضعف والوهن كما هنا فلا يكتسب الحديث بكثرة طرقه إلا ضعفا، وأما ما صرح به ابن سيد الناس في شرح الترمذي من أنه قد روى في بعض الروايات: "لا وضوء كاملا" وقد استدل به الرافعي ففيه انه قال الحافظ: لم أره هكذا- انتهى. وتفوه بعض الحنفية أن قول الحافظ: "لم أره" ليس بحجة على من رآه من المتقدمين. قلت: لا يكفى للاحتجاج على المطلوب راوية أحد كائنا من كان ما لم يعلم كونه حسنا أو صحيحا، ولم يعلم حال هذه الزيادة، ولم تثبت من وجه معتبر إلى الآن، ولا يمكن لهذا البعض المتفوه ولا لغيره من
رواه الترمذي، وابن ماجه.
405- (12) ورواه أحمد، وأبوداود عن أبي هريرة.
406- (13) والدارمي عن أبي سعيد الخدري،

(3/200)


القائلين بعدم الوجوب أن يثبتوا هذه الزيادة من وجه معتبر، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، فلا تغنى روية ابن سيد الناس هذه الزيادة عن شيء، وقال بعض الحنفية: حمل الرواية على حقيقة معناها الظاهر يوجب تخصيص الآية الذي هو في حكم النسخ، وليس ذلك إلى خبر الواحد- انتهى. قلت: حاصل هذا الجواب أن حمل الحديث على معناه الحقيقي الظاهر، وجعل التسمية في ابتداء الوضوء فرضا أي شرطا زيادة على آية الوضوء بخبر الواحد، في رتبة الشرطية، والزيادة على النص القطعي في مرتبة الركنية أو الشرطية بأخبار الآحاد لا تجوز، لأنها نسخ ونسخ النص القطعي بخبر الواحد لا يجوز. وفيه أن ذلك ليس بنسخ، لأن النسخ رفع حكم شرعي ثابت بالخطاب، ولم يرتفع ههنا حكم على أن الزيادة بخبر الواحد على النص القطعي في مرتبة الوجوب أو الاستحباب تجوز عند الحنفية فكأنها ليست بزيادة عندهم، فيلزمهم أن يقولوا بوجوب التسمية, كما قال به ابن الهمام، وكما ذهب جمهورهم إلى تعين الفاتحة وجوبا، على أن حديث التسمية أصح وأقوى وأشهر من حديث الوضوء بالنبيذ، والزيادة بالحديث المشهور على القطعي تجوز عند الحنفية فتأمل. والمراد بقوله: (لم يذكر اسم الله عليه)، أي لم يقل: بسم الله على وضوئه، لقوله في قصة الإناء الذي وضع فيه يده: (توضؤوا بسم الله). ولقوله: (يا أبا هريرة! إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله)، أخرجه الطبراني في الأوسط (رواه الترمذي وابن ماجه) وزاد هو في أوله: (لا صلاة لمن لا وضوء له)، وأخرجه أيضا أحمد والبزار والدارقطني والعقيلي والحاكم والبيهقي كلهم من طريق أبي ثفال المرى وهو مقبول قاله الحافظ، وذكره ابن حبان في الثقات عن رباح بن عبدالرحمن، وهو أيضا مقبول، ذكره ابن حبان في ثقات أتباع التابعين عن جدته أسماء، قال الحافظ في التلخيص: قد ذكرت الصحابة، وإن لم يثبت لها صحبة، فمثلها لا يسئل عن حالها عن أبيها سعيد بن زيد بن عمرو، قال الترمذي: قال محمد

(3/201)


يعني البخاري: أحسن شيء في هذا الباب حديث رباح بن عبدالرحمن.
405- قوله: (ورواه أحمد وأبوداود عن أبي هريرة) وأخرجه أيضا الترمذي في العلل، وابن ماجه، والدارقطني وابن السكن والطبراني والبيهقي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. قال المنذري: وليس كما قال، فإنهم رووه عن يعقوب بن سلمة الليثي عن أبيه عن أبي هريرة، وقد قال البخاري وغيره: لا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة ولا ليعقوب سماع من أبيه- انتهى. وأبوه سلمة أيضا لا يعرف ما روى عنه غير ابنه يعقوب، فأين شروط الصحة؟ وقد أطال الحافظ الكلام عليه في التلخيص(ص26) فارجع إليه.
406- قوله: (والدارمي عن أبي سعيد الخدري) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في العلل وابن ماجه وابن عدي
عن أبيه، وزادوا في أوله: (لا صلاة لمن لا وضوء له).
407- (14) وعن لقيط بن صبرة، قال: قلت يا رسول الله ! أخبرني عن الوضوء. قال: ((أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق،

(3/202)


وابن السكن والبزار والدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق كثير بن زيد الأسلمي وهو صدوق يخطئ، صالح الحديث عن ربيح بن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري، وهو مقبول، قاله الحافظ عن أبيه عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري، وهو ثقة. قال أحمد بن حنبل: إنه أحسن شيء في هذا الباب، وقال أيضا: أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد عن ربيح. وقال إسحاق بن راهويه: هو أصح ما في الباب. وقال في الزوائد على ابن ماجه: هذا حديث حسن (عن أبيه) هذا من أوهام المصنف لأن الراوي للحديث هو أبوسعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري لا أبوه مالك بن سنان (وزادوا) أي أحمد وأبوداود والدارمي، وهذا أيضا من أوهامه فإن هذه الزيادة ليست للدارمي، ففي عبارة المصنف ههنا سهوان أحدهما في الإسناد، وهو زيادة (عن أبيه) بعد قوله: ( أبي سعيد الخدري) والثاني أن زيادة (لا صلاة لمن لا وضوء له) ليست للدارمي، خلاف ما يفهم من قوله، وزادوا في أوله، واعلم أنه ورد في الباب أحاديث كثيرة لا يخلو واحد منها عن مقال، لكنها تعاضدت بكثرة طرقها، قال المنذري في الترغيب: لا شك أن الأحاديث التي وردت فيها وإن كان لا يسلم شيء منها عن مقال، فإنها تتعاضد بكثرة طرقها، وتكتسب قوة- انتهى. وقال الحافظ: الظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلا، وقال أبوبكر بن أبي شيبة: ثبت لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله، وقال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: ولا يخلو هذا الباب من حسن صريح، وصحيح غير صريح، وقال ابن كثير في الإرشاد وقد روى من طرق يشد بعضها بعضا فهو حديث حسن أو صحيح، وقال ابن الصلاح: يثبت بمجموعها ما يثبت بالحديث الحسن.

(3/203)


407- قوله: (وعن لقيط) بفتح اللام وكسر القاف وبالطاء المهملة(بن صبرة) بفتح المهملة وكسر الموحدة، هو لقيط بن عامر بن صبرة أبورزين العقيلي، صحابي مشهور، له أربعة وعشرين حديثا، جعلهما واحدا ابن عبدالبر وعبدالغني بن سعيد وابن معين، وحكى ذلك الأثرم عن أحمد، وإليه نحا البخاري وجمعه ابن حبان وابن السكن، وقال ابن المديني وخليفة خياط وابن أبي خيثمة وابن سعد ومسلم والترمذي وابن قانع والبغوي والدارمي وجماعة: إن لقيط بن صبرة غير لقيط بن عامر بن صبرة. (أسبغ الوضوء) أي أبلغه مواضعه، وأوف كل عضو حقه، وقيل: أي أكمله، وبالغ فيه بالزيادة على المفروض كمية وكيفية بالتثليث، والدلك، وتطويل الغرة، وغير ذلك (وخلل بين الأصابع) أي أوصل الماء إلى ما بين أصابع اليدين والرجلين بالتخليل. وفيه دليل على وجوب التخليل بين أصابع اليدين والرجلين مطلقا من غير فرق بين إمكان وصول الماء بدون تخليل وعدمه (وبالغ في الاستنشاق) بإيصال الماء إلى باطن الأنف. وفي رواية الدولابي (وبالغ في المضمضمة والاستنشاق) وفي رواية لأبي داود: وإذا توضأت فمضمض،
إلا أن تكون صائما)). رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي وروى ابن ماجه، والدارمي إلى قوله: ((بين الأصابع)).
408- (15) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك)). رواه الترمذي. وروى ابن ماجه نحوه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
409- (16) وعن المستورد

(3/204)


وفيه دليل على وجوب الاستنشاق والمضمضة، والاقتصار على ذكر هذه الخصال مع أن السؤال كان عن الوضوء إما من الرواة بسبب أن الحاجة دعتهم إلى نقل بعض، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين كيفية الوضوء بتمامها، أو من النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء على أنه علم أن مقصد السائل البحث عن هذه الخصال، وإن أطلق لفظه في السؤال، إما بقرينة حال، أو وحى، أو إلهام. وقال في التوسط: اقتصر في الجواب علما منه أن السائل لم يسأله عن ظاهر الوضوء، بل عما خفى من باطن الفم والأنف والأصابع، فإن الخطاب (بأسبغ) إنما يتوجه نحو من علم صفته- انتهى (إلا أن تكون صائما ) فلا تبالغ لئلا يصل إلى باطنه، ولئلا ينزل إلى حلقه، ما يفطره، وكذا حكم المضمضة (رواه أبوداود) في الطهارة، وفي الصيام وفي الحروف، مطولا ومختصرا، وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي، وأقره (والترمذي) في الطهارة وفي الصيام مختصرا وصححه (والنسائي) في الطهارة مختصرا (وروى ابن ماجه والدارمي إلى قوله: بين الأصابع) أي بدون قوله: وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما وهذا وهم من المصنف، لأن ابن ماجه رواه أولا في باب المبالغة في الاستنشاق مثل رواية الكتاب، إلا أنه ليس فيه قوله: (وخلل بين الأصابع). ثم رواه في باب تخليل الأصابع بلفظ أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع. وليس فيه ذكر المبالغة في الاستنشاق. والحديث أخرجه أيضا الشافعي وأحمد وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه، والبيهقي مطولا ومختصرا. ورواه الحافظ في الإصابة (ج3: ص329) وقال: هذا حديث صحيح. وصححه أيضا البغوي وابن القطان. وقال النووي: حديث لقيط بن صبرة أسانيده صحيحة.

(3/205)


408- قوله: (إذا توضأت) أي شرعت في الوضوء أو غسلت أعضاء الوضوء (فخلل بين أصابع يديك ورجليك) فيه حجة على من قيد التخليل وخصه بأصابع الرجلين (رواه الترمذي) الخ وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) وفي نسخ الترمذي المصححة الموجودة عندنا"حديث حسن غريب" والحديث في إسناده صالح مولى التوأمة، وقد اختلط في آخر عمره، ولكن موسى بن عقبة راوي الحديث سمع منه قبل أن يختلط، ولذلك حسنه الترمذي، وحسنه البخاري أيضا كما نقل الحافظ في التلخيص (ص34).
409- قوله: (وعن المستورد) بضم الميم وسكون السين المهملة وفتح التاء المثناة وبكسر الراء وبالدال المهملة
بن شداد، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره)). رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.
410- (17) وعن أنس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي).
(بن شداد) بن عمرو القرشي الفهري الحجازي، سكن الكوفة، له ولأبيه صحبة. قال الخزرجي: له سبعة أحاديث، انفرد له مسلم بحديثين، شهد فتح مصر، ومات بالإسكندرية سنة (45) روى عنه جماعة. (يدلك) أي: يخلل كما في رواية أحمد (ج4: ص229) (بخنصره) أي بخنصر يده اليسرى لأنها أليق به (رواه الترمذي) وقال: هذا حديث حسن غريب، كما في بعض نسخ الترمذي المصححة المعتمدة (وأبوداود) وسكت عنه (وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد، وابن عبدالحكم في فتوح مصر(ص261) طبعه ليدن. كلهم من طريق ابن لهيعة، وقد صرح الترمذي بانفراده ولكنه ليس كذلك، فقد قال الحافظ في التلخيص (ص34): تابعه الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث وأخرجه البيهقي، وأبوبشر الدولابي، والدارقطني في غرائب مالك من طريق ابن وهب عن الثلاثة، وصححه ابن القطان، انتهى. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها الشوكاني في النيل (ج1:ص149).

(3/206)


410- قوله: (أخذ كفا من ماء) أي عند غسل الوجه، قال المناوي: مقتضى الحديث أنه كان يخلل لحيته بكف واحد، لكن في رواية لابن عدي "خلل لحيته بكفيه" (فأدخله) أي بيمينه (تحت حنكه) الحنك بفتح الحاء المهملة والنون، أعلى باطن الفم والأسفل من طرف مقدم اللحيين، وتحت الحنك تحت الذقن (فخلل به لحيته) قال القاري: أي: أدخل كفا من ماء تحت لحيته من جهة حلقه فخلل به لحيته ليصل الماء إليها من كل جانب، وكان عند غسل الوجه لأنه من تمامه لا بعد فراغه كما توهم (وقال) لمن حضره (هكذا أمرني ربي) أي أمرني بتخليل اللحية بالوحى الخفى، أو بواسطة جبريل. وفيه وفي حديث عثمان الذي يتلوه دليل على مشروعية تخليل اللحية، واختلف في ذلك اختلافا كثيرا حتى للحنفية وحدهم فيه ثمانية أقوال كما في رد المختار، والراجح عندي أنه يجب في غسل الجنابة غسل جميع اللحية أي ما يلاقي البشرة منها، وما يسترسل، ويلزم إيصال الماء إلى باطنها خفيفة كانت أو كثة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشر". وأما الوضوء فلا يجب فيه غسلها وإيصال الماء إلى باطنها وتخليلها مطلقا لا ما يلاقي البشرة أي الشعر المقابل المماس للخدين والذقن، ولا المسترسل أي الشعر الخارج عن دائرة الوجه، بل يسن تخليلها ومسحها، وذلك لما رواه البخاري عن ابن عباس في صفة الوضوء "ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا" أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه، قال الشوكاني: لا شك أن الغرفة الواحدة لا تكفي كث اللحية لغسل وجهه وتخليل لحيته، ودفع ذلك كما قال بعضهم بالوجدان
رواه أبوداود.
411- (18) وعن عثمان رضي الله عنه: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يخلل لحيته)). رواه الترمذي، والدارمي.
412- (19) وعن أبي حية، قال: رأيت عليا توضأ فغسل كفيه

(3/207)


مكابرة منه انتهى. وأما الخفيفة التي ترى بشرتها فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها، هذا ما عندي، والله أعلم. واستدل بعضهم على الوجوب بما في حديث أنس من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (هكذا أمرني ربي). وفيه أنه حديث ضعيف لا يصلح مثله للاستدلال على إيجاب شيء، ولو سلم صلاحيته للاستدلال وانتهاضه للاحتجاج ما أفاد الوجوب على الأمة لظهوره في الاختصاص به ، وهو يتخرج على الخلاف المشهور في الأصول هل يعم الأمة ما كان ظاهر الاختصاص به - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ والفرائض لا تثبت إلا بيقين، نعم! الاحتياط والأخذ بالأوثق لا شك في أولويته. وأما أحاديث الباب الأخرى مما ذكره الزيلعي والحافظ فهي لا تدل على الوجوب لأنها أفعال (رواه أبوداود) وفي سنده الوليد بن زوران، قال الحافظ في التقريب: لين الحديث. وقال الآجري عن أبي داود: لا ندري سمع من أنس أو لا. وقال الذهبي في الميزان: ما ذا بحجة مع أن ابن حبان وثقه انتهى. قال الحافظ في التلخيص (ص31): وله طرق أخرى عن أنس ضعيفة ثم ذكر بعضها مع الكلام عليها.

(3/208)


411- قوله: (كان يخلل لحيته) أي: يدخل يده في خللها وهي الفروج التي بين الشعر، ومنه فلان خليل فلان أي يخالل حبه فروج جسمه حتى يبلغ إلى قلبه، ومنه الخلال (رواه الترمذي والدارمي) وأخرجه أيضا ابن ماجه، وابن الجارود في المنتقي، والدارقطني وابن حبان والحاكم، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال في علله الكبير: قال محمد بن إسماعيل يعني البخاري: أصح شيء في التخليل حديث عثمان، وهو حديث حسن. وقال الزيلعي: أمثل أحاديث تخليل اللحية حديث عثمان. ونقل الحافظ في التهذيب (ج5: ص69) تصحيحه عن ابن خزيمة، وابن حبان. وقال الحاكم صحيح الإسناد: وقد احتجا يعني البخاري، ومسلما بجميع رواته غير عامر بن شقيق، قال: ولا أعلم في عامر طعنا بوجه من الوجوه. وتعقبه الذهبي في مختصره، وقال إن عامر بن شقيق ضعفه ابن معين، وكذا قال تقي الدين. وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات. وللحديث شواهد ذكرها الزيلعي في نصب الراية (ج1:ص26،24) والحافظ في التلخيص (ص31) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص335) وهي بمجموعها تصلح للاحتجاج على استحباب تخليل اللحية في الوضوء، قال شيخنا في شرح الترمذي: وهذا هو الحق.
412- قوله: (عن أبي حية) بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناه التحتية، هو ابن قيس الوادعي الهمداني الخارفي ولا يعرف اسمه، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن القطان: وثقة بعضهم، وصحح حديثه ابن السكن وغيره. وقال ابن الجارود في الكنى: وثقة ابن نمير (توضأ فغسل كفيه) أي شرع في الوضوء، أو أراده، فالفاء للتعقيب، أو لتفصيل
حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا، ومسح برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلى الكعبين، ثم قام فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم، ثم قال: أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)).رواه الترمذي، والنسائي.

(3/209)


413- (20) وعن عبد خير، قال: ((نحن جلوس ننظر إلى على حين توضأ، فادخل يده اليمنى فملأ فمه، فمضمض واستنشق، ونثر بيده اليسرى، فعل هذا ثلاث مرات، ثم قال: من سره أن ينظر إلى طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
ما أجمل في قوله: توضأ، وتفسيره. والمراد بالكفين اليدان إلى الرسغين (حتى أنقاهما) أي أزال الوسخ عنهما، وقد جاء التصريح بالتثليث في الروايات الأخرى (ثم مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا) قال القاري: ظاهره الفصل المطابق لمذهبنا، قلت: بل هو محتمل، فإنه يحتمل أن يكون معناه أنه مضمض ثلاثا بثلاث غرفات،ثم استنشق ثلاثا بثلاث غرفات أخرى. ويحتمل أن يكون معناه أنه مضمض واستنشق بغرفة، ثم فعل هكذا في الثانية والثالثة. والمحتمل لا يقوم به حجة، أو يرد هذا المحتمل إلى الأحاديث المحكمة الصحيحة الصريحة في الوصل توفيقا بين الدليلين (وذراعيه) أي يديه من رؤس الأصابع إلى المرفقين (ومسح برأسه مرة) فيه حجة للجمهور خلافا للشافعي (ثم غسل قدميه) أي ثلاثا ثلاثا كما في رواية عبدخير عن علي عند أبي داود، والنسائي. وفيه رد على الشيعة (فضل طهوره) بفتح الطاء أي بقية مائه الذي توضأ به (فشربه وهو قائم) قال بعض العلماء: إن الشرب قائما مخصوص بفضل الوضوء بهذا الحديث، وبماء زمزم لما جاء فيه أيضا، وفي غيرهما لا ينبغي الشرب قائما للنهى. والحق أنه جاء في غيرهما أيضا، فالوجه أن النهي للتنزيه، وما جاء من الرخصة فهو لبيان الجواز (أحببت أن أريكم) بصيغة المتكلم من الإراءة (كيف كان طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) بضم الطاء أي وضوئه وطهارته (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن صحيح (والنسائي) وأخرجه أيضا أبوداود، وابن ماجه مختصرا.

(3/210)


413- (وعن عبدخير) ضد شر، هو عبدخير بن يزيد الهمداني أبوعمارة الكوفي، أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه لم يلقه، وصحب عليا، وهو من كبار أصحابه، ثقة مأمون، سكن الكوفة، ويقال: أتى عليه مائه وعشرون سنة. قال الحافظ في التقريب: مخضرم ثقة من كبار التابعين، ولم يصح له صحبة (نحن جلوس) أي جالسون (ننظر إلى على حين توضأ) لنأخذ العلم من بابه (فأدخل يده اليمنى) أي في الإناء، فأخذ بها الماء (ونثر) أي أخرج الماء، والمخاط، والأذى من الأنف (فعل هذا) أي المذكور من المضمضة والاستنشاق، وهذا ظاهر في الوصل (من سره) أي جعله مسرورا، أو
فهذا طهوره)). رواه الدارمي.
414- (21) وعن عبدالله بن زيد، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضمض واستنشق من كف واحد، فعل ذلك ثلاثا)). رواه أبوداود، والترمذي.
415- (22) وعن ابن عباس، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه، وأذنيه، باطنهما بالسباحتين، وظاهرهما بإبهاميه)). رواه النسائي.
أحب (فهذا طهوره) أي نحو وضوءه - صلى الله عليه وسلم -، والإشارة إلى تمام ما فعله من الوضوء، والاقتصار من الراوي (رواه الدارمي) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي. ولحديث علي في صفة الوضوء طرق عنه عند الترمذي، وأبي داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان، البزار، ذكرها وجمعها الحافظ في التلخيص (ص28-29).

(3/211)


414- قوله: (عن عبدالله بن زيد) أي ابن عاصم المازني، لا ابن عبد ربه الذي رأى النداء كما توهم الطيبي وقلده فيه القاري، لأن الراوي لصفة الوضوء هو عبدالله بن زيد بن عصام المازني، ومنشأ توهم الطيبي رواية سفيان بن عيينة عند النسائي، فإنه أخرج حديث صفة الوضوء من رواية عبدالله بن زيد بن عبدربه، وهذا وهم من ابن عيينة، خطأه في ذلك البخاري وغيره (مضمض واستنشق من كف واحد) كذا بالتذكير في طبعات الهند وفي نسخة القاري، وهكذا في جامع الترمذي، وفي بعض نسخ أبي داوود، ووقع في نسخة الألباني بالتأنيث وكذا في أكثر نسخ أبي داود. وهذا الحديث صريح في الجمع بين المضمضة والاستنشاق في كل مرة؛ بأن يكون بثلاث غرفات يتمضمض ويستنشق من كل واحدة منها (فعل ذلك) أي الجمع بين المضمضة والاستنشاق (رواه أبوداود والترمذي) وأصله عند الشيخين، وقد ذكره المؤلف في الفصل الأول.
415- قوله: (مسح برأسه وأذنيه) فيه دليل على أن وظيفة الأذنين المسح مع الرأس، وظاهره أنه مسحهما بماء رأسه. وفي رواية ابن حبان "غرف غرفة فمسح برأسه وأذنيه داخلهما بالسبابتين، وخالف بإبهاميه إلى ظاهر أذنيه، فمسح ظاهرهما وباطنهما". ذكرها الحافظ في التلخيص، وقال: صححها ابن خزيمة، وابن مندة. وفيه، وفي حديث الربيع الآتي بيان كيفية مسح الأذنين (باطنهما) بالجر على البدلية من لفظ أذنيه، والنصب بدل من محله، والمراد بالباطن الجانب الذي فيه الصماخ أي الثقب (بالسباحتين) السباحة والمسبحة الإصبع التي تلي الأبهام، سميت بذلك لأنها يشار بها عند التسبيح، وهذا اسم إسلامي وضعوها مكان السبابة لما فيه من الدلالة على المعنى المكروه، وهو أن الجاهلية كانوا يسبون الناس ويشيرون بها إليهم (وظاهرهما) بالوجهين وهو الطرف الذي يلي الرأس ويلتصق به (رواه النسائي) وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي بألفاظ متقاربة، وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن مندة.

(3/212)


416- (23) وعن الربيع بنت معوذ: ((أنها رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، قالت فمسح رأسه ما أقبل منه وما أدبر، وصدغيه، وأذنيه مرة واحدة. وفي رواية، أنه توضأ فأدخل إصبعيه في جحري أذنيه)). رواه أبوداود. وروى الترمذي الرواية الأولى، وأحمد وابن ماجة الثانية.
417- (24) وعن عبدالله بن زيد: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، وأنه مسح رأسه بماء غير فضل يديه)).
416- قوله: (وعن الربيع) بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتية المكسورة (بنت معوذ) اسم فاعل من التعويذ، هي الربيع بنت معوذ بن عفراء، وعفراء أم معوذ، وأبوه الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد، أنصارية نجارية صحابية من المبايعات تحت الشجرة. قال ابن عبدالبر: لها قدر عظيم، وكانت ربما غزت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لها أحد وعشرون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، روى عنها جماعة (ما أقبل منه) أي: من الرأس، وما موصولة (وما أدبر) عطف عليه، وهما بدل من رأسه، يعني مسح من مقدم الرأس إلى منتهاه ثم رد يديه من مؤخرة الرأس إلى مقدمه (وصدغيه وأذنيه) معطوف على رأسه، والصدغ بضم الصاد وسكون الدال، الموضع الذي بين العين والأذن، والشعر المتدلى على ذلك الموضع (مرة واحدة) متعلق بمسح، فيكون قيدا في الإقبال والإدبار وما بعد هما، فباعتبار الإقبال يكون مرة، وباعتبار الإدبار مرة أخرى، وهو مسح واحد. والحديث يدل على مشروعية مسح الصدغ والأذن، وأن مسحهما مع الرأس، وأنه مرة واحدة (فأدخل إصبعيه) أي عند مسح الرأس وبعده (في جحري أذنيه) بتقديم الجيم المضمومة تثنية جحر وهو الثقب والخرق يعني صماخهما (رواه أبوداود) أي الروايتين كلتيهما (وروى الترمذي) الخ. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وقيل: في تصحيحه نظر، لأن في سنده عبدالله بن محمد بن عقيل، وفيه مقال. قال الشوكاني:

(3/213)


ولحديث الربيع روايات في صفة الوضوء وألفاظ، مدار الكل على عبدالله بن محمد بن عقيل، وفيه مقال مشهور لاسيما إذا عنعن، وقد فعل ذلك في جميعها-انتهى. قلت: هو مدلس كما صرح به الحافظ في طبقات المدلسين، لكن قد احتج بحديثه أحمد، وإسحق، والحميدي. وقال البخاري: هو مقارب الحديث. وقال الذهبي: حديثه في مرتبة الحسن، فالظاهر أن حديث الربيع هذا حسن.
417- قوله: (بماء غير فضل يديه) أي بماء جديد لا ببقية من ماء يديه، أي: أخذ لمسح الرأس ماء جديدا ولم يقتصر على البلل الذي بيديه. قال النووي: لا يستدل بهذا على أن الماء المستعمل لا تصح الطهارة به، لأن هذا إخبار عن الإتيان بماء جديد للرأس، ولا يلزم من ذلك اشتراطه - انتهى. وروى أبوداود من حديث سفيان بن سعيد أي الثوري، عن ابن عقيل، عن الربيع بنت معوذ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه من فضل ماء كان في يده. وقد احتج به من رأى طهورية الماء المستعمل، وتأوله البيهقي على أنه أخذ ماء جديدا وصب نصفه، ومسح ببلل يده، ليوافق حديث
رواه الترمذي. ورواه مسلم مع زوائد.
418- (25) وعن أبي أمامة ذكر وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((وكان يمسح الماقين، وقال:

(3/214)


عبدالله بن زيد، "ومسح رأسه بماء غير فضل يديه". قلت: حديث الربيع هذا صحيح أو حسن، ولا تعارض بينه وبين حديث عبدالله بن زيد لأنهما عن حادثتين مختلفتين، فلا حاجة إلى تأويل البيهقي، بل يقال: كلا الأمرين جائزان، إن شاء أخذ لرأسه ماء جديدا، وإن شاء مسحه بفضل ماء يكون في يده، لكن قيل: في متن حديث الربيع اضطراب، فإن ابن ماجه أخرج من طريق شريك عن ابن عقيل عنها، قالت: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بميضاة فقال: اسكبي، فسكبت، فغسل وجهه وذراعيه، وأخذ ماء جديدا فمسح به رأسه مقدمه ومؤخره. قلت: شريك هذا هو ابن عبدالله القاضي، وهو صدوق يخطئ كثيرا، تغير حفظه منذ ولى القضاء بالكوفة. وقال ابن معين: صدوق، ثقة إلا إذا خالف فغيره أحب إلينا منه، وقد خالف ههنا الثوري، فحديث شريك هذا مرجوح، ولا يعل الراجح بالمرجوح. والحاصل أنه يجوز كلا الأمرين عندي إلا أن الأولى أن يأخذ ماء جديدا لمسح الرأس ولا يقتصر على بلل يديه (رواه الترمذي) وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضا أبوداود وسكت عنه. (ورواه مسلم مع زوائد) أي مطولا، وكذا الدارمي. فأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم، وما رواه الترمذي طرف منه، والظاهر أن البغوي لم يشعر أنه في كتاب مسلم، ونقله عن جامع الترمذي فجعله من الحسان، أو شعر بذلك لكن نسى ذكره في الصحاح.

(3/215)


418- قوله: (وعن أبي أمامة) الظاهر أنه هو أبوأمامة الصدي بن عجلان الباهلي، لا أبوأمامة أسعد بن سهل بن حنيف الأنصاري الأوسي كما توهم الطيبي، فقد ذكر الإمام أحمد هذا الحديث في مسنده في مسانيد أبي أمامة الباهلي الصدي بن عجلان (ج5:ص258و268) فصنيعه هذا يدل على أن أبا أمامة راوي حديث "الأذنان من الرأس" ومسح الماقين" عند أحمد، هو صدي بن عجلان الباهلي لا غير، ويؤيد ذلك صنيع الحافظ في تهذيب التهذيب (ج4:ص430) والإصابة (ج2:ص182)، حيث ذكر في ترجمة أبي أمامة الباهلي شهر بن حوشب (راوي هذا الحديث عن أبي أمامة) فيمن روى عنه، ولم يذكر شهرا فيمن روى عن غير أبي أمامة الباهلي ممن كنيته أبوأمامة، ويقوى ذلك أيضا أن الشيخ عبدالغني النابلسي ذكر هذا الحديث في أحاديث أبي أمامة الباهلي، ولم يذكره في أحاديث غيره من كنيته أبوأمامة من الصحابة كأسعد بن سهل بن حنيف المتقدم ذكره، وأياس بن ثعلبة أبي أمامة البلوي الأنصاري. (ذكر وضوء رسول الله ) أي وصف وضوءه، وفي بضع نسخ أبي داود: وذكر وضوء النبي (قال) أي أبوأمامة، وهو بدل من ذكر (وكان يمسح) أي يدلك (الماقين) تثنية مأق بفتح الميم وسكون الهمزة، ويجوز تخفيفها، وهو طرف العين الذي يلي الأنف والأذن، واللغة المشهورة موق، وإنما مسحهما على الاستحباب مبالغة في الإسباغ، لأن العين قلما تخلو من قذى ترميه من كحل وغيره، أو رمص فيسيل وينعقد على طرفي العين (وقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون مرفوعا، أو
الأذنان من الرأس))، رواه ابن ماجه، وأبوداود، والترمذي. وذكرا قال حماد: لا أدري الأذنان من الرأس من قول أبي أمامة؛ أم من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

(3/216)


أبوأمامة فيكون موقوفا، والراجح عندنا هو الأول لما سيأتي (الأذنان من الرأس) أي حكما من حيث أنهما يمسحان بماء الرأس لا من الوجه، فيغسلان معه، واختلفوا في أنهما يمسحان ببقية ماء الرأس، أو يؤخد لهما ماء جديد، والراجح عندنا أنهما يمسحان بماء الرأس، ولو أخذ لمسحهما ماء جديدا لم يفعل بأسا لقوله: الأذنان من الرأس. وتقرير دلالته على ذلك أنه لايخلو من أحد الأمرين: إما أن يراد به الحكم أو بيان الخلقة، لا يجوز الثاني لكونه - صلى الله عليه وسلم - مبعوثا لبيان الأحكام دون الخلقة والحقائق، ولكونهما من الرأس مشاهدة مغنية عن البيان، فتعين الأول، ثم لا يخفى إما أن يكون المراد من الحكم كونهما ممسوحتين بماء الرأس، أو كونهما ممسوحتين كالرأس، ولا يجوز الثاني، لأن اشتراك الشيء مع الشيء لا يوجب أن يكون ذلك الشيء من الشيء الآخر، كالرجل مع الوجه يشتركان في حكم الغسل، ولا يقال: إن الرجل من الوجه، فتعين الأول وهو كونهما ممسوحتين بماء الرأس، ويؤيد ذلك ما تقدم من حديث ابن عباس عند ابن حبان وغيره، في صفة الوضوء، وفيه "وغرف غرفة فمسح برأسه وأذنيه داخلهما بالسبابتين، وخالف بإبهاميه إلى ظاهر أذنيه..." الحديث. واستدل النسائي على ذلك بحديث: إذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، لأن خروج الخطايا منهما بمسح الرأس إنما يحسن إذا كانا منه، وقد سبق التنبيه على ذلك في أوائل الطهارة. قال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر ما احتج به على أخذ الماء الجديد لمسح الأذنين أخذا من النيل ما نصه: لم أقف على حديث مرفوع صحيح خال عن الكلام يدل على مسح الأذنين بماء جديد، نعم ثبت ذلك عن ابن عمر من فعله، روى مالك في موطأه عن نافع أن عبدالله بن عمر كان يأخذ الماء بإصبعيه لأذنيه - انتهى. وقال ابن القيم في الهدى: لم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماء جديدا، وإنما صح ذلك عن ابن عمر. (رواه ابن ماجه وأبوداود والترمذي) وأخرجه

(3/217)


أيضا أحمد (ج5:ص258و268)كلهم من حديث حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، وعن أبي أمامة، قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك القائم (وذكرا) أي أبوداود والترمذي في روايتهما عن قتيبة، عن حماد، ولذا قدم المصنف عليهما ابن ماجه مع أنه خلاف العادة (قال حماد) هو حماد بن زيد بن درهم الأزدى الجهضمي أبوإسماعيل البصرى أحد الأعلام الأثبات. قال الحافظ: ثقة ثبت فقيه. قيل: إنه كان ضريرا، ولعله طرأ عليه لأنه صح أنه كان يكتب. ولد سنة (98) ومات في رمضان سنة (179) وله إحدى وثمانون سنة. (لا أدرى الأذنان من الرأس من قول أبي أمامة) أي موقوفا. (أم من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مرفوعا. ورواه أبوداود أيضا عن سليمان بن حرب عن حماد، وقال: قال سليمان بن حرب: يقولها أبوأمامة. ورواه ابن ماجه، عن محمد بن زياد، عن حماد بإسناده بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأذنان من الرأس"، وكان يمسح رأسه مرة، وكان يمسح المأقين. وهذا اللفظ لا يحتمل أن يكون كلمة "الأذنان من الرأس" مدرجة في الحديث، بل هو نص في أنها من اللفظ النبوى، وقد أطالوا البحث في هذه الكلمة، وهل هي مدرجة
419- (26) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثا ثلاثا، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا

(3/218)


من قول أبي أمامة أو مرفوعة. ورجح كثير منهم أبوحاتم، وأبوزرعة، والدارقطني، والبيهقي الإدراج. وقال الحافظ في التلخيص (ص33): قد بينت أنه مدرج في كتابي في ذلك أي: تقريب المنهج بترتيب المدرج. والظاهر أنه مرفوع ليس بمدرج، والحديث حسن أو صحيح، فقد روى من غير وجه بأسانيد بعضها جيد ويؤيد بعضها بعضا. قال ابن دقيق العيد في الإمام في حديث أبي أمامة هذا: أنه معلول بوجهين: أحدهما الكلام في شهر بن حوشب، والثاني في الشك في رفعه، ولكن شهر وثقه أحمد، ويحيى، والعجلي، ويعقوب بن شيبة، وسنان بن ربيعة، أخرج له البخاري أي: مقرونا بآخر، وهو وإن كان قد لين فقال ابن عدى: أرجو أنه لابأس به، وقال ابن معين: ليس بالقوى. فالحديث عندنا حسن - انتهى. وقال الزيلعي في نصب الراية (ج1:ص19): قد اختلف فيه على حماد فوقفه ابن حرب عنه، ورفعه أبوالربيع، واختلف أيضا على مسدد عن حماد، فروى عنه الرفع، وروى عنه الوقف. وإذا رفع ثقة حديثا ووقفه آخر، أو فعلهما شخص واحد في وقتين ترجح الرافع لأنه أتى بزيادة، ويجوز أن يسمع الرجل حديثا فيفتى به في وقت، ويرفعه في وقت آخر، وهذا أولى من تغليط الراوي، ثم نقل الزيلعي حديث "الأذنان من الرأس" من حديث عبدالله بن زيد مرفوعا من سنن ابن ماجه وقال: هذا أمثل إسناد في الباب لا تصاله وثقة رواته - انتهى. وقال البوصيرى في الزوائد: هذا إسناده حسن إن كان سويد بن سعيد حفظه، قلت: سويد بن سعيد هذا صدوق في نفسه إلا أنه عمى فصار يتلقن ما ليس من حديثه، وقد أخرج له مسلم، واحتج به، ثم نقله الزيلعي من حديث ابن عباس مرفوعا أيضا من سنن الدارقطني من طريق أبي كامل الجحدري، عن غندر، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، ثم قال: قال ابن القطان: إسناده صحيح لاتصاله وثقة رواته، قال وأعله الدارقطني بالاضطراب في إسناده، وقال: إسناده وهم، وإنما هو مرسل، ثم أخرجه عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن النبي - صلى الله

(3/219)


عليه وسلم - مرسلا، وتبعه عبدالحق في ذلك، وقال: إن ابن جريج الذي دار الحديث عليه يروى عنه عن سليمان بن موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا. قال: وهذا ليس يقدح فيه، وما يمنع أن يكون فيه حديثان مسند ومرسل - انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: كلام ابن القطان هذا متجه، وقد روى "الأذنان من الرأس" من حديث أبي هريرة. وأبي موسى، وابن عمر، وعائشة، وأنس أيضا، انظر التلخيص (ص33) ونصب الراية (ج1:ص20).
419- قوله: (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه) شعيب (عن جده) أي: جد شعيب وهو عبدالله بن عمرو بن العاس (يسأله) حال من فاعل جاء (عن الوضوء) أي: كيفيته (فأراه) أي: بالفعل، لأنه أبلغ في التعليم من القول. وفي الكلام حذف، تقديره: أي: فأراد أن يريه ما سأله فتوضأ (ثلاثا ثلاثا) أي: غير المسح، فقد جاء في هذا الحديث أن المسح كان
فقد أساء وتعدى وظلم)). رواه النسائي، وابن ماجه، وورى أبوداود معناه.
420- (27) وعن عبدالله بن المغفل، أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة. قال أي بني سل الله الجنة، وتعوذ به من النار: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور

(3/220)


مرة في رواية سعيد بن منصور ذكره الحافظ في الفتح، وقد سبق التنبيه على ذلك (فقد أساء) أي: في مراعاة آداب الشرع، فإن الزيادة استنقاص لما استكمله الشرع (وتعدى) أي: عما حد له وجعله غاية التكميل (وظلم) أي: نفسه باتعابها فيما زاد على الثلاثة من غير حصول ثواب له، أو بإتلاف الماء ووضعه في غير محله، وإنما ذمه بهذه الكلمات الثلاث إظهارا لشدة النكير عليه, وزجرا له عن ذلك. وقد جاء في رواية أبي داود زيادة أو نقص، واستشكلت. والمحققون على أنها وهم لجواز الوضوء مرة مرة ومرتين ومرتين، وقد تكلف لتوجيهها بما هو مذكور في النيل (ج1:ص168) والعون (ج1:ص52) إن شئت الوقوف عليه فارجع إليهما (رواه النسائي وابن ماجه) إلا أن رواية ابن ماجه بلفظ "هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء، أو تعدى، أو ظلم" بأو، بدل الواو (وروى أبوداود معناه) بأطول من هذا، وسكت عليه: وأخرجه أيضا أحمد، وابن خزيمة. قال الحافظ في التلخيص: من طرق صحيحه، وصرح في الفتح: أنه صححه ابن خزيمة وغيره.

(3/221)


420- قوله: (أنه سمع ابنه) يمكن أي يكون هو يزيد بن عبدالله بن مغفل، الذى روى عنه أبونعامة الحنفي في ترك الجهر بالبسملة عند الترمذي وغيره، ويزيد هذا مجهول الحال، ويمكن أن يكون هذا ابنا لعبدالله بن مغفل آخر غير هذا الذى روى عنه أبونعامة، وعلى هذا فلم أقف على اسمه (أسألك القصر) قال في المجمع القصر هو الدار الكبيرة المشيدة لأنه يقصر فيه الحرم (قال) أي: عبدالله لابنه حين سمعه يدعو بهذه الكلمات (أي) بفتح الهمزة وسكون الياء حرف نداء ينادي به القريب (بني) تصغير للإبن مضافا إلى ياء المتكلم، (سل) أمر من سأل يسئل (الله الجنة) أي ينبغي لك أن تكتفي بسؤال الجنة، ولا تجاوز في السؤال عن الحد بزيادة القيود والأوصاف. قيل: إنما أنكر عبدالله على ابنه في هذا الدعاء، لأنه طمح إلى ما لا يبلغه عملا حيث سأل منازل الأنبياء، وجعله من الإعتداء في الدعاء لما فيه من التجاوز عن حد الأدب، ونظر الداعي إلى نفسه بعين الكمال. وقيل: لأنه سأل شيئا معينا فربما كان مقدرا لغيره. وقيل: إنكار عبدالله على ابنه من قبيل سد باب الإعتداء فإنه لما سمع ابنه يدعو بهذا الدعاء خاف عليه أن يتجاوز عنه إلى ما فيه الإعتداء حقيقة فنبه على ذلك، وأنكر عليه سدا للباب (يعتدون) بتخفيف الدال من الاعتداء، أي يتجاوزون عن الحد الشرعي (في الطهور) بالزيادة على الثلاث وإسراف الماء، وبالمبالغة
والدعاء)). رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه.
421- (28) وعن أبي بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن للوضوء شيطانا يقال له: الولهان، فاتقوا وسواس الماء)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوى عند أهل الحديث، لأنا لا نعلم أحدا أسنده غير خارجة،

(3/222)


في الغسل إلى حد الوسواس. والحديث عام يتناول الغسل، والوضوء، وإزالة النجاسة (والدعاء) قيل الاعتداء في الدعاء هو الدعاء بما لايجوز، ورفع الصوت به، والصياح. وقيل: سؤال منازل الأنبياء. وقيل: هو أن يتكلف السجع في الدعاء. (رواه أحمد وأبوداود) في الطهارة وسكت عنه هو والمنذري. (وابن ماجه) في أبواب الدعاء، لكن ليس في روايته لفظ الطهور فلا يكون شاهدا في الباب، فكان الأولى للمصنف أن لا يذكر ابن ماجه. وقيل عزا الحديث لابن ماجه نظرا إلى أصل الحديث، وإن اقتصر هو منه على الدعاء. والحديث أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم.

(3/223)


421- قوله: (إن للوضوء) المشهور ضم الواو على إرادة الفعل، ويحتمل الفتح على إرادة الماء وهو أنسب بآخر الحديث على بعض الاحتمالات، يعني أن لأجل إلقاء الوسوسة في الوضوء وما يتعلق به (شيطانا) أي: نوعا خاصا، وصنفا معينا من الشيطان، اسم هذا النوع الولهان، وليس المراد أنه واحد بالشخص .(الولهان) بالواو واللام المفتوحتين، صفة مشبهة من الوله، وقيل: أصله مصدر "وله" بكسر اللام ومصدره أيضا "الوله" بفتح اللام، وهو الحزن، أو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد وغاية العشق. وسمى به شيطان الوضوء إما لشدة حرصه على طلب الوسوسة، وإما لإلقائه الناس بالوسوسة في مهواة الحيرة، حتى يرى صاحبه حيران، ذاهب العقل، لايدري كيف يلعب به الشيطان، ولا يعلم هل وصل الماء إلى العضو أم لا، وكم مرة غسله، كما ترى عيانا في الموسوسين في الوضوء (فاتقوا وسواس الماء) بكسر الواو الأولى المصدر، وبفتحها الإسم، مثل الزلزال بفتح الزاى وكسرها، أي: وسواسا يفضى إلى كثرة إراقة الماء حالة الوضوء والاستنجاء. والمراد بالوسواس التردد في طهارة الماء ونجاسته بلا ظهور علامات النجاسة، ويحتمل أن يراد بالماء البول، أي وساوس البول المفضية إلى الاستنجاء، وقال ابن الملك: أي وسواس الولهان، وضع الماء موضع ضميره مبالغة في كمال الوسواس في شأن الماء، أو لشدة ملازمته له. والحديث يدل على كراهية الإسراف في الماء للوضوء وهو أمر مجمع عليه (رواه الترمذي وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج5:ص126) وأبوداود والطيالسي في مسنديهما، والحاكم (هذا حديث غريب) أي إسنادا (لأنا لا نعلم) علة للغرابة والضعف (أحدا أسنده) أي رفعه (غير خارجة) أي خارجه بن مصعب أبوالحجاج السرخسي، قال الترمذي: وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن الحسن قوله.
وهو ليس بالقوى عند أصحابنا.

(3/224)


422- (29) وعن معاذ بن جبل، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه)). رواه الترمذي.
423- (30) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرقة ينشف
وقال ابن أبي حاتم في العلل: سئل أبي عن هذا الحديث فقال: رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منكر - انتهى. لكن يؤيده ما روي في الباب عن عمران بن حصين عند البيهقي بسند ضعيف نحو حديث أبي بن كعب، وما روي عن عبدالله بن مغفل، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد تقدما، وعن عبدالله بن عمر عند ابن ماجه، وعبدالله بن عمرو بن العاص عند أحمد وابن ماجه، وسيأتي في الفصل الثالث (وهو) أي: خارجة (ليس بالقوى عند أصحابنا) أي: أهل الحديث فقد ضعفه ابن المبارك وابن معين وأحمد ووكيع والنسائي والدارقطني وابن حبان وغيرهم. وقال الحافظ: متروك، وكان يدلس عن الكذابين. ويقال: إن ابن معين كذبه.

(3/225)


422- قوله: (مسح وجهه) أي: نشفه بعد الوضوء. (بطرف ثوبه) فيه دليل على جواز التنشيف بعد الوضوء، واختلف فيه على أقوال، والراجح عندي قول من قال بجواز التنشيف بعد الوضوء والغسل، للأحاديث الواردة في الباب، واحتج من كرهه بحديث ميمونة في غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه "فناولته ثوبا فلم يأخذه فانطلق وهو ينفض يديه" أخرجه البخاري، وفي رواية ابن ماجه "فرده وجعل ينفض الماء" قال: هذا الحديث يدل على كراهة التنشيف بعد الغسل، فيثبت به كراهته بعد الوضوء أيضا. وفيه ما قال الحافظ: من أنه لا حجة فيه لأنها واقعة عين يتطرق إليه الاحتمال، فيجوز أن يكون الرد لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلا، أو غير ذلك. قال المهلب: يحتمل تركه لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أولشئ آخر رآه في الثوب من حرير، أو وسخ. وقال إبراهيم النخعي: إنما رده مخافة أن يصير عادة. وقال التيمي: في هذا الحديث دليل على أنه كان ينشف ولو لا ذلك لم تأته بالمنديل. وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أنه لا كراهة في التنشيف لأن كلا منهما إزالة – انتهى كلام الحافظ مختصرا. (رواه الترمذي) وقال: هذا حديث غريب، وإسناده ضعيف، ورشدين بن سعد، وعبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي يضعفان في الحديث - انتهى. وقال الذهبي في ترجمة رشدين: كان صالحا عابدا سيئ الحفظ غير معتمد. وقال الحافظ في ترجمة الإفريقي: ضعيف في حفظه، وكان رجلا صالحا، وكان البخاري يقوى أمره، ولم يذكره في كتاب الضعفاء والحديث أخرجه أيضا ابن عساكر.
423- قوله: (ينشف) أي: يسمح من التنشيف، قال في القاموس: نشف الثوب العرق كسمع ونصر، شربه، والحوض
بها أعضاءه بعد الوضوء)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث ليس بالقائم وأبومعاذ الراوي ضعيف عند أهل الحديث.
?الفصل الثالث?
424- (31) عن ثابت بن أبي صفية، قال: قلت لأبي جعفر – هو محمد

(3/226)


الماء شربه، كتنشفه، وقال فيه: نشف الماء تنشيفا أخذه بخرقة ونحوها (أعضاءه) كذا في النسخ الموجودة عندنا بزيادة لفظ "أعضائه" بعد قوله "ينشف"، وليس هو في المصابيح، ولا في التلخيص، ولا جامع الترمذي، والمستدرك للحاكم، والسنن الكبرى للبيهقي، فالظاهر أنه خطأ من زيادة الناسخ. (بعد الوضوء) فيه أيضا دليل على جواز التنشيف وعدم كراهته، وفي الباب أحاديث أخرى تدل على جواز ذلك، ذكرها شيخنا في شرح الترمذي نقلا عن العيني، وكلها ضعيفة إلا حديث أبي مريم أياس بن جعفر، عن فلان رجل من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له منديل أو خرقة يمسح بها وجهه إذا توضأ. قال العيني: أخرجه النسائي في الكنى. بسند صحيح رواه الترمذي، وأخرجه الحاكم (ج1:ص154)، والبيهقي (ج1:ص185). (هذا حديث ليس بالقائم) أي ليس بالقوى، وبين وجهه بقوله (وأبو معاذ الراوي) قال الترمذي: يقولون: هو سليمان ابن أرقم. (ضعيف عند أهل الحديث) قال العلامة الشيخ أحمد محمد الشاكر في تعليقه على الترمذي: إسناد المؤلف هنا فيه سفيان بن وكيع بن الجراح، وهو في نفسه ثقة صادق إلا أن وراقه أفسد عليه حديثه، فأدخل عليه ما ليس منه، ونصح بتغييره فلم يقبل، فضعف حديثه باختلاطه بما ليس منه، ولكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث، فقد رواه الحاكم، في المستدرك من طريق محمد بن عبدالله بن الحكم عن ابن وهب، ورواه البيهقي عن الحاكم وغيره من طريق ابن عبدالحكم، وقد ضعف الترمذي هذا الحديث من أجل سليمان بن أرقم فإنه ضعيف، ولكن الترمذي لم يجزم بأن أبا معاذ هو سليمان بن أرقم، بل قال: يقولون. والبيهقي تبع الترمذي في ذلك، غير أنه جزم بأنه سليمان، وأما الحاكم فقال: أبومعاذ هو الفضيل بن ميسرة بصري، روى عنه يحيى بن سعيد، وأثنى عليه، وأقره الذهبي على ذلك فلم يتعقبه فيه، وبذلك يكون إسناد هذا الحديث صحيحا – انتهى.

(3/227)


424- قوله: (عن ثابت) بمثلثة وبمؤحدة ومثناة فوق. (بن أبي صفية) بكسرة فاء مخففة وشدة ياء هو ثابت بن أبي صفية الثمالي أبوحمزة واسم أبيه دينار، وقيل: سعيد، كوفي ضعيف رافضي، مات في خلافة أبي جعفر من صغار التابعين (هو محمد) أي اسم أبي جعفر هو محمد، وهو ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، ثقة فاضل، من فقها التابعين، قال محمد بن فضيل عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر وابنه جعفر بن محمد عن أبي بكر وعمر فقالا لي: يا سالم! تولهما وابرأ من عدوهما فإنهما كانا إمامي هدى. وعنه قال: ما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما.
الباقر – حدثك جابر: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا؟ قال: نعم)). رواه الترمذي، وابن ماجه.
425-(32) وعن عبدالله بن زيد، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين، وقال: هو نور على نور)).
426–(33) وعن عثمان، رضي الله عنه قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثا ثلاثا، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي، ووضوء إبراهيم)).

(3/228)


كان مولده سنة (56) ومات بالمدينة سنة (114)، وقيل (117) وقيل (118) وهو ابن (63)سنة، وقيل غير ذلك، ودفن بالبقيع. (الباقر) أي: باقر العلم، لقب به لتبقره أي توسعه وتبحره في العلم، واشتهر ابنه جعفر أبوعبدالله بالصادق، وقوله (هو محمد الباقر) زاده المؤلف لتعيين أبي جعفر. (توضأ مرة مرة) الوضوء فعل مركب من غسلات ومسح، فقوله (مرة مرة) يتعلق بالكل فلذلك جاء مكررا، وعلى هذا فينبغي أن يكون مرتين وثلاثا كذلك، لكن المعلوم في المسح مرة فيحمل ذلك على التغليب، لكن الغالب هو الغسل (قال: نعم) قال الطيبي: من عادة المحدثين أن يقول القاري بين يدى الشيخ حدثك فلان عن فلان برفع إسناده وهو ساكت يقرر، وذلك كما يقول الشيخ حدثني فلان عن فلان ويسمعه الطالب - انتهى. وقال السيوطي في تدريب الراوي: إذا قرأ على الشيخ قائلا: أخبرك فلان أو نحوه، كقلت: أخبرنا فلان، والشيخ مصغ إليه فاهم له غير منكر، ولا مقر لفظا، صح السماع، وجازت الرواية به اكتفاء بالقرائن الظاهرة، ولا يشترط نطق الشيخ بالاقرار، كقوله: نعم، على الصحيح الذي قطع به جماهير أصحاب الفنون، وشرط بعض الشافعية والظاهرين نطقة به - انتهى. وفي الحديث بيان ثلاث أحوال في ثلاث أوقات لا بيان حالة واحدة. (رواه الترمذي وابن ماجه) كلاهما من طريق شريك بن عبدالله النخعي عن ثابت بن أبي صفية، وشريك كثير الغلط، وثاب ضعيف الحديث بالاتفاق.
425- قوله: (توضأ مرتين مرتين) أي: غسل الأعضاء المغسولة مرتين مرتين. (هو نور على نور) أي: غسل الأعضاء المغسولة في الوضوء مرتين مرتين سبب لزيادة النور. وقال الطيبي: إشارة إلى قوله: "إن أمتي غر محجلون من آثار الوضوء" أو هداية على هداية، أو سنة على فرض يهدى الله لنوره من يشاء.

(3/229)


426- قوله: (توضأ ثلاثا ثلاثا) أي: غسل الأعضاء المغسولة في الوضوء ثلاثا. (وقال هذا) أي: الوضوء التام الكامل. (ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء إبراهيم) تخصيص بعد تعميم، وقد احتج به من قال أن الوضوء ليس مختصا بهذه
رواهما رزين، والنووي ضعف الثاني في شرح مسلم.
427- (34) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة، وكان أحدنا يكفيه الوضوء ما لم يحدث)). رواه الدارمي.
428- (35) وعن محمد بن يحيى بن حبان، قال: قلت لعبيدالله بن عبدالله بن عمر: ((أرأيت وضوء
الأمة. لكنه حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به على ذلك لضعفه قاله الحافظ، نعم يؤيد هذا القول ما صح في البخاري وغيره "أن إبراهيم وسارة توضآ وصليا، وإن جريجا توضأ وصلى". فالظاهر أن الذي اختصت به الأمة هو الغرة والتحجيل لا أصل الوضوء. (رواهما رزين) وروى أحمد عن ابن عمر مرفوعا: "من توضأ واحدة فتلك وظيفة الوضوء التي لابد منها، ومن توضأ اثنتين فله كفلان من الأجر، ومن توضأ ثلاثا فذاك وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي". وفيه زيد العمى وهو ضعيف. وروى ابن ماجه نحوه عن أبي بن كعب، وفيه عبدالله بن عراوة عن زيد العمى، وهما ضعيفان. (والنووي ضعف الثاني) أي: حديث عثمان. (في شرح مسلم) وكذا الحافظ في شرح البخاري كما تقدم. قلت: والحديث الأول أي: حديث عبدالله بن زيد ما حكى فيه من وضوءه - صلى الله عليه وسلم - مرتين مرتين قد رواه البخاري كما سبق، وأما قوله: هو نور على نور فقال العراقي في تخريج الإحياء: لم أقف عليه، وقال المنذري في الترغيب (ج1:ص81): لا يحضرني له أصل من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولعله من كلام بعض السلف.

(3/230)


427- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة) أي: مفروضة، ووقع في رواية الترمذي: طاهرا أو غير طاهر، وظاهر الحديث أن تلك كانت عادته، وهو يحتمل أن ذلك كان واجبا عليه خاصة، ثم نسخ يوم خيبر بحديث سويد بن النعمان الذي تقدم في باب ما يوجب الوضوء، ويحتمل أنه كان يفعله استحبابا ثم خشي أن يظن وجوبه فتركه لبيان الجواز، قال الحافظ: وهذا أقرب. قلت: ويدل لهذا، ما تقدم من حديث بريدة في باب ما يوجب الوضوء: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، وأن عمر سأله فقال: عمدا صنعته. أي: لبيان الجواز، واحتج للنسخ بحديث عبدالله بن حنظلة الآتي، وسيجئ الكلام فيه. (ما لم يحدث) من الإحداث. (رواه الدارمي) وأخرجه أيضا أحمد والطيالسي والبخاري والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
428- قوله: (وعن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وتشديد الموحدة ابن منقذ الأنصاري المدني، يكنى أبا عبدالله، تابعي، ثقة فقيه. قال الواقدي: كان له حلقة في مسجد المدينة، وكان يفتى، وكان ثقة كثير الحديث. وقال المصنف: روى عنه جماعة، وهو من مشائخ مالك، وكان مالك يبجله ويذكره بكل فضل من العبادة والزهد والفقه والعلم، مات بالمدينة سنة (141) وهو ابن (74) سنة. (قلت لعبيدالله بن عبدالله بن عمر) بن الخطاب العدوى المدني،
عبد الله بن عمر لكل الصلاة طاهرا كان أو غير طاهر، عمن أخذه؟ فقال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل،

(3/231)


يكنى أبا بكر، شقيق سالم بن عبدالله بن عمر ثقة من أوساط التابعين، مات سنة (106) وقال المصنف: روى عنه الزهري ونفر من أعلام التابعين، مات قبل أخيه سالم وهو ثبت ثقة، حديثه في الحجازيين، ووقع في رواية أبي داود عبدالله بن عمر مكبرا، وهو أكبر ولد عبدالله بن عمر، ثقة قليل الحديث. مات سنة (105). (عمن أخذه) متعلق بمعنى: أرأيت أي: أخبرني عمن أخذه، والضمير بمعنى اسم الإشارة والمشار إليه الوضوء المخصوص. (فقال) أي: عبيد الله (حدثته) أي: عبيد الله ففي رواية أبي داود: فقال: حدثتنيه (أسماء). قال ميرك: هو معنى ما قاله لا ما تلفظ به، فإن لفظه "هو حدثتني". (بنت زيد بن الخطاب) هو أخو عمر بن الخطاب، قال في التقريب: أسماء بنت زيد بن الخطاب العدوية. يقال: لها صحبة وقال ابن الأثير: لها رؤية وقال في التهذيب (ج12:ص398): ذكرها ابن حبان وابن مندة في الصحابة، وذكرها الحافظ في الإصابة في القسم الثاني من حرف الألف من النساء (ج4:ص246): (وهو فيمن ذكر من الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض الصحابة من النساء والرجال، ممن مات - صلى الله عليه وسلم - وهو في دون سن التميز) وقال: يدل على أنها من أهل هذا القسم أن والدها استشهد باليمامة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل، وكانت دواعي الصحابة متوفرة على إحضار أولادهم إذا ولدوا ليبرك عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - - انتهى (أن عبدالله بن حنظلة) ويقال له: ابن الغسيل، لأن أباه حنظلة غسيل الملائكة كما سيأتي، وأم عبدالله جميلة بنت عبدالله بن أبي. قال ابن سعد: كان حنظلة لما أراد الخروج إلى أحد وقع على امرأته فعلقت يومئذ بعبد الله في شوال على رأس اثنين وثلاثين من الهجرة فولدته أمه بعد ذلك. وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن سبع وقد رآه، وروى عنه، وكان خيرا فاضلا مقدما في الأنصار. قال ابن عبدالبر: أحاديثه عندي مرسلة،

(3/232)


واستشهد يوم الحرة يوم الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وكانت الأنصار قد بايعته يومئذ، وبايعت قريش عبدالله بن مطيع: وكان عثمان بن محمد بن أبي سفيان قد أوفده إلى يزيد بن معاوية، فلما قدم على يزيد حباه وأعطاه، وكان عبدالله فاضلا في نفسه، فرأى منه ما لا يصلح فلم ينتفع بما وهب له، فلما انصرف خلعه في جماعة أهل المدينة فبعث إليهم مسلم بن عقبة فكانت الحرة (الغسيل) أي غسيل الملائكة، وهو بالجر صفة حنظلة بن أبي عامر الراهب الأنصاري الأوسي، ذكر أهل السير أن حنظلة الغسيل كان قد ألم بأهله في حين خروجه إلى أحد، ثم هجم عليه من الخروج في النفير ما أنساه الغسل وأعجله عنه، فلما قتل شهيدا أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الملائكة غسلته. وروى عروة بن الزبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة حنظلة: ما كان شأنه؟ قالت: كان جنبا وغسلت أحد شقى رأسه، فلما سمع الهيعة خرج فقتل
حدثها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. قال: فكان عبدالله يرى أن به قوة على ذلك ففعله حتى مات)). رواه أحمد.
429- (36) وعن عبدالله بن عمرو بن العاص، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بسعد وهو يتوضأ، فقال: ((ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف؟ قال نعم! وإن كنت على نهر جار)). رواه أحمد وابن ماجه.

(3/233)


فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد رأيت الملائكة تغسله، كذا في الاستيعاب (ج1:ص105). (حدثها) أي: حديث عبدالله أسماء. (كان أمر) بصيغة المجهول. (بالوضوء) قال في التوسط شرح سنن أبي داود: هذا الأمر يحتمل كونه له خاصا به أو شاملا لأمته، ويحتمل كونه بقوله تعالى: ?إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا? بأن يكون الآية على ظاهرها – انتهى. قلت: وحمل علي رضي الله عنه هذه الآية على ظاهرها، كما يدل عليه ما رواه الدارمي عنه في باب قوله: ?إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم? من مسنده، وقد تقدم الكلام في معنى الآية مفصلا. (فلما شق ذلك) أي: الوضوء لكل صلاة. (أمر بالسواك عند كل صلاة) قال الطيبي: فيه تنبيه على فخامة السواك حيث أقيم مقام ذلك الواجب، وكاد أن يكون واجبا عليه. (ووضع عنه الوضوء) أي: وجوبه. (إلا من حدث) أي: من حدوث حدث حقيقي أو حكمي. (قال) أي: عبيدالله. (فكان عبدالله) أي: ابن عمر (يرى أن به) أي: بعبدالله، والجار مع مجروره خبر مقدم لأن (قوة) بالنصب على أنه اسمه المؤخر، والجملة قائمة مقام مفعولي يرى (على ذلك) أي: على نحو فعله - صلى الله عليه وسلم - قبل النسخ (ففعله) أي: الوضوء لكل صلاة. (رواه أحمد) (ج5:ص255) وأخرجه أيضا الدارمي وأبوداود وسكت عنه وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1:ص156،155) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي والبيهقي، وفي سنده عندهم جميعا محمد بن اسحق وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس، لكن صرح في رواية الحاكم بالتحديث.

(3/234)


429- قوله: (مر بسعد) أي: ابن أبي وقاص (وهو يتوضأ) يعني يسرف في وضوئه، إما فعلا كالزيادة على الثلاث وإما قدرا كالزيادة على قدر الحاجة في الاستعمال. (ما هذا السرف) بفتحتين بمعنى: الإسراف أي: التجاوز عن الحد في الماء. (قال: أفي الوضوء سرف؟) بناء على ما قيل لا خير في سرف ولا سرف في خير، فظن أن لا إسراف في الطاعة والعبادة. (قال: نعم! وإن كنت على نهر جار) فإن فيه إسراف الوقت وتضييع العمر، أو تجاوزا عن الحد الشرعي كما تقدم. وقال الطيبي: هو تتميم لإرادة المبالغة أي: نعم ذلك تبذير وإسراف في مالم يتصور فيه التبذير، فكيف بما تفعله، ويحتمل أن يراد بالإسراف الإثم بسبب التجاوز عن الحد الشرعي. (رواه أحمد وابن ماجه) وفيه ابن لهيعة، قال أبوحاتم
432،431،430- (39،38،37)وعن أبي هريرة، وابن مسعود، وابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من توضأ وذكر اسم الله، فإنه يطهر جسده كله، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله، لم يطهر إلا موضع الوضوء)).
433- (40) وعن أبي رافع، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ وضوء الصلاة حرك خاتمة في أصبعه)). رواهما الداقطني، وروى ابن ماجه الأخير.
(5) باب الغسل
?الفصل الأول?
وأبوزرعة: يكتب حديثه للاعتبار. وقال الحافظ في التلخيص (ص53) بعد ذكر هذا الحديث: إسناده ضعيف، وقال في الفتح (ج1:ص118): بإسناد لين.

(3/235)


432،431،430- قوله: (إن النبي) كذا في طبعات الهند، ووقع في نسختي القاري والألباني: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (وذكر اسم الله) أي: في أول وضوئه. (فإنه يطهر) من التطهير على البناء للفاعل. (جسده كله) أي: من الذنوب. (لم يطهر إلا موضع الوضوء) أي: إلا ذنوب المواضع المخصوصة، يعني: من الصغائر، وقد استدل به من قال بعدم وجوب التسمية في أول الوضوء، لكنه حديث ضعيف جدا بجميع طرقه، فلا يصح الاحتجاج به على هذا المطلوب، والحق أن التسمية في أول الوضوء واجب لا يصح الوضوء بدونها.
433- قوله: (وضوء الصلاة) احتراز عن غسل اليد فإنه وضوء لغوي. (حرك خاتمة في إصبعه) قال القاري: أي لأن استيعاب الغسل فرض فيسن تحريك الخاتم إذا ظن وصول الماء إلى ما تحته، وإلا فيجب تحريكه – انتهى. وفيه دليل على مشروعية تحريك الخاتم ليزول ما تحته من الأوساخ، ويصل الماء إليه، وكذلك ما يشبه الخاتم من الأسورة والحلية ونحوهما. (رواهما الدارقطني) قد تقدم الكلام في الحديث الأول في شرح حديث سعيد بن زيد. (وروى ابن ماجه الأخير) وهو ضعيف، فإن في سنده معمر بن محمد بن عبيدالله، وهو ضعيف منكر الحديث، عن أبيه محمد بن عبيدالله، وهو أيضا ضعيف منكر الحديث جدا، ذاهب متروك، وقد ذكره البخاري تعليقا عن ابن سيرين، ووصله ابن أبي شيبه.
(باب الغسل) هو بفتح الغين أصح وأشهر من ضمها، مصدر غسل الشيء، وبمعنى الاغتسال، وبكسرها اسم لما يغسل به من سدر وخطمى ونحوهما، وبالضم اسم للماء الذي يغتسل به، قاله القسطلاني، وهو بالمعنيين الأولين إسالة الماء وإمراره على الشيء، واختلف في الدلك فقيل: يجب، وقيل: لا يجب، والمسألة لغوية، واحتج من قال: ليس من
434- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا جلس أحدكم بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل وإن لم ينزل)) متفق عليه.

(3/236)


مسماه الدلك، بقول العرب: غسل المطر الأرض، وليس في ذلك إلا الإسالة. قال الآلوسي في تفسيره (ج6: ص69): ومنع بأن وقعه من علو خصوصا مع الشدة والتكرر دلك أي: دلك، وهم لا يقولونه إلا إذا نظفت الأرض، وهو إنما يكون بدلك، وبأنه غير مناسب للمعنى المعقول من شرعية الغسل، وهو تحسين هيئة الأعضاء الظاهرة للقيام بين يدى الرب سبحانه الذي لا يتم بالنسبة إلى سائر المتوضئين إلا بالدلك – انتهى. وقال بعض الحنفية: الدلك معتبر في الغسل لغة، وأقر به الشيخ ابن الهمام في فتح القدير، ولذا شرطه المالكية، وما لا دلك فيه لا يسمى غسلا بل يقال له: الصب والإسالة – انتهى. قلت: قوله - صلى الله عليه وسلم -: بلوا الشعر وأنقوا البشر، يشعر بوجوب الدلك، لأن الإنقاء لا يحصل بمجرد الإفاضة والإسالة. وقيل: الدلك ليس واجبا لذاته، إنما هو واجب لتحقق وصول الماء، فلو تحقق لم يجب، كما قاله ابن الحاج في شرح المنية، واشترط الدلك في الغسل.

(3/237)


434- قوله: (إذا جلس أحدكم بين شعبها الأربع) أي يديها ورجليها، أو رجليها وفخذيها وشغريها، أو ساقيها وفخذيها، أو نواحي فرجها الأربع، والشعب - بضم المعجمة وفتح المهملة - النواحي جمع شعبة. (ثم جهدها) يقال: جهد وأجهد أي: بلغ المشقة يعني بلغ جهده في العمل بها، أي: حفزها وكدها بحركته، والمراد ههنا الجماع ومعالجة الإيلاج، كنى به عنها، ففي رواية أبي داود: وألزق الختان بالختان، بدل قوله: ثم جهدها، فهذا يدل على أن المراد بالجهد ههنا الجماع. (فقد وجب الغسل) أي: عليهما. (وإن لم ينزل) ولا أنزلت هي. فيه دليل على أن الإنزال غير مشروط في وجوب الغسل، بل المدار على الإيلاج وغيبوبة الحشفة في الفرج وهو الحق. وقيل: لا يجب الغسل إلا بالإنزال، وكان الخلاف فيه مشهورا بين الصحابة، ثم استمر بين العلماء بعدهم إلى عصر المؤلفين من الأئمة حتى قال البخاري في صحيحه: الغسل أحوط، وذاك الأخير إنما بينا لاختلافهم، والماء أنقى، لكن الخلفاء الأربعة وجمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم على إيجاب الغسل بمجرد الجماع، ولو لم ينزل وهو الصواب (متفق عليه) هذا يقتضي أن قوله: وإن لم ينزل، متفق عليه، وهو ليس في صحيح البخاري، بل هو من أفراد مسلم عن البخاري، وسبق المصنف في عزوه إلى الصحيحين جميعا ابن الأثير في جامع الأصول، والظاهر أن المصنف تبعه واعتمد عليه، وقيل عزاه لهما جميعا نظرا إلى أصل الحديث لا بالنظر إلى جميع ألفاظه. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه، لكن قوله: (وإن لم ينزل)، من أفراد أحمد ومسلم.
435- (2) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الماء من الماء)) رواه مسلم.
436- (3) قال الشيخ الإمام محى السنة رحمه الله: هذا منسوخ. وقال ابن عباس: إنما الماء من الماء في الاحتلام.

(3/238)


435- قوله: (إنما الماء من الماء) أي: الاغتسال من الإنزال، فالماء الأول المعروف، والثاني المني، وفيه من البديع الجناس التام. والحديث دال بمفهوم الحصر على أنه لا غسل إلا من الإنزال، ولا غسل من مجاوزة الختان الختان، لكن الجمهور على أنه منسوخ. (رواه مسلم) في قصة عتبان بن مالك، قال أبوسعيد: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب عتبان فصرخ به فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعجلنا الرجل"، فقال عتبان: أرأيت الرجل يعجل عن امرأته، ولم يمن ما ذا عليه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الماء من الماء". وأخرجه أيضا أبوداود،و ابن خزيمة، وابن حبان بدون القصة. وروى البخاري القصة ولم يذكر الحديث، ولذا قال الحافظ في بلوغ المرام: وأصله عند البخاري، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أعجلت أو أقطحت فعليك الوضوء. والحديث له طرق عن جماعة من الصحابة عن أبي أيوب، ورافع بن خديج، وعتبان بن مالك، وأبي هريرة، وأنس، وغيرهم.

(3/239)


436- قوله: (هذا) أي: حديث أبي سعيد (منسوخ) بحديث سهل بن سعد عن أبي كعب، قال: إنما كان الماء من الماء، رخصة في أول الإسلام، ثم أمرنا بالاغتسال بعد. أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبهقي والدارقطني وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال الإسماعيلي: إنه صحيح على شرط البخاري، وقال الحافظ: هو إسناد صالح لأن يحتج به. وبحديث رافع بن خديج قال: ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أنزل، فاغتسلت، وخرجت، فأخبرته، فقال: لا عليك، الماء من الماء. قال رافع: ثم أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بالغسل. أخرجه أحمد (ج4:ص143) وذكره الحازمي في كتابه الناسخ والمنسوخ (ص22) وحسنه، وفي تحسينه نظر، وبالجملة الحديثان صريحان في النسخ، وقد ذكر الحازمي في كتابه آثارا تدل على النسخ. قال الأمير اليماني: حديث الغسل وإن لم ينزل، أرجح لو لم يثبت النسخ، لأنه منطوق في إيجاب الغسل، وذلك مفهوم، والمنطوق مقدم على العمل بالمفهوم، وإن كان المفهوم موافقا للبراءة الأصلية، والآية تعضد المنطوق في إيجاب الغسل، فإنه قال تعالى: ?وإن كنتم جنبا فاطهروا?. قال الشافعي: إن كلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع، وإن لم يكن فيه إنزال. قال: فإن كل من خوطب بأن فلانا أجنب عن فلانة، عقل أنه أصابها وإن لم ينزل. قال: ولم يختلف أن الزنا الذي يجب به الجلد هو الجماع ولو لم يكن منه إنزال، انتهى. فتعاضد الكتاب والسنة على إيجاب الغسل من الإيلاج (وقال ابن عباس: إنما الماء من الماء في الاحتلام) يعني أن حديث "الماء من الماء" محمول على صورة مخصوصة،و هي ما يقع في المنام
رواه الترمذي، ولم أجده في الصحيحين.
437- (4) وعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: ((قالت أم سليم: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! إن الله لا يستحي من الحق،

(3/240)


من رؤية الجماع، فإنه لا يجب الغسل في الاحتلام إلا بالانزال لا بالمجامعة، وهو تأويل يجمع بين الحديثين من غير تعارض، وهذا رأى من ابن عباس، تأول به الحديث، ولعله لم يبلغه التفصيل الذي في حديث أبي سعيد عند مسلم، وحديث رافع بن خديج عند أحمد، فإنه صريح في نفي هذا التأويل. وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي: يمكن أن يقال: أن قول ابن عباس هذا ليس تأويلا للحديث، وإخراجا له بهذا التأويل من كونه منسوخا، بل غرضه بيان حكم المسألة بعد العلم بكونه منسوخا، وحاصله أن عمومه منسوخ، فبقى الحكم في الاحتلام – انتهى. وقال بعضهم: حديث "إنما الماء من الماء" في المباشرة كما ذكره ابن رسلان في شرح أبي داود، وقيل: المراد من الماء الثاني الأعم من الحقيقي، وهو المنى، والحكمى، وهو الإيلاج، قلت: يأبي هذه التأويلات التفصيل المذكور في حديث أبي سعيد، فأرجح الأقوال وأسلمها أنه منسوخ. (رواه الترمذي ولم أجده) أي: قول ابن عباس (في الصحيحين) كأنه اعتراض على محى السنة، حيث أورد قول ابن عباس هذا في الصحاح، ولا اعتراض في ذلك عليه، لأنه إنما أورد قوله لبيان توجيه رواية مسلم، أعنى حديث "إنما الماء من الماء"، لا أنه مقصود الباب، فعدم وجوده في الصحيحين لا يضره، لأن ذلك الشرط إنما هو في مقاصد الباب، وهو ظاهر لمن تصفح وتتبع كتاب المصابيح.

(3/241)


437- قوله: (قالت أم سليم) بضم السين مصغرا، هي أم سليم بنت ملحان، الأنصارية، والدة أنس بن مالك، يقال: اسمها سهلة أو رميلة، أو رميثة، أو أنيثة، أو مليكة، وهي الغميصاء، أو الرميصاء، ثبت ذلك البخاري، اشتهرت بكنيتها، وكانت من الصحابيات الفاضلات، لها أربعة عشر حديثا، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، وقال ابن عبدالبر: كانت تحت مالك بن النضر في الجاهلية فولت له أنسا، فلما جاء الله بالاسلام, أسلمت وعرضت على زوجها الإسلام، فغضب عليها وخرج إلى الشام فهلك، فتزوجت بعده أبا طلحة، خطبها وهو مشرك فأبت عليه إلا أن يسلم، فأسلم فتزوجته، فولت له غلاما كان قد أعجب به، فمات صغيرا، فأسف عليه، وقيل: إنه أبوعمير صاحب النغير، ثم ولدت له عبدالله بن أبي طلحة فبورك فيه، وهو والد اسحق بن عبدالله بن أبي طلحة الفقيه وإخوته، وكانوا عشرة، كلهم حمل عنه العلم، وروى عن أم سليم، قالت: لقد دعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ما أريد زيادة، ومناقبها كثيرة شهيرة. ماتت في خلافة عثمان (إن الله لا يستحي من الحق) بيائين على الأصل بعد سكون الحاء، أي لا يمتنع من بيان الحق، ولا يتركه ترك الحيي منا، فكذا لا أمتنع أنا من سؤالي عما أنا محتاجة إليه. وقيل: المعنى: إن الله لا يأمر بالحياء في الحق ولايبيحه، وإنما قالت هذا اعتذارا بين يدي سؤالها عما دعت الحاجة إليه مما تستحي النساء في العادة عن السؤال عنه، وذكره بحضرة الرجال
فهل على المرأة من غسل إذا إحتملت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء، فغطت أم سلمة وجهها، وقالت: يارسول الله! أو تحتلم المرأة؟ قال: نعم، تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها؟)) متفق عليه.
438- (5) وزاد مسلم برواية أم سليم:

(3/242)


(من غسل) زيادة من للتأكيد، أي: نوع من الغسل (إذا احتلمت) أي: إذا رأت في الحلم – بالضم – المجامعة، وفي رواية أنها قالت: إذا رأت أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل؟ (قال: نعم ! إذا رأت الماء) أي: المنى بعد الاستيقاظ. وفيه دليل على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال في الاحتلام، وكأن أم سليم لم تسمع حديث الماء من الماء أو سمعته، وقام عندها مايوهم خروج المرأة عن ذلك وهو ندور بروز الماء منها، وفيه رد على من قال: إن ماء المرأة لا يبرز. (فغطت) أي: سترت حياء (أم سلمة وجهها) قيل: إنه من كلام زينب الراوية عن أم سلمة، وقيل: من أم سلمة على سبيل الالتفات كأنها جردت من نفسها أخرى، وأسندت إليها التغطية. وفي مسلم من حديث أنس أن ذلك وقع لعائشة. ويمكن الجمع بينهما بأنهما كانتا حاضرتين عند سؤال أم سليم. (أو تحتلم) بإثبات همزة الاستفهام، وهو معطوف على مقدر يظهر من السياق، أي: أترى المرأة الماء وتحتلم؟ ووقع في بعض النسخ بحذف الهمزة. (المرأة) أي: ويكون لها مني، ويخرج منها كالرجل؟ وفيه دليل على قلة وقوع الاحتلام من النساء، (قال: نعم) فيه: أن المرأة ترى ما يراه الرجل في منامه (تربت يمينك) في معنى هذه اللفظة أقوال كثيرة، ذكر عشرة منها ابن العربي في شرح الترمذي، والأصح الأقوى الذي عليه المحققون أنها كلمة أصلها: لصقت بالتراب أي: افتقرت، ولكنها جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر بها بل يقصدون الإنكار والزجر واللوم ونحوه، أي: إن أم سليم فعلت ما يجب عليها من السؤال عن دينها فلم تستحق الإنكار واللوم، واستحققت أنت الإنكار لإنكارك ما لا إنكار فيه. (فبم) بالموحدة المكسورة، وأصله "فبما" حذفت ألف ما الإستفهامية المجرورة. (يشبهها) من الأشباه (ولدها) بالرفع على الفاعلية أي: في بعض الأحيان. وهو استدلال على أن لها منيا كما للرجل، والولد مخلوق منهما، إذ لو لم يكن لها ماء، وخلق من

(3/243)


ماءه فقط لم يشبهها. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم، والطهارة وبدأ الخلق، والأدب، ومسلم في الطهارة لكن ليس في روايته لفظ "فغطت أم سلمة وجهها" بل إنما رواه البخاري في العلم. والحديث أخرجه أيضا مالك في المؤطا والترمذي والنسائي وابن ماجه، وأخرجه أيضا مسلم وأبوداود من حديث أنس عن أم سليم، وسنذكر روايتها. ووقعت هذه المسألة لنساء من الصحابيات: لخولة بنت حكيم عند أحمد والنسائي وابن ماجه، ولسهلة بنت سهيل عند الطبراني، ولبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبه.
438- قوله: (وزاد مسلم برواية أم سليم) روى مسلم عن أنس بن مالك: أن أم سليم حدثت أنها سألت نبي
((إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه)).
439- (6) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة، بدأ فغسل يديه،

(3/244)


الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل، فقالت أم سلمة: واستحييت من ذلك، قالت: وهل يكون هذا؟ فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، فمن أين يكون الشبه؟ إن ماء الرجل الخ .. (إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر) هذا الوصف باعتبار الغالب، وحال السلامة، واعتدال الحال، لأن مني الرجل قد يصير رقيقا بسبب المرض، ومحمرا بكثرة الجماع، وقد يبيض مني المرأة لفضل قوتها (فمن أيهما) بكسر الميم بعدها نون ساكنة، وهي الحرف المعروف، أي: أي الماءين، ومن زائدة قاله الطيبي. (علا) أي: غلب (أوسبق) يعني غلب المني فيما إذا وقع منيهما في الرحم معا، أو سبق وقوع منيه في الرحم قبل وقوع مني صاحبه، فأو للتقسيم لا للترديد قاله القاري. (يكون منه الشبه) بكسر الشين وسكون الموحدة وبفتحهما لغتان، أي: شبه الولد بالأب أو الأم في المزاج، والذكورة، والأنوثة. وفي حديث أنس عند البخاري في قصة إسلام عبدالله بن سلام: إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة الرجل نزعت الولد. ووقع في حديث عائشة عند مسلم :إذا علا ماءها ماء الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه. قال الحافظ: المراد بالعلو ههنا السبق، لأن من سبق فقد علا شأنه فهو علو معنوي، وأما ما وقع عند مسلم من حديث ثوبان رفعه، ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا منى المرأة منى الرجل آنثا بإذن الله، فهو مشكل من جهة أنه يلزم منه اقتران الشبه للأعمام إذا علا ماء الرجل، ويكون ذكرا لا أنثى، وعكسه، والمشاهد خلاف ذلك، لأنه قد يكون ذكرا، ويشبه أخواله لا أعمامه، وعكسه. قال القرطبي يتعين تأويل حديث ثوبان بأن المراد بالعلو السبق، قال الحافظ والذي يظهر ما قدمته، وهو تأويل

(3/245)


العلو في حديث عائشة، وأما حديث ثوبان فيبقى العلو فيه على ظاهره فيكون السبق علامة التذكير والتأنيث، والعلو علامة الشبه، فيرتفع الإشكال، وكان المراد بالعلو الذي يكون سبب الشبه بحسب الكثرة بحيث يصير الآخر مغمورا فيه، فبذلك يحصل الشبه، وينقسم ذلك ستة أقسام: الأول أن يسبق ماء الرجل، ويكون أكثر فيحصل له الذكورة والشبه، والثاني عكسه، والثالث أن يسبق ماء الرجل، ويكون ماء المرأة أكثر فتحصل الذكورة والشبه للمرأة، والرابع عكسه، والخامس أن يسبق ماء الرجل ويستويان فيذكر، ولا يختص بشبه، والسادس عكسه انتهى.
439- قوله: (إذا اغتسل) أي: أراد الغسل (من الجنابة) أي من أجل رفعها، أو بسبب حدوثها (فغسل يديه)
ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله.

(3/246)


في حديث ميمونة مرتين، أو ثلاثا، وغسلهما يحتمل أن يكون للتنظيف مما بهما من مستقذر، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم، ويدل عليه الزيادة التي رواها مسلم وغيره بلفظ: "قبل أن يدخل يده في الإناء"، وزاد أيضا: فيغسل فرجه (ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة) فيه احتراز عن الوضوء اللغوي، وظاهره أنه يمسح رأسه أيضا. قيل: يحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد في الغسل، ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى. قلت: الظاهر هو الاحتمال الأول لقوله: ثم يفيض الماء على جلده كله. ثم اختلف في هذا الوضوء: فذهب الجمهور إلى أنه لا يجب الوضوء مع الغسل، وقال داود وغيره: الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث، ويلزم الجمع بين الوضوء والغسل، وهو الراجح، لأن المراد بقوله تعالى: "حتى تغتسلوا" هو الإغتسال الشرعي الذي ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا المراد بقوله "فالطهروا" هو التطهر الشرعي، فما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيان هيئة الغسل هو بيان للإغتسال الشرعي المجمل الواجب الذي لا يتبين المراد منه إلا ببيانه - صلى الله عليه وسلم - فيكون واجبا. وظاهر قولها: كما يتوضأ للصلاة، أنه يغسل الرجلين ولا يؤخر غسلهما إلى فراغ الغسل، لكن وقع في رواية لمسلم: "ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه"، وفي رواية أبي داود الطيالسي "فإذا فرغ غسل رجليه" فإما أن يحمل قولها: كما يتوضأ للصلاة على المجاز، بأن المراد يتوضأ أكثر الوضوء كما يتوضأ للصلاة وهو ما سوى الرجلين، أو يحمل على ظاهره، ويكون المراد بقولها: "ثم غسل رجليه" في رواية مسلم أي: أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كانت غسلهما في الوضوء، فيوافق قولها في

(3/247)


رواية الكتاب "ثم يفيض على جلده كله". (ثم يدخل أصابعه في الماء) لتأخذ البلل ثم يخرجها (فيخلل بها) أي: بأصابعه التي أدخلها في الإناء لأنه أسهل لوصول الماء. (أصول شعره) أي: شعر رأسه، ويدل عليه رواية البيهقي: يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك. وقيل: المراد شعر لحيته ورأسه جميعا، لعموم قوله: أصول الشعر. (ثم يصيب) أي: الماء (على رأسه ثلاث غرفات) بفتحتين، وفي بعض النسخ غرف بضم المعجمة وفتح الراء، جمع غرفة، وهي قدر ما يغرف من الماء بالكف، وفيه سنية التثليث في الصب على الرأس، وألحق به غيره، فإن الغسل أولى بالتثليث من الوضوء المبني على التخفيف. وقيل: لا يستحب التكرار في الغسل، والمراد من التثليث في هذه الرواية أن كل غرفة كانت في جهة من جهات الرأس، فكان يقصد بالثلث الاستيعاب مرة لا التكرار مرات، وكون الغسل أولى بالتثليث لا يخلو عن نظر، لأن في تثليث الغسل من الحرج ما ليس في تثليث الوضوء. (ثم يفيض الماء على جلده كله) هذا التأكيد يدل على أنه عمم جميع جسده بالغسل بعد ما تقدم، وهو يؤيد الاحتمال الأول أن الوضوء سنة مستقلة قبل الغسل، لكن يعارضه ما وقع في بعض طرق هذا الحديث عند البخاري:
متفق عليه، وفي رواية لمسلم: ((يبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ)).
440- (7) وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قالت ميمونة: ((وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - غسلا فسترته بثوب، وصب على يديه، فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله. فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها، فمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم صب على رأسه، وأفاض على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه،

(3/248)


ثم غسل سائر جسده، أي بقيته، لأن السائر الباقي، ويحتمل أن يقال: أن "سائر" هنا: بمعنى الجميع جمعا بين الروايتين. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي، وأبوداود، والنسائي وابن ماجه. (وفي رواية لمسلم يبدأ) أي: إذا أراد أن يغتسل يشرع (فيغسل) الخ .. قد ركب المصنف الألفاظ المذكورة من روايتين لمسلم، ففي رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه (بشماله) ثم يتوضأ الخ .. . وفي رواية زائدة عن هشام: بدأ فغسل يديه قبل أن يدخل يده في الإناء ثم يتوضأ الخ.

(3/249)


440- قوله: (غسلا) بضم الغين المعجمة وسكون المهملة أي: ماء الإغتسال. (فسترته بثوب) أي: ضربت له سترا يغتسل وراءه لئلا يراه أحد. وفيه مشروعية التستر في الغسل ولو في البيت (فغسلهما) أي: إلى رسغيه (فغسل فرجه) أي: بشماله (فضرب بيده) أي: اليسرى (فمسحها) أي: الأرض لأجل إزالة الرائحة من اليد، أو للمبالغة في التنظيف، وتعليما للأمة. (فمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه) قال عياض: لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار. قال الحافظ: بل قدر ورد ذلك من طريق صحيحه أخرجها النسائي والبيهقي من رواية أبي سلمة عن عائشة: أنها وصفت غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة. الحديث، وفيه ثم يمضمض ثلاثا، ويستنشق ثلاثا، ويغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا، ثم يفيض على رأسه ثلاثا. (ثم صب على رأسه) ظاهره أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمسح رأسه كما يفعل في الوضوء اكتفاء بالغسل عن المسح في الوضوء. قال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء، وتمسك به المالكية لقولهم: إن وضوء الغسل لا تمسح فيه الرأس بل يكتفي عنه لغسلها- انتهى. قلت: ظاهر قوله في روايات عائشة في صفة الغسل "يتوضأ وضوءه للصلاة" أنه يمسح رأسه أيضا، فيحتمل أن ترك المسح في حديث ميمونة من اختصار الرواة، والله أعلم. (ثم تنحى) أي: تبعد. (فغسل قدميه) وفي رواية للبخاري: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه للصلاة غير رجليه. الحديث، وفي آخره: ثم نحى رجليه فغسلهما. وفيه التصريح بتأخير الرجلين في وضوء الغسل إلى آخره، وهو مخالف
فناولته ثوبا فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه)). متفق عليه، ولفظه للبخاري.
441- (8) وعن عائشة، قالت: ((إن امرأة من الأنصار سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، ثم قال: خذي فرصة

(3/250)


لظاهر رواية عائشة المتقدمة: "ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة"، ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة على المجاز كما تقدم، وإما بحمله على حالة أخرى، فكان يغسلهما أحيانا أي: إن لم يكن واقفا في المستنقع بل على لوح، أو حجر، أو مكان مرتفع، ويؤخرهما إلى الفراغ من الغسل أحيانا، أي: إذا كان واقفا في المستنقع، وأخذ منه جواز تفريق أعضاء الوضوء. قال مالك: إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم، وعند الشافعية في الأفضل قولان أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه. (فناولته ثوبا) أي: أردت إعطاءه لينشف به أعضاءه. (فلم يأخذه) أي: الثوب إما لكونه مستعجلا أو لأن الوقت كان حرا، والبلل مطلوب، أو لشئ رآه في الثوب من حرير، أو وسخ، ومع هذه الاحتمالات في الحديث لا يصلح أن يكون دليلا على كراهة التنشيف. (فانطلق وهو ينفض يديه) فيه جواز نفض اليدين من ماء الغسل قال الحافظ: وكذا الوضوء، وقد عارضه حديث: "لا تنفضوا أيديكم في الوضوء؛ فإنها مراوح الشيطان". أخرجه ابن حبان في الضعفاء، وابن أبي حاتم في العلل من حديث أبي هريرة إلا أنه حديث ضعيف جدا لو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح لم يكن صالحا لأن يحتج به. وفيه دليل على طهارة الغسالة، لأن النفض لا يخلوا عن إصابة الرشاش بالبدن. وحديث عائشة المتقدم وحديث ميمونة هذا مشتملان على بيان كيفية الغسل من ابتداءه إلى إنتهاءه، فإبتداءه غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، ثم غسل الفرج، ثم دلك اليد بالأرض وغسلها، ثم الوضوء ثم صب الماء على الرأس، ثم إفاضته على الجسد كله. (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواضع تسعة من كتاب الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وليس لأحمد والترمذي نفض اليدين. (ولفظه للبخاري) في باب نفض اليدين من غسل الجنابة.

(3/251)


441- قوله: (إن امرأة) من الأنصار قيل: هي أسماء بنت شكل الأنصارية. (من المحيض) مصدر ميمى أي: من أجل انقطاع حيضها. (فأمرها كيف تغتسل) سكت في هذه الرواية عن بيان كيفية الاغتسال، وهي مذكورة مشرحة في رواية أخرى، فقد أخرج مسلم عن إبراهيم بن المهاجر، عن صفية، عن عائشة، أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض، فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شؤون رأسها ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة. الحديث. (ثم قال) أي: بعد تعليمها كيفية الإغتسال. (فرصة) بكسر الفاء، وحكى ابن سيدة تثليثها، وبإسكان الراء وإهمال الصاد، قطعة من صوف، أو قطن، أو جلدة عليها صوف،
من مسك، فتطهري بها. قالت: كيف أتطهر بها؟ فقال: تطهري بها. قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: سبحان الله! تطهري بها. فاجتذبتها إلي فقلت: تتبعي بها أثر الدم)). متفق عليه.
442- (9) وعن أم سلمة، قالت: قلت: ((يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! إني امرأة أشد ضفر رأسي،

(3/252)


وحكى أبوداود أن في رواية أبي الأحوض "قرصة" بفتح القاف، ووجه المنذري فقال: يعني شيئا يسيرا مثل القرصة بطرف الإصبعين (من مسك) بكسر الميم، وهو طيب معروف، أي: خذي قطعة من صوف مطيبة من مسك، وقيل بفتح الميم وهو الجلد، أي: خذي فرصة كائنة من جلد، ويؤيد الكسر، وأن المراد التطيب ما في الرواية الأخرى "فرصة ممسكة" ويقوى الكسر أيضا ما في رواية عبدالرزاق حيث وقع عنده "من ذريرة" والمقصود باستعمال الطيب تطيب المحل، ودفع الرائحة الكريهة، ورجح بعضهم فتح الميم بأنهم كانوا في ضيق يمتنع معه أن يمتهنوا المسك مع غلاء ثمنه، وفيه أنه لا وجه لاستبعاده لما عرف من شأن أهل الحجاز من كثرة استعمال الطيب، وقد يكون المأمور به من يقدر عليه، فإن فقدت المسك استعملت ما يخلفه في طيب الريح فإن لم تجد فمزيلا كالطين، وإلا فالماء كاف. (فتطهري بها) أي: بتنظفي وتطيبي بها، أي: فاستعمليها في الموضع الذي أصابه الدم حتى يصير مطيبا. (قال: سبحان الله) تعجبا من عدم فهمها المقصود فأراد بقوله: سبحان الله التعجب، ومعنى التعجب ههنا، أنه كيف يخفى مثل هذا الظاهر الذي لا يحتاج الإنسان في فهمه إلى فكر أو تصريح، ووقع في رواية "استحيى وأعرض" وللإسماعيلي: فلما رأيته استحيا علمتها، وإنما كرر الجواب مع كونها لم تفهمه أولا، لأن الجواب به يؤخذ من إعراضه بوجهه عند قوله: "تطهري" أي: في المحل الذي يستحيا من مواجهة المرأة بالتصريح به، فاكتفى بلسان الحال عن لسان المقال، وفهمت عائشة ذلك عنه فتولت تعليمها. (فاجتذبتها إلي) أي: قربتها إلى نفسي. (تتبعي) من التتبع بتشديد الباء. (بها) أي: الفرصة الممسكة. (أثر الدم) أي: اجعليها في الفرج، وحيث أصابه الدم، ففي رواية الإسماعيلي "تتبعي بها مواضع الدم" وزاد الدارمي "وهو يسمع فلا ينكر" وفيه صحة العرض على المحدث إذا أقره ولو لم يقل عقبه نعم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وفي الاعتصام، ومسلم

(3/253)


في الطهارة. ولفظ البخاري في باب دلك المرأة نفسها.. إلخ، أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله ! تطهري، فاجتذبتها إلي.. الخ. والحديث أخرجه أيضا أحمد، وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
442- قوله: (أشد) بفتح الهمزة وضم الشين أي: أحكم. (ضفر رأسي) بفتح الضاد المعجمة وإسكان الفاء إما مصدر وهو نسج الشعر أو غيره، والضفير مثله، وإما أن يكون اسما للمضفورة. قال في اللسان: ويقال للذؤابة: ضفيرة، وكل خصلة من خصل شعر المرأة تضفر على حدته، وجمعها ضفائر. قال ابن سيده: والضفر كل خصلة من
أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء،

(3/254)


الشعر على حدتها، ثم قال: والضفيرة كالضفر، انتهى. وقال النووي: بفتح الضاد وإسكان الفاء، هذا هو المشهور المعروف في رواية الحديث، والمستفيض عند المحدثين، والفقهاء، وغيرهم، ومعناه: أحكم فتل شعري. (أفأنقضه) أي: أفرقه، يعني أيجب على شرعا نقضه أم لا؟ وإلا فهي مخيرة (لغسل الجنابة) أي: لأجله حتى يصل الماء إلى باطنه. وفي رواية مسلم: أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ (فقال: لا) أي: لا يجب، لا أنه لا يجوز. (إنما يكفيك) بكسر الكاف. (أن تحثي) بسكون الياء لأنها ياء الخطاب للمؤنث، والنون محذوفة على إعمال أن الناصبة، ولا يجوز نصب الياء، من حثا يحثوا حثوا، وحثي يحثي حثيا، واوي ويائي، قال في اللسان: والياء أعلى وهو الرمي، ووقع في بعض النسخ النسائي "أن تحثين" بإثبات النون، قال السندهي: وكأنه على إهمال "أن" تشبيها لها بما المصدرية، وقد ورد مثل ذلك في الحديث كثيرا، وارجع إلى "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" (ص117و118) (حثيات) بفتحات أي: حفنات يعني ثلاث غرف بيديه واحدها حثية قاله في النهاية واللسان. (ثم تفيضين) بإثبات النون، والتقدير: أنت تفيضين، فيكون من باب عطف الجمل، قاله القاري. وقيل: جاء على لغة من يرفع الفعل بعد أن حملا على أختها. والحديث دليل على أنه لا يجب على المرأة نقض الضفائر في غسل الجنابة، ولا في غسل الحيض بل يكفيها أن تصب على رأسها ثلاث حفنات، ويدل عليه أيضا ما رواه أحمد ومسلم عن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبدالله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن، فقالت: يا عجبا لابن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن بنقض رؤسهن، أو ما يأمرهن أن يحلقن رؤسهن، الحديث. وأما ما رواه مسلم من حديث عائشة (أي في المنتقى) في صفة غسل المرأة من المحيض بلفظ: ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شئون رأسها. فلا يدل على نقض الضفائر، ولا على وجوب بل داخل الشعر ولو سلم فهو محمول على

(3/255)


العزيمة والندب، وحديث أم سلمة على الرخصة جمعا بين الأدلة. وأما حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: وكانت حائضا: "انقضي شعرك، واغتسلي". أخرجه الأئمة الستة، وهذا لفظ ابن ماجه، وفي رواية للبخاري: انقضي رأسك، وامتشطي، وأمسكي عن عمرتك. فهو وارد في مندوبات الإحرام، والغسل في تلك الحالة للتنظيف لا للصلاة، والنزاع في غسل الصلاة، ذكره الشوكاني في النيل، وقال في السيل الجرار: واختصاص هذا بالحج لا يقتضي ثبوته في غيره، ولا سيما وللحج مدخلة في مزيد التنظيف، ثم اقترانه بالامتشاط الذي لم يوجبه احد يدل على عدم وجوبه. وأما ما رواه الدارقطني في الأفراد، والبيهقي في السنن الكبرى، والطبراني في الكبير من حديث أنس مرفوعا: إذا اغتسلت المرأة من حيضتها نقضت شعرها نقضا وغسلته بخطمي وأشنان، فإذا اغتسلت من الجنابة صبت على رأسها الماء وعصرته. فقد تفرد به مسلم بن صبيح اليحمدي وهو مجهول، وهو غير أبي الضحى مسلم بن صبيح المعروف، فإنه أخرج له الجماعة كلهم. وأيضا اقترانه بالغسل بخطمي وأشنان يدل على عدم الوجوب فإنه لم
فتطهرين)). رواه مسلم.
443- (10) وعن أنس قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد)).

(3/256)


يقل أحد بوجوب الخطمي ولا الأشنان - انتهى. وهذا كل في حق المرأة، وأما الرجل فيجب عليه نقض شعره المضفور، وبل ظاهره وباطنه، أي: داخله إذا لم يصل الماء إلى أصول الشعر إلا بالنقض لحديثي أبي هريرة، وعلى الآتيين في الفصل الثاني، ولحديث ثوبان: أنهم استفتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلث غرفات بكفيها". قال ابن القيم: هذا الحديث رواه أبوداود من حديث إسماعيل بن عياش، وهذا إسناد شامي، وحديثه عن الشاميين صحيح. وقال الشوكاني: أكثر ما علل به أن في إسناده إسماعيل بن عياش، والحديث من مروياته عن الشاميين، وهو قوي فيهم فيقبل، انتهى. هذا وارجع للتفصيل إلى غاية المقصود شرح سنن أبي داود. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

(3/257)


443- قوله: (كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع) الصاع أربعة أمداد بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمد رطل وثلث بالعراق فيكون الصاع خمسة أرطال وثلثا برطل عراق، وإليه ذهب أبويوسف، ومالك، والشافعي، وأحمد، وخالفهم أبوحنيفة ومحمد، فقالا: المد رطلان، والصاع ثمانية أرطال، ولا حجة لهما على ما ذهبا إليه، ولذلك ترك أبويوسف مذهبه، واختار مذهب الأئمة الثلاثة، ولمالك مع أبي يوسف فيه قصة مشهورة رواها البيهقي بإسناد جيد، وارجع للتفصيل إلى شرح الترمذي (ج1ص159-160) لشيخنا العلامة الأجل المباركفوري. والحديث يدل على كراهة الإسراف في الماء للوضوء والغسل، واستحباب الاقتصاد، وهو مجمع عليه (إلى خمسة أمداد) بيان لغايته، حاصله أنه لم ينقص عن أربعة أمداد ولم يزد على خمسة أمداد، يعنى أنه ربما اقتصر على الصاع، وربما زاد عليه إلى خمسة، فكأن أنسا لم يطلع على أنه استعمل في الغسل أكثر من ذلك. لأنه جعلها النهاية، وقد روى مسلم من حديث عائشة، أنه كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك. وروى الشيخان عنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من قدح يقال له الفرق. وفي رواية: كان يغتسل من إناء واحد يقال له الفرق، والفرق ثلاثة آصع أي: ستة عشر رطلا بالعراق. فهذا يدل على اختلاف الحال في ذلك بقدر الحاجة. وقد اختلف الروايات في الوضوء أيضا، ففي حديث عبدالله بن زيد عند ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بثلثي مد من ماء، فتوضأ فجعل يدلك ذراعيه. وفي حديث أنس عند أحمد، وأبي داود: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بإناء يكون رطلين. وفي هذه الأحاديث رد على من قدر وضوئه وغسله - صلى الله عليه وسلم - بما في حديث أنس الذي ذكره المؤلف من رواية الشيخين، وحمله الجمهور على الاستحباب؛ لأن
متفق عليه.

(3/258)


444- (11) وعن معاذة، قالت: قالت عائشة رضي الله عنها: ((كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد بيني وبينه، فيبادرني، حتى أقول: دع لي دع لي. قالت: وهما جنبان)). متفق عليه.
أكثر من قدر وضوءه وغسله - صلى الله عليه وسلم - من االصحابة قدرهما بذلك وهذا إذا لم تدع الحاجة إلى الزيادة، وهو أيضا في حق من يكون خلقه معتدلا. قال الشوكاني: القدر المجزئ عن الغسل ما يحصل به تعميم البدن على الوجه المعتبر، وسواء كان صاعا أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في النقصان إلى مقدار لا يسمى مستعمله مغتسلا، أو إلى مقدار في الزيادة يدخل فاعله في حد الإسراف، وهكذا الوضوء، القدر المجزئ ما يحصل به غسل أعضاء الوضوء سواء كان مدا أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في الزيادة إلى حد السرف أو النقصان إلى حد ما لا يحصل به الواجب (متفق عليه) وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه من حديث سفينة، وأبوداود من حديث عائشة بنحوه.

(3/259)


444- قوله: (وعن معاذة) بضم الميم هي معاذة بنت عبدالله العدوية أم الصهباء البصرية العابدة، ثقة حجة، تابعية، روت عن عائشة وعلي. يقال: إنها لم تتوسد فراشا بعد أبي الصهباء حتى ماتت. قال الذهبي: بلغني أنها كانت تحيي الليل وتقول: عجبت لعين تنام وقد علمت طول الرقاد في القبور. توفيت سنة (83). (أنا ورسول الله ) بالنصب على أن يكون مفعولا معه، والرفع على أن يكون عطفا على الضمير، وإبراز الضمير ليصح العطف، وهو من باب تغليب المتكلم على الغائب لكونها هي السبب في الاغتسال، فكأنها أصل في الباب. (من إناء واحد) من قدح يقال له الفرق، كما في رواية البخاري، والفرق ثلاثة آصع (بيني وبينه) أي: يوضع الإناء بيني وبينه وهو واسع الرأس، فنجعل أيدينا ونأخذ الماء للاغتسال به. (فيبادرني) أي: يسبقني لأخذ الماء زاد النسائي "وأبادره" قال الأشرف: ليس المعنى أنه يبادرني ويغتسل ببعضه ويترك الباقي فأغتسل منه، بل المعنى أنهما اغتسلا منه معا كما ورد في رواية أخرى: "نغترف منه جميعا". وفي رواية: "تختلف أيدينا فيه وتلتقي". (دع لي دع لي) أي: أترك لي ما أكمل غسلي، والتكرار للتأكيد أو للتعديد. (قالت) أي: معاذة. (وهما) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - وعائشة رضي الله عنها. (جنبان) بضم الجيم والنون تثنية جنب. وفي الحديث دليل على جواز اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد معا، ونقل الطحاوي ثم القرطبي والنووي الاتفاق على ذلك. وفيه أيضا جواز اغتراف الجنب من الماء القليل، وأن ذلك لا يمنع من التطهير بذلك الماء، ولا بما يفضل منه، سواء فيه الرجل وامرأة. (متفق عليه) أي: على أصل الحديث، واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا النسائي وقال السيد جمال الدين: قوله: متفق عليه، فيه نظر؛ لأن البخاري لم يقل: فيبادرني حتى أقول "دع لي دع لي" وإنما هو من أفراد مسلم.
?الفصل الثاني?

(3/260)


445- (12) عن عائشة، قالت: ((سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما. قال: يغتسل. وعن الرجل الذي يرى أنه قد احتلم ولا يجد بللا. قال: لا غسل عليه. قالت أم سليم: هل على المرأة ترى ذلك غسل؟ قال: نعم، إن النساء شقائق الرجال)). رواه الترمذي وأبوداود. وروى الدارمي، وابن ماجه إلى قوله: لا غسل عليه.
445- قوله: (يجد البلل) بفتحتين أي: رطوبة المني على بدنه، أو في ثوبه، وذلك لأن المسؤول عنه إنما هي بلة المني لا مطلق البلة بقرينة الحال، إذ لم يقل أحد بوجوب الغسل على المنتبه من النوم برؤية بلل البول، فكذا المذي. (ولا يذكر احتلاما) أي: لا يذكر أنه جامع في النوم (قال: يغتسل) خبر بمعنى الأمر وهو الوجوب، وفيه دليل على اعتبار مجرد وجود المني في إيجاب الاغتسال على المنتبه من النوم سواء انضم إلى ذلك ظن الشهوة، أم لا. قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافا، وبه قال المالك والشافعي واسحق وغيرهم، لكن قال ابن رسلان: لا يجب عند الشافعي الغسل حتى يذكر التنبه من النوم أنه جامع أحدا في النوم. (يرى) بفتح الياء أي: يعتقد وبضمها أي: يظن (أنه قد احتلم ولا يجد بللا. قال: لا غسل عليه) أي: لا يجب عليه الغسل، لأن البلل علامة ودليل، والنوم لا عبرة به، فالمدار على البلل سواء تذكر الاحتلام أم لا، وهذا لم يختلف فيه أحد، وقد حكى عليه الإجماع ابن المنذر وابن قدامة وغيرهما، وأما إذا رأى المستيقظ بللا، ولم يعلم أنه مني أو مذي، فالأحوط عندي وجوبا أن يغتسل لظاهر الحديث، وهو مختلف فيه بين الأئمة جدا، حتى عند الحنفية أيضا، فقد ذكر ابن عابدين في رد المختار. (ج1:ص151) أربعة عشر وجها في المسألة. (ترى ذلك) أي: البلل. (إن النساء) بكسر الهمزة استئناف في معنى التعليل. (شقائق الرجال) أي: نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطبائع فكأنهن شققن من الرجال، يعني فيجب على المرأة الغسل برؤية البلل بعد النوم

(3/261)


كالرجل. قال الخطابي: فيه من الفقه إثبات القياس وإلحاق حكم النظير بالنظير، فإن الخطاب إذا ورد بلفظ المذكر كان خطابا للنساء، إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها انتهى. (رواه الترمذي) الخ. وأخرجه أيضا أحمد (ج2:ص256) والحديث قد تفرد به عبدالله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وهو صدوق في حفظه شيء. قال الترمذى: إنما روى هذا الحديث عبدالله بن عمر عن عبيد الله بن عمر، وعبدالله ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه في الحديث، لكن أصل القصة معروفة في الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة، وهو ثالث أحاديث الفصل الأول، ونحوه من حديث عائشة في مسلم أيضا وأبي داود، ومن حديث أم سليم عند أحمد (ج 6:ص377)، ومن حديث أنس عند مسلم أيضا والدارمي، فهذه الروايات شاهدة
446- (13) وعنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا جاوز الختان الختان، وجب الغسل. فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاغتسلنا)). رواه الترمذي ،وابن ماجه.
447- (14) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر،
لحديث عائشة من رواية عبدالله بن عمر العمري، وقد سكت عنه أبوداود.

(3/262)


446- قوله: (إذا جاوز الختان الختان) الأول بالرفع والثاني بالنصب، والمراد بالختان ههنا موضع الختن، والختن من الرجل قطع ما يغطي الحشفة بحيث إذا قطع ظهرت الحشفة، ومن المرأة قطع جلدة في أعلى فرجها مجاورة لمخرج البول كعرف الديك، وذلك لأن مدخل الذكر هو مخرج الولد، والمني، والحيض، وفوقه مخرج البول، وبينهما جلدة رقيقة، وفوق مخرج البول جلدة رقيقة يقطع منها في الختان، ويسمى موضع الختن من المرأة الخفاض، أطلق عليه الختان مشاكلة. والمراد بمجاوزة الختان الختان، الجماع، وهو غيبوبة الحشفة في فرجها، ففي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: إذا التقى الختانان، وتوارت الحشفة، فقد وجب الغسل، أخرجه ابن ماجه، وابن أبي شيبة (وجب الغسل) وإن لم ينزل، والحديث نص في أن الغسل يجب بمجرد مجاوزة الختان الخفاض، أي: الإيلاج، ولا يتوقف على الإنزال، وإليه ذهب الجمهور وهو الصواب. (فعلته) الضمير راجع إلى مصدر جاوز. (ورسول الله ) بالرفع أو النصب. (فاغتسلنا) ظاهره أنها تعني بغير الإنزال، وأنه ناسخ لمفهوم حديث "إنما الماء من الماء" (رواه الترمذي) أخرج الترمذي أولا حديث عائشة هذا بتمامه موقوفا من قولها، وكذا أخرجه الشافعي في اختلاف الحديث، وأحمد في المسند (ج1:ص161) وابن ماجه، ثم أخرجه الترمذي مرفوعا بسند آخر، وليس فيه "فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلنا" بل اقتصر على الجملة الأولى "إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل" وكذا اقتصر عليه البغوي في المصابيح، والمصنف ركب المرفوع والموقوف، أو جعل الموقوف مرفوعا، وهذا خطأ منه. وأخرج المرفوع أيضا الشافعي في اختلاف الحديث، وفي الأم، وأحمد في المسند من طرق. وقال الترمذي بعد رواية المرفوع: حديث عائشة حديث حسن صحيح، وصححه أيضا ابن حبان، وابن القطان، وأصله في مسلم بلفظ: "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل".

(3/263)


447- قوله: (تحت كل شعرة جنابة) كناية عن شمول الجنابة تمام البدن الذي هو محل الشعر عادة، ولذلك رتب عليه قوله: (فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة) وإلا فكون الجنابة تحت كل شعرة، يقتضي وجوب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر، ولا يقتضي غسل الشعر وإنقاء الجلد، قاله السندهي (فاغسلوا الشعر) بسكون العين وفتحها، أي: جميعه، فلو بقيت شعرة واحدة لم يصل إليها الماء بقيت جنابته. وظاهر الحديث يوجب نقض القرون والضفائر إذا أراد الاغتسال من الجنابة
وأنقوا البشرة)). رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، والحارث بن وجيه الراوي وهو شيخ، ليس بذاك.

(3/264)


لأنه لا يكون شعره مغسولا إلا أن ينقضها، وهذا الحكم بعمومه يشتمل الرجال والنساء، لأن النساء شقائق الرجال، لكن رخص النساء في ترك ضفر رؤسهن كما تقدم، والعلة في دفع الحرج عنهن، فحكم الرجال مغائر للنساء، فحديث أبي هريرة هذا مخصوص بالرجال، وكذا حديث علي الذي يتلوه. (وأنقوه) من الإنقاء. (البشرة) أي: نظفوها من الأوساخ، لأنه لو منع شيء من ذلك وصول الماء لم يرتفع الجنابة. والبشرة بفتح الباء والشين، ظاهر جلد الإنسان، وفي حديث أبي هريرة هذا وحديث علي الآتي دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة لما في داخل الأنف من الشعر، ولأن داخل الفم من البشرة، واحتج به على وجوب الدلك في الغسل، فإنه فسر صاحب المصباح الإنقاء بالتنظيف ومعلوم أن التنظيف لا يكون إلا بالدلك. (رواه أبوداود) وضعفه، (والترمذي وابن ماجه) وأخرجه البيهقي. (ج1:ص175) (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) لأنه تفرد به الحارث عن مالك بن دينار. قال الحافظ: مداره على الحارث بن وجيه وهو ضعيف جدا، قال أبوداود: والحارث حديثه منكر وهو ضعيف، وقال الشافعي: الحديث ليس بثابت، وقال البيهقي: أنكره أهل العلم بالحديث البخاري، وأبوداود، وغيرهما. (والحارث بن وجيه) بكسر الجيم وبعدها ياء تحتية مثناة، ويقال: ابن وجبة باسكان الجيم وفتح الباء الموحدة. (وهو شيخ ليس بذاك) الظاهر أن قوله "الحارث بن وجيه" مبتدأ خبره "ليس بذاك" وقوله: (وهو شيخ) حال أو اعتراض، وهو خلاف نص عبارة الترمذي في جامعه ففيه "حديث الحارث بن وجيه" حديث غريب لا نعرفه إلا من حديثه "وهو شيخ ليس بذاك" قال الطيبي: أي: شيخ كبير غلب عليه النسيان، ليس بذاك المقام الذي يوثق به، يعني روايته ليست بقوية. وقال القاري: وظاهره يقتضي أن قوله:"وهو شيخ" للجرح، وهو مخالف لما عليه عامة أصحاب الجرح والتعديل من أن قولهم"شيخ" من ألفاظ مراتب التعديل فعلى هذا يجيء إشكال آخر في قول الترمذي، لأن قولهم "ليس

(3/265)


بذاك" من ألفاظ الجرح اتفاقا، فالجمع بينهما في شخص واحد جمع بين المتنافيين، فالصواب أن يحمل قوله: "وهو شيخ" على الجرح بقرينة مقارنته بقوله "ليس بذاك" وإن كان من ألفاظ التعديل، ولإشعاره بالجرح لأنهم وإن عدوه من ألفاظ التعديل صرحوا أيضا بإشعاره بالقرب من التجريح، أو نقول: لابد في كون الشخص ثقة من شيئين: العدالة والضبط، كما بين في موضعه، فإذا وجد في الشخص العدالة دون الضبط، يجوز أن يعدل باعتبار الصفة الأولى، ويجوز أن يجرح باعتبار الصفة الثانية، فإذا كان كذلك لا يكون الجمع بينهما جمعا بين المتنافيين، كذا في حاشية السيد جمال الدين، ذكره القاري في المرقاة. وقيل: الشيخ هنا بمعنى العالم فإنه يطلق على الأستاذ والعالم وكبير القوم ورئيس الصناعة، وعلى من كان كبيرا في أعين القوم علما أو فضيلة أو مقاما أو نحو ذلك.
448- (15) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها، فعل بها كذا وكذا من النار)). قال علي: فمن ثم عاديت رأسي، فمن ثم عاديت رأسي، فمن ثم عاديت رأسي، ثلاثا. رواه أبوداود وأحمد والدارمي، إلا أنهما لم يكررا: فمن ثم عاديت رأسي.
449- (16) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتوضأ بعد الغسل)). رواه الترمذي

(3/266)


448- قوله: (موضع شعره) لم يرد المحل الذي تحت الشعر، فإن إيصال الماء هناك مشكل بل أراد محلا يمكن قيام الشعر فيه، أي: شعرا قليلا من ظاهر البدن قدر ما يقوم فيه الشعر، كذا قاله السندهي. (من جنابة) متعلق بترك، أي: من أجل غسل جنابة، أو من عضو مجنب (لم يغسلها) أنث الضمير الراجع إلى الموضع لتأنيث المضاف إليه. (فعل) بصيغة المجهول. (بها) أي: بسبب تلك الشعرة، أو الضمير يرجع إلى الموضع، والتأنيث باعتبار المضاف إليه، ولفظ أحمد "فعل الله به" أي: بذلك التارك، أو بالموضع المتروك. (كذا كذا) كناية عن العذاب الشديد. (فمن ثم) أي: من أجل أني سمعت هذا التهديد والوعيد. (عاديت رأسي) وفي رواية أحمد وابن ماجه "عاديت شعري" أي: عاملت شعر رأسي معاملة العدو بالعدو أي: فعلت به ما يفعل بالعدو من الاستئصال والقطع والجز فجزرته، مخافة أن لا يصل الماء إلى جميع رأسي، وقوله: (عاديت) كناية عن دوام جز شعر الرأس وقطعه. زاد أبوداود، والدارمي: وكان يجز شعره. (ثلاثا) أي: قاله ثلاثا للتأكيد. (رواه أبوداود) وسكت عنه (وأحمد والدارمي) وأخرجه أيضا ابن ماجه. قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح، فإنه من رواية عطاء بن السائب، وقد سمع منه حماد بن سلمة قبل الاختلاط، أخرجه أبوداود، وابن ماجه من حديث حماد، لكن قيل: إن الصواب وقفه على علي- انتهى. وهذا التعليل الأخير - الذي أشار إليه الحافظ - ينافيه سياق الحديث كما هو ظاهر. وفي الباب عن أنس عند أبي يعلى، والطبراني في الصغير، وأبي أيوب عند ابن ماجه وإسنادهما ضعيف. (إلا أنهما) أي: أحمد والدارمي (لم يكررا: فمن ثم عاديت رأسي) أي: هذا اللفظ وأكتفيا بمرة واحدة.

(3/267)


449- قوله: (لا يتوضأ بعد الغسل) من الجنابة أي: يصلي بعد الاغتسال وقبل الحدث بلا وضوء جديد اكتفاء بالوضوء الذي كان قبل الاغتسال، فكان عادته - صلى الله عليه وسلم - تقديم الوضوء على غسل الجنابة كما تقدم. وقيل: اكتفاء بالوضوء الحاصل في ضمن غسل الجنابة، لاندراج ارتفاع الحدث الأصغر تحت ارتفاع الأكبر بإيصال الماء إلى جميع أعضاءه، علل به من لم يوجب الوضوء في غسل الجنابة، والمعتمد هو الأول. وأداء الصلاة بعد غسل الجنابة وقبل الحدث بلا وضوء جديد أمر مجمع عليه، لم يختلف فيه العلماء كما صرح به ابن العربي في شرح الترمذي (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن
وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
450- (17) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه بالخطمي وهو جنب يجتزئ بذلك ولا يصب عليه الماء)). رواه أبوداود.
451- (18) وعن يعلى، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يغتسل بالبراز، فصعد المنبر،
صحيح كما في بعض نسخ جامع الترمذي، قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: تختلف نسخ الترمذي في تصحيح حديث عائشة، وأخرجه البيهقي بأسانيد جيدة. (وأبو داود) وسكت عليه (والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي.

(3/268)


450- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه بالخطمى) بكسر الخاء، نبت يتنظف به معروف. وفيه دليل على استحباب تنظيف الرأس عند غسل الجنابة بالخطمى ونحوه. (وهو جنب) جملة حالية. (يجتزئ بذلك) أي: يقتصر عليه، قاله الطيبي، يعني يكتفي بالماء الذي كان يفيضه على رأسه لإزالة الخطمى، وما كان يأخذ ماء جديدا للغسل. وقال المنذري: قيل: يكتفي بالماء الذي يغسل به الخطمى، وينوى غسل الجنابة ولا يستعمل بعده ماء آخر يخص به الغسل. (ولا يصب عليه) أي: على رأسه. (الماء) قال ابن رسلان: أي: يصب الماء الذي يزيل به الخطمى، ولا يصب على رأسه الماء الآخر بعد إزالته، وقال من ذهب إلى جواز التطهير بالماء المقيد في معنى الحديث: أنه كان يكتفي بالماء المخلوط به الخطمى الذي يغسل به رأسه، وينوى به غسل الجنابة، ولا يصب بعده ماء آخر قراحا صافيا يخص به الغسل. ولا يخفى ما فيه من التكلف، على أن الحديث ضعيف لا يكفي مثله للاستدلال. (رواه أبوداود) في سنده رجل من بني سواءة بن عامر، وهو مجهول. وقال الحافظ في الفتح: رواه أبوداود بإسناد ضعيف. وقد روى عن ابن مسعود أنه كان يغسل رأسه بخطمى، ويكتفي بذلك في غسل الجنابة، أخرجه ابن شيبة، والطبراني في الكبير.

(3/269)


451- قوله: (وعن يعلى) بفتح ياء وسكون عين مهملة وفتح لام وقصر كيرضى، هو يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام التميمي أبوصفوان المكي حليف قريش، وهو يعلى بن منية - بضم الميم وسكون النون بعدها تحتانية مفتوحة – وهي أمه ويقال: جدته، صحابي مشهور من مسلمة الفتح، وشهد حنينا، والطائف وتبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال ابن عبدالبر عن ابن المديني: استعمله أبوبكر على حلوان، واستعمله عمر على بعض اليمن فبلغ عمر أنه حمى لنفسه، فأمر أن يمشي على رجليه إلى المدينة، فمشى خمسة أيام أو ستة فبلغه موت عمر فركب. واستعمله عثمان على الجند، فلما بلغه قتل عثمان أقبل لينصره فصحب الزبير وعائشة. وله ثمانية وأربعون حديثا، اتفقا على ثلاثة، روى عنه جماعة من التابعين، وروى عنه هذا الحديث ابنه صفوان، بقي إلى قرب الخمسين. (رأى رجلا يغتسل) أي: من غير سترة عريانا. (بالبراز) بفتح الباء وهو
فحمدالله، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله حيي ستير يحب الحياء والتستر، فإذا اغتسل أحدكم، فليستتر)). رواه أبوداود والنسائي، وفي روايته قال: إن الله ستير، فإذا أراد أحدكم أن يغتسل فليتوار بشيء.
?الفصل الثالث?
452- (19) عن أبي بن كعب قال: إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها.

(3/270)


الفضاء الواسع، والباء للظرفية. (حيي) بيائين الأولى مخففة مكسورة والثانية مشددة مرفوعة، أي: كثير الحياء من تفضيح عباده وإظهار شنائعهم. (ستير) بوزن كريم، وقيل: هو كسكيت - بكسر السين وتشديد التاء المكسورة - فعيل بمعنى فاعل، أي: من شأنه وإرادته حب الستر والصون. (يحب) أي: من عبده. (الحياء) فإنه من الإيمان. (والتستر) كالتقبل، وفي أبي داود والنسائي الستر بفتح السين وسكون التاء، قال التوربشتي: يعنى أن الله تعالى تارك للقبائح، ساتر للعيوب والفضائح، يحب الحياء والستر من العبد ليكون متخلقا بأخلاقه تعالى، فهو تعريض للعباد، وحث لهم على تحري الحياء والتستر - انتهى مختصرا. (فإذا اغتسل) أي: أراد الاغتسال. (فليستتر) من الاستتار أي: فليجعل لنفسه سترة وجوبا إن كان ثم من يحرم نظره لعورته، وندبا في غير ذلك. واغتساله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحيان عريانا لبيان الجواز. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد. قال الشوكاني: الحديث رجال إسناده رجال الصحيح، وقد أخرج البزار نحوه من حديث ابن عباس مطولا.وقد ذكره الحافظ في الفتح. (ج2:ص193) ولم يتكلم عليه. (وفي روايته) أي: في رواية أخرى للنسائي. (فليتوار) أمر من التواري بمعنى التستر (بشيء) من الثوب أو الجدار أو الحجر أو الشجر. قال ابن حجر: وحاصل حكم من اغتسل عاريا أنه كان بمحل خال لا يراه أحد ممن يحرم عليه نظر عورته حل له ذلك، لكن الأفضل التستر حياء من الله تعالى، يدل عليه حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عند أبي داود والترمذي بلفظ: احفظ عورتك إلا من زوجك. قلت: فالرجل يكون خاليا؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : "الله أحق أن يستحي منه"، وإن كان المغتسل بحيث يراه أحد يحرم عليه نظر عورته وجب عليه التستر منه إجماعا على ما حكى.

(3/271)


452- قوله: (إنما كان الماء) أي: انحصار وجوب الغسل. (من الماء) أي: من إنزال المني لا بمجرد الجماع. (رخصة في أول الإسلام) تدريجا لتكاليف الأحكام. (ثم نهي) بصيغة المفعول. (عنها) أي: عن تلك الرخصة وفرض الغسل بمجرد الإيلاج ولو لم ينزل. ولفظ أبي داود: إن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء، كان رخصة رخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد. وفي رواية للحازمي في كتاب الاعتبار قال: كان الماء من الماء شيئا في أول الإسلام، ثم ترك ذلك بعد، وأمروا بالغسل إذا مس الختان الختان. والحديث صريح في ما قاله الجمهور
رواه الترمذي وأبوداود والدارمي.
453- (20) وعن علي، قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني اغتسلت من الجنابة، وصليت الفجر، فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه الماء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك)). رواه ابن ماجه.
454- (21) وعن ابن عمر، قال: ((كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات، وغسل البول من الثوب سبع مرات. فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل، حتى جعلت الصلاة خمسا، وغسل الجنابة مرة، وغسل الثوب من البول مرة)).
من النسخ، وقد سبق الكلام عليه. (رواه الترمذي) وقال: حسن صحيح. (وأبوداود) وسكت عنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. (والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والبيهقي والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الإسماعيلي: إنه صحيح على شرط البخاري، وأطال الحافظ الكلام عليه في التلخيص، والشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1:ص185،184) فارجع إليهما.

(3/272)


453- قوله: (فرأيت) أي: بعد انقضاء صلاتي. (قدر موضع الظفر) بضم الظاء والفاء وقد يسكن الفاء، أي: مقدار موضعه من بدني. (لم يصبه الماء) حال أو مفعول ثان. (لو كنت مسحت عليه بيدك) أي: ليسري بذلك الماء عليه، فليس فيه اكتفاء بالمسح، قاله السندهي. وقال القاري: لو كنت أي: عند الغسل مسحت عليه بيدك، أي: غسلته غسلا خفيفا، أو مررت عليه بيدك المبلولة. (أجزأك) أي: كفاك. وأما المسح الذي هو إصابة اليد المبتلة فلا يكفي. قال الطيبي: قد عرفت أن لو لامتناع الشيء لامتناع غيره، فالمعنى: لا يجزئك لأنك في زمان الغسل ما مسحت بالماء على ذلك الموضع. وفيه أنه يلزمه الغسل جديدا وقضاء الصلاة - انتهى. يعني غسل ذلك الموضع. (رواه ابن ماجه) وفي سنده محمد بن عبيدالله العزرمي الفزاري وهو متروك.
454- قوله: (كانت الصلاة خمسين) قال الطيبي: أي: كان الصلاة مفروضة في ليلة المعرج خمسين، لا أنهم صلوا خمسين صلاة. والحديث مشهور - انتهى. يعني أن حديث المعراج مشهور لكن ليس في أحاديث المعراج في الصحيحين إلا ذكر الصلوات فقط. (سبع مرات) وفي أبي داود "وسبع مرار" في الموضعين. (وغسل الثوب من البول) وفي أبي داود: وغسل البول من الثوب. (فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل) أي: ربه في التخفيف عن أمته. (خمسا) بالكمية، وخمسين بمضاعفة الفضيلة. (وغسل الجنابة مرة) أي: بالفرضية فلا ينافي سنية التثليث. (وغسل الثوب من البول مرة) فيه
رواه أبوداود.
(6) باب مخالطة الجنب وما يباح له
?الفصل الأول?
455- (1) عن أبي هريرة، قال: ((لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل،

(3/273)


دليل لما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه من أن الثوب يطهر بالغسل مرة، وأن التثليث مندوب، خلافا للحنفية، فإن التثليث عندهم واجب في النجاسة الغير المرئية. قال برهان الدين المرغيناني: النجاسة ضربان مرئية وغير مرئية، فما كان منها مرئيا فطهارتها بزوال عينها، وما ليس بمرئي فطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر، لأن التكرار لا بد منه للاستخراج، وإنما قدروا بالثلاث لأن غالب الظن يحصل عنده، ويتأيد ذلك بحديث: إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا - انتهى. قلت: في الاستدلال بهذا الحديث على إيجاب التثليث في النجاسة الغير المرئية نظر، لأن الحديث من باب النظافة لا من باب النجاسة كما ذهب إليه الباجي، وابن تيمية. (رواه أبوداود) وسكت عنه، لكن في سنده أيوب بن جابر اليمامي، وقد ضعفه ابن معين وابن المديني والنسائي وأبوزرعة وأبوحاتم وابن حبان ويعقوب بن سفيان. وقال أحمد: حديثه يشبه حديث أهل الصدق. وقال الفلاس: صالح. وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة متقاربة، وهو ممن يكتب حديثه. وقال البخاري في التاريخ الأوسط: هو أوثق من أخيه محمد.
(باب مخالطة الجنب) أي: جواز مماسته، ومماسحته، ومماشاته، ومجالسته، ومصافحته، ومواكلته، ونحوذلك. يقال أجنب الرجل إذا صار جنبا، بضمتين، وهو يقع على الواحد والإثنين والجمع، والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، وقد يقال: جنبان وجنوب وأجناب، والاسم الجنابة، وأصلها البعد لأنه نهي أن يقرب موضع الصلاة وعن كثير من العبادات مالم يتطهر. (وما يباح له) أي: للجنب من الأكل والشرب والنوم والذكر وغيرها بعد الوضوء وقبله.

(3/274)


455- قوله: (فأخذ بيدي) للتأنيس، ويحتمل أن يكون أخذه بها للإتكاء عليها. وفيه جواز أخذ الإمام والعالم بيد تلميذه ومشيه معه معتمدا عليه ومرتفقا به. (حتى قعد) أي: وتخلصت يدى منه. (فانسللت) أي: مضيت وخرجت بتأن وتدريج. وفي رواية فانخنست أي: تأخرت وانقبضت ورجعت. وإنما تأخر أبوهريرة ورجع وترك صحبته - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يستأذنه لما ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرضى بصنيعه الذي يصنعه لعلمه أنه قد أمرهم بالطهارة والنظافة، وحثهم عليها، وأنه يحب أن يكون الرجل على أكمل الهيئآت وأحسن الصفات عند ملاقاة ذوى الفضل ومصاحبتهم. (فأتيت الرحل) بالحاء المهملة
فاغتسلت، ثم جئت، وهو قاعد. فقال: أين كنت يابا هريرة ؟. فقلت له. فقال: سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس)).

(3/275)


الساكنة أي: المكان الذي آوى إليه. (فاغتسلت) أي: في الرحل. (أين كنت) كان هذه ناقصة وخبرها الظرف، أو تامة، فلا تحتاج إلى الخبر. وفيه أن من حسن الأدب لمن مشى معه شيخه وإمامه أن لا ينصرف عنه ولا يفارقه حتى يعلمه بذلك، لأن قوله لأبي هريرة: أين كنت؟ يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - استحب أن لايفارقه حتى ينصرف معه. (ياباهريرة) بحذف الهمزة في الأب تخفيفا. (فقلت له) أي: الذى فعلته من الرواح إلى الرحل والاغتسال فيه وسببه. (فقال: سبحان الله) تعجبا من اعتقاد أبي هريرة التنجس بالجنابة وعدم علمه المسألة، أي: كيف يخفى مثل هذا الظاهر عليك. (إن المؤمن لا ينجس) بفتح الجيم وضمها من سمع وكرم أي: لا يتنجس نجاسة تمنع مصاحبته، وملامسته، وإصابة العرق منه بمجرد الحدث، سواء كان أصغر أو أكبر ما لم يتعلق بجسده شيء من النجاسة الحقيقية، يدل عليه المقام، إذا المقام مقام الحدث، فلا يرد أنه يتنجس بالنجاسة. والمقصود أن الحدث ليس بنجاسة تمنع عن المماسة، والمماشاة. والمصافحة إنما هو أمر تعبدى. وقد يقال: إن المراد أن نفسه لا يصير نجسا أصلا لا بالحدث ولا بالخبث، لأنه إن صحبه شيء من النجاسة فنجاسته بسبب صحبته بذلك، لا أن ذاته صار نجسا، فإذا زال ما كان معه من النجاسة فالمؤمن على حالة من الطهارة، فصدق: أن المؤمن لا ينجس أصلا. والحاصل أن مقتضى ما فعله أبوهريرة أن المؤمن يصير نجسا بحيث يحترز عن صحبته حالة الجنابة‘ فرده - صلى الله عليه وسلم - بأن المؤمن لا يصير كذلك أصلا. وذلك لا ينافي أن المؤمن قد يحترز عنه بالنظر إلى ما يصحبه من الأنجاس لأنه أمر معلوم من خارج. فالحديث دليل على أن المؤمن طاهر سواء كان جنبا أو محدثا، حيا أو ميتا، وكذا ما تحلب منه من عرقه ودمعه ولعابه وسؤره. وذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس تعليقا: المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا. ورواه الحاكم عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: لا تنجسوا موتاكم،

(3/276)


فإن المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا. قال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وهو أصل في طهارة المسلم حيا وميتا. أما الحي فبالإجماع حتى الجنين إذا ألقته أمه، وأما الميت ففيه خلاف للعلماء، والصحيح أنه طاهر لحديث ابن عباس هذا فلا ينجس المؤمن بالموت بتشرب الدم المسفوح في أجزائه كرامة له، إذ لو نجس لما طهر بالغسل كسائر الحيوانات التي حكم بنجاستها بالموت. وأما غسله فتعبد، أو للنظافة. وحديث ابن عباس حجة على العراقيين من الحنفية حيث قالوا بتنجس المؤمن بالموت، فالغسل عندهم للتطهير، قالوا: يحكم بطهارته بالغسل كرامة. وارجع للبسط إلى النيل. وأما الكافر الحي فحكمه في الطهارة والنجاسة حكم المسلم عند الجمهور من السلف والخلف، وذكروا في تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - للمؤمن بقوله: "لا ينجس" مع أن الكافر كذلك عندهم وجوها: الأول أن المقام مقام خطاب المسلم. والثاني أنه أشار به إلى أن الكفار يجب أن يتجنب عنهم كما يتجنب من النجاسات الظاهرة، فهو تنفير عن الكفار وإهانة لهم. والثالث أن فيه إشارة إلى
هذا لفظ البخاري. ولمسلم معناه، وزاد بعد قوله: ((فقلت له: لقد لقيتني وأنا جنب، فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل)). وكذا البخاري في رواية أخرى.
456- (2) وعن ابن عمر، قال: ((ذكر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضأ،

(3/277)


أنهم لا يتطهرون فلا يتجنبون ولا يتحفظون عن النجاسات غالبا. فهم ملابسون لها غالبا فهم متنجسون، بخلاف المؤمن فإن شأنه التطهر في شأنه كله فهو طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة. والرابع أنه فيه إشارة إلى أن المؤمن لا ينجس بالحدث ظاهرا وباطنا بخلاف الكافر فإنه نجس باطنا لنجاسة اعتقاده. وأما ما روى عن ابن عباس من أن أعيانهم نجسة كالخنزير فمحمول على المبالغة في التعبد عنهم ولاحتراز منهم. وأما قوله تعالى: ?إنما المشركون نجس? [-28:9] فالمراد به أنهم نجس في الباطن والاعتقاد لا في أصل الخلقة، أو أن ذلك تنفير عن الكفار، وذم وإهانة لهم. وهذا وإن كان مجازا فقرينته ما ثبت في الصحيحين من أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة مشركة، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سوارى المسجد، فدل على أن الآدمي الحي ليس بنجس العين سواء كان محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء. (هذا لفظ البخاري) في باب الجنب يخرج ويمشى في السوق وغيره من كتاب الغسل. (وزاد) أي: مسلم. (لقد لقيتني) في محل النصب على أنه مفعول لقوله "زاد" وهو بيان للزيادة. (فكرهت أن أجالسك) أي: في هذه الحالة. (حتى أغتسل) لأكون على طهارة حقيقية. (وكذا) أي: زاد هذه الزيادة. (البخاري في رواية) فيه بحث لأن قوله: "حتى أغتسل" ليس للبخاري، فإن لفظه في باب عرق الجنب، وأن المسلم لا ينجس: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة. والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. وأخرج أحمد ومسلم وأبوداود والنسائي وابن ماجه عن حذيفة نحوه.

(3/278)


456- قوله: (عن ابن عمر) مقتضاه وظاهره أن الحديث من مسند ابن عمر، وزاد بعض الرواة فيه عند النسائي عن عمر، والظاهر أن ابن عمر حضر هذا السؤال. (أنه تصيبه الجنابة) الضمير المنصوب لابن عمر لا لعمر لما في رواية النسائي من طريق ابن عون عن نافع قال: أصاب ابن عمر جنابة فأتى عمر فذكر ذلك له، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأمره، فقال: "ليتوضأ وليرقد". (من الليل) أي: في الليل، وحذف تمام السؤال لأن الجواب يدل عليه، أو اكتفى عمر في السؤال بهذا القدر وفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - غرض السؤال أنه النوم قبل الغسل. (توضأ) أي: وضوءك للصلاة لأنه هو الحقيقة الشرعية، وهي مقدمة على غيرها، وقد صرحت بذلك عائشة في حديثها الآتي. والخطاب فيه لابن عمر لأنه كان حاضرا إذا ذاك، ويمكن أن يكون الخطاب لعمر لأنه كان سائلا. والأمر للاستحباب لحديث عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام وهو جنب فلا
واغسل ذكرك، ثم نم)). متفق عليه.
457- (3) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة)) متفق عليه.
458- (4) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد
أن يعود، فليتوضأ بينهما وضوء)).

(3/279)


يمس ماء. أخرجه أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه. ولما روى ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن عمر: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أينام أحدنا وهو جنب؟ قال نعم: ويتوضأ إن شاء. (واغسل ذكرك) أي: قبل الوضوء فإن الواو لا يفيد الترتيب. وقد ورد في رواية للنسائي في الكبرى وابن حبان بلفظ: اغسل ذكرك، ثم توضأ ثم نم. والحديث يدل على استحباب الوضوء للجنب إذا أراد النوم، وأن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يتضيق عند القيام إلى الصلاة، واستحباب التنظيف بغسل الذكر عند النوم. والحكمة في الوضوء أنه يخفف الحدث. ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبه بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي قال: إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ فإنه نصف غسل الجنابة، وقيل: الحكمة أن يبيت على إحدى الطهارتين خشية أن يموت في منامه، وقيل حكمته أنه ينشط إلى العود أو إلى الغسل إذا بل أعضاءه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
457- قوله: (فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة) أي: كوضوء الصلاة، ذكرته لدفع أن يتوهم أن المراد الوضوء لغة. ويحمل هذا على أنه الغالب توفيقا بين الأحاديث. وفيه استحباب الوضوء للجنب عند إرادة الأكل والنوم، لكن الوضوء لأجل النوم آكد من الوضوء للأكل. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، فليس في رواية البخاري ذكر الوضوء عند إرادة الأكل. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

(3/280)


458- قوله: (إذا أتى) أي: جامع. (أهله) أي: امرأته أو جاريته. (ثم أراد أن يعود) أي: إلى الجماع. (فليتوضأ بينهما) أي: بين الجماع الأول والعود، فإنه أنشط للعود. (وضوءا) أتى بالمصدر تأكيدا لئلا يتوهم أن المراد بالوضوء غير المتعارف، فالمعنى فليتوضأ وضوءه للصلاة. وقد رواه البيهقي وابن خزيمة بلفظ: فليتوضأ وضوءه للصلاة وفيه رد على من حمل الوضوء في الحديث على الوضوء اللغوي. وفيه وفي الحديث الآتي دليل على أن الغسل بين الجماعين لا يجب. ويدل على استحبابه قبل المعاودة حديث أبي رافع الآتي في الفصل الثالث. والأمر بالوضوء في الحديث
رواه مسلم.
459- (5) وعن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطوف على نسائه بغسل واحد)). رواه مسلم.
460- (6) وعن عائشة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله عزوجل على كل أحيانه)). رواه مسلم.
للاستحباب لا للوجوب لما روى الطحاوى عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجامع ثم يعود ولا يتوضأ. ويدل على كونه للاستحباب أيضا ما زاده ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في هذه الرواية من قوله: فإنه أنشط للعود، فإنه قرينة صارفة للأمر إلى الندب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
459- قوله: (يطوف) أي: يدور أي: أحيانا وهو كناية عن الجماع (بغسل واحد) أي: يجامعهن متلبسا ومصحوبا بنية غسل واحد بعد الفراغ من جماعهن. وفي رواية لأحمد والنسائي: طاف على نسائه في ليلة بغسل واحد. وهذا يحتمل أنه كان يتوضأ عقب الفراغ من كل واحدة منهن، ويحتمل ترك الوضوء لبيان الجواز ومحمله على عدم وجوب القسم عليه، أو على أنه كان يرضيهن. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون عند قدومه من سفر، أو عند تمام الدور عليهن وابتداء دور آخر، أو يكون ذلك عن إذن صاحبة النوبة، أو يكون ذلك مخصوصا به وإلا فوطء المرأة في نوبة ضرتها ممنوع عنه.

(3/281)


وقال ابن العربي: إن الله خص نبيه بأشياء: منها أنه أعطاه ساعة في كل يوم لا يكون لأزواجه فيها حق يدخل فيها على جميعهن أو بعضهن، فيفعل ما يريد ثم يستقر عند من لها النوبة، وكانت تلك الساعة بعد العصر، فإن اشتغل عنها كانت بعد المغرب. والحديث يدل على ما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من القوة على الجماع. وفي كثرة أزواجه حكم ومصالح: منها أن الأحكام التي ليست ظاهرة يطلعن عليها فينقلنها، وقد جاء عن عائشة من ذلك الكثير الطيب: ومن ثم فضلها بعضهم على الباقيات. (رواه مسلم) ورواه البخاري أيضا في كتاب الغسل، وفي النكاح، إلا أنه لم يذكر بغسل واحد لكن يفهم من سياقه. وذكر البخاري عدد النسوة ولم يذكره مسلم. والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
460- قوله: (على كل أحيانه) أي: في كل أوقاته متطهرا ومحدثا وجنبا وقائما وقاعدا ومضطجعا وماشيا. قال النووي: هذا الحديث أصل في جواز ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وشبهها من الأذكار، وهذا جائز بإجماع المسلمين، وإنما اختلف العلماء في جواز قراءة القرآن للجنب والحائض، فالجمهور على تحريم القراءة عليهما جميعا، واستدلوا بحديثي علي وابن عمر الآتيين في الفصل الثاني، وسيأتي الكلام على ذلك هناك. واعلم أنه يكره الذكر في حالة الجلوس على البول والغائط وفي حالة الجماع، فيكون الحديث مخصوصا بما سوى هذه الأحوال، ويكون المراد "بكل أحيانه" معظمها، كما قال الله تعالى ?يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم? [191:3] (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي
وحديث ابن عباس سنذكره في كتاب الأطعمة، إن شاء الله تعالى.
?الفصل الثاني?

(3/282)


461- (7) عن ابن عباس، قال: ((اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ منه، فقالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! إني كنت جنبا، فقال: إن الماء لا يجنب)) رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجه وروى الدارمي نحوه.
وأبوداود وابن ماجه. وذكر البخاري تعليقا في الطهارة وفي الأذان. (وحديث ابن عباس) أي: المذكور في المصابيح هنا الذى رواه مسلم وهو "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخلاء فأتى بطعام فذكروا له الوضوء" الحديث (سنذكر في كتاب الأطعمة) فإنه أنسب بذلك الكتاب.

(3/283)


461- قوله: (اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ) هي ميمونة خالة ابن عباس، كما صرح به في رواية الدارقطني. (في جفنة) أي: مدخلة يدها في جفنة تغترف منها وهي بفتح الجيم وسكون الفاء صحنة كبيرة. (أن يتوضأ منه) أي: من الماء الذي في الجفنة (إني كنت جنبا) أي: واغتسلت بهذا الماء وهو فضلة يدي. (إن الماء لا يجنب) يجوز فيه ضم الياء مع كسر النون وفتح الياء مع ضم النون، يقال: أجنب وجنب على وزن قرب أي: إن الماء لا يتجنس باغتسال الجنب من الإناء الذي فيه الماء، ولا يظهر فيه أثر جنابته بحيث لا يحل استعماله. قال التوربشتي: الماء إذا غمس فيه الجنب يده لم ينجس، فريما سبق إلى فهم بعضهم أن العضو الذي عليه الجنابة في سائر الأحكام كالعضو الذي عليه النجاسة، فيحكم بنجاسة الماء من غمس العضو الجنب كما يحكم بنجاسة من غمس النجس فيه فبين لهم أن الأمر بخلاف ذلك - انتهى. والحديث يدل على جواز تطهر الرجل بفضل طهور المرأة وإن خلت به. وإليه ذهب الجمهور وهو الصواب. وأما حديث الحكم بن عمرو الغفاري، وحديث حميد الحميري في الفصل الثالث، فالنهى فيهما محمول على التنزيه جمعا بين الأدلة. وقيل: إن قول ميمونة في هذا الحديث: إني كنت جنبا، عند إرادته - صلى الله عليه وسلم - التوضأ بفضها يدل على أن النهى كان مقدما فحديث الجواز ناسخ لحديث النهي. وقيل: إن أحاديث الجواز أكثر وأقوى وأصح من أحاديث النهي. (رواه الترمذي) وقال حسن صحيح (وأبوداود) وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (وابن ماجه وروى الدارمي نحوه) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والدارقطني وصححه ابن خزيمة وأخرجه الحاكم (ج1:ص159) من طريق الثوري وشعبة عن سماك بن حرب، وقال: هذا حديث صحيح في الطهارة ولم يخرجاه، ولا يحفظ له علة، ووافقة الذهبي. وقال الحافظ في الفتح: وقد أعله قوم بسماك بن حرب؛ لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة وهو لا يحمل عن مشائخه

(3/284)


إلا صحيح حديثهم- انتهى. وأخرج أحمد ومسلم والدارقطني عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
462- (8) وفي شرح السنة عنه، عن ميمونة، بلفظ المصابيح.
463- (9) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من الجنابة، ثم يستدفئ بي قبل أن أغتسل)).
كان يغتسل بفضل ميمونة وأخرج أحمد وابن ماجه والدارقطني عن ابن عباس عن ميمونة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بفضل غسلها من الجنابة.
462- قوله: (وفي شرح السنة عنه) أي: عن ابن عباس (عن ميمونة) يعني أن البغوي رواه في شرح السنة عن ابن عباس عن ميمونة فجعله من مسندها، لا من مسند ابن عباس وهو رواية لأحمد والدارقطني. قال الألباني لكنها وهم من بعض رواته، والصواب أنه من مسند ابن عباس كما رواه الجماعة وبينته في صحيح أبي داود –انتهى. وميمونة هذه هي ميمونة بنت الحارث العامرية الهلالية أم المؤمنين، قيل: اسمها برة فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة، وتزوجها في ذي القعدة سنة سبع في عمرة القضية بسرف على عشرة أميال من مكة، وقدر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي تزوجها فيه بسرف سنة (51) وصلى عليها ابن عباس. وهي أخت أم الفضل امرأة العباس، وأخت أسماء بنت عميس، وهي آخر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. قيل إنه لم يتزوج بعدها. لها ستة وأربعون حديثا، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة. روى عنها جماعة، منهم عبدالله بن عباس (بلفظ المصابيح) قال القاري: وسنده صحيح أيضا، ولفظه: قالت ميمونة: أجنبت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلت من جفنة، وفضلت فيها فضلة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليغتسل منها، فقلت: إني قد اغتسلت منها، فاغتسل وقال: إن الماء ليس عليه جنابة. وفي رواية إن الماء لا يجنب - انتهى. وأخرج الدارقطني نحوه (ص19).

(3/285)


463- قوله: (يستدفئ) بهمزة في آخره، أي: يطلب الدفاءة وهي الحرارة بأن يضع أعضاء الشريفة على أعضائي، يعني يطلب مني حرارة بدني ليدفع به البرودة الحاصلة بالاغتسال، ومنه قوله تعالى: ?ولكم فيها دفء? [5:61] أي: تتخذون من أصوافها وأوبارها ما تستدفأون به. قال الطيبي: فيه أن بشرة الجنب طاهرة؛ لأن الاستدفاء إنما يحصل من مس البشرة البشرة. قيل: وفيه بحث لأن الاستدفاء يمكن مع الثوب أيضا. والحديث قد استدل به على طهارة عرق المرأة الجنب ولعابها وسؤرها كالرجل الجنب، وكذا الحائض والنفساء، وعلى طهارة الماء المستعمل، فإن الماء المستعمل هو الذي انفصل عن عضو المتطهر بعد التطهر، ولا شك أنه ينفصل البلل من جسده - صلى الله عليه وسلم - عند الاستدفاء ويبتل به شئ من أعضاء عائشة وثيابها، ثم ينتقل إليه - صلى الله عليه وسلم - شئ من ذلك البلل المنفصل أولا، ولم يثبت ولو برواية ضعيفة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل أعضاءه التي كان يضعها على أعضاء عائشة عند الاستدفاء بها، فعلم به أن الماء المستعمل طاهر. (قبل أن أغتسل) قال الترمذي: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين؛ أن الرجل إذا اغتسل فلا بأس بأن يستدفئ بامرأته
رواه ابن ماجه، وروى الترمذي نحوه. وفي شرح السنة بلفظ المصابيح.
464- (10) وعن علي، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه – أو يحجزه – عن القرآن شئ ليس الجنابة)).

(3/286)


وينام معها قبل أن تغتسل المرأة. وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد واسحق. قلت: هو قول جميع أهل العلم من السلف والخلف، لم يختلف فيه أحد. (رواه ابن ماجه) أي: بهذا اللفظ. قال القاري: وسنده حسن. (وروى الترمذي نحوه) ولفظه: قالت: ربما اغتسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة ثم جاء فاستدفأ بي فضممته إلي ولم أغتسل. قال الترمذي: هذا حديث ليس بإسناده بأس، وقال ابن العربي في شرح الترمذي. (ج1:ص191) حديث لم يصح ولم يستقم، فلا يثبت به شيء - انتهى. قلت: مدار الحديث على حريث بن عمرو الفزاري، وقد ضعفه أكثر العلماء. وقال البخاري: فيه نظر، وقال مرة أخرى: ليس بالقوى عندهم. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف. (بلفظ المصابيح) ولفظه: قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجنب فيغتسل ثم يستدفئ بي قبل أن أغتسل.

(3/287)


464- قوله: (فيقرئنا القرآن) من الإقراء أي: يعلمنا القرآن قبل أن يتوضأ، يدل عليه الفاء في قوله: فيقرئنا، وكذا يأكل قبل الوضوء، قال الطيبي: لعل انضمام الأكل مع قراءة القرآن للإشعار بجواز الجمع بينهما من غير وضوء أو مضمضة كما في الصلاة. (ولم يكن يحجبه) أي: يمنعه. (أو يحجزه) أو للشك من الراوي، وفي رواية النسائي: ولم يكن يحجبه، على الجزم من غير شك. (شيء) بالرفع على أنه فاعل يحجب، أي: شئ من أنواع الحدث، ولم يرد "لم يكن يمنعه مباشرة شيء" ضرورة أن مباشرة الجماع والبول والغائط مما يمنع قراءة القرآن. (ليس الجنابة) قال السندهي: بالنصب على أن ليس من أدوات الاستثناء، والمراد بعموم شيء ما يجوز فيه القراءة من الأحوال، وإلا فحالة البول والغائط مثل الجنابة، لكن خروجها عقلا أغنى عن الاستثناء - انتهى. وقال التوربشتي "ليس" بمعنى إلا تقول: جاءني القوم ليس زيدا، الضمير فيها اسمها وينصب خبرها، كأنك قلت: ليس الجائى زيدا. والحديث قد استدل به الجمهور على منع قرآءة القرآن للجنب، وكذا الحائض لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة، لكن قيل في الاستدلال به نظر لأنه فعل مجرد، غايته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك القراءة حالة الجنابة، ومثله لا يصلح متمسكا للكراهة فكيف يستدل به على المنع والتحريم. إلا أنه أخرج أبويعلى من حديث علي قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ثم قرأ شيئا من القرآن، ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص276): رجاله موثقون. قلت: وأخرجه أحمد أيضا بسند رجاله ثقات كما سيأتي. وهو يدل على التحريم؛ لأنه نهي وأصله ذلك ويعاضد ما سلف. فإن قيل: حديث عائشة المتقدم بلفظ "كان يذكرالله على كل أحيانه" يخالف حديث علي هذا، فإنه بعمومه يدل على جواز قراءة القرآن للجنب. لأن قولها "على كل أحيانه" يشمل حالة الجنابة أيضا، والذكر أعم من أن يكون

(3/288)


بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة
رواه أبوداود، والنسائي. وروى ابن ماجه نحوه.
465- (11) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقرأ
بالعرف. يقال: إن حديث عائشة يخصص بحديث على هذا فيراد بذكر الله غير تلاوة القرآن. قال العيني: حديث عائشة لا يعارض حديث علي؛ لأنها أرادت الذكر الذي غير القرآن، انتهى. وقال الأمير اليماني: حديث عائشة قد خصصه حديث علي وأحاديث أخرى. (رواه أبوداود) أي: بهذا اللفظ وسكت عنه. (والنسائي وروى ابن ماجه نحوه) وأخرجه الترمذي مختصرا بلفظ يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضا أحمد وابن خزيمة وابن حبان والبزار والدارقطني والبيهقي وابن الجارود وصححه أيضا ابن حبان وابن السكن وعبدالحق والبغوي في شرح السنة والحاكم ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في الفتح: وضعف بعضهم بعض رواته، والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة. وقال ابن الجارود بعد أن رواه من طريق يحيى بن سعيد عن شعبة عن عمرو بن مرة. قال يحيى: وكان شعبة يقول في هذا الحديث: نعرف وننكر، يعني أن عبدالله بن سلمة المرادي كان كبر حيث أدركه عمرو، وقال المنذري: ذكر أبوبكر البزار أنه لا يروى عن علي إلا من حديث عمرو بن مرة، عن عبدالله بن سلمة. وحكى البخاري عن عمرو بن مرة كان عبدالله يعني ابن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، وكان قد كبر، لا يتابع في حديثه، وذكر الشافعي هذا الحديث وقال: لم يكن أهل الحديث يثبتونه، قال البيهقي: وإنما توقف الشافعي في ثبوت هذا الحديث؛ لأن مداره على عبدالله بن سلمة الكوفي، وقد كان كبر، وأنكر من حديثه وعقله بعض النكرة، وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر، قاله شعبة. وذكر الخطابي أن أحمد كان يوهن حديث على هذا ويضعف أمر عبدالله بن سلمة، قلت: عبدالله بن سلمة هذا صدوق وقد توبع في معنى حديثه هذا عن علي بحديث قولي فارتفعت شبهة الخطأ عن روايته،

(3/289)


إذا كان سيء الحفظ في كبره كما قالو. فقد روى أحمد في المسند (ج1:ص110) حدثنا عائذ بن حبيب، حدثني عامر بن السمط، عن أبي الغريف، قال: أتى على بوضوء فمضمض واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا وغسل يديه وذراعيه ثلاثا ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ثم قرأ شيئا من القرآن ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية. وهذا إسناد حسن جيد، عائذ بن حبيب أبوأحمد العبسي شيخ الإمام أحمد صدوق، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الأثرم: سمعت أحمد ذكره فأحسن الثناء عليه، وقال: كان شيخا جليلا عاقلا. ورماه ابن معين بالزندقة. ورد عليه أبوزرعة بأنه صدوق في الحديث، وعامر بن السمط ثقة وثقه يحيى بن سعيد، والنسائي وغيرهما. وأبوالغريف اسمه عبيد الله بن خليفة الهمداني المرادي. قال الحافظ: صدوق. وذكره ابن حبان في الثقات وكان على شرطة علي. وأقل أحواله أن يكون حسن الحديث، تقبل متابعته لغيره.
465- قوله: (لا تقرأ) بالرفع على أنه نفى بمعنى النهي، وقيل: بالجزم على صيغة النهي فيقرأ بكسر الهمزة وصلا
الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن)) رواه الترمذي.
466- (12) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)).

(3/290)


لالتقاء الساكنين. (الحائض) وكذا النفساء. (ولا الجنب) زيادة لا للتأكيد. (شيئا من القرآن) أي: لا القليل ولا الكثير. وفيه دليل على تحريم القراءة على الجنب والحائض. والحديث وإن كان ضعيفا لكن له متابعات، منها ما تقدم، ومنها ما سيأتي، فينجبر بها ضعفه، ويكون مع هذه المتابعات حجة للجمهور على من ذهب إلى جواز القراءة للجنب والحائض، كابن المنذري والطبري وداود والبخاري أو للحائض فقط كمالك في رواية عنه. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا ابن ماجه والدارقطني والبيهقي كلهم من طريق إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع عن ابن عمر, ورواية إسماعيل ابن عياش عن الحجازيين ضعيفة، وهذا منها. قال الخزرجي في الخلاصة: إسماعيل بن عياش وثقة أحمد، وابن معين، ودحيم والبخاري وابن عدي في أهل الشام، وضعفوه في الحجازيين، ورواه الدارقطني أيضا من طريق عبدالملك بن مسلمة حدثني المغيرة بن عبدالرحمن، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا. قال الحافظ في التلخيص (ص51): صححه ابن سيد الناس، وأخطأ في ذلك فإن عبدالملك بن مسلمة ضعيف فلو سلم عنه لصح إسناده. وقال في الفتح: حديث ابن عمر مرفوعا ضعيف من جميع طرقه.وقال ابن أبي حاتم : حديث إسماعيل بن عياش هذا خطأ، وإنما هو عن ابن عمر قوله، يعني أن الصواب وقفه على عمر. وله شاهد من حديث جابر رواه الدارقطني مرفوعا، وفيه محمد بن الفضل وهو متروك. وموقوفا، وفيه يحيى بن أنيسة وهو كذاب. وقال البيهقي: وهذا الأثر ليس بقوي. وصح عن عمر أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب. وساقه في الخلافيات بإسناد صحيح.

(3/291)


466- قوله: (وجهوا هذا البيوت عن المسجد) أي: اصرفوا وحولوا أبوابها إلى جانب آخر من المسجد، وقد كانت أبواب بعض البيوت حول مسجده - صلى الله عليه وسلم - مفتوحة إليه، يدخلون منها في المسجد، يمرون فيه، فأمروا أن يصرفوها إلى جانب آخر من المسجد. (فإني لا أحل المسجد) تعليل وبيان للوصف الذي هو علة الحكم. (لحائض ولا جنب) الحديث يدل على عدم حل اللبث في المسجد والعبور فيه للحائض والجنب سواء كان لحاجة أو لغيرها، قائما أو جالسا أو مترددا على أي حال، متوضأ كان أو غير متوضئ، وبه قال أبوحنيفة لإطلاق هذا الحديث، وهو محمول عندي على المكث واللبث طويلا كان أو كثيرا، فلا يمنعان من المرور والعبور من غير مكث إلا إذا خافت الحائض وكذا النفساء التلوث في حال المرور. وإليه ذهب مالك والشافعي، لقوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنبا إلا عابري سبيل? [43:4] قال الشوكاني: والعبور إنما يكون في محل الصلاة. وهو المسجد
رواه أبوداود.

(3/292)


لا في الصلاة. وتقييد جواز ذلك بالسفر لا دليل عليه، بل الظاهر أن المراد مطلق المار، لأن المسافر ذكر بعد ذلك فيكون تكرارا يصان القرآن عن مثله- انتهى. وقال ابن عباس في قوله: "ولا جنبا إلا عابري سبيل": لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال: تمر به مرا ولا تجلس. ذكره ابن كثير في تفسيره نقلا عن ابن أبي حاتم. والحاصل أن المراد بالصلاة في الآية مواضعها، فهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل بقرينه قوله:"إلا عابري سبيل" فإنه يدل عليه بحسب الظاهر كما تقدم، فالمراد منه هو المجتاز في المسجد لا المسافر. والمعنى: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب. وقيل: المراد من الصلاة معناها الحقيقي، وبقربها القيام إليها والتلبس بها إلا أنه نهى عن القرب مبالغة، والمعنى: لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا, ولا حال كونكم جنبا إلا أن تكونوا عابري سبيل، والمراد به هنا السفر، أي: فيجوز لكم أن تصلوا بالتيمم. ولا يخفى ما فيه من التكلف. ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي أعني"لا تقربوا" وهو قوله: وأنتم سكارى, يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي، وبعض قيود النهي وهو قوله: إلا عابري سبيل، يدل على أن المراد مواضع الصلاة, ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد، وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب. وغاية ما يقال في هذا: أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز بتأويل مشهور، وقال بعض الحنفية: والذي تبين لي أن الآية سيقت لبيان أحكام الصلاة ثم انسحبت على ذكر موضعها أيضا، فالحكم في القطعة الأولى للعبادة وفي الثانية لمواضع العبادة، فإن شئت سميته صنعة الاستخدام أو غيرها- انتهى بقدر

(3/293)


الضرورة. وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين: والأولى قول من قال: ولا جنبا إلا عابري سبيل إلا مجتازي طريق فيه، ثم بين وجه ذلك. وحاصله الصون من التكرار الذي يحصل في صورة حمل العبور على السفر. قال: فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل. قال: وعابر السبيل المجتاز مرا وقطعا. قال ابن كثير: وهذا الذي نصره يعني ابن جرير هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية. (رواه أبوداود) من طريق أفلت بن خليفة، عن جسرة بنت دجاجة، عن عائشة. والحديث قد ضعفه ابن حزم فقال: أفلت مجهول الحال، ورد عليه بأن أفلت وثقه ابن حبان. وقال أبوحاتم، هو شيخ. وقال أحمد، لا بأس به. وروى عنه سفيان الثوري وعبدالواحد بن زياد. وقال في الكاشف، صدوق. وقال في البدر المنير، هو مشهور ثقة. وقال العجلي، جسرة تابعية ثقة. وذكرها ابن حبان في الثقات. وقد حسن ابن القطان حديث جسرة هذا عن عائشة. وصححه ابن خزيمة. قال ابن سيد الناس، ولعمري أن التحسين لأقل مراتبه لثقة رواته، ووجود الشواهد له من خارج، فلا حجة لأبي محمد يعني ابن حزم في رده. قلت: وقد سكت عنه أبوداود، وله شاهد
467- (13) عن على، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة، ولا كلب، ولا جنب)). رواه أبوداود والنسائي.
من حديث أم سلمة عند ابن ماجه والطبراني، لكن قال أبوزرعة: الصحيح حديث عائشة.

(3/294)


467- قوله: (لا تدخل الملائكة) اللام للعهد الذهني أي: الذين ينزلون بالبركة والرحمة والزيارة، واستماع الذكر دون الكتبة الحفظة، فإنهم لا يفارقون المكلفين طرفة عين في أحوالهم الحسنة والسيئة لقوله تعالى: ?ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد? [50: 18] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : فإن معكم من لا يفارقكم، فاتقوا الله واستحيوا منهم. (بيتا فيه صورة) أي: من ذوات الأرواح، كانت لها أشخاص منتصبة، أو كانت منقوشة في سقف أو جدار، أو منسوجة في الثوب، يدوية كانت أو مطبوعة، مخطوطة كانت أو فوتوغرافية، تامة كانت أو ناقصة، قطع منها النصف الأسفل. قيل : إن وجه امتناع الملائكة من البيت الذي فيه صورة، حرمة الصورة ومشابهة ذلك البيت بيوت الأصنام. وهذا اللفظ عام لكن خص منه ما هو منبوذ يوطأ ويداس. قيل: ويخص منه أيضا ما في الدراهم والدنانير من الصورة وبنات اللعب لمن لم تبلغ من البنات. (ولا كلب) لأنه نجس خبيث كما روى، والملائكة أطهار، وبينهما تضاد كما بين النور والظلمة، ومن سوى نفسه بالكلاب فحقيق أن ينفر عن بيته الملائكة، واستثنى من عمومه كلب الماشية والزرع والصيد لمسيس الحاجة. (ولا جنب) لأنه ممنوع من معظم العبادات. والمراد بالجنب الذي يتهاون في الغسل ويؤخره من غير عذر حتى يمر عليه وقت الصلاة المفروضة، ويجعل ذلك دأبا وعادة، فإنه مستخف بالشرع، متساهل في الدين، لا من يؤخره ليفعله لما ثبت من تأخيره - صلى الله عليه وسلم - غسل الجنابة عن موجبه زمانا. ويحتمل أن يكون المراد بالجنب من لم يرتفع حدثه كله ولا بعضه، وإذا توضأ ارتفع بعض حدثه على الصحيح، وعليه تبويب البخاري في صحيحه حيث قال: باب كينونة الجنب في البيت إذا توضأ. وأورد فيه حديث عائشة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرقد وهو جنب إذا توضأ. وبنى عليه الكلام النسائي حيث أورد حديث علي هذا في "باب الجنب إذا لم يتوضأ" فأشار بالترجمة إلى أن المراد بالجنب في

(3/295)


الحديث عنده من لم يتوضأ. (رواه أبوداود والنسائي) وأخرجه أيضا ابن ماجه وليس في حديثه "ولاجنب" والحديث عند الثلاثة من طريق عبدالله بن نجى عن أبيه، عن علي قال البخاري: عبدالله بن نجى فيه نظر، ووثقه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ: صدوق، ونجى ذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلى: كوفي تابعي ثقة، وقال الحافظ: مقبول، فالحديث حسن أو صحيح. وقد سكت عنه أبوداود، وقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي طلحة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة.
468- (14) وعن عمار بن ياسر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب إلا أن يتوضأ)). رواه أبوداود.
469- (15) وعن عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: ((أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم أن لايمس القرآن إلا طاهر)).
468- قوله: (ثلاثة) أي: أشخاص. (جيفة الكافر) أي: جسد من مات كافرا، فالمراد بالجيفة الميت، لأن استعمالها في الميت أغلب، وفي رواية عطاء الخرساني، عن يحيى بن معمر عن عمار عند أبي داود: إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير. (والمتضمخ) أي: الرجل المتلطخ. (بالخلوق) بفتح الخاء المعجمة طيب مركب من الزعفران وغيره. وفي الرواية المذكورة "ولا المتضمخ بالزعفران" وذلك لأنه متلبس بمعصية حتى يقلع عنها فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التزعفر للرجال. (والجنب حتى يتوضأ) أي: الوضوء المتعارف وهو الوضوء الشرعي. وفي الرواية المتقدمة "ولاالجنب" ورخص للجنب إذا نام أو أكل أو شرب أن يتوضأ. (رواه أبوداود) من طريق الحسن بن أبي الحسن عن عمار، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: الحسن لم يسمع عن عمار فهو منقطع.

(3/296)


469- قوله: (وعن عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم) الأنصاري المدني القاضي يكنى أبا محمد، ثقة ثبت تابعي، روى عن أنس وأبيه، وسالم بن عبدالله، وغيرهم، وروى عنه الزهري ومالك وسفيانان وغيرهم. قال ابن عبدالبر: كان من أهل العلم، ثقة فقيها محدثا مأمونا حافظا، وهو حجة فيما نقل وحمل. وقال مالك: كان كثير الحديث وكان رجل صدق، ومن أهل العلم والبصيرة. وقال أحمد: حديثه شفاء. مات سنة (135) ويقال (130) وهو ابن (70) سنة وليس له عقب. وأما عمرو بن حزم (بفتح الحاء المهملة وسكون الزاى) فهو عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الأنصاري الخزرجي أبوالضحاك المدني، صحابي مشهور، شهد الخندق وهو ابن (15) سنة، واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل نجران وهو ابن (17) سنة، ليفقههم في الدين، ويعلم القرآن ويأخذ صدقاتهم وذلك سنة (10). روى عنه ابنه محمد، وامرأته سودة بنت حارثة، وابن ابنه أبوبكر بن محمد - ولم يدركه - وغيرهم. مات بعد الخمسين، قيل: سنة (51) أو (52)، أو (53)، أو (54). (أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله ) في الفرائض، والسنن، والديات والصدقات وغير ذلك. (لعمرو بن حزم) قال الباجي: هذا أصل في كتابة العلم وتحصينه في الكتب، وفي صحة الرواية على وجه المناولة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - دفعه إليه وأمره بالعمل بما فيه. (أن لايمس القرآن) بفتح السين على أنه نهى، وبالضم على أنه نفى بمعنى النهى، أحد (إلا) وهو (طاهر) فيه دليل على أنه لا يجوز مس القرآن إلا لمن كان طاهرا، لكن الطاهر يطلق بالاشتراك على الطاهر من الحدث الأكبر والطاهر من الحدث الأصغر، وعلى من ليس على بدنه نجاسة، وعلى المؤمن، ولا بد لحمله على معين
رواه مالك والدارقطني.

(3/297)


من قرينة. وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمس المصحف، وخالف في ذلك داود. وأما المحدث حدثا أصغر فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك إلى أنه يجوز له مس المصحف. وقال القاسم وأكثر الفقهاء منهم الأئمة الأربعة: لا يجوز. قلت: القول الراجح عندنا هو قول أكثر الفقهاء، وهو الذي يقتضيه تعظيم القرآن وإكرامه. والمتبادر من لفظ الطاهر في هذا الحديث هو الطاهر من الحدث الأصغر. أي: المتوضي، وهو الفرد الكامل للطاهر. واختلف في تفسير آية ?لا يمسه إلا المطهرون? [56: 79] فقيل: إنها خبر عن اللوح المحفوظ أنه لا يمسه إلا الملائكة المطهرون، فالضمير في "لا يمسه" للكتاب المكنون الذي سبق ذكره في صدر الآية، والمطهرون هم الملائكة، وعلى هذا فلا حجة فيها لمن منع مس المصحف على غير طهارة. وقيل معنى الآية النهى للمكلفين من بني آدم عن مس القرآن على غير طهارة. والمراد "بالكتاب المكنون" المصاحف التي بأيدي الناس. وقوله تعالى :"لايمسه" وإن كان لفظه لفظ الخبر، فإن معناه النهى. لأن خبر الباري لا يكون بخلاف مخبره، ونحن نرى اليوم من يمس القرآن غير طاهر فثبت أن المراد به النهى، فيكون حجة على المنع من مس المصحف على غير طهارة. وقيل الآية حجة في وجوب الوضوء لمس المصحف على القول الأول أيضا، وذلك أن الله تعالى وصف القرآن بأنه كريم، وأنه في الكتاب المكنون الذي لا يمسه إلا المطهرون، فوصفه بهذا تعظيما له، والقرآن المكنون في اللوح المحفوظ هو المكتوب في المصاحف، فوجب أن تمتثل في ذلك ما وصف الله تعالى به القرآن. (رواه مالك) عن عبدالله بن أبي بكر مرسلا (والدارقطني) بسنده عن عبدالله بن أبي بكر، عن أبيه مرسلا، وأخرجه الدارقطني أيضا عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده موصولا، فقول المصنف والدارقطني محل تأمل. قال ابن عبدالبر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث، وقد روى مسندا من وجه صالح، وهو كتاب

(3/298)


مشهور عند أهل السير، معروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بها في شهرتها عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر في مجيئة لتلقى الناس له بالقبول، ولا يصلح عليهم تلقى مالا يصح - انتهى. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتابا، أصح من هذا الكتاب، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه، ويدعون رأيهم. وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبدالعزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب. وقال ابن قدامة: هو كتاب مشهور، رواه أبوعبيد في فضائل القرآن، والأثرم - انتهى. والحديث أخرجه أيضا أبوداود في المراسيل، والنسائي في الديات، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك (ج1:ص397) في حديث طويل، والطبراني في معجمه، والبيهقي في سننه، وفي الخلافيات، وأحمد في مسنده، وابن راهوية، والدارمي. وقد بسط الزيلعي الكلام على طرقه في نصب الراية (ج1:ص 198،197) وله شواهد من حديث ابن عمر، أخرجه الطبراني. والدارقطني، والبيهقي، قال الحافظ: إسناده لا بأس به لكن فيه سليمان الأشدق، وهو مختلف فيه، رواه عن سالم عن أبيه. قال الحافظ: ذكر الأثرم أن أحمد احتج به. ومن حديث حكيم بن حزام أخرجه الحاكم (ج3:ص485)
470- (16) وعن نافع، قال: ((انطلقت مع ابن عمر في حاجة، فقضى ابن عمر حاجته، وكان من حديثه يومئذ أن قال: مر رجل في سكة من السكك، فلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه، فلم يرد عليه، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة، ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام، وقال: إنه

(3/299)


والطبراني والدارقطني. ومن حديث عثمان بن أبي العاص، أخرجه الطبراني وابن أبي داود في المصاحف، وفي إسناده انقطاع وفي رواية الطبراني من لايعرف. ومن حديث ثوبان أورده علي بن عبدالعزيز في منتخب مسنده، وسنده ضعيف جدا. وقد ذكر طرق هذه الأحاديث الزيلعي في نصب الراية (ج1:ص 199،198). مع الكلام عليها، وكذا تكلم عليها الشوكاني في النيل (ج1:ص200)، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص277،276).
470- قوله: (وعن نافع) أي: مولى ابن عمر. (انطلقت مع ابن عمر في حاجة) أي: في شأن حاجة له إلى ابن عباس. (وكان من حديثه) أي: من جملة حديثه الذي حدثه. (أن قال) أي: ابن عمر. (في سكة) بكسر السين وتشديد الكاف أي: طريق. (من السكك) أي: الطرق. (فلقي) أي: الرجل. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خرج) أي: رسول الله. (من غائط أو بول) أي: فرغ لأن الخروج بعد الفراغ، أو خرج من محلهما. (فسلم) أي: الرجل. (عليه) - صلى الله عليه وسلم - (فلم يرد) أي: النبي. (عليه) أي: على الرجل. (أن يتوارى) أي: يختفى ويغيب شخصه عن نظره - صلى الله عليه وسلم - (ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) جواب إذا (بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه) أي: للتيمم. قد أخذ بعض الحنفية من أمثال هذا الحديث التيمم مع القدرة على الماء في الوضوء المندوب دون الواجب، صرح به ابن نجيم في البحر. وقال النووي: هو محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عادما للماء حال التيمم، فإن التيمم مع وجود الماء لا يجوز للقادر على استعماله، سواء كان لفرض أو لنفل، قلت: وهو مقتضي صنيع البخاري حيث بوب على حديث أبي جهيم بن الحارث في التيمم لرد السلام: باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوات الصلاة. قال النووي: ولا فرق بين أن يضيق وقت الصلاة وبين أن يتسع، ولا فرق بين صلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما. وإليه ذهب الجمهور. وقال أبوحنيفة: يجوز أن يتيمم مع وجود الماء لصلاة

(3/300)


الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما. واحتج له الطحاوى بهذا الحديث بأنه إذا جاز التيمم في الحضر لخوف فوت رد السلام، جاز التيمم لخوف ما يفوت لا إلى خلف. وفي الاستدلال به على ذلك نظر لأن الكلام في الوضوء الواجب دون المندوب، وأيضا ليس فيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان واجدا للماء حال التيمم. (ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه) احتج به الحنفية على أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة للذراعين، قالوا والذراع من طرف المرفق إلى الإصبع الوسطى، لكن الاستدلال به على ذلك
لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر)). رواه أبوداود.

(3/301)


غير صحيح، لأن ذكر الضربتين والذراعين في هذا الحديث منكر كما سيأتي. (لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر) أي: وكرهت ذكر الله على تلك الحالة. وفيه دليل على منع ذكر الله للمحدث حدثا أصغر، لأن السلام من أسماء الله تعالى. والحديث الآتي صريح في كراهة الذكر للمحدث، ويعارضه ما تقدم من حديث عائشة: "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر الله على كل أحيانه"، فإنه مشعر بوقوع الذكر حال الحدث الأصغر، لأنه من جملة الأحيان المذكورة. وكذلك حديث علي لا يحجزه من القرآن شيء ليس الجنابة، فإذا كان الحدث الأصغر لا يمنعه عن قراءة القرآن وهو أفضل الذكر كان جواز ما عداه من الأذكار بطريق الأولى. والتوفيق بينهما، أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ في ذلك بالرخصة تيسيرا على الأمة، وفي هذا العزيمة، أي: تعليما لهم بالأفضل، فالمراد بالمنع والكراهة أدنى الكراهة، فيدل على استحباب ذكر الله تعالى بالوضوء أو التيمم ولا خلاف في ذلك. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا الطحاوى، ومداره على محمد بن ثابت العبدي، وقد ضعفه ابن معين وأبوحاتم والبخاري وأحمد. وقال أحمد والبخاري ينكر عليه حديث التيمم، يعني هذا. زاد البخاري خالفه أيوب وعبيدالله والناس، فقالوا: عن نافع عن ابن عمر فعله. وقال أبوداود: ولم يتابع أحد محمد بن ثابت في هذ القصة على ضربتين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورووه عن فعل ابن عمر. وقال الخطابي في المعالم: حديث ابن عمر لا يصح، لأن محمد بن ثابت ضعيف جدا لا يحتج بحديثه. واعلم أن حديث محمد بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر هذا يدل على أن السلام كان بعد الخروج من غائط أو بول، وأن جواب السلام كان بعد التيمم مع ذكر التعليل فيه، وكذا وقع في رواية ابن الهاد، عن نافع، عن ابن عمر، إلا أنه لم يذكر العلة، ولا ذكر الضربتين والذراعين في صفة التيمم، بل قال: مسح وجهه ويديه. أخرجه أبوداود وسكت عنه وقال المنذري: حديث

(3/302)


حسن، ويوافقه ما روى عن أبي جهيم بن الحارث عند الشيخين وغيرهما: أنه أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. ففيه أن السلام بعد الفراغ، وجواب السلام كان بعد التيمم بدون ذكر العلة. وروى الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر، أن رجلا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فلم يرد عليه. أخرجه مسلم والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. وفيه أن السلام كان حالة البول وأنه لم يرد السلام، وكذا وقع ذكر السلام حالة البول في حديث المهاجر بن قنفذ الآتي، وفي حديث جابر بن عبدالله، وحديث أبي هريرة عند ابن ماجه، إلا أنه ذكر في حديث المهاجر رد السلام بعد الوضوء وفي حديث أبي هريرة بعد التيمم، وقيل: معنى قوله: "توضأ" في حديث المهاجر "تطهر" فيشمل التيمم. وفي الباب أحاديث من غير هؤلاء الصحابة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص276) مع الكلام عليها. واختلف في رفع الاختلاف الواقع في روايات ابن عمر، فحاول بعضهم ترجيح رواية الضحاك عن نافع، عن ابن عمر عند مسلم والترمذي وغيرهما، أن السلام كان في حالة البول كما في أحاديث جابر، وأبي هريرة والمهاجر. وأما قوله: في هذه الرواية: فلم يرد عليه، فمعناه أنه أخر الرد لا أنه ترك الرد مطلقا، وقد تقدم أن رواية محمد بن ثابت العبدي عن نافع ضعيفة جدا فلا تعارض رواية الضحاك، وأما رواية ابن الهاد عن
471- (17) وعن المهاجر بن قنفذ: (( أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، وقال: إني كرهت أن أذكرالله إلا على طهر)).

(3/303)


نافع، وحديث أبي جهيم فقيل: أنه وقع فيهما تقديم وتأخير في بيان القصة، فمجيئة - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل كان بعد الفراغ عن البول، وبعد سلام الرجل عليه، يعني كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبول فلقيه ذلك الرجل وسلم عليه فلم يرد عليه؛ حتى إذا أقبل من نحو بئر جمل بعد البول تيمم، ورد عليه السلام. وأما حديث المهاجر الآتي فهو قصة أخرى رد عليه السلام فيها بعد الوضوء، فتحصل من هذا كله أن ههنا قصتان: إحداهما في حديث الضحاك عن نافع عن ابن عمر، والأخرى في حديث المهاجر بن قنفذ. وحمل بعضهم هذه الروايات على وقائع متعددة وقصص مختلفة وقعت في أوقات شتى، فوقع السلام مرة في حالة البول، وتارة بعد الفراغ عن البول، وترك الرد أحيانا تأديبا، وأخره أحيانا على حسب اختلاف الناس في التأديب وغيره، ورد السلام في بعضها بعد الوضوء، وفي بعضها بعد التيمم.والله تعالى أعلم وعلمه أتم.

(3/304)


471- قوله: (وعن المهاجر بن قنفذ) بضم القاف والفاء بينهما نون ساكنة وآخره ذال معجمة، هو المهاجر بن قنفذ بن عمير بن جدعان التيمي القرشي. قيل كان اسمه أولا عمرا ومهاجر لقب، وكان اسم أبيه خلفا وقنفذ لقب، فهو عمرو ابن خلف. قال الحافظ في الإصابة (ج3:ص466) كان أحد السابقين إلى الإسلام، ولما هاجر أخذه المشركون فعذبوه، فانفلت منهم وقدم المدينة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا المهاجر حقا. وقيل: إنما أسلم بعد الفتح. ولاه عثمان على شرطته. قال ابن عبدالبر: سكن البصرة ومات بها. (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه) وعند أحمد: أنه سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ. وهكذا عند الطحاوى، وابن ماجه بلفظ "وهو يتوضأ" أي: وهو في مقدمات الوضوء. وقد نبه ابن ماجه على ذلك بذكر الحديث في "باب الرجل يسلم عليه وهو يبول". (فلم يرد عليه) فيه دلالة على أن المسلم في هذه الحالة لا يستحق جوابا، وهذا متفق عليه بين العلماء، بل قالوا: يكره أن يسلم على المشتغل بقضاء حاجة البول والغائط، فإن سلم عليه كره له رد السلام، ويكره للقاعد لقضاء الحاجة أن يذكر الله تعالى بشيء من الأذكار، فلا يرد السلام، ولا يشمت العاطس، ولا يحمد الله تعالى إذا عطس. وفي حديث جابر بن عبدالله عند ابن ماجه أن رجلا مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيتني على مثل هذه الحالة، فلا تسلم علي، فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك. (حتى توضأ) أي: فرغ من وضوءه. وظاهره تعدد الواقعة كما تقدم التنبيه على ذلك، ويمكن أن يكون معنى "توضأ" تطهر فيشمل التيمم. (ثم اعتذار إليه) يعني بعد رد السلام عليه. (وقال) بيان للإعتذار، وكأنه إعتذار لتأخير الرد إلى الفراغ من الوضوء، وإلا فترك الرد حالة البول لا يحتاج إلى الاعتذار. (إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر) أي:

(3/305)


فلذا أخرته، ليكون على الوجه الأكمل. والمراد به أدنى كراهته، فمثل هذه الكراهة دعت إلى التأخير إلى
رواه أبوداود، وروى النسائي إلى قوله: حتى توضأ، وقال فلما توضأ رد عليه.
?الفصل الثالث?
472- (18) عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجنب، ثم ينام، ثم ينتبه، ثم ينام)). رواه أحمد.
473- (19) وعن شعبة، قال: إن ابن عباس رضي الله عنه كان إذا اغتسل من الجنابة، يفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى سبع مرار،
الوضوء وأصل التأخير حصل بسبب كراهة الرد حالة البول. قال الخطابي: في قوله: "كرهت ذكر الله" دليل على أن السلام الذي يحيى به الناس بعضهم بعضا اسم من أسمائه تعالى، فالمعنى: الله رقيب عليك فاتق الله، أو حافظ عليك ما تحتاج إليه. وفي الحديث دلالة على أنه ينبغي لمن سلم عليه في تلك الحال أن يدع الرد حتى يتوضأ، أو يتيمم، ثم يرد وهذا إذا لم يخش فوت المسلم، وأما إذا خشى فوته، فالحديث لا يدل على المنع، بل هو ساكت عنه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمكن من الرد بعد أن توضأ، أو تيمم على اختلاف الروايتين، فيمكن أن يكون تركه لذلك طلبا للأشراف، وهو الرد حال الطهارة. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو، والمنذري، وقال النووي في الأذكار: هذا حديث صحيح، وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والطحاوى. (وروى النسائي إلى قوله: حتى توضأ) أي: لم يذكر الاعتذار وعلة التأخير. (وقال) أي: النسائي. (فلما توضأ رد عليه) وهو مفهوم من الرواية السابقة.
472- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجنب ثم ينام) أي: قبل الوضوء أحيانا بيانا للجواز وعملا بالرخصة، أو بعد الوضوء طلبا للفضيلة، وقد تقدم أنه كان يتوضأ قبل النوم غالبا. والحديث يدل على تأخيره - صلى الله عليه وسلم - غسل الجنابة عن موجبه زمانا ولا اختلاف فيه. (رواه أحمد) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص275): رجاله رجال الصحيح.

(3/306)


473- قوله: (عن شعبة) هو ابن دينار الهاشمي المدني مولى ابن عباس، ضعفه مالك، والجوزجاني والنسائي وابن سعد وأبوزرعة والساجي وأبوحاتم وابن حبان وابن معين في رواية ابن أبي خيثمة عنه. وقال أحمد وابن عدي وابن معين: في رواية الدوري عنه: ليس به بأس. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ. (يفرغ) من الإفراغ أي: يصب الماء. (سبع مرار) لا يصلح هذا الحديث أن يكون حجة للتسبيع في غسل اليدين عند الاغتسال من الجنابة لأنه ضعيف، وإن صح، فيحمل فعل ابن عباس هذا على ما كان الأمر قبل ذلك، كما تقدم في حديث ابن عمر آخر حديث الفصل الثالث من باب الغسل، ثم رفع ذلك الأمر ولم يبلغ ابن عباس النسخ، ويحتمل أنه
ثم يغسل فرجه، فنسي مرة كم أفرغ، فسألني فقلت: لا أدرى. فقال: لا أم لك! وما يمنعك أن تدري؟ ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على جلده الماء، ثم يقول هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتطهر)). رواه أبوداود.
474- (20) وعن أبي رافع، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف ذات يوم على نسائه، يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: فقلت له: يا رسول الله ! ألا تجعله غسلا واحدا آخرا؟ قال: هذا أزكى وأطيب وأطهر)).

(3/307)


بلغه النسخ، وكان من مذهبه أنه إذا نسخ الوجوب بقي الندب كما قيل، أو كان يفعل التسبيع في صورة مخصوصة مبالغة في الإنقاء والتنظيف، كما جاء ذلك في تطهير الأواني وغسلها. (ثم يغسل فرجه) كذلك سبع مرار، وهو يعلم بطريق الأولى. (فنسي) أي: ابن عباس. (مرة كم أفرغ) أي: على يديه، أو على فرجه، أو على أي عضو من أعضائه. (فسألني) أي: كم أفرغت. أي: سبع مرار أو أقل من ذلك. (لا أم لك) هذا وارد على الذم، أي: أنت لقيط لا يعرف لك أم فأنت مجهول. (ومايمنعك أن تدري) أي: لم لم تنظر إلي حتى تعلم؟ والواو عطفت الجملة الاستفهامية على الجملة الدعائية، والجامع كونهما إنشائيتين، قاله الطيبي. (ثم يفيض على جلده الماء) قال ابن حجر: ذكر الجلد لأنه الأصل وإلا فغسل الشعر واجب أيضا. (ثم يقول هكذا) الظاهر رجوعه لجميع ما مر (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتطهر) فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل اليدين والفرج عند غسل الجنابة سبع مرات، لكن الحديث ضعيف فلا يعارض الأحاديث الصحيحة التي تدل نصا على التثليث. وقيل الإشارة راجعة إلى ما ذكر من الوضوء والإفاضة. قال ابن حجر: وفيه أنه لا مناسبة لهذا الحديث بالترجمة إلا أن فيه بعض أحكام تتعلق بالجنب فذكر استطرادا لأجلها، ولو ذكره في باب الغسل لكان أولى كذا في المرقاة. (رواه أبوداود) وسكت عنه. وقال المنذري: شعبة هذا مولى ابن عباس مدني لا يحتج بحديثه.

(3/308)


474- قوله: (ذات يوم) قال القاري: ذات زائدة زيد بها لدفع المجاز، أي: في نهار. وقيل: زائدة للتأكيد. (وعند هذه) أي: بعد المعاودة على حدة. (ألا) بالتخفيف فالهمزة للإستفهام، ولا نافية. وقيل: بالتشديد، فيكون بمعنى "هلا" للتحضيض. (تجعله) أي: غسلك. (غسلا واحدا) أي: ألا تكتفي بالغسل الواحد في آخر الجماع. (آخرا) تأكيد لدفع التوهم قال الشيخ الألباني: هذه اللفظة "آخرا" ثابتة في جميع النسخ، لكنها لم ترد عند أحمد وأبي داود، ولا عند غيرهما، كابن ماجه والطحاوي في شرح المعاني والبيهقي في سننه. (قال هذا) أي: تعدد الغسل. (أزكى) أي: أكثر أجرا وثوابا. (وأطيب) أي: ألذ وأحلى وأجود عند النفس. (وأطهر) أي: أنظف وأحسن. وقال ابن حجر: هي قريبة من الترادف جمع بينهما
رواه أحمد وأبوداود.
475- (21) وعن الحكم بن عمرو، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة)). رواه أبوداود، وابن ماجه، والترمذي، وزاد: أو قال: بسؤرها. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
تأكيدا ومبالغة. والحديث يدل على استحباب الغسل قبل المعاودة، ولا خلاف فيه، وليس بينه وبين ما تقدم من حديث أنس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه بغسل واحد" اختلاف وتعارض، بل كان يفعل هذا مرة، وذاك أخرى، فمرة تركه بيانا للجواز، وتخفيفا على الأمة، ومرة فعله لكونه أزكى وأطهر. قال النووي: هو محمول على أنه فعل الأمرين في وقتين مختلفين. (رواه أحمد وأبوداود) وأخرجه أيضا ابن ماجه. قال الحافظ في التلخيص (ص52) وهذا الحديث طعن فيه أبوداود، فقال: حديث أنس أصح منه، قال الشوكاني: وهذا ليس بطعن في الحقيقة لأنه لم ينف عنه الصحة.

(3/309)


475- قوله: (وعن الحكم) بفتحتين (بن عمرو) بن مجدع الغفاري، ويقال له: الحكم بن الأقرع وهو ليس غفاريا؛ إنما هو من ولد ثعلبة بن مليل، ونسب إلى غفار لأن ثعلبة أخو غفار، وقد ينسبون إلى الإخوة كثيرا، صحابي، له أحاديث، انفرد له البخاري بحديث. نزل البصرة، وولي خراسان فسكن مرو ومات بها سنة (45) أو (50) أو (51). (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة) النهى محمول على التنزيه بقرينة حديث ابن عباس أول أحاديث الفصل الثاني وغيره من الأحاديث الدالة على الجواز. (رواه أبوداود) وسكت عنه. (وابن ماجه والترمذي) من طريق شعبة، عن عاصم الأحول، عن أبي حاجب، عن الحكم بن عمرو. وأخرجه أيضا أحمد (ج5:ص66) وأبوداود الطيالسي، والنسائي إلا أن ابن ماجه والنسائي قالا بفضل وضوء المرأة. (وزاد) أي: الترمذي. (أو قال بسؤرها) بالهمزة بقية الشيء، وقد يخفف الهمز بالابدال. قال الطيبي: شك الراوي أنه عليه الصلاة والسلام قال: بفضل طهور المرأة أو بسؤرها - انتهى. قلت: هذا الحديث رواه الترمذي عن شيخين: محمود بن غيلان ومحمد بن بشار كلاهما، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، والشك إنما وقع من محمود بن غيلان، وأما محمد بن بشار فإنه لم يشك في اللفظ، كما حكى عنه الترمذي، وكما هو في رواية أبي داود، وابن ماجه، وكذلك لم يشك عمرو بن علي عند النسائي وأحمد (ج5:ص66) ويونس بن حبيب عن الطيالسي. ورواه أحمد (ج4:ص213) عن عبدالصمد بن عبدالوارث، عن شعبة على الشك. ورواه أيضا (ج4:ص213) عن وهب بن جرير عن شعبة، فقال: نهى أن يتوضأ الرجل من سؤر المرأة، والمفهوم من الروايات أن المراد بالسؤر هو فضل الطهور لا فضل الشراب فإن أصل السؤر هو البقية من كل شيء. (وقال: هذا حديث حسن صحيح) وفي النسخ الحاضرة للترمذي: هذا حديث حسن، بدون لفظ "صحيح". قال الحافظ في الفتح: حديث

(3/310)


476- (22) وعن حميد الحميري، قال: لقيت رجلا صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين، كما صحبه أبوهريرة، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة. زاد مسدد: وليغترفا جميعا)). رواه أبوداود، والنسائي وزاد أحمد في أوله: نهى أن يمتشط أحدنا كل يوم
الحكم بن عمرو أخرجه أصحاب السنن، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، وأغرب النووي فقال: اتفق الحفاظ على تضعيفه - انتهى. قلت: قال البخاري: حديث الحكم بن عمرو في النهى لا يصح.

(3/311)


476- قوله: (وعن حميد) بالتصغير. (الحميري) بكسر المهملة وسكون الميم وفتح التحتانية، هو حميد بن عبدالرحمن الحميري البصري، قال المصنف هو من ثقات البصريين وأئمتهم، تابعي جليل من قدماء التابعين. روى عن أبي هريرة، وابن عباس وغيرهما. (لقيت رجلا صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -) إبهام الصحابي لا يضر لأن الصحابة كلهم عدول. (أربع سنين، كما صحبه أبوهريرة) لأن إسلامه سنة سبع من الهجرة، هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في خيبر بعد مافتحها، وكانت وقعة خيبر في المحرم سنة سبع. (نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل) أي: بالماء الذي يفضل عن غسل الرجل. (أو يغتسل الرجل بفضل المرأة) قيل: مناط النهى هو صيانة الطهور عن وقوع الماء المستعمل فيه، فإن الماء المستعمل وإن كان طاهرا غير نجس إلا أن المطلوب الاحتراز عنه لئلا يقع في ماء الغسل، ولما كانت النساء أقل احتياطا في أمر التطهير في الواقع، نهى الرجل عن استعمال فضلها، وإنما نهى المرأة عن فضل الرجل جريا على مقتضى طبع النساء، فإنهن يرين الرجال أقل نظافة، فروعى في الأول ما هو واقع في نفس الأمر، وفي الثاني ما هو في زعمهن، لئلا يقعن في الوسوسة في أمر الطهارة، لأن الحفظ عن الوسوسة في أمر التطهير مطلوب شرعا، فنهى المرأة عن فضل الرجل قطعا للوسوسة. (زاد مسدد) أي: عن أبي عوانة عند أبي داود، وكذا روى هذه الزيادة قتيبة عن أبي عوانة عند النسائي. ومسدد بضم الميم، وفتح السين المهملة، وتشديد الدال الأولى، وفتحها هو ابن مسرهد بن مسربل بن مستورد الأسدي البصري أبوالحسن، ثقة، حافظ، روى عنه البخاري وأبوداود وروى له أبوداود أيضا، والترمذي والنسائي بواسطة محمد بن محمد ابن خلاد الباهلي، وأحمد بن محمد بن مدوية. يقال إنه أول من صنف المسند بالبصرة، مات سنة (228). قال الحافظ: وزعم منصور الخالدي أنه مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل بن أرندل بن سرندل بن عرندل

(3/312)


بن ماسند. ولم يتابع عليه. ويقال: اسمه عبدالملك بن عبدالعزيز ومسدد لقبه. (وليغترفا) بصيغة أمر واللام ساكنة وتكسر. (جميعا) ظاهره معا لا واحد بعد واحد، ويحتمل المناوبة والاختلاف. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وقال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات ولم أقف لمن أعله على حجة قوية. وقال في بلوغ المرام إسناده صحيح. (وزاد أحمد) وكذا زاده أبوداود في باب البول في المستحم والنسائي. (نهى أن يمتشط) أي: عن الإكثار في الامتشاط والزينة
أو يبول في مغتسل.
477- (23) ورواه ابن ماجه عن عبدالله بن سرجس.
(7) باب أحكام المياه
(أويبول في مغتسل) لأنه يورث الريبة والوسوسة وهو عام في المكان الصلب واللين وقد تقدم الكلام في ذلك.
477- قوله: (ورواه ابن ماجه عن عبدالله بن سرجس) بفتح السين وكسر الجيم، يجوز فيه الصرف والمنع من الصرف للعلمية والعجمة. لفظه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعا. قال ابن ماجه بعد إخراجه من طريق عاصم الأحول عن ابن سرجس: الصحيح هو الأول يعني حديث عاصم، عن أبي حاجب، عن الحكم بن عمرو، والثاني أي: حديث عاصم عن ابن سرجس وهم، وقال الألباني: سنده صحيح وإن قال ابن ماجه إنه وهم، والصحيح أنه من حديث الحكم بن عمرو – يعني المتقدم – وقال البخاري: حديث عبدالله بن سرجس في هذا الباب الصحيح هو موقوف. ومن رفعه فهو خطأ. ذكره البيهقي (193:1) ورده عليه ابن التركماني في الجوهر النقي فراجعه إن شئت.

(3/313)


(باب أحكام المياه) من الطهارة، والنجاسة، وغيرهما، وأتى لكثرة أنواع الماء مثل ماء السماء، وماء البئر، وماء العين، وماء البحر، والماء الراكد، والماء الجاري، والقليل والكثير، والمستعمل، وغير المستعمل، وسؤر السباع، وماء الحياض في الفلاة، والماء المشمش، وغير ذلك. وجمع الماء على المياه دل على أن همزته منقلبة عن هاء، وأصل المياه، مواه، لدلالة جمعه الآخر على الأمواه، وتصغير الماء على مويه، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقوله باب أحكام المياه كذا في طبعات الهند وهكذا في نسخة القاري، ووقع في نسخة الألباني باب المياه أي: بسقوط لفظ أحكام. واعلم أنه اختلف آراء العلماء في الماء إذا خالطته نجاسة، فذهب مالك والظاهرية إلى أنه لا ينجس الماء بما لاقاه من النجاسة ولو كان قليلا إلا إذ تغير أحد أوصافه، عملا بحديث: "الماء لا ينجسه شئ إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه" أخرجه ابن ماجه. فلم يفرقوا بين القليل والكثير، والاعتبار عندهم للتغير فقط. وذهبت الشافعية والحنفية إلى قسمة الماء إلى قليل تضره النجاسة مطلقا، وكثير لا تضره إلا إذا غيرت بعض أوصافه، ثم اختلفوا بعد ذلك في تحديد القليل والكثير، فذهب أبوحنيفة إلى تحديد القليل بأنه ما ظن المستعمل للماء الواقعة فيه النجاسة استعمالها باستعماله، وماعدا ذلك فهو الكثير. قال في الدر المختار: والمعتبر في مقدار الراكد أكبر رأى المبتلي به، فإن غلب على ظنه عدم وصول النجاسة إلى الجانب الآخر جاز، وإلا لا، هذا ظاهر الرواية عن الإمام (أبي حنيفة) وإليه رجع محمد، وهو الأصح، كما في الغاية وغيرها، وحقق في البحر: أنه المذهب، وبه يعمل - انتهى. وأكثر ابن نجيم في ذكر النقول

(3/314)


عن المشائخ الحنفية في أن العبرة عندهم لرأى المبتلى به، فإن ظنه نجسا كان نجسا، وإن ظنه طاهرا كان طاهرا، لكنهم لما رأوا أن هذا يفضي إلى اختلاف العوام في أمر طهارة الماء الذي لاقته النجاسة، ويستلزم عدم انضباط مسألة الطهارة لتفرق آرائهم وظنونهم حددوا لذلك حدودا ينتظم بها أمرهم، فمنهم من قدر الكثير من الماء، وهم قدماء الحنفية، وعزاه محمد في موطأه إلى أبي حنيفة بأنه الماء الذي إذا حرك أحد طرفيه آدمي لم تسر الحركة إلى الطرف الآخر، ثم اختلفوا في التحريك المعتبر هل هو بالوضوء، أو بالاغتسال، أو باليد؟ ومنهم من قدر الكثير - وهم أكثر المتأخرين من الحنفية - بالعشر في العشر. ولا دليل لهم على هذه التحديدات لا من كتاب الله، ولا من سنة رسوله، ولا من آثار الصحابة، ولا من قياس صحيح. وأما أصل مذهب أبي حنيفة وهو إدارة الأمر على رأى المبتلى به، فقد احتجوا لذلك بحديث الاستيقاظ أول أحاديث باب سنن الوضوء، وبحديث ولوغ الكلب، والأمر بإراقة ما ولغ الكلب فيه، وهو أول أحاديث باب تطهير النجاسات، وبحديث النهى عن البول في الماء الدائم، وقد طول ابن نجيم في البحر الرائق الكلام في تقرير الاستدلال بهذه الأحاديث، ونقله الشيخ عبدالحي اللكنوى في السعاية حاشية شرح الوقاية، ثم أجاب عنه، ولقد أجاد وأصاب في الجواب؛ وأجيب أيضا بأن هذه الأحاديث ليست ورادة لبيان حكم نجاسة الماء، بل الأمر باجتنابها تعبدي لا لأجل النجاسة، وإنما هو لمعنى لا نعرفه، كعدم معرفتنا لحكمة أعداد الصلوات ونحوها. وقيل: بل النهى في هذه الأحاديث للكراهة فقط وهي طاهرة مطهرة. وقيل: هي محمولة على القليل أي: ما دون القلتين. وأجاب بعضهم عن أصل مذهب أبي حنيفة بأن الظن والرأى لا ينضبط، بل يختلف باختلاف الأشخاص، ففي إدارة الأمر على ذلك من الحرج ما لا يخفى، وأيضا جعل ظن الاستعمال مناطا يستلزم استواء القليل والكثير وذهبت الشافعية إلى تحديد الكثير من

(3/315)


الماء بما بلغ قلتين من قلال هجر، وذلك نحو خمسمائة رطل عملا بحديث القلتين وما عداه فهو القليل. وحديث "الماء لاينجسه شيء" الخ. محمول عندهم على ما بلغ القلتين فما فوقها، وهو كثير، وحديث الاستيقاظ، وحديث الدائم محمول على القليل، وهو أقوى المذاهب وأرجحها عندي. والله أعلم. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله (ج1:ص147): قد أطال القوم في فروع موت الحيوان في البئر، والعشر في العشر، والماء الجاري، وليس في كل ذلك حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألبتة. وأما الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين، كأثر ابن الزبير في الزنجي، وعلي في الفارة، والنخعي والشعبي في نحو السنور، فليست مما يشهد له المحدثون بالصحة، ولا مما اتفق عليه جمهور أهل القرون الأولى، وعلى تقدير صحتها يمكن أن يكون ذلك تطييبا للقلوب، وتنظيفا للماء، لا من جهة الوجوب الشرعي، كما ذكر في كتب المالكية، ودون نفي هذا الاحتمال خرط القتاد. وبالحملة فليس في هذا الباب شيء يعتد به، ويجب العمل عليه، وحديث القلتين أثبت من ذلك كله بغير شبهة، ومن المحال أن يكون الله تعالى شرع في هذه المسائل لعباده شيئا زيادة على ما لا ينفكون عنه من الارتفاقات، وهي مما يكثر وقوعه، وتعم به البلوى، ثم لا ينص عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - نصا جليا، ولا يستفيض في الصحابة ومن بعدهم، ولا حديث واحد فيه – انتهى.
?الفصل الأول?
478- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه)).

(3/316)


478- قوله: (لايبولن أحدكم في الماء الدائم) أي: الراكد الساكن. (الذي لا يجري) تفسير للدائم وإيضاح لمعناه وقيل: صفة ثانية مؤكدة للأولى. وقيل: الدائم من الأضداد، يقال للساكن والدائر المتحرك: دائم. ويطلق على البحار الكبار التي يدوم أصلها ولا ينقطع ماءها: أنها دائمة، بمعنى أن ماءها غير منقطع، وهو غير مراد هنا اتفاقا، وعلى هذين القولين فقوله: الذي لا يجري، صفة مخصصة لأحد معنى المشترك، وهذا أولى من حمله على التوكيد. (ثم يغتسل فيه) برفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ثم هو يغتسل فيه. نبه به على مآل الحال، والمعنى: أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه فيمتنع عليه استعماله لما وقع فيه من البول، فالنهى في الظاهر مقصور على البول، وثم للإستبعاد وبيان المآل، ويرجع ذلك إلى النهي عن الجمع، أي: بعيد من العاقل أن يجمع بينهما. وقد جوز جزمه عطفا على "يبولن" لأنه مجزوم الموضع بلا الناهية، ولكنه بني على الفتح لتوكيده بالنون، وهذا يدل على أن النهي عن كل واحد من البول والاغتسال. ونصبه على إضمار أن وإعطاء "ثم" حكم "واو الجمع" وهذا يفيد أن النهى إنما هو عن الجمع بين البول والاغتسال دون إفراد أحدهما مع أنه ينهى عن البول فيه مطلقا. وأجيب بأن ذلك لا يمنع من جواز النصب، لأنه لا يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة لفظ واحد، فيؤخذ من هذا الحديث النهى عن الجمع، ومن رواية مسلم التالية النهى عن إفراد الاغتسال، ومن حديث جابر الآتي عن إفراد البول، والنهى عن كل واحد منهما على انفراده ليستلزم النهى عن فعلهما جميعا بالأولى، وقد ورد النهى عن كل واحد منهما في حديث واحد. رواه أبوداود بلفظ لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة. قال الشاه ولي الله الدهلوي: وحكمة النهى أن كل واحد منهما لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يغير الماء بالفعل ، أو يفضى إلى التغيير بأن يراه الناس يفعل فيتتابعوا، وهو بمنزلة

(3/317)


اللاعنين، أللهم إلا يكون الماء مستبحرا أو جاريا، والعفاف أفضل على كل حال – انتهى. واعلم أن الحديث لا بد من إخراجه عن ظاهره بالتخصيص أو التقييد، لأن الاتفاق واقع على أن الماء المستبحر الكثير جدا لا تؤثر فيه النجاسة، والاتفاق واقع على أن الماء إذا غيرته النجاسة امتنع استعماله فحملت المالكية النهى على التنزيه فيما لا يتغير، لاعتقدهم أن الماء لا ينجس إلا بالتغير قليلا كان أو كثيرا، فالمعتبر عندهم هو التغير وعدمه. وقالت الحنفية: خرج عنه المستبحر الكثير جدا بالإجماع، فيبقى ماعداه على حكم النص، فيدخل تحته ما زاد على القلتين، ومن المعلوم أن البول القليل في ما زاد على القلتين، من الماء لا يغير لونه ولا طعمه ولا رائحته، ومع ذلك قد نهى، وليس
متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قال: ((لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب)). قالوا: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا.
479- (2) وعن جابر، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبال في الماء الراكد)). رواه مسلم.
480- (3) وعن السائب بن يزيد،

(3/318)


ذلك إلا لكونه ينجس في رأي المبتلى به بعد قليل من الزمان إن كان هذا الماء كثيرا، وإن كان قليلا لا يبلغ قدر الغدير العظيم فتنجسه عندهم ظاهر. وقالت الشافعية: خرج الكثير المستبحر بالإجماع، والقلتان فما زاد بالحديث، فيبقى ما نقص عن القلتين داخلا تحت مقتضي الحديث، ويكون النهي للتحريم، وفي القلتين وما فوقهما للتنزيه. وقال القرطبي: يمكن حمله على التحريم مطلقا على قاعدة سد الذريعة؛ لأنه يفضي إلى تنجيس الماء، قلت: أقوى المحامل وأرجحها عندي هو ما ذهب إليه الشافعية لصحة حديث القلتين، وارجع لمزيد الكلام إلى أبكار المنن في تنقيد آثار السنن (ص2). (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا عبدالرزاق وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبه،وابن حبان وغيرهم، إلا أن في رواية الترمذي وأحمد وعبدالرزاق، وابن أبي شيبه وابن حبان "ثم يتوضأ منه" مكان ثم يغتسل فيه. وفيه دليل على أن النهي لا يختص بالغسل بل الوضوء في معناه، ولو لم يرد هذا لكان معلوما لاستواء الوضوء والغسل في المعنى المقتضي للنهي. (لايغتسل) بالجزم، وقيل بالرفع. (أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) فيه دليل على المنع من الاغتسال في الماء الدائم للجنابة وإن لم يبل فيه. وتقييد النهي بالحال يدل على أن المستعمل في غسل الجنابة إذا كان راكدا لا يبقى على ما كان، وإلا لم يكن للنهي المقيد فائدة، وذلك بزوال الطهورية، كما قال به أكثر العلماء. وقال الشوكاني: إن علة النهي عن الاغتسال فيه ليست كونه يصير مستعملا بل مصيره مستخبثا بتوارد الإستعمال، فيبطل نفعه، ويوضح ذلك قول أبي هريرة. (يتناوله تناولا) أي: يأخذه اغترافا، ويغتسل خارجا فإنه يدل على أن النهى إنما هو عن الانغماس لا عن الاستعمال، وإلا لما كان بين الانغماس والتناول فرق. وهذه الرواية أخرجها ابن ماجه والطحاوي أيضا.

(3/319)


479- قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبال في الماء الراكد) أي: الساكن الغير الجاري، لأن الماء الساكن إن كان دون قلتين تنجس، ولا يجوز الاغتسال والتوضأ منه، وإن كان قلتين فلعله يتغير به فيصير نجسا بالتغير، وكذا إن كثر غاية الكثرة، إذ لو جوز البول فيه لبال واحد بعد واحد، فيتغير من كثرة البول، قاله ابن الملك. التغوط في الماء كالبول فيه، بل أقبح. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه.
480- قوله: (وعن السائب بن يزيد) بن سعيد بن ثمامة الكندي، ويقال: الأسدي، أو الليثي، أو الهذلي.
قال ذهبت بى خالتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ، فشربت من وضوءه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة.

(3/320)


وقال الزهري: هو من الأزد، عداده في كنانة، وهو ابن أخت النمر، لا يعرفون إلا بذلك صحابي صغير. قال المصنف ولد في السنة الثانية من الهجرة، وحضر مع أبيه حجة الوداع، وهو ابن سبع سنين وخرج مع الصبيان إلى ثنية الوداع لتلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدمه من تبوك. له أحاديث قليلة، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بخمسة. وكان عاملا لعمر على سوق المدينة. مات سنة (91) وقيل: قبل ذلك سنة (88) أو (86) أو (82) يقال: هو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، والله أعلم. (ذهبت بي) الباء للتعدية أي: أذهبتني، وقيل: الفرق بين "ذهب به" وبين "أذهبه" أن معنى "أذهبه" أزاله وجعله ذاهبا ومعنى "ذهب به" استصحبه، ومضى به معه. (خالتي) لم تسم، قال الحافظ: لم أقف على اسمها، وأما أمه فاسمها علية بنت شريح أخت مخرمة بن شريح. (وجع) بفتح الواو وكسر الجيم، أي: مريض، والعرب تسمى كل مريض وجعا. قال الحافظ: والمراد أنه كان يشتكي رجله: كما ثبت في غير هذا الطريق. وقال ابن حجر: يحتمل أن الوجع كان برأسه، فمسحه عليه الصلوة والسلام بيده المباركة، ليكون ذلك سببا لشفاءه، فكان الأمر كذلك. قال عطاء مولى السائب: كان مقدم رأس السائب أسود، وهو الموضع الذي مسحه النبي - صلى الله عليه وسلم - من رأسه، وشاب ما سوى ذلك. رواه البيهقي والبغوي. (فشربت من وضوئه) الظاهر أن المراد بالوضوء هنا ما انفصل من أعضاء وضوئه، أي: الماء المتقاطر منها. ففيه دليل على أن الماء المستعمل في الوضوء طاهر، خلافا لما ذهب إليه بعض الحنفية من أنه نجس مخفف أو مغلظ. وما قيل: أن ذلك من خصائصه، لأن فضلاته - صلى الله عليه وسلم - طاهرة، ففيه أن هذه دعوى غير نافقة، فإن الأصل أن حكمه وحكم أمته واحد، إلا أن يقوم دليل يقتضي بالاختصاص، ولا دليل على كونه من خصائصه، ولا على طهارة فضلاته، بل كان - صلى الله عليه وسلم - يعامل بفضلاته ما يعامل أحدنا بفضلاته. (فنظرت إلى خاتم

(3/321)


النبوة) بكسر التاء أي: فاعل الختم، وهو الاتمام والبلوغ إلى الآخر، وبفتحها بمعنى الطابع، ومعناه الشيء الذي هو دليل على أنه لا نبي بعده. وقال البيضاوي: خاتم النبوة أثر كان بين كتفيه نعت به في الكتب المتقدمة، وكان علامة يعمل بها أنه النبي الموعود، وصيانة لنبوته عن تطرق القدح إليها صيانة الشيء المستوثق بالختم. (بين كتفيه) حال من الخاتم، أو صفة له. وفي حديث عبدالله بن سرجس عند مسلم أنه كان إلى جهة كتفه اليسرى. (مثل) بكسر الميم وفتح اللام مفعول نظرت، وروى بكسرها بدل من المجرور. وقال القاري: نصب بنزع الخافض، أي: كمثل، وقيل: بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف هو (هو). (زر الحجلة) بكسر الزاء وتشديد الراء، واحد الأزرار التي يشد به الكلل والستور على ما يكون في حجلة العروس. والحجلة – بفتح الحاء والجيم – بيت كالقبة يستر
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
481- (4) عن ابن عمر قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: ((إذا كان الماء قلتين

(3/322)


بالثياب، وتكون له أزرار كبار، وتجمع على حجال، ومعناهما بالفارسية "تكمهء خانة عروسي". وقيل: إنما هو بتقديم الراء على الزاى، ويكون المراد البيض، يقال أرزت الجرادة- بفتح الراء وتشديد الزاى- إذا كبست ذنبها في الأرض فباضت، ويريد بالحجلة القبجة الطائر المعروف، ويشهد له ما عند الترمذي عن جابر بن سمرة: وكان خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان بين كتفيه غدة حمراء مثل بيضة الحمامة. اختلفت الروايات في بيان كيفية خاتم النبوة وقدره، ولا تعارض بينها لرجوع هذا الاختلاف إلى اختلاف الأحوال. ويأتي الكلام عليه مفصلا في باب أسمائه - صلى الله عليه وسلم - وصفته - إن شاءالله تعالى- . (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وصفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والدعوات، والمرضى، ومسلم في الفضائل. وأخرجه أيضا الترمذي في المناقب.

(3/323)


481- قوله: (يكون) صفة أو حال. (في الفلاة) أي: في الصحراء الواسعة وتجمع على فلا وفلوات وفلى. (وما ينوبه) أي: ينزل به ويقصده وقال السندي: من ناب المكان وانتابه إذا تردد إليه مرة بعد أخرى ونوبة بعد نوبة. وهو عطف على الماء بطريق البيان نحو أعجبني زيد وكرمه، يعني أنهم سألوه عن حال الماء الذي ينوبه الدواب والسباع. أي: فتشرب منه، وربما تخوض، وتبول، وتلقى الروث فيه. (من الدواب والسباع) بيان لما. (إذا كان الماء قلتين) تثنية قلة بضم القاف وتشديد اللام. قال السندي: زاد عبدالرزاق عن ابن جريج بسند مرسل: بقلال هجر، قال ابن جريج: وقد رأيت قلال هجر فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا، فاندفع ما يتوهم من الجهالة. وقال الخطابي في معالم السنن (ج1:ص35): قد تكون القلة الإناء الصغير الذي تقله الأيدي ويتعاطى فيه الشرب كالكيزان ونحوها، وقد تكون القلة الجرة الكبيرة التي يقلها القوي من الرجال، إلا أن مخرج الخبر قد دل على أن المراد به ليس النوع الأول، لأنه إنما سئل عن الماء الذي يكون بالفلاة من الأرض في المصانع والوهاد والغدران ونحوها، ومثل هذه المياه لا تحمل بالكوز والكوزين في العرف والعادة لأن أدنى النجس إذا أصابه نجسه، فعلم أنه ليس معنى الحديث. وقد روى من غير طريق أبي داود من رواية ابن جريج "إذا كان الماء قلتين بقلال هجر" أخبرناه محمد بن هاشم. حدثنا الدبري، عن عبدالرزاق، عن ابن جريج وذكر الحديث مرسلا، وقال في حديثه: بقلال هجر. قال: وقلال هجر مشهورة الصنيعة، معلومة المقدار، لا تختلف كما لا تختلف المكائل والصيعان والقرب المنسوبة إلى البلدان المحدودة على مثل واحد، وهي أكبر ما يكون من القلال
لم يحمل الخبث)). رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه.

(3/324)


وأشهرها، لأن الحد لا يقع بالمجهول، ولذلك قيل: قلتين على لفظ التثنية، ولو كان وراءها قلة في الكبر لأشكلت دلالته فلما ثناها دل أنه أكبر القلال لأن التثنية لا بد لها من فائدة، وليست فائدتها إلا ما ذكرناها، وقد قدر العلماء القلتين بخمس قرب، ومنهم من قدرها بخمس مائة رطل- انتهى. قلت: قد جاء في حديث مرفوع ضعيف تقييد القلتين بقلال هجر، وهو ما روى ابن عدي في الكامل من حديث ابن عمر: إذا بلغ الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شيء. وفي سنده المغيرة بن سقلاب، قال النفيلي: لم يكن مؤتمنا على الحديث. وقال ابن عدي: منكر الحديث لا يتابع على عامة حديثه. وقال الذهبي في الميزان في ترجمته: قال أبوحاتم: صالح الحديث. وقال أبوزرعة: لا بأس به. وقال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهى شيخ مشائخ الطائفة الديوبندية: إلزام الإجمال في معنى القلة تحكم، أما أولا فلأن القلة كانت معلومة عندهم فلا يضر جهالتها عندكم، وأما ثانيا فلما ورد في بعض الروايات من زيادة لفظ يفسر المراد ويتبين الإجمال وهو قوله: من قلال هجر- انتهى. فالاعتذار من القول بحديث القلتين بزعم الإجمال في معنى القلة كما قال الطحاوى (ص9) وابن دقيق العيد وابن عبدالبر في التمهيد، وغيرهم اعتذار بارد لا يلتفت إليه. (لم يحمل الخبث) أي: مالم يتغير لونه، أو طعمه، أو ريحه. والخبث بفتحتين النجس يعنى لم ينجس بوقوع النجاسة فيه كما فسره به في رواية أبي داود الآتية. ولفظ ابن ماجه والحاكم: لم ينجسه شيء. وتقدير المعنى: لا يقبل النجاسة، بل يدفعها عن نفسه، كما يقال: فلان لا يحتمل الضيم، إذا كان يأباه ويدفعه عن نفسه. ولو كان المعنى أنه يضعف عن حمله فينجس، لما بقى الفرق بين ما بلغ قلتين وما دونه، والحديث مسوق لإفادة التحديد بين المقدار الذي لم ينجس. وقيل: معناه لا يقبل حكم النجاسة كما في قوله تعالى: "ثم لم يحملوها" أي: لم يقبلوا حكمها. والحديث بمنطوقه يدل على أن الماء إذا

(3/325)


بلغ قلتين لم ينجس بملاقاة النجاسة، وكذا ما هو أكثر من ذلك بالأولى. وذلك إذا لم يتغير فإن تغير نجس، فهو مخصص أو مقيد بحديث إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه. وهو وإن كان ضعيفا فقد وقع الإجماع على معناه. قال ابن المنذر: قد أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعما أو لونا أو ريحا فهو نجس -انتهى. والحديث يدل بمفهومه على أن الماء إن كان أقل من قلتين ينجس بالملاقاة. وهذا المفهوم يخصص حديث "خلق الماء طهورا" عند من قال بالمفهوم. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه. (والترمذي) لم يتكلم الترمذي على الحديث، وإنما ذكر أقوال العلماء الذي أخذوا به، وهم الشافعي وأحمد واسحق وهذا يشير إلى صحته عندهم وعنده. (والنسائي والدارمي وابن ماجه) ورد في رواية لابن ماجه: قلتين أو ثلاثا. قال السندي: أي: أو أزيد من قلتين، ذكره لإفادة أن التحديد بقلتين ليس لمنع الزيادة عليه، بل لمنع النقصان عنه، ومثله كثير في الكلام، وليس هو للشك حتى يلزم الاضطراب في الحديث، كما زعم من لا يقول بالحديث - انتهى. والحديث أخرجه أيضا الشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي. قال الحافظ في الفتح: رواته ثقات، وصححه جماعة من أهل العلم - انتهى. وقال ابن مندة: هو صحيح على شرط مسلم. وقال يحيى بن معين: الحديث جيد الإسناد. وقال البيهقي: إسناد صحيح موصول.
وفي أخرى لأبي داود: فإنه لا ينجس.
482- (5) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يارسول الله ! أنتوضأ من بئر بضاعة؟

(3/326)


وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعا بجميع رواته، ووافقه الذهبي. وقال ابن السبكي في الطبقات (ج6:ص20) صحح الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد حديث القلتين. وقال الطحاوي خبر القلتين صحيح، وإسناده ثابت، ذكره القاري. وقال الحافظ أبوالفضل العراقي في أماليه: قد صحح هذا الحديث الجم الغفير من أئمة الحفاظ الشافعي وأبوعبيد وأحمد واسحق ويحيى بن معين وابن خزيمة والطحاوي وابن حبان والدارقطني وابن مندة والحاكم والخطابي والبيهقي وابن حزم وآخرون كذا في قوت المغتذي. وقال الشيخ عبدالحي اللكنوي شيخ النيموي وهما من العلماء الحنفية في السعاية (ص377) والذي يظهر بعد إدارة النظر من الجوانب هو أن نفس الحديث صحيح سالم عن المعارضة ومخالفة الإجماع، وعن النسخ والتأويل وغير ذلك، وغاية ما فيه هو إجمال في المعنى القلة وتعينها. قلت: قد تقدم الجواب عن دعوى الإجمال فتذكر. وقال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي: قد أخذ الشافعي في ما اختاره بحديث جيد الإسناد، قابل للاعتماد. قال: وقد أجاب بعض الأحناف عن حديث القلتين بأجوبة لا ترضاها الطبائع السليمة، ثم ذكرها وقال: وأنت تعلم أن كل ذلك تعسف. ثم رد تلك الأجوبة، قال إن في تضعيف سند الحديث انكار البداهة فإن صحة رواية القلتين غير منكرة. والروايات الواردة في السنن شاهد صدق على ذلك. كذا في الكواكب الدري (ج1:ص40-43) قلت: الحديث قد تكلم فيه ابن عبدالبر، والقاضي اسماعيل بن اسحق، وابن العربي المالكيون من جهة دعوى الاضطراب في السند والمتن، وقد أجاب عنه الحافظ في التلخيص (ص6،5) وأجاد، فارجع إليه. قال القاري: إن الجرح مقدم على التعديل، فلا يدفعه تصحيح بعض المحدثين، وفيه أنه لا وجه لجرح من تكلم في هذا الحديث، كما أوضحه الحافظ والنووي والخطابي وغيرهم. وأيضا تقديم الجرح على التعديل مختلف فيه. قال في مسلم الثبوت: إذا تعارض الجرح والتعديل فالتقديم للجرح مطلقا، وقيل: بل

(3/327)


للتعديل عند زيادة المعدلين، ومحل الخلاف إذا أطلقا، أو عين الجارح شيئا لم ينفه المعدل، أو نفاه لا بيقين، وأما إذا نفاه يقينا فالمصير إلى الترجيح اتفاقا - انتهى. فيكون الترجيح ههنا للتعديل لجودة أسانيد الأحاديث من حيث ثقة الرواة وكثرة المعدلين والصححين له كما تقدم. وانظر تفصيل الكلام على الحديث في أبكار المنن (ص12،5) وتحفة الأحوذي (ج1:ص71،70) وعون المعبود (ج1:ص24،23). وفي جعل القلتين حدا فاصلا بين القليل والكثير كلام حسن للشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (ج1:ص147،146) فعليك أن تراجعها.
482- قوله: (بضاعة) بضم الباء وقد كسرها بعضهم، والأول أكثر، وهي دار بني ساعدة بالمدينة، وبئرها معروفة، قاله ياقوت. وقال أبوداود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها، قال: أكثر ما يكون
وهي بئر يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب، والنتن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الماء طهور لا ينجسه)) رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي.

(3/328)


فيها الماء إلى العانة. قلت: فإذا نفص؟ قال: دون العورة. قال أبوداود: وقدرت أنا بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته، فإذا عرضها ستة أذرع. وسألت الذي فتح باب البستان فأدخلني إليه: هل غير بناءها عما كانت عليه؟ قال: لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون انتهى. (يلقى فيها الحيض) بكسر الحاء وفتح الياء، جمع حيضة بكسر الحاء وسكون الياء، وهي الخرقة التي تستعملها المرأة في دم الحيض. (والنتن) بفتح النون وإسكان التاء، وهو الشيء المنتن ويجوز كسر التاء أيضا. قيل: عادة الناس دائما في الإسلام والجاهلية تنزيه المياه وصونها عن النجاسات والأقذار، فلا يتوهم أن الصحابة - وهم أطهر الناس وأنزههم - كانوا يفعلون ذلك عمدا مع عزة الماء فيهم، وإنما ذلك من أجل أن هذه البئر كانت في الأرض المنخفضة، وكانت السيول تحمل الأقذار من الطرق وتلقيها فيها. وقيل: كانت الرياح تلقي ذلك. ويجوز أن تكون السيول والرياح تلقيان جميعا، فعبر عنه القائل بوجه يوهم أن الإلقاء من الناس لقلة تدينهم، وهذا مما لا يجوزه مسلم، فيكف يظن بالذين هم أفضل القرون، وأزكاهم، وأطهرهم. ذكر هذا المعنى الخطابي في المعالم. (ج1:ص37) والطيبي في شرح المشكوة. (إن الماء طهور) أي: طاهر مطهر. قيل: الألف واللام للعهد الخارجي، فتأويله إن الماء الذي تسألون عنه وهو ماء بئر بضاعة، فالجواب مطابقي لا عموم كلي. (لا ينجسه شئ) قال الخطابي: كان ماء بئر بضاعة، لكثرته لا يؤثر فيه وقوع هذه الأشياء، ولا يغيره. فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شأنها ليعلموا حكمها في الطهارة والنجاسة، فكان من جوابه لهم أن الماء طهور لا ينجسه شيء، يريد الكثير منه الذي صفته صفة ماء هذه البئر في غزارته وكثرة جمامه، لأن السؤال إنما وقع عنها بعينها، فخرج الجواب عليها. وهذا لا يخالف حديث القلتين، إذ كان معلوما أن الماء في بئر بضاعة يبلغ القلتين، فأحد الحديثين يوافق الآخر، ولا

(3/329)


يناقضه، والخاص يقضي على العام، ويبينه، لا ينجسه ولا يبطله - انتهى. وإن كان الألف واللام في قوله: "الماء" للنجس فالحديث مخصص أو مقيد بحديث القلتين، وهما مخصصان بحديث: إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه، وهو وإن كان ضعيفا فقد وقع الإجماع على معناه كما تقدم. وقال الشاه ولي الله في حجة الله (ج1:ص147) قوله - صلى الله عليه وسلم -: الماء طهور لا ينجسه شيء، معناه المعادن لا تتنجس بملاقاة النجاسة إذا أخرجت ورميت، ولم يتغير أحد أوصافه، ولم تفحش، وهل يمكن أن يظن ببئر بضاعة أنها كانت تستقر فيها النجاسات. كيف وقد جرت عادة بني آدم بالاجتناب عما هذا شأنه فكيف يستقى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ بل كانت تقع فيها النجاسات من غير أن يقصد إلقاءها، كما تشاهد من آبار زماننا، ثم تخرج تلك النجاسات، فلما جاء الإسلام سألوه عن الطهارة الشرعية الزائدة على ما عندهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماء طهور لا ينجسه شيء يعني لا ينجس نجاسة غير ما عندكم. (رواه أحمد والترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عنه. (والنسائي) وأخرجه أيضا الشافعي، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، والطحاوي، وصححه أحمد، ويحيى بن معين، وأبومحمد بن
483- (6) وعن أبي هريرة، قال: ((سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هو الطهور ماؤه
حزم، والحاكم، وأعله ابن القطان بجهالة راوية عن أبي سعيد، واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه. وقد رد عليه شيخ النيموى الشيخ عبدالحي اللكنوي في السعاية (ج1:ص363) بوجوه، وقد أحسن في الرد وأجاد. وقد أطال شيخنا الكلام في الحديث في أبكار المنن (ص13-20) والحافظ في التلخيص (ص4،3) فعليك أن تراجع هذه الكتب.

(3/330)


483- قوله: (سأل رجل) من بني مدلج، كما في مسند أحمد. قيل: اسمه عبدالله، ذكره الدارقطني، وابن بشكوال، كما في شرح ابن رسلان. وقيل: إسمه عبد، بسكون الباء بلا إضافة. وقال البغوي: بلغني أن إسمه عبدود، هكذا حكاه ابن بشكوال. وقال الطبراني: اسمه عبيد العركي بالتصغير، والعركي بفتح المهملة والراء بعدها كاف هو ملاح السفينة. (إنا نركب البحر) أي: مراكبه من السفن، والمراد به هنا المالح، لأنه المتوهم فيه لملوحته ومرارته ونتن ريحه. وزاد الحاكم نزيد الصيد. وفيه جواز ركوب البحر من غير حج ولا عمرة وجهاد ولا يعارضه ما ورد عند أبي داود: لا تركب البحر إلا حاجا أو معتمرا أو غازيا، لأنه ضعيف. (ونحمل معنا القليل من الماء) أي: الحلو العذب. وفي رواية إنا ننطلق في البحر، نريد الصيد، فيحمل أحدنا معه الأدواة، وهو يرجو أن يأخذ الصيد قريبا، فربما وجده كذلك، وربما لم يجد الصيد حتى يبلغ من البحر مكانا لم يظن أن يبلغه، فلعله يحتلم أو يتوضأ، فإن اغتسل أو توضأ بهذا الماء، فلعل أحدنا يهلكه العطش، فهل ترى في ماء البحر أن نغتسل به، أو نتوضأ به، إذا خفنا ذلك؟ وكأن السائل لما رأى ماء البحر خالف المياه بملوحة طعمه ونتن ريحه توهم أنه غير مراد من قوله تعالى: ?فاغسلوا وجوهكم? أي: بالماء المعلوم إرادته من قوله: ?فاغسلوا? أو أنه لما عرف من قوله تعالى: ?وأنزلنا من السماء ماء طهورا? ظن اختصاصه فسأل عنه، فأفاده - صلى الله عليه وسلم - الحكم بقوله: (هو) أي: البحر يعني مكانه. (الطهور) بفتح الطاء أي: الطاهر المطهر. (ماءه) قوله: هو مبتدأ، والطهور مبتدأ ثان، خبره ماءه، والجملة خبر المبتدأ الأول. ويحتمل أن يكون هو مبتدأ، والطهور خبرا، وماءه فاعله، والمعنى: أن ماءه طاهر في ذاته، مطهر لغيره، لا يخرج عن الطهورية بحال إلا ما تقدم من تخصيصه بما إذا تغير أحد أوصافه بوقوع النجاسة، ولم يقل في جوابه نعم، مع حصول الغرض به ليقرن الحكم

(3/331)


بعلته وهي الطهورية المتناهية في بابها. وقيل: لو أجابهم بنعم، لصار مقيدا بحال الضرورة لأنه عليه وقع سؤالهم وليس كذلك. وقيل: لو قال: نعم، لم يستفد منه من حيث اللفظ إلا جواز الوضوء الذي وقع السؤال عنه. وإذا قال: الطهور، الخ. أفاد جواز رفع جميع الأحداث وإزالة الأنجاس به لفظا. وفي الحديث جواز الطهارة بماء البحر، وبه قال جميع العلماء، إلا ما روى عن ابن عمر، وعبدالله بن عمرو بن العاص: أنه لا يجزئ التطهر به، وهذا رأيهما إن صح السند إليهما. ولا حجة في أقوال الصحابة لا سيما إذا
والحل ميتته)). رواه مالك، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي.
484- (7) وعن أبي زيد، عن عبدالله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ليلة الجن: ((ما في إداوتك؟ قال: قلت: نبيذ،

(3/332)


عارضت المرفوع. وتعريف الطهور باللام الجنسية المفيدة للحصر لا ينفي طهورية غيره من المياه، لوقوع ذلك جوابا لسؤال من شك في طهورية ماء البحر من غير قصد للحصر. وقيل: التعريف ههنا للدلالة على انحصار المسند إليه في المسند. قال الطيبي: تعريف الطرفين للحصر لإفادة أنه يتجاوز إلى النجاسة. (والحل) بكسر الحاء مصدر حل الشيء ضد حرم أي: الحلال. (ميتته) بفتح الميم، والجملة عطف على "الطهور ماءه". والمراد "بميتته" ما مات فيه من دوابه مما لا يعيش إلا فيه لا ما مات فيه مطلقا، فإنه وإن صدق عليه لغة أنه ميتة بحر، فمعلوم أنه لا يراد إلا ما ذكرنا. وظاهره حل كل ما مات فيه ولو كان كالكلب والخنزير، وفيه اختلاف، وسيأتي بيانه وتحقيق الراجح فيه في محله. قال الرافعي: لما عرف - صلى الله عليه وسلم - اشتباه الأمر على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته، وقد يبتلى بها راكب البحر، فعقب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتته. وقيل: سأله عن ماءه فأجابه عن ماءه، وطعامه، لعلمه بأنه قد يعوزهم الزاد فيه، كما يعوزهم الماء فلما جمعتهم الحاجة انتظم الجواب بهما، وفيه أن المفتي إذا سئل عن شيء، وعلم أن للسائل حاجة إلى ذكر ما يتصل بمسألته استحب تعليمه إياه لأن الزيادة في الجواب بقوله: "الحل ميتته" لتتميم الفائدة، وهي زيادة تنفع لأهل الصيد، وكان السائل منهم، وهذا من محاسن الفتوى. (رواه مالك والترمذي) وقال: حديث حسن صحيح. (وأبوداود) وسكت عنه. (والنسائي، وابن ماجه، والدارمي) وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني وابن الجارود والبيهقي وابن أبي شيبة وصححه ابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن مندة والبغوي وابن الأثير في شرح المسند وابن الملقن في البدر المنير والخطابي والطحاوي وآخرون. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج4:ص42) صحح البخاري فيما حكاه عنه الترمذي في العدل المفرد حديثه -

(3/333)


انتهى. وانظر متابعاته وشواهده في المستدرك للحاكم، وقد أعلمه بعضهم بما هو مدفوع، إن شئت الوقوف عليه فارجع إلى النيل (ج1:ص16:15).
484- قوله: (وعن أبي زيد) المخزومي مولى عمرو بن حريث، وقيل: أبوزائد، أو أبوزيد بالشك. قال ابن عبدالبر: اتفقوا على أنه مجهول. وقال الترمذي: هو مجهول عند أهل الحديث، يعني أنه مجهول الحال. (ليلة الجن) هي الليلة التي جاءت الجن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهبوا به إلى قومهم ليتعلموا منه الدين وأحكام الإسلام. (ما في أدواتك) أي: أي شيء في مطهرتك؟ في النهائية الأدواة بالكسر إناء صغير من جلد. (قال) أي: ابن مسعود. (قلت: نبيذ) بفتح النون وكسر الباء، ماء ألقي فيه تمرات حتى صار حلوا رقيقا غير مسكر مطبوخا كان أو غير مطبوخ. قال الجزري: النبيذ ما
قال: تمرة طيبة وماء طهور. رواه أبوداود، وزاد أحمد، والترمذي. فتوضأ منه. وقال الترمذي: أبوزيد مجهول.

(3/334)


يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير، نبذت التمر والعنب إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذا، وانتبذته اتخذته نبيذا سواء كان مكسرا أم لا. (تمرة طيبة وماء طهور) أي: النبيذ ليس إلا تمرة وهي طيبة، وماء وهو طهور، فلا يضر اختلاطها، وليس فيه ما يمنع التوضئ. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا ابن ماجه والدارقطني والبيهقي والطحاوي. (وزاد أحمد والترمذي فتوضأ منه) فيه دليل على أن التوضؤ بالنبيذ جائز، لكن الحديث ضعيف جدا لا يصلح للاحتجاج، كما ستعرف. واعلم أنه إذا ألقى في الماء تمرات فتغير طعمه وصار حلوا لكن كان رقيقا يسيل على الأعضاء كالماء غير مطبوخ ولا مسكر جاز الوضوء به عند الحنفية مطلقا، سواء وجد الماء أو لا، خلافا للأئمة الثلاثة، وهي مسألة الماء المضاف أي: المقيد المخلوط بالشيء، وهذا أحد أقسام النبيذ الأربعة، ولا خلاف في جواز الوضوء به عند أئمة الحنفية. والثاني: ما ألقى فيه تمرات حتى صار حلوا رقيقا وطبخ ولم يسكر، ولا يجوز الوضوء به عند الأئمة الثلاثة مطلقا كالأول، واختلف فيه أئمة الحنفية، قال ابن عابدين: لا يجوز به الوضوء في الصحيح كما في المبسوط، ورجح غيره الجواز. وقال الجصاص: عن أبي حنيفة في ذلك ثلاث روايات، إحداها: يتوضأ به ويشترط فيه النية، ولا يتيمم، وهذه هي المشهورة. وقال قاضي خان: هو قوله الأول، وبه قال زفر. والثانية: يتيمم ولا يتوضأ، رواها عنه نوح بن أبي مريم، وأسد بن عمر والحسن بن زياد، قال قاضي خان: وهو الصحيح عنه، والذي رجع إليها، وبها قال أبويوسف وأكثر العلماء، واختار الطحاوي هذا. والثالثة: روى عنه الجمع بينهما، وهذا قول محمد – انتهى. والثالث: من أنواع النبيذ ما أسكر ولا خلاف في عدم جواز الوضوء به. والرابع: ما ألقي فيه تمرات ولم يتغير أي لم يحل، وهذا مما لا خلاف في جواز الوضوء به. وقد ظهر من هذا التفصيل أن محل الاختلاف بين الأئمة الثلاثة وبين أبي

(3/335)


حنيفة إنما هو القسمان الأولان والحق في ذلك قول الجمهور لأن النبيذ ليس بماء، وقال تعالى: ?فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا?. واحتج لأبي حنيفة بحديث ابن مسعود هذا، وقد أجاب الجمهور عنه بأنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به. قال القاري في المرقاة (ج1:ص344): قال السيد جمال الدين: أجمع المحدثون على أن هذا الحديث ضعيف. وقال الحافظ في الفتح: هذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه – انتهى. وقال النووي: حديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين. قلت: وضعفه العلماء لوجوه: منها أن في سنده أبازيد وهو مجهول قاله البخاري، وأبوأحمد الحاكم والترمذي وأبوزرعة وابن حبان وأبواسحق الحربي وابن عدى والنووي والبيهقي والحافظ وآخرون. وقال ابن عبدالبر: اتفقوا على أن أبا زيد مجهول وأجاب عنه بعض الحنفية بأن جهالة أبي زيد لا تقدح في ثبوت الحديث بعد ورود المتابعات له، فقد تابعه جماعة عن ابن مسعود. قال العيني (ج3:ص180): روى هذا الحديث أربعة عشر رجلا عن ابن مسعود كما رواه أبوزيد. الأول أبورافع

(3/336)


عند الطحاوى (ج1:ص57) والحاكم. والثاني: رباح أبوعلي عند الطبراني في الأوسط. الثالث: عبدالله بن عمر عند أبي موسى الأصبهاني في كتاب الصحابة. الرابع: عمرو البكالي عند أبي أحمد في الكنى بسند صحيح. الخامس: أبوعبيدة بن عبدالله بن مسعود. والسادس: أبوالأحوص، وحديثهما عند محمد بن عيسى المدائني. فإن قلت: قال البيهقي: محمد بن عيسى المدائني واهي الحديث، والحديث باطل، قلت: قال البرقاني فيه: ثقة لا بأس به، وقال اللالكائي: صالح ليس يدفع عن السماع. السابع: عبدالله بن مسلمة عند الحافط أبي الحسن بن المظفر في كتاب غرائب شعبة. الثامن: قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عند ابن المظفر أيضا بسند لابأس به. التاسع: عبدالله بن عمرو بن غيلان الثقفي عند الإسماعيلي في جمعه حديث يحيى بن أبي كثير عن يحيى عنه. العاشر: عبدالله بن عباس عند ابن ماجه والطحاوي. الحادي عشر: أبووائل شقيق بن سلمة عند الدارقطني. الثاني عشر: ابن عبدالله، رواه أبوعبيدة بن عبدالله، عن طلحة بن عبدالله، عن أبيه أن أباه حدثه. الثالث عشر: أبوعثمان بن سنة عند أبي حفص بن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ من طريق جيدة وخرجها الحاكم في مستدركه. الرابع عشر: أبوعثمان النهدى عند الدورقي في مسنده بطريق لا بأس بها - انتهى كلام العيني. قلت: لم يذكر العيني أسانيد هذه المتابعات حتى يعرف حالها وأنها تصلح للمتابعة أم لا. ولا يكفي تصحيحه لبعض تلك الأحاديث لأنه ليس من أهل هذا الشأن، فلا يعتمد على تصحيحه أبدا. وأنا أذكر الكلام في بعضها حسبما وقفت عليه فأقول: أما حديث أبي رافع عن ابن مسعود فقد رواه أيضا أحمد (ج1:ص455)، والدارقطني (ص28)، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، قاله الدارقطني وغيره. قال صاحب العرف الشذى لم آخذ حديثه في باب الوضوء بالنبيذ لكونه سيء الحفظ. وأما حديث رباح أبي علي فأخرجه أيضا البيهقي من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه، عن ابن مسعود،

(3/337)


وفيه أبوعبدالرحمن محمد بن الحسين، وروح بن الصلاح، وهما ضعيفان على أنه ليس فيه ذكر الوضوء بالنبيذ، وأما حديث عبدالله بن عمر وأماحديث عمرو البكالي فلعله هو ما أخرجه أحمد في مسنده (ج1:ص399) في حديث طويل لكن ليس فيه ذكر الوضوء بالنبيذ. وأما حديث أبي عبيده بن عبدالله بن مسعود، وأبي الأحوص فأخرجه أيضا الدارقطني من حديث محمد بن عيسى بن حيان، عن الحسن بن قتيبة، عن يونس بن أبي اسحق، قال الدارقطني: تفرد به الحسن بن قتيبة عن يونس، والحسن بن قتيبة، ومحمد بن عيسى ضعيفان، وقال الدارقطني: لا يصح. وأما حديث عبدالله بن مسلمة وأما حديث قابوس بن أبي ظيبان فأخرجه أيضا الطحاوي، وقابوس هذا فيه لين، على أنه ليس في حديثه ذكر الوضوء بالنبيذ. وأما حديث عبدالله بن عمرو بن غيلان فأخرجه أيضا ابن جرير، وعبدالله بن عمرو هذا لا يعرف بجرح ولا تعديل. وأخرجه الدارقطني (ص29)، عن معاوية بن سلام، عن أخيه زيد، عن جده أبي سلام عن ابن غيلان الثقفي أنه سمع عبدالله بن مسعود. قال الدارقطني: وابن غيلان هذا مجهول، قيل: اسمه عمرو، وقيل: عبدالله بن عمرو بن غيلان، ورواه أبونعيم في دلائل النبوة مطولا من طريق الطبراني بسنده إلى معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام عن من حدثه عمرو بن غيلان الثقفي. قال ابن كثير: هذا إسناد غريب جدا، ولكن فيه رجل مبهم
لم يسلم. قلت: ومع ذلك ليس في رواية أبي نعيم هذه ذكر الوضوء بالنبيذ. وأما حديث عبدالله بن عباس فأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص398) والدارقطني (ص28) والطبراني في معجمه والبزار في مسنده، وفيه ابن لهيعة، وقد تفرد به، وهو ضعيف الحديث. وأما حديث أبي وائل ففيه الحسين بن عبيدالله العجلي، قال الدارقطني: يضع الحديث على الثقات - انتهى. ولم يذكر العيني كلام الدارقطني هذا،
فإن كان لا يدري فتلك مصيبة……وإن كان يدري فالمصيبة أعظم

(3/338)


وأما حديث ابن عبدالله، فلم يذكر العيني من خرجه، فلا يدري في أي كتاب هو وكيف هو. وأما حديث أبي عثمان بن سنة الخزاعي، فأخرجه أيضا ابن جرير، وليس فيه ذكر الوضوء بالنبيذ. وأما حديث أبي عثمان النهدي فلعله هو ما رواه البيهقي عنه أن ابن مسعود أبصر زطافي بعض الطريق، الحديث، أو ما رواه الترمذي في أبواب الأمثال من جامعه. وليس فيهما ذكر الوضوء بالنبيذ. ومن وجوه تضعيف حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ أن أبا زيد هذا كان نباذا، قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج1:ص102) قال أبوداود: كان أبوزيد نباذا بالكوفة. ومنها أن أبا زيد لا يعرف سماعه من ابن مسعود قال البخاري: أبوزيد مجهول لا يعرف بصحبة عبدالله، وقال ابن المديني: أخاف أن لا يكون أبوزيد سمعه من عبدالله. وقال أبوحاتم: لم يلق أبوزيد عبدالله. ومنها أن الراوي عن أبي زيد أبا فزارة راشد بن كيسان العبسي قال ابن حبان فيه: أنه مستقيم الحديث إذا كان فوقه ودونه ثقة، فأما مثل أبي زيد مولى عمرو بن حريث الذي لا يعرفه أهل العلم فلا. كذا في تهذيب التهذيب (ج3ص227). ومنها أنه معارض بما هو أقوى منه، وهو ما روى مسلم عن علقمة، عن عبدالله بن مسعود أنه قال: لم أكن ليلة الجن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا نص على أن ابن مسعود لم يشهد ليلة الجن، فلم يكن ما روى عنه في الوضوء بالنبيذ في هذه الليلة ثابتا. قال الطحاوي: إن حديث ابن مسعود روي من طريق لا تقوم بمثلها حجة. وقد قال عبدالله بن مسعود: إني لم أكن ليلة الجن مع النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وددت أني كنت معه. وسئل أبوعبيدة هل كان أبوك ليلة الجن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال لا. مع أن فيه انقطاعا، لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، ولم نعتبر فيه اتصالا ولا انقطاعا، ولكنا احتججنا بكلام أبي عبيدة لأن مثله في تقدمه في العلم ومكانه من أمره لا يخفى عليه مثل هذا، فجعلنا قوله حجة فيه. ذكره الزيلعي في

(3/339)


نصب الراية (ج1: ص146) قال بعض الحنفية: إن ليلة الجن كانت غير مرة، فإنكار المعية في مرة من تلك المرات لا يستلزم إنكار معيته في التارة الأخرى. وذكر بعضهم أنه وقع ذهاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الجن في مكة ثلاث مرات، لم يحضر ابن مسعود أول مرة منها، وهي التي نفى ابن مسعود حضوره فيها في رواية مسلم، وحضرها في المرتين الأخريين، مرة بالحجون جبل بمكة، ومرة بأعلى مكة قد غاب عليه السلام في الجبال فيها، ووقع في المدينة أيضا ثلاث مرات، منها واقعة بقيع الغرقد، قد حضرها ابن مسعود، كما رواه أبونعيم في دلائل النبوة. قلت: المشهور عند الصحابة والتابعين من ليلة الجن هي ليلة واحدة فقط ولم يحضرها ابن مسعود وأما بقية المرات التي يقال إنه حضرها هو فلم تثبت. وجمع بعضهم بأن ابن مسعود لم يكن عند المخاطبة وتعليم الأحكام، وإنما كان بعيدا منه. قلت: إنما يحتاج إلى الجمع إذا تساوت طرق الحديث في القوة, وتعارضت. وأما إذا كان أحدها

(3/340)


ضعيفا والآخر قويا فلا، لعدم التعارض حينئذ، بل يقدم القوي على الضعيف، لأن القوي لا يؤثر فيه مخالفة الضعيف، وأيضا قد نفى ابن مسعود شهوده ليلة الجن مطلقا، ولم يقيده بحال دون حال، فتخصيص إنكاره بوقت دون وقت من غير قرينة مما لا يصغي إليه. وقال بعضهم إن حديث النفي قد أسقط الرواة منه حرفا. قال ابن قتيبة في مختلف الحديث (ص119) بعد ما ذكر حديثا أسقط الرواة منه حرفا فاختل بسببه المعنى: وهذا مثل قول ابن مسعود في ليلة الجن: ما شهدها أحد غيري، فأسقط الراوي"غيري" قلت: هذه مجرد دعوى من غير بينه ولا برهان، فلا يلتفت عليها، فإن نسبة الغلط والإسقاط إلى الثقات العدول من غير دليل مما يرفع الأمان من السنن النبوية، وأما الاستشهاد على ذلك بما رواه الحاكم في المستدرك (ج2:ص503) عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه وهو بمكة:" من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فليفعل، فلم يحضر منهم أحد غيري"، الحديث. ففيه أن في سنده أبا عثمان بن سنة الشامي، وهو مجهول، قال أبوزرعة: لا أعرفه. وقال الذهبي في الميزان: ما أعرف روى عنه غير الزهري- انتهى. ولذا لم يصححه الحاكم.وقال الذهبي في تلخيصه: هو صحيح عند جماعة- انتهى. ولم يذكر الذهبي أسماء الجماعة حتى يعرف مرتبتهم في تصحيح الحديث وتضعيفه، ولو سلم صحته فهو مخالف ومناقض لما هو أقوى منه أن ابن مسعود قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، على أنه ليس في رواية الحاكم هذه ذكر الوضوء بالنبيذ. وقال بعضهم: إن المثبت مقدم على النافي. قلت: هذا إذا كانت رواية الإثبات مساوية لرواية النفي في القوة والصحة، وأما إذا كانت رواية الإثبات ضعيفة، فالترجيح لرواية النفي لقوتها وصحتها. وقد علمت أن رواية إنكار ابن مسعود لشهوده ليلة الجن صحيحة لا تقاومها رواية الإثبات. ومن وجوه الطعن في حديث ابن مسعود هذا أنه مخالف لكتاب الله، لأن الله

(3/341)


تعالى قال: ?فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا?، والنبيذ ليس بماء. قال الزيلعي في نصب الراية (ج1:ص146) أنه عليه السلام قال: هل معك ماء؟ قال: لا. فدل على أن الماء استحال في التمر حتى سلب عنه اسم الماء وإلا لما صح نفيه عنه- انتهى. أو يقال: إن ماء النبيذ لا يسمى ماء مطلقا، فواجده ليس واجد ماء، فيجب عليه التيمم بنص الكتاب، وعلى تقدير صحة الحديث كان ينبغي لأولئك أن يؤولوا هذا الحديث ليوافق الآية، على أن تلك التمرات الملقاة في الماء لم تغيره، وتسمية ابن مسعود له نبيذا من المجاز الأول، أو المراد به الوضع اللغوي وهو ما ينبذ فيه شيء وإن لم يغيره وأجاب أيضا الجمهور عن حديث ابن مسعود هذا بأنه لو كان صحيحا وهو غير صحيح، فهو من أحاديث الآحاد، فلا يعارض الكتاب ولو صلح معارضا لكان منسوخا بآيتي النساء والمائدة، لأنهما مدنيتان بلا خلاف. وحديث ابن مسعود هذا إنما زعم رواته أنه كان ليلة الجن في مكة وهي قبل الهجرة. قال السندهي: قد اعترف المحققون كالنووي، والتوربشتي، والمحقق ابن الهمام بقوة هذا الكلام، وقال المحقق: إنه الذي مال إليه المتأخرون-انتهى. وقال صاحب البذل (ج1:ص55) بعد ذكر رواية التيمم عن أبي يوسف: وهي الرواية المرجوع إليها عن أبي حنيفة وقوله الأخير، وعليه الفتوى، واختاره الطحاوي، وهو المذهب المصحح المختار عندنا، لأن الحديث وإن صح آية التيمم ناسخة له إذ هي مدنية- انتهى. وقال الطحاوي في شرح الآثار (ج1:ص58) قد أجمع الناس على أنه لا يجوز الوضوء به أي:
485- (8) وصح عن علقمة، عن عبدالله بن مسعود، قال: ((لم أكن ليلة الجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)). رواه مسلم.
486- (9) وعن كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة - أن أباه قتادة دخل عليها، فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة تشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟

(3/342)


بالنبيذ مع وجود الماء، فكذلك هو عند فقد الماء. والمروى في حديث ابن مسعود أنه توضأ به إنما هو، وهو عليه السلام غير مسافر، لأنه خرج من مكة يريدهم، فهو في حكم استعماله له بمكة، فلو ثبت ذلك جاز الوضوء به في حال وجود الماء فلما أجمعوا على خلاف ذلك ثبت طرحهم لهذا الحديث، وهو النظر عندنا- انتهي ملخصا.
485- قوله: (عن علقمة) هو علقمة بن قيس بن عبدالله النخعي الكوفي، ثقة، ثبت، فقيه، عابد، من كبار التابعين، كان أعلم الناس وأشبههم هديا ودلا وسمتا بابن مسعود، مات بعد الستين، وقيل: بعد السبعين. (لم أكن ليلة الجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لا عند المخاطبة وتعليم الأحكام إياهم، ولا قبل ذلك، ولا بعد. قال ابن مسعود: ووددت أني كنت معه. وفيه رد على ابن قتيبة وغيره ممن تأويل الحديث بأنه لم يكن منا أحد أي: غيري. (رواه مسلم) من طريق أبي معشر عن إبراهيم عن علقمة في باب الجهر بالقراءة في الصبح، والقراءة على الجن من كتاب الصلاة. وأخرجه أحمد ومسلم فيه والترمذي في تفسير سورة الأحقاف من طريق داود عن الشعبي، عن علقمة مطولا، وأبوداود في الطهارة مختصرا.

(3/343)


486- قوله: (وعن كبشة) بفتح الكاف وسكون الموحدة بعدها شين معجمة. (بنت كعب بن مالك) الأنصارية زوجة عبدالله بن أبي قتادة، قال ابن حبان: لها صحبة. وتبعه الزبير بن بكار، وأبوموسى، والمستغفري، وقال الخزرجي في الخلاصة، والحافظ في اللسان (ج6:ص860): وثقها ابن حبان وصحح الترمذي حديثها. (وكانت تحت ابن أبي قتادة) أي: كانت زوجة ولده عبدالله، وهو عبدالله بن أبي قتادة السلمي الأنصاري المدني ثقة من أوساط التابعين، توفي سنة (95)، روى عن أبيه وجابر، وعنه جماعة. (أن أباقتادة) تقدم ترجمته. (دخل عليها) أي: على كبشة. (فسكبت) بصيغة المتكلم، ففي رواية الترمذي: قالت: فسكبت له، ويحتمل أن يكون بسكون التاء على التأنيث. (له) أي: لأبي قتادة. (وضوء) بفتح الواو أي: ماء الوضوء في إناء. (تشرب منه) أي: تريد الشرب من الماء الذي كان في الإناء، والجملة حال أو صفة. (فأصغى لها الإناء) أي: أماله للهرة ليسهل عليها الشرب. (فرآني أنظر إليه) أي: فرآني أبوقتادة والحال أني أنظر إلى شرب الهرة الماء من الإناء نظر المنكر المتعجب، أو أنظر إلى فعل أبي قتادة متعجبة، فقال أبوقتادة: (أتعجبين؟) أي: بشربها من وضوئي، أو بإصغائي لها الإناء. (يا ابنة أخي) المراد أخوة الإسلام. ومن عادة العرب
قالت: فقلت: نعم. فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات)). رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي .

(3/344)


أن يدعوا بيا ابن أخي، ويا ابن عمي، وإن لم يكن أخا أو عما له في الحقيقة. (فقلت:نعم) أتعجب منه. (فقال) أي: لا تعجبي (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس) بفتح الجيم، قاله المنذري، والنووي وابن دقيق العيد، وابن سيد الناس. وقال السندي: بفتحتين مصدر نجس الشيء بالكسر، فلذلك لم يؤنث كما لم يجمع في "إنما المشركون نجس" والصفة منه نجس بكسر الجيم وفتحها. ولو جعل المذكور في الحديث صفة يحتاج التذكير إلى التأويل، أي: ليست ينجس ما تلغ فيه - انتهى. وذكر الكازروني: أن بعض الأئمة قال: هو بفتح الجيم. والنجس النجاسة، فالتقدير: إنها ليست بذات نجس. وفيما سمعنا وقرأنا على مشائخنا هو بكسر الجيم، وهو القياس، أي: ليست بنجسة، ولم يلحق التاء نظرا إلى أنها بمعنى السنور. (إنها) استيناف فيه معنى التعليل. (من الطوافين عليكم أو الطوافات) قيل: هو شك من الراوي، وقيل: ليست للشك لوروده بالواو في رواية أبي داود وغيره، بل للتنويع، ويكون ذكر الصنفين من الذكور والإناث يريد أن هذا الحيوان لا يخلو أن يكون من جملة الذكور الطوافين أو الإناث الطوافات. ومحصل الكلام أنه شبه ذكور الهر بالطوافين وإناثها بالطوافات، والجمع بالواو والنون في الذكور تشبيها له بالعبيد والخدم العقلاء الذي يدخلون على الإنسان ويطوفون حوله للخدمة، كقوله تعالى: ?طوافون عليكم? [58:24] وهذا إشارة إلى علة الحكم بطهارتها، وهي أنها كثيرة الدخول والاتصال بأهل المنزل وبما في منزلهم، ففي الحكم بنجاستها حرج، وهو مدفوع. والحديث دليل على أن ذات الهرة طاهرة، وأن سؤرها غير نجس، وأن الوضوء منه وكذا الشرب غير مكروه، وحديث عائشة الآتي نص في ذلك. وفيه رد على من قال: إن سؤر الهرة مكروه بكراهة تحريمية أو تنزيهية. وارجع للتفصيل إلى شرح الترمذي لشيخنا الأجل المباركفوري. (رواه مالك) عن اسحق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن

(3/345)


كبشة. قال البخاري: جود مالك بن أنس هذا الحديث، وروايته أصح من رواية غيره. وقال الحاكم: قد صحح مالك هذا الحديث، واحتج به في موطئه، وقد شهد البخاري ومسلم لمالك أنه الحكم في حديث المدنيين، فوجب الرجوع إلى هذا الحديث في طهارة الهرة. (وأحمد والترمذي) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهذا أحسن شيء في هذا الباب. وقد جود مالك هذا الحديث عن اسحق بن عبدالله، ولم يأت به أحد أتم من مالك. (وأبوداود) وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وكلام البخاري، وأقرهما. (والنسائي وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضا الشافعي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي. قال الحافظ: وصححه البخاري، والعقيلي، والدارقطني، وابن خزيمة.
487- (10) وعن داود بن صالح بن دينار، عن أمه، أن مولاتها أرسلتها بهريسة إلى عائشة. قالت: فوجدتها تصلي، فأشارت إلى أن ضعيها. فجاءت هرة فأكلت منها. فلما انصرفت عائشة من صلاتها، أكلت من حيث أكلت الهرة. فقالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم. وإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بفضلها)). رواه أبوداود.

(3/346)


487- قوله: (وعن داود بن صالح بن دينار) التمار المدني مولى الأنصار، قال أحمد: لا أعلم به بأسا. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: صدوق من صغار التابعين، روى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، والقاسم، وسالم، وأبي سلمة، وأبيه صالح، وأمه وغيرهم. (عن أمه) أي: والدة داود بن صالح، وهي مجهولة لم يذكرها إلا الذهبي في الميزان، فقال في آخر كتابه في من لم تسم من النساء: والدة داود بن صالح التمار عن عائشة، وعنها ابنها، ولم يزد على ذلك، وهذا ظاهر في أنها لا تعرف. (أن مولاتها) أي: مولاة أمه أي: معتقة أم داود بصيغة المعلوم ولم تسم أيضا. (أرسلتها) أي: أم داود (بهريسة) فعلية بمعنى مفعولة، هرسها من باب قتل أي: دقها، وفي النوادر الهريس الحب المدقوق بالمهراس قبل أن يطبخ فإذا طبخ فهو الهريسة بالهاء، وفي بعض كتب اللغة الهريس والهريسة طعام يعمل من الحب المدقوق واللحم. (قالت) أي: أمه. (فوجدتها) أي: عائشة. (فأشارت) أي: عائشة باليد أو بالرأس. (أن ضعيها) أي: الهريسة وأن مفسرة لمعنى القول في الإشارة. وفيه إن مثل هذه الأشياء جائزة في الصلاة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الإشارة في الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وسيأتي الكلام في هذه المسألة في موضعها إن شاءالله تعالى. (فأكلت منها) أي: بعضها (أكلت من حيث أكلت الهرة) أي: من محل أكلها. (إنها من الطوافين عليكم) قال القاري: ظاهره أن أو فيما تقدم للشك، ويمكن أن يكون هنا اقتصارا، أو يحمل على التغليب. (وإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بفضلها) أي: بسؤر الهرة وفيه رد صريح على الطحاوي حيث قال في الجواب عن حديث أبي قتادة المتقدم: أنه محمول على مماسة الثياب وغيرها، فإن المرفوع منه قوله عليه السلام: ليست بنجس، لا يثبت طهارة سؤرها، والاصغاء فعل أبي قتادة، مستدلا بهذا المرفوع، لأن حديث عائشة هذا نص في أن التوضوء بسؤرها من فعل النبي - صلى الله

(3/347)


عليه وسلم -، على أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ليست بنجس، ظاهر في طهارة ذاتها وطهارة سؤرها المتولد من لحمها الطاهر، وهو الذي فهمه أبوقتادة وعائشة، مع أنه لا دليل فيه على حمله على مماسة الثياب، فجواب الطحاوي مردود عليه لبطلانه. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا الدارقطني، والبيهقي كلهم من طريق عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن داود. قال الدارقطني رفعه الدراوردي عن داود بن صالح، ورواه عنه هشام بن عروة موقوفا على عائشة – انتهى. قلت: عبدالعزيز الدراوردي صدوق، وثقه مالك والنسائي وابن معين وابن سعد، وغيرهم. نعم في سنده أم داود، وهي مجهولة. وفي الباب أحاديث أخرى
488- (11) وعن جابر، قال: ((سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم وبما أفضلت السباع كلها)). رواه في شرح السنة.
489- (12) وعن أم هانئ، قالت: ((اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وميمونة في قصعة فيها اثر العجين)).
عن عائشة، وأنس، ذكرها الزيلعي في نصب الراية، والهيثمي في مجمع الزوائد، وهي تؤيد حديث الدراوردي، عن داود، عن أمه، عن عائشة.

(3/348)


488- قوله: (بما أفضلت الحمر) أي: الأهلية، بضمتين جمع حمار، أي: أبقته من فضالة الماء الذي تشربه. (وبما أفضلت السباع كلها) فيه دليل على طهارة سؤر الحمر والسباع خلافا لمن قال: إن سؤر السباع كلها نجس، وسؤر الحمار مشكوك، قالوا: الحديث محمول على الحياض والغدران، أي: الماء الكثير وإلا لزم طهارة سؤر الكلاب أيضا، لأن التأكيد بكل يجعل العام محكما في العموم، فلا يقبل التخصيص. وقال من ذهب إلى طهارة سؤر السباع: إن الكلب والخنزير مخصوصان من عموم الحديث بالأدلة الأخرى القاضية بنجاستها. والحديث عام للأواني الصغيرة والحياض في الفلوات، فتخصيصه بالحياض تخصيص من غير دليل. وحديث القلتين لا يدل على نجاسة سؤر السباع كما ظن هؤلاء، فإن منشأ السؤال أن المعتاد من السباع إذا وردت المياه أن تخوض فيها وتبول، وربما لا تخلوا أعضائها من لوث أبوالها ورجعيها. وأيضا جوابه - صلى الله عليه وسلم - في حديث القلتين عموم كلي لا مطابقي فتأمل. (رواه في شرح السنة) وأخرجه أيضا الشافعي (ص3) والدارقطني (ص23) والبيهقي في المعرفة، وفي السنن (ج1:ص249) وقال: له أسانيد إذا ضم بعضها إلى بعض كانت قوية قاله الشوكاني. قلت: الحديث رواه الدارقطني من طريقين، في أحدهما إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو متروك، وفي الثاني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة هو ضعيف، وقد ضعف الدارقطني هذا الحديث بسببهما.

(3/349)


489- قوله: (وعن أم هانئ) بالهمزة هي بنت أبي طالب الهاشمية، اسمها فاختة، وقيل: هند. وهي شقيقة علي وإخوته، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبها في الجاهلية، وخطبها هبيرة بن أبي وهب، فزوجها أبوطالب من هبيرة، وأسلمت يوم الفتح، ففرق الإسلام بينها وبين هبيرة. وخطبها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: والله إن كنت لأحبك في الجاهلية، فكيف في الإسلام، ولكني امرأة مصبية، فسكت عنها. لها ستة وأربعون حديثا، اتفقا على حديث، روى عنها جماعة. (اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وميمونة) بالرفع، وقيل: بالنصب. (في قصعة) أي: من قصعة، وهي بفتح الكاف وسكون الصاد ظرف كبير. (فيها أثر العجين) هو الدقيق المعجون بالماء، من عجن الدقيق. (من بابي ضرب ونصر) اعتمد عليه بجمع كفه يغمزه، والظاهر أن أثر العجين في تلك القصعة لم يكن كثيرا مغيرا للماء، وهذا يدل على أن الطاهر القليل لا
رواه النسائي وابن ماجه.
?الفصل الثالث?
490- (13) عن يحيى بن عبدالرحمن، قال: ((إن عمر خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا. فقال عمرو: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا)). رواه مالك.
يخرج الماء عن الطهورية، ولا حجة فيه لمن ذهب إلى جواز التطهر بالماء المضاف كما لايخفي. (رواه النسائي وابن ماجه) وسنده حسن، أو صحيح، وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه.

(3/350)


490- قوله: (عن يحيى بن عبدالرحمن) بن حاطب بن أبي بلتعة اللخمي يكنى أبا محمد، ويقال: أبابكر المدني ثقة من أوساط التابعين، ولد في خلافة عثمان، ومات سنة (104) قال ابن سعد: كان ممن أدرك عليا وعثمان، وزيد ابن ثابت، وكان ثقة كثير الحديث، روى عن جماعة من الصحابة منهم أسامة بن زيد وحسان بن ثابت وابن عمر وابن الزبير، وأبوسعيد وعائشة، وروى عنه جماعة من التابعين. وأبوه عبدالرحمن بن حاطب صاحبي رؤية، تابعي رواية، عداده في كبار ثقات التابعين، وجده حاطب بن أبي بلتعة صحابي مشهور، بدري حليف لقريش. (خرج في ركب) جمع راكب أي: في جماعة من الراكبين. (حتى وردوا) أي: الركب وخص عمرا بالذكر لما وقع منه السؤال عن ماء الحوض. (حوضا) أي: وحضرت الصلاة. (لاتخبرنا) قال الطيبي: يعني أن إخبارك بوردها وعدمه سواء، فإن أخبرتنا بسوء الحال فهو عندنا جائز وسائغ. قال ابن حجر: لأنا لا نمتنع مما ترده لعسر تجنبه المقتضي لبقاءه على طهارته. (فإنا نرد على السباع وترد علينا) أي: لأنا نخالط السباع وهي ورادة علينا. قال ابن حجر: لأننا نرد على ما فضل عنها، وهي ترد على ما فضل عنا. والحاصل أن غرض عمر من قوله: لا تخبرنا، أن كل ذلك عندنا سواء أخبرتنا أو لم تخبرنا، فلا حاجة إلى إخبارك. وفي الحديث دليل على طهارة سؤر السباع. والزيادة الآتية صريحة في ذلك، وحمل ماء الحوض على أنه كان كثيرا يحتاج لدليل، بل فيه قرينة على أن الحوض كان صغيرا لأنه لو كان كبيرا لما سأل. (رواه مالك) عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم الحارث، عن يحيى بن عبدالرحمن. قال البيهقي: هذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى لكنه مرسل منقطع، فإن يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك عمر، بل ولد في خلافة عثمان، هو الصواب – انتهى. وأما ما وقع في بعض الروايات أنه اعتمر مع عمر رضي الله عنه، فالظاهر أنه وقع فيه سقوط، والأصل عن يحيى بن عبدالرحمن عن أبيه أنه اعتمر مع عمر. قال في

(3/351)


تهذيب التهذيب (ج11:ص250) في ترجمة يحيى: قال الدوري عن ابن معين: بعضهم يقول عنه: سمعت عمر وإنما هو عن أبيه سمع
وزاد رزين، قال: زاد بعض الرواة في قول عمر: ((وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لها ما أخذت في بطونها، وما بقي فهو لنا طهور وشراب)).
491- (14) وعن أبي سعيد الخدري: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر عن الطهر منها. فقال: لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غبر طهور)). رواه ابن ماجه.
492- (15) وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: ((لا تغتسلوا بالماء المشمس، فإنه يورث البرص)).
عمر (وزاد رزين قال: زاد بعض الرواة) الخ. هذه الزيادة سيأتي معناها عن أبي سعيد عند ابن ماجه. (لها) أي: للسباع. (ما أخذت) أي: مما شربته في بطونها. (وما بقي فهو لنا طهور وشراب) يعني: أن الله تعالى قسم لها في هذا الماء، ما أخذت في بطونها فما شربته حقها الذي قسم لها وما فضلت فهو حقنا.

(3/352)


491- قوله: (بين مكة والمدينة) في الفلوات والبرارى. (عن الطهر منها) أي: التطهر بدل من الحياض بإعادة العامل قاله القاري، وفي نسخ ابن ماجه الموجودة عندنا: وعن الطهارة منها، أي: بذكر الواو، وبلفظ الطهارة بدل الطهر. (ولنا ما غبر) بفتح الباء أي: بقي. (طهور) بفتح الطاء، وهوخبر مبتدأ محذوف. قال ابن حجر: الحديث صريح في طهارة سؤر السباع. وفيه أن فيه ذكر الكلاب أيضا، وهي منجسة. قال القاري: والجواب بأن نجاسة الكلب علم من حديث آخر، مدفوع بعدم علم التاريخ. قلت: حديث أبي سعيد هذا ضعيف جدا لا يصلح للاستدلال على طهارة سؤر البهائم عندي كما ستعرف. (رواه ابن ماجه) من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد وعبدالرحمن هذا ضعيف جدا. قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه. وقال محمد بن نصر المروزي: أصحاب الحديث لا يحتجون بحديثه. وقال الطحاوي: حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف. وقال ابن خزيمة ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه لسوء حفظه.
492- قوله: (لا تغستلوا بالماء المشمس) أي: الذي سخن بحرارة الشمس. فيه دليل على كراهية الاغتسال بالماء المشمس. والأصح من مذهب الشافعي كراهة استعمال الماء المشمس في البدن مطلقا قليلا كان أوكثيرا. والمختار عند متأخري أصحابه عدم كراهته، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وهو الراجح، لأنه لم يصح فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والأصل الإباحة حتى يصح عن الشارع ما يدل على المنع والكراهة. وأثر عمر هذا وإن صح ليس في حكم المرفوع لمجال الاجتهاد فيه، يدل عليه التعليل بقوله: (فإنه) أي: الاغتسال بالماء المشمس. (يورث البرص) ولو سلم فالمراد منه الاعتياد
رواه الدارقطني.
(8) باب تطهير النجاسات
?الفصل الأول?
493- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا شرب الكلب في إناء أحدكم، فليغسله
سبع مرات)).

(3/353)


والمداومة على ذلك. والبرص محركة بياض يظهر في ظاهر البدن لفساد مزاجه، كذا في القاموس. وأما الماء المسخن بالنار فغير مكروه بالاتفاق. روى ذلك عن عمر، وابنه عبدالله، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع. (رواه الدارقطني) من حديث اسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو الحمصي الشامي، عن حسان بن أزهر، عن عمر، ورواية إسماعيل بن عياش عن الشاميين صحيحه، وقد تابعه المغيرة بن عبدالقدوس، فرواه عن صفوان به. رواه ابن حبان في كتاب الثقات في ترجمة حسان بن أزهر، قاله الزيلعي في نصب الراية (ج1:ص103) ولقول عمر هذا طريق آخر أخرجه الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن صدقة بن عبدالله، عن أبي الزبير عن جابر عن عمر. ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي. قال الحافظ في التلخيص (ص7): صدقة ضعيف، وأكثر أهل الحديث على تضعيف ابن أبي يحيى، لكن الشافعي كان يقول: إنه صدوق وإن كان مبتدعا. وورد المنع عن الماء المشمس مرفوعا من حديث عائشة، ومن حديث أنس ومن حديث ابن عباس، بسط طرقها الزيلغي في نصب الرابة (ج1:ص102) والحافظ في التلخيص (ص7،6) والسيوطي في اللآلي المصنوعة (ج2:ص3-4)، مع بيان وجوه ضعفها، وسقوطها.قال العقيلي: لا يصح في الماء المشمس حديث مسند، إنما هو شيء يروى من قول عمر يعني الذي رواه الشافعي والدارقطني والبيهقي.
(باب تطهير النجاسات) أي: الحقيقية بالماء وغيره، أتى بالجمع إشارة إلى أنواع النجاسة المختلفة في الأحكام.

(3/354)


493- قوله: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم) أي: من إناء أحدكم، أو ضمن"شرب" معنى ولغ، فعدى تعديته، والإضافة ملغاة هنا، وليست للتمليك والتخصيص، لأن حكم الطهارة والنجاسة لا يتوقف على ملكه الإناء وكذا قوله الآتي: فليغسله، لا يتوقف على أن يكون مالك الإناء هو الغاسل. (فليغسله) زاد مسلم والنسائي في رواية لهما: فليرقه، لكن تكلم النسائي، وابن مندة، وابن عبدالبر وغيرهم في هذه الزيادة. (سبع مرات) فيه دليل على وجوب سبع غسلات للإناء من شرب الكلب وولوغه، خلافا لمن ذهب إلى التثليث ولم يفرق بين لعاب الكلب وغيره من النجاسات وهم الحنفية. وقد بين بعض أطباء العصر وجه غسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب طبا، وهو أن في أمعاء أكثر الكلاب دودة شريطية صغيرة جدا طولها (4) ميليمترات، فإذا راث الكلب خرجت البويضات بكثرة في الروث، فليصق كثير منها بالشعر الذي
متفق عليه. وفي رواية مسلم قال: ((طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب)).

(3/355)


بالقرب من دبره، فإذا أراد الكلب أن ينظف نفسه بلسانه كما هي عادته تلوث لسانه وفمه بها، وانتشرت في بقية شعره بواسطة لسانه أو غيره، فإذا ولغ الكلب في إناء، أو شرب ماء، أو قبله إنسان كما يفعل الأفرنج أو بعض من قلد الأفرنج في العادات القبيحة، علقت بعض هذه البويضات بتلك الأشياء، وسهل وصولها إلى فمه أثناء أكله أو شربه فتصل إلى معدته وتخرج منها الأجنة، فشقت جدار المعدة، وتصل إلى أوعية الدم، فتحدث أمراضا كثيرة في المخ، والقلب، والرئة، إلى غير ذلك. وكل ذلك مشاهد لأطباء أوروبا في بلادهم. ولما كان تمييز الكلب المصاب بهذه الدودة عسيرا جدا لأنه يحتاج إلى زمن وبحث دقيق بالآلة التي لا يعرف استعمالها إلا قليل من الناس كان اعتبار الشارع إياه نجسا، وغسله سبع مرات إنقاء للإناء بحيث لا يعلق فيها شيء ما ذكرنا هو عين الحكمة والصواب، والله أعلم. كذا في حاشية إحكام الأحكام (ج1:ص27) شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

(3/356)


قوله (وفي رواية لمسلم) وأخرجها أبوداود والنسائي أيضا (طهور إناء أحدكم) الأظهر فيه ضم الطاء ويقال بفتحها لغتان بمعنى التطهر أو الطهارة. (إذا ولغ) في القاموس ولغ الكلب في الإناء وفي الشراب يلغ كيهب ويالغ، وولغ كورث ووجل شرب ما فيه بأطراف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه، أي: شرب أو لم يشرب. وقال ابن مكي: إن كان ما في الإناء غير مائع يقال: لعقه. وقال المطرزي: فإن كان فارغا يقال: لحسه. وفي حكم الولوغ ما إذا لعق أو لحس، وإنما ذكر الولوغ للغالب. قال الطيبي: طهور إناء أحدكم مبتدأ، والظرف معمول له، والخبر قوله: أن يغسله سبع مرات. (أولاهن بالتراب) فيه دليل على شرعية التتريب في غسل الإناء. واختلفت الروايات في غسلة التتريب، ففي رواية لمسلم وأبي داود والدارقطني "أولاهن" وفي رواية لأبي داود: السابعة بالتراب، وفي رواية الترمذي والبزار: "أولاهن أو أخراهن" وفي رواية للشافعي: أولاهن أو إحداهن، وفي رواية للدارقطني: إحداهن. وهذا الاختلاف ليس بقادح، لأن هذه الروايات ليست بمتساوية، فإن رواية "أولاهن" أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية، ومن حيث المعنى أيضا لأن تتريب الأخيرة يقتض الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه. ووقع في حديث عبدالله بن مغفل عند أحمد، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه: فاغسلوه سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب. وظاهره يدل على إيجاب ثمان غسلات، وأن غسلة التتريب غير الغسلات السبع، وأن التتريب خارج عنها. والحديث قد أجمعوا على صحة إسناده، وهي زيادة ثقة فتعين المصير إليها. وقد أهمل البغوي ذكر هذه الرواية، قيل لأنه شافعي وإمامه الشافعي لم يقل بالتثمين، فتركها البغوي لذلك، وكذا صاحب المشكوة محاماة على المذهب، والله أعلم. ونقل عن
494- (2) وعنه، قال: قام أعرابي، فبال في المسجد،

(3/357)


الشافعي أنه قال: هو حديث لم أقف على صحته، ولكن هذا لا يثبت العذر لمن وقف على صحته. وأوله النووي فقال: المراد بقوله: عفروه الثامنة بالتراب، أي: اغسلوه سبعا، واحدة منهن بالتراب مع الماء، فكان التراب قائم مقام غسلة فسميت ثامنة لهذا. وقال الحافظ: جمع بعضهم بين الحديثين بضرب من المجاز فقال: لما كان التراب جنسا غير الماء جعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدودا باثنتين وتعقبه ابن دقيق العيد بأن قوله: وعفروه الثامنة بالتراب، ظاهر في كونها غسلة مستقلة، لكن لو وقع التعفير في أوله قبل ورود الغسلات السبع كانت الغسلات ثمانية، ويكون إطلاق الغسلة على التتريب مجازا وهذا الجمع من مرجحات تعين التراب في الأولى انتهى. وفي الحديث دليل على نجاسة فم الكلب من حيث الأمر بالغسل لما ولغ فيه والإراقة للماء، وقوله: (طهور إناء أحدكم) فإنه لا غسل إلا من حدث أو نجس وليس ههنا حدث، فتعين النجس، والإراقة إضاعة مال، فلو كان الماء طاهرا لما أمر بإضاعته، إذ قد نهى عن إضاعة الماء، وهو ظاهر في نجاسة فمه، وألحق به سائر بدنه قياسا عليه، وذلك لأنه إذا ثبت نجاسة لعابه ولعابه جزء من فمه إذ هو عرق فمه، ففمه نجس إذ العرق جزء متحلب من البدن، فكذلك بقية بدنه. وفيه أيضا أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير، لأن ولوغ الكلب لا يغير الماء الذي في الإناء غالبا. واعلم أنه خالف حديث أبي هريرة وحديث عبدالله بن مغفل الحنفية حيث قالوا بالتثليث فقط، ولم يقولوا بوجوب السبع ولا الثمان ولا التتريب. والمالكية حيث لم يقولوا: بالتتريب وأوجبوا التسبيع فقط دون التثمين، لأن التتريب لم يقع في رواية مالك. قال القرافي منهم: قد صحت فيه الأحاديث. والعجب منهم كيف لم يقولوا بها. وخالف الشافعية حيث لم يقولوا بالتثمين، فجنح بعضهم إلى ترجيح حديث أبي هريرة على حديث ابن مغفل، وتعقب بأن الترجيح لا يصار إليه مع إمكان الجمع، والأخذ

(3/358)


بحديث ابن مغفل يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة دون العكس، والزيادة من الثقة مقبولة ومال بعضهم إلى الجمع كما تقدم في كلام النووي والحافظ. واعتذر الطحاوي وغيره عن الحنفية بأمور قد ردها الحافظ في الفتح (ج1:ص139) أحسن رد، ثم إنه تعقب العيني على كلام الحافظ بما يدل على شدة تعصبه لمذهب إمامه. وقد نقل الشيخ عبدالحي اللكنوي الحنفي في السعاية (451) تعقبات العيني ثم ردها ردا حسنا. وللشيخ ابن الهمام في فتح القدير كلام مزخرف في الاعتذار عن العمل بحديث التسبيع والتتريب قد رده أيضا الشيخ اللكنوي في السعاية، وأطال الكلام في هذا المبحث وأجاد، وقال في آخر البحث: ولعل المنصف غير المتعسف يعلم بعد ملاحظة هذا البحث ضعف كلام أرباب التثليث وقوة كلام أصحاب التسبيع والتثمين انتهى. وقد ذكر شيخنا تعقبات الشيخ اللكنوي على العيني وابن الهمام في أبكار المنن (ص29-32) فعليك أن تراجعه.
494- قوله: (قام أعرابي) بفتح الهمزة نسبة إلى الأعرب وهم سكان البادية سواء كانوا عربا أو عجما. قيل هو ذو الخويصرة اليمامي. وقيل: الأقرع بن حابس التميمي. وقيل: عيينة بن حصن بن بدر الفزاري. (فبال في المسجد)
فتناوله الناس. فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء - أو ذنوبا من ماء - فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)).

(3/359)


أي: مسجد النبي. (فتناوله الناس) أي: بألسنتهم سبا وشتما. أو أرادوا أن يتناولوه بأيديهم فقد قاموا إليه كما في بعض الروايات. (دعوه) أمر بصيغة الجمع من ودع يدع أي: أتركوه فإنه معذور لأنه لم يعلم عدم جواز البول في المسجد لقربه بالإسلام. وقيل: لئلا يتعدد مكان النجاسة. وقيل لئلا يتضرر بانحباس البول. (وهريقوا). بفتح الهاء أمر من هراق الماء يهرقه أي: صب، وأصله أراق يريق إراقة من باب الإفعال، أبدلت الهاء بالهمزة فصار هراق. وفيه لغة أخرى أهرق الماء يهرقه إهراقا على وزن أفعل أفعالا. قال سيبويه: قد أبدلوا من الهمزة الهاء ثم لزمت فصارت كأنها من نفس الكلمة، وحذفت الألف بعد الراء، وزيدت همزة أخرى وتركت الهاء عوضا عن حذفهم العين لأن أصل أهرق أريق. وفيه لغة ثالثة أهراق يهريق إهرياقا فهو مهريق والشيء مهراق ومهراق أيضا بالتحريك وهذا شاذ، ونظيره أسطاع يسطيع اسطياعا بفتح الألف في الماضي وضم الياء في المضارع، وهو لغة في أطاع يطيع، فجعلوا السين عوضا عن ذهاب حركة عين الفعل فكذلك حكم الهاء. (سجلا) بفتح السين وسكون الجيم الدلو الملآى ماء لا فارغة. (أو ذنوبا من ماء) بفتح الذال الدلو الملآى لا فارغة، وأو للشك من الراوي، ومن في الموضعين زائدة تأكيدا، وقيل هو من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأو للتخيير، لما بين السجل والذنوب من الفرق، وهو أن السجل الدلو الواسعة، والذنوب الدلو العظيمة. وقال الطيبي: السجل الدلو فيه الماء قل أو كثر، وهو مذكور والذنوب يؤنث، وهو ما ملئ ماء، فقوله: من ماء في الموضعين زيادة وردت تاكيدا انتهى. لأن السجل والذنوب لا يستعملان إلا في الدلو التي فيها الماء. وقيل من للنبيين لاحتمال أن يكون من ماء وغيره، وهذا قول من يجوز التطهير بغير الماء. (فإنما بعثتم) إسناد البعث إليهم على طريق المجاز لأنه هو المبعوث - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر، لكنهم لما كانوا في مقام

(3/360)


التبليغ عنه في حضوره وغيبته أطلق عليهم ذلك أوهم مبعوثون من قبله بذلك أي: مأمورون. وكان ذلك شأنه - صلى الله عليه وسلم - في حق كل من بعثه إلى جهة من الجهات بقوله: يسروا ولا تعسروا (ميسرين) حال أي: مسهلين على الناس. (ولم تبعثوا معسرين) عطف على السابق على طريق الطرد والعكس مبالغة في اليسر قاله الطيبي، أي: فعليكم بالتيسير أيها الأمة. والحديث فيه دليل على نجاسة بول الآدمي وهو إجماع وعلى أن الأرض إذا تنجست طهرت بالمكاثرة والمغالبة من الماء وعلى أنه يكتفي بإضافة الماء ولا يشترط حفر الأرض ونقل التراب إذا صب عليها الماء، لأنه لم يرد في هذا الحديث الأمر بنقل التراب، ولكنه تكلم فيه لانقطاعه وإرساله كما في نصب الراية (ج1:ص212) للزيلعي، والفتح (ج1:ص162) للحافظ. وأيضا لو كان نقل التراب واجبا في التطهير لاكتفى به، فإن الأمر بصب الماء حينئذ يكون زيادة تكليف وتعب من غير منفعة تعود
رواه البخاري.
495- (3) وعن أنس، قال: ((بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد. فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه مه. فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزرموه، دعوه. فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر. وإنما هي لذكرالله،

(3/361)


إلى المقصود وهو تطهير الأرض واستدل بالحديث على أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفت بالشمس أو بالهواء لا تطهر، لأنه لو كفى ذلك لما حصل التكليف بطلب الماء. وفيه نظر لأن ذكر الماء في الحديث لوجوب المبادرة إلى تطهير المسجد، لأنه كان نهارا وقد لا يجف قبل وقت الصلاة، فبادر إلى تطهيره بالماء، أو لأن الوقت كان إذ ذاك قد آن، أو أريد إذ ذاك أكمل الطهارتين المتيسر في ذلك الوقت، وفي تركه إلى الجفاف تأخير لهذا الواجب مع ما فيه من المفاسد التي أشرنا إليها، وإذا تردد الحال بين الأمرين لا يكون دليلا على أحدهما بعينه. والدليل على كون الجفاف مطهرا للأرض ما رواه أبوداود عن ابن عمر: كانت الكلاب تبول، وتقبل، وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون من ذلك. وقد بوب عليه أبوداود بقوله: باب في طهور الأرض إذا يبست. فاستدل به على طهارة الأرض المتنجسة بالجفاف، فإن قوله: لم يكونوا يرشون، يدل على نفي صب الماء من باب الأولى، فلو لا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك. ولا مخالفة بين حديث ابن عمر هذا وبين حديث أبي هريرة، فإنه يقال: إن الأرض تطهر بوجهين أعني بصب الماء وبالجفاف، واختار - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأعرابي أحد المطهرين وهو الماء مبادرة إلى التطهير. ويدل على كون الجفاف مطهرا قول أبي جعفر محمد بن علي الباقر: زكاة الأرض يبسها. أخرجه ابن أبي شيبة وعبدالرزاق. (رواه البخاري) في الطهارة وفي الأدب، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

(3/362)


495- قوله: (مه مه) اسم فعل مبني على السكون، معناه اكفف، لأنه كلمة زجر أصله "ما هذا؟ ثم حذف تخفيفا، وتقال: مكررة للتأكيد، ومفردة، وقد تنون مع الكسر، فيقال مه مه. (لا تزرموه) بضم التاء وسكون الزاى وكسر الراء من الازرام، وهو القطع أي: لا تقطعوا عليه بوله، فإنه يضره، ويحصل من تقويمه من محله مع ما قد حصل من تنجيس المسجد تنجيس بدنه وثيابه ومواضع من المسجد غير الذي وقع فيه البول أو لا. (دعاه) أي: طلب ذلك الأعرابي ليعلمه بما يجب للمساجد على أبلغ وجه وألطفه. (إن هذه المساجد) الإشارة للتعظيم، وإنما جمع لئلا يتوهم تخصيص الحكم بمسجده - صلى الله عليه وسلم -. (لشيء من هذا البول) الإشارة للتحقير. (والقذر) بفتح الذال، ما يتنفر منه الطبع كالنجاسات والأشياء المنتنة، فذكره بعد البول يكون تعميما بعد تخصيص، قاله ابن الملك. (وإنما هي لذكرالله) قال الشوكاني في النيل (ج1:ص43)
والصلاة، والقرآن)). أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: ((وأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فسنه عليه)). متفق عليه.
496- (4) وعن أسماء بنت أبي بكر، قالت: ((سألت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يارسول الله ! أرأيت إحدانا

(3/363)


مفهوم الحصر مشعر بعدم جواز ماعدا هذه المذكورة من الأقذار. والقذى والبصاق، ورفع الصوت، والخصومات، والبيع والشراء وسائر العقود وإنشاد الضالة، والكلام الذي ليس بذكر، وجميع الأمور التي لا طاعة فيها. وأما التي فيها طاعة كالجلوس في المسجد للاعتكاف والقراءة للعلم، وسماع الموعظة، وانتظار الصلاة، ونحو ذلك، فهذه الأمور وإن لم تدخل في المحصور فيه لكنه أجمع المسلمون على جوازها كما حكاه النووي، فيخصص مفهوم الحصر بالأمور التي فيها طاعة لائقة بالمسجد لهذا الإجماع، وتبقى الأمور التي لا طاعة فيها داخلة تحت المنع وحكي الحافظ في الفتح (ج1:ص162) الإجماع على أن مفهوم الحصر منه غير معمول به قال: ولا ريب أن فعل غير المذكورات وما في معناها خلاف الأولى. (أو كما قال) شك من الراوي، أي: قال هذا القول أو قولا شبيها به. قال النووي: ينبغي للراوي وقارئ الحديث إذا اشتبه عليه لفظه فقرأها على الشك أن يقول عقيبه: أو كما قال، وكذا يستحب لمن روى بالمعنى أن يقول بعده: أو كما قال، أو نحو هذا، كما فعلته الصحابة فمن بعدهم. والله أعلم. وقد روى الدارمي في مسنده في "باب من هاب الفتيا مخافة السقط، آثارا كثيرة في ذلك من شاء رجع إليه. (قال) أي: أنس. (وأمر رجلا) من القوم بإتيان دلو من ماء. (فسنه) بالمهملة وفي بعض النسخ بالمعجمة أي صبه. قال الطيبي: سننت الماء على وجهي إذا أرسلته إرسالا من غير تفريق فإذا فرقته في الصب قلت بالشين المعجمة كما في الصحاح – انتهى. وكذا في النهاية، والقاموس، وقال النووي: يروى بالشين المعجمة وبالمهملة وهو في أكثر الأصول والروايات بالمعجمة، ومعناه صبه. وفرق بعض العلماء بينهما فقال: هو بالمهملة الصب في سهولة، وبالمعجمة التفريق في صبه – انتهى. وفيه دليل على أن النجاسة على الأرض إذا استهلكت بمكاثرة الماء فالأرض والماء طاهران ولا يكون ذلك أمرا بتكثير النجاسة في المسجد. (متفق عليه) أي: على أصل==

4. مرعاة المفاتيح

الحديث، والسياق المذكور لمسلم لأنه ليس عند البخاري قوله: إن هذه المساجد، إلى قوله: وقراءة القرآن، لا بهذا اللفظ ولا بمعناه، نعم أخرج أصل الحديث في الطهارة، وفي الأدب مختصرا في معنى الحديث السابق، فكان الأولى للمصنف أن يعزو هذا الحديث إلى مسلم فقط. قال السيد جمال الدين قوله: "متفق عليه" فيه تأمل لأن صاحب التخريج نسب هذا الحديث إلى مسلم دون البخاري، وقال الألباني: قوله:متفق عليه، فيه نظر. فإن هذا الحديث من رواية أنس، ولم يخرجه البخاري. أنظر شرحه للحافظ ابن حجر – انتهى. والحديث أخرجه مسلم في الطهارة، وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه في الطهارة.
496- قوله: (سألت امرأة) في رواية للشافعي أن أسماء هي السائلة. (أرأيت إحدانا) بحذف مضاف أي: أخبرني
إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة، كيف تصنع؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه، ثم لتنضحه بماء، ثم لتصل فيه)). متفق عليه.
497- (5) وعن سليمان بن يسار، قال: ((سألت عائشة عن المنى

(3/365)


في حال إحدانا أو عن حال إحدانا. (إذا أصاب ثوبها) بالنصب على المفعولية. (الدم) بالرفع على الفاعلية. (من الحيضة) بفتح الحاء أي: الحيض. (كيف تصنع؟) متعلق بالإستخبار، أي: أخبرنا كيف تصنع إحدانا بهذا الثوب، هل تترك لبسه، أو تقطع موضع الدم منه، أو تغسله فكيف تغسله؟. (فلتقرصه) بضم الراء وسكون الصاد المهملة من القرص، وهو الدلك بأطراف الأصابع والأظفار، أي: لتدلك موضع الدم بأطراف الأصابع بالماء ليتحلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه. (ثم لتنضحه) أي: لتغسله، وهو بفتح الضاد المعجمة وتكسر. (ثم لتصل فيه) أي: في ذلك الثوب فإنه لا بأس بعد هذا. والحديث دليل على نجاسة دم الحيض، وعلى وجوب غسله، والمبالغة في إزالته بما ذكر من الحت في بعض الروايات، والقرص والنضح لإذهاب أثره. وظاهره أنه لا يجب غير ذلك، وإن بقي أثره ولونه، فلا يجب استعمال الحاد لإذهاب الأثر لعدم ذكره في الحديث وهو محل البيان، ولأنه قد ورد في غير حديث أسماء: ولا يضرك أثره. واستدل الخطابي بحديث أسماء هذا على أن الماء يتعين لإزالة النجاسات دون غيره من المائعات الطاهرة، لأن جميع النجاسات بمثابة الدم لا فرق بينه وبينها وتعقب هذا الاستدلال بأن هذا خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط، والمعنى في ذلك أن الماء أكثر وجودا من غيره، أو يقال تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، أو يقال: ذكر الماء لأنه المعتاد في إزالة النجاسات لا لاشتراط خصوصيته وأجيب بأن الخبر نص على الماء، فإلحاق غيره من المائعات به بالقياس. ومن شرطه أن لا ينقص الفرع عن الأصل في العلة، وليس في غير الماء ما في الماء من رقته وسرعة نفوذه، فلا يلحق به. وللشوكاني ههنا كلام حسن في النيل (ج1:ص39). فارجع إليه وفي الحديث دليل على أن دم الحيض لا يعفى يسيره وإن قل لعمومه، حيث لم يفرق بين قليلة وكثيرة، ولا سألها عن مقداره، ولم يحد فيه مقدار الدرهم، ولا دونه، وبه قال الشافعي في

(3/366)


الجديد، خلافا للأئمة الثلاثة، فإنهم ذهبوا إلى الفرق بين القليل من الدم والكثير، فاليسير منه معفو عندهم، وإنما الاختلاف بينهم في مقدار اليسير وتحديده، والحديث محمول عندهم على الدم الكثير. وارجع للتفصيل إلى المغني (ج1:ص728-731) والشرح الكبير (ج1:ص304-305). (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة والصلاة والبيوع، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
497- قوله: (وعن سليمان بن يسار) بتحتية مفتوحة وسين مهملة خفيفة، الهلالي المدني مولى ميمونة زوج
يصيب الثوب.فقالت: كنت أغسله من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه)). متفق عليه.
498- (6) وعن الأسود وهمام، عن عائشة قالت: ((كنت أفرك المنى من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)).

(3/367)


النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقال: كان مكاتبا لأم سلمة أم المؤمنين، ثقة، فاضل، من كبار تابعي المدينة، وأحد الفقهاء السبعة. قال ابن سعد: كان ثقة، عالما رفيعا، فقيها، كثير الحديث. مات سنة (107) وهو ابن (73) سنة. وقيل: في وفاته غير ذلك. (يصيب الثوب) يحتمل الوصف والحال. (كنت أغسله) أي: المنى. (من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قد استدل به لمالك وأبي حنيفة على نجاسة المنى. لأن الغسل لا يكون إلا من نجس. وأجيب بأن غسلها فعل وهو لا يدل على الوجوب بمجرده، فهو محمول على التنزه والاستحباب لأجل النظافة، وإزالة الدرن ونحوه. قال الشوكاني في النيل (ج1:ص54) لم يثبت الأمر بغسله من قوله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من أحاديث الباب، وإنما كانت تفعله عائشة، ولا حجة في فعلها إلا إذا ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم بفعلها وأقرها، على أن علمه بفعله وتقريره لها لا يدل على المطلوب، لأن غاية ما هناك أنه يجوز غسل المنى من الثوب وهذا مما لا خلاف فيه، بل يجوز غسل ما كان متفقا على طهارته كالتراب والطيب، فكيف بما كان مستقذار انتهى. وقال ابن الجوزي: ليس في هذا الحديث حجة، لأن غسله كان للاستقذار لا للنجاسة، كذا في نصب الراية (ج1:ص210). واحتج أيضا على نجاسة المني بالقياس على غيره من فضلات البدن المستقذرة من البول والغائط لانصباب جميعها إلى مقر، وانحلالها عن الغذاء، ولأن الأحداث الموجبة للطهارة نجسة والمني منها، ولأنه يجري من مجرى البول فينجس، ولا يخفى ما فيه، وللقائلين بالنجاسة دلائل أخرى ذكرها النيموى في آثار السنن، وقد أوضح ما فيها من الخدشات شيخنا في أبكار المنن (ص33-36). فعليك أن تراجعه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

(3/368)


498- قوله: (وعن الأسود) وهو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي أبوعمر أو أبوعبدالرحمن، مخضرم ثقة مكثر، فقيه من كبار التابعين. وقال الطيبي: أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، ورأى الخلفاء الراشدين. وهو خال إبراهيم النخعي. مات سنة (74). وقيل سنة (75) وقال المصنف: هو الأسود بن هلال المحاربي (مخضرم ثقة) وفيه نظر لأنه لم يذكره أحد أنه روى عن عائشة. (وهمام) بالتشديد، هو همام بن الحارث بن قيس بن عمرو النخعي الكوفي، ثقة عابد من كبار التابعين مات سنة (65). (كنت أفرك) بضم الراء من باب نصر،وقد تكسر، والفرك الدلك حتى يذهب الأثر عن الثوب. (المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وفي لفظ لمسلم عن عائشة: لقد كنت أحكه يابسا بظفرى من ثوبه. قال الحافظ: وقد ورد الأمر بفركه من طريق صحيحه. رواها ابن الجارود في المنتقي عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا
رواه مسلم. وبرواية علقمة والأسود، عن عائشة نحوه، وفيه: ثم يصلي فيه.

(3/369)


بحته. قال وأما الأمر بغسله فلا أصل له. والحديث قد استدل به للشافعي وأحمد وداود واسحق على طهارة المني لأنه لو كان نجسا لم يكف فركه كالدم. وللزم بطلان الصلاة فيما إذا صلى في الثوب الذي فرك منه المني لأن الفرك لا يقلع المني بل يخففه ويقلله فقط. ولما اكتفى فيه بالفرك مع أن الفرك لا يقطعه ولا يزيله بالكلية، وإنما يقلله، علم أنه طاهر. واستدل لهم أيضا بحديث عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه، ويحته يابسا ثم يصلي فيه، أخرجه أحمد. قال الحافظ بإسناد حسن. وبحديث عائشة: أنها كانت تسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه، وتحكه من ثوبه يابسا ثم يصلي فيه. أخرجه ابن خزيمة. ذكره الحافظ في الفتح وسكت عنه. وأجيب عن هذه الأحاديث بأن ذلك لا يدل على الطهارة وإنما يدل على كيفية التطهير، فغاية الأمر أنه نجس خفف في تطهيره بما هو أخف من الماء، والماء لا يتعين لإزالة جميع النجاسات وإلا لزم عدم طهارة العذرة التي في النعل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بمسحها في التراب، ورتب على ذلك الصلاة فيها قاله الشوكاني في النيل (ج1:ص54). واحتج لهم أيضا بأن الأصل الطهارة فلا ينتقل عنها إلا بدليل. قال الشوكاني: وأجيب بأن التعبد بالازالة غسلا، أو مسحا، أو فركا أو حتا أو سلتا أو حكا ثابت ولا معنى لكون الشيء نجسا إلا أنه مأمور بإزالته بما أحال عليه الشارع، فالصواب أن المني نجس يجوز تطهيره بأحد الأمور الواردة - انتهى. قلت: الظاهر أن المني نجس يطهره الغسل، أو الفرك، أو الحت، أو الحك، أو السلت، والإزالة بالإذخر عملا بالأحاديث. وأما الفرق بين الرطب واليابس بوجوب الغسل في الأول والاكتفاء بالفرك في الثاني فليس بصحيح عندي لما تقدم من حديث عائشة عند أحمد وابن خزيمة، فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالتين. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود

(3/370)


والنسائي وابن ماجه وابن الجارود، ولم يخرجه البخاري بل اكتفى بالإشارة إليه في ترجمته، فقال"باب غسل المني وفركه" وهذا على عادته بالإشارة إلى الأحاديث التي لا تكون على شرطه في تراجم أبوابه. (وبرواية علقمة) النخعي. (والأسود عن عائشة نحوه) أي: نحو رواية الأسود، وهمام عن عائشة ومعناها، وهو مرفوع على أنه مبتدأ خبره الجار المتقدم، و"عن عائشة" متعلق برواية. (وفيه) أي: وفي مرويهما زيادة قولهما. (ثم يصلي فيه) أي: في ذلك الثوب الذي أفرك منه المني. وفي رواية أخرى لمسلم: فيصلي فيه، ذكر المصنف هذه الزيادة ردا على من قال من أصحاب مالك: إن الثوب الذي اكتفت عائشة فيه بالفرك ثوب النوم، والثوب الذي غسلته هو ثوب الصلاة، والرواية التي ذكرناها صريحة في الرد عليهم فإن التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة، وإنما احتاج أصحاب مالك إلى تأويله لأن مالكا وأصحابه لم يقولوا بالفرك وأوجبوا الغسل رطبا ويابسا، وحمل بعضهم الفرك على الدلك بالماء, وهذا أيضا مردود عليهم بما ورد في الباب من الروايات الصريحة في الاكتفاء بالفرك من غير ماء. هذا وفي المقام مجادلات ومقاولات ومناظرات محلها المطولات من كتب شروح الحديث، وكتب الفروع للمذاهب الأربعة.
499- (7) وعن أم قيس بنت محصن: ((أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في حجره، فبال على ثوبه، فدعاء بماء، فنضحه، ولم يغسله)).

(3/371)


499- قوله: (وعن أم قيس بنت محصن) بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الصاد بعدها نون، الأسدية أخت عكاشة بن محصن الأسدي، أسلمت بمكة قديما وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهاجرت إلى المدينة يقال: إن اسمها آمنة. لها أربعة وعشرون حديثا، اتفقا على حديثين عن أبي الحسن مولى أم قيس عن أم قيس، قالت: توفى ابني فجزعت فقلت للذي يغسله: لا تغسله بالماء البارد فتقتله. فانطلق عكاشة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بقولها، فتبسم ثم قال: طال عمرها فلا نعلم امرأة عمرت ما عمرت. (أنها أتت بابن لها) لم يسم ومات في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (صغير) بالجر صفة لابن. (لم يأكل الطعام) صفة ثانية لابن، والمراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرتضعه، والتمر الذي يحنك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة وغيرها، فكان المراد أنه لم يحصل له الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال. (في حجره) بفتح الحاء على الأشهر وتكسر وتضم، أي: حضنه. (فبال على ثوبه) أي: ثوب النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وحمله على ثوب الصبي كما قال بعض المالكية بعيد خلاف الظاهر. (فنضحه) أي: رش الماء على موضع البول من الثوب، ففي رواية الترمذي وابن ماجه وابن حبان "فرشه عليه"وكذا وقع في لفظ لمسلم, والروايات يفسر بعضها بعضا، ويؤيده ما في الصحاح، والقاموس، والمصباح، والكشاف، والنهاية أن النضح الرش، وقد يذكر النضح، والرش، ويراد بهما الغسل، لكن إذا لم يكن هناك مانع يمنع من إرادة الرش بل يكون دليل يدل على إرادة الغسل كما لايخفى على من له وقوف على موارد استعمالهذين اللفظين، وليس فيما نحن فيه قرينة تدل على أن المراد بالنضح والرش الغسل، بل ههنا دليل صريح يدل على عدم إرادة الغسل، وهو قوله: (ولم يغسله) وفي رواية لمسلم: ولم يزد على أن نضح بالماء، فقوله: لم يغسله، دليل واضح على أنه لم يرد بالنضح الغسل، ورد صريح على من تأول من الحنفية والمالكية

(3/372)


القائلين بعدم التفرقة بين بول الصبي الرضيع وبول الجارية النضح بالغسل، فإنه لو كان المراد بالنضح الغسل لكان المعنى فغسله ولم يغسله وهو كما ترى وأما قولهم: بأن المراد بقولها: ولم يغسله، أي: غسلا مبالغا فيه فمردود عليهم، فإنه خلاف الظاهر، ولا دليل عليه. قال السندي بعد ذكر تأويلهم هذا: هو تأويل بعيد، ومع بعده مخالف للمذهب أيضا إذ ما تعرضوا في كتب الفقه للخفة والمبالغة - انتهى. وقال ابن دقيق العيد: هو خلف الظاهر، وببعده ما ورد في الأحاديث الأخر من التفرقة بين بول الصبي والصبية فإنهم لا يفرقون بينهما- انتهى. قلت: أراد بالأحاديث الأخر حديث لبابة، وحديث أبي السمح الآتيين في الفصل الثاني وحديث علي عند أحمد والترمذي وأبي داود، وغيرهم بلفظ: يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام. قال قتادة راوية: هذا ما لم يطعما الطعام، فإذا طعما غسلا جميعا. فهذه الأحاديث لا شك أنها تبعد تأويلهم بل تبطله، فإن حمل النضح والرش على الغسل يحيل معنى هذه الأحاديث إلى أنه يغسل بول الجارية، ويغسل بول الغلام وما أظن أن أحدا له مساس بالعلم أو معرفة باللغة يرضي أن يحمل كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا المعنى. وأما ما وقع في
متفق عليه.
500- (8) وعن عبدالله بن عباس، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا دبغ الإهاب فقد طهر)). رواه مسلم.
501- (9) وعنه، قال: تصدق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به! فقالوا إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها)).

(3/373)


في حديث عائشة عند مسلم: فدعاء بماء فصبه عليه، وعند البخاري"فأتبعه إياه" فالمراد بالصب وإتباع الماء، هو الرش والنضح لا الغسل، يدل عليه ما في رواية لمسلم والطحاوي: فأتبعه الماء ولم يغسله. وفي أخرى للطحاوي: فنضحه عليه. ويأتي بقية الكلام في شرح حديث لبابة. (متفق عليه) أخرجاه في الطهارة، وفي الطب، وأخرجه أيضا مالك وأحمد واو داود الطيالسي، وابن سعد في الطبقات، والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
500- قوله: (إذا دبغ) بصيغة المجهول من ضرب ونصر وفتح، الدبغ والدباغ والدباغة عبارة عن إزالة الرائحة الكريهة والرطوبات النجسة باستعمال الأدوية أو بغيرها. قال إبراهيم النخعي: كل شيء يمنع الجلد من الفساد فهو دباغ. (الإهاب) بكسر الهمزة هو الجلد، أو ما لم يدبغ كما في القاموس، ومثله في النهاية، وفي الصحاح: الإهاب الجلد ما لم يدبغ. وبه فسر النضر بن شميل، كما روى أبوداود عنه في سننه. (فقد طهر) بضم الهاء وفتحها لغتان، والفتح أفصح، أي: ظاهره وباطنه فيجوز استعماله في الأشياء اليابسة والمائعة. وفي رواية أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه: أيما إهاب دبغ فقد طهر، وفيه دليل على أن الدباغ يطهر جلد ميتة كل حيوان من غير فرق بين مأكول اللحم وغيره، لعموم كلمة"أيما" ولأن لفظ الإهاب بعمومه يشمل جلد مأكول اللحم وغيره. واستثنى منه الخنزير لنجاسة عينة، لقوله تعالى: ?فإنه رجس? والضمير للخنزير فقط، حكم برجسية كله، والكلب مقيس عليه بجامع النجاسة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

(3/374)


501- قوله: (تصدق) بصيغة المجهول. (على مولاة) أي: عتيقة. (لميمونة) أم المؤمنين. (بشاة) متعلق بتصدق. (فماتت) أي: الشاة. (فمر بها) أي: بالشاة. (هلا) تحضيضية أي: لم لا (فدبغتموه فانتفعتم به) فيه دليل على أن جلود الميتة لا يجوز الانتفاع بها أي: انتفاع كان إلا بعد الدباغ، وأما قبل الدباغ فلا يجوز الانتفاع كالبيع وغيره، وهو القول الراجح المعول عليه. ولم يقع في رواية البخاري والنسائي ذكر الدباغ، وهي محمولة على الرواية المقيدة بالدباغ. (إنما حرم) قال النووي: رويناه على وجهين: حرم بفتح الحاء وضم الراء وحرم بضم الحاء وكسر الراء المشددة. (أكلها) أي: أكل الميتة. وأما جلدها فيجوز دباغته ويطهر بها حتى يجوز استعماله في الأشياء الرطبة والوضوء منه، والصلاة معه وعليه.
متفق عليه.
502- (10) وعن سودة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: (( ماتت لنا شاة، فدبغنا مسكها، ثم مازلنا ننبذ فيه حتى صار شنا)). رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
503- (11) عن لبابة بنت الحارث، قالت: ((كان الحسين بن علي في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبال على ثوبه. فقلت: إلبس ثوبا، وأعطني إزارك حتى أغسله، قال: إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر)).
وفي شرح السنة: فيه دليل لمن ذهب إلى أن ماعدا المأكول غير محرم الانتفاع كالشعر، والسن والقرن ونحوها، وقالوا: لا حياة فيها فلا تنجس بموت الحيوان. وجوزوا استعمال عظام الفيل، وقالوا: لا بأس بتجارة العاج - انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة، والبيوع والذبائح، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود في اللباس والنسائي في الفرع، وابن ماجه في اللباس إلا أنه قال فيه "عن ميمونة" جعله من مسندها.

(3/375)


502- قوله: (وعن سودة) بنت زمعة بن قيس بن عبدشمس العامرية القرشية أم المؤمنين، أسلمت بمكة قديما، وهاجرت هي وزوجها إلى الحبشة الهجرة الثانية، ومات زوجها هناك، واسمه السكران بن عمرو، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل بها مكة، وذلك بعد موت خديجة، وقبل أن يعقد عائشة، وهاجرت إلى المدينة. قالوا: لما أسنت هم النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلاقها فوهبت يومها لعائشة. وتوفيت سنة (55) على الصحيح، لها أحاديث، انفرد البخاري بحديث. (فدبغنا مسكها) بفتح الميم أي: جلدها، وسمى به لأنه يمسك ما فيه من الماء وغيره. (ثم مازلنا) بكسر الزاى. (ننبذ فيه) بكسر الباء من ضرب أي: ننقع فيه التمر وغيره، يعني نعمل فيه نبيذا من تمر وغيره. (حتى صار شنا) بفتح الشين المعجمة وتشديد النون أي: قربة خلقة. (رواه البخاري) في النذور، وأخرجه أيضا أحمد، والنسائي في الفراغ.
503- قوله: (عن لبابة) بضم اللام وتخفيف الموحدتين. (بنت الحارث) بن حزن الهلالية أم الفضل زوج العباس بن عبدالمطلب، وأم ستة من بنيه، وأخت ميمونة أم المؤمنين لأبويها. قال ابن عبدالبر: يقال: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، وكانت من المنجبات، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزورها. لها ثلاثون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد كل منهما بحديث. ماتت بعد زوجها العباس في خلافة عثمان. (في حجر رسول الله ) بكسر الحاء وتفتح وتضم. (فبال على ثوبه) أي: إزاره - صلى الله عليه وسلم -. (إلبس) بفتح الباء أمر من سمع. (ثوبا) آخر. (وأعطني إزارك) أي: المتلوث بالبول. (إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر) الحديث حجة صريحة في الفرق بين بول الصبي وبول الصبية، وأن
رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه.
504- (12) وفي رواية لأبي داود، والنسائي، عن أبي السمح، قال: ((يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام))

(3/376)


بول الصبي يكفي فيه النضح بالماء، ولا حاجة فيه للغسل، وأن بول الصبية لا يكفي فيه النضح والرش بل لا بد من غسله، وهو أصح المذاهب في ذلك وأقواها، وذلك قبل أن يأكلا الطعام كما قيده به قتادة راوي حديث علي، وقد ذكرنا لفظه. وعند ابن حبان في صحيحه، وابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن شهاب: مضت السنة أن يرش بول من لم يأكل الطعام من الصبيان. والمراد بالنضح كما قاله النووي في شرح مسلم: هو أن الشيء الذي أصابه البول يغمر ويكاثر بالماء مكاثرة لا تبلغ جريان الماء وتردده وتقاطره، بخلاف المكاثرة في غيره، فإنه يشترط أن تكون بحيث يجري عليها بعض الماء ويتقاطر من المحل، وإن لم يشترط عصره، وهذا هو الصحيح المختار، وهو قول إمام الحرمين والمحققين كذا في سبل السلام (ج1:ص54). (رواه أحمد) (ج6:ص339). (وأبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (وابن ماجه) وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والطبراني والكجي في سننه والبيهقي والطحاوي.

(3/377)


504- قوله: (وفي رواية لأبي داود، والنسائي عن أبي السمح) هو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخادمه. قيل: اسمه إياد، بكسر الهمزة وتخفيف الياء تحتها نقطتان، وقيل: اسمه كنيته، صحابي، له حديث واحد، قطعه النسائي في موضعين: أي: في باب ذكر الاستتار عند الاغتسال، وفي باب بول الجارية. قال ابن عبدالبر يقال: إنه ضل فلا يدري أين مات قال ميرك: قوله: والنسائي بالرفع، عطف على ابن ماجه. قال القاري: وفي سائر النسخ المصححة بالجر وهو الظاهر، لكن إنما يصح الجر لو كان للنسائي روايتان كما لا يخفى، فحينئذ لو كانت الرواية الأخرى له كأحمد وغيره من المذكورين فكان للمصنف أن يذكره معهم أولا أيضا كما ذكر أباداود مرتين، وإن كان النسائي ليس له إلا رواية واحدة كالرواية الثانية لأبي داود فيتعين الرفع، لكن لا بالعطف على ابن ماجه لوجود الفصل بالأجنبي، بل على أنه مبتدأ خبره كذلك،كما قيل في قوله تعالى: ?إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤون? [69:5] بالرفع والله أعلم – انتهى. قلت: عبارة المصنف بظاهرها توهم أن للنسائي روايتين كأبي داود، إحداهما عن لبابة، والأخرى عن أبي السمح، والأمر ليس كذلك، فإن حديث لبابة لم يروه النسائي، فالأحسن أن يقول: وروى أبوداود أيضا والنسائي عن أبي السمح، الخ. والحديث أخرجه أيضا البزار وابن ماجه وابن خزيمة والبغوي والحاكم وصححه، وسكت عنه أبوداود والمنذري، وقال البخاري: حديث حسن، ولفظه عند أبي داود: قال كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولني قفاك فأوليه قفاي بأستره به فأتى بحسن أو حسين رضي الله عنهما فبال على صدره يعني موضعه من الثياب فجئت أغسله، فقال: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) أي: الرضيع. ففي حديث علي عند أحمد والترمذي وابن ماجه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في بول الرضيع: ينضح بول الغلام

(3/378)


505- (13) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى، فإن التراب له طهور)).
الحديث. فهذا تقييد للفظ اللام بكونه رضيعا، وهكذا يكون تقييدا للفظ الصبي والصغير والذكر الواردة في بقية الأحاديث. وحديث أبي السمح يبين أن المراد بالنضح في حديث لبابة هو الرش. ويرد كغيره من أحاديث الباب على من لم يفرق بين بول الرضيع وبول الجارية إتباعا للقياس على بول الشيخ. وفي صنيعهم هذا تقديم للقياس على النص ورد للسنن الصحيحة الصريحة. قال ابن القيم: والفرق بين الصبي والصبية من ثلاثة أوجه: أحدها: كثرة حمل الرجال والنساء للذكر فتعم البلوى ببوله فيشق عليه غسله. والثاني: أن بوله لا ينزل في مكان واحد بل ينزل متفرقا ههنا وههنا، فيشق غسل ما أصابه كله بخلاف بول الأنثى. الثالث: أن بول الأنثى أخبث وأنتن من بول الذكر، وسببه حرارة الذكر، ورطوبة الأنثى، فالحرارة تخفف من نتن البول، وتذيب منها ما يحصل مع الرطوبة، وهذه المعاني مؤثرة يحسن اعتبارها في الفرق – انتهى. وذكر الشافعي في الفرق وجها آخر كما رواه ابن ماجه في سننه، والحق فيه وفي مثله التعبد والإتباع، والسؤال عن الحكم خارج عن ذلك، فالواجب على الفقيه أن يتبع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث وجده، ولا يضرب له الأمثال.

(3/379)


505- قوله: (إذا وطئ) بكسر الطاء أي: مسح وداس. (أحدكم بنعله) وفي معناه الخف. (الأذى) أي: النجاسة رطبة كانت أو يابسة، متجسدة أو غير متجسدة. (فإن التراب) أي: بعد المكان الموطؤ. (له) أي: لنعل أحدكم. (طهور) وفي رواية: إذا وطئ الأذى بخفيه فطورهما التراب. والحديث يدل بإطلاقه على أنه إذا أصابت النجاسة النعل فطهارته بالمسح والدلك، سواء كانت ذات جرم كالعذرة أو غير ذات جرم كالبول، وسواء كانت رطبة أو جافة، ويؤيده ما رواه أبوداود وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه – الحديث. وفيه: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأي في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما. وأعلم أن الحديثين قد خالف ظاهرهما أبوحنيفة، فإن مذهبه أن النعل لا يطهر بالمسح إلا بالغسل، ولأجل هذين الحديثين وما في معناهما ترك الحنفية مذهبه في هذا الباب، واختاروا مذهب أبي يوسف، ومذهبه أن النعل يطهر بالدلك إذا أصابته نجاسة لها جرم، رطبة كانت أو جافة أما إذا لم تكن لها جرم فلا يطهر إلا بالغسل. والفتوى عند الحنفية على قول أبي يوسف، ففي البحر الرائق (ج1:ص223): وعلى قوله: أكثر المشائخ. وفي النهائية والعناية والخلاصة: وعليه الفتوى.وفي فتح القدير: وهو المختار لعموم البلوى، ولإطلاق الحديث – انتهى. وفي فتاوى قاضي خان: وعليه الفتوى لعموم البلوى. قال شيخنا في أبكار المنن (ص46) هذان الحديثان بإطلاقهما حجتان على أبي يوسف أيضا أي: كما أنهما
رواه أبوداود، ولابن ماجه معناه.
506- (14) وعن أم سلمة، قالت لها امرأة : ((إني أطيل ذيلي، وأمشي

(3/380)


حجتان على أبي حنيفة، لأن إطلاقهما يدل على أنه لا فرق بين أن تكون النجاسة ذات جرم أو لم تكن، كما أن إطلاقهما يدل على أنه لا فرق بين أن تكون النجاسة رطبة أو جافة، وهو أي: أبويوسف يقول بالفرق بين الرقيقة والكثيفة، وإن لم يقل بالفرق بين الرطب واليابس. وأما ما قالوا في توجيه الفرق بينهما عنده: أنه مفاد بقوله: طهور أي: مزيل، ونحن نعلم أن النعل إذا تشرب البول لا يزيله المسح، فإطلاقه مصروف إلى ما يقبل الإزالة بالمسح. فقد رده العلامة ابن الهمام في فتح القدير (ص76) بأنه لا يخفى ما فيه، إذ معنى طهور مطهر. واعتبر ذلك شرعا بالمسح المصرح في الحديث وكما لا يزيل ما تشربه من الرقيق كذلك لا يزيل ما تشرب من الكثيف حالة الرطوبة، والحاصل فيه بعد إزالة الجرم كالحاصل قبل الدلك في الرقيق، فإنه لا يشرب إلا ما في استعداده قبوله وقد يصيبه من الكثيفة الرطبة مقدار كثير يشربه من رطوبته مقدار ما يشربه من بعض الرقيق – انتهى. والحاصل أن النعل أو الخف إذا أصابته نجاسة يطهر بالدلك كثيفة كانت أو رقيقة، رطبة كانت أو يابسة، لإطلاق الحديثين وهو الحق، وما ذهب إليه الإمام أبوحنيفة وأبويوسف ليس بصواب – انتهى. (رواه أبوداود) من طريق أبي المغيرة، والوليد بن مزيد، وعمر بن عبدالواحد عن الأوزاعي قال: أنبئت أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدث عن أبيه، عن أبي هريرة، وفيه مجهول كما ترى، لأن الأوزاعي لم يسم شيخه. ولعل الرجل الذي أبهمه هو محمد بن عجلان في الطريق الآتي، فروى أبوداود أيضا من طريق محمد بن كثير الصنعاني، عن الأوزاعي، عن ابن عجلان عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه، ومحمد بن كثير وإن ضعف لكنه تابعه على هذا أبوالمغيرة، والوليد، وعمر كما تقدم، وكلهم ثقات، وابن عجلان وإن ضعفه بعضهم لكن الأكثرين على توثيقه. والحديث أخرجه أيضا ابن السكن وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح

(3/381)


على شرط مسلم، والبيهقي والطحاوي. قال النووي في الخلاصة: رواه أبوداود بإسناد صحيح – انتهى. وقال ابن الهمام: حديث أبي هريرة حسن لم يطعن فيه. كذا في المرقاة (ج1:ص356) وقد اعترف بحسن إسناد حديث أبي هريرة هذا النيموي أيضا. قلت: وله شاهدان بمعناه عند أبي داود وغيره من حديث عائشة، ومن حديث أبي سعيد. وتقدم ذكر لفظ حديث أبي سعيد. (ولابن ماجه معناه) ولفظه: قيل: يارسول الله ! إنا نريد المسجد فنطأ الطريق النجسة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطهر بعضها بعضا. قال في الزوائد: إسناده ضعيف، فإن إبراهيم بن إسماعيل اليشكري مجهول الحال، قال الذهبي: وشيخه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة مما اتفقوا على ضعفه.
506- قوله: (إني أطيل) من الإطالة (ذيلي) بفتح الذال المعجمة، هو طرف الثوب الذي يلي الأرض وإن
في المكان القذر، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يطهر ما بعده)). رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والدارمي وقالا: المرأة أم ولد لإبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف.

(3/382)


لم يمسها. (في المكان القذر) بفتح فكسر، النجس، أي: في مكان ذي قذر. (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في جواب مثل هذا السؤال. (يطهره) أي: الذيل. (ما بعده) في محل الرفع فاعل يطهر، أي: المكان الذي بعد المكان القذر بزوال ما يتثبت بالذيل من القذر، سواء كان المكان القذر رطبا أو يابسا، والنجاسة متجسدة أو غير متجسدة، فلا حاجة إلى الغسل لإطلاق الحديث. وهذا يدل على عدم الفرق بين الذيل للمرأة، والخف والنعل للرجل، وهو الحق، ويؤيد ذلك الحديث الأول من الفصل الثالث من هذا الباب. قال الشيخ ولي الله الدهلوي في المسوى شرح المؤطا تحت حديث أم سلمة هذا: إن أصاب الذيل نجاسة الطريق ثم مر بمكان آخر، واختلط به طين الطريق، وغبار الأرض، وتراب ذلك المكان، ويبست النجاسة المتعلقة، فيطهر الذيل المنجس بالتناثر أو الفرك، وذلك معفو عنه عن الشارع بسبب الحرج والضيق، كما أن غسل العضو والثوب من دم الجراحة معفو عنه عند المالكية، وكما أن النجاسة الرطبة التي أصابت الخف تزيل بالدلك، ويطهر الخف عند الحنفية والمالكية بسبب الحرج، وكما أن الماء الواقع المستنقع في الطريق وإن وقع فيه النجاسة معفو عنه عند المالكية بسبب الحرج، وإني لا أجد الفرق بين الثوب الذي أصابه دم الجراحة والثوب الذي أصابه الماء المستنقع النجس، وبين الذيل الذي تعلقت به نجاسة رطبة، ثم اختلط به غبار الأرض وترابها وطين الطريق، فتناثرت به النجاسة أو زالت بالفرك فإن حكمها واحد، وما قال البغوي: إن الحديث محمول على النجاسة اليابسة التي أصابت الثوب ثم تناثرت بعد ذلك ففيه نطر، لأن النجاسة التي تتعلق بالذيل في المشى في المكان القذر تكون رطبة في غالب الأحوال، وهو معلوم بالقطع في عادة الناس، فإخراج الشيء الذي تحقق وجوده قطعا أو غالبا عن عادته الأصلية بعيد. وأما طين الشارع يطهره ما بعده، ففيه نوع من التوسع في الكلام، لأن المقام يقتضي أن يقال: هو معفو عنه،

(3/383)


أو لا بأس به، لكن عدل عنه إلى إسناد التطهير إلى شيء لا يصلح أن يكون مطهرا للنجاسة، فعلم أنه معفو عنه، وهذا أبلغ من الأول –انتهى. (رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود والدارمي) وأخرجه أيضا الشافعي، وابن ماجه، وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال القاضي أبوبكر بن العربي: هذا الحديث مما رواه مالك فصح وإن كان غيره لم يره صحيحا- انتهى. والعلة على ما قيل جهالة المرأة التي روت هذا الحديث عن أم سلمة وهي مدفوعة كما سيأتي. (وقالا) أي: أبوداود والدارمي. (المرأة) أي: السائلة الراوية للحديث. (أم ولد لإبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف) وكذا قال ابن ماجه، وهي تابعية صغيرة مقبولة اسمها حميدة على ما في التقريب. واختيار مالك حديثها وإخراجه في موطئه يدل أيضا على أنها غير مجهولة، لأنه أعرف الناس بأهل المدينة وأشدهم احتياطا في الرواية عنهم، والقول قول من عرف.
507- (15) وعن المقدام بن معديكرب، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس جلود السباع والركوب عليها)). رواه أبوداود، والنسائي.
508- (16) وعن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن جلود السباع)). رواه أحمد، وأبوداود، والنسائي، وزاد الترمذي، والدارمي: أن تفترش.

(3/384)


507- قوله: (نهى عن لبس جلود السباع) بضم اللام، فإنه مصدر لبس يلبس كعلم يعلم، بخلاف فتح اللام فإنه مصدر لبس يلبس كضرب يضرب بمعنى خلط. (والركوب عليها) أي: عن القعود عليها. وفيه وفي حديث أبي المليح الآتي دليل على أنه لا يجوز الانتفاع بجلود السباع من اللبس والركوب، وقيل: قبل الدباغ لأنها نجسة، أو مطلقا إن قيل بعدم طهارة الشعر بالدبغ بناء على أن الدباغ لا يؤثر في الشعر ولا يغيره عن حاله. وإن قيل بطهارته، فالنهي عنها لكونها من دأب الجبابرة وأهل الخيلاء والسرف وعمل المترفهين. وقد استدل بعضهم بحديث المقدام هذا وما في معناه على أن الدباغ لا يطهر جلود السباع، بناء على أنه مخصص للأحاديث القاضية بأن الدباغ مطهر على العموم. قال الشوكاني: وهذا الاستدلال غير ظاهر، لأن غاية ما فيه مجرد النهي عن الركوب عليها وافتراشها. ولا ملازمة بين ذلك وبين النجاسة، كما لا ملازمة بين النهي عن الذهب والحرير ونجاستهما فلا معارضة، بل يحكم بالطهارة بالدباغ مع منع الركوب عليها ونحوه، مع أنه يمكن أن يقال: أن النهي عن جلود السباع أعم من وجه من الأحاديث القاضية بأن الدباغ مطهر على العموم لشمولها لما كان مدبوغا من جلود السباغ وما كان غير مدبوغ – انتهى. (رواه أبوداود) في اللباس في قصة طويلة وسكت عنه. وفيه بقية بن الوليد عن بحير بن سعد. وبقية صدوق كثير التدليس. وروى أحمد (ج1:ص132) طرفا من تلك القصة من حديث بقية عن بحير، وقد صرح فيه بقية بالتحديث. (والنسائي) في الفرع مختصرا من غير ذكر القصة.

(3/385)


508- قوله: (وعن أبي المليح) بفتح الميم وكسر اللام. (بن أسامة) بن عمير أو عامر بن حنيف بن ناجية الهذلي. قيل: اسم أبي المليح عامر، وقيل: زيد، وقيل: زياد، ثقة من أوساط التابعين. مات سنة (98) وقيل: سنة (108) وقيل: بعد ذلك. روى عن جماعة من الصحابة. (عن أبيه) أي: أسامة بن عمير الهذلي البصري، صحابي، له سبعة أحاديث، روى عنه ابنه أبوالمليح فقط، تفرد عنه. (نهى) وفي بعض النسخ: أنه نهي. (عن جلود السباع) أي: عن الانتفاع بها من اللبس والقعود ونحوهما لما فيه من التكبر، أو لأن الشعر نجس لا يقبل الدباغ. (رواه أحمد وأبوداود) في اللباس وسكت عنه. (والنسائي) في الفرع. (وزاد الترمذي) في اللباس. (والدارمي) في الأضاحي، يعني رويا هذا الحديث وزادا فيه (أن تفترش) أي: تبسط ويجلس عليها. قال الترمذي: لا نعلم أحدا قال: عن أبي المليح
509- (17) وعن أبي المليح، أنه كره ثمن جلود السباع. رواه
510- (18) وعن عبدالله بن عكيم، قال: أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أن لا تنتفعوا من الميتة
بإهاب ولا عصب)).
عن أبيه، غير سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، ثم أخرجه الترمذي من حديث شعبة، عن يزيد الرشك، عن أبي المليح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا ، وقال: وهذا أصح. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره، ونظر بعضهم في كلام الترمذي بأن شعبة وإن كان أحفظ وأتقن من سعيد بن أبي عروبة، لكن ابن أبي عروبة لم يتفرد بروايته موصولا بل تابعه عليه يحيى بن سعيد عن قتادة عند الدارمي، ويؤيده أيضا أن البيهقي (ج1:ص21) أخرجه من طريق يزيد بن هارون عن شعبة عن يزيد الرشك موصولا، وقال: رواه غيره عن شعبة عن يزيد عن أبي المليح مرسلا دون ذكر أبيه – انتهى.

(3/386)


509- قوله: (وعن أبي المليح أنه) أي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (كره ثمن جلود السباع) أي: بيعها وشراءها، قاله ابن الملك. قال المظهر: ذلك قبل الدباغ لنجاستها أما بعده فلا كراهة (رواه) أي: مرسلا من غير ذكر عن أبيه، وههنا بياض، وألحق به "الترمذي" قال الطيبي: رواه في كتاب اللباس من جامعه، وسنده وجيه، وكذا قال السيد جمال الدين. وقال الجزري: هذا الأثر سنده جيد. رواه الترمذي في اللباس من جامعه ولفظه: أنه كره، الخ. والظاهر أنهم أرادوا الرواية المرسلة التي حكم الترمذي بكونها أصح من الموصولة، لكن لفظها عنده عن أبي المليح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن جلود السباع، أي: بلفظ "نهى" مكان "كره" وبدون لفظ "ثمن" ولم نقف على من خرج هذه الرواية المرسلة باللفظ الذي ذكره المصنف نقلا عن المصابيح مع عدم مناسبتها لكتاب الطهارة.
510- قوله: (وعن عبدالله بن عكيم) بضم العين وفتح الكاف مصغرا، يكنى أبا معبد الجهني، مخضرم، ثقة، أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تعرف له روية ولا رواية، وقد خرجه غير واحد في عداد الصحابة، والصحيح أنه تابعي من كبار التابعين، سمع كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جهنية، مات في إمرة الحجاج. (أن لا تنتفعوا) أن هذه مفسرة أو مخففة. (ولا عصب) بفتحتين أطناب مفاصل الحيوان، وفي بعض كتب اللغة أطناب منتشرة في الجسم كله، وبها تكون الحركة والحس. ونهى عن الانتفاع به لأن عصب الميتة نجس لأن فيه حياة بدليل تألمه بالقطع. والحديث قد تمسك به من قال: أن الدباغ لا يطهر شيئا من الجلود، فلا ينتفع من الميتة بشيء، سواء دبغ جلدها أو لم يدبغ. وزعم أنه ناسخ للأحاديث القاضية بطهارة جلد الميتة بالدباغ لما ورد في رواية الشافعي وأحمد، وأبي داود: قبل موته بشهر، وفي رواية، بشهر أو شهرين، فصار متأخرا. والجمهور على خلافه، وأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة، محصلها: الإرسال

(3/387)


رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
511- (19) وعن عائشة، رضي الله عنها، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت)). رواه مالك وأبوداود.
لعدم سماع عبدالله بن عكيم من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم الانقطاع لعدم سماع عبدالرحمن بن أبي ليلى من عبدالله بن عكيم. ثم الاضطراب في سنده، فإنه قال تارة: عن كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتارة: عن مشيخة من جهنية. وتارة: عمن قرأ الكتاب. ثم الاضطراب في متنه، فرواه الأكثر من غير تقييد، ومنهم من رواه بتقييد شهر، أو شهرين، أو أربعين يوما أو ثلاثة أيام. ثم الترجيح بالمعارضة لأن حديث الدباغ أكثر وأصح، لأنه روى في تطهير الدباغ خمسة عشر حديثا، منها ما اتفق الشيخان. ثم القول بأن الإهاب كما تقدم من القاموس، اسم لما لم يدبغ في أحد القولين. وقال النضر بن شميل: الإهاب لما لم يدبغ، وبعد الدبغ يقال له: شن، وقربة، وبه جزم الجوهري، فلما احتمل الأمرين وورد الحديثان في صورة المتعارضين جمعنا بينهما بأنه نهى عن الانتفاع بالإهاب مالم يدبغ، فإذا دبغ لم يسم إهابا، فلا يدخل تحت النهي، وهو حسن. وقد بسط تلك الأجوبة الحافظ في التلخيص (ص17) والشوكاني في النيل (ج1:ص61) والأمير اليماني في السبل (ج1:ص42، 41) فارجع إلى هذه الكتب. (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن. قيل: في تحسينه نظر لما في سنده من الاضطراب والإرسال والانقطاع. قال صاحب الإمام: تضعيف من ضعفه ليس من قبل الرجال فإنهم كلهم ثقات، وإنما ينبغي أن يحمل الضعف على الاضطراب. وقد حكى الخلال أن أحمد توقف في حديث ابن عكيم لما رأى تزلزل الرواة فيه. وقال بعضهم: رجع عنه كما ذكره الترمذي. (وأبوداود) وقال: قال النضر بن شميل: يسمى إهابا مالم يدبغ، فإذا دبغ لا يقال له إهاب، إنما يسمى شنا وقربة. (والنسائي) وقال: أصح ما في هذا الباب في جلود الميتة إذا دبغت حديث الزهري عن

(3/388)


عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس، عن ميمونة. (وابن ماجه) وأخرجه أيضا الشافعي، وأحمد، والبخاري في تاريخه، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان.
511- قوله: (أمر) أي: أذن ورخص. (أن يستمتع) على بناء المفعول. (بجلود الميتة) الحديث بإطلاقه يرد على من خص الاستمتاع بها بالأشياء اليابسة، وبالماء من بين سائر المائعات. (إذا دبغت) فيه رد صريح على من أباح الاستمتاع بجلود الميتة وإن لم تدبغ، متمسكا بالروايات المطلقة. (رواه مالك) في كتاب الصيد من مؤطاه. (وأبوداود) في اللباس وسكت عنه، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان كلهم من طريق محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن أمه، عن عائشة. قال المنذري: أم محمد بن عبدالرحمن لم تنسب ولم تسم. قلت: أم محمد هذه قال الحافظ في التقريب: إنها مقبولة، وذكرها ابن حبان في الثقات، واختيار مالك حديثها وإخراجه في مؤطاه يدل على صحته عنده، لأنه أعرف الناس بأهل المدينة وأشدهم احتياطا في الرواية عنهم.
512- (20) وعن ميمونة، قالت: ((مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أخذتم إهابها. قالوا: إنها ميتة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطهرها الماء والقرظ)). رواه أحمد وأبوداود.
513- (21) وعن سلمة بن المحبق، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء في غزوة تبوك على أهل بيت، فإذا قربة معلقة، فسأل الماء، فقالوا: يا رسول الله ! إنها ميتة فقال: دباغها

(3/389)


512- قوله: (يجرون) بضم الجيم يسحبون. (شاة) أي: ميتة. (مثل الحمار) أي: مثل جره، أوفي كونها ميتة منتفخة. (لو أخذتم إهابها) قيل كلمة لو للتمني بمعنى ليت، يعني ليتكم أخذتم. وقيل: كلمة شرط حذف جوابها، أي: لكان حسنا، أو لحل لكم الانتفاع به بعد الدباغ. (يطهرها الماء والقرظ) بفتحتين، ورق السلم يعني يطهرها خلط القرظ بالماء ودباغة الجلد به. قال الخطابي: القرظ شجر يدبغ به الأهب، وهو لما فيه من العفوصة والقبض ينشف البلة، ويذهب الرخاوة ويخفف الجلد ويصلحه ويطيبه، فكل شيء عمل عمل القرظ كان حكمه في التطهير حكمه - انتهى. وقال النووي: يجوز الدباغ بكل شيء ينشف فضلات الجلد، ويطيبه ويمنع من ورود الفساد عليه كالشث، والقرظ، وقشور الرمان، وغير ذلك من الأدوية الطاهرة، ولا يحصل بالشمس إلا عند الحنفية. ولا بالتراب، والرماد والملح على الأصح - انتهى. والحديث دليل على وجوب استعمال الماء في أثناء الدباغ أو بعد الدباغ لإزالة الدرن ووضر الدبغ. وحمله بعضهم على الندب أو على الطهارة الكاملة لعدم اشتراط الماء في الدبغ عنده، وهو خلاف الظاهر. (رواه أحمد) (ج6:ص336). (وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا النسائي والدارقطني وابن حبان، وصححه ابن السكن والحاكم.

(3/390)


513- قوله:(وعن سلمة) بفتح اللام. (بن المحبق) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة المشددة وتفتح. قال في جامع الأصول: المحبق بتشديد الباء المكسورة، وأصحاب الحديث يفتحونها - انتهى. وقال في تهذيب التهذيب (ج4:ص158): قال العسكري في التصحيف عن أحمد بن عبدالعزيز الجوهري: قال ما سمعت ابن شبة وغيره إلا بكسر الباء، قال العسكري: فقلت: إن أصحاب الحديث كلهم يفتحون الباء، فقال: أيش المحبق في اللغة؟ قلت: المضرط. فقال: هل يستحسن أحد أن يسمى ابنه المضرط؟ وإنما سماه المضرط تفاؤلا بأنه يضرط أعداءه كما سموا عمرو بن هند مضرط الحجارة - انتهى. وقيل: هو سلمة بن ربيعة بن المحبق، وأنه نسب إلى جده، جزم به ابن حبان. واسم المحبق صخر بن عبيد. وسلمة هذا يكنى أبا سنان الهذلي البصري، صحابي، له اثنا عشر حديثا، روى عنه ابنه سنان وغيره. (في غزوة تبوك) موضع بين الشام ووادي القرى، والمشهور فيه عدم الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار البقعة، ومن صرفها أراد الموضع. (قربة معلقة) أي:فيها ماء وهي مدبوغة. (إنها) أي:القربة. (ميتة) أي:جلد ميتة دبغ. (دباغها) بكسر
طهورها)). رواه أحمد وأبوداود.
?الفصل الثالث?
514- (22) عن امرأة من بني عبدالأشهل، قالت: قلت يارسول الله ! إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا مطرنا؟ قالت: فقال: ((أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قلت: بلى. قال: فهذه بهذه)). رواه أبوداود.

(3/391)


الدال (طهورها) بفتح الطاء وتضم، أي: مطهرها أو طهارتها. وفي رواية النسائي وغيره: دباغها ذكاتها، بفتح الذال المعجمة، وهي الذبح، والمراد هنا التطهير لأن الذبح يطهر المذبوح ويحل أكله. والحديث قد استدل بإطلاقه على عدم وجوب استعمال الماء في أثناء الدباغ وبعده. قال الخطابي: هذا الحديث يدل على بطلان قول من ذهب إلى أن إهاب الميتة إذا مسه الماء بعد الدباغ ينجس، ويبين أنه طاهر كطهارة المذكى، وأنه إذا بسط وصلى عليه أو خرز منه خف، فصلى فيه جاز. (رواه أحمد) (ج5:ص6، 7 )و (ج3:ص476). (وأبوداود) وأخرجه أيضا الشافعي والنسائي، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي من حديث الجون بن قتادة عن سلمه بن المحبق، وسكت عنه أبوداود. وقال الحافظ: إسناده صحيح. وقال أحمد: الجون لا أعرفه. وبهذا أعله الأثرم. قال الحافظ: قد عرفه غيره. عرفه علي بن المديني وروى عنه الحسن، وقتادة، وصحح ابن سعد، وابن حزم، وغير واحد أن له صحبة وتعقب أبوبكر بن مفوز ذلك على ابن حزم.

(3/392)


514- قوله: (عن امرأة من بني عبدالأشهل) صحابية لم تسم، قاله الحافظ في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمة موسى بن عبدالله بن يزيد الخطمي: روى عن أبيه، وأمه، وأبي حميد الساعدي، وعن امرأة من بني الأشهل لها صحبة. (منتنة) صفة طريق، وهو يذكر ويؤنث، أي: نجسة يعني فيها أثر الجيف والنجاسات. (إذا مطرنا) على بناء المجهول أي: ومررنا على تلك النجاسات بأذيالنا المنسحبة على الأرض. (هي أطيب منها) أي: أطهر بمعنى الطاهر. (فهذه بهذه) أي: ما حصل التنجس بتلك يطهره انسحابه على تراب هذه الطيبة. وهذا الحديث موافق لما تقدم من حديث أم سلمة في الفصل الثاني، وهما يدلان صريحا على أن الذيل المنجس بنجاسة الطريق الرطبة يطهر إذا انسحب على الطريق الطاهرة، واختلط بالتراب الطاهر من الطريق وقت المرور، ولا يصح حمل القذر على اليابس لأنه يأبى عنه قولها، فكيف نفعل إذا مطرنا؟ وكذا لا يصح تخصيص الحديث بالنعل والخف لأنه يبطله حديث أم سلمة المتقدم، ففي الحديثين رد صريح على الأئمة الأربعة وأتباعهم. وقد تأول السندي في حاشية ابن ماجه حديث المرأة الأشهلية هذا بما يمجه السمع ويستكرهه القلب. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. قال الخطابي: الحديث فيه مقال، لأن امرأة من بني عبدالأشهل مجهولة،
515- (23) وعن عبدالله بن مسعود، قال: ((كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نتوضأ من الموطئ))، رواه الترمذي.

(3/393)


والمجهول لا تقوم به الحجة في الحديث - انتهى. قلت: المرأة من بني عبدالأشهل هذه صحابية، ذكرها ابن الأثير الجزري في أسد الغابة، وصرح الحافظ في التقريب وتهذيب التهذيب بكونها صحابية كما تقدم، بل كونها صحابية ظاهر من نفس الحديث، ألا ترى أنها شافهت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسألته بلا واسطة، وقالت: قلت يا رسول الله إن لنا، الخ. وقد تقرر أن جهالة اسم الصحابي ونسبه لا تقدح في كونه صحابيا، ولا تؤثر في صحة الحديث، فالحديث صحيح، وكلام الخطابي ومن تبعه مردود عليه. والحديث أخرجه ابن ماجه أيضا.

(3/394)


515- قوله: (ولا نتوضأ من الموطئ) بفتح الميم وإسكان الواو وكسر الطاء المهملة والهمزة، وقيل: الموطأ بفتح الميم وسكون الواو وفتح الطاء وبالهمزة. قيل: كسر الطاء هو الأصل، والفتح شاذ، وقيل: بل الفتح هو القياس، وهو أعلى وأرجح من الكسر. وارجع للبسط إلى تعليق الترمذي للشيخ أحمد شاكر. قال ابن العربي في شرح الترمذي (ج1:ص237): الموطئ مفعل بكسر العين من وطئ، وهو اسم للموضع، فيكون معناه الوضوء من وطئ الموضع القذر، ويكون بفتحها، والمعنى واحد، وفيه كلام كثير- انتهى. وقال الخطابي في المعالم: الموطئ ما يوطئ في الطريق من الأذى، وأصله الموطؤ. قال العراقي: يحتمل أن يحمل الوضوء على الوضوء اللغوي وهو التنظيف، فيكون المعنى أنهم كانوا لا يغسلون أرجلهم من الطين ونحوها، ويمشون عليه بناء على أن الأصل فيه الطهارة - انتهى. وحمله البيهقي على النجاسة اليابسة، وأنهم كانوا لا يغسلون الأقدام إذا وطئوا على نجاسة يابسة، وإنما كانوا يغسلونها إذا كانت النجاسة رطبة، وهو الذي فهمه الترمذي، وحمل عليه الحديث. وقد نقل ذلك عن غير واحد من أهل العلم. قلت: معنى حديث ابن مسعود هذا قريب من معنى حديث المرأة الأشهلية وحديث أم سلمة، فالظاهر أن يترك حديث ابن مسعود على إطلاقه، ولا يخصص بالنجاسة اليابسة لعدم وجود دليل على هذا التخصيص، فالقدم التي أصابتها الرطبة كالخف والنعل والذيل تطهر إذا مرت على الأرض اليابسة الطاهرة، وزالت النجاسة المتعلقة بالقدم بالتناثر والدلك والمسح، والله أعلم. (رواه الترمذي) فيه نظر ظاهر لأنه لم يروه الترمذي في جامعه، بل ذكره بقوله: وفي الباب عن عبدالله بن مسعود قال: كنا نصلى، الخ. والحديث إنما أخرجه أبوداود، وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه ابن ماجه في الصلاة، والحاكم وصححه، والطبراني في الكبير. قال: الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص285): رجاله ثقات، واللفظ الذي ذكره الترمذي موافق لرواية الحاكم (ج1:ص139)

(3/395)


والطبراني، ولفظ أبي داود: قال عبدالله: كنا لا نتوضأ من موطئ ولا نكف شعرا ولا ثوبا. ولفظ ابن ماجه: قال عبدالله: أمرنا أن لا نكف شعرا ولا ثوبا ولا نتوضأ من موطئ. وكان على المصنف أن يعزو الحديث إلى الثلاثة أو إلى أبي داود على الأقل.
516- (24) وعن ابن عمر قال: ((كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،
فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك)). رواه البخاري.
516- قوله: (كانت الكلاب تقبل وتدبر) من الإقبال والإدبار جملة في محل النصب على الخبرية على أن "كانت" ناقصة، وعلى الحال على أنها تامة بمعنى وجدت. وفي رواية أبي داود والإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي: كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر، بزيادة "تبول" قبل "تقبل وتدبر" والظاهر أن هذه الزيادة محفوظة. (في المسجد) الألف واللام للعهد أي: في مسجد النبي. قال الخطابي: كان إقبالها وإدبارها في أوقات نادرة، ولم يكن على المسجد أبواب تمنع من عبورها فيه. قلت: ويمكن ذلك مع وجود الغلق والأبواب أيضا كما في زماننا. (فلم يكونوا يرشون) في نفى الرش مبالغة ليست في نفى الغسل والصب، لأن الرش ليس جريان الماء بخلاف الغسل، فإنه يشترط فيه الجريان والسيلان، فنفى الرش أبلغ من نفى الغسل والصب. (شيئا) عام لأنه نكرة وقعت في سياق النفي، وهو أيضا يفيد المبالغة في عدم النضح بالماء أي: شيئا من الماء. (من ذلك) أي: من أجل البول والإقبال والإدبار. والحديث فيه دليل على أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفت بالشمس أو الهواء فذهب أثر النجاسة تطهر، إذ عدم الرش يدل على عدم الصب والغسل بالأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك. والحديث مشكل جدا على الشافعية، حيث لم يقولوا: بكون الجفاف مطهرا للأرض، فقال: بعضهم لفظ "تبول" ليس بمحفوظة في الحديث، يدل على كونه غير محفوظ في ترك البخاري هذا اللفظ في روايته. قلت: روى هذا الحديث عبدالله بن أحمد عن

(3/396)


أبيه: ثنا سكن بن نافع الباهلي أبوالحسين: ثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري عن سالم بن عبدالله بن عمر، عن أبيه قال: كنت أعزب شابا، أبيت في المسجد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك. وهذا كما ترى ليس فيه لفظ "تبول" والطريق غير طريق البخاري، فالظاهر أن ترك لفظ "تبول" والاقتصار على تقبل وتدبر من ابن عمر، أو من غيره من الرواة، لا من البخاري، فكان ابن عمر أو غيره يذكر لفظة "تبول" مرة ويتركها أخرى، وكيف ما كان الأمر، فالظاهر أن هذه اللفظة محفوظة. وتأوله ابن المنذر فقال: كانت الكلاب تبول خارج المسجد في مواطنها ثم تقبل وتدبر في المسجد، وكذا قال الخطابي. قلت: هذا خلاف الظاهر، لا يتكلف له إلا المتعصب لرأي إمامه، وهلا قال: كانت الكلاب تبول خارج المسجد وتستنجي هناك ثم تدخل المسجد؟ ومن أكبر موانع هذا التأويل أن قوله في المسجد. ليس ظرفا لقوله: "وتقبل وتدبر" وحده وإنما هو ظرف لقوله: تبول وما بعده كلها، وتقدم شيء من الكلام فيه في شرح حديث صب الماء على بول الأعرابي فتذكر. (رواه البخاري) الحديث أورده البخاري في صحيحه معلقا بصيغة الجزم، فقال: قال أحمد بن شبيب عن أبيه، الخ. قال أبونعيم: رواه البخاري بلا سماع. وقال العيني: ذكره البخاري معلقا, وأورده الحافظ في المقدمة في سياق تعاليقه المرفوعة، فقال: حديث أحمد بن شبيب عن أبيه وصله
517- (25) وعن البراء، قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا بأس ببول ما يؤكل لحمه)).
518- (26) وفي رواية جابر، قال: ((ما أكل لحمه فلا بأس ببوله)) رواه أحمد، والدارقطني.
أبو نعيم والبيهقى، وغيرهما- انتهى. وأخرجه أيضا أحمد في مسنده (ج2:ص 17).

(3/397)


517- قوله: (لا بأس ببول ما يؤكل لحمه) فيه دليل على أن بول ما يؤكل لحمه طاهر، لكن الحديث ضعيف جدا لا يصلح للاستدلال كما ستقف عليه، والعجب من المصنف أنه أورد هذا الحديث الضعيف، ولم يذكر حديث العرنيين وأحاديث الإذن بالصلاة في مرابض الغنم، وهي أحاديث صحيحة، وأصل استدلال القائلين بطهارة بول ما يؤكل لحمه بهذه الأحاديث الصحيحة، ولذلك ذكرها المحدثون في باب طهارة أبوال مأكولات اللحم، فحديث العرنيين، وحديث الإذن بالصلاة في مرابض الغنم يدلان على طهارة أبوال الإبل والغنم نصا، ويقاس عليها غيرها مما يؤكل لحمه. وأما حديث أبي هريرة مرفوعا: استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه. أخرجه ابن خزيمة وغيره، فمحمول على بول الإنسان لا بول سائر الحيوان. وكذا حديث ابن عباس المتفق عليه قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين، فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول- الحديث. المراد به بول الناس لا بول سائر الحيوان، لما في رواية للبخاري: كان لا يستتر من بوله. قال البخاري: ولم يذكر سوى بول الناس- انتهى. فلا يكون في حديث ابن عباس هذا حجة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان. وارجع للبسط والتفصيل إلى الفتح (ج1:ص168) والنيل (ج1:ص49) وأبكار المنن (ص43).

(3/398)


518- قوله: (وفي رواية جابر قال: ما أكل لحمه فلا بأس ببوله رواه) لو قال: رواهما لكان أقرب إلى الصواب، فإنهما حديثان، الأول عن البراء بن عازب، والثاني عن جابر بن عبدالله مرفوعا. (أحمد) ما وجدت الحديث في مسنده لا في مسند البراء ولا في مسند جابر، ولم أر أحدا من أصحاب كتب التخريج والأحكام والجوامع، وشروح الحديث كالحافظ، والزيلعي والسيوطي والهيثمي وعلى المتقي والشوكاني وغيرهم أنه عزاه لأحمد. (والدارقطني) (ص47) في سند حديث البراء سوار بن مصعب، وهو متروك الحديث عند جميع أهل النقل، متفق على ترك الرواية عنه، وفي سند حديث جابر عمرو بن الحصين، عن يحي بن العلاء، وهما أيضا متروكان ذاهبا الحديث. وقال: أحمد في يحي بن العلاء: كذاب، يصنع الحديث. وقال الحافظ في التلخيص (ص16): إسناد كل من الحديثين ضعيف جدا - انتهى. والحديث أخرجه أيضا البيهقي وضعفه، وأخرجه الخطيب في تاريخه عن علي بن أبي طالب بلفظ: لا بأس ببول الحمار، وكل ما أكل لحمه. كذا في كنز العمال (ج5:ص88) وأورد حديث علي هذا ابن الجوزي في الموضوعات، وأقره السيوطي في اللآلئ المصنوعة، ثم ابن عراق في تنزيه الشريعة (ج2:ص66) والشوكاني في الفوائد المجموعة (ص6).
(9) باب المسح على الخفين
?الفصل الأول?
519- (1) عن شريح بن هانئ، قال: سألت: علي بن أبي طالب عن المسح على الخفين، فقال:
((جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم)). رواه مسلم.
520- وعن المغيرة بن شعبة: أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك. قال المغيرة: فتبرز رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(3/399)


(باب المسح على الخفين) أي: باب ذكر أدلة شرعية على ذلك، وما يتعلق به من التوقيت في المسح، وبيان محله، وشرطه، والمسح إصابة اليد المبتلة بالعضو، وإنما عدي بعلى إشارة إلى موضعه، وهو فوق الخف دون داخله وأسفله على ما ورد مخالفا للقياس. والخف نعل من أدم يغطي الكعبين، والجورب لفافة الرجل من أي شيء كان من الشعر، أو الصوف أو الكرباس، أو الجلد ثخينا أو رقيقا إلى ما فوق الكعب يتخذ للبرد. والمسح على الخفين ثابت بالسنة كما سترى. وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته، فجاوزوا الثمانين، ومنهم العشرة. وقال الحسن البصري: حدثني سبعون من الصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كان يمسح على الخفين. أخرجه ابن أبي شيبة. وذكر أبوالقاسم بن منده أسماء من رواه في تذكرته، فكانوا ثمانين صحابيا. وذكر الترمذي والبيهقي في سننهما، وابن عبدالبر في الاستذكار منهم جماعة. قال النووي: أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر سواء كان لحاجة أو لغيرها.

(3/400)


519- قوله: (عن شريح) بالتصغير (بن هانئ) بالهمزة على وزن فاعل، أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبه كنى النبي - صلى الله عليه وسلم - أباه هانئ بن يزيد، فقال: أنت أبوشريح. وشريح من جملة أصحاب علي رضي الله عنه، كذا ذكره المصنف في أسماء رجاله في عداد الصحابة، وقد تقدم أنه مخضرم تابعي، فكأن المصنف تبع ابن عبدالبر في ذكر المخضرمين مع الصحابة. (عن المسح) أي: عن مدته. (ثلاثة أيام ولياليهن) بفتح الياء. (للمسافر ويوما وليلة للمقيم) فيه دليل لما ذهب إليه جمهور العلماء من توقيت المسح بثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، وهو الحق والصواب، لما ورد في التوقيت بذلك أحاديث عن أكثر من عشرة من الصحابة. وإنما زاد في المدة للمسافر لأنه أحق بالرخصة من المقيم لمشقة السفر واختلفوا في ابتداء مدة المسح، فقال كثير من العلماء: إن ابتداء المدة من حين الحدث بعد لبس الخف لا من حين اللبس ولا من حين المسح. ونقل عن أحمد أنه قال: إن ابتداءها من وقت اللبس. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان.
520- قوله:(فتبرز) أي: خرج إلى البراز، وهو الفضاء الواسع فكنوا به عن قضاء الحاجة
قبل الغائط، فحملت معه إداوة قبل الفجر، فلما رجع أخذت أهريق على يديه من الإداوة، فغسل يديه ووجهه، وعليه جبة من صوف، ذهب يحسر عن ذراعيه، فضاق كم الجبة، فأخرج يديه من تحت الجبة، وألقى الجبة على منكبيه، وغسل ذراعيه، ثم مسح بناصيته وعلى العمامة، ثم أهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما،

(3/401)


(قبل الغائط) بكسر القاف وفتح الباء. أي: جانبه لقضاء الحاجة. والغائط هو المكان المطمئن في الفضاء أو المكان المنخفض من الأرض. (فحملت معه) أي: ذاهبا معه. (إداوة) بكسر الهمزة، أي: إناء من ماء أخذ المغيرة من أعرابية صبته له من قربة جلد ميتة دبغته، وأخذ الماء ليتوضأ به لا ليستنجى. (قبل الفجر) أي: قبل صلاة الصبح وبعد طلوع الفجر. (فلما رجع) من قضاء الحاجة. (أخذت) أي: شرعت. (أهريق على يديه من الإداوة) أي: أصب الماء. وفيه دلالة على جواز الاستعانة في الطهارة بصب الماء. (فغسل يديه) أي:كفيه. (ووجهه) لا دلالة فيه على عدم وجوب المضمضة والاستنشاق في الوضوء كما زعم ابن حجر لاحتمال عدم ذكره لهما إما اختصارا أو نسيانا، أو لكونهما داخلين في حد الوجه من وجه على ما حققه في محله، ومع تحقق الاحتمال لا يصح الاستدلال، قاله القاري. قلت: قد وقع ذكر المضمضة والاستنشاق عند البخاري في الجهاد ففيه: أنه تمضمض واستنشق وغسل وجهه. ( وعليه) أي: على بدنه، والواو للحال. (جبة) أي: شامية من جباب الروم. (ذهب) أي: شرع وأخذ، وهو استئناف. (يحسر) من باب ضرب أي: يكشف كميه. (عن ذراعيه) أي: ليغسلهما. (فضاق كم الجبة) بحيث لم يقدر على أن يخرج يديه إلى المرفقين عن كمي الجبة من غاية ضيقهما. (وألقى الجبة) أي: ذيلها. (وعلى العمامة) تحصيلا وتكميلا للاستيعاب الواجب. (ثم أهويت) أي: مددت يدي. وقيل: قصدت الهوى من القيام إلى القعود. وقيل: الإهواء إمالة اليد إلى شيء ليأخذه، أي: انحنيت. (لأنزع خفيه) كأنه لم يكن قد علم برخصة المسح، أو علمها وظن أنه - صلى الله عليه وسلم - سيفعل الأفضل بناء على أن الغسل أفضل، أوجوز أنه لم يحصل شرط المسح وهذا الأخير أقرب لقوله: (دعهما) أي: أتركها ولا تنزعها عن رجلي. ( فإني أدخلتهما) أي: القدمين. (طاهرتين) أي: لبستهما حال كون قدمي طاهرتين. وفيه دليل على أن الشرط لمسح الخفين طهارة القدمين وقت اللبس.

(3/402)


ويلزم منه اشتراط تمام الوضوء عند من يقول بوجوب الترتيب في الوضوء، ولا يلزم عند غيره كما لا يخفى. والراجح هو القول الأول، لقوله: - صلى الله عليه وسلم - " إذا تطهر ولبس خفيه). في حديث أبي بكرة الآني في الفصل الثاني. ولحديث صفوان بن عسال عند أحمد وغيره: قال: أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر- الحديث. ولحديث أنس مرفوعا: إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه فليمسح عليهما- الحديث. أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه. قال الأمير اليماني: تقييد اللبس والمسح ببعد الوضوء دليل على أنه أريد بالطهارة في حديث المغيرة وما في معناه الطهارة المحققة من الحدث الأصغر. (فمسح عليهما) فيه رد على من زعم أن المسح على
ثم ركب فركبت، فانتهينا إلى القوم، وقد قاموا إلى الصلاة ويصلي بهم عبدالرحمن بن عوف، وقد ركع بهم ركعة، فلما أحس بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ذهب يتأخر فأومأ إليه ، فأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى الركعتين معه. فلما سلم، قام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقمت معه، فركعنا الركعة التي سبقتنا)). رواه مسلم.

(3/403)


الخفين منسوخ بآية المائدة لأنها نزلت في غزوة المريسيع، وهذه القصة كانت في غزوة تبوك، وهي بعدها باتفاق، إذ هي آخر المغازي. (فانتهينا) أي: وصلنا. (وقد قاموا إلى الصلاة) أي: صلاة الصبح، جملة حالية. (ويصلي بهم) أي: والحال أنه يصلي إماما لهم. وفي مسلم: وقد قاموا في الصلاة يصلي بهم. (عبدالرحمن بن عوف) بن عبدعوف بن عبدبن الحارث بن زهرة القرشي الزهري أبومحمد المدني، أحد العشرة، ولد بعد الفيل بعشر سنين، وأسلم قديما على يد أبي بكر الصديق، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، وأحد الستة، شهد بدرا والمشاهد كلها، وكان اسمه عبدالكعبة، ويقال: عبدعمرو، فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم -. أصيب يوم أحد، وجرح عشرين جراحة أو أكثر فأصابه بعضها في رجله فعرج. قال الزهرى: تصدق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعة آلاف، ثم بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمس مائة فرس، ثم على خمس مائة راحلة. وكان عامة ماله من التجارة. وأوصى لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم -بحديقة قومت بأربعمائة ألف. ومناقبه كثيرة شهيرة. له خمسة وستون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة. مات سنة (34). وقيل:(33). وقيل(31). قال بعضهم: وله (75) سنة، ودفن بالبقيع. (فلما أحس بالنبي) أي: علم بمجيئة. (ذهب يتأخر) من موضعه ليتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -. (فأومأ إليه) أي: أشار إليه أن يكون على حاله. (فأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى الركعتين معه) أي :اقتدى به في الركعة الثانية. وفيه جواز اقتداء الفاضل بالمفضول، وأن الأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت، فإنهم فعلوها أول الوقت، ولم ينتظروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الإمام الراتب إذا أخر عن أول الوقت استحب للجماعة أن يقدموا أحدهم فيصلي بهم. (فلما سلم) أي: عبدالرحمن. (قام النبي) أي: لأداء ما سبق. فيه أن من سبقه الإمام ببعض الصلاة أتى بما أدرك، فإذا سلم أتى بما بقي عليه،

(3/404)


ولا يسقط ذلك عنه. وفيه إتباع المسبوق للإمام في فعله في ركوعه، وسجوده، وجلوسه، وإن لم يكن ذلك موضع فعله للإمام، وإنما المسبوق إنما يفارق الإمام بعد سلام الإمام. (فركعنا) أي: صلى كل منا منفردا، ويحتمل على بعد أن يكون المعنى: صليت معه مقتديا به في الركعة التي فاتتنا، فيكون دليلا على جواز إمامة المسبوق، ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من الضعف والوهن، لأن ضمير الجمع يكفي له الاشتراك في أصل القضاء، ولا يقتضي ذلك التبعية بحيث أن يكون أحدهما إماما للآخر في قضاء ما فاتتهما من الركعة، ولو سلم فهي واقعة حال تحتمل الخصوصية وغير ذلك. (رواه مسلم) للحديث طرق وألفاظ عند مسلم ليس السياق المذكور من أوله إلى آخره، أي: بتمامه في طريق منها، بل هو مأخوذ مركب من عدة طرق عنده كما لا يخفى على من تأمل في طرقه وألفاظه. وأصل الحديث متفق عليه بين الشيخين وله ألفاظ في الصحيحين، وأبي داود، والنسائي وابن ماجه، أخرجوه مطولا ومختصرا، أورده مسلم في الطهارة والصلاة
?الفصل الثاني?
521- (3) عن أبي بكرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما)). رواه الأثرم في سننه، وابن خزيمة،
والبخاري فيهما، وفي الجهاد، والمغازي، واللباس، وليس في روايته ذكر المسح على الناصية والعمامة، وصلاة عبدالرحمن بن عوف بالناس.

(3/405)


521- قوله: (عن أبي بكرة) بسكون الكاف وبالتاء، هو نفيع - بضم النون وفتح الفاء وسكون الياء - ابن الحارث ابن كلدة - بفتحتين - ابن عمرو الثقفي. وقيل: اسمه مسروح، بمهملات. قيل: تدلى من حصن الطائف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببكرة وأسلم، فكناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي بكرة وأعتقه، فهو من مواليه. كان من خيار الصحابة، ونزل البصرة، وكان ممن اعتزل يوم الجمل وصفين، ولم يقاتل مع واحد من الفريقين. له مائة واثنان وثلاثون حديثا، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بآخر. روى عنه أولاده عبدالرحمن وعبيدالله ومسلم وغيرهم. مات سنة (51) أو (52). (رخص للمسافر) أي: في المسح على الخفين. (إذا تطهر) أي:كل من المسافر والمقيم إذا تطهر من الحدث الأصغر. (فلبس خفيه) أي: لبس خفيه بعد تمام الطهارة، قاله ابن الملك. قال القاري: ولا يشترط التعقيب، فالفاء لمجرد البعدية. وقال الأمير اليماني: ليس المراد من الفاء التعقيب بل مجرد العطف لأنه معلوم أنه ليس شرطا في المسح. وفي رواية ابن ماجه: إذا توضأ ولبس خفيه. قال السندي: ظاهره أنه يلبس خفيه بعد الوضوء. (أن يمسح عليهما) هذا الحديث مثل حديث علي رضي الله عنه في إفادة مقدار المدة للمسافر والمقيم، ومثل حديث أنس وصفوان في شرطية الطهارة أي: الوضوء وقت اللبس، وفيه إبانة أن المسح رخصة لتسمية الصحابي له بذلك. (رواه الأثرم) بفتح الهمزة وسكون المثلثة وفتح الراء، هو أبوبكر أحمد بن محمد بن هانئ الإسكافي الطائي، ويقال: الكلبي، صاحب الإمام أحمد بن حنبل، سمع عفان بن مسلم، وأبا الوليد الطيالسي والقعنبي وأبا نعيم ومسددا وطبقتهم، وصنف التصانيف. حدث عنه النسائي في السنن، وموسى بن هارون، وابن صاعد، وآخرون، وله كتاب في علل الحديث ومسائل أحمد بن حنبل، وكان من أفراد الحفاظ. قال أبوبكر الخلال: كان جليل القدر، حافظا. وقال الخطيب في تاريخه (ج5:ص110): كان الأثرم

(3/406)


ممن يعد في الحفاظ والأذكياء. وقال الذهبي في التذكرة: كان له تيقظ عجيب. قال ابن معين: كان أحد أبويه جنيا. وقال إبراهيم الأصبهاني: الأثرم أحفظ من أبي زرعة الرازي وأتقن. قال الذهبي: أظنه مات بعد الستين ومائتين. وله كتاب نفيس في السنن يدل على إمامته وسعة حفظه. وقال الخطيب: كان الأثرم من أهل إسكاف بني جنيد، وبه مات (وابن خزيمة) بضم الخاء المعجمة فزأي بعدها تحتية مثناة فتاء تأنيث، هو الحافظ الكبير، إمام الأئمة، شيخ الإسلام أبوبكر محمد بن إسحق بن خزيمة السلمي النيسابوري، ولد سنة (223) وعنى بهذا الشأن في الحداثة، انتهت إليه الإمامة والحفظ في عصره بخراسان، حدث عنه الشيخان خارج صحيحهما. قال:الذهبي: كان هذا الإمام فريد عصره. قال أبوحاتم
والدارقطني. وقال الخطابي: هو صحيح الإسناد، هكذا في المنتقى.
522- (4) وعن صفوان بن عسال، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم)).

(3/407)


محمد بن حبان التميمي: ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن، ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها حتى كأن السنن بين عينيه إلا محمد بن إسحق بن خزيمة فقط. وقال الدارقطني: كان ابن خزيمة إماما ثبتا معدوم النظير، وفضائله كثيرة استوعب الحاكم سيرته وأحواله، وقد ذكر شيئا منها الذهبي في التذكرة (ج2:ص287-296) توفي سنة (311) وهو في تسع وثمانين سنة. (والدارقطني. وقال الخطابي) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة نسبة إلى الخطاب، وهو أبوسليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي، صاحب معالم السنن في شرح أبي داود، وإعلام السنن في شرح صحيح البخاري، توفي سنة (388). (هو صحيح الإسناد هكذا في المنتقى) من الأخبار في الأحكام، كتاب مشهور شرحه الشوكاني، وسمى شرحه نيل الأوطار. وهو لمجد الدين أبي البركات عبدالسلام بن عبدالله بن أبي القاسم المعروف بابن تيمية الحنبلي المتوفي سنة (652) وهو جد شيخ ابن القيم تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني المتوفى سنة (728) وارجع لترجمتهما، وكشف أحوال "المنتقى" إلى "إتحاف النبلاء" وأوائل "نيل الأوطار" و"مقدمة تحفة الأحوذي" والحديث أخرجه أيضا الشافعي وابن أبي شيبة وابن حبان وابن الجارود والبيهقي، والترمذي في العلل المفرد، وصححه أيضا الشافعي وابن خزيمة.

(3/408)


522- قوله: (وعن صفوان) بفتح الصاد وسكون الفاء. (بن عسال) بفتح العين. (يأمرنا) ظاهره وجوب المسح، ولكن الإجماع صرفه عن ظاهره، فبقى للإباحة والندب. وقد اختلف العلماء هل الأفضل المسح على الخفين أو نزعهما وغسل القدمين؟ فذهب جماعات من الصحابة، والعلماء بعدهم إلى أن الغسل أفضل لكونه الأصل. قال النووي: صرح أصحابنا بأن الغسل أفضل بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن السنة، كما قالوا في تفضيل القصر على الإتمام. قلت: ويؤيدهم قول أبي بكرة في الحديث السابق: رخص. وذهب جماعة من التابعين إلى أن المسح أفضل لحديث صفوان هذا، ولأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض، وإحياء ما طعن المخالفون فيه أفضل من تركه. (إذا كنا سفرا) بسكون الفاء جمع سافر، كصحب جمع صاحب أي مسافرين. (أن لا ننزع خفافنا) يعني يأمرنا أن نمسح عليهما، والخفاف بكسر الخاء جمع الخف. (إلا من جنابة) أي: فنزعهما ولو قبل مرور الثلاث، وهو استثناء مفرغ تقديره: أن لا ننزع خفافنا من حديث من الأحداث إلا من جنابة، فإنه لا يجوز للمغتسل أن يمسح على الخف، بل يجب عليه النزع، وغسل الرجلين كسائر الأعضاء. (ولكن) عطف على مقدر يدل عليه "إلا من جنابة" وقوله: (من غائط) متعلق بمحذوف تقديره أمرنا أن ننزع خفافنا من جنابة، ولكن لا ننزعهن من غائط. (وبول ونوم) أي: لأجل هذه الأحداث إلا إذا مرت المدة
رواه الترمذي والنسائي.
523- (5) وعن المغيرة بن شعبة، قال: ((وضأت النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فمسح أعلى الخف وأسفله)). رواه أبوداود، والترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث معلول. وسألت أبا زرعة

(3/409)


المقدرة. وقال الخطابي في معالم السنن (ج1:ص62): كلمة لكن موضوعة للاستدراك، وذلك لأنه تقدمه نفي واستثناء، وهو قوله: كان يأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام وليالهن إلا من جنابة. ثم قال: لكن من بول وغائط ونوم. فاستدركه بـ "لكن" ليعلم أن الرخصة إنما جاءت في هذا النوع من الأحداث دون الجنابة، فإن المسافر الماسح على خفه إذا أجنب كان عليه نزع الخف وغسل الرجل مع سائر البدن، وهذا كما تقول: ما جاءني زيد لكن عمرو، وما رأيت زيدا لكن خالدا - انتهي. والحديث فيه دليل على اختصاص المسح على الخفين بالوضوء دون الغسل، وهو مجمع عليه. (رواه الترمذي والنسائي) وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي، والخطابي في معالم السنن. قال الترمذي عن البخاري: إنه حديث حسن، بل قال البخاري: ليس في التوقيت شيء أصح من حديث صفوان بن عسال المرادي. ذكره في سبل السلام (ج1:ص86) وصححه الترمذي، وابن خزيمة والخطابي.

(3/410)


523- قوله: (وضأت النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: سكبت الوضوء على يديه. وقيل: حصلت وضوءه. (فمسح أعلى الخف وأسفله) فيه بيان محل المسح على الخف وأنه أعلاه وأسفله، لكن الحديث فيه كلام كما ستعرف. ولم أقف في المسح على ظاهر الخف وباطنه على حديث مرفوع صحيح خال عن الكلام، وقد ثبت عن علي والمغيرة مرفوعا بإسناد جيد مسح الخفين على ظاهرهما فقط، كما سيأتي، فالراجح أن محل المسح هو أعلى الخف دون أسفله. (رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد وابن الجارود والدارقطني والبيهقي كلهم من طريق الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة، عن المغيرة. وفي رواية ابن ماجه: عن وراد كاتب المغيرة، عن المغيرة. (وقال الترمذي: هذا حديث معلول) هذا لحن على طريق أهل اللغة لأنه من عله بالشراب إذا سقاه مرة بعد أخرى. ويقال له: المعلل، أيضا. والأجود فيه أن يقال: معل بلام واحدة لأنه مفعول أعل قياسا، وأما معلل فمفعول علل وهو لغة بمعنى ألهاه بالشيء وشغله. والحديث المعلل أو المعل ما اطلع فيه على علة غامضة خفية تقدح في صحته مع ظهور السلامة، يتنبه لها الحذاق المهرة من أهل هذا الشأن، كإرسال في الموصول، ووقف في المرفوع، ونحو ذلك. وحديث المغيرة هذا قد بين الترمذي علته بقوله: لم يسنده أي: لم يروه متصلا عن ثور بن يزيد غير الوليد بن مسلم (وسألت أبازرعة) هو
ومحمدا يعني البخاري، عن هذا الحديث، فقالا: ليس بصحيح، وكذا ضعفه أبوداود.

(3/411)


عبيدالله بن عبدالكريم بن يزيد بن فروخ أبوزرعة الرازي القرشي مولاهم، إمام حافظ ثقة مشهور، عن خلق كثير وعنه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو حاتم وآخرون. قال الخطيب: كان إماما ربانيا حافظا مكثرا. وقال الذهبي: سمع خلقا كثيرا بالحرمين، والعراق، والشام، والجزيرة، وخراسان، ومصر. وكان من أفراد الدهر حفظا، وذكاء، ودينا، وإخلاصا، وعلما، وعملا. وقال ابن حبان في الثقات: كان أحد أئمة الدنيا في الحديث مع الدين والورع، والمواظبة على الحفظ والمذاكرة، وترك الدنيا وما فيه الناس. مات في آخر يوم من سنة (264) وله أربعون ستون سنة. وقد بسط ترجمته الذهبي في التذكرة (ج2:ص136-138) والحافظ في تهذيب التهذيب (ج7:ص30-33) والشيخ في مقدمة شرح الترمذي (ص229). (ومحمدا يعني البخاري عن هذا الحديث، فقالا ليس بصحيح) لأن ابن المبارك روى هذا عن ثور عن رجاء، قال: حدثت عن كاتب المغيرة مرسلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر فيه المغيرة. (وكذا ضعفه أبوداود) قال: بلغني أنه لم يسمع ثور هذا الحديث من رجاء، وهذا خلاف ما علل به أبوزرعة والبخاري، أن رجاء لم يسمعه من كاتب المغيرة. قلت: وضعفه أيضا الشافعي وأحمد وأبوحاتم وموسى بن هارون والدارقطني، وغيرهم. واعلم أنه أعل هذا الحديث بخمس علل: الأولى: تدليس الوليد بن مسلم، وهي مدفوعة بأن الوليد قال: حدثنا ثور، كما في رواية ابن ماجه، وفي رواية الترمذي أخبرني ثور، فلا تدليس. والثانية: أن ثورا لم يسمعه من رجاء، فإنه قال: حدثت عن رجاء، كما ذكره الأثرم عن أحمد. وأجيب عنها بأن الدارقطني والبيهقي، روياه من طريق داود بن رشيد، وهو ثقة، ثنا الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد: ثنا رجاء بن حيوة. فقد صرح ثور في هذه الرواية بالسماع من رجاء، فزالت العلة. قال الحافظ: لكن رواه أحمد بن عبيد الصفار في مسنده عن أحمد بن يحيى، عن الحلواني، عن داود بن رشيد، فقال عن رجاء، ولم

(3/412)


يقل: حدثنا رجاء، فهذا اختلاف على داود يمنع القول بصحة وصلة مع ما تقدم في كلام الأئمة - انتهى. الثالثة: الإرسال، فقد رواه ابن المبارك عن ثور مرسلا لم يذكر المغيرة، وأجيب عنها بأن الوليد بن مسلم ثقة، فإن خالفه ابن المبارك في هذه الرواية فإنما زاد أحدهما من الآخر، وزيادة الثقة مقبولة، ولم يتفرد الوليد بذكر المغيرة بل تابعه على ذلك إبراهيم بن أبي حبيبة عند الشافعي في الأم ومحمد بن عيسى بن سميع على ما ذكره الدارقطني في العلل، فقد روياه عن ثور مثل الوليد بن مسلم. والرابعة: أن رجاء لم يسمعه عن كاتب المغيرة، فإنه قال: حدثت عن كاتب المغيرة. كما تقدم. والخامسة: جهالة كاتب المغيرة وهي مدفوعة بما في رواية ابن ماجه من تصريح اسمه بأنه وراد. قلت: الظاهر أن حديث المغيرة هذا ضعيف، فإن العلة الرابعة عقيمة عن الجواب، وهي مؤثرة وحدها في صحة الحديث. وأما ما ذكر من متابعة إبراهيم بن أبي حبيبة، ومحمد بن عيسى بن سميع لثور ففيه أن ابن أبي حبيبة هذا قد ضعفه عامة المحدثين، ووثقة تلميذه الشافعي فقط، ومحمد بن عيسى وإن كان صدوقا لكنه يخطئ ويدلس.
524- (6) وعنه، أنه قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين على ظاهرهما)). رواه الترمذي، وأبوداود.
525- (7) وعنه، قال: ((توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسح على الجوربين والنعلين)). رواه أحمد، والترمذي، وابوداود، وابن ماجه.
524- قوله: (على ظاهرهما) أي: على أعلاهما، فيه دليل على أن محل المسح أعلى الخفين وظاهرهما، لا غير. (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن. (وأبوداود) وسكت عنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وقال: الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح. والحديث أخرجه أيضا البخاري في التاريخ الأوسط والطيالسي والبيهقي. وفي الباب أيضا عن عمر بن الخطاب عند ابن أبي شيبة والبيهقي، قاله الشوكاني.

(3/413)


525- قوله: (ومسح على الجوربين) تثنية جورب، وهو لفافة الرجل، وقيل: غشاء للقدم من صوف أو شعر أو كرباس، أو جلد، ثخينا كان أو رقيقا إلى نحو الساق. (والنعلين) أي: مع النعلين، تثنية النعل، وهو ما وقيت به القدم من الأرض كالنعلة، قاله في القاموس. وقال الجزري: النعل مؤنثة، وهي التي تلبس في المشى، تسمى الآن تاسومة – انتهى. والمعنى النعلين لبسهما فوق الجوربين، فمسح على الجوربين والنعلين معا، وكان قاصدا بمسحه ذلك إلى جوربيه لا إلى نعليه، فكان مسحه على الجوربين هو الذي تطهر به، ومسحه على النعلين فضل. هذا حاصل ما قاله الخطابي والطحاوي وابن القيم والطيبي وقيل في معناه غير ذلك، والصواب ما قال: هؤلاء الأئمة. وفي الحديث دليل على جواز مسح الجورب من أي: شيء كان ثخينا أو رقيقا، لأنه ورد في الحديث مطلقا غير مقيد بوصف التجليد، أو التنعيل، أو الصفافة والثخونة من كرباس، أو صوف، أو شعر أو جلد، لكن الحديث قد تكلم فيه الأئمة كما سيأتي. وفي الباب عن أبي موسى أخرجه ابن ماجه والطحاوي والبيهقي وهو ضعيف، وعن بلال أخرجه الطبراني وغيره، وفيه أيضا ضعف، نعم قد صح المسح على الجوربين عن كثير من الصحابة، ذكر أسماءهم أبوداود في سننه. وقد أشبع شيخنا الكلام على هذه المسألة في شرح الترمذي (ج1:ص100-104) وابن حزم في المحلي (ج2:ص84-87) فارجع إليهما. والراجح عندي أن الجوربين إذا كان ثخينين بحيث يستمسكان على القدمين بلا شد ويمكن المشي فيهما يجوز المسح عليهما لأنهما في معنى الخفين، وإن لم يكونا كذلك ففي جواز المسح عليهما عندي تأمل، عملا بقوله: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. ومن اطمئن قلبه بعد إمعان النظر في المسألة بإطلاق القول في المسح عليهما فهو وشأنه. (رواه أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضا البيهقي، وابن حبان في صحيحه، كلهم من حديث أبي قيس، عن هزيل بن شرجيل عن المغيرة. والحديث قد صححه الترمذي، وضعفه

(3/414)


كثير من الأئمة مثل سفيان الثوري، وعبدالرحمن بن مهدى وأحمد
?الفصل الثالث?
526- (8) عن المغيرة، قال: ((مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين. فقلت: يا رسول الله! نسيت؟ قال: بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عزوجل)). رواه أحمد، وأبوداود.
527- (9) وعن علي، قال: لو كان الدين بالرأي: لكان أسفل الخف
ابن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني ومسلم بن الحجاج، وأبي داود، والنسائي، والبيهقي، والنووي. وحاصل ما ضعفوه به أن المعروف عن المغيرة حديث المسح على الخفين، وأن هزيل بن شرجيل رواه عن المغيرة فقال: مسح على الجوربين، فخالف جميع الناس الذين رووا عن المغيرة المسح على الخفين. قلت: قال الشيخ تقي الدين في الإمام: ومن يصححه يعتمد على كونه ليس مخالفا لرواية الجمهور مخالفة معارضة، بل هو أمر زائد على ما رووه ولا يعارضه، ولا سيما وهو طريق مستقل برواية هزيل عن المغيرة لم يشارك المشهورات في سندها. وقال غيره: مخالفة هزيل للناس إنما تضر إذا كان ما رووه حكاية عن فعل وقت واحد، وأما إذا كان حكاية عن وضوءين مختلفين وقعا في وقتين مختلفين، فلا يضره الرواية المعروفة عن المغيرة في المسح على الخفين، لأنهما حديثان مختلفان، وروايتان عن حادثتين مختلفتين، والمغيرة صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو خمس سنين، فلا بعد في أن يشهد من النبي وقائع متعددة يحكيها، فيسمع بعض الرواة منه شيئا، ويسمع غيره شيئا آخر.

(3/415)


526- قوله: (نسيت) يحتمل تقدير همزة الاستفهام وتركه. (قال) أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نسيت. (بل أنت نسيت) أي: إني مشرع حيث نسبت إلى النسيان. (بهذا أمرني ربي) ففعلي عمد، أو المعنى تركت الأدب حيث جزمت بنسبة النسيان إلي، فيكون قوله: بل نسيت. معناه أخطأت، ويكون من باب المشاكلة، ومعنى قوله: بهذا. أي: بالمسح أمرني. أي: أمر إباحة وندب. ربي أي: بالوحي الغير المتلو. وقيل: فيه إشارة إلى أن المسح على الخفين ثابت بالكتاب أيضا أي: على قراءة الجرفي ?أرجلكم?. (رواه أحمد وأبوداود) قال الشوكاني: الحديث إسناده صحيح، ولم يتكلم عليه أبوداود، ولا المنذري في تخريج السنن ولا غيرهما. قلت: في سنده بكير بن عامر البجلى، قال:الحافظ في التقريب: ضعيف - انتهى. وضعفه يحيى بن معين والنسائي وأبو زرعة وأحمد في رواية. ووثقه ابن سعد والحاكم والعجلي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: أبوداود: ليس بالمتروك.
527- قوله:(لو كان الدين بالرأي) أي: بالقياس، وملاحظة المعاني دون الرواية والنقل (لكان أسفل الخف)
أولى بالمسح أعلاه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه. رواه أبوداود، وللدارمي معناه.
(10) باب التيمم

(3/416)


لقربة من القاذورات والأوساخ. (أولى بالمسح من أعلاه) أي: ما تحت القدمين أولى بالمسح من الذي هو على أعلاهما، لأنه الذي يباشر المشي ويقع على ما ينبغي إزالته، بخلاف أعلاه، وهو ما على ظهر القدم. (يمسح على ظاهر خفيه) أي: على أعلاهما دون أسفلهما يعني فلا يعتبر بالرأي والقياس الذي هو على خلاف فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واعلم أن العقل الكامل تابع للشرع لأنه عاجز عن إدراك الحكم الإلهية، فعليه التعبد المحض بمقتضى العبودية، وما ضل من ضل من الكفرة، والحكماء، والمبتدعة وأهل الأهواء إلا بمتابعة العقل، وترك موافقة النقل. والحديث نص على المسح المشروع هو مسح ظاهر الخف أي: أعلاه دون باطنه أي: أسفله. (رواه أبوداود) بإسناد حسن، قاله الحافظ في بلوغ المرام. وقال في التلخيص: إسناده صحيح. (وللدارمي) جار ومجرور خبر مقدم مبتدأه. (معناه) أي: معنى هذا الحديث دون لفظه. وأعلم أن الأحاديث المذكورة في الباب ليس فيها تعرض للقدر المجزئ من المسح، نعم قد روى عن علي رضي الله عنه أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر الخف خطوطا بالأصابع. قال النووي في شرح المهذب: إنه حديث ضعيف وروى عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - أرى بعض من علمه المسح أن يمسح بيده من مقدم الخفين إلى أصل الساق مرة، وفرج بين أصابعه. أخرجه الطبراني في الأوسط، وعزاه ابن الجوزي في التحقيق إلى رواية ابن ماجه. قال الحافظ: هو في بعض نسخ ابن ماجه دون بعض. وقد استدركه المزى على ابن عساكر في الأطراف، وإسناده ضعيف جدا - انتهى. وقد عرفت من هذا أنه لم يرد في الكيفية والكمية حديث يعتمد عليه إلا حديث علي والمغيرة في بيان محل المسح. قال الأمير اليماني: والظاهر أنه إذا فعل المكلف ما يسمى مسحا على لغة أجزأه - انتهى.

(3/417)


(باب التيمم) قال الله تعالى: ?إن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن يريد ليطهركم?الآية [6:5]. والتيمم في اللغة القصد، وفي الشرع: القصد إلى الصعيد الطيب لمسح الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة ونحوها. وهو من خصائص هذه الأمة نصا وإجماعا. واختلف هل التيمم عزيمة أورخصة؟ وفصل بعضهم، فقال: هو لعدم الماء عزيمة، وللعذر رخصة. قال الشاه ولي الله: لما كان من سنة الله في شرائعه أن يسهل عليهم كل ما لا يستطيعونه وكان أحق أنواع التيسير أن يسقط ما فيه حرج إلى بدل لتطمئن نفوسهم، ولا تختلف الخواطر عليهم بإهمال ما التزموه غاية الالتزام مرة واحدة ولا يألفوا ترك الطهارات أسقط الوضوء والغسل
?الفصل الأول?
528- (1) عن حذيفة، قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا،

(3/418)


في المرض والسفر إلى التيمم، ولما كان ذلك كذلك نزل القضاء في الملأ الأعلى بإقامة التيمم مقام الوضوء والغسل، وحصل له وجود تشبيهي أنه طهارة من الطهارات، وهذا القضاء أحد الأمور والعظام التي تميزت به الملة المصطفوية من سائر الملل، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: جعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء. قال: إنما خص الأرض لأنها لا تكاد تفقد، فهي أحق ما يرفع به الحرج، ولأنها طهور في بعض الأشياء كالخف والسيف بدلا عن الغسل بالماء، ولأن فيه تذللا بمنزلة تعفير الوجه في التراب، وهو يناسب طلب العفو، وإنما لم يفرق بين بدل الغسل والوضوء، ولم يشرع التمرغ لأن من حق ما لا يعقل معناه بادي الرأي: أن يجعل كالمؤثر بالخاصية دون المقدار، فإنه هو الذي اطمأنت نفوسهم به في هذا الباب، ولأن التمرغ فيه بعض الحرج فلا يصلح رافعا للحرج بالكلية. وفي معنى المرض البرد الضار لحديث عمرو بن العاص، والسفر ليس بقيد، إنما هو صورة لعدم وجدان الماء يتبادر إلى الذهن. وإنما لم يؤمر بمسح الرجل بالتراب لأن الرجل محل الأوساخ، وإنما يؤمر بما ليس حاصلا ليحصل التنبه – انتهى. وقد يظن من لا يفقه أغراض الشريعة الإسلامية أن التراب قد يكون ملوثا بالميكروبات الضارة أي: جراثيم الأمراض، فمسح الوجه به ضرر لا نفع فيه. والذي يقول لم يفهم معني التيمم، ولم يدرك الغرض منه لأن الشارع قد اشترط أن يكون التراب طاهرا نظيفا، ولم يشترط أن يأخذ التراب ويضعه على وجهه، بل المفروض هو أن يأتي بكيفية خاصة تبيح له العبادة الموقوفة على الوضوء والغسل.كذا في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة.

(3/419)


528- قوله: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) متحدثا بنعمة الله ومبينا لأحكام شرعه. (فضلنا على الناس) بصيغة المجهول مشددا أي: فضلنا الله على جميع الأمم السالفة، وحذف الفاعل للعلم. (بثلاث) أي: بثلاث خصال لم تكن لهم واحدة منها، ومفهوم العدد غير مراد، لأنه قد ثبت أنه فضل بأكثر من ذلك. وقيل: كان تنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - خصائص أمته شيئا فشيئا، فيخبر عن كل نزل عليه عند إنزاله بما يناسبه. وقد عد السيوطي خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيها خصائص أمته أيضا في "خصائصه الكبرى" زيادة عن المائتين، وهذا إجمال، فصله قوله: (جعلت صفوفنا) أي: وقوفنا في الصلاة. (كصفوف الملائكة) أي: في الطاعة، أو في الصلاة، وهي أنهم يتمون المقدم، ثم الذي يليه من الصفوف، ثم يراصون الصفوف، كما ورد التصريح بذلك في سنن أبي داود وغيره. بخلاف الأمم الماضية، فإنهم كانوا يقفون في الصلاة كيف ما اتفق. (مسجدا) أي: موضع سجود لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، وهذه لم تكن لغير أمته - صلى الله عليه وسلم - كما صرح به في رواية عمرو بن شعيب عند أحمد: وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم. وفي رواية ابن عباس عند البزار:
وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء)).

(3/420)


ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه. (وجعلت تربتها) أي: ترابها كما في حديث علي عند أحمد والبيهقي. والتراب أعم من أن يكون سبخا أو غيره لأن المدينة سبخة، وقد كانوا يتيممون منها. (لنا طهورا) أي: مطهرا. فيه دليل على أن التراب يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في الطهورية. (إذا لم نجد الماء) هذا القيد قرآني معتبر في الأحاديث المطلقة. واستدل بالحديث على أن التراب متعين للتيمم دون بقية الجامدات من أجزاء الأرض كالحجر، والكحل، والزرنيخ، والجص، والنورة، والإثمد، والمرجان، والآجر، والملح معدنيا كان أو مائيا، وكالحديد والنحاس والصفر والذهب والفضة، ونحوها مما يذاب بالنار متميزا عن التراب. قال الحافظ: دل الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجدا دون الآخر على الافتراق في الحكم، أي: بتعين التراب للتيمم دون السجود، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا كما وقع في حديث جابر عند الشيخين بلفظ: وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا – انتهى. وقال الشوكاني في السيل الجرار: ومما يعين التراب ويقيد أنه المراد أن جماعة من أهل اللغة كصاحب القاموس وغيره فسروا الصعيد بالتراب، وما صعد على وجه الأرض، فجعلوا التراب أحد معنى الصعيد، فالروايات المصرحة بالتراب هي معينة لأحد معنى الصعيد انتهى. وقال العلامة القنوجي في تفسير سورة النساء من فتح البيان (ج2:ص228) بعد ذكر حديث حذيفة هذا ما لفظه: فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية، أو مخصص لعمومه، أو مقيد لإطلاقه. ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد أي: خذ من غباره - انتهى. والحجر الصلد لا غبار عليه. قلت: ويقوى كون المراد التراب قوله تعالى في المائدة: ?فامسحوا بوجوهكم وأيدكم منه? [6:5] وذلك أن كلمة "من" للتبعيض كما قال في الكشاف حيث قال: إنه لا يفهم أحد من العرب قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن التراب، إلا معنى التبعيض والتبعيض لا

(3/421)


يتحقق إلا في المسح بالتراب لا من الحجارة ونحوها. وأيضا التنصيص على التراب في الأحاديث يدل على أن ذلك البعض هو التراب. قال الشوكاني في السيل الجرار: ولا يعارض هذا تيممه - صلى الله عليه وسلم - من الحائط، فإنه لم يرو أنه كان معمورا من الحجر، بل الظاهر أنه معمور بالطين، وإذا كان كذلك فالضرب فيه لا يبعد أن يعلق باليد من تربته ما له أثر يمسح به. وقد أخرج الشافعي أنه حته أي: الحائط الذي تيمم منه، وقد أخرج هذه الزيادة البيهقي من طريق الشافعي، ثم قال: وفي إسنادها يعني هذه الزيادة إبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي، عن أبي الحويرث- وهو متكلم فيهما - عن الأعرج، عن أبي الصمة، وهو يعني الأعرج لم يسمع منه – انتهى. قلت: ويلتحق بالتراب الرمل، فيجوز التيمم به أيضا كالتراب. قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1:ص51): صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: حيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة، فعنده مسجده وطهوره. وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل له طهور. ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم، وماءهم في غاية القلة، ولم يرو عنه أنه حمل معه التراب ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه مع القطع بأن في المفاوز الرمال أكثر من التراب، وكذلك أرض الحجاز وغيره.
رواه مسلم.
529- (2) وعن عمران، قال: ((كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته، إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم، فقال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟). قال: أصابتني جنابة، ولا ماء. قال: عليك بالصعيد، فإنه يكفيك)). متفق عليه.
530- (3) وعن عمار، قال: ((جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت، فلم أصب الماء.

(3/422)


ومن تدبر هذا قطع بأنه كان تيمم بالرمل- انتهى. هذا والخصلة الثالثة مبهمة، وقد بينها ابن خزيمة والنسائي وهي: وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرض، يشير إلى ما حطه الله عن أمته من الإصر وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا ابن خزيمة والنسائي.
529- قوله: (كنا في سفر) أي: عند رجوعهم من خيبر، أو الحديبية، أو في طريق مكة، أو بطريق تبوك. (فصلى بالناس) أي: إماما لهم. (فلما انفتل) أي: انصرف وفرغ. (إذا هو) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مبتدأ خبره قوله: (برجل) لم يسم، وقيل: هو خلاد بن رافع أخو رفاعة، ولكن وهموا قائله. (معتزل) أي: منفرد عن القوم، خارج من بينهم، واقف في ناحية. والجملة جواب لما، أي: فلما انفتل فاجأه رؤية رجل معتزل غير مصل. (ولا ماء) موجود بالكلية. وماء بفتح الهمزة، ويحتمل أن تكون لا ههنا بمعنى ليس، فيرتفع الماء حينئذ، ويكون المعنى ليس ماء عندي. (عليك بالصعيد) اسم فعل بمعنى خذ والزم، والباء زائدة، واللام للعهد المذكور في الآية. (فإنه) أي: الصعيد. (يكفيك) أي: لصحة الصلاة، ويجزئك عن الماء عند عدمه. والحديث نص في جواز التيمم للجنب، وهو مجمع عليه، لم يخالف فيه أحد من الخلف ولا من السلف إلا ما جاء عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود، وحكى مثله عن إبراهيم النخعي من عدم جوازه للجنب. وقيل: إن عمر وعبدالله رجعا عن ذلك، وقد جاءت في جوازه للجنب الأحاديث الصحيحة. واستدل بالحديث على كون التيمم طهارة مطلقة. قال الحافظ: احتج البخاري لعدم وجوب التيمم لكل صلاة بعموم قوله: - صلى الله عليه وسلم - عليك بالصعيد، فإنه يكفيك. قال: وهذه المسألة وافق فيها البخاري الكوفيين والجمهور – انتهى. قلت: وهو الراجح عندي. (متفق عليه) أخرجه البخاري في التيمم، وفي علامات النبوة، ومسلم في الصلاة مطولا، وأخرجه أيضا النسائي في الطهارة مختصرا.

(3/423)


530- قوله: (وعن عمار) فيه: أن الذي وقع في الصحيحين وغيرهما أن عبدالرحمن بن أبزى هو الذي روى أول القصة، أعنى قوله: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب. فقال: إن أجنبت، فلم أصب الماء. فهذا القدر إنما هو رواية عبدالرحمن دون عمار، فالصواب أن يقول المصنف: عن عبدالرحمن بن أبزى بدل عن عمار، ويدل على ما قلنا قوله: فقال: عمار لعمر. (جاء رجل) لم يسم. (إني أجنبت) أي: صرت جنبا. (فلم أصب الماء) من الإصابة أي: لم أجده، فقال
فقال عمار لعمر: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت؟ فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه.

(3/424)


عمر: لا تصل حتى تجد الماء. (في سفر) ولمسلم: في سرية، وزاد: فأجنبنا. (أنا وأنت) تأكيد وبيان لضمير كنا، فالمعنى فأجنبنا كلنا. (فأما أنت فلم تصل) لأنه كان يتوقع الوصول إلى الماء قبل خروج الوقت، أو لاعتقاد أن التيمم إنما هو عن الحديث الأصغر لا الأكبر، وهذا هو الأظهر، وقاس عمار الحدث الأكبر على الأصغر. (فتمعكت) أي: تمرغت وتقلبت في التراب، كأنه ظن أن إيصال التراب إلى جميع الأعضاء واجب في تيمم الجنابة كإيصال الماء في غسلها. وبه يظهر أن المجتهد يخطئ ويصيب. (فذكرت ذلك) أي: ما ذكر من امتناع عمر عن الصلاة، وتمعكي في التراب. (إنما كان يكفيك هذا) مجمل تفسيره. (فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض) فيه أن تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لعمار كيفية التيمم كان بالفعل، والرواية الآتية تدل على أنه كان بالقول. قال القاري: والجمع بين الحديثين: أنه عليه الصلاة والسلام جمع في التعليم بين القول والفعل تأكيدا للإعلام وتنبيها على الإهتمام. (ونفخ فيهما) يحتمل أن يكون النفخ لشيء علق بيده خشي أن يصيب وجهه الكريم، أو علق بيده من التراب شيء له كثرة، فأراد تخفيفه لئلا يبقى له أثر في وجهه. (ثم مسح بهما وجهه وكفيه) أي: ظاهرهما. والحديث فيه دليل على أنه يكفي في التيمم ضربة واحدة، ويكفي في اليدين مسح الكفين، وأن الآية مجملة بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتصار على الكفين. والاكتفاء بالضربة الواحدة، وبمسح الراحتين وظاهر الكفين، هو مذهب جمهور العلماء، وأهل الحديث عملا بحديث عمار هذا، فإنه أصح حديث في الباب، كما أقر به التوربشتي والخطابي وابن دقيق العيد وغيرهم قال الشيخ عبدالحى اللكنوي: أقوى الأقوال فيه من حيث الدليل هو الاكتفاء بمسح اليدين إلى الرسغين لما ثبت في روايات حديث عمار الصحيحة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه كيفية التيمم حين بلغه تمعكه في التراب، واكتفى فيه على مسح الوجه

(3/425)


والكفين – انتهى. وقال الحافظ في الفتح: - وما أحسن ما قال!- إن الأحاديث الواردة في التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم، وعمار. وما عداهما، فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه، والراجح عدم رفعه. فأما حديث أبي جهيم فورد بذكر اليدين مجملا، وأما حديث عمار فورد بذكر الكفين في الصحيحين، وبذكر المرفقين في السنن، وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الآباط. فأما رواية المرفقين، وكذا نصف الذراع، ففيهما مقال، وأما رواية الآباط أي الآتية في الفصل الثالث، فقال الشافعي وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكل تيمم صح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده فهو ناسخ له، وإن كان بغير أمره فالحجة فيما أمر به. ومما يقوى رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار يفتى بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد - انتهى.
رواه البخاري.
ولمسلم نحوه، وفيه قال: ((إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك)).

(3/426)


وقال الشوكاني في السيل الجرار: إن جميع الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا ضربة واحدة للوجه والكفين فقط. وجمع ما ورد في الضربتين أو كون المسح إلى المرفقين لا يخلو عن ضعف يسقط به عن درجة الاعتبار، ولا يصلح للعمل عليه، حتى يقال: إنه مشتمل على زيادة، والزيادة يجب قبولها، فالواجب الاقتصار على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة - انتهى. قال ابن رشد في البداية: إن الصواب هو أن يعتقد أن الفرض إنما هو الكفان فقط، وذلك أن اسم اليد لا يخلو أن يكون في الكف أظهر منه في سائر الأجزاء، أو يكون دلالته على سائر أجزاء الذراع والعضد بالسواء، فإن كان أظهر فيجب المصير إليه على ما يجب المصير إلى الأخذ بالظاهر، وإن لم يكن أظهر، فيجب المصير إلى الأخذ بالأثر الثابت، فأما أن يغلب القياس ههنا على الأثر فلا معنى له، ولا أن ترجح به أيضا أحاديث لم تثبت بعد، فالقول في هذه المسألة بين من الكتاب والسنة - انتهى. وفي الحديث أن مسح الوجه واليدين بدل في الجنابة عن كل البدن، وإنما لم يأمر عمارا بالإعادة لأنه عمل أكثر مما كان يجب عليه في التيمم. (رواه البخاري) أي: بهذا اللفظ في "باب هل ينفخ في يديه بعد ما يضرب بهما الصعيد للتيمم" وأخرجه أيضا مسلم كما ذكره المصنف والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه بألفاظ مطولا ومختصرا.

(3/427)


قوله: (إنما يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ثم تنفخ) الخ. فيه رد صريح على من أجاب عن رواية عمار المتقدمة بأن تعليمه له وقع بالفعل، وقد ورد في الأحاديث القولية المسح إلى المرفقين، ومن المعلوم أن القول مقدم على الفعل. ووجه الرد أن رواية مسلم هذه تدل صريحا على أن التعليم وقع بالقول أيضا، كما يدل على ذلك ما وقع في رواية للبخاري: يكفيك الوجه والكفان. وقد تفوه بعض أهل الأهواء أن قوله: يكفيك الوجه والكفان، لعله رواية بالمعنى، وحكاية للفعل بالقول، وإنما كان أشار إليه كما في الرواية المارة؛ إنما كان يكفيك هكذا، وكانت تلك إشارة إلى المعهود. وقال تلميذه الذي لا يتحاشى مثل شيخه عن استطالة اللسان على فقهاء أصحاب الحديث وإساءة الأدب في شأنهم نصرة لقول هذا البعض، والقرينة على أن الأصل في روايته هو التعليم بالإشارة، وأن التعليم بالقول رواية بالمعنى، ما عنه عند البخاري: فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، الخ. ففيه ذكر التعليم القولي مع فعله - صلى الله عليه وسلم - بالكفين، فلما كان ذكر الكفين جرى في ذيل فعله، وكان بيانا لقوله: أخذ بعض الرواة في بيان القول، ثم رفعه - انتهى. قلت: من عادة هؤلاء المشغوفين بآراء الرجال والأقيسة والأهواء أنهم إذا رأوا حديثا مرفوعا صحيحا مخالفا لقول إمامهم اشمأزوا منه، واخترعوا لرده تأويلات متبجحين بها، فتارة يجعلونه منسوخا، وأخرى رواية بالمعنى، وتارة يحاولون
531- (4) وعن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة، قال: ((مررت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى قام إلى جدار، فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يديه على الجدار،

(3/428)


تضعيفه، وأخرى ينسبون إلى الصحابي فهم خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونحو ذلك من الوجوه الباطلة التي هي تحريفات معنوية للحديث الصحيح. وعندنا لا تخالف بين هذه الروايات، فقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعليمه لعمار كيفية التيمم بين الإشارة والقول والفعل، مبالغة في الإعلام، كما أقربه القاري، والشيخ اللكنوي. فالظاهر أنه أشار - صلى الله عليه وسلم - أولا، ثم فسر إشارته بفعله، وعلم مع ذلك بالقول أيضا. وأما رواية البخاري هذه فالأظهر أن الراوي اكتفى فيها بذكر التعليم بالإشارة والفعل دون القول فلا دلالة فيها على أن الرواية الأخرى التي فيها ذكر القول رواية بالمعنى، فإنها تحمل على أن الراوي اقتصر مرة على ذكر الإشارة والفعل، وأخرى على ذكر القول، ولا بعد فيه عند من له خبرة وإطلاع على الأحاديث. وأما من أعمى الله قلبه وبصيرته فهو معذور. هذا، وقد أجاب القائلون بمسح اليدين إلى المرفقين، وتعدد الضربة عن حديث عمار هذا بوجوه أخرى كلها واهية، قد ردها وأبطلها شيخنا في شرح الترمذي (ج1:ص 134 ، 135) فارجع إليه لتقف على ما تعللوا به لرد هذا الحديث الصحيح من الأعذار الباردة، وتعتبر. وقد استدل هؤلاء على ما ذهبوا إليه بأحاديث لا تصلح للاحتجاج لما لا يخلوا واحد منها من المقال، كما تقدم إليه الإشارة في كلام الحافظ. واحتجوا أيضا بآثار الصحابة، وأنت تعلم أن الأثر لا يقاوم الحديث المرفوع. وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي وفي أبكار المنن (ص63-65) أحاديث الضربتين، وبين ما فيها من الكلام، فعليك أن تراجعهما.

(3/429)


531- قوله: (وعن أبي الجهيم) بضم الجيم وفتح الهاء وسكون الياء. (بن الحارث بن الصمة) بكسر الصاد المهملة وتشديد الميم، ابن عمرو الأنصاري الخزرجي ابن أخت أبي بن كعب، صحابي معروف، بقى إلى خلافة معاوية. واختلف في اسمه، فقيل: هو عبدالله بن الحارث بن الصمة. وقيل: هو عبدالله بن الجهيم بن الحارث بن الصمة، نسب إلى جده. وقيل: إنه الحارث بن الصمة. ولفظ "ابن" بين أبي الجهيم والحارث غلط. وقيل: الحارث بن الصمة رجل آخر غير أبي الجهيم. ولأبي الجهيم حديثان في الصحيحين، أحدهما في التيمم على الجدار، والثاني في المار بين يدي المصلي. وسيأتي في باب السترة. وقال ابن الأثير، وابن عبدالبر: راوي حديث التيمم غير راوي حديث المرور، فالأول هو أبوالجهيم بن الحارث بن الصمة، والثاني أبوالجهيم عبدالله بن الجهيم الأنصاري، وجعلهما ابن مندة وأبو نعيم والحافظ واحدا. وأبوالجهيم راوي حديث التيمم وحديث المرور غير أبي الجهم صاحب الأنبجانية المذكور في حديث عائشة الآتي في باب الستر، واسمه عامر بن حذيفة. (فحته) بالتاء الفوقية أي: خدشه حتى يحصل منه التراب. وفيه دليل على أنه لا بد في التيمم من التراب. وقيل: حته لتحصيل التراب قصدا إلى الأفضل، وهو محمول على أنه كان جدارا مباحا أو مملوكا لإنسان يعرف رضاه. (ثم وضع يديه على الجدار)
فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد على. ولم أجد هذه الرواية في "الصحيحين" ولا في " كتاب الحميدي" ولكن ذكره في "شرح السنة" وقال: هذا حديث حسن.
?الفصل الثاني?
532- (5) عن أبي ذر، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين،

(3/430)


فيه أنه يجزئ وضع اليدين في التراب للتيمم، ولا يجب ضربة التراب. وفيه أن الضربة الواحدة كافية. (فمسح وجهه وذراعيه) الذراع- بكسر الذال- الساعد ومن الطرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى. قال الحافظ: الثابت في حديث أبي جهيم بلفظ: يديه، لا ذراعيه فإنها رواية شاذة مع ما في أبي الحويرث من الضعف-انتهى. (ثم رد على) أي: السلام، فيه دليل على استحباب الطهارة لذكر الله. (ولم أجد هذه الرواية) أي: بهذا اللفظ، أي: نقلت هذا الحديث هنا تبعا للمصنف ولم أجده. (في الصحيحين) وروايتهما مذكورة في أول الفصل الثالث من هذا الباب. (ولا في كتاب الحميدي) أي: الجمع بين الصحيحين للحميدي، فالاعتراض وارد على صاحب المصابيح حيث ذكر هذا الحديث في الصحاح الموضوع في اصطلاحه لحديث الشيخين أو أحدهما. (ولكن ذكره) أي: صاحب المصابيح. (في شرح السنة) من كتبه بإسناده من حديث الشافعي، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن أبي الحويرث عن الأعرج عن أبي جهيم بن الصمة، فكأنه غفل عنه في المصابيح. (وقال: هذا حديث حسن ) قيل: في تحسينه نظر لأن شيخ الشافعي إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قد ضعفه عامة المحدثين. وشيخ شيخه أبا الحويرث متكلم فيه، وأيضا هو منقطع لأن ما بين الأعرج وأبي جهيم، عمير كما في رواية البخاري وغيره. ونص عليه أيضا البيهقي وغيره كما تقدم في كلام الشوكاني أنه أخرجه البيهقي من طريق الشافعي وتكلم فيه. قلت: أصل الحديث متفق عليه، لكن ليس في روايتهما ذكر الذراع، ولاحت الجدار بالعصا، ولا أنه سلم عليه وهو يبول، بل فيه: أنه أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، فسلم عليه - الحديث. كما سيأتي في الفصل الثالث.

(3/431)


532- قوله: (الطيب) أي: الطاهر. (وضوء المسلم) بفتح الواو، أي: طهوره، وأطلق عليه اسم الوضوء مجازا لأن الغالب في الطهور هو الوضوء، قاله السندي. وقال القاري: بفتح الواو لأن التراب بمنزلة الماء في صحة الصلاة. وقيل: بضم الواو، أي: استعمال الصعيد على الوجه المخصوص كوضوء المسلم، فهو تشبيه بليغ، وعلى التقديرين يفيد أن التيمم رافع للحدث، فيصلي بواحد ما شاء من الفرائض والنوافل. قلت: ومما يؤيد ذلك أن الله تعالى جعل التيمم عوضا عن الماء عند عدمه، والأصل أنه قائم مقامه في جميع أحكامه، فلا يخرج عن ذلك إلا بدليل، ويجوز لمن تطهر بالصعيد الطيب ما يفعله المتطهر بالماء. قال الخطابي: يحتج بهذا الحديث من يرى أن للمتيمم أن يجمع بتيممه بين صلوات ذوات عدد، وهو مذهب أصحاب الحديث – انتهى. (وإن لم يجد الماء) إن وصلية. (عشر سنين) المراد منه الكثرة
فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير)). رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود. وروى النسائي نحوه إلى قوله: عشر سنين.

(3/432)


والمبالغة لا المدة المقدرة أي: التحديد، والمعنى: أن له أن يفعل التيمم مرة بعد أخرى وإن بلغت مدة عدم الماء واتصلت إلى عشر سنين، وليس في معنى: أن التيمم دفعة واحدة يكفيه لعشر سنين، قاله الخطابي. وفيه دلالة على أن خروج الوقت غير ناقص للتيمم بل حكمه حكم الوضوء، وما صح عن ابن عمر: أنه تيمم لكل صلاة وإن لم يحدث. محمول على الاستحباب. وفيه دليل على جواز التيمم لرفع الجنابة عند عدم الماء لأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل الصعيد طهور للمسلم، كما في رواية الترمذي وغيره، وهو بعمومه يشمل الطهور من الحدثين الأصغر والأكبر معا لإطلاقه وعدم تقييده بأحدهما قلت: ويؤيده أيضا سبب ورود الحديث كما في رواية أحمد وأبي داود، وحاصله: أنه قال:أبو ذر: اجتويت المدينة، فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإبل، فكنت فيها، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: هلك أبوذر، قال: ما حالك؟ قلت: أتعرض للجنابة وليس قربي ماء. قال: الصعيد طهور، الخ. (فإذا وجد الماء) أي: كافيا لغسله، أو وضوئه. (فليمسه) بضم الياء وكسر الميم من الإمساس. (بشرته) بفتحتين، ظاهر الجلد، أي: فليوصل الماء إلى بشرته وجلده، يعني فليتوضأ، أو يغتسل. (فإن ذلك) أي: الإمساس. (خير) أي: من الخيور، وليس معناه أن كليهما جائز عند وجود الماء، لكن الوضوء أو الغسل خير، بل المراد أن الوضوء أو الغسل فرض عند وجود الماء، والخيرية لا ينافي الفرضية، ونظيره قوله تعالى: ?أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا? [24:25] ووقع في رواية لأحمد (ج5:ص146): فإذا وجدت الماء فأمس بشرتك. وفي رواية لأبي داود: فأمس جلدك. وهذا أمر وهو للوجوب. واستدل بقوله: فإذا وجد الماء فليمس بشرته. على وجوب الإعادة على من وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة. قال الشوكاني: وهو استدلال صحيح، لأن هذا الحديث مطلق فيمن وجده بعد الوقت، ومن وجده قبل خروجه، وحال الصلاة، وبعدها. وحديث أبي

(3/433)


سعيد الآتي مقيد بمن وجد الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة، فتخرج هذه الصورة بحديث أبي سعيد وتبقى صورة وجود الماء قبل الدخول في الصلاة بعد فعل التيمم، وبعد الدخول في الصلاة قبل الفراغ منها، داخلتين تحت إطلاق الحديث. (رواه أحمد) (ج5: ص18، 146،155). (والترمذي) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (وأبوداود) وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي، وأقره، وأخرجه أيضا الحاكم (ج1:ص186،187) والبيهقي (ج1:ص212،220) والدارقطني (ص68) وابن حبان في صحيحه، والأثرم، وصححه أيضا أبوحاتم والحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه في تلخيصه. وفي الباب عن أبي هريرة، أخرجه البزار، وصححه ابن القطان، لكن قال الدارقطني في العلل: إرساله أصح. وعن عمران بن حصين، وهو الحديث الثاني من الفصل الأول.
533- (6) وعن جابر، قال: ((خرجنا في السفر، فأصاب رجلا منا حجر، فشجه في رأسه، فاحتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات. فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك. قال: قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا! فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده)).

(3/434)


533- قوله: (خرجنا في سفر) قيل: "في" تعليلية أي: خرجنا لإرادة سفر، وقيل: الجار والمجرور في محل نصب على أنه حال، أي:خرجنا مسافرين. (فشجه في رأسه) الشج كسر الرأس خاصة وجرحه، وقد يستعمل في غيره، وضمير المفعول للرجل، وذكر الرأس لزيادة التأكيد، فإن الشج هو كسر الرأس، ففيه تجريد والمعنى: فجرحه في رأسه. (وأنت تقدر على الماء) الجملة حال، حملوا الوجدان على حقيقته، ولم يعلموا أن الوجدان عند الضرورة في حكم الفقدان. (أخبر) بالبناء للمجهول. (قتلوه) أسند القتل إليهم لأنهم تسببوا له بتكليفهم له باستعمال الماء مع وجود الجرح في رأسه ليكون أدل على الإنكار عليهم. (قتلهم الله) أي: لعنهم، إنما قاله زجرا وتهديدا. وفيه أن صاحب الخطأ الواضح غير معذور، لأنه عابهم بالفتوى بغير علم، وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم، وجعلهم في الإثم قتلة له. (ألا سألوا) بفتح الهمزة وتشديد اللام حرف تحضيض دخل على الماضي فأفاد التنديم. (فإنما شفاء العي) بكسر العين وتشديد الياء هو التحير في الكلام، وعدم الضبط، كذا في الصحاح. وفي النهاية ولسان العرب: العي بكسر العين الجهل، والمعنى: أن الجهل داء شفاءه السؤال والتعلم. (إنما كان يكفيه) أي: الرجل المحتلم. (أن يتيمم) أولا. (ويعصب) بتشديد الصاد المكسورة، أي: يشد. (على جرحه) بضم الجيم. (خرقة) بكسر الخاء، أي: حتى لا يصل الماء إلى الجرح. (ثم يمسح عليها) أي: على الخرقة بالماء. والحديث دليل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر وعلى وجوب المسح على الجبائر، ومثله حديث على رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمسح على الجبائر. أخرجه ابن ماجه، وهو ضعيف اتفق الحفاظ على ضعفه، وصح عن ابن عمر: أنه مسح على الجبيرة، ويؤيد وجوب المسح أيضا ما قيل من أنه عضو تعذر غسله بالماء، فمسح ما فوقه كشعر الرأس، وقياسا على مسح أعلى الخفين, وعلى العمامة، وهذا القياس يقوي النص. ثم

(3/435)


في حديث جابر هذا دليل على أنه يجمع بين التيمم والمسح على الجبيرة، وغسل سائر الجسد بالماء، وهو الجمع بين التيمم والغسل، ولم ير أحد الأمرين كافيا دون الآخر. وفيه مخالفة القياس، وهو الجمع بين البدل والمبدل منه. فقيل: الحديث ضعيف لأن في سنده زبير بن خريق، وهو لين الحديث، وقد برواية الجمع بين التيمم والغسل، وهو مع كونه غير قوي في الحديث، قد خالف الأوزاعي كما سيأتي، فرواية الجمع بين
رواه أبوداود.
534- (7) ورواه ابن ماجه، عن عطاء بن رباح، عن ابن عباس.

(3/436)


التيمم والغسل ضعيفة لا تثبت بمثلها حكم شرعي وقيل: الواو في قوله: ويعصب. بمعنى أو. (رواه أبوداود) من طريق زبير بن خريق، عن عطاء بن أبي رباح عن جابر وسكت عنه، وصححه ابن السكن. وقال ابن أبي داود: تفرد به الزبير بن خريق. وكذا قال الدارقطني (ص70) قال: وليس بالقوى، وخالفه الأوزاعي، فرواه عن عطاء عن ابن عباس، وهو الصواب. ونقل ابن السكن عن ابن أبي داود أن حديث الزبير بن خريق أصح من حديث الأوزاعي. قال: وهذا أمثل ما ورد في المسح على الجبيرة. وقال البيهقي في المعرفة: هذا الحديث يعني حديث زبير بن خريق، عن عطاء بن جابر أصح ما روى في هذا الباب مع اختلاف في إسناده قد بيناه في كتاب السنن- انتهى. قال الدارقطني: واختلف فيه أي: في حديث الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس، على الأوزاعي، فقيل: عنه عن عطاء. وقيل: بلغني عن عطاء، وأرسل الأوزاعي آخره، فقال: عن عطاء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو الصواب. قلت: هي رواية ابن ماجه، والدارمي. واختلف في أن الأوزاعي سمع هذا الحديث عن عطاء، فقال: أبوحاتم وأبوزرعة: لم يسمعه الأوزاعي من عطاء إنما سمعه من إسماعيل بن مسلم عن عطاء، بين ذلك ابن أبي العشرين في روايته عن الأوزاعي، ورواه الحاكم في المستدرك (ج1:ص128) من حديث بشر بن بكر، عن الأوزاعي: حدثنا عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس به. قال الحاكم: وقد رواه الهقل بن زياد، وهو من أثبت أصحاب الأوزاعي، ولم يذكر سماع الأوزاعي من عطاء - انتهى. ونقل العلامة أبوالطيب في تعليق المغني (ص70) عن الحاكم أنه قال: بعد رواية الحديث من طريق بشر بن بكر بتصريح سماع الأوزاعي من عطاء ما لفظه: بشر بن بكر ثقة مأمون، وقد أقام إسناده، وهو صحيح على شرطهما - انتهى. قلت: ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون الأوزاعي سمعه من عطاء بلا واسطة، ثم سمعه من إسماعيل بن مسلم عن عطاء أو بالعكس، والله أعلم. وحديث جابر أخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي.

(3/437)


534- قوله: (ورواه ابن ماجه) من طريق الأوزاعي. (عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس) وكذا أبوداود أخرجه من طريق الأوزاعي لكن بلاغا عن عطاء عن ابن عباس عقيب رواية عطاء عن جابر، ولعل وجه التخصيص بتخريج ابن ماجه أن رواية أبي داود عن ابن عباس مختصرة ليس فيها ما أرسله الأوزاعي بآخره، وهو قوله: قال عطاء: وبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو غسل جسده وترك رأسه حيث أصابه الجرح. وحديث ابن عباس أخرجه أيضا أحمد والدارقطني، والحاكم والبيهقي، لكن لم يقع في رواية عطاء هذه عن ابن عباس ذكر للتيمم فيه، فثبت أن الزبير بن خريق تفرد بسياقه، نبه على ذلك ابن القطان. قال الحافظ: لكن روى ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم (ج1:ص165) من حديث الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، عن عمه عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس: أن رجلا أجنب في شتاء، فسأل، فأمر بالغسل، فمات، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما لهم قتلوه قتلهم الله، ثلاثا، قد جعل الله الصعيد أو التيمم طهورا.
535- (8) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة بوضوء ، ولم يعد الآخر. ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك. فقال للذي لم يعد: أصبت السنة، أجزأتك صلاتك)). وقال:للذي توضأ وأعاد:

(3/438)


قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ: والوليد بن عبيد الله ضعفه الدارقطني، وقواه من صحح حديثه هذا، وله شاهد ضعيف جدا من رواية عطية عن أبي سعيد الخدري رواه الدارقطني ولم يقع في رواية ابن أخي عطاء أيضا ذكر المسح على الجبيرة، فهو من إفراد الزبير بن خريق - انتهى. وعطاء بن أبي رباح - بفتح الراء والموحدة- واسم أبي رباح أسلم، القرشي مولاهم، أبومحمد المكي، ثقة، فقيه، فاضل، لكنه كثير الإرسال. قال ابن سعد:كان من مولدي الجند، ونشأ بمكة، وهو مولى لبنى فهر أو الجمح ، وانتهت إليه فتوى أهل مكة وإلى مجاهد في زمانهما. وأكثر ذلك إلى عطاء، سمعت بعض أهل العلم يقول:كان عطاء أسود، أعور، أفطس، أشل، أعرج، ثم عمى بعد، وكان ثقة فقيها، عالما، كثير الحديث. وذكر أبوداود العيوب المذكورة، وزاد: وقطعت يده مع ابن الزبير، وروى عن ابن عباس أنه قال: تجتمعون إلي يا أهل مكة! وعندكم عطاء. وكذا روى عن ابن عمر. وقال أبوحنيفة: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء. وقال الأوزاعي: مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عند الناس. مات سنة (115) وقيل (114) وله ثمان وثمانون سنة، وفضائله كثيرة، بسط ترجمته الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7:ص199-203) وقال الذهبي في التذكرة (ج1:ص86): مناقب عطاء في العلم والزهد والتأله كثيرة. مات على الأصح في رمضان سنة (114) وقيل (115) بمكة.

(3/439)


535- قوله: (فحضرت الصلاة) أي: حان وقتها. (فتيمما صعيدا) أي: قصداه على الوجه المخصوص، فالمراد به المعنى اللغوي، أو فتيمما بالصعيد، على نزع الخافض، وأريد به المعنى الشرعي. (ثم وجدا الماء في الوقت) أي: في وقت الصلاة التي صلياها، وفيه رد على من تأول الحديث بأنهما وجدا الماء بعد الوقت. (فأعاد أحدهما الصلاة بوضوء) إما ظنا بأن الأولى باطلة، أو احتياطا. (ولم يعد الآخر) على ظن أن تلك الصلاة صحيحة. (فذكرا ذلك) أي: ما وقع لهما. (أصبت السنة) أي: الطريقة الشرعية الثابتة بالسنة، يعني وافقت الحكم المشروع، وهذا تصويب لاجتهاد وتخطئة لاجتهاد الآخر. (وأجزأتك صلاتك) أي: كفتك عن القضاء. والإجزاء عبارة عن كون الفعل مسقطا للإعادة. قال القاري: وهو تفسير لما سبق، أي: لأنها وقعت في وقتها. والماء مفقود، فالواجب التراب. (وأعاد) أي: الصلاة في الوقت.
لك الأجر مرتين)). رواه أبوداود والدارمي، وروى النسائي نحوه.
536- (9) وقد روى هو وأبوداود أيضا عن عطاء بن يسار مرسلا .

(3/440)


(لك الأجر مرتين) أجر الصلاة بالتراب، وأجر الصلاة بالماء، فإن كلا منهما صحيحة تترتب عليها مثوبة، لكون الله لا يضيع عمل عامل. وفيه أن الخطأ في الاجتهاد لا ينافي الأجر في العمل المبني عليه. والظاهر ثبوت الأجر له، ولمن تبعه على وجه يصح، ولا يستلزم ثبوت الأجر له أصابته، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثبت لمن أخطأ في اجتهاده أجرا كما في الصحيحين وغيرهما، فهذا الذي أعاد الصلاة بالوضوء قد أخطأ في اجتهاده، وثبت له الأجر كما ثبت للحاكم المخطئ في اجتهاده. وفي الحديث من الفقه: أن السنة تعجيل الصلاة للتيمم في أول وقتها كهو للمتطهر بالماء، فلا يجب الطلب والتلوم له، أي: الإنتظار. وفيه أيضا أن من صلى بالتيمم ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة لا يجب عليه الإعادة. (رواه أبوداود والدارمي) أي: مسندا بذكر أبي سعيد، وأخرجه أيضا الدارقطني والحاكم (ج1:ص128) وصححه على شرط الشيخين. (وروى النسائي نحوه) أيضا.

(3/441)


536- قوله: (وقد روى هو) أي: النسائي. (وأبوداود أيضا عن عطاء بن يسار مرسلا) قال الدارقطني: تفرد به عبدالله بن نافع عن الليث، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد موصولا، وخالفه ابن المبارك، فأرسله، وكذا قال الطبراني في الأوسط: لم يروه متصلا إلا ابن نافع. وقال أبوداود: رواه غير ابن نافع، عن الليث، عن عميرة بن أبي ناجية، عن بكر عن عطاء مرسلا. قال: وذكر أبي سعيد فيه ليس بمحفوظ. قال الحافظ: لكن هذه الرواية رواها ابن السكن في صحيحه من طريق أبي الوليد الطيالسي، عن الليث، عن عمرو بن الحارث وعميرة بن أبي ناجية جميعا، عن بكر موصولا. قال أبوداود: ورواه ابن لهيعة عن بكر فزاد بين عطاء وأبي سعيد أباعبدالله مولى إسماعيل بن عبيدالله - انتهى. وابن لهيعة ضعيف، فلا يلتفت لزيادته، ولا يعل بها رواية الثقة عمرو بن الحارث ومعه عميرة بن أبي ناجية، وقد وثقه النسائي، وابن حبان، ويحيى بن بكير، وأثنى عليه أحمد بن صالح، وابن يونس، وأحمد بن سعيد بن أبي مريم. وله شاهد من حديث ابن عباس، رواه اسحق بن راهوية في مسنده. وعطاء بن يسار يكنى أبا محمد الهلالي المدني مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ثقة فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار الطبقة الوسطى من التابعين. وقال المصنف: كان من التابعين المشهورين بالمدينة، كان كثير الرواية عن ابن عباس. مات بالإسكندرية سنة (94) وقيل سنة (97) وقيل (103) وقيل (104) وهو ابن (84)سنة.
?الفصل الثالث?
537- (10) عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة، قال: ((أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، فسلم عليه فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام)). متفق عليه.

(3/442)


538- (11) وعن عمار بن ياسر، أنه كان يحدث ((أنهم تمسحوا وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد، ثم مسحوا بوجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا، فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى، فمسحوا بأيدهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم)).
537- قوله: (من نحو بئر جمل) بفتح الجيم والميم، أي: من جهة الموضع الذي يعرف بذلك، وهو معروف بالمدينة. (فلقيه رجل) هو أبوالجهيم الراوي، بينه الشافعي في روايته لهذا الحديث من طريق أبي الحويرث، عن الأعرج، قاله الحافظ. قلت: أراد بذلك حديث أبي الجهيم السابق ففيه تصريح بذلك حيث قال: فسلمت عليه. (فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: السلام عليه. (حتى أقبل على الجدار) وفي رواية للدارقطني: حتى وضع يده على الجدار. واستدل بالحديث على جواز التيمم على الحجر، لأن حيطان المدينة مبنية بحجارة سود، وهي لا تحتمل التراب لأنه لا يثبت عليها. قال القسطلاني أخذا عن الكرماني: وأجيب بأن الغالب وجود الغبار على الجدار. قلت: لم يرو في شيء من الروايات أن الجدار الذي تيمم منه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معمورا من الحجر، بل الظاهر أنه معمور من الطين، ولو سلم كون الجدار من الحجر، فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - تيمم بالطين الذي بين السافتين. وأيضا عدم كون التراب على الجدار غير معلوم بل هو محتمل. (فمسح بوجهه ويديه) وللدارقطني من طريق أبي صالح عن الليث: فمسح بوجهه وذراعيه. قال الحافظ: الثابت في حديث أبي جهيم بلفظ "يديه" لا ذراعيه، فإنها رواية شاذة، مع ما في أبي صالح من الضعف - انتهى. وقد تقدم بقية الكلام على هذا الحديث في باب مخالطة الجنب فتذكر. (متفق عليه) أخرجه البخاري موصولا، ومسلم معلقا، وهو أحد الأحاديث المعلقة فيه. والحديث أخرجه أيضا النسائي والدارقطني.

(3/443)


538- قوله: (تمسحوا) أي: تيمموا. (وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) جملة معترضة. (بالصعيد) متعلق بتمسحوا. (لصلاة الفجر) أي: لأدائها. (فضربوا بأكفهم الصعيد) الخ. بيان لتمسحوا. (مرة أخرى) أي: ضربة أخرى. (فمسحوا بأيديهم) جمع اليد وهي مؤنثة، وهي من المنكب إلى أطراف الأصابع. (إلى المناكب والآباط) بالمد جمع إبط يذكر ويؤنث. (من بطون أيديهم) متعلق بمسحوا أي: مسحوا من بطون الأيدي لا من ظهورها. قال القاري: من للابتداء أي:
رواه أبوداود.
(11) باب الغسل المسنون
?الفصل الأول?
539- (1) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)).

(3/444)


ابتدأوا بالمسح من بطون الأيدي لا من ظهورها، ويمكن أن يقال: المراد بالابتداء ابتداء آلة المسح لا ابتداء الممسوح - انتهى. قال: شيخ شيخ مشائخنا الشهير في الآفاق الشيخ محمد إسحق المحدث الدهلوي: هذا قياس الصحابة في أول الأمر قبل بيان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما بينه لهم علموا كيفية التيمم-انتهى. وقال إسحق بن راهوية ما حاصله: أنه قال عمار: تيممنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب والآباط. وروى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوجه والكفين، وليس بينهما تخالف، لأن عمارا لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بذلك، وإنما قال: فعلنا كذا وكذا، فتيممهم إلى المناكب والآباط لم يكن بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالوجه والكفين، فانتهى إلى ما علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والدليل على ذلك ما أفتى به عمار بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوجه والكفين، فكان هو آخر الأمرين، فالأول ما فهموا من إطلاق اليد في الكتاب في آية التيمم، والثاني ما انتهوا إليه بتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان الثاني هو المعتبر والمعمول به. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا ابن ماجه وهو منقطع، فإن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة لم يدرك عمارا. وقد أخرجه النسائي وابن ماجه مختصرا من حديث عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن أبيه، عن عمار، موصولا. وأخرجه أبوداود أيضا وغيره من حديث الزهري: حدثني عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس عن عمار أتم منه، ثم ذكر أبوداود فيه الإضطراب في السند والمتن.
(باب الغسل المسنون) بضم الغين لا غير، ولم يذكر المصنف في الباب الغسل يوم الفطر ويوم الأضحى، لأنه لم يصح فيه حديث، وقد ورد فيه ثلاثة أحاديث كلها ضعيفة.

(3/445)


539- قوله: (إذا جاء أحدكم الجمعة) أي: صلاتها، وهي منصوبة على المفعولية، أي: إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة. كما جاء مصرحا به في رواية لمسلم. (فليغتسل) فيه دليل على وجوب غسل الجمعة، والحديث الثاني صريح في ذلك لا يحتمل التأويل للتصريح فيه بلفظ واجب. ويدل أيضا على الوجوب حديث أبي هريرة الذي يتلوه. وكذا ما أخرجه النسائي عن جابر مرفوعا بلفظ: على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة. وما أخرجه أحمد والترمذي عن البراء مرفوعا بلفظ: حقا على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة. وما أخرجه أحمد عن رجل من الأنصار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا: حق على كل مسلم يغتسل يوم الجمعة، ويتسوك – الحديث. وما روى عن ثوبان عند البزار، وأبي
متفق عليه.
540- (2) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل
محتلم)). متفق عليه.

(3/446)


أيوب عند الطبراني في الكبير، وأبي هريرة عند الطبراني في الأوسط، وبريدة عند الطبراني أيضا، وعائشة عند البزار وجابر عند الطبراني في الأوسط. ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص183، 182) وقد اختلفوا في ذلك، والراجح عندي أن غسل الجمعة واجب مستقل في نفسه لهذه الأحاديث، وليس شرطا في صحة الصلاة، فمن لم يأت به صحت صلاته، وكان مقصرا في الواجب عليه. وأما ما روى مما يدل على خلاف ذلك، كحديث سمرة، وحديث ابن عباس، ونحوهما، فسيأتي الجواب عنه. قال الشوكاني في السيل الجرار: حديث إذا جاء أحدكم إلى الجمعة. يدل على أن الغسل لصلاة الجمعة، وأن من فعله لغيرها لم يظفر بالمشروعية، سواء فعله في أول اليوم، أو في أوسطه، أو في آخره. ويؤيد هذا ما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان، وغيرهما عن ابن عمر مرفوعا: من أتى الجمعة من الرجال والنساء، فليغتسل زاد ابن خزيمة: ومن لم يأتها، فليس عليه غسل – انتهى. قلت: رواية ابن خزيمة هذه تدل بمنطوقها نصا على أنه لا يجب غسل الجمعة على من لم يشهد الجمعة، وهي تؤيد وتقوي مفهوم وقوله: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. قال الحافظ: وله طريق كثيرة. وعد ابن مندة من رواه عن نافع، فبلغوا فوق ثلاث مائة نفس. وعد من رواه من الصحابة غير ابن عمر، فبلغوا أربعة وعشرين صحابيا وقد جمعت طرقة عن نافع فبلغوا مائة وعشرين نفسا - انتهى.

(3/447)


540- قوله: (غسل يوم الجمعة) استدل بإضافة "الغسل" إلى "يوم الجمعة" على أن وقت غسلها يدخل بفجر يومها ولا يتوقف على الرواح إليها. وهو مذهب الجمهور. (واجب) قال ابن دقيق العيد: ذهب الأكثرون إلى استحباب غسل الجمعة، وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر، وقد أولوا صيغة الأمر على الندب، وصيغة الوجوب على التأكيد، كما يقال: إكرامك علي واجب، وهو تأويل ضعيف، إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحا على هذا الظاهر، وأقوى ما عارضوا به هذا الظاهر حديث من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل. ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث – انتهى. (على كل محتلم) أي: بالغ، فشمل من بلغ بالسن أو الإحبال، والمراد بالغ، خال عن عذر يبيح الترك، وإلا فالمعذور مستثنى بقواعد الشرع. والمراد الذكر كما هو مقتضي الصيغة، وأيضا الاحتلام أكثر ما يبلغ به الذكور دون الإناث، وفيهن الحيض أكثر، وعمومه يشمل المصلى وغيره، لكن الحديث الذي قبله وغيره يخصه بالمصلي. (متفق عليه) وأخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
541- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما، يغسل فيه رأسه وجسده)) متفق عليه.
?الفصل الثاني?
542- (4) عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)).

(3/448)


541- قوله: (حق) أي: ثابت ولازم. (على كل مسلم) أي: مكلف فإنه المتبادر في موضع التكليف، فخرج الصبي، وبتذكير اللفظ خرجت المرأة. والمراد بالحق الواجب، والدليل عليه حديث أبي سعيد المتقدم، ففيه دليل على وجوب غسل الجمعة. (أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما) هكذا أبهم في هذه الرواية، وقد عينه جابر في حديثه عند النسائي، وقد ذكرنا لفظه. قال الحافظ بعد ذكره: وصححه ابن خزيمة. ولسعيد بن منصور، وأبي بكر بن أبي شيبه من حديث البراء ابن عازب مرفوعا نحوه، ولفظه: إن من الحق على المسلم أن يغتسل يوم الجمعة، ونحوه لأحمد والطحاوى من طريق محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان، عن رجل من الصحابة أنصاري مرفوعا- انتهى. والقول: بأن قوله في حديث جابر: وهو يوم الجمعة. تفسير من بعض الرواة، ادعاء محض لا دليل عليه، فلا يلتفت إليه. (يغسل فيه رأسه وجسده) ذكر الرأس وإن كان الجسد يشمله للاهتمام به، لأنهم كانوا يجعلون فيه الدهن، والخطمى، ونحوهما، وكانوا يغسلونه أولا ثم يغتسلون. (متفق عليه) وأخرجه أيضا البيهقي، والطحاوي.

(3/449)


542- قوله: (فبها) أي: فيكتفي بها أي بتلك الفعلة التي هي الوضوء. (ونعمت) بكسر فسكون، هو المشهور. وروى بفتح فكسر كما هو الأصل، والمقصود أن الوضوء ممدوح شرعا لا يذم من اقتصر عليه. وقيل: قوله: فبها أي: فهذه الخصلة أو الفعلة أي: الوضوء ينال الفضل، ونعمت الخصلة أو الفعلة هذه. وقيل: فبطهارة الوضوء حصل الواجب ونعمت الطهارة للصلاة هذه. وقيل: فبالرخصة أخذ، ونعمت الرخصة هذه. وقيل: فبالفريضة أخذ، ونعمت الفريضة هذه. (ومن اغتسل الغسل أفضل) ليس المراد تفضيل الغسل على الوضوء نفسه، حتى يقال: كيف يفضل الغسل، وهو سنة على قول من ذهب إلى سنيته، على الوضوء، وهو فريضة، والفريضة أفضل إجماعا، بل المقصود التفضيل على الوضوء الذي لا غسل معه، كأنه قال: من توضأ واغتسل فهو أفضل ممن توضأ فقط. والحديث يدل على عدم وجوب غسل الجمعة، لأن قوله: "فالغسل أفضل" يقتضي اشتراك الغسل والوضوء في أصل الفضل، فيستلزم إجراء الوضوء، وهو من أقوى حجج القائلين بعدم الوجوب، ومن أوضح القرائن الدالة على تأويل الأحاديث القاضية للوجوب. وقد تقدم
رواه أحمد وأبوداود والترمذي والنسائي والدارمي.
543- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من غسل ميتا فليغتسل)).

(3/450)


الجواب عنه في كلام ابن دقيق العيد. وقد احتجوا أيضا، وعارضوا بأحاديث، ذكرها الحافظ في الفتح (ج4:ص477) والشوكاني في النيل (ج1:ص224-226) مع الجواب عنها، فارجع إليهما. قال الشوكاني بعد إيراده والتعقب على الاستدلال بها ما لفظه: وبهذا يتبين لك عدم انتهاض ما جاء به الجمهور من الأدلة على عدم الوجوب وعدم إمكان الجمع بينها وبين أحاديث الوجوب، لأنه وإن أمكن بالنسبة إلى الأوامر، لم يمكن بالنسبة إلى لفظ واجب وحق إلا بتعسف، لا يلجئ طلب الجمع إلى مثله. ولا يشك من له أدنى إلمام بهذا الشأن أن أحاديث الوجوب أرجح من الأحاديث القاضية بعدمه، لأن أوضحها دلالة على ذلك حديث سمرة، وهو غير سالم من مقال، وأما بقية الأحاديث فليس فيها إلا مجرد استنباطات واهية- انتهى. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه. (والترمذي) وحسنه، وقال: قد روى عن قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا. (والنسائي) وقال: الحسن عن سمرة كتاب، ولم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة. وقال العراقي في شرح الترمذي: قد صح سماعه منه لغير حديث العقيقة، ولكن هذا الحديث لم يثبت سماعه منه، لأنه رواه بالعنعنة في سائر الطرق، ولا يحتج به لكونه يدلس، ذكره السيوطي في قوت المغتذى. (والدارمي) قال الحافظ في الفتح (ج4:ص477): لهذا الحديث طرق، أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة، أخرجها أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان. وله علتان: إحداهما أنه من عنعنة الحسن، والأخرى أنه اختلف عليه فيه. وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس، والطبراني من حديث عبدالرحمن بن سمرة، والبزار من حديث أبي سعيد وابن عدي من حديث جابر، وكلها ضعيفة-انتهى. قال ابن دقيق العيد في الإمام: من يحمل رواية الحسن عن سمرة على الاتصال يصحح هذا الحديث. قال الحافظ: وهو مذهب علي بن المديني كما نقله عنه البخاري، والترمذي والحاكم وغيرهم. وقيل: لم يسمع منه إلا حديث العقيقة، وهو قول البزار

(3/451)


وغيره. وقيل: لم يسمع منه شيئا أصلا وإنما يحدث من كتابه.
543- قوله: (من غسل) بالتخفيف ويشدد. (فليغتسل) الحديث بظاهره يدل على وجوب الغسل على من غسل الميت. وقد اختلفوا فيه، والراجح عندي أنه مندوب، والأمر فيه للاستحباب، أمر به ندبا احتياطا لدفع ما يتوهم من إصابة نجاسة بالبدن بواسطة أن بدن الميت لا يخلو عنها غالبا. والله أعلم. والدليل على كون الأمر للندب لا للوجوب حديث ابن عباس مرفوعا: ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهرا، وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم. أخرجه البيهقي، وقد حسن الحافظ إسناده، وقال: فيجمع بينه وبين الأمر في حديث أبي هريرة
رواه ابن ماجه.وزاد أحمد والترمذي وأبوداود: ومن حمله فليتوضأ.

(3/452)


بأن الأمر على الندب، أو المراد بالغسل غسل الأيدي كما صرح به في هذا – انتهى. وحديث ابن عمر: كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل. قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح، وهو يؤيد أن الأمر في حديث أبي هريرة للندب، وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث- انتهى. وحديث أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق: أنها غسلت أبا بكر حين توفى، ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين، فقالت: إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة، فهل علي من غسل؟ قالوا: لا. رواه مالك في المؤطا. قال الشوكاني: وهو من الأدلة الدالة على استحباب الغسل دون وجوبه، وهو أيضا من القرائن الصارفة عن الوجوب. قال: والقول بالاستحباب هو الحق، لما فيه من الجمع بين الأدلة بوجه مستحسن- انتهى. (رواه ابن ماجه وزاد أحمد, والترمذي وأبوداود، ومن حمله فليتوضأ) هذا يدل على وجوب الوضوء على من حمل الميت. والظاهر أن الأمر فيه أيضا للندب، يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : فحسبكم أن تغسلوا أيديكم، في حديث ابن عباس المتقدم. وقال المناوي: معناه من أراد حمل الميت، فليكن على وضوء، ليتأهب للصلاة عليه حين وصوله المصلى خوف الفوت. قال المجد بن تيمية في المنتقى: وقال بعضهم: معناه من أراد حمله ومتابعته، فليتوضأ من أجل الصلاة عليه- انتهى. قال القاري: ويجوز أن يكون لمجرد الحمل فإنه قربة- انتهى. والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. قال الحافظ في الفتح: هو معلول، لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة- انتهى. وقال ابن دقيق العيد في الإمام: هي معلولة وإن صححها ابن حبان وابن حزم، فقد رواه سفيان عن سهيل عن أبيه عن إسحق مولى زائدة عن أبي هريرة. قال الحافظ: إسحق هذا أخرج له مسلم، فينبغي أن يصح الحديث، وأخرجه أحمد والبيهقي من رواية ابن أبي ذئب عن صالح مولى التؤمة عن أبي هريرة، وصالح صدوق، اختلط بآخره.

(3/453)


قال ابن عدي لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج، وأخرجه أبوداود من رواية عمرو بن عمير، وأحمد أيضا من رواية شيخ يقال له: أبوإسحق، كلا هما عن أبي هريرة. وأخرجه البزار من رواية العلاء عن أبيه، ومن رواية محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان ومن رواية أبي بحر البكراوي، عن محمد ابن عمرو عن أبي سلمة كلهم عن أبي هريرة. وذكر البيهقي له طرقا، وضعفها، ثم قال: والصحيح أنه موقوف. وقال ابن دقيق العيد: أما رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فإسناد حسن إلا أن الحفاظ من أصحاب محمد بن عمرو رووه عنه موقوفا. قال الحافظ في التلخيص (ص50): وفي الجملة هو لكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنا، فإنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض. وقد قال الذهبي في مختصر البيهقي: طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء ولم يعلوها بالوقف بل قدموا رواية الرفع - انتهى. وقد أجاب أحمد عن هذا الحديث بأنه منسوخ، وكذا جزم بذلك أبوداود. وفيه أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، بل إذا وجد ناسخ صريح وهو متأخر.
544- (6) وعن عائشة رضي الله عنها، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت)) رواه أبوداود.
545- (7) وعن قيس بن عاصم، ((أنه أسلم، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر)).

(3/454)


544- قوله: (كان يغتسل من أربع) أي: يأمر الناس بالاغتسال من أربع، ففي رواية أحمد والدارقطني قال: يغتسل من أربع. (من الجنابة) بدل بإعادة الجار أي: من أجلها، فمن تعليلية. (ويوم الجمعة) بالجر، وهو الملائم للسابق واللاحق، وإن صح النصب فيكون على نزع الخافض، قاله القاري. (ومن الحجامة) بكسر الحاء أي: للمحجوم، والاغتسال من الحجامة لإماطة الأذى، ولما لا يؤمن أن يصيبه من رشاشة الحجامة فتستحب النظافة. (ومن غسل الميت) بضم الغين. والحديث دليل على مشروعية الغسل في هذه الأربعة الأحوال. فأما الجنابة فالوجوب ظاهر. وأما الجمعة ففي حكمه ووقته خلاف، وقد تقدم أن الراجح في حكمه الوجوب، وفي وقته أنه من فجر الجمعة إلى الذهاب، ويستحب تأخيره إليه، وأما الحجامة فقيل: إنه سنة. وقد روى عن أنس: أنه - صلى الله عليه وسلم - احتجم، فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه. أخرجه الدارقطني ولينه، لأن فيه صالح بن مقاتل، وليس بالقوى، وذكره النووي في فصل الضعيف، فدل على أنه سنة يفعل تارة كما أفاده حديث عائشة هذا، ويترك أخرى كما في حديث أنس. ويروي عن على: الغسل من الحجامة سنة وإن تطهرت أجزأك. وأما الغسل من غسل الميت، فقد تقدم في شرح حديث أبي هريرة الذي قبل هذا. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد، والبيهقي والدارقطني وفي سنده مصعب بن شيبة، وفيه مقال، وضعفه أبوزرعة وأحمد والبخاري وصححه ابن خزيمة. وقال الدارقطني: مصعب بن شيبة ليس بالقوى ولا بالحافظ. وقال أبوداود: حديث مصعب ضعيف، فيه خصال ليس العمل عليه- انتهى.

(3/455)


545- قوله: (وعن قيس بن عاصم) بن سنان بن خالد التميمي السعدي المنقري، صحابي مشهور بالحلم، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفد بني تميم سنة تسع فأسلم، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: هذا سيد أهل الوبر. وكان عاقلا، حليما، سمحا، جوادا. قيل للأحنف: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس. قال ابن عبدالبر: قد حرم على نفسه الخمر في الجاهلية. نزل البصرة، وبنى بها دارا، وبها مات عن اثنين وثلاثين ذكرا من أولاده. (فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي: بعد ما أسلم. (أن يغتسل بماء وسدر) للمبالغة في التنظيف، وإزالة الوسخ والرائحة الكريهة، لأنه يطيب الجسد. والحديث فيه دليل على مشروعية الغسل لمن أسلم. وقد ذهب إلى الوجوب مطلقا أحمد لهذا الحديث، ولحديث أبي هريرة: أن ثمامة أسلم، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل) أخرجه أحمد، وعبد الرزاق، والبهيقي، وابن خزيمة، وابن حبان، وأصله في الصحيحين. وليس فيهما الأمر بالاغتسال، ولكن فيهما أنه اغتسل، ولحديث أمره
رواه الترمذي وأبوداود والنسائي.
?الفصل الثالث?
546- (8) عن عكرمة، قال: ((إن ناسا من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس أترى الغسل يوم الجمعة واجبا؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب. وسأخبركم كيف بدء الغسل: كان الناس مجهودين يلبسون الصوف

(3/456)


- صلى الله عليه وسلم - لواثله وقتادة الرهاوي عند الطبراني، وعقيل بن أبي طالب عند الحاكم في تاريخ النيسابور. قال الحافظ: وفي أسانيد الثلاثة ضعف. قال الشوكاني في السيل الجرار: الظاهر وجوب الغسل، ولا وجه لمن تمسك ممن قال: بعدم الوجوب من أنه لو كان واجبا لأمر به - صلى الله عليه وسلم - كل من أسلم، لأنا نقول: قد كان هذا في حكم المعلوم عندهم، ولهذا إن ثمامة لما أراد الإسلام ذهب فاغتسل، كما في الصحيحين. والحكم يثبت على الكل بأمر البعض، ومن لم يعلم الأمر بذلك لكل من أسلم لا يكون عدم علمه حجة له - انتهى. وقال في النيل: والظاهر الوجوب، لأن أمر البعض قد وقع به التبليغ، ودعوى عدم الأمر لمن عداهم لا يصلح متمسكا، لأن غاية ما فيها عدم العلم بذلك وهو ليس علما بالعدم. (رواه الترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. (والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد (ج5:ص61) وابن حبان، وابن خزيمة، وابن سعد في الطبقات (ج1: ص23،24) وصححه ابن السكن.

(3/457)


546- قوله: (من أهل العراق) هو بلاد من عبادان إلى موصل طولا، ومن القادسية إلى حلوان عرضا، والعراقان الكوفة والبصرة كذا في القاموس. (جاءوا) أي إلى ابن عباس حين كان واليا على البصرة. (أترى) بفتح التاء من الرأي أي تعتقد. (يوم الجمعة) ظرف للغسل. (ولكنه أطهر) أي: أكمل تطهيرا وأكثر تنظيفا، فهو أفعل التفضيل من التطهير بحذف زوائده كما هو مذهب بعض النحاة، أو معناه أكثر طهارة صاحبه. (وخير) أي: نفع كثير. (ومن لم يغتسل) واكتفى بالوضوء. (فليس) الغسل. (عليه بواجب) هذا دليل لجواب مقدر تقديره: فلا بأس، إذ ليس الغسل فيه واجبا. (كيف بدأ الغسل؟) بضم الهمزة أي: سبب ابتداء مشروعيته للجمعة. (كان الناس) استئناف بيان، والمراد من الناس الصحابة. (مجهودين) من الجهد بالفتح وهو المشقة والعسرة، يقال: جهد الرجل فهو مجهود، إذا وجد مشقة، وجهد الناس فهم مجهودون إذا أجدبوا، أي: أصابهم الجدب، وهو المحل والفقر، ومجهدون معسرون. والمعنى أنهم كانوا في المشقة والعسرة لشدة فقرهم. (يلبسون الصوف) جملة مبنية، والصوف للضأن كالشعر للمعز والوبر للإبل.
ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقا مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضا. فلما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الرياح، قال: أيها الناس! إذا كان هذا اليوم، فاغتسلوا وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه. قال:ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق)).

(3/458)


(ويعملون على ظهورهم) أي: فيعرقون. (وكان مسجدهم) أي: مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأضيف إليهم لصلاتهم فيه. (ضيقا) بالطول والعرض. (مقارب السقف) أي: قريب السقف من الأرض لقلة ارتفاع الجدار. (إنما هو) أي: سقف المسجد. (عريش) بفتح العين، هو كل ما يستظل به. والمراد أن سقف المسجد لم يكن مرتفعا كسائر السقوف بل كان شيئا يستظل به عن الشمس كعريش الكرم، وهو خشبات تجعل تحت أغصانه ليرتفع عليها، يعني القصد منه الاستظلال عن الشمس، وإن كان على رأس الواقف. (فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إلى المسجد. (في يوم حار) من أيام الجمعة. (وعرق الناس) بكسر الراء جملة حالية أو عطف على"فخرج". (في ذلك الصفوف) أي: الذين يعملون على ظهورهم حين لبسه. (حتى ثارت) أي: انتشرت. (منهم رياح) منتنة. (آذى بذلك) أي: بما ذكر من العرق والرياح. (فلما وجد) أي: أحس. (تلك الرياح) كذا في سائر النسخ بالجمع، وفي سنن أبي داود: والريح، بالإفراد. (هذا اليوم) إشارة إلى الجنس، أو المراد مثل هذا اليوم. (وليمس) بفتح الميم والسين. (ثم جاء الله بالخير) أي: المال من الثياب والعبيد والخدم، عطف على أول القصة، وهو كان الناس، أو على بدأ الغسل، وآثر ثم دلالتها على التراخي في الزمان. لأنهم مكثوا مجهودين مدة طويلة، والفتوحات إنما حصلت أواخر حياته - صلى الله عليه وسلم -. (ولبسوا غير الصوف) من القطن والكتان عطف تفسير. (وكفوا) بصيغة المجهول مخففا من كفاه مؤنته أي: قام بها دونه، فأغناه عن القيام بها. (العمل) مفعول ثان، أي: وقاهم خدمهم عن العمل والتعب والمشقة. (وذهب) أي: زال. (بعض الذي كان يؤذي) أي: به. (بعضهم بعضا) ويتأذى الكل. (من العرق) بفتحتين بيان للبعض. والحديث قد استدل به على عدم وجوب الغسل للجمعة. قال القاري في شرح المؤطا بعد ذكر هذا الحديث: فهذا يشير إلى أن الغسل كان واجبا، ثم صار سنة، يعني أن وجوب الغسل كان بعلة الروائح

(3/459)


الكريهة، فلما زالت تلك العلة زال الوجوب. وفيه أنه لا نسلم أنها إذا زالت العلة زال الوجوب مسندين ذلك بوجوب السعي مع زوال العلة التي شرع لها، وهي إغاظة المشركين. وقال:الحافظ في ذكر حديث ابن عباس هذا: إسناده حسن، لكن الثابت عن ابن عباس خلافه كما سيأتي قريبا، وعلى تقدير الصحة، فالمرفوع منه
رواه أبوداود .
(12) باب الحيض
?الفصل الأول?
547- (1) عن أنس بن مالك، قال: ((إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: ?ويسألونك عن المحيض? الآية.
ورد بصيغة الأمر الدالة على الوجوب، وأما نفي الوجوب، فهو موقوف، لأنه من استنباط ابن عباس، وفيه نظر، إذ لا يلزم من زوال المسبب كما في الرمل والجمار، وعلى تقدير تسليمه، فلمن قصر الوجوب على من به رائحة كريهة أن يتمسك به - انتهى. وقال بعد الجواب عن الأحاديث التي استدل بها الجمهور على عدم الوجوب وعارضوا بها ما لفظه: ثم هذه الأحاديث كلها لو سلمت لما دلت إلا على نفي اشتراط الغسل لا على الوجوب المجرد كما تقدم - انتهى. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا الطحاوي، وقد تقدم أن الحافظ حسن إسناده.
(باب الحيض) بفتح الحاء مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا فهي حائض وحائضة، وهو لغة: السيلان، وفي العرف: جريان دم المرأة في أوقات معلومة من رحمها بعد بلوغها. وقيل: هو دم ينفضه رحم امرأة سليمة من الداء والصغر. ولما كانت له أحكام شرعية من أفعال وتروك عقد له بابا ساق فيه ما ورد فيه من أحكامه.

(3/460)


547- قوله: (إن اليهود) قيل: اليهود جمع يهودي كروم ورومي، وأصله اليهوديين ثم حذف ياء النسبة. قال القاري: والظاهر أن اليهود قبيلة سميت باسم جدها يهودا أخي يوسف الصديق، واليهودي منسوب إليهم بمعنى واحد منهم. (لم يؤاكلوها) بالهمزة ويبدل واوا. وقيل: إنه لغة. (ولم يجامعوهن) أي: لم يساكنوهن ولم يخالطوهن. وإنما جمع الضمير فيه لأن المراد بالمرأة الجنس، فعبر أولا بالمفرد ثم بالجمع رعاية للفظ والمعنى على طريق التفنن. (فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: عن المواكلة والمجامعة في البيوت. ?ويسألونك عن المحيض? المحيض مفعل من الحيض يصلح لغة للمصدر والزمان والمكان. وأكثر المفسرين على أن المراد به ههنا المصدر. ويقال: فيه اسم مصدر والمعنى واحد. وقيل المراد به موضع الدم ومكانه، والمعنى يسألونك عن دم الحيض، أو موضعه ماذا يفعل بالنساء فيه. (الآية) بالرفع والنصب والجر تتمها. ?قل هو? أي:دم الحيض. ?أذى? أي: شيء قذر يتأذى به من يقربه، أو مكان الحيض وموضعه ذو أذى أو محل أذى. ?فاعتزلوا النساء? أي: اتركوا وطيهن. ?في المحيض? [222:2] أي:في زمان الحيض أو مكانه أو في
فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟

(3/461)


الدم (فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) مبينا للاعتزال المطلق المذكور في الآية بقصره على بعض أفراده. (اصنعوا كل شيء ) من أنواع الاستمتاع. (إلا النكاح) أي: الجماع إطلاقا لاسم السبب على المسبب، لأن عقد النكاح سبب للجماع. وهذا تفسير للآية، وبيان لقوله: ((فاعتزلوا)) فإن الاعتزال شامل للمجانبة عن المؤاكلة والمصاحبة والمجامعة، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ليس المراد بالاعتزال وعدم القربان مطلق المجانبة، بل مجانبة مخصوصة، وهو ترك الوطى والجماع فقط لا غير. والحديث يدل على جواز المباشرة في ما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر. وإليه ذهب أحمد ومحمد ورجحه الطحاوي. وقال العيني والسندهي: هو أقوى دليلا. وقال النووي: هو الأرجح دليلا وهو اختيار أصبغ من المالكية، ويدل على الجواز أيضا ما رواه أبوداود بإسناد قوي عن عكرمة عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا، وحملوا حديث عائشة الآتي وما في معناه على الاستحباب جمعا بين الأدلة. (فبلغ ذلك) أي: الحديث. (ما يريد هذا الرجل) يعنون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعبروا به لإنكارهم نبوته. (أن يدع) أي: يترك. (من أمرنا) أي: من أمور ديننا. (شيئا) من الأشياء في حال من الأحوال. (إلا خالفنا) بفتح الفاء. (فيه) أي: إلا حال مخالفته إيانا فيه، يعني لا يترك أمرا من أمورنا إلا مقرونا بالمخالفة كقوله تعالى: ?لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها? [49:18]. (فجاء أسيد بن حضير) بالتصغير فيهما، أبي سماك بن عتيك الأنصاري الأشهلي الأوسى، كان أحد النقباء ليلة العقبة الثانية، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد. قالت عائشة: كان من أفاضل الناس، وشهد الجابية، وفتح بيت المقدس. له ثمانية عشر حديثا، اتفقا على حديث. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : نعم الرجل أسيد بن حضير. مات سنة (20). وحمله عمر بين

(3/462)


عمودي السرير حتى وضع بالبقيع. قال عروة: مات أسيد بن حضير وعليه دين أربعة آلاف درهم، فبيعت أرضه، فقال عمر: لا أترك بني أخي عالة، فرد الأرض، وباع ثمرها من الغرماء أربع سنين بأربعة آلاف كل سنة ألف درهم. (وعباد) بفتح أوله وتشديد الموحدة. (بن بشر) بكسر الباء، ابن وقش الأنصاري الأشهلي، أسلم بالمدينة على يدي مصعب بن عمير قبل إسلام سعد بن معاذ, وشهد بدرا والمشاهد كلها، وكان ممن قتل كعب بن الأشرف، وأبلى يوم اليمامة فاستشهد بها، وهو ابن (45) سنة. قالت عائشة: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت عباد بن بشر ليلة، فقال: اللهم اغفر له، وأضاءت له عصاه لما خرج من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - . له حديثان. (أفلا نجامعهن؟) وفي رواية أبي داود، والترمذي: أفلا ننكحهن في المحيض؟ أي: أفلا نطأهن
فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلتهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أنه لم يجد عليهما)). رواه مسلم.
548- (2) وعن عائشة، قالت: ((كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم -من إناء واحد، وكلانا جنب، وكان يأمرني، فأتزر، فيباشرني وأنا حائض. وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف، فأغسله، وأنا حائض)). متفق عليه.

(3/463)


لكي تحصل المخالفة التامة معهم. (فتغير وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -) لأن تحصيل المخالفة بارتكاب المعصية لا يجوز. (قد وجد) أي: غضب. (فخرجا) خوفا من الزيادة في الغضب. (فاستقبلتهما هدية) أي: استقبل الرجلين شخص معه هدية يهديها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإسناد مجازى. (من لبن) من بيانية. (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي: واصلة، أو واصل إليه. (فأرسل في آثارهما) أي: عقبهما رسولا فناداهما فجاءاه. (فسقاهما) أي: من اللبن تلطفا بهما وإظهارا للرضا. (لم يجد) أي: لم يغضب. (عليهما) لأنهما كانا معذورين لحسن نيتهما فيما تكلما به، أو ما استمر الغضب بل زال، أو ذهب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في التفسير وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

(3/464)


548- قوله: (والنبي) بالرفع على العطف للفصل ويجوز النصب على أنه مفعول معه. (وكلانا) الواو للحال (وكان يأمرني) بالاتزار. (فأتزر) بتشديد يد التاء المثناه بعد الهمزة، وأصله أأتزر بهمزة ساكنة بعد الهمزة المفتوحة ثم المثناه بوزن افتعل، وإدغام الهمزة في التاء مذهب الكوفيين، حكاه الصغاني في مجمع البحرين. وقول عائشة وهي من فصحاء العرب حجة على الجواز. وقال ابن مالك: إنه مقصور على السماع كالكل، ومنه قراءة ابن محيصن: فليؤد الذي اتمن، بهمزة وصل وتاء مشددة مضمومة من الأمانة. والمراد بالاتزار أن تشد إزارها على وسطها، وحدد ذلك الفقهاء بما بين السرة والركبة عملا بالعرف الغالب. (فيباشرني) أي: يلصق بشرته ببشرته فيما دون الإزار. وقال الطيبي: يعني أنه كان يستمتع مني بعد أن يأمرني بشد الإزار، فيمس بشرته ببشرتي. (وأنا حائض) والحديث قد استدل به على عدم جواز المباشرة فيما بين السرة والركبة، وفيه ما قال ابن دقيق العيد، من أنه ليس في حديث الباب ما يقتضي منع ما تحت الإزار، لأنه فعل مجرد- انتهى. (وكان يخرج رأسه إلى وهو معتكف) في المسجد بأن كان باب الحجرة مفتوحا إلى المسجد، فيخرج رأسه منه إلى الحجرة، وهي فيها. وهذا يدل على أن المعتكف إذا أخرج بعض أعضاءه من المسجد لم يبطل اعتكافه. (فأغسله) أي: رأسه. (وأنا حائض) في الحديث دلالة على طهارة بدن الحائض وعرقها، وأن المباشرة الممنوعة للمعتكف هي الجماع ومقدماته، وأن الحائض لا تدخل المسجد، وفيه استخدام الزوجة. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب مباشرة الحائض من كتاب الحيض. والحديث أخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
549- (3) وعنها، قالت: ((كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيضع فاه على موضع في، فيشرب، وأتعرق العرق، وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيضع فاه على موضع في)). رواه مسلم

(3/465)


550- (4) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم -يتكئ في حجري، وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن)). متفق عليه.
551- (5) وعنها، قالت: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((ناوليني الخمرة من المسجد،
549- قوله: (ثم أناوله النبي) أي: أعطيه الإناء الذي شربت فيه. (فيضع فاه) أي: فمه. (على موضع في) بتشديد الياء، أي: فمي. (وأتعرق العرق) بفتح فسكون، العظم الذي بقي عليه شيء من اللحم، وتعرق العرق أكل ما عليه من اللحم. يقال: عرقت العظم وتعرقته واعترقته، إذا أخذت عنه الحم بأسنانك. والمعنى: وكنت آخذ ما على العظم من اللحم بأسناني. وهذا يدل على جواز مؤاكلة الحائض، ومشاربتها، ومجالستها، وطهارة أعضائها من اليد والفم وغيرهما، وطهارة ريقها وسؤرها من طعام أو شراب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه.
550- قوله: (كان يتكئ في حجري) بتثليث الحاء أي: في حضني، وفي رواية البخاري في التوحيد: كان يقرأ القرآن ورأسه في حجري، وأنا حائض. وفي رواية أبي داود: كان يضع رأسه في حجري، فيقرأ وأنا حائض. فعلى هذا فالمراد بالاتكاء وضع رأسه في حجرها. قال ابن دقيق العيد: في هذا الفعل إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن، لأن قراءتها لو كانت جائزة لما توهم امتناع القراءة في حجرها حتى احتيج إلى التنصيص عليها- انتهى. وفي الحديث جواز ملامسة الحائض، وأن ذاتها وثيابها على الطهارة ما لم يلحق شيئا منها نجاسة. وهذا مبني على منع القراءة في المواضع المستقذرة. وفيه جواز القراءة بقرب محل النجاسة، قاله النووي. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه.

(3/466)


551- قوله: (ناوليني) أي: أعطيني. (الخمرة) بالضم، ما يضع عليه المصلى وجهه في سجوده، أو يصلي عليه، أو يجلس عليه من حصير أو نسيجة خوص، سميت بذلك لأن خيوطها مستورة بسعفها. وفي حديث الفارة عند أبي داود تصريح بإطلاق الخمرة على الكبير من نوعها. (من المسجد) قيل: حال من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: قال: لي حال كونه - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فتكون الخمرة في الحجرة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد. وقيل: حال من الخمرة، فيكون الأمر على العكس، وهو الظاهر. قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله "من المسجد" الظاهر أنه متعلق بناوليني، وعلى هذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - خارج المسجد، وأمرها أن تخرجها له من المسجد بأن كانت الخمرة قريبة إلى باب عائشة تصل إليها اليد من الحجرة. وهذا هو الموافق لترجمة المصنف وأبي داود والترمذي. وقال عياض: إنه قال: ذلك من المسجد لتناوله إياها من خارج المسجد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معتكفا، وكانت عائشة في حجرتها. قال السندي: فكلمة "من" متعلقة بقال, ولا يخفى
فقلت إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك)). رواه مسلم
552- (6) وعن ميمونة، رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يصلي في مرط،

(3/467)


بعده. والحامل له على ذلك أنه جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم، مثل هذه الواقعة، وفيه: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في المسجد فحمل القاضي حديثين على اتحاد الواقعة، وهو غير لازم، بل التعدد هو الظاهر. وقال في حاشية مسلم بعد ذكر قول عياض ما نصه: هذا مبني على أن هذه الواقعة، والواقعة المروية في حديث أبي هريرة واحدة لكن المذكور في حديث أبي هريرة الثوب، وفي حديث عائشة الخمرة، فعند الحمل على الاتحاد لا بد من القول بأنه أمر بتناول الأمرين جميعا ووقع الاقتصار في كل من الحديثين على أحدهما أو أن بعض الرواة نسي الثوب مكان الخمرة، والله تعالى أعلم. فكلمة من على هذا متعلقة بقال في الرواية، وبأمر في الرواية الثانية، وقد يقال: لا حاجة إلى القول بالاتحاد، فيجوز أنه قال لها أولا وهو في المسجد: ناوليني الثوب. وهذا هو ما روى أبوهريرة، وقال لها ثانيا وهو في البيت: ناوليني الخمرة من المسجد. بأن كان الخمرة قريبا إلى باب عائشة يصل إليها اليد من الحجرة، فرأت عائشة أن الثاني أشد من الأول، فاعتذرت بالحيض ثانيا، وعلى هذا فكلمة من متعلقة بناوليني كما هو الظاهر. (فقلت) أي: معتذرة. (إن حيضتك ليست في يدك ) بكسر الحاء اسم للحالة كالجلسة. والمراد الحال التي تلزمها الحائض من التجنب ونحوه، والفتح لا يصح لأنه اسم للمرة، هذا حاصل ما قاله الخطابي. وأنكر هذا عليه عياض، وقال: الصواب ههنا الفتح ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نفي عم يدها الحيض الذي هو الدم والنجاسة ، التي يجب تجنبها واستقذارها. فأما حكم الحيض، وحالتها التي تتصف بها المرأة، فلازم ليدها وجميعها وإنما جاءت الفعلة في هيئات الأفعال كالعقدة والجلسة لا في الأحكام والأحوال . قال النووى: هذا الذي اختاره عياض من الفتح هو الظاهر ههنا، ولما قاله الخطابي وجه – انتهى. قلت: الظاهر عندي هو الكسر، لأن عائشة رضي الله عنها كانت تعلم أن نجاسة الحيض التي

(3/468)


يصان المسجد عنها ليست في يدها، وإنما امتنعت من إدخال يدها في المسجد لأنها علمت أن الحالة العارضة لها من الحيض، وحكمها قد حلت يدها أيضا، وصارت يدها أيضا متلبسة بها، فامتنعت من إدخال اليد معتذرة بأنها حائض، فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: إن حيضتك ليست في يدك، أي: الحالة التي هي كونها حائضة عرضت لها باعتبار مجموعها، لا باعتبار أجزاءها ، واتصف بها المجمع اتصافا واحدا، فلا يقال لليد حائضة حتى يمتنع من إدخالها في المسجد. والحديث فيه دليل على أن للحائض أن تتناول شيئا من المسجد، وأن من حلف أن لا يدخل دارا أو مسجدا فإنه لا يحنث بإدخال بعض جسده فيه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وصححه الترمذي وهو صحيح بتصحيح مسلم إياه كما قاله ابن سيد الناس، وإخراجه له في صحيحه.
552- قوله: (يصلي في مرط) بكسر الميم وسكون الراء كساء من صوف أو خز كانوا يتزرون به ويكون إزارا
بعضه علي وبعضه عليه، وأنا حائض)). متفق عليه .
?الفصل الثاني?
553- (7) عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى حائضا، أوامرأة في دبرها، أوكاهنا، فقد كفر

(3/469)


ورداء (بعضه على ) أي: ملقى على بدني. ( وبعضه عليه) أي: بعض المرط ألقاه عليه الصلاة والسلام على كتفه. ( وأنا حائض) في الحديث دليل على أن أعضاء الحائض طاهرة وإلا فالصلاة في مرط واحد بعضه ملقى على النجاسة وبعضه متصل بالمصلى غير جائز. وفيه أنه يجوز الصلاة في ثوب بعضه على المصلي وبعضه على حائض أو غيرها. (متفق عليه) فيه نظر لأني لم أجده في الصحيحين ولا في أحدهما بهذا اللفظ. وقد أخرج البخاري من حديث ميمونة معنى ما ذكره المصنف في أربعة مواضع من صحيحه في آخر كتاب الحيض قبل التيمم عن الحسن بن مدرك، وفي باب "أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد " عن مسدد، وفي باب: إذا صلى إلى فراش فيه حائض، عن عمرو بن زرارة، وعن أبي النعمان. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحي بن يحي، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، لكن ليس عندهما باللفظ الذي ذكره المصنف، نعم أخرج أبوداود عن ميمونة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى وعليه مرط وعلى بعض أزواجه منه وهي حائض، وهو يصلي، وهو عليه. ولفظ ابن ماجه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى وعليه مرط، بعضه عليه وعليها بعضه وهي حائض. ولأبي داود وابن ماجه نحوه عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض، وعلى مرط لي وعليه بعضه.

(3/470)


553- قوله: (من أتى حائضا) أي: جامعها، فالماد بالإتيان ههنا المجامعة. (أو امرأة) مطلقا سواء كانت حائضا أو غيرها. (أو كاهنا) لا يصح عطفه على حائضا، فلا بد من تقدير "أتى" بمعنى جامع، وجعل الجملة عطفا على الجملة. ومن جوز استعمال المشترك في معنييه يجوز عنده عطف المفرد، على أن المراد بالإتيان بالنسبة إلى المعطوف عليه معنى، وبالنسبة إلى المعطف معنى آخر. وقال الطيبي: "أتى"لفظ مشترك هنا بين المجامعة، وإتيان الكاهن- انتهى. قال القاري: والأولى أن يكون التقدير "أو صدق كاهنا" فيصير من قبيل " علفتها تبنا وماء باردا" والمراد بالكاهن، الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ومن الكهنة من يدعى أن له تابعا من الجن يلقى إليه الأخبار، ومنهم من يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه باسم العراف، كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق. ومكان الضالة, ونحوهما. قال الجزري: وحديث من أتى كاهنا يشمل الكاهن والعراف والمنجم. (فقد كفر) الظاهر أنه محمول على التغليظ والتشديد كما يقال الترمذي: إنما معنى عند أهل العلم على التغليظ. وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أتى حائضا فليتصدق بدينار, فلو كان إتيان الحائض كفرا لم يؤمر فيه بالكفارة - انتهى. وقيل: إن
بما أنزل على محمد)) رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. وفي روايتهما: فصدقه بما يقول فقد كفر، وقال:الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم، عن أبي تميمة عن أبي هريرة.
554- (8) وعن معاذ بن جبل، قال: قلت: ((يا رسول الله! ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: ما فوق الإزار، والتعفف عن ذلك أفضل،

(3/471)


كان المراد الإتيان باستحلال وتصديق فالكفر محمول على ظهره، وإن كان بدونهما فهو على كفران النعمة، أو على معنى عمل معاملة من كفر. (بما أنزل على محمد) من الكتاب والسنة. (رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود في الكهانة والتطير، وابن الجارود في المنتقى (ص58) والحاكم (وفي روايتهما) أي:ابن ماجه والدارمي (فصدقه) أي: الكاهن. (بما يقول فقد كفر) وبه تقيد رواية الترمذي، فيخرج من أتاه ليظهر كذبه، أو للاستهزاء بما هو عليه. وهذه الزيادة عند أحمد وأبي داود، وابن الجارود، والحاكم أيضا. ولعل الترمذي اختصرها. (وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم) بمفتوحة وكسر كاف، ولفظه حديث سقطت من جميع نسخ الكتاب وهي ثابتة عند الترمذي. (الأثرم) بمفتوحة فمثلثة ساكنة البصرى، قال في التقريب: فيه لين. (عن أبي تميمة) بفتح أوله، اسمه طريف بن مجالد الهجيمي، بضم الهاء وفتح الجيم، ثقة، من طبقة الوسطى من التابعين، مات سنة (97) أو قبلها أو بعدها. (عن أبي هريرة) قال الترمذي: ضعف محمد هذا الحديث من قبل إسناده - انتهى. قال الحافظ في ترجمة حكيم الأثرم: قال الذهلي عن ابن المديني أعيانا هذا، وقال مرة: لا أدري من هو. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، يعني عن أبي تميمة عن أبي هريرة: من أتى كاهنا، ولا نعرف لأبي تميمة سماعا من أبي هريرة. وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الأجري عن أبي داود: ثقة. وقال ابن أبي شيبة: سألت عنه ابن المديني، فقال: ثقة عندنا - انتهى. قلت: فتوثيق النسائي وأبي داود وابن حبان، وابن المديني في رواية ابن أبي شيبة لحكمي الأثرم يرد تضعيف الحديث، ويجعل إسناده حسنا أو صحيحا. والله أعلم.

(3/472)


554- قوله: (ما يحل لي من امرأتي؟) أي: أي: موضع يباح لي من أعضاءها؟ (قال: ما فوق الإزار) أي: يجوز لك الاستمتاع ما فوق الإزار، أي: ما فوق السرة، لأن موضع الإزار هو السرة. (والتعفف) أي: ومع ذلك التجنب والامتناع. (عن ذلك) أي: عن الاستمتاع بما فوق الإزار. (أفضل) لأنه من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فلعل غلبة الشهوة توقعه في الحرام، فندب إلى التعفف احتياطا. والحديث دليل على تحريم المباشرة محل الإزار، وهو ما بين السرة والركبة، لكن الحديث ضعيف، وقد عارضه حديث أنس: اصنعوا كل شيء إلا النكاح. وهو أصح من هذا، فهو أرجح منه، ولا يكون مثل هذا المفهوم مخصصا لعموم كل شيء، فلا يعارض المنطوق الدال على الجواز.
رواه رزين، وقال محى السنة: إسناده ليس بقوي.
555- (9) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وقع الرجل بأهله، وهي حائض، فليتصدق بنصف دينار،

(3/473)


قال العراقي: قوله: والتعفف عن ذلك أفضل، هذا يقوي ما يقرر من ضعف الحديث، فإنه خلاف المنقول عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستمتع بما فوق الإزار، وما كان ليترك الأفضل، وعلى ذلك عمل الصحابة، والتابعون والسلف الصالحون. قال السيوطي: لعله علم من حال السائل غلبة شهوته فرأي أن تركه لذلك أفضل في حقه لئلا يوقعه في محظور. (رواه رزين) وأخرجه أيضا أبوداود في باب المذى، وضعفه، قال: ليس هو يعني الحديث بقوى، أي: لأن في سنده بقية بن الوليد وهو مدلس، وقد رواه عن سعد بن عبدالله الأغطش بالعنعنة، وسعد الأغطش ليس الحديث، وعبدالرحمن بن عائذ لم يسمع من معاذ، فهو منقطع. قال الحافظ في التلخيص: ورواه الطبراني من رواية إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن عبدالله الخزاعي، فإن كان هو الأغطش، فقد توبع بقية، وبقيت جهالة سعيد، فإنا لا نعرف أحدا وثقة، وأيضا فعبدالرحمن بن عائذ رواية عن معاذ، قال أبوحاتم: روايته عن على مرسلة، فإذا كان كذلك، فعن معاذ أشد إرسالا- انتهى. وفي الباب عن حرام بن حكيم عن عبدالله بن سعد، أخرجه أبوداود.

(3/474)


555- قوله: (إذا وقع الرجل بأهله) أي: جامعها. (فليتصدق بصنف دينار) كذا وقع في هذه الرواية، ولعلها اختصار من بعض الرواة، أو سهو، ففي سندها خصيف، وهو سيء الحفظ، خلط بآخره. والحديث قد روى بأسانيد كثيرة، وبألفاظ مختلفة، أصحها وأرجحها ما رواه أبوداود، قال: حدثنا مسدد، نا يحيى عن شعبة قال: حدثني الحكم عن عبدالحميد بن عبدالرحمن عن مقسم عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: يتصدق بدينار، أو نصف دينار. ورواه النسائي عن عمرو بن علي، عن يحيى. ورواه ابن ماجة، عن محمد بن بشار، عن يحي ابن سعيد، ومحمد بن جعفر، وابن أبي عدى. ورواه أحمد عن يحيى ومحمد بن جعفر. ورواه ابن الجارود عن محمد بن يحيى عن وهب ابن جرير، وعن أحمد بن محمد الشافعي، ع الحسن بن علي الحلواني، عن سعيد بن عامر. ورواه الحاكم في المستدرك من طريق مسدد عن يحيى. ورواه البيهقي من طريق الفضل بن عبدالجبار، عن النضر بن شميل كل هؤلاء عن شعبة، عن الحكم عن عبدالحميد عن مقسم عن ابن عباس مرفوعا. قال أبوداود: هكذا الرواية الصحيحة، قال: دينار أو نصف دينار. وربما لم يرفعه شعبة- انتهى. فهذه الرواية أصح الروايات في ذلك وأرجحها، فكل رواتها مخرج لهم في الصحيح إلا مقسما الراوي عن ابن عباس، فانفرد به البخاري، لكن ما أخرج له إلا حديثا واحدا. وقد صحح هذه الرواية الحاكم، ووافقه الذهبي وصححها أيضا ابن القطان وابن دقيق العيد. وقال أحمد: ما أحسن حديث عبدالحميد عن مقسم عن ابن عباس، فقيل له: تذهب إليه؟

(3/475)


قال: نعم، إنما هو كفارة، ذكره الخلال. وبالجملة رواية عبدالحميد هذه صحيحة لكن وقع الاختلاف في رفعها ووقفها فرفعها شعبة مرة ووقفها مرة. قال الحافظ في بلوغ المرام بعد ذكر هذه الرواية مرفوعة: صححه الحاكم، وابن القطان، ورجح غيرهما وقفه. قال الشوكاني في النيل (ج1:ص268): ويجاب عن دعوى الاختلاف في رفعه ووقفه بأن يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدى رفعوه عن شعبة، وكذلك وهب بن جرير، وسعيد بن عامر، والنضر بن شميل، وعبدالوهاب بن عطاء الخفاف. قال: ابن سيد الناس: من رفعه عن شعبة أجل وأكثر وأحفظ ممن وقفه. وأما قول شعبة: أسنده لي الحكم مرة ووقفه مرة، فقد أخبر عن المرفوع والموقوف أن كلا عنده، ثم لو تساوي رافعوه مع واقفيه لم يكن في ذلك ما يقدح فيه. قال:أبوبكر الخطيب: إختلاف الروايتين لا يؤثر في الحديث ضعفا، وهو مذهب أهل الأصول، لأن إحدى الروايتين ليست مكذبة لأخرى، والأخذ بالمرفوع بالزيادة وهي واجبة القبول-انتهى. وإذا عرفت أن هذه الرواية صحيحة، فاعلم أنهم اختلفوا في لفظه "أو" فحملها بعضهم على الشك، وبعضهم على التنويع، والتفصيل بين حالي الدم ووقتيه، وبعضهم على التخيير، فقد نقل الخطابي في معالم السنن (ج1:ص84) أن أحمد بن حنبل كان يقول: وهو مخير بين الدينار ونصف الدينار، فهذا يدل على أن أحمد كان يرى أن أصل اللفظ في الحديث على التخيير لا على الشك، ولا على التفصيل. قال الشوكاني: والحديث يدل على وجوب الكفارة على من وطى امرأته وهي حائض، وإلى ذلك ذهب ابن عباس والحسن البصري، وسعيد بن جبير وقتادة والأوزاعي وإسحق وأحمد في الرواية الثانية عنه، والشافعي في قوله: القديم – انتهى. قال العيني: ثم إن الذين ذهبوا إلى عدم الوجوب أجابوا أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: يتصدق، محمول على الاستحباب. وقال العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي بعد ذكر القول بالتخيير عن أحمد ما لفظه: وإذا ثبت أن أصل

(3/476)


الحديث الأمر بالتخيير بين الدينار وبين نصف الدينار فإني أي:أن الأمر فيه ليس للوجوب، وإنما هو للندب، لأن الأصل في الأمر أن يكون للوجوب على الحقيقة. ولا يكون للندب إلا مجازا، والمجاز لا بد له من قرينة تمنع إرادة المعنى الحقيقي، والقرينة هنا في نفس اللفظ، لأن التخيير في المأمور به بين أن يكون قليلا أو كثيرا من نوع واحد يجل على أن الزائد عن القليل ليس واجبا، لأن الدينار الواحد له نصفان، وقد أمر مخيرا بين أداءه كله، وبين أداء نصف من نصفيه فإذا أدى النصف كان آتيا بالمأمور به في أحد شقى الأمر، ولم يأت إلا ببعضه في الشق الآخر، وبرئت ذمته بما أتاه من المأمور به، فكان الذي لم يأت به غير واجب بنفس دلالة اللفظ، فدل لفظ الأمر على أن بعض مدلوله ليس مرادا به الوجوب، فخرج بذلك عن الحقيقة إلى المجاز. وإذ خرج في بعض مدلوله عن الحقيقة لهذه القرينة القاطعة، خرج في كل مدلوله، لامتناع استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا. وتحقيق ذلك في موضعه من علو الأصول. وليس هذا من باب الواجب المخير المعروف في الفقة والأصول، لأن الواجب المخير إنما يكون في التخيير بين أنواع مأمور بها لا في التخيير بين القليل والكثير من نوع واحد وهذا ثابت بالتتبع - انتهى كلامه.
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه.

(3/477)


(رواه الترمذي وأبوداود) كلاهما من طريق شريك بن عبدالله، عن خصيف عن مقسم عن ابن عباس. ورواه أيضا من هذا الطريق أحمد والبيهقي. (والنسائي)فيه نظر، لأن النسائي لم يرو هذه الرواية. (والدارمي) من طريق شريك عن خصيف عن مقسم. ورواه أيضا من طريق الثوري عن خصيف نحو رواية شريك. (وابن ماجه) من طريق أبي الأحوص، عن عبدالكريم بن مالك الجزري، عن مقسم، عن ابن عباس. قال المنذرى: هذا الحديث يعني حديث ابن عباس في كفارة إتيان الحائض قد وقع الاضطراب في سنده ومتنه، فروى مرفوعا موقوفا ومرسلا ومعضلا. وقال عبدالرحمن بن مهدي: قيل لشعبة: إنك كنت ترفعه، قال: إني كنت مجنونا، فصححت-انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: والاضطراب في إسناد هذا الحديث ومتنه كثير. قلت: لاشك في أن في إسناد هذا الحديث ومتنه اختلافا كثيرا لكن قد تقرر في موضعه أن مجرد الاختلاف لا يؤثر في صحة الحديث بل يشترط له استواء وجوه الاختلاف، فمتى رجحت رواية من الروايات المختلفة من حيث الصحة قدمت، ولا تعل الرواية الراجحة بالمرجوحة، وههنا رواية عبدالحميد، عن مقسم، عن ابن عباس بلفظ: فليتصدق بدينار أو بنصف دينار صحيحة راجحة، كما تقدم النقل في تصحيحها عن الحاكم، والذهبي وابن القطان وابن دقيق العيد، وأحمد بن حنبل، وأما باقي الروايات فضعيفة مرجوحة لا توازي رواية عبدالحميد فلا تعل رواية عبدالحميد هذه بالروايات المرجوحة. والعجب من المصنف أنه أورد هذا الباب رواية خصيف عن مقسم عن ابن عباس بلفظ: يتصدق بنصف دينار، وهي رواية ضعيفة مرجوحة، ولم يورد رواية عبدالحميد عن مقسم عن ابن عباس بلفظ: يتصدق بدينار أونصف دينار، وهي أرجح الروايات وأصحها. قال الحافظ في التلخيص: قد أمعن ابن القطان القول في تصحيح هذا الحديث، والجواب عن طريق الطعن فيه بما يراجع منه، وأقر ابن دقيق العيد تصحيح ابن القطان وقواه في الإمام وهو الصواب، فكم من حديث قد احتجوا به، وفيه من

(3/478)


الاختلاف أكثر مما في هذا الحديث كحديث بئر بضاعة، وحديث القلتين، ونحوهما. وفي ذلك ما يرد على النووي في دعواه في شرح المهذب، والتنقيح، والخلاصة، أن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه، وأن الحق أنه ضعيف باتفاقهم، وتبع في بعض ذلك ابن الصلاح-انتهى كلام الحافظ. وأما قول عبدالرحمن بن مهدي: قيل لشعبة: إنك كنت ترفعه؟ قال: "إني كنت مجنونا فصححت" ففيه أنه اختلف النقل فيه عن شعبة، فروى هذا الحديث الدارمي، عن أبي الوليد، عن شعبة موقوفا، وعن سعيد بن عامر عن شعبة موقوفا أيضا. وقال: قال شعبة: أما حفظي فهو مرفوع، وأما فلان وفلان، فقالا غير مرفوع. قال بعض القوم: حدثنا بحفظك ودع ماقال فلان وفلان، فقال: والله ما أحب أني عمرت في الدنيا عمر نوح وإني حدثت بهذا أو سكت عن هذا. فهذه الرواية عن شعبة ترشد إلى أنه كان على وثوق من حفظه، ويقين برفعة، ثم إنه تردد واضطرب حين رأى غيره يخالفه، فيرويه موقوفا، ثم جعل هو يرويه موقوفا أيضا، وهذا كما ترى لا يؤثر في يقينه الأول برفعة. وقد تابعه في رفعه غيره، فرواه البيهقي عن إبراهيم بن طهمان عن مطر الوراق عن الحكم عن المقسم عن ابن عباس مرفوعا. قال المنذري: وأما الاضطراب في متنه فروى"بدينار أو نصف دينار"على الشك. وروى: يتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار. وروى "إذا كان
556- (10) وعنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان دما أحمر، فدينار، وإن كان دما أصفر، فنصف
دينار)). رواه الترمذي.
?الفصل الثالث?
557- (11) عن زيد بن أسلم، قال: ((إن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما يحل لي من

(3/479)


دما أحمر فدينار، وإن كان دما أصفر فنصف دينار"وروى"إن كان الدم عبيطا فليتصدق بدينار، وإن كان صفرة فنصف دينار"- انتهى. قلت: قد تقدم أن أصح الروايات وأرجحها في ذلك رواية من قال: بدينار أو نصف دينار. وهي التي صحح لفظها أبوداود بقوله: هكذا الرواية الصحيحة، قال: دينار أو نصف دينار. فتقدم هذه الرواية على غيرها من الروايات.
556- قوله:(إذا كان) أي: الحيض (دما أحمر فدينار) أي: على المجامع فيه. (وإذا كان دما أصفر فنصف دينار) إن صح الحديث فالأظهر فيه أنه تعبد محض لا مدخل للعقل فيه، لكن قد تقدم أن الرواية الصحيحة دينار أو نصف دينار من غير تفصيل بين حالي الدم أو وقتيه. وقال: العلامة المصري في تعليقه على الترمذي: أما التفصيل بين حالي الدم أو وقتيه فإنه تفسير من الرواة قطعا. ثم دخل على بعض الرواة عنهم، فظنوه من متن الحديث، فنقلوه كذلك. وقد حفظ لنا سعيد بن أبي عروبة الدليل الصريح على أن التفسير أو التفصيل إنما هو من بعض الرواة. ففي رواية البيهقي (ج1:ص315) من طريق عبدالوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن مقسم عن ابن عباس مرفوعا "بدينار أو نصف دينار" ففسره قتادة، قال: إن كان واجدا فدينار وإن لم يجد فنصف دينار. وفي رواية أيضا (ج1: ص317) من طريق عبدالوهاب عن سعيد عن عبدالكريم عن مقسم عن ابن عباس مرفوعا. وفسر ذلك مقيم، فقال: إن غشيها في الدم فدينار، وإن غشيها بعد انقطاع الدم قبل أن تغتسل، فنصف دينار. وفي رواية أيضا من طريق روح بن عبادة عن سعيد عن عبدالكريم أبي أمية عن عكرمة عن ابن عباس، فذكر نحو هذا، ونسب التفسير إلى مقسم أيضا مع أنه ليس في هذا الإسناد- انتهى. (رواه الترمذي) من طريق أبي همزة السكري، عن عبدالكريم عن مقسم عن ابن عباس. وأخرج بنحوه الدارمي، والدارقطني كلاهما من طريق أبي جعفر الرازي عن عبدالكريم عن مقسم عن ابن عباس مرفوعا.

(3/480)


557- قوله: (عن زيد بن أسلم) العدوى مولى عمر بن الخطاب، يكنى أبا عبدالله أو أبا أسامة المدني، ثقة من أهل الفقه والعلم، وكان عالما بتفسير القرآن، وكان يرسل من الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة (136) في العشر الأول من ذي الحجة. (إن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لعل الرجل السائل هو عمر بن الخطاب مولى زيد بن أسلم، فقد روى أبويعلى عن
امرأتي وهي حائض؟ فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: تشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها)) رواه مالك والدارمي مرسلا .
558- (12) وعن عائشة، قالت: ((كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير، فلم نقرب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ندن منه حتى نطهر)). رواه أبوداود.

(3/481)


عاصم بن عمر أن عمر قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ قال: ما فوق الإزار. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، ويمكن أن يكون السائل عبدالله بن سعد. فقد روى أبوداود عنه قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: لك ما فوق الإزار (تشد) بفتح التاء وضم الشين والدال، خبر معناه الأمر. وفي الموطأ والدارمي "لتشد" بزيادة اللام (ثم شأنك بأعلاها) أي:استمتع بما فوق فرجها، وشأنك بالنصب بإضمار فعل، أي: خذ، ويجوز رفعه على الإبتداء، والخبر محذوف تقديره مباح أو جائز. وفيه دليل على منع الاستمتاع بما تحت الإزار، لكن الحديث مرسل، والمرسل على القول الأصح ليس بحجة، ولو سلم اعتضاده بما تقدم من حديث عاصم بن عمر وعبد الله بن سعد، فلا يدل على منع ذلك إلا بالمفهوم، وقد عارضه منطوق حديث: إصنعوا كل شيء إلا النكاح، وهو أصح منه، فيقدم عليه، وقد تقدم أن الطحاوي رجح الجواز، وقواه العيني والسندي دليلا، واختاره أصبغ من المالكية، ورجحه النووي دليلا (رواه مالك والدارمي) من طريق مالك (مرسلا) بفتح السين. والحديث المرسل ما سقط منه الصحابي كقول نافع: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا أو فعل كذا أو فعل بحضرته كذا. قال ابن عبدالبر: لا أعلم أحدا رواه بهذا اللفظ مسندا، ومعناه صحيح ثابت- انتهى. قلت: روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله! مالي من امرأتي وهي حائض؟ قال:تشد عليها إزارها ثم شأنك بها. وفيه أبونعيم ضرار بن صرد، وهو ضعيف، قاله الهيثمي.

(3/482)


558- قوله:(إذا حضت) بكسر الحاء (عن المثال) أي: الفراش (فلم نقرب) بفتح النون والراء (رسول الله) بالنصب (- صلى الله عليه وسلم -، ولم ندن) بفتح النون الأولى وضم الثانية (منه حتى نطهر) بالنون. هذا مخالف لما سبق، ولعله منسوخ إلا أن يحمل القربان والدنو على الغشيان كما في قوله تعالى: ?ولا تقربوهن حتى يطهرهن? [222:2] فإن كل واحد من الزوجين يدنو ويقرب من الآخر عند الغشيان، قاله القاري نقلا عن الطيبي. قلت: التأويل هو المتعين للجمع بين الأحاديث. وقال ابن حجر: هذا كان شأنهن معه- صلى الله عليه وسلم - ، أعنى إنهن يعتزلنه خوفا من شمه أو رؤيته لبعض ما ينفر مما بهن حتى يدعونهن إلى معاشرته (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. قلت: في سنده أبواليمان الرحال، قال الحافظ في التقريب: مستور، وذكره ابن حبان في الثقات.
(13) (باب المستحاضة)

(3/483)


(باب المستحاضة) هي المرأة التي استمر بها الدم بعد أيامها، من الإستحاضة، وهي جريان الدم من فرجها في غير أوانه من عرق في أدنى الرحم دون قعره، يقال:لذلك العرق العاذل. يقال: استحيضت المرأة- بالبناء للمفعول- إذا استمر بها الدم، فهي مستحاضة، وهي من الأفعال اللازمة البناء للمفعول، وأصلها من الحيض، لحق الزوائد للمبالغة كما يقال: قر في المكان واستقر، وأعشب، ثم يزاد للمبالغة فيقال: اعشوشب. قال العيني (ج1:ص142) فإن قلت: ما وجه بناء الفعل للفاعل في الحيض، وللمفعول في الإستحاضة؟ قلت: لما كان الأول معروفا معتادا نسب إليها، والثاني لما كان نادرا غير معروف الوقت، وكان منسوبا إلى الشيطان كما ورد أنها ركضة منه، بنى لما لم يسم فاعله. فإن قلت: ما هذه السين؟ قلت: يجوز أن تكون للتحول كما في استحجر الطين، وههنا تحول دم الحيض إلى غيره، وهو دم الإستحاضة- انتهى. وحكمها حكم الطاهرة في العبادات والوطي عند الجمهور، خلافا لأحمد في الوطي. واعلم أن المستحاضة على أربعة أقسام: الأولى مبتدأة مميزة. الثانية مبتدأة غير مميزة. الثالثة معتادة من غير تمييز. الرابعة معتادة بتمييز، فأما الأولى فهي التي ابتدأ بها الحيض، ولم تكن حاضت قبله، واستمر بها الدم، وكانت مميزة بأن ترى في بعض الأيام دما أسود، وفي بعضها دما أحمر أو أصفر، فحيضها مدة تمييزها، أي:حكمها أن حيضها زمن الدم الأسود بشرط أن لا يزيد على أكثر الحيض، فإن زاد على أكثره لم يكن حيضا. قال ابن العربي في شرح الترمذي: الأصل في اعتبار التمييز حديث لا بأس به، يرويه العلماء عن فاطمة بنت أبي حبيش: أن دم الحيض دم أسود يعرف. وقد خرجناه من طريق حسنة، لها مدخل في الصحة يعضده قوله:في الصحيح حسب ما قدمناه لها "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة" وفي هذا الحديث عندي نظر عظيم، والأول أقرب إلى الحجة وأسلم واضح المحجة- انتهى. وأما الثانية وهي مبتدأة من غير تمييز فإن حاضت حيض لداتها

(3/484)


يعني أهل سنها، وقيل: أقرانها، حكم لها بحكم الحيض، وإن زادت عليه، فقيل: تجلس أكثر الحيض يعني خمسة عشر يوما، ثم يحكم لها بالإستحاضة. وقيل: تجلس عادة نسائها كأختها وأمها. وقيل: تجلس غالب من كل شهر، وذلك ستة أيام أو سبعة أيام. وهذا أشبه بالحق لحديث حمنة بنت جحش الآتي في الفصل الثاني. وأما الثالثة وهي المعتادة من غير تمييز، يعني التي لها عادة معلومة قبل أن تستحاض، ولا تمييز لها لكون دمها لا يتميز بعضه من بعض، فإنها تجلس أيام عادتها، ثم تغتسل عند انقضائها، وتتوضأ لكل صلاة. وعليه يدل حديث أم سلمة وحديث عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده في الفصل الثاني، وحديث عائشة في أم حبيبة بنت جحش عند مسلم وغيره، ففيه: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي. وأما الرابعة وهي المعتادة بتمييز، فإن كان الأسود في زمن العادة فقد اتفقت العادة والتمييز، فيعمل بهما، وإن اختلفت العادة والتمييز فقيل: يقدم التمييز وتدع العادة ، يعني يكون الاعتبار للتمييز لا للعادة، لأن التمييز أولى ، لأن العادة قد تختلف والتمييز لا يختلف، ولأن
?الفصل الأول?
559- (1) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! إني امرأة ، أستحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة ؟

(3/485)


النظر إلى اللون اجتهاد والنظر إلى العادة تقليد، والاجتهاد أولى من التقليد. وقيل: العبرة للعادة لا للتمييز فترد إلى العادة وهو الراجح عندي، لأن العادة أقوى لكونها لا تبطل دلالتها، والدم الأسود إذا زاد على أكثر مدة الحيض بطلت دلالته، فما لا تبطل دلالته أولى، ولأنه- صلى الله عليه وسلم -رد أم حبيبة والمرأة التي استفتت لها أم سلمة إلى العادة من غير استفصال وتفريق بين كونها مميزة، وكذا حديث عدي بن ثابت عام في كل مستحاضة، وقد تكلم في إسناده بما لا يوجب سقوطه عن درجة الاعتبار ثم اعلم أن الحنفية لم يعتبروا التمييز مطلقا فالمستحاضة عندهم على ثلاثة أنواع، الأولى مبتدأة مميزة كانت أو غير مميزة، وحكمها عندهم أنها تجلس أكثر الحيض. والثانية معتادة ذات تمييز كانت أو غير ذات تمييز، وحيضها أيم عادتها. والثالثة متحيرة، وهي التي كانت لها عادة معلومة لكن نسيت أيامها، والتبس عليها قدر عادتها. وقد تحيروا في حكم المتحيرة، وتخبطوا، واضطربت أقوالهم فيه اضطرابا يبعد فهمه على أذكياء الطلبة، فضلا عن النساء الموصوفات بنقصان العقل والدين، ولا إشكال في حكمها عندنا، فإنها إن كانت ذات تمييز، فالدم الأسود حيض وإن كانت غير ذات تمييز، جلست ستة أيام أو سبعة أيام، كما في حديث حمنة، وحديث فاطمة: إن دم الحيض دم أسود يعرف. يرد عليهم في منع اعتبار التمييز مطلقا. هذا، وقد وردت في المستحاضة روايات مختلفة، لكنها عند الإمعان ترجع إلى ثلاثة أحاديث، يعلم منها أحكام جميع أنواع المستحاضة كما أشرنا إلى ذلك. قال ابن قدامة في المغني (ج1:ص323): قال الإمام أحمد: الحيض يدور على ثلاثة أحاديث، حديث فاطمة وأم حبيبة وحمنة. وفي رواية حديث أم سلمة مكان حديث أم حبيبة-انتهى. وقد بسط الكلام في أحوال المستحاضة وأنواعها في المغني (ج1:ص328-352) فمن شاء رجع إليه.

(3/486)


559- قوله:(فاطمة بنت أبي حبيش) بضم حاء مهملة وفتح باء موحدة وياء ساكنة بعدها شين معجمة، واسمه قيس بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى بن قصي، مهاجرية جليلة، روت عن النبي- صلى الله عليه وسلم -حديث الإستحاضة، وعنها عروة ابن الزبير. وقيل: عن عروة عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: فذكره. وهو أول أحاديث الفصل الثاني (أستحاض) بهمزة مضمومة وفتح تاء، أي:استمر بي الدم فلا ينقطع، ولم ترد الإستحاضة الفقهية، وهي جريان الدم في غير أوانه، لأنها لو كانت تعلم أنها إستحاضة شرعية ما أشكل عليها الأمر (فلا أطهر) أي: لا ينقطع عني الدم (أفأدع الصلاة) عطف على مقدرة بعد الهمزة لأن لها صدر الكلام، أي: أيكون لي حكم الحائض؟ فأترك الصلاة
فقال: لا، إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك

(3/487)


(فقال: لا) أي: لا تدع الصلاة (إنما ذلك) بكسر الكاف خطاب للمؤنث أي: الذي تشتكينه (عرق) بكسر العين، أي: دم عرق انشق وانفجر منه الدم، أو إنما سبب ذلك عرق في أدنى الرحم، وهذا بيان لعدم كونه حيضا، وليس بيانا لكونه ناقضا للوضوء كما توهمت الحنفية. قال الخطابي: ليس معنى الحدث ما ذهب إليه هؤلاء، ولا مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما توهموه، وإنما أراد أن هذه العلة إنما حدثت بها من تصدع العرق، وتصدع العرق علة معروفة عند الأطباء، يحدث ذلك عند غلبة الدم، فتتصدع العروق إذا امتلأت تلك الأوعية- انتهى. قلت: لا شك في أن هذا هو مراده- صلى الله عليه وسلم - بذلك الكلام، وما ساق الكلام إلا لأجله، وليس فيما قاله الخطابي، تخصيص لعمومه، ولا تقييد لإطلاقه كما لا يخفى (وليس بحيض) فإن الحيض يخرج من قعر رحم المرأة، فهو إخبار باختلاف المخرجين، وهو رد لقولها: لا أطهر، لأنها اعتقدت أن طهارة الحائض لا تعرف إلا بانقطاع الدم، فكنت بعدم الطهر عن اتصاله، وكانت قد علمت أن الحائض لا تصلي، فظننت أن ذلك الحكم مقترن بجريان الدم، فأبان لها - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس بحيض وأنها طاهرة يلزمها الصلاة (فإذا أقبلت حيضتك) بفتح الحاء ويجوز كسرها، والمراد بالإقبال ابتداء دم الحيض، وبالإدبار ابتداء انقطاعها. واعلم أنهم اختلفوا في أن فاطمة بنت أبي حبيش معتادة كانت أو مميزة غير معتادة. فمال البيهقي والترمذي وغيرهما من فقهاء أصحاب الحديث إلى أنها مميزة. قال الترمذي: قال أحمد وإسحق في المستحاضة إذا كانت تعرف حيضها بإقبال الدم وإدباره، فإقباله أن يكون أسود، وإدباره أن يتغير إلى الصفرة، فالحكم فيها على حديث فاطمة بنت أبي حبيش- انتهى. واستدل هؤلاء على كونها مميزة بأول حديث الفصل الثاني، وبقوله: إذا أقبلت حيضتك، في هذا الحديث. قالوا: الحيضة بالكسر، والمراد بها الحالة التي تكون للحيض من قوة الدم في اللون والقوام.

(3/488)


وإن كان بالفتح فالمراد بإقبال حيضتها بالصفة. قال بعض الحنفية: لفظ الإقبال والإدبار يؤيد الشافعي في اعتبار اللون، فإنه يعلم منه أن دم الحيض دم متميز بنفسه يعرف إذا أقبل وإذا أدبر، فالإحالة على الدم مشعر بأن دم الطمث مغاير لدم الإستحاضة بنفسه، ومتميز كتمايز سائر الماهيات، ولذا اكتفى بالإحالة على الإسم لأنه كان من الأشياء المتميزة بنفسها كما في رواية: فإنه دم أسود يعرف. قلت: في الاستدلال به على كونها ذات تمييز خفاء لأنه يمكن أن يقال:أن المراد بالحيضة- بالكسر- الحالة التي كانت تحيض فيها، وهي تعرفها، فيكون ردا إلى العادة. وبإقبال حيضتها– بالفتح – إقبال أيام الحيض، أي:وجود الدم في أول أيام العادة، ويؤيده ما في رواية للبخاري من هذا الحديث: فإذا ذهب قدرها، يعني قدر أيم الحيضة وقال من ذهب إلى كونها مميزة: أي:ذهب قدر الحيضة على ما قدره الشارع، أو على ما تراه المرأة باجتهادها، ولا يخفى بعد هذا التأويل بل يبطله ما وقع في رواية أخرى للبخاري أيضا: ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها. فإنها صريحة في أنه - صلى الله عليه وسلم - ردها إلى عادتها، وبالجملة في الاستدلال بلفظ"إقبال الحيض وإدباره"على كونها مميزة نظر.
فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي)). متفق عليه.

(3/489)


واحتج من ذهب إلى كونها معتادة بروايتي البخاري المتقدمتين، وبما رواه أبوداود وغيره من طريق المنذر عن عروة عن فاطمة أنها سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -- الحديث. وفيه: فانظري إذا أتاك قرءك فلا تصلي وإذا مر قرءك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء. والأصل في القرء الوقت المعلوم، ولذلك أطلق على الضدين الحيض والطهر، لأن لكل منهما وقتا. وبما رواه أبوداود أيضا والدارقطني عن عروة، عن أسماء بنت عميس أن فاطمة أمرتها أن تسأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم -فأمر أن تقعد الأيام التي كانت تقعد، ثم تغتسل. قال المنذري: حديث حسن. وبحديث أم سلمة الآتي, فإن المرأة التي استفتت لها أم سلمة هي فاطمة بنت أبي حبيش كما ستقف عليه. والظاهر عندي أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت معتادة متميزة. وكان الدم الأسود في زمن عادتها، أي:اتفقت العادة والتمييز، فردها إلى العادة مرة، وإلى التمييز أخرى، لأنه لم يكن بينهما تخالف ويحتمل كما قال البيهقي: أن كانت لها حالان في مدة استحاضتها حالة تميز بين الدمين، فأمرها بالجوع إلى العادة- انتهى (فاغسلي عنك الدم) أي: واغتسلي. ففي رواية للبخاري: ثم اغتسلي، وصلي. لكن ليس فيها ذكر غسل الدم. وهذا الاختلاف من الرواة، اقتصر بعض الرواة على أحد الأمرين والآخر لوضوحه عنده (ثم صلي) أي:بعد الاغتسال. زاد البخاري في هذه الرواية: ثم توضئ لكل صلاة حتى يجئ ذلك الوقت. والحديث فيه دليل على أن المستحاضة إذا أقبلت حيضتها بالعادة أو بالصفة تعمل على إقبالها، فتترك الصلاة، فإذا انقضى قدرها أي:قدر أيام العادة، أو قدر الحيضة على ما تراه المرأة باجتهادها بحسب قوة الدم ولونه، اغتسلت منه، ثم صار حكم دم الإستحاضة حكم الحدث، فتتؤضأ لكل صلاة لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤداة أو مقضية، لظاهر قوله: ثم توضئ لكل صلاة. وبهذا قال الجمهور، فوضوء المستحاضة عندهم للصلاة لا للوقت. وأما ما روى

(3/490)


أبوحنيفة, عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال لفاطمة بنت أبي حبيش: توضئ لوقت كل صلاة. ففي كونه محفوظا نظر قوي وكلام ظاهر، فإن الطرق الصحيحة كلها قد وردت بلفظ: توضئ لكل صلاة، وأما هذا اللفظ فلم يقع في واحد منها. وقد تفرد به أبوحنيفة، وهو سيء الحفظ كما صرح به ابن عبدالبر. وقال بعض الحنفية: لو ثبت لفظ"وقت الصلاة" لم ينفصل منه الأمر أيضا، لأنه يجري البحث بعده في السبب هل هو الصلاة أو الوقت؟ ويسوغ لهم أي:الشافعية أن يقولوا: أن للام للظرف، فوقت الصلاة ظرف للوضوء لا سبب وإنما السبب هو الصلاة كما في قولنا: أتيت فلانا لخمس مضين من رمضان. فإن اللام فيه للظرف لا للسبب، فالوضوء يجب على المعذور لأجل الصلاة في وقتها عندهم، فصح ما في المعنى لوقت كل صرة على مذهبهم أيضا- انتهى (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب غسل الدم. وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
?الفصل الثاني?
560- (2) عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش، ((أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي- صلى الله عليه وسلم -: إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك، فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر، فتوضئ وصلي، فإنما هو عرق)) رواه أبوداود، والنسائي.

(3/491)


560- قوله( فإنه) أي: الحيض، أو دمه (يعرف) بصيغة المجهول من المعرفة أي: تعرفه النساء باعتبار لونه، وثخانته، ونتنه. وقيل: بكسر الراء من الأعراف أي: له عرف ورائحة (فإذا كان ذلك) بكسر الكاف، أي: فإذا كان الدم دما أسود. قال القاري: أعاده لطول الفصل كما في قوله تعالى: ?ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما? [89:2] وقوله "فإنه دم أسود" استئناف مبين متفرع على كون الدم دم الحيض، ولا يصلح أن يكون تعليلا للجواب المذكور أو المقدر كما قرره ابن حجر، فتدبر (فأمسكي عن الصلاة) من الإمساك أي:أتركيها (فإذا كان الآخر) بفتح الخاء أي: الذي ليس بتلك الصفة بأن كان دما أحمر أو أصفر (فتوضئ) لكل صلاة مفروضة أي:بعد الاغتسال من انقطاع دم الحيض (فإنما هو) أي:الدم الذي هو على غير صفة السواد (عرق) أي: دم عرق انفجر، يقال له: العاذل. يعني دم الإستحاضة يخرج من عرق في أدنى الرحم دون قعره. والحديث فيه دليل على أنه يعتبر التمييز بصفة الدم، فإذا كان متصفا بصفة السواد فهو حيض، وإلا فهو استحاضة. وفيه دلالة على أنه فاطمة كانت مميزة، ولا مانع من اجتماع المعرفتين في حقها وحق غيرها، وقد تقدم الكلام في ذلك (رواه أبوداود) قال حدثنا محمد بن المثنى: عن محمد بن أبي عدي، عن محمد يعني ابن عمرو، قال: ثنى ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش، قال: إنها كانت تستحاض- الحديث. قال أبوداود: قال ابن المثنى: ثنا به ابن عدي من كتابة هكذا، ثم ثنا به بعد حفظا، قال: حدثنا محمد بن عمرو عن الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: إن فاطمة كانت تستحاض، فذكر معناه. قال في عون المعبود (ج1:ص115): والحاصل أن ابن عدي لما حدث ابن المثنى من كتابة حدثه من غير ذكر عائشة بين عروة وفاطمة. ولما حدثه من حفظه ذكر عائشة بين عروة وفاطمة، ولذلك قال ابن القطان: هذا الحديث منقطع. وأجاب ابن القيم

(3/492)


بأنه ليس كذلك، فإن محمد بن أبي عدي مكانه من الحفظ والإتقان لا يجهل، وقد حفظه، وحدث به مرة عن عروة عن فاطمة، ومرة عن عائشة عن فاطمة وقد أدرك كلتيهما، وسمع منها بلا ريب، ففاطمة بنت عمه، وعائشة خالته. فالانقطاع الذي رمى به الحديث مقطوع دابره، وقد صرح بأن فاطمة حدثته- انتهى. والحديث أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه، وأخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي.
561- (3) وعن أم سلمة، قالت: ((إن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفت لها أم سلمة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك، فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصل)).

(3/493)


561- قوله: (إن امرأة) هي فاطمة بنت أبي حبيش، سماها حماد بن زيد ووهيب، وعبدالوارث، وسفيان الثوري في روايتهم عن أيوب، عن سليمان بن يسار عند الدارقطني (كانت تهراق) بضم التاء وفتح الهاء وتسكن، أي:تصب، وتهراق هكذا جاء مجهولا، ونائب فاعله ضمير يرجع إلى المرأة، وهاءه بدل من الهمزة. أراق الماء يريقه، وهراقه يريقه بفتح هاء هراقة، ويقال: أهرقته أهرقه إهراقا بجمع بين البدل والمبدل منه كذا في المجمع. وقد تقدم تحقيقه بأبسط من هذا (الدم) بالنصب على التمييز وإن كانت معرفة على تقدير زيادة اللام، أي:تهراق هي الدم، أو منصوب بنزع الخافض، أي:تهراق بالدم، وفي رواية الدماء بالجمع للدلالة على الكثرة. قيل يجوز فيه الرفع على أنه بدل من ضمير تهراق، أو على أنه مسند إليه، والألف واللام بدل من الإضافة، والتقدير تهراق دماءها (فاستفتت لها أم سلمة) هذا قول الراوي عن أم سلمة، أي:سألت لهذه المرأة بأمرها إياها، ففي رواية للدارقطني: أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت، فأمرت أم سلمة أن تسأل لها. وتقدم في حديث عائشة المتفق عليه: أن فاطمة هي السائلة، وفي حديث أسماء بنت عميس الآتي في الفصل الثالث أن السائلة أسماء، ولا تخالف بين هذه الروايات، فإنه يقال: إن فاطمة أمرت أسماء وأم سلمة كلتيهما أن تسألا لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فسألتا مجتمعتين أو غيرمجتمعتين، وسألت فاطمة بنفسها أيضا لمزيد التوثق والاحتياط (لتنظر) أي:تتفكر وتعرف (عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن) أي:تحيض فيهن (من الشهر) بيان لهن أو للأيام والليالي. قال الزرقاني: فيه تصريح بأنها لم تكن مبتدأة بل كانت لها عادة تعرفها، وليس فيه بيان كونها مميزة أو غيرها، فاحتج به من قال: أن المستحاضة المعتادة ترد لعادتها ميزت أم لا، وافق تمييزها عادتها أو خالفها-انتهى (قدر ذلك) أي:قدر عادة حيضها (فإذا خلفت ذلك) أي:تركت أيام الحيض التي اعتادتها خلفها، وجاوزتها،

(3/494)


ودخلت في أيام الإستحاضة (فلتغتسل) أي:غسل انقطاع الحيض (ثم لتستثقر بثوب) الاستثفار أن تشد فرجها ودبرها بخرقة عريضة بعد أن تحتشى قطنا وتوثق طرفي الخرقة في شيء تشده على وسطها، فتمنع بذلك سيل الدم. وهو مأخوذ من ثقر الدابة الذي يجعل تحت ذهبه (ثم لتصل) بكسر اللام وإسكانها. وفيه دليل على أن الاغتسال إنما هو مرة واحدة عند انقضاء أيام الحيض، وأن حكم المستحاضة حكم الطاهرة في الصلاة، وكذا في الصيام، والقراءة،
رواه مالك، وأبوداود، والدارمي. وروى النسائي معناه.
562- (4) وعن عدي بن ثابت عن أبيه، عن جده، قال يحيى بن معين :
وسائر العبادات إجماعا، وغشيان الزوج إياها إلا أنها توضأ لكل صلاة (رواه مالك، وأبوداود، والدارمي) وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي، بعضهم حديث نافع وأيوب، فبعضهم قال: عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة، وبعضهم قال: عن سليمان بن يسار، عن رجل، عن أم سلمة، وبعضهم قال: عن سليمان بن يسار، عن رجل. ولم يذكر أم سلمة. ورجح أبوداود رواية من قال: عن سليمان بن يسار عن أم سلمة. قال البيهقي: هو حديث مشهور إلا أن سليمان لم يسمعه ههنا. وكذا قال المنذري. وقد رواه البيهقي أيضا من طريق موسى بن عقبة، عن سليمان، عن مرجانة، عن أم سلمة. قال الحافظ في التقريب: مرجانة والدة أم علقمة، علق لها البخاري في الحيض، وهي مقبولة. وقال النووي في الخلاصة: حديث صحيح، ولم يلتفت إلى دعوى الانقطاع. وقال الحافظ في التلخيص: قال النووي: على شرطهما وجمع ابن عبدالبر بين هذا الإختلاف في الرواية بأنه يحتمل أن سليمان سمع عن رجل، عن أم سلمة، ثم سمعه عن أم سلمة، فحدث به على الوجهين. وقال في الجوهر النقي: ذكر صاحب الكمال أن سليمان سمع من أم سلمة، فيحتمل أنه سمع هذا الحديث عنها وعن رجل عنها.

(3/495)


562- قوله: (وعن عدي بن ثابت) الأنصاري الكوفي ثقة، رمى بالتشيع، مات سنة (116) (عن أبيه) هو ثابت الأنصاري والد عدي، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ مجهول الحال (عن جده) أي:جد عدي صحابي. واختلف في اسمه على أقوال فقيل: اسمه دينار، وقيل عمرو بن أخطيب، وقيل عبيد بن عازب، وقيل: قيس بن الخطيم، وقيل: إنه يعني جده أبوأمه، وهو عبدالله بن يزيد الخطمي، كذا زعم يحيى بن معين فيما حكى الدارقطني. وكذا قال أبوحاتم الرازي، واللالكائي، وغير واحد. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: ولم يترجح لي في اسم جده إلى الآن شيء من هذه الأقوال كلها، إلا أن أقربها إلى الصواب أن جده هو جده لأمه عبدالله بن يزيد الخطمي. والله أعلم-انتهى. وعبدالله ابن يزيد هو أبوموسى الأوسي الأنصاري الخطمي، صحابي صغير، شهد الحديبية وهو ابن سبع عشر سنة، وشهد الجمل والصفين مع علي. وكان أميرا على الكوفة زمن ابن الزبير. له سبعة وعشرون حديثا، روى له البخاري حديثين (قال يحيى بن معين) بفتح الميم ابن عون الغطفاني المرى مولاهم، أبوزكريا البغدادي، أحد الثقات الحفاظ المشهورين، وأحد أئمة الجرح والتعديل. ولد سنة (158) ومات بالمدينة النبوية سنة (233) وله (77) سنة إلا نحوا من عشرة أيام، وغسل على أعواد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحمل على سريره - صلى الله عليه وسلم -. مات أبوه فخلف لابنه يحيى هذا ألف درهم وخمسين ألف
جد عدي اسمه دينار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال في المستحاضة: تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها، ثم تغتسل، وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم، وتصلي. رواه الترمذي، وأبوداود.
563- (5) وعن حمنة بنت جحش، قالت: ((كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه وأخبره،

(3/496)


درهم، فأنفق جميع المال على الحديث، وكتب بيده ستمائة ألف حديث. روى عنه البخاري ومسلم وأبوداود وأحمد وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وغيرهم. قال أحمد بن حنبل: كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث وفضائله كثيرة، بسط ترجمته الحافظ في تهذيب التهذيب (ج11:ص280-288) وابن خلكان في تاريخه (ج2:ص2140216) والذهبي في التذكرة (ج2:ص18، 17) (جد عدي اسمه دينار) قال الترمذي: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث، فقلت: عدي بن ثابت عن أبيه عن جده، جد عدي ما اسمه؟ فلم يعرف محمد اسمه. وذكرت لمحمد قول يحيى بن معين: اسمه دينار، فلم يعبأ به (قال في المستحاضة) أي:في شأنها (تدع الصلاة) أي:تتركها (أيام أقرائها) جمع قرء وهو مشترك بين الحيض والطهر. والمراد به ههنا الحيض للسباق واللحاق (التي كانت تحيض فيها) أي:قبل أن يصيبها ما أصابها من الإستحاضة (ثم) أي:بعد فراغ زمن حيضها باعتبار العادة (تغتسل) أي:للطهارة من الحيض مرة (وتتوضأ عند كل صلاة) عند كل متعلق بتتوضأ لا بتغتسل. وفيه دليل على أن المستحاضة تتوضأ عند كل صلاة. والحديث ضعيف كما ستعرف، لكن له شواهد، ذكرها الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في الدراية، ومنها حديث عائشة في الفصل الأول (وتصوم) أي:الفرض والنفل (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضا الدارمي، وابن ماجه كلهم من حديث شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت.وشريك هذا هو ابن عبدالله النخعي قاضي الكوفة، قد تكلم فيه غير واحد، وأبو اليقظان هو عثمان بن عمير الكوفي، وهو ضعيف جدا. قال الحافظ في التقريب: إنه ضعيف، واختلط، وكان يدلس، ويغلو في التشيع.

(3/497)


563- قوله: (وعن حمنة) بفتح الحاء المهملة وسكون الميم بعدها نون وهاء (بنت جحش) بتقديم الجيم المفتوحة على الحاء الساكنة بعدها شين معجمة، الأسدية، أخت زينب زوج النبي- صلى الله عليه وسلم -. كانت تحت مصعب بن عمير، فقتل عنها يوم أحد، وخلف عليها طلحة بن عبيدالله. صحابية، لها حديث، وهي أم ولدى طلحة: عمران ومحمد (حيضة) بفتح الحاء، وهو مصدر إستحاض على حد أنبته الله نباتا. ولا يضره الفرق في اصطلاح العلماء بين الحيض والإستحاضة، إذا الكلام وارد على أصل اللغة (كثيرة) في الكمية (شديدة) في الكيفية (أستفتيه وأخبره) الواو لمطلق الجمع، وإلا
فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، فقلت: يارسول الله ! إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما تأمرني فيها؟ قد منعتني الصلاة والصيام. قال: أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب الدم. قالت: هو أكثر من ذلك. قال:فتلجمي. قالت: هو أكثر من ذلك. قال: فاتخذي ثوبا. قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سآمرك بأمرين، أيهما صنعت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم. قال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أوسبعة أيام

(3/498)


كان حقها أن تقول: أخبره وأستفتيه (فما تأمرني) ما استفهامية (فيها) أي: في حال وجود الحيضة (قد منعتني) استئناف مبين لما ألجأها إلى السؤال. ويمكن أن يجعل حالا من الضمير المجرور في قولها فيها (الصلاة والصيام) أي: على زعمها (أنعت) أي: أصف (الكرسف) بضم الكاف والسين بينهما راء. أي:القطن وكأنه ينعت لها لتحتشى به فيمنع نزول الدم ثم يقطعه (فإنه يذهب الدم) أي: يمنع خروجه إلى ظاهر الفرج، أو معناه فاستعمليه لعل دمك ينقطع (هو أكثر من ذلك) أي: من أن يكون الكرسف مانعا من الخروج أو قاطعا (فتلجمى) قال ابن العربي: قوله: تلجمى، كلمة غريبة لم يقع لي تفسيرها في كتاب، وإنما أخذتها استقراء. قال الخليل: اللجام معروف، أخذناه من هذا كأن معناه: افعلي فعلا يمنع سيلانه واسترساله، كما يمنع اللجام استرسال الدابة. وقال الجزري في النهائية: أي:اجعلي موضع الدم عصابة تمنع الدم، تشبيها بوضع اللجام في فم الدابة (فاتخذي ثوبا) أي:تحت اللجام مبالغة في الاحتياط من خروج الدم (هو أكثر من ذلك) أي:من أن يمنعه (أثج) بضم المثلثة وتشديد الجيم، من ثج الدم والماء لازم ومتعد، أي:أنصب أو أصبه، فعلى الثاني تقديره أثج الدم، وعلى الأول إسناد الثج إلى نفسها للمبالغة، على معنى أن النفس جعلت كأن كلها دم ثجاج، وهذا أبلغ في المعنى (سآمرك) السين للتأكيد (بأمرين) أي:حكمين أو صنعين (أيهما) بالنصب لا غير، والناصب له صنعت قاله أبوالبقاء (أجرأ عنك) أي:أغنى عنك (من الآخر) من بمعنى البدل (وإن قويت عليهما) أي:قدرت على كل واحد منهما (فأنت أعلم) بما تختارينه منهما، فاختاري أيهما شئت (إنما هذه) أي: الثجة أو العلة (ركضة) بفتح الراء أي: دفعة وضربة. والركض الضرب بالرجل والإصابة بها كما تركض الدابة وتصاب بالرجل. أراد الإضرار بها والأذى. والمعنى: أن الشيطان قد وجد بذلك طريقا إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها، حتى أنساها ذلك عادتها،

(3/499)


وصار في التقدير كأنه ركضة بآلة من ركضاته، ولا ينافي ما تقدم من أنها عرق يقال:له العاذل، لأنه يحمل على أن الشيطان ركضه حتى انفجر. والأظهر أنها ركضة منه حقيقة إذا لا مانع من حملها عليه (فتحيضي) بتشديد الياء المفتوحة بعد الحاء، أي:التزمي أحكام الحيض، وعدي نفسك حائضا (ستة أيام أو سبعة أيام) قيل: أو للشك من بعض الرواة. وقد ذكر
في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت، فصلي ثلاثا وعشرين ليلة، أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزئك. وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن. وإن قوت على

(3/500)


النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد العددين اعتبار بالغالب من حال نساء قومها. وقيل للتخيير بين كل واحد من العددين، لأنه العرف الظاهر والغالب من أحوال النساء.وقيل: ليس للتخيير بين الستة والسبعة بل للتنويع على معنى اعتبار حالها بحال من هي مثلها وفي مثل سنها من نساء أهل بيتها، فإن كانت عادة مثلها منهن أن تقعد ستا قعدت ستا، وإن سبعا فسبعا فكأنها كانت مبتدأة لم يتقدم لها أيام، ولم تميز بين الدمين ويحتمل أنها كانت معتادة ونسيت أن عادتها كانت ستا أو سبعا، يعني أنه قد ثبت لها في ما تقدم أيام ستة أو سبعة، إلا أنها قد نسيتها، فلا تدري أيتهما كانت، فأمرها أن تتحرى، وتجتهد، وتبنى أمرها على ما تيقنته من أحد العددين (في علم الله) معناه على قول الشك، أي:في علمه الذي بينه وشرعه لنا، كما يقال: في حكم الله وفي كتاب الله. وقيل معناه ما أمرتك فهو حكم الله. وعلى قول التخيير فيما علم الله من ستة أو سبعة وقيل فيما أعلمك الله من عادات النساء من الست أو السبع. وقيل: في علم الله من أمرك من الست أو السبع، أي:هذا شيء بينك وبين الله، فإنه يعلم ما تفعلين من الإتيان بما أمرتك به أو تركه (ثم اغتسلي) أي:مرة واحدة بعد الستة أو السبعة من الحيض (حتى إذا رأيت) أي:علمت (واستنقأت) من الإستنقاء وهو مبالغة في تنقية البدن وتنظيفه، وهو في نسخ المشكاة كلها مضبوط بالهمزة دون الياء، وهو استعمال جائز ومسموع، إذ أن همزة ما ليس بمهموز كثير في كلام العرب. قال يونس: أهل مكة يخالفون غيرهم من العرب، فيهمزون النبئ. والبرئية، والذرئية والخابئة، نقله السيوطي في المزهر (ج2:ص133) وقال الجوهري في الصحاح: (مادة ر ث ى) ابن السكيت. قالت امرأة من العرب: وثأت زوجي بأبيات وهمزت. قال الفراء: ربما خرجت فصاحتهم إلى أن يهمزوا ما ليس بمهموز. قالوا: رثأث الميت ولبأت بالحج وحلأت السويق تحلئة، وإنما هو من الحلاوة- انتهى. فقول أبي البقاء، وصاحب

(4/1)


المغرب: أن "استنقأت" بالهمز خطأ. جرأة عظيمة منهما منشأها قصور العلم والإطلاع (فصلى) أي:بالوضوء عند كل صلاة (ثلاثا وعشرين ليلة) يعني وأيامها إن كانت مدة الحيض سبعة (أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها) إن كانت مدة الحيض ستة (وصومي) ما شيءت من فريضة وتطوع (فإن ذلك) أي:ما قدر لك من الأيام في حق الصلاة والصوم (يجزئك) أي: يكفيك (وكذلك) أي:مثل ما ذكرت لك الآن (فافعلي كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن) أي:اجعلي حيضك بقدر ما يكون عادة النساء من ستة أو سبع، وكذلك اجعلي طهرك بقدر ما يكون عادة النساء من ثلاث وعشرين أو أربع وعشرين (ميقات حيضهن وطهرهن) نصب على الظرف يعني إن كان وقت حيضهن في أول الشهر فليكن حيضك في ذلك الوقت (وإن قويت
أن تؤخرين الظهر وتعجلين العصر، فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين: الظهر والعصر، وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء. ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين، فافعلي. وتغتسلين مع الفجر، فافعلي، وصومي إن قدرت على ذلك.قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :وهذا أعجب الأمرين إلى)).
على أن تؤخرين الظهر) فتأتي بها في آخر وقتها قبل خروجه (وتعجلين العصر) فتأتي به في أول وقته، فتكون قد أتت بكل صلاة في وقتها، وجمعت بينهما جمعا صوريا (وتجمعين بين الصلاتين )أي: بغسل واحد (الظهر والعصر) بالجر بدل، ويجوز الرفع والنصب، وإثبات النون في أن تؤخرين وتعجلين بإهمال أن الناصية، تشبيهها لها بما المصدرية.قال في الألفية:
وبعضهم أهمل أن حملا على ……ما أختها حيث استحقت عملا

(4/2)


قال ابن حجر: الظاهر أن كلمة أن مصدرية لكنها لا تنصبه حملا على ما المصدرية. ومنه قراءة مجاهد ((لمن أراد أن الرضاعة-233:2)) بضم الميم، كما أن ما قد تنصب حملا على أن. ومنه كما تكونوا يولى عليكم، وفي رواية أخرجها الديلمي من حديث أبي بكرة مرفوعا، وأخرجها البيهقي بلفظ: يؤمر عليكم، وبحذف أبي بكرة، وقال: إنه منقطع، وفي طريقه يحيى بن هاشم، وهو في عداد من يضع، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة. وارجع للتفصيل إلى شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح (ص118، 117) (وتغتسلين مع الفجر، فافعلي) هذا تأكيد، والشرطية باعتبار المجموع (وصومي) أي:في هذه المدة التي تصلي فرضا ونفلا (إن قدرت على ذلك) بدل من الشرط الأول هذا، والجمع بين الصلاتين بغسل واحد هو الأمر الثاني، بدليل قوله: وهذا أعجب الأمرين إلى. وأما الأمر الأول، فقيل: هو الوضوء لكل صلاة بعد الاغتسال عن الحيض بمرور الستة أو السبعة الأيام، فإن في صدر الحديث سآمرك بأمرين، ثم ذكر لها الأمر الأول أنها تحيض ستا أو سبعا، ثم تغتسل وتصلي، وقد علم أنها توضأ لكل صلاة، لأن استمرار الدم ناقض للوضوء، فلم يذكره في هذه الرواية. وقد ذكره في غيرها. ثم ذكر الأمر الثاني من جمع الصلاتين. وقيل: الأمر الأول هو الاغتسال لكل صلاة. قلت: لم يصرح في حديث حمنة هذا بالوضوء لكل صلاة، ولا بالاغتسال لكل صلاة. والظاهر عندي هو القول الأول، وإليه ذهب الأمير اليماني، وأبو الطيب السندي، والإمام الشافعي.ورجح شيخنا في شرح الترمذي أن الأمر الأول هو الاغتسال لكل صلاة، وبه فسر القاري وغيره مستدلا بما ورد في روايات قصة أم حبيبة المفسرة عند أبي داود وغيره، ولا يخفى ما فيه. قال القاري: وتعليقه عليه الصلاة والسلام هذا بقوتها لا ينافي قوله:السابق: وإن قويت عليهما، لأن ذلك لبيان أنها إذا قويت عليهما تختار ما شاءت. وهذا لبيان أنها إذا قويت عليهما تختار الأحب إليه عليه الصلاة

(4/3)


والسلام (وهذا) أي:الجمع بين الصلاتين بغسل واحد (اعجب الأمرين إلى) الحديث قد استدل به على
رواه أحمد وأبوداود والترمذي.
?الفصل الثالث?
564- (6) عن أسماء بنت عميس، قالت ((قلت: يارسول الله ! إن فاطمة بنت أبي حبيش أستحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله !
أن المستحاضة ترجع إلى الغالب من عادة النساء. ولا مخالفة بينه وبين الأحاديث القاضية بالرجوع إلى عادة نفسها، كحديث أم حبيبة وغيرها، والقاضية بالرجوع إلى التمييز بصفات الدم كحديث عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش، فإنه يحمل هذا الحديث على عدم معرفتها لعادتها، وعدم إمكان التمييز بصفات الدم. وحاصل الكلام في المستحاضة: أنها إن كانت معتادة ترجع إلى عادتها المعروفة، سواء كانت مميزة أو غير مميزة لحديث أم حبيبة عند مسلم وغيره، ففيه: امكثى قدر ما كانت تحبسك حيضتك. وإن كانت غير معتادة وهي مميزة تعمل بالتمييز لحديث: إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف. وإن كانت مبتدأة غير مميزة لا عادة لها ولا تمييز، أو كانت معتادة لكنها نسيت عادتها، ترجع إلى عادة النساء القرائب. فإن اختلفت عادتهن فالاعتبار بالغالب منهن. فإن لم يوجد غالب، تحيضت ستا أو سبعا كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمنة بنت جحش. والله أعلم (رواه أحمد) (ج6:ص439، 382، 381) (وأبوداود والترمذي) وأخرجه أيضا الشافعي في الأم (ج1:ص52، 51) وابن ماجه، والدارقطني (ص79) والحاكم (ج1:ص173، 172) والبيهقي (ج1:ص339، 338) كلهم من طريق عبدالله بن محمد عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمران ابن طلحة، عن أمه حمنة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وسألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن.وهكذا قال أحمد بن حنبل: هو حديث صحيح – انتهى. وقال أبوداود: سمعت أحمد يقول: حديث ابن عقيل في نفسي منه شيء. وهذا يخالف ما نقله الترمذي عنه هنا من تصحيحه.وأجيب عنه بأنه يمكن أن

(4/4)


يكون قد كان في نفسه من الحديث شيء، ثم ظهرت له صحته. وقيل: لعله يريد أن في نفسه شيئا من جهة الفقه، والاستنباط، والجمع بينه وبين الأحاديث الأخرى، وإن كان صحيحا ثابتا عنده من جهة الإسناد.
564- قوله:(عن أسماء بنت عميس) بالمهملتين مصغرا الخثعمية من المهاجرات الأول، وأخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لأمها، هاجرت مع زوجها جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، ثم تزوجها أبوبكر، ثم علي بن أبي طالب، وولدت لهم. كان عمر يسألها عن تعبير الرؤيا. ولما بلغها قتل محمد بن أبي بكر جلست في مسجدها، وكظمت غيظها حتى شخبت ثديا هادما. لها ستون حديثا انفرد له البخاري بحديث. ماتت بعد علي (منذ كذا وكذا) أي:سبع سنين (فلم تصل) ظنا منها أن الإستحاضة تمنع الصلاة كالحيض (سبحان الله ) قاله تعجبا من تركها الصلاة بمجرد ظنها المذكور من غير أن تراجعه
إن هذا من الشيطان. لتجلس في مركن، فإذا رأت صفارة فوق الماء، فلتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا، وتغتسل للفجر غسلا واحدا، وتوضأ في ما بين ذلك)) رواه أبوداود.

(4/5)


عليه الصلاة والسلام في ذلك (إن هذا) أي:أمر الإستحاضة، وترك الصلاة بها (من الشيطان) أي:من ركضه وتسويله (لتجلس) أمر (في مركن) أي: فيه ماء وهو بكسر الميم وفتح الكاف، إناء كبير يغسل فيه الثياب (فإذا رأت صفارة) كذا وقع في نسخ المشكاة كلها صفارة بزيادة الألف بعد الفاء، والذي في سنن أبي داود صفرة بغير ألف (فوق الماء) أي:فوق الماء الذي تجلس فيه فإنه تظهر الصفرة فوق الماء فعند ذلك تصب الماء للغسل خارج المركن. وفائدة الجلوس في المركن أن يعلو الدم الماء، فيظهر به تمييز دم الإستحاضة من غيره، فإنه إذا علا الدم الأصفر فوق الماء فهي مستحاضة، وإذا علا الدم الأسود فهو حيض، فهذه هي النكتة في الجلوس في المركن. وأما الغسل فخارج المركن لا فيه في الماء النجس، قاله الأمير اليماني (فلتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، وتغتسل) بالجزم عطف على المجزوم (وتغتسل للفجر غسلا واحدا) جاء بطريق المشاكلة (وتوضأ) بحذف أحد التائين) فيما بين ذلك) أي: فيما بين الظهر والعصر للعصر، وفيما بين المغرب والعشاء للعشاء، لأنها صاحبة عذر، وهي مأمورة بالوضوء لكل صلاة. وهذا الحديث وحدي حمنة المتقدم فيهما الأمر بالاغتسال في اليوم والليلة ثلاث مرات، وقد بين في حديث حمنة أن المراد إذا أخرت الظهر والمغرب، ومفهومه أنه إذا وقتت اغتسلت لكل فريضة. وقد اختلفوا فيه، فروى عن بعض العلماء أنه يجب عليها الاغتسال لكل صلاة. واستدل بما روى أبوداود والبيهقي وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: اغتسلي لكل صلاة. وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف إلى أنه لا يجب عليه الاغتسال لشيء من الصلوات، ولا في وقت من الأوقات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضها. وقالوا: رواية الأمر بالاغتسال لكل صلاة ضعيفة، غير ثابتة، قد بين البيهقي ومن قبله ضعفها. وقيل: بل هي منسوخة بحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها توضأ لكل صلاة. وقيل: إن حديث تعدد الغسل محمول على

(4/6)


الندب والاستحباب. واختاره أحمد، وجنح إليه الشافعي بقرينه عدم أمر فاطمة به، واقتصار على أمرها بالوضوء، فالوضوء هو الواجب. وقيل: محمول على العلاج، والتبريد، وتقليل الدم.قلت: القول الراجح عندي أن أحاديث تعدد الغسل محمولة على الاستحباب. قال ابن قدامة في المغنى: قوله: - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة "توضئ لكل صلاة" يدل على أن الغسل كل يوم بعد الغسل عند انقطاع الحيض، ثم تتوضأ لكل صلاة، وهو أقل المأمور، ويجزئه إن شاءالله-انتهى مختصرا (رواه أبوداود) وسكت عنه. وقال المنذري: حسن.
565- (7) وقال: روى مجاهد عن ابن عباس: لما اشتد عليها الغسل، أمرها أن تجمع بين الصلاتين.
565- قوله:(وقال) أي: أبوداود (روى مجاهد) هو مجاهد بن جبر - بفتح الجيم وسكون الباء- الإمام أبوالحجاج المخزومي مولاهم، المكي المقرئ المفسر الحافظ، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي.ولد سنة (21) في خلافة عمر سمع سعدا وعائشة وأبا هريرة وعبدالله بن عمر وابن عباس، ولزمه مدة، وقرأ عليه القرآن. وكان أحد أوعية العلم. روى عنه أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت وكيف كانت؟ قال الذهبي: أجمعت الأمة على إمامة مجاهد، والاحتجاج به. وقال ابن سعد: كان ثقة فقيها عالما، كثير الحديث، من الطبقة الوسطى من تابعي مكة، وفقهاءها، وقراءها، والمشهورين بها. مات بمكة سنة (102) أو (103) أو (104) وهو ساجد، وقد بلغ (83) سنة (عن ابن عباس) وصل الطحاوى هذا التعليق بسنده عن مجاهد عن ابن عباس (لما اشتد عليها) أي: على المستحاضة التي سألت عنه حكمها، واعتذرت بأن أرضنا أرض باردة (الغسل) أي: لكل صلاة (أمرها) أي: ابن عباس (أن تجمع بين الصلاتين) أي: جمعا صوريا بغسل واحد.
(4) كتاب الصلاة
?الفصل الأول?

(4/7)


566- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) رواه مسلم.
(كتاب الصلاة) كان فرض الصلوات الخمس ليلة المعراج قبل الهجرة، وكانت الصلاة قبل الإسراء صلاتين، صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها. قال تعالى: ?وسبح بحمد ربك بالعشى والإبكار? [55:40] واختلفوا في اشتقاق الصلاة، فقيل: من الصلاة بمعنى الرحمة، وقيل: بمعنى الدعاء، وقيل: من الصلوين، وهما عرقان في الردف ينحنيان في الصلاة، وقيل: من الصلى وهو دخول الناء. ونقل الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد عن السهيلي كلاما حسنا في اشتقاق الصلاة، فارجع إليه.

(4/8)


566- قوله:(الصلوات الخمس) أي: بعضها إلى بعض، ففي رواية لأحمد: الصلاة إلى الصلاة التي قبلها كفارة (والجمعة) أي: صلاتها (إلى الجمعة) أي: منتهية إلى الجمعة، أو منضمة إليها. وعلى هذا قوله: (ورمضان) أي: صومه (إلى رمضان) وقوله: (مكفرات لما بينهن) أي: ن الذنوب، خبر عن الكل و"مابينهن" معمول لاسم الفاعل، قاله الطيبي. والتكفير التغطية، والمراد هنا المحو (إذا اجتنبت الكبائر) على صيغة المجهول، شرط جزاءه محذوف دل عليه ما قبله. وقيل إذا لمجرد الظرفية، فمعنى قوله: إذا اجتنبت الكبائر. أي: وقت اجتنابها. والحديث بظاهره يفيد أن التكفير مشروط باجتناب الكبائر، فإن لم يجتنبها لم تكفر الصغائر، ومثله قوله تعالى: ?إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم? [31:4]. وهذا إنما يلزم عند من يقول بالمفهوم.وأما من لم يقل بمفهوم المخالفة، فأمر تكفير الصغائر وقت ارتكاب الكبائر مسكوت عنده، وقد علم من الأدلة الأخرى أنه تغفر الصغائر بالطاعات وإن لم يجتنب الكبائر. وقيل في توجيه الآية: أن محو الصغائر لمن اجتنب الكبائر وعد مقطوع به، ومحوها لمن تعاطى الكبائر ليس كذلك، بل في مشيئته وإرادته تعالى. وقال النووي: معنى الحديث: أن ما بينهن من الذنوب كلها مغفور إلا الكبائر لا يكفرها إلا التوبة، أو فضل الله. هذا مذهب أهل السنة، ذكره القاري. وقال الشيخ محمد طاهر الفتني: لا بد في حقوق الناس من القصاص ول صغيرة، وفي الكبائر من التوبة. ثم ورد المغفرة في الصلوات الخمس والجمعة ورمضان، فإذا تكرر يغفر بأولها الصغائر، وبالبواقي يخفف عن الكبائر، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة يرفع بها الدرجات-انتهى (رواه مسلم) في الطهارة وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في الصلاة.

(4/9)


567- (2) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا، هل يبقى من درنة شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحوالله بهن الخطايا)). متفق عليه.
567- قوله:(أرأيتم لو أن نهرا) بفتح الهاء وسكونها (يغتسل) أي:أحدكم (فيه) أي:في النهر (خمسا) أي:خمس مرات (هل يبقى من درنة شيء) بفتح الدال والراء أي:وسخه، ومن زائدة، وقيل بيانية. قال الطيبي: لو الامتناعية تقتضي أن تدخل على الفعل الماضي، وأن يجاب. والتقدير لو ثبت نهر بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات لما بقى من درنة شيء. فوضع الاستفهام موضعه تأكيدا وتقريرا، إذ هو في الحقيقة متعلق الاستخبار، أي:أخبروني هل يبقى لو كان كذا؟ ومن في قوله:"من درنة" استغراقية زائدة لما دخل في حين الاستفهام، ودرنه مفعول يبقى، وفيه مبالغة في نفي درن الذنوب ووسخ الآثام-انتهى (فذلك) أي:النهر المذكور أو الغسل فيه خمس مرات. قال الطيبي: الفاء جزاء شرط محذوف، أي:إذا أقررتم ذلك وصح عندكم فهو مثل الصلوات (مثل الصلوات) فتح الميم والمثلثة، فيكون تشبيه المعقول – أي:الصلاة – بالمحسوس – أي:الغسل في النهر – وهو الظاهر. وقيل بكسر الميم وسكون الثاء، فيكون تشبيه الغسل بالصلاة، لكن المقصود تشبيه الصلاة بالغسل وإنما عكس في اللفظ مبالغة. قال القاري: عكس في التشبيه حيث أن الأصل تشبيه المعقول بالمحسوس مبالغة يمحوالله بهن الخطايا) أي:الصغائر. والجملة مبنية لوجه الشبه قال ابن العربي: وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه، ويطهره الماء الكثير، فكذلك الصلوات تطهر العبد عن أقذار الذنوب حتى لا تبقى له ذنبا إلا أسقطته – انتهى. وظاهر الحديث أن المراد بالخطايا ما هو أعم من الصغيرة والكبيرة، لكن الحديث المتقدم يدل على أن المراد بها هي الصغائر دون الكبائر. وقال السندي: خصها العلماء

(4/10)


بالصغائر ولا يخفى أنه بحسب الظاهر لا يناسب التشبيه بالنهر في إزالة الدرن، إذ النهر المذكور لا يبقى من الدرن شيئا أصلا. وعلى تقدير أن يبقى، فإبقاء القليل والصغير أقرب من إبقاء الكثير والكبير، فاعتبار بقاء الكبير وارتفاع الصغير قلب لما هو المعقول نظرا إلى التشبيه، فلعل ما ذكروا من التخصيص مبنى على أن للصغائر تأثيرا في درن الظاهر فقط، كما يدل عليه ما ورد في خروج الصغائر من الأعضاء عند التوضوء بالماء بخلاف الكبائر، فإن لها تأثيرا في درن الباطن كما يفيده بعض الأحاديث أن العبد إذا ارتكب المعصية تحصل في قلبه نكتة سوداء، ونحو ذلك. وقد قال تعالى ?بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون? [14:83] فكما أن الغسل يذهب بدرن الظاهر دون الباطن، فكذلك الصلاة. فتفكر-انتهى (متفق عليه) واللفظ المذكور لمسلم إلا أن فيه: يغتسل منه كل يوم خمس مرات.وفي لفظ البخاري بعض ما يتفاوت ذلك اللفظ. والمؤلف ربما ينسب الحديث إلى الشيخين، ويحكم بكونه متفقا عليه مع تفاوت في لفظهما، نظرا إلى أصل الحديث. وقد يصرح بالاختلاف. ولعل ذلك فيما يفحش التفاوت. والحديث
أخرجه أيضا الترمذي
568- (3) وعن ابن مسعود، قال: ((إن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأنزل الله تعالى: ?وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنان يذهبن السيئات? فقال الرجل: يارسول الله ! ألي هذا؟ قال: لجميع أمتي كلهم. وفي رواية: لمن عمل بها من أمتي))
في الأمثال، والدارمي في الصلاة، وفي الباب عن جابر عند مسلم، والدارمي، وعثمان عند ابن ماجه.

(4/11)


568- قوله: (إن رجلا) هو أبواليسر بفتحتين كعب بن عمرو الأنصاري أخرج قصته الترمذي، والنسائي، البزار عنه، قال: أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت: إن في البيت تمرا أطيب منه، فدخلت معي في البيت، فأهويت إليها، فقبلتها-الحديث. وقيل: اسم هذا الرجل نبهان التمار. ذكر قصته عبدالغني بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء في تفسيره عن ابن عباس. وقيل: عمرو بن غزية. وقيل: عامر بن قيس. وقيل: عباد. قال الحافظ: وأقوى الجميع أنه أبواليسر، واسمه كعب بن عمرو الأنصاري السلمي، مشهور باسمه وكنيته، شهد العقبة، وبدرا وله فيها آثار كثيرة، وهو الذي أسر العباس، كان قصيرا، دحداحا، عظيم البطن. مات بالمدينة سنة (55) (أصاب من امرأة) أنصارية وهي حال من قوله:(قبلة) بضم القاف أي:من غير مجامعه (فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -) بعد أن ندم على فعله، وعزم على تلافي حاله عملا بقوله تعالى: ?ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك? الآية [64:4] (فأخبره) أي: بالواقعة (فأنزل الله تعالى) قال الطيبي: الفاء عطف على مقدر أي:فأخبره، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى الرجل، فأنزل الله، يدل عليه الحديث الآتي (وأقم الصلاة طرفي النهار) أي:الغداة والعشى، أي:الصبح والظهر والعصر (وزلفا) جمع زلفة أي:طائفة (من الليل) أي:المغرب والعشاء. قال: في المدارك ?وأقم الصلاة طرفي النهار? غدوة وعشية (وزلفات من الليل) وساعات من الليل جمع زلفة، وهي ساعة القريبة من آخر النهار، من أزلفة إذا قربه. وصلاة الغدوة الفجر. وصلاة العشية الظهر والعصر، لأن ما بعد الزوال عشى. وصلاة الزلف المغرب والعشاء-انتهى. وقيل في تفسير "كرفي النهار والزلف" غير ذلك. والأقرب عندي ما نقلته من المدارك. واستدل مغلطائي الحنفي بقوله:(زلفا من الليل) على وجوب الوتر، لأن زلفا جمع وأقله الثلاث، فلا بد أن تكون هناك صلاة ثالثة، وهي الوتر. قال بعض الحنفية: لا دليل في الآية على وجوب الوتر. أما

(4/12)


جمعية الزلف فهي باعتبار وقوع العشاء في هذه الحصة تارة وتارة في الحصة الأخرى، فكانت باعتبار حصص الليل وساعاته من حيث تعجيل العشاء وتأخيره-انتهى (إن الحسنات) أي: كالصلوات الخمس (يذهبن) أن يكفرن (السيئات) أي: الصغائر لحديث أبي هريرة السابق (ألي هذا؟) هذا مبتدأ و"لي" خبره، والهمزة حرف الاستفهام لإرادة التخصيص، أي: مختص لي هذا الحكم أو عام لجميع المسلمين؟ (كلهم) تأكيد بعد تأكيد ليشمل الموجودين والمعدومين، أي: هذا لهم وأنت منهم (وفي رواية) للشيخين عن ابن مسعود أيضا كما أفاده تأخير المصنف قوله:متفق عليه إلى ما بعدها (لمن عمل بها) أي: بهذه الآية بأن فعل حسنة بعد سيئة. واستدل بهذا الحديث على عدم
متفق عليه.
569- (4) وعن أنس، قال: ((جاء رجل فقال: يارسول الله ! إني أصبت حدا فأقمه علي. قال: ولم يسأله عنه. وحضرت الصلاة، فصلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، قام الرجل، فقال: يارسول الله ! إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله. قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم. قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك أو حدك)) متفق عليه.
وجوب الحد في القبلة واللمس ونحوهما، وعلى سقوط التعزير عمن أتى شيئا منها وجاء تائبا نادما (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، وفي تفسير سورة هود، ومسلم في التوبة، وأخرجه أيضا الترمذي في التفسير، وابن ماجه في الصلاة، واللفظ المذكور للبخاري في مواقيت الصلاة.

(4/13)


569- قوله:(جاء رجل فقال: يارسول الله ! إني أصبت حدا) أي:موجبه على حذف المضاف، أي:فعلت شيئا يوجب الحد (فأقمه) أي:الحد، والمراد حكم الله (علي) قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسم هذا الرجل، ولكن من وحد بين هذه القصة والتي في حديث ابن مسعود فسره به، وليس بجيد لاختلاف القصتين، وعلى التعدد جرى البخاري في هاتين الترجمتين، فحمل الأولى على من أقر بذنب دون الحد للتصريح بقوله: غير أني لم أجامعها. وحمل الثانية على ما يوجب الحد، لأنه ظاهر قول الرجل، وأما من وحد بين القصتين، فقال: لعله ظن ما ليس بحد حدا، أو استعظم الذي فعله، فظن أنه يجب فيه الحد-انتهى. ولحديث أنس هذا شاهد من حديث أبي أمامة عند مسلم، وابن جرير (ولم يسأله عنه) أي:لم يستفسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل عن موجب الحد ما هو؟ لأنه قد يدخل في التجسس المنهى عنه، أو إشارا للستر. ويحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - اطلع بالوحي على أن الله قد غفر له، لكونها واقعة عين، وإلا لكان يستفسره عن الحد، ويقيمه عليه. قال الخطابي، وجزم النووي، وجماعة: أن الذنب الذي فعله كان من الصغائر بدليل قوله: إنه كفرته الصلاة، بناء على أن الذي تكفر الصلاة من الذنوب الصغائر لا الكبائر. وترجم البخاري على هذا الحديث بقوله: إذا أقر بالحد، ولم يبين هل للإمام أن يستر عليه؟ قال الحافظ:ظاهر ترجمته حمله على من أقر بحد ولم يفسره فإنه لا يجب على الإمام أن يقيمه عليه إذا تاب، أي:وكان موجب الحد مخفيا (فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة) أي: أداها وانصرف عنها (قام الرجل) وفي البخاري، قال:إليه الرجل (فأقم في) أي: في حقي (كتاب الله) أي:حكم الله من الكتاب والسنة، أو ما حكم به الله تعالى في كتابه من الحد (أو حدك) شك من الراوي أي:سبب حدك (متفق عليه) أخرجه البخاري في المحاربين، ومسلم في التوبة، واللفظ البخاري.

(4/14)


570- (5) وعن ابن مسعود، قال: ((سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة لوقتها. قلت: ثم أى؟ بر الوالدين. قلت: ثم أى؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني)). متفق عليه.
570- قوله:(أي:الأعمال) أي: البدنية، فلا يعارض "أفضل الأعمال الإيمان بالله" كذا قيل (الصلاة لوقتها) أي:في وقتها المندوب، فاللام فيه بمعنى في، لأن الوقت ظرف لها. قال تعالى: ?ونضع الموازين القسط ليوم القيامة? [47:21] أي: فيه. وفي رواية للشيخين على وقتها. قيل على بمعنى اللام، ووقع في رواية الحاكم والدارقطني والبيهقي: في أول وقتها، وهي رواية صحيحة صححها الحاكم ووافقه الذهبي، وأخرجها ابن خزيمة في صحيحه. قيل: رواية لوقتها باللام تفيد معنى لفظ أول، لأن اللام لاستقبال وقتها كقوله: ?فطلقوهن لعدتهن? [1:65] أي:مستقبلات لعدتهن، ومعلوم ضرورة شرعية أن الصلاة لا تصح قبل دخول الوقت، فتعين أن المراد لاستقبالكم الأكثر من وقتها، وذلك بالإتيان بها في أول وقتها. ورواية "على وقتها" أيضا تفيد ذلك، لأن كلمة "على" تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت. وفائدته تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه. وعورض تفضيل الصلاة في أول وقتها على ما كان منها في غيره بحديث العشاء، وبأحاديث الإبراد بالظهر عند القائلين بأفضلية الإبراد. والجواب أن ذلك تخصيص لعموم أول الوقت، ولا معارضة بين عام وخاص، هذا. وقد وردت أحاديث أخرى في أنواع من أعمال البر بأنها أفضل الأعمال، وهي تعارض حديث ابن مسعود هذا ظاهرا. وأجيب بأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر كل مخاطب بما هو أليق به وهو به أقوم، وإليه أرغب، ونفعه فيه أكثر، فالشجاع أفضل الأعمال في حقه الجهاد، فإنه أفضل من تخليه للعبادة، والغنى أفضل الأعمال في حقه الصدقة وغير ذلك. أو كان الاختلاف في الجواب بإختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره، فقد كان

(4/15)


الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها، والتمكن من أدائها وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل. أو أن كلمة من مقدرة، والمراد من أفضل الأعمال. أو كلمة أفضل لم يرد به الزيادة بل الفضل المطلق. وأجاب الطحاوي عن هذا الإشكال بجواب آخر أطال في تقريره، إن شيءت الوقوف عليه فارجع له إلى مشكله (ثم أى) بالتشديد والتنوين، وثم لتراخى الرتبة لا لتراخي الزمان، أي:ثم بعد الصلاة أيها أحب وأفضل (بر الوالدين) بكسر الباء وتشديد الراء الإحسان، وبر الوالدين ضد العقوق، وهو الإساءة وتضييع الحقوق (حدثني بهن) أي:بهذه الأشياء الثلاثة (ولو استزدته) أي:طلبت منه الزيادة في السؤال يعني لو سألته أكثر من هذا (لزادني) في الجواب (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، والجهاد، والأدب والتوحيد. ومسلم في الإيمان. وأخرجه أيضا الترمذي في الصلاة، وفي البر والصلة. والنسائي والدارمي في الصلاة. وأبوداود الطيالسي في مسنده. واعلم أن هذا الحديث ليس مرويا في الصحيحين بعين هذا اللفظ وتمامه الذي ذكره المؤلف تبعا للبغوي، بل اللفظ المذكور
571- (6) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة))
لا يوافق رواية من روايات غيرهما أيضا. وكأن البغوي أخذ شيئا من رواية وشيئا من رواية أخرى، وجعل المأخوذ المجموع سياقا واحد، وهذا كما ترى ليس مما ينبغي، بل كان عليه أن يورد رواية واحدة معينة للحديث، ثم يذكر الاختلاف في ألفاظها إن كان، هذا هو الطريق الصحيح في نقل الرواية. والعجب من صاحب المشكاة أنه لم يتنبه لذلك، أو تنبه لكن لم يعد صنيع البغوي هذا مخالفا للقاعدة.

(4/16)


571- قوله:(بين العبد) أي:المسلم وفي حكمه المسلمة (وبين الكفر) كرر بين لمزيد التأكيد (ترك الصلاة) مبتدأ مؤخر، والظرف المقدم خبره، ومتعلقة محذوف تقديره: ترك الصلاة وصلة بين العبد والكفر، والمعنى أنه يوصله إليه، وبهذا التقدير زال الإشكال، فإن المتبادر أن الحاجزين الإيمان والكفر فعل الصلاة لا تركها. وقيل: المعنى الفارق بين المؤمن والكافر ترك الصلاة، لوجوده في الكافر دون المؤمن، فإن من حق ما به الفرق أن يوجد في أحد الطرفين دون الآخر، فترك الصلاة فارق بينهما لتحققه في الكافر دون المؤمن، وقال السندهي في حاشية ابن ماجه: مثل هذه العبارة كما يستعمل في المانع الحائل بين الشيئين كذلك يستعمل في الوسيلة المفضية لأحدهما إلى الآخر. وفي الحديث من هذا القبيل، فلا يرد أن الحائل بينهما هي الصلاة، فإنها تمنع العبد من الوصول إلى الكفر لا تركها، فليتأمل.ومثل هذا قول القائل بينك وبين مرادك الاجتهاد، وليس هو نظير قوله تعالى: ?ومن بيننا وبينك حجاب? [5:41] وقوله: ?وجعل بين البحرين حاجزا? [61:27] انتهى. واللفظ المذكور لفظ ابن ماجه. ولفظ مسلم: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. قال النووي معناه أي:الذي يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة، فإذا ترك لم يبق بينه وبين الشرك حائل، بل دخل فيه. ثم إن الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد، وهو الكفر بالله تعالى. وقد يفرق بينهما فيكون الكفر أعم من الشرك-انتهى. وعلى هذا عطف الكفر على الشرك في رواية مسلم عطف عام على خاص. والحديث يدل على أن ترك الصلاة من موجبات الكفر، ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ترك الصلاة منكرا لوجوبها إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فهيا وجوب الصلاة. وإن كان تركه لها تكاسلا مع اعتقاده لوجوبها كما هو حال كثير من الناس، فقد اختلف العلماء فيه، فذهب أحمد وإسحق، وبعض المالكية، وبعض الشافعية إلى أنه يكفر وتمسكوا بحديث

(4/17)


جابر هذا وبحديث بريدة في الفصل الثاني، وبأحاديث عبدالله بن عمرو بن العاص وعبدالله بن شقيق، وأبي الدرداء في الفصل الثالث وبأحاديث أخرى وردت بتكفيره، ذكرها الحافظ في التلخيص (ص172) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص295) والمنذري في الترغيب (ج1:ص164-166) وذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يكفر بل يفسق، فإن تاب وإلا قتل حدا كالزاني المحصن، ولكنه يقتل بالسيف. وذهب صاحب الرأي: إلى أنه لا يكفر، ولا يقتل، بل يعزر، ويحبس حتى يصلى. ومن أقوى ما يستدل به على عدم كفره حديث عبادة الآتي، وقوله تعالى: ?إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء-116-4)) وحمل القائلون بعدم كفره الأحاديث
رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
572- (7) عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خمس صلوات افتراضهن الله تعالى من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، ولم أتم ركوعهن وخشوعهن،
الفاضية بكفره على من تركها جحدا. وقال بعضهم: هي محمولة على التغليظ والتهديد، أو على أنه قد يؤل به إلى الكفر، أو أن فعله شابه فعل الكفار. والحق عندي: أن تارك الصلاة عمدا كافر ولو لم يجحد وجوبها، لصحة الأحاديث في إطلاق الكفر عليه، لكنه كفر دون كفر أي:لم يرد بهذا الكفر كفرا يرده إلى ما كان عليه في الإبتداء، ففي الكفر مراتب كثيرة بعضها أخف من بعض غير موجب للخلود وعدم المغفرة، كما أن في الإيمان مراتب بعضها أعلى من بعض. والله أعلم. وارجع للتفصيل إلى النيل (ج1:ص280-286) والفتح (ج28:ص293) (رواه) أي: أصل الحديث (مسلم) وإلا فاللفظ الذي ذكره المؤلف تبعا للبغوي لفظ ابن ماجه. وأما لفظ مسلم فقد ذكرناه مع شرحه. والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي في الإيمان وأبوداود في السنة والنسائي وابن ماجه في الصلاة وابن حبان. قال الحفاظ: ورواه ابن حبان والحاكم، من حديث بريدة بن الحصيب نحوه.

(4/18)


572- قوله:(خمس صلوات) مبتدأ لتخصيصه بالإضافة خبره جملة (افترضهن الله تعالى) وجملة (من أحسن وضوئهن) الخ. استئناف مبين لبيان ما ترتب على افتراضهن، ويحتمل أن يكون جملة افتراضهن صفة، وما بعدها خبر. قال السندي: قد استدل عبادة بن الصامت بالعدد على عدم وجوب الوتر. كما جاء عنه أي: عند مالك، وأبي داود والنسائي، لكن دلالة المفهوم للعدد ضعيفة عندهم إلا أن يقال: قد قويت ههنا لما لحقها من القرائن المقتضية لاعتبارها ههنا، وذلك لأنه لو كان فرض سادس في جملة الصلوات كل يوم لبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بيانا وافيا بحيث ما خفي على أحد لعموم الابتلاء، فضلا عن أن يخفى على نحو عبادة، فكيف وقد بين لهم ما يؤهم خلافه، فظهر بهذا أن المفهوم هنا معتبر. قلت: ويؤيد ذلك أيضا أن الصحابي أعلم منا بفحوى الكلام، فيكون استدلاله بمفهوم العدد حجة، لاسيما إذا لم يعارضه عنده منطوق. قال السندي: وقد يقال: لعله استدل على ذلك بقوله: من جاء بهن، الخ. حيث رتب دخول الجنة على أداء الخمس، ولو كان هناك صلاة غير الخمس فرضا لما رتب هذا الجزاء على أداء الخمس. وفيه أنه كيف يحصل دخول الجنة بالصلاة فقط مع وجود سائر الفرائض، فإن جوز ذلك فليجوز مثله مع وجود الفرض السادس في جملة الصلوات-انتهى. قلت: الفرائض الأخر غير الصلاة منطوقات فتقدم على هذا المفهوم، ويشترط لدخول الجنة وجودها مع الصلاة، وأيضا هي من غير جنس الصلاة وكلامنا في ما هو من جنسها (وصلاهن لوقتهن) أي: في أوقاتهن المختارة. وقال الطيبي: أي: قبل أوقاتهن وأولها
كان له على الله عهد أن يغفر له. ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)). رواه أحمد، وأبوداود، وروى مالك، والنسائي نحوه.
573- (8) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا خمسكم،

(4/19)


(وأتم ركوعهن) أي: وسجودهن كما في رواية لأحمد (ج5:ص317) أي: أتى بهما تامين بأن اطمأن فيهما (وخشوعهن) المراد به سكون الجوارح عن العبث والقلب عما يشتغل بغير ما هو فيه من صلاته. واختلفوا في وجوب الخشوع واشتراطه في الصلاة، فذهب الأكثرون إلى عدم الوجوب والاشتراط. وروى عن سفيان الثوري أنه قال: من لم يخشع فسدت صلاته. وروى عن الحسن أنه قال: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع، ولا شك أن حضور القلب في الصلاة شرط من حيث أن الصلاة لا تنفع في الآخرة إلا به، فإن حضور القلب هو روح الصلاة، فصلاة الغافل في جميعها كالميت، وصلاة الغافل في جميعها إلا عند التكبير كمثل حي لا حراك به، فهو قريب من ميت. قد مال الغزالي إلى اشتراطه في الصلاة، فقد ذكر أدلته في إحياء العلوم، ولأبي الفرج عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي رسالة مفيدة في الخشوع في الصلاة فعليك أن تراجعها (كان له على الله) أي:كرما وتفضلا (عهد) أي:وعد. والعهد حفظ الشيء ومراعاته حالا فحالا، سمى ما كان من الله تعالى على طريقة المجازاة لعبادة عهدا على جهة مقابلة عهده على العباد، ولأنه وعد القائمين بحفظ عهده أن لا يعذبهم، ووعده حقيق بأن لا يخلفه، فسمي وعده عهدا لأنه أوثق من كل وعد وعهد، قاله التوربشتي. وقال القاضي: شبه وعد الله بإثابة المؤمنين على أعمالهم بالعهد الموثوق به الذي لا يخلف، ووكل أمر التارك إلى مشيته تجويز العفوه لأنه لا يجب على الله شيء، ومن ديدن الكرام محافظة الوعد والمسامحة في الوعيد (أن يغفر له) خبر مبتدأ محذوف أي:هو، أو صفة عهد أو بدل منه (ومن لم يفعل) أي:ذلك استخفافا، وقال القاري أي: مطلقا، أو ترك الإحسان (إن شاء غفر له) برحمته فضلا (وإن شاء عذبه) عدلا، قد استدل به على عدم كفر من ترك الصلاة، وعدم استحقاقه للخلود في النار، وقد تقدم أن للفكر مراتب، ومنها ما لا ينافي المغفرة ولا يوجب الخلود في النار (رواه أحمد)

(4/20)


(ج5:ص316، 315) (وأبوداود) أي: باللفظ المذكور في باب المحافظة على الصلوات من حديث عبدالله الصنابحي ورواه أيضا في "باب من لم يؤتر" من حديث المخدجي بنحوه، وسكت عنه هو والمنذري (وروى مالك) في باب الأمر بالوتر من مؤطاه (والنسائي) في باب المحافظة على الصلوات الخمس، وكذا ابن ماجه وابن حبان والحاكم وابن السكن كلهم من حديث المخدجي (نحوه) أي: بمعناه. قال المنذري: قال أبوعمر النمري يعني ابن عبدالبر: لم يختلف عن مالك في إسناد هذا الحديث، وهو صحيح ثابت-انتهى. وله شاهد من حديث أبي قتادة عند ابن ماجه، ومن حديث كعب ابن عجزة عند أحمد.
573- قوله: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع (صلوا خمسكم) أي: صلواتكم الخمس، وأضافها إليهم
وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) رواه أحمد، والترمذي.
574- (9) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مروا أولادكم
بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم

(4/21)


لأنها لم تجمع لغيرهم. قال الطيبي: حكمة إضافة هذا وما بعده إليهم أعلامهم بأن ذوات هذه الأعمال بكيفياتها المخصوصة من خصوصياتهم التي امتازوا بها عن سائر الأمم، وحثهم على المبادرة للامتثال بتذكيرهم بما خوطبوا به، وتذكيرهم بأن هذه الإضافة العملية يقابلها إضافة فضلية هي أعلى منها وأتم، وهي الجنة المضافة إلى وصف الربوبية المشعر بمزيد تربيتهم وتربية نعيمهم بما فارقوا به سائر الأمم (وصوموا شهركم) أي:رمضان. والإضافة للاختصاص، وقيل أضافه إلينا مع أن الراجح أنه ما من أمة إلا وفرض عليها رمضان، لأنه لم يغير ولم يضل عندنا، بخلاف الأمم السابقة فإنهم غيروه وأضلوه في أيام السنة. وأبهمه للدلالة على أنه صار من الظهور عندهم إلى حد لا يقبل الشك والتردد (وأدوا زكاة أموالكم) أي:التي هي ملك لكم، إلى الإمام أو إلى مستحقيها إن لم يكن الإمام. ولم يذكر الحج في هذه الرواية اختصارا، ففي رواية لأحمد (ج5:ص262): وحجوا بيتكم، وأدوا زكاتكم طيبة بها أنفسكم (وأطيعوا ذا) صاحب (أمركم) أي:من ولى أمرا من أموركم في غير معصية (تدخلوا) جواب الأوامر السابقة، أي:من غير سابقة عذاب، لأن الغالب أن من فعل الأشياء المذكورة فهو يكون من الصالحين (جنة ربكم) الإضافة للتنبيه على كمال اختصاصهم به سبحانه وتعالى كإضافة الصلاة، والصوم، والزكاة إليهم للتنبيه على مقابلة العمل بالثواب. قال القاري: والمراد تناولوا من درجات الجنة ما يليق بأعمالكم، لأن الحق أن دخول الجنة بفضل الله، والدرجات على حسب الطاعات (رواه أحمد) (ج5:ص262، 251) (والترمذي) في آخر الصلاة، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضا ابن حبان، والحاكم في المستدرك (ج1:ص9) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولا نعرف له علة، ولم يخرجاه، وقد احتج البخاري، ومسلم بأحاديث سليم بن عامر راوي الحديث عن أبي أمامة، وسائر رواته متفق عليهم. ووافقه الذهبي. وفي الباب عن أبي الدرداء أخرجه الطبراني

(4/22)


في مسند الشاميين مرفوعا بلفظ: أخلصوا عبادة ربكم، وصلوا خمسكم، وأدوا زكاة أموالكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيت ربكم، تدخلوا جنة ربكم. ذكره الزيلعي في نصب الراية.
574- قوله:(مروا) أمر من الأمر وهو أمر للأولياء، لأن الصبي غير مكلف لحديث: رفع القلم عن ثلاثة. وفيه عن الصبي حتى يشب أو يحتلم، فهو ليس بمخاطب إلا ما ورد في قوله: ?ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم، والذين لم يبلغوا الحلم منكم? [58:24] (أولادكم) ذكورا أو إناثا (بالصلاة) بأن تعلموهم ما تحتاج إليه الصلاة من شروط وأركان، وأن تأمروهم بفعلها بعد التعليم (وهم أبناء) فيه تغليب للذكور على الإناث (سبع سنين) أي:عقب تمامها ليتمرنوا عليها، وليعتادوها ويستأنسوا بها. الجملة حالية. وعين السبع لأنه وقت ظهر العقل والتمييز في الولد (و أضربوهم) أي:
عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)) رواه أبوداود، وكذا رواه في شرح السنة عنه.
575- (10) وفي المصابيح عن سبرة بن معبد.

(4/23)


ضربا غير مبرح متقين عن الوجه (عليها) أي: على تركها (وهم أبناء عشر سنين) أي: عقب تمامها، لأنه حد يحتمل فيه الضرب غالبا (وفرقوا) أمر من التفريق (بينهم) أي: بين البنين والبنات على ما هو الظاهر، لأن بلوغ العشر مظنة الشهوة (في المضاجع) قال المناوي في فتح القدير: أي: فرقوا بين أولادكم في مضاجعهم التي ينامون فيها إذا بلغوا عشرا، حذروا من غوائل الشهوة وإن كن أخوات-انتهى. قال الطيبي: إنما جمع بين الأمر بالصلاة والفرق بينهم في المضاجع في الطفولية تأديبا ومحافظة لأمر الله تعالى، لأن الصلاة أصل العبادات، وتعليما لهم المعاشرة بين الخلق، وأن لا يقفوا مواقف التهم، فيجتنبوا محارم الله كلها-انتهى. والحديث يدل على وجوب أمر الصبيان بالصلاة على الأولياء إذا بلغوا سبع سنين، وضربهم عليها إذا بلغوا عشرا، والتفريق بينهم في المضاجع لعشر سنين.وأما ما قيل من أن عدم تكليف الصبي يمنع من حمل الأمر على حقيقته، لأن الإجبار إنما يكون على فعل واجب أو ترك محرم، وليست الصلاة بواجبة على الصبي، ولا تركها محظور عليه، ففيه أن ذلك إنما يلزم ذلك لو اتحد المحل، وهو هنا مختلف، فإن محل الوجوب الولي، ومحل عدمه ابن السبع، وابن العشر، ولا يلزم من عدم الوجوب على الصبي عدمه على الولي. وفي قوله: واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، دليل على إغلاظ العقوبة إذا تركها متعمدا بعد البلوغ. وللشيخ الأجل الشاه ولي الله الدهلوي كلام حسن في التحديد بالسبع والعشر في حجة الله البالغة (ج1:ص48) فعليك أن تراجعه (رواه أبوداود) في الصلاة وسكت عنه هو والمنذري (وكذا رواه) البغوي (في شرح السنة عنه) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم.

(4/24)


575- قوله:(وفي المصابيح عن سبرة بن معبد) يعني قال البغوي في المصابيح بعد ذكر الحديث باللفظ المذكور: رواه سبرة بن معبد الجهني، وفيه نظر، لأن هذا اللفظ من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، لا سبرة بن معبد. وقد أخرجه أبوداود عنه أيضا، لكن بلفظ: مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها. وليس في رواية سبرة، التفريق. وأخرجه أيضا الترمذي وابن خزيمة والدارقطني والحاكم، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وسكت عنه أبوداود، وذكر المنذري تصحيح الترمذي، وأقره. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.وسبرة – بفتح أوله وسكون الموحدة- ابن معبد بن عوسجة، ويقال: سبرة بن عوسجة الجهني أبوثرية المدني صحابي، نزل المدينة، وأقام بذى المروة. أول مشاهد الخندق.وكان رسول على لما ولى الخلافة بالمدينة إلى معاوية، يطلب منه بيعة أهل الشام. مات في آخر خلافة معاوية. له أحاديث انفرد له مسلم بحديث المتعة.
576- (11) وعن بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها: فقد كفر)). رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
?الفصل الثالث?
577- (12) عن عبدالله بن مسعود، قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يارسول الله ! إني عالجت امرأة في أقصى المدينة. وإني أصبت منها ما دون أن أمسها. فأنا هذا، فاقض في ما شئت.

(4/25)


576- قوله: (العهد الذي بيننا وبينهم) قال القاضي: الضمير الغائب للمنافقين، شبه الموجب لإبقائهم وحقن دمائهم بالعهد المقتضي لإبقاء المعاهد والكف عنه. والمعنى أن العمدة في إجراء أحكام الإسلام عليهم تشبههم بالمسلمين في حضور صلاتهم، ولزوم جماعتهم، وانقيادهم للأحكام الظاهرة، فإذا تركوا ذلك كانوا هم والكفار سواء. قال التوربشتي: ويؤيد هذا المعنى قوله:عليه الصلاة والسلام لما استؤذن في قتل المنافقين: إلا أنى نهيت عن قتل المصلين. قلت: الظاهر أن الضمير عام فيمن تابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإسلام سواء كان منافقا أم لا. ويدل عليه قوله:- صلى الله عليه وسلم - لأبي الدرداء في آخر أحاديث الباب: لا تترك الصلاة متعمدا، فمن تركها فقد برئت منه الذمة. قال السندي في حاشية النسائي: قوله: "إن العهد" أي:العمل الذي أخذ الله تعالى عليه العهد والميثاق من المسلمين، كيف وقد سبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايعهم على الصلوات. وذلك من عهد الله تعالى. "الذي بيننا وبينهم" أي:الذي يفرق بين المسلمين والكافرين، ويتميز به هؤلاء عن هؤلاء صورة على الدوام. "الصلاة" وليس هناك عمل على صفتها في إفادة التمييز بين الطائفتين على الدوام "فمن تركها فقد كفر" أي:صورة، وتشبه بهم إذ لا يتميز إلا المصلى. وقيل: يخاف عليه أن يؤويه إلى الكفر وقيل: كفر أي:أبيح دمه. وقيل:المراد من تركها جحدا. وقال أحمد: تارك الصلاة كافر لظاهر الحديث-انتهى. قلت: الراجح في ذلك ما ذهب إليه أحمد، لأن ظواهر الأحاديث الواردة بتكفير تؤيده، لكن المراد كفر دون كفر، أي:كفر غير الكفر المخرج من الملة. والله تعالى أعلم. ولا حاجة إلى هذه التأويلات التي ذكرها السندي وغيره ممن لم يذهب إلى تكفيره. وارجع إلى كتاب الصلاة للإمام ابن القيم، فإنه قد بسط الكلام فيه في ذلك بسطا حسنا (رواه أحمد) (ج5:ص355، 346) (والترمذي) في الإيمان، وقال:حسن صحيح غريب

(4/26)


(والنسائي وابن ماجه) في الصلاة. قال الشوكاني في النيل: الحديث صححه النسائي والعراقي، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم. وقال: صحيح ولا نعرف له علة.
577- قوله:(إني عالجت امرأة) أي: داعبتها ولا عبتها وناولت منها ما يكون بين الرجل والمرأة غير أني ما جامعتها (في أقصى المدينة) أي: أسفلها وأبعدها عن المسجد (ما دون أن أمسها) ما موصولة، أي: الذي تجاوز المس أي: الجماع (فأنا هذا) أي: أنا حاضر بين يديك، ومنقاد لحكمك (فاقض في ما شئت) أي: فاحكم بسبب ذلك في حقي ما أردته مما يجب علي، كناية عن غاية التسليم
فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك. قال: ولم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه شيئا. وقام الرجل، فانطلق. فأتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا فدعاه، وتلا عليه هذه الآية ?وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين? فقال رجل من القوم: يا نبي الله! هذا له خاصة؟ فقال: بل للناس كافة)) رواه مسلم.
578- (13) وعن أبي ذر، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج زمن الشتاء، والورق يتهافت، فأخذ بغصنين من شجرة. قال: فجعل ذلك الورق يتهافت. قال: يابا ذر ! قلت: لبيك يا رسول الله ! قال: إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله، فتهافت عنه ذنوبه، كما تهافت هذا الورق

(4/27)


والانقياد لحكم الله ورسوله (لو سترت على نفسك) أي: لكان حسنا، أو لو للتمنى (قال) أي: ابن مسعود (ولم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه) أي: على الرجل السائل أو على عمر (شيئا) من الكلام انتظار لقضاء الله فيه رجاء أن يخفف عن عقوبته (فانطلق) ظنا منه بسكوته - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى سينزل فيه شيئا، وأنه لا بد أن يبلغه (فأتبعه النبي ) أي:أرسل عقبه (رجلا) ليدعوه (وتلا) عليه الصلاة والسلام (عليه) أي: على الرجل السائل (وأقم الصلاة) بدل من الآية (ذلك) أي: ما ذكر في هذه الآية العظيمة من المنة الجسيمة (ذكرى) أي:تذكرة وموعظة (للذاكرين) لنعمة الله أو المتعظين (فقال رجل) قيل: هو عمر ابن الخطاب. وقيل هو معاذ بن جبل (هذا له) أي: هذا الحكم للسائل (خاصة) أي: يخصه خصوصا أم للناس عامة (كافة) أي:كلهم يعني يعم جميعا، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. قال النووي: هكذا تستعمل كافة حالا ولا يضاف، فيقال: كافة الناس ولا الكافة بالألف واللام، وهو معدود في تصحيف العوام ومن أشبههم (رواه مسلم) في التوبة، وأخرجه أيضا الترمذي في تفسير سورة هود. وقال: حديث حسن صحيح. والظاهر أن الحديث السابق أو الفصل الأول مختصر من هذا الحديث الطويل. وذهب بعضهم إلى أن الواقعة تكررت لرجلين لمغايرة سياقيهما، والله أعلم.

(4/28)


578- قوله: (زمن الشتاء) أي: البرد أو قريبا من فصل الشتاء، وهو الخريف (يتهافت) أي: يتساقط متواليا (فجعل ذلك الورق يتهافت) أي: طفق الورق من الغصنين يتساقط تساقطا سريعا لأنهما عند القبض بهما أسرع سقوطا من تركهما على حالهما (يريد بها وجه الله) أي: ذاته ومرضاته. والجملة حالية من الفاعل أو المفعول، أي: خالصا لله أو خالصة له تعالى بأن لا يكون فيها سمعة ولا رياء بل يقصد بها امتثال أمر الله ورضاءه عنه فقط (فتهافت عنه) بحذف إحدى التائين (كما تهافت) بصيغة الماضي، وفي نسخة صحيحة يتهافت بالمضارع للمذكر، قاله القاري. قلت: وكذا وقع بصيغة المضارع
عن هذه الشجرة)) رواه أحمد.
579- (14) وعن يزيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى سجدتين لا يسهو
فيهما، غفر الله له ما تقدم من ذنبه)). رواه أحمد.
580- (15) وعن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الصلاة يوما فقال: ((من حافظ عليها، كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة.
المذكر في مسند أحمد (عن هذه الشجرة) أي: عن غصنيها (رواه أحمد (ج5:ص159) قال المنذري في الترغيب (ج1:ص119) بإسناد حسن: وفي الباب عن أبي عثمان عن سلمان عند أحمد والنسائي والطبراني. قال المنذري: رواة أحمد محتج بهم في الصحيح إلا علي بن زيد.

(4/29)


579- قوله:(من صلى سجدتين) أي:ركعتين كما في رواية لأحمد ( لا يسهو) أي: لا يغفل (فيهما) قال الطيبي: أي: يكون حاضر القلب، يقظان النفس، يعلم من يناجى، وبما يناجيه، كما في قوله- صلى الله عليه وسلم -: تعبد الله كأنك تراه. ولهذا المعنى خصت السجدة في التغليب دون الركوع تلميحا إلى قوله: ?واسجد واقترب? [19:96] انتهى. قلت: قد تقدم في أوائل الطهارة حديث عثمان بلفظ: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم يصلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه، فلو أريد بقوله: لا يسهو فيهما أي: لا يحدث فيهما نفسه لكان أولى، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا (رواه أحمد) (ج5:ص194) وأخرجه أيضا هو في (ج4:ص117) وأبوداود في كراهية الوسوسة وحديث النفس في الصلاة، والحاكم بلفظ: من توضأ فأحسن وضوءه ثم صلى ركعتين لا يسهو فيهما، غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وقد سكت عنه أبوداود، والمنذري.

(4/30)


580- قوله: (وعن عبدالله بن عمرو بن العاص) قال الكرماني: الجمهور على كتباته بالياء، وهو الفصيح عند أهل العربية. وفي كثير من الكتب أو أكثر بحذفها-انتهى. قال:القاري: والصحيح كتابته بلا ياء على ما في النسخ الصحيحة، وهو مبنى على حذف الياء لفظا وخطا للتخفيف كما في نحو المتعال، أو بناء على أن أصله العوص أو العيص على ما يفهم من القاموس (أنه ذكر الصلاة) أي: أراد أن يذكر فضلها وشرفها، قاله الطيبي. (فقال) الفاء للتفسير (من حافظ عليها) أي: من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها، ودوام عليها، ولم يفتر عنها (كانت) أي:صلاته أو محافظته عليها (نورا وبرهانا) تقدم معناهما في أوائل الطهارة. وقيل أي: نورا بين يديه، مغنياذ عن سؤاله عنها، وبرهانا أي: دليلا على محافظته على سائر الطاعات. وقيل: أي: زيادة في نور إيمانه، وحجة واضحة على كمال عرفانه (ونجاة) بفتح النون أي: ذات نجاة، أو جعلت نفسها نجاة مبالغة كرجل عدل (يوم القيامة) لأن الصلاة أول ما يسأل عنه من العبادات، وكذلك نور وبرهان ونجاه له في
ومن لم يحافظ عليها، لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي خلف)). رواه أحمد، والدارمي، والبيهقي في شعب الإيمان.
581- (16) وعن عبدالله بن شقيق، قال:

(4/31)


القبر كما ورد في الأحاديث، فإن من مات فقد قامت قيامته، قاله القاري (ومن لم يحافظ عليها) أي: على شرائطها وأركانها، فمن تركها بالكلية فهو أولى بالمحرومية (لم تكن له نورا) الخ. فيه أنه لا بانتفاع للمصلى بصلاته إلا إذا كان محافظا عليها لأنه إذا انتفى كونها نورا وبرهانا ونجاة مع عدم المحافظة انتفى نفعها (وكان يوم القيامة) محشورا أو معذبا في الجملة (مع قارون) الذي منعه ماله عن الطاعة، وهو على وزن فاعول اسم أعجمي ممتنع للعجمة والعلمية، وليس بعربي مشتق من قرنت. كان ابن عمر موسى، وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب، وموسى هو ابن عمران ابن قاهث. وقيل: كان عم موسى لأب وأم. وقيل: هو ابن خالة موسى. وأكثر أهل العلم على الأول. وكان يسمى المنور لحسن صورته. وقيل: لحسن صوته بالتوراة. وكان من السبعين الذي اختارهم موسى للمناجاة، فسمع كلام الله. قاله الرازي. ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه، فنافق كما نافق السامري، وخرج عن طاعة موسى، فأهلكه البغي لكثرة ماله (وفرعون) لقب لمن ملك العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، ككسرى وقيصر لملكي الفرس والروم، واسمه الوليد بن مصعب بن زيان كما عليه أكثر المفسرين. وفرعون يوسف عليه السلام ريان جد فرعون موسى. وكان بينهما أكثر من أربع مائة سنة. قال المسعودي: ولا يعرف لفرعون تفسير بالعربية. وظاهر كلام الجوهري أنه مشتق من معنى العتو فإنه قال: والعتاة الفراعنة، وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي: دهاء ومكر-انتهى. وقيل: لأجل أن الفراعنة كانوا عاتين حتى فهم العرب من ذكرهم العتو، اشتقوا من فرعون تفرعن الرجل إذا عتا (وهامان) وزير فرعون، ومدبر رعيته، ومشير دولته (وأبي بن خلف) بفتح الخاء عدو النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده يوم أحد، وهو مشرك، وقد كان واعده النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله، وهو بمكة كما في

(4/32)


السيرة لابن هشام. وقوله: - صلى الله عليه وسلم - كان يوم القيامة مع قارون، كناية عن دخول النار، أي: كان معهم في النار، وإن اختلفت المحال وكيفية العذاب. وفيه تغليظ شديد، وتهديد عظيم لتارك المحافظة على الصلاة.واستدل به بعضهم على كفر تارك الصلاة لأن هؤلاء المذكورين هم أشد أهل النار عذابا، وعلى تخليد تاركها في النار كتخليد من جعل معهم في العذاب. ويمكن أن يقال: مجرد المعية والمصاحبة لا يدل على الاستمرار والتأييد لصدق المعنى اللغوي بلبثه معهم مدة (رواه أحمد والدارمي) الخ. وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير، والأوسط، وابن حبان في صحيحه. قال المنذري: إسناد أحمد جيد. وقال الهيثمي: رجاله ثقات.
581- قوله: (وعن عبدالله بن شقيق) العقيلي البصري ثقة، فيه نصب من الطبقة الوسطى من التابعين، روى عن
كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي.
582- (17) وعن أبي الدرداء، قال: ((أوصاني خليلي أن لا تشرك بالله شيئا. وإن قطعت وحرقت. ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدا، فمن تركها متعمدا، فقد برئت منه الذمة.

(4/33)


عمر، وعثمان وعلي وأبي ذر وأبي هريرة وعائشة وابن عباس وغيرهم. مات سنة (108) وقيل: غير ذلك. قال الجريري: كان عبدالله بن شقيق مجاب الدعوة، كانت تمر به السحابة فيقول اللهم لا تجوز كذا وكذا حتى تمطر، فلا تجوز ذلك الموضع حتى تمطر. حكاه ابن أبي خيثمة في تاريخه (كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) منهم عمر، وابن مسعود وابن عباس ومعاذ بن جبل وجابر بن عبدالله، وأبوالدرداء وعلي (لا يرون) من الرأي أي: لا يعتقدون (شيئا) مفعوله (من الأعمال) صفة شيئا (تركه كفر) صفة أخرى لشيئا (غير الصلاة) استثناء، والمستثنى منه الضمير الراجع إلى شيئا قاله الطيبي. والمراد ضمير تركه. والحديث فيه دليل ظاهر على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يعتقدون أن ترك الصلاة كفر. والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة، لأن قوله: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جمع مضاف، وهو من المشعرات بذلك. قال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحق يقول: صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تارك الصلاة كافر. وكذلك كان رأي: أهل العلم من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. وقال ابن حزم: وقد جاء عن عمر وعبدالرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم: أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، ولا نعلم لهؤلاء من الصحابة مخالفا - انتهى. (رواه الترمذي) في الإيمان، ولم يتكلم عليه، ورواته ثقات أثبات. وأخرجه أيضا الحاكم، وصححه على شرطهما. وذكره الحافظ في التخليص والمنذري في الترغيب، ولم يتكلما عليه.

(4/34)


582- قوله:(أوصاني خليلي) لما كان هذا الحديث في الوصية متناهيا، وللزجر عن رذائل الأخلاق جامعا وضع "خليل" مكان "رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" إظهار الغاية تعطفه وشفقته، قاله الطيبي (أن لا تشرك) بالجزم على أنه صيغة نهى، وأن تفسيرية لأن في "أوصى" معنى القول. ويجوز النصب على أنه صيغة مضارع، وأن ناصبة مصدرية، والمراد أن لا تظهر الشرك (وإن قطعت) بالتشديد ويخفف (وحرقت) بالتشديد لا غير. وهذا يدل على أنه ينبغي اختبار الموت والقتل دون إظهار الشرك، وهو وصية بالأفضل والعزيمة، فإنه يجوز التلفظ بكلمة الكفر والشرك عند الإكراه لقوله تعالى: ?إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان? [106:16] (متعمدا) احتراز عن الخطأ، والنسيان والنوم والضرورة وعدم القدرة (فقد برئت منه الذمة) كناية عن الكفر تغليظا، قاله الطيبي. أو المراد منه الأمان من التعرض بالقتل أو التعزير، كذا في المرقاة. وقال الجزري: الذمة والذمام هما بمعنى العهد والأمان، والضمان والحرمة والحق، وسمي أهل الذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم. وحديث: فقد برئت منه الذمة. أي: أن لكل أحد من الله عهدا بالحفظ
ولا تشرب الخمر، فإنها مفتاح كل شر)). رواه ابن ماجه.
(1) باب المواقيت

(4/35)


والكلاءة، فإذا ألقى بيده إلى التهلكة، أو فعل ما حرم الله تعالى، أو خالف ما أمر به، خذلته ذمة الله تعالى (ولا تشرب الخمر) قال الطيبي: قرن ترك الصلاة وشرب الخمر، مع الشرك إيذانا بأن الصلاة عمود الدين، وتركها ثلمة في الدين. وأن شرب الخمر كعبادة الوثن، ولأن أم الأعمال ورأسها الصلاة، وأم الخبائث الخمر فأنى يجتمعان؟ قال تعالى: ?إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر? [45:29] فالصلاة مفتاح كل خير، والخمر مفتاح كل شر، أي: لأنها تزيل العقل فلا يبالي بشيء، فقد انفتح له باب الشر بعد أن كان مغلقا بقيد العقل (رواه ابن ماجه) في الفتن من حديث شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء. قال في الزوائد: إسناده حسن، وشهر مختلف فيه. وقال الحافظ في التلخيص (ص127): في إسناده ضعف. ورواه الحاكم في المستدرك من طريق جبير بن نفير عن أميمة مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا إذ دخل عليه رجل، فقال: إني أريد الرجوع إلى أهلي فأوصني، فذكر نحوه مطولا. ورواه أحمد والبيهقي من حديث مكحول، عن أم أيمن. وفيه انقطاع. ورواه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت، ومن حديث معاذ بن جبل، وإسنادهما ضعيفان - انتهى. وقال المنذري بعد ذكر حديث عبادة: رواه الطبراني ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة بإسنادين لا بأس بهما.

(4/36)


(باب المواقيت) أي: باب بيان مواقيت الصلاة، جمع ميقات وهو مفعال من الوقت. والمراد به الوقت الذي عينه الله لأداء هذه العبادة، وهو القدر المحدود للفعل من الزمان. قال تعالى: ?إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا? [103:4] أي: مفروضا في أوقات معينة معلومة، فأجمل ذكر الأوقات في هذه الآية، وبينها في مواضع أخر من الكتاب من غير ذكر تحديد أوائلها وأواخرها، وبين على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحديدها ومقاديرها. قال تعالى: ?أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل? [114:11] وقد تقدم تفسيره. وقال تعالى: ?أقم الصلاة لدلوك الشمس? أي: الظهر والعصر ?إلى غسق الليل? أي: المغرب والعشاء ?وحين تصبحون? فيه ذكر الصبح ?وعشيا? يعني العصر ?وحين تظهرون? [18، 17:30] يعني الظهر. وقال تعالى: ?وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس? يعني الفجر ?وقبل غروبها? يعني العصر ?ومن آناء الليل? هو مثل قوله: ?زلفا من الليل? ?فسبح وأطراف النهار? [130:20] فيه ذكر الظهر. والجمع باعتبار وقوع صلاة الظهر تارة في أول وقتها، وأخرى في غيره، فجمعية الأطراف باعتبار الساعات كجمعية الإناء والزلف.
?الفصل الأول?
583- (1) عن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر. ووقت العصر ما لم تصفر الشمس. ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق.

(4/37)


583- قوله: (وقت الظهر) أي: أول وقته، وسميت بالظهر لفعلها في وقت الظهيرة (إذا زالت الشمس) أي: حين مالت عن بطن السماء ووسطه المسمى بلوغها إليه بحالة الاستواء، إلى جهة المغرب باعتبار ظهوره لنا بزيادة ظل الاستواء إلى جهة المشرق. والميل إلى جهة المغرب هو الدلوك الذي أراده تعالى بقوله: ?أقم الصلاة لدلوك الشمس? وهذا بيان لأول وقت الظهر (وكان) أي: صار (ظل الرجل كطوله) أي: قريبا منه. ويستمر ويمتد وقتها إلى أن يصير ظل كل شيء مثله. وذكر الرجل في الحديث تمثيلا. وهذا تعريف لآخر وقتها. فقوله: وكان، عطف على زالت، أي: ويستمر وقت الظهر إلى صيرورة ظل الرجل قدر قامته (مالم يحضر العصر) أي: وقته وحضوره. بمصير ظل لكل شيء مثله، كما يفيده مفهوم هذا، وصريح غيره. قال الأبهرى: قوله:ما لم يحضر العصر، بيان وتأكيد لقوله: وكان ظل الرجل كطوله، ثم المراد بالظل الظل الحادث، أو مطلق الظل، ويلائمه قوله: مالم يحضر العصر، أي وقته، وهو الظل الحادث لطول الرجل. وهذا الحديث يدل على أنه لا فاصلة بين وقت الظهر ووقت العصر، ولا اشتراك بينهما، بل متى خرج وقت الظهر دخل وقت العصر، وإذا دخل وقت العصر لم يبق شيء من وقت الظهر. وأما حديث جبريل في الفصل الثاني الذي يدل على الاشتراك فسيأتي الجواب عنه. وعلى أن لا كراهة في تأخير الظهر إلى آخر الوقت (ووقت العصر) أي: يستمر من دخوله بما ذكر من صيرورة ظل الرجل كطوله إلى (ما لم تصفر) بفتح الراء المشددة وتكسر (الشمس) والمراد به وقت الاختيار لقوله- صلى الله عليه وسلم -: من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، أي: مؤداة. ولما في رواية لمسلم من زيادة: ويسقط قرنها الأول. قال النووي: فيه دليل لمذهب الجمهور أن وقت العصر يمتد إلى غروب الشمس. والمراد بقرنها جانبها. وفيه أن العصر يكون أداء مالم يغب الشمس (ووقت صلاة المغرب) يمتد ويستمر من غروب الشمس (ما لم يغب الشفق) هو الحمرة

(4/38)


التي تلي الشمس بعد الغروب لما روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الشفق الحمرة، رواه الدارقطني، وصحح ابن خزيمة، وغيره وقفه على ابن عمر. قال البيهقي: روى هذا الحديث عن علي وعمر وابن عباس وعبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وأبي هريرة ولا يصح منها شيء. قال الأمير اليماني: البحث لغوى والمرجع فيه إلى أهل اللغة، وابن عمر من أهل اللغة، وقح العرب، فكلامه حجة، وإن كان موقوفا عليه. وفي القاموس: الشفق – محركة- الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء، وإلى قريبها، أو إلى قريب العتمة – انتهى. وقال
ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط.ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني الشيطان)) رواه مسلم.

(4/39)


الخليل: الشفق الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء، فإذا ذهب قيل: غاب الشفق. وقال الفراء: سمعت العرب يقول: عليه ثوب كأنه الشفق، وكان أحمر – انتهى. وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد. قال القاري: وبه يفتى.وقال في الدار: الشفق هو الحمرة. وبه قال الثلاثة، وإليه رجع الإمام كما هو في شروح المجمع وغيره، فكان هو المذهب. قال صدر الشريعة: وبه يفتى. وفي المواهب: وعليه الفتوى. ورجحه في البرهان.وفيه دليل على أن وقت المغرب يمتد إلى غروب الشفق، ولا يعارضه حديث جبريل الآتي الدال على عدم الامتداد والاتساع، لأنه اقتصر على بيان وقت الاختيار، ولم يستوعب وقت الجواز. وهذا جار في كل الصلوات سوى الظهر. ولأنه متقدم في أول الأمر بمكة، وحديث عبدالله بن عمرو هذا وأمثاله بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في أواخر الأمر بالمدينة، فوجب اعتمادها. ولأن أحاديث الامتداد أصح إسنادا من حديث جبريل فوجب تقديمها (ووقت صلاة العشاء) من غيبوبة الشفق يستمر (إلى نصف الليل الأوسط) المراد به الأول، والأوسط صفة النصف. وفيه دليل على أن آخر وقت العشاء إلى نصف الليل، وقد ثبت في الحديث التحديد لآخره بثلث الليل لكن أحاديث النصف صحيحة، فيجب العمل بها. واحتج به أبوسعيد الأصطخري على أن وقت العشاء إلى نصف الليل فقط، وعند غيره محمول على بيان وقت الاختيار. وأما وقت الجواز فيمتد إلى طلوع الفجر لما روى أبوقتادة مرفوعا: إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى. قال:الحافظ: عموم حديث أبي قتادة مخصوص بالإجماع في الصبح، فللأصطخري أن يقول: إنه مخصوص بالحديث المذكور وغيره من الأحاديث في العشاء، قال: ولم أر في امتداد وقت العشاء إلى طلوع الفجر حديثا صريحا يثبت – انتهى (ووقت صلاة الصبح) أي: أوله (من طلوع الفجر) أي: الصادق، ويستمر إلى (ما لم تطلع الشمس) أي: شيء منها، ففي رواية: مالم يطلع قرن الشمس

(4/40)


الأول (فإذا طلعت الشمس) أي: أرادت الطلوع (فإنها تطلع بين قرني الشيطان) أي: ناحتي رأسه، وذلك لأن الشيطان يرصد وقت طلوع الشمس فينتصب قائما في وجه الشمس، ويدلى رأسه إليها في وقت الطلوع فيكون في مقابلة من يعبد الشمس ويسجد له، فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن الصلاة في ذلك الوقت لتكون صلاة من يعبد الله في غير وقت عبادة من يعبد الشيطان. وفي تأويل مختلف الحديث (ص154-156) لابن قتيبة (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد، وأبوداود، والنسائي لكن ليس عندهما: فإذا طلعت الشمس، الخ.
584- (2) وعن بريدة، قال: ((إن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وقت الصلاة. فقال:له: صل معنا هذين – يعني اليومين – فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر، والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حيث غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر. فلما أن كان اليوم الثاني أمره: فأبرد بالظهر، فابرد بها - فأنعم أن يبرد بها - وصلى العصر والشمس مرتفعة - أخرها فوق الذي كان - وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق،

(4/41)


584- قوله: (عن وقت الصلاة أريد به الجنس أي:الصلوات الخمس (صل معنا هذين يعني اليومين) وفي رواية النسائي: هذين اليومين، بغير زيادة يعني أي: لتعلم أوقات الصلاة كلها أوائلها وأواخرها، ووقت الفضيلة، والاختيار، وغيرهما بالمشاهدة التي هي أقوى من السماع (فلما زالت الشمس) عن حد الاستواء وبطن السماء من اليوم الأول (أمر بلالا) بالأذان (ثم أمره) بالإقامة (فأقام الظهر) بنزع الخافض أي:للظهر (ثم أمره) أي: في أول وقت العصر (فأقام العصر) أي: بعد أن أذن له، وتركه اختصارا أو اعتمادا على ذكره في الأول (والشمس مرتفعة) الجملة حالية أي: صلى في أول وقته (بيضاء ( أي:لم تختلط بها صفرة (نقية) أي:صاف لونها بحيث لم يدخلها تغير (فأقام الفجر) أي:لصلاة الفجر (حيث طلع الفجر) أي: الصادق (فلما أن كان اليوم الثاني) أن زائدة، وكان قيل تامة أي: فلما وجد أو حصل، ويحتمل أنها ناقصة، واسمها ضمير الزمان، أي: فلما كان الزمان اليوم الثاني (أمره) أي: بالإبراد وهو جواب لما (فأبرد بالظهر) على صيغة الأمر أي: فقال: له أبرد بالظهر. قال القاري: وفي نسخة فأبرد على صيغة الماضي أي:فأمره بالإبراد فيكون تفسير الأمر وتأكيدا (فأبرد بها) أي: بصلاة الظهر. والإبراد هو الدخول في البرد، والباء للتعدية أي: إدخالها في البرد. وقال الخطابي: الإبراد أن يتفيأ الأفياء، وينكسر وهج الحر، فهو برد بالإضافة إلى حر الظهيرة، وذكره الطيبي (فأنعم) أي: أفضل. وزاد وبالغ. قال الجزري: أي: أطال الإبراد وأخر الصلاة. ومنه قولهم: أنعم النظر في الشيء إذا أطال التفكر فيه (أخرها) بالتشديد أي: أخر صلاة العصر في اليوم الثاني (فوق الذي) أي: التأخير الذي (كان) أي: وجد في اليوم الأول بأن أوقعها حين صار ظل الشيء مثليه كما بينته الروايات الأخر، أو التقدير: كان أخرها بالأمس يريد أن صلاة العصر بالأمس كانت مؤخرة عن الظهر، لا أنها كانت مؤخرة عن وقتها. والحاصل أنه أخر عصر

(4/42)


اليوم الثاني تأخيرا هو فوق التأخير الذي كان. وتحقق ذلك التأخير في اليوم الأول، وتأخير اليوم الأول ليس بالنظر إلى أول وقت العصر وإنما هو بالنظر إلى وقت الزوال، فإنه كان صلاها في اليوم الأول حين كان ظل الشيء مثله (قبل أن يغيب الشفق) أي:
وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل،وصلى الفجر فأسفر بها. ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ فقال:الرجل: أنا يا رسول الله ! قال: وقت صلاتكم بين ما رأيتم)) رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
585- (3) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمنى جبرئيل عند البيت مرتين. فصلى بي
الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك
صلاها في آخر الوقت (فأسفر بها) أي: أدخلها في وقت إسفار الصبح، أي: انكشافه وإضاءته (فقال:الرجل أنا) هذا كناية عن حضوره عنده، والتقدير أنا حاضر عندك (وقت صلاتكم) لعله جمع الضمير إشعارا بأن الحكم عام (بين ما رأيتم) أي: بين وقت الشروع في المرة الأولى، ووقت الفراغ في المرة الثانية. وهذا محمول على بيان الوقت المختار، إذ يجوز صلاة الظهر بعد الإبراد التام مالم يدخل وقت العصر. ويجوز العصر بعد ذلك التأخير الذي هو فوق ما لم تغرب الشمس، ويجوز صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر على قول الجمهور، أو إلى نصف الليل على قول الأصطخري بناء على الحديث السابق، وصلاة الفجر بعد الإسفار ما لم تطلع الشمس (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج5:ص349) وابن الجارود، والترمذي، وصححه، والنسائي، وابن ماجه.

(4/43)


585- قوله: (أمنى) بتشديد الميم، أي: صار إماما لي (عند البيت) وفي رواية للشافعي في الأم: عند باب الكعبة (مرتين) أي: في يومين ليعرفني كيفية الصلاة وأوقاتها (فصلى بي الظهر) الباء للمصاحبة والمعية، أي:صلى معي، وكان إمامة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي يلي ليلة الإسراء، وأول صلاة أديت كذلك الظهر على المشهور، ولذلك سميت الأولى. قيل: ابتدأ بأداء صلاة الظهر مع أن فرض الصلاة كان ليلا، وقياسه أن أول صلاة وجبت الصبح لأن الصلاة لما لم تبين حينئذ لم يلزم أداء صلاة الفجر لعدم الإحاطة بكيفيتها، لأن أداء الوجوب متوقف على علم الكيفية، وهو لم يقع إلا في الظهر بصلاة جبرئيل، فهي التي أول صلاة وجبت، ولا حاجة إلى بيان النكتة عند من يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الفجر والعصر قبل الإسراء على صفة الفريضة (وكانت) الضمير للشمس، والمراد منها الفيء لأنه بسببها، ففيه تجوز بينته رواية الترمذي: وكان الفيء قدر الشراك. والفيء هو الظل، ولا يقال: إلا للراجع منه، وذلك بعد الزوال (قدر الشراك) أي:كان الفيء مثل شراك النعل، وهو بكسر الشين أحد سيور النعل الذي على وجهها. وهذا على وجه التقريب لا التحديد، لأن زوال الشمس لا يتبين إلا بأقل مما يرى من الظل في جانب المشرق، وكان حينئذ بمكة هذا القدر والظل يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فكل بلد هو أقرب إلى خط الاستواء ومعدل النهار كان الظل فيه أقصر، وكل بلد كان أبعد عنهما إلى جانب الشمال كان فيه أطول، قاله ابن الملك. وقال الطيبي: وإنما يتبين ذلك في مثل مكة
وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بين الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم. فلما كان الغد: صلى بي الظهر حين كان ظله مثله،

(4/44)


من البلاد التي يقل فيها الظل، فإذا كان أطول النهار، واستوت الشمس فوق الكعبة لم ير لشيء من جوانبها ظل-انتهى. والمراد منه أن وقت الظهر حين يأخذ الظل في الزيادة بعد الزوال (وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله) أي: بعد ظل الزوال، فيه دليل على أن أول وقت العصر من حين يصير ظل كل شيء مثله. وبه قال: الأئمة الثلاثة، وأبو يوسف ومحمد والحسن وزفر والطحاوي وغيرهم، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة على ما في عامة الكتب. ورواية محمد عنه على ما في المبسوط. كذا في حلية المحلى لابن أمير الحاج. وفي غرر الأذكار: هو المأخوذ به. وفي البرهان: هو الأظهر.و في الغيض للكركي: عليه عمل الناس اليوم، وبه يفتى. كذا في الدر المختار. والمشهور عن أبي حنيفة أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه. قال الحافظ: لم ينقل عن أحد من أهل العلم مخالفة في ذلك إلا عن أبي حنيفة، فالمشهور عنه أن أول وقت العصر مصير ظل كل شيء مثليه بالتثنية – انتهى. قلت: والرواية الثانية عنه كمذهب الجمهور كما تقدم. قال بعض الحنفية: ونقل السيد أحمد الدحلان رجوع الإمام إلى هذه الرواية عن خزانة المفتين والفتاوى الظهيرية، وهما من المعتبرات، قال:وبها أفتى صاحب الدر المختار، ورد عليه أن عابدين بأنه خلاف ظاهر الرواية فلا يفتى بها وقال:الأرجح عندي ما اختاره صاحب الدر المختار-انتهى. وقال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي: الدليل يرجح قولهما، وما استدل به على رواية المثلين لا يخلو شيء منها عن شيء. ثم قال:بعد تنقيد ما احتجوا بها على المثلين من الروايات والجواب عنها: فالتحقيق الذي ارتضاه المحققون أن الصحيح من المذهب هو العمل برواية المثل في الظهر ويدخل بعده وقت العصر-انتهى. وقال الشيخ عبدالحى اللكنوى في التعليق الممجد بعد ذكر ما استدلوا بها من الأحاديث على المثلين، والتعقب عليها: والإنصاف في هذا المقام أن أحاديث المثل صريحة صحيحة وأخبار المثلين ليست صريحة

(4/45)


في أنه لا يدخل وقت العصر إلا بالمثلين، وأكثر من اختار المثلين إنما ذكر في توجيه أحاديث استنبط منها هذا الأمر، والأمر المستنبط لا يعارض الصريح. وقد أطال الكلام في هذا المبحث صاحب البحر الرائق فيه وفي رسالة مستقلة، فلم يأت بما يفيد المدعي ويثبت الدعوى (حين أفطر الصائم) أي:دخل وقت إفطاره بأن غابت الشمس ودخل الليل، لقوله: ?ثم أتموا الصيام إلى الليل? [187:2] وفي رواية الترمذي: حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، وهو عطف تفسير إذ بوجوبها أي: سقوطها وغروبها يدخل وقت الإفطار (حين حرم الطعام والشراب على الصائم) يعني أول طلوع الفجر الثاني (فلما كان الغد) أي: اليوم الثاني (صلى بي الظهر حين كان ظله) أي: ظل كل شيء (مثله) أي:مع فيء الزوال. وقال:القاري: أي: قريبا منه
وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر. ثم التفت إلي، فقال: يا محمد ! هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين))

(4/46)


من غير الفيء. قال الطيبي: ليس المراد بعد ظل الزوال، فلا يلزم كون الظهر والعصر في وقت واحد-انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي: قوله: صلى به الظهر أي: فرغ منها. وأما في العصر الأول فالمراد بقوله: صلى، شرع فيها، وهذا لأن تعريف وقت الصلاة بالمرتين يقتضي أن يعتبر الشروع في أولى المرتين والفراغ في الثانية منهما ليتعين بهما الوقت ويعرف أن الوقت من شروع الصلاة في أولى المرتين إلى الفراغ منها في المرة الثانية. وهذا معنى قول جبريل أي:في حديث أبي هريرة: الصلاة ما بين صلاتك أمس وصلاتك اليوم، أي:وقت الصلاة من وقت الشروع في المرة الأولى إلى وقت الفراغ في المرة الثانية. وبهذا ظهر صحة هذا القول في صلاة المغرب، وإن صلى في اليومين في وقت واحد. وسقط ما يتوهم أن لفظ الحديث يعطي وقوع الظهر في اليوم الثاني في وقت صلاة العصر في اليوم الأول، فيلزم التداخل أي: الاشتراك في الأوقات، وهو مردود عند الجمهور، ومخالف لحديث: لا يدخل وقت صلاة حتى يخرج وقت صلاة أخرى ومخالف لحديث مسلم بلفظ: وقت الظهر ما لم يحضر العصر. أو النسخ، وهو يفوت التعريف المقصود بإمامة جبريل مرتين، فإن المقصود في أولى المرتين تعريف أول الوقت، وبالثانية تعريف آخره، وعند النسخ لا يحصل ذلك، على أن قوله: والصلاة ما بين صلاتك، الخ. تصريح في رد القول بالنسخ - انتهى. وبنحو ذلك قرره الخطابي في المعالم، والنووي وغيره (وصلى بي العصر حين كان ظله) أي:ظل الشيء (مثليه) أي: غير ظل الاستواء (إلى ثلث الليل) أي: منتهيا إليه. وقيل إلى بمعنى مع أو بمعنى في، ووقع في رواية الترمذي: حين ذهب ثلث الليل (فأسفر) أي: أضاء به، أو دخل في وقت الإسفار. والظاهر أنه صلى الفجر بحيث وقع الفراغ عند الإسفار، فضبط آخر الوقت بالفراغ من الثانية كما ضبط أوله بالشروع في الأولى (هذا) أي: ما ذك رمن الأوقات الخمسة (وقت الأنبياء من قبلك) قال: ابن العربي في عارضة الأحوذى

(4/47)


(ج1:ص258، 257): ظاهره يؤهم أن هذه الصلوات في هذه الأوقات كانت مشروعة لمن قبله من الأنبياء، والأمر ليس كذلك، وإنما معنى هذا وقتك المشروع لك، يعني الوقت الموسع المحدود بطرفين الأول والآخر، وقوله: وقت الأنبياء قبلك: يعني ومثله وقت الأنبياء قبلك، أي:كانت صلاتهم واسعة الوقت وذات طرفين مثل هذا وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذا الميقات إلا بهذه الأمة خاصة، وإن كان غيرهم قد شاركهم في بعضها – انتهى. وقال ابن حجر أي: المكي: هذا باعتبار التوزيع بالنسبة لغير العشاء إذ مجموع هذه الخمس من خصوصياتنا، وأما بالنسبة إليهم فكان ماعدا العشاء مفرقا فيهم، وقيل: الاختصاص بالنسبة إلى الأمم دون الأنبياء فالأنبياء كانوا يصلون العشاء نافلة لهم (والوقت) المختار والمستحب (مابين) وفي رواية الترمذي فيما بين (هذين الوقتين) إشارة إلى أول آن الشروع في اليوم الأول
رواه أبوداود، والترمذي.
?الفصل الثالث?
586- (4) عن ابن شهاب : أن عمر بن عبدالعزيز أخر العصر شيئا،

(4/48)


وآخر آن الفراغ في اليوم الثاني (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري (والترمذي) وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ حديث حسن صحيح، وصححه أيضا ابن عبدالبر، وابن العربي في شرح الترمذي (ج1:ص251، 250) وقال: رواة حديث ابن عباس هذا كلهم ثقات مشاهير، لاسيما وأصل الحديث صحيح في صلاة جبريل بالنبي- صلى الله عليه وسلم -، وإنما هذه الرواية تفسير مجمل، وإيضاح مشكل. وقال ابن عبدالبر في التمهيد: وقد تكلم بعض الناس في حديث ابن عباس هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلهم مشهورون بالعلم. وارجع لتفصيل الكلام عليه إلى التلخيص (ص64) والنيل (ج1:ص289) ونصب الراية (ج1:ص116) والحديث أخرجه أيضا الشافعي وأحمد، وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والدارقطني والحاكم، وفي الباب عن جابر عند أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وأبي هريرة عند النسائي والدارقطني، وأبي سعيد عند أحمد والطبراني في الكبير.

(4/49)


586- قوله: (عن ابن شهاب) هو محمد بن مسلم بن عبيدالله بن عبدالله بن شهاب بن عبدالله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري المدني، وكنيته أبوبكر، التابعي الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه. مات في رمضان سنة (124) روى عن ابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، ومحمود بن الربيع، وسعيد بن المسيب، وأبي أمامة بن سهل، وطبقتهم من صغار الصحابة، وكبار التابعين، وروى عنه الأوزاعي، والليث، ومالك، وابن عيينة، وغيرهم. قال أبوداود: حديثه ألفان ومائتان، النصف فيها مسند. قال عمر بن عبدالعزيز: لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية من الزهري. وقال مالك: بقى ابن شهاب وما له في الدنيا نظير، وفضائله كثيرة، بسط ترجمته الحافظ في التهذيب (ج9:ص445-451) والذهبي في التذكرة (ج1:ص96-100) وابن خلكان في تاريخه (ج1:ص452، 451) (أن عمر بن عبدالعزيز) بن مروان الأموي، أحد الخلفاء الراشدين ، وفي رواية عبدالرزاق عن معمر عن ابن شهاب، قال: كنا مع عمر بن عبدالعزيز، فذكره، وفي رواية شعيب عن الزهري سمعت عروة يحدث عمر بن عبدالعزيز الحديث (أخر العصر) وهو يومئذ أمير المدينة في زمان الوليد بن عبدالملك، وكان ذلك زمان يؤخر فيه الصلاة بنو أمية (شيئا) أي: تأخيرا يسيرا، أو شيئا قليلا من الزمان، يعني أخر شيئا حتى خرج الوقت المستحب لا أنه أخرها حتى غربت الشمس، وفي رواية للبخاري: أخر الصلاة يوما، وفي رواية عبدالرزاق: مرة، وظاهر السياقين أنه فعل ذلك يوما ما لا أن ذلك كان عادة له، وإن كان أهل بيته معروفين بذلك، وفي رواية أبي داود: وكان قاعدا على المنبر فأخر

(4/50)


فقال:له عروة: أما إن جبرئيل قد نزل فصلى أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له عمر: اعلم ما تقول يا عروة! فقال: سمعت بشير بن أبي مسعود، يقول: سمعت أبا مسعود، يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نزل جبرئيل فأمنى، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه،
العصر شيئا، وفيها إشارة إلى سبب تأخيره وهو اشتغاله بشيء من مصالح المسلمين (فقال له عروة) أي: ابن الزبير (أما) بالتخفيف حرف استفتاح بمنزلة ألا (قد نزل) صبيحة ليلة الإسراء (فصلى أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال السيوطي: لا إشكال في فتح همزة "أمام" بل في كسرها لأن إضافة أمام معرفة والموضع موضع الحال فيوجب جعله نكرة بالتأويل كغيره من المعارف الواقعة أحوالا كأرسلها العراك، وقال السندهي: بكسر الهمزة، وهو حال لكون إضافته لفظيه نظرا إلى المعنى، أو بفتح الهمزة، وهو ظرف، والمعنى يميل إلى الأول، قلت: ويؤيده قوله في الحديث: فأمنى، ومقصود عروة بذلك أن أمر الأوقات عظيم قد نزل لتحديدها جبرئيل، فعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفعل، فلا ينبغي التقصير في مثله (اعلم) أم رمن العلم أي:كن حافظا ضابطا له، ولا تقله عن غفلة، أو من الإعلام أي: بين لي حاله وإسنادك فيه (ما تقول يا عروة) الظاهر أنه استبعاد لإخبار عروة بنزول جبرئيل بدون الإسناد، فكأنه غلط عليه بذلك مع عظيم جلالته إشارة إلى مزيد الاحتياط في الرواية لئلا يقع في محظور الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يتعمد، وزاد في رواية للبخاري وغيره: أو أن جبرئيل هو الذي قام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت الصلاة (فقال) أي:عروة (سمعت بشير بن أبي مسعود) عقبة بن عمرو الأنصاري، ذكره ابن مندة في الصحابة، وجزم ابن عبدالبر بأنه ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجزم البخاري، والعجلى، ومسلم، وأبوحاتم الرازي بأنه

(4/51)


تابعي، وذكره ابن حبان في الثقات في التابعين، وذكره الحافظ في القسم الثاني من حرف الباء في ذكر من له رؤية من الإصابة (ج1:ص168) (سمعت أبا مسعود) تقدم ذكره (يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نزل جبرئيل فأمنى، فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه) قال:الطيبي: معنى إيراد عروة الحديث أنى كيف لا أدرى ما أقول وأنا صحبت وسمعت ممن صحب وسمع ممن صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمع منه هذا الحديث، فعرفت كيفية الصلاة وأوقاتها وأركانها – انتهى. قال القرطبي: قول عروة: أن جبرئيل نزل، ليس فيه حجة واضحة على عمر بن عبدالعزيز، إذ لم يبين له الأوقات، قال: وغاية ما يتوهم عليه أنه نبهه وذكره بما كان يعرفه من تفاصيل الأوقات، قال: وفيه بعد لإنكار عمر على عروة حيث قال:له: اعلم ما تحدث يا عروة. قال: وظاهر هذا الإنكار أنه لم يكن عنده علم من إمامة جبرئيل. قال الحافظ في الفتح: لا يلزم من كونه لم يكن عنده علم منها أن لا يكون عنده علم بتفاصيل الأوقات المذكورة من جهة العمل المستمر،
يحسب بأصابعه خمس صلوات)) متفق عليه.
587- (5) وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه كتب إلى عماله أن أهم أموركم عندي الصلاة، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.

(4/52)


لكن لم يكن يعرف أن أصله بتبيين جبرئيل بالفعل، فلهذا استثبت فيه، وكان يرى أن لا مفاضلة بين أجزاء الوقت الواحد. قال: وورد في هذه القصة بيان أبي مسعود للأوقات، وفي ذلك ما يرفع الأشكال، ويوضح توجيه احتجاج عروة به، فروى أبوداود والدارقطني وابن خزيمة والطبراني، عن أسامة زيد، عن الزهري هذا الحديث، وزاد في آخره: قال أبومسعود: فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر حين تزول الشمس، فذكر الحديث، ويعضد رواية أسامة ويزيد عليها أن البيان من فعل جبرئيل، ما رواه الباغندي في مسند عمر بن عبدالعزيز والبيهقي في السنن الكبرى من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أبي بكر بن حزم، عن عروة، فرجع الحديث إلى عروة ووضح أن له أصلا وأن في رواية مالك ومن تابعه اختصارا، وبذلك جزم ابن عبدالبر- انتهى كلام الحافظ بتلخيص وزيادة يسيرة. قلت: رواية الطبراني ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص306، 305) وقال بعد إيرادها: في الصحيح أصله من غير بيان لأول الوقت وآخره، وفي رواية الطبراني هذه (وكذا في رواية الدارقطني) أيوب بن عتبة، ضعفه ابن المديني، ومسلم، وجماعة، ووثقه عمرو بن علي في رواية، وكذلك يحيى بن معين في رواية وضعفه في روايات، والأكثر على تضعيفه انتهى (يحسب) بضم السين مع التحتانية من الحساب، والظاهر أن فاعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: يقول ذلك حال كونه يحسب تلك المرات بعقد أصابعه (بأصابعه خمس صلوات) كل واحدة منها مرتين تحديدا لأوائل الأوقات وأواخرها، وهو بالنصب مفعول يحسب أو صليت (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة وبدء الخلق والمغازي، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضا مالك وأحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

(4/53)


587- قوله: (عماله) جمع عامل أي: أمراءه (أن) بفتح الهمزة وكسرها (أهم أموركم) وفي المؤطا أهم أمركم أي: بالإفراد (عندي) أي: في اعتقادي (من حفظها) بأن أدى بشرائطها وأركانها (وحافظ عليها) أي: سارع إلى فعلها في وقتها، أو داوم عليها، أو لم يبطلها بالرياء والسمعة (حفظ دينه) أي: حفظ معظم دينه وعماده كقوله: الحج عرفة، أو حفظ بقية أمور دينه، فإن المواظبة عليها يستدل بها على صلاح المرء. وقال الطيبي: المحافظة على الصلاة أن لا يسهو عنها ويؤديها في أوقاتها ويتم أركانها وركوعها وسجودها ويؤكد نفسه بالاهتمام بها والتكرير بمعنى الاستقامة والدوام (ومن ضيعها) أي: ذالصلاة بأن أخرها أو ترك بعض ما يجب فيها فضلا عن تركها رأسا (فهو لما سواها) من بقية أمور الدين (أضيع) أي: أكثر تضييعا وهو أفعل التفضيل من التضييع على ما روى عن سببويه، ويحتمل أن يكون اللام بمعنى في يعني أنه
ثم كتب أن صلوا الظهر أن كان الفيء ذراعا، إلى أن يكون ظل أحدكم مثله، والعصر والشمس مرتفعة بيضاء قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة قبل مغيب الشمس، والمغرب إذا غابت الشمس، والعشاء إذا غاب الشفق إلى ثلث الليل، فمن نام فلا نامت عينه، فمن نام فلا نامت عينه، فمن نام فلا نامت عينه، والصبح والنجوم بادية مشتبكة))

(4/54)


ضائع في تركه الصلاة وأنه أضيع في غيره، والمعنى أنه إذا علم أنه مضيع للصلاة ظن به التضييع لسائر العبادات التي تخفى، أو يقال: إنه إذا ضيع الصلاة فقد ضيع سائر العبادات وإن عملها، لما روى: أن أول ما ينظر فيه من عمل العبد الصلاة، فإن قبلت منه نظر فيما بقي من عمله، وإن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله، قاله الباجي (ثم كتب) أي:عمر إليهم بعد التنبيه المذكور (أن) أي:بأن (صلوا الظهر أن كان الفئ ذراعا) أن مصدرية والوقت مقدر أي:وقت كون الفئ قدر ذراع، وهو مختص بمحل يكون كذلك، فإن مقدار الفئ يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة. وفيه دليل على تعجيل صلاة الظهر (إلى أن يكون) أي:يستمر وقتها إلى أن يصير (ظل أحكم مثله) أي:سوى فئ الزوال (والعصر) بالنصب عطف على الظهر (والشمس مرتفعة) الجملة حالية (قدر ما يسير الراكب) ظرف لقوله: مرتفعة، أي: ارتفاعها قدر أن يسير الراكب (فرسخين) للبطئ (أو ثلاثة) أي: ثلاثة فراسخ للسريع، وقيل فرسخين في الشتاء، وثلاثة في القيظ، فأو للتنويع، وقيل للشك من الراوي. ووقع في كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري عند مالك: ثلاثة فراسخ. على سبيل الجزم. والفرسخ ثلاثة أميال، واختلفوا في تحديد الميل. وفيه دليل على أن وقت العصر يدخل قبل أن يصير ظل الشيء مثليه، لأن هذا السير لا يمكن إلا إذا صلى العصر قبل المثلين بل على المثل متصلا (قبل مغيب الشمس) وفي المؤطا: قبل غروب الشمس (إذا غاب الشفق) الأحمر (إلى ثلث الليل) أي: ويستمر إلى ثلث الليل (فمن نام) أي:قبل العشاء كما في رواية البزار، ورويت هذه الجملة في مسند البزار عن عائشة مرفوعا، قاله السيوطي (فلا نامت عينه) دعاء بنفي الاستراحة على من ينام عن صلاة العشاء، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكره النوم قبلها، وكرره ثلاثا زيادة في التغليظ والتنفير عنه، وفيه كراهة النوم قبل العشاء، ولا يختص ذلك بالعشاء بل يدخل في معناها بقية الصلوات. قال:ابن حجر:

(4/55)


هو محمول عندنا على تفصيل، وهو أنه تارة ينام قبل الوقت، وتارة بعد دخوله، ففي الثاني إن علم أو ظن أن نومه يستغرق الوقت لم يجز له النوم إلا أن وثق من غيره أنه يوقظه بحيث يدرك الصلاة كاملة في الوقت، وكذا في الأول عند جماعات من أصحابنا. وقال:آخرون لا حرمة فيه مطلقا لأنه قبل الوقت لم يكلف بها بعد- انتهى (بادية) أي:ظاهرة من البدو وهو الظهور (مشتبكة) قال الجزري: اشتبكت النجوم أي:ظهرت واختلط بعضها ببعض لكثرة ما
رواه مالك.
588- (6) وعن ابن مسعود، قال: ((كان قدر صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام)) رواه أبوداود والنسائي.
(2) باب تعجيل الصلاة
ظهر منها (رواه مالك) في أوائل المؤطا عن نافع مولى عبدالله بن عمر أن عمر بن الخطاب كتب، الخ. وهو منقطع لأن نافعا لم يلق عمر.

(4/56)


588- قوله: (كان قدر صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بالجر على البدلية من الصلاة، وبالنصب بتقدير أعني (ثلاثة أقدام) أي: من الفيء (إلى خمسة أقدام) الخ. قال السندي: أي: قدر تأخير الصلاة عن الزوال ما يظهر فيه قدر ثلاثة أقدام للظل، أي: يصير ظل كل شيء ثلاثة أقدام من أقدامه فيعتبر قدم كل إنسان بالنظر إلى ظله. والمراد أن يبلغ مجموع الظل الأصلي والزائد هذا المبلغ، لا أن يصير الزائد هذا القدر ويعتبر الأصلي سوى ذلك، فهذا قد يكون لزيادة الظل الأصلي كما في أيام الشتاء، وقد يكون لزيادة الظل الزائد بسبب التبريد كما في أيام الصيف – انتهى. وقال:الخطابي: هذا أمر يختلف في الأقاليم والبلدان، ولا يستوي في جميع المدن والأمصار، وذلك أن العلة في طول الظل وقصره هو زيادة ارتفاع الشمس في السماء وانحطاطها، فكلما كانت أعلى وإلى محاذاة الرؤس في مجراها أقرب، كان الظل أقصر، وكلما كانت أخفض ومن محاذاة الرؤس أبعد، كان الظل أطول، ولذلك ظلال الشتاء تراها أبدا أطول من ظلال الصيف في كل مكان وكانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة والمدينة وهما من الإقليم الثاني. ويذكرون أن الظل فيهما في أول الصيف في شهر آذار – هو الشهر الثالث من السنة الشمسية أعنى مارس – ثلاثة أقدام وشيء. ويشبه أن تكون صلاته عليه السلام إذا اشتد الحر متأخرة عن الوقت المعهود قبله، فيكون الظل عند ذلك خمسة أقدام، وأما الظل في الشتاء فإنهم يذكرون أنه في تشرين الأول – هو الشهر العاشر من السنة الشمسية أعنى أكتوبر – خمسة أقدام أو خمسة أقدام وشيء، وفي كانون – أي:الأول وهو الشهر الثاني عشر من السنة الشمسية أعنى ديسمبر، وكانون الثاني وهو الشهر الأول أعنى يناير – سبعة أقدام أو سبعة أقدام وشيء، فقول ابن مسعود ينزل على هذا التقدير في ذلك الإقليم دون سائر الأقاليم والبلدان التي هي خارجة عن الإقليم الثاني – انتهى. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو

(4/57)


والمنذري (والنسائي) واللفظ له، وأخرجه أيضا الحاكم.
(باب تعجيل الصلاة) المراد بها جنس الصلاة المكتوبة، وفي بعض النسخ الصلوات، بلفظ الجمع يعني أن الأصل في الصلاة تعجيلها، والمبادرة إليها، وأداءها في أول الوقت، لقوله تعالى: ?وسارعوا إلى مغفرة من ربكم? [133:4].
?الفصل الأول?
589- (1) عن سيار بن سلامة، قال: ((دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية،
ولقوله تعالى: ?فاستبقوا الخيرات? [148:2] إلا ما خصه الشارع لحكمة اقتضت تأخيرها كصلاة العشاء والظهر في شدة الحر.

(4/58)


589- قوله: (عن سيار) بفتح سين وتشديد تحتية (بن سلامة) بفتح السين وتخفيف لام، الرياحي، يكنى أبا المنهال البصري، من ثقات التابعين، روى عن أبي برزة الأسلمي وغيره، مات سنة (129) (دخلت أنا وأبي) أي:سلامة، قال:الحافظ: لم أقف على من ترجمة (على أبي برزة) بفتح موحدة وسكون راء (الأسلمي) بفتح الهمزة، وسكون اللام نسبة إلى أسلم بن أفصى، واسم أبي برزة نقلة – بنون مفتوحة ومعجمة ساكنة – ابن عبيد، صحابي مشهور بكنيته، أسلم قبل الفتح وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة، وغزا خراسان، ومات بها سنة (65) على الصحيح، له ستة وأربعون حديثا اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بأربعة (يصلي المكتوبة) أي:الصلوات المفروضة باعتبار أوقاتها (كان يصلي الهجير) أي:صلاة الهجير، والهجير-بفتح الهاء وتخفيف الجيم- والهاجرة بمعنى، وهو وقت شدة الحر، وسميت بذلك الظهر لأن وقتها يدخل حينئذ (التي تدعونها) أي:تسمونها وأنث الموصول والضمير لكون الصلاة مرادة أو أنثهما لأن الهجير بمعنى الهاجرة، أو التقدير صلاة الهجير (الأولى) لأنها أول صلاة ظهرت وصليت، أو لأنها أول صلاة النهار العرفي (حين تدحض الشمس) أي:تزول عن وسط السماء إلى جهة المغرب، مأخوذ من الدحض وهو الزلق، وفي رواية لمسلم: حين تزول الشمس، وهي تفسير لقوله: تدحض، ومقتضي ذلك أنه كان يصلي الظهر في أول وقتها ولا يخالف ذلك الأمر بالإبراد، لاحتمال أن يكون ذلك في البرد، أو قبل الأمر بالإبراد، أو عند فقد شروط الإبراد لأنه يختص بشدة الحر، أو لبيان الجواز، قاله الحافظ (إلى رحله) أي:منزله ومسكنه ومحل أثاثه (في أقصى المدينة) حال من رحله، أو صفة له، وليس بظرف للفعل، أي: الكائن في أبعد المدينة وآخرها (والشمس حية) أي:بيضاء نقية قوية الأثر حرارة ولونا وإنارة وشعاعا، والجملة حالية أي: حال كون الشمس صافية اللون عن التغيير والاصفرار، فإن كل شيء ضعفت قوته فكأنه قد مات. وقال العيني:

(4/59)


حياة الشمس عبارة عن بقاء حرها لم يفتر، وبقاء لونها لم يتغير، وإنما يدخلها التغيير بدنو المغيب، كأنه جعل مغيبها موتا لها – انتهى. والحديث يدل على المبادرة بصلاة العصر في أول وقتها، وأن وقتها يدخل بمصيره ظل كل شيء مثله، لأنه لا يكون أن يذهب بعد صلاة العصر إلى منزله
ونسيت ما قال: في المغرب، وكان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، ويقرأ بالستين إلى المائة.وفي رواية: ولا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل، ولا يحب النوم قبلها والحديث بعدها. متفق عليه.

(4/60)


في أبعد المدينة والشمس بيضاء نقية بعد مصير الظل مثلي الشيء (ونسيت ما قال) أي:أبو برزة (في المغرب) قائل ذلك هو سيار بينه أحمد في روايته (وكان) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عطف على "كان يصلي" (يستحب) بفتح الياء وكسر الحاء (أن يؤخر) على بناء المعلوم أو المجهول (العشاء) إلى ثلث الليل كما سيأتي (التي تدعونها العتمة) بفتحات، هي الظلمة التي بعد غيبوبة الشفق، وفيه إشارة إلى ترك تسميتها (وكان يكره النوم قبلها) لما فيه من التعريض لصلاة العشاء على الفوات (والحديث) أي: التحادث مع الناس بكلام الدنيا (بعدها) لما فيه من تعريض قيام الليل بل صلاة الفجر على الفوات عادة ولينام عقب تكفير الخطيئة بالصلاة فيكون ختم عمله على عبادة كفرت خطاياه، وقد ورد الكلام بعدها في العلم وغيره من أمور المسلمين ومصالحهم مما لا يخل، ولذلك حمل هذا الحديث على ما لا يكون من الخير، وخص منه أيضا المسافر والمصلي لما روى أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط عن ابن مسعود مرفوعا: لا سمر بعد الصلاة يعني العشاء الآخرة إلا لأحد رجلين مصل أو مسافر، ولما روى أيضا في الأحكام عن عائشة مرفوعا: لا سمر إلا لثلاثة: مصل، أو مسافر أو عروس (وكان ينفتل) أي:ينصرف أو يلتفت إلى المأمومين (من صلاة الغداة) أي: الصبح (حين يعرف الرجل جليسه) أي: الذي بجنبه، وإذا كان هذا وقت الفراغ فيكون الشروع بغلس، ففيه دليل على استحباب التعجيل بصلاة الصبح، لأن ابتداء معرفة الإنسان وجه جليسه يكون في أواخر الغلس، وقد صرح بأن ذلك كان عند فراغ الصلاة، ومن المعلوم من عادته- صلى الله عليه وسلم -ترتيل القراءة، وتعديل الأركان، فمقتضى ذلك أنه كان يدخل فيها مغلسا، ولا يخالف ذلك حديث عائشة الآتي حيث قالت: ما يعرفن من الغلس، لأن الفرق بينهما ظاهر، وهو أن حديث أبي برزة متعلق بمعرفة من هو مسفر جالس إلى جنب المصلي، فهو ممكن، وحديث عائشة متعلق بمن هو

(4/61)


متلفف مع أنه على بعد فهو بعيد، قاله الحافظ (ويقرأ) أي: في الصبح (بالستين) أي:آية يعني أنه كان يقرأ بهذا القدر من الآيات، وربما يزيد (إلى المائة) من الآية، وقدرها في رواية للطبراني بسورة الحاقة ونحوها، قال العيني: قوله: يقرأ بالستين إلى المائة. يدل على أنه كان يشرع في الغلس، ويمدها بالقراءة إلى وقت الأسفار، وإليه ذهب الطحاوي (وفي رواية) للشيخين (ولا يبالي) بل يستحب، وهو من المبالاة بمعنى الاكتراث بالشيء (ولا يحب النوم قبلها) بل يكرهه (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب وقت العصر وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وأخرج الترمذي طرفا منه.
590- (2) وعن محمد بن عمرو بن الحسن بن على، قال: ((سألنا جابر بن عبدالله عن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كان يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس حية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء إذا كثر الناس عجل، وإذا قلوا أخر، والصبح بغلس)). متفق عليه.
591- (3) وعن أنس، قال: ((كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالظهائر، سجدنا على ثيابنا إتقاء الحر)).

(4/62)


590- قوله: (وعن محمد بن عمرو بن الحسن بن على) بن أبي طالب الهاشمي أبوعبدالله المدني، أمه رملة بنت عقيل ابن أبي طالب من ثقات لتابعين (عن صلاة النبي) أي: عن أوقات صلاته (بالهاجرة) هي شدة الحر نصف النهار عقب الزوال، سميت بذلك من الهجر وهو الترك لأن الناس يتركون التصرف حينئذ لشدة الحر، أو لأنهم يستكنون في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا. قال القسطلاني: قوله: كان يصلي الظهر بالهاجرة، أي: إلا أن يحتاج إلى الإبراد لشدة الحر- انتهى. وتعقب بأنه لو كان ذلك مراده لفصل كما فصل في العشاء. وقال السندي: لعل المطلوب أنه كان يصلي الظهر في أول وقتها أي: لا يؤخرها تأخيرا كثيرا فلا ينافي الإبراد. ولعل تخصيص أيام الحر لبيان أن الحر لا يمنعه من أول الوقت فكيف إذا لم يكن هناك حر (إذا وجبت) المراد بوجوب الشمس أي: سقوطها وغيبوبة جميعها (إذا كثر الناس عجل، وإذا قلوا أخر) قال الطيبي: الجملتان الشرطيتان في محل النصب حالان من الفاعل أي: يصلي العشاء معجلا إذا كثر الناس، ومؤخرا إذا قلوا، أو يحتمل أن يكونا من المفعول والراجح مقدر أي: عجلها أو أخرها- انتهى. والتقدير معجلة ومؤخرة، وفي رواية إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤا أخر. والحديث فيه مشروعية ملاحظة أحوال المؤتمين، والمبادرة بالصلاة مع اجتماع المصلين لأن انتظارهم بعد الاجتماع ربما كان سبب لتأذى بعضهم وأما الانتظار قبل الاجتماع فلا بأس به لهذا الحديث, ولأنه من باب المعاونة على البر والتقوى. قال الشوكاني: الحديث يدل على استحباب تأخير صلاة العشاء لكن مقيدا بعدم اجتماع المصلين (والصبح بغلس) ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب "وقت العشاء إذا اجتمع الناس أو تأخروا" وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي.

(4/63)


591- قوله: (بالظهائر) الباء زائدة، وهي جمع ظهيرة، وهي الهاجرة أي: شدة الحر من نصف النهار عقب الزوال، ولا يقال: في الشتاء ظهير، والمراد بها صلاة الظهر، وجمعها بالنظر إلى تعدد الأيام (على ثيابنا) الظاهر أنها الثياب التي هم لابسوها، ضرورة أن الثياب في ذلك الوقت قليلة، فمن أين لهم ثياب فاضلة؟ فهذا يدل على جواز أن يسجد المصلي على ثوب هو لابسه، كما عليه الجمهور، ومن لم يجوز يحمله على الثياب المنفصلة عن البدن، أو التي لا تتحرك بحركة المصلي، وهو تأويل لا تساعده الروايات، ولا النظر في الواقع (إتقاء الحر) بالنصب على أنه مفعول له أي: لأجل اتقاء الحر. وفي الحديث جواز استعمال الثياب، وكذا غيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض لاتقاء حرها وكذا
متفق عليه، ولفظه للبخاري.
592- (4) وعن أبي هريرة، قال: قال:رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة)).
593- (5) وفي رواية للبخاري عن أبي سعيد، بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهنم،
بردها. وفيه تقديم الظهر في أول الوقت، وظاهر الأحاديث الواردة في الأمر بالإبراد يعارضه، فمن قال: الإبراد رخصة فلا إشكال. ومن قال: سنة فإما أن يقول التقديم المذكور رخصة، وإما أن يقول منسوخ بالأمر بالإبراد كحديث المغيرة بن شعبة: كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر بالهاجرة، فقال لنا: أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم. أخرجه ابن ماجه وغيره، وصححه أبوحاتم وأحمد. وأحسن منهما أن يقال: إن شدة الحر قد توجد مع الإبراد فيحتاج إلى السجود على الثوب، أو إلى تبريد الحصى، لأنه قد يستمر حره بعد الإبراد، ويكون فائدة الإبراد وجود طل يمشي فيه إلى المسجد، أو يصلي فيه في المسجد، كذا في الفتح (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه (ولفظه للبخاري) في باب وقت الظهر عند الزوال.

(4/64)


592- قوله:(فأبردوا) من الإبراد وهو الدخول في البرد، يقال: أبرد إذا دخل في البرد كأظهر إذا دخل في الظهيرة (بالصلاة) أي: بصلاة الظهر، والباء للتعدية أي: أدخلوها في البرد، وأخروها عن شدة الحر في أول الزوال، وقيل: الباء زائدة وأبرد متعد بنفسه، ومعنى" أبردوا أخروا على سبيل التضمين أي: أخروا الصلاة إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج، والأمر للندب والقرينة الصارفة أن العلة فيه دفع المشقة عن المصلي لشدة الحر فصار من باب الشفقة والنفع.
593- قوله:(بالظهر) أي: بدل بالصلاة (فإن شدة الحر من فيح جهنم) بفتح فاء وسكون ياء ثم حاء مهملة أي: من سطوع حرها، وسعة انتشارها، وتنفسها. ومنه مكان أفيح أي:متسع، وأرض فيحاء أي: واسعة، وهذا كناية عن شدة استعارها، وظاهره أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقية، وقيل بل هو على وجه التشبيه والاستعارة، وتقديره أن شدة الحر تشبه نار جهنم فاحذروه، واجتنبوا ضرره، والأول أولى، ويؤيده قوله: اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين. قال النووي: هو الصواب، لأنه ظاهر الحديث ولا مانع من حمله على حقيقته، فوجب الحكم بأنه على ظاهره. واستبعد هذا بل استشكل لأن اشتداد الحر في الأرض تابع لقرب الشمس وبعدها كما هو المشاهد المحسوس. وأجيب بأنه يمكن أن يكون الشمس بحيث أن جعل الله تعالى بين مادة جرمها وبين جهنم ارتباطا وعلاقة ومناسبة تقبل بها الشمس حرارة نار جهنم حتى تكون حرارة الشمس سببا لاشتداد الحر في الأرض في الظاهر، وحينئذ فلا استبعاد في نسبة اشتداد الحر في البلاد إلى فيح جهنم لأنه هو السبب الأصلي الباطني الغيبي لذلك، والله تعالى أعلم. والفاء في "فإن " لتعليل الإبراد أي: وعند شدته يذهب الخشوع الذي هو روح الصلاة وأعظم المطلوب منها. قيل وإذا كان العلة ذلك

(4/65)


واشتكت النار إلى ربها فقالت: رب! أكل بعضي بعضا. فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)).
فلا يشرع الإبراد في البلاد الباردة. واختلفوا في حد الإبراد ولم يرد في تحديده إلا ما تقدم من حديث ابن مسعود: كان قدر صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -الظهر في الصيف، الخ. وما روى من حديث أبي ذر عند الشيخين فإن فيه: فقال له: أبرد حتى رأينا فئ التلول - الحديث. فهذه الغاية متعلقة بأبرد أي: قال له: أبرد إلى أن ترى، أو متعلقة بمقدر أي:قال له: أبرد فأبرد إلى أن رأينا، والفيء هو ما بعد الزوال من الظل، ومعنى الحديث أنه أخر تأخيرا كثيرا حتى صار للتلول فيء، وهي في الغالب منبطحة غير شاخصة لا يصير لها فئ في العادة إلا بعد زوال الشمس بكثير فيستنبط منه حد الإبراد وهو أن يؤخر بحيث يصير للجدر ظلال يمشون فيها، والله أعلم (واشتكت) جملة مبنية للأولى وإن دخلت الواو بين المبين والمبين كما في قوله تعالى: ?وإن من الحجارة لما يتفجر? [74:2] (النار إلى ربها) شكاية حقيقية بلسان المقال بحياة وإدراك خلقهما الله تعالى فيها، وقيل: مجازية عرفية بلسان الحال. قال ابن عبدالبر: لكلا القولين وجه ونظائر والأول أرجح، وقال عياض: إنه الأظهر، والله قادر على خلق الحياة بجزء منها حتى تكلم أو يخلق لها كلاما يسمعه من شاء من خلقه. وقال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقيته، وإذ أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله، فحمله على حقيقته أولى. وقال النووي نحو ذلك، ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب، وقال: نحو ذلك التور بشتي، ورجح البيضاوي حمله على المجاز فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضا مجاز عن ازدحام أجزاءها بحيث يضيق مكانها عنها فيسعى كل جزء في إفناء الجزء الآخر والاستيلاء على مكانه، وتنفسها مجاز عن لهبها وخروج ما يبرز منها. وقال الزين بن المنير:

(4/66)


المختار حمله على الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك، ولأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن، والقبول، والتنفس، وقصره على اثنين فقط. بعيد من المجاز خارج عما ألف من استعماله (فأذن لها بنفسين) تثنية نفس وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء (نفس) بالجر على البدل أو البيان، ويجوز الرفع بتقدير أحدهما (أشد ما تجدون من الحر) برفع أشد على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك أشد ما تجدون، أو مبتدأ خبر محذوف أي: أشد ما تجدون من الحر من ذلك النفس، ويجوز الجر على البدل من النفس المجرور، والنصب بتقدير أعنى، وعلى كل تقدير فما إما موصولة أو موصوفة، ومن الحر ومن الزمهرير بيان (وأشد ما تجدون من الزمهرير) أي: شدة البرد ولا مانع من حصول الزمهرير من نفس النار لأن المراد بالنار محلها، وهو جهنم وفيها طبقة زمهريرية. والحديث يدل على استحباب الإبراد، ولا يعارض ذلك الأحاديث الواردة بتعجيل الظهر وأفضلية أول الوقت لأنها عامة أو مطلقة، وحديث الإبراد خاص أو مقيد، ولا تعارض بين عام وخاص ولا بين مطلق ومقيد، وأما حديث خباب عند مسلم، قال: شكونا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا
متفق عليه. وفي رواية للبخاري: فأشد ما تجدون من الحر فمن سمومها، وأشد ما تجدون من البرد فمن زمهريرها.
594- (6) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر، والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي، فيأتيهم والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه)).

(4/67)


فلم يشكنا. أي: لم يعذرنا ولم يزال شكوانا، فمحمول على أنهم طلبوا تأخيرا زائدا على قدر الإبراد، لأن الإبراد أن يؤخر بحيث يصير للحيطان فئ يمشون فيه، ويتناقص الحر، والتأخير الزائد عنه أن يزول حر الرمضاء، وذلك قد يستلزم خروج الوقت فلذلك لم يجبهم (متفق عليه) للحديث طرفان أما طرفه الأول وهو طرف الإبراد فأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي في صفة جهنم، وابن ماجه في الزهد. قال العيني والقسطلاني: وأخرجه النسائي في الصلاة (وفي رواية للبخاري فأشد ما تجدون من الحر) الخ. لم أجد هذه الرواية في البخاري، نعم رواها مسلم والترمذي وابن ماجه بنحوها (فمن سمومها) بفتح السين المهملة، الريح الحارة (فمن زمهريرها) أي: من أثر طبقتها الباردة.

(4/68)


594- قوله: (والشمس مرتفعة حية) أي:صافية اللون عن التغير والاصفرار (فيذهب الذاهب) أي: بعد صلاة العصر (إلى العوالي) جمع عالية وهي قري مجتمعة حول المدينة أبعدها على ثمانية أميال كما جزم به عياض وابن عبدالبر وغير واحد، وآخرهم صاحب النهاية، وأقربها من المدينة على ميلين وبعضها على ثلاثة أميال (فيأتيهم) أي:فيصل إلى أهل العوالي (والشمس مرتفعة) أي: دون ذلك الارتفاع لكنها لم تصل إلى الحد الذي توصف به لأنها منخفضة. وفي ذلك دليل على تعجيله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العصر لوصف الشمس بالارتفاع بعد أن تمضي مسافة أربعة أميال (وبعض العوالي) أي: بين العوالى والمدينة المسافة المذكورة (أو نحوه) أي: نحو هذا المقدار أي: قريب من أربعة أميال، وظاهر إيراد المصنف يقتضى أن هذا من كلام أنس، وليس كذلك بل هو مدرج من كلام الزهري الراوي عن أنس في الحديث، بينه عبدالرزاق عن معمر عن الزهري في هذا الحديث فقال: فيه بعد قوله: والشمس حية: قال الزهري: والعوالي من المدينة على ميلين أو ثلاثة، فهذا اختصار مخل موهم لخلاف المقصود، وحق العبارة أن يقول: وعن الزهري عن أنس، ثم يقول: قال الزهري: وبعض العوالي، الخ. والحديث يدل على استحباب المبادرة بصلاة العصر أول وقتها لأنه لا يمكن أن يذهب بعد صلاة العصر ميلين وثلاثة والشمس لم تتغير بصفرة ونحوها إلا إذا صلى العصر حين صار ظل الشيء مثله. قال النووي: ولا يكاد يحصل هذا إلا في الأيام الطويلة وهو دليل للجمهور القائلين بأن أول وقت العصر إذا صار ظل كل
متفق عليه
595- (7) وعنه، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((تلك صلاة المنافق: يجلس يرقب الشمس، حتى إذا اصفرت، وكانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا)) رواه مسلم.

(4/69)


شيء مثله (متفق عليه) فيه نظر لأن زيادة: وبعض العوالي، الخ. من إفراد البخاري. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
595- قوله: (تلك صلاة المنافق) إشارة إلى مذكور حكما أي:صلاة العصر التي أخرت إلى الاصفرار، قاله ابن الملك. وقال الطيبي: إشارة إلى ما في الذهن من الصلاة المخصوصة، والخبر بيان لما في الذهن. والمنافق إما محمول على حقيقته بأن يكون بيانا لصلاته، أو يكون تغليظا، يعني من أخر صلاة العصر إلى قبيل الغروب فقد شبه بالمنافق، فإن المنافق لا يعتقد حقيقة الصلاة بل إنما يصلي لدفع السيف، ولا يبالي بالتأخير إذ لا يطلب فضيلة، ولا ثوابا والواجب على المسلم أن يخالف المنافق (يجلس يرقب الشمس) أي: ينتظر غروبها، وهي جملة استئنافية بيان للجملة السابقة. قال النووي: فيه تصريح بذم تأخير صلاة العصر بلا عذر (حتى إذا اصفرت) أي: الشمس (وكانت بين قرني الشيطان) أي: جانبي رأسه، وهو كناية عن قرب الغروب، وذلك لأن الشيطان عند الطلوع والإستواء والغروب ينتصب دون الشمس، بحيث يكون الطلوع والغروب بين قرنيه، فهو محمول على حقيقته، وكلمة إذا للشرط وقوله: (قام) أي: إلى الصلاة جزاءها والشرطية استئنافية (فنقر أربعا) من نقر الطائر الحبة نقرأ أي: التقطها. قال الجزري: يريد تخفيف السجود، وأنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله- انتهى. وقال السندي: كأنه شبه كل سجدتين من سجداته من حيث أنه لا يمكن يمكث فيهما ولا بينهما بنقر طائر إذا وضع منقارة يلتقط شيئا- انتهى. يعني إنما قال: أربعا أي: أربع سجدات مع أن في العصر ثماني سجدات لأنه لا يمكث بينهما، فكأنه سجد أربعا. وفيه تصريح بذم من صلى مسرعا بحيث لا يكمل الخشوع والطمأنينة والأذكار، وقيل معنى نقرأ أربعا أي: لقط أربع ركعات سريعا، فالنقر عبارة عن السرعة في أداء الصلاة، وقيل عن سرعة القراءة وقلتها وقلة الذكر فيها (لا يذكر اله

(4/70)


فيها) لعدم اعتقاده أو لخلوة الإخلاص (إلا قليلا) أي:ذكرا قليلا، وقيل: الظاهر أنه منفصل أي: لكنه في زمن قليل يذكر الله فيه بلسانه فقط. قيل: وتخصيص الأربع بالنقر وفي العصر ثمان سجدات اعتبار بالركعات ( رواه مسلم) فيه نظر لأن لفظة (إذا اصفرت) ليست في رواية مسلم بل هي في رواية أبي داود، ولفظ مسلم كذا: حتى إذا كانت بين قرني الشيطان. والحديث أخرجه أيضا أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي.
596- (8) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) متفق عليه.
597- (9) وعن بريدة، قال: قال:رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)).

(4/71)


596- قوله:(الذي تفوته) أي: بغروب الشمس، قاله نافع الراوي لهذا الحديث، وقيل بفوت الوقت المختار ومجئ وقت الاصفرار، روى ذلك أبوداود عن الأوزاعي في هذا الحديث، وقيل بفوت الجماعة والإمام، والراجح هو الأول لما روى ذلك مرفوعا عند ابن أبي شيبة، ذكره السيوطي (صلاة العصر) أي: بغير اختياره، وظاهره التغليظ على من تفوته صلاة العصر وأن ذلك مختص بها والله تعالى يختص ما شاء من الصلوات بما شاء من الفضيلة (فكأنما وتر أهله وماله) على بناء المفعول ونصب الأهل والمال أو رفعهما، قيل النصب المشهور وعليه الجمهور، وهو مبنى على أن وتر بمعنى سلب وهو يتعدى إلى مفعولين، والرفع على أنه بمعنى أخذ فيكون أهله هو نائب الفاعل، والمعنى: أخذ أهله وماله فبقى وترا فردا بلا أهل ومال، يريد أنه فليكن على حذر من فوتها كحذره من ذهاب أهله وماله. وقيل: الوجه أن المراد أنه حصل له النقصان في الأجر في الآخرة ما لو وزن بنقص الدنيا لما وازنه إلا نقصان من نقص أهله وماله. وقال الحافظ: قوله: أهله . هو بالنصب عند الجمهور على أنه مفعول ثان لوتر، وأضمر في "وتر" مفعول ما لم يسم فاعله، وهو عائد على الذي فاته العصر، فالمعنى: أصيب بأهله وماله، وهو متعد إلى مفعولين، ومثله قوله تعالى: ?ولن يتركم أعمالكم? [35:47]. وقيل: "وتر" ههنا بمعنى نقص فعلى هذا يجوز نصبه ورفعه، لأن من رد النقص إلى الرجل نصب وأضمر ما يقوم مقام الفاعل ومن رده إلى الأهل رفع-انتهى. والحديث حمله الترمذي على الساهي والناسي، وعلى هذا فالمراد بالحديث أنه يلحقه من الأسف عند معاينة الثواب لمن صلى ما يلحق من ذهب أهله وماله. وقد روى معنى ذلك عن سالم بن عبدالله بن عمر، ويؤخذ منه التنبيه على أن أسف العامد أشد لاجتماع فقد الثواب وحصول الإثم، وحمله بعضهم على العامد، والظاهر أنه محمول على الساهي، والله أعلم (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك والترمذي وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه،

(4/72)


والدارمي، وغيرهم. وفي الباب عن نوفل بن معاوية عند النسائي وغيره.
597- قوله( من ترك) أي: متعمدا كما في رواية لأحمد وكما في حديث أبي الدرداء عنده أيضا (صلاة العصر) متكاسلا (فقد حبط عمله) قال. ابن عبدالبر: مفهوم قوله تعالى: ?ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله? [5:5] أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله، فيتعارض مفهومه ومنطوق الحديث، فيتعين تأويل الحديث لأن الجمع إذا أمكن كان أولى من الترجيح. فقيل في تأويله أن الوعيد خرج مخرج الزجر الشديد، وظاهره غير مراد كقوله: لا يزني الزاني وهو مؤمن، وقيل: هو من مجاز التشبيه كأن المعنى فقد أشبه من حبط عمله. وقيل معناه: كاد أن يحبط. وقيل: المراد بالحبط الإبطال، أي: يبطل انتفاعه بعمله في وقت ما، ثم ينتفع به كمن رجحت سيئاته على حسناته فأنه
رواه البخاري.
598- (10) وعن رافع بن خديج، قال: ((كنا نصلي المغرب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فينصرف أحدنا
وإنه ليبصر مواقع نبله)). متفق عليه.
599- (11) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى

(4/73)


موقوف في المشيئة، فإن غفر له فمجرد الوقوف إبطال لنفع الحسنة إذ ذاك، وإن عذب ثم غفر له فكذلك. قال: معنى ذلك القاضي أبوبكر بن العربي، ومحصل ما قال: أن المراد بالحبط في الآية غير المراد بالحبط في الحديث. وقال: في شرح الترمذي ما حاصله: أن الحبط على قسمين حبط إسقاط، وهو إحباط الكفر للإيمان وجميع الحسنات، وهو إحباط حقيقي. وحبط موازنة وهو إحباط المعاصي للانتفاع بالحسنات عند رحجانها عليها إلى أن تحصل النجاة فيرجع إليه جزاء حسناته، وهو إحباط مجازي أطلق عليه الإحباط مجازا لا حقيقة وهذا هو المراد في الحديث، وقيل في تأويله غير ذلك، قال الحافظ: أقرب هذه التأويلات قول من قال: إن ذلك خرج مخرج الزجر الشديد، وظاهره غير مراد-انتهى. وقال السندي: حبط عمله، بكسر الباء أي: بطل. قيل: أريد به تعظيم المعصية لا حقيقة اللفظ. ويكون مجاز التشبيه. قال: وهذا مبنى على أن العمل لا يحبط إلا بالكفر، لكن ظاهر قوله تعالى: ?لا ترفعوا أصواتكم? الآية [2:49]، يفيد أنه يحبط ببعض المعاصي أيضا فيمكن أن يكون ترك العصر عمدا من جملة تلك المعاصي-انتهى (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد، والنسائي، وابن ماجه.

(4/74)


598- قوله: (كنا نصلي المغرب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فينصرف أحدنا) من الصلاة (وإنه) أي: والحال أن أحدنا (ليبصر) من الإبصار أي: بعد الصلاة (مواقع نبله) بفتح النون وسكون الموحدة، وهي السهام العربية لا واحد لها من لفظها. وقيل: واحدها نبلة كتمرة وتمرة يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعجل بها في أول وقتها بمجرد غروب الشمس حتى ينصرف أحدنا بعد الصلاة، ويرمي السهم عن قوسه ويبصر موقعه لبقاء الضوء، ففيه دليل على المبادرة بصلاة المغرب في أول وقتها بحيث أن الفراغ منها يقع والضوء باق، وقد كثر الحث على المسارعة بها، وأما الأحاديث الواردة في تأخيرها إلى قرب سقوط الشفق فكانت لبيان جواز التأخير، قلت: والحديث يدل على أنه يقرأ فيها السور القصار إذ لا يتحقق مثل هذا إلا عند المبادرة وقراءة السور القصار، فليتأمل (متفق عليه) وأخرجه أيضا ابن ماجه. وفي الباب عن أنس عند أبي داود، ورجل من أسلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند النسائي، وعن ناس من الأنصار عند أحمد، قال:الحافظ: إسناده حسن.
599- قوله: (كانوا) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (يصلون العتمة) أي: صلاة العشاء (فيما بين أن يغيب الشفق إلى
ثلث الليل الأول)) متفق عليه.
600- (12) وعنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي الصبح، فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس)).

(4/75)


ثلث الليل الأول) بالجر صفة ثلث، وفيه بيان الوقت المرغوب المختار لصلاة العشاء لما يشعر به السياق من المواظبة على ذلك، وقد ورد بصيغة الأمر في هذا الحديث عند النسائي، ولفظه: ثم قال: صلوا فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل. وليس بين هذا وبين قوله في حديث أنس: أنه أخر الصلاة إلى نصف الليل. معارضة، لأن حديث عائشة محمول على الأغلب من عادته - صلى الله عليه وسلم -، كذا في الفتح (متفق عليه) أي: على أصل الحديث الذي اللفظ المذكور طرف منه. وإلا فالسياق المذكور من إفراد البخاري، وهو طرف من حديث اتفق الشيخان على روايته، وبين ألفاظهما اختلاف يسير والطرف الذي ذكره المصنف ليس عند مسلم بل هو من إفراد البخاري، فقول المصنف "متفق عليه" لا يخلو عن نظر.

(4/76)


600- قوله: (ليصلي) اللام فيه للإبتداء، وقد دخل على الخبر وهو جائز عند الكوفيين (فتنصرف النساء) أي: اللاتي يصلين معه (متلفعات) جمع مرط- بكسر ميم وسكون راء – وهو كساء معلم من خز أو صوف أو غير ذلك. وقيل هي ملحفة يؤتزر بها. قال الجزري: أي: متلففات بأكسيتهن، واللفاع ثوب يجلل به الجسد كله كساء كان أو غيره، وتلفع بالثوب إذا اشتمل به – انتهي. وقال السيوطي: التلفع هو التلفف إلا أن فيه زيادة تغطية الرأس، فكل متلفع متلفف، وليس كل متلفف متلفعا (مايعرفن) ما نافية أي: ما يعرفن أنساء أم رجال؟ أي: لا يظهر للرائي إلا الأشباح خاصة. وقيل: لا يعرف أعيانهن فلا يفرق بين خديجة وزينب، فإن لكل امرأة هيئة غير هيئة الأخرى غالبا، ولو كان بدنها مغطى، وهذا هو الظاهر، فإن المعرفة إنما تتعلق بالأعيان، ولو كان المراد الأول لعبر بنفي العلم، ووقع في رواية للبخاري أي: في باب سرعة انصراف النساء من الصبح: لا يعرف بعضهن بعضا، وهذا كالصريح في عدم معرفة أعيانهن وأشخاصهن دون معرفة الذكر من الأنثى. قال السندي: ما يعرفن أي: حال الانصراف إلى البيت في الطريق لا في داخل المسجد كما زعمه المحقق ابن الهمام، لأن جملة "ما يعرفن" حال من فاعل تنصرف فيجب المقارنة بينهما – انتهى. قلت: فبطل ذلك تأويل من قال: من الحنفية أن المراد من الغلس غلس المسجد لأنه كان مسقفا فما كان يظهر فيه النور إلا بطلوع الشمس. (من الغلس) أي: لأجل الظلمة لا لأجل التلفع، فمن ابتدائية أو تعليلية، وهو بفتحتين بقايا ظلام الليل يخالطها ظلام الفجر، وقال الجزري: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. قال الحافظ: في الحديث استحباب المبادرة بصلاة الصبح في أول الوقت، وجواز خروج النساء إلى المساجد لشهود الصلاة في الليل، ويؤخذ منه جوازه في النهار من باب الأولى. لأن الليل مظنة الريبة أكثر من النهار، ومحل ذلك إذا لم يخش عليهن أو بهن فتنة-انتهى.
متفق عليه.

(4/77)


قلت: الحديث يدل على أن التغليس أفضل من الإسفار، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحق. قال ابن عبدالبر: صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغلسون، ومحال أن يتركوا الأفضل، وياتوا الدون، وهم النهاية في إتيان الفضائل. واستدل هؤلاء الأئمة على أفضلية التغليس بحديث عائشة هذا، وبحديث إبن عمر عند ابن ماجه، وبحديث أنس الآتي، وبحديث قيلة بنت مخرمة عند الطبراني وابن مندة، ذكره الحافظ في الإصابة (ج4:ص394، 391) في قصة طويلة قال ابن عبدالبر: هو حديث طويل فصيح حسن، وبحديثي أبي برزة وجابر بن عبدالله المتقدمين، وبحديث أبي مسعود قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، لم يعد إلى أن يسفر. رواه الحازمي، وأبوداود، وغيرهما، وصححه ابن خزيمة وغيره. قال الحازمي: تغليس النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت، وأنه دوام عليه إلى أن فارق الدنيا، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يداوم إلا على ما هو الأفضل، وكذلك أصحابه من بعده تأسيا به - صلى الله عليه وسلم -، ثم روى بسنده حديث أبي مسعود هذا وقال بعد روايته: هذا طرف من حديث طويل في شرح الأوقات، وهو حديث ثابت مخرج في الصحيحين بدون هذه الزيادة، وهذا إسناد رواته عن آخره ثقات، والزيادة عن الثقة مقبولة. وقال المنذري في تلخيص السنن نحو هذا.وقال الخطابي: هو صحيح الإسناد. وقال ابن سيد الناس: إسناده حسن. وقال الشوكاني: رجاله في سنن أبي داود رجال الصحيح، وقد أعل بعضهم حديث أبي مسعود هذا بما قد رده شيخنا في أبكار المنن (ص71-73) وفي شرح الترمذي (ج1:ص143) فارجع إليهما. وقد خالف الحنفية أحاديث التغليس، وقالوا باستحباب الإسفار، واستدلوا لذلك بحديث رافع بن خديج الآتي: أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر، وسيأتي كلام فيه فانتظر. وأجابوا عن أحاديث

(4/78)


التغليس بأجوبة كلها مخدوشة مردودة. فمنها أن هذه الأحاديث محمولة على الخصوصية، وفيه أن هذا مجرد دعوى لا دليل عليه بل يبطله عمل الخلفاء الراشدين من بعده. ومنها أنها منسوخة فكان التغليس في ابتداء حين كن يحضرن الجماعات، ثم لما أمرن بالقرار في البيوت انتسخ ذلك، وفيه ما في الأول مع أنه لم يثبت منعهن من المساجد بل ثبت النهي عن منعهن من المساجد كما لا يخفى. ومنها أنها محمولة على عذر الخروج إلى سفر، وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قد داوم على التغليس في الحضر والسفر، ولازمه حتى فارق الدنيا، فلو كان مستحبا لما اجتمع الصحابة على الإسفار. وقد روى الطحاوي عن إبراهيم النخعي قال: ما اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شيء ما اجتمعوا على التنوير، وفيه أن دعوى إجماع الصحابة على الإسفار باطلة جدا يبطلها عمل الخلفاء الراشدين، ومن سواهم من الصحابة والتابعين بالتغليس. ومنها أنها محمولة على أطول القراءة كسورة البقرة، فيحمل على الخصوصية أيضا لقوله - صلى الله عليه وسلم -:صل بالقوم صلاة أضعفهم، وفيه أنه قد تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في الصبح ما بين الستين إلى المائة، وهذا لا يخالف قوله: صل بالقوم صلاة أضعفهم، فلا حاجة إلى حمل تغليسه على الخصوصية (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم.
601- (13) وعن قتادة، عن أنس: ((أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن ثابت تسحرا، فلما فرغا من سحورهما، قام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة، فصلى. قلنا؛ لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة. ؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية)) رواه البخاري.
602- (14) وعن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كشف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة، أو يؤخرون الصلاة عن وقتها؟

(4/79)


601- قوله: (وعن قتادة) بفتح القاف، ابن دعامة – بكسر المهملة، وخفة العين – ابن قتادة السدوسي، يكنى أبا الخطاب البصري الأعمى، أحد ألأئمة الأعلام، ثقة، ثبت، حافظ مدلس، روى عن أنس، وابن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وغيرهم. يقال: ولد أكمه. قال سعيد بن المسيب لما رأى جودة حفظه وإتقانه: ما أظن أن الله خلق مثلك. وقال أيضا: ما أتاني عراقي أحسن من قتادة. وقال ابن سيرين: قتادة أحفظ الناس. قال ابن مهدي: قتادة أحفظ من خمسين مثل حميد. وقال قتادة: ما سمعت أذناي شيئا إلا وعاه قلبي. قيل: مات بواسط في الطاعون سنة (117) أو (118) وهو ابن (55) أو (56) أو (57) سنة بعد الحسن بسبع سنين. (تسحرا) أي أكلا السحور. (من سحورهما) بفتح السين اسم لما يتسحر به، وقيل بضمها وهو مصدر. (إلى الصلاة) أي صلاة الصبح. (فصلى) أي إماما وهو معه. (كم كان) أي مقدار، قال ابن الملك: اشتق منه مبتدأ وخبرها الجملة أي أي زمان كان. (قال: قدر) بالنصب خبر لكان المقدر، أي كان ما بينهما قدر، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الفاضلة قدر (ما يقرأ الرجل خمسين آية) فيه دليل على استحباب التغليس، وأن أول وقت الصبح طلوع الفجر؛ لأنه الوقت الذي يحرم فيه الطعام والشراب، والمدة التي بين الفراغ من السحور والدخول في الصلاة وهي قراءة الخمسين آية أو نحوها لعلها مقدار ما يتوضأ، فأشعر بذلك أن أول وقت الصبح أول ما يطلع الفجر، وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل فيها بغلس. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا النسائي في الصيام.

(4/80)


602- قوله: (كيف أنت) أي كيف الحال والأمر بك. (إذا كانت عليك أمراء) قال الطيبي: أي ما حالك حين ترى من هو حاكم عليك متهاونا في الصلاة يؤخرها عن أول وقتها وأنت غير قادر على مخالفته؟ إن صليت معه فاتتك فضيلة أول الوقت، وإن خالفته خفت أذاه وفاتتك فضيلة الجماعة. فسأل كيف أفعل حينئذ، و"عليك" خبر كان، أي كانت الأمراء مسلطين عليك قاهرين لك، وفي الحديث إخبار بالغيب، وقد وقع في زمن بني أمية فكان معجزة. (يميتون الصلاة) أي يؤخرونها ويجعلونها كالميت الذي خرجت روحه. (أو يؤخرون الصلاة) وفي بعض النسخ أو يؤخرونها، وأو للشك من الراوي. (عن وقتها) قال الطيبي: شبه إضاعة الصلاة وتأخيرها عن وقتها بجيفة ميت تنفر عنها الطباع كما شبه المحافظة عليها وأداءها في وقت اختيارها بذي حياة له نضارة وطراوة في عنفوان شبابه، ثم أخرجها مخرج
قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها. فإن أدركتها معهم، فصل، فإنها لك نافلة)) رواه مسلم.
603- (15) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح. ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر)).

(4/81)


الاستعارة وجعل القرينة يميتون؛ لأنه غير لازم المشبه به. قال النووي: المراد بتأخيرها تأخيرها عن وقتها المختار؛ لأنهم لم يكونوا يؤخرونها عن جميع وقتها. قلت: ظاهر الحديث إخراج الصلاة وتأخيرها عن جميع وقتها، وعليه حمله النسائي. وقد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، فينبغي أن يحمل هذا الحديث على الواقع. قال الحافظ في الفتح: قد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة، ثم ذكرها. (فما تأمرني) أي فما الذي تأمرني أن أفعل في ذلك الوقت؟. (فإن أدركتها) بأن حضرتها. (معهم فصل فإنها) أي الصلاة التي صليت مع الأمراء. (لك نافلة) يعني صل الصلاة في أول الوقت، فإن صادفتهم بعد ذلك وقد صلوا أجزأتك صلاتك، وإن أدركت الصلاة معهم فصل معهم، وتكون هذه الثانية نافلة لك. والحديث يدل على مشروعية الصلاة لوقتها وترك الإقتداء بالأمراء إذا أخروها عن أول وقتها، وأن المؤتم يصليها منفردا، ثم يصليها مع الإمام لئلا تتفرق الكلمة وتقع الفتنة، فيجمع بين فضيلتي أول الوقت والجماعة. وقوله: فإنها لك نافلة. صريح في أن الصلاة التي يصليها مرتين تكون الأولى فريضة، والثانية نفلا. وفي الحديث دليل على أنه لا بأس بإعادة الصبح والعصر وسائر الصلوات؛ لأن النبي أطلق الأمر بالإعادة، ولم يفرق بين الصلاة والصلاة، فيكون مخصصا لحديث: لا صلاة بعد العصر وبعد الفجر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

(4/82)


603- قوله: (من أدرك ركعة) بأن أتى بها بواجباتها من الفاتحة، واستكمال الركوع والسجود، ومفهومه أن من أدرك أقل من ركعة لا يكون مدركا للوقت، وأن صلاته تكون فضاء، وإليه ذهب الجمهور، وقيل: تكون أداء. والحديث يرده. (من الصبح) أي من صلاة الصبح. (قبل أن تطلع الشمس) أي وأضاف إليها أخرى بعد طلوعها. (فقد أدرك الصبح) أي أدرك صلاة الصبح أداء لوقوع ركعة في الوقت، فالإتيان ببعضها قبل خروج الوقت ينسحب حكمه على ما بعد خروجه فضلا من الله، فيكون الكل أداء. وقيل: أي تمكن من إدراكها بأن يضم إلى الركعة المؤداة بقية الصلاة. وليس المراد أن الركعة تكفي عن الكل. وهذا لصاحب العذر كالرجل ينام عن الصلاة، أو ينساها فيذكر، أو يستيقظ عند طلوع الشمس وغروبها. قال النووي: وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز تعمد التأخير إلى هذا الوقت-انتهى.

(4/83)


قال الحافظ: الإدراك الوصول إلى الشيء، فظاهره أنه يكتفي بذلك، وليس ذلك مرادا بالإجماع، فقيل: يحمل على أنه أدرك الوقت، فإذا صلى ركعة أخرى فقد كملت صلاته، وهذا قول الجمهور، وقد صرح بذلك في رواية الدراوردي عن زيد بن أسلم، أخرجه البيهقي من وجهين، ولفظه: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعد ما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة. وأصرح منه رواية أبي غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم عن عطاء وهو ابن يسار، عن أبي هريرة بلفظ: من صلى ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، ثم صلى ما بقي بعد غروب الشمس فلم يفته العصر. وقال مثل ذلك في الصبح، وفي رواية للبخاري يعني التي بعد هذا الحديث: فليتم صلاته، وللنسائي من وجه آخر: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها إلا أنه يقضي ما فاته. وللبيهقي من وجه آخر: من أدرك ركعة من الصبح فليصل إليها أخرى. ويؤخذ من هذا الرد على الطحاوي حيث خص الإدراك باحتلام الصبي، وطهر الحائض وإسلام الكافر، ونحوها، وأراد بذلك نصرة مذهبه في أن من أدرك من الصبح ركعة تفسد صلاته؛ لأنه لا يكملها إلا في وقت الكراهة – انتهى. والحديث يدل على أن من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فقد أدرك صلاة الصبح ولا تبطل بطلوعها، كما أن من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك صلاة العصر ولا تبطل بغروبها، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو الحق، وخالف أبوحنيفة هذا الحديث فقال: من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح بطلت صلاته. واحتج في ذلك بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس. وأجيب عنه بأن أحاديث النهي عامة تشمل ذوات الأسباب المتقدمة وغير ذوات الأسباب من النوافل والفرائض. وحديث أبي هريرة هذا خاص ليس فيه إلا ذكر صلاة ذات سبب متقدم، فتحمل أحاديث النهي على ما لا سبب له من النوافل جمعا بين الحديثين، فإن الجمع بالتخصيص أولى من ادعاء النسخ، قاله الحافظ.

(4/84)


قال الشوكاني: هذا جمع بما يوافق مذهب الحافظ، والحق أن أحاديث النهي عامة تشمل كل صلاة، وهذا الحديث خاص فيبني العام على الخاص، ولا يجوز في ذلك الوقت شيء من الصلوات إلا بدليل يخصه، سواء كان من ذوات الأسباب أوغيرها-انتهى. وقال النووي: قال أبوحنيفة: تبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس؛ لأنه دخل وقت النهي الصلاة بخلاف غروب الشمس. (ففرق بين فجر اليوم وعصره) والحديث حجة عليه-انتهى. قال القاري بعد ذكر كلام النووي ما نصه: وجوابه ما ذكره صدر الشريعة (في شرح الوقاية): أن المذكور في كتب أصول الفقه أن الجزء المقارن للأداء سبب لوجوب الصلاة، وآخر وقت العصر وقت ناقص إذ هو وقت عبادة الشمس، فوجب ناقصا، فإذا أداه أداه كما وجب فإذا اعترض الفساد بالغروب لا تفسد، والفجر كل وقته وقت كامل؛ لأن الشمس لا تعبد قبل طلوعها، فوجب كاملا، فإذا اعترض الفساد بالطلوع تفسد؛ لأنه لم يؤديها كما وجب، فإن قيل: هذا تعليل في معرض النص، قلنا: لما وقع التعارض بين هذا الحديث وبين النهي الواردة عن الصلاة في الأوقات الثلاثة رجعنا إلى القياس كما هو حكم التعارض، والقياس رجح هذا الحديث في صلاة العصر، وحديث النهي في صلاة الفجر، وأما سائر الصلوات فلا تجوز في الأوقات الثلاثة المكروهة لحديث النهي الوارد، إذ لا معارض لحديث النهي فيها. قلت: قد رد هذا التقرير المزخرف الشيخ عبدالحي اللكنوي

(4/85)


وهو من الحنفية في حاشيته على شرح الوقاية حيث قال: فيه بحث، وهو أن المصير إلى القياس عند تعارض النصين إنما هو إذا لم يمكن الجمع بينهما، وأما إذا أمكن يلزم أن يجمع بينهما، وههنا العمل بكليهما ممكن بأن يخص صلاة العصر والفجر الوقتيتان من عموم حديث النهي، ويعمل بعمومه في غيرهما، وبحديث الجواز فيهما إلا أن يقال حديث الجواز خاص، وحديث النهي عام، وكلاهما قطعيان عند الحنفية، ومتساويان في الدرجة والقوة، فلا يخص أحدهما الآخر، وفيه أن قطعية العام كالخاص ليس متفقا عليه بين الحنفية، فإن كثيرا منهم وافقوا الشافعية في كون العام ظنيا كما هو مبسوط في شروح المنتخب الحسامي وغيرها-انتهى. وقال صاحب الكوكب الدري بعد ذكر وجه الفرق بين الفجر والعصر بنحو ما ذكره صدر الشريعة ما لفظه: هذا ما قالوا، وأنت تعلم ما فيه من الاختلال وتزويق المقال، فإن قولهم: النهي عن الأفعال الشرعية يقتضي صحتها في أنفسها، ينادي بأعلى نداء على جواز الصلاتين كلتيهما وإن اعتراهما حرمة بعارض التشبه بعبدة الشمس، فادعاء المعارضة بينهما باطل، وإن قطع النظر عن ذلك فلا وجه لعدم الجواز في الفجر والجواز في العصر، فإن الوقت شرط لكلتيهما، فإذا غربت الشمس بأداء ركعة أو ركعتين لم يبق الوقت المشروط لصحة الباقي، فكيف يمكن لهم القول بأن الصلاة تامة، إذ ليس ذلك إلا قولا بعدم اشتراط الوقت، فعلى هذا يلزم عليهم جواز صلاة من شرع في الصلاة وثوبه نجس بقدر الدرهم أو دونه، ثم بعد أدائه ركعة وضع عليه رجل شيئا نجسا ليس ذلك إلا أداء الصلاة على الكيفية التي التزمها، أو من أخذ في الصلاة وهو يدافعه الأخبثان، فلما قضى ركعة أو ركعتين بال أو تغوط، أو ليس نظير ما قالوا، فإنه أدى صلاته بعد الحدث على نحو مما التزمه. (إلى آخر ما قال وأطال في الرد عليهم) قلت: ويلزمهم أيضا أن يقولوا بفساد صلاة العصر إذا شرع فيها في الجزء الصحيح الكامل أي قبل الاصفرار ومدها

(4/86)


إلى أن غربت، مع أنها لا تكره عندهم فضلا عن أن تفسد. وما اعتذروا عنه بعذر الخشوع والخضوع لا ينفع كما أقربه صاحب فيض الباري، فإن الاحتراز عن المد إلى غروب الشمس ليس مما يتعذر كما لا يخفى على المنصف غير المتعسف. واختار صاحب الكوكب في معنى الحديث ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من جواز الصلاتين العصر والصبح، وفراغ الذمة لمن صلى في هذين الوقتين، وإن لم يخل فعله ذلك من الكراهة، واعلم أن الحنفية قد عجزوا عن دفع إلزام العمل ببعض هذا الحديث وترك بعضه مع أن النقص قارن العصر ابتداء والفجر بقاء، ولذلك ذهب الطحاوي إلى عدم جواز عصر يومه كالفجر خلافا لمذهب الحنفية. قال صاحب الفيض: إن الحديث لا يفرق بين الفجر والعصر، وظاهره موافق لما ذهب إليه الجمهور، وتفريق الحنفية باشتمال العصر على الوقت الناقص دون الفجر عمل بإحدى القطعتين وترك الأخرى بنحو من القياس، وذا لا يرد على الطحاوي، فإنه ذهب إلى النسخ بالكلية بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، إلا أن المعروف من مذهب الحنفية خلافه، فإنهم قائلون في العصر بصحتها كما في الحديث، قال: فلم أر جوابا شافيا عنه في أحد من كتب الحنفية بعد، ثم حمل هو هذا الحديث على المسبوق، وقال: إن المراد بالإدراك إدراك الجماعة لا إدراك الوقت، وإن الصلاة كلها في الوقت قبل الطلوع في الفجر، وقبل الغروب في العصر، ومعنى الحديث: من أدرك ركعة من الصبح مع الإمام وركعة أخرى بعد انصرافه، وكلتاهما في الوقت قبل الطلوع، وكذا في العصر أدرك
متفق عليه.
604- (16) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته. وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته)) رواه البخاري.
____________________________________________________________

(4/87)


ركعة مع الإمام وثلاث ركعات بعد سلامه لكن الصلاة كلها وقعت في الوقت قبل الغروب، وهذا كما ترى تحريف للحديث وإبطال لمؤداه، لا توجيه له مع أنه يبطل شرحه ويهدمه، كما اعترف به هو ما تقدم من رواية البيهقي بلفظ: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعد ما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة، هذا. وقد أطال الكلام في الجواب عن هذه الرواية وتقرير ما رامه من تحريف الحديث، وأتى بكلام كله تكلفات ودعاوي محضة، ونسبة الوهم وسوء الفهم والاختصار إلى الرواة من غير دليل وبرهان. واعلم أيضا أن إدراك الركعة قبل خروج الوقت لا يختص بصلاة الفجر والعصر؛ لما ثبت عند الشيخين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة. وهو أعم من حديث الباب. قال الحافظ: ويحتمل أن تكون اللام عهدية، ويؤيده أن كلا منهما من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وهذا مطلق وذاك يعني حديث الباب مقيد فيحمل المطلق على المقيد – انتهى. ويمكن أن يقال أن حديث الباب دل بمفهومه على اختصاص ذلك الحكم بالفجر والعصر، وهذا الحديث دل بمنطوقه على أن حكم جميع الصلوات لا يختلف في ذلك، والمنطوق أرجح من المفهوم فيتعين المصير إليه، ولاشتماله على الزيادة التي ليست منافيه للمزيد، كذا في النيل. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي، وابن ماجه وغيرهم.

(4/88)


604- قوله: (إذا أدرك أحدكم سجدة) أي ركعة كما ذكره المجد بن تيمية في المنتقى، ومسلم في صحيحه، وقد ثبت عند الإسماعيلي بلفظ "ركعة" مكان سجدة، فدل على أن الاختلاف في اللفظ وقع من الرواة، وقد تقدم الرواية بلفظ: من أدرك ركعة، قال الحافظ: ولم يختلف على راويها في ذلك، فكان عليها الاعتماد، قال الخطابي: المراد بالسجدة الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها، فسميت على هذا المعنى سجدة – انتهى. (فليتم صلاته) أي ليكملها بالباقية، ويكون الكل أداء. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي، وفي الباب عن عائشة عند أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. ومناسبة هذا الحديث وما قبله لعنوان الباب غير ظاهرة، وإنما ذكرهما استطرادا، أو يقال: فيهما إشارة إلى أن من أخر الصلاة إلى آخر أجزاء وقتها بسبب السهو والنسيان أو النوم لا يكون مقصرا، ويصدق عليه أنه عجلها في الجملة حيث أداها قبل الفوت.
605- (17) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، وفي رواية: لا كفارة لها إلا ذلك)) متفق عليه.
606- (18) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس في النوم تفريط،

(4/89)


605- قوله: (من نسي صلاة) أي تركها نسيانا. (أو نام عنها) ضمن نام معنى غفل أي غفل عنها في حال نومه، قاله الطيبي. أو نام غافلا عنها. (فكفارتها) هذا يدل على أنه لا يخلو عن تقصير ما يترك المحافظة، لكن يكفي في نحو تلك الخطيئة القضاء، وما سيجئ أنه لا تفريط في النوم فبالنظر إلى الذات. (أن يصليها إذا ذكرها) أي بعد النسيان أو النوم، وقيل: فيه تغليب للنسيان، فعبر بالذكر وأراد به ما يشمل الاستيقاظ، والأظهر أن يقال: أن النوم لما كان يورث النسيان غالبا قابلهما بالذكر. وظاهر الحديث أنه يصليها إذا ذكرها، أي وإن كان عند طلوع الشمس أو عند غروبها أو عند استواءها. وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، فجعلوا هذا الحديث وما في معناه مخصصا لأحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة. ووقع في رواية لغير الشيخين "فوقتها حين يذكرها لا وقت لها إلا ذلك"، وهذا يفيد أن ذلك وقتها أداء لا قضاء، فتكون أحاديث الباب مخصصة لما ورد من توقيت الصلاة وتعيين أوقاتها ابتداء وانتهاء، فيقال إلا الصلاة التي سها عنها المصلى أو نسيها أو نام عنها، فإن فعلها عند الذكر هو وقت أداءها ولو بعد خروج الوقت المضروب لتلك الصلاة، فإن حين التذكر والاستيقاظ هو وقت أدائها. (وفي رواية) أي للشيخين. قال الطيبي: أراد أنه زاد في رواية أخرى هذه العبارة، لا أن هذه الرواية بدل على الرواية السابقة؛ لأن اسم الإشارة يقتضي مشارا إليه، وهو قوله: فليصلها إذا ذكرها. جيء بالثانية تأكيدا وتقريرا على سبيل الحصر، لئلا يتوهم أن لها كفارة غير القضاء. (لا كفارة لها إلا ذلك) قال الخطابي في المعالم: يريد أنه لا يلزمه في تركها غرم أو كفارة من صدقة أو نحوها كما تلزمه في ترك الصوم في رمضان من غير عذر الكفارة، وكما تلزم المحرم إذا ترك شيئا من نسكه كفارة وجبران من دم أو طعام ونحوه. وقال الطيبي: يحتمل ذلك وجهين: أحدهما أنه لا يكفرها غير قضائها،

(4/90)


والآخر أنه لا يلزمه في نسيانها غرامة ولا زيادة تضعيف ولا كفارة من صدقة ونحوها كما يلزم في ترك الصوم. (متفق عليه) أي بروايته إلا أن لفظ الرواية الأولى لفظ مسلم. والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
606- قوله: (ليس في النوم) أي في حاله (تفريط) أي تقصير، ينسب إلى النائم في تأخيره الصلاة، وكذا في النسيان، ولم يذكر لأنه في معناه، ولهذا ذكره في التفريغ، وليس المراد أن نفس فعل النوم والمباشرة بأسبابه لا يكون فيه تفريط أي تقصير، فإنه قد يكون فيه تفريط إذا كان في وقت يقتضي فيه النوم إلى فوات الصلاة كالنوم قبل العشاء، وإنما المراد أن ما فات حالة النوم فلا تفريط في فوته فإنه فات بلا اختيار، وأما المباشرة بالنوم فالتفريط فيها تفريط حالة
إنما التفريط في اليقظة. فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: ?وأقم الصلاة لذكري? رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
607- (19) عن علي: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا علي ! ثلاث

(4/91)


اليقظة، قاله السندي. (إنما التفريط في اليقظة) بفتح القاف، أي إنما يوجد التقصير في حال اليقظة، بأن يفعل ما يؤدي إلى النوم أو النسيان، كاضطجاع عند غلبة النوم والاشتغال بما يترتب عليه النسيان من المشاغل كلعب الشطرنج ونحوه فيكون مقصرا حينئذ ويأثم بذلك. قال الشوكاني: ظاهر الحديث أنه لا تفريط في النوم سواء كان قبل دخول وقت الصلاة أو بعده قبل تضييقه. وقيل: إنه إذا تعمد النوم قبل تضييق الوقت واتخذ ذلك ذريعة إلى ترك الصلاة لغلبة ظنه أنه لا يستيقظ إلا وقد خرج الوقت كان آثما. والظاهر أنه لا إثم عليه بالنظر إلى النوم؛ لأن فعله في وقت يباح فعله، فيشمله الحديث. وأما إذا نظر إلى التسبب به للترك، فلا إشكال في العصيان بذلك، ولا شك في إثم من نام بعد تضييق الوقت لتعلق الخطاب به، والنوم مانع من الامتثال، والواجب إزالة المانع. (أقم الصلاة لذكري) اللام فيه للوقت، وهو بالإضافة إلى ياء المتكلم وهي القراءة المشهورة لكن بظاهرها لا يناسب المقصود، فأوله بعضهم بأن المعنى: وقت ذكر صلاتي، على حذف المضاف، أو المراد بالذكر المضاف إلى الله تعالى ذكر الصلاة لكون ذكر الصلاة يفضي إلى فعلها المفضي إلى ذكر الله تعالى فيها، فصار وقت ذكر الصلاة كأنه وقت لذكر الله، فقيل في موضع أقم الصلاة لذكرها: لذكر الله. وقراءة ابن شهاب للذكرى بلام الجر ثم لام التعريف وآخره ألف مقصورة، وهي قراءة شاذة لكنها موافقة للمطلوب هنا بلا تكلف، قاله السندي. وقال الطيبي: الآية تحتمل وجوها كثيرة من التأويل، لكن الواجب أن يصار إلى وجه يوافق الحديث؛ لأنه حديث صحيح، ثم ذكر التوجيهين الذي تقدما في كلام السندي، قال: أو وضع ضمير الله موضع ضمير الصلاة لشرفها وخصوصيتها. والحديث يدل على أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن المخاطب بالآية المذكورة موسى عليه الصلاة والسلام، وهو الصحيح في الأصول ما لم يرد ناسخ. (رواه مسلم) فيه نظر؛ لأن اللفظ المذكور ليس

(4/92)


لمسلم بل هو للنسائي والترمذي، إلا أنه ليس عندهما: فإن الله تعالى يقول: ?أقم الصلاة لذكري? [20: 14] قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود وابن ماجه. قال الحافظ: إسناد أبي داود على شرط مسلم، ورواه مسلم بنحوه في قصة نومهم في صلاة الفجر، ولفظه: ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حيث ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها.
607- قوله: (ثلاث) أي من المهمات وهو المسوغ للإبتداء، والمعنى: ثلاثة أشياء، وهي الصلاة، والجنازة،
لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤا)) رواه الترمذي.

(4/93)


والمرأة، ولذا ذكر العدد. (لا تؤخرها) بالرفع إما خبر لثلاث أو صفة، أي فإن في التأخير آفات بل تعجل فيها، وهذه الأشياء مستثناه من حديث: العجلة من الشيطان. (الصلاة) بالرفع أي منها، أو أحدها، أو هي. وقيل: بالنصب بتقدير أعني. (إذا أتت) بالتائين مع القصر، من الإتيان، أي جاءت، يعني وقتها. قال التوربشتي: في أكثر النسخ المقروءة، أي للمصابيح "أتت" بتاءين، وكذا عند أكثر المحدثين، وهو تصحيف، والمحفوظ من ذوي الإتفاق "آتت" على وزن حانت وبمعناه ذكره الطيبي. والظاهر أنهما روايتان صحيحتان ومعناهما متقارب. قال ابن العربي في عارضة الأحوذى (ج1: ص284): كذا رويته بالتاءين كل واحد منهما معجمة باثنتين من فوقها، وروي "إذا آنت" بنون وتاء معجمة من فوقها بمعنى حانت. تقول: آن الشيء بئين أينا أي حان يحين حينا – انتهى. وكذا قال ابن سيد الناس كما ذكره السيوطي في قوت المغتذي. وقال الأبهرى: "إذا أنت" بفتح الهمزة من أنى يأنى، وهو أيضا بمعنى حان، ومنه قوله تعالى. ?ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم? [57: 16]. (والجنازة) بكسر الجيم وفتها لغتان للميت في النعش. (إذا حضرت)؛ لأن تأخيرها قد يؤدي إلى التغير فالتعجيل فيها أحب، وأيضا إن كانت خيرا فالتقديم إليه أحب، وإن كانت شرا فتبعيده أول كما في حديث: لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس، عند أبي داود. وكما في حديث أسرعوا بالجنازة، عند الشيخين. وفيه دليل على أن الصلاة على الجنازة لا تكره في الأوقات المكروهة، ذكره الطيبي. قال القاري: وهو كذلك عندنا، يعني الحنفية أيضا، إذا حضرت في تلك الأوقات من الطلوع والغروب ولاستواء، وأما إذا حضرت قبلها وصلى عليها في تلك الأوقات، فمكروهة، وكذا حكم سجدة التلاوة، وأما بعد الصبح وقبله، وبعد العصر فلا يكرهان مطلقا. (والأيم) بفتح الهمزة وكسر الياء المشددة، هي التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا، مطلقة كانت أو متوفى عنها. (كفؤا) بضم الكاف

(4/94)


وسكون الفاء، المثل والنظير، وفي النكاح أن يكون الرجل مثل المرأة في الإسلام، والصلاح. وقيل: في الحرية، والنسب، وحسن الكسب والعمل، والأول هو المعتمد. (رواه الترمذي) في الصلاة من حديث سعيد بن عبدالله الجهني، عن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب. قال الترمذي: هذا حديث غريب حسن. على ما في النسخة المصرية المطبوعة بتعليق العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر. وقد نقل هذا الحديث الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص244) عن الترمذي، ونقل أنه قال: حديث غريب، وما أرى إسناده بمتصل. وهكذا نقل الحافظ في التلخيص (ص96) أيضا. قال صاحب التعليق المذكور: ليس في شيء من النسخ التي معي من الترمذي عبارة "وما أرى إسناده بمتصل"، وكذلك قال شيخنا في شرح الترمذي: إن هذه العبارة ليست في النسخ المطبوعة والقلمية الموجودة عندنا. قال صاحب التعليق: وأنا أظن أن الحافظ الزيلعي انتقل نظره حين الكتابة إلى كلام الترمذي على حديث عائشة الآتي، وأن الحافظ ابن حجر نقل منه تقليدا له فقط – انتهى. وقال الحافظ في الدراية: أخرجه الترمذي والحاكم بإسناد ضعيف. قلت: الظاهر أن هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن، وأن سنده متصل، فإن سعيد بن عبدالله الجهني
608- (20) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله)) رواه الترمذي.
ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ: إنه مقبول. ومحمد بن عمر بن علي صدوق، وعمر بن علي ثقة، وقد سمع من أبيه على بن أبي طالب، قاله أبوحاتم، فاتصل سنده. والحديث أخرجه أيضا أحمد، والنسائي في مسند علي، وأخرج ابن ماجه منه النهي عن تأخير الجنازة فقط، وأخرجه الحاكم في النكاح (ج2: ص162) مطولا وقال: هذا حديث غريب صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

(4/95)


608- قوله: (الوقت الأول من الصلاة) من تبعيضية، والتقدير من أوقات الصلاة، قاله القاري. وقال الطيبي: من بيان للوقت- انتهى. وخص منه بعض الأوقات كالعشاء والظهر في شدة الحر. (رضوان الله) أي يحصل بأدائها فيه رضوان الله تعالى عن فاعلها، وهو خبر إما بحذف مضاف، أي الوقت الأول سبب رضوان الله لما فيه من المبادرة إلى الطاعة، وهي مؤدية إلى رضاه، أو على المبالغة، أي الوقت الأول عين رضا الله تعالى عنه. (والوقت الآخر) أي بحيث يحتمل أن يكون خروجا عن الوقت، أو المراد به وقت الكراهة نحو الاصفرار في العصر، والتجاوز عن نصف الليل في العشاء، قاله القاري. (عفو الله) ولا عفو إلا عن ذنب. قال المناوي: والعفو يكون عن المقصرين، فأفاد أن تعجيل الصلاة أول وقتها أفضل- انتهى. وقال الشافعي: ولا يؤثر على رضوان الله شيء؛ لأن العفو لا يكون إلا عن تقصير، نقله البيهقي، زاد في حديث أبي محذورة عند الدارقطني بسند ضعيف جدا: وأوسطه رحمة الله، أي يحصل لفاعل الصلاة فيه رحمته، ومعلوم أن رتبة الرضوان أبلغ. (رواه الترمذي) وكذا الدارقطني والبيهقي كلهم من طريق يعقوب بن الوليد المدني، عن عبدالله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر. ونقل البيهقي عن أبي أحمد بن عدي الحافظ أنه قال: هذا الحديث بهذا الإسناد باطل، ثم قال البيهقي: هذا حديث يعرف بيعقوب بن الوليد المدني، ويعقوب منكر الحديث، ضعفه يحيى بن معين، وكذبه أحمد بن حنبل، وسائر الحفاظ، ونسبوه إلى الوضع نعوذ بالله من الخذلان. وقال في المعرفة: حديث "الصلاة في أول وقتها رضوان الله" إنما يعرف بيعقوب بن الوليد، وقد كذبه أحمد بن حنبل، وسائر الحفاظ. قال: وقد روي هذا الحديث بأسانيد كلها ضعيفة، وإنما يروى عن أبي جعفر محمد بن على من قوله- انتهى. قال الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص127) بعد ذكر كلام البيهقي هذا: وأنكر ابن القطان في كتابه على أبي محمد عبدالحق كونه أعل الحديث بالعمري، وسكت عن

(4/96)


يعقوب، قال: ويعقوب هو علة، فإن أحمد قال فيه: كان من الكذابين الكبار، وكان يضع الحديث. وقال أبوحاتم: كان يكذب، والحديث الذي رواه موضوع، وابن عدي إنما أعله به، وفي بابه، ذكره- انتهى. والعجب من الترمذي أنه سكت عن هذا الحديث، ولم يعله بيعقوب ولا بالعمري.
609- (21) وعن أم فروة، قالت: ((سئل النبي- صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لأول وقتها)). رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: لا يروى الحديث إلا من حديث عبدالله بن عمر العمري، وهو ليس بالقوي عند أهل الحديث.

(4/97)


609- قوله: (عن أم فروة) ذكر ابن عبدالبر والطبراني أن أم فروة هذه بنت أبي قحافة أخت أبي بكر الصديق لأبيه، كانت ممن بايع تحت الشجرة، وكانت من المهاجرات، وتبعهما على ذلك المنذري، وابن العربي، وغيرهما من العلماء، ووهموا وغلطوا من قال: إنها أنصارية. ورجح الحافظ وغيره أنها غير أخت أبي بكر الصديق، وأنها أنصارية، أخذ ذلك من ظاهر بعض الروايات أنها جدة القاسم بن غنام الأنصاري، أو عمته. والراجح عندنا هو القول الأول. والظاهر أنها جدة القاسم بن غنام من جهة أمه أو أم أبيه، ففي رواية للحاكم عن القاسم بن غنام الأنصاري، عن جدته أم أبيه الدنيا، عن أم فروة جدته، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية أخرى له عن القاسم بن غنام، عن جدته الدنيا، عن جدته أم فروة. وكانت ممن بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت من المهاجرات الأول، فهذا يدل على غلط من ظن أنها أنصارية. (أي الأعمال أفضل) أي أكثر ثوابا. (الصلاة لأول وقتها) اللام بمعنى في، قاله ابن الملك. وقال الطيبي: اللام للتأكيد، فيه دليل على أن الصلاة لأول الوقت أفضل الأعمال، لكن الحديث ضعيف كما سيأتي، لكن له شاهد من حديث ابن مسعود عند الحاكم والدارقطني والبيهقي، وأيضا المحافظة منه - صلى الله عليه وسلم -على الصلاة أول الوقت دالة على أفضليته. (رواه أحمد) (ج6: ص374، 375، 440). (والترمذي وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (وقال الترمذي: لا يروى الحديث) أي هذا الحديث. (إلا من حديث عبدالله بن عمر) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني، وفي كلام الترمذي هذا نظر؛ لأنه رواه عن القاسم بن غنام غيره أيضا، فقد رواه عنه عبيدالله بن عمر العمري عند الحاكم، والدارقطني، والضحاك بن عثمان عند الدارقطني، ونسب الحافظ رواية الضحاك هذه في الإصابة للطبراني. (وهو ليس بالقوي عند أهل الحديث) قد اختلف في جرحه وتعديله، فضعفه الحاكم، وابن حبان، وابن المديني،

(4/98)


وأبوحاتم، وصالح جزرة، ويحيى بن سعيد، والنسائي، والبخاري فيما حكاه الترمذي عنه، ووثقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وابن عدي، ويعقوب بن شيبة، والعجلى. وقال الذهبي في الميزان: صدوق في حفظه شيء. وقال الخليلي: ثقة، غير أن الحفاظ لم يرضوا حفظه. ثم إنه يظهر من كلام الترمذي الذي نقله المصنف أن الحديث قد تفرد به عبدالله بن عمر العمري، وهو ضعيف، فيكون الحديث ضعيفا، لكن الظاهر أن سبب ضعف الحديث كونه مضطرب الإسناد، كما قال الترمذي بعد ذلك: واضطربوا عنه في هذا الحديث، واختلف في أن اضطرابه من قبل عبدالله بن عمر العمري أو من قبل شيخه القاسم بن غنام، والظاهر أن اضطراب سنده من جهة القاسم بن غنام، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال في حديثه اضطراب. وقال الحافظ: صدوق مضطرب الحديث، وتفصيل الاضطراب أنه ورد
610- (22) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة لوقتها الآخر مرتين حتى قبضه الله تعالى)) رواه الترمذي.

(4/99)


في بعض الروايات عن القاسم، عن جدته أم فروة. وفي بعضها "عن عمته أم فروة" بدون واسطة، وفي بعضها "عن بعض أمهاته"، وفي بعضها "عن بعض أهله"، وفي بعضها "عن عماته"، وفي بعضها "عن أهل بيته"، كل هؤلاء عن أم فروة، وتقدمت روايتا الحاكم وهما أوضح الروايات في ذلك. والذي يظهر أن القاسم بن غنام يروي الحديث تارة فيذكر الواسطة المبهمة، ويرويه أخرى فيحذفها، ويقول عن أم فروة. قال الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص241): ذكر الدارقطني في كتاب العلل في هذا الحديث اختلافا كثيرا واضطرابا، ثم قال: والقول قول من قال عن القاسم، عن جدته الدنيا، عن أم فروة- انتهى. وهكذا رواه الحاكم في المستدرك، والدارقطني في سننه. قال في الإمام: وما فيه من الاضطراب في إثبات الواسطة بين القاسم وأم فروة، وإسقاطها يعود إلى العمري، وقد ضعف، ومن أثبت الواسطة يقضي على من أسقطها، وتلك الواسطة مجهولة- انتهى. فالحديث ضعيف بكل حال لجهل الواسطة بين القاسم بن غنام وبين أم فروة.

(4/100)


610- قوله: (ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة لوقتها الآخر مرتين) الخ. يعني أنه صلى بعض الصلوات في أخر وقتها لكنه لم يقع له ذلك أكثر من مرة إلى أن توفاه الله تعالى. قيل: وتلك المرة هي التي صلاها - صلى الله عليه وسلم - للتعليم حين جاء رجل سائل عن أوقات الصلاة، فكان كل صلاة في آخر وقته. وأما حديث إمامة جبريل فخارج عن المبحث؛ لأنه لم يكن اختيارا منه، أو المقصود المبالغة في عدم وقوع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم -، فلا يحتاج إلى الجواب عما وقع ذلك منه أحيانا، يعني أن أوقات صلاته عليه الصلاة والسلام كلها كانت في وقتها الاختياري إلا ما وقع من التأخير إلى آخره نادرا لبيان الجواز، ووقع في بعض نسخ الترمذي: لوقتها الآخر إلا مرتين. بزيادة إلا، وهو يوافق ما نقله الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص244) وصاحب جمع الفوائد (ج1: ص60) كلاهما عن الترمذي. والظاهر أن المراد منه حين إمامة جبريل وسؤال الرجل، لكن الظاهر أن يكون المراد غير ما هو للتعلم والتعليم، أو لم يفعل من حين تزوجها فأخبرت بما أحاط به علمها، كذا قيل. (رواه الترمذي) وقال غريب، وفي بعض النسخ "حسن غريب" قال: وليس إسناده بمتصل. وأخرجه أيضا الدارقطني، والحاكم، والبيهقي كلهم من طريق سعيد بن أبي هلال، عن إسحاق بن عمر، عن عائشة. قال الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص244): قال البيهقي: وهو مرسل، إسحاق بن عمر لم يدرك عائشة، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: إسحاق بن عمر روى عنه سعيد بن هلال مجهول- انتهى. وكذلك قال ابن القطان في كتابه: أنه منقطع، وإسحاق بن عمر مجهول، وأخرجه أيضا الدارقطني عن عمرة عن عائشة نحوه، وفي سنده معلى بن عبدالرحمن،
611- (23) وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال أمتي بخير، أو قال: على الفطرة، ما
لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم)) رواه أبوداود.

(4/101)


قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: متروك الحديث، وأخرجه أيضا عن أبي سلمة، عن عائشة نحوه، وفيه الواقدي، وهو معروف عندهم- انتهى مختصرا. قال العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1: ص329): قد ترك الزيلعي أصح إسناد لهذا الحديث، فقد روى الحاكم (ج1: ص190) من طريق أبي النضر هاشم بن القاسم قال: حدثنا الليث بن سعد، عن أبي النضر، عن عمرة، عن عائشة قالت: ما صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الصلاة لوقتها الآخر حتى قبضه الله. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي (ج1: ص435) عن الحاكم، وأبوالنضر شيخ الليث هو سالم أبوالنضر مولى عمر بن عبيدالله، وهو مجمع على توثيقه، وهذا الحديث هو الذي أشار الزيلعي إلى أن الدارقطني رواه من طريق معلى بن عبدالرحمن، عن الليث، وهو في سنن الدارقطني (ص92) وقد أشار البيهقي إلى رواية معلى، ومعلى هذا ليس بثقة كان يضع الحديث، ولكن الرواية صحت برواية أبي النضر هاشم بن القاسم عن الليث- انتهى.

(4/102)


611- قوله: (لا يزال) بالتحتية وفي رواية لأحمد، وكذا في أبي داود بالمثناة الفوقية. (أمتي بخير أو قال على الفطرة) أي السنة المستمرة، أو الإسلام أو الاستقامة، أو للشك من الراوي. (إلى أن تشتبك النجوم) أي تظهر جميعا، ويختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها، وهو كناية عن الظلام. فيه دليل على استحباب المبادرة والتعجيل بصلاة المغرب وكراهة تأخيرها إلى اشتباك النجوم، وقد عكست الروافض القضية، فجعلت تأخير صلاة المغرب إلى اشتباك النجوم مستحبا، والحديث يرده. قال النووي في شرح المسلم: إن تعجيل صلاة المغرب عقيب غروب الشمس مجمع عليه. قال: وقد حكي عن الشيعة فيه شيء لا التفات إليه، ولا أصل له. وأما الأحاديث الواردة في تأخير المغرب إلى قرب غروب الشفق فكانت لبيان آخر الوقت؛ لأنها كانت جوابا للسائل عن الوقت، وأحاديث التعجيل عامتها إخبار عن عادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتكررة التي واظب عليها إلا لعذر فالاعتماد عليها. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد (ج5: ص417، 422) والحاكم في المستدرك (ج1: ص190) وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وفي سنده عندهم محمد بن إسحاق، وهو مدلس لكنه صرح بالتحديث، قال الزيلعي: قال الشيخ في الإمام: وقد خولف ابن إسحاق في هذا الحديث، قال ابن أبي حاتم: ورواه حيوة وابن لهيعة، عن يزيد بن حبيب، عن أسلم أبي عمران التجيبي، عن أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: بادروا بصلاة المغرب قبل طلوع النجوم، قال أبوزرعة: وحديث حيوة أصح- انتهى كلامه. قلت: حديث ابن لهيعة أخرجه أحمد (ج5: ص415) وأخرج أحمد أيضا (ج5: ص421) من حديث ابن أبي ذئب، عن يزيد بن أبي حبيب عن رجل عن أبي أيوب بنحوه.
612- (24) ورواه الدارمي عن العباس.
613- (25) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا

(4/103)


العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه)) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
614- (26) وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((أعتموا بهذه الصلاة؛ فإنكم قد فضلتم
بها على سائر الأمم، ولم تصلها أمة قبلكم))
612- قوله: (ورواه الدارمي عن العباس) وكذا روى ابن ماجه والحاكم وابن خزيمة في صحيحه وأبوبكر البزار كلهم من حديث إبراهيم بن موسى، عن عباد بن العوام، عن عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبدالمطلب. قال البوصيري في الزائد: إسناده حسن، وجعله الحاكم شاهدا صحيحا لحديث أبي أيوب المتقدم ووافقه الذهبي. وقال أبوبكر البزار: لا نعلمه يروى عن العباس إلا من هذا الوجه، ورواه غير واحد عن عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن مرسلا. قال الترمذي: وحديث العباس قد روى عنه موقوفا وهو أصح، قال ابن سيد الناس: ومراد البزار بالمرسل هنا الموقوف؛ لأنه متصل الإسناد إلى العباس. وذكر الخلال بعد إيراد هذا الحديث: قال أبوعبدالله: هذا حديث منكر. كذا في النيل.
613- قوله: (إلى ثلث الليل أو نصفه) قال ميرك: "أو" يحتمل التنويع، أي إلى ثلث الليل في الصيف ونصف الليل في الشتاء. وقيل: بمعنى بل، والظاهر أنه شك من الراوي، أي سعيد بن أبي سعيد المقبري، أو من الرواة عنه، وأخرجه الحاكم من طريق عبدالرحمن السراج، عن سعيد، عن أبي هريرة. وفيه إلى نصف الليل بغير شك. والحديث صريح في أن التأخير في العشاء أولى من التعجيل، ولا يعارضه ما تقدم من أحاديث أفضلية أول الوقت؛ لأنها عامة، وحديث أبي هريرة هذا وما في معناه من الأحاديث الدالة على تأخير العشاء خاصة، فيجب بناء العام عليها. (رواه أحمد والترمذي) وقال: حديث حسن صحيح. (وابن ماجه) وأخرجه أيضا الحاكم (ج1: ص146).

(4/104)


614- قوله: (أعتموا) بفتح الهمزة وكسر التاء، أمر من باب الإفعال. (بهذه الصلاة) أي العشاء والباء للتعدية، أي أدخلوها في العتمة، أو للمصاحبة، أي أدخلوا العتمة متلبسين بهذه الصلاة، فالجار والمجرور حال، يقال: أعتم الرجل إذا دخل في العتمة، وهي ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق، أو مطلق الظلمة بعد غيبوبته، وقيل: هو مأخوذ من العتم الذي هو الإبطاء، والمعنى أخروا العشاء الآخرة. وفيه دليل على استحباب تأخير صلاة العشاء عن أول وقتها، وتنبيه على أفضلية التأخير، وهو مقيد إلى الثلث أو النصف لما تقدم. (قد فضلتم) بصيغة المجهول من التفضيل. (بها) أي بصلاة العشاء. (على سائر الأمم) أي جميعها أو باقيها. (ولم تصلها أمة قبلكم) التوفيق بينه وبين قوله في حديث جبريل: هذا
رواه أبوداود.
615- (27) وعن النعمان بن بشير قال: ((أنا أعلم بوقت هذه الصلاة صلاة العشاء الآخرة: كان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليها لسقوط القمر لثالثة)).
وقت الأنبياء من قبلك. أن صلاة العشاء كانت تصليها الرسل نافلة لهم أي زائدة، ولم تكتب على أممهم كالتهجد، فإنه وجب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ولم يجب علينا، قاله الطيبي. وقال ميرك: يحتمل أنه أراد أنه لم تصلها على النحو الذي تصلونها من التأخير وانتظار الاجتماع في وقت حصول الظلام وغلبة المنام على الأنام، كذا في المرقاة. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري.

(4/105)


615- قوله: (وعن النعمان) بضم النون. (بن بشير) مكبرا، ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي أبوعبد الله المدني، له ولأبويه صحبة، وأمه عمرة بنت رواحة. ولد على رأس أربعة عشر شهرا من الهجرة، وهو أول مولود ولد في الأنصار بعد قدوم النبي- صلى الله عليه وسلم -، سكن الشام، ثم ولى إمرة كوفة. ثم حمص. وكان فصيحا. له مائة وأربعة وعشرون حديثا، اتفقا على خمسة, وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بأربعة، قتله خالد بن خلى الكلاعي بحمص يوم راهط سنة (64) أو (65) أو (66) وله (64) سنة. (أنا أعلم بوقت هذه الصلاة) هذا من باب التحدث بنعمة الله عليه بزيادة العلم، مع ما فيه من حمل السامعين على اعتماد مرويه، ولعل وقوع هذا القول منه بعد موت غالب أكابر الصحابة وحفاظهم الذين هم أعلم بذلك منه، قاله القاري. ويحتمل أنه قال ذلك على ظن أنه لم يضبط وقت صلاة العشاء من الصحابة أحد كما ضبطه هو بناء على أنه بحث عنه واستقرأه واجتهد في علمه ومشاهدته ما لم ير شيئا من ذلك لأحد غيره من الصحابة. (صلاة العشاء) بالجر على البدل، وبالنصب بتقدير أعني. (الآخرة) احتراز عن المغرب. (لسقوط القمر) اللام للوقت أي وقت غروبه وغيبته. (لثالثه) أي في ليلة ثالثه من الشهر، وهو متعلق بسقوط القمر، وقيل صفة للقمر أي لسقوط القمر الكائن لليلة ثالثة من الشهر. والحاصل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العشاء وقت مغيب القمر في الليلة الثالثة من الشهر، وكان هذا هو الغالب، وإلا فقد علم أنه كان يعجل تارة ويؤخر أخرى حسب ما يرى من المصلحة. قال العلامة في تعليقه على الترمذي: قد استدل بعض علماء الشافعية بهذا الحديث على استحباب تعجيل العشاء. انظر المجموع للنووي (ج3: ص55-58) وتعقبهم ابن التركماني في الجوهر النقي (ج1: ص45) فقال: إن القمر في الليلة الثالثة يسقط بعد مضيى ساعتين ونصف ساعة ونصف سبع ساعة من ساعات تلك الليلة المجزأة على ثنتي عشرة ساعة، والشفق

(4/106)


الأحمر يغيب قبل ذلك بزمن كثير، فليس في ذلك دليل على التعجيل عند الشافعية، ومن يقول بقولهم. قال: وقد يظهر هذا النقد صحيحا دقيقا في بادي الرأي، وهو صحيح من جهة أن الحديث لا يدل على تعجيل العشاء، وخطأ من جهة حساب غروب القمر، فلعل ابن التركماني راقب غروب القمر في ليلة ثالثة من بعض الشهور، ثم ظن أن موعد غروبه متحد في كل ليلة
رواه أبوداود، والدارمي.
ثالثة من كل شهر، وليس الأمر كذلك. ثم نقل لإثبات خطأ ابن التركماني جدولين لأوقات غروب القمر في الليالي الثالثة من شهور سنة 1345هـ. وسنة 1356هـ. بحساب مدينة القاهرة ذكر فيهما أوقات العشاء، وأوقات الفجر، وأوقات غروب القمر بالساعة العربية. بتقسيم اليوم والليلة إلى 24 ساعة واحتساب مبدأها من غروب الشمس. قال: ومنه يظهر خطأ ابن التركماني، فإنك إذا قسمت الوقت بين غروب الشمس وبين طلوع الفجر إلى اثنى عشر قسما – سماها ابن التركماني ساعات – وجدت أن القمر يغرب في بعض الليالي الثالثة قبل الوقت الذي ذكر، وفي بعض الليالي بعده. ومنه يظهر أيضا أن النعمان بن بشير لم يستقرأ أوقات صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء استقراء تاما، ولعله صلاها في بعض المرات في ذلك الوقت، فظن النعمان أن هذا الوقت يوافق غروب القمر لثالثة دائما، ومما يؤيد ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يلتزم وقتا معينا في صلاتها، كما قال جابر بن عبدالله في ذكر أوقات صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: والعشاء أحيانا يؤخرها، وأحيانا يعجل، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطأوا أخر. وهو حديث صحيح أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبوداود والنسائي. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد (ج4: ص274) والترمذي والحاكم (ج1: ص194) والبيهقي (ج1: ص448، 449). قال ابن العربي في عارضة الأحوذى (ج1: ص277): حديث النعمان حديث صحيح وإن لم يخرجه الإمامان فإن

(4/107)


أباداود خرجه عن مسدد، والترمذي عن ابن أبي الشوارب كلاهما عن أبي عوانة، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية، عن بشير بن ثابت، عن حبيب بن سالم، فأما حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير، فقال أبوحاتم: هو ثقة، وأما بشير بن ثابت، فقال: يحيى بن معين: إنه ثقة. ولا كلام فيمن دونهما، وإن كان هشيم قد رواه عن أبي بشر، عن حبيب بن سالم بإسقاط بشير. وما ذكرناه أصح. وكذلك رواه شعبة وغيره، وخطأ من أخطأ في الحديث لا يخرجه عن الصحة – انتهى. قلت: حديث شعبة أخرجه أحمد (ج4: ص272) عن يزيد بن هارون، والحاكم (ج1: ص194) من طريق يزيد بن هارون، عن شعبة، عن أبي بشر نحو رواية أبي عوانة. وحديث هشيم أخرجه أيضا أحمد (ج4: ص270) وأبوداود الطيالسي كلاهما عن هشيم، وأخرجه الحاكم (ج1: ص194) من طريق عمرو بن عون، عن هشيم، عن أبي بشر، عن حبيب بن سالم بغير ذكر واسطة بشير بن ثابت، قال الحاكم: تابعه رقبة مصقلة، عن أبي بشر، هكذا اتفق رقبة وهشيم على رواية هذا الحديث عن أبي بشر، عن حبيب بن سالم، وهو إسناد صحيح، وخالفهما شعبة وأبوعوانة فقالا: عن أبي بشر، عن بشير بن ثابت، عن حبيب بن سالم – انتهى. ورقبة بن مصقلة ثقة، وروايته عند النسائي عن محمد بن قدامة، عن جرير بن عبدالحميد. عن رقبة. وهذا كما ترى قد اختلفت الرواية عن أبي بشر، فبعضهم رواه عنه، عن حبيب بن سالم بلا واسطة، وبعضهم رواه عنه، عن بشير بن ثابت، عن حبيب. وقد رجح الترمذي وتابعه ابن العربي رواية من زاد عن بشير بن ثابت. قال الترمذي: وحديث أبي عوانة أصح عندنا؛ لأن يزيد بن هارون روى عن شعبة، عن أبي بشر نحو رواية أبي عوانة،
616- (28) وعن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر))

(4/108)


وصرح ابن العربي كما تقدم بأن هشيما أخطأ في روايته، ولكن متابعة رقبة بن مصقلة له تبعد احتمال الخطأ. والظاهر أن أبا بشر سمعه من حبيب وسمعه من بشير بن ثابت عن حبيب، فكان يرويه مرة هكذا ومرة هكذا كما تراه كثيرا في صنيع الرواة، والإسناد صحيح في الحالين كذا حققه صاحب التعليق، وهو تحقيق جيد.
616- قوله: (أسفروا بالفجر) أي صلوا صلاة الفجر إذا أضاء الفجر وأشرق. (فإنه) أي الإسفار بالفجر. (أعظم للأجر) احتج به الحنفية على أفضلية تأخير الفجر إلى الإسفار. وأجيب عنه بأن استمرار صلاته - صلى الله عليه وسلم - بغلس ومداومته على التغليس يشعر بأن المراد بأسفروا غير ظاهره، فقيل: يحمل على التأخير حتى يتبين وينكشف بحقيقة الأمر، ويعرف يقينا طلوع الفجر، وعلى هذا "أعظم" ليس للتفضيل. وقيل: يحمل على الليالي المقمرة؛ لأن أول الفجر لايتضح معها لغلبة نور القمر لنوره. وقيل: يحمل على الليالي القصيرة لإدراك النوم الصلاة كما في حديث معاذ بن جبل قال: بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فقال: يا معاذ إذا كان في الشتاء فغلس بالفجر، وأطل القراءة قدر ما يطيق الناس ولا تملهم، وإذا كان الصيف فأسفر بالفجر، فإن الليل قصير والناس ينامون، فأمهلهم حتى يدركوا. ذكره البغوي في شرح السنة، وأخرجه بقي بن مخلد في مسنده، وأبونعيم في الحلية. وقيل: المراد طولوا القراءة في صلاة الصبح حتى تخرجوا منها مسفرين، وهو الأوفق بحديث: ما أسفرتم بالفجر فإنه أعظم للأجر، قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين بعد ذكر حديث رافع بن خديج ما لفظه: وهذا بعد ثبوته إنما المراد به الإسفار دواما لا ابتداء فيدخل فيها مغلسا، ويخرج منها مسفرا كما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم -، فقوله موافق لفعله لا مناقض له، وكيف يظن به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه – انتهى. وهذا هو الذي اختباره الطحاوي في شرح الآثار، وبسط الكلام فيه، وقال

(4/109)


في آخره: فالذي ينبغي الدخول في الفجر في التغليس والخروج منها في وقت الإسفار، على موافقة ما روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن – انتهى. ولا يخدش هذا الجواب حديث عائشة المتقدم: فتنصرف النساء ما يعرفن من الغلس؛ لأنه يمكن أن يقال: إنه كان أحيانا. وقيل في جواب حديث رافع هذا: أن قوله: أسفروا بالفجر، مروي بالمعنى، والأصل أصبحوا بالصبح، كما في رواية أبي داود. قال الجزري: أي صلوها عند طلوع الصبح، يقال: أصبح الرجل إذا دخل في الصبح – انتهى. قال السيوطي في حاشية أبي داود: وبهذا يعرف أن رواية من روى هذا الحديث بلفظ "أسفروا بالفجر" مروية بالمعنى، وأنه دليل على أفضلية التغليس بها لا على التأخير إلى الإسفار-انتهى. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: تعين أن "أسفروا " منقول بالمعنى، محتاج إلى الدليل، إذ يمكن العكس. نعم! قد سقط استدلال من يقول بالإسفار بلفظ "أسفروا"؛ لاحتمال أنه من تصرف الرواة، والأصل أصبحوا، كما سقط استدلال من يقول بالتغليس بلفظ "أصبحوا" لاحتمال أنه من تصرف الرواة، إلا أن يقال
رواه الترمذي، وأبوداود، والدارمي، وليس عند النسائي: فإنه أعظم للأجر.
?الفصل الثالث?
617- (29) عن رافع بن خديج، قال: ((كنا نصلي العصر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم تنحر الجزور فتقسم عشر قسم، ثم تطبخ، فنأكل لحما نضيجا قبل مغيب الشمس))

(4/110)


الموافق لأدلة التغليس لفظ أصبحوا، وتلك أدلة كثيرة، ولا دليل على الإسفار إلا هذا الحديث بلفظ "أسفروا" والأصل عدم التعارض، فالظاهر أن الأصل لفظ "أصبحوا" الموافق لباقي الأدلة لا لفظ "أسفروا" المعارض، وإنما جاء لفظ "أسفروا" من تصرف الرواة، لكن قد يقال "أسفروا" هو الظاهر لا "أصبحوا"؛ لأنه لو كان "أصبحوا" صحيحا لكان مقتضى قوله "أعظم للأجر" أنه بلا إصباح تجوز الصلاة وفيها أجر دون أجر، ويمكن الجواب بأن معنى "أصبحوا" تيقنوا بالإصباح بحيث لا يبقى فيه أدنى وهم، ولو كان ذلك الوهم غير مناف للجواز، وذلك لأنه إذا قوى الظن بطلوع الفجر يجوز الصلاة ويثاب عليها، لكن التأخير حتى يتبين وينكشف بحيث لا يبقى وهم ضعيف فيه أولى وأحسن، فأجره أكثر، وعلى هذا المعنى حمل الإسفار إن صح توفيقا بين الأدلة – انتهى كلام السندي. قلت: أحسن الأجوبة وأسلمها وأولاها ما قاله الإمام ابن القيم بأن المراد الإسفار دواما لا ابتداء، والله أعلم. (رواه الترمذي) وقال حديث حسن صحيح. (وأبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (والدارمي) وأخرجه أيضا الطيالسي وأحمد (ج3: ص465، وج4: ص140، 142، 143) وابن ماجه والبيهقي وابن حبان والطبراني والطحاوي في معاني الآثار، قال الحافظ في الفتح: رواه أصحاب السنن، وصححه غير واحد.

(4/111)


617- قوله: (الجزور) بفتح الجيم، قال الطيبي: هو البعير ذكرا كان أو أنثى إلا أن اللفظ مؤنثة، يقال: هذه الجزور وإن أردت ذكرا – انتهى. وقال النووي: الجزور-بفتح الجيم- لا يكون إلا من إلإبل، وقال المجد في القاموس: الجزور البعير، أو خاص بالناقة المجزورة، الجمع جزائر، وجزر، وجزرات. (فتقسم عشر قسم) بكسر القاف وفتح السين، جمع قسمة. (ثم تطبخ) بالتأنيث، وفي بعض النسخ "نطبخ" بالنون، وكذا وقع في صحيح مسلم، وهو من باب نصر ومنع. (لحما نضيجا) أي مشويا، وقال الجزري: النضيج المطبوخ، فعيل بمعنى مفعول. (قبل مغيب الشمس) قال الطيبي: في تخصيص القسم بالعشر، والطبخ بالنضج، وعطف تنحر على نصلي إشعار بإمتداد الزمان، وأن الصلاة واقعة أول الوقت. قلت: الحديث يدل على مشروعية المبادرة بصلاة العصر وتعجيلها، فإن نحر الجزور ثم قسمتها ثم طبخها ثم أكلها نضجا، ثم الفراغ من ذلك قبل غروب الشمس من أعظم المشعرات بالتبكير بصلاة العصر، فهو من حجيج
متفق عليه.
618- (30) وعن عبدالله بن عمر، قال: ((مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري: أشيء شغله في أهله أو غير ذلك؟ فقال حين خرج: إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة. ثم أمر المؤذن، فأقام الصلاة وصلى)) رواه مسلم.
الجمهور، وهو يرد ما قاله أبوحنيفة من أن أول وقت العصر مصير ظل الشيء مثليه، وقد خالفه الناس في ذلك، ومن جملة المخالفين له أصحابه، وقد تقدم البسط في ذلك. (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الشركة، وهو من الأحاديث المذكورة في غير مظنتها، وأخرجه مسلم في الصلاة، واللفظ له، وفي الباب عن أنس عند مسلم.

(4/112)


618- قوله: (مكثنا) بفتح الكاف وضمها، أي لبثنا في المسجد. (ذات ليلة) أي ليلة من الليالي (صلاة العشاء) ظرف لننتظر أي ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت صلاة العشاء. (الآخرة) بالجر على النعت، ولعل تأنيثها باعتبار مرادف العشاء، وهو العتمة، وجوز النصب على أنها صفة الصلاة أو بتقدير أعني. (حين ذهب) أي مضى. (أو بعده) عطف على حين ذهب وأو للشك من الراوي. (أشيء شغله) أي عن تقديمها المعتاد. (أو غير ذلك) بأن قصد بتأخيرها إحياء طائفة كثيرة من أول الليل بالسهر في العبادة التي هي انتظار الصلاة. وغير بالرفع عطف على شيء، وبالجر عطف على أهله، قاله القاري. (فقال حين خرج) من الحجرة الشريفة. (ما ينتظرها أهل دين غيركم)؛ لأنها صلاة مخصوصة بهذه الأمة كما في حديث معاذ بن جبل المتقدم، أي فانتظاركم لها شرف مخصوص بكم فلا تكرهوه. قال القاري: غيركم بالرفع على البدل، وبالنصب على الاستثناء، والأول هو المختار، أي انتظار هذه الصلاة من بين سائر الصلوات من خصوصياتكم التي خصكم الله بها، فكلما زدتم يكون الأجر أكمل مع أن الوقت زمان يقتضي الاستراحة، فالمثوبة على قدر المشقة-انتهى. (ولو لا أن يثقل) بصيغة التذكير أي التأخير أو هذا الفعل، وفي سنن أبي داود: تثقل، بالتأنيث أي الصلاة هذه الساعة. (لصليت بهم) أي دائما. (هذه الساعة) قال الطيبي: أي لزمت على صلاتها في مثل هذه الساعة. وفي الحديث أنه يستحب للإمام والعالم إذا تأخر عن أصحابه، أو جرى منه ما يظن أنه يشق عليهم أن يعتذر إليهم ويقول: لكم في هذا مصلحة من جهة كذا، أو كان لي عذر، أو نحو هذا. وفيه أيضا التصريح بأن ترك التأخير إنما هو للمشقة والثقل على الأمة. واختلفوا هل الأفضل تقديمها أم تأخيرها ويأتي أيضاح القول الحق فيه في شرح حديث أبي سعيد الآتي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي.

(4/113)


619- (31) وعن جابر بن سمرة، قال: ((كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يصلي الصلوات نحوا من صلاتكم،
وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئا، وكان يخفف الصلاة)) رواه مسلم.
620- (32) وعن أبي سعيد، قال: ((صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العتمة، فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال: خذوا مقاعدكم، فأخذنا مقاعدنا، فقال: إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم، لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل)
619- قوله: (نحوا) أي قريبا. (من صلاتكم) أي في هذه الأوقات المعتادة لكم. (وكان يؤخر العتمة) أي العشاء، وإطلاق العتمة على العشاء لبيان الجواز وأن النهي للتنزيه لا للتحريم، أو للتعريف؛ لأنها أشهر عندهم. (بعد صلاتكم) في وقتكم المعتاد. (شيئا) أي يسيرا أو كثيرا. (وكان يخفف الصلاة) وفي صحيح مسلم: وكان يخفف في الصلاة. أي بزيادة "في" قال ابن حجر: أي إذا كان إماما، وذلك أغلبي أيضا لما يأتي أنه عليه الصلاة والسلام طول بهم حيث قرأ الأعراف في ركعتي المغرب-انتهى. والحديث يدل على استحباب مطلق التأخير للعشاء، وهو مقيد بنصف الليل أو ثلثه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي مختصرا بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخر العشاء الآخرة.

(4/114)


620- قوله: (صلينا) أي أردنا أن نصلي جماعة. (نحو) أي قريب. (من شطر الليل) أي نصفه. (فقال) أي فخرج فقال: (خذوا) أي الزموا. (فأخذنا مقاعدنا) أي ما تفرقنا عن أماكننا. (إن الناس) أي غير أهل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (قد صلوا) بفتح اللام. (وأخذوا مضاجعهم) أي مكانهم للنوم يعني وناموا. (لن تزالوا) وفي بعض نسخ أبي داود: لم تزالوا. (في صلاة) أي حكما وثوابا، والتنكير للتعميم لئلا يتوهم خصوص الحكم بصلاة العشاء، أي أى صلاة انتظرتموها فأنتم فيها مادمتم تنتظرونها. (ولولا ضعف الضعيف) الخ. هو بضم أو فتح فسكون، والسقم بضم فسكون أو بفتحتين، ومقتضى الموافقة أن يختار فيهما الضم مع السكون، ثم السقم هو المرض، والضعف أعم فقد يكون بدونه، أي لو لا مخافة المشقة عليهما. زاد أحمد في روايته: وحاجة ذي الحاجة. (لأخرت) أي دائما. (هذه الصلاة) أي العشاء. (إلى شطر الليل) أي نصفه أو قريبا منه وهو الثلث. والحديث فيه تصريح بأفضلية التأخير لو لا ضعف الضعيف، وسقم السقيم، وحاجة ذي الحاجة، وهو من حجج من قال: بأن التأخير أفضل، قال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث أبي سعيد هذا وحديث أبي هريرة المتقدم بلفظ "لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه" ما نصه: فعلى هذا من وجد به قوة على تأخيرها، ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمورين، فالتأخير في حقه أفضل، وقد قرر النووي ذلك في شرح مسلم، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشافعية وغيرهم، والله أعلم. ونقل انب المنذر عن الليث وإسحاق: أن
رواه أبوداود والنسائي.
621- (33) وعن أم سلمة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد تعجيلا للظهر منكم، وأنتم أشد
تعجيلا للعصر منه)) رواه أحمد، والترمذي.

(4/115)


المستحب تأخير العشاء إلى قبل الثلث، وقال الطحاوي: يستحب إلى الثلث، وبه قال مالك وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي في الجديد، وقال في القديم التعجيل أفضل، وكذا قال في الإملاء، وصححه النووي، وجماعة، وقالوا: إنه مما يفتى به في القديم، وتعقب بأنه ذكره في الإملاء وهو من كتبه الجديدة والمختار من حيث الدليل أفضلية التأخير، ومن حيث النظر التفضيل، والله أعلم-انتهى كلام الحافظ. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه، وغيرهم، واللفظ المذكور لأبي داود. وقال الشوكاني: وإسناده صحيح.

(4/116)


621- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد تعجيلا للظهر منكم) فيه دليل على استحباب تعجيل الظهر، ونحوه ما روى الترمذي عن عائشة: ما رأيت أحدا أشد تعجيلا للظهر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من أبي بكر، ولا من عمر. قال ابن قدامة في المغنى: لا نعلم في استحباب لتعجيل الظهر في غير الحر والغيم خلافا-انتهى. (وأنتم أشد تعجيلا للعصر منه) قال الطيبي: ولعل هذا للإنكار عليهم بالمخالفة. قال القاري: الظاهر أن الخطاب لغير الأصحاب، قال: وفي الجملة يدل الحديث على استحباب تأخير العصر كما هو مذهبنا. قلت: وكذا استدل به العيني في البناية شرح الهداية على أفضلية تأخير العصر. وقد أجاب عن هذا الاستدلال الشيخ عبدالحي اللكنوي فقال: ولا يخفى على الماهر ما في الاستناد بهذا الحديث، فإنه إنما يدل على كون التعجيل في الظهر أشد من التعجيل في العصر، لا على استحباب التأخير. وقال شيخنا في شرح الترمذي بعد نقل كلام القاري: ليس فيه دلالة على استحباب تأخير العصر، نعم فيه أن الذين خاطبتهم أم سلمة كانوا أشد تعجيلا للعصر منه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لايدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤخر العصر، حتى يستدل به على استحباب التأخير. وقال صاحب العرف الشذى ما لفظه: حديث الباب ظاهره مبهم والتأخير ههنا إضافي، وإطلاق الألفاظ الإضافية ليست بفاصلة-انتهى. ثم قال بعد هذا الاعتراف: نعم يخرج شيء لنا-انتهى. قال شيخنا: لا يخرج لكم شيء من هذا الحديث أيها الأحناف، كيف وظاهره مبهم، والتأخير فيه إضافي، وأطلق فيه اللفظ الإضافي، وهو ليس بفاصل، وقد ثبت بأحاديث كثيرة صحيحة صريحة استحباب التعجيل، وترك الأحاديث الصحيحة الصريحة في أفضلية التعجيل، والتشبث بمثل هذا الحديث ليس إلا من أثر التقليد، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. (رواه أحمد) (ج6: ص289، 310). (والترمذي) قال العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على

(4/117)


الترمذي: لم أجده في شيء من الكتب الستة وغيرها إلا في الترمذي ومسند أحمد.
622- (34) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الحر أبرد بالصلاة وإذا كان البرد عجل)) رواه النسائي.
623- (35) وعن عبادة الصامت، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها ستكون عليكم بعدي أمراء يشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها. فقال رجل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! أصلي معهم؟ قال: نعم)) رواه أبوداود.
622- قوله: (أبرد) من الإبراد وهو الدخول في البرد، والباء للتعدية أي أدخلها في البرد، وأخرها عن شدة الحر في أول الزوال، وكان حد التأخير غالبا أن يظهر الفئ للجدر. (بالصلاة) أي بصلاة الظهر، ففي رواية الإسماعيلي والبيهقي: كان إذا كان الشتاء بكر بالظهر، وإذا كان الصيف أبرد بها. والحديث فيه دليل على استحباب تأخير الظهر عن أول وقته في الحر، وقد تقدم الكلام فيه. واختلفوا في مشروعية الإبراد بالجمعة، وليس عند القائلين بالإبراد بالجمعة نص، إنما هو بالقياس على الظهر. (رواه النسائي) قال المجد بن تيمية في المنتقى: وللبخاري نحوه يعني حديث أنس الذي أخرجه البخاري في "باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة" لفظ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة. وسيأتي في باب الخطبة والصلاة من أبواب الجمعة.

(4/118)


623- قوله: (إنها) الضمير للقصة ويفسرها ما بعدها. (يشغلهم) بفتح الياء والغين المعجمة، ويجوز أن يكون بضم الياء وكسر الغين، وفي سنن أبي داود بالتاء بدل التحتية، أي يمنعهم. (أشياء) أي أمور. (عن الصلاة) أي عن أداء جنس الصلاة. (حتى يذهب وقتها) أي وقتها مطلقا، فإنهم كانوا يخرجونها عن جميع وقتها كما تقدم. وقيل وقتها المستحب المختار. (فصلوا) أي إذا كان كذلك فصلوا أنتم أي في بيوتكم كما في حديث ابن مسعود عند ابن ماجه. (الصلاة لوقتها) أي ولو منفردين لكن على وجه لا يترتب عليه فتنة ومفسدة. (أصلي) بحذف حرف الاستفهام. (معهم) أي مع الإمام والجماعة إذا أدركتها معهم. (قال: نعم)؛ لأنها زيادة خير ودفع شر، زاد أحمد وكذا أبوداود "إن شئت" بعد قوله نعم. ولا أدري لم لم يذكرها المصنف، وفي لفظ لأحمد: واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا. والحديث فيه دليل على وجوب تأدية الصلاة لوقتها وترك ما عليه أمراء الجور من التأخير، وعلى استحباب الصلاة معهم؛ لأن الترك من دواعي الفرقة، وعدم الوجوب لقوله في هذا الحديث: إن شئت، وقوله: تطوعا، وفيه دليل على أن المعادة نافلة، وأن إمامة الفاسق تجوز، وسيأتي الكلام عليه. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا أحمد (ج5: ص314، 315) وابن ماجه، قال الشوكاني: الحديث رجال إسناده في سنن أبي داود ثقات. قلت: الحديث حسن أو صحيح، ويشهد له حديث
624- (36) وعن قبيصة بن وقاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يكون عليكم أمرآء من بعدي يؤخرون الصلاة، فهي لكم، وهي عليهم؛ فصلوا معهم ما صلوا القبلة)) رواه أبوداود.
625- (37) وعن عبيدالله بن عدي بن الخيار: ((أنه دخل على عثمان وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة،
أبي ذر المقدم، وحديث ابن مسعود عند ابن ماجه، وحديث قبيصة الآتي وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1: ص324، 325).

(4/119)


624- قوله: (وعن قبيصة) بفتح أوله وكسر الموحدة. (بن وقاص) بفتح الواو وتشديد القاف السلمي، ويقال: الليثي وهو أصح، صحابي نزل البصرة، له هذا الحديث فقط، لا يعرف له غير هذا الحديث الواحد، ذكره في الصحابة البخاري، وابن أبي خيثمة، وأبوعلي بن السكن، وأبوزرعة الرازي، وغيرهم. (يؤخرون الصلاة) أي عن وقتها. (فهي لكم وهي عليهم) أي الصلاة المؤخرة عن الوقت نافعة لكم؛ لأن تأخيركم للضرورة تبعا لهم ومضرة عليهم؛ لأنهم يقدرون على عدم التأخير وإنما شغلهم أمور الدنيا عن أمر العقبى. وقال الطيبي : أي إذا صليتم أول وقتها ثم صليتم معهم تكون منفعة صلاتكم لكم، ومضرة الصلاة ووبالها عليهم لما أخروها، كما في الفصل الأول في الحديث الثالث عشر. (فصلوا) بضم اللام. (معهم) أي مع الأمراء. (ما صلوا) بفتح اللام. (القبلة) أي ماداموا مصلين متوجهين إلى القبلة، وهي الكعبة الحرام، يعني ما داموا مسلمين صلوا معهم الصلاة وإن أخروها عن أوقاتها. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري.

(4/120)


625- قوله: (وعن عبيدالله) بالتصغير. (بن عدي) بفتح العين وكسر الدال وتشديد الياء. (بن الخيار) بكسر الخاء معجمة وتخفيف الياء التحتية، ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي المدني، يقال: قتل أبوه ببدر كافرا، ولد عبيدالله في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكره ابن حبان في الصحابة، وقال: له رؤية، ثم ذكره في ثقات التابعين. وذكره الحافظ في الإصابة في القسم الثاني من حرف العين، وقال في التقريب: كان هو في الفتح مميزا فعد في الصحابة لذلك، وعده العجلي وغيره في ثقات التابعين، مات في خلافة الوليد بن عبدالملك، وقيل سنة (90). قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن عبيدالله بن عدي بن الخيار. وكان من فقهاء قريش وعلمائهم، وقد أدرك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متوافرين. (أنه دخل على عثمان) قيل: كان عثمان من أقارب عبيدالله بن عدي. (وهو محصور) أي محبوس في داره، ممنوع عن أموره، حصره أهل الفتنة من قبل اختلاط فسقة، اجتمعوا عليه من مصر وغيرها لإرادة خلعه أو قتله، لما زعموا من أمره بقتل محمد بن أبي بكر وغير ذلك مما هو بريء منه. (إمام عامة) أي جماعة، يعني أنت أمير المؤمنين
ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج، فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤا فاجتنب إساءتهم)) رواه البخاري.

(4/121)


وخليفة المسلمين وإمامهم لإجماع أهل الشورى وغيرهم على إمامته. وفي رواية الإسماعيلي: وأنت الإمام، أي الإمام الأعظم. (ونزل بك ما ترى) أي من الحصار وخروج الخوارج عليك. (ويصلي لنا) أي يؤمنا. (إمام فتنة) أي رئيسها عبدالرحمن بن عديس البلوي أحد رؤوس المصريين الذين جلبوا على عثمان أهل مصر وحصروه في داره، أو هو كنانة بن بشر أحد رؤوسهم أيضا، قال الحافظ وهو المراد هنا. (ونتحرج) وفي رواية عند الإسماعيلي وأبي نعيم: وإنا لنتحرج من الصلاة معه، والتحرج التأثم أي نخاف الوقوع في الإثم بمتابعته، وأصل الحرج الضيق ثم استعمل للإثم؛ لأنه يضيق على صاحبه. (الصلاة أحسن ما يعمل الناس) الصلاة مبتدأ وقوله: أحسن مضاف إلى ما بعده خبره، أى الصلاة أفضل أعمال المسلمين. (فإذا أحسن الناس فأحسن معهم) ظاهره أنه أذن ورخص له في الصلاة معهم، كأنه يقول: لا يضرك كونه مفتونا بفسق، بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه واترك ما افتتن به. قال الطيبي: وفيه دليل على جواز الصلاة خلف الفرقة الباغية وكل فاجر-انتهى. (وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم) من قول أو فعل أو اعتقاد. لا صلاة التي هي أحسن أنواع الإحسان معهم، وفيه التحذير من الفتنة والدخول فيها، ومن جميع ما ينكر من قول أو فعل أو اعتقاد، وفي هذا الأثر الحض على شهود الجماعة ولاسيما في زمن الفتنة لئلا يزداد تفرق الكلمة، وفيه أن الصلاة خلف من تكره الصلاة خلفه أولى من تعطيل الجماعة. واعلم أنهم اختلفوا في صحة إمامة الفاسق بجارحة واعتقاد، والراجح عندي أنه يجوز الإئتمام بالفاسق إذا لم يكن فسقه بجوارحه أو اعتقاده من الأمور التي يكفر بها صاحبها، لما لم يصح شيء في المنع عن الإئتمام بهم، وقد ورد ما يدل على صحة إمامته عند أبي داود وغيره، وهو وإن كان ضعيفا لكنه قد تأيد بما كان عليه السلف الصالح من الصلاة خلف الأمراء المشتهرين بظلم العباد والإفساد في البلاد، وبما هو الأصل والأصيل، وهو أن من صحت

(4/122)


صلاته لنفسه صحت لغيره، فلا نتنقل عن هذا الأصل إلى غيره إلا لدليل ناهض، نعم يجب أن يجعل المصلون إمام صلاتهم من خيارهم عند القدرة، كما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس مرفوعا: اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم، وفي إسناده سلام بن سليمان المدائني وهو ضعيف، وأخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي عنه - صلى الله عليه وسلم -: إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم. ولكن ليس محل النزاع إلا أنه لا يصح أن يكون الفاسق ومن في حكمه إماما، لا في أن الأولى أن يكون الإمام من الخيار، فإن ذلك لا خلاف فيه، وسيأتي بسط الكلام في هذه المسألة في باب الإمامة إن شاء الله تعالى. (رواه البخاري) في باب إمامة المفتون والمبتدع، قال: وقال لنا محمد بن يوسف: حدثنا الأوزاعي قال: حدثنا الزهري، عن حميد بن عبدالرحمن، عن عبيدالله بن عدي بن الخيار، الخ. وإنما عبر بصيغة "قال لنا" ولم يقل حدثنا أو أخبرنا مع متصل من حيث اللفظ والمعنى؛ لأن المتن
(3) باب فضائل الصلاة
?الفصل الأول?
626- (1) عن عمارة بن رويبة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لن يلج النار أحد صلى قبل
طلوع الشمس، وقبل غروبها. يعني الفجر والعصر))

(4/123)


موقوف. قال الحافظ: والذي ظهر لي باستقراء أنه لا يعبر بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن موقوفا، أو كان فيه راو ليس على شرطه، والذي هنا من قبيل الأول، وقد وصله الإسماعيلي، ورواه أبونعيم الأصبهاني. (باب فضائل الصلاة) كذا وقع في بعض النسخ، وفي بعضها "باب في فضل الصلوات في مواقيتها"، وفي بعضها "باب" لا غير، وهو بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا باب، ويجوز فيه الوقف على سبيل تعداد الكلمات فلا إعراب له حينئذ؛ لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، قال ابن حجر: أي في متمات فضائل الصلوات وأوقاتها، ووقع في المصابيح فصل لا غير، قال ابن الملك: إنما أفرد هذا الفصل عما تقدم؛ لأن أحاديثه من جنس آخر-انتهى.

(4/124)


626- قوله: (عن عمارة) بضم العين وتخفيف الميم. (بن رويبة) بضم الراء وفتح الواو وسكون التحتية بعدها موحدة. الثقفي، يكنى أبا زهير الكوفي. صحابي نزل الكوفة. له تسعة أحاديث، انفرد له مسلم بحديثين، تأخر إلى ما بعد السبعين. (لن يلج) أي لن يدخل. (النار) أي أصلا للتعذيب، وقيل: أو على وجه التأبيد (صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها يعني الفجر والعصر) أي داوم على أدائهما، وخص الصلاتين بالذكر؛ لأن وقت الصبح وقت لذيذ السكرى والنوم. والقيام فيه أشق على النفس من القيام في غيره. ووقت صلاة العصر وقت قوة الاشتغال بالتجارة، وحينئذ يحمى البيع والشراء، فمن يتلهى عنه إلا من كمل دينه. قال تعالى. ?رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة? [24: 37]، والمسلم إذا حافظ عليهما مع ما فيه من التثاقل والشاغل كان الظاهر من حاله أن يحافظ على غيرهما أشد محافظة، وما عسى أن يقع منه تفريط، ولأن الوقتين مشهودان يشهدهما ملائكة الليل والنهار، ويرفعون فيهما أعمال العباد إلى الله تعالى، فبالحري أن من داوم عليهما لا يدخل النار أصلا، ويدخل الجنة لصيرورة ذلك مكفر الذنوب، وإن كان هذا ينافي ما عليه الجمهور من اختصاص كفارة الصلاة بالصغائر، ولكن فضل الله واسع، وقيل: خصتا بالذكر؛ لأن أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، كما في حديث ابن عمر عند أحمد والترمذي، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، الخ. يدل على رؤية الله تعالى والنظر إلى وجهه قد يرجى نيله بالمحافظة على
رواه مسلم.
627- (2) وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى البردين دخل الجنة)) متفق عليه.
628- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يتعاقبون

(4/125)


هاتين الصلاتين اللتين تؤديان طرفي النهار غدوة وعشية. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي.
627- (من صلى البردين) بفتح الموحدة وسكون الراء تثنية برد، قال البغوي: أراد بهما صلاة الفجر والعصر لكونهما في طرفي النهار، وقال الخطابي: سميتا بردين؛ لأنهما تصليان في بردي النهار، وهما طرفاه حين يطيب الهواء وتذهب سورة الحر- انتهى. قال التوربشتي: أراد به المحافظة على صلاتي الصبح والعصر لما في حديث فضالة بن عبيد (عند أبي داود والحاكم): حافظ على العصرين، قال: وما كانت لغتنا، فقامت: وما العصران؟ قال: صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها. ومن المفهوم الواضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخصص هاتين الصلاتين تسهيلا للأمر في إضاعة غيرهما من الصلوات، أو ترخيصا لتأخيرها عن أوقاتها، وإنها أمر بأدائهما في الوقت المختار والمحافظة عليهما في جماعة لما فيهما من الفضل والزيادة في الأجر. قال: وهذا الذي ذكرناه من طريق المفهوم في تفسير هذا الحديث، فمعظمه مذكور في حديث فضالة، فإنه لما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: حافظ على الصلوات، قال: إن هذه ساعات لي فيها أشغال، فمرني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني، فقال: حافظ على العصرين، وقد علم - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا حافظ عليهما مع ما في وقتهما من الشواغل والقواطع لم يكن ليضيع غيرهما من الصلوات، والأمر في إقامة ذلك أيسر- انتهى. (دخل الجنة) أي دخولا أوليا، وهو جواب الشرط وعدل عن الأصل وهو فعل المضارع كأن يقول: يدخل الجنة، إرادة للتأكيد في وقوعه يجعل ما سيقع كالواقع. (متفق عليه) في المحافظة على صلاتي الصبح والعصر أحاديث عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما، ذكرها المنذري في الترغيب، وعلي المتقي في الكنز، والهيثمي في مجمع الزوائد.

(4/126)


628- قوله: (يتعاقبون) أي تأتي طائفة عقب طائفة، ثم تعود الأولى عقب الثانية، والواو في يتعاقبون لعلامة جمع الفاعل المذكر على لغة بلحارث، وليس بفاعل، فإن إظهار ضمير الجمع والتثنية في الفعل إذا تقدم جائز عندهم، وهم القائلون أكلوني البراغيث. قال القرطبي: هذه لغة فاشية، ولها وجه في القياس صحيح، وعليها حمل الأخفش قوله تعالى: ?وأسروا النجوى الذين ظلموا? [21: 3] وقيل: فاعل "يتعاقبون" مضمر، تقديره ملائكة يتعاقبون، وقوله: ملائكة بالليل، بدل من الضمير الذي فيه، أو بيان، كأنه قيل: من هم؟ فقيل ملائكة. وقيل: "ملائكة بالليل" مبتدأ خبره"يتعاقبون فيكم" تقدم عليه لفظا، هذا هو المشهور في مثله. ورد بأن في هذا الحديث وقع اختصار من الرواة، ففي رواية البخاري في بدء الخلق "الملائكة يتعاقبون ملائكة بالليل وملائكة بالنهار"، وحينئذ ففي سياقه هنا إضمار الفاعل، كأن الراوي اختصر المسوق هنا من المذكور في بدء الخلق, وأخرجه البزار، وابن خزيمة، والسراج من وجه آخر بلفظ: إن لله ملائكة
فيكم ملائكة في الليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم- وهو أعلم بهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون))

(4/127)


يتعاقبون. (فيكم) أي في المصلين. (ملائكة) هم الحفظة عند الأكثرين، وقال القرطبي: الأظهر عندي أنهم غيرهم، قال الحافظ: ويقويه أنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار، وبأنهم لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها في قوله: كيف تركتم عبادي؟- انتهى. وتنكير ملائكة في الموضعين ليفيد أن الثانية غير الأولى كقوله تعالى: ?غدوها شهر ورواحها شهر? [34: 12]. (ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر) أي في وقتهما. فإن قلت: التعاقب يغائر الاجتماع، أجيب بأن تعاقب الصنفين لا يمنع اجتماعهما؛ لأن التعاقب أعم من أن يكون معه اجتماع هكذا، أو لا يكون معه اجتماع كتعاقب الضدين، أو المراد حضورهم معهم الصلاة في الجماعة، فينزل على حالين، وتخصيص اجتماعهم معهم في الورود والصدور بأوقات العبادة تكرمة بالمؤمنين ولطفا بهم؛ لتكون شهادتهم بأحسن الثناء وأطيب الذكر، ولم يجعل اجتماعهم معهم في حال خلواتهم بلذاتهم وانهماكهم على شهواتهم، فلله الحمد. (الذين باتوا فيكم) وفي رواية للنسائي: الذين كانوا فيكم، وهي أوضح لشمولها لملائكة الليل والنهار، وفي الأولى استعمال لفظ "بات" في الإقامة مجازا، فلا تختص بليل دون نهار ولا نهار دون ليل، فكل طائفة منهم إذا صعدت سئلت، ويكون قوله "فيسألهم" أي كلا من الطائفتين في الوقت الذي يصعد فيه، والدليل على حمل بات على الإقامة رواية النسائي، بل قد وقع في حديث أبي هريرة هذا من وجه آخر عند ابن خزيمة في صحيحه مرفوعا التصريح بسؤال كل من الطائفتين، ولفظه: تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعد ملائكة الليل وتثبت ملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة العصر فتصعد ملائكة النهار وتبيت ملائكة الليل، فيسألهم ربهم كيف تركتم عبادي؟ الحديث. فهذه الرواية تزيل الإشكال وتغني عن كثير من الاحتمالات

(4/128)


التي ذكرها الشراح، فهي المعتمدة ويحمل ما نقص منها على تقصير بعض الرواة. (فيسألهم) قيل: الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم، وذلك لإظهار الحكمة في خلق الإنسان في مقابلة من قال من الملائكة: ?أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم مالا تعلمون? [2: 30] أي وقد وجد فيهم من يسبح ويقدس مثلكم بنص شهادتكم. وقال عياض: هذا السؤال على سبيل التعبد للملائكة، كما أمروا أن يكتبوا أعمال بني آدم، وهو سبحانه وتعالى أعلم من الجميع بالجميع. (وهو أعلم بهم) أي بالمصلين من الملائكة، فحذف صلة أفعل التفضيل. (كيف تركتم عبادي) وقع السؤال عن آخر الأعمال؛ لأن الأعمال بخواتيمها، قاله ابن أبي جمرة. (تركناهم وهم يصلون وأتيناهم) أي جئناهم ونزلنا عليهم. (وهم يصلون) لم يراعوا الترتيب الوجودي؛ لأنهم بدءوا بالترك قبل الإتيان، والحكمة فيه أنهم
متفق عليه.
629- (4) وعن جندب القسري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(4/129)


طابقوا السؤال؛ لأنه قال: كيف تركتم، ولأن المخبر به صلاة العباد والأعمال بخواتيمها، فناسب ذلك إخبارهم عن آخر عملهم قبل أوله، وقوله: تركناهم وهو يصلون، ظاهره أنهم فارقوهم عند شروعهم في العصر، سواء تمت أم منع مانع من إتمامها، وسواء شرع الجميع فيها أم لا؛ لأن المنتظر في حكم المصلي، ويحتمل أن يكون المراد بقوله "وهم يصلون" أي ينتظرون المغرب، وقال ابن التين: الواو في قوله "وهم يصلون" واو للحال أي تركناهم على هذه الحال، ولا يقال: يلزم منه أنهم فارقوهم قبل انقضاء الصلاة فلم يشهدوها معهم، والخبر ناطق بأنهم يشهدونها؛ لأنا نقول: هو محمول على أنهم شهدوا الصلاة مع من صلاها في أول وقتها، وشهدوا من دخل فيها بعد ذلك، ومن شرع في أسباب ذلك، فإن قيل: فما الفائدة في قولهم "وأتيناهم" وكان السؤال عن كيفية الترك؟ أجيب بأنهم أجابوا بأكثر مما سئلوا؛ لأنهم علموا أنه سؤال يستدعي التعطف على بني آدم فزادوا في الجواب إظهارا لبيان فضيلة المصلين، وحرصا على ذكر ما يوجب مغفرة ذنوبهم، كما هو وظيفتهم فيما أخبر الله عنهم: ? ويستغفرون للذين آمنوا?. ووقع في صحيح ابن خزيمة في آخر هذا الحديث: فاغفر لهم يوم الدين، ويستفاد من الحديث أن الصلاة أعلى العبادات؛ لأنه عليها وقع السؤال والجواب. وفيه التنبيه على أن الفجر والعصر من أعظم الصلوات لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة، والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذ في طاعة بورك له في رزقه وفي عمله، ويترتب عليه حكمة الأمر بالحافظة عليهما والاهتمام بهما. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي بدء الخلق، وفي التوحيد، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وغيرهما.

(4/130)


629- قوله: (وعن جندب) بضم أوله، والدال تفتح وتضم، هو جندب بن عبدالله بن سفيان البجلي ثم العلقي، يكنى أبا عبدالله، وربما نسب إلى جده، وصحابي، وقال البغوي عن أحمد: ليست له صحبة قديمة. مات بعد الستين، وتقدم ذكره. (القسري) بفتح القاف وسكون السين المهملة، قال القارئ: هو كذلك في جميع النسخ المقروأة المصححة الحاضرة من نسخ المشكاة، وقال التوربشتي: في سائر نسخ المصابيح: القشري بضم القاف والشين والمعجمة وهو غلط، نقله الطيبي- انتهى. وقال النووي: القسري هو بفتح القاف وإسكان السين المهملة، وقد توقف بعضهم في صحة قولهم القسري؛ لأن جندبا ليس من بني قسر إنما هو بجلي علقي، وعلقة بطن من بجيلة، هكذا ذكره أهل التواريخ والأنساب والأسماء، وقسر هو أخو علقة. قال القاضي: لعل لجندب حلفا في بني قسر أو سكنا أو جوارا فنسب إليهم لذلك، أو لعل بني علقة ينسبون إلى بني عمهم قسر كغير واحدة من القبائل ينسبون بنسبة بني عمهم لكثرتهم أو شهرتهم- انتهى.
من صلى صلاة الصبح؛ فهو في ذمة الله، فلا يطلبكم الله من ذمته بشيء؛ فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)) رواه مسلم. وفي بعض النسخ المصابيح: القشيري. بدل القسري.
630- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول،
ثم لم يجدوا

(4/131)


(من صلى صلاة الصبح) أي في جماعة. (فهو في ذمة الله) أي في عهده أو في ضمانه، أو أمانه في الدنيا والآخرة، وهذا غير الأمان الذي ثبت بكلمة التوحيد. (فلا يطلبنكم الله) أي لا يؤاخذكم من باب لا أرينك، المراد نهيهم عن أذيته والتعرض لما يوجب مطالبة الله إياهم. (من ذمته) من بمعنى لأجل، والضمير في ذمته إما لله وإما لمن، والمضاف محذوف أي لأجل ترك ذمته (بشيء ) أي يسير، وفي المصابيح: بشيء من ذمته. قيل : أي بنقض عهده بالتعرض لمن له ذمة بالأذى، أو المراد بالذمة الصلاة الموجبة للأمان، أي لا تتركوا صلاة الصبح فينتقض به العهد الذي بينكم وبين ربكم فيطلبكم به. (فإنه من يطلبه) بالجزم أي الله تعالى. (من ذمته) أي من أجل ذمته. (بشيء يدركه) بالجزم أي يأخذه الله. (ثم يكبه) بالرفع أي هو يكبه، وبالفتح عطفا على يدركه، ويمكن أن يكون بالضم مجزوما أيضا، والمعنى لا تتعرضوا له بشيء ولو يسيرا، فإنكم إن تعرضتم له يدرككم الله ويكبكم في النار، قال الطيبي: وإنما خص صلاة الصبح لما فيها من الكلفة والمشقة، وأدائها مظنة خلوص الرجل ومئنة إيمانه أي علامته، ومن كان خالصا كان في ذمة الله. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج4: ص312، 313) والترمذي، وفي الباب عن ابن عمر عند أحمد، والبزار، والطبراني في الكبير، وعن أنس عند أبي يعلى، وعن أبي بكرة عند الطبراني في الكبير، وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عند الطبراني أيضا. (وفي بعض نسخ المصابيح القشيري) بضم الكاف وفتح المعجمة بعدها تحتية، قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة القشري. (بدل القسري) وقد تقدم ضبطهما.

(4/132)


630- قوله: (ما في النداء) أي الأذان، وقد روى بهذا اللفظ عند السراج. (والصف الأول) زاد أبوالشيخ في روايته: من الخير والبركة، وقال الطيبي: أطلق مفعول "يعلم" وهو"ما"ولم يبين الفضيلة ما هي؟ ليفيد ضربا من المبالغة وأنه مما لا يدخل تحت الوصف، والإطلاق إنما هو في قدر الفضيلة، وإلا فقد بينت في الرواية الأخرى بالخير والبركة. قال القرطبي: اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المكبر؟ والصحيح الأول. (ثم لم يجدوا) أي لم يجدوا شيئا من وجوه الأولوية، أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت وحسن الصوت ونحو ذلك من شرائط المؤذن وتكملاته، وأما في الصف الأول فبأن يصلوا دفعة واحدة ويستووا في الفضل فيقرع بينهم إذا لم يتراضوا فيما بينهم في
إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا؛ ولو يعلمون ما في التهجير، لاستبقوا إليه؛ ولو يعلمون ما في العتمة

(4/133)


الحالين. (إلا أن يستهموا) أي بأن يقترعوا، والاستهام الاقتراع، يدل على هذا ما في رواية لمسلم: لكانت قرعة. قيل: سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء، فمن خرج له منها سهم فاز بالحظ المقسوم وغلب. والتقدير إلا بالاستهام وطلب السهم بالقرعة عليه. (عليه) أي على ما ذكر ليشمل الأمرين الأذان والصف الأول، وقد رواه عبدالرزاق بلفظ: لاستهموا عليهما، فهذا مفصح بالمراد من غير تكلف، وقيل: عليه أي على السبق إليه أو على الاستحقاق فيهما. قال السندي: فيه تجهيل للمتساهلين في هذا الأمر، فلا يرد أنهم قد علموا بخبر الصادق وهم بسعة من تحصليه بلا استهام، ومع هذا لا يحصلونه، فكيف يصدق الخبر بأنهم لو علموا لاستهموا. (التهجير) أي التبكير إلى الصلاة مطلقا أي صلاة كانت، قاله الهروي، وصوبه النووي، واختاره ابن عبدالبر إذ قال: هو البدار إلى الصلاة أول وقتها، وحمله الخليل وغيره على ظاهره، فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت؛ لأن التهجير مشتق من الهاجرة، وهي شدة الحر نصف النهار، وهو أول وقت الظهر، وإلى ذلك مال البخاري إذ بوب على هذا الحديث في جامعه الصحيح ترجمة بلفظ: باب فضل التهجير إلى الظهر. ولا يرد على ذلك مشروعية الإبراد؛ لأنه أريد به الرفق، وأما من ترك قائلته وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة فلا يخفى ماله من الفضل. (لاستبقوا إليه) أي سبق بعضهم بعضا إليه لا بسرعة في المشي في الطريق فإنه ممنوع، بل بالخروج إليه والانتظار في المسجد قبل الآخر، قال ابن أبي جمرة: المراد بالاستباق معنى لا حسا؛ لأن المسابقة على الأقدام حسا تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه. والحديث يدل على استحباب القيام بوظيفة الأذان، والملازمة للصف الأول، والمسارعة إلى جماعة العشاء والفجر. (العتمة) أي صلاة العشاء الآخرة في الجماعة. فيه دليل على جواز تسمية العشاء بالعتمة، وقد استشكل الجمع بين هذا

(4/134)


الحديث وبين حديث ابن عمر الآتي، فقال النووي وغيره: الجواب من وجهين: أحدهما أنه استعمل لبيان الجواز، وأن النهي عن العتمة للتنزيه لا للتحريم. والثاني أنه يحتمل أنه خوطب بالعتمة من لا يعرف العشاء فخوطب بما يعرفه، فهو لقصد التعريف لا لقصد التسمية، أو استعمل لفظ العتمة؛ لأنه أشهر عند العرب، وإنما كانوا يطلقون العشاء على المغرب كما سيأتي، فلو قال: لو يعلمون ما في الصبح والعشاء. لتوهموا أن المراد المغرب. قال الحافظ: وهو ضعيف؛ لأنه قد ثبت في نفس هذا الحديث: لو يعلمون ما في الصبح والعشاء، فالظاهر أن التعبير بالعشاء تارة، وبالعتمة تارة من تصرف الرواة. وقيل: إن النهي عن تسمية العشاء عتمة نسخ الجواز، وفيه نظر للاحتياج في مثل ذلك إلى التاريخ. قال الحافظ: ولا يبعد أن ذلك كان جائزا، فلما كثر إطلاقهم له نهوا عنه لئلا تغلب السنة الجاهلية على السنة الإسلامية، ومع ذلك فلا يحرم ذلك بدليل أن الصحابة الذين رووا النهي استعملوا التسمية المذكورة، وأما استعمالها في مثل حديث أبي هريرة فلدفع الالتباس بالمغرب- انتهى.
والصبح، لأتوهما ولو حبوا)) متفق عليه.
631- (6) وعنه، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء،
ولو يعلمون ما فيهما، لأتوهما ولو حبوا)) متفق عليه.
632- (7) وعن عثمان، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((من صلى العشاء في جماعة؛ فكأنما قام نصف
الليل، ومن صلى الصبح في جماعة؛ فكأنما صلى الليل كله))

(4/135)


(والصبح) أي صلاة الصبح في الجماعة يعني من مزيد الفضل وكثرة الأجر. (لأتوهما) أي الصلاتين، والمراد المحل الذي يصليان فيه جماعة وهو المسجد. (ولو حبوا) أي ولو كان الإتيان حبوا أي زحفا، وهو مشى الصبي على أربع أو دبيبه على إسته. وقيل: التقدير ولو كانوا حابين يعني يزحفون إذا منعهم مانع من المشي كما يزحف الصغير، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء: ولو حبوا على المرافق والركب. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي الشهادات، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضا مالك وأحمد والنسائي، وأخرج الترمذي القطعة الأول فقط.
631- قوله: (ليس صلاة أثقل) بالنصب خبر ليس. (على المنافقين) فيه دليل على أن الصلاة كلها ثقيلة على المنافقين، ومنه قوله تعالى: ?ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى? [9: 54] وقوله: ?إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤن? [4: 142]. وإنما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما لقوة الداعي إلى تركهما؛ لأن العشاء وقت السكون والاستراحة والشروع في النوم، والصبح وقت طعم النوم ولذته، والمقصود أن الكسل فيهما من عادة المنافقين، فمن كان مخلصا في إيمانه فعليه أن يحترز من عادتهم. (ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما) أي لحضروا المسجد لأجلهما ولو مع كلفة، وفيه تنزيل من يعلم ولا يعمل بعلمه منزلة من لا يعلم، وإلا فكم ممن يعلم ذلك بخبر الشارع ولا يحضر بلا كلفة. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا ابن ماجه، وفي الباب عن أبي بن كعب عند أحمد، وأبي داود، والنسائي وغيرهم.

(4/136)


632- قوله: (فكأنما قام نصف الليل) قال القرطبي: معناه أنه قام نصف ليلة لم يصل فيها العشاء في جماعة، إذ لو صلى ذلك في جماعة لحصل له فضلها وفضل القيام. وقال البيضاوي: نزل صلاة كل من طرفي الليل منزلة نوافل نصفه، ولا يلزم منه أن يبلغ ثواب من قام الليل كله؛ لأن هذا تشبيه مطلق مقدار الثواب، ولا يلزم من تشبيه الشيء بالشيء أخذه بجميع أحكامه، ولو كان قدر الثواب سواء لم يكن لمصلى العشاء والصبح جماعة منفعة في قيام الليل غير التعب-انتهى. (ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله) عبر ههنا بـ"صلى" وفيما سبق بـ"قام" تفننا وإيماء إلى أن صلاة الليل تسمى قياما وظاهره يقتضي أن صلاة الفجر في الجماعة أفضل من صلاة العشاء في الجماعة، وأن فضلها في الجماعة ضعفا فضل العشاء في
رواه مسلم.
633- (8) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم
المغرب، قال: وتقول الأعراب: هي العشاء.
الجماعة، فمن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له قيام ليلة ونصف، وهذا ينافي رواية الترمذي وأبي داود بلفظ: ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة. وأجيب بأن المراد بقوله: ومن صلى الصبح في جماعة، في رواية مسلم أي منضما لصلاة العشاء جماعة، قاله المناوى. وقال الطيبي في شرح قوله فكأنما صلى الليل كله: أي بانضمام ذلك النصف، فكأنه أحي نصف الليل الأخير-انتهى. وقال المنذري في تلخيص السنن: اللفظ الذي أخرجه أبوداود تفسير لفظ مسلم، ويبين أن المراد بقوله: ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله، يعني ومن صلى الصبح والعشاء، وطرق هذا الحديث مصرحة بذلك، وأن كل واحد منهما يقوم مقام نصف ليلة، وأن اجتماعهما يقوم مقام ليلة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي، وأبوداود، وأخرجه مالك موقوفا على عثمان من قوله.

(4/137)


633- قوله: (لا يغلبنكم) بالتحتية، وروي بالفوقية أيضا. (الأعراب) هم سكان البوادي خاصة، والمراد أعراب الجاهلية. (على اسم صلاتكم المغرب) بالجر، صفة للصلاة، ويجوز رفعه على أنه خبر المبتدأ أي هي، ونصبه بتقدير أعني، وإنما شرع لها التسمية بالمغرب؛ لأنه اسم يشعر بمسماها، وبابتداء وقتها. قيل: معنى الغلبة أنكم تسمونها أسماء، وهم يسمونها أسماء، فإن سميتموها بالاسم الذي يسمونها به وافقتموهم، وإذا وافق الخصم خصمه صار كأنه انقطع له حتى غلبه، والمقصود النهي عن تسمية المغرب بالعشاء كما تفعل الأعراب، فإنه إذا وقعت الموافقة لهم فقد غلبتهم الأعراب عليها، إذ من رجع إليه خصمه فقد غلبه، وقد اختلف في علة النهي، فقيل: إن لفظ العشاء لغة هو أول ظلام الليل، وذلك من غيبوبة الشفق، فلو قيل للمغرب عشاء لأدى إلى أن أول وقتها غيبوبة الشفق، وقيل: هي خوف التباس المغرب بالعشاء، وعلى هذا لا يكره أن يقال للمغرب العشاء الأولى، ويؤيده قولهم: العشاء الآخرة، كما ثبت في الصحيح، وكذا لا يكره تسمية المغرب عشاء على سبيل التغليب، كمن قال مثلا: صليت العشاءين. لزوال اللبس في الصيغتين المذكورتين، وقيل: العلة الجامعة أن تسميتها بالعشاء مخالفة لإذن الله، فإنه سمى الأولى المغرب والثانية العشاء، وقيل غير ذلك، والله أعلم. (قال: وتقول الأعراب) قد جزم الكرماني أن فاعل "قال" هو عبدالله بن مغفل المزني الصحابي راوي الحديث، على ما في صحيح البخاري. قال الحافظ: ويحتاج إلى نقل خاص لذلك، وإلا فظاهر إيراد الإسماعيلي أنه من تتمة الحديث، فإنه أورده بلفظ: فإن الأعراب تسميها، والأصل في مثل هذا أن يكون كلاما واحدا حتى يقوم دليل على إدراجه-انتهى. (هي) أي المغرب. (العشاء)؛ لأن العشاء، لغة: أول ظلام الليل.
634-(9) وقال: ((لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء، فإنها
تعتم بحلاب الإبل)) رواه مسلم.

(4/138)


634- قوله: (وقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء) قال الشيخ عز الدين بن عبدالسلام: المعنى فيه أن العادة أن العظماء إذا سموا شيئا باسم فلا يليق العدول عنه إلى غيره؛ لأن ذلك تنقيص لهم. ورغبة عن صنيعهم، وترجيح لغيره عليه، وذلك لا يليق، والله سبحانه وتعالى سماها في كتابه العشاء في قوله: ?ومن بعد صلاة العشاء? [24: 58] فيقبح بعد تسمية ذي الجلال والإكرام العدول إلى غيره، انتهى. والحديث يدل على كراهة تسمية العشاء العتمة، وقد ذهب إلى ذلك ابن عمر راوي الحديث. ومنهم من أطلق جوازه، نقله ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق وغيره، ومنهم من جعله خلاف الأولى، نقله ابن المنذر عن مالك، والشافعي، واختاره، واليه ذهب البخاري حيث قال في صحيحه: والاختيار أن يقول العشاء؛ لقوله تعالى. ?من بعد صلاة العشاء? قال الحافظ: وهو الراجح. قلت: قد تقدم وجه التوفيق بين حديث ابن عمر هذا وبين الحديث السابق عن أبي هريرة، فتذكر. وقال السندي: قوله: فلا تغلبنكم الأعراب، الخ. أي الإسم الذي ذكر الله تعالى لهذه الصلاة اسم العشاء، والأعراب يسمونها العتمة، فلا تكثروا استعمال ذلك الاسم لما فيه من غلبة الأعراب عليكم، بل أكثروا استعمال اسم العشاء موافقة للقرآن، فالمراد النهي عن إكثار اسم العتمة لا عن إستعماله أصلا، فاندفع ما يتوهم من التنافي بين أحاديث المنع والثبوت في استعمالاته - صلى الله عليه وسلم --انتهى. (فإنها في كتاب الله العشاء) الفاء فيه علة للنهي، وفي قوله: (فإنها تعتم) علة للتسمية، أي لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء؛ لأن اسمها في كتاب الله العشاء، وهم يسمونها بالعتمة؛ لأنها تعتم. (بحلاب الإبل) بكسر الحاء، أي بسبب حلبها، فالباء للسببية. قال ابن الملك: قوله: فإنها تعتم، روى مجهولا فالضميران للصلاة، ومعلوما فهما للأعراب. وقال السيد: تعتم معروف لرواية: فإنهم

(4/139)


يعتمون بالإبل، ويجوز كونه مجهولا، والضمير للصلاة- انتهى. قلت: رواه ابن ماجه بلفظ: وإنهم ليعتمون بالإبل، وعند النسائي: فإنهم يعتمون على الإبل، قال السندي: من أعتم إذا دخل في العتمة وهي الظلمة، وعلى بمعنى اللام، أي يؤخرون الصلاة ويدخلون في ظلمة الليل بسبب الإبل وحلبها انتهى. وقيل: كانوا يؤخرون الحلاب إلى الظلمة، ويسمون ذلك الوقت العتمة، فهو من باب تسمية الشيء باسم وقته. (رواه مسلم) فيه نظر فإنه يوهم أنه حديث واحد من رواية ابن عمر، وأنه عند مسلم بهذا التمام، وليس كذلك، فإن الجملة الأولى مروية في صحيح البخاري من حديث عبدالله بن مغفل المزني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في باب من كره أن يقال للمغرب العشاء، وهي كما ترى في صلاة المغرب. قال ميرك: قال صاحب التخريج: ولم أره في غير البخاري، وكذا قال الشيخ الجزري، رواه البخاري من حديث عبدالله بن مغفل. قلت: الحديث من إفراد البخاري، كما قال العيني ثم القسطلاني، وذكره الشيخ عبدالغني النابلسي في ذخائر المواريث في مسند عبدالله بن مغفل، وعزاه للبخاري فقط، وهو يدل على أنه لم يروه
635- (10) وعن علي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الخندق: ((حبسونا عن صلاة الوسطى:

(4/140)


من أصحاب الكتب الستة إلا البخاري وحده، وقد أخرجه أحمد في مسنده (ج5: ص55) وأبونعيم في مستخرجه، وابن خزيمة في صحيحه، وأما الجملة الثانية أي قوله "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء" الخ. فهي في صلاة العشاء لا في صلاة المغرب، وهي مما تفرد به مسلم عن البخاري، وأخرجه أيضا أحمد (ج2: ص10، 18، 49، 144) وأبوداود والنسائي وابن ماجه كلهم من حديث ابن عمر، ولم يخرج البخاري في هذا شيئا، وتوهم صاحب المشكاة أن الجميع حديث واحد مروي عن ابن عمر عند مسلم، ولم أقف على منشأ توهمه، فإن محي السنة أورد الجملة الأولى في المصابيح، وقال عقبها: رواه عبدالله المزني، ثم أورد الجملة الثانية أي الحديث الثاني، وقال في آخره: رواه ابن عمر. على ما في أيدينا من نسخة المصابيح المطبوعة بمصر، وقال ميرك: ومنشأ توهم صاحب المشكاة أن محي السنة أودر الحديثين في المصابيح: أحدهما عقيب الآخر، وقال في الآخر: رواه ابن عمر، فظن المصنف أنه حديث واحد مروي عن ابن عمر فوقع فيما وقع، والله أعلم. قلت: هذا يدل على اختلاف نسخ المصابيح في ذكر قوله: رواه عبدالله المزني.

(4/141)


635- قوله: (يوم الخندق) وهو يوم الأحزاب، وكان في شوال سنة أربع من الهجرة، قاله موسى بن عقبة، واختاره البخاري، وقيل: سنة خمس، وعليه كثيرون. وسميت الغزوة بالخندق لأجل الخندق الذي حفر بأمره - صلى الله عليه وسلم - حول المدينة لما أشار به سلمان الفارسي، فإنه من مكايد الفرس دون العرب. وعمل فيه عليه الصلاة والسلام بنفسه ترغيبا للمسلمين، فإنهم قاسوا في حفره شدائد، منها شدة الجوع، والبرد، وكثرة الحفر، والتعب، وأقاموا في عمل الحفر عشرين ليلة، أو خمسة عشر يوما، أو أربعا وعشرين، أو شهرا على أقوال. وسميت بالأحزاب لاجتماع طوائف من المشركين: قريش، وغطفان، وبني أسد، وبني سليم، وبني سعد، واليهود، على حرب المسلمين، وهم كانوا ثلاثة آلاف، والمشركون عشرة آلاف، وقيل: أربعة وعشرون ألفا. (حبسونا) أي منعونا وشغلونا عن فعل الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس، وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف. (عن صلاة الوسطى) بإضافة الصلاة إلى الوسطى، وهو من باب قول الله تعالى: ?وما كنت بجانب الغربي? [28: 44] وفيه المذهبان المعروفان: مذهب الكوفيين جواز إضافة الموصوف إلى صفته، ومذهب البصريين منعه، ويقدرون فيه محذوفا، وتقديره هنا: عن صلاة الصلاة الوسطى، أي عن فعل الصلاة الوسطى، وهي تأنيث الأوسط كالفضلى تأنيث الأفضل، والأوسط الأعدل من كل شيء، قال أعرابي يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -:
يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم…وأكرم الناس أما برة وأبا

(4/142)


وقال تعالى: ?قال أوسطهم? [68: 28] أي أفضلهم وليست من الوسط الذي معناه المتوسط بين شيئين؛ لأن فعلى أفعل التفضيل، ولا يبنى منه إلا ما يقبل الزيادة والنقصان، والوسط بمعنى العدل والخيار يقبلهما، بخلاف المتوسط بين الشيئين فإنه لا يقبلهما، فلا يبنى منه أفعل التفضيل، قاله القسطلاني، ورجح الرازي في تفسيره كونه من التوسط بين الشيئين، وقال: المراد من الوسطى ما تكون وسطى في العدد لا ما تكون وسطى بسبب الفضيلة-انتهى. وذكره الزمخشري
صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا)) متفق عليه.

(4/143)


وابن العربي القولين على احتمال (صلاة العصر) بالجر بدل من صلاة الوسطى، أو عطف بيان لها. والحديث نص في أن الصلاة الوسطى هي العصر، وقد اختلف الناس في تعيين الوسطى على أكثر من عشرين قولا، أشهرها ثلاثة: أحدها أنها الصبح، قال به مالك والشافعي. والثاني: أنها الظهر، قال به زيد بن ثابت، وعروة. والثالث: أنها العصر، ذهب إليه أكثر علماء الصحابة وجمهور التابعين وأكثر أهل الأثر، قاله الترمذي والبغوي والماوردي وابن عبدالبر والطيبي، وهو مذهب أحمد، وأبي حنيفة. واحتجوا بالأحاديث الصحيحة الصريحة، ذكرها الحافظ في الفتح، وابن كثير في تفسيره والمجد بن تيمية في المنتقى، منها حديث علي هذا، ولا يساويه سائر الأحاديث، والآثار الدالة على خلاف ذلك، فهو أصح الأقوال في ذلك، والمذهب الحق الذي يتعين المصير إليه، قال النووي: الذي يقتضيه الأحاديث الصحيحة أنها العصر وهو المختار. وقال الحافظ: كونها العصر هو المعتمد. (ملأ الله) دعاء عليهم، وأخرجه في صورة الخبر تأكيدا وإشعارا بأنه من الدعوات المجابة سريعا، وعبر بالماضي ثقة بالاستجابة فكأنه أجيب سؤاله فأخبر عن وجود إجابته ووقوعها. (بيوتهم وقبورهم نارا) قال الأشرف: خصهما بالذكر؛ لأن أحدهما مسكن الأحياء والآخر مضجع الأموات، أي جعل النار ملازمة لهم بحيث لا تنفك عنهم لا في حياتهم ولا في مماتهم. قال الطيبي: دعا عليهم بعذاب الدارين من خراب بيوتهم في الدنيا بنهب أموالهم، وسبى ذراريهم، وهدم دورهم، ومن عقاب في الآخرة باشتعال قبورهم نارا-انتهى. قال الحافظ: وقد استشكل هذا الحديث بأنه تضمن دعاء صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - على من يستحقه، وهو من مات منهم مشركا، ولم يقع أحد الشقين وهو البيوت، أما القبور فوقع في حق من مات منهم مشركا لا محالة، ويجاب بأن يحمل على سكانها، وبه يتبين رحجان الرواية بلفظ: قلوبهم أو أجوافهم أي بدل بيوتهم-انتهى. واعلم أنه وقع في هذا

(4/144)


الحديث أن الصلاة الفائتة كانت صلاة العصر، وظاهره أنه لم يفت غيرها، وفي المؤطا: أنها الظهر والعصر، وفي غيره: أنه أخر أربع صلوات: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء حتى ذهب هوى من الليل، وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياما، فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها. (متفق عليه) أي على أصل الحديث، وإلا فقوله "صلاة العصر" ليس عند البخاري، قد تفرد به مسلم، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2: ص200) وظيفة المحدث أن يبحث عن أصل الحديث فينظر من خرجه، ولا يضره تغير بعض ألفاظه، ولا الزيادة فيه ولا النقص. والحديث أخرجه البخاري في الجهاد، والمغازي، والتفسير، والدعوات، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم.
?الفصل الثاني?
636، 637- (11، 12) عن ابن مسعود، وسمرة بن جندب، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة
الوسطى صلاة العصر)) رواه الترمذي.
638- (13) وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى. ?إن قرآن الفجر كان مشهودا? قال:
((تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار)) رواه الترمذي.
?الفصل الثالث?
639، 640- (14، 15) عن زيد بن ثابت، وعائشة، قالا: ((الصلاة الوسطى صلاة الظهر

(4/145)


636، 637- قوله: (صلاة الوسطى صلاة العصر)؛ لأنها وسطى بين صلاتي الليل وصلاتي النهار كالأصبع الوسطى بين الأصابع. وهذا الحديث أيضا نص صريح في أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. (رواه الترمذي) حديث ابن مسعود أخرجه أيضا أبوداود الطيالسي وأحمد ومسلم، وصححه الترمذي وحديث سمرة حسنه الترمذي في كتاب الصلاة، وصححه في التفسير، ولكنه من رواية الحسن عن سمرة، وقد اختلف في صحة سماعه منه، فقال: شعبة: لم يسمع منه شيئا، وقيل: سمع منه حديث العقيقة، وقال البخاري: قال علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح. ومن أثبت مقدم على من نفي، قاله الشوكاني، وتقدم بسط الكلام فيه. وانظر تفصيل الكلام في تهذيب التهذيب في ترجمة الحسن (ج2: ص263-270)، ونصب الراية (ج2ص89)، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج5: ص7، 12، 13) وفي رواية له: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حافظوا على الصلوات، وسماها لنا أنها صلاة العصر.
638- قوله: (إن قرآن الفجر) أي صلاة الفجر، سميت قرآنا وهو القراءة؛ لأنها ركن منها لا تجوز الصلاة إلا بها كما سميت ركوعا وسجودا وقنوتا أي قياما. (كان) كلمة كان لإفادة أنه كذلك في تقدير الله أو علمه، أو زائدة، أو للدلالة على الاستمرار مثل كان الله غفورا رحيما. (مشهودا) أي محضورا. (تشهده) أي تحضره، وهو استئناف مبين. (ملائكة الليل وملائكة النهار) أي ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء، فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار. وفائدة تسميته بالقرآن الحث على طول القراءة فيها فيسمع الناس القرآن، ولذلك كانت صلاة الفجر أطول الصلوات قراءة، قاله الطيبي. (رواه الترمذي) في التفسير وصححه، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه.

(4/146)


639، 640- قوله: (عن زيد بن ثابت وعائشة) أي موقوفا. (قالا: الصلاة الوسطى صلاة الظهر)؛ لأنها وسط طرفي النهار ولأنها متوسطة بين نهاريتين، وجاء ذلك أيضا عن أبي سعيد، وعبدالله بن شداد، وابن عمر، أخرجه ابن المنذر وغيره، وعن أسامة بن زيد، أخرجه الطيالسي وأحمد. واحتج لهم بحديث زيد بن ثابت الآتي، وسيأتي الجواب
رواه مالك عن زيد، والترمذي عنهما تعليقا.
641- (16) وعن زيد بن ثابت، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها. فنزلت. ?حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى? وقال:
عنه. (رواه مالك عن زيد) أي وحده، وأخرجه أحمد (ج5: ص183) والطيالسي، وابن جرير أيضا. (والترمذي عنهما) أي عن زيد وعائشة جميعا. (تعليقا) قال الترمذي في جامعه: وقال زيد بن ثابت وعائشة: صلاة الوسطى صلاة الظهر انتهى. وهذا كما ترى ذكر الترمذي قولهما بلا إسناد. وقد تقدم التنبيه على أنه لا يقال في مثل هذا "رواه"، إنما يقال "ذكره" أو "أورده"، فقول المصنف "رواه الترمذي عنهما تعليقا" لا يخلو عن تسامح. والتعليق هو أن يحذف من مبدأ إسناده واحد فأكثر على التوالي، ويعزى الحديث إلى فوق المحذوف من رواته، واستعمله بعضهم في حذف كل الإسناد، كقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، وهو مأخوذ من تعليق الجدار والطلاق لإشتراكهما في قطع الاتصال. هذا، والصحيح عن عائشة مثل قول الجمهور: أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. كما نص عليه ابن كثير، روى ذلك عنها ابن أبي شيبة، وابن جرير، وسعيد بن منصور، وأبوعبيد.

(4/147)


641- قوله: (بالهاجرة) أي في شدة الحر بعد الزوال. (أشد) أي أشق وأصعب. (منها) أي من صلاة الظهر بالهاجرة، ولذا كانوا يسجدون على ثيابهم. (حافظوا على الصلوات) أي بالأداء لوقتها والمداومة عليها بجميع شروطها وأركانها، وفي "فاعل" هنا قولان: أحدهما أنه بمعنى فعل، كطارقت النعل، وعاقبت اللص، ولما ضمن المحافظ معنى المواظبة عداها بعلى. والثاني أن "فاعل" على بابها من كونها بين اثنين، فقيل بين العبد وربه كأنه قال: احفظ هذه الصلاة يحفظك الإله الذي أمرك بها. وقيل: بين العبد والصلاة أي احفظها تحفظك عن المعاصي، وعن البلايا والمحن، وبالشفاعة في المحشر. (والصلاة الوسطى) ذكر للخاص بعد العام أي ما كان ينبغي أن تضيعوها لثقلها عليكم، فإنها الوسطى أي الفضلى، قاله الطيبي. (وقال) أي زيد بن ثابت، أو قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأول هو الصواب، قاله السيد، ويؤيده رواية الطحاوي عن زيد بن ثابت، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهجير، وكانت أثقل الصلوات على أصحابه، فنزلت: ?حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى? [2: 238]؛ لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. قال الحافظ: وروى الطيالسي من طريق زهرة بن معبد قال: كنا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة فسألوه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي الظهر. ورواه من وجه آخر وزاد: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان، والناس في قائلتهم، وفي تجارتهم، فنزلت. قال الشوكاني: أثر زيد وأثر أسامة استدل بهما من قال: إن الصلاة الوسطى هي الظهر، وأنت خبير بأن مجرد كون صلاة الظهر كانت شديدة على الصحابة لا يستلزم أن تكون الآية نازلة فيها، غاية ما في ذلك أن المناسب أن تكون الوسطى هي الظهر، ومثل هذا لا يعارض به تلك النصوص الصحيحة الصريحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق
إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين)) رواه أحمد، وأبوداود.

(4/148)


642، 643- (17، 18) وعن مالك، بلغه أن على بن أبي طالب وعبدالله بن عباس كانا يقولان: ((الصلاة الوسطى صلاة الصبح)) رواه في الموطأ.
متعددة، وعلى فرض أن قول هذين الصحابيين تصريح ببيان سبب النزول لا إبداء مناسبة، فلا يشك من له أدنى إلمام بعلوم الاستدلال أن ذلك لا ينتهض لمعارضة ما سلف. (إن قبلها صلاتين) أى إحداهما نهارية وأخرى ليلية. (وبعدها صلاتين) كذلك، أو هي واقعة وسط النهار. (رواه أحمد) (ج5: ص183). (وأبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. قال الشوكاني: وأخرجه البخاري في التاريخ، والنسائي بإسناد رجاله ثقات

(4/149)


642، 643- قوله: (عن مالك بلغه أن على بن أبي طالب، وعبدالله بن عباس كانا يقولان: الصلاة الوسطى صلاة الصبح) وهو قول أبي أمامة، وأنس، وجابر. قال الحافظ: والمعروف عن على خلافه. وقال الزرقاني: المعروف عنه أنها العصر، أخرجه عنه عبدالرزاق، وابن جرير، والبيهقي، وابن المنذر. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير عن زر، قال: قلت لعبيدة: سل عليا عن الصلاة الوسطى، فسأله، فقال: كنا نراها الفجر أو الصبح حتى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر. وروى عبدالله بن أحمد في مسند أبيه عن علي قال: كنا نراها الفجر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هي صلاة العصر، يعني صلاة الوسطى. قلت: واحتج لمن قال: إنها صلاة الصبح بما رواه النسائي عن ابن عباس، قال: أدلج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم عرس، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها، فلم يصل حتى ارتفعت الشمس فصلى، وهي صلاة الوسطى. قال الشوكاني: ويمكن الجواب عنه بوجهين: الأول أن ما روي من قوله في هذا الخبر: وهي صلاة الوسطى، يحتمل أن يكون من المدرج وليس من قول ابن عباس، ويحتمل أن يكون من قوله. وقد أخرج عنه أبونعيم، وابن جرير، وابن المنذر، والبزار أنه قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر، وهذا صريح لا يتطرق إليه من الاحتمال ما يتطرق إلى الأول، فلا يعارضه. الوجه الثاني ما تقرر من القاعدة أن الاعتبار عند مخالفة الراوي روايته بما روى لا بما رأى، فقد روى عنه أحمد في مسنده قال: قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدوا فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها، فلما رأى ذلك قال: اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى املاء بيوتهم نارا أو قبورهم نارا، على أن ابن عباس لم يرفع تلك المقالة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل قالها من قبل نفسه، وقوله ليس بحجة-انتهى بزيادة يسيرة. (رواه) أي مالك. (في الموطأ) قال القاري:

(4/150)


فيه أنه ينحل الكلام إلى أن مالكا رواه في الموطأ عن مالك بلغه، ولا يخفى ما فيه من الحزازة، فكان حق المصنف أن يقول أولا: عن علي وابن عباس، الخ. ثم يقول رواه مالك في الموطأ بلاغا. فإن مالكا ليس من الرواة بل من المخرجين-انتهى. قلت: أما أثر على فأخرجه البيهقي بسنده عن مالك هكذا بلاغا. قال ابن التركماني: وفي التمهيد روى من حديث حسين بن عبدالله بن ضمرة عن أبيه. عن جده، عن علي قال: هي صلاة الصبح، وحسين هذا متروك الحديث، ولا يصح حديثه. وقال قوم: ما أرسله مالك
644- (19) ورواه الترمذي عن ابن عباس وابن عمر تعليقا.
645- (20) وعن سلمان، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من غدا إلى صلاة الصبح غدا براية
الإيمان، ومن غدا إلى السوق إذا براية إبليس)) رواه ابن ماجه.
(4) باب الأذان
في موطأ عن علي أنها الصبح أخذه من حديث ابن ضمرة؛ لأنه لا يوجد عن علي إلا من حديثه-انتهى. وأما أثر ابن عباس فوصله ابن جرير من طرق، وأخرجه أيضا سعيد بن منصور وعبد بن حميد.
644- قوله: (ورواه الترمذي عن ابن عباس وابن عمر تعليقا) قال الترمذي: وقال ابن عباس وابن عمر: صلاة الوسطى صلاة الصبح-انتهى. ولم أقف على من وصله عن ابن عمر، نعم قال ابن كثير: حكاه ابن أبي حاتم عن ابن عمر، وحكى أبومحمد عبدالمؤمن خلف الدمياطي في كتابه المسمى "كشف الغطاء عن الصلاة الوسطى" عن ابن عمر على الصحيح عنه: أنها العصر. والله أعلم.

(4/151)


645- قوله: (من إذا إلى صلاة الصبح) إلخ. قال الطيبي: تمثيل لبيان حزب الله وحزب الشيطان، فمن أصبح يغدو إلى المسجد كأنه يرفع أعلام الإيمان، ويظهر شعائر الإسلام، ويوهن أمر المخالفين. وفي ذلك ورد الحديث "فذلكم الرباط"، ومن أصبح يغدو إلى السوق فهو من حزب الشيطان، يرفع أعلامه ويشيد من شوكته، وهو في توهين دينه، وفي قوله "غدا" إشارة إلى أن التبكير إلى السوق محظور، فمن راجع بعد أدائه وظائف طاعته لطلب الحلال، وما يتقوم به صلبه للعبادة، ويتعفف عن السؤال كان من حزب الله تعالى-انتهى. (غدا براية إبليس) أي فينبغي أن لا يدخل السوق إلا لضرورة، وقيل: هذا في حق من غدا إلى السوق من غير أن يغدوا إلى صلاة الصبح، وإلا فمن غدا إلى السوق بعد الغدو إلى الصلاة لكسب الرزق الحلال فلا بأس به، كما تقدم. (رواه ابن ماجه) في التجارات. قال في الزوائد: في إسناد عيسى بن ميمون، متفق على تضعيفه.
(باب الأذان) بفتح الهمزة أي مشروعيته كيفية وكمية، وهو في اللغة الإعلام، وفي الشرع: الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة. قال الحافظ: وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرعت بمكة قبل الهجرة، فذكر تلك الأحاديث، ثم قال: والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث. وقد جزم ابن المنذر بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث عبدالله بن عمر، ثم حديث عبدالله بن زيد-انتهى. والمراد بحديث عبدالله بن عمر وحديث عبدالله بن زيد اللذان ذكرهما المصنف في الفصل الثالث، وهما أصح ما ورد في تعيين إبتداء وقت الأذان، وفيهما دليل أيضا على أن بدأ الأذان كان في السنة
?الفصل الأول?
646- (1) عن أنس، قال: ((ذكروا النار والناقوس، فذكروا اليهود والنصارى، فأمر بلال أن يشفع الأذان، وأن يؤتر الإقامة))

(4/152)


الأولى من الهجرة؛ لأن المراد بقوله "فناد بالصلاة" في حديث ابن عمر أي بالصلاة جامعة، وكان ذلك قبل الأذان المخصوص المشروع برؤيا عبدالله بن زيد، وكانت رؤياه في السنة الأولى بعد بناء المسجد، على ما قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج5: ص224) وقيل: كان بدءه في السنة الثانية، والأول هو الراجح.
646- قوله: (ذكروا) أي الصحابة لإعلام وقت الصلاة. (النار والناقوس) أي ذكر جمع منهم إيقاد النار، وذكر جمع ضرب الناقوس، وهو خشبة طويلة يضربها النصارى بأقصر منها لإعلام أوقات صلاتهم. (فذكروا) أي الصحابة. (اليهود والنصارى) وفي رواية: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يوروا نارا أو يضربوا ناقوسا. وأوضح من ذلك ما وقع عند أبي الشيخ بلفظ: فقالوا لو اتخذنا ناقوسا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك للنصارى، فقالوا: لو اتخذنا بوقا، فقال: ذاك لليهود، فقالوا: لو رفعنا نارا، فقال: ذاك للمجوس. فعلى هذا ففي الرواية التي ذكرها المصنف اختصار، كأنه كان فيه: فذكروا النار والناقوس والبوق، فذكروا اليهود والنصارى والمجوس. واللف والنشر فيه معكوس، فالنار للمجوس، والناقوس للنصارى، والبوق لليهود، وسيأتي في حديث ابن عمر التنصيص على أن البوق لليهود، وقال الكرماني: يحتمل أن تكون النار والبوق جميعا لليهود جمعا بين حديثى أنس وابن عمر-انتهى. ورواية أبي الشيخ تغني عن هذا الاحتمال. (فأمر) ببناء المجهول. (بلال) أي أمره النبي- صلى الله عليه وسلم - كما وقع مصرحا به في رواية النسائي وغيره، وفي الكلام اختصار، والتقدير: فافترقوا بعد أن ذكروا ما ذكروا من نار وناقوس وبوق، فرأى عبدالله بن زيد الأذان، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقص عليه رؤياه فصدقه فأمر بلال، الخ.. (أن يشفع الأذان) أي يأتي بكلماته مثنى مثنى إلا كلمة التوحيد في آخره فإنها مفردة. وإلا لفظ التكبير في أوله فإنه أربع،

(4/153)


وقد جاء به صريح الروايات، فالمراد معظمه. (وأن يؤتر الإقامة) أي يأتي بألفاظها مرة مرة سوى التكبير في أولها وآخرها، فهو أيضا محمول على التغليب، أو معناه أن يجعل على نصف الأذان فيما يصلح للإنتصاف، فلا يشكل بتكرار التكبير في أولها وآخرها، ولا بكلمة التوحيد في آخرها، وفيه دليل على أن الإقامة فرادى، وهو مذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. إلا أن مالكا يقول: إن الإقامة عشر كلمات بتوحيد "قد قامت الصلاة". وأما الشافعي وأحمد وإسحاق، فعندهم إحدى عشرة كلمة، فإنهم يقولون بتثنية قد قامت الصلاة، والحديث حجة لهم على مالك كما سيأتي، وكذلك حجة على من زعم أن الإقامة مثنى مثل الأذان، وهم الحنفية. وقال صاحب فيض الباري: لم يسنح لي ترجيح تثنية الإقامة بعد، مع
قال إسماعيل: فذكرته لأيوب، فقال: ((إلا الإقامة)) متفق عليه.
647- (2) وعن أبي محذورة، قال: ((ألقى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التأذين هو بنفسه، فقال: قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر،

(4/154)


ثبوت كلا الأمرين قطعا. (قال إسماعيل) أي ابن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم، أبوبشر البصري المعروف بابن علية، ثقة حافظ قال شعبة: إسماعيل ابن علية ريحانة الفقهاء. وقال أيضا: هو سيد المحدثين. مات سنة (193) أو (194) وهو ابن (83). (فذكرته) أي الحديث. (لأيوب) أى ابن أبي تميمة السختياني نسبة إلى عمل السختيان وبيعه، وهو جلود الضان، ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد، من صغار التابعين، مات سنة (131) وله (65) وبسط فضائله وفضائل ابن علية في تهذيب التهذيب، فارجع إليه. (فقال: إلا الإقامة) أي إلا قوله قد قامت الصلاة، فإنها تشفع؛ لأنها المقصود من الإقامة بالذات، فالمراد بالمنفي غير المراد بالمثبت، فالمراد بالمثبت جميع الألفاظ المشروعة عند القيام إلى الصلاة، والمراد بالمنفي خصوص قوله: قد قامت الصلاة، وحصل من ذلك جناس تام. وقد ادعى ابن مندة أن قوله: إلا الإقامة، من قول أيوب غير مسند، وكذا قال أبومحمد الأصيلي: إنه من قول أيوب، وليس من الحديث، وقولهما متعقب بحديث. معمر عن أيوب عند عبدالرزاق؛ لأنه رواه عنه بسنده متصلا بالخبر مفسرا، ولفظه: كان بلال يثني الأذان ويؤتر الإقامة إلا قوله: قد قامت الصلاة. والأصل أن ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه، ولا دليل في رواية إسماعيل هذه؛ لأنه إنما يتحصل منها أن خالدا الحذاء كان لا يذكر الزيادة، وكان أيوب يذكرها، وكل منهما روى الحديث، عن أبي قلابة عن أنس. فكان في رواية أيوب زيادة من حافظ فتقبل، قاله الحافظ في الفتح. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، إلا أن أول الحديث وصدره إلى قوله "وأن يوتر الإقامة" من رواية عبدالوارث، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، ذكرها في باب بدء الأذان، وقوله إسماعيل، الخ. ليس في هذه الرواية، إنما هي في رواية أخرى، وهي رواية إسماعيل، عن خالد أبي قلابة، ذكرها في باب الإقامة واحدة إلا قوله: قد قامت الصلاة. والحاصل أن أول الحديث

(4/155)


مروي من طريق، وآخره من طريق آخر، وصنيع المنصف يدل على أن جميع الحديث مروي من طريق واحدة، ولا يخفى ما فيه. والحديث أخرجه أيضا أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، إلا أنه ليس في الترمذي، والنسائي، وابن ماجه "إلا الإقامة".
647- قوله (وعن أبي محذورة) القرشي الجمحي المكي المؤذن، صحابي مشهور، قيل: اسمه أوس، وقيل: سمرة، وقيل: سلمة، وقيل: سلمان. وأبوه معير- بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح التحتانية-، وقيل: عمير بن لوذان. مات بمكة سنة (59) وقيل: تأخر بعد ذلك أيضا. (ألقى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التأذين) أي الأذان يعني لقنني كل كلمة من هذه الكلمات. (الله أكبر) بسكون الراء؛ لأنه روي وسمع موقوفا غير معرب في مقاطعه في الصلاة والأذان، وأكبر
أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، ثم تعود فتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله))

(4/156)


بمعنى كبير، أو المراد أكبر من كل شيء. (أشهد) أى أعلم وأبين، وقيل: أقضى، وقيل: أتيقن وأتحقق. (ثم تعود) أي ترجع بهذه الكلمات. (فتقول) بالخطاب فيهما، وهما فعلان بمعنى الأمر، وفي بعض روايات أبي محذورة: ثم ارجع فمد من صوتك أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. وفي بعض رواياته، تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. تخفض بها صوتك ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، الخ. وهذه الروايات نصوص صريحة في مشروعية الترجيع وسنيته في الأذان. قال النووي: في حديث أبي محذورة حجة بينة ودلالة واضحة لمذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن الترجيع في الأذان ثابت مشروع، وهو العود إلى الشهادتين مرتين برفع الصوت بعد قولهما مرتين بخفض الصوت. وقال أبوحنيفة والكوفيون: لا يشرع الترجيع، عملا بحديث عبدالله بن زيد، فإنه ليس فيه ترجيع، وحجة الجمهور هذا الحديث الصحيح، والزيادة مقدمة مع أن حديث أبي محذورة هذا متأخر من حديث عبدالله بن زيد، فإن حديث أبي محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين، وحديث ابن زيد في أول الأمر، وانضم إلى هذا كله عمل أهل مكة والمدينة وسائر الأمصار-انتهى. قلت: اختلف أقوال الحنفية في الترجيع، فقال بعضهم بكراهته كما في ملتقى الأبحر، وقال بعضهم: هو خلاف الأولى. وقال ابن نجيم في البحر الرائق: الظاهر من عباراتهم أن الترجيع عندنا مباح فيه ليس بسنة ولا مكروه. وقال صاحب فيض الباري: لا خلاف فيه عند التحقيق إلا في الأفضلية-انتهى. وللحنفية ومن تبعهم في القول بكراهة الترجيع أو كونه خلاف الأولى والأفضل أعذار عن العمل بروايات الترجيع الصريحة الصحيحة، وكلها باردة سخيفة مخدوشة، ذكرها شيخنا في شرح الترمذي (ج1: ص170، 171) وفي أبكار المنن (ص76-80) ثم بسط الكلام في ردها

(4/157)


فعليك أن تراجعهما. قال السندي في حاشية ابن ماجه في شرح قوله: ثم قال لي ارجع فمد من صوتك، ما لفظه: هذا صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره بالترجيع، فسقط ما توهم أنه كرره له تعليما فظنه ترجيعا، وقد ثبت عدم الترجيع في أذان بلال يعرفه من له معرفة بهذا العلم بلا ريب، فالوجه القول بجواز الوجهين-انتهى. قلت: هذا هو الحق أن الوجهين جائزان ثابتان مشروعان سنتان من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (حي على الصلاة) حي اسم فعل بمعنى الأمر، وفتحت ياءه لسكونها وسكون ما قبلها أي هلموا إليها، واقبلوا عليها، وتعالوا مسرعين إليها. (حي على الفلاح) هو الخلاص من كل مكروه والظفر بكل مراد، وقيل: هو البقاء أي
رواه مسلم .
?الفصل الثاني?
648- (3) عن ابن عمر، قال: ((كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين مرتين، والإقامة مرة
مرة،

(4/158)


أسرعوا إلى ما هو سبب الخلاص من العذاب، والفوز بالثواب، والبقاء في دار القرار وهو الصلاة في المسجد. (رواه مسلم) فيه نظر؛ لأن نص الحديث في صحيح مسلم هكذا: عن أبي محذورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه هذا الأذان: الله أكبر، الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلاالله. أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. ثم يعود فيقول، أي بالغيبة فيهما: أشهد أن لا إله إلا الله، مرتين. أشهد أن محمدا رسول الله، مرتين. حي على الصلاة، مرتين. حي على الفلاح، مرتين. زاد إسحاق-أى شيخ مسلم راوي الحديث- الله أكبر الله أكبر. لاإله إلا الله. قال النووي: هكذا وقع في هذا الحديث في صحيح مسلم في أكثر الأصول في أوله الله أكبر الله أكبر. مرتين فقط. ووقع في غير مسلم: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أربع مرات. قال عياض: ووقع في بعض طرق الفارسي في صحيح مسلم أربع مرات-انتهى. قلت: وأخرجه أيضا بتربيع التكبير الشافعي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان. وقال ابن القطان: الصحيح في هذا تربيع التكبير، وبه يصح كون الأذان تسع عشر كلمة، كما في الرواية الآتية مضموما إلى تربيع التكبير الترجيع. قال الحافظ حاكيا عن ابن القطان: وقد وقع في بعض روايات مسلم بتربيع التكبير، وهي التي ينبغي أن تعد في الصحيح-انتهى. وقد رواه أبونعيم في المستخرج، والبيهقي بتربيع التكبير، وقال بعده: أخرجه مسلم عن إسحاق، وكذلك أخرجه أبوعوانة في مستخرجه من طريق ابن المديني عن معاذ. واعلم أن ما ذكره البغوي ههنا في المصابيح هو لفظ أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، كما لا يخفى، وصنيعه هذا مخالف لما اشترط على نفسه من أنه يورد في الصحاح ما أخرجه الشيخان أو أحدهما. وأما اللفظ الذي ذكره صاحب المشكاة فليس هو لمسلم كما عرفت ولا لأبي داود والنسائي وابن ماجه.

(4/159)


648- قوله: (كان الأذان) أي ألفاظه من الجمل. (علىعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في عهده، عدى بعلى لمعنى الظهور، قاله الطيبي. (مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة) أي كانت كلمات الأذان مكررة، والإقامة مفردة نظرا إلى الغالب. وقال القاري: خص التكبير عن التكرير في أول الأذان فإنه أربع لما تقدم، وخص التهليل عنه في آخره فإنه وتر بالاتفاق. وهذا الحديث بظاهره يدل على نفي الترجيع-انتهى. قلت: الترجيع وإن كان غير مذكور في هذا الحديث لكنه ثبت بحديث أبي محذورة، وهو حديث صحيح مشتمل على زيادة غير منافية فيجب قبولها، ولو صرح ابن عمر بالنفي لكان حديث أبي محذورة أخرى بالقبول؛ لأن المثبت مقدم على النافي، وخص التكبير عن الإفراد في أول الإقامة وآخرها
غير أنه كان يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة)) رواه أبوداود، والنسائي، والدارمي.
649- (4) وعن أبي محذورة، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة)) رواه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والدارمي وابن ماجه.
650- (5) وعنه، قال: ((قلت: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -! علمني سنة الأذان، قال: فمسح مقدم رأسه.

(4/160)


لحديث عبدالله بن زيد عند أبي داود وغيره. (غير أنه) أي المؤذن. (كان يقول) أي في الإقامة. (قد قامت الصلاة) أي مرتين. والمعنى قاربت قيامها. وقال في النهاية: أي قام أهلها، أو حان قيام أهلها. وقيل: عبر بالماضي إعلاما بأن فعلها القريب الوقوع كالمحقق حتى يتهيأ له ويبادر إليه. كذا في المرقاة. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (والنسائي والدارمي) وأخرجه أيضا الشافعي، وأحمد، وأبوعوانة، وابن خزيمة، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، وفي إسناده أبوجعفر المؤذن. قال ابن حبان: اسمه محمد بن مسلم بن مهران. قال شعة: لا يحفظ لأبي جعفر غير هذا الحديث. وقال الحافظ في التقريب: أبوجعفر المؤذن مقبول. وقال ابن معين والدارقطني: ليس به بأس، وقد صرح اليعمري في شرح الترمذي أن حديث ابن عمر إسناده صحيح.

(4/161)


649- قوله: (الأذان تسع عشرة كلمة)؛ لأن التكبير في أوله أربع، والترجيع في الشهادتين يصير كل واحدة منهما أربعة ألفاظ، والحيعلتين أربع كلمات، والتكبير كلمتان، وكلمة التوحيد في آخره، وهذا نص صريح في سنية الترجيع في الأذان. (والإقامة) بالنصب عطفا على الأذان أي وعلمه الإقامة. (سبع عشرة كلمة) بتربيع التكبير في أول الإقامة وترك الترجيع وزيادة قد قامت الصلاة مرتين، وباقي ألفاظها كالأذان، فتكون الإقامة ذلك المقدار. قال السندي: هذا العدد لا يستقيم إلا على تربيع التكبير في أول الأذان، والترجيع والتثنية في الإقامة، وقد ثبت عدم الترجيع في أذان بلال وإفراد إقامته، فالوجه جواز الكل. (رواه أحمد) (ج3: ص409) و(ج6: ص401) بذكر ألفاظ الأذان والإقامة تفصيلا. (والترمذي) مختصرا، وقال: حديث حسن صحيح. (وأبوداود) بذكر الأذان والإقامة مفسرا، وسكت عليه هو والمنذري. (والنسائي والدارمي) كلاهما مختصرا إلا أن النسائي قال: ثم عدها أبومحذورة تسع عشرة كلمة وسبع عشرة كلمة. (وابن ماجه) مطولا، وأخرجه أيضا الطيالسي، وابن الجارود، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وتكلم عليه بأوجه من التضعيف ردها ابن دقيق العيد في الإمام، وصحح الحديث. وأخرجه أيضا الطبراني، وإن شئت الوقوف على كلام ابن دقيق فارجع إلى نصب الراية (ج1: ص268، 269).
650- قوله: (سنة الأذان) أي طريقته في الشرع. (قال) أي الراوي. (فمسح) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (رأسه) أي

(4/162)


قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ترفع بها صوتك. ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. تخفض بها صوتك. ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة. حي على الفلاح، حي على الفلاح. فإن كان صلاة الصبح،

(4/163)


رأس أبي محذورة ليحصل له بركة يده الموصلة إلى الدماغ وغيره فيحفظ ما يلقى إليه ويملى عليه. (قال: تقول) بتقدير أن أي الأذان قولك. وقيل: أطلق الفعل وأريد به الحدث على مجاز ذكر الكل وإرادة البعض، أو خبر معناه الأمر أي قل. (الله أكبر) قال ابن حجر: يسن للمؤذن الوقف على كل كلمة من هذه الأربعة، وكذا ما بعدها؛ لأنه روي موقوفا. وإن وصل على خلاف السنة، فالذي عليه الأكثرون ضم الراء، واختار المبرد فتحها، ووجهه أن الفتح أخف، وهو مستلزم تفخيم لام الجلالة كما حقق في الم الله. كذا في المرقاة. (ترفع بها صوتك) جملة حالية أو استئنافية مبينة. (تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة) الخ. قال الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص263) بعد ذكره: وهو لفظ ابن حبان في صحيحه، واختصره الترمذي ولفظه: عن أبي محذورة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقعده وألقى عليه الأذان حرفا حرفا. قال بشر: فقلت له: أعد على، فوصف الأذان بالترجيع-انتهى. وطوله النسائي وابن ماجه وأوله: خرجت في نفر، فلما كنا ببعض الطريق أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى أن قال: ثم قال لي: ارجع فامدد من صوتك أشهد أن لا إله إلا الله، الحديث. قال صاحب الهداية اعتذار عن العمل بحديث أبي محذورة: إن ما رواه كان تعليما، فظنه ترجيعا. وقال الطحاوي في شرح الآثار (ص79): يحتمل أن الترجيع إنما كان لأن أبا محذورة لم يمد بذلك صوته، فقال له عليه السلام: ارجع فامدد من صوتك، وقال ابن الجوزي في التحقيق: إن أبا محذورة كان كافرا قبل أن يسلم، فلما أسلم ولقنه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأذان أعاد عليه الشهادة وكررها لتثبت عنده ويحفظها، ويكرر على أصحابه المشركين، فإنهم كانوا ينفرون منها خلاف نفورهم من غيرها، فلما كررها عليه ظنها من الأذان، فعده تسع عشرة كلمة-انتهى. وقد ذكر الزيلعي في نصب الراية هذه الأقوال الثلاثة، وقال: هذه الأقوال متقاربة في المعنى،

(4/164)


ثم ردها فقال: ويردها لفظ أبي داود: قلت: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمني سنة الأذان، وفيه، ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، تخفض بها صوتك ثم ترفع صوتك بها، فجعله من سنة الأذان، وهو كذلك في صحيح ابن حبان، ومسند أحمد (ج3: ص408) –انتهى. وكذلك رد هذه الأقوال الثلاثة الحافظ في الدراية، ولردها وجوه أخرى لا تخفى على المتأمل المنصف غير المتعسف. (فإن كان) أي الوقت أو
قلت: الصلاة خير من النوم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)) رواه أبوداود.
651- (6) وعن بلال، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تثوبن في شيء من الصلوات إلا في صلاة
الفجر))
ما يؤذن لها (صلاة الصبح) بالنصب أي وقته، وقيل بالرفع فكان تامة. (قلت) أي في أذانها. (الصلاة خير من النوم) أي لذتها خير من لذته عند أرباب الذوق وأصحاب الشوق، ويمكن أن يكون من باب "العسل أحلى من الخل" قاله القاري. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وقال القاري: قال النووي: حسن، نقله ميرك. وقال ابن الهمام: إسناده صحيح- انتهى. قلت: في سنده الحارث بن عبيد أبوقدامة، قال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ. وقال الذهبي في الميزان: قال الفلاس: رأيت ابن مهدي يحدث عن أبي قدامة، وقال: ما رأيت إلا خيرا، وفيه أيضا محمد بن عبدالملك بن أبي محذورة الجمحي المكي المؤذن، وقد وثقه ابن حبان. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. فالحديث إن لم يكن صحيحا فلا ينحط عن درجة الحسن، وأخرجه أيضا أحمد (ج3: ص408) وابن حبان وغيرهما.

(4/165)


651- قوله: (وعن بلال) هو بل بن رباح التيمي مولاهم المؤذن أبوعبدالله، ويقال أبوعبدالرحمن، وقيل غير ذلك في كنيته، وهو ابن حمامة، وهي أمه، أسلم قديما. وعذب في الله، وشهد بدرا والمشاهد كلها، وسكن دمشق آخرا. قال أنس: بلال سابق الحبشة، وقال عمر: أبوبكر سيدنا، وأعتق سيدنا، أذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤذن لأحد بعده إلا مرة في قدمة قدمها المدينة، وقيل: إنه لم يتمها من كثرة الضجيج، له أربعة وأربعون حديثا، اتفق على حديث، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بحديث، مات بالشام سنة (17) أو (18) أو (20) وله بضع وستون سنة، ولا عقب له. (لا تثوبن) من التثويب، وهو لغة العود إلى الإعلام بعد الإعلام، ويطلق على الإقامة كما في حديث: حتى إذا ثوب أدبر، حتى إذا فرغ أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، وعلى قول المؤذن في أذان الفجر "الصلاة خير من النوم". وكل من هذين تثويب قديم ثابت من وقته - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا. وقد أحدث الناس تثويبا ثالثا بين الأذان والإقامة، قاله في فتح الودود، قلت: والمراد في حديث بلال هذا هو قول المؤذن في أذان الفجر "الصلاة خير من النوم"، قال الجزري: هو قوله: الصلاة خير من النوم. قال: والأصل في التثويب أن يجيء الرجل مستصرخا فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر فكان ذلك كالدعاء فسمى الدعاء تثويبا لذلك، وكل داع مثوب. وقيل: إنما سمى تثويبا من ثاب يثوب إذا رجع، فهو رجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة، فإن المؤذن إذا قال: حي على الصلاة، فقد دعاهم إليها، وإذا قال بعدها "الصلاة خير من النوم" فقد رجع إلى كلام معناه المبادرة إليها-انتهى كلام الجزري. (في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر) الحديث يدل على مشروعية قول المؤذن في أذان الفجر "الصلاة خير من النوم"، وأنه مخصوص بالفجر، ومحل هذا القول هو بعد قوله: حي على الفلاح، كما تقدم في حديث أبي محذورة. ويدل عليه أيضا حديث أنس عند ابن

(4/166)


خزيمة في صحيحه.
رواه الترمذي. وابن ماجه. وقال الترمذي: أبوإسرائيل الراوي ليس هو بذاك القوي عند أهل الحديث.
652- (7) وعن جابر: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال: إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر،
والدارقطني والبيهقي، قال البيهقي: إسناده صحيح، وصححه ابن السكن، وحديث ابن عمر عند السراج، والطبراني، والبيهقي، وسنده حسن كما صرح به الحافظ. وخص به الفجر لكونه وقت نوم وراحة وغفلة. وأما الأوقات الأخرى فهي على غير ذلك. روى أبوداود عن مجاهد، قال: كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهر والعصر، قال: أخرج بنا فإن هذه بدعة. قال ابن الهمام: وأما التثويب بين الأذان والإقامة فلم يكن على عهده عليه السلام. (رواه الترمذي وابن ماجه) واللفظ للترمذي، ولفظ ابن ماجه عن بلال قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أثوب في الفجر، ونهاني أن أثوب في العشاء. وأخرجه أيضا أحمد (ج6: ص14-15) والبيهقي (ج1: ص424) كلهم من طريق أبي إسرائيل، عن الحكم، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن بلال. قال الترمذي: أبوإسرائيل لم يسمع هذا الحديث من الحكم بن عتيبة، قال: إنما رواه عن الحسن بن عمارة، عن الحكم-انتهى. والحسن بن عمارة متروك الحديث. وقال البيهقي: عبدالرحمن بن أبي ليلى لم يلق بلالا. والحديث وإن كان ضعيف الإسناد لكنه تأيد بأحاديث أبي محذورة وأنس، وابن عمر وغيرهم. (أبو إسرائيل الراوي) اسمه إسماعيل بن أبي إسحاق خليفة الملائي. (ليس هو بذاك القوي عند أهل الحديث) الظاهر أن ضعفه أكثره من سوء حفظه، قال أبوحاتم: حسن الحديث، جيد اللقاء، وله أغاليط، لا يحتج بحديثه، ويكتب حديثه، وهو سيء الحفظ، وقال ابن المبارك: لقد من الله على المسلمين بسوء حفظ أبي إسرائيل. وقال العقيلي: في حديثه وهم واضطراب، له ومع ذلك مذهب سوء. وقال الحافظ في التقريب: إسماعيل بن خليفة العبسي أبوإسرائيل الملائي الكوفي معروف بكنيته، وقيل: اسمه

(4/167)


عبدالعزيز، صدوق، وسيء الحفظ، نسب إلى الغلو في التشيع، مات سنة (69) وله أكثر من. (80) سنة.
652- قوله: (إذا أذنت فترسل) أي تأن، وترفق، وتمهل، ورتل ألفاظه، ولا تعجل، ولا تسرع في سردها، يقال: ترسل في كلامه ومشيه إذا لم يعجل. وفيه دليل على شرعية الترسل في الأذان؛ لأن المراد منه الإعلام للبعيد، وهو مع الترسل أكثر إبلاغا. قال ابن العربي: السنة في الأذان الترسل والترفق؛ لأنه يكون لإسماع جميع المصلين وعنده يحصل الإعلام. (وإذا أقمت فاحدر) بضم الدال من باب نصر أي أسرع في التلفظ بكلمات الإقامة. وفيه دليل على شرعية الحدر والإسراع في الإقامة؛ لأن المراد منها إعلام الحاضرين، فكان الإسراع بها أنسب فيفرغ منه بسرعة،
واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله. والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته، ولا تقوموا حتى تروني)) رواه الترمذي. وقال: لا نعرفه إلا من حديث عبدالمنعم، وهو إسناد مجهول.
653- (8) وعن زياد بن الحارث الصدائي قال: ((أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

(4/168)


فيأتي بالمقصود وهو الصلاة. (واجعل بين أذانك وإقامتك) أي زمانا يسيرا بحيث يكون. (قدر ما يفرغ الآكل من أكله) الخ. يعني تمهل وقتا يقدر فيه فراغ الآكل من أكله الخ، فإن الأذان نداء لغير الحاضرين ليحضروا الصلاة، فلا بد من تقدير وقت يتسع للذاهب للصلاة وحضورها وإلا لضاعت فائدة النداء، وقد ترجم البخاري: باب كم بين الأذان والإقامة، ولعله أشار بذلك إلى هذا الحديث، وسنده ضعيف كما سيأتي، فكأنه أشار إلى أن التقدير بذاك لم يثبت، وقال ابن بطال: لا حد لذلك غير تمكن دخول الوقت واجتماع المصلين. (والمعتصر) هو من يؤذيه بول أو غائط. (إذا دخل) أي الخلاء. (لقضاء الحاجة) يفرغ الذي يحتاج إلى الغائط ويعصر بطنه وفرجه. (ولا تقوموا) أي للصلاة. (حتى تروني) أي قد خرجت من الحجرة الشريفة، وسيأتي توضيح هذا في شرح أبي قتادة عند الشيخين: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا الحاكم، والبيهقي، وابن عدي. (وقال) أي الترمذي: (لا نعرفه إلا من حديث عبدالمنعم) عن يحيى بن مسلم البكاء، عن الحسن وعطاء، عن جابر، وعبدالمنعم هذا هو ابن نعيم الأسواري صاحب السقا، وهو ضعيف، قال البخاري وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال الحافظ: متروك. وليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث عند الترمذي وحده. وشيخه يحيى بن مسلم البكاء-بفتح الباء وتشديد الكاف-ضعيف أيضا، ضعفه أبوداود، وابن حبان، والدارقطني. وقال أحمد والنسائي: ليس بثقة. ومدار هذا الحديث عليه. وقد رواه عنه راو آخر ضعيف، فرواه الحاكم في المستدرك (ج1: ص204) من طريق عمرو بن فائد الأسواري: ثنا يحيى بن مسلم، عن الحسن وعطاء، عن جابر فذكره، وقال: هذا حديث ليس في إسناده مطعون فيه غير عمرو بن فائد والباقون شيوخ البصرة، وهذه سنة غريبة، لا أعرف لها إسنادا غير هذا، ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي، وقال: عمرو بن فائد قال الدارقطني: متروك. وقال الحاكم في التلخيص

(4/169)


(ص74): لم يقع إلا في روايته هو. ولم يقع في رواية الباقين لكن عندهم فيه عبدالمنعم وهو كاف في تضعيف الحديث-انتهى. وقال في الفتح (ج3: ص347): وله شاهد من حديث أبي هريرة، ومن حديث سليمان أخرجهما أبوالشيخ، ومن حديث أبي بن كعب أخرجه عبدالله بن أحمد في زيادات المسند، وكلها واهية-انتهى. (وهو) أي إسناده. (إسناد مجهول)؛ لأن فيه يحيى بن مسلم البكاء، وهو مجهول كما في التقريب.
653- قوله: (وعن زياد) بكسر زاي وخفة مثناة تحت. (بن الحارث الصدائي) بضم صاد وخفة دال مهملة
أن أذن في صلاة الفجر فأذنت فأراد بلال أن يقيم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أخا صداء قد أذن، ومن أذن فهو يقيم)) رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجه.

(4/170)


فألف فهمزة، نسبة إلى صداء ممدودا، وهو حي من اليمن، وزياد هذا صحابي قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأذن له في سفره، له حديث. (أن أذن) أن مفسرة لما في أمر من معنى القول. (أن أخا صداء) أي صاحب صداء، وهو زياد بن الحارث، قيل له ذلك؛ لأنه كان من نسل صداء وولده، كما يقال لمن كان من العرب: يا أخا العرب، ولمن كان من تميم: يا أخا تميم. (ومن أذن فهو يقيم) أي فهو أحق بالإقامة، فلا يقيم غيره إلا لداع إلى ذلك كما في إقامة عبدالله بن زيد رائي الأذان. وفيه دليل على أن الإقامة حق لمن أذن، فيكره أن يقيم غيره، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم، وعضد حديث زيادة هذا حديث ابن عمر بلفظ: "فهلا يا بلال! فإنما يقيم من أذن"، أخرجه ابن شاهين، والطبراني، والعقيلي، وأبوالشيخ، والخطيب، وإن كان قد ضعفه أبوحاتم، وابن حبان. وقال أبوحنيفة ومالك: لا يكره إقامة غير المؤذن، فلا فرق بين إقامة المؤذن وإقامة غيره، والأمر متسع. قال ابن الملك: وحديث زياد محمول على ما إذا لحقه الوحشة بإقامة غيره. واستدل لهما بحديث عبدالله بن زيد عند أبي داود أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمره أن يلقي الأذان على بلال: أنا رأيته يعني الأذان في المنام، وأنا كنت أريده، قال: فأقم أنت. وفي سنده محمد بن عمرو الواقفي، وهو ضعيف، ضعفه القطان، وابن نمير، ويحيى بن معين. وذكر البيهقي: أن في إسناده ومتنه اختلافا. وقال الحازمي: في إسناده مقال، قلت: الأخذ بحديث الصدائي أولى؛ لأنه أقوم إسنادا من حديث عبدالله بن زيد كما ستعرف، ولأن حديث عبدالله بن زيد كان في أول ما شرع الأذان، وذلك في السنة الأولى، وحديث الصدائي كان بعده بلا شك، والأخذ بآخر الأمرين أولى، ولأن لحديث الصدائي شاهدا من حديث ابن عمر وإن كان ضعيفا، وقد تقدم ذكره، ولأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الصدائي: من أذن فهو يقيم، قانون

(4/171)


كلي. وأما حديث عبدالله بن زيد ففيه بيان واقعة جزئية يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد بقوله لعبدالله بن زيد "فأقم أنت" تطييب قلبه؛ لأنه رأى الأذان في المنام، ويحتمل أن يكون لبيان الجواز. (رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه) واللفظ للترمذي، وأخرجه أيضا أحمد (ج4: ص169) والبيهقي (ج1: ص399) والحديث في سنده عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي. قال السندي في حاشية ابن ماجه: والإفريقي في إسناد الحديث وإن ضعفه يحيى بن سعيد القطان وأحمد، لكن قوى أمره محمد بن إسماعيل البخاري، فقال: هو مقارب الحديث. وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم، وتلقيهم الحديث بالقبول مما يقوي الحديث أيضا فالحديث صالح، فلذلك سكت عليه أبوداود-انتهى. قلت: وسكت عليه المنذري أيضا. وقال ميرك: ضعفه الترمذي لأجل الإفريقي، وحسنه الحازمي وقواه العقيلي وابن الجوزي-انتهى. وقال الشوكاني في السيل الجرار: حديث "من أذن فهو يقيم" لم يتكلم عليه إلا بأن في إسناده عبدالرحمن بن زياد الإفريقي، وقد وثقه جماعة، ولم يقدح
?الفصل الثالث?
654- (9) عن ابن عمر، قال: ((كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون للصلاة، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: قرنا مثل قرن اليهود. فقال عمر: أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا بلال! قم فناد بالصلاة))

(4/172)


فيه بما يوجب سقوط الاحتجاج بحديثه-انتهى. فحديث زياد بن الحارث الصدائي هذا في قصة طويلة روى أحمد، والترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والبيهقي مختصرا كما هنا، وقد روى البيهقي أيضا في السنن (ج1: ص381) قطعة مطولة منه. ورواه المزي بطوله في تهذيب الكمال بسنده، وطبع متن الحديث بحاشية تهذيب التهذيب للحافظ بدون ذكر الإسناد. قال صاحب تعليق الترمذي: ورواه عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالحكم في كتاب فتوح مصر (ص212، 213 طبعة ليدن) مطولا أيضا.

(4/173)


654- قوله: (حين قدموا المدينة) أي من مكة في الهجرة. (يجتمعون) في المسجد. (فيتحينون) بحاء مهملة يتفعلون من التحين، والحين الوقت والزمان أي يقدرون حين الصلاة ويعينون وقتها بالتقدير والتخمين ليأتوا فيه. (للصلاة) أي لتحصيل الصلاة بالجماعة متعلق بالفعلين على طريق التنازع. (وليس ينادي بها أحد) قيل: كلمة ليس بمعنى لا النافية، وهي حرف فلا اسم لها ولا خبر، وقيل: بل فيها ضمير الشأن، وهو اسمها، والجملة بعدها خبر واسمها أحد قد أخر. (فتكلموا) أي الصحابة. (اتخذوا) بكسر الخاء على صيغة الأمر. (قرنا) أي بل اتخذوا قرنا – بفتح القاف وسكون الراء – هو البوق بضم الباء، ويسمى أيضا الشبور. والمراد أنه ينفخ فيه فيخرج منه صوت يكون علامة للأوقات، فيجتمعون عند سماعه كما كانت اليهود يفعلونه. (أو لا تبعثون) ألهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر، أي أتقولون بموافقة اليهود والنصارى ولا تبعثون. قال الطيبي: الهمزة إنكار للجملة الأولى أي المقدرة، وتقرير للجملة الثانية. (رجلا ينادي بالصلاة) قال الحافظ: الظاهر أن إشارة عمر بإرسال رجل ينادي للصلاة كانت عقب المشاورة فيما يفعلونه، وأن رؤيا عبدالله بن زيد كانت بعد ذلك. (فناد بالصلاة) قال القاضي عياض: ظاهره أنه إعلام ليس على صفة الأذان الشرعي، بل إخبار بحضور وقتها. قال النووي: هذا الذي قاله محتمل أو متعين، فقد صح في حديث عبدالله بن زيد عند أبي داود وغيره: أنه رأى الأذان في المنام، فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره به فجاء عمر، فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! والذي بعثك لقدر رأيت مثل الذي رأى. وذكر الحديث، فهذا ظاهره أنه كان في مجلس آخر، فيكون الإعلام أولا، ثم رأى عبدالله بن زيد الأذان فشرعه
متفق عليه.

(4/174)


655- (10) وعن عبدالله بن زيد بن عبدربه، قال: ((لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبدالله! أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى. قال: فقال: تقول: الله أكبر، إلى آخره،
النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إما بالوحي وإما باجتهاده - صلى الله عليه وسلم - على مذهب الجمهور في جواز الاجتهاد له - صلى الله عليه وسلم -، وليس هو عملا بمجرد المنام، هذا ما لا شك فيه بلا خلاف-انتهى. قال الحافظ: ويؤيد الأول ما رواه عبدالرزاق وأبوداود في المراسيل من طريق عبيد بن عمير الليثي أحد كبار التابعين: أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: سبقك بذلك الوحي-انتهى. وكان اللفظ الذي ينادي به بلال للصلاة بإشارة عمر قوله: "الصلاة جامعة" أخرجه ابن سعد في الطبقات من مراسيل سعيد بن المسيب، وعلى هذا فإدراج المصنف الحديث في الباب؛ لأن هذا النداء كان من جملة بداءة الأذان ومقدماته. (متفق عليه) واللفظ لمسلم إلا قوله "للصلاة" فإنه للبخاري على ما في الكشمهيني، ووقع عند مسلم الصلوات. والحديث أخرجه أيضا أحمد، والترمذي، والنسائي.

(4/175)


655- قوله: (وعن عبدالله بن زيد بن عبد ربه) بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي يكنى أبا محمد المدني، صحابي مشهور، شهد العقبة وبدرا والمشاهد، وهو الذي أرى النداء للصلاة في النوم، وكانت رؤياه في السنة الأولى من الهجرة بعد بناء المسجد. قال الترمذي عن البخاري: لا يعرف له إلا حديث الأذان. وقال ابن عدي: لا نعرف له شيئا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا حديث الأذان. قال الحافظ: وأطلق غير واحد أنه ليس له غيره، وهو خطأ فقد جاءت عنه عدة أحاديث، ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد، مات سنة (32)، وقيل: استشهد بأحد. (لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي أراد أن يأمر فهو بصيغة المعلوم يدل عليه سياق حديث الدارمي وابن ماجه. (بالناقوس) لعله مال إلى شعار النصارى مع كراهته لأمر اليهود والنصارى لكون النصارى أقرب إلى المسلمين من اليهود باعتبار المودة والطواعية، أو مال إليه للإضطرار بعد ذلك. (يعمل) حال وهو مجهول كقوله. (ليضرب به) أي ببعضه على بعض. (للناس) أي لحضورهم. (لجمع الصلاة) أي لأدائها جماعة. (طاف بي) جواب لما أي مر بي. (رجل) فاعل طاف. (يحمل) صفة رجل. (ندعو به) أي بسبب ضربه وحصول الصوت به. (إلى الصلاة) أي ليجتمعوا في المسجد ويصلوا بالجماعة. (خير من ذلك) أي من الناقوس وضربه. (قال) أي الراوي وهو عبدالله بن زيد. (فقال) أي الرجل الطائف. (إلى آخره) أي إلى آخر

(4/176)


وكذا الإقامة. فلما أصبحت أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته بما رأيت. فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك. فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به. قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب، وهو في بيته، فخرج يجر رداءه يقول: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما أرى. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: فلله الحمد)) رواه أبوداود، والدارمي، وابن ماجه، إلا أنه لم يذكر الإقامة. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح، لكنه لم يصرح قصة الناقوس.

(4/177)


الأذان. (وكذا الإقامة) قال القاري: أي مثل الأذان، وظاهره يؤيد مذهبنا، أي أعلمه أياها-انتهى. قلت: الحديث لا يؤيد الحنفية بل يخالفهم ويرد عليهم، فإن نص رواية أبي داود بعد ذكر الأذان: ثم استأخر عني غير بعيد، أي بعد ما علمه الأذان، ثم قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة. حي على الفلاح. قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلا الله. قال صاحب بذل المجهود: هذا الحديث الذي أخرجه أبوداود من طريق إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق فيه ذكر الأذان مثنى مثنى والإقامة مرة مرة، ويؤيده ما قال الترمذي بعد ما أخرج هذا الحديث من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن إسحاق: وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق أتم من هذا الحديث وأطول، وذكر فيه قصة الأذان مثنى مثنى، والإقامة مرة مرة، وكذلك أخرج الدارمي في سننه هذا الحديث من طريق مسلمة عن محمد بن إسحاق، وفيه: ثم استأخر غير كثير، ثم قال مثل ما قال، وجعلها وترا، إلا أنه قال: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة. فهذه الأحاديث تدل على أن الإقامة مرة مرة إلا قوله: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة- انتهى كلام صاحب البذل. فالمراد بقول المصنف: وكذا الإقامة أي مثل كلمات الأذان في الكيفية لا الكمية، وظهر من هذا أن منشأ توهم القاري هو هذا الاختصار المخل. (فأخبرته بما رأيت) أي من الرؤيا. (فقال: إنها) أي رؤياك. (لرؤيا حق) أي ثابتة صحيحة صادقة مطابقة للوحي. (إن شاء الله) للتبرك لا للشك. (فألق) أمر من الإلقاء. (ما رأيت) من الأذان. (فليؤذن به) أي بأذانك الذي تلقى عليه. (فإنه) أي بلالا. (أندى) أفعل تفضيل من النداء، أي أبعد، وأعلى، وأرفع. وقيل: أحسن وأعذب (صوتا منك) فيه دليل على استحباب اتخاذ المؤذن رفيع الصوت حسنه. (ألقيه عليه) أي ألقن الأذان على بلال.

(4/178)


(فسمع بذلك) أي بصوت الأذان. (وهو في بيته) جملة حالية. (مثل ما رأى) أي عبدالله بن زيد، ولعل هذا القول صدر عن عمر بعد ما حكى له بالرؤيا السابقة. (فلله الحمد) حيث أظهر الحق إظهارا وزاد في البيان نورا. (رواه أبوداود) وسكت عنه. (والدارمي وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج4: ص43)
656- (11) وعن أبي بكرة، قال: ((خرجت مع النبي- صلى الله عليه وسلم - لصلاة الصبح، فكان لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة، أو حركه برجله)) رواه أبوداود.
657- (12) وعن مالك، بلغه أن المؤذن جاء عمر يؤذنه لصلاة الصبح، فوجده نائما. فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح.

(4/179)


وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحهما، والبيهقي كلهم من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن محمد بن عبدالله بن زيد، عن أبيه عبدالله بن زيد، وصرح ابن إسحاق في رواية أحمد، وأبي داود، وابن ماجه بسماعه من محمد بن إبراهيم، قال محمد بن يحيى الذهلي: ليس في أخبار عبدالله بن زيد في قصة الأذان خبر أصح من هذا يعني حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عم محمد بن عبدالله بن زيد؛ لأن محمدا سمع من أبيه، وابن أبي ليلى لم يسمع من عبدالله بن زيد، وقال ابن خزيمة في صحيحه: هذا حديث صحيح ثابت من جهة النقل؛ لأن محمدا سمع من أبيه، وابن إسحاق سمع من التيمي وليس هذا مما دلسه. وقد نقله البيهقي عن كتاب العلل الكبير للترمذي قال: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فقال: هو عندي حديث صحيح- انتهى. وأصل هذا الحديث مروي في سيرة ابن إسحاق التي هذبها ابن هشام، وعرفت باسمه، وصرح فيه ابن إسحاق بسماعه من محمد بن إبراهيم التيمي. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وحديث عبدالله بن زيد في الأذان أخرجه أيضا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عبدالله بن زيد، وهو في مسند أحمد (ج4: ص42، 43) وذكره المجد بن تيمية في المنتقى في باب صفة الأذان.

(4/180)


656- قوله: (إلا ناداه بالصلاة) قال ابن حجر: أي أعلمه بها لفظا، وفيه حث على الأذان؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لما تعاطى النداء للصلاة بنفسه كان في ذلك أبلغ حث على الأذان- انتهى. قال القاري: ويؤخذ منه مشروعية التثويب في الجملة على ما ظهر لي، والله أعلم. وقال الطيبي: مناسبته للباب مجرد النداء. (أو حركة برجله) أي إذا كان مشغولا بنوم ونحوه، وفيه حث على إيقاظ النائم ونحوه للصلاة بالنداء، أو بتحريك الرجل، ويؤخذ من تحريكه برجله جواز ذلك من غير كراهة. (رواه أبوداود) في باب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وسكت عنه. وقال المنذري: في إسناده أبوالفضل الأنصاري وهو غير مشهور- انتهى. وقال الحافظ في التقريب، وابن القطان: مجهول. وقال الذهبي في الميزان: لا يدرى من هذا.
657- قوله: (يؤذنه) بهمز ويبدل من الإيذان بمعنى الإعلام والإظهار. (أن يجعلها) أي هذه الجملة. (في نداء الصبح) ظاهره يدل على أن دخول "الصلاة خير من النوم" في أذان الفجر كان بأمر عمر، واستشكل هذا بأن دخول هذه الكلمة في نداء الصبح كان بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال، وكان ذلك شائعا في أذان بلال، وأذان أبي محذورة وغيرهما من
رواه في الموطأ.
658- (13) وعن عبدالرحمن بن سعد بن عمار بن سعد مؤذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، قال: حدثني أبي، عن جده، ((أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أمر بلال أن يجعل إصبعيه في أذنيه،

(4/181)


المؤذنين، فما معنى جعله في نداء الصبح بأمر عمر؟ وأجيب عنه بوجوه أوجهها وأولاها أن معنى "أن يجعلها في نداء الصبح" أن يبقيها فيه، ولا يجاوزها إلى غيره بل يقصرها على أذان الصبح، فمقصوده إنكار استعمال هذه الكلمة عند باب الأمير لإيقاظ النائم في غير الأذان المشروع، وإلا فكون "الصلاة خير من النوم" في أذان الفجر أشهر عند العلماء والعامة أن يظن بعمر أنه جهل ما سن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وأمر به مؤذنه بلالا بالمدينة، وأبا محذورة بمكة، فمعنى جعله في نداء الصبح أن يستمر على جعله فيه، ولا يستعمله خارجه عند باب الأمير أو غيره لإيقاظ النائم ونحوه، واختار هذا التوجيه ابن عبدالبر، والباجي، وقال الزرقاني: هو المتعين. (رواه) أي مالك في الموطأ بلاغا. قال ابن عبدالبر: لا أعلم أنه روي من وجه يحتج به وتعلم صحته، وإنما فيه حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه. ذكر ابن أبي شيبة: نا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن رجل يقال له إسماعيل قال: جاء المؤذن يؤذن عمر لصلاة الصبح فقال: "الصلاة خير من النوم"، فأعجب به عمر وقال للمؤذن: أقرها في أذانك- انتهى. ورده الزرقاني بأنه قد أخرجه الدارقطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر. وأخرج أيضا عن وكيع، عن سفيان، عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر أنه قال لمؤذنه: إذا بلغت "حي على الفلاح" في الفجر فقل: الصلاة خير من النوم- انتهى.

(4/182)


658- قوله: (عن عبدالرحمن بن سعد بن عمار بن سعد) القرظ المدني، قال البخاري: فيه نظر، وقال ابن معين: ضعيف، وقال الحاكم أبوأحمد: حديثه ليس بالقائم، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ في التقريب: ضعيف. (مؤذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -) بالجر بدل من سعد، ويجوز رفعه ونصبه. (قال) أي عبدالرحمن. (حدثني أبي) أي سعد بن عمار بن سعد، قال ابن القطان: لا يعرف حاله ولا حال أبيه، وقال الحافظ مستور. (عن أبيه) أي عمار بن سعد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ مقبول. (عن جده) أي جد أبي وهو سعد بن عائذ، ويقال ابن عبدالرحمن مولى الأنصار، ويقال: مولى عمار المعروف بسعد القرظ، قيل له ذلك لتجارته في القرظ. كان يؤذن بقباء، فلما ترك بلال الأذان، نقله أبوبكر إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتوارث عنه بنوه الأذان، روى البغوي في معجم الصحابة بسنده: أن سعدا شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قلة ذات يده، فأمره بالتجارة، فخرج إلى السوق فاشترى شيئا من قرظ فباعه فربح فيه، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فأمره بلزوم ذلك فلزمه، فسمي سعد القرظ، بقي إلى ولاية الحجاج على الحجاز، وذلك سنة (74). (أن يجعل إصبعيه) أي أنملتي مسبحتيه. (في أذنيه) أي في صماخيهما، قال الحافظ: لم يرد تعيين الإصبع التي يستحب وضعها، وجزم النووي: أنها المسبحة، وإطلاق الإصبع مجاز عن الأنملة.
قال: إنه أرفع لصوتك)) رواه ابن ماجه.
(5) باب فضل الأذان وإجابة المؤذن
?الفصل الأول?
659- (1) عن معاوية، قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: ((المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة)) رواه مسلم.

(4/183)


(قال إنه) أي جعلهما في الأذنين. (أرفع لصوتك) قال الطيبي: ولعل الحكمة أنه إذا سد صماخيه لا يسمع إلا الصوت الرفيع فيتحرى في استقصائه كالأطروش أي الأصم. قيل: وبه يستدل الأصم على كونه أذانا فيكون أبلغ في الإعلام. قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم يستحبون أن يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الأذان. قال الحافظ: قالوا: في ذلك فائدتان، إحداهما أنه قد يكون أرفع لصوته، وفيه حديث ضعيف. أخرجه أبوالشيخ من طريق سعد القرظ، عن بلال. وثانيتهما أنه علامة للمؤذن ليعرف من رآه على بعد، أو كان به صمم أنه يؤذن. (رواه ابن ماجه) قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف أولاد سعد- انتهى. وأخرجه أيضا الحاكم في كتاب الفضائل وسكت عنه، وأخرجه الطبراني في معجمه من حديث بلال، وأخرج ابن عدي في الكامل من حديث أبي أمامة، وروى الترمذي عن أبي جحيفة وصححه، قال: رأيت بلالا يؤذن ويدور، يتبع فاه ههنا وههنا وإصبعاه في أذنيه.
(باب فضل الأذان وإجابة المؤذن) عطف على الأذان.

(4/184)


659- قوله: (وأطول الناس أعناقا) بفتح الهمزة جمع عنق، واختلفوا في معناه، فقيل: معناه أكثر الناس تشوقا إلى رحمة الله؛ لأن المتشوق يطيل عنقه لما يتطلع إليه، فمعناه إليه، فمعناه كثرة ما يرونه من الثواب. وقيل: إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق، وقيل: هو كناية عن كونهم رؤساء، فإن العرب تصف السادة بطول العنق، وقيل: كناية عن فرحتهم وسرورهم وأنهم لا يلحقهم الخجل، وقيل معناه: أكثرهم أعمالا، يقال: لفلان عنق من الخير أي قطعة منه. وقيل: معناه أن الناس يعطشون يوم القيامة، فإذا عطش الإنسان انطوت عنقه، والمؤذنون لا يعطشون، فأعناقهم قائمة. قال الشوكاني: وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة: يعرفون بطول أعناقهم يوم القيامة، زاد السراج: لقولهم لا إله إلا الله. وظاهره الطول الحقيقي فلا يجوز المصير إلى التفسير بغيره إلا لملجئ. والحديث يدل على فضيلة الأذان وأن صاحبه يوم القيامة يمتاز عن غيره، ولكن إذا كان فاعله غير متخذ أجرا عليه وإلا كان فعله لذلك من طلب الدنيا والسعي للمعاش، وليس من أعمال الآخرة،. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد، وابن ماجه. وفي الباب عن أبي هريرة، وابن الزبير بألفاظ مختلفة.
660- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إذا نودي للصلاة، أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب، أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا لما لم يذكر،

(4/185)


660- قوله: (للصلاة) أي لأجل الصلاة. (أدبر الشيطان) أي عن موضع الأذان، قيل: المراد بالشيطان إبليس، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان، وهو كل متمرد من الجن والإنس، لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة. (له ضراط) بضم الضاد كغراب، وهو ريح من أسفل الإنسان وغيره، وهي جملة اسمية، وقعت حالا بدون الواو لحصول الارتباط بالضمير، وفي بعض الروايات"وله ضراط" بالواو، وحقيقته ممكنة؛ لأن الشياطين أجسام يأكلون ويشربون كما ورد في الأخبار، فيصح منهم خروج الريح، فالظاهر حمله على الحقيقة، فقيل: يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف وهيبة، ويحدث له ذلك الصوت بسببها من غير أن يتعمد ذلك. قال القاري: هذا لثقل الأذان عليه كما للحمار من ثقل الحمل عليه- انتهى. وقيل: يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع الأذان، أو يصنع ذلك استخفافا بالأذان كما يفعله السفهاء، أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، وقيل الحديث محمول على التشبيه، شبه شغل الشيطان نفسه وإغفاله عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضراطا تقبيحا له. وقيل: هو عبارة عن شدة نفاره. (حتى لا يسمع التأذين) تعليل لإدباره. واستدل به على استحباب رفع الصوت بالأذان؛ لأن قوله "حتى لا يسمع" ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها للصوت، وقد وقع بيان الغاية في رواية لمسلم من حديث جابر فقال: "حتى يكون مكان الروحاء" وبين الروحاء والمدينة ستة وثلاثون ميلا. (فإذا قضى) على بناء لمفعول أو الفاعل، والضمير للمنادى، أي فرغ المؤذن منه. (أقبل) الشيطان أي فوسوس كما في رواية مسلم: (حتى إذا ثوب بالصلاة) أي أقيم لها، ففي رواية لمسلم: إذا أقيمت، وفي أخرى له: إذا سمع الإقامة. (أدبر حتى) لا يسمع الإقامة. (حتى يخطر) بفتح ياء وكسر طاء، وحتى تعليلية. (بين المرء ونفسه) أي قلبه، والمعنى: حتى يوسوس بما يكون حائلا بين الإنسان وما يقصده،

(4/186)


ويريد إقبال نفسه عليه مما يتعلق بالصلاة من خشوع وغيره، وأكثر الرواة على ضم الطاء أي يسلك ويمر، ويدخل بين الإنسان ونفسه، فيكون حائلا بينهما على المعنى الذي ذكرنا أولا، وهذا لا ينافي إسناد الحيلولة إلى الله تعالى في قوله. ?إن الله يحول بين المرء وقلبه? [8: 24]؛ لأن إسناده إليه تعالى حقيقي، وهذا باعتبار أن الله تعالى مكنه منها حتى يتم ابتلاء العبد به. (يقول) أي للمصلي، وهو بالرفع استئناف مبين، وقيل: بالنصب على أنه يدل من يخطر. (أذكر كذا، أذكر كذا) كناية عن أشياء لم تتعلق بالصلاة. (لما لم يذكر) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله
حتى يظل الرجل لا يدري: كم صلى؟)) متفق عليه.
661- (3) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((لا يسمع مدى صوت المؤذن جن،
ولا إنس، ولا شيء، إلا شهد له
في الصلاة (حتى يظل الرجل) بفتح الظاء أي يصير ويبقى من الوسوسة بحيث. (لا يدري كم صلى) أي يقع في الشك. قال الطيبي: كرر "حتى" في الحديث خمس مرات، الأولى والأخيرتان بمعنى "كي"، والثانية والثالثة دخلتا على الجملتين الشرطيتين وليستا للتعليل- انتهى. وقد اختلف العلماء في الحكمة في هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة، فقيل: يهرب حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة، فإنه لا يسمع مدى صوته جن ولا إنس إلا شهد له يوم القيامة. وقيل: لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه. وقيل: غير ذلك مما بسطه الحافظ في الفتح، والزرقاني في شرح الموطأ. قال ابن بطال: يشبه أن يكون الزجر عن خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذن المؤذن من هذا المعنى، لئلا يكون متشبها بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك، وأبوداود، والنسائي.

(4/187)


661- قوله: (لا يسمع مدى صوت المؤذن) بفتح الميم والقصر، أي غاية صوته، قال البيضاوي: غاية الصوت تكون أخفى، فإذ شهد له من بعد عنه ووصل إليه منتهى صوته فلأن يشهد له من دنا منه، وسمع مبادئ صوته أولى بالشهادة. (جن ولا إنس) تنكيرهما في سياق النفي لتعميم الأحياء والأموات. (ولا شيء) أي من النبات والحيوانات والجمادات، فهو من باب عطف العام على الخاص، يدل عليه ما في رواية ابن خزيمة: "لا يسمع صوته شجر ولا مدر، ولا حجر، ولا جن، ولا إنس". ولأبي داود والنسائي من حديث أبي هريرة: "المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس"، ونحوه لأحمد والنسائي من حديث البراء، وصححه ابن السكن، فهذه الأحاديث تبين المراد من قوله في حديث الباب: "ولا شيء"، وغير ممتنع عقلا ولا شرعا أن يخلق الله في الجمادات الحياة والقدرة على السماع والكلام والشهادة، ومثله قوله تعالى. ?وإن من شيء إلا يسبح بحمده? [17: 44] وفي صحيح مسلم: إني لأعرف حجرا كان يسلم علي. ومنه ما ثبت في البخاري وغيره من قول النار: أكل بعضي بعضا. قال القاري: والصحيح أن للجمادات والحيوانات والنباتات علما وإدراكا وتسبيحا كما يعلم من قوله تعالى: ?وإن منها لما يهبط من خشية الله? [2: 74]، وقوله تعالى: ?وإن من شيء إلا يسبح بحمده? ومن حديثه عليه السلام: "يقول الجبل للجبل: هل مر بك أحد ذكر الله؟ فإذا قال: نعم استبشر". قال البغوي: وهذا مذهب أهل السنة، ويدل عليه قضية كلام الذئب والبقر وغيرهما فلا يحتاج إلى ما قاله ابن حجر: بأن يخلق الله تعالى فهما وسمعا حيى تسمع أذانه وتعقله. (إلا شهد له) أي بلسان القال. والسر في
يوم القيامة)) رواه البخاري.
662- (4) وعن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول

(4/188)


هذه الشهادة مع أنها تقع عند الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدنيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، قاله الزين بن المنير، وقال التوربشتي: المراد من شهادة الشاهدين له ?وكفى بالله شهيدا? اشتهاره يوم القيامة فيما بينهم بالفضل والعلو، فإن الله تعالى يهين قوما ويفضحهم بشهادة الشاهدين، فكذلك يكرم قوما تكميلا لسرورهم وتطييبا لقلوبهم. وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالأذان ليكثر من يشهد له ما لم يجهده أو يتأذى، وفيه أن أذان الفذ مندوب إليه، ولو كان في قفر، ولو لم يترج حضور من يصلي معه؛ لأنه إن فاته دعاء المصلين فلم يفته استشهاد من سمعه من غيرهم. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا مالك، والشافعي، وأحمد والنسائي، وابن ماجه وغيرهم.

(4/189)


662 – قوله: (إذا سمعتم المؤذن) أي صوته أو أذانه. وظاهره اختصاص الإجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلا في الوقت وعلم أنه يؤذن لكن لم يسمع لبعد أو صمم لا تشرع له المتابعة (فقولوا) قال ابن رسلان: الأمر للندب عند الجمهور، والصارف عن الوجوب على ما قيل اقترانه بأمر الصلاة وسؤال الوسيلة، وهما مستحبان، وفيه نظر، فإن دلالة الاقتران غير معمول عند الجمهور خلافا للمزني- انتهى. قال الحافظ استدل الجمهور بحديث أخرجه مسلم وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع مؤذنا، فلما كبر قال: على الفطرة، فلما تشهد قال: خرجت من النار، قالوا: فلما قال - صلى الله عليه وسلم - غير ما قال المؤذن علمنا أن الأمر بذلك للاستحباب. ورد بأنه ليس في الرواية أنه لم يقل مثل ما قال. فيجوز أن يكون قاله، ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد، وباحتمال أنه وقع ذلك قبل الأمر بالإجابة. (مثل ما يقول) أي مثل قول المؤذن أي إلا في الحيعلتين، فيأتي بلا حول ولا قوة إلا بالله، لحديث عمر الآتي فهو عام مخصوص. وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح، فيقول تارة كذا وتارة كذا. وحكى بعض المتأخرين عن بعض أهل الأصول أن العام والخاص إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما، قال: فلم لا يقال يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة، وهو وجه عند الحنابلة؟ قال القسطلاني: ويقول بدل كل من كلمتي التثويب في الصبح: صدقت وبررت. (بكسر الراء الأولى، أي صرت ذابر وخير كثير). قال في الكفاية: لخبر ورد فيه- انتهى. وقال الأمير اليماني: وقيل: يقول في جواب التثويب: صدقت وبررت، وهذا استحسان من قائله، وإلا فليس فيه سنة تعتمد- انتهى. وقيل: يقول في جوابه: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الصلاة خير من النوم. وهذا أيضا استحسان من قائله لا دليل عليه من السنة، قال الكرماني: قال: مثل ما يقول، ولم يقل: "مثل ما قال"

(4/190)


ليشعر بأنه يجيب بعد كل كلمة مثل كلمتها. قال الحافظ.
ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة)). رواه مسلم.
663- (5) وعن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر؛ فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ قال: أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قال: أشهد أن محمدا رسول الله؛ قال: أشهد أن محمدا رسول الله. ثم قال: حي على الصلاة؛ قال: لا حول

(4/191)


والصريح في ذلك ما رواه النسائي من حديث أم حبيبة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول كما يقول المؤذن حتى يسكت. وأصرح من ذلك حديث عمر الآتي بعد هذا. (ثم صلوا علي) بتشديد الياء، أي ندبا وسلموا. قال المناوي: وصرف عن الوجوب الإجماع على عدمه خارج الصلاة. (فإنه) الضمير للشأن (صلاة) أي واحدة (صلى الله بها عشرا) أي أعطاه الله بتلك الصلاة الواحدة عشرا من الرحمة (ثم سلوا) أمر من سأل (الوسيلة) هي ما يتقرب به إلى الكبير، يقال: توسلت أي تقربت، وتطلق على المنزلة العلية، قاله الحافظ. والمتعين المصير إلى ما في هذا الحديث من تفسيرها (فإنها) أي الوسيلة (منزلة في الجنة) من منازلها وهي أعلاها على الإطلاق (لا تنبغي) أي لا تليق ولا تصلح ولا تحصل ولا تتيسر تلك المنزلة (وأرجو) قال المناوي: ذكره على منهج الترجي تأدبا وتشريعا. وقال القرطبي: قال ذلك قبل أن يوحى إليه أنه صاحبها، ثم أخبر بذلك، ومع ذلك فلا بد من الدعاء بها، فإن الله يزيد بكثرة دعاء أمته رفعة كما زاده بصلاتهم، ثم يرجع ذلك إليهم بنيل الأجور ووجوب شفاعته - صلى الله عليه وسلم -. (أكون أنا هو) من وضع الضمير المرفوع موضع المنصوب على أن "أنا" تأكيد أو فصل، ويحتمل أن يكون" أنا" مبتدأ خيره "هو" والجملة خبر "أكون" والله أعلم،. (حلت عليه الشفاعة) وفي حديث جابر الآتي حلت له، قال الحافظ: واللام بمعنى علي أي استحقت ووجبت، أو نزلت عليه، ولا يجوز أن تكون من الحل؛ لأنها لم تكن قبل ذلك محرمة. ثم المراد شفاعة مخصوصة. (رواه مسلم) أخرجه أيضا أحمد، والترمذي في أوائل المناقب، وأبوداود والنسائي في الصلاة.

(4/192)


663- قوله: (إذا قال المؤذن) شرطية جزاؤها "دخل الجنة". (الله أكبر، الله أكبر) لم يذكر الأربع اكتفاء بذكر اثنين منها، ومن ثم ذكر واحدا من الاثنين فيما بعد، وفيه دليل أنه يستحب للمؤذن أن يقول كل تكبيرتين بنفس واحد. (فقال أحدكم) عطف على فعل الشرط. (ثم قال) عطف على قال الأول، قال الطيبي: المعطوفات بثم مقدرات بحرف الشرط والفاء في فقال، أي إذا قال المؤذن أشهد (أن لا إله إلا الله قال) أي فقال أحدكم فحذف اختصارا. (لا حول
ولا قوة إلا بالله. ثم قال: حي على الفلاح؛ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: الله أكبر، الله أكبر؛ قال الله أكبر؛ الله أكبر. ثم قال: لا إله إلا الله؛ قال: لا إله إلا الله من قلبه، دخل الجنة)) رواه مسلم.
664- (6) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة،

(4/193)


ولا قوة إلا بالله) أى لا حيلة في الخلاص عن موانع الطاعة، ولا حركة ولا قوة على الطاعة إلا بتوفيق الله، وإنما أفرد - صلى الله عليه وسلم - الشهادتين والحيعلتين في هذا الحديث مع أن كل نوع منها مثنى كما هو المشروع لقصد الاختصار. قال النووي: فاختصر - صلى الله عليه وسلم - من كل نوع شطرا تنبيها على باقيه. (من قلبه) قيد للأخير أو للكل وهو الأظهر قاله القاري. (دخل الجنة) قال عياض: إنما كان كذلك؛ لأن ذلك توحيد وثناء على الله تعالى، وانقياد لطاعته، وتفويض إليه بقوله: لا حول ولا قوة إلا بالله، فمن حصل هذا فقد حاز حقيقة الإيمان، وكمال الإسلام، واستحق الجنة بفضل الله. وقال الطيبي: وإنما وضع الماضي موضع المستقبل لتحقيق الموعود، قال ابن حجر: على حد قوله. ?أتى أمرالله? [16: 1]. ?ونادى أصحاب الجنة? [7: 44]. والمراد أنه يدخل مع الناجين، وإلا فكل مؤمن لا بد له من دخولها، وإن سبقه عذاب بحسب جرمه إذا لم يعف عنه إلا إن قال ذلك بلسانه مع اعتقاده بلقبله حقيقة ما دل عليه وإخلاصه فيه-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود وأخرج البخاري نحوه من حديث معاوية.

(4/194)


664- قوله: (حين يسمع النداء) أي تما الأذان، إذا المطلق يحمل على الكامل، ويدل عليه أيضا حديث عبدالله بن عمرو بن العاص المتقدم. (اللهم) أي الله! والميم عوض عن "يا" فلذلك لا يجتمعان. (رب) بالنصب على أنه منادي ثان، أو بدل، ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي أنت رب هذه الدعوة. (هذه الدعوة) بفتح الدال، قال العيني: المراد بالدعوة ههنا ألفاظ الأذان التي يدعى بها الشخص إلى عبادة الله –انتهى. وقال الحافظ: المراد بها دعوة التوحيد كقوله تعالى. ?له دعوة الحق? [13: 14] وقيل لدعوة التوحيد: تامة لأن الشرك نقص، أو التامة التي لا يدخلها تغيير ولا تبديل، بل هي باقية إلى يوم القيامة، أو لأنها هي التي تستحق صفة التمام، وما سواها فمعرض للفساد والنقص، وقال ابن التين: وصفت بالتامة؛ لأن فيها أتم القول، وهو لا إله إلا الله، ومعنى رب هذه الدعوة أنه صاحبها، أو المتمم لها، والزائد في أهلها، والمثيب عليها أحسن الثواب، والآمر بها ونحو ذلك، وقيل المراد الكاملة الفاضلة. (والصلاة القائمة) أي الدائمة التي لا تغيرها ملة ولا تنسخها شريعة، أو القائمة إلى يوم القيامة، أو التي ستقوم. (آت) أي أعط أمر من الإيتاء. (الوسيلة) تقدم تفسيرها في حديث عبدالله بن عمرو. (والفضيلة) هي المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون تفسيرا للوسيلة، وأما زيادة "الدرجة الرفيعة" المشتهرة على الألسنة، فقال السخاوي: لم أرها
وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته؛ حلت له شفاعتي يوم القيامة)) رواه البخاري.
665- (7) وعن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانا أمسك، وإلا أغار.

(4/195)


في شيء من الروايات ذكره القاري. (وابعثه مقاما محمودا) على حكاية لفظ القرآن، أي مقاما يحمدك فيه الأولون والآخرون، أو مقاما يحمد القائم فيه، وهو يطلق على كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، ونصبه على الظرفية، أي ابعثه يوم القيامة فأقمه مقاما محمودا. أو ضمن "ابعثه" معنى "أقمه" أو على أنه مفعول به، ومعنى "ابعثه" "أعطه"، أو على الحال أي ابعثه ذا مقام، والتنكير للتعظيم والتفخيم كما قال الطيبي، كأنه قال: مقاما أي مقام محمودا بكل لسان. وقد روي بالتعريف عند النسائي، وابن حبان، والطحاوي، والطبراني، والبيهقي. وهذا يرد على من أنكر ثبوته معرفا كالنووي. (الذي وعدته) أراد بذلك قوله تعالى. ? عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا? [17: 79]، وأطلق عليه الوعد؛ لأن عسى في كلام الله للوقوع، والموصول إما بدل من "مقاما" أو عطف بيان، أو خبر مبتدأ محذوف، وليس صفة للنكرة لعدم المطابقة في التنكير، ووقع في رواية النسائي وغيره "المقام المحمود" بالألف واللام، فيصح وصفه بالموصول. قال ابن الجوزي: والأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة. والحكمة في سؤال ذلك مع كونه واجب الوقوع بوعد الله، وعسى في الآية للتحقيق إظهار لشرفه، وعظم منزلته، وتلذذ بحصول مرتبته ورجاء لشفاعته. (حلت) كذا في رواية البخاري بدون إلا، وهو الظاهر، وفي رواية الترمذي، وأبي داود والنسائي، وابن ماجه: إلا حلت، بإثبات إلا، وهي تحتاج إلى تأويل، ورواية البخاري أوضح؛ لأن أول الكلام "من قال" وهو شرطية و"حلت" جوابها، ولا يقترن جواب الشرط بإلا، وأما مع إلا فينبغي أن يجعل من في قوله "من قال" استفهامية للإنكار، فيرجع إلى النفي. وقال بمعنى "يقول" أي ما من أحد يقول ذلك إلا حلت له، ومثله: ?من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه? [2: 255] و?هل جزاء الإحسان إلا الإحسان? [55: 60) وأمثلته كثيرة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي

(4/196)


وابن ماجه وابن السني في عمل اليوم والليلة عن النسائي.
665- قوله: (يغير) من الإغارة. (إذا طلع الفجر) ليعلم أنهم مسلمون أو كفار. (وكان يستمع الأذان) أي يطلب سماعه، ويتوجه بسمعه إلى صوت الأذان ليعرف حالهم. (أمسك) أي عن الإغارة به. (وإلا) أي وإن لم يسمع الأذان (أغار) قال القاضي: أي كان يتثبت فيه ويحتاط في الإغارة حذرا عن أن يكون فيهم مؤمن، فيغير عليه غافلا عنه جاهلا بحاله. وفي الحديث دليل على جواز الحكم بالدليل لكونه - صلى الله عليه وسلم - كف عن القتال بمجرد سماع الأذان، وفيه الأخذ بالأحوط في أمر الدماء؛ لأنه كف عنهم في تلك الحال مع احتمال أن لا يكون ذلك على الحقيقة، وقال الخطابي: فيه بيان أن الأذان شعار لدين الإسلام،
فسمع رجلا يقول: الله أكبر، الله أكبر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على الفطرة. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خرجت من النار. فنظروا إليه فإذا هو راعي معزي)) رواه مسلم.
666- (8) وعن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا، وبمحمد رسولا، وبالإسلام

(4/197)


فلو أن أهل بلد أجمعوا على تركه كان للسلطان قتالهم عليه، ذكره القاري. (فسمع رجلا) الفاء فصيحة، أي لما كانت عادته ذلك استمع فسمع. (على الفطرة) أي أنت أو هو على الدين، أو السنة، أو الإسلام؛ لأن الأذان لا يكون إلا للمسلمين. وفيه أن التكبير من الأمور المختصة بأهل الإسلام، وأنه يصح الاستدلال به على إسلام أهل قرية سمع منهم ذلك. (خرجت) أي بالتوحيد. (من النار) قال الطيبي إشارة إلى استمرار تلك الفطرة وعدم تصرف الوالدين فيه بالشرك. وأما خرجت بلفظ الماضي فيحتمل أن يكون تفاولا وأن يكون قطعا؛ لأن كلامه عليه السلام حق وصدق، كذا في المرقاة. وقال الشوكاني: هو نحو الأدلة القاضية بان من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، وهي مطلقة مقيدة بعدم المانع جمعا بين الأدلة. (فنظروا) أي الصحابة. (إليه) أي إلى ذلك الرجل. (فإذا هو) أي الرجل المؤذن. (راعي معزي) بكسر الميم منونا بمعنى المعز، وهو اسم جنس، وواحد المعزي ماعز، وهو خلاف الضأن قاله الطيبي. واحتج به على أن الأذان مشروع للمنفرد. (رواه مسلم) أخرج البخاري منه ذكر الإغارة بدون ذكر قصة الرجل الراعي للمعز، وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي في آخر أبواب السير، وصححه أبوداود في أواخر كتاب الجهاد مختصرا بغير قصة الرجل.

(4/198)


666- قوله: (من قال حين يسمع المؤذن) أي قوله، وهو يحتمل أن يكون المراد به حين يسمع تشهده الأول أو الأخير، وهو قوله آخر الأذان: لا إله إلا الله، وهو أنسب، ويمكن أن يكون معنى يسمع يجيب، فيكون صريحا في المقصود وأن الثواب المذكور مرتب على الإجابة بكمالها مع هذه الزيادة، ولأن قوله بهذه الشهادة في أثناء الأذان ربما يفوته الإجابة في بعض الكلمات الآتية. كذا في المرقاة. (أشهد) الخ. كذا في رواية لمسلم بغير لفظ أنا، وبغير الواو، وفي أخرى له: وأنا أشهد، وكذا وقع عند أحمد والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه. قال السندي في حاشية النسائي: قوله حين يسمع المؤذن أي يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فقوله: وأنا أشهد، عطف على قول المؤذن، أي وأنا أشهد كما تشهد. (رضيت بالله ربا) تمييز، أي بربوبيته، وبجميع قضائه وقدره، وقيل: حال أي مربيا، ومالكا، وسيدا، ومصلحا. (وبمحمد رسولا) أي بجميع ما أرسل به، وبلغه إلينا من الأمور الاعتقادية وغيرها. (وبالإسلام)
دينا، غفر له ذنبه)) رواه مسلم.
667- (9) وعن عبدالله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين
صلاة. ثم قال في الثالثة: لمن شاء))
أي بجميع أحكام الإسلام من الأوامر والنواهي. (دينا) أو إعتقادا أو انقيادا. (غفر له ذنبه) أى من الصغائر جزاء لقوله من قال حين يسمع المؤذن. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. والعجب أن الحاكم أخرجه في مستدركه (ج1: ص203). وأعجب من ذلك تقرير الذهبي له في استدراكه عليه، وهو في صحيح مسلم بلفظه، وأخرجه الحاكم من طريق قتيبة عن الليث، وقتيبة هذا شيخ مسلم في هذا الحديث.

(4/199)


667- قوله: (بين كل أذانين) أي أذان وإقامة، وهذا من باب التغليب كالقمرين للشمس والقمر، ويحتمل أن يكون أطلق على الإقامة أذان حقيقة؛ لأن الأذان في اللغة بمعنى الإعلام، فالإقامة إعلام بحضور فعل الصلاة، كما أن الأذان إعلام بدخول الوقت. قال السندي في حاشية ابن ماجه: وعمومه يشمل المغرب، بل قد جاء صريحا كما في حديث أنس وغيره، فلا وجه للقول بالكراهة-انتهى. قلت: قد ورد ذكر المغرب بخصوصه نصا في حديث عبدالله ن مغفل أيضا، ففي الصحيحين عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلوا قبل صلاة المغرب. قال في الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة، وأما حديث أنس فسنذكره إن شاء الله تعالى (صلاة) أي نافلة، أو نكرت لتتناول كل عدد نواه المصلي من النافلة كركعتين، أو أربع، أو أكثر. (بين كل أذانين صلاة) قال ابن الملك: كرر تأكيدا للحث على النوافل بينهما. قال المظهر: إنما حرض عليه السلام أمته على صلاة النفل بين الأذانين؛ لأن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة لشرف ذلك الوقت، وإذا كان الوقت أشرف كان ثواب العبادة أكثر. (لمن شاء) ذكره دلالة على عدم وجوبها. قال السندي في حاشية النسائي: وهذا الحديث وأمثاله يدل على جواز الركعتين قبل صلاة المغرب بل ندبهما. قلت: أراد بأمثاله ما روي في ذلك من الأحاديث الصحيحة الصريحة. منها حديث عبدالله بن مغفل الذي ذكرنا لفظه، وهو حديث صحيح أخرجه الشيخان. ومنها حديث أنس بن مالك أخرجه أيضا الشيخان. قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم كذلك، يصلون الركعتين قبل المغرب. زاد مسلم: حتى أن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة صليت من كثرة من يصليها. ومنها حديث عقبة بن عامر أخرجه البخاري عن مرثد بن عبدالله اليزني، قال: أتيت عقبة بن عامر الجهني فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم يركع

(4/200)


ركعتين قبل صلاة المغرب، فقال: إنا كنا نفعله على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلت: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل، وسيأتي هذه الأحاديث في باب السنن وفضائلها. ومنها حديث عبدالله بن مغفل أيضا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المغرب ركعتين، أخرجه ابن حبان في صحيحه، وأخرجه محمد بن نصر في قيام الليل بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المغرب ركعتين، ثم قال:
متفق عليه.
?الفصل الثاني?
668- (10) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن. اللهم أرشد
الأئمة واغفر للمؤذنين))
صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال عند الثالثة: لمن شاء، خاف أن يحسبها الناس سنة. قال العلامة أحمد بن علي المقريزي في مختصر قيام الليل: هذا إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد صح في ابن حبان حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين قبل المغرب- انتهى. وقد روى محمد بن نصر عن جماعة من الصحابة والتابعين: أنهم كانوا يصلون الركعتين، فهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة وآثار الصحابة والتابعين تدل على استحباب الركعتين بعد أذان المغرب وقبل صلاته، وهو الحق. وترد على الحنفية والمالكية ومن وافقهم. وارجع لتفصيل الكلام في ذلك إلى شرح الترمذي لشيخنا الأجل المباركفورى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

(4/201)


668- قوله: (الإمام ضامن) قال الجزري: أراد بالضمان ههنا الحفظ والرعاية لا ضمان الغرامة؛ لأنه يحفظ على القوم صلاتهم. وقيل: إن صلاة المقتدين في عهدته، وصحتها مقرونة بصحة صلاته، فهو كالمتكفل لهم صحة صلاتهم- انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1: ص156): قال أهل اللغة: الضامن في كلام العرب معناه الراعي، والضمان معناه الرعاية، والإمام ضامن بمعنى أنه يحفظ الصلاة وعدد الركعات على القوم، وقيل: معناه ضامن الدعاء يعمهم به، ولا يختص بذلك دونهم، وليس الضمان الذي يوجب الغرامة من هذا في شيء، وقد تأوله قوم على معنى أنه يتحمل القراءة عنهم في بعض الأحوال، وكذلك يتحمل القيام أيضا إذا أدركه المأموم راكعا، وهذا التأويل الأخير الذي ذكره الخطابي بعيد من اللفظ والسياق كما لا يخفى. وأبعد منه حمله على معنى أن الإمام متكفل لصحة صلاة المقتدين، فإن الضمان في كلام العرب هو الرعاية والحفظ، والمراد أن الإمام يحفظ أفعال الصلاة وعدد الركعات على القوم، فلا دليل فيه على ما ذهب إليه الحنفية من عدم جواز صلاة المفترض خلف المتنفل. (والمؤذن مؤتمن) أي أمين في الأوقات يعتمد الناس على صوته في الصلاة والصيام وغيرهما. وقيل: أمين على حرم الناس؛ لأنه يشرف على المواضع العالية. قال الجزري: مؤتمن القوم الذي يثقون إليه ويتخذونه أمينا حافظا. يقال: ائتمن الرجل فهو مؤتمن، يعني أن المؤذن أمين الناس على صلاتهم وصيامهم-انتهى. ولابن ماجه من حديث ابن عمر مرفوعا: خصلتان معلقتان في أعناق المؤذنين للمسلمين: صلاتهم وصيامهم. (اللهم أرشد الأئمة) للعلم بما تكفلوه والقيام به والخروج عن عهدته. (واغفر للمؤذنين) أي ما عسى يكون لهم تفريط في الأمانة التي حملوها من جهة تقديم على الوقت أو تأخير عنه سهوا. والحديث يستدل به على فضل الأذان على
رواه أحمد وأبوداود والترمذي والشافعي.

(4/202)


الإمامة؛ لأن حال الأمين أفضل من حال الضمين، ورد بذلك بأن هذا الأمين يتكفل الوقت فحسب، وهذا الضامن يتكفل أركان الصلاة ويتعهد للسفارة بينهم وبين ربهم في الدعاء، فأين أحدهما من الآخر؟ وكيف لا والإمام خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمؤذن خليفة بلال. وأيضا الإرشاد الدلالة الموصولة في البغية، والغفران مسبوق بالذنوب. قال الطيبي. (رواه أحمد وأبوداود والترمذي والشافعي) في الأم، ولعل تأخير الإمام الشافعي عن المخرجين المذكورين مع أنه أجل منهم رواية ودراية باعتبار صحة أسانيد كتبهم واشتهارها، وقبول العامة لها. أما ترى أن البخاري ومسلما يتقدمان عليه بل على أستاذه الإمام مالك، وما ذلك إلا لقوة صحة كتابيها، وتلقي الأمة لهما بالقبول. وقال ابن حجر: إنما أخره عنهم مع أنهم من جملة تلامذته أو تلاميذه ليفيد أن له رواية أخرى. ولذا قال: وفي أخرى الخ. كذا في المرقاة. والحديث أخرجه أيضا أبوداود الطيالسي في مسنده، وابن حبان في صحيحه كلهم عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. وروي أيضا عن محمد بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح، عن عائشة، واختلفوا في صحة الحديث، فرجع أبوزرعة، والعقيلي، والدارقطني طريق أبي صالح عن أبي هريرة على طريق أبي صالح عن عائشة. ورجح البخاري عكسه، وذكر عن علي بن المديني أنه لم يثبت واحدا منهما. أما حديث أبي هريرة فللانقطاع بين الأعمش وأبي صالح؛ لأنه يقول: نبئت عن أبي صالح، عن أبي هريرة كما في رواية لأحمد وأبي داود. وفي رواية لأحمد عن الأعمش، عن رجل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. وأما حديث عائشة فللاختلاف في محمد بن أبي صالح، فأنكر بعضهم وجوده كابن عدي، فقد نقل في التهذيب عنه: أنه قال: ليس في ولد أبي صالح من اسمه محمد، وأثبته بعضهم كأبي داود وأبي زرعة الدمشقي. ولأنه تفرد نافع بن سليمان بذكر عائشة، وخالف الثقات في ذلك، وهو ليس بقوي، وصحح حديث أبي هريرة وعائشة جميعا ابن

(4/203)


حبان، وقال: قد سمع أبوصالح هذين الخبرين من عائشة وأبي هريرة جميعا، وهذا هو الصواب عندي، ويجاب عن الانقطاع بين الأعمش وأبي صالح بأن ابن نمير قد قال: عن الأعمش، عن أبي صالح، ولا أراني إلا قد سمعته منه. وقال إبراهيم بن حميد الرواسي: قال الأعمش: وقد سمعته من أبي صالح، وقال هشيم عن الأعمش: حدثنا أبوصالح، عن أبي هريرة، ذكر ذلك الدارقطني، فبينت هذه الطرق أن الأعمش سمعه عن غير أبي صالح. ثم سمعه منه، أو يقال: إنه سمعه من أبي صالح، ثم وقع في نفسه الشك في سماعه، فكان تارة يرويه عن أبي صالح، وتارة يرويه عن رجل عنه، وتارة يقول نبئت عن أبي صالح، ولا أراني إلا قد سمعته منه كما في رواية لأحمد وأبي داود. والطرق التي ذكرها الدارقطني تكفي في ترجيح سماع الأعمش إياه، وإن شك فيه بعد ذلك، قال اليعمري: الكل صحيح، والحديث متصل، وبجاب عن الكلام في حديث عائشة بأن الراجح أن محمد بن أبي صالح كان موجودا، فقد نقل في التهذيب أنه روى عنه هشيم أيضا، فلم ينفرد نافع بن سليمان بالرواية عنه، ولعله كان غير مشهور في الرواة، فلذلك خفي أمره على بعض العلماء. وقد نقل في التهذيب: أن ابن حبان ذكره في الثقات، وقال: يخطئ، ونقل فيه
وفي أخرى له بلفظ المصابيح.
669- (11) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أذن سبع سنين محتسبا؛ كتب له براءة
من النار)) رواه الترمذي وأبوداود، وابن ماجه.

(4/204)


وفي التلخيص: أن ابن جبان أخرج حديثه هذا في صحيحه، ووقوع الخطأ من الراوي في بعض رواياته لا يمنع إصابته فيما لم يخالفه فيه غيره، وأولى أن يصيب فيما وافق غيره فيه، ونافع بن سليمان وثقه ابن معين، وقال أبوحاتم: صدوق يحدث عن الضعفاء مثل بقية. وقد روى أيضا هذا الحديث من طريق عبدالعزيز بن محمد الدراوردي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. أخرجه أحمد، وابن حبان، ومن طريق زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أخرجه أحمد، وهذان إسنادان صحيحان لا مطعن فيهما. وقد ثبت بهما أن الحديث رواه أبوصالح يقينا، فلو شك الأعمش في سماعه منه لم يكن ذلك بضاره شيئا. كذا حققه العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي، وهو تحقيق جيد نفيس حقيق بالقبول، وقد بسط الحافظ الكلام في طرق هذا الحديث في التلخيص فارجع إليه إن شئت. هذا، وفي الباب عن أبي أمامة عند أحمد، وابن عمر عند أبي العباس السراج، وصححه الضياء في المختارة وسهل بن سعد عند ابن ماجه، والحاكم، وواثله، وأبي محذورة عند الطبراني في الكبير. (وفي أخرى له) أي في رواية أخرى للشافعي (بلفظ المصابيح) وهو: الأئمة ضمناء، والمؤذنون أمناء، فأرشد الله الأئمة، وغفر للمؤذنين. قال ابن الملك: الضمناء جمع ضمين، والأمناء جمع أمين، وقال الطيبي: دعاء أخرجه في صورة الخبر مبالغة، وعبر بالماضي ثقة بالاستجابة، كأنه استجيب فيه، ويخبر عنه موجودا.

(4/205)


669-قوله (سبع سنين) العلم بتعيين هذه المدة موكول إلى الشارع (محتسبا) أي طالبا للثواب لا للأجرة (براءة من النار) أي خلاص منها، وهذا يستلزم الدخول في الجنة ابتداء، ومغفرة الذنوب كلها صغائرها وكبارها، بل المتقدمة والمتأخرة، ويحتمل أن يكون مقيدا بالموت على الإيمان، أو يكون بشارة بذلك، قاله السندي. وقال المناوي: لأن مداومته على النطق بالشهادتين والدعاء إلى الله تعالى هذه المدة الطويلة من غير باعث دنيوي صير نفسه كأنها معجونة بالتوحيد، والنار لا سلطان لها على من صار كذلك. وأخذ منه أنه يندب للمؤذن على أن لا يأخذ على أذانه أجرا-انتهى.. (رواه الترمذي) وفي سنده جابر بن يزيد الجعفي وهو ضعيف جدا. قال الترمذي وجابر بن يزيد ضعفوه، تركه يحيى بن سعيد وعبدالرحمن بن مهدي، وقال ابن سعد في الطبقات (ج6: ص240): كان ضعيفا في رأيه وحديثه. قال ابن عيينة: كنت معه في بيت فتكلم بكلام ينقض البيت أو كاد ينقض أو نحو هذا. وقال أبوحنيفة: ما لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، ما أتيته بشيء من رأيي إلا جاءني فيه بأثر. كذا في نصب الراية، وتهذيب التهذيب، وكذبه أيضا ابن معين وغيره. (وأبوداود) كذا في بعض النسخ، وفيه نظر، فإن الحديث ليس في سنن أبي داود، قال الحافظ في تهذيب
670- (12) وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يعجب ربك من راعى غنم في رأس
شظية للجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عزوجل: أنظروا إلى عبدي هذا، يؤذن ويقيم
الصلاة، يخاف مني،
التهذيب (ج2: ص48) : روى له أبوداود حديثا واحدا في السهو في الصلاة من حديث مغيرة بن شعبة، وقال عقبة: ليس في كتابي عن جابر الجعفي غيره.

(4/206)


670- قوله: (يعجب ربك) قال النووي: التعجب على الله محال إذ لا يخفى عليه أسباب الأشياء، والتعجب إنما يكون مما خفي سببه، فالمعنى: عظم ذلك عنده وكبر. وقيل: معناه الرضا، أي يرضى ربك منه، وبثيب عليه. والخطاب إما للراوي أو لواحد من الصحابة غيره، أو عام لكل من يتأتى منه السماع، كذا في المرقاة. وقيل: العجب روعة تعترى الإنسان عند استعظام الشيء، والله تعالى منزه عن الروعة، فيحمل على الاستعظام من غير ورعة. وقال الإمام ابن تيمية في بعض رسائله بعد ذكر الأحاديث التي فيها نسبة العجب إلى الله تعالى: أن قول القائل: التعجب استعظام للمتعجب منه، فيقال نعم، وقد يكون مقرونا بجهل بسبب المستعجب منه، وقد يكون لما خرج عن نظائره، والله تعالى بكل شيء عليم، فلا يجوز عليه أن لا يعلم سبب ما يعجب منه، بل يتعجب منه لخروجه عن نظائره تعظيما له، والله تعالى يعظم ما هو عظيم إما لعظمه أو لعظمته، فإنه واصف بعض الخير بأنه عظيم، ووصف بعض الشر بأنه عظيم، فقال: ?رب العرش العظيم? [23: 86] وقال: ?لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم? [15: 87] وقال: (لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما? [4: 67] وقال: ?سبحانك هذا بهتان عظيم? [24: 16] وقال: ?إن الشرك لظلم عظيم? [31: 13]. وقول القائل: إن هذه انفعالات نفسانية، فيقال: كل ما سوى الله مخلوق منفعل، ونحن ذواتنا منفعلة، فكونها انفعالات فينا لغيرنا نعجز عن دفعها لا يوجب أن يكون الله منفعلا لها، عاجزا عن دفعها، فإن كل ما يجري في الوجود فإنه بمشيئته وقدرته، لا يكون إلا ما يشاء، ولا يشاء إلا ما يكون له الملك وله الحمد. (من راعي الغنم) اختار العزلة من الناس. (في رأس شظية للجبل) بفتح الشين وكسر الظاء المعجمتين وتشديد التحتانية، قطعة مرتفعة في رأس الجبل. (يؤذن بالصلاة) وفائدة تأذنيه إعلام الملائكة والجن بدخول الوقت، فإن لهم صلاة أيضا. وشهادة الأشياء على توحيده، ومتابعة سنته،

(4/207)


والتشبه بالمسلمين في جماعتهم. وقيل: إذا أذن وأقام تصلي الملائكة معه، ويحصل له ثواب الجماعة. (فيقول الله) أي لملائكته. (أنظروا إلى عبدي هذا) تعجيب للملائكة من ذلك الأمر بعد التعجب لمزيد التفخيم، وكذا تسميته بالعبد وإضافته إلى نفسه، والإشارة بهذا تعظيم على تعظيم. (ويقيم الصلاة) منصوب بنزع الخافض أي للصلاة تنازع فيه الفعلان. وقال ابن الملك: أي يحافظها ويداوم عليها. (يخاف مني) أي يفعل ذلك خوفا مني لا يراه أحد قاله ابن حجر. وقال الطيبي: الأظهر أنه جملة مستأنفة، وإن احتمل الحال فهو كالبيان لعلة عبوديته واعتزاله التام عن الناس
قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة)) رواه أبوداود والنسائي.
671- (13) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة: عبد أدى حق الله وحق مولاه، ورجل أم قوما وهم به راضون، ورجل ينادي بالصلوات الخمس كل يوم وليلة)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
حق اعتزال ولذا آثر الشظية بالرعي فيها. وفي الحديث دليل على شرعية الأذان واستحبابها للمنفرد وإن كان بحيث لا يسمعه أحد فيكون صالحا لرد قول من قال: أن شرعية الأذان تختص بالجماعة، وفيه أيضا أن الأذان من أسباب المغفرة للذنوب. (وأدخلته الجنة) أي حكمت به، أو سأدخله الجنة. (رواه أبوداود) في باب الأذان في السفر. (والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد، وسعيد بن منصور، والطبراني، والبيهقي، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: رجال إسناده ثقات.

(4/208)


671- قوله: (ثلاثة) أي أشخاص. (على كثبان المسك) الكثبان بضم الكاف جمع كثيب، وهو ما ارتفع من الرمل كالتل الصغير، قال الطيبي: عبر عن الثواب بكثبان المسك لرفعته وظهور فوحه، وروح الناس من رائحته. لتناسب حال هؤلاء الثلاثة فإن أعمالهم متجاوزة إلى الغير-انتهى. والأولى الحمل على الحقيقة بل هو المتعين. (يوم القيامة) وفي الترمذي: أراه قال: يوم القيامة. أي أظنه. قال شيخنا: الظاهر أن الضمير المنصوب راجع إلى ابن عمر، وقائله هو زاذان الراوي عنه. والمعنى: إني أظن أن ابن عمر قال بعد لفظ على كثبان المسك: لفظ يوم القيامة-انتهى. وزاد في رواية للترمذي: يغبطهم الأولون والآخرون. (عبد) أي ظن ذكر أو أنثى. (أدى حق الله وحق مولاه) أي قام بالحقين معا فلم يشغله أحدهما من الآخر. (وهم به راضون) لعلمه، وورعه، وصحة قراءته، فبرضاهم يكون ثواب الإمام أكثر، ولأن إجماعهم على الرضا به دليل على صلاح حاله، والعبرة رضا أكثرهم من أهل الدين. (ورجل ينادي) أي يؤذن محتسبا. (كل يوم وليلة) وفي الترمذي في كل يوم وليلة. قال ابن الملك: وإنما أثيبوا بذلك؛ لأنهم صبروا أنفسهم في الدنيا على كرب الطاعة، فروحهم الله في عرضات القيامة بأنفاس عطرة على تلال مرتفعة من المسك إكراما لهم بين الناس لعظم شأنهم وشرف أعمالهم. (رواه الترمذي) في البر والصلة، وفي أواخر صفة الجنة. (وقال: هذا حديث غريب) وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا: هذا حديث حسن غريب، وفي سنده أبواليقظان عثمان بن عمير البجلي الكوفي الأعمى، ضعيف واختلط، وكان يدلس ويغلو في التشيع، كذا في التقريب. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه أحمد، والترمذي من رواية سفيان، عن أبي اليقظان، عن زاذان، عنه، وقال: حديث حسن غريب. قال المنذري، وأبواليقظان واه، وقد روى عنه الثقات. ورواه الطبراني في الأوسط والصغير بإسناد لا بأس به، ثم ذكر لفظه: ورواه الطبراني في الكبير أيضا.

(4/209)


672- (14) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس. وشاهد الصلاة يكتب له خمس وعشرون صلاة، ويكفر عنه ما بينهما)) رواه أحمد وأبوداود، وابن ماجه. وروى النسائي إلى قوله: ((كل رطب ويابس)) وقال: ((وله مثل أجر من صلى)).
672- قوله: (يغفر له مدى صوته) بفتح الميم والدال، أي نهايته، وهو منصوب على الظرفية، قال الخطابي: مدى الشيء غايته، والمعنى أنه يستكمل مغفرة الله تعالى إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت، قال المنذري: ويشهد لهذا القول رواية من قال "يغفر له مد صوته" بتشديد الدال، أي بقدر مده صوته. قال الخطابي: وفيه وجه آخر وهو أنه كلام تمثيل وتشبيه، يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو يقدر أن يكون ما بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله-انتهى. وقيل: معناه يغفر له من الذنوب ما فعله في زمان مقدر بهذه المسافة. (ويشهد له كل رطب ويابس) مما يبلغه صوته. وتحمل شهادتهما على الحقيقة لقدرته تعالى على إنطاقهما. (وشاهد الصلاة) عطف على قوله: المؤذن يغفر له. أي والذي يحضر لصلاة الجماعة. (يكتب له خمس وعشرون) أي ثواب خمس وعشرين صلاة. (ويكفر عنه) أي عن الشاهد. (ما بينهما) أي ما بين الأذان والصلاة، أو ما بين الأذانين، أو ما بين الصلاتين، والحديث يدل على استحباب مد الصوت بالأذان لكونه سببا للمغفرة، وشهادة الموجودات، ولأنه أمر المجئ إلى الصلاة، فكل ما كان أدعى لإسماع المأمورين بذلك كان أولى. (رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه) وأخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة، وفي سنده أبويحيى الراوي له عن أبي هريرة. قال المنذري: أبويحيى هذا لم ينسب فيعرف حاله، وقال ابن القطان: لا يعرف أصلا، وقال الثوري: إنه مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات، وزعم أنه سمعان الأسلمي، وقال ابن عبدالبر:

(4/210)


أبويحيى المكي اسمه سمعان، سمع من أبي هريرة، روى عنه بعض المدنيين في الأذان. كذا في تهذيب التهذيب (ج12: ص279) وقال في التقريب: أبويحيى المكي يقال هو سمعان الأسلمي مقبول. (وقال) أي النسائي في روايته. (وله) أي للمؤذن. (مثل أجر من صلى) أي بأذانه، وفيه نظر؛ لأن هذه الزيادة ليست في رواية أبي هريرة، وقد روى أحمد والنسائي من حديث البراء بن عازب بإسناد جيد بلفظ: المؤذن يغفر له بمد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلى معه، أي إن كان إماما، أومع إمامه إن كان مقتديا بإمام آخر لحكم الدلالة، لكن هذا يقضي أن يخص بمن حضر بأذانه، والأقرب العموم تخصيصا للمؤذن بهذا الفضل وفضل الله أوسع. قاله السندي.
673- (15) وعن عثمان بن أبي العاص، قال: قلت يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! ((اجعلني إمام قومي. قال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا)) رواه أحمد وأبوداود والنسائي.
674- (16) وعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: ((علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقول عند أذان المغرب: اللهم هذا

(4/211)


673- قوله: (واقتد بأضعفهم) بمرض أو زمانة أو نحوهما، أي تابع أضعف المقتدين في تخفيف الصلاة من غير ترك شيء من الأركان، يريد تخفيف القراءة والتسبيحات حتى لا يمل القوم. وقوله: واقتد، عطف على مقدر أي فأمهم واقتد بأضعفهم. وقيل: هو عطف على الخبرية السابقة؛ لأنها بتأويل أمهم، وعدل إلى الاسمية دلالة على الدوام والثبات كأن إمامته ثبتت ويخبر عنها، وقد جعل فيه الإمام مقتديا، والمعنى كما أن الضعيف يقتدي بصلاتك فاقتد أنت أيضا بضعفه، واسلك له سبيل التخفيف في القيام والقراءة، بحيث كأنه يقوم ويركع على ما يريد، وأنت كالتابع الذي يركع بركوعه. وقال التوربشتي: ذكر بلفظ الإقتداء تأكيدا للأمر المحثوث عليه؛ لأن من شأن المقتدي أن يتابع المقتدى به ويجتنب خلافه، فعبر عن مراعات القوم بالإقتداء مشاكله لما قبله. قال الأمير اليماني: الحديث يدل على جواز طلب الإمامة في الخير، وقد ورد في أدعية عباد الرحمان الذين وصفهم الله بتلك أنهم يقولون: ?واجعلنا للمتقين إماما? [25: 74] وليس من طلب الرياسة المكروهة، فإن ذلك فيما يتعلق برياسة الدنيا التي لا يعان من طلبها، ولا يستحق أن يعطاها، وأنه يجب على إمام الصلاة أن يلاحظ حال المصلين خلفه، فيجعل أضعفهم كأنه المقتدى به فيخفف لأجله. (واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا) أي أجرة. فيه دليل على أنه يكره أخذ الأجرة على الأذان. قال الخطابي: أخذ المؤذن الأجر على أذانه مكروه في مذاهب أكثر العلماء، وقال مالك: لا بأس به، ويرخص فيه. وقال الأوزاعي: مكروهة ولا بأس بالجعل. وذهب الحنفية إلى تحريم الأجر شرطا على الأذان والإقامة. واستدل بعضهم على التحريم بهذا الحديث، ولا يخفى أنه لا يدل على التحريم. وقيل: يجوز أخذها على التأذين في محل مخصوص، إذ ليست على الأذان حينئذ بل على ملازمة المكان كأجرة الرصد، والقول الراجح عندنا ما ذهب إليه أكثر العلماء. (رواه أحمد وأبوداود والنسائي) أي

(4/212)


بتمامه، وأخرج مسلم الفصل الأول فقط، وأخرج ابن ماجه الفصلين في موضعين، وأخرج الترمذي الفصل الأخير وحسنه، وأخرجه الحاكم بتمامه (ج1: ص199، 201) وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
674- قوله: (عند أذان المغرب) الظاهر أن يقال هذا بعد جواب الأذان أو في أثنائه، قاله القاري. (هذا) إشارة إلى ما في الذهن، وهو مبهم مفسر بالخبر، قاله الطيبي. وقال القاري: والظاهر أنه إشارة إلى الأذان لقوله:
إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعائك، فاغفر لي)). رواه أبوداود، والبيهقي في الدعوات الكبير.
675- (17) وعن أبي أمامة، أو بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إن بلالا أخذ في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقامها الله وأدامها. وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان)) رواه أبوداود.
وأصوات. (إقبال ليلك) أي هذا الأذان أوان إقبال ليلك. (وإدبار نهارك) أي في الأفق. (وأصوات دعائك) أي في الآفاق، جمع داع وهو المؤذن كقضاة جمع قاض. (فاغفرلي) بحق هذا الوقت الشريف والصوت المنيف، وبه يظهر وجه تفريع المغفرة، ومناسبة الحديث للباب، فإنه يدل على أن وقت الأذان زمان استجابة الدعاء قاله القاري. (رواه أبوداود) في الصلاة من طريق المسعودي عن أبي كثير مولى أم سلمة، عن أم سلمة، وسكت عنه. وأخرجه الحاكم من هذا الطريق (ج1: ص199) وصححه، ووافقه الذهبي، وأخرجه الترمذي في الدعوات من طريق حفصة بنت أبي كثير، عن أبيها أبي كثير، عن أم سلمة. وقال: حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وحفصة بنت أبي كثير لا نعرفها ولا أباها-انتهى. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره. وقال الذهبي في الميزان: لا يعرفان. وقال الحافظ في التقريب: أبوكثير مولى أم سلمة مقبول، فالظاهر أن الحديث من طريق أبي داود والحاكم حسن.

(4/213)


675- قوله: (أخذ) أي شرع. (فلما أن قال: قد قامت الصلاة) قال الطيبي: لما تستدعى فعلا فالتقدير: فلما انتهى إلى أن قال. واختلف في "قال" أنه متعد أو لازم، فعلى الأول يكون مفعولا به، وعلى الثاني يكون مصدرا-انتهى. قال القاري: والأظهر أن "لما" ظرفية "وأن" زائدة للتأكيد كما قال تعالى: ?فلما أن جاء البشير? [12: 96] كما قال صاحب الكشاف وغيره في قوله تعالى: ?ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم? [11: 77]. (أقامها الله) أي الصلاة يعني ثبتها. (وقال في سائر الإقامة) أي في جميع كلمات الإقامة غير قد قامت الصلاة، أو قال في البقية مثل ما قال المقيم إلا في الحيعلتين فإنه قال فيه: لا حول ولا قوة إلا بالله. (كنحو حديث عمر في الأذان) يريد أنه قال مثل ما قال المؤذن لما مر في الحديث الخامس من الفصل الأول من الباب، يعني وافق المؤذن في غير الحيعلتين. وفيه دلالة على استحباب مجاوبة المقيم، وفيه أيضا أنه يستحب لسامع الإقامة أن يقول عند قول المقيم قد قامت الصلاة: أقامها لله وأدامها. قال المجد ابن تيمية في المنتقى: وفيه دليل على أن السنة أن يكبر الإمام بعد الفراغ من الإقامة-انتهى. وسيأتي الكلام فيه إن شاءالله تعالى. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وفي إسناده رجل من أهل الشام مجهول وشهر بن حوشب تكلم فيه غير واحد، ووثقه الإمام أحمد ويحيى بن معين. قاله المنذري.
676- (18) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة)) رواه أبوداود، والترمذي.
677- (19) وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((ثنتان لا تردان- أو قلما تردان – الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا. وفي رواية: وتحت المطر)) رواه أبوداود، والدارمي إلا أنه لم يذكر: تحت المطر.

(4/214)


676- قوله: (لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة) بل يقبل ويستجاب، يعني فادعوا كما في رواية ابن حبان، وفيه دليل على قبول الدعاء في هذا الوقت، إذ عدم الرد يراد به القبول، ولفظ الدعاء بإطلاقه شامل لكل دعاء، ولا بد من تقييده بما في الأحاديث الأخرى الصحيحة من أنه ما لم يكن دعاء بإثم أو قطيعة رحم، فالدعاء في هذا الوقت مستجاب لكن بعد جمع شروط الدعاء وأركانه وآدابه، فإن تخلف شيء منها فلا يلوم إلا نفسه. وقد ورد تعيين أدعية تقال حال الأذان وبعده، وهو ما بين الأذان والإقامة، منها ما تقدم، ومنها ما سيأتي. وقد عين - صلى الله عليه وسلم - ما يدعى به أيضا لما قال: الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد، قالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. قال ابن القيم: هو حديث صحيح. وفي المقام أدعية أخرى. (رواه أبوداود والترمذي) من طريق معاوية بن قرة عن أنس، وسكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، وأخرجه أحمد، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" وابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما من طريق بريد بن أبي مريم عن أنس، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وقال: أخرجه النسائي من حديث بريد بن أبي مريم عن أنس، وهو أجود من حديث معاوية بن قرة.

(4/215)


677- قوله: (ثنتان) أي دعوتان ثنتان. (أو قلما) فعل ماض من القلة بمعنى النفي: وهو من الأفعال التي لا تصرف. قال السيوطي: إن "قل" ههنا للنفي المحض كما هو أحد استعمالاتها، صرح به ابن مالك في التسهيل وغيره. وقال في المغنى: ما زائدة كافة عن العمل. (عند النداء) أي حين الأذان أو بعده. (وعند البأس) أي الشدة والمحاربة مع الكفار. (حين) بدل من قوله عند البأس أو بيان. (يلحم بعضهم بعضا) بفتح ياء من لحم كسمع أي يقتل بعضهم بعضا. وقيل: بضم الياء وكسر الحاء من ألحم أي يشتبك الحرب بينهم ويلزم بعضهم بعضا. والملحمة الحرب وموضع القتال، وجمعه الملاحم. أخذ من اشتباك الناس واختلاطهم فيها كاشتباك لحمة الثوب بالسدي. (وفي رواية) أي بدل قوله وعند اليأس حين يلحم بعضهم بعضا. (وتحت المطر) أي ودعاء من دعا تحت المطر، أي وهو نازل عليه؛ لأنه وقت نزول الرحمة والبركة. (رواه أبوداود والدارمي) وسكت عنه أبوداود، وقال المنذري: في إسناده موسى بن يعقوب الزمعي، قال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبوداود السجستاني: صالح، له مشائخ مجهولون-انتهى.
678- (20) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رجل: ((يارسول الله ! إن المؤذنين يفضلوننا. فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تعط)) رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
679- (21) عن جابر، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء. قال الراوي: والروحاء من المدينة: على ستة وثلاثين ميلا)) رواه مسلم
680- (22) وعن علقمة بن وقاص، قال: ((إني لعند معاوية، إذ أذن مؤذنه، فقال معاوية. كما قال مؤذنه، حتى إذا قال: حي على الصلاة؛

(4/216)


وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ. والحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة. وابن حبان في صحيحهما، والحاكم (ج1: ص198) وقال: هذا حديث ينفرد به موسى بن يعقوب، ووافقه الذهبي، وأخرجه مالك في الموطأ موقوفا.
678- قوله: (يفضلوننا) بفتح الياء وضم الضاد، أي يحصل لهم فضل ومزية علينا في الثواب بسبب الأذان، والظاهر أنه خبر، يعني فما تأمرنا به من عمل نلحقهم بسببه؟. (قل كما يقولون) أي إلا عند الحيعلتين لما تقدم فيحصل لك الثواب مثله، ثم أفاد زيادة على الجواب بقوله. (فإذا انتهيت) أي فرغت من الإجابة. (فسل) أي أطلب من الله حينئذ ما تريد. (تعط) بغير هاء في آخره، وفي أبي داود: تعطه، بزيادة الهاء، أي يقبل الله دعاءك ويعطيك سؤالك. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وأقره المنذري، وأخرجه أيضا النسائي في عمل اليوم والليلة، وابن حبان في صحيحه، وقالا: تعط، بغير هاء.
679- قوله: (حتى يكون مكان الروحاء) بفتح الراء بالحاء المهملة وبالمد، أي يبعد الشيطان من المصلى بعد ما بين لمكانين. والتقدير: يكون الشيطان مثل الروحاء في البعد، قاله الطيبي. ولفظ إسحاق في مسنده: حتى يكون بالروحاء، فيه بيان غاية بعد الشيطان من المدينة عند سماعه النداء بالصلاة. (قال الراوي) المراد به أبوسفيان طلحة بن نافع الراوي من جابر كما هو مصرح به في رواية مسلم. (والروحاء من المدينة) أي إلى مكة. (على ستة وثلاثين ميلا) أي اثني عشر فرسخا. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا البغوي في شرح السنة (ج2: ص276) .
680- قوله: (وعن علقمة بن وقاص) الليثي المدني ثقة ثبت من كبار التابعين، أخطأ من زعم أن له صحبة. قيل: إنه ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذا ذكره المصنف في الصحابة، مات في خلافة عبدالملك بن مروان. (إني لعند معاويه) أي ابن أبي سفيان. (إذ) بسكون الذال. (أذن مؤذنه) أي الخاص لمسجده. (حي على الصلاة) بالهاء على الوقف.

(4/217)


قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. فلما قال: حي على الفلاح؛ قال: لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقال بعد ذلك ما قال المؤذن. ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك)) رواه أحمد.
681- (23) وعن أبي هريرة، قال: ((كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام بلال ينادي، فلما سكت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال مثل هذا يقينا، دخل الجنة)) رواه النسائي.
682- (24) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع المؤذن يتشهد قال: وأنا
وأنا)) رواه أبوداود.
683- (25) وعن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أذن ثنتى عشرة سنة، وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه،
(قال) أي معاوية. (لا حول ولا قوة إلا بالله) تقدم معناه. (إلا بالله العلي العظيم) قال الطيبي: هذه الزيادة زيادة نادرة في الروايات وارجع إلى تعليق الشيخ الألباني،. (رواه أحمد) وأخرجه أيضا النسائي، وابن خزيمة، وغيرهما. وأصل حديث معاوية عند البخاري، وقد تقدم نحوه من حديث عمر بن الخطاب.
681- قوله: (فقام بلال ينادي) أي يؤذن للصلاة. (فلما سكت) أي فرغ. (من قال مثل هذا) أي القول مجيبا، أو مؤذنا، أو مطلقا. (يقينا) أي خالصا مخلصا من قلبه. (دخل الجنة) أي أستحق دخول الجنة، أو دخل مع الناجين. (رواه النسائي) وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1: ص204) وصححه، ووافقه الذهبي.

(4/218)


682- قوله: (إذا سمع المؤذن) أي صوته. (يتشهد) حال. (وأنا وأنا) عطف على قوله: المؤذن، بتقدير العامل، أي وأنا أشهد كما تشهد بالتاء والياء، والتكرير في "أنا" راجع إلى الشهادتين، قاله الطيبي. قال القاري: والأظهر: وأشهد أنا وأشهد أنا، ويمكن أن يكون التكرير للتأكيد فيهما. قال الطيبي: فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مكلفا بأن يشهد على رسالته كسائر الأمة. قال ميرك: فيه تأمل، ولعل وجهه أن التكليف غير مستفاد منه. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وأقره المنذري. والحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج1: ص204) وسكت عنه.
683- قوله: (من أذن ثنتي عشرة سنة) قيل: لا منافاة بينه وبين ما تقدم من حديث ابن عباس ثاني أحاديث الفصل الثاني؛ لأن هذا الحديث كما زيد فيه في المدة زيد في الأجر، حيث قيل: وكتب له بتأذينه، الخ. وقيل: الاختلاف في ذلك لاختلاف أحوال المؤذنين. (وجبت له الجنة) أي بصادق وعدالله ورحمته. (وكتب له بتأذينه) أي فقط دون
في كل يوم ستون حسنة، ولكل إقامة ثلاثون حسنة)) رواه ابن ماجه.
684- (26) وعنه، قال: ((كنا نؤمر بالدعاء عند أذان المغرب)) رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
(6) باب
?الفصل الأول?
685- (1) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن بلالا ينادي بليل،

(4/219)


صلاة. (في كل يوم) أي لكل أذان بقرينة قوله الآتي: ولكل إقامة. (ستون حسنة) فيه حذف أي كتب له بسبب تأذينه كل مرة في كل يوم، كذا في شرح السنة نقله ميرك. (ولكل إقامة) أي في كل يوم. (ثلاثون حسنة) ولعل التنصيف في الأجر لسهولة الإقامة، ومشقة الأذان برفع الصوت والتوءدة والترسل، والأجر على قدر المشقة، أو لإفراد ألفاظ الإقامة. (رواه ابن ماجه) وأخرجه أيضا الدارقطني (ص89) والحاكم (ج1: ص205) وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي: وفي سنده عبدالله بن صالح المصري كاتب الليث. قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف عبدالله بن صالح: وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر تصحيح الحاكم: وهو كما قال: فإن عبدالله بن صالح كاتب الليث وإن كان فيه كلام، فقد روى عنه البخاري في الصحيح-انتهى. قلت: قد اختلفوا في أنه روى عنه البخاري في صحيحه أم لا. وقد أطال الحافظ الكلام فيه في تهذيب التهذيب (ج5: ص260) فارجع إليه. وقال في التقريب في ترجمته: صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه وكانت فيه غفلة.
684- قوله: (عند أذان المغرب) قد تقدم أن الدعاء بعد كل أذان مستحب، ولعله عند أذان المغرب أوكد، قال الطيبي: لعل هذا الدعاء ما مر في حديث أم سلمة. (رواه البيهقي) وأخرجه أيضا الطبراني.
(باب) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا باب في تتمات لما سبق في البابين قبله. وقيل: بالسكون على الوقف، وفي المصابيح بدله فصل، قال ابن الملك: وإنما أفرد هذا الفصل؛ لأن أحاديثه كلها صحاح، وليست فيه أحاديث مناسبة لصحاح الباب السابق، فكانت مظنة الإفراد-انتهى. وفي بعض نسخ المشكاة: باب فيه فصلان. وفي بعضها: باب تأخير الأذان.

(4/220)


685- قوله: (ينادي بليل) أي فيه، وقد ورد ما يشعر بتعيين الوقت الذي كان بلال يؤذن فيه، وهو ما رواه النسائي والطحاوي من حديث عائشة: أنه لم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا. وعند البخاري في الصيام، قال القاسم. (أى في رواية عن عائشة) لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى هذا وينزل ذا. فهذه الرواية تقيد إطلاق سائر الروايات،
فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم،
وتدل على أن الوقت الذي يقع فيه الأذان قبل الفجر هو وقت السحور، وأرادت عائشة بذلك بيان قلة ما بين أذانيهما من المدة لا التحديد. (فكلوا واشربوا) أي أيها المريدون الصيام، والأمر للإباحة والرخصة، وبيان بقاء الليل بعد أذان بلال، وفيه إشعار بأن الأذان كان علامة عندهم على دخول الوقت، فبين لهم أن أذان بلال بخلاف ذلك. (حتى) أى إلى أن (ينادي) أي يؤذن. (ابن أم مكتوم) اسمه عمرو، أو عبدالله بن قيس بن زائدة القرشي، وهو الأعمى المذكور في سورة عبس، واسم أمه عاتكة بنت عبدالله المخزومية. وروى ابن خزيمة في صحيحه عن عائشة مرفوعا: إذا أذن عمرو فإنه ضرير البصر فلا يغرنكم، وإذا أذن بلال فلا يطعمن أحد. وروى النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، وأحمد في مسنده عن أنيسة بنت خبيب بلفظ: إذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا وإذا أذن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا. وهذا كما ترى مخالف لحديث ابن عمر. وقد جمع بينهما ابن خزيمة وغيره: بأنه يجوز أن يكون عليه السلام جعل الأذان بين بلال وابن أم مكتوم نوائب، فأمر في بعض الليالي بلالا أن يؤذن بليل، فإذا نزل بلال صعد ابن أم مكتوم، فأذن في الوقت، فإذا جاءت نوبة ابن أم مكتوم بدأ فأذن بليل، فإذا نزل، صعد بلال فأذن في الوقت، فكانت مقالة النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن بلالا يؤذن بليل. في وقت نوبة بلال، وكانت مقالته: إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل. في وقت نوبة ابن أم مكتوم. وقيل: لم يكن الأذان بينهما نوبا، وإنما كانت لهما

(4/221)


حالتان مختلفتان، فإن بلال كان في أول ما شرع الأذان يؤذن وحده، ولا يؤذن للصبح حتى يطلع الفجر، وعلى ذلك تحمل رواية عروة عن امرأة من بني النجار قالت: كان بلال يجلس على بيتي، وهو أعلى بيت في المدينة، فإذا رأى الفجر تمطأ ثم أذن. أخرجه أبوداود وإسناده حسن. ثم أردف ابن أم مكتوم، فكان يؤذن بليل، واستمر بلال على حالته الأولى، وعلى ذلك تنزل رواية أنيسة وعائشة، ثم في آخر الأمر أخر ابن أم مكتوم لضعفه، ووكل به من يراعي له الفجر، واستقر أذان بلال بليل، وكان سبب ذلك ما رواه أبوداود وغيره عن ابن عمر: أن بلالا كان ربما أخطأ الفجر فأذن قبل طلوعه، وإنه أخطأ مرة فأمره عليه السلام أن يرجع فيقول: ألا إن العبد نام، يعني أن غلبة النوم على عينيه منعته من تبين الفجر، فلهذا-والله أعلم- استقر أن بلالا يؤذن الأذان الأول، وبهذا ظهر أنه لا مخالفة بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن بلالا يؤذن بليل. وبين أمره إباه بالاعتذار بقوله: ألا إن العبد قد نام، فإن قوله عليه السلام: إن بلالا يؤذن بليل، إنما هو محمول على حالته الأخرى. أي على زمان كان بلال يؤذن بالليل وابن أم مكتوم بالصبح، وأما أمره بلالا أن ينادي: ألا إن العبد قد نام. فيحمل على حالته الأولى، أي على زمان كان بلال يؤذن فيه للصبح، واتفق أنه أذن مرة في الليل على ظن أن الفجر قد طلع فاحتاج إلى الاعتذار؛ لأن الفجر لم يطلع، ولأن الأذان بالليل قد كان فرع عنه ابن أم مكتوم. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص157): يشبه أن يكون هذا أي قوله: ألا إن العبد نام، فيما تقدم من أول زمان الهجرة، فإن الثابت عن بلال أنه كان في آخر أيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤذن بليل ثم يؤذن بعده ابن أم مكتوم مع الفجر، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن
قال: وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى، لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت))

(4/222)


بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم-انتهى. قال الأمير اليماني في السبل: في الحديث شرعية الأذان قبل الفجر، لا لما شرع له الأذان، فإن الأذان شرع للإعلام لدخول الوقت، ولدعاء السامعين بحضور الصلاة، وهذا الأذان الذي قبل الفجر قد أخبر - صلى الله عليه وسلم - بوجه شرعيته بقوله: ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم. رواه الجماعة إلا الترمذي عن ابن مسعود، والقائم هو الذي يصلي صلاة الليل، ورجوعه عوده إلى نومه أو قعوده عن صلاته إذا سمع الأذان، فليس للإعلام بدخول الوقت ولا لحضور الصلاة، فذكر الخلاف في المسألة والاستدلال للمانع وللمجيز لا يلتفت إليه من همه العمل بما ثبت-انتهى كلام الأمير. قلت: أشار بقوله: بذكر الخلاف. إلى ما ذكره الشراح من الاختلاف بين الأئمة، قالوا: ذهب مالك والشافعي وأحمد وأبويوسف إلى جواز الأذان لصلاة الفجر قبل طلوعه والاكتفاء به، وعدم وجوب الإعادة. قال هؤلاء: كان الأذانان لصلاة الفجر، ولم يكن الأول مانعا من التسحر، وكان الثاني من قبيل الإعلام بعد الإعلام، وإنما اختصت صلاة الفجر بهذا من بين الصلوات، لما ورد من الترغيب في الصلاة لأول الوقت، والصبح يأتي غالبا عقيب النوم، فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها، ليتأهبوا ويدركوا فضيلة أول الوقت، وقال أبوحنيفة ومحمد: لا يجوز الأذان لصلاة الصبح قبل طلوع الفجر كما في سائر الصلوات، فلو أذن قبل طلوعه يجب الإعادة ولا يكتفي به. قالا: لم يكن الأذان الأول لصلاة الفجر بل كان لغرض آخر بينه - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود بقوله: ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم. قلت: ليس في حديث ابن مسعود ما يدل على الحصر فيما ذكر من السبب لأذان بلال، ولا تزاحم في الأسباب مع أنه ليس فيه بيان علة الأذان بل بيان نكتة التقديم، والراجح عندي أنه يجوز الأذان لصلاة الفجر قبل طلوع الصبح، ويكتفى به إن قدم قبل الفجر بزمان يسير، ولا يجب الإعادة.

(4/223)


هذا هو الذي يستفاد من أحاديث الباب عندي. ولا يخفى ذلك على من تأمل في الأحاديث الواردة في ذلك إن شاء الله تعالى. واعلم أنه ادعى ابن القطان وابن دقيق العيد ومحمد بن الحسن أن قوله: إن بلالا يؤذن بليل. كان في رمضان خاصة لا في سائر العام. وفيه نظر؛ لأن قوله "كلوا واشربوا" يتأتى في غير رمضان أيضا، وهذا لمن كان يريد صوم التطوع، فإن كثيرا من الصحابة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكثرون صيام النفل، فكان قوله "فكلوا واشربوا" بالنظر إلى هؤلاء، ويدل على ذلك ما رواه عبدالرزاق عن ابن المسيب مرسلا بلفظ: إن بلالا يؤذن بليل، فمن أراد الصوم فلا يمنعه أذان بلال حتى يؤذن ابن أم مكتوم. ذكره علي المتقي في كنز العمال (ج4: ص311). فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الصوم فيه باختيار الرجل، ولا يكون ذلك إلا في غير رمضان، فدل على أن قوله عليه السلام "إن بلالا يؤذن بليل" ليس مختصا برمضان. (قال) أي ابن شهاب راوي الحديث، أو شيخه سالم، أوشيخ شيخه ابن عمر. (رجلا أعمى) قيل: عمي ابن أم مكتوم بعد بدر بسنتين، وفيه أن سورة عبس مكية في قول الجميع، وعن ابن عباس: نزلت بمكة، فكيف يصح أن يقال أنه عمي بعد بدر سنتين؟ فالظاهر أنه عمي بعد البعثة بسنتين. وقيل: ولد أعمى فكنيت أمه أم مكتوم لإكتتام نور بصره، والأول هو المشهور. (أصبحت أصبحت) بالتكرار للتأكيد، وهي تامة تستغنى بمرفوعها، أي دخلت في الصباح، هذا
متفق عليه.
686- (2) وعن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال،
ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق)) رواه مسلم ولفظه للترمذي.

(4/224)


ظاهره. واستشكل لأنه جعل أذانه غاية للأكل، فلو لم يؤذن حتى يدخل في الصباح للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر، والإجماع على خلافه إلا من شذ كالأعمش. وأجيب بأن الغرض أن أذان ابن أم مكتوم جعل علامة لتحريم الأكل والشرب. والظاهر أنه كان له من يراعي الوقت بحيث يكون أذانه مقارنا لابتداء طلوع الفجر، وعند أخذه في الأذان يعترض الفجر في الأفق، ولم يكن الصحابة يخفى عليهم الأكل في غير وقته، بل كانوا أحوط لدينهم من ذلك. وقيل: المعنى قاربت الصباح جدا، فإن قرب الشيء قد يعبر به عنه، كما في قوله تعالى: ?فإذا بلغن أجلهن? أي قارين لأن العدة إذا تمت فلا رجعة، فلا يلزم وقوع أذان ابن أم مكتوم قبل الفجر ولا الأكل بعد طلوع الفجر، لاحتمال أن يكون قولهم ذلك يقع في آخر جزء من الليل، وأذانه يقع في أول جزء من طلوع الفجر، وهذا وإن كان مستبعدا في العادة فليس بمستبعد من مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤيد بالملائكة، فلا يشاركه فيه من لم يكن بتلك الصفة. وقيل: إن أذانه كان يقع في أول طلوع الفجر الثاني قبل تببنه وانتشاره، وتحريم الأكل إنما يتعلق بانتشاره وتبينه، لا بطلوعه كما يدل عليه قوله تعالى. ?حتى يتبين لكم? [2: 187]. وفي الحديث دليل على جواز أذان الأعمى من غير كراهة إذا كان عنده من يخبره بدخول الوقت؛ لأن الوقت في الأصل مبني على الشهادة. وفيه جواز تقليد الأعمى للبصير في دخول الوقت. وفيه جواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان القصد التعريف به ونحوه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي والنسائي.

(4/225)


686-قوله: (من سحوركم) بضم السين مصدرا أي تسحركم، وبفتحها اسم للمأكول، أي من أكل سحوركم وهو ما يتسحر به (أذان بلال) أي فإنه يؤذن بليل. (ولا الفجر المستطيل) أي ولا يمنعكم الصبح الذي يصعد إلى السماء كالعمود تسميه العرب ذنب السرحان، وبطلوعه لا يدخل وقت صلاة الصبح، ولا يحرم الطعام. قال ابن الملك: وهو الفجر الكاذب، يطلع أولا مستطيلا إلى السماء ثم يغيب، وبعد غيبوبته بزمان يسير يظهر الفجر الصادق. (ولكن) بالتخفيف ويشدد. (الفجر) بالرفع وينصب. (المستطير في الأفق) هو الذي انتشر ضوءه، واعترض في الأفق الشرقي كأنه طار في نواحي السماء بخلاف المستطيل كذب السرحان بكسر السين وهو الذئب. وفي الحديث بيان صفة الفجر الذي يتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح، وهو الفجر الثاني، ويسمى الصادق والمستطير، وأنه لا أثر للفجر الأول في الأحكام، وهو الفجر الكاذب والمستطيل كذنب الذئب. (رواه مسلم) في الصيام أي بمعناه بألفاظ مختلفة. (ولفظه للترمذي) أخرجه الترمذي في الصيام، وحسنه. قيل: الأظهر أن يقول: رواه الترمذي، ولمسلم معناه. وقيل: الأنسب "رواه مسلم والترمذي واللفظ له". قلت: يستفاد هذا من كلام المصنف مع الاختصار، وهو أنسب
687- (3) وعن مالك بن الحويرث، قال: ((أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وابن عم لي، فقال: إذا سافرتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما)). رواه البخاري.
للفصل الأول، فهو أولى بالاعتبار. والحديث أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والدارقطني والحاكم وابن خزيمة والطبراني وأبويعلى وابن أبي شيبة.

(4/226)


687- قوله: (وعن مالك بن الحويرث) بالتصغير، يكنى أبا سليمان الليثي الصحابي، نزل البصرة، له خمسة عشر حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديث، مات سنة (74). (أنا وابن عم لي) بالرفع على العطف، وبالنصب على أنه مفعول معه. (فقال) أي لنا، ففي رواية للنسائي: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولصاحب لي. ولفظ البخاري في باب سفر الاثنين من كتاب الجهاد "انصرفت من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لنا أنا وصاحب لي". قال الحافظ: لم أرى في شيء من طرقه تسمية صاحبه. (فأذنا) أي ليؤذن أحدكما ويجيب الآخر، وإنما احتيج إلى هذا التأويل وصرف عن ظاهره لقوله في الرواية الآتية "فليؤذن لكم"، ولما رواه الطبراني في هذا الحديث: إذا كنت مع صاحبك فأذن وأقم، وليؤمكما أكبركما. ولأن أذان الواحد يكفي الجماعة إجماعا، فاجتماعهما في الأذان غير مطلوب. وقيل: الإسناد مجازى، أي ليتحقق بينكما الأذان، كما في "بنو فلان قتلوا" أي وجد القتل فيما بينهم. والمعنى: يجوز لكل منكما الأذان أيكما فعل حصل، فلا يختص بأكبر كالإمامة، فنسب الأذان إليهما للتنبيه على عدم خصوصه بأحدهما بعينة كالإمامة. وقيل: المراد من أحب منكما أن يؤذن فليؤذن، ونسب إليهما لإستوائهما في الفضل، ولا يعتبر في الأذان السن بخلاف الإمامة. وقال الكرماني: قد يطلق الأمر بالتثنية والجمع والمراد واحد كقوله: يا حرسي! اضربا عنقه. مع أن الضارب واحد. (وأقيما) فيه حجة لمن قال باستحباب إجابة المؤذن بالإقامة إن حمل الأمر على ما مضى من التأويل الأول، وإلا فالذي يؤذن هو الذي يقيم. (وليؤمكما أكبركما) أي سنا، وإنما خص الأكبر بالإمامة لمساواتهما في سائر الأشياء الموجبة للتقدم كالأقرئية والأعلمية بالسنة لمساواتهما في المكث والحضور عنده - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يستلزم المساواة في هذه الصفات عادة. والحديث قد استدل به من قال بوجوب الأذان. قال القسطلاني: لكن

(4/227)


الإجماع صارف للأمر عن الوجوب، وفيه نظر. وفي الحديث الحض على المحافظة على الأذان في السفر. وفيه أن أقل صلاة الجماعة إمام ومأموم، وهو إجماع المسلمين. وفيه أن الأذان والجماعة مشروعان للمسافرين. (رواه البخاري) في باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة، وفي باب اثنان فما فوقهما جماعة، وفي باب سفر الإثنين من كتاب الجهاد، لكن ليس في واحد من هذه الروايات لفظ "وابن عم لي"، نعم هو عند الترمذي وأبي داود والنسائي. والحديث أخرجه أيضا أحمد ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، فكان الأنسب للمنصف أن يقول متفق عليه.
688- (4) وعنه، قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((صلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم)). متفق عليه.
689- (5) وعن أبي هريرة، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قفل من غزوة خيبر، سار ليلة، حتى إذا أدركه الكرى عرس،

(4/228)


688- قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أي في مراعاة الشروط والأركان والسنن والآداب. (وإذا حضرت الصلاة) أي وقتها. (ثم ليؤمكم أكبركم) أي في السن، وإنما قدمه وإن كان الأقرأ والأعلم مقدمين عليه؛ لأنهم استووا في الفضل؛ لأنهم مكثوا عنده عشرين ليلة فاستووا في الأخذ عنه عادة، فلم يبق ما يقدم به إلا السن. قال الشوكاني: الحديث يدل على وجوب جميع ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة من الأقوال والأفعال، ويؤكد الوجوب كونها بيانا لمجمل قوله تعالى: ?وأقيموا الصلاة? وهو أمر قرآني يفيد الوجوب، وبيان المجمل الواجب واجب كما تقرر في الأصول، إلا أنه ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - اقتصر في تعليم المسيء صلاته على بعض ما كان يفعله، ويداوم عليه، فعلمنا بذلك أنه لا وجوب لما خرج عنه من الأقوال والأفعال؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول بالإجماع. ووقع الخلاف إذا جاءت صيغة أمر بشيء لم يذكر في حديث المسيء، فمنهم من قال يكون قرينة لصرف الصيغة إلى الندب، ومنهم من قال تبقى الصيغة على الظاهر الذي تدل عليه ويؤخذ بالزائد فالزائد. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي الأدب، وفي أخبار الآحاد، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضا أحمد (ج3: ص436 وج5: ص53) والنسائي. قال السيد: لم يذكر مسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فقول المصنف "متفق عليه" محل بحث. وأجيب بأنه يحمل على الغالب، أو محل الشاهد والأمر الذي يتعلق به الحكم ويترتب عليه الخلاف من الوجوب والندب. واعلم أن حديث مالك هذا وحديثه السابق واحد في الأصل، وفيه قصة، وبعضهم أطال، وبعضهم اختصر، والمعنى متقارب. وقيل في توجيه اختلاف السياق: أنه يحتمل أن تكون هذه الألفاظ المتعددة كانت منه في وفاتين أو في وفادة واحدة غير أن النقل تكرر منه ومن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم.

(4/229)


689- قوله: (حين قفل) أي رجع إلى المدينة. (من غزوة خيبر) في المحرم سنة سبع، وخيبر غير منصرف للعلمية والتأنيث، وهي اسم موضع على ستة مراحل، وقيل على ستة وتسعين ميلا من المدينة. (حتى إذا أدركه الكرى) بفتحتين وهو النعاس، وقيل النوم. (عرس) من التعريس أي نزل آخر الليل للنوم والاستراحة. قال النووي: التعريس نزول المسافرين آخر الليل للنوم والاستراحة، هكذا قاله الخليل والجمهور. وقال أبوزيد: هو النزول أي وقت كان
وقال لبلال: إكلأ لنا الليل. فصلى بلال ما قدر له، ونام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. فلما تقارب الفجر، استند بلال إلى راحلته موجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا بلال، ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولهم استيقاظا، ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أي بلال! فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك. قال: اقتادوا.

(4/230)


من ليل أو نهار، وفي الحديث معرسون في نحر الظهيرة – انتهى. وقال الخطابي: هو النزول لغير إقامة. (إكلأ) بهمزة في آخره، أي ارقب واحفظ واحرس، ومصدره الكلأ بكسر الكاف والمد. (الليل) أي آخره لإدراك الصبح. (فصلى بلال ما قدر له) أي ما تيسر له من التهجد. (وأصحابه) بالرفع على العطف، ويجوز نصبه على أنه مفعول معه. (استند بلال إلى راحلته) لغلبة ضعف السهر وكثرة الصلاة. (موجه الفجر) أي ليرقبه حتى يوقظهم عقب طلوعه. قال القاري: هو بكسر الجيم على أنه فعل لازم، ولذا قال الطيبي: أي متوجه الفجر يعني موضعه، وفي نسخة بفتح الجيم على أن الفعل متعد، والموجه هو الله تعالى. ?ولكل وجهة?- انتهى. ووقع في صحيح مسلم، وكذا عند ابن ماجه "مواجه الفجر" بزيادة الألف بعد الواو من المواجهة، قال النووي: أي مستقبله بوجهه. (فغلبت بلالا عيناه) قال الطيبي: هذا عبارة عن النوم كأن عينيه غالبتاه فغلبتاه على النوم، تم كلامه. وحاصله أنه نام من غير اختيار. (وهو مستند إلى راحلته) جملة حالية تفيد عدم اضطجاعه عند غلبة نومه. (حتى ضربتهم الشمس) أي أصابتهم ووقع عليهم حرها، وألقت عليهم ضوءها. (ففزع) بكسر زاي معجمة وعين مهملة أي قام قيام المتحير. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي من استيقاظه وقد فاتته الصبح. وقال الخطابي: معناه انتبه من نومه، يقال: أفزعت الرجل من نومه. إذا استيقظته ففزع، أي نبهته فانتبه. (فقال: أي بلال) العتاب محذوف أو مقدر أي لم نمت حتى فاتتنا الصلاة؟. (أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك) أي كما توفاك الله في النوم توفاني، أو يقال: معناه غلب على نفسي ما غلب على نفسك من النوم، أي كان نومي بطريق الاضطرار دون الاختيار ليصح الاعتذار، وليس فيه احتجاج بالقدر كما توهمه بعضهم. (اقتادوا) أمر من الاقتياد، وهو جر حبل العير، أي سوقوا رواحلكم من هذا الموضع، وفي رواية مسلم : فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليأخذ كل رجل برأس

(4/231)


راحلته، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان. وفيها بيان سبب تأخير الصلاة عن المكان الذي كانوا فيه، وهو أنه أراد أن يتحول عن المكان الذي أصابته الغفلة فيه. وفيها رد على من قال: إنه أخر قضاء الصلاة في ذلك المكان لكون ذلك وقت الكراهة. قال النووي: فإن قيل: كيف نام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس مع قوله: إن عيني تنامان ولا ينام قلبي؟ فجوابه من وجهين:
فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة، قال: من نسي الصلاة، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: ?وأقم الصلاة لذكرى?. رواه مسلم.

(4/232)


أصحهما وأشهرهما أنه لا منافاة بينهما؛ لأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك طلوع الفجر وغيره مما يتعلق بالعين وإنما يدرك ذلك بالعين، والعين نائمة وإن كان القلب يقظان. والثاني أنه كان له حالان أحدهما ينام فيه القلب، وصادف هذا الموضع، والثاني لا ينام، وهذا هو الغالب من أحواله، وهذا التأويل ضعيف، والصحيح المعتمد هو الأول- انتهى. (فاقتادوا) ماض أي ساقوا. (شيئا) أي يسيرا من الزمان أو اقتيادا قليلا من المكان، أي ذهبوا برواحلهم من ثمة مسافة قليلة. (وأمر بلالا) أي بالإقامة. (فأقام الصلاة) أي للصلاة، وفيه إثبات الإقامة للفائتة، وفيه إشارة إلى ترك الأذان للفائتة، وفي حديث أبي قتادة عند الشيخين إثبات الأذان للفائتة، وهي زيادة صحيحة، والزيادة إذا صحت قبلت وعمل بها. وأما ترك ذكر الأذان في حديث أبي هريرة فجوابه من وجهين: أحدهما لا يلزم من ترك ذكره أنه لم يؤذن فلعله أذن وأهمله الراوي، أو لم يعلم به، والثاني لعله ترك الأذان في هذه المرة لبيان جواز تركه، وإشارة إلى أنه ليس بواجب متحتم لا سيما في السفر. (فصلى بهم الصبح) أي قضاء، وفيه استحباب الجماعة في الفائتة. (فلما قضى الصلاة) أي فرغ منها. (من نسي الصلاة) وفي معنى النسيان النوم، أي من تركها بنسيان أو نوم، واكتفى بالنسيان عن النوم؛ لأنه مثله بجامع ما في كل من الغفلة وعدم التقصير. (فليصلها إذا ذكرها) فيه وجوب قضاء الفريضة الفائتة سواء تركها بعذر كنوم أو نسيان، أم بغير عذر، وإنما قيد في الحديث بالنسيان لخروجه على سبب، ولأنه إذا وجب القضاء على المعذور فغيره أولى بالوجوب، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، وقوله: فليصلها إذا ذكرها محمول على الاستحباب، فإنه يجوز تأخير قضاء الفائتة بعذر على الصحيح. ?أقم الصلاة لذكرى? بالإضافة إلى ياء المتكلم، وهي القراءة المشهورة، وظاهرها لا يناسب المقصود فأوله بعضهم

(4/233)


بأن المعنى: وقت ذكر صلاتي، على حذف المضاف وإضافة المصدر إلى المفعول، واللام بمعنى الوقت أي إذا ذكرت صلاتي بعد النسيان، أو المراد بالذكر المضاف إلى الله تعالى ذكر الصلاة لكون ذكر الصلاة يفضى إلى فعلها المفضي إلى ذكر الله تعالى فيها، فصار وقت ذكر الصلاة كأنه وقت لذكر الله، فقيل في موضع: أقم الصلاة لذكر الله، وقراءة ابن شهاب "للذكرى" بلام الجر ثم لام التعريف وآخره ألف مقصورة، وهي قراءة شاذة لكنها موافقة للمطلوب هنا بلا تكلف. (رواه مسلم) في الصلاة، وأخرجه أيضا الترمذي في تفسير سورة طه. وأبوداود، وابن ماجه في الصلاة.
690- (6) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد
خرجت)). متفق عليه.
691- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت الصلاة،

(4/234)


690- قوله: (إذا أقيمت الصلاة) أي ذكرت ألفاظ الإقامة ونودي بها. (فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت) أي من الحجرة الشريفة، أي فإذا رأيتموني قد خرجت فقوموا، وذلك لئلا يطول عليهم القيام، ولأنه قد يعرض له ما يؤخره. وفيه أنه إذا لم يكن الإمام في المسجد لا يقوم المؤتمون عند الإقامة إلى الصلاة إلا حين يرونه. وإليه ذهب الجمهور. وأما إذا كان هو معهم في المسجد فالمستحب أن يقوم الناس إذا أخذ المؤذن في الإقامة. وفيه جواز الإقامة والإمام في منزله إذا كان يسمعها وتقدم إذنه في ذلك. قال القرطبي: ظاهر الحديث أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة: إن بلالا كان لا يقيم حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه. أخرجه مسلم. ويجمع بينهما بأن بلالا كان يراقب خروج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس، ثم إذا رأوه قاموا، فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم، وأما حديث أبي هريرة عند مسلم بلفظ: أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتى فقام مقامه-الحديث. وعند البخاري بلفظ: أقيمت الصلاة فسوى الناس صفوفهم، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعنه في رواية أبي داود "إن الصلاة كانت تقام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأخذ الناس مقامهم قبل أن يجئ النبي - صلى الله عليه وسلم -"، فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنيعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النهي عن ذلك في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة، ولو لم يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره، ولا يرد هذا الحديث أنس عند البخاري وغيره: أنه قام في مقامه طويلا في حاجة

(4/235)


بعض القوم. لاحتمال أن يكون ذلك وقع نادرا، أو فعله لبيان الجواز. (متفق عليه) قال ميرك: فيه نظر؛ لأن قوله "قد خرجت" من إفراد مسلم، قال القاري: هذا من باب التأكيد الذي بدونه تحصل الإفادة، فكان اللفظ للبخاري والمعنى لمسلم. قلت: الظاهر أن المراد اتفاق الشيخين على إخراج أصل الحديث من غير نظر إلى خصوص اللفظ، والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي.
691- قوله: (إذا أقيمت الصلاة) ذكر الإقامة ليس بقيد لما في حديث أبي قتادة عند البخاري "إذا أتيتم الصلاة" فإنه يتناول ما قبل الإقامة، فالمراد الذهاب والمشي إلى الصلاة، وإنما ذكر الإقامة في حديث أبي هريرة؛ لأنها هي الحاملة في الغالب على الإسراع، وهي محل توهم جواز الإسراع لإدراك أول الصلاة مع الإمام، فإن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبير الأولى، فإذا لم يجز الإسراع مع وجود هذه المصلحة. فعند انتفائها بالأولى،
فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا.

(4/236)


فإن غيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلا الإسراع؛ لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها، فينهى عن الإسراع من باب الأولى، ففي هذا التقييد تنبيه على ما سواه، وإفادة أن الإسراع لا يجوز بحال. (تسعون) حال أي لا تأتوا إلى الصلاة مسرعين في المشي وإن خفتم فوت بعض الصلاة، والمراد بالسعي ههنا هو الإسراع، وقد يطلق على مطلق المشي والذهاب، وهو المراد في قوله تعالى. ?فاسعوا إلى ذكر الله? [62: 9) يدل عليه قراءة عمر: فامضوا إلى ذكر الله. وقيل المراد في الآية العمل والقصد، يدل عليه قوله تعالى: ? وذرو البيع? [62: 9] أي اشتغلوا بأمر المعاد واتركوا أمر المعاش، ومنه قوله تعالى: ?وأن ليس للإنسان إلا ما سعى? [53: 39] وقوله. ?إن سعيكم لشتى? [92: 4]، وعلى هذا فلا تنافي بين الآية والحديث في الذهاب إلى الجمعة. (تمشون) المشي وإن كان يعم الإسراع لكن التقييد بقوله "وعليكم" الخ خصه بغيره ولو لا التقييد صريحا لكفى المقابلة في إفادته. (وعليكم السكينة) ضبطها القرطبي بالنصب بعليكم، أي على الإغراء، يعني على أنها مفعول بها، والمعني الزموا السكينة، وضبطها النووي بالرفع على الابتداء، والخبر سابقها، والجملة في موضع الحال، زاد في رواية للشيخين "والوقار"، فقيل: هو بمعنى السكينة وذكر على سبيل التأكيد، وقيل: إن بينهما فرقا وإن السكينة التأنى في الحركات، واجتناب العبث. والوقار في الهيئة كغض البصر، وخفض الصوت وعدم الالتفات. (فما أدركتم) الفاء جواب شرط محذوف، أي إذا بينت لكم ما هو أولى بكم "فما أدركتم فصلوا"، أو التقدير إذا فعلتم الذي أمرتكم به من السكينة وترك الإسراع فما أدركتم فصلوا. واستدل به الجمهور على حصول فضيلة الجماعة بإدراك أي جزء كان من الصلاة، لعموم قوله "فما أدركتم فصلوا" ولم يفصل بين القليل والكثير. وقيل: لا يدرك فضل الجماعة بأقل من ركعة لحديث: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك. وقياسا على الجمعة. والجواب عن

(4/237)


الحديث أنه وارد في الأوقات، وحديث الجمعة خاص بها. واستدل الحنفية بإطلاق الحديث على أن من أدرك مع الإمام شيئا من صلاة الجمعة ولو في التشهد يصلي ما أدرك معه ويتم الباقي، ولا يصلي الظهر، وسيأتي الكلام في هذه المسألة في موضعها. واستدل به على استحباب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها. وفيه حديث أصرح أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبدالعزيز بن رفيع عن رجل من الأنصار مرفوعا: من وجدني راكعا أو قائما أو ساجدا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها. (وما فاتكم) أي بحسب الحس والمشاهدة دون الحكم. (فأتموا) أي أكملوه وحدكم كذا في أكثر الروايات بلفظ فأتموا، وفي بعضها فاقضوا. وقد اختلفوا في المسبوق هل ما يصلي بعد الإمام أول صلاته أم آخرها؟ فمن قال بالأول - وهو أبوحنيفة - استدل برواية "اقضوا"؛ لأن القضاء لا يكون إلا للفائت، فمن سبق بثلاث ركعات فإنه إذا سلم الإمام يقوم فيصلي ركعة بالفاتحة وسورة، ثم يقوم من غير تشهد فيصلي أخرى بالفاتحة وسورة، ثم يقعد ويتشهد ثم يقوم فيصلي أخرى بالفاتحة لا غير، ويتشهد ويسلم، بناء على أن ما أدركه مع الإمام هو آخر صلاته وأنه يكون قاضيا في الأقوال والأفعال. ومن قال بالآخر - وهو الشافعي - استدل
متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة)).

(4/238)


برواية "أتموا"؛ لأن لفظ الإتمام واقع على باق من شيء قد تقدم سائره، فمن سبق بثلاث ركعات فإنه يقوم بعد سلام الإمام فيصلي ركعة بالفاتحة وسورة، ثم يجلس ويتشهد، ثم يقوم فيصلي ركعتين بالفاتحة فقط، ثم يتشهد ويسلم، بناء على أن ما أدرك مع الإمام هو أول صلاته، وأنه يكون بانيا عليه في الأقوال والأفعال. وروى البيهقي من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي: "ما أدركت فهو أول صلاتك". وعن ابن عمر بسند جيد مثله. وقال مالك: إنه أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال، فيبني عليها، وآخرها بالنسبة إلى الأقوال فيقضيها، فمن سبق بثلاث ركعات يقضي ركعة بالفاتحة وسورة ويقعد ويتشهد، ثم يقوم فيصلي ركعتين أولاهما بالفاتحة وسورة، وآخراهما بالفاتحة خاصة، وكأنه أراد الجمع بين الروايتين والعمل بمقتضى اللفظين، واستدل لذلك بما رواه البيهقي من حديث قتادة أن عليا قال: ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك، واقض ما سبقك من القرآن. والراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي؛ لأن أكثر الرواة أجمعوا على قوله عليه السلام: وما فاتكم فأتموا. ولا يخالفه لفظ "اقضوا" كما سيأتي. قال الحافظ: إن أكثر الروايات ورد بلفظ "فأتموا" وأقلها بلفظ "فاقضوا"، وإنما تظهر فائدة ذلك إذا جعلنا بين الإتمام والقضاء مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدا واختلف في لفظه منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى، وهنا كذلك؛ لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا لكنه يطلق على الأداء أيضا، ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: ?فإذا قضيت الصلاة? [62: 10] ويرد بمعان آخر، فيحمل قوله هنا "فاقضوا" على معنى الأداء، أو الفراغ، فلا يغاير قوله "فأتموا"، فلا حجة فيه لمن تمسك برواية "فاقضوا" على أن ما أدركه المأموم هو آخر صلاته بل هو أولها، وإن كان آخر صلاته إمامه؛ لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدمه، وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل

(4/239)


حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرا له لما احتيج إلى إعادة التشهد، وقول ابن بطال: إنه ما تشهد إلا لأجل السلام؛ لأن السلام يحتاج إلى سبق تشهد. ليس بالجواب الناهض على دفع الإيراد المذكور. واستدل ابن المنذر لذلك أيضا على أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الافتتاح لا تكون إلا في الركعة الأولى-انتهى. واستدل بالحديث على أن مدرك الركوع لا يعتد بتلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته؛ لأنه فاته القيام والقراءة فيه، وهو قول أبي هريرة وجماعة، بل حكاه البخاري في القراءة خلف الإمام عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام، واختاره ابن خزيمة والضبعي وغيرهما من محدثي الشافعية، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. (وفي رواية لمسلم فإن أحدكم) تعليل لقوله: وعليكم السكينة. (إذا كان يعمد) بكسر الميم أي يقصد. (فهو في صلاة) أي حكما وثوابا، فينبغي له من الخشوع والوقار الذي يجب على المصلي، مع أن عدم الإسراع يستلزم كثرة الخطأ وهو معنى مقصود لذاته وردت فيه أحاديث.
وهذا الباب خال عن الفصل الثاني.
?الفصل الثالث?
692- (8) عن زيد بن أسلم قال: ((عرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة بطريق مكة، ووكل بلالا أن يوقظهم
للصلاة، فرقد بلال ورقدوا حتى استيقظوا وقد طلعت عليهم الشمس، فاستيقظ القوم، فقد
فزعوا، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي، وقال: إن هذا واد به
شيطان،
(وهذا الباب) أي بالنسبة إلى تبويب صاحب المشكاة، وإلا فهو في المصابيح "فصل". (خال عن الفصل الثاني)؛ لأنه لم يجد صاحب المصابيح في السنن أحاديث حسانا مناسبة لهذا الفصل.

(4/240)


692- قوله: (بطريق مكة) هذا يدل على أن هذه القضية غير الأولى؛ لأن تلك بين خيبر والمدينة، وهذه بين مكة والمدينة، وفي أبي داود من حديث ابن مسعود: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية ليلا فنزل فقال: من يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا – الحديث. وفي مصنف عبدالرزاق عن عطاء بن يسار مرسلا: أن ذلك كان بطريق تبوك، وللبيهقي في الدلائل نحوه من حديث عقبة بن عامر، وفي أبي داود من حديث أبي قتادة أن ذلك كان غزوة جيش الأمراء. وروى مسلم من حديث أبي قتادة مطولا، والبخاري مختصرا في الصلاة قصة نومهم عن صلاة الصبح أيضا في السفر، لكن لم يعينه وكذا وقع بالإبهام في حديث عمران عندهما. واختلف العلماء هل كانت قصة تعريسهم ونومهم عن صلاة الصبح مرة أو أكثر؟ فجزم بعضهم بأن القصة واحدة وحاول الجمع بين هذه الروايات، ولا يخلوا عن تكلف. ورجح النووي وعياض تعدد القصة لاختلاف مواطنها وتغاير سياقها وغير ذلك من وجوه المغايرات مما يدل على تعدد القصة. قال السيوطي: لا يجمع إلا بتعدد القصة، وإليه مال أكثر المحدثين. وقال ابن العربي: وقع ذلك ثلاث مرات. (ووكل بلالا) أي أمر. (أن يوقظهم للصلاة) أي لصلاة الصبح، وخص بلالا بذلك؛ لأنه هو الذي قال: أنا أوقظكم. في جواب قوله عليه الصلاة والسلام: أخاف أن تناموا عن الصلاة، فكأن بلالا سأله التوكيل فوكله. (فرقد بلال) أي بعد ما سهر مدة وغلبه النوم. (ورقدوا) أي نام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتمادا على بلال، واستمروا راقدين. (حتى استيقظوا) كلهم جميعا. (وقد طلعت عليهم الشمس) أي وأصابهم حرها. (فاستيقظ القوم) قال الطيبي: كرره لينيط به قوله: (فقد فزعوا) من فوات الصحب. (أن يركبوا) أن يرحلوا. (إن هذا واد به شيطان) فيه رد على من قال: إن تأخيره قضاء الصلاة كان لخروج وقت الكراهة، ولم يكن قوله عليه السلام هذا على سبيل التشاؤم بذلك الوادي؛ لأنه علمه وحققه وعرف أثر

(4/241)


فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي، ثم أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزلوا، وأن يتوضؤا، وأمر بلالا أن ينادي للصلاة- أو يقيم – فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس، ثم انصرف وقد رأى من فزعهم، فقال: يا أيها الناس! إن لله قبض أرواحنا، ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا، فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها، ثم فزع إليها، فليصلها كما كان يصليها في وقتها، ثم التفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر الصديق، فقال: إن الشيطان

(4/242)


الشيطان فيه فأخبر به. (فركبوا) أي رحلوا، أو ركب بعضهم واقتاد الآخرون. (أويقيم) أي بعد الأذان فأو للشك أو بمعنى الجمع المطلق كالواو، وهو الظاهر لثبوت الجمع بين الأذان والإقامة في حديث أبي قتادة وغيره. (فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أى قضى صلاة الصبح جماعة. (وقد رأى من فزعهم) أي أدرك بعض فزعهم أسفا على فوات الصبح، أو رأى عليهم بعض آثار خوفهم لما حسبوا أن في النوم تقصيرا. (قبض أرواحنا) أي ثم ردها إلينا، وهو كقوله تعالى: ?الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها? [39: 42] ولا يلزم من قبض الروح الموت، فالموت انقطاع تعلق الروح بالبدن ظاهرا وباطنا، والنوم انقطاعه عن ظاهره فقط، قاله الحافظ. وقال العز بن عبدالسلام: في كل جسد روحان: روح اليقظة التي أجرى الله تعالى العادة أنها إذا كانت في الجسد كان الإنسان مستيقظا، فإذا نام خرجت ورأت المنامات، وروح الحياة التي أجرى العادة أنها إذا كانت في الجسد فهو حي. ثم إنه لا يخفى ما في فوات صلاته - صلى الله عليه وسلم - من المصالح، ولأحمد من حديث ابن مسعود: لو أن الله أراد أن لا يناموا عنها لم يناموا، ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم. (في حين) أي وقت. (غير هذا) بالجر على الصفة، وقيل بالنصب على الاستثناء، أي قبل ذلك الوقت أو بعده. (فإذا رقد أحدكم) أي غافلا أو ذاهلا. (عن الصلاة أو نسيها) للتنويع لا للشك. (ثم فزع إليها) أي تنبه بالاستيقاظ أو التذكير. (فليصلها) أي حين قضاها. (كما كان يصليها في وقتها) ولا كفارة لها إلا ذلك ولا قضاء عليه إلا ذلك، لا كما زعم بعضهم أنه يعيد القضاء مرتين: عند ذكرها وعند حضور مثلها من الوقت الآتي، مستدلا بما في حديث عمران بن حصين عند أبي داود في مثل هذه القصة: من أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحا فليقض معها مثلها. قال الحافظ: لم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك، بل عدوا الحديث غلطا من راويه. وحكي ذلك

(4/243)


الترمذي وغيره عن البخاري، ويؤيد ذلك ما رواه النسائي من حديث عمران بن حصين أيضا أنهم قالوا يا رسول الله ! ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا. ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم – انتهى. وظاهر الحديث أنه يجهر في الجهرية، ويسر في السرية. (أبي بكر الصديق) قال الزرقاني: كان علي يحلف أن الله أنزل من السماء اسمه الصديق. (إن الشيطان) أي شيطان الوادي، أو شيطان بلال،
أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه، ثم لم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام. ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا، فأخبر بلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الذي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر، فقال أبوبكر: أشهد أنك رسول الله)) رواه مالك مرسلا.
693- (9) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خصلتان معلقتان في أعناق المؤذنين للمسلمين: صيامهم وصلاتهم)) رواه ابن ماجه.
(7) باب المساجد ومواضع الصلاة
?الفصل الأول?
أو الشيطان الكبير. (فأضجعه) أي أسنده لما تقدم في الحديث السابق، ويمكن أنه اضطجع في هذه القضية على أنها غير القضية الأولى. (يهدئه) من الإهداء، أي يسكنه وينومه، من أهدأت الصبي إذا أسكنته بأن تضرب كفك لينا عليه حتى يسكن وينام. قال الجزري في النهاية: الهدو السكون عن الحركات من المشي والاختلاف في الطريق. (كما يهدأ) بالنباء للمفعول. (ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا) أي فسأله عن سبب نومه وعدم إيقاظه إياهم. (فأخبر بلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الذي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبابكر) الخ. قال الطيبي: في الحديث إظهار معجزة، ولذا صدقه الصديق رضي الله عنه بالشهادة. (رواه مالك مرسلا) لما أن زيد بن أسلم تابعي، ولم يذكر الصحابي. وهذا الحديث وإن كان مرسلا عند جميع رواة الموطأ لكن روي معناه متصلا من وجوه صحيحه كما تقدم.

(4/244)


693- قوله: (معلقتان) صفة لخصلتان وقوله "للمسلمين" خبر، وقوله: صيامهم وصلاتهم. بيان للخصلتين أو بدل منه، شبهت حال المؤذنين وإناطة الخصلتين للمسلمين بحال الأسير الذي في عنقه ربقة الرق لا يخلصه منها إلا المن والفداء، قاله الطيبي. (في أعناق المؤذنين) أي ثابتتان في ذمتهم ليحفظوهما (صيامهم وصلاتهم) فالصيام ابتداء وانتهاء مما يتعلق بالأذان، والصلاة يعرف وقتها به. (رواه ابن ماجه) قال القاري: وسنده حسن. وفيه نظر؛ لأن في سنده بقية بن الوليد وهو مدلس رواه بالعنعنة عن مروان بن سالم الغفاري الجزري، وهو متروك، ورماه الساجي وغيره بالوضع كذا في التقريب.
(باب المساجد ومواضع الصلاة) تعميم بعد تخصيص أو عطف تفسير، والمسجد لغة محل السجود، وشرعا المحل الموقوف للصلاة فيه.
694- (1) عن ابن عباس، قال: ((لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت، دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة))

(4/245)


694- قوله: (البيت) أي الكعبة وهو بيت الله الحرام. (دعا في نواحيه) أي جوانبه جمع ناحية وهي الجهة. (كلها) وفي رواية فكبر فيها. وفيه دليل على استحباب الدعاء والتكبير في الكعبة، ولا خلاف فيه لأحد. (ولم يصل) أي في البيت. وفي حديث ابن عمر الذي بعده عن بلال: أنه صلى فيه، فأثبت بلال صلاته - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة، وابن عباس نفاها، وقد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال، وتقديم إثباته على نفي غيره لأمرين: أحدهما أن بلالا كان معه - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ولم يكن معه ابن عباس، وإنما استند في نفيه تارة إلى أسامة وتارة إلى أخيه الفضل مع أنه لم يثبت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة، وقد روى مسلم عن أسامة نفي الصلاة في الكعبة من طريق ابن عباس كما سيأتي التصريح به من المصنف، ووقع إثبات صلاته فيها عن أسامة من رواية ابن عمر عند أحمد وغيره. فتعارضت الرواية في ذلك عنه، فترجح رواية بلال من جهة أنه مثبت ومعه زيادة علم، وغيره ناف. ومن جهة أنه لم يختلف فيه في الإثبات، واختلف على من نفي، ويمكن الجمع بين روايتي أسامة المثبتة والنافية بأنه حيث أثبتها اعتمد في ذلك على خبر غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لم يره - صلى الله عليه وسلم - حين صلى فيها. وقال النووي: يجب ترجيح رواية بلال؛ لأنه مثبت فمعه زيادة علم، وأما نفي أسامة فسببه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو فاشتغل أسامة بالدعاء في ناحية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية، ثم صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية فرأه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء، ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة مع احتمال أن يحجبه عنه بعض الأعمدة فنفاها عملا بظنه، وأما بلال فحققها فأخبر بها. وقيل يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة لم يشهد صلاته، ويشهد

(4/246)


له ما رواه أبوداود الطيالسي في مسنده عن أسامة، قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة فرأى صورا، فدعا بدلو من ماء فأتيته به فضرب به الصور. قال القرطبي: فلعله استصحب النفي لسرعة عوده. وقيل: إنه - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة مرتين، مرة صلى، ومرة دعا وكبر ولم يصل، وقال ابن حبان: الأشبه عندي في الجمع أن يجعل الخبران في وقتين، فيقال: لما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال، ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها؛ لأن ابن عباس نفاها وأسنده إلى أسامة، وابن عمر أثبتها وأسند إثباته إلى بلال وإلى أسامة أيضا، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض. (ركع ركعتين) أي صلى فأطلق الجزء وأراد به الكل. (في قبل الكعبة) بضم القاف والموحدة وقد تسكن، أي مقابلها أو ما استقبلك منها وهو وجهها الذي فيه الباب وهذا موافق لرواية ابن عمر عند البخاري فصلى في وجه الكعبة ركعتين. (هذه) أي الكعبة. (القبلة) التي استقر الأمر على استقبالها فلا تنسخ إلى غيرها كما نسخ بيت المقدس،
رواه البخاري.
695- (2) ورواه مسلم عنه، عن أسامة بن زيد.
696- (3) وعن عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة هو وأسامة بن
زيد، وعثمان بن طلحة الحجبي،

(4/247)


فالمراد بذلك تقرير حكم الانتقال عن بيت المقدس، وقيل: المراد أن حكم من شاهد البيت وجوب مواجهة عينه جزما بخلاف الغائب، وقيل: المراد أن الذي أمرتم باستقباله ليس هو الحرام كله ولا مكة ولا المسجد الذي حول الكعبة بل الكعبة نفسها، وقيل: الإشارة إلى وجه الكعبة علمهم بذلك سنة موقع الإمام في وجهها دون أركانها وجوانبها الثلاثة وإن كان الكل جائزا. (رواه البخاري) في الصلاة، وفي المناسك، وفي ذكر الأنبياء، وفي المغازي مطولا ومختصرا. وأخرجه مسلم والنسائي في المناسك مختصرا، ولفظه عند مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة وفيه ست سوار، فقام عند كل سارية فدعا ولم يصل. وحديث ابن عباس هذا من مراسيل الصحابة؛ لأنه لم يكن معهم، وأسنده عن غيره ممن دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة فيكون مرسلا.
695- قوله: (ورواه مسلم عنه) أي عن ابن عباس في المناسك. (عن أسامة بن زيد) وأخرجه أيضا النسائي في المناسك. وأسامة هذا هو أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل الكلي الأمير أبومحمد، ويقال: أبوزيد، وأمه أم أيمن واسمها بركة، وهي حاضنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت مولاة لأبيه عبدالله بن عبدالمطلب، وأسامة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن مولاه، وحبه وابن حبه، قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن (20) سنة، وقيل: (18) سنة، ونزل وادي القرى، وتوفى به بعد قتل عثمان (رض). وقيل: سكن المزة مدة ثم انتقل إلى المدينة فمات سنة (54) وهو ابن (75) سنة. استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جيش فيه أبوبكر (رض) وعمر (رض) فلم ينفذ حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعثه أبوبكر إلى الشام. له مائة وثمانية وعشرون حديثا، اتفقا على خمسة عشر، وانفرد كل منهما بحديثين، روى عنه جماعة.

(4/248)


696- قوله: (دخل الكعبة) يوم فتح مكة كما وقع مبينا عند البخاري في الجهاد. (وأسامة بن زيد) برفع أسامة على العطف. (وعثمان بن طلحة) بن أبي طلحة بن عبدالعزى بن عبدالدار ين بن قصى بن كلاب العبدري، أسلم في الهدنة بعد عمرة القضاء وهاجر مع خالد بن الوليد، ثم سكن مكة إلى أن مات بها سنة (42) وقيل: قتل بأجنادين وأدخله الكعبة لئلا يتوهم الناس عزله عن سدانة البيت وحجابته. (الحجبي) بفتح المهملة والجيم، ويقال لآل بيته الحجبة لحجبهم الكعبة، ويعرفون الآن بالشيبيين نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وذلك أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة لم يزل بلى فتح البيت إلى أن توفي فدفع إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان هذا لا ولده، فبقيت الحجابة في بني شيبة، ولشيبة هذا أيضا
وبلال بن رباح، فأغلقها عليه، ومكث فيها، فسألت بلالا حين خرج: ماذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: جعل عمودا عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثم صلى))

(4/249)


صحبة ورواية، قتل أبوه يوم أحد كافرا، وأسلم شيبة بعد الفتح، وكان ممن صبر بحنين مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال مصعب الزبيري دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - المفتاح إليه وإلى عثمان بن طلحة فقال: خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم. مات شيبة سنة (59) . (وبلال بن رباح) بفتح الراء مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخادم أمر صلاته، وأدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - معه أسامة وبلالا لملازمتهما خدمته. (فأغلقها) أي الكعبة يعني بابها، والفاعل عثمان كما وقع التصريح به في رواية لمسلم، ووقع في الموطأ بلفظ "فأغلقاها" فالضمير لعثمان وبلال، وفي رواية للشيخين "فأغلقوا" والجمع بين الروايات أن عثمان هو المباشر لذلك؛ لأنه من وظيفته، وأما ضم بلال فلعله ساعده في ذلك، ورواية الجمع يدخل فيها الآمر بذلك والراضي به. (عليه) أي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية "عليهم" وهو ظاهر، وإنما أغلق الباب لئلا يزدحم الناس عليه لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعاله ليأخذوها عنه، أو ليكون ذلك أسكن لقلبه، وأجمع لخشوعه، وقيل: لئلا يكثر الناس فيصلوا بصلاته، ويكون ذلك عندهم من المناسك كما فعل في صلاة الليل في رمضان. واستدل البخاري بحديث ابن عمر هذا على جواز اتخاذ الغلق للمساجد لأجل صونها عما لا يصلح فيها، ولأجل حفظ ما فيها من الأيدي العادية. (ومكث) بضم الكاف وفتحها أي توقف. (ماذا صنع) أي داخل البيت. (جعل عمودا عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة) كذا في هذه الرواية ولا إشكال فيها. ووقع في رواية للبخاري: جعل عمودا عن يساره، وعمودا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة. ولا يخفى ما فيها من الإشكال إذ في قوله: وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، إشعار بكون ما عن يمينه أو يساره اثنين. وأجيب بأن التثنية بالنظر إلى

(4/250)


ما كان عليه البيت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإفراد بالنظر إلى ما صار إليه بعد، ويؤيده قوله "وكان البيت يومئذ"؛ لأن فيه إشعارا بأنه تغير عن هيئته الأولى. أو يقال لفظ العمود جنس يحتمل الواحد والاثنين، فهو مجمل بينته رواية عمودين، أو لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد بل عمودان متسامتان والثالث على غير سمتهما، ولفظ المقدمين في الرواية الأخرى ليشعر به، أو كان هناك ثلاثة أعمدة مصطفة فصلى إلى جنب الأوسط، فمن قال: جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره، لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه، ومن قال: عمودين اعتبره. وقوله: كان البيت يومئذ على ستة أعمدة. إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يهدم، ويبنى في زمن ابن الزبير، وأما الآن فعلى ثلاثة أعمدة. (ثم صلى) أي متوجها إلى الجدار الغربي المقابل للجدار الشرقي الذي فيه الباب تقريبا بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار الغربي ثلاثة أذرع. وفي الحديث مشروعية الدخول في الكعبة واستحبابه، وفيه استحباب الصلاة فيها، وهو ظاهر في النفل، ويلتحق به الفرض إذا لا فرق بينهما
متفق عليه.
697- (4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة في مسجدي هذا

(4/251)


في الاستقبال للمقيم، وهو قول الجمهور، ومنع منه مالك لقوله: ?فولوا وجوهكم شطره? [2: 144] أي قبالته، ومن فيه مستدبر لبعضه، ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الفرض داخله، وإن ثبت أنه صلى النفل، إذ يسامح في النافلة ما لا يسامح في الفريضة. (متفق عليه) فيه أن قوله: جعل عمودا عن يساره وعمودين عن يمينه من إفراد البخاري: ولفظ مسلم: جعل عمودين عن يساره، وعمودا عن يمينه، عكس رواية البخاري، فنسبة المصنف للرواية التي ذكرها هو إلى الشيخين فيه نظر، اللهم! إلا أن يقال: أن مراد المصنف اتفاق الشيخين على أصل الحديث. وجمع بعرض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة. قال الحافظ: وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث، وقد جزم البيهقي بترجيح رواية البخاري.

(4/252)


697- قوله: (صلاة) التنكير للوحدة أي صلاة واحدة فرضا كانت أو نفلا، فالتضعيف المذكور في الحديث لا يختص بالفرض بل يعم النفل أيضا. وقال الطحاوي: إن ذلك مختص بالفرائض لقوله - صلى الله عليه وسلم -: أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. قال الحافظ: ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه فتكون صلاة النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما، وكذا في المسجدين، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقا. (في مسجدي هذا) أي مسجد المدينة لا مسجد قباء، واختلف هل يدخل في التضعيف ما زيد في المسجد النبوي في زمن الخلفاء الراشدين من بعدهم أم لا؟ إن غلبنا اسم الإشارة انحصر التضعيف فيه ولم يعم ما زيد فيه؛ لأن التضعيف إنما ورد في مسجده وقد أكده بقوله "هذا"، فإن الإشارة لخصوص البقعة الموجودة يومئذ فلم تدخل فيه الزيادة، ولا بد في دخولها من دليل، قال النووي: ينبغي أن يحرص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمانه - صلى الله عليه وسلم - دون ما زيد فيه بعده بخلاف المسجد الحرام، فإنه يشمل جميع مكة بل صحح أنه يعم جميع الحرم، وإن غلبنا التسمية لم يختص التضعيف بما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وإليه ذهبت الحنفية كما صرح به في الدر المختار، قال ابن عابدين: وأصل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة في مسجدي هذا. ومعلوم أنه قد زيد في المسجد النبوي، فقد زاد فيه عمر، ثم عثمان، ثم الوليد، ثم المهدي، والإشارة "بهذا" إلى المسجد المضاف المنسوب إليه - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن جميع المسجد الموجود الآن يسمى مسجده - صلى الله عليه وسلم -، فقد اتفقت الإشارة والتسمية على شيء واحد، فلم تلغ التسمية فتحصل المضاعفة المذكورة في الحديث فيما زيد فيه، وخصها الإمام النووي بما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - عملا بالإشارة، قال القاري واعترضه ابن تيمية وأطال فيه، والمحب الطبري، وأوردا ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.كتاب المزهر في معرفة اللغة للسيوطي الجزء الثالث والاخير{من النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي الي الخاتمة}

  النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي  أول ما يلزمه الإخلاص وتصحيح النية لقوله ﷺ: « الأعمال بالنيات » ثم التحري في الأخذ عن الثقات لق...