3.
الكتاب:مرعاة المفاتيح |
267-
قوله: (آفة العلم النسيان) أي بعد حصوله، فيه تنبيه على الاجتناب عن مباشرة
الأسباب التي توجب النسيان، من اقتراف الذنوب، وارتكاب الخطايا، وتشعب الهموم،
ومشاغل النفس والدنيا، والإعراض عن استحضاره. (وإضاعته أن تحدث به غير أهله) بأن
لا يفهمه، أو لايعمل به من أرباب الدنيا. (رواه الدارمي مرسلا) أي معضلا. وكذا
أخرجه عنه ابن أبي شبية، أي مرفوعا معضلا، وأخرج صدره فقط عن ابن مسعود موقوفا،
قال
268- (71) وعن سفيان أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لكعب: "من أرباب
العلم"؟ قال: "الذين يعملون بما يعلمون"، قال: "فما أخرج
العلم من قلوب العلماء"؟ قال: "الطمع"، رواه الدارمي.
السيد: المراد بالإرسال المعنى اللغوى الذي هو الانقطاع؛ لأن الأعمش لم يسمع من
أحد من الصحابة.
(2/248)
268- قوله: (عن سفيان) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، أبوعبدالله من كبار أتباع التابعين، وإمام المسلمين، وحجة الله على خلقه، جمع في زمنه بين الفقه والاجتهاد فيه، والحديث، والزهد، والعبادة، والورع، والثقة، وإليه المنتهى في علم الحديث وغيره من العلوم. أجمع الناس على دينه، وزهده، وورعه، وثقته، وهو أحد الأئمة المجتهدين، وأحد أقطاب الاسلام وأركان الدين. سمع خلقا كثيرا، وروى عنه الأوزاعي، ومالك، وابن جريج، وخلق كثير سواهم، حتى قيل: روى عنه عشرون ألفا، يبلغ حديثه ثلثين ألفا. وقال في التقريب: إنه ثقة، حافظ، فقيه؟ عابد، إمام، حجة. ولد سنة (97)، ومات بالبصرة سنة (161) وله أربع وستون. (قال لكعب) هو كعب بن ماتع الحميرى، أو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، جمع الحبر-بكسر الحاءوفتحها – بمعنى العالم والصالح، ويضاف إليه إما لكثرة كتابته، أو معناه ملجأ العلماء. وقال الطيبي: الإضافة كما في زيد الخيل. وهو من آل ذي رعين، وقيل: من ذى الكلاع. أدرك الجاهلية، ولم يره - صلى الله عليه وسلم - وأسلم في زمن عمر، وكان من أهل الكتاب. قال الحافظ: ثقة، من كبار التابعين، مخضرم، كان من أهل اليمن فسكن الشام، ومات في حمص، في خلافة عثمان سنة (32)، وقد بلغ مائة وأربع سنين. وخص عمر كعبا بذلك السؤال؛ لأنه كان ممن علم التوراة وغيرها، وأحاط بالعلم الأول. (من أرباب العلم) أي من هم أصحابه عندكم أو في كتابكم؟ قال الطيبي: أي من ملك العلم ورسخ فيه، واستحق أن يسمى بهذا الاسم. (الذين يعملون بما يعلمون) قال الطيبى: وهم الذين سماهم الله الحكماء في قوله: ?ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا? [269:2]؛ لأن الحكيم من علم دقائق الأشياء وأتقنها برصانة العلم ، فعلم منه أن العالم ما لم يعمل لم يكن من أرباب العلم، بل كان كمثل الحمار يحمل أسفارا. (فما أخرج العلم) أي نوره وهيبته وبركته، (من قلوب العلماء) أي العاملين، لما
(2/249)
تقدم أن غير العاملين ليسوا
بعلماء. (قال: الطمع) أي في الدنيا؛ لأنه يؤدي إلى الرياء والسمعة، والعلم والعمل
بدون الإخلاص لا يوصلان السالك إلى مقام الاختصاص، فمفهومه أن الورع يدخل العلم في
قلوب العلماء. وقال الطيبي: الفاء أي في قوله: فما أخرج، جزاء شرط محذوف، والتعريف
في العلم للعهد الخارجي، وهو ما يعلم من قوله: "أرباب العلم" أي إذا كان
أرباب العلم من جمع بين العلم والعمل، فلم ترك العالم العمل، وما الذي دعاه إلى
ترك العمل لينعزل عن هذا الاسم؟ قال: الطمع في الدنيا والرغبة فيها. (رواه
الدارمي)أي موقوفا من قول كعب، وهو معضل أيضا فإن سفيان الثوري بينه وبين عمر
مفاوز.
269- (72) وعن الأحوص بن حكيم، عن أبيه، قال: ((سأل رجل النبي- صلى الله عليه وسلم
-عن الشر. فقال: لا تسألوني عن الشر، وسلوني عن الخير، يقولها ثلاثا، ثم قال: ألا
إن شر الشر شرار العلماء، وإن خير الخير خيار العلماء)). رواه الدارمي.
270- (73) وعن أبي الدرداء قال: "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة
عالم لا ينتفع بعلمه". رواه الدارمي.
(2/250)
269- قوله: (عن الأحوص بن حكيم) بن عمير العنسى الحمصى، رأى أنسا وعبدالله بن بسر، ضعيف الحفظ، من صغار التابعين، قاله الحافظ وضعفه أيضا النسائى، وابن معين، وابن المديني، (عن أبيه) حكيم بن عمير بن الأحوص، قال أبوحاتم: لا بأس به. وقال الحافظ: صدوق يهم، من الثالثة، أي من أوساط التابعين (عن الشر) أي فقط يعني عن أشر الناس، كما يدل عليه الجواب. (لا تسألوني) بتخفيف النون، فإن لا ناهية. ( عن الشر) أي فحسب، قال ابن حجر: لأنى رؤف رحيم، نبي الرحمة. فالمراد النهي عن لازم ذلك من إيهام غلبة مظاهر الجلال فيه على مظاهر الجمال، وإلا فالسؤال عن الشر ليجتنب واجب كفاية أو عينا، فكيف ينهى عنه. (وسلوني عن الخير) إما منفردا أو منضما بالسؤال عن الشر. (يقولها ثلاثا) قال الطيبي: حال من فاعل قال، والضمير المؤنث راجع إلى الجملة، أعني لا تسألوني الخ، أو إلى الجملة القريبة. (ألا) بالتخفيف للتنبيه. (إن شر الشر) أي أعظمه (شرار العلماء) الخ. المراد بشرار العلماء من لا يعملون بعلمهم ولا ينتفع به غيرهم، كما يدل عليه أثر ابي الدرداء. قال الطيبي: وإنما كانوا شر الشر وخير الخير؛ لأنهم سبب لصلاح العالم وفساده، وإليهم تنتمى أمور الدين والدنيا، وبهم الحل والعقد. (رواه الدارمي) أي مرسلا من طريق بقية عن الأحوص عن أبيه ، وبقية مدلس، رواه عن الأحوص بالعنعنة، والأحوص ضعيف كما تقدم. وأخرج البزار وأبونعيم في الحلبة نحوه عن معاذ بن جبل ، وفيه الخليل بن مرة وهو ضعيف.
(2/251)
270- قوله: (إن من أشر الناس)
قال الطيبي: من زائدة وعالم خبر إن، وقيل: من تبعيضية ، والتقدير: إن بعض أشرارهم.
(لا ينتفع) بصيغة المعلوم، أي هو (بعلمه) بأن تعلم علما شرعيا وما عمل به، فإنه شر
من الجاهل، وعذابه أشد من عقابه، روى الطبراني وابن عساكر والبيهقي عن أبي هريرة:
"أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه"، وقيل بصيغة
المجهول، أي لا ينتفع الناس بعامه لأجل كتمه عنهم، وعدم نشره بالتعليم والتدريس،
أو التصنيف، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويؤيد هذا الاحتمال حديث أبي هريرة
الاتى"مثل علم لا ينتفع به" الخ. (رواه الدارمي )أي موقوفا، قال
الالباني: وإسناده ضعيف. رجاله ثقات غير ابن القاسم بن قيس فلم أعرفه، ورواه
الطبراني في الصغير وابن عبد البر في الجامع عن أبي هريرة مرفوعا نحوه وسنده ضعيف
جدا.
271- (74) وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: "هل تعرف ما يهدم الاسلام؟
قال:قلت: لا؛ قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة
المضلين". رواه الدارمي.
272- (75) وعن الحسن ، قال: "العلم علمان، فعلم في القلب فذاك العلم النافع،
وعلم على اللسان، فذاك حجة الله عزوجل على ابن آدم". رواه الدارمي.
(2/252)
271- قوله: (عن زياد بن حدير) بضم الحاء وفتح الدال المهملتين، بعدها تحتية ساكنة، بعدها راء، أبومغيرة الأسدى، روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، والعلاء الحضرمي، قال في التقريب: ثقة، عابد من كبار التابعين وثقة أبوحاتم، والدارقطني، وابن حبان. (مايهدم الإسلام) أي يزيل عزته. (زلة العالم) أي عثرته بتقصير منه (وجدال المنافق) الذي يظهر السنة ويبطن البدعة. (بالكتاب) أي القرآن، وإنما خص لأن الجدال به أقبح يؤدى إلى الكفر، وذلك لإفساده الدين. (وحكم الأئمة المضلين) أي على وفق أهوائهم وإكراههم الناس عليه، فالعلماء الزائغون عن الحق، والمنافقون المجادلون المبتدعون، وأمراء الجور هم الذين يضعفون أركان الإسلام ويعطلونها بأعمالهم. قال الطيبي: المراد بهدم الإسلام تعطيل أركانه الخمسة في قوله: - عليه السلام -: "بنى الإسلام على خمس" الحديث. وتعطيله إنما يحصل من زلة العالم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإتباع الهوى، ومن جدال المبتدعة وغلوهم في إقامة البدع بالتمسك بتأويلاتهم الزائغة، ومن ظهور ظلم الأئمة المضلين، وإنما قدمت زلة العالم؛ لأنها هي السبب في الخصلتين الأخيرتين، كما جاء "زلة العالم زلة العالم". (رواه الدارمي) أي موقوفا، وأخرجه أيضا ابن المبارك، وجعفر الفريابي في صفة المنافق، ونصر المقدسي في الحجة، وابن النجار وآدم بن أبي إياس وابن عبدالبر في العلم، وروي في "الخوف على الأمة من زلة العالم وجدال المنافق" وغير ذلك أحاديث عن جماعة من الصحابة، ذكرها الهيثمى في مجمع الزوائد (ج1:ص186، 187) مع الكلام عليها، وعلي المتقى في كنزل العمال (ج5:ص212، 232، 233).
(2/253)
272- قوله: (العلم) أي الشرعي
(علمان) أي نوعان. (فعلم) الفاء تفصيلية أي فنوع منه. (في القلب) المراد بعلم في
القلب. ما ظهر أثره ونوره في القلب بأن يعمل به ويجري على مقتضاه، ويظهر السنة
ويبطل البدعة. (فذاك العلم النافع) المذكور المطلوب في الأدعية المأثورة. (وعلم
على اللسان) أي ونوع آخر من العلم جار على اللسان، ظاهر عليه فقط، لم يظهر أثره
ونوره في القلب، ولا أورث العمل، (فذاك حجة الله عزوجل على ابن آدم) فيقول له يوم
القيامة: ماذا عملت فيما تعلمت؟ وهو الذي استعاذ منه - صلى الله عليه وسلم -
بقوله: ((أعوذبك من علم لا ينفع)). (رواه الدارمي) أي موقوفا، وأخرجه الخطيب في
تاريخه، عن الحسن، عن جابر مرفوعا بإسناد حسن، وأبونعيم في الحلية، والديلمي في
مسند الفردوس عن أنس مرفوعا، وأخرجه ابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي في نوادر
الأصول، وابن عبدالبر في كتاب
273- (76) وعن أبي هريرة، قال: ((حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وعائين، فأما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم – يعني
مجرى الطعام)) رواه البخارى.
274- (77) وعن عبدالله قال: "يا أيهاالناس من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم
فليقل: الله أعلم،
العلم عن الحسن مرسلا بإسناد صحيح، وأخرجه البيهقي عن الفضيل بن عياض من قوله: غير
مرفوع.
(2/254)
273- قوله: (وعائين) بكسر الواو والمد، تثنية وعاء أي ظرفين، أطلق المحل وأراد الحال، أي نوعين من العلم، ومراده أن محفوظه من الحديث لو كتب لملأ وعائين. (فأما أحدهما) أي أحد ما في الوعائين من نوعي العلم (فبثثته) أي أظهرته ونشرته (فيكم) ليس هذا اللفظ في البخاري، قال الحافظ: زاد الإسماعيلي وقال القسطلاني: زاد الأصلي "في الناس"، (قطع هذا البلعوم) بضم الباء، كنى بذلك عن القتل، وفي وراية الإسماعيلي "لقطع هذا" يعني رأسه. (يعني مجرى الطعام) أي في الحلق، وهو المري، وأراد بالوعاء الذي لم يبثه، ما كتمه من أخبار الفتن والملاحم، وتغير الأحوال في آخر الزمان، وما أخبر به الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من فساد الدين على يدي أغيلمة من سفهاء قريش، وقد كان أبوهريرة يقول: لوشئت أن أسميهم بأسمائهم، أو المراد الأحاديث التي فيها تبيين أسماء أمراء الجور، وأحوالهم، وزمنهم، وقد كان أبوهريرة يكني عن بعض ذلك ولا يصرح خوفا على نفسه منهم، كقوله أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. قال ابن المنير: جعل الباطنية هذا الحديث ذريعة إلى تصحيح باطلهم، حيث اعتقدوا أن للشريعة ظاهرا وباطنا، وذلك الباطل إنما حاصله الانحلال من الدين، قال: وإنما أراد أبوهريرة بقوله: "قطع" أي قطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عيبه بفعلهم وتضليله لسعيهم. ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتومة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها؛ لما ذكر هو من الآية الدالة على ذم من كتم العلم. وقال غيره قد نفى أبوهريرة بثه على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك؟ وأبوهريرة لم يكشف مستوره فيما نعلم، فمن أين علم الذي كتمه؟ فمن ادعى ذلك فعليه البيان. (رواه البخاري) في العلم، قال القسطلاني: زاد في رواية ابن عساكر، والأصيلي، وأبي الوقت، وأبي ذر،
(2/255)
والمستملى قال أبوعبدالله:
يعني البخاري "البلعوم" مجرى الطعام، وعلىهذا لا يخفى ما في المشكاة، إذ
يفهم منه أن قوله: يعني "مجرى الطعام" من أحد رواة الحديث، ولا يفهم منه
أنه للبخاري.
274- قوله: (وعن عبدالله) إذا أطلق فهو ابن مسعود. (قال يا أيهاالناس) الخ تعريضا
بالرجل القائل: "يحئ دخان يوم القيامة" وإنكارا عليه، يعني لا تتكلفوا
فيما لا تعلمون. (من علم شيئا) من علوم الدين فسأله عنه من هو متأهل لفهم جوابه.
(فليقل به) أي بذلك الشيء المعلوم. (ومن لم يعلم فليقل) أي في الجواب (الله أعلم)
أي أكثر علما. وقال ابن
فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم. قال الله تعالى لنبيه: ?قل ما
أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين? متفق عليه.
275- (78) وعن ابن سيرين قال: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون
دينكم" رواه مسلم.
276- (79) وعن حذيفة، قال: يا معشر القراء
حجر: "أعلم" بمعنى عالم لاستحالة المشاركة، قال القاري: المشاركة
الاستقلالية هي المستحيلة. (فإن من العلم) أي من آدابه الواجب رعابتها على من نسب
للعلم، أوالتقدير "فإن من جملة العلم"، وهو خبر إن واسمه قوله: "أن
تقول" الخ قاله القاري، والثاني هو الظاهر، والمعنى أن تمييز المعلوم من
المجهول نوع من العلم، وهذا مناسب لما اشتهر من أن "لا أدرى" نصف العلم،
ولأن القول فيما لا يعمل قسم من التكلف. (أن تقول لما لا تعلم) أي لأجله أو عنه
(قال الله تعالى لنبيه) وهو أعلم الخلق ?قل ما أسألكم عليه? أي على التبليغ ?من
أجر? أي آخذه منكم ?وما أنا من المتكلفين? أي من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا
من أهله. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإستسقاء، وفي تفسير الروم والدخان، ومسلم
في التوبة، وأخرحه أيضا أحمد، والترمذي، والنسائي في التفسير.
(2/256)
275- قوله: (وعن ابن سيرين) هو
محمد بن سيرين، يكنى أبابكر، مولى أنس بن مالك، من أكابر التابعين، قال المصنف:
كان فقيها عالما، زاهدا، عابدا، ورعا، محدثا، من مشاهير التابعين وجلتهم، وقال
الحافظ: إنه ثقة، ثبت، عابد، كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى. مات سنة
(110) وهو ابن سبع وسبعين سنة. قال القاري: وهو غير منصرف للعلمية والمزيدتين على
مذهب أبى علي في اعتبار مجرد الزائدتين. (إن هذا العلم دين) اللام للعهد، يعني أن
علم الإسناد من الدين، وقيل: المراد به، علم الكتاب والسنة، وهما أصول الدين،
ويؤيد المعنى الأول ما رواه مسلم في مقدمة صحيحه عقب ذلك عن ابن سيرين أيضا، قال:
لم يكن يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى
أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم. (فانظروا) أي
فاعلموا وتحققوا (عمن تأخذون دينكم) تنبيه وحث على رعاية الوثوق والديانة، والحفظ،
والورع، والسنة، حتى لا يؤخذ من كل من يروي، و"عن" متعلق بتأخذون على
تضمين معنى تروون. (رواه مسلم) في مقدمه صحيحه موقوفا من قول ابن سيرين، وكذا
الدارمي، وأخرجه الحاكم في تاريخه، وابن عدى في الكامل مرفوعا عن أنس، وكذا أخرجه
مرفوعا أبونصر السجزي في الإبانة، والديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة،
لكن المرفوع ضعيف، والصحيح أنه قول ابن سيرين.
276- قوله: (يامعشر القراء) أي الذين يحفظون القرآن قاله الطيبي: وقال الحافظ:
المراد بهم العلماء بالقرآن،
استقيموا ، فقد سبقتم سبقا بعيدا ، وإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا))
رواه البخاري.
277- (80) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تعوذوا
بالله من جب الحزن ، قالوا: يا رسول الله ، وما جب الحزن ؟ قال: واد في جهنم ،
يتعوذ منه جهنم كل يوم أربع مائة مرة ، قيل: يا رسول الله ، ومن يدخلها ؟ قال:
القراء
(2/257)
والسنة العباد. (استقيموا) أي على جادة الشريعة ، أي اسلكوا طريق الاستقامة ، بأن تتمسكوا بأمر الله فعلا وتركا. (فقد سبقتم) بفتح السين والموحدة ، قال الحافظ: هو المعتمد ، وحكي بضم السين وكسر الباء مبنيا للمفعول ، والمعنى على الأول: اسلكوا طريق الاستقامة ؛ لأنكم أدركتم أوائل الإسلام ، فإن تتمسكوا بالكتاب والسنة ، تسبقوا إلى كل خير ؛ لأن من جاء بعدكم إن عمل بعملكم لم يصل إليكم لسبقكم إلى الإسلام ، ومرتبة المتبوع فوق مرتبة التابع ، وإلا فهو أبعد منه حسا وحكما. وعلى الثاني: أي سبقكم المتصفون بتلك الاستقامة إلى الله ، فكيف ترضون لنفوسكم هذا التخلف المؤدي إلى الانحراف عن سنن الاستقامة يمينا وشمالا ، الموجب للهلاك الأبدي. (سبقا بعيدا) أي ظاهر التفاوت. (وإن أخذتم يمينا وشمالا) أي خالفتم المذكور بالإعراض عن الجادة والانحراف عن طريق الاستقامة. (فقد ضللتم ضلالا بعيدا) أي عن الحق بحيث يبعد رجوعكم عنه إليه، وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى: ?وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله? [6: 153]، والذي له حكم الرفع من حديث حذيفة هذا الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين مضوا على طريق الاستقامة. (رواه البخاري) في الاعتصام، وأخرجه أيضا أبونعيم في المستخرج، وابن أبي شيبة، وابن عساكر بنحوه.
(2/258)
277- قوله: (من جب الحزن)
"الجب" بضم الجيم وتشديد الموحدة ، البئر التي لم تطو،
و"الحزن" بفتحتين أو بضم فسكون ضد الفرح، أي من بئر فيها الحزن لا غير،
قال الطيبي: جب الحزن علم والإضافة كما في دار الإسلام، أي دار فيها السلامة من كل
حزن وآفة. (قال واد) أي هو واد عميق يشبه البئر من كمال عمقه. (يتعوذ منه) أي من
شدة عذابه. (جهنم) أي سائر أودية جهنم. قيل: ينبغي أن يراد بجهنم ما أعد فيها لتعذيب
العصاة من المسلمين، لا الكفرة والمنافقين. قال الطيبي: التعوذ من جهنم هنا كالنطق
منها في قوله تعالى: ?وتقول هل من مزيد? [50: 30]، وكالتميز والتغيظ: ?تكاد تميز
من الغيظ? [67: 8]، والظاهر أن يجري ذلك على المتعارف؛ لأنه تعالى قادر على كل
شيء. (كل يوم) يحتمل النهار والوقت. (أربع مائة مرة) هذا لفظ ابن ماجه، وفي رواية
الترمذي ((مائة مرة))، ولامنافاة ؛ لأن القليل لا ينافي الكثير ، وهو يحتمل
التحديد والتكثير. (ومن يدخلها) أي تلك البقعة المسماة بجب الحزن، وهو عطف على
محذوف، أي ذلك شيء عظيم هائل. فمن الذي يستحقها؟ ومن الذي يدخل فيها؟ (القراء) جمع
قارئ ، والمراد العلماء
المراؤون بأعمالهم)). رواه الترمذي ، وكذا ابن ماجه ، وزاد فيه: ((وإن من أبغض
القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء)) قال المحاربي: يعني الجورة .
278- (81) وعن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يوشك أن يأتي على
الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه ، مساجدهم
عامرة وهي خراب من الهدى ،
(2/259)
بالكتاب والسنة، العباد النساك. (المراؤون) من الرياء (بأعمالهم) السماعون بأقوالهم. (رواه الترمذي) في الزهد، وقال: "غريب" انتهى. وفيه سيف بن عمار ، وهو ضعيف الحديث، وفيه أيضا أبومعان البصري، وهو مجهول. (وكذا) رواه (ابن ماجه) في السنة، وفي سنده أيضا ما في سند الترمذي. (وإن من أبغض القراء) قيل: أي من القرائين المذكورين، وهم المراؤون، قرائين مخصوصين، وهم (الذين يزورون الأمراء) طمعا في مالهم وجاههم، لا لحاجة دينية، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لضرورة دنيوية تلجئهم بهم، كدفع شرهم وإيذائهم ونحو ذلك. (قال المحاربي) أحد رواة الحديث ، وهو بضم الميم وبالحاء المهملة، وبالراء المكسورة، وبالباء الموحدة، نسبة إلى محارب، وهو عبدالرحمن بن محمد بن زياد المحاربي، أبومحمد الكوفي، روى عن الأعمش، ويحيى بن سعيد، وعنه أحمد بن حنبل، وثقه النسائي وابن معين والبزار والدارقطني، وقال الحافظ: لا بأس به وكان يدلس، قاله أحمد. مات سنة (195). (يعني الجورة) كالظلمة لفظا ومعنا، جمع جائر؛ لأنه لا حرج في زيارة الأمير العادل، المتمسك بالكتاب والسنة. والحديث أخرجه أيضا الطبراني بنحوه إلا أنه قال: ((يلقى فيه الغرارون، قيل: يا رسول الله ، وما الغرارون ؟ قال: المراؤون بأعمالهم في الدنيا))، وأخرجه العقيلي في الضعفاء، والعسكري في المواعظ عن علي، وفيه عبدالله بن حكيم أبوبكر الداهري ليس بشيء.
(2/260)
278- قوله: (يوشك أن يأتي على
الناس زمان) أي فاسد لفساد أهله، قال الطيبي: أتى متعد إلى مفعول واحد بلا واسطة،
فعدي بـ"على" ليشعر بأن الزمان عليهم حينئذ بعد أن كان لهم. (لا يبقى من
الإسلام) أي من شعائره. (إلا اسمه) أي إلا ما يصح إطلاق اسم الإسلام عليه كلفظ
الصلاة والزكاة والحج، أو إلا العلم به، وأما العمل به فلا. (ولا يبقى من القرآن)
أي من آدابه وعلومه (إلا رسمه) أي أثره الظاهر من قراءة لفظه، وكتابة خطه، بطريق
الرسم والعادة لا على جهة تحصيل العلم والعبادة، وقيل: المراد برسم القرآن تجويد
الحروف وإتقان الألفاظ، وتحسين الألحان فيه من غير التفكر في معانيه، والامتثال
بأوامره والانتهاء عن نواهيه. (مساجدهم عامرة) أي بالأبنية المرتفعة ، والجدران
المنقشة، والقناديل والبسط. (وهي خراب من الهدى) المراد بكون مساجدهم عامرة ، عمارة
بنائها الظاهر ، وبكونها
علماؤهم شر من تحت أديم السماء، من عندهم تخرج الفتنة، وفيهم تعود)) رواه ا لبيهقي
في شعب الإيمان.
279- (82) وعن زياد بن لبيد قال: ((ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا فقال:
ذاك عند أوان ذهاب العلم ، قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن
ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال: ثكلتك أمك زياد ،
إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة ، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة
والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟)) رواه أحمد ، وابن ماجه ،
(2/261)
خرابا من الهدى، تركهم إياها عاطلة من الصلاة والجماعة، وإقامة الأذان فيها، والعلم والذكر، وإنما عبر عنها بالهدى لأنها سبب هداية الشخص، وقيل: التقدير من آثارها الهداية أو أهلها. (أديم السماء) أي وجهها. (من عندهم تخرج الفتنة) أي للناس. (وفيهم تعود) أي مضرتها وعاقبتها السوء، وفي مثلها في قوله تعالى: ?أو لتعودن في ملتنا? [7: 88]، يعني يستقر عود ضررهم فيهم، ويتمكن منهم. (رواه البيهقي في شعب الإيمان)، وأخرجه أيضا ابن عدي في الكامل، وأخرجه الحاكم في تاريخه بنحوه عن ابن عمر، والديلمي عن معاذ وأبي هريرة، وأخرجه العسكري في المواعظ عن علي موقوفا من قوله.
(2/262)
279- قوله: (وعن زياد بن لبيد)
بفتح لام وكسر موحدة، ابن ثعلبة، يكنى أباعبدالله الأنصاري الخزرجي، خرج إلى رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فأقام معه حتى هاجر، فكان يقال له: مهاجري
أنصاري، وشهد العقبة وبدرا والمشاهد، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عامله
على حضر موت، وكان له بلاء حسن في قتال أهل الردة، وكان من فقهاء الصحابة. روى عنه
عوف بن مالك، وسالم بن أبي الجعد، وجبير بن نفير، قال البخاري: ولا أرى سالما سمع
منه، مات في أول خلافة معاوية. (ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا) أي هائلا
(فقال: ذاك) أي الشيء المخوف يقع (عند أوان ذهاب العلم) أي وقت اندراسه. (وكيف
يذهب العلم؟) الواو للعطف، أي متى يقع ذلك المهول؟ وكيف يذهب العلم؟ (ونحن نقرأ
القرآن...)الخ يعني والحال أن القرآن مستمر بين الناس إلى يوم القيامة، فمع وجوده
كيف يذهب العلم؟ (ثكلتك أمك) أي فقدتك، وأصله الدعاء بالموت، ثم يستعمل في التعجب.
(زياد) أي يا زياد (إن كنت) إن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، أي إن
الشأن كنت أنا (لأراك) بضم الهمزة، أي لأظنك، وبفتحها أي لأعلمك. (من أفقه رجل
بالمدينة) ثاني مفعولي أراك، ومن زائدة في الإثبات، أي على مذهب الأخفش، أو متعلقة
بمحذوف أي كائنا، قاله الطيبي: وأضاف أفعل التفضيل إلى النكرة المفردة؛ لأن المراد
به الاستغراق. (أو ليس) أي أتقول هذا وليس (لا يعملون بشيء مما فيهما) الجملة حال
من فاعل يقرؤون، أي يقرؤون غير عاملين، يعني ومن لم يعمل بعلمه هو والجاهل سواء،
بل هو بمنزلة الحمار يحمل أسفارا. (رواه أحمد) (ج4:ص16، 218). (وابن ماجه) في
الفتن، وأخرجه أيضا الحاكم (ج1:ص100) كلهم من
وروى الترمذي عنه نحوه .
280- (83) وكذا الدارمي عن أبي أمامة.
(2/263)
281- (84) وعن ابن مسعود قال:
قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((تعلموا العلم وعلموه الناس ، تعلموا
الفرائض وعلموها الناس، تعلموا القرآن وعلموه الناس، فإني امرؤ مقبوض، والعلم
سينقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف اثنان في فريضة لا يجدان أحدا يفصل بينهما)) رواه
الدارمي والدارقطني.
طريق سالم بن أبي الجعد عن زياد. وسند الحديث صحيح، رجاله ثقات إلا أنه منقطع. قال
البخاري في التاريخ الصغير: لم يسمع سالم بن أبي الجعد من زياد بن لبيد، وتبعه على
ذلك الذهبي في الكاشف، وقال: ليس لزياد عند المصنف – أي ابن ماجه – سوى هذا
الحديث، وليس له شيء في بقية الكتب. (وروى الترمذي عنه) أي عن زياد (نحوه) أي نحو
هذا اللفظ، وهو معناه، وهذا وهم من المصنف ؛ لأن الترمذي روى هذا الحديث عن أبي
الدرداء، لا عن زياد، ولأنه ليس لزياد شيء في الكتب الستة غير ابن ماجه.
280- قوله: (وكذا الدارمي) أي رواه بمعناه لكن (عن أبي أمامة) لا عن زياد. وأخرج
عن أبي أمامة أيضا أحمد والطبراني وأبوالشيخ في تفسيره، وابن مردويه كما في الكنز
(ج5:ص208).
(2/264)
281- قوله: (قال لي رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -) يحتمل أن ابن مسعود كان وحده، أو خصه بالخطاب وعم الحكم
بقوله: (تعلموا العلم) أي الشرعي، أو الجمع للتعظيم. (تعلموا الفرائض) أي علم
الفرائض خصوصا، سواء أريد بها فرائض الإسلام أو فرائض الإرث. (علموها الناس) كذا
في بعض النسخ موافقا لرواية الدارقطني، ووقع في بعض النسخ "وعلموه
الناس"، وكذا عند الدارمي، أي علموا هذا العلم، فالضمير إلى المضاف المقدر.
(فإني امرؤ مقبوض) لكوني امرأ مثلكم، فلا أعيش أبدا ، فاغتنموا فرصة حياتي.
(والعلم سينقبض) من الانقباض، أي بعدي بقبض أهله، وفي بعض النسخ "سيقبض"
مجهول مجرد. (حتى يختلف) يجوز أن يتعلق بكل من الفعلين السابقين. (في فريضة) من
فرائض الإسلام أو فرائض الإرث. (لا يجدان أحدا يفصل بينهما) لقلة العلم أو لكثرة
الفتن. (رواه الدارمي والدارقطني) ص(459)، وسياق الحديث للدارمي، وأخرجه أيضا أحمد
والترمذي ولم يسق لفظه، والنسائي، والحاكم وصححه، قال الحافظ: رواته موثقون إلا
أنه اختلف فيه اختلافا كثيرا...الخ، وقال الترمذي: إنه مضطرب، وقد تقدم بيان شيء
من هذا الاختلاف عند تخريج حديث أبي هريرة: ((تعلموا الفرائض)) في الفصل الثاني،
وأخرج نحوه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري من طريق عطية، وهو ضعيف.
282- (85) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل علم لا
ينتفع به كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله)) رواه أحمد والدارمي.
(2/265)
282- قوله: (مثل علم لا ينتفع
منه) أي بالعمل والتعليم، ولو كان العلم في نفسه نافعا. (كمثل كنز لا ينفق منه في
سبيل الله) أي لا على نفسه ولا على غيره في الجهاد وسائر وجوه الخير. قال الطيبي:
التشبيه في عدم النفع والانتفاع والإنفاق منهما، لا في أمر آخر، وكيف لا والعلم
يزيد بالإنفاق والكنز ينقص، والعلم باق والكنز فان. (رواه أحمد والدارمي)، وأخرجه
أيضا البزار، ورجاله موثقون، قاله الهيثمي. وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط بنحوه،
وفي إسناده ابن لهيعة، وأخرجه ابن عساكر عن ابن عمر، والقضاعي عن ابن مسعود.
بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الأول من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح ،
ويليه الجزء الثاني - إن شاء الله تعالى -،
وأوله: كتاب الطهارة.
(2/266)
(3) كتاب الطهارة
?الفصل الأول?
283- (1) عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((الطهور
(كتاب الطهارة) الطهارة لغة: النظافة والنزاهة من كل عيب حسي أو معنوي، وشرعا:
طهارة البدن من النجاسة الحكمية، أي الحدثين الأكبر والأصغر، وطهارة البدن والثوب
والمكان من النجاسة الحقيقة، أي الأخباث وفضلات الأعضاء، ولما كان العمل نتيجة
العلم، وبعد العلم يكون العمل، وأفضل الأعمال البدنية الصلاة، ولا يتوصل إليها إلا
بالطهارة، عقب كتاب العلم بكتاب الطهارة. وينبغي بل يجب للطالب أن يرجع لمعرفة
أسرار الدين ومصالح أحكامه إلى إعلام الموقعين للإمام ابن قيم، وحجة الله البالغة،
وإحياء علوم الدين مع تخريج أحاديثه للعراقي، والحصون الحميدية للجسر، وغير ذلك من
كتب هذا الفن.
(3/1)
283- قوله: (عن أبي مالك الأشعري) اختلف في اسمه فقيل: عبيد. وقيل: عبيدالله. وقيل: عمرو. وقيل: كعب ابن كعب. وقيل: عامر بن الحارث. وقيل: الحارث بن الحارث. وقيل: غير ذلك. صحابي، مات في خلافة عمر في طاعون عمواس سنة (18). وقال الحافظ في المقدمة: لا يعرف اسمه، وهو من رواة مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وله عند البخاري تعليقا، روى عنه عبدالرحمن بن غنم الأشعري، وربيعة الجرشي، وأبوسلام ممطور الأسود وغيرهم، وروى أبوسلام أيضا عن عبدالرحمن بن غنم عنه. وفي الصحابة أبومالك الأشعري اثنان غير هذا. أحدهما الحارث بن الحارث الأشعري الشامي من رواة الترمذي والنسائي، تفرد بالرواية عنه أبوسلام ممطور الأسود، أخرج له الترمذي والنسائي حديثا قدسيا طويلا جامعا لأنواع من العلوم، وهو حديث: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات". والثاني كعب بن عاصم الأشعري نزل الشام ومصر، له حديثان فقط: أحدهما ماروته أم الدرداء عنه مرفوعا: "ليس من البر الصيام في السفر". أخرجه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم. والحديث الثاني: ما روى جابر بن عبدالله عنه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب عند الجمرة أوسط أيام النحر. أخرجه البغوي، وابن السكن وهو أي أبومالك كعب بن عاصم الأشعري راوى حديث: "الطهور شطر الإيمان" هو كعب بن عاصم الأشعري، كذا قال البخاري في التاريخ وغيره. وقيل: هو الحارث بن الحارث الأشعري المتقدم الذى روى الحديث القدسي الطويل. والراجح عندى أنه غيرهما، أعني هو أبومالك الأشعري الذي اختلف في اسمه حتى قال الحافظ في المقدمة فيه: أنه لا يعرف اسمه، فليس هو الحارث بن الحارث الأشعري؛ لأن هذا قد تأخرت وفاته، وأما أبومالك الأشعري المختلف في اسمه فقد تقدم أنه توفي في خلافة عمر. وليس هو كعب بن عاصم أيضا؛ لأنه لم يرو عنه غير أم الدرداء وجابر بن عبدالله، والله أعلم. (الطهور) بضم أوله على الأفصح،
(3/2)
شطر الإيمان، والحمد لله تملأ
الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن – أو تملأ – ما بين السماوات والأرض،
والمراد به المصدر أي التطهر، وروي بالفتح على حذف المضاف، أي استعماله، وفي بعض
الروايات الوضوء بدل الطهور. (شطر الإيمان) أي نصفه، قيل: المراد به الترغيب في
الطهور، وتعظيم ثوابه، حتى كأنه بلغ إلى نصف ثواب الإيمان. وقيل: الإيمان يكفر الصغائر
والكبائر والوضوء لا يكفر إلا الصغائر، فكان في مرتبة نصف الإيمان. وقيل: المراد
بالإيمان الصلاة، ولا تصح الصلاة إلا بالطهارة فصارت كالشطر. وتوضيحه أن صحة
الصلاة باستجماع الشرائط الخارجة عنها، والأركان الداخلة فيها. والطهارة أقوى
الشرائط وأعظمها. فجعلت كأنها لا شرط سواها، واعتبرت الأركان والشرائط نصفا،
والطهارة وحدها نصفا آخر على سبيل المبالغة والإدعاء. وقيل: المراد بالطهور ههنا
التخلية عن الرذائل من العقائد الزائغة، والأخلاق الذميمة، والجرائم، والآثام،
ولأحداث والأخباث. ومن المعلوم أن الإيمان موجب التخلية عن الرذائل والتحلية
بالفواضل، فيكون الطهور شطر الإيمان. ويرد هذا الاحتمال رواية "الوضوء شطر
الإيمان" وكذا رواية إسباغ الوضوء. وقيل: المراد بالشطر الجزء، والمعنى أن
الطهارة جزء من أجزاء الإيمان، وركن من أركان الإسلام، وقد تقدم أن الأعمال من أجزاء
الإيمان. وهذا أيضا ضعيف، يرده حديث رجل من بني سليم بلفظ "الطهور نصف
الإيمان"، وأيضا إنما يعرف استعمال الشطر لغة في النصف. (والحمد لله) أي
تلفظه. (تملأ) بالتأنيث على تأويل الكلمة أو الجملة، وروي بالتذكير على إرادة
اللفظ والكلام، أو المضاف المقدر أي ثوابها لو قدر مجسما لملأ. (الميزان) فمعناه
بيان عظيم أجرها وأن ثوابها يملأ الميزان، أو محمول على أن الأقوال والأعمال
والمعاني تتجسد يوم القيامة عند الوزن، وقد تظاهرت نصوص الشرع من القرآن والسنة
على وزن الأعمال، وثقل الموازين وخفتها، وأما القول بأن
(3/3)
الأعمال والأقوال أعراض
مستحيلة البقاء، غير متصفة بالثقل والخفة، فمن هفوات الأهفاء وسقطات الحمقاء، قد
أبطلها وحقق خلافها الفلسفة الحديثة الجديدة. وقال السندى: ولعل الأعمال تصير
أجساما لطيفة نورانية، لا تزاحم بعضها ولا تزاحم غيرها أيضا، كما هو المشاهد في
الأنوار، إذ يمكن أن يسرج ألف سراج في بيت واحد مع أنه يمتلئ نورا من واحد من تلك
السرج لكن لكونها لا يزاحم يجتمع معه نور ثاني ونور ثالث، ثم لا يمنع امتلاء البيت
من النور جلوس القاعدين فيه لعدم التزاحم، فلا يرد أنه كيف يتصور ذلك مع كثرة
التسبيحات والتقديسات، مع أنه يلزم من وجوده أن لا يبقى مكان لشخص من أهل المحشر،
ولا لعمل آخر متجسد مثل تجسد التسبيح وغيره. (تملآن) أي هاتان الجملتان. (أو تملأ)
أو للشك من الراوى والضمير في "تملأ" للجملة الشاملة لهما، ويمكن أن
يكون الإفراد بتقدير كل واحدة منهما. (ما بين السماوات والأرض) معناه لو قدر
ثوابهما جسما لملأ ما بين السماوات والأرض، وسب عظم فضلهما ما اشتملتا عليه من
التنزيه لله تعالى بقوله: سبحان الله، والتفويض والإفتقار إليه بقوله: الحمد لله،
وقد أوضحه الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات، فارجع إليها.
والصلاة نور، والصدقة برهان. والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو:
فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها)) رواه مسلم.
(3/4)
(والصلاة نور) لتأثيرها في تنوير القلوب وإشراح الصدور وإشراق أنوار المعارف وكشف الحقائق لفراغ القلب فيها، وقيل: لأنها تمنع من المعاصي والشهوات، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب كما أن النور يستضاء به، وقيل: يكون أجرها نورا لصاحبها يوم القيامة. وقيل: إنها تكون نورا في ظلمة القبر، وقيل إن الصلاة تكون نورا ظاهرا على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدنيا أيضا على وجهه البهاء، بخلاف من لم يصل. (والصدقة برهان) أي دليل واضح على صدق صاحبه في دعوى الإيمان إذ الإقدام على بذله خالصا لله لا يكون إلا من صادق في إيمانه، وقيل: معناه يفزع إليها كما يفزع إلى البراهين، كأن العبد إذا سئل يوم القيامة عن مصرف ماله كانت صدقاته براهين في جواب هذا السؤال، فيقول تصدقت به، ويجوز أن يوسم المتصدق بسيما يعرف بها، فيكون برهانا له على حاله، ولا يسأل عن مصرف ماله. (الصبر) على الطاعة، وعن المعصية، وفي النائبات، وأنواع المكاره في الدنيا. (ضياء) أي نور قوي، شديد كامل، فإن الضياء أقوى من النور، قال تعالى ?هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا? [5:10]، وذلك لأن الصبر أوسع من الصلاة؛ لأن كل واحدة من الواجبات والمحظورات تحتاج إلى الصبر، بل مناط جميع أمور الدين على الصبر. وقيل معناه: الصبر المحمود المحبوب في الشرع لا يزال صاحبه مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب، وقيل: المراد بالصبر الصوم بقرينة ذكره مع الصلاة والصدقة، وهو لكونه قهرا على النفس، قامعا لشهواتها له تأثير عادة في تنوير القلوب أتم وجه، وقيل: خص الصبر بالضياء على تفسيره بالصوم لتخصيصه بالنهار كتخصيص الشمس به، لا لمزية الصوم على الصلاة. (والقرآن حجة لك) أي تنتفع به إن عملت به. (وعليك) أي إن أعرضت عنه، أو قصرت فيه بترك العمل بما فيه. (كل الناس يغدو) أي يصبح أو يسير، وهي جملة مستأنفة، جواب ما يقال: قد تبين الرشد مما تقدم، فما حال الناس؟ فأجيب
(3/5)
بأن كلهم يغدو أي يسعى ويعمل،
فيبيع نفسه من الله أو من الشيطان، فالأول أعتقها؛ لأن الله أشترى أنفسهم، والثاني
أوبقها ?ولبئس ماشرو به أنفسهم? [102:2]. وقال النووى: معناه كل إنسان يسعى بنفسه،
فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته، فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان
والهوى بإتباعهما فيوبقها أي يهلكها، وقوله. (فبائع) خبر لمبتدأ محذوف، أي فهو
بائع أي باذل نفسه، فمن بذلها في طاعة الله فهو معتقها، ومن بذلها في هوى نفسه فهو
مهلكها، وقوله: "فمعتقها"، قال الطيبي: الفاء فيه للسببية وهو خبر بعد
خبر، ويجوز أن يكون بدل البعض من قوله فبائع. (رواه مسلم) في أول الطهارة، وأخرجه
أيضا أحمد، والترمذي في الدعوات، والنسائي في الزكاة، وابن ماجه في الطهارة إلا
أنهما قالا: إسباغ الوضوء شطر الإيمان. والحديث أخرجه مسلم، وأحمد، والترمذي من
طريق يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده أبي سلام، عن أبي مالك الأشعري،
وأخرجه النسائي، وابن ماجه من طريق معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده
أبي سلام، عن عبدالرحمن بن غنم، عن أبي مالك
وفي رواية: ((لا إله إلا الله والله أكبر، تملآن ما بين السماء والأرض)). لم أجد
هذه الرواية في الصحيحين، ولا في كتاب الحميدى، ولا في الجامع، ولكن ذكرها الدارمي
بدل: سبحان الله والحمد لله.
284- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أدلكم
على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال:
إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة،
فذلكم الرباط.
(3/6)
الأشعري. فتكلم الدارقطني وغيره في رواية مسلم، فقالوا: هي منقطعة، لسقوط عبدالرحمن بن غنم فيها بين أبي سلام وأبي مالك، قال النووى: ويمكن أن يجاب لمسلم عن هذا بأن الظاهر من حال مسلم أنه علم سماع أبي سلام لهذا الحديث من أبي مالك فيكون أبوسلام سمعه من أبي مالك، وسمعه أيضا من عبدالرحمن بن غنم عن أبي مالك، فرواه مرة عنه ومرة عن عبدالرحمن عنه. (وفي رواية لا إله إلا الله والله أكبر تملآن مابين السماء والأرض) هذا قول صاحب المصابيح. قال صاحب المشكاة. (لم أجد هذه الرواية) أي التي أوردها صاحب المصابيح في ما ذكر في قوله من الصحاح. (في الصحيحين) أي متنيهما. (ولا في كتاب الحميدى) الجامع بين الصحيحين. (ولا في الجامع) أي للأصول الستة. (ولكن ذكرها) أي هذه الرواية. (الدارمي) يعنى التزم صاحب المصابيح أن يكون جميع ما ذكر في قوله من الصحاح المعبر عنه بالفصل الأول مما أخرجه الشيخان أو أحدهما، وهذه الرواية ليست في أحدهما، فإيرادها في الصحاح خلاف لما التزمه، وقد يجاب بأن الإلتزام إنما هو في أصول الأحاديث، وأما هذه فإنما هي زيادة إفادة متفرعة على أصل الحديث الموجود في صحيح مسلم، والله أعلم.
(3/7)
284- قوله: (ألا أدلكم) الهمزة
للاستفهام، ولا نافية، وليس إلا للتنبيه بدليل قولهم: بلى. (يمحو الله به الخطايا)
أي يغفرها، أو يمحوها من كتب الحفظة، ويكون ذلك المحو دليلا على عفوه تعالى
ومغفرته، والمراد بالخطايا الصغائر، مما يتعلق بحقوق الله. (يرفع به الدرجات) أي
يعلي به المنازل في الجنة، ويحتمل رفع الدرجات في الدنيا أيضا. (قالوا: بلى) فائدة
السؤال والجواب أن يكون الكلام أوقع في النفس بحكم الإبهام والتبيين. (إسباغ
الوضوء) أي إكماله بتطويل الغرة والتحجيل والتثليث والدلك. (على المكاره) جمع
مكره، بفتح الميم من الكره بمعنى المشقة، كبرد الماء، وألم الجسم، والإشتغال به مع
ترك أمور الدنيا. قيل: ومنها الجد في طلب الماء مع إعوازه وشراءه بالثمن الغالي.
(وكثرة الخطى إلى المساجد) إما لبعد الدار، أو على سبيل التكرار، والخطى بضم الخاء
جمع خطوة وهي ما بين القدمين. (وانتظار الصلاة) بالجلوس لها في المسجد، أو تعلق
القلب بها والتأهب والاهتمام لها مع إشتغاله بكسبه في بيته، كما ورد "ورجل
قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه، حتى يعود". (فذلكم) الإشارة إلى ما ذكر من
الأعمال الثلاثة، وقيل: إلى انتظار الصلاة. (الرباط) المرغب فيه، أو أفضل أنواع
الرباط، كما قيل: الجهاد جهاد النفس، أو الرباط المتيسر الممكن، أي أنه من أنواع
الرباط، أو
وفي حديث مالك بن أنس: ((فذلكم الرباط فذلكم الرباط مرتين)) رواه مسلم. وفي رواية
الترمذي ثلاثا.
285- (3) وعن عثمان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن
الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره)) متفق عليه.
(3/8)
أراد أن ثوابه كثواب الرباط. وقيل: أصل الرباط ملازمة ثغر العدو لمنعه، والمعنى أن هذه الأعمال هي المرابطة الحقيقة المذكورة في قوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا? [200:4]؛ لأنها تسد طرق الشيطان عنه، وتمنع النفس عن الشهوات، وعداوة النفس والشيطان لا تخفى، فهذا هو الجهاد الأكبر الذي فيه قهر أعدى عدوه، فلذلك قال: فذلكم الرباط، بالتعريف، أي هو الذي يستحق أن يسمى رباطا، والتكرار تعظيما لشأنه. (وفي حديث مالك بن أنس) إمام دار الهجرة، صاحب المذهب، راوي الحديث في سند مسلم. (فذلكم الرباط فذلكم الرباط مرتين) وفي بعض النسخ ردد مرتين، أي كرر "فذلكم الرباط" مرتين والذي في صحيح المسلم"وفي حديث مالك ثنتين فذلكم الرباط فذلكم الرباط" قال النووي: هكذا هو في الأصول "ثنتين" وهو صحيح ونصبه بتقدير فعل أي ثنتين أو كرر ثنتين انتهى. وهذا قول مسلم صاحب الصحيح، قاله بناء على رواية معن عنده، وإلا فأكثر المؤطات ثلاثا (رواه مسلم) في الطهارة، وأخرجه أيضا مالك، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة بمعناه (وفي رواية الترمذي ثلاثا) أخرجه الترمذي أولا من طريق على بن حجر، وذكر فيه "فذلكم الرباط" مرة، ثم رواه من طريق قتيبة: وقال: قال قتيبة: فذلكم الرباط ثلاثا"، أي ذكره ثلاثا تأكيدا أو تعظيما لشأنه، ولزيادة الحث عليه.
(3/9)
285- قوله: (فأحسن الوضوء)بضم
الواو، والفاء لتفسير كيفية الوضوء على أحسن وجه بمراعاة سننه وآدابه، والمعنى من
أراد الوضوء وشرع فيه فأحسنه. (خرجت خطاياه) هو محمول على الحقيقة بناء على أن
الخطايا جواهر متعلقة ببدن الإنسان تتصل به وتنفصل عنه، لا أعراض كما قيل، قال
السيوطي في قوت المغتذي: الظاهر حمله على الحقيقة، ثم حقق ذلك بأحاديث تدل على أن
الذنوب جواهر وأجسام، ووافقه شيخنا في شرح الترمذي، لكن جعله السيوطي من عالم
المثال، وعندنا ينبغي تفويض أمثال هذه الأمور إلى الله تعالى. وقيل: هو تمثيل
وتصوير لبراءة البدن عن الذنوب ومجاز عن غفرانها. ثم الظاهر عموم الخطايا،
والعلماء خصصوها بالصغائر المتعلقة بحقوق الله للتوفيق بين الأدلة، فإن منها ما
يقتضي الخصوص كما سيأتي. (من جسده) أي جميع بدنه أو أعضائه. (حتى تخرج من تحت
أظفاره) أي مثلا، والأظفار جمع ظفر بضمتين. (متفق عليه) قلت تفرد مسلم بهذا اللفظ،
ولذا اقتصر المنذري في الترغيب. على عزوه لمسلم. وقال القاري: قال عبدالعزيز
الأبهرى في منهاج المشكاة فيه: أنه من أفراد مسلم. وقال ابن حجر المكي: كذا في
جامع الأصول. واقتصر شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلانى في "هداية الرواة
إلى تخريج المصابيح والمشكاة" على عزوه لمسلم انتهى. وأخرجه أيضا أحمد،
والنسائي، وابن ماجه بنحوه مختصرا.
286- (4) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأ
العبد المسلم – أو المؤمن – فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع
الماء – أومع آخر قطر الماء – فإذا غسل يديه، خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها
يداه مع الماء – أو مع آخر قطر الماء – فإذا غسل رجليه، خرج كل خطيئة مشتها رجلاه
مع الماء – أو مع آخر قطر الماء – حتى يخرج نقيا من الذنوب)) رواه مسلم.
(3/10)
287- 5) وعن عثمان، قال: قال
رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن
وضوءها وخشوعها وركوعها
286- قوله: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن) شك من الرواى في لفظ النبوة، وإلا
فهما مترادفان شرعا. والمؤمنة في حكم المؤمن. (فغسل وجهه) عطف على توضأ عطف تفسير،
أو المراد إذا أراد الوضوء. (خرج من وجهه) جواب إذا. (كل خطيئة نظر إليها) أي إلى
الخطيئة يعني إلى سببها، إطلاقا لاسم المسبب على السبب مبالغة. (بعينيه) تأكيد.
وسبب التخصيص بالعين مع أن الوجه مشتمل على الأنف والفم هو أن كلا من الفم والأنف،
وكذا الأذن له طهارة مخصوصة خارجة عن طهارة الوجه، فكانت متكفلة بإخراج خطاياه،
بخلاف العين، فإنه ليس لها طهارة إلا في غسل الوجه، فخصت خطيئتها بالخروج عند غسله
دون غيرها مما ذكر، وسيأتي في الفصل الثالث حديث عبدالله الصنابحي، وهو صريح في
ذلك. (مع الماء) أي مع انفصاله. (أو مع آخر قطر الماء) أو للشك من الراوى. (كل
خطيئة كان بطشتها) أي أخذت. (يداه) كملامسة المحرمة، ويدخل فيه كتابة إثم. (كل
خطيئة مشتها) الضمير للخطيئة، ونصبت بنزع الخافض، أي مشت إلى الخطيئة، أو في
الخطيئة، أو يكون مصدرا أي مشت المشية. (نقيا من الذنوب) أي ذنوب أعضاء الوضوء، أو
جميع الذنوب من الصغائر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا مالك، والترمذى، وليس عندهما غسل
الرجلين.
(3/11)
287- قوله: (ما من امرئ مسلم)
من زائدة لتأكيد النص على العموم. (فيحسن وضوءها) بمراعاة السنن والآداب
والمكملات. (وخشوعها) بإتيان كل ركن على وجه هو أكثر تواضعا وإخباتا وتضرعا، ظاهرا
وباطنا بالقلب والجوارح. (وركوعها) اكتفى بذكر الركوع عن السجود؛ لأنهما ركنان
متتابعان، فإذا حث على إحسان أحدهما حث على الآخر، وفي تخصيصه بالذكر تنبيه على أن
الأمر فيه أشد، فافتقر إلى زيادة توكيد؛ لأن الراكع يحمل نفسه في الركوع، ويتحامل
في السجود على الأرض. وقيل: خص الركوع بالذكر لاستتباعه السجود إذ لا يستقل عباده
وحده، بخلاف السجود
إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) رواه
مسلم.
288- (6) وعنه، أنه توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا، ثم تمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه
ثلاثا، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا، ثم غسل يده اليسرى
(3/12)
فإنه يستقل عبادة، كسجود التلاوة والشكر. وقيل: تخصيص الركوع؛ لأنه من خصائص المسلمين، فأراد التحريض عليه، ولعل هذا في الأغلب لقوله تعالى في شأن مريم: ?و اسجدي واركعي مع الراكعين? [43: 3]. وقيل: معناه انقادى وصلى مع المصلين، فلا إشكال. (إلا كانت) أي الصلاة. (ما لم يؤت) بكسر التاء معلوما من الإيتاء وقيل مجهول، أي ما لم يعمل، وضع الإيتاء موضع العمل. (كبيرة) بالنصب لا غيره، كأن الفاعل يعطى العمل من نفسه، أو يعطيه غيره من الداعي أو المحرض عليه، فهو على حد ?ثم سئلوا الفتنة لآتوها? [33: 14] بالمد أي لأعطوها من أنفسهم، ثم ظاهره أن كون الصلاة كفارة الذنوب مشروط بعدم إتيان الكبائر، فإن أتى بالكبائر لم يكفر صغائره، وهو الظاهر من قوله تعالى: ?إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم? [4: 31] لكنهم قالوا: معناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فإنها لا تغفر. قال النووى: هذا هو المراد، والأول وإن كان محتمل العبارة فسياق الحديث يأباه، والكبائر إنما يكفرها التوبة، أو رحمة الله تعالى وفضله، وقد يقال: إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلاة؟ وإذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجماعات وغيرها مما ورد في الأحاديث من مكفرات الذنوب؟ وأجيب بأن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفر من الصغائر كفره، وإن صادفت كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيره يعنى غير مكفرة رجونا أن يخفف من الكبائر، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات ورفعت به درجات، . (وذلك) أي التكفير بسبب الصلاة. (الدهر) بالنصب على الظرفية، ومحله الرفع على الخبرية، أي ذلك الحكم من التكفير حاصل ومستمر في جميع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان. (كله) تأكيد للدهر. (رواه مسلم) هو من مفاريد مسلم لم يروه بهذا اللفظ غيره.
(3/13)
288- قوله: (فأفرغ) من الإفراغ
عطف بيان وتفسير أي صب الماء. (على يديه) أي فغسلهما إلى رسغيه وفي رواية كفيه،
والمراد غسل اليدين إلى الرسغين. وفيه دليل على غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء
ولو لم يكن عقب نوم احتياطا. وفي الحديث الترتيب في أعضاء الوضوء للإتيان بثم في
جميعها. (واستنثر) الاستنثار هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، وهو جذب
الماء بالنفس إلى الأقصى، ويدل عليه الرواية الأخرى "استنشق واستنثر، فجمع
بينهما، وهو مأخوذ من النثرة وهو طرف الأنف، قال الحافظ: لم أر في شيء من طرق هذا
الحديث تقييد ذلك بعدد، نعم، ذكره ابن المنذر من طريق يونس عن الزهرى، وكذا ذكره
أي تقييد المضمضة والاستنشاق بثلاث أبوداود من وجهين آخرين
إلى المرفق ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا، ثم اليسرى ثلاثا، ثم
قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا. ثم قال: من توضأ
نحو وضوئي هذا، ثم يصلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء، غفر له ما تقدم من ذنبه))
متفق عليه. ولفظه للبخاري.
289- (7) وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من
مسلم يتوضأ، فيحسن وضوءه،
(3/14)
عن عثمان. (إلى المرفق) بكسر الميم وفتح الفاء "وإلى" بمعنى منع عند الجمهور. (ثم مسح برأسه) ليس في شيء من طرق هذا الحديث في الصحيحين ذكر عدد المسح، فالظاهر الاكتفاء بالمرة الواحدة، وهو مذهب الجمهور. (ثم قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (من توضأ نحو وضوئي هذا) أي جامعا لفرائضه وسننه، وقوله "نحو وضوئي هذا" كذا وقع في الصيام من نسخ البخارى الموجودة عندنا، وقال الحافظ في شرح كتاب الوضوء: "وللبخارى في الصيام من رواية معمر: من توضأ بوضوئي هذا" أي بترك حرف الشبيه. (ثم يصلى ركعتين) فيه استحباب ركعتين عقب كل وضوء، ولو صلى فريضة حصلت له هذه الفضيلة كما تحصل تحية المسجد بذلك. (لا يحدث فيهما نفسه بشيء) من أمور الدنيا، وما يتعلق بالصلاة ولو عرض له حديث فأعرض عنه لمجرد عروضه، عفي عنه ذلك، وحصلت له هذه الفضيلة؛ لأن هذا ليس من فعله وكسبه، وقد عفي لهذه الأمة عن الخواطر التي تعرض ولا تستقر. وقال الحافظ: المراد ما تسترسل النفس معه، ويمكن المرء قطعه؛ لأن قوله "يحدث" يقتضى تكسبا منه فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذر دفعه فذلك معفو عنه. وقال السندهي: أي يدفع الوسوسة مهما أمكن. وقيل: يحتمل العموم إذ ليس هو من باب التكليف حتى يجب دفع الحرج والعسر، بل من باب ترتب ثواب مخصوص على عمل مخصوص، أي من باب الوعد على العمل، فمن حصل منه ذلك العمل يحصل له ذلك الثواب، ومن لا فلا. نعم، يجب أن يكون ذلك ممكن الحصول في ذاته وهو هنا كذلك، فإن المتجردين عن شواغل الدنيا يتأتى منهم هذا العمل على وجهه. انتهى. (غفر له ما تقدم من ذنبه) حملوه على الصغائر، لكن كثير من الأحاديث يقتضي أن مغفرة الصغائر غير مشروطة بقطع الوسوسة، فيمكن أن يكون الشرط لمغفرة الذنوب جميعا، قاله السندهي. ثم إنه يفهم من هذا الحديث أن غفران الذنوب مرتب على الوضوء الموصوف بتلك الصفة، وصلاة ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء، ومن الحديث المتقدم
(3/15)
ترتبه على مجرد الوضوء، ويمكن
أن يقال كل منهما مكفر، أو الوضوء المجرد مكفر لذنوب أعضاء الوضوء، ومع الصلاة
مكفر لذنوب جميع الأعضاء أو الوضوء مكفر للذنوب الظاهرة، ومع الصلاة مكفر للذنوب
الظاهرة والباطنة. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي. (ولفظه للبخارى) أي
في باب السواك الرطب واليابس للصائم من كتاب الصيام.
289- قوله: (وعن عقبة) بضم عين وسكون قاف. (بن عامر) الجهنى صحابي مشهور، اختلف في
كنيته على سبعة أقوال، أشهرها أبوحماد، اختط البصرة، وولى إمرة مصر لمعاوية ثلاث
سنين، وحضر معه بصفين، وولي غزو البحر،
ثم يقوم فيصلى ركعتين، مقبلا عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة)) رواه مسلم.
290- (8) وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم
-: ((ما منكم أحد يتوضأ فيبلغ – أو فيسبغ –الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا
الله، وأن محمدا عبده ورسوله – وفي رواية أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله – إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية،
(3/16)
وكان فصيحا، شاعرا، مفوها، كاتبا، قارئا لكتاب الله، عالما بالفرائض والفقه، قديم الهجرة، والسابقة، والصحبه، مات سنة (58) بمصر، ودفن بالمقطم، له خمسة وخمسون حديثا، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بتسعة، روى عنه خلق كثير. (ثم يقوم) حقيقة أو حكما سيما إذاكان بعذر، فإطلاقه جرى على الغالب لا أنه قيد احترازى، وثم للترقى. (مقبلا عليهما بقلبه وجهه) الإقبال بالقلب أن لا يغفل عنهما ولا يتفكر في أمر لا يتعلق بهما، ويصرف نفسه عنه مهما أمكن، والإقبال بالوجه أن لا يلتفت به إلى جهة لا يليق بالصلاة الالتفات إليها، ومرجعه الخشوع والخضوع، فإن الخشوع في القلب والخضوع في الأعضاء، قال السندهي: يمكن أن يكون هذا الحديث بمنزلة التفسير لحديث عثمان "وهو من توضأ نحو وضوئي" الخ، وعلى هذا فقوله "أحسن الوضوء" هو أن يتوضأ نحو ذلك الوضوء. وقوله في حديث عثمان: "لايحدث نفسه فيهما" هو أن يقبل عليهما بقلبه ووجهه. وقوله في ذلك الحديث "غفر له" الخ. أريد به أنه يجب له الجنة، ولا شك أن ليس المراد دخول الجنة مطلقا فإنه يحصل بالإيمان، بل المراد دخولا أوليا، وهذا يتوقف على مغفرة الصغائر والكبائر جميعا، بل مغفرة ما يفعل بعد ذلك أيضا، نعم لابد من اشتراط الموت على حسن الخاتمة، وقد يجعل هذا الحديث بشارة بذلك أيضا. انتهى. (إلا وجبت له الجنة) أي أنه تعالى يدخله الجنة بفضله بحيث لا يخالف وعده، كمن وجب عليه شيء. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي.
(3/17)
290- قوله: (ما منكم) من
بيانية. (من أحد) مبتدأ ومن زائدة. (فيبلغ) من الإبلاغ. (أو فيسبغ) من الإسباغ وأو
للشك. (الوضوء) بفتح الواو وقيل بضمها أي ماء الوضوء، والمراد بإبلاغ الوضوء أو
إسباغه هو أن يتم الوضوء ويكمله فيوصله مواضعه على الوجه المسنون. (ثم يقول) أي
عقيب وضوءه. (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) قال الطيبي:
قول الشهادتين عقيب الوضوء إشارة إلى إخلاص العمل لله، وطهارة القلب من الشرك
والرياء، بعد طهارة الأعضاء من الحدث والخبث. (إلا فتحت له) هو من باب "ونفخ
في الصور" عبر عن الآتي بالماضى لتحقق وقوعه، والمراد تفتح له يوم القيامة.
(أبواب الجنة الثمانية) أي تعظيما لعمله المذكور وإن كان الدخول يكفى فيه باب
واحد. ثم الظاهر أن يوفق للدخول من الباب الذى غلب عليه عمل أهله، إذ أبواب الجنة
معدة لأعمال مخصوصة، كالريان لمن غلب
يدخل من أيها شاء)). هكذا رواه مسلم في صحيحه، والحميدى في افراد مسلم، وكذا ابن
الأثير في جامع الأصول. وذكر الشيخ محي الدين النووى في آخر حديث مسلم على ما
رويناه، وزاد الترمذي: ((اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)).
(3/18)
عليه الصيام ونحو ذلك، قال ابن سيد الناس: فائدة تعدد الأبواب وفتحها والدعاء منها هو التشريف في الموقف والإشارة بذكر من حصل له ذلك على رؤوس الأشهاد، فليس من يؤذن له في الدخول من باب لا يتعداه، كمن يتلقى من كل باب ويدخل من حيث شاء. وحديث عمر هذا يدل على أن للجنة ثمانية أبواب، وقد جاء تعيين هذه الأبواب لبعض العمال، كباب الصلاة، وباب الجهاد، وباب الصدقة، وباب الصيام، وباب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ، وباب الراضين، وباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه، وذكر الحكيم الترمذي أبواب الجنة فعد أبوابا غير ما ذكر، وعلى قوله أبواب الجنة أحد عشر بابا، والتفصيل في تذكرة القرطبي. (هكذا رواه مسلم في صحيحه) وأخرجه أيضا أحمد، والنسائي، وأبوداود، وابن ماجه، وقال: فيحسن الوضوء، وفي رواية لأحمد وأبي داود "ثم رفع نظره إلى السماء فقال" الحديث، وفي سنده رجل مجهول، وأخرجه أيضا الترمذي وزاد "اللهم اجعلني" الخ وتكلم فيه بما يطول ذكره، إن شئت الوقوف عليه فارجع إلى تحفة الأحوذي، وجامع الترمذي المطبوع بتعليق العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر. واعلم أن حديث عقبة بن عامر المتقدم، وحديث عمر هذا، حديث واحد، رواهما بسياق واحد مسلم، وأبوداود، وابن حبان في قصة، لكن صدره أي الحديث المتقدم، سمعه عقبة بن عامر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والحديث الثاني تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل حضور عقبة، فأخبره عمر به ، فرواه عقبة بن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (والحميدي) أي وهكذا ذكره الحميدى. (في أفراد مسلم وكذا) ذكره. (ابن الأثير) الجزرى. (في جامع الأصول، وذكر الشيخ محي الدين) من الأحياء. (النووى) قال ابن حجر: بواوين ليس بينهما ألف، وبعضهم يقولون النواوى بالألف، والقياس الأول لأنه منسوب إلى "نوى" قرية قريب دمشق. (على ما رويناه) متعلق بآخر، وهو معلوم، وقيل مجهول أي على وفقه. (وزاد الترمذى)
(3/19)
الخ هذا مذكور النووي. (اللهم
اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) جمع بينهما إلماما بقوله تعالى ? إن
الله يحب التوابين ويحب المتطهرين? [2: 222] ولما كانت التوبة طهارة الباطن عن
أدران الذنوب، والوضوء طهارة الظاهرة عن الأحداث المانعة عن التقرب إلى الله تعالى
ناسب الجمع بينهما، وقد تفرد بهذه الزيادة الترمذى وفي صحتها نظر، لما في سنده من
الاضطراب والخطأ، وإنما جاءت في حديث بهذا المعنى عن ثوبان مرفوعا، نقله الهيثمى
في مجمع الزوائد (ج1: ص239) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، وقال
في الأوسط: تفرد به مسور بن مورع، ولم أجد من ترجمه، وفيه أحمد بن سهيل الوراق،
ذكره ابن حبان في الثقات، وفي إسناد
والحديث الذى رواه محي السنة في الصحاح: "من توضأ فأحسن الوضوء" إلى
آخره، رواه الترمذي في جامعة بعينه إلا كلمة "أشهد" قبل "أن
محمدا".
291- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أمتي
يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته
فليفعل))
الكبير أبوسعيد البقال، والأكثر على تضعيفه، ووثقه بعضهم، انتهى. ورواها أيضا عن
ثوبان البزار كما في التلخيص، وابن السني، والخطيب، وابن النجار كما في كنز
العمال. (الحديث الذى رواه محي السنة) أي ذكره في المصابيح. (في الصحاح) المعبر
عنه في المشكاة بالفصل الأول. (رواه الترمذى في جامعه بعينه) الخ والحاصل ورود
الاعتراض على صاحب المصابيح، حيث ذكر رواية الترمذى في الصحاح لإيهامها أنه كله في
أحد الصحيحين أو كليهما وليس كذلك.
(3/20)
291- قوله: (إن أمتي) أي أمة الإجابة وهم المسلمون أي المتوضئون منهم. (يدعون) أي ينادون أو يسمون. (غرا) جمع أغر أي ذوى غرة، وأصلها لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، والمراد ههنا النور الكائن في وجود المسلمين. (محجلين) من التحجيل، وهو بياض يكون في قوائم الفرس، وأصله من الحجل بالكسر وهو القيد والخلخال، والمراد به هنا أيضا النور. وانتصابهما على الحال إذا كان يدعون بمعنى ينادون، ويحتمل أن يكون غرا مفعولا ثانيا ليدعون بمعنى يسمون، والمراد بيض مواضع الوضوء من الوجوه، والأيدى والأقدام، استعار أثر الوضوء في الوجه واليدين والرجلين للإنسان من البياض الذي يكون في وجه الفرس ويديه ورجليه، والمعنى: إذا دعوا على رؤس الأشهاد أو إلى الموقف، أو إلى الميزان، أو إلى الصراط، أو إلى الجنة نودوا بهذا الوصف، وكانوا على هذه الصفة، أو سموا بهذا الاسم. (من) أي لأجل. (آثار الوضوء) أو من سببية أي بسبب آثار الوضوء، وهو متعلق بمحجلين أو بيدعون على الخلاف في باب التنازع بين البصريين والكوفيين. والوضوء بضم الواو ويجوز فتحها، فإن الغرة والتحجيل نشأ عن الفعل بالماء، فيجوز أن ينسب إلى كل منها، وللغرة علتان الوضوء كما في هذا الحديث، والسجود كما يدل عليه حديث عبدالله بن بسر عند الترمذي، وأما التحجيل فعلته هو الوضوء. (فمن استطاع منكم) الخ ظاهر سياق الحديث أن قوله فمن استطاع إلى آخره من الحديث، وهو يدل على عدم الوجوب، إذ هو في قوة "فمن شاء منكم" فلو كان واجبا ما قيده بها، إذا الاستطاعة لذلك متحققة قطعا، وقال نعيم أحد رواته: لا أدرى قوله: "فمن استطاع" الخ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من قول أبي هريرة. قال الحافظ في الفتح: لم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة وهو عشرة، ولا ممن رواه عن أبي هريرة، غير رواية نعيم هذه. (غرته) أي وتحجيله وإنما اقتصر على أحدهما لدلالته على الآخر وآثر
(3/21)
الغرة وهي مؤنثة على التحجيل
وهو مذكر لشرف موضعها. (فليفعل) أي ما ذكر من الغرة والتحجيل والإطالة، فحذف
المفعول للعلم به. وفيه دليل
متفق عليه.
292-(10) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تبلغ الحلية من
المؤمن حيث يبلغ الوضوء)) رواه مسلم
?الفصل الثاني?
293-(11) وعن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((استقيموا ولن
تحصوا،
على مشروعية إطالة الغرة والتحجيل. واختلفوا في القدر المستحب من ذلك، فقيل: في
اليدين إلى المنكب، وفي الرجلين إلى الركبة، وقد ثبت هذا عن أبي هريرة رواية
ورأيا، وثبت من فعل ابن عمر، أخرجه ابن شيبة وأبوعبيد بإسناد حسن، وقيل: إلى نصف
العضد والساق. والغرة في الوجه أن يغسل إلى صفحتي العنق، والقول بعدم مشروعيتهما
وتأويل حديث أبي هريرة بأن المراد به المداومة على الوضوء خلاف الظاهر، ورد هذا
التأويل أيضا بأن الراوي أعرف بما روى، كيف وقد رفع معناه كما في الحديث الآتي فلا
وجه لنفيه، والغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة لا أصل الوضوء. (متفق عليه) وأخرجه
أيضا أحمد، وأخرجه مع أبي هريرة عشرة من الصحابة، ذكر سبعة منهم ابن مندة في
مستخرجه، وذكر أحاديث بعضهم الهيثمي في مجمع الزوائد، وعلي المتقى في كنز العمال.
292- قوله: (تبلغ الحلية) الخ. قال الطيبي: ضمن "يبلغ" معنى "يتمكن"
وعدى بمن، أي تتمكن من المؤمن الحلية مبلغا يتمكنه الوضوء منه. (حيث يبلغ الوضوء)
بالفتح أي ماءه، وقيل بالضم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا النسائي وابن خزيمة في صحيحه
بنحوه إلا أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الحلية تبلغ
مواضع الطهور، والمراد بالحلية الغرة والتحجيل، أي النور والبياض، وقيل: الزينة في
الجنة وهو بعيد.
(3/22)
293- قوله: (عن ثوبان) بمفتوحة
وسكون واو وبموحدة، الهاشمي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ثوبان بن
بجدد، بضم الباء الموحدة وسكون الجيم وضم الدال المهملة الأولى، قيل: أصله من
اليمن أصابه سباء فاشتراه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه فقال: إن تلحق بمن
أنت منهم فعلت، وإن شئت أن تثبت فأنت منا أهل البيت، فثبت ولم يزل معه في حضره
وسفره، ثم خرج إلى الشام فنزل الرملة ثم حمص، وابتنى بها دارا، ومات بها سنة (54).
له مائة وسبعة وعشرون حديثا، روى له مسلم عشرة أحاديث، روى عنه خلق كثير.
(استقيموا) الاستقامة إتباع الحق وملازمة المنهج المستقيم، من الإتيان بجميع
المأمورات والانتهاء عن جميع المناهي، وذلك خطب لا يطيقه إلا من استضاء قلبه
بالأنوار القدسية، وتخلص عن الظلمات الإنسية، وأيده الله تعالى من عنده، وقليل ما
هم، فأخبرهم بعد الأمر بذلك أنكم لا تقدرون على إيفاء حقه بقوله. (ولن تحصوا) أي
لن تطيقوا أن تستقيموا حق الاستقامة لعسرها، لئلا يغفلوا عنه فلا يتكلوا على ما
واعلموا أن خير أعمالكم الصلوة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) رواه مالك،
وأحمد، وابن ماجه، والدارمي.
294- (12) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ على
طهر، كتب له عشر حسنات))
(3/23)
يأتون به، ولا ييأسوا من رحمته فيما يذرون عجزا وقصورا لا تقصيرا، وأصل الإحصاء العد والضبط والإحاطة بالشيء. وقيل: معناه لن تحصوا ثوابه وأجره لو استقمتم، قال الطيبي قوله : "لن تحصوا" إخبار وإعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه كما اعترض "ولن تفعلوا" بين الشرط والجزاء في قوله تعالى: ?فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقو النار? [2: 24]. وكأنه - صلى الله عليه وسلم - لما أمرهم بالاستقامة وهي شاقة جدا كما مر، تداركه بقوله: لن تحصوا، رحمة وشفقة، كما قال: ?فاتقو الله ما استطعتم? [64: 16] بعد قوله: ?اتقوا الله حق تقاته? [3: 102]. ثم نبههم على ما يتيسر لهم من ذلك بقوله: (واعلموا) أي إن لم تطيقوا ما أمرتم به من الاستقامة فحق عليكم أن تلزموا بعضها، وهي الصلاة الجامعة لأنواع العبادات: القراءة، والتسبيح، والتهليل، والإمساك عن كلام الغير، والمفطرات، فالزموها وأقيموا حدودها لاسيما مقدمتها التي هي شطر الإيمان وهو الوضوء، وأيضا في ذكر الصلاة إشارة إلى تطهير الباطن؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. وفي ذكر الوضوء إلى تطهير الظاهر، انتهى مختصرا. (إن خير أعمالكم) أي أفضلها وأتمها دلالة على الاستقامة. (الصلاة) أي المكتوبة أو جنسها. والأحاديث في خير الأعمال جاءت متعارضة صورة فينبغي التوفيق بحمل "خير أعمالكم" على معنى "من خير أعمالكم" كما يدل عليه حديث ابن عمرو، عند ابن ماجه. (ولا يحافظ على الوضوء) أي على الدوام، وتركه لبيان الجواز لئلا يلتبس الفضل بالفرض، واليان عليه واجب، فالترك في حقه خير من الدوام عليه، فإن غايته أن يكون مندوبا. (إلا مؤمن) أي كامل في إيمانه فإن الظاهر عنوان الباطن، فطهارة الظاهر دليل على طهارة الباطن سيما الوضوء على المكاره. والمراد بالمؤمن الجنس، والتنكير للتعظيم. (رواه مالك) أي بلاغا، ورواه (أحمد) من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان، ومن طريق حسان بن عطية عن أبي كبشة السلولي عن
(3/24)
ثوبان، ومن طريق حريز بن
عثمان، عن عبدالرحمن بن ميسرة، عن ثوبان. والطريق الأول منقطع، فإن سالم بن الجعد
لم يسمع من ثوبان بلا خلاف. (وابن ماجه) منقطعا من طريق سالم بن أبي الجعد عن
ثوبان. (والدارمي) منقطعا ومتصلا. وأخرجه أيضا الحاكم منقطعا، وابن حبان في صحيحه
متصلا، والبيهقي. وأخرجه ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو، وفيه ليث بن سليم، وعن أبي
أمامة، وفيه أبوحفص الدمشقي، وهو مجهول، والطبراني عن سلمة بن الأكوع وعبادة بن
الصامت.
294- قوله: (من توضأ على طهر) "على" بمعنى مع أي وضوء مصاحبا لطهر،
وقيل: أو ثابتا على طهر تشبيها لثبوته على ظهر وصف الطهر بثبوت الراكب على مركوبه،
واستعارة لفظة "على" المستعملة في الثاني للأول، كما قالوا في قوله
تعالى ?أولئك على هدى? [2: 5]. (كتب له عشر حسنات) بالوضوء المجدد، وقيل: أي عشر
وضوءات،
رواه الترمذي.
?الفصل الثالث?
295- (13) عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مفتاح الجنة
الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور)) رواه أحمد.
(3/25)
فان أقل ما وعد به من الأضعاف الحسنة بعشر أمثالها، وقد وعد بالواحد سبع مائة. ووعد ثوابا بغير حساب، قال البغوي: تجديد الوضوء مستحب إذا كان قد صلى بالوضوء الأول صلاة فريضة كانت أو تطوعا، وكرهه قوم إذا لم يصل بالأول صلاة، ذكره الطيبي. قال القاري: ولعل سبب الكراهة هو الإسراف. قلت: الحديث ساكت عن هذا التفصيل. قال المنذري في الترغيب: وأما الحديث الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الوضوء نور على نور، فلا يحضرني له أصل من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولعله من كلام بعض السلف. انتهى. (رواه الترمذى) من طريق عبدالرحمن بن زياد الإفريقي، عن أبى غطيف الهذلي، عن ابن عمر، وقال: هو إسناد ضعيف، وذلك لتفرد الإفريقي وأبي غطيف به، والأول مختلف فيه، والثاني مجهول الحال، لم أجد فيه جرحا ولا تعديلا إلا قول البخاري في حديثه هذا: "لم يتابع عليه"، وليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث، وأخرجه أيضا أبوداود وابن ماجه من طريق الإفريقي عن أبي غطيف، وسكت عنه أبوداود.
(3/26)
295- قوله: (مفتاح الجنة
الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور) فيكون مفتاح الجنة الطهور، وهو بضم الطاء ويجوز
فتحها، والمراد به أيضا المصدر، قال الطيبي: جعلت الصلاة مقدمة لدخول الجنة كما
جعل الوضوء مقدمة للصلاة، وكما لا تتأتى الصلاة بدون الوضوء كذلك لا يتهيأ دخول
الجنة بدون الصلاة، وفيه دليل لمن يكفر تارك الصلاة، وأنها الفارقة بين الإيمان
والكفر. وقال غيره: هو حث وتحريض على الصلاة، وأنها مما لا يستغنى عنه قط، فإنها
من أسباب دخول الجنة أولا من غير سابقة عذاب. قال ابن العربي: سمى الطهور مفتاحا
مجازا؛ لأن الحدث مانع من الصلاة، فالحدث كالقفل موضوع على المحدث حتى إذا توضأ
انحل الغلق، وهذه استعارة بديعة لا يقدر عليها إلا النبوة، وكذلك مفتاح الجنة
الصلاة؛ لأن أبواب الجنة مغلقة يفتحها الطاعات، وركن الطاعات الصلاة. (رواه أحمد)
وأخرجه أيضا الترمذى على ما في نسخة الترمذى (ج1: ص10) طبعة مصر بتصحيح وتعليق
العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر، وعلى ما في التلخيص الحبير (ص80) والبزار،
والطبراني، والبيهقي من حديث سليمان بن قرم، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن
عمر، وسليمان سيء الحفظ، وأبويحيى لين الحديث، وقال ابن عدى: أحاديثه عندى حسان.
296- (14) وعن شبيب بن أبي روح عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الصبح، فقرأ الروم، فالتبس عليه،
فلما صلى، قال: ما بال أقوام يصلون معنا لا يحسنون الطهور؟ وإنما يلبس علينا
القرآن أولئك)) رواه النسائي.
(3/27)
296- قوله: (شبيب) كجيب (بن أبي روح) بفتح الراء بعدها واو ثم حاء مهملة، ويقال: إن أبا روح كنية شبيب، واسم أبيه نعيم الكلاعي، من ثقات التابعيين، قال الحافظ: أخطأ من عده من الصحابة. (عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) اسمه الأغر بفتح المعجمة بعدها راء مشددة، الغفارى، قال ابن عبدالبر في الاستيعاب (ج1: ص45) الأغر الغفارى روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعه يقرأ في الفجر بالروم. ولم يروه عنه إلا شبيب أبوروح وحده. انتهى. (فقرأ) فيها. (الروم) أي سورة الروم. (فالتبس عليه) أي اشتبه واستشكل واختلط، وضميره للروم باعتبار أنه اسم مقدار من القرآن، وفي حديث أبي روح عند أحمد: فقرأ بالروم فتردد في آية. (فلما صلى) أي فرغ من الصلاة. (لا يحسنون) من الإحسان أو التحسين. (الطهور) بضم الطاء ويجوز فتحها، والحمل على الماء لا يناسب المقام، أي لا يأتون بواجباته وسننه. ففي حديث أبي روح عند أحمد (ج3: ص471) "إنما لبس الشيطان القراءة من أجل أقوام يأتون الصلاة بغير وضوء"، أي بفقد ركن أو شرط من شروط الطهارة، فيعود شؤم خللهم على المصلى معهم. وفيه تشريع وتعليم للأمة أن المقصر يعود شؤمه على غيره. وقال الطيبي: فيه أن ترك السنن والآداب سد باب الفتوحات الغيبية، وأنه يسري إلى الغير، وأن بركتها تسرى في الغير، ثم تأمل أن مثله - صلى الله عليه وسلم - مع جلالة قدره وغاية كماله إذا كان يتأثر من مثل تلك الهيئة فكيف بغيره من صحبة أهل الأهواء والبدع، وصحبة الصالحين بعكسه. (رواه النسائي) في الصلاة، وأخرجه أيضا أحمد، وعبدالرزاق، والبغوي، والطبراني، وأبونعيم كلهم عن رجل من الصحابة، قال على المتقى: سماه مؤمل بن إسماعيل الأغر. قال أبوموسى: لا نعلم أحد أسماه غيره، وهو أحد الثقات، وقال البغوي عن الأغر: رجل من بنى غفار-انتهى. قال الحافظ: وسماه الطبراني وخلطه بالأغر المزنى صحابي آخر. وأما ابن عبدالبر فجعل
(3/28)
هذا غفاريا، وكذا ثبت في بعض
طرقه-انتهى. قلت: رجال النسائي وكذا أحمد رجال الصحيح، لكن الحديث مضطرب الإسناد،
اختلف أصحاب عبدالملك بن عمير عليه، فرواه سفيان عند النسائي، وشعبة عند أحمد، عن
عبدالملك بن عمير، عن شبيب أبى روح، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم
-، ورواه شريك وزائدة، عن عبدالملك، عن شبيب أبي روح الكلاعي أنه صلى مع النبي -
صلى الله عليه وسلم - الصبح الحديث، فجعلا الحديث عن أبى روح نفسه، وهذا أيضا عند
أحمد (ج3: ص471، 472) والراجح عندنا رواية سفيان وشعبة، وقد صوب الحافظ في تهذيب
التهذيب (ج4: ص310) رواية شعبه، وخطأ في التقريب من عد شبيبا أبا روح في الصحابة.
297- (15) وعن رجل من بني سليم، قال: ((عدهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
يدى- أو في يده- قال: التسبيح نصف الميزان، والحمد لله يملأه، والتكبير يملأ ما
بين السماء والأرض، والصوم نصف الصبر، والطهور نصف الإيمان)) رواه الترمذي، وقال:
هذا حديث حسن.
298- (16) وعن عبدالله الصنابحي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(3/29)
297- قوله: (وعن رجل) من الصحابة. (من بني سليم) بالتصغير. (عدهن) أي الخصال الآتية، فهو ضمير مبهم. يفسره ما بعده، والمفسر قوله "التسبيح". (في يدي) أي أخذ أصابع يدي، وجعل يعقدها في الكف خمس مرات على عد الخصال لمزيد التفهيم والاستحضار، (أو في يده) شك من الراوى. (التسبيح نصف الميزان) قيل: إنه ضرب مثل وأن المعنى: لو كان التسبيح جسما لملأ نصف الميزان.وقيل: بل الله يمثل أقوال بني آدم وأعمالهم صورا ترى يوم القيامة وتوزن وهذا هو الظاهر، وقيل: أي ثوابه بعد تجسمه يملأ نصف الميزان، والمراد به إحدى كفتيه الموضوعة لوضع الحسنات فيها. (والحمد لله يملأه) أي الميزان كله، فيكون المراد تفضيل الحمد على التسبيح، وأن ثوابه ضعف ثواب التسبيح أو نصفه الآخر، فيكون المقصود التسوية بين التسبيح والحمد بأن كل واحد منهما يأخذ نصف الميزان فيملآنه معا، وذلك؛ لأن الأذكار تنحصر في نوعين: التنزيه والتحميد، والأول أظهر، ويؤيده حديث أبي مالك الأشعري المتقدم في الفصل الأول، ولأن الحمد يشتمل على التنزيه ضمنا؛ لأن الوصف بالكمال متضمن نفى النقصان. وقال الطيبي: لأن الحمد جامع لصفات الكمال من الثبوتية والسلبية والتسبيح من السلبية. (والصوم نصف الصبر)؛ لأن الصبر حبس النفس على الطاعات، وعن المعاصي، وكان الصوم أقمع لشهوات النفس الباعثة على المعاصي فصار نصف الصبر بهذا الاعتبار، وقيل: الصوم صبر عن الحلق والفرج فيبقى نصفه الآخر من الصبر عن سائر الأعضاء. (رواه الترمذى وقال: هذا حديث حسن) وأخرجه أيضا أحمد، وأخرجه الترمذي أيضا من حديث عبدالله بن عمرو بنحوه، وزاد فيه: "ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه".
(3/30)
298- قوله: (عبدلله الصنابحي)
مختلف في صحبته بل في وجوده، فقيل: هو صحابي مدني وإليه جنح الحاكم، وابن السكن،
وابن معين، والترمذى، ففي بعض نسخ الترمذي الصحيحة القلمية: الصنابحي هذا الذى روى
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "فضل الطهور" هو عبدالله الصنابحي،
والذى روى عن أبى بكر الصديق ليس له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، واسمه
عبدالرحمن ابن عسيلة. انتهى. وإليه يميل كلام الحافظ في تهذيب التهذيب والإصابة،
وابن الأثير الجزرى في أسد الغاية، والذهبي في التجريد، والمصنف في الإكمال،
والمنذري في الترغيب. وقيل: هو أبوعبدالله الصنابحي عبدالرحمن بن عسيلة التابعى،
ووهم من قال عبدالله الصنابحي، وأخطأ قلب كنيته فجعلها اسما، فأحاديثه عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - مرسلة، صرح بذلك
إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض، خرجت الخطايا من فيه. وإذا استنثر، خرجت الخطايا من
أنفه. وإذا غسل وجهه، خرجت الخطايا من وجهه، حتى تخرج من تحت أشفار عينيه. فإذا
غسل يديه، خرجت الخطايا من يديه، حتى تخرج من تحت أظفار يديه. فإذا مسح برأسه،
خرجت الخطايا من رأسه، حتى تخرج من أذنيه. فإذا غسل رجليه، خرجت الخطايا من رجليه،
حتى تخرج من تحت أظفار رجليه. ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له)) رواه
مالك، والنسائى.
299- (17) وعن أبي هريرة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة،
فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين،
(3/31)
البخارى، وعلي بن المديني، ويعقوب بن شيبة، ومن تبعهم، والراجح عندنا هو القول الأول، فعبدالله الصنابحي صحابي له ثلاثة أحاديث، الأول هو هذا، والثاني يأتي في الفصل الثالث من باب أوقات النهى، وقد صرح في بعضها بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأبوعبدالله الصنابحي عبدالرحمن بن عسيلة رجل آخر تابعي، وارجع إلى تهذيب التهذيب (ج6: ص91، 229) والإصابة (ج2: ص384، 385) و(ج3: ص96). وسيكون لنا عودة إلى البحث عن ذلك في باب أوقات النهي إن شاءالله تعالى. (إذا توضأ) أي أراد الوضوء. (خرجت الخطايا) أي خطايا فيه من فيه، فاللام بدل من المضاف إليه، أو للعهد بالقرينة المتأخرة، وهكذا فيما بعد، فلا يرد: أن تمام الخطايا إذا خرجت من فيه فماذا يخرج من سائر الأعضاء؟ والمراد بخطايا الفم المراودة على الفاحشة، والمواعدة على المعصية، وغير ذلك من الصغائر. (خرجت الخطايا) كشم ما لا يجوز كطيب مغصوب. (من أنفه) أي مع الماء. (خرجت الخطايا من وجهه) كالنظر إلى ما لا يحل قصدا. (حتى تخرج من تحت أشفار عينيه) أشفار العين أطراف الأجفان التي ينبت عليها الشعر جمع شفر بالضم. (فإذا غسل يديه) أي إلى المرفقين. (خرجت الخطايا من يديه) كاللمس لما لا يجوز. (فإذا مسح برأسه) ظاهره الاستيعاب. (خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه) فيه دليل على أن الأذنين من الرأس، وأنهما يمسحان بماء الرأس لا بماء جديد؛ لأن خروج الخطايا منهما بمسح الرأس إنما يحسن إذا كانا منه، وهذا كما جعل العينين مخرجا لخطايا الوجه، والأظفار مخرجا لخطايا اليدين، وعليه بنى النسائي الكلام في سننه فقال: باب مسح الأذنين من الرأس، وما يستدل به على أنهما من الرأس. (فإذا غسل رجليه) أي إلى الكعبين. (خرجت الخطايا من رجليه) كالمشي فيما لا ينبغي. (وصلاته) فريضة كانت أو نافلة. (نافلة له) أي زائدة على تكفير تلك الخطايا المتعلقة بأعضاء الوضوء، فتكون لتكفير خطايا باق
(3/32)
الأعضاء إن كانت، وإلا فلتخفف
الكبائر ثم لرفع الدرجات. (رواه مالك والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه
والحاكم، وقال صحيح على شرطهمان، ولا علة له، وعبدالله الصنابحي صحابي.
299- قوله: (أتى المقبرة) بتثليث الباء والكسر قليل، قيل: أنها البقيع. (السلام
عليكم دار قوم مؤمنين)
وإن شاءالله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا. قالوا: أو لسنا إخوانك يا
رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، فقالوا: كيف تعرف من
لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة، بين
ظهرى خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا بلى، يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم -
قال: فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء
(3/33)
منصوب على الإختصاص أو النداء؛ لأنه مضاف، ويجوز الجر على البدلية من الكاف والميم في "عليكم". والمراد الجماعة وأهل الدار. (وإنا إن شاءالله بكم لاحقون) أتى بالاستثناء مع أن الموت لا شك فيه، وللعلماء فيه أقوال تبلغ إلى عشرة، أظهرها أنه للتبرك لا للشك، كما في قوله: ?لتدخلن المسجد الحرام إن شاءالله آمنين? [48: 27] وقيل لامتثال أمر الله في قوله: ?ولا تقولن لشائ إن فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله? [18: 23، 24] وقيل: باعتبار اللحوق في هذا الملكان والموت بالمدينة. (وددت) بكسر الدال أي تمنيت وأحببت. (أنا) بفتح الهمزة وتشديد النون أي أنا وأصحابي. (إخواننا) في الحياة الدنيا، وقيل بعد الموت، ووجه اتصال هذه الودادة بذكر أصحاب القبور أنه ذكر اللاحقين عند تصور السابقين، وذكرهم إظهارا لشرفهم وكرامتهم ومحته إياهم. (أولسنا) أي أتقول هذا ولسنا. (أنتم أصحابي) ليس هذا نفيا لأخوتهم ولكن ذكر مزيتهم الزائدة بالصحبة، فإن الاتصاف في محل الثناء يكون بأرفع حالاته وأفضل صفاته، وفضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، فإنها من الصفات التي لا يلحقهم فيها أحد فهؤلاء إخوة وصحابة، واللاحقون إخوة فحسب قال تعالى: ?إنما المؤمنون إخوة? [49: 10]. (وإخواننا) أي المراد بإخواني أو الذين لهم إخوة فقط. (الذين لم يأتوا بعد) أي لم يلحقوا إلى الآن. (فقالوا: كيف تعرف) أي يوم القيامة، وفي رواية مالك والنسائي وأنا فرطهم على الحوض، فقالوا يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كيف تعرف؟ الخ فكأنهم فهموا من تمنى الروية وتسميتهم باسم الإخوة دون الصحبة أنه لا يراهم في الدنيا فإنما يتمنى عادة ما لم يمكن حصوله، ولو حصل اللقاء في الدنيا لكانوا صحابة، وفهموا من قوله: "أنا فرطهم" أنه يعرفهم في الآخرة فسألوا عن كيفية ذلك. (أرأيت) أي أخبرني، والخطاب مع كل من يصلح له من الحاضرين أو السائلين، . (بين ظهرى خيل) أي بينها، ولفظ الظهر مقحم. (دهم) بضم الدال
(3/34)
وسكون الهاء جمع أدهم، وهو
الأسود، والدهمة السوادة. (بهم) بضم الموحدة وسكون الهاء جمع بهيم، وقيل: المراد
السود أيضا، وقيل: البهيم الذي لايخالط لونه لون سواءه، سواء كان أسود، أو أبيض،
أو أحمر، بل يكون لونه خالصا. (ألا يعرف خيله؟) الهمزة للإنكار. (فإنهم يأتون غرا
محجلين من الوضوء) أي وسائر الناس ليسوا كذلك، لاختصاص الغرة والتحجيل بهذه الأمة
من بين الأمم، ويكون الوجه كله متنورا من أثر الوضوء، ولكن الجبهة تكون أشد تنورا
من أجل السجود، فلا يخالفه حديث
وأنا فرطهم على الحوض)) رواه مسلم.
300- (18) وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أول
من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى ما
بين يدى، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن
شمالي مثل ذلك. فقال رجل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تعرف أمتك من
بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: هم غر محجلون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك
غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم)) رواه
أحمد.
عبدالله بن بسر عند الترمذي وغيره، وقد تقدم وجه آخر للجمع. (وأنا فرطهم على
الحوض) بفتحتين، أي أنا أتقدمهم على الحوض، أهيئ لهم ما يحتاجون إليه. ففيه بشارة
لهذه الأمة، هنيئا لمن كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: فرطه. (رواه مسلم(وأخرجه
أيضا مالك والنسائي).
(3/35)
300- قوله: (فأنظر) أي فأرفع
راسي فأنظر. (فأعرف) أي أميز، ليستقيم تعلق من به. (أمتي) أي الذين أجابوا. (ومن
خلفي) أي أنظر من ورائي. (مثل ذلك) بالنصب أي فأعرف أمتي. (فيما بين نوح) بيان
للأمم، حال منه، أي الأمم كائنة فيما بين نوح. (إلى أمتك) إلى للإنتهاء، أي مبتدأ
من نوح منتهيا إلى أمتك. (ليس أحد كذلك غيرهم) بالرفع على البدلية، وبالنصب على
الاستنثاء، هذا صريح في أن الغرة والتحجيل من خصوصيات أمته - صلى الله عليه وسلم
-. (وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بإيمانهم) ظاهره أنه من خصوصياتهم إلا أن يحمل على
أنهم يؤتون ذلك قبل غيرهم، أو على صفة لم تكن لغيرهم، إذ الذي دلت عليه الآيات
وبقية الأحاديث العموم. (وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم) قال الطيبي: لم يأت بالوصفين
هذين تفصلة وتميزا كالأول، بل أتى بهما مدحا لأمته، وابتهاجا بما أوتوا من الكرامة
والفضيلة، انتهى. (رواه أحمد) وفيه ابن لهيعة قال المنذري: وهو حديث حسن في
المتابعات، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير، وفيه أيضا ابن لهيعة.
(1) باب ما يوجب الوضوء
?الفصل الأول?
301-(1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقبل صلاة
من أحدث حتى يتوضأ)) متفق عليه
302- (2) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقبل صلاة
بغير طهور، ولا صدقة من غلول))
(باب ما يوجب الوضوء) أي وما يتعلق به، قال في القاموس: "الوضوء" بالضم
الفعل، وبالفتح ماؤه، ومصدر أيضا، أو لغتان قد يعنى بهما المصدر، وقد يعنى بهما
الماء، انتهى والمراد بيان الأشياء التي تنقض الوضوء، وتكون سببا لوجوب وضوء آخر.
والموجب للوضوء وسببه في الحقيقة هي إرادة الصلاة المقرونة إليها، كما تدل عليه
آية الوضوء، وقد يطلق على نواقص الوضوء لفظ الموجب كما هنا بالوجه الذي أشرنا
إليه.
(3/36)
301- قوله: (لا تقبل) وفي
رواية لا يقبل الله، والقبول ضد الرد، فمعنى لا تقبل أي ترد ولا تعتد ولا تجزئ، أي
تبطل ولا تصح، فالقبول في معنى الإجزاء والصحة، وقد يطلق عدم القبول ويراد به نفى
الإثابة لدليل خارجي (صلاة من أحدث) أي صار ذا حدث، والمراد به الخارج من أحد
السبيلين. (حتى يتوضأ) أي فتقبل حينئذ، وقوله: "يتوضأ" أي حقيقة بالماء،
أو حكما بما يقوم مقامه، وهو التيمم، وقد أطلق الوضوء على التيمم، أو يتوضأ بمعنى
يتطهر، فيشمل الغسل والوضوء والتيمم. والحديث فيه دليل على بطلان الصلاة بالحدث،
سواء كان خروجه اضطراريا أو اختياريا لعدم التفرقة في الحديث بين حدث وحدث، في
حالة دون حالة، ففيه رد على من يقول وهو أبوحنيفة: أنه إذ سبقه الحدث يتوضأ، ويبني
على صلاته، وفيه أن الصلوات كلها تفتقر إلى الطهارة، ويدخل فيها صلاة الجنازة
والعيدين وغيرهما. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وفي ترك الحيل، ومسلم في
الطهارة، وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود.
302- قوله: (بغير طهور) أي بلا طهور، وليس المعنى صلاة متلبسة بشيء مغاير للطهور،
إذ لا بد من ملابسة الصلاة بما يغاير الطهور، كسائر شروط الصلاة، إلا أن يراد
بمغاير الطهور، ضد الطهور، حملا لمطلق المغاير على الكامل، وهو الحدث. والطهور بضم
الطاء فعل المتطهر، وهو المراد ههنا، وبالفتح اسم للآلة كالماء والتراب، وقيل:
بالفتح يطلق على الفعل أيضا، فيجوز ههنا الوجهان. (ولا صدقة من غلول) بضم الغين أي
مال حرام. والغلول في الأصل الخيانة في المغنم، ولا سرقة من الغنيمة قبل القسمة،
وكل من خان في شيء خفية فقد غل، قال ابن العربي: فالصدقة من مال حرام في
رواه مسلم.
303- (3) وعن علي، قال: قال: ((كنت رجلا مذاء، فكنت أستحيي أن أسأل النبي - صلى
الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فأمرت المقداد، فسأله، فقال: يغسل ذكره
(3/37)
عدم القبول والاستحقاق العقاب، كالصلاة بغير طهور في ذلك، انتهى. فكما أن الطهارة شرط للصلاة المقبولة، كذلك كون المال طيبا شرط للصدقة المقبولة. ولعل وجه تخصيص الغلول بالذكر، وإن كان الحكم عاما لجميع الأموال المحرمة – كثمن الخمر وأجرة المزنية والربا والسرقة ونحوها- أن الغنيمة فيها حق لجميع المسلمين، فإذا كان التصدق من المال الذي فيها حق غير مقبولة، فأولى أن لا تقبل من المال الذي ليس فيه حق. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي وابن ماجه، وأخرجه أبوداود والنسائي وابن ماجه، عن أبي المليح عن أبيه، وابن ماجه عن أنس وأبي بكرة.
(3/38)
303- قوله: (مذاء) صيغة مبالغة، أي كثير المذي، وفيه لغات أفصحها بفتح الميم وسكون الذال وتخفيف الياء ثم بكسر الذال وتشديد الياء، وهو ماء أبيض رقيق لزج، يخرج عند الملاعبة والتقبيل، أو تذكر الجماع، أو إرادته عادة، وقد لا يحس بخروجه. (أن أسأل النبي- صلى الله عليه وسلم -) أي عن حكم المذي، هل هو نجس موجب للغسل أم لا؟. (لمكان ابنته) أي فاطمة، لكونها تحته. والمذي كثيرا ما يخرج عند ملاعبة الزوجة. (فأمرت المقداد فسأله) أي مبهما بأن قال مثلا: رجل خرج من ذكره مذى، ما الحكم فيه؟ لا لعلى خاصة بالتعيين، وقد وقع الاختلاف في السائل هل المقداد؟ كما في هذه الرواية، أو عمار؟ كما رواية للنسائي، أو علي؟ كما في رواية لابن حبان، والإسماعيلي، والترمذي، وجمع ابن حبان بين ذلك، بأن عليا أمر عمارا أن يسأل ثم أمر المقداد بذلك، ثم سأل بنفسه، إلا أنه تعقب بأن قوله: فكنت أستحيي الخ. دال على أنه لم يباشر السؤال، فنسبة السؤال إليه في رواية من قال: إن عليا سأل، مجاز، لكونه الآمر بالسؤال، أو يقال: أنه سأل هو بنفسه بعد سؤالهما للإحتياط، أو يقال: إنه لما أبطأ في السؤال، سأل بنفسه لشدة إحتياجه إليه، وسألا أيضا في أوقات مختلفة، وأخبراه بذلك، وقد يجمع بأنه سألهما معا أن يسألاه - صلى الله عليه وسلم -، كما في رواية لعبدالرزاق: فسأله المقداد بحضرة عمار وعلي، فنسبة عمار إلى أنه سأل عن ذلك محمولة على المجاز لكونه قصده، ولكون المقداد سأله بحضرته، كما أن نسبة السؤال إلى علي محمولة على المجاز؛ لكونه الآمر ولكون المقداد سأله بحضرته. (يغسل ذكره) لنجاسته، وإطلاق لفظ "ذكره" ظاهر في غسل الذكر كله، وليس كذلك إذ الواجب غسل محل الخارج وموضع النجاسة فقط، وإنما هو من إطلاق لفظ الكل على البعض، والقرينة أن الموجب لغسله إنما هو خروج الخارج، فلا تجب المجاوزة إلى غير محله، ويؤيده ما عند الإسماعيلي في رواية فقال: توضأ واغسله" فأعاد
(3/39)
الضمير إلى المذي، وهذا مذهب
الجمهور، وذهب بعض المالكية إلى أنه يغسله كله، عملا بلفظ الحديث، وذهب بعض
الحنابلة إلى أنه يغسله كله مع الأنثيين. واستدل لذلك برواية أبي داود: يغسل ذكره
وأنثييه، وفي رواية أخرى له: فتغسل من ذلك فرجك
ويتوضأ)) متفق عليه.
304-(4) وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((توضؤا
مما مست النار)) رواه مسلم.
وأنثييك، وتوضأ للصلاة". وأجيب بأن رواية غسل الأنثيين قد طعن فيها بأنها من
رواية عروة بن علي، وعروة لم يسمع من علي، وأيضا أكثر الروايات في الصحيحين
وغيرهما خالية عن ذكر الأنثيين، إلا أنه رواه أبوعوانة في صحيحه، من طريق عبيدة عن
علي بالزيادة، وإسناده لا مطعن فيه كما قال الحافظ في التخليص. وأجيب عنه بأنه
محمول على الاستحباب، أو أمر بغسل الأنثيين لزيادة التطهير؛ لأن المذي ربما انتشر
فأصاب الأنثيين. ويقال: إن الماء البارد إذا أصاب الأنثيين رد المذي، فلذلك أمره
بغسلهما، قاله الخطابي. واستدل به على تعيين الماء فيه دون الأحجار ونحوها أخذا
بالظاهر. وقالت الحنفية: يجوز الاقتصار بالأحجار الحاقا للمذى بالبول، وحملا للأمر
بالغسل على الاستحباب، أو على أنه خرج مخرج الغالب، وهذا هو المعروف في مذهب
الشافعي. (ويتوضأ) فيه أن المذي ينقص الوضوء، ولا يوجب الغسل، وهو إجماع. (متفق
عليه) أخرجه البخاري في العلم، وفي الطهارة، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضا
النسائي فيها، وقد روي حديث علي هذا من طرق مختلفة عند أحمد، ومسلم، والترمذى،
والنسائي وأبي داود، وابن ماجه، وغيرهم.
(3/40)
304- قوله: (توضؤوا مما مست النار) أي من أكل ما مسته النار، وهو الذى أثرت فيه النار بطبخ أو قلي أو شي. والمراد بالوضوء الوضوء الشرعي، أي وضوء الصلاة. وهو دليل على أن أكل ما أثرت فيه النار من أسباب وجوب الوضوء. واختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب الأكثر من السلف والخلف إلى عدم انتقاض الوضوء به. وذهبت طائفة إلى وجوب الوضوء الشرعي به، واستدلت بحديث أبي هريرة هذا وما في معناه. وأجاب الأولون عنه بوجوه: منها أن المراد بالوضوء غسل الفم والكفين، ورد بأن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها. ومنها أنه محمول على الاستحباب لا على الوجوب، وهذا اختيار الخطابي، وابن تيمية صاحب المنتقى، ورد بأن الأصل في الأمر الوجوب. ومنها أنه لما اختلف أحاديث الباب، ولم يتبين الراجح منها، نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرجحنا به أحد الجانبين، وارتضى بهذا النووي في شرح المهذب، وبهذا يظهر حكمة تصدير البخاري حديث ابن عباس الآتي بالأثر المنقول عن الخلفاء الثلاثة، قال النووي: كان الخلاف فيه معروفا بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مست النار، إلا ما تقدم استثناه من لحوم الإبل. ومنها أنه منسوخ بحديث ابن عباس الذى يتلوه، وبحديث أم سلمة، وحديث ابن عباس الآتيين في آخر الفصل الثاني، وما في معناهما من الأحاديث الدالة على ترك الوضوء مما مست النار، والحكمة في الأمر بالوضوء من ذلك في أول الإسلام، ما كانوا عليه من قلة التنظيف في الجاهلية، فلما تقررت النظافة وشاعت في الإسلام، نسخ الوضوء تيسيرا على المؤمنين. وأبدى الشاه ولي الله الدهلوي حكمة أخرى، وارجع إلى حجة الله. قلت: أقوى الأجوبة عندي هو الثالث فهو أولى من دعوى النسخ. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد، والنسائي، وغيرهما.
(3/41)
305- (5) قال الشيخ الإمام
الأجل محي السنة، رحمه الله: هذا منسوخ بحديث ابن عباس: قال. ((إن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ)) متفق عليه.
306- (6) وعن جابر بن سمرة، ((أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن
305- قوله: (قال الشيخ الإمام الأجل محي السنة) البغوي في شحر السنة (هذا) أي وجوب
الوضوء الشرعي بأكل ما مسته النار. (منسوخ بحديث ابن عباس) الخ، واعتراض عليه بأنه
إنما يتم ذلك لو علم تاريخهما، وتقدم الأول على الثاني، وأجيب بأن صحبة ابن عباس
متأخرة، فإنه إنما صحبه بعد الفتح، قاله الشافعي فيما نقله البيهقي، ويدل على تأخر
حديث ابن عباس، ما رواه أحمد في مسنده عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه عن ابن
إسحاق: حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال: دخلت على ابن عباس بيت ميمونة زوج النبي -
صلى الله عليه وسلم - لغد يوم الجمعة، الحديث. وفيه: فأكل وأكلوا معه، قال: ثم نهض
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه إلى الصلاة، وما مس ولا أحد ممن كان معه
ماء، قال: ثم صلى بهم، وكان ابن عباس إنما عقل من أمر رسول الله آخره، وهذا مع
دلالته على تأخره، فيه رد على زعم الخصوصية. قيل: وأصرح من هذا في النسخ حديث
جابر: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست
النار، رواه أبوداود، والنسائي، وابن الحارود، والبيهقي، وغيرهم، وهو حديث صحيح
ليس في إسناده مطعن، وليست له علة، وقد أعمله بعض الحفاظ بما لا يصلح تعليلا،
وتأوله أبوداود بما هو بعيد جدا، يرده ما رواه أحمد عن جابر مطولا من طريق محمد بن
إسحاق عن عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، فإن فيه: أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - أكل هو ومن معه، ثم بال، ثم توضأ للظهر، وأنه أكل بعد ذلك هو ومن معه، ثم
صلوا العصر، ولم يتوضؤوا. (هذا معنى الحديث) فهذا يدل على أن الوضوء
(3/42)
الأول كان للحدث، وليس من أكل
ما مست النار، حتى يصح أن يسمى الفعل الثاني بأكله ثم صلاته من غير أن يتوضأ، آخر
الأمرين؛ لأنهما فعلان ليسا من نوع واحد، وقال ابن حزم في المحلى (ج1: ص243):
القطع بأن ذلك الحديث مختصر من هذا، قول بالظن، والظن أكذب الحديث، بل هما حديثان
كما وردا. انتهى. (أكل كتف شاة) أي أكل لحم كتف الشاة. (متفق عليه) أخرجه البخاري
في الطهارة، وفي الأطعمة، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود.
306- قوله: (وعن جابر بن سمرة) بن جنادة السوائي، صحابي مشهور، ولأبيه أيضا صحبه،
نزل الكوفة، ومات بها سنة (74) في خلافة عبدالملك بن مروان، في ولاية بشر بن
مروان، له مائة وستة وأربعون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين،
روى عنه جماعة. (أنتوضأ) بالنون، وفي بعض النسخ بالياء، وفي بعضها
"أتوضأ" بالمتكلم المفرد، مع حذف همزة الاستفهام، وهي الصحيحة الموافقة
لما في صحيح مسلم. (من لحوم الغنم) أي من أكلها.
شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم، فتوضأ من
لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلى في مبارك الإبل؟ قال:
لا))
(3/43)
(قال: نعم، فتوضأ من لحوم الإبل) المراد به الوضوء الشرعي، أي وضوء الصلاة، لأن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها. والحديث نص على أن الأكل من لحم الإبل ناقص للوضوء على كل حال، نيئا كان أو مطبوخا، وإليه ذهب أحمد، وإسحاق ابن راهوية، وغيرهما، واختاره البيهقي، وحكى عن أصحاب الحديث مطلقا، وحكى عن جماعة من الصحابة، ورجحه النووي وغيره من الشافعية، وابن العربي من المالكية، والشيخ عبدالحي اللكنوى من الحنفية، وهذا القول هو المعمول عليه، الصحيح عندنا، وإن كان الجمهور على خلافه. ويدل عليه أيضا حديث البراء بن عازب، عند أحمد والترمذى وأبي داود وابن ماجه والطيالسي، وابن الجارود وابن حبان، وابن خزيمة وغيرهم، قال ابن خزيمة: لم أر خلافا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه، انتهى. وفي الباب عن أسيد بن حضير، وذى الغرة، وعبدالله بن عمر، ولكن أحاديثهم قد تكلم فيها من جهة السند، وذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقص الوضوء، وأجابوا عن حديثي جابر والبراء بوجوه كلها مخدوشة، قد رد عليها ابن قدامة في المغني (ج1: ص188، 183) ردا حسنا، وقد نقل كلامه شيخنا في شرح الترمذي، مع الرد على تقريرات صاحب بذل المجهور من الحنفية فارجع إليه. وأما السؤال عن الحكمة لوجوب الوضوء من لحم الإبل فواقع في غير محله؛ لأن هذا الحكم تعبد غير معقول المعنى، فلا نحاول أن نتلمس حكمة له. (أصلي) بحذف حرف الاستفهام. (في مرابض الغنم) جمع مربض بفتح الميم وكسر الباء، وهو موضع ربوض الغنم، أي مأوى الغنم. (قال : نعم) فيه دليل على جواز الصلاة في مرابض الغنم مطلقا، خلافا لمن قال: إن الإذن بالصلاة فيها كان قبل أن يبنى المسجد. واستدل بالحديث على طهارة أبوال الغنم وأبعادها؛ لأن مرابض الغنم لا تخلو عن ذلك، والإذن بالصلاة فيها مطلق، ليس فيه تخصيص موضع دون موضع، ولا تقييد بحائل بقى من الأبوال وهذا هو الحق خلافا لأبي حنيفة
(3/44)
والشافعي. (أصلي في مبارك
الإبل) جمع مبرك بفتح الميم وكسر الراء، وهو موضع بروك الإبل. (قال: لا) فيه دليل
على تحريم الصلاة في مبارك الإبل، وإليه ذهب أحمد، ومالك وابن حزم وهو الحق. وذهب
الجمهور إلى حمل النهي على الكراهة مع عدم النجاسة، وعلى التحريم مع وجودها، وهذا
إنما يتم على القول بأن علة النهي هي النجاسة، وذلك متوقف على نجاسة أبوال الإبل
وأزبالها، وستعرف أن الحق طهارة أبوال مأكول اللحم وأزباله، ولو سلمنا النجاسة فيه
لم يصح جعلها علة؛ لأن العلة لو كانت النجاسة لما افترق الحال بين أعطانها وبين
مرابض الغنم، إذ لا قائل بالفرق. وقيل علة النهي ما فيها من النفور، وبهذا علل
أصحاب الشافعي، وأصحاب مالك، وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في مباركها، وبين
غيبتها عنها. وفيه أن النهي عن الصلاة فيها مطلق، سواء كانت الإبل فيها أو لم تكن،
وقيل: علة النهي أن يجاء بها إلى مباركها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها أو يستمر
فيها مع شغل خاطره، وفيه أيضا ما تقدم. وقيل: لأن الراعي يبول بينها، وفيه أن هذا
ظن وتخمين لم يقم عليه دليل، فلا يلتفت إليه. وقيل: علة النهي
رواه مسلم.
307- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وجد
أحدكم في بطنه شيئا، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا. فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع
صوتا أو يجد ريحا))
(3/45)
شدة نتنها. وقيل: الحكمة في النهي كونها خلقت من الشياطين، ويدل عليه حديث ابن مغفل عند أحمد، والنسائي، وحديث البراء عند أبي داود، وحديث أي هريرة عند ابن ماجه، قال الإمام الشوكاني بعد بيان اختلافهم في تعليل النهي بنحو ما ذكرنا: إذا عرفت هذا الاختلاف في العلة، تبين لك أن الحق الوقوف على مقتضى النهي، وهو التحريم، كما ذهب إليه أحمد، والظاهرية، انتهى. ولا يعارضه حديث الصلاة إلى الراحلة بجعلها سترة في الصلاة؛ لأن ذلك كان في السفر حالة الضرورة، ولأن النهي مقصور على موضع بروكها وعطنها، وفرق بين الصلاة في العطن وبين جعلها سترة في الصلاة في حال شد الرحل عليها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود الطيالسي وابن ماجه وابن حبان.
(3/46)
307- قوله: (إذا وجد أحدكم في
بطنه شيئا) أي كالقرقرة بأن تردد في بطنه ريح في الصلاة أو خارج الصلاة. (فأشكل
عليه) بفتح الهمزة أي التبس. (أخرج) الهمزة للاستفهام. (فلا يخرجن) أي للتوضوء؛
لأن المتيقن لا يبطله الشك. (من المسجد) يوهم أن حكم غير المسجد بخلاف المسجد، لكن
أشير به إلى الأصل أن يصلى في المسجد؛ لأنه مكانها، فعلى المؤمن ملازمته،
والمواظبة على إقامة الصلوات مع الجماعات. (حتى يسمع صوتا) أي صوت ريح يخرج منه.
(أو يجد ريحا) أي رائحة ريح خرجت منه، ومعناه حتى يتيقن الحدث بطريق الكناية، أعم
من أن يكون بسماع الصوت، أو وجدان رائحة أو يكون بشيء آخر، لا أن سماع الصوت أو
وجدان الريح شريط، إذ وقد يكون الأصم فلا يسمع الصوت، وقد يكون أخشم فلا يجد
الريح، وينتقض طهره إذا تيقن الحدث. وفيه دليل على أن الريح الخارجة من قبل المرأة
وذكر الرجل توجب الوضوء، وبه قال الشافعي، وإليه ذهب بعض الحنفية، ورجحه الشيخ
عبدالحي اللكنوى، لكونه موافقا للأحاديث، وقال بعض الحنفية: لا توجب. وإليه مال
صاحب الهدايا، وعلل بأنها لا تنبعث عن محل النجاسة، وهو مبني على أن عين الريح
ليست بنجسة وإنما يتنجس بمرورها على محل النجاسة، وهذا لا يتمشى على قول من قال من
مشائخ الحنفية بتنجس عين الريح، وعلل بعضهم، بأنها اختلاج لا ريح، وليس بشيء خارج،
لكن هذا أيضا قاصر، فإنه لا يتمشى فيما إذا وجد النتن، أو سمع الصوت من القبل أو
الذكر، فإن هناك لاشك في خروج شيء. وفيه دليل على أن اليقين لا يزول بالشك الطارئ
في شيء من أمر الشرع، وهو قول عامة أهل العلم، فمن حصل له شك أو ظن بأنه أحدث وهو
على يقين من طهارته، لم يضره ذلك حتى يحصل له اليقين، كما أفاده قوله: "حتى
يسمع" الخ، فإنه علقه بحصول ما يحسه، وذكرهما تمثيل، وإلا فكذلك سائر النواقض،
كالمذي والودي، والحديث عام لمن كان في الصلاة أو خارجها، وهو
رواه مسلم.
(3/47)
308- (8) وعن عبدالله بن عباس،
قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب لبنا فمضمض، وقال: إن له دسما))
متفق عليه.
309- (9) وعن بريدة، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح
بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه فقال:
عمدا صنعته يا عمر))
قول الجماهير، وللمالكية تفاصيل وفروق بين من كان داخل الصلاة أو خارجها، لا ينتهض
عليها دليل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي، وأبوداود. وروى الجماعة إلا الترمذي
عن عبادة بن تميم عن عمه بنحوه.
308- قوله: (فمضمض) أي غسل فمه. (إن له دسما) منصوب على أنه اسم إن، وقدم عليه
خبره. "والدسم" بفتحتين الشيء الذي يظهر على اللبن من الدهن، وهي بيان
لعله المضمضة من اللبن، فيدل على استحبابها من كل شيء دسم، لئلا يشغل ما بقى من
دسومته في الفم قلب المصلى عن صلاته، ولينقطع لزوجته ودسمه ويتطهر فمه. ويستنبط
منه استحباب غسل اليدين للتنظيف، قال القاري: مناسبة الحديث للباب، أن المضمضة
المذكورة من متممات الوضوء أو مكملاته، انتهى. أو يقال: أورد الحديث في هذا الباب
لبيان أن شرب اللبن ونحوه مما فيه دسم ليس من نواقص الوضوء، ولا من موجبات المضمضة
التي هي من أركان الوضوء عند أحمد، ومن سننه عند غيره. (متفق عليه) وأخرجه أيضا
الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وروى ابن ماجه نحوه عن سهل بن سعد، وأم سلمة
وأنس.
(3/48)
309- قوله: (وعن بريدة) بضم
الموحدة، وفتح الراء، وسكون الياء، وهو بريدة بن الحصيب، بمهملتين مصغرا، ابن
عبدالله بن الحارث الأسلمي، أبوعبدالله، وقيل: أبوسهل، وقيل: غير ذلك. أسلم قبل
بدر ولم يشهدها. وبايع بيعة الرضوان. وشهد خيبر، وفتح مكة. واستعمله النبي - صلى
الله عليه وسلم - على صدقات قومه، وسكن المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو،
فمات بها سنة (63) في خلافة يزيد بن معاوية. له مائة وأربعة وستون حديثا، اتفقا
على حديث، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأحد عشر، روى عنه جماعة. وهو آخر من مات
بخراسان من الصحابة (صلى الصلوات) أي الخمس المعهودة. (يوم الفتح) أي يوم فتح مكة.
(لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه) أي لم تكن تعتاده، وإلا فقد ثبت أنه كان يفعل
قبل ذلك أحيانا، فقد فعله بالصهباء أيام خيبر، حين طلب الأزواد فلم يؤت إلا
بالسويق، كما سيأتي في حديث سويد. وفي حديث بريدة هذا تصريح بأن النبي - صلى الله
عليه وسلم - كان عادته الوضوء لكل صلاة عملا بالأفضل، ولما كان وقوع غير المعتاد
يحتمل أن يكون عن سهو، دفع ذلك الاحتمال، ليعلم أنه جائز له ولغيره. (فقال: عمدا
صنعته) يعنى بيانا للجواز، والضمير راجع إلى المذكور، وهو جمع الصلوات الخمس بوضوء
واحد، "وعمدا" تمييز أو حال من الفاعل،
رواه مسلم.
310- (10) وعن سويد بن النعمان ((أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام
خيبر حتى إذا كانوا بالصبهاء – وهي من أدنى خيبر –
(3/49)
قدم اهتماما لشرعية المسألة في الدين. وفيه دليل على أن قدر أن يصلى صلوات كثيرة من الفرائض والنوافل بوضوء واحد لا تكره صلاته، إلا أن يغلب عليه الأخبثان. وبه قال عامة أهل العلم، وأما قوله تعالى: ?إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم? [5: 6] الآية. فالمراد به إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، قال الآلوسي في روح المعاني (ج6: ص69): ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا، نظرا إلى عموم ?الذين آمنوا? من غير اختصاص بالمحدثين، وإن لم يكن في الكلام دلالة على تكرار الفعل، وإنما ذلك من خارج على الصحيح، لكن الإجماع على خلاف ذلك، ثم ذكر حديث بريدة هذا، وقال: فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة، والمعنى إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، بقرينه دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل، وهو التيمم، فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم، لم يكن البدل بدلا، وقوله: ?فلم تجدوا ماء? صريح في البدلية. وقال بعض المتأخرين: إن في الكلام شرطا مقدرا، أي إذا فمتم إلى الصلاة فاغسلوا الخ، إن كنتم محدثين؛ لأنه يلائمه كل الملائمة عطف ?وإن كنتم جنبا فاطهروا? عليه. وقيل: الأمر للندب، ويعلم الوجوب للمحدث بالسنة، واستبعد لإجماعهم على أن وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية مع الاحتياج إلى التخصيص بغير المحدثين من غير دليل، وأبعد منه أنه ندب بالنسبة إلى البعض ووجوب بالنسبة إلى آخرين. وقيل: هو للوجوب، وكان الوضوء واجبا على كل قائم أول الأمر ثم نسخ، فقد أخرج أحمد، وأبوداود وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي، عن عبدالله بن حنظلة الغسيل: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه، أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حديث، ولا يعارض ذلك خبر "أن المائدة آخر القرآن نزولا" الخ؛ لأنه ليس في القوة مثله، حتى قال العراقي:
(3/50)
لم أجده مرفوعا، نعم:
الاستدلال على الوجوب على كل الأمة أولا، ثم نسخ الوجوب عنهم آخرا، بما يدل على
الوجوب عليه، عليه الصلاة والسلام، أولا ونسخه عنه آخرا، لا يخلو عن شيء كما لا
يخفى. وأخرج مالك والشافعي وغيرهما، عن زيد بن أسلم: أن تفسير الآية إذا قمتم من
المضاجع يعنى النوم إلى الصلاة، والأمر عليه ظاهر، انتهى كلام الآلوسي. ومناسبة
الحديث للباب أنه يدل على أن كل ما أريد القيام إلى الصلاة لا يجب الوضوء على ما
يتوهم من رواية الآية. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي
وابن ماجه.
310- قوله: (وعن سويد) مصغرا (بن النعمان) بضم النون، ابن مالك بن عامر الأنصاري
الأوسي المدني، صحابي، شهد أحدا وما بعدها، قال الخزرجي: له سبعة أحاديث، انفرد له
البخاري بحديث المضمضة من السوبق، ما روى عنه سوى بشير بن يسار. (أنه خرج) في
المحرم سنة سبع. (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر) أي عام غزوة
خيبر، وهي بلدة معروفة، غير منصرف للعلمية والتأنيث. (حتى إذا كانوا) أي النبي -
صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. (وهي من أدنى خيبر) أي الصهباء – بفتح المهملة
والمد –
صلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فثري، فأكل رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -، وأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم
يتوضأ)) رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
311- (11) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وضوء
إلا من صوت أو ريح)) رواه أحمد، والترمذي.
312- (12) وعن علي، قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - من المذي، فقال: ((من
المذي الوضوء، ومن المني الغسل)) رواه الترمذي.
(3/51)
موضع قريب من خيبر، قيل: على
بريد منها (ثم دعا بالأزواد) ليصيب من الأزواد من لا زاد عنده، والأزواد جمع زاد.
فيه أن حمل الزاد في السفر لا يقدح في التوكل. وأخذ المهلب من الحديث أنه يجوز
للإمام أن يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته ليبيعوه من أهل الحاجة. (فلم يؤت
إلا بالسويق) وهو ما يحرش من الشعير والحنطة وغيرهما. (فأمر به) أي بالسويق.
(فثرى) أي بل بالماء، بضم الثاء وتشديد الراء، ويجوز تخفيفها. (فمضمض) فيه أنه
يستحب المضمضة وإن لم يكن له دسومة لاحتباس بقاياه بين الأسنان. (ثم صلى ولم
يتوضأ) أي من أكل السويق وإن كان مما مسته النار، ففيه دليل على أن أكل ما مسته
النار ليس بناقص للوضوء، وأنه لا يجب الوضوء لكل صلاة ما لم يحدث. (رواه البخاري)
في الطهارة، وفي الجهاد، وفي المغازى، وفي الأطعمة، وأخرجه أيضا مالك في المؤطا في
ترك الوضوء مما مست النار، والنسائي وابن ماجه في الطهارة.
311- قوله: (لا وضوء إلا من صوت) الخ أي لا وضوء واجب إلا من سماع صوت، أو وجدان
رائحة ريح خرجت منه، يعنى من حدث متيقن لا مشكوك، فلا إشكال في الحصر؛ لأن المقصود
نفي جنس الشك وإثبات اليقين. (رواه أحمد والترمذي) وقال: حسن صحيح، وأخرجه أيضا
ابن ماجه.
312- قوله: (من المذي) وفي بعض النسخ عن المذي، أي سألته عن حكم المذي. (من المذي
الوضوء) أي واجب وفيه دليل على أن خروج المذي لا يوجب الغسل، وإنما يوجب الوضوء.
(ومن المني الغسل) هذا من زيادة الإفادة، ونوع من جواب أسلوب الحكيم، على حد
"أنتوضأ من ماء البحر، فقال هو الطهور ماءه والحل ميتته". (رواه
الترمذي) وقال حسن صحيح، وأخرجه أيضا أحمد، وابن ماجه كلهم من طريق يزيد بن أبي
زياد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن علي، ويزيد هذا وثقه أحمد بن صالح المصرى،
ويعقوب بن سفيان، وقال شعبة: ما أبالي إذا كتبت عن يزيد بن أبي زياد
(3/52)
313- (13) وعنه قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها
التسليم)) رواه أبوداود، والترمذي، والدارمي.
أن لا أكتب عن أحد، وضعفه الأكثرون من قبل أنه لما كبر ساء حفظه، وتغير واختلط،
وصار يتلقن، فوقعت المناكير في حديثه، وجاء بالعجائب، فسماع من سمع منه قبل التغير
صحيح، والظاهر أن الترمذي إنما صحح حديث يزيد هذا لأنه لم يخالف فيه أحدا، بل روى
غيره كروايته، فقد روى أحمد وأبوداود والنسائي، والطيالسي من طريق ركين بن الربيع
عن حصين بن قبيصة، وأحمد أيضا من طريق جواب التيمي عن يزيد بن شريك التيمي، ومن
طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ كلهم عن علي بنحوه. وقد صحح الترمذي
حديث يزيد هذا في مواضع أخرى أيضا، ولعل ذلك بمشاركة الأمور الخارجة عن نفس السند
من اشتهار المتون ونحو ذلك.
(3/53)
313- قوله: (مفتاح الصلاة الطهور) بضم الطاء، أي التطهر بالماء أو التراب، وهذا للقادر على الطهورين، وأما فاقدهما فسيأتي حكمه. (وتحريمها التكبير) الخ أي تحريم ما حرم الله فيها من الكلام والأفعال، وتحليل ما حل خارجها من الكلام والأفعال، فالإضافة لأدنى ملابسة، وليست إضافة إلى القبول. (1) لفساد المعنى، والمراد بالتحريم والتحليل، المحرم والمحلل، على إطلاق المصدر بمعنى الفاعل مجازا، ثم اعتبار التكبير والتسليم محرما ومحللا مجاز، وإلا فالمحرم والمحلل هو الله تعالى. ويمكن أن يكون التحريم بمعنى الإحرام، أي الدخول في حرمتها، ولابد من تقدير مضاف، أي آلة الدخول في حرمتها التكبير، وكذا التحليل بمعنى الخروج عن حرمتها، والمعنى أن آلة الخروج عن حرمتها التسليم. والحديث كما يدل على أن باب الصلاة مسدود ليس للعبد فتحه إلا بطهور، كذلك يدل على أن الدخول في حرمتها لا يكون إلا بالتكبير، والخروج لا يكون إلا بالتسليم، وهو مذهب الجمهور. وارجع لتفصيل الاختلاف في مسألتي التكبير والتسليم مع الدلائل إلى شرح الترمذي لشيخنا العلامة المباكفورى، والمغني لابن قدامة المقدسي. (رواه أبوداود والترمذي) الخ. وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد والبزار وابن ماجه، وصححه الحاكم وابن السكن، كلهم من حديث عبدالله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية عن علي. وابن عقيل، هذا قد تكلم فيه بعضهم، والراجح أن حديثه في مرتبة الحسن، كما صرح به الذهبي في الميزان، فحديث علي هذا من طريق ابن عقيل، حسن صالح للاحتجاج، وقد سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: هذا أصح شيء في هذا الباب وأحسن، ونقل المنذري قول الترمذي وأقره. وقال النووي في الخلاصة: هو حديث حسن انتهى. وفي الباب عن جابر، وهو أول أحاديث الفصل الثالث من كتاب الطهارة. وعن أبي سعيد أخرجه الترمذي في الصلاة، وابن ماجه في الطهارة، وفيه أبوسفيان طريف السعدي، وهو ضعيف. وفي الباب أيضا عن عبدالله بن زيد،
(3/54)
وابن عباس، وغيرهما، ذكر
أحاديثهم الحافظ في التلخيص، والزيلعي في نصب الراية.
(1) كذا في حاشية ابن ماجه للسندهي من الطبعتين العلمية والتازية وليحرر.
314- (14) ورواه ابن ماجه عنه، وعن أبي سعيد.
315- (15) وعن علي بن طلق، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا فسا
أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أعجازهن)) رواه الترمذي، وأبوداود.
316- (16) وعن معاوية بن أبي سفيان، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(3/55)
315- قوله: (وعن علي بن طلق) بفتح الطاء وسكون اللام وبالقاف، هو علي بن طلق بن المنذر بن قيس الحنفي السحيمي اليمامي، صحابي، له ثلاثة أحاديث، قاله الخزرجي. وقال الحافظ في التهذيب: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء من الريح وغير ذلك، وعلي بن طلق هذا، هو والد طلق بن علي. (إذا فسا أحدكم) أي خرج من دبره الريح بلا صوت يسمع، سواء تعمد خروجه أو لم يتعمد. (فليتوضأ) هذا لفظ الترمذي، ورواه أبوداود بلفظ "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف، فليتوضأ، وليعد الصلاة"، وقد ذكره المصنف بهذا اللفظ من حديث طلق بن علي في باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة. ويأتي هناك بسط الكلام في معناه. واللفظ المذكور هنا يدل على أن خروج الريح من الدبر ناقص للوضوء. (ولا تأتوا النساء) أي لا تجامعوهن. (في أعجازهن) جمع عجز بفتح العين وضم الجيم، أي أدبارهن، ووجه المناسبة بين الجملتين أنه لما ذكر الفساء الذي يخرج من الدبر ويزيل الطهارة والتقرب إلى الله، ذكر ما هو أغلظ منه في رفع الطهارة زجرا وتشديدا. (رواه الترمذي) في الرضاع من أبواب النكاح من طريقين، حسن إحداهما ولم يحكم على الطريق الأخرى بشيء. (وأبوداود) في الطهارة والصلاة، وسكت عنه، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وأخرجه أيضا أحمد (ج1: ص86) والنسائي في السنن الكبرى، والدارقطني. واعلم أنهم اختلفوا في أن هذا الحديث من رواية علي بن طلق، أو طلق بن علي، أو علي بن أبي طالب، أو طلق بن يزيد؟ وأن علي بن طلق، وطلق بن علي رجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو اسم لذات واحدة؟ والظاهر أن علي بن طلق وطلق بن علي رجلان، وأن هذا الحديث من رواية علي بن طلق، وليس من رواية طلق بن علي، ولا علي بن أبي طالب، ولا طلق بن يزيد، ونبسط الكلام في ذلك إن شاء الله في باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة.
(3/56)
316- قوله: (وعن معاوية بن أبي
سفيان) قد تقدم ترجمة معاوية، وأما والده أبوسفيان فهو صخر بن حرب بن أمية بن عبد
شمس بن عبد مناف الأموي القرشي، صحابي شهير، ولد قبل الفيل بعشر سنين، كان من
أشراف قريش في الجاهلية، وكان رئيس المشركين يوم أحد، ورئيس الأحزاب يوم الخندق،
أسلم زمن الفتح، ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطريق قبل دخول مكة، وشهد
حنينا والطائف، وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين مائة بعير
وأربعين أوقية فيمن أعطاه من المؤلفة قلوبهم. وفقئت عينه يوم الطائف، فلم يزل أعور
إلى يوم اليرموك، فأصاب عينه حجر فعميت. له أحاديث
إنما العينان وكاء السه، فإذا نامت العين استطلق الوكاء)) رواه الدارمي.
317- (17) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكاء السه
العينان، فمن نام فليتوضأ)) رواه أبوداود.
318- (18) وقال الشيخ الإمام محي السنة، رحمه الله: هذا في غير القاعد، لما صح عن
أنس
(3/57)
وعند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي حديث هرقل، توفي سنة (32) وقيل: (34). (إنما العينان) أي اليقظة، وكنى بالعين عن اليقطة؛ لأن النائم لا عين له تبصر. (وكاء السه) بفتح السين تخفيف الهاء، حلقة الدبر، أو هو من أسماء الدبر، وهو من الإست، وأسله ستة كفرس، وجمعه أستاه، فحذفت الهاء وعوضت الهمزة، فإذا ردت هاءه وحذفت تاءه حذفت الهمزة نحو سه، والوكاء بكسر الواو والمد: ما يشد به رأس القربة ونحوها، جعل اليقظة للإست كالوكاء للقربة، كما أن القربة ما دامت مربوطة بالوكاء باختيار صاحبها كذلك الإست مادام محفوظا بالعين، أي اليقظة باختيار الصاحب، والمعنى أن اليقظة وكاء الدبر، أي الحافظة لما فيه من الخروج؛ لأنه ما دام مستيقظا أحس بما يخرج منه، فإذا نام زال الضبط. فإن قيل: النوم ليس بحدث وأنتم أوجبتم الوضوء باحتمال خروج ريح، والأصل عدمه، فلا يجب الوضوء بالشك. قلنا: النائم غير متمكن يخرج منه الريح غالبا، فأقام الشارع هذا مقام اليقين، كما أقام شهادة الشاهدين التي تفيد الظن مقام اليقين في شغل الذمة. (فإذا نامت العين) أي جنسها. (استطلق الوكاء) أي انحل. (رواه الدارمي) وأخرجه أيضا أحمد وأبويعلى والطبراني في الكبير، والدارقطني والبيهقي كلهم من حديث أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس، عن معاوية. وأعل بوجهين، أحدهما الكلام في أبي بكر بن أبي مريم، فقد ضعفه أحمد وأبوحاتم وأبوزرعة، وقال الهيثمي: هو ضعيف لاختلاطه. وقال الحافظ: ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط. والثاني أن مروان بن جناح رواه عن عطية بن قيس، عن معاوية موقوفا. هكذا رواه ابن عدى، وقال: مروان أثبت من أبي بكر بن أبي مريم.
(3/58)
317- قوله: (وكاء السه العينان)
يعنى إذا تيقظ الإنسان أمسك ما في بطنه، فإذا نام زال اختياره، واسترخت مفاصله،
فلعله يخرج منه ما ينقص طهره. وحديث على هذا، وحديث معاوية المتقدم، يدلان على أن
نقص الطهارة بالنوم ليس لنفسه، بل لأنه مظنة خروج ما ينتقض الطهر به، ولذلك خص عنه
نوم ممكن المقعد من الأرض. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وأخرجه أيضا ابن ماجه،
والدارقطني، وهو عند الجميع من رواية بقية بن الوليد عن الوضين بن عطاء. وبقية
صدوق، كثير التدليس. والوضين، قال الجوزجاني: واه، وأنكر عليه هذا الحديث، وقال
الحافظ: صدوق، سيء الحفظ، ووثقه عبدالرحمن بن إبراهيم وابن معين وأحمد، وقال ابن
عدى: لم أر بحديثه بأسا. وقد حسن حديث علي هذا المنذري وابن الصلاح والنووي. وقال
أحمد: حديث علي أثبت من حديث معاوية. وقد ضعف الحديثين أبوحاتم، وقال الحافظ في
بلوغ المرام: في كلا الإسنادين ضعف.
318- قوله: (هذا) أي هذا الحكم. (في غير القائد) من النائمين يعنى فيمن نام مضطجعا
أو مستلقيا على قفاه،
قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤوسهم،
ثم يصلون ولا يتوضؤون)) رواه أبوداود والترمذي، إلا أنه ذكر فيه
"ينامون" بدل "ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤسهم".
319- (19) وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: ((إن الوضوء على من نام مضطجعا، فإنه إذا اضطجع استرخت
(3/59)
فأما من نام قاعدا ممكنا مقعده من الأرض ثم استيقظ ومقعده ممكن كما كان، فلا يبطل وضوؤه وهو قال الشافعي في الجديد. (ينتظرون العشاء) أي صلاتها بالجماعة فينامون جالسين. (حتى تخفق) أي تميل وتتحرك. (رؤسهم) من النوم من الخفوق وهو الاضطراب، وقيل المعنى: حتى تسقط أذقانهم على صدورهم. وتخفق بفتح التاء وكسر الفاء من ضرب. (ثم يصلون) بذلك الوضوء. (ولايتوضؤون) وضوءا جديدا. (رواه أبوداود والترمذى) وقال حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضا الشافعي في الأمام، وأحمد، وصححه الدارقطني والنووي، وأصله في مسلم كما سيأتي. (إلا أنه) أي الترمذي. (ذكر فيه) أي في حديثه. (ينامون) أي قاعدين، ورواية الترمذي هذه موافقة لرواية مسلم، وكأن المصنف ذهل عن رواية مسلم حيث لم يتعرض لها. وحديث أنس هذا قد نزله أكثر الناس كالبغوي على نوم الجالس. ودفع هذا التأويل بأن في رواية أنس عند البزار وأبي يعلى "يضعون جنوبهم". قال الهيثمي: رجالهما رجال الصحيح، لكن رواه أحمد بن حنبل عن يحيى القطان بسنده، والترمذي عن بندار عنه بدون هذه الزيادة، وقيل: يحمل على النوم الخفيف، فإن وضع الجنب لا يستلزم النوم الكثير المستغرق، وكذا الغطيط والإيقاظ، فإنه قد يغط من هو في مبادئ نومه قبل إستغرافه، وكذا الإيقاظ قد يكون لمن هو في مبادئ النوم، فينبه لئلا يستغرقه. وبالجملة حديث أنس هذا يدل على أن يسير النوم لا ينقض الوضوء.
(3/60)
319- قوله: (إن الوضوء) أي
وجوبه. (على من نام مضطجعا) كذا في جميع النسخ للمشكاة بلفظ "إن الوضوء"
الخ. وكذا وقع في المصابيح، ورواه الترمذي بلفظ "إن الوضوء لا يجب إلا على من
نام مضطجعا"، وأبوداود بلفظ "إنما الوضوء على من نام مضطجعا"، وفي
كلتا الروايتين القصر على أنه لا ينقض الوضوء إلا نوم المضطجع لا غير ولو إستغرقه
النوم، بخلاف اللفظ الذي ذكره المصنف عن المصابيح، فإنه لا يدل على القصر، فالجمع
بين حديث ابن عباس هذا على ما رواه الترمذي وأبوداود، وبين حديث أنس عند البزار وأبي
يعلى وغيرهما بلفظ "يضعون جنوبهم" إن ثبتت هذه الزيادة: أن حديث ابن
عباس خرج على الأغلب، فإن الأغلب على من أراد النوم الاضطجاع، فلا معارضة. وقال.
الزرقاني: هذا ونحوه محمول عند مالك على ما إذا كان النوم ثقيلا-انتهى. (فإنه إذا
اضطجع استرخت) أي فترت
مفاصله)) رواه الترمذي وأبوداود.
(3/61)
وضعفت ولانت. (مفاصله) جمع مفصل، وهو رؤس العظام والعروق، يعنى أن الاضطجاع سبب لاسترخاء المفاصل فلا يخلو عن خروج شيء من الريح عادة، أي هو من عادة النائم المضطجع، والثابت بالعادة كالمتيقن به. واعلم أنه اختلف الناس في انتقاض الوضوء بالنوم على أقوال ثمانية، ذكرها النووي في شرح مسلم، وتبعه غيره، وهذه الأقوال ترجع إلى ثلاثة: الأول أن النوم ينقض الوضوء مطلقا على كل حال قليلة وكثيرة. والثاني أنه لا ينقض مطلقا. والثالث الفرق بين قليل النوم وكثيرة، وهو قول فقهاء الأمصار، والصحابة الكبار، والتابعين، وهو قول الأئمة الأربعة، وهذا هو الحق، فالنوم ليس بحدث أي ليس بناقض للوضوء بنفسه، بل لأنه سبب لاسترخاء المفاصل الداعي للخروج عادة. ثم اختلف هؤلاء في بيان قدر القليل والكثير، وتحديد النوم المعتبر في نقض الوضوء، وتعيين المقدار الذي يكون سببا لاسترخاء المفاصل، ولا يبقى فيه الشعور والإحساس ويغلب فيه العقل، على أقوال كثيرة ليس هذا محل بسطها، إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى شرح مسلم للنووي، وشرح الترمذي لابن العربي، والمغني لابن قدمة المقدسي. والراجح عندي: أن النوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدارك ناقض سواء كان من المضطجع والمستلقي أو غيرهما، فالاستغراق والغلبة على العقل هو الملاك عندي، فإذا حصل ذلك انتقض الوضوء على أي هيئة كان النائم، ولا يقصر الحكم على هيئة الاضطجاع كما يدل عليه حديث ابن عباس، فإنه ضعيف، ولا ينتقض الوضوء بنوم المضطجع إن كان النوم غير مستغرق. (رواه الترمذي وأبوداود) كلاهما من طريق يزيد بن عبدالرحمن أبي خالد الدالاني، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، ولم يحكم الترمذي عليه بشيء من الصحة والضعف إلا قوله "إن سعيد بن أبي عروبة رواه عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس قوله " ولم يذكر فيه أبالعالية، ولم يرفعه، وهو حديث ضعيف، ضعفه الترمذي في العلل المفرد، والبخاري وأحمد بن حنبل
(3/62)
والدارقطني والمنذري والبيهقي
وأبوداود والبغوي وغيرهم. قال أبوداود: قوله "الوضوء على من نام مضطجعا"
هو حديث منكر، لم يروه إلا يزيد أبوخالد الدالاني عن قتادة. وروى أوله جماعة عن
ابن عباس، لم يذكروا شيئا من هذا، وقال يعني ابن عباس، أو الراوي عنه: وكان النبي
- صلى الله عليه وسلم - محفوظا. وقالت عائشة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
تنام عيناي ولا ينام قلبي. وقال شعبة: إنما سمع قتادة عن أبي العالية أربعة
أحاديث، يعنى وليس منها حديث يزيد أبي خالد الدالاني فيكون منطقعا. قال أبوداود:
وذكرت حديث يزيد الدالاني لأحمد بن حنبل فانتهرني استعظاما له، فقال: ما ليزيد
الدالاني يدخل على أصحاب قتادة ولم يعبأ بالحديث؟ وقال البيهقي: تفرد بهذا الحديث
على هذا الوجه يزيد بن عبدالرحمن أبوخالد الدالاني. قال الترمذي يعنى في العلل
المفرد: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال: هذا لا شيء. ورواه ابن أبي عروبة، عن
قتادة، عن ابن عباس قوله، ولم يذكر فيه أبا العالية، ولا أعرف لأبي خالد الدالاني
سماعا من قتادة، وقال المنذري: قال أبوالقاسم البغوي: يقال إن قتادة لم يسمع هذا
الحديث من أبي العالية. وقال الدارقطني: تفرد به يزيد الدالاني عن قتادة ولا يصح.
وذكر ابن حبان أن يزيد الدالاني كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، يخالف الثقات في
320- (20) وعن بسرة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مس أحدكم
ذكره، فليتوضأ)) رواه مالك وأحمد وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي.
(3/63)
الرواية حتى إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة علم أنها معلولة أو مقلوبة، لا يجوز الاحتجاج بها إذا وافق الثقات فيكف إذا انفرد عنهم بالمعضلات. وذكر أبوأحمد الكرابيسى الدالاني بهذا فقال: لا يتابع في بعض أحاديثه. وسئل أبوحاتم الرازي عن الدالاني هذا فقال: صدوق ثقة. وقال أحمد بن حنبل: يزيد لا بأس به. وقال ابن معين والنسائي: ليس به بأس. وقال البيهقي: فأما هذا الحديث فإنه أنكره على أبي خالد الدالاني جميع الحفاظ، وأنكر سماعه من قتادة أحمد بن حنبل، والبخاري وغيرهما. ولعل الشافعي وقف على علة هذا الأثر حتى رجع عنه في الجديد، هذا آخر كلامه. ولو فرض استقامة حال الدالاني، كان فيما تقدم من الانقطاع في إسناده ومخالفه الثقات ما يعضد قول من ضعفه من الأئمة –انتهى كلام المنذري. والحديث الذي أشار إليه أبوداود في كلامه أنه رواه جماعة عن ابن عباس ولم يذكروا فيه شيئا مما انفرد به الدالاني، هو ما رواه أحمد ومسلم وأبوداود عن ابن عباس، قال: بت عند خالتي ميمونة فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، وفيه "ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فآذانه بالصلاة فقام فصلى ولم يتوضأ" وهذا هو الصحيح، وكون حديث يزيد أبي خالد الدالاني ضعيفا هو الراجح عندي، ولا ينجبر ضعفه بما له من الطرق والشواهد، وإن جنح إليه العلامة الشوكاني، وعليك أن ترجع للوقوف على تفصيل الكلام في حديث ابن عباس هذا إلى عون المعبود (ج1: ص80) والتلخيص الحبير.
(3/64)
320- وقوله. (وعن بسرة) بضم
الموحدة وسكون المهملة، ابنة صفوان بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى القرشية الأسدية
صحابية، لها سابقة وهجرة قديمة، عاشت إلى ولاية معاوية، لها أحد عشر حديثا، روى
عنها عبدالله بن عمرو بن العاص، وعروة، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ولها صحبة،
ومروان، وحميد بن عبدالرحمن بن عوف، وسعيد بن المسبب، قال مصعب: كانت من
المبايعات، وكانت أخت عقبة بن أبي معيط لأمه. (إذا مس أحدكم) أي بيده من غير حائل
لما سيأتي من حديث أبي هريرة. (فليتوضأ) أي وضوءه للصلاة كما في حديث ابن عمر عند
الدارقطني، وحديث بسرة عند ابن حبان. والحديث فيه أن مس الرجل ذكره بيده ناقض
للوضوء، والمراد مسه من غير حائل ببطن الكف كان أو بظهره، وهو أي انتقاض الوضوء
بمس الذكر قول جماعة من الصحابة والتابعين، ومن أئمة المذاهب أحمد والشافعي، وهو
المشهور من مذهب مالك، وكذلك مس المرأة فرجها، لما روى أحمد والبيهقي من حديث عمرو
بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعا "أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست
فرجها فلتتوضأ". قال الترمذي في العلل عن البخاري: هو عندي صحيح. وهو صريح في
عدم الفرق بين الرجل والمرأة. (رواه مالك) الخ. وأخرجه أيضا الشافعي في الأم، وابن
خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي، وصححه أحمد والبخاري وابن معين
والترمذي،
321- (21) وعن طلق بن علي، قال: ((سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مس
الرجل ذكره بعد ما يتوضأ. قال: وهل هو إلا بضعة منه.
وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وصححه أيضا الدارقطني وابن
خزيمة وابن حبان وابن السكن والحاكم والبيهقي وابن عبدالبر وأبوحامد بن الشرقي
والحازمي والنووي والحافظ وآخرون، وضعفه الطحاوى وحده، وهو مندفع كما سيأتي، ولم
يثبت عن ابن معين تضعيفه، قاله ابن الجوزى.
(3/65)
321- قوله: (وعن طلق بن علي) بن طلق بن عمرو، ويقال: ابن علي بن المنذر بن قيس بن عمرو الحنفي السحيمي اليمامي، يكنى أبا علي. وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم -: ، وعمل معه في بناء المسجد، وروى عنه، وله أربعة عشر حديثا، روى عنه ابنه قيس، وابنته خالدة، وعبدالله بن بدر، وعبدالرحمن بن علي شيبان. (هل هو إلا بضعة) بفتح الموحدة، أي قطعة لحم، وقد تكسر الباء أيضا في هذا المعنى كما في النهاية واللسان. (منه) أي من الرجل، وفي بعض النسخ "منك" وكذا وقع في رواية النسائي، يعني فهو كمس بقية أعضائه فلا ينتقض الوضوء بمسه. والحديث دليل على ما هو الأصل من عدم نقض مس الذكر للوضوء، وإليه ذهبت الحنفية، وأجابوا عن حديث بسرة بأجوبة تزيد على عشرة، كلها واهية مردودة، ذكر خمسة منها شيخنا في شرح الترمذي مع الرد عليها، وهاك بقيتها. قالوا: حديث بسرة من رواية عروة، عن مروان، وهو مطعون في عدالته لفسقه، أو عن حرسيه، وهو مجهول. وأجيب عنه بما قال عروة: كان مروان لا يتهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الصحابي، واعتمد مالك على حديثه، واحتج به البخاري في صحيحه، فهو من رجال الموطأ والبخاري، وقد أخذ عروة منه هذا الحديث قبل أن يبدو منه ما بدا من الفسق والخلاف على ابن الزبير، قال ابن حزم: لا نعلم لمروان شيئا يجرح به قبل خروجه على ابن الزبير، وعروة لم يلقه إلا قبل خروجه على أخيه، وأيضا قد ثبت أن عروة سمعه من بسرة من غير واسطة، كما جزم به ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم من أئمة الحديث، وارجع للتفصيل إلى التلخيص (ج1: 45) والمستدرك للحاكم (ج1: ص137) وتعليق الترمذي للشيخ أحمد محمد شاكر. وعدم إخراج الشيخين حديث بسرة في صحيحهما لا يدل على أنه لم يثبت عندهما سماع عروة من بسرة، فكم من حديث صحيح متصل على شرطهما لم يخرجاه في صحيحهما ولم يرد ابن المديني على يحيى بن معين قوله في مناظرته "ثم لم يقنع ذلك عروة حتى أتى بسرة
(3/66)
فسألها وشافهته بالحديث"، وأقره عليه أحمد وصوبه، فدل ذلك على أن سماع عروة من بسرة ثابت عند هؤلاء الأئمة الثلاثة ولذا صح أحمد وابن معين حديث بسرة، وقالوا: حديث بسرة مضطرب الإسناد، فرواه بعضهم عن عروة عن مروان عن بسرة، وبعضهم عن عروة عن بسرة، من غير واسطة مروان. وفيه أن هذا الإختلاف ليست علة يضعف بها الحديث؛ لأن الحديث سمعه عروة أولا من مروان عن بسرة، ثم أتى بسرة فشافهته بالحديث وسمعه منها من غير واسطة، وكان الرواة يسمعونه منه ويرويه عنهم غيرهم، فتارة يجعلونه عن عروة عن مروان عن بسرة، وتارة يجعلونه عن عروة عن بسرة، وهذا كما
(3/67)
ترى ليس باختلاف يقدح في صحة الحديث وقالوا: إن هشام بن عروة الراوي له عن أبيه لم يسمعه من أبيه كما تدل عليه رواية الطبراني وفيه أن رواية أحمد والترمذي والحاكم صريحة في أن هشاما سمعه من أبيه، ثم لو صحت هذه العلة ما أثرت؛ لأن غير هشام من الثقات رواه سماعا من عروة، وهو عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبوه أبوبكر، كما تدل عليه رواية مالك وأحمد وابن الجارود. وقالوا: الحديث يروى عن امرأة ، والحكم متعلق بالرجال فكيف تختص بروايته النساء وفيه أنه لم يختص النساء بروايته كما سيأتي. وقالوا: المسألة التي تعم بها البلوى لا يعتبر فيها خبر واحد لا سيما مثل هذا الخبر. وفيه أن هذه القاعدة التي اخترعها الحنفية لرد الأحاديث الصحيحة باطلة، قد أبطلها الشوكاني في إرشاد الفحول (ص49) وابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام(ج2: ص20،12) وابن قدامة في جنة المناظر (ج1:ص327) فارجع إلى تلك الكتب. ولو سلمت هذه القاعدة،فالحديث ليس من أخبار الآحاد، بل هو أشهر من حديث الوضوء بالنبيذ، رواه سبعة عشر من الصحابة. وقالوا: على تسليم صحته لا حجة فيه؛ لأنه متروك الظاهر عند الكل إجماعا، فإن المس لغة مطلق فما قيدوه من القيود بالشهوة، أو بباطن اليد، أو بعدم الحائل، أونحو ذلك، تقييدات لإطلاق الحديث، وصريح في أنهم أيضا لا يقولون بالحديث. وفيه أن المراد بالمس، المس باليد، سواء كان بباطنها أو بظهرها، لكن من غير حائل، يدل على ذلك حديث أبي هريرة الآتي، والروايات يفسر بعضها بعضا، فقد قلنا بأحاديث الباب، وعملنا بها وأما القيود الأخرى مما ذكرها فقهاء الشافعية وغيرهم، فلا نلتفت إليها؛ لأنها لا أثر لها في الأحاديث وقالوا: اضطرب القائلون بانتقاض الوضوء في مصداق حديث بسرة على أقوال كثيرة، وفروع مختلفة، تبلغ إلى قريب من أربعين، بسطها ابن العربي في شرح الترمذي، واختلافهم في مصداق الرواية الواحدة يورث الشبهة في الاحتجاج
(3/68)
بها، فإنه يدل على أنه لم
يتحقق عندهم، ولم يتعين محمل الحديث، فلو صح الحديث وثبت ترجحه على حديث طلق فمجمل
أيضا، لم يظهر مراده عند القائلين به، ولا خلاف بين القائلين بعدم النقض. وفيه أن
معنى الحديث بين، ومصداقه ظاهر، ومحمله متعين، لكن عند المنصف الذي يحب السنة
وصاحبها، وأما المتعسف الذي يتحيل لرد الأحاديث الصحيحة والسنن الثابتة فهو يتشبث
بمثل هذه الأعذار الواهية الباطلة أبدا، ولا عبرة عندنا باختلاف الشافعية
والمالكية وغيرهم في بيان معنى الحديث، والتفريع عليه بآرائهم وعقولهم، وبالجملة،
الحديث ليس بمجمل بل هو بين المعنى. وقالوا: يحتمل أن يكون مس الذكر كناية عن
الاستطابة بعد البول؛ لأنه غالبا يرادف خروج الحدث، فعبر به عنه، ومثل هذا من
الكنايات كثير فيما يستقبح التصريح بذكره. وفيه أن هذا الاحتمال بعيد جدا، بل هو
باطل، يرده حديث أبي هريرة الذي ذكره المصنف، وأيضا لم يخطر هذا الاحتمال ببال أحد
من الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف، ولم يقل به أحد منهم ، بل حمله جميعهم على
ظاهر معناه الذي يتبادر إليه الذهن. وقالوا: هو مقيد بما إذا خرج منه شيء. وفيه
أنه لا دليل على هذا التقيد فهو مردود على قائله وقالوا: مفعول المس محذوف، تركه
استهجانا بذكره، والمعنى "من مس ذكره بفرج امرأته فليتوضأ" إقامة للداعي
والسبب مقام المدعو والمسبب، فإن التقاء الختانين داع إلى خروج شيء، ونفسه يتغيب
عن البصر، فأدير الأمر على المس احتياطا وتيسيرا. وفيه أنه تحريف معنوي للحديث،
يرده حديث أبي هريرة الآتي بلفظ" أفضى بيده" .
رواه أبوداود والترمذي والنسائي، وروى ابن ماجه نحوه.
322- (22) وقال الشيخ الإمام محي السنة: هذا منسوخ؛ لأن أبا هريرة أسلم بعد قدوم
طلق، وقد روى أبوهريرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أفضى أحدكم
بيده إلى ذكره ليس بينه وبيتها شىء
(3/69)
قال بعضهم: هو رواية بالمعنى على ما فهم الراوي من معنى حديث بسرة. وفيه أن دعوى كون رواية أبي هريرة هذه بالمعنى تمشية للمذهب يمجها العقل والسمع ، فإنه يرتفع بذلك الأمان والوثوق بالروايات، قال هذا البعض: ويمكن أن يأول حديث أبي هريرة بأن المعنى أوصل ذكره بيده إلى فرج امرأته، فإن الإفضاء يستدعي مفعولا، واليد ليست إلا آلة. وهذا كما ترى أضحوكة لا حاجة إلى ردها؛ لأنها أظهر في تحريف الحديث من كل ما قالوا في تأويل حديث بسرة. وقالوا: الأمر في حديث بسرة محمول على الاستحباب، قال بعضهم: هذا يغنينا عن ارتكاب تكلف. وفيه أن الأصل في الأمر الوجوب، وأيضا يرده حديث أبي هريرة عند أحمد بلفظ "من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء"، ويرده أيضا حديث عائشة عند الدارقطني"ويل للذين يمسون فروجهم ولا يتوضئون" فإن دعاء الشر لا يكون إلا بترك واجب. (رواه أبوداود والترمذي والنسائي) أي بهذا اللفظ المذكور، وأخرجه أيضا أحمد، والدارقطني وابن الجارود والبيهقي وصححه عمرو بن علي الفلاس وعلى بن المديني والطحاوي وابن حبان والطبراني وابن حزم، وضعفه الشافعي وأبوحاتم وأبوزرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي. والراجح أن حديث طلق هذا لا ينحط عن مرتبة الحسن، وحديث بسرة أصح وأثبت وأرجح من حديثه؛ لأن حديث طلق لم يحتج الشيخان بأحد من رواته، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته، وأرجح أيضا لكثرة طرقه وصحتها، ولكثرة من صححه من الأئمة كما تقدم، ولكثرة شواهده، فقد روى نحوه ثمانية عشر صحابيا، ومنهم طلق بن على راوى حديث عدم النقض، ذكر تخريج أحاديثهم الحافظ في التلخيص (ج1: ص46، 45)؛ ولأن بسرة حدثت به في دار المهاجرين والأنصار وهم متوافرون، ولم يدفعه أحد، بل علمنا أن بعضهم صار إليه، ولرجحانه على حديث طلق وجوه أخرى لا تخفى على من له خبرة بوجوه الترجيح، وإطلاع على طرق حديث بسرة وحديث طلق. (وروى ابن ماجه نحوه) أي
(3/70)
بمعناه وهو "أنه سئل رسول
- صلى الله عليه وسلم - عن مس الذكر، فقال: ليس فيه وضوء إنما هو منك"
322- قوله: (هذا) أي ما رواه طلق بن علي (منسوخ) وكذا ادعى النسخ ابن حبان،
والطبراني، وابن العربي، والحازمي، وآخرون (لأن أبا هريرة أسلم) عام خيبر في السنة
السابعة (بعد قدوم طلق) من اليمن، وذل في السنة الأولى من الهجرة حينما كان النبي
- صلى الله عليه وسلم - يبنى المسجد، فكان خبر أبي هريرة بعد خبر طلق لسبع سنين.
(إذا أفضى) أي أوصل (أحدكم بيده) الباء للتعدية (ليس بينه وبينها) أي بين ذكره
وبين يده (شيء) أي حائل من الثياب أو غيرها
فليتوضأ)) رواه الشافعي والدارقطني.
323- (23) ورواه النسائي عن بسرة، إلا أنه لم يذكر ((ليس بينه وبينها شيء)).
324- (24) وعن عائشة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل بعض أزواجه
ثم يصلي ولا يتوضأ)).
(فليتوضأ) أي وضوءه للصلاة (رواه الشافعي والدارقطني) وأخرجه أيضا البزار كلهم من
طريق يزيد بن عبدالملك، وقد ضعفه أكثر الناس، ووثقه ابن سعد، وابن معين في رواية،
وأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي والطبراني في الصغير من طريق
نافع بن أبي نعيم، وفيه "فقد وجب عليه الوضوء" بدل قوله
"فليتوضأ". قال ابن حبان: هذا حديث صحيح سنده، عدول نقلته، وصححه الحاكم
وابن عبد البر، وقال ابن السكن: هو أجود ما روي في هذا الباب.
(3/71)
323- قوله: (ورواه النسائي عن بسرة) أي وهي متأخرة الإسلام وفيه أن الأمر بالعكس فإنها قديم هجرتها وصحبتها، كما قال الحازمي وغيره، ولو سلم ذلك لم يكن دليلا كتأخر إسلام أبي هريرة وصحبته على نسخ حديث طلق. قال الشوكاني في النيل: وأيدت دعوى النسخ بتأخر إسلام بسرة وتقدم إسلام طلق، ولكن هذا غير دليل على النسخ عند المحققين من أئمة الأصول- انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج1: ص239) : هذا أي حديث طلق خبر صحيح إلا أنهم لا حجة لهم فيه لوجوه: أحدها أن هذا الخبر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود الأمر بالوضوء من مس الفرج، هذا لا شك فيه، فإذا هو كذلك فحكمه منسوخ يقينا حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوضوء من مس الفرج، ولا يحل ترك ما تيقن أنه ناسخ، والأخذ بما تيقن منه أنه منسوخ. وثانيها أن كلامه عليه السلام "هل هو إلا بضعة منك" دليل بين على أنه كان الأمر بالوضوء منه؛ لأنه لو كان بعده لم يقل عليه السلام هذا الكلام، بل كان يبين أن الأمر بذلك قد نسخ، وقوله هذا يدل على أنه لم يكن سلف فيه حكم أصلا، وأنه كسائر الأعضاء-انتهى. وعندنا: القول بترجيح حديث بسرة أحسن من القول بالنسخ والتضعيف ، وقد تقدمت وجوه ترجيح حديثها على حديث طلق.
(3/72)
324- قوله: (ولا يتوضأ) فيه
دليل عل أن القبلة وهي أقوى من اللمس المجرد ولا تخلوا عادة من مس بشهوة، لا تنقض
الوضوء، وهذا هو الأصل، والحديث مقرر للأصل، وهو القول المعول عليه الراجح عندنا،
ويدل عليه أيضا ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي-الحديث.
واعتذار الحافظ في الفتح عن حديثها هذا، بأنه يحتمل أنه بحائل، أو أنه خاص به،
تكلف ومخالفة للظاهر؛ لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، واحتمال الحائل لا يفكر فيه
إلا مقلد متعصب لإمامه. وما رواه النسائي عنها قالت: إن كان رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ليصلي، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر
مسني برجله. قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح. وقال الزيلعي في نصب الراية:
إسناده على شرط الصحيح. وما رواه مسلم والترمذي عنها، قالت: فقدت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ليلة من الفراش فالتمسته، فوضعت يدي على باطن قدميه
رواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي: لا يصح عند أصحابنا بحال
إسناد عروة عن عائشة رضي الله عنها،
(3/73)
وهو في المسجد وهما منصوبتان-الحديث. وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها الزيلعي في نصب الراية، وهذه الأحاديث تدل على أن المراد بالملامسة من قوله تعالى في سورة المائدة: ?أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء? [5: 6] الجماع دون غيره من معاني اللمس، وبه فسر ابن عباس وعلي رضي الله عنهما، ورجحه ابن جرير في تفسيره حيث قال: هو أولى القولين في ذلك بالصواب، لصحة الخبر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ. وارجع لتفصيل الكلام في الآية إلى أحكام القرآن لأبي بكر الرازي الجصاص. (رواه أبوداود)الخ. وأخرجه أيضا أحمد (ج2: ص21، 22) والدارقطني (ص50، 51) والطبراني في التفسير (ج5: ص67) وضعفه الثوري ويحيى القطان وابن معين والبخاري والبيهقي والدارقطني، ومال أبوداود، وابن عبدالبر إلى تصحيحه كما سيأتي. (وقال الترمذي) بعد إخراجه من طريق وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة (لا يصح عند أصحابنا) أي من أهل الحديث، قاله أبوالطيب السندي، والشيخ سراج أحمد السرهندي في شرحيهما لجامع الترمذي. (بحال) بالتنوين، وقوله "إسناده عروة" بالرفع على أنه فاعل لقوله "لا يصح"، وقوله "وإسناده إبراهيم" عطف على قوله "إسناد عروة" يعني لا يصح سند حديث عروة عن عائشة هذا؛ لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة، وحبيب لم يسمع من عروة فهو منقطع. وكذا لا يصح سند حديث إبراهيم التيمي عن عائشة؛ لأنه أيضا منقطع، إبراهيم لم يسمع عن عائشة بالاتفاق، وقيل: بترك التنوين في "حال" على أنه مضاف إلى "إسناد عروة" والباء للسببية، وفاعل "لا يصح"هو الضمير فيه، يرجع إلى ما يعود عليه الضمير المنصوب في قوله "رواه"، وهو حديث عائشة، والمعنى: لا يصح حديث عائشة هذا لحال إسناده، فإنه روي من طريقين: الأول طريق حبيب، عن عروة، عن عائشة. والثاني طريق أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة، وكلاهما منقطع، وهذا على أن
(3/74)
يكون المراد بعروة، عروة بن
الزبير، وإن كان المراد به عروة المزني فسبب عدم صحته هي جهالة عروة المزني. قال
الترمذي في جامعه بعد إخراجه حديث عائشة، من طريق حبيب، عن عروة، عن عائشة، ما
نصه: وإنما ترك أصحابنا حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا؛ لأنه
لا يصح عندهم لحال الإسناد، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث، وقال:
حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة، وقد روي عن إبراهيم التيمي، عن عائشة: أن النبي
- صلى الله عليه وسلم - قبلها ولم يتوضأ. وهذا لا يصح أيضا، ولا نعرف لإبراهيم
التيمي سماعا من عائشة-انتهى. (إسناد عروة عن عائشة) لم ينسب الترمذي عروة في حديثه،
ونسبه أحمد وابن ماجه في روايتهما، فقالا: عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن
الزبير. وجزم الثوري أنه عروة المزني، وهو مجهول، وبذلك ضعف الحديث، وتبعه وقلده
في ذلك يحيى بن سعيد القطان وابن معين والدارقطني والبيهقي وآخرون. ويظهر من كلام
الترمذي أنه مال إلى كونه عروة بن الزبير، وهو الصحيح عندنا، لرواية أحمد وابن
ماجه هذه. ولأن المطلق يحمل على ما هو المشهور المتعارف،
وأيضا إسناد التيمي عنها. وقال أبوداود: هذا مرسل، وإبراهيم التيمي لم يسمع من
عائشة.
(3/75)
وليس هو إلا عروة بن الزبير. ولأن قول عروة "من هي إلا أنت" في رواية أبي داود والترمذي ظاهر في أنه ابن الزبير؛ لأن المزنى لا يجسر أن يقول ذلك الكلام لعائشة. ولأن هشاما وافق حبيب بن أبي ثابت، فرواه عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة، عند الدارقطني، وهذه قرينة ظاهرة على أنه ابن الزبير في رواية حبيب. وأما سند أبي داود الذي قال فيه: عن عروة المزني. فإنه من رواية عبدالرحمن بن مغراء عن ناس مجاهيل، وابن مغراء ليس بشيء في روايته عن الأعمش. وأما ما حكاه أبوداود عن الثوري أنه قال: ما حدثنا حبيب بن أبي ثابت إلا عن عروة المزني، يعني لم يحدثهم عن عروة بن الزبير بشيء، فلم يسنده أبوداود، وأيضا قال الثوري هذا القول من غير دليل يؤيده، وقد خالفه أبوداود، وأثبت صحة رواية حبيب عن عروة، حيث قال عقبة: وقد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير حديثا صحيحا. يشير بذلك إلى ما رواه الترمذي في الدعوات (ج2: ص205) وقال: هذا حديث حسن غريب، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئا-انتهى. وهذا يدل أولا على أن عروة في هذا الإسناد، هو عروة بن الزبير كما صرح بذلك في رواية أحمد وابن ماجه، خلافا لمن زعم أنه عروة المزني، وثانيا على أنه يرى صحة رواية حبيب عن عروة، وأما قول البخاري: إن حبيبا لم يسمع من عروة، فمبني على شرطه المعروف في الرواية، وهو شرط شديد، خالفه فيه أكثر أهل العلم، وقال ابن عبدالبر: صحح هذا الحديث الكوفييون، وثبتوه لرواية الثقات من أئمة الحديث له، وحبيب لا ينكر لقاءه عروة، ولروايته عمن هو أكبر من عروة وأقدم موتا. وقال في موضع آخر: لا شك أنه أدرك عروة، كذا في نصب الراية (ج1: ص72). ومن هذا كله ظهر أن أبا داود وابن عبدالبر قد صححا سماع حبيب من عروة بن الزبير، ولم يلتفتا إلى كون حبيب مدلسا. وحاصل ما علل به المضعفون طريق حبيب عن عروة عن عائشة: أن عروة
(3/76)
المذكور هنا إن كان هو المزني،
كما قاله البيهقي وغيره، فهو مجهول، وإن كان هو ابن الزبير، وهو ما يدل عليه كلام
الترمذي ، وبه صرح أحمد وابن ماجه في روايتهما، فالحديث منقطع، لكون حبيب بن أبي
ثابت لم يدركه، فيكون ضعيفا لأنقطاعه، وقد عرفت ما فيه. ومع كل هذا، فإن حبيبا لم
ينفرد برواية هذا الحديث، وقد تابعه عليه هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عند
الدارقطني (ج1: ص50) وتكلم الدارقطني فيه بلا حجة بينه ودليل ظاهر. وقد جاء الحديث
بأسانيد أخرى عند أحمد وابن ماجه والبزار والدارقطني والطبري، بعضها حسن جيد، وبعضها
يقارب الحسن، ينجبر بها ضعف الانقطاع في حديث حبيب، عن عروة، عن عائشة، لو سلم.
وانظر هذه الروايات في نصب الراية (ج1: ص75، 72). (وأيضا إسناد إبراهيم التيمي
عنها) بين الترمذي سببه بقوله: ولا نعرف لإبراهيم التيمي سماعا من عائشة-انتهى.
وحديث إبراهيم التيمي هذا، رواه أحمد وأبوداود والنسائي والدارقطني، كلهم من طريق
الثوري، عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة (قال أبوداود: هذا مرسل) أي
منقطع (وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة)
325- (25) وعن ابن عباس، قال: ((أكل رسول الله- صلى الله عليه وسلم -كتفا ثم مسح
يده بمسح كان تحته، ثم قام فصلى)) رواه أبوداود، وابن ماجه.
326- (26) وعن أم سلمة رضي الله عنها، أنها قالت: ((قربت إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم -جنبا مشويا فأكل منه ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ)) رواه أحمد.
?الفصل الثالث?
327- (27) عن أبي رافع، قال: ((أشهد لقد كنت أشوي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم
- بطن الشاة،
(3/77)
هذا ما اتفقا عليه أئمة الجرح
والتعديل، وقال الدارقطني بعد أن صرح بعدم سماع إبراهيم عن عائشة: وقد روى هذا
الحديث معاوية بن هشام، عن الثوري، عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن
عائشة، فوصل إسناده. ومعاوية هذا، أخرج له مسلم في صحيحه، ووثقه أبوداود، وذكره
ابن حبان في الثقات، ومن هذا يتبين أن رواية إبراهيم التيمي عن عائشة هنا لها أصل،
وليست من الضعيف الذي يعرض عنه، وقد تكلم الدارقطني في رواية معاوية بن هشام
الموصولة، لكن لم ينصف في الكلام كما لا يخفى. وإبراهيم التيمي هذا هو إبراهيم بن
يزيد بن شريك التيمي، تيم الرباب، أبوأسماء الكوفي العابد، قال في التقريب: ثقه
إلا أنه يرسل ويدلس، من صغار التابعين، مات سنة (92) وله أربعون سنة، وأما عروة بن
الزبير، فهو عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، أبوعبدالله المدني، ولد
سنة (23) وكان من كبار التابعين، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وقال الحافظ:
ثقة فقيه مشهور. مات سنة (94) على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عمر الفاروق،
وأما عروة المزني، فهو شيخ لا يدرى من هو؟
325- قوله: (كتفا) بفتح الكاف وكسر التاء، وبكسر الكاف وسكون التاء، وبفتح الكاف
والتاء معا، ثلاث لغات، والمعنى لحم كتف شاة مشوي. (بمسح) بكسر الميم، ثوب من
الشعر غليظ. (كان تحته) أي تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ثم قام) أي إلى
الصلاة. (فصلى) أي ولم يتوضأ، وفيه دليل على أن أكل ما مسته النار لا ينقض الوضوء،
وأن غسل اليد بعد الطعام ليس بواجب، بل يكفي مسحها. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو
والمنذري. (وابن ماجه) وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، وأصله في الصحيحين كما
تقدم.
(3/78)
326- قوله: (جنبا) أي ضلعا.
(مشويا) من شوى اللحم يشوى شيئا، أي عرضه للنار فنضج. (ولم يتوضأ) أي لا شرعيا ولا
لغويا لبيان الجواز. (رواه أحمد) (ج6: ص307) وأخرجه أيضا الترمذي في الأطعمة،
وقال: حسن صحيح غريب.
327- قوله: (عن أبي رافع) مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -. (أشهد) أي أقسم
بالله. (لرسول الله) أي لأكله. (بطن الشاة) يعني
ثم صلى ولم يتوضأ)) رواه مسلم.
328- (28) وعنه، قال : ((أهديت له شاة، فجعلها في القدر، فدخل رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فقال: ما هذا يا أبا رافع؟ فقال: شاة أهديت لنا يا رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فطبختها في القدر. قال: ناولني الذراع يا أبا رافع فناولته
الذراع. ثم قال: ناولني الذراع الآخر، فناولته الذراع الآخر. ثم قال: ناولني
الذراع الآخر: فقال: يا رسول الله إنما للشاة ذراعان. فقال له رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: أما إنك لو سكت لناولتني ذراعا فذرعا ما سكت. ثم دعا بماء
فتمضمض فاه،
الكبد والطحال وما معهما من القلب وغيرهما. (ثم صلى) أي فأكل ثم صلى، وكان القياس
ثم يصلى، لكن أتى به ماضيا؛ لأن قوله "كنت أشوى" ماض في المعنى؛ لأنه
حكاية لصورة الحال الماضية. (رواه مسلم) في الطهارة، أخرجه أيضا أحمد (ج6: ص8، 9)
.
(3/79)
328- قوله: (أهديت له) أي لأبي
رافع. (شاة) برفعها على الفاعل، قيل: فيه التفات، والأظهر أنه نقل بالمعنى.
(فجعلها في القدر) بكسر القاف أي للطبخ. (يا أبا رافع) يقرأ بالهمزة ولا تكتب.
(ناولني الذراع) بكسر الذال من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى والساعد مؤنثة
فيهما، وقد تذكر. وخص النبي - صلى الله عليه وسلم - الذراع بالطلب لمحبته
واستحسانه للذراع، لسرعة نضجها، واستمرائها، مع زيادة لذتها، وحلاوة مذاقها،
وبعدها عن مواضع الأذى. (فقال) أي أبورافع على سبيل الإلتفات، وفي رواية لأحمد
"فقلت له". (إنما للشاة ذراعان) وفي رواية لأحمد "وهل للشاة إلا
ذراعان"، وفي حديث أبي عبيد عند الدرامي، والترمذي في الشمائل "وكم
للشاة ذراع"، والظاهر أن هذا استفهام استبعاد لا إنكار؛ لأنه لا يليق بهذا
المقام، قاله القاري. (أما) بالتخفيف للتنبيه. (إنك لو سكت) أي عما قلت، وامتثلت
أدبي. (لناولتني ذراعا فذراعا ما سكت) أي ما سكت أنت وطلبت أنا. قال الطيبي: الفاء
في "فذراعا للتعاقب، كما في قوله: الأمثل فالأمثل. و"ما" في
"ما سكت" للمدة، والمعنى ناولتني ذراعا غب ذراع إلى ما لا نهاية له
مادمت ساكتا، فلما نطقت انقطعت-انتهى. وفي رواية لأحمد "لو سكت لناولتني منها
ما دعوت به" أي ما طلبته، من الدعوة بالفتح؛ لأن الله تعالى يخلق ما يشاء،
وكان يخلق فيها ذراعا بعد ذراع معجزة وكرامة له - صلى الله عليه وسلم -، وإنما منع
كلامه من ذلك، قيل: لأنه شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التوجه إلى ربه،
بالتوجه إليه أو إلى جواب سؤاله. وقيل: لأن ظهور شيء من عالم الغيب على سبيل خرق
العادة مشروط بأن لا يتطرق إليه الشك والتردد، ولا يقع شيء من الخلل والنقص في
اليقين والتصديق،
وغسل أطراف أصابعه، ثم قام فصلى، ثم عاد إليهم، فوجد عندهم لحما باردا فأكل، ثم
دخل المسجد فصلى ولم يمس ماء)) رواه أحمد.
(3/80)
329- (29) ورواه الدارمي عن
أبي عبيد إلا أنه لم يذكر ((ثم دعا بماء)) إلى آخره.
330- (30) وعن أنس بن مالك، قال: (كنت أنا، وأبي، وأبوطلحة جلوسا، فأكلنا لحما
وخبزا، ثم دعوت بوضوء، فقالا: لم تتوضأ؟ فقلت: لهذا الطعام الذي أكلنا. فقالا:
أتتوضأ من الطيبات؟ لم يتوضأ منه من هو خير منك)) رواه أحمد.
331- (31) وعن ابن عمر، كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسها
والله أعلم. (وغسل أطراف أصابعه) أي محل الدسومة والتلوث على قدر الحاجة. (ثم عاد
إليهم) أي إلى أبي رافع وأهل بيته. (فوجد عندهم لحما باردا فأكل) ؛ لأنه كان يجب
اللحم وما كان يجده دائما. (ولم يمس ماء) أي للوضوء ولا لغسل الفم قبل الصلاة.
(رواه أحمد) (ج6: ص392) أي عن أبي رافع مطولا هكذا، ورواه أيضا عنه مختصرا (ج6:
ص8) مثل رواية الدارمي عن أبي عبيد.
329- قوله: (ورواه الدارمي عن أبي عبيد) في باب ما أكرم به النبي - صلى الله عليه
وسلم - في بركة طعامه، من أول مسنده، وكذا رواه الترمذي في شمائله، كلاهما من طريق
شهر بن حوشب، عن أبي عبيد. قال الحافظ في الإصابة (ج4: ص131): ورجاله رجال الصحيح
إلا شهر بن حوشب. وأبوعبيد هذا، مولى للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وصحابي لا
يعرف اسمه، له هذا الحديث فقط.
(3/81)
330- قوله: (وأبي) أي أبي بن
كعب. (وأبو طلحة) اسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري النجاري المدني
مشهور بكنيته، من كبار الصحابة، شهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها، وهو أحد النقباء،
وزوج أم سليم أم أنس ابن مالك، وكان من الرماة المذكورين. وقال النبي - صلى الله
عليه وسلم -: لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة. قتل يوم حنين عشرين رجلا، وأبلى
يوم أحد بلاء عظيما، وشلت يده التي وقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، له
اثنان وتسعون حديثا، اتفقا على حديثين، انفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر، روى عنه
نفر من الصحابة والتابعين. مات سنة (34) وقال أنس: عاش بعد النبي - صلى الله عليه
وسلم - أربعين سنة، لم يفطر فيها إلا يوم أضحى أو فطر، وكان في أيام النبي - صلى
الله عليه وسلم - لا يصوم لاشتغاله بالغزو، وعلى هذا يكون وفاته سنة (51)، وبه جزم
المدائني، قيل: وهذا أثبت. (أتتوضأ من الطيبات) فيه أن نفض الوضوء إنما يكون بخبيث
ينافيه كالخارج من السبيلين، وهو معقول المعنى، وغيره ألحق به وإن لم يكن معقول
المعنى، كالنوم والإغماء والجنون؛ لأنه مظنة لخروج الخبيث. (لم يتوضأ منه) أي من
مثل هذا الطعام. (من هو خير منك) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، (رواه أحمد)
قال الهيثمي (ج1: ص251) ورجاله ثقات.
331- قوله: (قبلة الرجل امرأته) بالنصب على المفعولية. (وجسها) بفتح الجيم وتشديد
السين المهملة أي مسها.
بيده، من ملامسه. ومن قبل امرأته أو جسها بيده، فعليه الوضوء)) رواه مالك،
والشافعي.
332- (32) وعن ابن مسعود، كان يقول: (من قبلة الرجل امرأته الوضوء) رواه مالك.
333- (33) وعن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: (إن القبلة من اللمس،
فتوضؤوا منها.
(3/82)
(بيده) أي بلا حائل. (من
الملامسة) أي المذكورة في قوله تعالى: ?أو لامستم النساء?. (ومن قبل امرأته أوجسها
بيده) فقد لامس، ومن لامس. (فعليه الوضوء) قال الطيبي: تفريع على ما أصله من قبل،
أى إذا كان التقبيل والجس من الملامسة فيلزم أن يتوضأ من قبل أو جس، والترتيب مفوض
إلى ذهن السامع. (رواه مالك) عن الزهري، عن سالم بن عبدالله، عن أبيه عبدالله بن
عمر. (والشافعي) عن مالك في الأم (ج1: ص12) وأخرجه أيضا الدارقطني (ج1: ص53) عن
الحسين بن إسماعيل، عن أحمد بن إسماعيل، عن مالك. ومن طريق الشافعي رواه البيهقي
(ج1: ص124) .
332- قوله: (من قبلة الرجل) من إضافة المصدر لفاعله. (امرأته) بالنصب على أنه
مفعول "قبلة"؛ لأنها اسم مصدر. (الوضوء) مبتدأ مؤخر أي يجب منها الوضوء.
قال الطيبي: في تقديم الخبر على المبتدأ المعرف إشعار بالخلاف، ورد على من يقول:
ليس حكم التقبيل والجس حكم سائر النواقض، فرد وقيل: ليس حكمه إلا كحكمها، فيكون من
قصر القلب. (رواه مالك) أنه بلغه أن عبدالله بن مسعود كان يقول: "من قبلة
الرجل" الخ. وقد أخرج الطبراني والدارقطني والبيهقي وغيرهم بأسانيدهم نحوه،
بألفاظ متقاربة، بمعنى أن اللمس ما دون الجماع، فمن قبل أو لمس فعليه الوضوء.
(3/83)
333- قوله: (إن القبلة من
اللمس) أي المذكور في الآية. (فتوضؤوا منها) رواه الدارقطني (ج1: ص53) كما قال
المصنف، وقال صحيح. وقال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر أثر عمر عن البيهقي (ج1:
ص124) بنحو ما رواه الدارقطني: أما أثر عمر فضعفه ابن عبدالبر في التمهيد وقال: هو
عندهم خطأ، وهو صحيح عن ابن عمر لا عن عمر –انتهى. وهذه الآثار الثلاثة كلها
موقوفة على بعض الصحابة، ممن قالوا بكون اللمس ناقضا، وليست في حكم المرفوع، إذ
للرأي فيه مجال فإنهم أخذوه من قوله تعالى: ?أو لمستم النساء? واستنبطوه عما فهموا
من هذه الآية، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدم النقض بالقبلة واللمس،
كما تقدم عن عائشة، وهو من أقوى القرائن على أن المراد باللمس في الآية هو الجماع،
وبه فسر حبر القرآن عبدالله بن عباس وعلي رضي الله عنهما، فيجب الأخذ بالحديث
المرفوع الصحيح الصريح، ولا ينبغي التردد في تفسير الآية، التفسير الصحيح أن اللمس
كناية عن الجماع؛ لأنه لا حجة في قول الصحابي عند معارضة الحديث المرفوع الصحيح.
334- (34) وعن عمر بن عبدالعزيز، عن تميم الداري، قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: ((الوضوء من كل دم سائل))
(3/84)
334- قوله: (وعن عمر بن عبدالعزيز) هو عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، القرشي الأموي، أبوحفص المدني، ثم الدمشقي، أمير المؤمنين، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، واسمها ليلى. ولي إمرة المدينة للوليد، وكان مع سليمان كالوزير، وولى الخلافة بعده سنة (99) فعد مع الخلفاء الراشدين مات في رجب سنة (101) بدير سمعان من أرض حمص، وله أربعون سنة، ومدة خلافته سنتان وخمسة أشهر وأيام، وكان على صفة من الزهد، والعبادة، والتقى، والعفة، وحسن السيرة لاسيما أيام خلافته. وقال ميمون بن مهران: ما كانت العلماء عند عمر إلا تلامذته. وقال هشام بن حسان: لما جاء نعي عمر قال الحسن البصري: مات خير الناس. ومناقبة وفضائله كثيرة جدا. (عن تميم الداري) نسبة إلى أحد أجداده، الدار بن هاني بن حبيب، وهو تميم بن أوس بن خارجة الداري، أبورقية بقاف وتحتانية مصغرا، صحابي مشهور، سكن بيت المقدس بعد قتل عثمان، وكان إسلامه سنة (9) وكان من أهل الكتابيين، وقال ابن سيرين: كان يختم في ركعة. وقال مسروق: صلى ليلة حتى أصبح يقرأ آية يرددها ?أم حسب الذين يجترحون السيئات? وهو أول من أسرج السراج في المسجد، وكان أقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت حبرون. له ثمانية عشر حديثا، انفرد له مسلم بحديث، روى عنه سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - خبر الجساسة، وناهيك بهذه المنقبة الشريفة، قيل: مات سنة (40) وروى عنه أيضا جماعة. (الوضوء من كل دم سائل) أي كثير فاحش لا قليل. فيه أن خروج الدم السائل ولو كان من غير السبيلين، ناقض للوضوء، وإليه ذهب بعض الأئمة، لكن الحديث ضعيف جدا، لا يصلح للاحتجاج كما سيأتي، وقد استدل القائلون بالوضوء من الخارج النجس من غير السبيلين، كالقئ ملء الفم، والرعاف والدم الفاحش، بأحاديث وآثار عن الصحابة، وليس في شيء من ذلك حجة أصلا، فمن أقوى أدلتهم حديث عائشة عند البخاري وغيره، في
(3/85)
شأن فاطمة بنت أبي حبيش، وكانت
من المستحاضات، ففيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما ذلك عرق، وفيه أيضا ثم
توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت، قالوا: المراد من السبيلين، سبيل البول وسبيل
البراز، ودم الاستحاضة لا يخرج من ثقب البول، علم أن دم الاستحاضة وهو مما يخرج من
غير السبيلين، من نواقض الوضوء، وأشير بقوله "إنما ذلك عرق" إلى تعميم
الحكم بانتقاض الوضوء من خروج الدم من أي عرق كان من البدن غير السبيلين. وفيه أن
فرج المرأة وقبلها الذي يخرج منه دم الاستحاضة، في حكم مخرج البول للمجاورة، ولذا
عد الحيض والمني من نواقض الطهارة وأيضا دم الاستحاضة حدث بنفسه من جملة الأحدث
المستقلة ناقض للوضوء، ولا يقاس عليه غيره؛ لأن الأصل عدم النقض، حتى يقوم ما يرفع
هذا الأصل، ولم يقم دليل على ذلك. وأما قوله "إنما ذلك عرق" فإنما أراد
به رد زعمها: أن دم الاستحاضة في حكم دم الحيض لا غير، يعني أن دمها ليس مما
تعتاده النساء بل هو دم عرق انفجرت
رواهما الدارقطني، وقال: عمر بن عبدالعزيز لم يسمع من تميم الداري ولا رآه، ويزيد
بن خالد، ويزيد بن محمد مجهولان.
(3/86)
لمرض، فافهم. واستدلوا أيضا بحديث أبي الدرداء عند الترمذي، وفيه "قا فتوضأ" ولا حجة لهم فيه، لاحتمال أن تكون الفاء للتعقيب فقط لا للسببية، كما في قوله: قاء فأفطر. ولو سلم أن الفاء للسببية، لم تدل أيضا على نقض الوضوء بالقيء؛ لأنه قد يتوضأ الإنسان بعده من أجل النظافة، وإزالة القذر الذي يبقى في الفم والأنف، وعلى بعض الأعضاء، فالقيء سبب له، ولكنه سبب عادي طبيعي، ولا يكون سببا شرعيا إلا بنص صريح من الشارع، والحاصل أن وجوب الوضوء أو نقض الوضوء لا يثبت بالفعل فقط؛ لأن الفعل لا يدل على الوجوب إلا أن يفعله ويأمر الناس بفعله، أو ينص على أن هذا الفعل ناقض للوضوء. ومن أصرح أدلتهم ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة مرفوعا "من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ" الحديث. وفيه أنه حديث ضعيف، ضعفه أحمد وغيره، وقد ذكر العلامة الشوكاني في النيل، والزيلعي في نصب الراية، ما فيه من العلة وكلام الأئمة مفصلا، فارجع إليهما. واستدلوا بأحاديث أخرى كلها ضعيفة ساقطة لا تقوم بها حجة، وأيضا هي معارضة لما ذكره البخاري معلقا عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة ذات الرقاع، فرمى رجل بسهم، فنزفه الدم، فركع وسجد، ومضى في صلاته. قال الحافظ: أخرجه أحمد وأبوداود، والدارقطني، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وذكر العيني في شرح الهداية (ج1: ص122) حديث جابر هذا من رواية سنن أبي داود، وصحيح ابن حبان والدارقطني والبيهقي، وزاد فيه: فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فدعا لهما. قال: ولم يأمره بالوضوء، ولا بإعادة الصلاة، انتهى. وفي عدم الانتقاض بخروج الدم من البدن غير السبيلين أحاديث وآثار كلها مقررة للأصل، ذكرها الزيلعي والدارقطني والشوكاني. (رواهما) أي الحديثين السابقين. (الدارقطني) الحديث الثاني رواه الدارقطني من طريق يزيد بن خالد، عن يزيد بن محمد، عن عمر بن عبدالعزيز، قال: قال تميم
(3/87)
الداري: الخ ورواه ابن عدى في
الكامل عن زيد بن ثابت، وفيه أحمد بن الفرج، أبوعتبة الحمصي، وهو ممن لا يحتج
بحديثه، ولكنه يكتب، قاله ابن عدى. وقال ابن أبي حاتم: محله الصدق. وقال ابن حبان
في الثقات: يخطئ. وكذبه محمد بن عوف الطائي. (وقال) أي الدارقطني بعد إخراج
الحديث. (عمر بن عبدالعزيز لم يسمع من تميم الداري ولا رآه، ويزيد بن خالد) قال
الحافظ في لسان الميزان: يزيد بن خالد شيخ لبقية، لا يدرى من هو. (ويزيد بن محمد)
الراوي عن عمر بن عبدالعزيز، قال الحافظ في اللسان: لا يدرى من هو. (مجهولان) هذا
آخر كلام الدارقطني في سننه. وقد ظهر بهذا أن حديث تميم هذا ضعيف من وجهين:
الانقطاع بين عمر بن عبدالعزيز وبين تميم، وجهالة اليزيدين. وذكر الزيلعي كلام
الدارقطني هذا في نصب الراية وأقره.
(2) باب آداب الخلاء
?الفصل الأول?
335- (1) عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا
أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا))
(باب آداب الخلاء) قيل: "الأدب" مراعاة حد كل شيء، وقيل: هو استعمال ما
يحمد قولا وفعلا، ويطلقون الآداب على ما يليق بالشيء، أو بالشخص، فيقال: آداب
الدرس وآداب القاضي. و"الخلاء" بفتح الخاء والمد، موضع فضاء الحاجة، سمى
به لخلاءه في غير أوقات قضاء الحاجة، أو؛ لأن الإنسان يخلو فيه، وأصله الملكان
الخالي، ثم كثر استعماله حتى تجوز به عن ذلك.
(3/88)
335- (1) قوله: (عن أبي أيوب الأنصاري) هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي النجاري، أبوأيوب المدني، شهد العقبة، وشهد بدرا، وأحدا، والمشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل عنده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة شهرا حتى بنى المسجد، وكان مسكنه المدينة، وحضر مع على حرب الخوارج، وورد المدائن في صحبته، وعاش بعد ذلك زمانا طويلا حتى مات بالقسطنطينية مرابطا سنة (51) في خلافة معاوية، وكان ذلك مع يزيد بن معاوية لما غزاه، فخرج معه فمرض، ولما ثقل قال لأصحابه: إذا أنا مت فأحملوني، فإذا صاففتم العدو فادفنوني تحت أقدامكم. قال البغوي: قبر ليلا وأمر يزيد بالخيل تقبل وتدبر حتى عمي قبره. وقال ابن حبان: كان المسلمون على حصار القسطنطينية فقدموه حتى دفن إلى جانب حائط. له مائة وخمسون حديثا، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، وله فضائل. (إذا أتيتم الغائط) هو في الأصل اسم للمكان المطمئن الواسع من الأرض في الفضاء، ثم صار يطلق على كل مكان أعد لقضاء الحاجة؛ لأن العادة أن يقضي في المنخفض لكونه أستر له، ثم اتسع حتى أطلق على النجو نفسه، أي الخارج من الإنسان، تسمية للحال باسم المحل، والمراد ههنا هو الأول، إذ لا يحسن استعمال الإتيان في النجو الخارج، إذ لا يقال: أتى البول أو العذرة، بخلاف إستعمال الإتيان بالنظر إلى المكان فإنه كثير شائع، وأيضا لا يحسن النهي عن الاستقبال والاستدبار إلا قبل المباشرة بإخراج الخارج، وذلك عند حضور المكان لا عند المباشرة بإخراج ذلك، فليتأمل. وقد أوضح ذلك السندهي في حاشيته على البخاري، فارجع إليها. (فلا تستقبلوا القبلة) أي جهة الكعبة. (ولكن شرقوا أو غربوا) أي استقبلوا جهة الشرق أو الغرب لقضاء الحاجة، وهذا خطاب لأهل المدينة ومن قبلته في تلك الجهة، والمقصود الإرشاد إلى جهة أخرى لا
(3/89)
يكون فيها إستقبال القبلة ولا
متفق عليه.
336- (2) قال الشيخ الإمام محي السنة، رحمه الله: هذا الحديث في الصحراء، وأما في
البنيان، فلا بأس لما روي عن عبدالله بن عمر، قال: ((ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض
حاجتي، فرأيت
إستدبارها، وهذا مختلف بحسب البلاد، فللكل أن يأخذوا بهذا الحديث بالنظر إلى
المقصود لا بالنظر إلى المفهوم. والحديث بظاهره دليل على منع الإستقبال والإستدبار
عند قضاء الحاجة مطلقا من غير فرق بين الصحراء والبنيان. والمسألة مختلف فيها بين
العلماء لتعارض الأحاديث في ذلك، فقال بعضهم بعموم النهي أخذا بظواهر أحاديث
النهي، وترجيحا لها على أحاديث الرخصة أو التخصيص. وقال بعضهم بخصوص النهي
بالصحراء جمعا بين الأحاديث؛ لأن إعمال الأدلة كلها أولى من إهمال بعضها. وقال
بعضهم بالإباحة والجواز مطلقا رجوعا إلى البرأة الأصلية، أو حملا للنهى على
التنزيه، أو النسخ، فجعلوا أحاديث الإباحة قرينة على حمل النهي علىالتنزيه، أو
ناسخه لأحاديث المنع. وقال بعضهم بالفرق بين الإستقبال فيحرم مطلقا، والإستدبار
فيجوز مطلقا. وههنا أقوال أخرى لكنها غير مشهورة. والأول هو المشهور عن أبي حنفية،
واختاره ورجحه من المالكية ابن العربي في شرح الترمذي، ومن الظاهرية ابن حزم في
المحلي، ومن فقهاء أهل الحديث ابن القيم في الهدي (ج1: ص272) والشوكاني في النيل
(ج1: ص81) وفي السيل الجرار، وشيخنا الأجل المباكفورى في شرح الترمذي (ج1: ص19)
والثاني مذهب الأئمة الثلاثة، ومال إليه الطحاوي من الحنفية، وقال الأمير اليماني
في السبل (ج1: ص119): هو أقرب الأقوال. وقال الحافظ: هو أعدل الأقوال، ويؤيده ما
روى عن ابن عمر، أنه قال: إنما نهي عن ذلك في القضاء. وإليه يظهر ميلان السندهي في
حواشيه على البخاري، وغيره كما سيأتي. وعندي: الاحتراز عن الإستقبال والإستدبار في
البيوت أحوط وجوبا لا ندبا، والمقام من معارك النظار فتدبره ولا تعجل.
(3/90)
(متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك
وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وغيرهم.
336- قوله: (قال الشيخ الإمام محي السنة) البغوي في المصابيح. (هذا الحديث) أي
حكمه. (وأما في البنيان) قال ابن حجر: يعني الخلاء ليطابق الحديث الذي استدل به.
(ارتقيت) أي صعدت. (فوق بيت حفصة) أي سطحه، وهي أخت عبدالله بن عمر، أم المؤمنين
زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت عمر بن الخطاب العدوية، قيل: إنها
ولدت قبل المبعث بخمسة أعوام، وكانت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت
خنيس بن حذافة السهمي، هاجرت معه، ومات عنها بعد غزوة بدر، فلما مات ذكرها عمر على
أبي بكر وعثمان فلم يجبه واحد منهما، فخطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
فأنكحه إياها سنة ثلاث، وقيل: سنة اثنتين. لها ستون حديثا، اتفقا منها على ثلاثة،
وانفرد مسلم بستة، روى عنها جماعة من الصحابة والتابعين. ماتت في شعبان سنة (45)
وهي ابنة ستين سنة، وقيل: ماتت سنة (41) وإضافة البيت إلى حفصة مجازية باعتبار
تعلق السكني، وإلا فالبيت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام)) متفق
عليه.
337- (3) وعن سلمان رضي الله عنه، قال: ((نهانا، يعني رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -
(3/91)
كان ملكا للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (يقضي حاجته) أي في الخلاء (مستدبر القبلة) هذا هو أصل الأئمة الثلاثة في جواز الاستدبار في الأبنية، وابتنوا عليه جواز الإستقبال، ويظهر من صنيع البغوي أنه ذهب إلى أن النهي ورد أولا عاما، ثم خص عمومه بحديث ابن عمر، وفيه خدشات من وجوه كثيرة، ذكرها ابن القيم، وابن العربي، وغيرهما، وهي تضعف القول بكونه مخصصا لأحاديث النهي، قال السندهي في حاشيته على البخاري بعد بيان بعض هذه الخدشات: فالوجه أن حديث النهي من أصله مخصوص بالفضاء لا يعم البناء أصلا، وهو الموافق للقرائن. (وقد أشرنا إلى بعض هذه القرائن في بيان معنى الغائط) فلعل من فهم عموم الحكم ما فهم من لفظ الحديث، إنما فهم من ظنه أن علة النهي إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، ففهم من عموم هذه العلة عموم الحكم. وقال في حاشيته على ابن ماجه: ويؤيد القول بالخصوص تقييد حديث النهي بإتيان الغائط في كثير من الروايات، والمراد به المكان المنخفض في الفضاء كما قررنا، وبه يظهر التوفيق بين الأحاديث. وقال في حاشيته على النسائي: ويمكن أن يكون محمل الحديث الصحراء، وإطلاق اللفظ جاء على ما كان عليه العادة يومئذ، إذا لم يكن لهم كنف في البيوت في أول الأمر-انتهى. قال: ومن قرائن حمل الغائط في حديث أبي أيوب على معناه اللغوى أي المكان المطمئن من الأرض في الفضاء أي الصحراء، أن النهي عن جهتين، والتخيير بين جهتين آخرين عند إتيان الغائط إنما يحسنان في الفضاء لا في البيوت، فإن الإنسان في الفضاء متمكن عند إتيان الغائط من الجهات الأربع، فيمكن أن ينهى عن بعضها، ويخير بين بعضها، وأما في البيوت فلا يتمكن عادة عند إتيان الغائط من الجهات الربع، بل يتمكن منها عند بناء الكنيف، وأما بعد البناء عند إتيان الغائط فهو يصير تابعا لكيفية البناء –انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
(3/92)
337- قوله: (وعن سلمان) هو
سلمان الفارسي أبوعبدالله، ابن الإسلام، ويقال له: سلمان الخير. أصله من أصبهان،
وقيل: من رامهرمز. أسلم عند قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وأول
مشاهده الخندق، وقال ابن عبدالبر: ويقال إنه شهد بدرا. سافر يطلب الدين من قريته،
فدان أولا بالنصرانية، وقرأ الكتب وصبر في ذلك على مشقات متتالية، فأخذه قوم من
العرب فباعوه من اليهود، ثم إنه كوتب فأعانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابته،
ويقال: إنه تداوله بضعة عشر سيدا حتى أفضى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما
قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقال: سلمان منا أهل البيت. وهو
أحد الذين اشتاقت إليهم الجنة، وكان من المعمرين، قيل: عاش (250) سنة. وقيل: (350)
سنة، والأول أصح، وكان يأكل من يده، ويتصدق بعطاءه، مات بالمدائن سنة (35) وقيل:
سنة (33) وقيل: غير ذلك، له ستون حديثا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بواحد،
ومسلم بثلاثة، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. (قال: نهانا يعني) أي يريد
سلمان بالناهي رسول الله- صلى الله عليه وسلم -.
أن تستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجى باليمين، أو أن نستنجى بأقل من ثلاثة
أحجار، أو أن نستنجى برجيع، أو بعظم)) رواه مسلم.
338- (4) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء
يقول:
(3/93)
(أن نستقبل القبلة) أى بفروجنا عند خروج الغائط أو البول. (لغائط) قال النووي: كذا ضبطناه في مسلم "لغائط" باللام، وروى في غيره بغائط أي بالباء، وهما بمعنى (أو أن نستنجى باليمين) أو فيه وفيما بعده للعطف، والاستنجاء إزالة النجو وقطعه بالماء أو بالحجارة، وفيه دليل على تحريم الاستنجاء باليمين؛ لأنه الأصل في النهي ولا صارف له، فلا وجه للحكم بالكراهة فقط، وهذا تنبيه على شرف اليمين وصيانتها عن الأقذار. (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) وفي رواية أحمد الآتية في الفصل الثالث: ولا نكتفى بدون ثلاثة أحجار. وفي كلتا الروايتين دليل واضح على أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز، وإن حصل الإنقاء بما دونها، ولا يعارضه حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني بلفظ "من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" أخرجه أبوداود وغيره؛ لأن حديث سلمان هذا أصح منه، فيقدم عليه أو يجمع بينهما بما قال الحافظ في الفتح: أخذ بهذا أي بحديث سلمان، الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث، فاشترطوا أن لا ينقص من الثلاث مع مراعاة الإنقاء إذا لم يحصل بها فيزداد حتى ينقى، ويستحب حينئذ الإيتار لقوله: من استجمر فليوتر. وليس بواجب لزيادة في أبي داود حسنة الإسناد قال: ومن لا فلا حرج. وبهذا يحصل الجمع بين الروايات في هذا الباب، انتهى. وقال ابن تيمية في المنتقى بعد ذكر حديث أبي هريرة المذكور: وهذا محمول على أن القطع على وتر سنة فيما زاد على ثلاث جمعا بين النصوص-انتهى. (أو أن نستنجى برجيع أو بعظم) أو للعطف بمعنى الواو لا للشك. والرجيع هو الخارج من الإنسان أو الحيوان يشمل العذرة والروث، فعيل بمعنى فاعل، سمي رجيعا؛ لأنه رجع عن حالته الأولى فصار ما صار بعد أن كان علفا أو طعاما. وفي حديث رويفع عند أبي داود رجيع دابة. وأما عذرة الإنسان فهي داخلة تحت قوله - صلى الله عليه وسلم - "فإنها ركس" في بعض الأحاديث. وفي الحديث دليل
(3/94)
على أن لا يجوز الاستنجاء
بالرجيع والعظم، وعلة النهي عن الاستنجاء بالرجيع أنه علف لدواب الجن، ولأنه لا
يطهر، ولأنه رجس بكسر الراء، وهو المستقذر المكروه، والتعليل بعدم التطهير عائد
إلى كونه رجسا، وفيه تنبيه على جنس الرجس فلا يجزئ الاستنجاء بالرجس مطلقا، والعلة
في النهي عن العظم أنه طعام الجن، أي فيجدون عليه من اللحم أوفر ما كان عليه،
ولأنه لا يطهر فإنه لزج لا يكاد يتماسك فلا ينشف النجاسة، ولا يقطع البلة. وقيل:
إنه لا يخلو في الغالب عن الدسومة، وقيل: لأنه ربما يجرح. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا
أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
338- قوله: (إذا دخل الخلاء) أي أراد دخول موضع قضاء الحاجة. ولا يختص هذا
بالأمكنة المعدة لذلك،
اللهم إني أعوذبك من الخبث والخبائث)) متفق عليه.
339- (5) وعن ابن عباس، قال: ((مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين، فقال:
إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لايستتر من البول)). وفي
رواية لمسلم: ((لا يستنزه من البول. وأما الآخر فكان يمشى بالنميمة. ثم أخذ جريدة
رطبة فشقها بنصفين، ثم غزر في كل قبر واحدة. قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - لم صنعت هذا؟ فقال: لعله أن يخفف عنهما
(3/95)
بل يعم ويشمل حتى لو بال في إناء مثلا في جانب البيت مالم يشرع قضاء الحاجة، فيقول في الأمكنة المعدة قبيل دخولها، وفي غيرها في أول الشروع كتشمير ثيابه مثلا، ومن نسي يستعيذ بقلبه لا بلسانه. (اللهم إني أعوذ بك) كان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ إظهارا للعبودية ويجهر بها للتعليم. (من الخبث) بضمتين جمع الخبيث، وهو الموذي من الجن والشياطين. (والخبائث) جمع الخبيثة، والمراد ذكور الشياطين وإناثهم، وقد جاءت الرواية بإسكان الباء في الخبث أيضا إما على التخفيف أو على أنه اسم بمعنى الشر، فالخبائث صفة النفوس، فيشمل ذكور الشياطين وإناثهم جميعا، والمراد التعوذ من الشر وأصحابه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
(3/96)
339- قوله: (مر النبي - صلى
الله عليه وسلم - بقبرين) أي جديدين كما في رواية ابن ماجه، قال الحافظ: الظاهر من
مجموع طرق الحديث أن المقبورين كانا مسلمين. (فقال: إنهما) أي صاحبي القبرين.
وقيل: أعاد الضمير إلى غير مذكور؛ لأن سياق الكلام يدل عليه، وقيل: الضمير يرجع
إلى قبرين بتقدير المضاف كما ذكرنا. (وما يعذبان في كبير) أي في أمر كان يكبر ويشق
عليهما الاحتراز عنه لو أراداه، لا أنه في نفسه ليس بكبير، كيف وهما يعذبان فيه.
فإن عدم التنزه يبطل الصلاة، والنميمة سعي بالفساد المفضي إلى سفك الدماء، وأيضا
ورد في رواية للبخاري "وإنه لكبير" فيحمل قوله: وإنه لكبير على كبر الذنب،
وقوله "مايعذبان في كبر" على سهولة الدفع والاحتراز والتوقى. (لايستتر
من البول) أي من بوله كما في رواية، فاللام عوض عن المضاف إليه، أو للعهد،
والمعنى: لا يجعل بينه وبين بوله سترة، يعنى لا يتحفظ منه، وفيه دليل على نجاسة
بول الإنسان، ووجوب اجتنابه وهو إجماع، وعظم أمره، وأنه من أعظم أسباب عذاب القبر
كالنميمة. (لا يستنزه من البول) أي لا يجتنب ولا يحترز عن وقوعه عليه، وقيل: أي لا
يستبرئ ولا يتطهر ولا يستبعد عنه. (فكان يمشي) أي بين الناس. (بالنميمة) هي نقل
كلام الغير لقصد الإضرار. والباء للمصاحبة أو التعدية على أنه بمعنى يشهر النميمة
بين الناس ويشيعها. (ثم أخذ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (جريدة رطبة) بفتح
الراء وسكون الطاء، أي غصنا من النخل. (فشقها بنصفين) مفعول مطلق، والباء زائدة
للتأكيد، وقيل: حال أي جعلها مشقوقة حال كونها متلبسة بنصفين. (واحدة) أي من كل من
الشقين. (لم صنعت هذا؟) أي الغزر. (لعله) أي العذاب، أو الهاء ضمير الشأن. (أن
يخفف عنهما) أي صاحبى القبرين.
ما لم يبسا)) متفق عليه.
(3/97)
340- (6) وعن أبي هريرة، قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان
يارسول الله- صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم))
رواه مسلم.
341- (7) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا شرب
أحدكم
(ما لم يبسا) بالتذكير، وبفتح الباء الموحدة، ويجوز كسرها، أي مادام لم يبس
النصفان أو القضيبان، قيل: وجه هذا التحديد أنه - صلى الله عليه وسلم - سأل
التخفيف عنهما وشفع لهما فأجيبت شفاعته بالتخفيف إلى مدة بقاء النداوة، أي جعل
زمان بقاء النداوة والرطوبة علامة لتخفيف العذاب بشفاعته - صلى الله عليه وسلم -
ودعاءه، كما صرح به في حديث جابر في آخر صحيح مسلم، لا أن في الجريد معنى خصة، ولا
أن في الرطب معنى ليس في اليابس، وهذا بناء على أن القصة في حديث ابن عباس وحديث
جابر واحدة كما رجحه النووي. وفيه نظر. وقيل تخفيف العذاب كان ببركة يده - صلى
الله عليه وسلم -، فالحديث واقعة حال خاص لا يفيد العموم. وقيل: هو عام بدليل أنه
تأسى بذلك بريدة بن الحصيب الصحابي فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان، وروى نحوه عن
أبي برزة الأسلمي، والظاهر عندي: أنه مخصوص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليس
بعام، وأما ما يفعله القبوريون من وضع الرياحين على القبور، وغرس الأشجار عليها،
وسترها بالثياب، وإجمارها وتبخيرها بالعود، وإتخاذ السرج عليها فلا شك في كونه
بدعة وضلالة. ومن زعم أن هذا الحديث أصل لهذه الأمور المحدثة فقد جهل وافترى على
الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة،
والجنائز، والأدب، والحج، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود
والنسائي وابن ماجه، وغيرهم.
(3/98)
340- قوله: (اللاعنين) أي
الأمرين الجالبين للعن، الحاملين للناس عليه، الداعيين إليه، فكأنهما لاعنان من
باب تسمية الحامل والداعي فاعلا، أي الذين هما سببا اللعنة غالبا، وقد يكون
اللاعنين بمعنى الملعون، أي الملعون فاعلهما، ولفظ مسلم: اتقو اللعانين. والمعنى:
اتقوا فعل اللعانين أي صاحبى اللعن، وهما اللذان يلعنهما الناس في العادة. (الذي
يتخلى) أي يتغوط أو يبول، بحذف المضاف، أي أحدهما تخلى الذي يتخلى. (أو في ظلهم)
أو للتنويع، والمراد بالظل مستظل الناس الذي اتخذوه مقيلا ومناخا ينزلونه ويقعدون
فيه، إذ ليس كل ظل يحرم القعود لقضاء الحاجة تحته، فقد قعد النبي - صلى الله عليه
وسلم - تحت حائش النخل لحاجته وله ظل بلا شك، ويدل له حديث أحمد "أو ظل يستظل
به". والحديث يدل على تحريم التخلي في طرق الناس وظلهم لما فيه أذية المسلمين
بتنجيس من يمر به ونتنه واستقذاره. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود.
341- قوله: (وعن أبي قتادة) هو أبوقتادة الأنصاري السلمي فارس رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، اسمه الحارث، وقيل: عمرو، وقيل: النعمان، وقيل: عون بن ربعي
بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة مكسورة، والمشهور الحارث بن ربعي بن
فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه))
متفق عليه.
342- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من توضأ
فليستنثر، ومن استجمر فليؤتر)) متفق عليه.
343- (9) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء
(3/99)
بلدمة، وهو ممن غلبت عليه كنيته. صحابي مشهور، شهد أحدا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرا. توفي بالكوفة سنة (54) وهو ابن سبعين سنة، له مائة وسبعون حديثا، اتفقا على أحد عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثمانية. روى عنه جماعة. (فلا يتنفس) بالجزم ولا ناهية في الثلاثة، وروى بالضم فيها على أن لا نافية، والمعنى لا يخرج نفسه. (في الإناء) أي في داخله لئلا يقل برودة الماء الكاسرة للعطش بحرارة النفس، أو كراهة أن ينحدر قذرة من نفسه، بل إذا أراد التنفس فليرفع فمه عن الإناء فيتنفس ثم يشرب. (وإذا أتى الخلاء فلا يمس) بفتح الميم على الأفصح. (ذكره بيمينه) وفي رواية "إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه" وفي الأخرى "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول". وهذه الروايات كلها تدل على أن النهي عن مس الذكر باليمين مقيد بحالة البول، فيكون ما عداها مباحا، ويحمل على هذا المقيد ما ورد في بعض الروايات من النهي المطلق عن مس الذكر باليمين لاتحاد المخرج والحديث. وقيل: يكون ممنوعا أيضا من باب الأولى؛ لأنه نهى عن ذلك مع مظنة الحاجة في تلك الحالة، ويؤيد القول الأول حديث طلق بن علي، وقد سأل - صلى الله عليه وسلم - عن مس ذكره فقال: إنما هو بضعة منك؛ لأنه يدل على الجواز في كل حال، فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح، وبقي ما عداها على الإباحة، وإنما خص النهي بحالة البول من جهة أن مجاور الشيء يعطي حكمه، فلما منع الاستنجاء باليمين منع مس آلته حسما للمادة. (ولا يتمسح) بالسكون وضمها. (بيمينه) أي لا يستنجي باليد اليمنى تكريما لليمين. والحديث دليل على تحريم الأمور الثلاثة المذكورة؛ لأنه الأصل في النهي، ولا صارف له، وحمله الجمهور على التنزيه. (متفق عليه) أخرجاه في الطهارة والأشربة، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم مطولا ومختصرا.
(3/100)
342- قوله: (من توضأ فليستنثر)
من الاستنثار وهو طرح الماء الذي يستنشقه، ولم يذكر الاستنشاق؛ لأن ذكر الاستنثار
دليل عليه، إذ لا يكون إلا منه. وفيه دليل على وجوب الاستنثار، وفيه خلاف وسيأتي
الكلام فيه في سنن الوضوء إن شاءالله تعالى. (ومن استجمر) أي استنجى بالجمرة أي
الحجر. (فليؤتر) يشمل الإنقاء بالواحد أيضا لكن يحمل هذا المطلق على المقيد في
الروايات الأخر. والمعنى فليؤتر بثلاث أو خمس أو سبع أو غير ذلك، والواجب الثلاثة
لتلك الروايات وما زاد عليها مستحب لقوله: ومن لا فلا حرج. (متفق عليه) وأخرجه
أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه.
343- قوله: (يدخل الخلاء) المراد بالخلاء ههنا الفضاء بقرينة العنزة؛ لأنه كان إذا
توضأ صلى إليها في الفضاء، أو
فأحمل أنا وغلام إداوة من ماء وعنزة، يستنجى بالماء)) متفق عليه.
?الفصل الثاني?
344- (10) عن أنس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا دخل الخلاء نزع
خاتمه)) رواه أبوداود والنسائي والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال
أبوداود: هذا حديث منكر.
(3/101)
يستتر بها بأن يضع عليها ثوبا أو يركزها بجنبه لتكون إشارة إلى منع من يروم المرور بقربه، أو ينبش الأرض الصلبة لئلا يرتد البول إليه، أو لغير ذلك من قضاء الحاجات التي تعرض له، ولأن خدمته في البيوت تختص بأهله. (وغلام) زاد في رواية لمسلم "نحوي" والغلام هو المترعرع، قيل: إلى حد السبع سنين، وقيل: إلى الالتحاء، ويطلق على غيره مجازا، قيل: أراد بالغلام الآخر ابن مسعود، وأراد بقوله "نحوي" أي في كونه كان يخدمه - صلى الله عليه وسلم - ، فإن ابن مسعود كان صاحب سواد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحمل نعله وسواكه، أو أطلق عليه الغلام مجازا، وقيل: هو أبوهريرة، وقيل جابر بن عبدالله، وفيه دليل على جواز الاستخدام للصغير. (إداوة) بكسر الهمزة أي مطهرة، وهي إناء صغير من جلد يتخذ للماء. (من ماء) أي مملوءة منه. (عنزة) بالنصب عطفا على الإداوة، بفتح النون أطول من العصا وأقصر من الرمح فيها سنان. (يستنجى بالماء) يؤخذ منه ومن غيره أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقتصر على الماء تارة وعلى الحجر أخرى، وكثيرا ما كان يجمع بينهما، قاله القاري. وفيه رد على من أنكر أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - استنجى بالماء وهو مالك ومن وافقه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي.
(3/102)
344- قوله: (إذا دخل الخلاء)
أي أراد دخوله. (نزع) أي أخرج من إصبعه. (خاتمه) بفتح التاء، وقيل: بكسرها؛ لأن
نقشة "محمد رسول الله" وفيه دليل على تبعيد ما فيه ذكر الله عند قضاء
الحاجة، والقرآن بالأولى، حتى قيل: يحرم إدخال المصحف في الخلاء لغير ضرورة. قال
الأمير اليماني: هذا فعل منه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد عرف وجهه، وهو صيانة ما
فيه ذكر الله عزوجل عن المحلات المستخبثة فدل على ندبه، وليس خاصا بالخاتم بل في
كل ملبوس فيه ذكر الله –انتهى. وقال الطيبي: فيه دليل على وجوب تنحية المستنجى اسم
الله واسم رسوله والقرآن، قيل: فلو غفل عن تنحية ما فيه ذكر الله حتى اشتغل بقضاء
الحاجة، أو خاف ضياعه، غيبه في فمه، أو في عمامته، أو نحوها. (رواه أبوداود) الخ.
وأخرجه أيضا ابن ماجه وابن حبان والحاكم كلهم من طريق همام عن ابن جريج عن الزهري
عن أنس. (وقال) أي الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح غريب) وافقه المنذري في تصحيحه
وصوبه، وقال: رواته ثقات أثبات. وتبعه أبوالفتح القشيري في آخر الاقتراح، ومال إلى
تصحيحه موسى بن هارون، وصححه ابن حبان، وقال النووي في الخلاصة: هذا أي تصحيح
الترمذي مردود عليه. (وقال أبوداود، هذا حديث منكر) وقال النسائي: إنه غير محفوظ،
وذكر الدارقطني الاختلاف فيه، وأشار إلى شذوذه. والمنكر ما رواه الضعيف مخالفا
للثقة، ومقاله المعروف، وهو ههنا حديث ابن جريج،
وفي روايته: وضع بدل نزع.
345- (11) وعن جابر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد البراز انطلق
حتى لا يراه أحد))
(3/103)
عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه"، والوهم فيه من همام كما قاله أبوداود، ولم يرو حديث أنس بلفظ "إذا دخل الخلاء وضع خاتمه"، وقد خالف أصحاب ابن جريج. وإطلاق المنكر على حديث همام هذا إنما هو على مذهب ابن الصلاح من عدم الفرق بين الشاذ والمنكر، وحكم النسائي عليه بكونه غير محفوظ أصوب، فإنه شاذ في الحقيقة على مذهب الجمهور من الفرق بين المنكر والشاذ، إذا المتفرد به وهو همام، من شرط صحيح، وثقة ابن معين وغيره، وقال أحمد: ثبت في كل المشائخ لكنه بالمخالفة صار حديثه شاذا. وقد نوزع أبوداود في حكمه على هذا الحديث بالنكارة مع أن رجاله رجال الصحيح، نازعه المنذري وموسى بن هارون وغيرهما، قال موسى بن هارون: لا أدفع أن يكون حديثين، ومال أيضا إليه ابن حبان فصحح حديثين معا، وقد تابع همام يحيى بن الضريس البجلي، ويحيى بن المتوكل البصري، أخرجهما الحاكم والدارقطني، وقد رواه عمرو بن عاصم وهو من الثقات عن همام موقوفا على أنس، وقال المارديني في الجوهر النقي: الحديثان مختلفان متنا وكذا سندا؛ لأن الأول رواه ابن جريج عن الزهري بلا واسطة والثاني بواسطة، فانتقال الذهن من الحديث الذي قاله أبوداود فيه: إنما يعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه" إلى حديث وضع الخاتم مع اختلافهما سندا ومتنا كما بيناه، لا يكون إلا عن غفلة شديدة، وحال همام لا يحتمل مثل ذلك، هذا مع أن له شاهدا أخرجه البيهقي، عن يحيى بن المتوكل عن ابن جريج عن الزهري عن أنس الخ. وذكر الدارقطني في كتاب العلل: أن يحيى بن الضريس رواه عن ابن جريج كرواية همام، فهذه متابعة ثانية، وابن ضريس ثقة، فتبين بذلك أن الأمر فيه كما ذكر الترمذي من الحسن والصحة – انتهى مختصرا. وقال الحافظ بعد بيان وجه حكم أبي داود
(3/104)
على هذا الحديث بالنكارة
والكلام في متابعة يحيى بن المتوكل ما نصه: على أن للنظر مجالا في تصحيح حديث
همام؛ لأنه مبنى على أن أصله حديث الزهري عن أنس في اتخاذ الخاتم، ولا مانع أن
يكون هذا متنا آخر غير ذلك المتن، وقد مال إلى ذلك ابن حبان فصححهما جميعا، ولا
علة له عندي إلا تدليس ابن جريج، فإن وجد عنه تصريح بالسماع فلا مانع من الحكم
بصحته –انتهى. وإن شئت مزيد التفصيل فارجع إلى التلخيص (ج1: ص39) وعون المعبود
(ج1: ص9، 8) والجوهر النقي (وفي روايته) أي أبي داود (وضع) أي من يده (بدل نزع) أي
من إصبعه، ولا تفاوت واختلاف بينهما معنى.
345- قوله: (البراز) أي الفضاء أو قضاء الحاجة بفتح الباء والكسر لغة قليلة،
الفضاء الواسع من الأرض، ثم كنوا به عن الغائط، يقال: تبرز أي تغوط، وهو أن يخرج
إلى البراز كما قيل: تخلى إذا صار إلى الخلاء، (انطلق) أي ذهب في الصحراء. (حتى لا
يراه أحد) أي إلى أن يصل إلى موضع لا يراه فيه أحد، وفيه دليل على مشروعية التباعد
رواه أبوداود.
346- (12) وعن أبي موسى، قال: ((كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم
فأراد أن يبول، فأتى دمثا في أصل جدار، فبال. ثم قال: إذا أراد أحدكم أن يبول
فليرتد لبوله)) رواه أبوداود.
347- (13) وعن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الحاجة لم
يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)) .
(3/105)
عند الحاجة عن حضور الناس إذا
كان في مراح من الأرض، ويدخل في معناه الاستتار بالأبنية، وضرب الحجب، وإرخاء
الستر وأعماق الآبار والحفائر ونحو ذلك من الأمور الساترة للعورات، وكل ما ستر
العورة عن الناس. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وفيه إسماعيل بن عبد الملك الكوفي قد
تكلم فيه غير واحد، وقال الحافظ: صدوق كثير الوهم، وأخرجه أيضا ابن ماجه، وفيه
أيضا إسماعيل بن عبدالملك، ويؤيده حديث المغيرة بن شعبة عند الترمذي وصححه، وأبي
داود والنسائي وابن ماجه بلفظ : كان إذا ذهب المذهب أبعد.
346- قوله: (ذات يوم) أي يوما وذات زائدة، وقيل كناية عن الساعة، أي كنت يوما أو
ساعة يوم معه عليه الصلاة والسلام. (دمثا) بفتح الدال وكسر الميم، قال الخطابي:
الدمث المكان السهل الذي يجذب فيه البول فلا يرتد على البائل، يقال للرجل إذا وصف
باللين والسهولة "إنه لدمث الأخلاق، وفيه دماثة" ويقال: دمث المكان كفرح
دمثا أي؛ لأن وسهل (في أصل جدار) أي قريب منه (فليرتد) بسكون الدال المخففة من
الارتياد، أي فليطلب مكانا مثل هذا فحذف المفعول لدلالة الحال عليه. وفيه دليل على
أنه ينبغي لمن أراد قضاء الحاجة أن يعمد إلى مكان لين سهل لا صلابة فيه ليأمن من
رجوع رشاش البول ونحوه عليه. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد، والبيهقي. والحديث
في سنده رجل مجهول ولذا ضعفه النووي، وهو وإن كان ضعيفا فأحاديث الأمر بالتنزه عن
البول تفيد ذلك، وقد روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يتبوأ لبوله كما يتبوأ لمنزله، قال الهيثمي (ج1: ص204) : هو
من رواية يحيى بن عبيد بن دجى عن أبيه، ولم أر من ذكرها، وبقية رجاله موثقون.
(3/106)
347- قوله (إذا أراد الحاجة)
أي قضاء الحاجة يعني إذا أراد القعود للغائط أو البول (لم يرفع ثوبه) مبالغة في
دوام التستر (حتى يدنو) أي يقرب (من الأرض) احتراز عن كشف العورة، وهذا من أدب
قضاء الحاجة، ويستوي فيه الصحراء والبنيان؛ لأن في رفع الثوب كشف العورة، وهو لا
يسوغ إلا عند الحاجة، ولا ضرورة في الرفع قبل القرب من الأرض قاله الطيبي، وقال
العزيزي: لم يرفع ثوبه أي لم يتم رفعه حتى يدنو من الأرض، فيندب رفعه شيئا محافظة
على الستر ما لم يخف تنجس ثوبه وإلا رفعه بقدر حاجته-انتهى، ويمكن أن نستنبط منه
قولهم: ما أبيح للضرورة يتقدر بقدر
رواه الترمذي وأبوداود والدارمي.
348- (14) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((إنما أنا
لكم مثل الوالد لولده، أعلمكم: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا
تستدبروها، وأمر بثلاثة أحجار. ونهى عن الروث والرمة، ونهى أن يستطيب الرجل
بيمينه)) رواه ابن ماجه والدارمي.
الضرورة. (رواه الترمذي وأبوداود والدارمي) أخرجه الترمذي والدارمي من طريق
عبدالسلام بن حرب عن الأعمش عن أنس. وقال الترمذي: وروى وكيع والحماني عن الأعمش
قال: قال ابن عمر: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الحاجة"
الحديث، قال: وكلا الحديثين مرسل أي منقطع، لم يسمع الأعمش من أنس بن مالك، ولا من
أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه أبوداود من طريق وكيع، عن الأعمش
عن رجل عن ابن عمر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان "الحديث، قال:
رواه عبد السلام ابن حرب، عن الأعمش عن أنس بن مالك وهو أي الحديث ضعيف أي لجهالة
الراوي عن ابن عمر في الأول، والانقطاع في الثاني. وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط
عن الأوسط عن جابر، قال الهيثمي: وفيه الحسين بن عبيد الله العجلي، قيل فيه: كان
يضع الحديث.
(3/107)
348- قوله: (إنما أنا لكم مثل
الوالد لولده) أي في الشفقة (أعلمكم) كما يعلم الوالد ولده كل مل يحتاج إليه ولا
يبالي بما بذكره، فهذا تمهيد لما يبين لهم من آداب الخلاء، إذ الإنسان كثيرا ما
يستحي من ذكرها، سيما في مجلس العظماء، وفي هذا بيان وجوب إطاعة الآباء، وأن
الواجب عليهم تأديب أولادهم وتعليمهم ما يحتاجون إليه من أمور دينهم (وأمر بثلاثة
أحجار)؛ لأن المطلوب شرعا الإنقاء والإيتار، وهما يحصلان بثلاثة أحجار (ونهى عن
الروث والرمة) أي عن استعمالها في الاستنجاء. الروث رجيع ذوات الحوافر، ذكره صاحب
المحكم وغيره، قال السندهي: والأشبه أن يراد ههنا رجيع الحيوان مطلقا ليشمل رجيع
الإنسان وذكر بإطلاق اسم الخاص على العام، ويحتمل أن يقال: ترك ذكر رجيع الإنسان؛
لأنه أغلظ فيشمله النهي بالأولى، والرمة بكسر الراء وتشديد الميم، العظم البالي،
ولعل المراد ههنا مطلق العظم. ويحتمل أن يقال: العظم البالي لا ينتفع به فإذا منع
عن تلويثه فغيره أولى، قاله السندهي. ويجوز أن يكون الرمة جمع الرميم أي العظام
البالية، قال في شرح السنة: تخصيص النهي بهما يدل على أن الاستنجاء يجوز بكل ما
يقوم مقام الأحجار في الإنقاء، وهو كل جامد طاهر قالع للنجاسة، غير محترم من مدر
وخشب وخرق وخزف انتهى (أن يستطيب) أي يستنجي (الرجل) وكذا المرأة، قال الطيبي: سمى
الاستنجاء استطابة لما فيه من إزالة النجاسة وتطهيرها (رواه ابن ماجه والدارمي) بسند
حسن، وأخرجه أيضا الشافعي وأحمد وأبوداود والنسائي وابن حبان وابن خزيمة،
وأبوعوانة في صحيحه بألفاظ متقاربة، وسكت عنه أبوداود والمنذري.
349- (15) وعن عائشة، قالت: ((كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى
لطهوره وطعامه، وكانت يده
اليسرى لخلائه وما كان من أذى)) رواه أبوداود.
350- (16) وعنها، قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((إذا ذهب أحدكم
إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة
(3/108)
أحجار يستطيب بهن، فإنها تجزئ
عنه)) رواه أحمد وأبوداود والنسائي والدارمي.
351- (17) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((لا تستنجوا
بالروث ولا بالعظام، فإنها
349- قوله (لطهوره) بضم الطاء أي لوضوءه فيما لم يعهد فيه المقارنة، ويكون من باب
التشريف بخلاف غسل الوجه ومسح الرأس والأذن، فإن المعهود في هذه الأشياء قران
اليسار باليمين (وطعامه) أي لأكله وشربه وما كان من مكرم كالإعطاء واللبس والسواك
والتنعل والترجل والمصافحة والإكتحال. (لخلائه) أي لأجل استنجائه في الخلاء. (وما
كان) تامة أي ما وجد ووقع (من أذى) من بيانه أي ما تستكرهه النفس الزكية كالمخاط
والرعاف وخلع الثوب. والظاهر أن إدخال الماء في الأنف باليمين والامتخاط باليسار.
(رواه أبوداود) في الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد والطبراني كلهم من طريق إبراهيم
النخعي عن عائشة، قال المنذري: إبراهيم لم يسمع من عائشة فهو منقطع. وأخرجه
أبوداود من طريق أخرى عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة بمعناه. وأخرجه في اللباس
من حديث مسروق عن عائشة، ومن ذلك الوجه أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن
ماجه، ويأتي في آخر الفصل الأول من سنن الوضوء.
(3/109)
350- قوله: (إذا ذهب أحدكم إلى
الغائط) أي الخلاء (فليذهب) أمر وجوب (معه بثلاثة أحجار) الباء للتعدية (يستطيب)
بالرفع مستأنف، علة للأمر أو حال بمعنى عازما على الاستطابة (بهن) الباء للآلة
(فإنها) أي الأحجار (تجزئ) من الإجزاء أي تكفي وتغنى، وفي بعض النسخ
"تجزى" بفتح التاء وكسر الزاي بعده ياء، من جزى يجزى مثل قضى يقضي وزنا
ومعنى، قاله القاري (عنه) أي عن المستنجي، أو عن الماء المفهوم من المقام، وهو
الأظهر معنى. والحاصل أن الاستطابة بالأحجار تكفي المستنجي، أو تكفي عن الماء
وتنوب عنه، وإن بقي أثر النجاسة بعد ما زالت عين النجاسة وجرمها وذلك رخصة، ففيه
دليل على كفاية الأحجار وعدم وجوب الاستنجاء بالماء، وهو أيضا يدل على وجوب
الإستجمار بثلاثة أحجار؛ لأن الإجزاء يستعمل غالبا في الواجب (رواه أحمد) الخ.
وأخرجه أيضا الدارقطني، وقال: إسناده صحيح.
351- قوله: (فإنها) وفي بعض النسخ فإنه. قال الطيبي: الضمير في "فإنه"
راجع إلى الروث والعظام باعتبار المذكور، كما ورد في شرح السنة، وجامع الأصول، وفي
بعض نسخ المصابيح. وفي بعضها وجامع الترمذي "فإنها"
زاد إخوانكم من الجن)) رواه الترمذي والنسائي، إلا أنه لم يذكر: ((زاد إخوانكم من
الجن)).
352- (18) وعن رويفع بن ثابت، قال: قال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : ((يا
رويفع! لعل الحياة ستطول بك بعدي، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترا، أو
استنجى برجيع دابة، أو عظم، فإن محمدا منه بريء)) رواه أبوداود.
(3/110)
فالضمير راجع إلى العظام، والروث تابع لها، عليه قوله تعالى: ?وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها? [62: 11] انتهى. وقال ابن حجر المكي: وسكت عن الروث؛ لأن كونه زادا لهم إنما هو مجاز، لما تقرر أنه لدوابهم –انتهى. وفي رواية أحمد ومسلم في قصة ذهابه إلى الجن وقراءته عليهم القرآن وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام الجن (زاد إخوانكم من الجن) قال الطيبي: فيه أن الجن مسلمون حيث سماهم إخوانا وأنهم ليأكلون (رواه الترمذي) في الطهارة وفي التفسير (والنسائي) في الطهارة. وأصل حديث ابن مسعود هذا عند مسلم، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والدارقطني والحاكم من طرق عنه.
(3/111)
352- قوله (وعن رويفع) بضم الراء وكسر الفاء تصغير رافع، بكسر الفاء، ابن ثابت بن السكن بن عدي بن حارثة الأنصاري المدني، صحابي سكن مصر، وأمره معاوية على طرابلس سنة (46) فغزا إفريقية. قال أحمد بن البرقي الفتياني: توفي ببرقة سنة (56) وهو أمير عليها، وقد رأيت قبره بها. له ثمانية أحاديث، روى عنه حنش الصنعاني وبسر بن عبيدالله. (لعل الحياة ستطول بك) الباء للإلصاق (بعدي) أي بعد موتي، وقد ظهر مصداق ذلك، فطالت به الحياة حتى مات سنة (56) بإفريقية، وهو آخر من مات بها من الصحابة كما ذكره أبوزكريا بن مندة. (فأخبر الناس) الفاء جزاء شرط محذوف والتقدير فإذا طالت فأخبر، والمعنى: لعل الحياة ستمتد حال كونها ملتصقة بك، حتى ترى الناس قد ارتكبوا أمورا من المعاصي يتجاهرون بها، فإذا رأيت ذلك فأخبرهم. (من عقد لحيته) قيل: هو معالجتها حتى تنعقد وتنجعد. وقيل: كانوا يعقدونها في الحرب فأمرهم بإرسالها، كانوا يفعلون ذلك تكبرا وعجبا، وقيل: هو فتلها كفتل الأعاجم. (أو تقلد وترا) بفتحتين وتر القوس، أو مطلق الحبل والخيط. قيل: المراد به ما كانوا يعلقونه عليهم وعلى أولادهم وخيلهم من العوذ والتمائم التي يشدونها بتلك الأوتار، ويرون أنها تعصم من الآفات والعين. وقيل: النهي من جهة تعليق الأجراس عليها. وقيل: لئلا تختنق الخيل عند شدة الركض. (أو استنجى برجيع دابة) هو الروث والعذرة. (فإن محمدا منه بريء) هذا من باب الوعيد والمبالغة في الزجر الشديد، وقوله: منه بريء، هكذا في بعض النسخ وكذا وقع عند أبي داود، وفي بعض نسخ المشكاة "برئ منه" وهكذا وقع في رواية النسائي. (رواه أبوداود) في الطهارة وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا النسائي في الزينة.
(3/112)
353- (19) وعن أبي هريرة قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن
لا فلا حرج. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن أكل فما
تخلل فليلفظ، وما لاك بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن أتى
الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره، فإن الشيطان يلعب
بمقاعد بني آدم،
353- قوله: (من اكتحل) أي أراد الاكتحال. (فليؤتر) أي ثلاثا متوالية في كل عين،
وقيل: ثلاثا في اليمنى واثنين في اليسرى ليكون المجموع وترا، والتثليث علم من فعله
- صلى الله عليه وسلم -، ففي شمائل الترمذي أنه كانت له مكحلة يكتحل كل ليلة ثلاثة
في هذه وثلاثة في هذه. (من فعل) كذلك. (فقد أحسن) أي فعل فعلا حسنا ويثاب عليه؛
لأنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ومن لا) أي لا يفعل الوتر. (فلا حرج)
فيه دليل على أن أمره - صلى الله عليه وسلم - يدل على الوجوب وإلا لما احتاج إلى
بيان سقوط وجوبه بقوله: لا حرج أي لا إثم، قاله الطيبي. (ومن استجمر فليؤتر من فعل
فقد أحسن ومن لا فلا حرج) هذا محمول على أن القطع على وتر سنة فيما إذا زاد على
ثلاث جمعا بين النصوص، وقال الشوكاني: الأدلة المتعارضة قد دلت على عدم جواز
الإستجمار بدون ثلاث، وليس لمن جوز دليل يصلح للتمسك به في مقابلتها- انتهى وقد
تقدم الكلام عليه في شرح حديث سلمان من الفصل الأول. (فبما تخلل) ما شرطية أي أخرج
من بين أسنانه بعود ونحوه. (فليلفظ) بكسر الفاء أي فليرم به وليخرجه من فمه، وهو
جزاء قوله: ما تخلل، والشرطية جزاء الشرط الأول. (ومالاك) عطف على ما تخلل، واللوك
إدارة الشيء في الفم، قيل: معناه أنه ينبغي للآكل أن يلقي ما يخرج من بين أسنانه
بعود ونحوه لما فيه من الاستقذار، ويبتلع ما يخرج بلسانه، وهو معنى
"لاك"؛ لأنه لا يسقذر، ويحتمل أن يكون المراد "بمالاك" ما بقي
من آثار الطعام
(3/113)
على لحم الأسنان وسقف الحلق
وأخرجه بإدارة لسانه، وأما الذي يخرج من بين أسنانه فيرميه مطلقا سواء أخرجه بعود
أو باللسان؛ لأنه يحصل له التغيير غالبا. (من فعل) أي ما ذكر من رمى ذاك وابتلاع
هذا. (ومن أتى الغائط) أي الخلاء. (فليستتر فإن لم يجد) أي شيئا ساترا. (إلا أن
يجمع كثيبا) أي كومة. (من رمل فليستدبره) أي ليجعله خلفه لئلا يراه أحد، قال
الطيبي: الاستثناء متصل، أي فإن لم يجد ما يستتربه إلا جمع كثيب من رمل فليجمعه
ويستدبره؛ لأن القبل يسهل ستره بالذيل ونحوه. (فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم)
أي يقصد الإنسان بالشر في تلك المواضع، يعني يحضر تلك الأمكنة وترصدها بالأذى
والفساد؛ لأنها موضع يهجر ذكر الله فيه، فأمر بستر العورات ما أمكن، والامتناع من
التعرض لأبصار الناظر، وهبوب الرياح، وترشش البول على ثيابه وبدنه،
من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج)) رواه أبوداود وابن ماجه والدارمي.
354- (20) وعن عبدالله بن مغفل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا
يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يغتسل فيه،
(3/114)
وكل ذلك من لعب الشيطان به، وقصده إياه بالأذى. والمقاعد جمع مقعده يطلق على أسفل البدن، وعلى موضع القعود لقضاء الحاجة، وكلاهما يصح إرادته، وعلى الأول الباء للإلصاق وعلى الثاني للظرفية. قال السندهي: لابد من اعتبار قيد على الأول، أي يلعب بالمقاعد إذا وجدها مكشوفة فليستتر ما أمكن –انتهى. (من فعل) أي جمع الكثيب والستر. (فقد أحسن) بإتيان السنة (ومن لا) بأن كان في الصحراء من غير ستر. (فلا حرج) أي إذا لم يره أحد، وأما عند الضرورة فالحرج على من نظر إليه. (رواه أبوداود) الخ. وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والبيهقي كلهم من طريق حصين الحبراني، قال الذهبي: لا يعرف، وقال الحافظ: مجهول، عن أبي سعيد الحبراني الحمصي التابعي، قال أبوزرعة: لا يعرف، وقال الحافظ: مجهول، وذكرهما ابن حبان في الثقات، وقال أبوزرعة: حصين الحبراني شيخ، وقال الحافظ في الفتح في حديث أبي هريرة هذا: حسن الإسناد.
(3/115)
354- قوله: (وعن عبدالله بن
مغفل) بمعجمه وفاء مثقلة مفتوحة كمعظم ابن عبد نهم بن عفيف، يكنى أبا عبدالرحمن
المزني صحابي بايع تحت الشجرة، سكن المدينة، ثم تحول إلى البصرة، قال الحسن
البصري: كان أحد العشرة الذين بعثهم عمر إلينا يفقهون الناس، وكان من نقباء
أصحابه، وهو أول من دخل تستر حين فتحت. له ثلاثة وأربعون حديثا، اتفقا على أربعة،
وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديث. مات سنة (57)، وقيل: بعد ذلك. (لا يبولن أحدكم
في مستحمة) بفتح الحاء وتشديد الميم، أصله الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم، وهو
الماء الحار، ثم قيل للاغتسال بأي ماء كان استحمام. وذكر ثعلب: أن الحميم يطلق
أيضا على الماء البارد من الأضداد، وفي معنى المغتسل المتوضأ، ولذا قال فيما بعد: أو
يتوضأ. واختلفوا في تعيين محمل النهي، فحمله بعضهم على الأرض اللينة التي لا منفذ
فيها كالبالوعة ونحوها، نظرا إلى أن البول في الرخوة يستقر موضعه، وفي الصلبة يجرى
ولا يستقر، فإذا صب عليه الماء ذهب أثره بالكلية، وعكس بعضهم فحمل النهي على الأرض
الصلبة، نظرا إلى أنه في الصلبة يخشى عود الرشاش بخلاف الرخوة، والأولى أن يحمل
الحديث على إطلاقه، ولا يقيد المغتسل بشيء من القيود فيحترز عن البول فيه مطلقا،
فإن حصول الوسواس ليس مختصا باللين ولا بالصلب بل قد يحصل من البول فيهما جميعا.
(ثم يغتسل فيه) ثم استبعادية يعني بعيد من العاقل أن يجمع بين ما قبلها وما بعدها،
يريد أن النهي عنه ما دام مراه أن يغتسل فيه وأما إذا ترك الاغتسال فيه ويريد أن
لا يعود إليه أي جعله مهجورا من الاغتسال أو اغتسل فيه ابتداء ولم يبل فيه فلا
نهي، ويجوز في "يغتسل" الرفع أي ثم
أو يتوضأ فيه، فإن عامة الوسواس منه)) رواه أبوداود والترمذي والنسائي، إلا أنهما
لم يذكرا: ثم يغتسل فيه، أو يتوضأ فيه.
(3/116)
355- (21) وعن عبدالله بن
سرجس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يبولن أحدكم في جحر)) رواه
أبوداود والنسائي.
356- (22) وعن معاذ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا الملاعن
الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق،
هو يغتسل، والجزم بالعطف على فعل النهي، وجوز النصب بإعطاء "ثم" حكم واو
الجمع. (فإن عامة الوسواس منه) أي أكثر الوسواس يحصل بسبب مجموع ما تقدم، وهو
البول في المستحم أو المتوضأ، ثم الغسل أو الوضوء فيه؛ لأنه يصير ذلك الموضع نجسا
فيقع في قلبه وسوسة بأنه هل أصابه منه رشاش أم لا؟ ويجوز في الواو الأولى الفتح
والكسر وهو بالكسر المصدر، وبالفتح الاسم. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري.
(والترمذي) وقال: غريب. (والنسائي (وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم
وقال: صحيح على شرط الشيخين. والضياء في المختارة.
(3/117)
355- قوله: (وعن عبدالله بن
سرجس) بفتح المهملة، وسكون الراء وكسر الجيم، بعدها مهملة كنرجس، غير منصرف للعجمة
والعلمية، هو عبدالله بن سرجس المزني حليف بني مخزوم، صحابي، سكن البصرة. له سبعة
عشر حديثا، انفرد له مسلم بحديث، روى عنه نفر من التابعين. (لا يبولن أحدكم في
جحر) أي ثقب بتقديم الجيم المضمومة وسكون الحاء المهملة، كل شيء تحتفره السباع
والهوام لأنفسها. وجه النهي أن الجحر مأوى الهوام وذوات السموم فلا يؤمن أن تصيبه
مضرة من قبل ذلك. ويقال: إن الذي يبول في الجحر يخشى عليه عادية الجن كما عند أبي
داود، والنسائي. قالوا لقتادة أي الراوى عن عبدالله بن سرجس: وما يكره البول من
الجحر؟ فقال: يقال إنها مساكن الجن. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري.
(والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين والبيهقي. قيل:
إن قتادة لم يسمع من عبدالله بن سرجس، حكاه حرب عن أحمد، وأثبت سماعه منه علي بن
المديني، وأبوزرعة. وقال أبوحاتم: لم يلق أحدا من الصحابة إلا أنسا وعبدالله بن
سرجس، وصححه ابن خزيمة، وابن السكن.
356- قوله: (الملاعن) قال زين العرب: جمع ملعن مصدر ميمي أو اسم مكان، من لعن إذا
شتم-انتهى. فعلى الأول معناه: اتقوا اللعنات أي أسبابها، أو المصدر بمعنى الفاعل
يعني اجتنبوا اللاعنات أي الحاملات والباعثات على اللعن، فيصير نظيرا "اتقوا
اللاعنين" مع زيادة واحد. (البراز) بالنصب على البدلية أو بتقدير أعني،
والمراد به التغوط. (الموارد) جمع مورد وهو الموضع الذي يأتيه الناس من رأس عين أو
نهر لشرب الماء أو للتوضئ. (وقارعة الطريق)
والظل)) رواه أبوداود وابن ماجه.
357- (23) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يخرج
الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك)) رواه
أحمد وأبوداود وابن ماجه.
(3/118)
أي وسطه يقرعه الناس بأرجلهم ونعالهم أي يدقونه ويمرون عليه، فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الطريق المقروعة. (والظل) تقدم بيان المراد منه. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (وابن ماجه) وأخرجه أيضا الحاكم كلهم من حديث أبي سعيد الحميري عن معاذ بن جبل، وصححه ابن السكن والحاكم، وقال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن أبا سعيد لم يسمع من معاذ، ولا يعرف هذا الحديث بغير هذا الإسناد، قاله ابن القطان، وأبوسعيد مجهول.
(3/119)
357- قوله: (لا يخرج الرجلان) وكذا المرأتان. (يضربان الغائط) يقال: ضربت الأرض إذا أتيت الخلاء، وضربت في الأرض إذا سافرت، وقال الطيبي: قيل: نصب الغائط بنزع الخافض أي للغائط، وفي مختصر النهاية: يضرب الغائط والخلاء والأرض إذا ذهب لقضاء الحاجة، فالمعنى يمشيان لقضاء الحاجة. (كاشفين) منصوب على الحال. (عن عورتهما) ينظر كل إلى عورة صاحبه عند التغوط. (يتحدثان) حال ثانية، وقال الطيبي "يضربان ويتحدثان" صفتا الرجلان؛ لأن التعريف فيه للجنس، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف أي هما يضربان ويتحدثان استئنافا، و"كاشفين" حال مقدرة من ضمير يضربان، ولو جعل حالا من ضمير يتحدثان لم تكن مقدرة، وعلى هذه التقادير النهي منصب على الجميع-انتهى. ورواه ابن حبان في صحيحه بلفظ: لا يقعد الرجلان على الغائط يتحدثان، يرى كل واحد منهما عورة صاحبه، فإن الله يمقت على ذلك. وهو صريح في أن المقت على المجموع، لا على مجرد الكلام، ورواه ابن ماجه بلفظ: لا يتناجى اثنان على غائطهما، ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه، فإن الله عزوجل يمقت على ذلك، قال السندهي: الحديث يدل على منع تحدث كل واحد من المتخليين بالآخر مع نظره إلى عورة الآخر، ولا يلزم منه منع تحدث المتخلى مطلقا، إلا أن يقال مدار المنع على كون المتكلم مخليا، ولا دخل فيه لكون المتكلم معه متخليا، وإنما جاء فرض المتكلم معه متخليا من جهة أنه لا يحضر مع المتخلي في ذلك الموضع إلا مثله، وأما ذكر النظر فلزيادة التقبيح، ضرورة أن النظر حرام مع قطع النظر عن التحديث والتخلي، فليتأمل. (فإن الله يمقت) من المقت وهو البغض. (على ذلك) أي على ما ذكر، وهو كشف العورة بحضرة الآخر، والتحديث وقت قضاء الحاجة. والحديث دليل على وجوب ستر العورة، والنهي عن التحدث حال قضاء الحاجة، والأصل في النهي التحريم، وتعليله بمقت الله عليه أي شدة بغضه لفاعل ذلك زيادة في التحريم. وقيل: إن الكلام في
(3/120)
تلك الحالة مكروه فقط، لكنه
يبعد حمل النهي على الكراهة ربطه بتلك العلة. (رواه أحمد وأبوداود وابن ماجه) وهو
عند الجميع من حديث عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن عياض بن هلال عن أبي
سعيد، قال أبوداود: لم يسنده إلا عكرمة بن عمار-انتهى. وعكرمة هذا وثقه ابن معين
والعجلي وغيرهما، وتكلم البخاري وأحمد
358- (24) وعن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذه
الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء، فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث))
رواه أبوداود وابن ماجه.
359- (25) وعن علي، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((ستر ما بين أعين
الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء،
وأبوداود ويحيى بن سعيد وابن حبان والنسائي في حديثه عن يحيى بن أبي كثير. وقال
الحافظ: صدوق يغلط. وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب، وقال
الشوكاني: لا وجه للتضعيف بهذا، فقد أخرج مسلم حديثه عن يحيى، واستشهد بحديثه
البخاري عن يحيى أيضا-انتهى. وعياض بن هلال مجهول. قال المنذري في الترغيب: عياض
بن هلال لا أعرفه بجرح ولا عدالة، وهو في عداد المجهولين، وروى أحمد عن جابر
مرفوعا: إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه، ولا يتحدثان، فإن الله
يمقت على ذلك. وصححه ابن السكن، وابن القطان، قال الحافظ: وهو معلول.
(3/121)
358- قوله: (وعن زيد بن أرقم)
بفتح همزة وقاف وسكون راء وبترك صرف، هو زيد بن أرقم بن زيد بن قيس الأنصاري
الخزرجي، صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- سبع عشرة غزوة، وأنزل الله تصديقه في سورة المنافقين، ونزل الكوفة، له تسعون
حديثا، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بستة، روى عنه جماعة مات
بالكوفة سنة (66) أو (68) وهو ابن خمس وثمانين، كان من خواص علي، شهد معه صفين.
(إن الحشوش) بضم الحاء المهملة وشينين معجمتين، هي الكتف ومواضع قضاء الحاجة،
واحدها حش مثلث الحاء، وأصله جماعة النخل المتكاثفة، وكانوا يقضون حوائجهم إليها
قبل اتخاذ الكنف في البيوت. (محتضرة) بفتح الضاد أي تحضرها الجن والشياطين يترصدون
بني آدم بالأذى والفساد؛ لأنها مواضع تكشف فيه العورات وتهجر عن ذكر الله.
فيتمكنون منهم في تلك المواضع ما لا يتمكنون في غيرها من المواضع. (أعوذ بالله) قد
تقدم أنه- صلى الله عليه وسلم - يقول: (اللهم إني أعوذبك). فيتخير بين الصيغتين،
أو يقول هذا مرة والآخر مرة (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري (وابن ماجه)
وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم وابن أبي شيبة. قال الترمذي: حديث
زيد بن أرقم في إسناده اضطراب، ثم بين الترمذي هذا الاضطراب، وقد أوضحه ثم رفعه
شيخنا الأجل المباركفوري في شرح الترمذي فارجع إليه.
359- قوله (ستر) بفتح السين مصدر، وقيل بالكسر، وهو الحجاب (ما بين أعين الجن) قال
الطيبي"ستر"مبتدأ و"ما بين" موصولة مضاف إليها وصلتها الظرف
أي الفعل الذي تعلق به، وخبر المبتدأ قوله أن يقول: بسم الله. (عورات بني آدم)
بسكون الواو جمع عورة (إذا دخل أحدهم الخلاء) أي وقت دخول أحد بني آدم، ثم هذا
الظرف
أن يقول: بسم الله)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب وإسناده ليس بقوي.
(3/122)
360- (26) وعن عائشة، قالت:
((كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك )). رواه
الترمذي
قيد واقعي غالبي للتكشف المحتاج إلى الستر بالبسملة المتقدمة، لا أنه احترازي،
فإنه ينبغي أن يبسمل إذا أراد كشف العورة عند خلع الثوب، أو إرادة الغسل، يدل على
ما قلنا من عموم الحكم ما روي عن أنس مرفوعا: ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم
إذا وضعوا ثيابهم أن يقولوا "بسم الله"، أخرجه الطبراني في الأوسط
بإسنادين أحدهما فيه محمد بن مسلمة الأموي، ضعفه البخاري وغيره، ووثقه ابن حبان
وابن عدي، وبقية رجاله الموثقون. (أن يقول: بسم الله) وذلك لأن اسم الله كالطابع
على بني آدم فلا يستطيع الجن فكه، قال المناوي: وقال بعض أئمة الشافعية: ولا يزيد
"الرحمن الرحيم" اقتصارا على الوارد ووقوفا مع ظاهر هذا الخبر. ولا
منافاة بين حديث على هذا وبين ما تقدم من ذكر التعوذ عند دخول الخلاء في حديث زيد
بن أرقم وحديث أنس المتقدم في الفصل الأول، إذ ليس أن يقول: هذا وذاك، أحدهما
تسمية الله والآخر دعاء يستعيذ به من الخبث والخبائث، ويدل على الجمع ما رواه
العمري حديث أنس في التعوذ بلفظ: إذا دخلتم الخلاء فقولوا: "بسم الله، أعوذ
بالله من الخبث والخبائث". قال الحافظ في الفتح: إسناده على شرط مسلم. فالجمع
أفضل، ولو اكتفى بكل منهما لحصل أصل السنة. (رواه الترمذي) في آخر الصلاة، وأخرجه
أيضا ابن ماجه بإسناد الترمذي. (وإسناده ليس بقوي) ولفظ الترمذي في النسخ
الموجودة: وإسناده ليس بذاك. أي ليس بالقوي؛ لأن فيه محمد بن حميد الرازي شيخ
الترمذي وهو ضعيف، قال البخاري: فيه نظر، ورماه بعضهم بالكذب، وكان ابن معين حسن
الرأي فيه، ووثقه أحمد وغيره، وقد صحح المناوي حديث علي هذا في شرح الجامع الصغير،
ويشهد له حديث أنس عند الطبراني، وقد ذكرنا لفظه مع الكلام فيه، والترمذي نفسه قد
حسن حديث محمد بن حميد الرازي في مواضع، فالظاهر
(3/123)
أن حديث علي هذا حديث حسن إن
شاء الله تعالى.
360- قوله: (إذا خرج) هذا يشعر بالخروج عن المكان كما سلف في لفظ "دخل"
لكن المراد أعم منه ولو كان في الصحراء. (قال: غفرانك) أي طلب أو أسأل غفرانك. فهو
منصوب على أنه مفعول به، ويحتمل أن يكون منصوبا على المصدرية أي الغفران اللائق
بجنابك، أو الناشئ من فضلك بلا إستحقاق مني، فلا يرد أنه لا فائدة للإضافة، إذ لا
يتصور غفران غيره هناك. قيل: إنه استغفر لتركه الذكر في تلك الحالة، لما ثبت أنه
كان يذكر الله على كل أحواله إلا حال قضاء الحاجة، فجعل ترك الذكر في هذه الحالة تقصيرا
وذنبا يستغفر منه، وقيل: استغفر لتقصيره في شكر نعمة الله عليه بإقداره على إخراج
ذلك الخارج، فإن انحباسه من أسباب الهلاك، فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة
بدونها، وهذا أنسب ليوافق حديث أنس الآتي في آخر الفصل الثالث. (رواه الترمذي)
وقال: حديث غريب
وابن ماجه والدارمي.
361- (27) وعن أبي هريرة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى الخلاء
أتيته بماء في تور أو ركوة، فاستنجى، ثم مسح يده على الأرض، ثم أتيته بإناء آخر،
فتوضأ)) رواه أبوداود وروى الدارمي والنسائي معناه.
362- (28) وعن الحاكم بن سفيان، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بال
توضأ ونضح فرجه))
حسن، ولا يعرف في الباب إلا حديث عائشة (وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد
والنسائي في "عمل اليوم الليلة" وابن الجارود، وصححه الحاكم، وأبوحاتم
وابن خزيمة وابن حبان. وقال النووي: حديث عائشة حديث حسن صحيح، وجاء في الذي يقال
عقب الخروج من الخلاء أحاديث كثيرة ليس فيها شيء ثابت إلا حديث عائشة المذكور،
قال: وهذا مراد الترمذي بقوله: ولا يعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة.
(3/124)
361- قوله: (أتيته بماء في
تور) بفتح المثناة وسكون الواو، إناء من صفر، أو حجارة يتوضأ منه ويؤكل فيه ويشرب
منه. (أو ركوة) بفتح الراء وسكون الكاف، إناء صغير من جلد يشرب منه ويتوضأ،
و"أو" للشك من الراوي عن أبي هريرة أو للتنويع، أي إن أبا هريرة يأتيه
تارة بهذا وتارة بهذا. (ثم مسح يده على الأرض) عند غسلها مبالغة في تنظيفها
وتعليما للأمة بذلك. (ثم أتيته بإناء آخر) ليتوضأ به. (فتوضأ) بالماء، إتيانه
بإناء آخر، ليس لأنه لا يجوز التوضيء بالماء الباقي من الإستنجاء، أو بالإناء الذي
استنجى به، بل لأنه لم يبق من الأول شيء، أو بقى قليل غير كاف. وقال بعضهم: قد
يؤخذ من هذا الحديث أنه يندب أن يكون إناء الاستنجاء غير إناء الوضوء. (رواه
أبوداود) أي بهذا اللفظ وسكت عنه هو والمنذري. (وروى الدارمي والنسائي) وكذا ابن
ماجه. (معناه) وأخرج النسائي وابن ماجه وابن خزيمة والدارمي عن جرير بن عبدالله
نحوه.
362- قوله: (الحكم بن سفيان) وقيل: سفيان بن الحكم، وقيل: أبوالحكم بن سفيان،
وقيل: عن ابن الحكم عن أبيه، وقيل: غير ذلك إلى عشرة أقوال بسطها الحافظ في تهذيب
التهذيب (ج2: ص425، 426) والسيوطي في التدريب (ص95) في مثال الاضطراب في السند.
قال ابن المديني والبخاري وأبوحاتم: الصحيح الحكم بن سفيان. وقال أحمد والبخاري وابن
عيينة: ليست للحكم صحبة، وقال أبوزرعة وإبراهيم الحربي وابن عبدالبر وغيرهم له
صحبة. وقال الحافظ في التقريب: له صحبة، وذكره في الإصابة في القسم الأول من حرف
الحاء، وذكره المصنف في فصل الصحابة له هذا الحديث فقط. (إذا بال توضأ) للصلاة أو
ليدوم على الطهارة. (ونضح فرجه) أي رش الإزار الذي يلي الفرج
رواه أبوداود والنسائي.
363- (29) وعن أميمة بنت رقيقة، قالت: ((كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قدح من
عيدان تحت سريره يبول فيه
بالليل)) رواه أبوداود والنسائي.
(3/125)
364- (30) وعن عمر، قال:
((رآني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبول قائما، فقال: يا عمر لا تبل قائما،
فما بلت قائما بعد)) رواه الترمذي وابن ماجه.
بقليل من الماء ليكون مذهبا للوسواس، ولتعليم الأمة. رواه أبوداود والنسائي)
وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه، وقد تقدم أن الحديث مضطرب الإسناد، وانظر علل ابن أبي
حاتم (ج1: ص46) والتدريب (ص95) .
363- قوله: (وعن أميمة بنت رقيقة) بالتصغير فيهما واسم أبيها عبدالله بن بجاد
التيمي، صحابية، لها أحاديث، وأمها رقيقة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى، أخت خديجة
أم المؤمنين. قال ابن عبدالبر: كانت أميمة من المبايعات وهي بنت خالة فاطمة
الزهراء، وأميمة هذه هي غير أميمة بنت رقيقة الثقفية تلك تابعية. (كان للنبي - صلى
الله عليه وسلم - قدح) بفتحتين. (من عيدان) بفتح العين جمع عيدانة، وهي أطول ما
يكون من النخل المتجرة من السعف، أتى بلفظ الجمع حملا على الجنس، وضبطه بعضهم بكسر
العين، جمع عود وهو الخشب، وجمع اعتبارا للأجزاء، لا أنه مركب من عيدان. (تحت
سريره) أي موضوع تحت سريره. (يبول فيه بالليل) قيل: يعارضه ما رواه الطبراني في
الأوسط بسند جيد من حديث عبدالله بن يزيد مرفوعا "لا ينقع بول في طست في
البيت، فإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه بول منتقع". والجواب لعل المراد
بالنقاعة طول مكثه، وما يجعل في الإناء لا يطول مكثه غالبا. وقال المغلطائي: يحتمل
أن يكون أراد كثرة النجاسة في البيت بخلاف القدح فإنه لا يحصل به نجاسة لمكان آخر.
(رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم، قال
في عون المعبود: والحديث وإن كان فيه مقال لكنه يؤيده حديث عائشة الذي أخرجه
النسائي، وحديث الأسود الذي أخرجه الشيخان، وفيهما "أنه قد دعا بالطست ليبول
فيها" الحديث. لكن وقع هذا في المرض-انتهى.
(3/126)
364- قوله: (وأنا أبول قائما)
حالان متداخلان. (لا تبل قائما) محمول على ما إذا لم يأمن الرشاش وهذا إن صح
الحديث. (فما بلت قائما بعد) بالبناء على الضم أي بعد هذا النهي. (رواه الترمذي)
أي معلقا. (وابن ماجه) وكذا البيهقي في السنن الكبرى كلاهما موصولا من حديث
عبدالكريم بن أبي المخارق عن نافع عن ابن عمر عن عمر، قال الترمذي: وإنما رفع هذا
الحديث عبدالكريم وهو ضعيف عند أهل الحديث، قال: وروى عبيدالله عن نافع عن ابن عمر
قال: قال عمر: ما بلت قائما منذ أسلمت. قال: وهذا أي حديث عمر الموقوف أصح من حديث
عبدالكريم-انتهى. وأثر عمر هذا
365- (31) قال الشيخ الإمام محي السنة رحمه الله: قد صح عن حذيفة قال: ((أتى النبي
- صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم، فبال قائما)) متفق عليه. قيل: كان ذلك لعذر.
نقله الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1: ص206) ونسبه للبزار، وقال: رجاله ثقات، وهو يدل
على أن عمر ما بال قائما منذ أسلم، لكن قال الحافظ في الفتح: قد ثبت عن عمر وعلي
وزيد بن ثابت، وغيرهم أنهم بالوا قياما، وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن
الرشاش-انتهى.
(3/127)
365- قوله: (أتى سباطة قوم) بضم المهملة بعدها موحدة هي المزبلة والكناسة تكون بفناء الدار مرفقا لأهلها، وتكون في الغالب سهلة لا يرتد فيه البول على البائل، وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا إضافة ملك؛ لأنها لا تخلوا عن النجاسة فكانت مباحة. (فبال قائما) للتشريع وبيان الجواز، وإنما خالف النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة لما قيل: إنه كان مشغولا بمصالح المسلمين فلعله طال عليه المجلس حتى احتاج إلى البول، فلو أبعد لتضرر. وقيل: فعل ذلك لبيان الجواز. وقيل: إنه فعل ذلك في البول، وهو أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة تكشف، ولما يقترن به من الرائحة. وقيل: إن الغرض من الإبعاد التستر، وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر. والحديث يدل على جواز البول من قيام من غير كراهة وعذر. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه. (قيل: كان ذلك لعذر) اعلم أنهم اختلفوا في البول قائما، فرخص قوم من أهل العلم في البول قائما إذا أمن الرشاش، واستدلوا بحديث حذيفة هذا، وبحديث سهل بن سعد، وحديث عصمة بن مالك أخرجهما الطبراني، وبآثار موقوفة على عمر وعلي وزيد بن ثابت، وغيرهم، وهو القول الراجح عندنا. وقال قوم بكراهة البول قائما إلا من عذر، واستدلوا بحديث عمر المتقدم، وقد عرفت أنه ضعيف لا يصلح للاحتياج، وبحديث عائشة الآتي في أول الفصل الثالث، وسيأتي الجواب عنه، وبحديث جابر قال: "نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن يبول الرجل قائما"، رواه ابن ماجه. والجواب عنه أن في سنده عدي بن الفضل وهو متروك. وبحديث بريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من الجفاء أن يبول الرجل قائما" الحديث. والجواب عنه أنه غير محفوظ، قال الترمذي: حديث بريدة في هذا غير محفوظ. وبحديث عائشة قالت: ما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائما منذ أنزل عليه القرآن. أخرجه
(3/128)
أبوعوانة في صحيحه، والحاكم.
والجواب عنه أنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع في البيوت، فقد ثبت أن بوله -
صلى الله عليه وسلم - عند سباطه قوم كان بالمدينة كما جاء في بعض الروايات
الصحيحة، قال الحافظ: وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة، فتضمن الرد على ما نفته من أن
ذلك لم يقع بعد نزول القرآن-انتهى. وقال هؤلاء: إن بوله - صلى الله عليه وسلم -
قائما كان لعذر، فقالوا: فعل ذلك لحرج في مأبضة، واستدلوا بما روى الحاكم والبيهقي
من حديث أبي هريرة قال: "إنما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائما
لحرج كان في مأبضه"، والمأبض باطن الركبة، فكأنه لم يتمكن لأجله من القعود.
قال الحافظ: لو صح هذا الحديث
?الفصل الثالث?
366- (32) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((من حدثكم أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان يبول قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا)) رواه أحمد والترمذي
والنسائي.
367- (33) وعن زيد بن حارثة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((إن جبرئيل أتاه في
أول ما أوحى إليه
لكان فيه غنى، لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي. وذكروا وجوها أخرى على الاحتمال مما
لا دليل عليها ولا قرينة، ولا أثر فلا يلتفت إليها. والأظهر أنه فعل ذلك لبيان
الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود.
(3/129)
366- قوله: (فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا) فيه حجة لمن كره البول قائما إلا من عذر، فإنه يدل على أنه- صلى الله عليه وسلم - ما كان يبول قائما بل كان هديه في البول القعود، والجواب عنه أن في سند حديث عائشة هذا، شريك بن عبدالله النخعي، وهو صدوق يخطئ كثيرا تغير حفظه منذ ولي قضاء الكوفة، قال الشيخ ولي الدين: هو متكلم فيه بسوء الحفظ، وعلى تقدير صحته فحديث حذيفة أصح منه بلا تردد أو تكافأ في الصحة. والجواب عنه أنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة. وقيل: معنى حديث عائشة هذا أي من حدثكم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعتاد البول قائما فلا تصدقوه، ما كان يعتاد البول إلا قاعدا. فلا ينافي حديث حذيفة؛ لأن ما وقع منه قائما كان نادرا لبيان الجواز، والمعتاد الغالب خلافه. (رواه أحمد والترمذي) وقال: حديث عائشة أحسن شيء في هذا الباب وأصح-انتهى. وقد تقدم أن في سنده شريكا القاضي وهو متكلم فيه بسوء الحفظ، قال الحافظ: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن البول قائما شيء، كما بينته في أوائل شرح الترمذي-انتهى. فمعنى قول الترمذي هذا: أن حديث عائشة أقل ضعفا، وأرجح مما ورد في هذا الباب. (والنسائي) وأخرجه أيضا ابن ماجه والحاكم وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين، قال ابن القطان: لا يقال فيه: أنه صحيح. وتساهل الحاكم في التصحيح معروف، وكيف يكون على شرط الشيخين مع أن البخاري لم يخرج لشريك بالكلية، ومسلم خرج له استشهادا لا احتجاجا. ثم رأيت عند الطبعة الثانية "الأحاديث الصحيحة" للشيخ الألباني، وقد حكم هو بصحة هذا الحديث لمتابعة سفيان الثوري شريك بن عبدالله بن المقدام بن شريح عند أحمد (ج6: ص136، 192، 213) وأبي عوانة في صحيحه (ج1: ص198) (والحاكم (ج1: ص181) والبيهقي (ج1: ص101) وقد وافق الذهبي للحاكم
(3/130)
في تصحيحه، وقال في المهذب
(1/22/2): "سنده صحيح"، والأمر كما قال الألباني.
367- قوله: (وعن زيد بن حارثة) بن شراحيل الكلبي حب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ومولاه، يكنى أبا أسامة، وأمه سعدي بنت ثعلبة من بنى معن، خرجت أمه تزور قومها
فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية على أبيات من بني
فعلمه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء، أخذ غرفة من الماء، فنضح بها فرجه))
رواه أحمد والدارقطني.
368- (34) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((جاءني
جبرئيل، فقال: يا محمد إذا توضأت فانتضح))
(3/131)
معن رهط أم زيد، فاحتملوا زيدا وهو يومئذ غلام يقال: له ثمان سنين فوافوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربع مائة درهم، فلما تزوجها وهبته له فقبضه، ثم إن خبره اتصل بأهله فحضر أبوه حارثة وعمه كعب في فدائه فخيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بين نفسه والمقام عنده، وبين أهله والرجوع، فاختار النبي - صلى الله عليه وسلم - لما يرى من بره وإحسانه إليه، فحينئذ خرج به النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحجر فقال: يا من حضر! أشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه، فصار يدعى زيد بن محمد إلى أن جاء الله بالإسلام، ونزل ?ادعوهم لآبائهم، هو أقسط عند الله? [33: 5) فقيل له: زيد بن حارثة. وهو أول من أسلم من الذكور بعد علي بن أبي طالب. وكان النبي أكبر منه بعشر سنين، وقيل بعشرين سنة. وزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولاته أم أيمن فولدت له أسامة، ثم تزوج زينب بنت جحش، ولم يسم الله تعالى في القرآن أحدا من الصحابة غيره في قوله: ?فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها? [33: 37] قال أسامة بن زيد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي: أنت مني وإلي وأحب القوم إلي. استشهد في غزوة موتة وهو أمير الجيش في جمادى الأولى سنة (8) وهو ابن (55) سنة، ونعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في اليوم الذي قتل فيه وعيناه تذرفان. له أربعة أحاديث، روى عنه ابنه أسامة والبراء وابن عباس وغيرهم. (فعلمه الوضوء) فنزول سورة المائدة آخرا كان للتأكيد الحكم وتائيد الأمر. (فلما فرغ من الوضوء) هذا صريح في أن النضح بعد الوضوء، وأنه ليس المراد بالنضح غسل الفرج كما قيل. (أخذ غرفة) بالفتح والضم. (فنضح بها فرجه) أي إزاره حذاء فرجه، وذلك لتعليم الأمة ما يدفع الوسوسة، أو لقطع البول، فإن النضح بالماء البارد يردع البول فلا ينزل منه شيء بعد شيء. (رواه أحمد والدارقطني) وكذا ابن ماجه، وفي سندهم جميعا ابن
(3/132)
لهيعة وفيه مقال مشهور، وأخرجه
أحمد والدارقطني عن أسامة بن زيد بنحوه، وفيه رشدين بن سعد، وثقه هيثم بن خارجة،
وأحمد في رواية، وضعفه آخرون.
368- قوله: (إذا توضأت) أي فرغت من الوضوء. (فانتضح) الانتضاح رش الماء على الثوب
ونحوه، والمراد به أن يرش على فرجه بعد الوضوء ماء ليذهب عنه الوسواس الذي يعرض
للإنسان أنه قد خرج من ذكره بلل، فإذا كان ذلك المكان بللا ذهب ذلك الوسواس، وفي
معناه أقوال أخرى لا نتعرض لها؛ لأنها لا تناسب الأحاديث الواردة في
رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. وسمعت محمدا يعنى البخاري، يقول: الحسن بن علي
الهاشمي الراوي منكر الحديث.
369- (35) وعن عائشة، قالت: ((بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام عمر خلفه
بكوز من ماء، فقال: ما هذا ياعمر؟ فقال: ماء تتوضأ به. قال: ما أمرت كلما بلت أن
أتوضأ، ولو فعلت لكانت سنة)) وراه أبوداود وابن ماجه.
هذا الباب. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا ابن ماجه وليس فيه ذكر جبريل. (الحسن بن
علي الهاشمي الراوي) أي راوي هذا الحديث الذي تفرد به، وهو ضعيف جدا، ليس له في
الكتب الستة إلا هذا الحديث عند الترمذي وابن ماجه. (منكر الحديث) هذا من ألفاظ
الجرح وهو أشد من قولهم "ضعيف". وكان البخاري دقيق العبارة فيما يجرح به
الرواة، وأقسى ما يقول في الراوي: "منكر الحديث". وقد نقل ابن القطان من
البخاري قال: من قلت فيه "منكر الحديث" فلا تحل الرواية عنه. نقله
الذهبي في الميزان، فالحديث ضعيف جدا/ لكن في الباب أحاديث عديدة يدل على أن له
أصلا.
(3/133)
369- قوله: (بكوز من ماء) بضم الكاف، جمعه كيزان وأكواز، وهو ماله عروة من أواني الشرب، ومالا عروة له فهو كوب، وجمعه أكواب. (ما هذا) أي الكوز أي ما حملك على قيامك خلفي ولم جئتني بماء؟. (فقال ماء نتوضأ به) بعد البول الوضوء الشرعي، أو المراد به الوضوء اللغوي، وهو الاستنجاء بالماء وعليه بني الكلام أبوداود حيث أورده في باب الاستبراء، وابن ماجه فذكره في باب من بال ولم يمس ماء. (ما أمرت) أي وجوبا. (كلما بلت) بضم الباء. (أن أتوضأ) الوضوء الشرعي بعد البول، أو استنجى بالماء، وكان قد يترك ما هو أولى وأفضل تخفيفا على الأمة، وإبقاء وتيسيرا عليهم. (ولو فعلت لكانت) أي الفعلة. (سنة) قيل: معناه لو واظبت على غسل محل البول بالماء، أو على الوضوء بعد الحدث لكان طريقة واجبة لازمة لأمتي، فيمتنع عليهم الترخص باستعمال الحجر أو ترك المحافظة على الوضوء، فتأنيث ضمير كانت لتأنيث الخبر. ويحتمل أن يكون المعنى: لكانت فعلتي سنة مؤكدة، يعني أن المراد بالسنة هو المندوب المؤكد كما هو المشهور على ألسنة الفقهاء، إذ الوجوب بمجرد المواظبة محل النظر. قال المناوى: حمل الوضوء في الحديث على المعنى اللغوي مخالف للظاهر بلا ضرورة، والظاهر كما قاله ولي العراقي، حمله على الشرعي المعهود، فأراد عمر أن يتوضأ - صلى الله عليه وسلم - عقب الحدث، فتركه - صلى الله عليه وسلم - تخفيفا وبيانا للجواز. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد كلهم من رواية عبدالله بن يحيى التوأم، عن عبدالله بن أبي مليكة، عن أمه، عن عائشة. وعبدالله بن يحيى ضعيف، وذكره ابن حبان في الثقات، وأم ابن أبي مليكة قال الهيثمي (ج1: ص241): لم أر من ترجمها. ورواه أبويعلى، عن ابن أبي مليكة، عن أبيه، عن عائشة-انتهى. قلت أم عبدالله بن أبي مليكة هذه، ميمونة بنت وليد بن الحارث بن عامر بن نوفل
(3/134)
370-372- (36-38) وعن أبي
أيوب، وجابر، وأنس، أن هذه الآية لما نزلت ?فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب
المطهرين?. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الأنصار إن الله قد
أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟ قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة،
ونستنجي بالماء. فقال: فهو ذاك، فعليكموه)) رواه ابن ماجه.
الأنصارية بنت أم ورقة ثقة، قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج12: ص454) : هي والدة
عبدالله بن عبيدالله بن أبي مليكة روت عن عائشة، قالت: "بال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فقام عمر خلفه بكوز من ماء" الحديث. وروى عنها ابنها، ذكرها
ابن حبان في الثقات من التابعين، وأورد لها هذا الحديث، وقد ذكرها المزي في
المبهمات في أواخر الكتاب؛ لأنها لم تسم في رواية أبي داود، وابن ماجه- انتهى.
(3/135)
370، 371، 372- قوله: (أن هذه الآية) أي الآية. (لما نزلت فيه رجال) ضمير "فيه" لمسجد قباء، والجملة بدل من الآية. (والله يحب المطهرين) أصله المتطهرين أبدلت التاء طاء وأدغمت. (يامعشر الأنصار) المراد بهم أهل قباء كما جاء صريحا في بعض الأحاديث، وتخصيص الأنصار بالخطاب يدل على أن غالب المهاجرين كانوا يكتفون في الإستنجاء على الأحجار. (في الطهور) بضم الطاء وكذا قوله "فما طهوركم" على الأفصح الأشهر. (فهو ذاك) أي ثناء الله عليكم أثر تطهركم البالغ، قاله الطيبي، والأظهر أن الإشارة إلى الاستنجاء فإنه أقرب مذكور ومخصوص بهم، وإلا فالوضوء والاغتسال كان المهاجرون يفعلونهما أيضا، ورواية الحاكم الآتية صريحة في ذلك. (فعليكموه) أي الزموا الاستنجاء بالماء، وفي رواية الحاكم: فقالوا: يا رسول الله، نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، فقال: فهل مع ذلك غيره، قالوا: لا، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء، قال: هو ذاك، وظاهر الحديث أنهم يكتفون بالماء عن الأحجار، وهو المعروف في طرق الحديث، وأما ما رواه البزار عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أهل قباء، فقال: إن الله يثني عليكم، فقالوا: "إنا نتبع الحجارة الماء" ففيه محمد بن عبدالعزيز وقد ضعفه البخاري والنسائي وغيرهما، وهو الذي أشار بجلد مالك، وفيه أيضا عبدالله بن شبيب وهو ضعيف، وقد روى الحاكم من حديث مجاهد عن ابن عباس أصل هذا الحديث، وليس فيه إلا ذكر الاستنجاء بالماء حسب. وحديث أبي أيوب هذا يدل على ثبوت الاستنجاء بالماء والثناء على فاعله لما فيه من كمال التطهير، قال العلماء: الاستنجاء بالماء أفضل من الحجارة، والجمع بينهما أفضل من الكل، قال الأمير اليماني: ولم نجد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع بينهما. (رواه ابن ماجه) وكذا الحاكم من طريق عتبة بن أبي حكيم، عن طلحة بن نافع أبي سفيان، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم
(3/136)
يخرجاه، وأقره الذهبي، لكن قال
الحافظ في التلخيص (ص41):
373- (39) وعن سلمان، قال: ((قال بعض المشركين، وهو يستهزئ: إني لأرى صاحبكم
يعملكم حتى الجزاءة. قلت أجل، أمرنا أن لا نستقبل القبلة، ولا نستنجي بأيماننا،
ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا عظم)) رواه مسلم وأحمد واللفظ له.
374- (40) وعن عبدالرحمن بن حسنة، قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -
إسناده ضعيف. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه الترمذي وأبوداود وابن ماجه بسند ضعيف.
وعن عويم بن ساعدة، أخرجه أحمد وابن خزيمة والطبراني والحاكم. وعن ابن عباس، أخرجه
الحاكم والطبراني. وعن محمد بن عبدالله بن سلام أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة وعبدلله
بن سلام وخزيمة بن ثابت أخرج أحاديثهم الطبراني.
(3/137)
373- قوله: (وهو يستهزئ) أي بسلمان. (إني لأرى صاحبكم) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. (يعلمكم) يعني كل شيء. (حتى الخراءة) أي أدبها، وهي بكسر الخاء المعجمة والراء المهملة ممدودا، وقيل: بفتح الخاء مع المد، اسم لفعل الحدث أي التغوط، وقيل: التخلي والقعود عند الحاجة، وقيل: المراد هيئة القعود للحدث، لكن كون المراد هيئة القعود يقتضي أن يكون بكسر الخاء وسكون الراء وهمزة كجلسة لهيئة الجلوس، قيل: ولعله بالفتح مصدر وبالسكر اسم. قال عياض: وأما الحدث نفسه فبحذف التاء وبالمد مع كسر الخاء وفتحها. (أجل) بسكون اللام أي نعم. (أمرنا) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آداب قضاء الحاجة. (أن لا نستقبل القبلة) أي ولا نستدبرها كما مر. (ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار) أي بأقل من ثلاثة أحجار، هذا نص صريح في أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز. وإن وقع الإنقاء بدونها، قال الطيبي: جواب سلمان من باب أسلوب الحكيم؛ لأن المشرك لما استهزأ كان من حقه أن يهدد أو يسكت عن جوابه، لكنه رضي الله عنه لم يلتفت إلى استهزائه، وأخرج الجواب مخرج المرشد الذي يرشد السائل المجد، يعني ليس هذا مكان الاستهزاء، بل هو جد وحق، فالواجب عليك ترك العناد والرجوع إليه، قال السندهي: والأقرب أنه رد له بأن ما زعمه سببا للاستهزاء ليس بسبب يصرح المسلمون به عند الأعداء، وأيضا هو أمر يحسنه العقل عند معرفة تفصيله، فلا عبرة للاستهزاء به بسبب الإضافة إلى أمر يستقبح ذكره في الإجمال، والجواب بالرد لا يسمى باسم أسلوب الحكيم. (ليس فيها رجيع ولا عظم) هذه الجملة صفة مؤكدة لأحجار مزيلة لتوهم أنها مجاز أو واردة على سبيل التغليب. (رواه مسلم وأحمد) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
(3/138)
374- قوله: (وعن عبدالرحمن بن
حسنة) بفتح المهملتين ثم نون، هو عبدالرحمن بن المطاع بن عبدالله بن الغطريف أخو
شرجيل بن حسنة، وحسنة أمها، صحابي، له هذا الحديث فقط، روى عنه زيد بن وهب، وذكر
مسلم والأزدي، والحاكم في المستدرك، وأبوصالح المؤذن، وابن عبدالبر: أنه تفرد
بالرواية عنه، وأنكر العسكري تبعا لابن
وفي يده الدرقة فوضعها، ثم جلس فبال إليها. فقال بعضهم: أنظروا إليه يبول كما تبول
المرأة. فسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ويحك أما علمت ما أصاب صاحب
بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم البول قرضوه بالمقاريض، فنهاهم فعذب في قبره))
(3/139)
أبي خيثمة أن يكون عبدالرحمن أخا شرجيل، وقال الترمذي لما أشار إلى حديثه: يقال إنه أخو شرجيل (وفي يده الدرقة) بالفتحات الترس من جلود ليس فيه خشب ولا عصب. (فوضعها ثم جلس فبال إليها) أي جعل الدرقة حائلة بينه وبين الناس وبال مستقبلا إليها. (فقال بعضهم: انظروا إليه) وفي رواية الأحمد قال أي عبدالرحمن بن حسنة: كنت أنا وعمرو بن العاص جالسين، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه درقة أو شبهها فاستتر بها فبال جالسا قال: فقلنا: أيبول، الخ. وفي رواية الحاكم فقلت لصاحبي: ألا ترى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يبول؟ وهذه الرواية تدل على أن القائل كان مؤمنا إلا أنه قال ذلك تعجبا لما رآه مخالفا لما عليه عادتهم في الجاهلية، وكانوا قريبي العهد بها. (كما تبول المرأة) أي في التستر، وعليه حمل النووي فقال: إنهم كرهوا ذلك، وزعموا أن شهامة الرجل لا تقتضي التستر على هذا الحال على ما كانوا عليه في الجاهلية، وقيل في الجلوس أو فيهما، وكان شأن العرب البول قائما. ويؤيد الثاني رواية البغوي في معجمه: فقال بعضنا لبعض: يبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تبول المرأة وهو قاعد. وفي معجم الطبراني: يبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس كما تبول المرأة. (ويحلك) كلمة تقال لمن ينكر عليه فعله مع ترفق وترحم في حال الشفقة. (أما علمت ما أصاب) ما الأولى نافية دخلت عليه همزة الاستفهام للإنكار والثانية موصولة، والمراد به العذاب (صاحب بني إسرائيل) بالنصب وقيل بالرفع، أي من العذاب لنهيه عن المعروف وهو الإحتراز من البول، والتنزه عنه بقطع موضعه، ومقصوده - صلى الله عليه وسلم - بذكر صاحب بني إسرائيل لهم بيان سبب القعود في حالة البول، كأنه قال: بلت جالسا لا قائما لئلا يصيبني شيء من البول، فاستنزهت من البول بهذا الوضع الخاص، وفي تعريضك منع عن الاستنزاه كمنع صاحب بني إسرائيل. (كانوا) أي
(3/140)
بنو إسرائيل. (قرضوه) أي
قطعوه، وكان هذا القطع مأمورا به في دينهم. (بالمقاريض) وفي رواية أبي داود: قطعوا
ما أصابه البول منهم. يعني قطعوا الموضع الذي أصابه البول من ثيابهم، ففي حديث أبي
موسى عند البخاري "كان إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه"، ووقع في مسلم "جلد
أحدهم" قال القرطبي: المراد بالجلد واحد الجلود التي كانوا يلبسونها. وحمله
بعضهم على ظاهره، وزعم أنه من الإصر الذي حملوه، ويؤيده رواية أبي داود ففيها
"كان إذا أصاب جسد أحدهم" لكن رواية البخاري صريحة في الثياب، فلعل
بعضهم رواه بالمعنى، قاله الحافظ. (فنهاهم) أي صاحبهم عن القطع. (فعذب في قبره)
بسبب مخالفة حكم شرعه، ونهيه عن العمل عليه وهو الاحتراز عن البول وقطع موضعه من
الثوب. والمعنى تعجبك من فعلي بهذا التعريض فيه شبه إنكار وشائبة نهي عن المعروف،
وهو الإستنزاه من البول
رواه أبوداود وابن ماجه.
375- (41) ورواه النسائي عنه عن أبي موسى.
376- (42) وعن مروان الأصفر، قال: ((رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم
جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبدالرحمن أليس قد نهى عن هذا؟ قال: بل إنما نهي عن
ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس)) رواه أبوداود.
377- (43) وعن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء
قال:
بالبول جالسا، أى فنهيك بهذا التعريض يشبه نهى صاحب بني إسرائيل فيخاف أن يؤدي إلى
العذاب كما أدى نهيه إليه. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (وابن ماجه)
وأخرجه أيضا أحمد، والنسائي، وابن حبان والحاكم، والبيهقي، قال الحاكم: هذا حديث
صحيح الإسناد، ومن شرط الشيخين إلى يبلغ تفرد زيد بن وهب بالرواية عن عبدالرحمن بن
حسنة، قال الذهبي: رواه عدة عن الأعمش عن زيد بن وهب وهو على شرطهما.
(3/141)
375- قوله: (ورواه النسائي
عنه) أي عن عبدالرحمن بن حسنة، وهو صحابي كما تقدم. (عن أبي موسى) فيكون رواية
الصحابي عن الصحابي، لكن لم أجده في السنن الصغرى، ولعله في السنن الكبرى.
376- قوله: (وعن مروان الأصفر) بالفاء، قيل: اسم أبيه خاقان، وقيل: سالم، أبوخليفة
البصري ثقة تابعي. (أناخ) أي أقعد (راحلته) الراحلة المركب من الإبل ذكرا كان أو
أنثى. (يبول إليها) أي الراحلة. (أليس قد نهي عن هذا) أي عن استقبال القبلة عند
قضاء الحاجة. (قال بل) للإضراب أي لا مطلقا. (إنما نهي عن ذلك في الفضاء) بفتح
الفاء أي الصحراء. (فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك) بضم التاء. (فلا بأس)
قول ابن عمر هذا يدل على أن النهي عن الاستقبال والإستدبار إنما هو في الصحراء مع
عدم الساترة، واستدل به من فرق بين الصحراء والبنيان، وأجاب من قال بالمنع مطلقا
بأن قول ابن عمر هذا يحتمل أنه قد علم ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
ويحتمل أنه قال ذلك استنادا إلى الفعل الذي شاهده ورواه، فكأنه لما رأى النبي -
صلى الله عليه وسلم - في بيت حفصة مستدبر القبلة فهم اختصاص النهي بالبنيان، فلا
يكون هذا الفهم حجة، ولا يصلح هذا القول للاستدلال به، وأقل شيء الإحتمال فلا
ينتهض لإفادة المطلوب. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وذكره الحافظ في
التلخيص، ولم يتكلم عليه بشيء، وذكر في الفتح أنه أخرجه أبوداود والحاكم بإسناد
حسن.
377- قوله: (إذا خرج من الخلاء) أي أو انتقل عن محل قضاء الحاجة الذي في الصحراء
وإن لم يكن معدا فإنه
الحمد لله الذي أذهب عنى الأذى وعافاني)) رواه ابن ماجه.
378- (44) وعن ابن مسعود، قال: ((لما قدم وفد الجن على النبي - صلى الله عليه وسلم
- قالوا: يا رسول الله! إنه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة، فإن الله جعل
لنافيها رزقا. فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك)) رواه أبوداود.
(3) باب السواك
(3/142)
?الفصل الأول?
يسن قول ذلك مطلقا. (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى) أي لمؤذي. (وعافاني) أي من
احتباسه، أو من نزول الأمعة معه. وفي حمده - صلى الله عليه وسلم - إشعار بأن هذه
نعمة جليلة ومنة جزيلة، فإن انحباس ذلك الخارج من أسباب الهلاك، فخروجه من النعم
التي لا تتم الصحة بدونها. وحق على من أكل ما يشتهيه من طيبات الأطعمة، فسد به
جوعته، وحفظ به صحته وقوته، ثم لما قضى منه وطره، ولم يبق فيه نفع واستحال إلى تلك
الصفة الخبيثة المنتنة، خرج بسهولة من مخرج معد لذلك، أن يستكثر من محامد الله جل
جلاله. (رواه ابن ماجه) وفيه إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف الحديث، وأخرجه
النسائي، وعبدالرزاق وسعيد بن منصور في سننه عن أبي ذر، ورمز السيوطي بصحته.
378- قوله: (إنه) بسكون النون وفتح الهاء أمر من نهى ينهى. (أو حممة) بضم الحاء
وفتح الميم على وزن رطبه، الفحم وما احترق من الخشب أو العظام ونحوهما. (فإن الله
جعل لنا) أي ولدوابنا. (فيها رزقا) قال القاري: قوله رزقا للجن أي انتفاعا لهم
بالطبخ والدفاء والإضاءة. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وقال المنذري: في إسناده
إسماعيل بن عياش وفيه مقال مشهور-انتهى. قلت: إسماعيل بن عياش هذا حمصي، وهو صدوق
في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم، وقد روي هذا الحديث عن يحيى بن أبي عمر
والسيباني الحمصي فالحديث حسن صالح للاحتجاج على النهي عن الإستنجاء بالحممة.
(3/143)
(باب السواك) بكسر السين يطلق على الفعل، وعلى العود الذي يستاك به، والمراد هنا الأول وهو الظاهر، أو الثاني، والمراد استعماله على حذف المضاف، وقال الجزري: السواك والمسواك ما يدلك به أسنان من العيدان، يقال: ساك فاه يسوكه إذا دلكه بالسواك، فإذا لم يذكر الفم، يقال: إستاك-انتهى. قال القاري: في إفراد هذا الباب من سنن الوضوء إيماء إلى أن السواك ليس من أجزاء الوضوء المتصل به، وإشارة إلى جواز تقديم السواك على الوضوء، وأنه ليس يتعين أن يكون محله قبل المضمضة-انتهى. وينبغي أن يكون السواك من الأراك لحديث أبي الخيرة الصباحي
(3/144)
قال: كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزودنا الأراك نستاك به، فقلنا: يارسول الله! عندنا الجريد، ولكن نقبل كرامتك وعطيتك. وفي لفظ "ثم أمر لنا بأراك فقال: إستاكوا بهذا" أخرجه البخاري في تاريخه، والطبراني في الكبير، وأبوأحمد الحاكم في الكنى، وأبونعيم في المعرفة، ذكره الحافظ في التلخيص (ص26) وسكت عنه. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص100) : إسناده حسن. ولحديث ابن مسعود، قال كنت اجتني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواكا من أراك. أخرجه أبويعلى في مسنده، وابن حبان، والطبراني، وصححه الضياء في أحكامه، وأخرجه أحمد موقوفا على ابن مسعود: أنه كان يحتني سواكا من أراك-الحديث. ولم يقل فيه: أنه كان يجتنيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ولحديث أبي زيد الغافقي رفعه: الأسوكة ثلاثة: أراك فإن لم يكن أراك، فعنم أو بطم. قال راويه: العنم الزيتون. أخرجه أبونعيم في معرفة الصحابة. فإن تعذر الأراك فقيل: الأفضل الزيتون، لحديث أبي زيد الغافقي، ولحديث معاذ بن جبل رفعه: نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة، تطيب الفم، وتذهب بالحفر، وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي. أخرجه أبونعيم في كتاب السواك، والطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: فيه معلل بن محمد، ولم أجد من ذكره، وقيل: الأفضل عند عدم الأراك جريدة النخل لحديث عائشة في قصة سواك عبدالرحمن بن أبي بكر أنه كان جريدة رطبة، ووقع في مستدرك الحاكم: أنه كان من أراك رطب، فالله أعلم، فإن تعذرت إستاك بما تيسر مما يزيل التغير والصفرة، فإن تعذر، أو كان مقلوع الأسنان أجزأ السواك بالإصابع، لما روى في ذلك من حديث أنس عند ابن عدي والدارقطني والبيهقي، وفي إسناده نظر، ومن حديث عائشة عند أبي نعيم والطبراني وابن عدى، وفيه المثنى بن الصباح، وهو ضعيف اختلط بآخره ومن حديث كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده عند أبي نعيم، والطبراني في الأوسط،
(3/145)
وكثير ضعفوه. ومن حديث علي عند
أحمد في مسنده، وهو أصح مما تقدم: أنه دعا بكوز من ماء فغسل وجه وكفيه ثلاثا،
وتمضمض فأدخل بعض أصابعه في فيه-الحديث. وفي آخره "هذا وضوء رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -". ومن حديث عائشة أيضا عند الطبراني في الأوسط قالت: قلت:
يارسول الله! الرجل يذهب فوه يستاك؟ قال: نعم! قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل إصبعه في
فيه فيدلكه، وفيه عيسى بن عبدالله الأنصاري وهو ضعيف. وأما الأبراش التي تعمل في
معامل أوروبا أو غيرها لتصفية الأسنان وتنقيتها فالاحتراز منها أولى وأحوط عندي،
فإن أكثرها كما قيل تصنع من أشعار الخنازير إلا أن يعلم أنها عملت من غيرها مما
يؤكل لحمه. وينبغي أن يستاك على الأسنان عرضا لئلا يدمى لحم لسانه، وفيه حديث
مرفوع رواه أبوداود في مراسيله من طريق عطاء بلفظ: إذا استكتم فاستاكوا عرضا. وروى
البغوي والعقيلي والطبراني والبيهقي وغيرهم من حديث سعيد بن المسيب عن بهز قال
"كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك عرضا" الحديث. وفي إسناده ثبيت
بن كثير، وهو ضعيف، واليمان بن عدى، وهو أضعف منه، وأما اللسان فيستاك طولا كما في
حديث أبي موسى عند الشيخين، ولفظ أحمد "وطرف السواك على لسانه يستن إلى
فوق" قال الراوي: كأنه يستن طولا.
379- (1) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن
أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء، وبالسواك عند كل صلاة))
(3/146)
379- قوله: (لولا أن أشق على أمتي) أي لولا خشية المشقة عليهم. (لأمرتهم) أي أمر إيجاب وإلا فالندب ثابت، وفيه دلالة على أن مطلق الأمر للإيجاب. (بتأخير العشاء) أي إلى ثلث الليل أو نصف الليل. (وبالسواك) أي باستعماله إن كان المراد به الآلة، وإن كان المراد به الفعل فلا تقدير. (عند كل صلاة) فريضة أو نافلة، وهذا لفظ مسلم، وكذا وقع عند الترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه، ووقع في رواية البخاري في الجمعة "مع كل صلاة"، وحقيقة كلمة مع وعند فيما اتصل حسا أو عرفا فيدل على كون السواك سنة عند الصلاة أيضا خلافا لمن لم يجعله من سنن الصلاة نفسها، فربما يفضي إلى حرج. ورد هذه السنة الصحيحة الصريحة بتعليلات واهية منها أنه مظنة جراحة اللثة وخروج الدم، وهو ناقض عند الحنفية، فربما يفضي إلى حرج. وفيه أن هذا تعليل في مقابلة النص فلا يلتفت إليه، على أنه مبنى على كون خروج الدم من غير السبيلين ناقضا للوضوء، ولم يثبت ذلك كما تقدم، ولو سلم فمن يخاف ذلك فليستعمل بالرفق على نفس الأسنان واللسان دون اللثة، ومنها أنه لا ينبغي عمله في المساجد؛ لأنه من إزالة المستقذرات. وفيه أن هذا التعليل أيضا مردود. قال الشيخ محمد طاهر الفتني الحنفي في مجمع البحار (ج2: ص158): لأن الحديث دل على استحبابه لكل صلاة، فكيف بمن هو في الصف الأول ينتظر الصلاة، هل يخرج إذا أقيمت أو يترك الصلاة فيخالف الحديث، أو يستاك قبل الدخول فلا يكون استاك عند الصلاة، وقوله "من المستقذرات" معارض بأنه عبادة، والمفروض فيما إذا لم يحصل بصاق ولا تفل، انتهى. وقال العلامة العظيم آبادي في غاية المقصود: ولا نسلم أنه من إزالة المستقذرات، كيف وقد كان زيد بن خالد الجهني يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب لا يقوم إلى الصلاة إلا استن، ثم رده إلى موضعه؟. (وسيأتي هذا الحديث) وروى الخطيب في كتاب أسماء من روى عن مالك من طريق يحيى
(3/147)
بن ثابت، عن مالك عن أبي
الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سوكهم
على آذانهم يستنون بها لك صلاة. وروى ابن أبي شيبة عن صالح بن كيسان: أن عبادة بن
الصامت وأصحاب رسول الله كانوا يروحون والسواك على آذانهم. ومنها أنه لم يرو أنه
عليه الصلاة والسلام استاك عند قيامه إلى الصلاة، فيحمل قوله "لأمرتهم
بالسواك عند كل صلاة" على كل وضوء صلاة، بدليل ما في بعض الروايات من قوله:
عند كل وضوء، وفيه أنه من البعيد كل البعد أن يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
الأمة بالسواك عند الصلاة، ويؤكده عليهم، ولا يفعل ذلك هو بل يترك، مع أنه ثبت
عمله بذلك، فقد روى الطبراني في الكبير عن زيد بن خالد الجهني، قال: ما كان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من بيته لشيء من الصلوات حتى يستاك، قال
الهيثمي: رجاله موثقون، انتهى. ومن المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان
يخرج بعد سماع الأذان إلا عند إقامة الصلاة، فكان استياكه في البيت عند قيامه إلى
الصلاة، وليس بين الروايتين تعارض حتى تحمل رواية الصلاة على الوضوء، بل يقال:
متفق عليه.
380- (2) وعن شريح بن هانئ، قال: ((سألت عائشة: بأي شيء كان يبدأ رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك)) رواه مسلم.
(3/148)
إن كلا منهما سنة. قال القاري: قال بعض علمائنا من الصوفية في نصائحه العبادية: ومنها مداومة السواك لا سيما عند الصلاة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة، أو عند كل صلاة. رواه الشيخان. وروى أحمد: أنه عليه السلام قال: صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك، والباء للإلصاق أو المصاحبة، وحقيقتهما فيما اتصل حسا أو عرفا، وكذا حقيقة كلمة "مع" و"عند". والنصوص محمولة على ظواهرها إذا أمكن، وقد أمكن ههنا فلا مساغ إذا على الحمل على المجاز، أو تقدير مضاف، كيف وقد ذكر السواك عند نفس الصلاة في بعض كتب الفروع المعتبرة. قال في التتارخانية نقلا عن التتمة: ويستحب السواك عندنا عند كل صلاة، ووضوء، وكل شيء يغير الفم، وعند اليقظة-انتهى. وقال الفاضل المحقق ابن الهمام في شرح الهداية: ويستحب في خمسة مواضع: اصفرار السن، وتغير الرائحة، والقيام من النوم، والقيام إلى الصلاة وعند الوضوء –انتهى. والسر في كون السواك سنة عند القيام إلى الصلاة أنها حال تقرب إلى الله، فاقتضى أن يكون حال كمال ونظافة إظهارا لشرف العبادة، وقد ورد من حديث علي عند البزار بسند رجاله ثقات، ما يدل على أنه لأمر يتعلق بالملك الذي يستمع القرآن من المصلي، فلايزال يدنو منه حتى يضع فاه على فيه فيتأذى بالرائحة الكريهة، فسن السواك لأجل ذلك. وقيل: لأنه يقطع البلغم، ويزيد في الفصاحة، وتقطيع البلغم مناسب للقراءة لئلا يطرأ عليه فيمنعه القراءة وكذا الفصاحة. (متفق عليه) فيه أن الشيخين أخرجا فضل السواك فقط، نعم أخرج الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه الفضلين، قال ابن مندة: إسناد الحديث مجمع على صحته.
(3/149)
380- قوله: (وعن شريح) بضم
الشين المعجمة. (بن هانئ) بالهمزة، هو شريح بن هانئ بن يزيد الحارثي المذحجي
أبوالمقدام الكوفي، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، وكان من أصحاب
علي، وشهد معه المشاهد، وكان ثقة، وله أحاديث ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من
تابعي أهل الكوفة، وذكر مسلم في المخضرمين، وكان على شرطة علي رضي الله عنه، قتل
بسجستنان مع عبيدالله بن أبي بكرة. سنة (78). (بالسواك) أي يبدأ به وفيه بيان
فضيلة السواك في جميع الأوقات، وشدة الإهتمام به وتكراره لعدم تقييده بوقت الصلاة
والوضوء؛ لأن دخول البيت لا يختص بوقت دون وقت فكذا السواك، ولعله إذا انقطع عن
الناس يستعد للوحي، وقيل: كان ذلك لاشتغاله بالصلاة النافلة في البيت، وقيل: لأنه
ربما يتغير رائحة الفم بمحادثة الناس فمن حسن معاشرة الأهل إزالته. (رواه مسلم)
وأخرجه أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
381- (3) وعن حذيفة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قام للتهجد من
الليل يشوص فاه بالسواك)) متفق عليه.
382- (4) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عشر من
الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل
البراجم، ونتف الإبط،
381- قوله: (إذا قام للتهجد من الليل يشوص فاه) بضم المعجمة وسكون الواو بعدها
مهملة، أي يدلك أسنانه وينقيها وينظفها. (بالسواك)؛ لأن النوم مقتض لتغير الفم لما
يتصاعد إليه من أبخرة المعدة، والسواك ينظفه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في
الطهارة، وفي صلاة الجمعة، وفي صلاة الليل، ومسلم في الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد
وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
(3/150)
382- قوله: (عشر) مبتدأ بتقدير عشرة خصال، أو عشرة أفعال أو خصال عشرة، أو أفعال عشرة، وقوله "من الفطرة" خبر له، أو صفة ما بعده خبر. ورواية الخمس لا تنفي الزيادة إذ لا مفهوم للعدد. (من الفطرة) بكسر الفاء بمعنى الخلقة، والمراد ههنا السنة أي من السنن القديمة التي اختارها الله تعالى للأنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم فكأنها أمر جبلي فطروا عليه. (وقص الشارب) أي إحفاءه حتى بيد وحمرة الشفة العليا، لقوله: أحفوا الشوارب في حديث ابن عمر عند الشيخين، والإحفاء هو الإستيصال. وقيل: هو مخير بين الإحفاء والقص أي القطع. والشارب هو الشعر النابت على الشفة العليا. (وإعفاء اللحية) أي توفيرها وتكثيرها وإرسالها. وأما الأخذ من طولها أو عرضها شيئا للتناسب، ولئلا يصل إلى حد الشهرة فقد جوزه بعض السلف. واللحية شعر الخدين والذقن. وسيأتي الكلام مفصلا في قص الشارب وإحفاء اللحية، والختان في باب الترجل إن شاءالله تعالى. (واستنشاق الماء) أي مع الاستنثار، وهو يحتمل حمله على ما ورد فيه الشرع باستحبابه من الوضوء والاستيقاظ وعلى مطلقه، وعلى حال الاحتياج باجتماع الأوساخ في الأنف، وكذا السواك يحتمل كلا منهما كذا في المجمع. (وقص الأظفار) جمع ظفر، والمراد قطع ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظفر؛ لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة. (وغسل البراجم) بفتح الباء وكسر الجيم جمع "برجمة" بضم الباء والجيم. وهي عقد الأصابع ومعاطفها ومفاصلها. ونبه بها على ما عداها من المواضع التي يجتمع فيها الوسخ فينظف كلها. (ونتف الابط) بالسكون وبكسر أي أخذ شعره بالأصابع؛ لأنه يضعف الشعر، وهل يكفي الحلق والنوير في السنة؟ فيه اختلاف، فمن نظر إلى المعنى وهو النظافة أجازه بكل مزيل، وقال: يكفي الحلق والتنوير، ويتأدى أصل السنة بذلك، لاسيما من يؤلمه النتف، ومن نظر إلى اللفظ وقف مع النتف
(3/151)
وهو في الابتداء موجع، ولكن
يسهل على من اعتاده. والحكمة في تخصيص الإبط
وحلق العانة، وانتقاض الماء- يعني الاستنجاء- قال الراوي: ونست العاشرة إلا أن
تكون المضمضة)) وراه مسلم. وفي رواية "الختان" بدل "إعفاء
اللحية". لم أجد هذه الرواية في الصحيحين، ولا في كتاب الحميدي.
بالنتف أنه محل الرائحة الكريهة باحتباس الأبخرة عند المسام، والنتف يضعف أصول
الشعر، والحلق يقويها، وقد جوز الحلق لمن لا يقدر على النتف. (وحلق العانة) هو
الشعر الذي فوق القبل من ذكر أو أنثى، أو منبته، وقيل: هو الشعر النابت حول حلقة
الدبر، فتحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وما حولهما، وقيل
يستحب للمرأة النتف. وروى ابن ماجه عن أم سلمة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان
إذا طلى بدأ بعورته، فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله، رجاله ثقات، وهو منقطع، حبيب
بن أبي ثابت لم يسمع من أم سلمة، قاله أبوزرعة. (واتقاص الماء) بالقاف والصاد
المهملة على المشهور. (يعني الاستنجاء) بالماء، هذا التفسير من وكيع، أحد رواة
الحديث كما بينه قتيبة في رواية مسلم، وقيل: معناه انتقاص البول بالماء، وهو أن
يغسل ذكره بالماء ليرتد البول بردع الماء، ولو لم يغسل نزل منه شيء فشيء فيعسر
الاستبراء منه، فالماء على تفسير وكيع المستنجى به، وعلى القول الثاني البول،
فالمصدر مضاف إلى المفعول، وإن أريد به الماء المستنجى به أي المغسول به فالإضافة
إلى الفاعل، أي وانتقاص الماء البول، وانتقص لازم ومتعد. وقيل: معناه انتفاض الماء
بالفاء والضاد المعجمة والمهملة أيضا، وهو الانتضاح بالماء على الذكر بعد الوضوء
لنفي الوسواس، وهذا أقرب؛ لأن في حديث عمار عند أبي داود وابن ماجه بدله
"والانتضاح". (قال الراوي) هو مصعب بن شيبة. (إلا أن تكون المضمضة) قال
ابن الملك: لأن المضمضة والاستنشاق يذكران معا، وهو استثناء مفرغ، قال ابن حجر ضمن
"نسي" معنى النفي؛ لأن الترك
(3/152)
موجود في ضمن كل، أي لم أنذكر
فيما أظن شيئا يتم الخصال به عشر، إلا أن يكون مضمضة، انتهى. وقال السندهي: أي
نسيت العاشرة كل وقت إلا وقت كونها المضمضة، أو على كل تقدير إلا على تقدير أن
تكون المضمضة، يريد أنه يظن أن العاشرة هي المضمضة، فإن كانت هي المضمضة في الواقع
فهو غير ناس للعاشر، وإلا فهو ناس لها، فهذا استثناء مفرغ من أعم الأوقات أو
التقديرات كما قدرنا، انتهى. قال عياض: هذا شك من مصعب فيها، ولعلها الختان
المذكور مع الخمس في حديث أبي هريرة، أي الآتي في الترجل، وتبعه النووي والقرطبي.
(رواه مسلم) في الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في الأدب وحسنه، وأبوداود في
الطهارة والنسائي في الزينة، وابن ماجه في الطهارة، وفي سندهم جميعا مصعب بن شيبة،
قال الحافظ: وثقه ابن معين، والعجلي، وغيرهما، ولينه أحمد وأبوحاتم وغيرهما،
فحديثه حسن، وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره، فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ
انتهى. (وفي رواية الختان) هو قطع الجلدة التي تغطي الحشفة. (بدل) بالنصب. (إعفاء
اللحية) برفع "إعفاء" على الحكاية، وقيل بالجر على الإضافة. (لم أجد هذه
الرواية) أي رواية الختان التي ذكرها البغوي في المصابيح.
383- (5) ولكن ذكرها صاحب "الجامع، وكذا الخطابي في "معالم السنن"
عن أبي داود برواية عمار بن ياسر.
?الفصل الثاني?
384- (6) عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((السواك مطهرة
للفم، مرضاة للرب))
(3/153)
383- قوله: (ولكن ذكرها) أي هذه الرواية (صاحب الجامع) أي للأصول وهو ابن الأثير. (وكذا) أي ذكرها. (الخطابي في معالم السنن) الذي شرح به سنن أبي داود. (عن أبي داود) متعلق بذكرها المذكور. (برواية عمار ابن ياسر) أي لا برواية عائشة، كأنه اعتراض على البغوي حيث ذكر رواية الختان في الصحاح مع أنها ليست في الصحيحين، ولا في أحدهما، وهو مخالف لما وعد في أول كتابه. والجواب أن ذلك في مقاصد الباب والأصول، دون ما ذكر من اختلاف ألفاظ الحديث ونحوها مما يشمل الفائدة، ورواية عمار هذه أخرجها أيضا ابن ماجه، وصححها ابن السكن، وهي معلولة؛ لأنها إما مرسلة، أو منقطعة. وعمار بن ياسر، هو عمار بن ياسر بن مالك العنسي، أبواليقظان مولى بني مخزوم وحليفهم، وذلك أن ياسرا والد عمار قدم من اليمن مكة مع أخوين له يقال بهما : الحارث ومالك في طلب أخ لهم رابع، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فحالف أبا حذيفة بن المغيرة، فزوجه أبوحذيفة أمة له يقال لها: سمية فولدت له عمارا، فأعتقه أبوحذيفة، فعمار مولى وأبوه حليف، أسلم عمار وأبوه قديما، وكانا من المستضعفين الذين عذبوا بمكة ليرجعوا عن الإسلام. وقتل أبوجهل سمية، فهي أول شهيدة في الإسلام، وأحرق المشركون عمارا بالنار، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمر به فيمر يده عليه ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت على إبراهيم، وهو من المهاجرين الأولين، شهد بدرا والمشاهد كلها، وأبلى فيها، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الطيب المطيب. قتل بصفين وكان مع علي بن أبي طالب سنة (37) وهو ابن (93) سنة، ودفن هناك بصفين، وتواترت الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية، ومناقبه وفضائله كثيرة جدا، روي له اثنان وستون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث، روى عنه جماعة منهم علي وابن عباس.
(3/154)
384- قوله: (السواك مطهرة
للفم) بفتح الميم وكسرها لغتان، والفتح أفصح، والكسر أشهر، وهو كل آلة يتطهر بها،
والسواك بمعنى العود الذي يدلك به الأسنان، لاشك في كونه آلة لطهارة الفم بمعنى
نظافته. (مرضاة للرب) بفتح ميم وسكون راء، والمراد أنه آلة لرضا الله تعالى،
باعتبار أن استعماله سبب لذلك، وقيل: مطهرة ومرضاة بفتح ميم كل منهما مصدر بمعنى
اسم الفاعل، أي مطهر للفم، ومرض للرب، أوهما باقيان على المصدرية أي سبب للطهارة
والرضا. وجاز
رواه الشافعي وأحمد والدارمي والنسائي، ورواه البخاري في "صحيحه" بلا
إسناد.
385- (7) وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع من سنن
المرسلين، الحياء – ويروى الختان – والتعطر، والسواك، والنكاح)) رواه الترمذي.
أن يكون مرضاة بمعنى المفعول أي مرضى للرب. قال السندهي: والمناسب بهذا المعنى أن
يراد بالسواك: استعمال العود لا نفس العود، إما على ما قيل: إن اسم السواك قد
يستعمل بمعنى استعمال العود أيضا، أو على تقدير المضاف، ثم لا يخفى أن المصدر إذا
كان بمعنى اسم الفاعل يكون بمعنى اسم الفاعل من ذلك المصدر لا من غيره، فينبغي أن
يكون ههنا مطهرة ومرضاة بمعنى طاهر وراض لا بمعنى مطهر ومرض، ولا معنى لذلك
فليتأمل، ثم المقصود من الحديث، الترغيب في استعمال السواك وهذا ظاهر. (رواه الشافعي)
وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي، وقد طول الحافظ الكلام فيه في
التلخيص (ص21) فارجع إليه. (ورواه البخاري في صحيحه) في كتاب الصيام. (بلا إسناد)
أي تعليقا بصيغة جزم، فقال: وقالت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: السواك
مطهرة للفم، مرضاة للرب" وتعليقات البخاري المجزومة صحيحة قاله المنذري،
والصواب أن يقول المصنف: ذكره البخاري تعليقا، أو يقول: علقه البخاري فإنه لا يقال
في مثل هذا "رواه البخاري تعليقا".
(3/155)
385- قوله: (أربع من سنن
المرسلين) يعني من طريقتهم، والمراد الرسل من البشر، قال المناوى: والمراد أن
الأربع من سنن غالب الرسل، فنوح لم يختتن، وعيسى لم يتزوج. (الحياء) بفتح المهملة
بعدها تحتية، يعني به ما يقضي الحياء من الدين كستر العورة، والتنزه عما تأباه
المروءة، ويذمه الشرع من الفواحش وغيرها، لا الحياء الجبلي نفسه، فإنه مشترك بين
الناس، وإنه خلق غزيري لا يدخل في جملة السنن، قاله التوربشتي. (ويروى الختان) أي
بخاء معجمة ومثناة فوقية. ونون، وهو من سنة الأنبياء من لدن إبراهيم عليه السلام
إلى زمن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الرواية أنسب لحديث عمار
المتقدم، وحديث أبي هريرة الآتي في الترجل، فإنه ذكر فيهما "الختان من خصال
الفطرة". ويروى الحناء بمهملة ونون مشددة، وهذه الرواية غير صحيحة، ولعلها
تصحيف؛ لأنه يحرم على الرجال خضاب اليد والرجل تشبها بالنساء، وأما خضاب الشعر به
فلم يكن قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - فلا يصح إسناده إلى المرسلين. (والتعطر)
أي استعمال العطر وهو الطيب في البدن والثياب. (رواه الترمذي) في أول النكاح
وحسنه. قال شيخنا في شرح الترمذي: في تحسين الترمذي هذا الحديث نظر، فإنه تفرد به
أبوالشمال بن ضباب، وهو مجهول، إلا أن يقال: إن الترمذي عرفه، ولم يكن عنده مجهولا،
أو يقال: إنه حسنة لشواهده، فروى نحوه عن غير أبي أيوب، قال الحافظ في التلخيص بعد
ذكر حديث أبي أيوب هذا: رواه
386- (8) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا
يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ، إلا يتسوك قبل أن يتوضأ)) رواه أحمد وأبوداود.
387- (9) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك، فيعطيني السواك
لأغسله فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله وأدفعه إليه)) رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
388- (10) عن ابن عمر: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أراني في المنام
(3/156)
أحمد والترمذي. ورواه ابن أبي
خيثمة من حديث مليح بن عبدالله عن أبيه عن جده نحوه، ورواه الطبراني من حديث ابن
عباس انتهى.
386- قوله: (لا يرقد) بضم القاف أي لا ينام. (من ليل) أي بعض ليل أو في الليل.
(فيستيقظ) يجوز فيه الرفع للعطف، ويكون النفي منصبا عليهما معا، والنصب جوابا
للنفي؛ لأن الاستيقاظ مسبوق بالنوم؛ لأنه مسبب عنه، قاله الطيبي. (إلا يتسوك)؛ لأن
النوم يغير الفم فيتأكد السواك عند الاستيقاظ منه إزالة لذلك التغير. (رواه أحمد
وأبوداود) وسكت عنه، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، قال الترمذي: صدوق إلا أنه
ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره، وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث:
وعلي ضعيف. وفي استحباب السواك عند الاستيقاظ من النوم أحاديث متعددة، ذكرها
الحافظ في التلخيص مع الكلام عليها.
387- قوله: (لأغسله) للتليين، أو للتطيب والتنظيف. قال ابن حجر: يؤخذ منه أن غسل
السواك في أثناء التسوك به وبعده قبل وضعه سنة. (فأبدأ به) أي باستعماله قبل الغسل
لنيل البركة، ولا أرضى أن يذهب بالماء ما صحبه السواك من ماء أسنانه. (فأستاك) أي
قبل الغسل أستاك به تبركا، وهذا دال على عظيم أدبها، وكبير فطنتها؛ لأنها لم تغسله
ابتداء حتى لا يفوتها الاستشفاء بريقه، ثم غسلته تأدبا وامتثالا، وفيه التبرك
بآثار الصالحين، والتلذذ بها. وفيه أن استعمال سواك الغير برضاه جائز. (رواه
أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري.
(3/157)
388- قوله: (أراني) بفتح
الهمزة من الرؤية أي أرى نفسي، فالفاعل والمفعول للمتكلم، وهذا من خصائص أفعال
القلوب، وأصله رأيت نفسي، وعدل إلى المضارع لحكاية الحال الماضية. (في المنام) هذا
لفظ مسلم، وهو صريح في أن القضية كانت في المنام، وأخرجه أحمد والبيهقي بلفظ: رأيت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستن فأعطاه أكبر القوم، ثم قال: إن جبرئيل
أمرني أن أكبر، وهذا يقتضي أن تكون القضية وقعت في اليقظة، ويشهد لرواية أحمد
والبيهقي، وما رواه أبوداود بإسناد حسن عن عائشة أعني الذي ذكره المصنف بعد
حديثين، ويجمع بين الروايتين أن ذلك لما وقع في اليقظة
أتسوك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما،
فقيل لي : كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما)) متفق عليه.
389-(11) وعن أبي أمامة، أن رسول الله قال: ((ما جاءني جبرئيل عليه السلام قط إلا
أمرني بالسواك، لقد خشيت أن أحفي مقدم في)) رواه أحمد.
390-(12) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد أكثرت عليكم
في السواك)) رواه البخاري.
(3/158)
أخبرهم - صلى الله عليه وسلم -
بما رآه في المنام، تنبيها على أن أمره بذلك بوحي متقدم، فحفظ بعض الرواة ما لم
يحفظ بعض (أحدهما أكبر من الآخر) أي سنا. (فناولت السواك) أي أردت إعطاء السواك.
(الأصغر منهما) لعله لقربه، أو لأنه - صلى الله عليه وسلم - عدا السواك شيئا
حقيرا. (كبر) أي قدم الكبير على الصغير في مناولة السواك، أي ادفع إلى الأكبر،
والظاهر أنهما كانا في أحد جانبيه، أو في يساره، قال القاري: وهو الأنسب، فأراد
تقديم الأقرب، فأمر بتقديم الأكبر، فلا ينافي حديث ابن عباس أو الأعرابي في إيثاره
بسؤره - صلى الله عليه وسلم - من اللبن لكونه على اليمين، على الأشياخ من أبي بكر،
وعمر وغيرهما لكونهم على اليسار-انتهى. وفيه ما يدل على فضيلة السواك. (متفق عليه)
أخرجه البخاري بلا رواية في آخر الوضوء، ولم يذكر في المنام، وأخرجه مسلم رواية في
الرؤيا، وأخرجه أيضا أحمد وأبوعوانة والبيهقي وغيرهم.
389- قوله: (أحفي) من الإحفاء وهو الاستيصال. (مقدم في) بكسر الفاء وتشديد الياء،
أي فمى، والمراد من مقدم الفم هي اللثة، بكسر اللام وتخفيف المثلثة، وما حول
الأسنان من اللحم، يعني خفت أن استأصل لثتي من كثرة مداومتي على السواك بسبب إكثار
جبرئيل في الوصية. (رواه أحمد) (ج5: ص263) وفي سنده علي بن يزيد الألهاني، وهو
ضعيف، أخرجه ابن ماجه مطولا، وفيه عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد الألهاني،
وعثمان متروك، قال الحافظ في التقريب: ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني،
وروي نحوه عن ابن عباس وأنس وسهل بن سعد وعائشة، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع
الزوائد (ج2: ص98، 99) مع الكلام عليها.
(3/159)
390- قوله: (لقد أكثرت عليكم)
بصيغة المعلوم، أي أكثرت عليكم الأمر والوصية في حق السواك. وقال الحافظ: أي بالغت
في تكرير طلبه منكم، أو في إيراد الأخبار في الترغيب فيه. وقال ابن التين: معناه
أكثرت عليكم، وحقيق أن أفعل، وحقيق أن تطيعوا. وحكى الكرماني أنه روى
"أكثرت" بصيغة الماضي المجهول، أي بولغت من عندالله بطلبه منكم. (في
السواك) أي في أمره وشأنه. وفائدة هذا الكلام مع كونهم عالمين به إظهار الاهتمام
بشأنه. وقال السندهي: هذا بمنزلة التأكيد لما سبق من التكرير لمن علم به سابقا،
وبمنزلة التكرير والتأكيد جميعا لمن لم يعلم به. (رواه البخاري) في الجمعة، وأخرجه
أيضا أحمد والنسائي في أول سننه.
391- (13) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يستن وعنده رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فأوحي إليه في فضل السواك أن كبر، أعط
السواك أكبرهما)) رواه أبوداود.
392- (14) وعنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تفضل الصلاة التي
يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعين ضعفا)) رواه البيهقي في شعب
الايمان.
393- (15) وعن أبي سلمة:
(3/160)
391- قوله: (يستن) بفتح الياء وسكون المهملة وفتح التاء وتشديد النون من الاستنان، وهو استعمال السواك، من السن بالكسر؛ لأن السواك يمر على الأسنان، وقيل: من السن بالفتح؛ لأن السواك يسن الأسنان أي يحددها، يقال: سننت الحديد أي حككته على الحجر حتى يتحدد، والمسن بكسر الميم، الحجر الذي يحد به السكين. (أحدهما أكبر من الآخر) أي سنا. (فأوحي) بصيغة المجهول. (إليه) أي من غير أن يميل إلى الآخر، فيكون تأكيدا للوحي المنامي. (أن كبر) بصيغة الأمر نائب فاعل أوحي، أي أوحي إليه أن فضل السواك وحقه أن يقدم من هو أكبر، وفيه تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام، والشراب، والمشي، والكلام، والركوب، وهذا ما لم يترتب القوم في الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة حينئذ تقديم الأيمن، كما أشرنا إليه في شرح حديث ابن عمر. (أعط السواك أكبرهما) الظاهر أن هذا تفسير من أحد الرواة، ويحتمل أن يكون من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. (رواه أبوداود) بسند حسن كما قال الحافظ في الفتح والتلخيص. وقال المنذري: وأخرج مسلم معناه من حديث ابن عمر مسندا، وأخرجه البخاري تعليقا، انتهى. كأنه يشير إلى أن حديث عائشة هذا محمول على حال حكاية المنام، وأن القضية واحدة، وفيه نظر فتأمل.
(3/161)
392- قوله: (تفضل الصلاة) أي
تزيد في الفضيلة وزيادة المثوبة. (سبعين) مفعول مطلق أو ظرف، أي تفضل مقدار سبعين
وقوله. (ضعفا) بكسر الضاد تمييز أريد به مثل العدد المذكور، وهي كناية عن الكثرة،
أو أريد به خصوص هذا العدد، والله تعالى أعلم. (رواه البيهقي في شعب الإيمان)
وأخرجه أيضا أحمد (ج6: ص272)، والبزار، وأبويعلى، وابن خزيمة، والدارقطني، وابن
عدي، وأبونعيم، ومداره عندهم على محمد بن إسحاق، ومعاوية بن يحيى الصدفي، كلاهما
عن الزهري عن عروة. ورواه الحاكم (ج1: ص146) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم، كذا
قال. ومحمد بن إسحاق إنما أخرج له مسلم في المتابعات، قال المنذري: وروى أبونعيم
نحوه عن ابن عمر بإسناد جيد، وعن ابن عباس بإسناد صحيح-انتهى. وقد أطال الحافظ الكلام
على حديث عائشة في التلخيص، وقال: رواه أبونعيم من حديث ابن عمر ومن حديث ابن عباس
ومن حديث جابر، وأسانيده معلولة.
393- قوله: (وعن أبي سلمة) بفتح اللام، هو أبوسلمة بن عبدالرحمن بن عوف الزهري
القرشي المدني، قيل:
عن زيد بن خالد الجهني، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لو لا
أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل.
قال: فكان زيد بن خالد يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن
الكاتب، لا يقوم إلى الصلاة إلا استن، ثم رده إلى موضعه)) رواه الترمذي وأبوداود،
إلا أنه لم يذكر. ((ولأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل)). وقال الترمذي: هذا حديث
حسن صحيح.
(3/162)
اسمه عبدالله وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه وكنيته واحد، قال ابن سعد: كان ثقة، فقيها، كثير الحديث. وقال المصنف: هو أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالفقه في المدينة في قول، ومن مشاهير التابعين وأعلامهم، وهو كثير الحديث ، روى عن خلق كثير من الصحابة والتابعين، وروى عنه خلائق. مات سنة (94) وقيل سنة (104) وهو ابن (74) سنة. (عن زيد بن خالد الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء نسبة إلى جهينة، وهو زيد بن خالد الجهني أبوعبد الرحمن ، ويقال: أبوطلحة المدني من مشاهير الصحابة. قال ابن عبدالبر: كان صاحب لواء جهينة يوم الفتح، له أحد وثمانون حديثا، اتفقا على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة، روى عنه ابنه خالد، وابن المسيب، وغيرهما. توفي بالكوفة سنة (68) أو (78) وهو ابن (85) سنة. (ولأخرت صلاة العشاء) أي حكمت بتأخيرها وجوبا. (قال) أي أبوسلمة (فكان زيد بن خالد يشهد الصلوات) أي الخمس (في المسجد) أي يحضرها للجماعة (وسواكه على أذنه) بضم الذال ويسكن والجملة حال (موضع القلم من أذن الكاتب) أي والحال أن سواكه كان موضوعا على أذنه موضع القلم الكائن من أذن الكاتب. (لا يقوم إلى الصلاة إلا استن) أي إستاك للصلاة أخذا بظاهر الحديث، قال القاري: قد انفرد زيد بن خالد به فلا يصلح حجة، أو إستاك لطهارتها، انتهى. قلت: فيه أنه لم يتفرد به زيد بن خالد، فقد تقدم عن أبي هريرة أنه قال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سوكهم على آذانهم ، يستنون بها لكل صلاة، وإن عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كانوا يروحون والسواك على آذانهم، ثم صنيع زيد بن خالد هذا يدل عليه ظاهر الحديث الذي رواه، وليس ينفيه شيء من الأحاديث المرفوعة، فكيف لا يكون حجة، وبهذا ظهر بطلان تأويل القارئ بقوله: إستاك لطهارتها. (ثم رده إلى موضعه) أي من الأذن. قال ابن حجر: وحكمته أن وضعه في ذلك المحل يسهل تناوله، ويذكر صاحبه به فيستاك من غير ذهول.
(3/163)
(رواه الترمذي وأبوداود) وسكت
عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وأخرجه أيضا أحمد (ج4: ص116 وج5: ص193)
وأخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة كما تقدم.
(4) باب سنن الوضوء
?الفصل الأول?
394- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إذا استيقظ
أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت
يده)).
(باب سنن الوضوء) لم يرد بالسنن، سنن الوضوء فقط، أي ما يقابل الفرض بل أراد
بالسنن، أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله، أعم من أن تكون سنة أو فرضا،
يقال: جاء في السنة كذا، أي في الحديث.
(3/164)
394- قوله (من نومه) هذا يدل على عموم الحكم عقب كل نوم ليلا أو نهارا، لكن جاء عند الترمذي، وأبي داود وابن ماجه من الليل، مكان قوله من نومه، والمطلق محمول على المقيد، فيدل على خصوصه بنوم الليل، ويؤيده قوله في آخر الحديث "باتت يده"، فإن حقيقة المبيت تكون بالليل، إلا أن التعليل المنصوص الآتي يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما نوم الليل بالذكر للغلبة، بل قيل: ليس حكم الغسل قبل الغمس في الإناء مخصوصا بالقيام من النوم، بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فإن الظاهر أن المقصود من الحديث إذا شك أحدكم في يديه مطلقا، سواء كان لأجل الاستيقاظ من النوم أو لأمر آخر، إلا أنه فرض الكلام في جزئي واقع بينهم على كثرة، ليكون بيان الحكم فيه بيانا في الكلى بدلالة العقل، فالتقييد بالاستيقاظ لأن توهم نجاسة اليد في الغالب يكون من المستيقظ، فلا مفهوم له (فلا يغمس) بتخفيف الميم من باب ضرب، هو المشهور، ويحتمل أن يكون بالتشديد من باب التفعيل (في الإناء) أي في الظرف الذي فيه الماء وغيره من المائعات، وخرج بذكر الإناء البرك والحياض التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها. (حتى يغسلها) إلى رسغها (ثلاثا) كذا في جميع طبعات الهند للمشكاة وفي النسخة القاري وسقط هذا اللفظ في نسخة الألباني طبعة دمشق وهو من إفراد مسلم (فإنه لا يدري أين باتت يده) يعني لا يدري تعيين الموضع الذي باتت، أي صارت يده منه، يعني هل لاقت مكانا طاهرا أو نجسا، وفيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بغسل اليد احتمال النجاسة؛ لأن الشرع إذا ذكر حكما وعقبه بعلة دل على أن ثبوت الحكم لأجلها. قال الشافعي وغيره من العلماء: سبب الحديث أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالحجارة، وبلادهم حارة، فإذا ناموا عرقوا فلا يومن أن تطوف يده على موضع النجاسة، أو على قذر غير ذلك، فعلم بهذا أن حكم الغسل للشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كره له غمسها
(3/165)
في الإناء قبل غسلها، سواء قام
من نوم الليل أو النهار، أو شك في نجاستها من غير نوم. وقال التور بشتى: هذا في حق
من بات مستنجيا بالأحجار معروريا، ومن بات على خلاف ذلك ففي أمره سعة ويستحب له
أيضا غسلها؛ لأن السنة إذا وردت لمعنى لم تكن لتزول بزوال ذلك المعنى. وقال
الباجي: الأظهر في سبب الحديث أن النائم لا يكاد أن يسلم من حك جسده، وموضع بثرة
في بدنه، ومس رفغه وإبطه، وغير ذلك من
متفق عليه.
395- (2) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا استيقظ أحدكم من
منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه))
(3/166)
مغابن جسده، ومواضع عرقه، فاستحب له غسل اليد تنظفا وتنزها، قال: وتعليقه بنوم الليل لا يدل على الاختصاص؛ لأن المستيقظ لا يمكنه التحرز من مس رفغه وإبطه، وفتل ما يخرج من أنفه، وقتل برغوث، وحك موضع عرق، فإذا كان المعنى الذي شرع له غسل اليد موجودا في المستيقظ لزمه ذلك الحكم، ولا يسقط عنه بأن الشرع علقه على النائم- انتهى مختصرا ملتقطا. وعلى هذا يكون الحكم عاما لكل متوضئ، ولا يختص بالنائم، وأما على ما قال الشافعي وغيره في سبب الحديث فيكون استحباب الغسل للمتوضئ المستيقظ من النوم خاصة، وهذا القدر يكفي لمناسبة الحديث بالباب. وأما من يريد الوضوء من غير نوم فيستحب له، لما سيأتي في صفة الوضوء من أفعاله- صلى الله عليه وسلم - . ثم النهي عن الغمس قبل الغسل للتنزيه، والأمر في رواية "فليغسل" للندب عند الجمهور، فلو خالف، وغمس قبل الغسل فقد أساء، ولا يفسد الماء والقرينة الصارفة التقييد بالثلاث في غير النجاسة العينية، فإنه يدل على ندبية الغسل، ولأنه علل بأمر يقتضي الشك في نجاسة اليدين، والوجوب لا يبني على الشك. وحمله أحمد على كراهة التحريم، وقال: بوجوب الغسل في نوم الليل، ولا يبعد من الشارع الإيجاب لرفع الشك، ومن قال: بأن الأمر بالغسل للتعبد كمالك، لا يفرق بين الشاك والمتيقن، والراجح عندي ما ذهب إليه الجمهور، والله أعلم. والحديث فيه مسائل كثيرة، منها استحباب غسل النجاسة ثلاثا؛ لأنه إذا أمر به في المتوهمة ففي المحققة أولى. ومنها استحباب الأخذ بالاحتياط في العبادات وغيرها ما لم يخرج عن حد الاحتياط إلى حد الوسوسة. (متفق عليه) واللفظ لمسلم وأخرجه أيضا مالك والشافعي وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وفي الباب عن ابن عمر وجابر عند الدارقطني وابن ماجه.
(3/167)
395- قوله (فتوضأ) أي أراد
الوضوء وسقط هذا اللفظ من نسخة الألباني (فليستنثر) أي فليخرج ماء الاستنشاق
والقذر اليابس المجتمع من المخاط، يعني فليستنثر بعد الاستنشاق، فإن الاستنثار هو
إخراج الماء الذي جذبه بريح الأنف إلى أقصاه، فهو من تمام الاستنشاق، والأمر للندب
عند الجمهور، وللوجوب عند الظاهرية. (فإن الشيطان) الفاء للسببية (يبيت على
خيشومه) بفتح الخاء قيل: أعلى الأنف، وقيل: كله، وقيل: هو أقصى الأنف المتصل
بالبطن المقدم من الدماغ، وقيل: غير ذلك. قال عياض وغيره: بيتوتة الشيطان إما
حقيقية، فإن الأنف أحد المنافذ التي يتوصل منها إلى القلب، والمقصود من الاستنثار
إزالة آثاره، وليس عليه ولا على الأذن غلق، وفي الحديث "إن الشيطان لا يفتح
غلقا". وجاء الأمر بكظم الفم في التثاؤب من أجل دخول الشيطان في الفم. وإما
مجاز، فإن ما ينعقد فيه من الغبار والرطوبة قذرات توافق الشيطان، فالمراد أن الخيشوم
محل قذر يصلح لبيتوتة الشيطان، فينبغي للإنسان تنظيفه، والراجح أنه محمول على
متفق عليه.
396- (3) وقيل لعبدالله بن زيد بن عاصم: ((كيف كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم
- يتوضأ؟ فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنثر
الحقيقة، وموكول معرفته وعلمه إلى الشارع، فإن الله تعالى خص نبيه - صلى الله عليه
وسلم - بأسرار يقصر عن دركها العقول والأفهام. فالصواب في أمثال هذه الأحاديث أن
يؤمن بظواهرها، ويحترز عن بيان كيفياتها، وظاهر الحديث يقتضي أن يحصل لكل نائم.
ويحتمل أن يكون مخصوصا بمن لم يحترز من الشيطان بشيء من الذكر، كما في حديث آية
الكرسي: (ولا يقربك شيطان) متفق عليه، أخرجه البخاري في بدء الخلق، ومسلم في
الطهارة، واللفظ المذكور للبخاري، وأخرجه أيضا النسائي.
(3/168)
396- قوله (وقيل) القائل هو عمرو بن أبي الحسن الأنصاري، أخو عمارة بن أبي الحسن، جد عمرو بن يحيى بن عمارة، ففي رواية للبخاري من طريق وهيب، قال: شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبدالله بن زيد، وفي رواية أبي نعيم في المستخرج عن عمرو بن أبي حسن قال: كنت كثير الوضوء، فقلت لعبدالله بن زيد" الحديث. فهاتان الروايتان صريحتان في أن القائل والسائل هو عمرو بن أبي الحسن. (لعبدالله بن زيد بن عاصم) بن كعب الأنصاري المازني المدني صحابي شهير، له هذا الحديث، وأحاديث أخرى، قيل: شارك وحشيا في قتل مسيلمة الكذاب. مختلف في شهوده بدرا، استشهد بالحرة، وكان في آخر ذي الحجة سنة (63) وهو ابن (70) سنة، وهو غير عبدالله بن زيد بن عبد ربه الذي أرى النداء في المنام، وليس لابن عبد ربه إلا حديث الأذان فقط. (فدعاء بوضوء) بفتح الواو ما يتوضأ به والباء للتعدية أي طلبه (فأفرغ) أي صب الماء (على يديه) بالتثنية أي إحدى يديه، وفي المصابيح : على يده اليمنى، وكذا في رواية النسائي، ويؤيد رواية الإفراد الإظهار في موضع الإضمار في قوله (فغسل يديه) أي إلى الرسغين، وفيه غسل اليد قبل إدخالها في الإناء ولو كان من غير نوم. (مرتين مرتين) وفي المصابيح بدون التكرار، قال ابن حجر: وجه الاحتياج إلى التكرير أن الاقتصار على الأول يوهم التوزيع- انتهى. قال الحافظ: كذا لمالك بلفظ مرتين، ووقع في رواية وهيب عند البخاري، وخالد عند مسلم، والدراوردي عند أبي نعيم بلفظ "ثلاثا". وهؤلاء حفاظ قد اجتمعوا، فروايتهم مقدمة على رواية الحافظ الواحد، ولم يحمل على وقعتين؛ لأن المخرج واحد، والأصل عدم التعدد-انتهى. وقال ابن حجر: اقتصر على مرتين في بعض الأحيان لبيان الجواز، وإلا فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - : أنه فعل الثلاث- انتهى. ثم غسلهما في أول الوضوء سنة باتفاق العلماء كما قاله النووي. قال الأمير اليماني: وليس هو غسلهما عند الاستيقاظ، أي الذي تقدم
(3/169)
حديثه، بل هذا سنة الوضوء، فلو
استيقظ وأراد الوضوء فظاهر الحديثين أنه يغسلهما للاستيقاظ ثلاث مرات، ثم للوضوء
كذلك، ويحتمل تداخلهما- انتهى. قلت هذا الأخير هو الراجح عندي (ثم مضمض) المضمضة
لغة تحريك الماء في الفم (واستنثر) أي
ثلاثا، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يديه مرتين مرتين. إلى المرفقين،
استنشق الماء، ثم استخرج ذلك بنفس الأنف بإعانة اليد اليسرى، فلم يذكر الاستنشاق؛
لأن ذكر الاستنثار دليل عليه، فإنه لا يكون إلا بعد الاستنشاق. ثم إنهم اختلفوا في
وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار، فذهب أحمد إلى وجوب الثلاثة في الوضوء، وغسل
الجنابة، وهو الراجح، واستدل له بأدلة. منها مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم -
عليها بالفعل في جميع وضوئه. ومنها حديث عائشة عند البيهقي بلفظ: إن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال: المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لابد منه. ومنها أنه
من تمام غسل الوجه، فالأمر بغسله أمر بها، ولا موجب لتخصيصه بظاهره دون باطنه، فإن
الجميع في لغة العرب يسمى وجها. ومنها حديث أبي هريرة المتفق عليه: إذا توضأ أحدكم
فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر. ومنها حديث سلمة بن قيس عند الترمذي والنسائي: بلفظ
إذا توضأت فاتنثر. ومنها حديث لقيط بن صبرة الآتي في الفصل الثاني، وفيه
"وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما." وفي رواية من هذا الحديث
"إذا توضأت فمضمض" أخرجها أبوداود وغيره. ومنها حديث أبي هريرة عند
الدارقطني: بلفظ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمضمضة والاستنشاق.
واستدل من قال: بالسنية في الوضوء بقوله عليه السلام للأعرابي "توضأ كما أمرك
الله"، فأحال على الآية، وليس فيها ذكر المضمضة والاستنشاق والاستنثار. وأجيب
عنه بأنه قد صح أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، والواجب الأخذ بما صح
عنه، ولا يكون الاقتصار على البعض في مبادئ التعليم ونحوها موجبا لصرف ما ورد بعده
وإخراجه عن
(3/170)
الوجوب، وبأن الأمر بغسل الوجه أمر بها كما تقدم، وارجع لمزيد التفصيل إلى النيل للشوكاني، والهدي لابن القيم، والمغني لابن قدامة. (ثلاثا) أي بثلاث غرفات وهذا ظاهر في الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة، والرواية الآتية المتفق عليها أظهر في ذلك، واختلفوا في الأفضل بعدما اتفقوا على جواز الوصل والفصل كليهما، فذهب أحمد والشافعي إلى أفضلية الوصل والجمع، وهو المذهب الصحيح المختار عندي؛ لأن رواية الجمع أكثر وأصرح وأصح، وأما ما جاء في بعض الأحاديث من الفصل فهو محمول على الجواز، وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي أحاديث الوصل مع الجواب عن دلائل الحنفية والمالكية القائلين بأفضلية الفصل فارجع إليه. (ثم غسل) أي بيديه لحديث على عند أبي داود وغيره. (وجهه) هو من منابت شعر الرأس إلى أسفل الذقن طولا، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا. (ثم غسل يديه مرتين مرتين) وفي رواية لمسلم: غسل يده اليمنى ثلاثا، ثم الأخرى ثلاثا، فيحمل على أنه وضوء آخر لكون مخرج الحديث غير متحد. (إلى المرفقين) ، أي مع المرفقين، فهما داخلان في غسل اليدين. والدليل على ذلك فعله - صلى الله عليه وسلم -، ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء: فغسل يديه إلى المرفقين، حتى مس أطراف العضدين، وفيه عن جابر، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه، لكن إسناده ضعيف. وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء: وغسل ذراعيه حتى جاوز المرافق. وفي الطحاوى من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعا: ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه. فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا. قال إسحاق بن راهوية "إلى" في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغاية وأن تكون بمعنى مع، فينبت السنة
(3/171)
ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما
وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي
بدأ منه، ثم غسل رجليه)) رواه مالك، والنسائي، ولأبي داود نحوه ذكره صاحب
"الجامع".
وفي المتفق عليه: قيل لعبدالله بن زيد بن عصام: توضأ لنا وضوء رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، فدعا بإناء، فأكفأ منه على يديه، فغسلهما ثلاثا، ثم أدخل يده
فاستخرجها، فمضمض واستنشق من كف
أنها بمعنى. (ثم مسح رأسه) أي كله، كما في رواية، واختلفوا في مقدار المفروض، فذهب
مالك إلى وجوب الاستيعاب، وهو الراجح لأن لفظ الآية مجمل؛ لأنه يحتمل أن يراد منها
مسح الكل على أن الباء زائدة، أو مسح البعض على أنها تبعيضية، فتبين بفعل النبي -
صلى الله عليه وسلم - أن المراد الأول، ولم ينقل أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث
المغيرة، لكن فيه "أنه مسح على ناصيته وعماته، فلا حجة فيه على الاكتفاء ببعض
الرأس". قال ابن القيم: لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث واحد أنه
اقتصر على مسح بعض راسه البتة، لكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة كما في
حديث المغيرة، ولم يذكر العدد في مسح الرأس كغيره، فاقتضى الاقتصار على مرة واحدة.
(فأقبل بهما وأدبر) الإدبار هو الذهاب إلى جهة القفاء والإقبال عكسه، والواو لمطلق
الجمع لا تقتضي الترتيب، فكأن الأصل فأدبر بهما وأقبل، وقد وقع كذلك في رواية
للبخاري. والتفسير الآتي يؤيد بل يعين ذلك. وقيل: إنه من تسمية الفعل بإبتداءه، أي
بدأ بقبل الرأس وذهب إلى جهة فقاه، وأدبر أي بدء بدبر الرأس، وقيل غير ذلك. (بدأ
بمقدم رأسه ثم ذهب) الخ هذا عطف بيان لقوله: فأقبل بهما وأدبر. ومن ثم لم تدخل
الواو على بدأ، أي وضع كفيه وأصابعه عند مقدم رأسه، ثم أمرهما حتى وصل إلى قفاه أي
مؤخر رأسه. (ثم ردهما) أي على جنب الرأس. (حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه) وهو
مقدم الرأس، أي مبتدأ شعره. (ثم غسل رجليه) أي إلى الكعبين
(3/172)
كما في رواية للبخاري. (رواه
مالك والنسائي) أي بهذا اللفظ. (ولأبي داود نحوه) أي بمعناه. (ذكره صاحب الجامع)
أي جامع الأصول وهو ابن الأثير، وأصل الحديث أخرجه أيضا أحمد والشيخان والترمذي
وابن ماجه بألفاظ متقاربة مختصرا ومطولا.
قوله. (وفي المتفق عليه) هذا من زيادات المصنف على المصابيح، واللفظ المذكور هنا
لمسلم، وللبخاري معناه. (توضأ) بصيغة الأمر. (وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-) أي نحو وضوئه. (فدعا بإناء) فيه ماء. (فأكفأ) يقال كفأ الإناء إذا كبه، وأكفأه
أماله (منه) قال الأبهري: ضمن أكفأ معنى أفرغ وصب فعداه بمن. (ثم أدخل يده) اليمنى
في الإناء. (فاستخرجها) أي اليد من الإناء مع الماء. (فمضمض واستنشق) أي واستنثر،
وقد ذكر في رواية الثلاثة كما سيأتي. (من كف
واحدة، ففعل ذلك ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل وجهه ثلاثا، ثم أدخل يده
فاستخرجها، فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها، فمسح
برأسه، فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي رواية: فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى
رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه.
وفي رواية: فمضمض، واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات من ماء.
(3/173)
واحدة) بأن جعل ماء الكف بعضه
في فمه وبعضه في أنفه، والكف يذكر ويؤنث. (ففعل ذلك) أى المذكور من المضمضة
والاستنشاق. (ثلاثا) أي ثلاث مرات بأن تمضمض واستنشق من غرفة ثم تمضمض واستنشق من
غرفة ثم تمضمض واستنشق من غرفة، وهو صريح في المجمع، وحجة واضحة للشافعي في الوصل،
صرح به ابن الملك وغيره من الأئمة الحنفية، والقول بأن قيد الوحدة احتراز من
التثنية سخيف جدا، فإن الظاهر على هذا أن يقال بكف واحدة لا من كف واحدة. (ثم أدخل
يده) أي في الإناء، والظاهر أن المراد بها الجنس، قاله القاري. (ثلاثا) قيد
للأفعال الثلاثة لا للأخير فقط. (مرتين مرتين) قيد للأفعال. (فمسح برأسه) هو موافق
للآية في الإتيان بالباء، ومسح يتعدى بها وبنفسه، قال القرطبي: إن الباء ههنا
للتعدية يجوز حذفها وإثباتها. وقيل: دخلت الباء ههنا لمعنى تفيده، وهو أن الغسل
لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لا يقتضي ممسوحا به، فلو قال: امسحوا رؤوسكم، لأجزاء
المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء، وهو من باب القلب والأصل
فيه امسحوا رؤوسكم بالماء. (فأقبل بيديه وأدبر) يعني استوعب المسح. (ثم غسل رجليه)
ظاهره الاكتفاء بمرة، ويحتمل مرتين بقرينة ما قبله، ويحتمل التثليث على ما هو
المعروف من دأبه - صلى الله عليه وسلم -، قاله القاري. (إلى الكعبين) أي مع
الكعبين، والكعب هو العظم الناشز عند متلقى الساق والقدم. (هكذا كان وضوء رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -) أي غالبا، وقيل: أي في بعض الأوقات.
قوله. (وفي رواية) أي لمسلم. (ثم ردهما) أي على أطراف الرأس.
(3/174)
قوله. (وفي رواية) أي للبخاري،
وقد ذكرها في باب مسح الرأس مرة. (فمضمض واستنشق واستنثر) فيه حجة واضحة لمن فرق
بين الاستنشاق والاستنثار إلا أن الاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس. (ثلاثا
بثلاث غرفات) بفتح الغين والراء وقيل: بضهما جمع غرفة. قيل: الغرفة بالفتح في
الأصل المرة من الاغتراف، وبالضم الماء المغروف في اليد. وقيل هي ملأ الكف من
الماء، يعني أخذ غرفة، ومضمض واستنثر بها، وكذا في الثانية والثالثة، وهذا أيضا نص
صريح في الجمع والوصل.
وفي أخرى: فمضمض واستنشق من كفة واحدة، ففعل ذلك ثلاثا.
وفي رواية للبخاري: فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى
الكعبين.
وفي أخرى له: فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة.
قوله. (وفي أخرى) أي للشيخين لكن وقع في مسلم من كف واحدة، وهذه الرواية أوردها
البخاري في باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة. (فمضمض واستنشق من كفة واحدة)
المراد بالكفة الغرفة والحفنة، فاشتق لذلك من اسم الكف، وجعل عبارة عن ذلك المعنى
وسمي الشيء باسم ما كان فيه، وليست تأنيث الكف. وقيل: قوله "من كفة" هي
بالضم والفتح كغرفة وغرفة، أي مما ملأ كفه من الماء. (ففعل ذلك) أي ما ذكر من
المضمضة والاستنشاق. (ثلاثا) أي ثلاث مرات، فيه أيضا دليل صريح على ما تقدم من أن
تقدم من أن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يكون بثلاث غرفات، يتمضمض ويستنشق من
كل واحدة منها.
(3/175)
قوله. (وفي رواية للبخاري)
ذكرها في باب غسل الرجلين إلى الكعبين. (مرة واحدة) نص صريح في عدم تكرار مسح
الرأس، وحجة واضحة للجمهور في عدم تثليث مسح الرأس خلافا للشافعي، ومن أقوى الأدلة
على ذلك أيضا الحديث المشهور الذي صححه ابن خزيمة وغيره من طريق عبدالله بن عمرو
بن العاص في صفة الوضوء، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فرغ: من زاد
على هذا فقد أساء وظلم، فإن رواية سعيد بن منصور فيها تصريح بأنه مسح رأسه مرة
واحد، فدل على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحبة، ويحمل ما ورد من
الأحاديث في تثليث المسح كحديث علي عند الدارقطني، وحديث عثمان عند أبي داود في
بعض طرقه إن صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنه مسحات مستقلة لجميع الرأس
جمعا بين الأدلة.
قوله. (وفي أخرى له) أي للبخاري ذكرها في باب الوضوء من التور. (من غرفة واحدة)
يتعلق بقوله: فمضمض واستنثر، والمعنى أنه جمع بينهما ثلاث مرات، كل مرة من غرفة.
ويحتمل أن يتعلق بقوله: ثلاث مرات، والمعنى أنه جمع بينهما ثلاث مرات من غرفة
واحدة، والأول موافق لباقي الروايات، فهو أولى، كذا في الفتح. قال المؤلف: وإنما
أطنبنا الكلام في الحديث؛ لأن ما ذكر في المصابيح بلفظه لم يوجد إلا في رواية مالك
والنسائي. فأما معناه فما ذكرته في المتفق عليه عقبه. وبقية الروايات إنما
أوردتهما تنبيها على أن ما في المصابيح منها، ذكره الطيبي. قال السيد جمال الدين:
كأنه اعتراض على الشيخ محي السنة حيث أورد حديث عبدالله بن زيد بهذا اللفظ في
الصحاح مع أنه غير مذكور في أحد الصحيحين انتهى.
وعن عبدالله بن عباس قال: ((توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة، لم
يزد على هذا)). رواه البخاري.
(5) وعن عبدالله بن زيد، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين)).
رواه البخاري.
(3/176)
(6) وعن عثمان رضي الله عنه،
((أنه توضأ بالمقاعد، فقال: ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.؟
فتوضأ ثلاثا ثلاثا)).
397- قوله: (مرة مرة) نصب على المصدر، يعنى غسل كل عضو مرة واحدة، ومسح برأسه مرة
(لم يزد على هذا)، أي: في هذا الوضوء، أو في ذلك الوقت، أو باعتبار علمه، وإلا فقد
صحت الزيادة في روايات كثيرة، وإنما فعل ذلك لبيان الجواز، أو لمراعاة الحال في
الاستعجال، أو قلة الماء، وبيان الجواز يكفي فيه إطلاق القرآن. وفيه دليل على أن
الواجب من الوضوء مرة مرة، ولهذا اقتصر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو
كان الواجب مرتين مرتين، أو ثلاثا ثلاثا، لما اقتصر على مرة مرة، وقد جاءت
الأحاديث الصحيحة بالغسل مرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، وبعض الأعضاء ثلاثا وبعضها
مرتين. قال الترمذي: وقد ذكر في غير حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ
بعض وضوئه مرة وبعضه ثلاثا. والاختلاف دليل على جواز ذلك كله، وأن الثلاث هي
الكمال. والواحدة تجزئ. (رواه البخاري)، أي: في باب الوضوء مرة مرة، والحديث مجمل،
وقد رواه البخاري في باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة مطولا ومفصلا، وأخرجه
أيضا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه مختصرا، وأبوداود مطولا ومختصرا. وفي الباب
أحاديث عن جماعة من الصحابة، ذكرها الشوكاني في النيل مع الكلام عليها.
(3/177)
398- قوله: (توضأ مرتين مرتين)
أي لكل عضو من أعضاء الوضوء لبيان الجواز أيضا، والنصب في مرتين على المفعول
المطلق المبين للكمية. (رواه البخاري) في باب الوضوء مرتين مرتين، والظاهر أن حديث
عبدالله بن زيد هذا غير حديثه المفصل المتقدم، فإنه ليس فيه الغسل مرتين إلا في
اليدين إلى المرفقين، نعم روى النسائي من طريق سفيان بن عينية في حديث عبدالله بن
زيد التثنية في اليدين والرجلين، ومسح الرأس، وتثليث غسل الوجه، لكن في الرواية
المذكورة نظر، قاله الحافظ. والحديث أخرجه أيضا أحمد. وفي الباب عن أبي هريرة
أخرجه أبوداود والترمذي وصححه وابن حبان: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
توضأ مرتين مرتين".
399- قوله: (توضأ بالمقاعد) بفتح ميم جمع مقعد، والمراد بها دكاكين عند دار عثمان.
وقيل: درج. وقيل: موضع بقرب المسجد اتخذ للقعود فيه للحوائج والوضوء. (ألا)
للتنبيه أو الهمزة للإنكار. (أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي
كيفية وضوئه. (فتوضأ ثلاثا ثلاثا) هذا هو الأكمل، وقد استدل به للشافعي على سنية
تثليث مسح الرأس، وأجيب عنه بأنه
رواه مسلم.
400- (7) وعن عبدالله بن عمرو قال: ((رجعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر، فتوضؤوا وهم
عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء))
مجمل تبين في الروايات الصحيحة التي فصلت فيها أعضاء الوضوء أن المسح لم يتكرر،
فيحمل على الغالب، أو يختص بالمغسول. (رواه مسلم). وأخرجه أيضا أحمد، وفي الباب عن
جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم العيني في شرح البخاري.
(3/178)
400- قوله: (حتى إذا كنا) أي صرنا. (بماء بالطريق) قال الطيبي: الظرف الأول خبر كان والثاني صفة، أي إذا كنا نازلين بماء كائن في طريق مكة. (تعجل) بتشديد الجيم. (قوم عند العصر فتوضؤوا وهم عجال) بضم العين وتشديد الجيم. جمع عاجل كجهال جمع جاهل. وقيل: بكسر العين وتخفيف الجيم كقيام جمع قائم، وقيل: جمع عجلان بمعنى المستعجل، وكغضاب جمع غضبان. قال الطيبي: تعجل بمعنى استعجل، يعني تطلبوا تعجيل الوضوء عند العصر فتوضؤوا عاجلين. وقيل: الأظهر أن معناه استعجلوا في السير، وتقدموا علينا عند دخول العصر مبادرة إلى الوضوء، فتوضؤا على العجلة بحكم ضيق الوقت في السفر. (وأعقابهم) عقب بكسر القاف مؤخر القدم، وهي مؤنثة (تلوح) أي يظهر للناظر فيها بياض لم يصبها الماء الذي أخذوه لغسل الأرجل مع إصابته سائر القدم، وذلك لعجلتهم في الوضوء بسب ضيق الوقت، فكأن مقصودهم الغسل، إلا أنهم كانوا يتعجلون فيه لئلا تفوتهم الصلاة، فلم يحصل لذلك إسباغ الأرجل. وفي رواية ذكرها العيني: رأى قوما توضؤوا وكأنهم تركوا من أرجلهم شيئا، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال ذلك الوعيد. (لم يمسها الماء) جملة حالية مبنية لتلوح. (ويل) قيل: الويل الخزى والهلاك والمشقة من العذاب. قال الأبهري: جاز الابتداء بالنكرة لأنه دعاء، وأصح الأقوال في معناه ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد: واد في جهنم. (للأعقاب) أي المرئية إذ ذاك، فاللام للعهد، ويلتحق بها ما يشاركها في ذلك، ففي حديث عبدالله بن الحارث بن جزء الزبيدي عند ابن خزيمة والطبراني "ويل للاعقاب وبطون الأقدام من النار". قيل: معناه "ويل لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها" نحو ?واسأل القرية? [82:12] والأعقاب تختص بالعقاب إذا قصر في غسلها. (من النار) بيان للويل كما في قوله: ?فاجتنبوا الرجس من الأوثان? [30:22] ويجوز أن تكون بمعنى "في"
(3/179)
كما في قوله تعالى: ?من يوم
الجمعة? [9:62] أي في يوم الجمعة. وفي الوعيد والإنكار دليل على أن وظيفة الرجلين
الغسل الوافي لا المسح، ولا الغسل الخفيف المبقع المشابه للمسح، لأن الوعيد لا
يكون إلا على ترك الواجب. (أسبغوا الوضوء) أي أتموه وأكملوه، والوضوء هو غسل
الأعضاء الثلاثة، ومسح الرأس، فالأمر بإسباغ الوضوء أمر
بتكميل الغسل وإبلاغ الماء كل ظاهر أعضائه، فقوله: (أسبغوا) تأكيد للوعيد المذكور
عام، يشمل الرجلين وغيرهما من أعضاء الوضوء، لأنه لم يقل أسبغوا الرجلين، بل قال:
أسبغوا الوضوء، ومطلوبية الإسباغ غير مختصة بالرجلين فكما أنه مطلوب فيهما كذلك
مطلوب في غيرهما.وتخصيص الوعيد بلفظ الأعقاب؛ إنما هو لأجل تقصيرهم في وظيفة
الرجلين. والحديث يدل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وهو مذهب جمهور المحدثين
والمفسرين من أهل السنة. قال الحافظ: قد تواترت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - في صفة وضوئه أنه غسل رجليه، وهو المبين لأمر الله، وقد قال في حديث عمرو
بن عبسة الذى رواه ابن خزيمة وغيره مطولا في فضل الوضوء: ثم يغسل قدميه كما أمره
الله، ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا من علي، وابن عباس، وأنس، وقد ثبت عنهم
الرجوع عن ذلك. قال عبدالرحمن بن أبي ليلى أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - على غسل القدمين، رواه سعيد بن منصور. وقال الطيبي: ذهب الشيعة إلى أنه
يمسح على الرجلين، لقوله تعالى: ?وامسحوا برؤسكم وأرجلكم? [6:5] على قراءة الجر،
فإنه تعالى عطف الرجل على الرأس والرأس يمسح فكذا الرجل. قلنا: وقد قرئ بالنصب
عطفا على قوله: ? وأيديكم? وإذا ذهب إلى المسح يبقى مقتضى النص غير معمول به،
بخلاف العكس فإن المسح مغمور بالغسل، على أن الأحاديث الصحيحة تواترت معاضدة
لقراءة النصب، فوجب تأويل القراءة بالكسر، وفيه وجوه: أحدها العطف على الجوار
كقوله تعالى: ?عذاب يوم أليم? [26:11) والأليم صفة
(3/180)
العذاب فأخذ إعراب
"اليوم" للمجاورة، وقوله تعالى: ?عذاب يوم محيط? [84:11] ?وحور عين?
بالجر بعد قوله: ?يطوف عليهم ولدان مخلدون، بأكواب وأباريق? [18،17:56] لأن حور لا
يصلح عطفها على أكواب، لأن الحور لا يطاف بها. والثاني الاستغناء بأحد الفعلين عن
الآخر، والعرب إذا اجتمع فعلان متقاربان في المعنى، ولكل واحد منهما متعلق جوزت
ذكر أحد الفعلين وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور على حسب ما يقتضيه لفظه،
حتى كأنه شريكه في أصل الفعل كما قال الشاعر:
يا ليت بعلك قد غدا……متقلدا سيفا ورمحا
وكقول الأخر:…… علفتها تبنا وماء باردا
تقديره علفتها تبنا وسقيتها ماءا باردا، ومتقلدا سيفا، وحاملا رمحا. والثالث قول
الزجاج: يجوز ?أرجلكم? بالخفض على معنى فاغسلوا؛ لأن قوله تعالى: ?إلى الكعبين? قد
دل عليه؛ لأن التحديد يفيد الغسل، كما في قوله تعالى: ?إلى المرافق? ولو أريد
المسح لم يحتج إلى التحديد، كما في قوله: ?وامسحوا برؤسكم? من غير تحديد، ويطلق
المسح على الغسل انتهى. قال العلامة السيد محمود الآلوسي البغدادي المتوفي سنة
1270هـ في تفسيره روح المعاني (ج6 : ص73): وفي الأرجل ثلاث قراءات، واحدة شاذة،
واثنتان متواترتان، أما الشاذة فالرفع وهي قراءة الحسن، وأما المتواترتان فالنصب
وهي قراءة نافع، وابن عامر، وحفص، والكسائي، ويعقوب. والجر وهي قراءة ابن كثير،
وحمزة، وأبي عمرو، وعاصم، وفي رواية أبي بكر عنه. ومن هنا اختلف الناس في غسل
الرجلين ومسحهما، قال الإمام الرازي: فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس، وأنس بن
مالك، وعكرمة،و الشعبي، وأبي جعفر محمد بن علي الباقر: أن الواجب فيهما المسح وهو
مذهب
(3/181)
الإمامية، وقال جمهور الفقهاء
والمفسرين: فرضهما الغسل. وقال داوود: يجب الجمع بينهما، وهو قول الناصر للحق من
الزيدية. وقال الحسن البصري، ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل.
وحجة القائلين بالمسح قراءة الجر، فإنها تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤس، فكما
وجب المسح فيها وجب فيها، والقول أنه جر بالجوار كما في قولهم: هذا جحر ضب خرب،
وقوله:
كأن ثبيرا في عرانين وبله كبير أناس في بجاد مزمل
(3/182)
باطل من وجوه: أولها أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله تعالى يجب تنزيهه عنه. وثانيها أن الكسر إنما يصار إليه حيث حصل الأمن من الالتباس كما في ما استشهدوا به، وفي الآية الأمن من الالتباس غير حاصل. وثالثها أن الجر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب، وردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر فقالوا: إنها تقتضي المسح أيضا لأن العطف حينئذ على محل الرؤوس لقربه فيتشاركان في الحكم، وهذا مذهب مشهور للنحاة. ثم قالوا: أو لا يجوز رفع ذلك بالأخبار، لأنها بأسرها من بابا الآحاد، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز، ثم قال الإمام: واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين الأول: أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه، وعلى هذا يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحهما والثاني: أن فرض الأرجل محدود إلى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا المسح، والقوم أجابوا منه بوجهين: الأول: أن الكعب عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يمسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين، وحينئذ لا يبقى هذا السؤال. انتهى. ولا يخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام، وطالما زلت فيه الأقدام، وما ذكره الإمام يدل على أنه راجل في هذا الميدان، وضالع لا يطيق العروج إلى شاوى ضليع، وتحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان، فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغما لأنوف الشيعة، السالكين من السبل كل سبيل هالك، فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين، بل بإطباق أهل الإسلام كلهم، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين، أن القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين، فلا بد لنا أن نسعى ونجتهد في تطبيقهما أولا مهما
(3/183)
أمكن؛ لأن الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول، ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما، ثم إذا لم يتيسر لنا الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة، وقد ذكر الأصوليون أن الآيات إذا تعارضت بحيث لا يمكن التوفيق ثم الترجيح بينهما يرجع إلى السنة، فإنها لما لم يمكن لنا العمل بها صارت معدومة في حقنا من حيث العمل، وإن تعارضت السنة كذلك نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت، أو نرجع إلى القياس عند القائلين بأن قياس المجتهد يعمل به عند التعارض، فلما تأملنا في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما على قواعدنا من وجهين: الأول أن يحمل المسح على الغسل كما صرح به أبوزيد الأنصاري وغيره من أهل اللغة، فيقال للرجل إذا توضأ: تمسح. ويقال: مسح الله تعالى ما بك، أي أزال عنك المرض. ومسح الأرض المطر إذا غسلها، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس في قراءة الجر لا يتعين كونها ممسوحة بالمعنى الذي يدعيه الشيعة، واعترض ذلك من وجوه: أولها:
(3/184)
أن فائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة، وقد فرق الله تعالى بين الأعضاء المغسولة والممسوحة فكيف يكون معنى الغسل والمسح واحدا. وثانيها: أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤوس وكان الفرض في الرؤوس المسح الذي ليس بغسل بلا خلاف وجب أن يكون حكم الأرجل كذلك، وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وثالثها: أنه لو كان المسح بمعنى الغسل يسقط الاستدلال على الغسل بخبر أنه - صلى الله عليه وسلم -غسل رجليه؛ لأنه على هذا يمكن أن يكون مسحهما، فسمى المسح غسلا، ورابعها: أن استشهاد أبي زيد بقولهم: تمسحت للصلاة، لا يجدى نفعا، لاحتمال أنهم لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز، ولم يجز أن يقولوا تغسلت للصلاة، لأن ذلك يوهم الغسل، قالوا بدله: تمسحت، لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا، فتجوزوا بذلك تعويلا على فهم المراد، وذلك لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل. وأجيب عن الأول بأنا لا ننكر اختلاف فائدة اللفظين لغة وشرعا، ولا تفرقة الله تعالى بين المغسول والممسوح من الأعضاء، لكنا ندعى أن حمل المسح على الغسل في بعض المواضع جائز، وليس في اللغة والشرع ما يأباه على أنه قد ورد ذلك في كلامهم. وعن الثاني بأنا نقدر لفظ "امسحوا" قبل ?أرجلكم? أيضا وإذا تعدد اللفظ فلا بأس بأن يتعدد المعنى، ولا محذور فيه، فقد نقل شارح زبدة الأصول من الإمامية أن هذا القسم من الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز، بحيث يكون ذلك اللفظ في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي، وفي المعطوف بالمعنى المجازى، وقالوا في الآية ?لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنبا إلا عابرى سبيل? [43:4]: أن الصلاة في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي الشرعي، وهو الأركان المخصوصة، وفي المعطوف بالمعنى المجازى، وهو المسجد، فإنه محل الصلاة، وادعى ذلك الشارح أن هذا نوع من الإستخدام، وبذلك فسر جمع من مفسرى الإمامية وفقهائهم. وعليه فيكون هذا
(3/185)
العطف من عطف الجمل في التحقيق، ويكون المسح المتعلق بالرؤوس بالمعنى الحقيقي، والمسح المتعلق بالأرجل بالمعنى المجازي، على أن من أصول الإمامية كالشافعية جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكذا استعمال المشترك في معنييه. ويحتمل هنا إضمار الجار تبعا للفعل فتدبر. ولا يشكل أن في الآية حينئذ إبهاما، ويبعد وقوع ذلك في التنزيل، لأنا نقول: إن الآية نزلت بعد ما فرض الوضوء، وعلمه عليه الصلاة والسلام روح القدس إياه في إبتداء البعثة بسنين، فلا بأس أن يستعمل فيها هذا القسم من الإبهام، فإن المخاطبين كانوا عارفين بكيفية الوضوء، ولم تتوقف معرفتهم بها على الاستنباط من الآية ولم تنزل الآية لتعليمهم بل سوقها لإبدال التيمم من الوضوء والغسل في الظاهر، وذكر الوضوء فوق التيمم للتمهيد، والغالب فيما يذكر لذلك عدم البيان المشبع. وعن الثالث: بأن حمل المسح على الغسل لداع لا يستلزم حمل الغسل على المسح بغير داع، فكيف يسقط الاستدلال؟ سبحان الله تعالى هذا هو العجب العجاب. وعن الرابع: بأنا لا نسلم أن العدول عن "تغسلت" لإبهامه الغسل، فإن "تمسحت" يوهم ذلك أيضا، بناء على ما قاله من أن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا، سلمنا ذلك، لكنا لم نقتصر في الاستشهاد على ذلك، ويكفي مسح الأرض المطر في الفرض. والوجه الثاني: أن يبقى المسح على الظاهر، وتجعل الأرجل على تلك القراءة معطوفة على المغسولات، كما في قراءة النصب والجر للمجاورة، واعتراض أيضا من وجوه، الأول والثاني والثالث ما ذكره الإمام من عد الجر بالجوار لحنا، وأنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس، ولا أمن فيما
(3/186)
نحن فيه، وكونه إنما يكون بدون
حرف العطف. والرابع: أن في العطف على المغسولات سواء كان المعطوف منصوب اللفظ أو
مجروره، الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ليست اعتراضية، وهو غير
جائز عند النحاة، على أن الكلام حينئذ من قبيل "ضربت زيدا وأكرمت خالدا
وبكرا" بجعل بكر عطفا على زيد، أو إرادة أنه مضروب لا مكرم، وهو مستهجن جدا
تنفر عنه الطباع، ولا تقبله الأسماع فكيف يجنح إليه أو يحمل كلام الله تعالى عليه
وأجيب عن الأول بأن إمام النحاة الأخفش وأبا البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها
جوزوا جر الجوار، وقالوا بوقوعه في الفصيح كما ستسمعه إنشاء الله تعالى ولم ينكره
إلا الزجاج، وإنكاره مع ثبوته يدل على قصور تتبعه، ومن هنا قالوا: المثبت مقدم على
النافي. وعن الثاني: بأنا لا نسلم أنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس، ولا نقل
في ذلك عن النحاة في الكتب المعتمدة، نعم: قال بعضهم: شرط حسنه عدم الالتباس مع
تضمن نكتة وهو هنا كذلك، لأن الغاية دلت على أن هذا المجرور ليس بمسموح، إذا المسح
لم يوجد مغيا في كلامهم، ولذا لم يغي في آية التيمم، وإنما يغي الغسل، ولذا غي في
الآية حين احتج إليه، فلا يرد أنه لم يغي غسل الوجه لظهور الأمر فيه، ولا قول
المرتضى أنه لا مانع من تغييه. والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيف الغسل حتى كأنه مسح.
وعن الثالث: بأنهم صرحوا بوقوعه في النعت كما سبق من الأمثلة، وقوله تعالى: ?عذاب
يوم محيط? [84:11] بجر ?محيط? مع أنه نعت للعذاب. وفي التوكيد كقوله:
الأبلغ ذوى الزوجات (كلهم)……أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
بجر "كلهم" على ما حكاه الفراء. وفي العطف كقوله تعالى: ?وحور عين،
كأمثال اللؤ لؤ المكنون? [23،22:56] على قراءة حمزة، والكسائي، وفي رواية المفضل
عن عاصم فإنه مجرور بجر ?أكواب وأباريق? ومعطوف على ?ولدان مخلدون?. وقول النابغة:
(3/187)
لم يبق إلا أسير غير منفلت……و
(موثق) في حبال القد مجنوب
يجر "موثق" مع أن العطف على "أسير" وقد عقد النحاة لذلك بابا
على حدة لكثرته، ولما فيه من المشاكلة،وقد كثر في الفصيح حتى تعدوا عن اعتباره في
الإعراب إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك، وكلام ابن الحاجب في هذا المقام لايعبأ
به. وعن الرابع بأن لزوم الفصل بالجملة إنما يخل إذا لم تكن جملة ?وامسحوا برؤسكم?
متعلقة بجملة المغسولات، فإن كان معناها وامسحوا الأيدي بعد الغسل برؤسكم فلا
إخلال كما هو مذهب كثير من أهل السنة، من جواز المسح ببقية ماء الغسل واليد
المبلولة من المغسولات، ومع ذلك لم يذهب أحد من أئمة العربية إلى امتناع الفصل بين
الجملتين المتعاطفتين، أو معطوف ومعطوف عليه، بل صرح الأئمة بالجواز، بل نقل
أبوالبقاء إجماع النحويين على ذلك، نعم! توسط الأجنبي في كلام البلغاء يكون لنكتة
وهي هنا ما أشرنا إليه. أو الإيماء إلى الترتيب، وكون الآية من قبيل ما ذكر من
المثال في حين المنع، وربما تكون كذلك لو كان النظم "وامسحوا رؤسكم وأرجلكم
إلى الكعبين" والواقع ليس كذلك وقد ذكر بعض أهل السنة أيضا وجها آخر في
التطبيق، وهو أن قراءة الجر محمولة على حالة التخفف، وقراءة النصب على حال دونه
واعترض بأن الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما، لأن الخف اعتبر
(3/188)
مانعا سراية الحدث إلى القدم
فهي طاهرة، وماحل بالخف أزيل بالمسح، فهو على الخف حقيقة وحكما، وأيضا المسح على
الخفين لا يجب إلى الكعبين اتفاقا وأجيب بأنه يجوز أن يكون لبيان المحل الذي يجزئ
عليه المسح، لأنه لايجزء المسح على ساقه، نعم! هذا الوجه لا يخلو عن بعد والقلب لا
يميل إليه وإن ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما قيل في الآية. وللإمامية في تطبيق
القراءتين وجهان أيضا لكن الفرق بينهما وبين ما سبق من الوجهين اللذين عند أهل
السنة، أن قراءة النصب التي هي ظاهرة في الغسل عند أهل السنة، وقراءة الجر تعاد
إليها، وعند الإمامية بالعكس. الوجه الأول: أن تعطف الأرجل في قراءة النصب على محل
?برؤوسكم? فيكون حكم الرؤوس والأرجل كليهما مسحا. الوجه الثاني: أن الواو فيه
بمعنى مع من قبيل "استوى الماء والخشبة" وفي كلا الوجهين بحث لأهل السنة
من وجوه: الأول: أن العطف على المحل خلاف الظاهر بإجماع الفريقين، والظاهر العطف
على المغسولات والعدول عن الظاهر إلى خلافه بلا دليل لا يجوز، وإن استدلوا بقراءة
الجر قلنا: إنها لا تصلح دليلا على ذلك لما علمت، والثاني: أنه لو عطف ?وأرجلكم?
على محل ?برؤسكم? جاز أن نفهم منه معنى الغسل، إذ من القواعد المقررة في العلوم
العربية أنه إذا اجتمع فعلان متغايران في المعنى ويكون لكل منهما متعلق، جاز حذف
أحدهما، وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور كأنه متعلقة، ومن ذلك قوله:
ياليت بعلك قد غدا……متقلدا سيفا ورمحا
فإن المراد وحاملا رمحا ومنه قوله:
إذا ما الغانيات برزن يوما… … وزججن الحواجب والعيونا
فإنه أراد وكحلن العيونا، وقوله:
تراه كأن مولاه يجدع أنفه…وعينيه إن مولاه كان له وفر
(3/189)
أى يفقئ عينيه إلى ما لا يحصى كثرة. والثالث: أن جعل الواو بمعنى مع بدون قرينة مما لا يكاد يجوز، ولا قرينة ههنا على أنه يلزم كما قيل فعل المسحين معا بالزمان، ولا قائل به بالاتفاق. بقى لو قال قائل: لا أقنع بهذا المقدار في الاستدلال على غسل الأرجل بهذه الآية مالم ينضم إليها من خارج ما يقوى تطبيق أهل السنة، فإن كلامهم وكلام الإمامية في ذلك عسى أن يكون فرسي رهان. قيل له: إن سنة خير الورى - صلى الله عليه وسلم - وآثار الأئمة - رضي الله عنهم - شاهدة على ما يدعيه أهل السنة، وهي من طريقهم أكثر من أن تحصى، وأما من طريق القوم فقد روى العياشي، عن علي، عن أبي حمزة قال: سألت أباهريرة عن القدمين فقال: تغسلان غسلا. وروى محمد بن النعمان، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله - رضي الله عنه - قال: إذا نسيت مسح رأسك حتى غسلت رجليك فامسح رأسك، ثم اغسل رجليك. وهذا الحديث رواه أيضا الكلبي، وأبوجعفر الطوسي بأسانيد صحيحة بحيث لا يمكن تضعيفها، ولا الحمل على التقية، لأن المخاطب بذلك شيعي حاضر. وروى محمد بن الحسن الصفار، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده أمير المؤمنين - كرم الله وجهه - أنه قال: جلست أتوضأ فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما غسلت قدمي قال: يا علي! خلل بين الأصابع. ونقل الشريف الرضي عن علي - كرم الله وجهه - في نهج البلاغة حكاية وضوئه - صلى الله عليه وسلم -، وذكر فيه غسل الرجلين، وهذا يدل على أن مفهوم الآية كما قال أهل السنة،ولم يدع
(3/190)
أحد منهم النسخ حتى يتكلف لإثباته كما ظنه من لا وقوف له وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس - رضي الله عنهما-، وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفتري عليهم، فإن أحدا منهم ما روى عنه بطريق صحيح أنه جوز المسح إلا ابن عباس، فإنه قال بطريق التعجب: لا نجد في كتاب الله تعالى إلا المسح ولكنهم أبوا إلا الغسل. ومراده أن ظاهره الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل، ففي كلامه هذا إشارة إلى أن قراءة الجر مؤولة متروكة الظاهر بعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم-، ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية، وعكرمة، والشعبي زور وبهتان أيضا، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح، أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري - عليه الرحمة-، ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة، ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق ولا سند، واتسع الخرق على الراقع. ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب الإيضاح للمترشد في الإمامة، لا أبوجعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح، ولا الجمع، ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه. ولا حجة لهم في دعوى المسح بما روى عن أمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه- : أنه مسح وجهه ويديه، ومسح رأسه ورجليه، وشرب فضل طهوره قائما، وقال: إن الناس يزعمون أن الشرب قائما لا يجوز، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع مثل ما صنعت، وهذا وضوء من لم يحدث. لأن الكلام في وضوء المحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف، كما يدل عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقا. وأما ما روى عن عبادة بن
(3/191)
تميم، عن عمه بروايات ضعيفة:
أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على قدميه. فهو كما قال الحافظ: شاذ منكر،
لا يصلح للاحتجاج، مع احتمال حمل القدمين على الخفين ولو مجازا، واحتمال اشتباه
القدمين المتخففين بدون المتخففين من بعيد، ومثل ذلك عند من اطلع على أحوال الرواة
ما رواه الحسين بن سعيد الأهوازي، عن فضالة، عن حماد بن عثمان، عن غالب بن هذيل،
قال: سألت أبا جعفر - رضي الله عنه- عن المسح على الرجلين فقال: هو الذي نزل به
جبرئيل عليه السلام، وما روى عن أحمد بن محمد قال: سألت أبا الحسن موسى بن - جعفر
رضي الله عنه- عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى
الكعبين، فقلت له، لو أن رجلا قال بأصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين أيجزئ؟ قال:
لا إلا بكفه كلها إلى غير ذلك مما روته الإمامية في هذا الباب، ومن وقف على أحوال
رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم، وقد ذكرنا نبذة من ذلك في كتابنا
"النفحات القدسية في رد الإمامية" على أن لنا أن نقول: لو فرض أن حكم
الله تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية فالغسل يكفي عنه، ولو كان هو
الغسل لا يكفي عنه فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح، وذلك لأن الغسل
محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة وهذا مراد من عبر بأنه مسح وزيادة، فلا
يرد ما قيل من أن الغسل والمسح متضادان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض،
وأيضا كان يلزم الشيعة الغسل لأنه الأنسب بالوجه المعقول من الوضوء، وهو التنظيف
للوقوف بين يدي رب الأرباب- سبحانه وتعالى لأنه الأحوط أيضا لكون
رواه مسلم.
401- (8) وعن المغيرة بن شعبة قال: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح
بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين))
(3/192)
سنده متفقا عليه للفريقين كما
سمعت، دون المسح للاختلاف في سنده - انتهى (رواه مسلم). الحديث بهذا اللفظ من
إفراد مسلم، وأخرجه أيضا أبوداود، والنسائي، وابن ماجه مختصرا، وهو عند جميعهم من
حديث منصور عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبدالله بن عمرو قال المنذري: واتفق
البخاري ومسلم على إخراجه من يوسف بن ماهك عن عبدالله بن عمرو نحوه.
401- قوله: (فمسح بناصيته وعلى العمامة) بكسر العين، وفي رواية للنسائي: مسح
ناصيته وعمامته. واستدل به لما ذهب إليه مالك والشافعي ومن معهما: من أنه لايجوز
اقتصار المسح على العمامة، بل لا بد مع ذلك من المسح على الناصية. قيل: رواية مسلم
هذه مفصلة، يحمل عليها ما في بعض طرقها: من أنه - صلى الله عليه وسلم - مسح على
الخفين والعمامة. أخرجها الترمذي وصححها. وذهب أحمد وغيره من فقهاء أصحاب الحديث
إلى جواز الاقتصار على العمامة، واحتجوا بحديث عمرو بن أمية عند أحمد والبخاري
وابن ماجه. وبحديث بلال عند أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وبحديث
سلمان عند أحمد، وبأحاديث أبي أمامة، وخزيمة بن ثابت، وأبي طلحة، وأبي ذر عند
الطبراني. وبحديث أنس عند البيهقي، وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرها الزيلعي في
نصب الراية واعتذر الأولون عن هذه الأحاديث بوجوه كلها مخدوشة، فمنها أنها معلولة
مضطربة الأسانيد وفيها رجال مجهولون وفيه أن أكثر هذه الأحاديث صحيحة مستقيمة، كما
حقق صحتها واستقامتها الحافظ في التلخيص وغيره. ومنها أن أحاديث المسح على العمامة
من أخبار الآحاد فلا تعارض الكتاب، لأن الكتاب يوجب مسح الرأس. وفيه أن الآية لا
تنفي الاقتصار على المسح على العمامة، لأن من قال: قبلت رأس فلان يصدق ولو بحائل
وسيأتي توضيحه. ومنها أن الله تعالى فرض المسح على الرأس، والحديث في العمامة
محتمل التأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل، والمسح على العمامة ليس بمسح على الرأس
وفيه أن هذا الوجه يرجع إلى
(3/193)
الوجه الثاني، وقد تقدم جوابه
وتوضيحه أنه أجزئ المسح على الشعر، ولا يسمى رأسا. فإن قيل: يسمى رأسا مجازا
بعلاقة المجاورة. قيل: والعمامة كذلك بتلك العلاقة، فإنه يقال: قبلت رأسه،
والتقبيل على العمامة، ويؤيد ذلك حملهم قراءة الجر في ?أرجلكم? في آية على حالة
التخفف، فتأمل. ومنها أن أحاديث المسح على العمامة مجملة، وحديث المغيرة عند مسلم
مفصل مفسر فتحمل عليه، ويقال: إن أداء المفروض من مسح الرأس وقع بمسح الناصية إذ
هي جزء الرأس، وصارت العمامة تبعا له، يعني أن المسح على العمامة كان زائدا على
أصل الفرض، وتعميما وتكميلا، فرخص لهم - صلى الله عليه وسلم - بفعله بعد مسح
الواجب أن يقتصروا من الاستيعاب على مسح العمائم.وفيه أنه لا موجب لحمل أحاديث
المسح على العمامة على حديث المغيرة، فإنها وقائع مختلفة ليست حكاية عن فعل واحد
في وقت واحد، وأما إن المسح على العمامة كان زائدا على أصل الفرض وإتماما ففيه أنه
مجرد دعوى لا دليل عليها فلا يلتفت إليها. ومنها أنها حكاية حال فيجوز
رواه مسلم.
402- (9) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يحب
التيمن ما استطاع في شأنه كله
(3/194)
أن تكون العمامة صغيرة رقيقة بحيث تنقع البلة منها إلى الرأس. وفيه أن الكل من قوله وفعله وتقريره حجة لنا، وفي إنشاء مثل هذه الاحتمالات في أفعاله وأحواله من غير دليل رد للسنة الصحيحة الثابتة، وأيضا لا يتحقق وصول البلة إلى الرأس إلا إذا كانت العمامة غير ذات أكوار، وفيه إبطال لمسمى العمامة. ومنها أنه يحتمل أن ذلك كان قبل نزول المائدة. وفيه أنه لايثبت النسخ بالاحتمال حتى يعلم التاريخ، وأيضا لا منافة بين الآية وبين أحاديث المسح حتى يحتاج إلى التوفيق، أو إدعاء النسخ. ومنها ما قال محمد بن الحسن في موطئه: بلغنا أن المسح على العمامة كان فترك. وفيه أنه لا يثبت النسخ بمجرد قول الإمام محمد، ولا بد لمن يدعى النسخ أن يأتي بالحديث الناسخ الصحيح الصريح. ومنها أن الخطاب في قوله: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. كالخطاب في قوله: وامسحوا برؤسكم، ولا يجوز مسح الوجه في التيمم بحائل، فكذلك الرأس. وفيه أنه قد ثبت بالأحاديث الصحيحة المسح على العمامة فقلنا به ولم يثبت مسح الوجه في التيمم بحائل، لا بحديث صحيح، ولا ضعيف، ولا بأثر صحابي، ولذلك لم يذهب إليه أحد من الأئمة، ولا حاجة إلى رد أحاديث المسح على العمامة بمثل هذا العذر الواهي. ومنها أن المراد بقوله (مسح عمامته) مسح ما تحتها، ومن قبيل إطلاق اسم الحال على المحل وفيه أن هذا مجاز خلاف الأصل فلا يحمل عليه من غير دليل. ومنها أنه يحتمل أنه مسح ناصيته وسوى عمامته بيديه فحسب الراوي تسوية العمامة عند المسح مسحا لكونه بعيدا. وفيه أنه نسبة الخطأ إلى الصحابة من غير دليل، ويرتفع الأمان عن الأحاديث بمثل هذه الإحتمالات. ومنها أنه يحتمل أنه كان ذلك لمرض منعه كشف رأسه، فصارت العمامة كالجبيرة. وفيه أن هذا أيضا احتمال محض فلا يلتفت إليه، لما فيه من رد السنة الصحيحة الثابتة، وبهذا علمت أن الحق ما ذهب إليه أحمد وغيره، فقد ثبت المسح على الرأس فقط. وعلى العمامة فقط، وعلى
(3/195)
الرأس والعمامة، والكل صحيح
ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجود في كتب الأئمة الصحاح، والنبي -
صلى الله عليه وسلم - مبين لأمر الله، فقصر الإجزاء على بعض ما ورد لغير موجب ليس
من دأب المنصفين (رواه مسلم) وأخرجه أيضا النسائي والبيهقي وأخرجه الترمذي بلفظ:
مسح على الخفين والعمامة.
402- قوله: (يجب التيمن) أي الإبتداء باليمين، أي فيما لم يعهد فيه المقارنة من
باب التشريف، بخلاف غسل الوجه، ومسح الرأس والأذنين فإن المعهود في هذه الأشياء
قران اليسار باليمين (ما استطاع ) ما إما موصول فهو بدل من التيمن، وإما بمعنى
مادام، وبه احتراز عما لا يستطيع فيه التيمن شرعا كالخروج من المسجد، والدخول في
الخلاء، والتمخط، والاستنجاء (في شأنه) متعلق بالتيمن، أو بالمحبة، أو بهما على
سبيل التنازع، والشأن الأمر والحال، والخطب (كله) تأكيد، وهو يدل على التعميم، أي
استحباب التيمن في دخول الخلاء وأمثاله أيضا، ويمكن أن يقال: حقيقة
في طهوره وترجله وتنعله) متفق عليه.
?الفصل الثاني?
403- (10) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إذا لبستم
وإذا توضأتم، فابدؤا بأيامنكم)) رواه أحمد وأبوداود.
(3/196)
الشأن ما كان فعلا مقصودا، وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة، بل هي إما تروك وإما أفعال غير مقصودة (في طهوره) بضم الطاء أي تطهره (وترجله) أي تمشيط الشعر بالماء أو بالدهن من اللحية والرأس (وتنعله) أي لبسه النعل، وقوله (في طهوره) الخ. بدل من (في شأنه) بإعادة العامل بدل البعض من الكل، فيكون تخصيصا بعد تعميم، وخص هذه الثلاثة بالذكر اهتماما بها وبيانا لشرفها، ولا مانع أن يكون بدل الكل من الكل، إذ الطهور مفتاح أبواب العبادات فبذكره يستغنى عنها، والترجل يتعلق بالرأس، والتنعل بالرجل، وأحوال الإنسان إما أن تتعلق بجهة الفوق، أو بجهة التحت، أو بالأطراف، فجاء لكل منها بمثال قاله العيني. والحديث دليل على استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن في الترجل، والغسل، والحلق، وبالميامن في الوضوء والغسل، والأكل، والشرب، وغير ذلك. قال النووي: قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدها استحب فيه التياسر. والكلام في تقديم اليمين في الوضوء يأتي في شرح حديث أبي هريرة الذي يتلوه (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب التيمن في دخول المسجد وغيره من كتاب الصلاة، وأخرجه أيضا في الطهارة، والأطعمة، واللباس، وأخرج مسلم في الطهارة معناه، وأخرجه أيضا الترمذي في آخر الصلاة، والنسائي في الطهارة، وفي الزينة، وأبوداود في اللباس، وابن ماجه في الطهارة.
(3/197)
403- قوله: (إذا لبستم) أي
قميصا أو سراويل أو نعلا أو خفا ونحوها يعني أردتم اللبس (وإذا توضأتم) أي أردتم
التطهر بالوضوء أو الغسل (فابدؤوا بأيامنكم) جمع الأيمن وهو بمعنى اليمين، وفي
رواية (بميامنكم) جمع الميمنة، ولا فرق بين اللفظين في العربية، والأمر محمول على
الندب كما يدل عليه حديث: "كان يحب التيمن"، وكذلك اقتران الوضوء
بالتيامن في اللبس المجمع على عدم وجوبه في حديث أبي هريرة هذا يصلح أن يكون قرينة
لصرف الأمر إلى الندب، ودلالة الاقتران وإن كانت ضعيفة ولكنها لا تقصر عن الصلاحية
للصرف، لاسيما مع اعتضادها بقول علي - رضي الله عنه - وفعله. أخرجه الدارقطني من
طرق، وبدعوى الإجماع على عدم الوجوب. قال النووي: أجمع العلماء - أي أهل السنة -
على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة، لو خالفها فاته
الفضل، وصح وضوئه، ولا اعتداد بخلاف الشيعة (رواه أحمد وأبوداود) في اللباس وسكت
عنه، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الطهارة، وابن خزيمة، لكن ليس
404- (11) وعن سعيد بن زيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وضوء
لمن لم يذكر اسم الله عليه))
في روايتهما إذا لبستم، وابن حبان والبيهقي كلهم من طريق زهير، عن الأعمش عن أبي
صالح، عن أبي هريرة، قال ابن دقيق العيد: هو حقيق بأن يصح. وللنسائي، والترمذي من
حديث أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم -إذا لبس قميصا بدأ بميامنه.
(3/198)
404- قوله: (وعن سعيد بن زيد) هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي القرشي أبوالأعور، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، والمهاجرين الأولين. قال المصنف: أسلم قديما، وشهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير بدر، فإنه كان مع طلحة بن عبيد الله يطلبان خبر عير قريش وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسهم، وكانت فاطمة أخت عمر بن الخطاب تحته، وبسببها كان إسلام عمر، كان آدم طوالا أشعر. له ثمانية وثلاثون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديث، وروى عنه جماعة. مات بالعقيق فحمل إلى المدينة، ودفن بالبقيع سنة(51) وقيل(50) وله بضع وسبعون سنة. (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) أي لا يصح الوضوء ولا يوجد شرعا إلا بالتسمية، إذ الأصل في النفي الحقيقة، ونفى الصحة أقرب إلى الذات، وأكثر لزوما للحقيقة فيستلزم عدمها عدم الذات، وما ليس بصحيح لا يجزئ ولا يعتد به فالحديث نص على افتراض التسمية عند ابتداء الوضوء، وإليه ذهب أحمد في رواية، وهو قول أهل الظاهر. وذهبت الشافعية، والحنفية، ومن وافقهم إلى أن التسمية سنة فقط، واختار ابن الهمام من الحنفية وجوبها، وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة: هو أي الحديث نص على أن التسمية ركن أو شرط، ويحتمل أن يكون المعنى لا يكمل الوضوء، لكن لا أرتضى بمثل هذا التأويل، فإنه من التأويل البعيد الذي يعود بالمخالفة على اللفظ انتهى. قلت: ويبعده أيضا القرآن بقوله: لا صلاة لمن لا وضوء له، وفي بعض الروايات، ويبعده أيضا أن الحمل على نفى الكمال مجاز، ولا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة، وقيام القرينة على إرادة المجاز وهو منتف ههنا. وحديث "من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهورا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لأعضاء وضوئه" ضعيف جدا، أخرجه الدارقطني والبيهقي مرفوعا من حديث ابن عمر، وفيه أبوبكر الداهري عبدالله بن الحكم، وهو
(3/199)
متروك ومنسوب إلى الوضع.
وأخرجاه أيضا من حديث أبي هريرة، وفيه مرداس بن محمد بن عبدالله بن أبان عن أبيه،
وهما ضعيفان، وأخرجاه أيضا من حديث ابن مسعود، وفيه يحيى بن هشام السمسار، وهو
متروك والحاصل أن هذا الحديث لا يصلح لشدة وهنه أن يكون قرينة لتوجه ذلك النفي إلى
الكمال، لا يقال: إنه تعاضد لكثرة طرقه، واكتسب قوة، لأن هذا إنما يفيد إذا كان
الضعف في طرق الحديث يسيرا، وأما إذا اشتد الضعف والوهن كما هنا فلا يكتسب الحديث
بكثرة طرقه إلا ضعفا، وأما ما صرح به ابن سيد الناس في شرح الترمذي من أنه قد روى
في بعض الروايات: "لا وضوء كاملا" وقد استدل به الرافعي ففيه انه قال
الحافظ: لم أره هكذا- انتهى. وتفوه بعض الحنفية أن قول الحافظ: "لم أره"
ليس بحجة على من رآه من المتقدمين. قلت: لا يكفى للاحتجاج على المطلوب راوية أحد
كائنا من كان ما لم يعلم كونه حسنا أو صحيحا، ولم يعلم حال هذه الزيادة، ولم تثبت
من وجه معتبر إلى الآن، ولا يمكن لهذا البعض المتفوه ولا لغيره من
رواه الترمذي، وابن ماجه.
405- (12) ورواه أحمد، وأبوداود عن أبي هريرة.
406- (13) والدارمي عن أبي سعيد الخدري،
(3/200)
القائلين بعدم الوجوب أن يثبتوا هذه الزيادة من وجه معتبر، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، فلا تغنى روية ابن سيد الناس هذه الزيادة عن شيء، وقال بعض الحنفية: حمل الرواية على حقيقة معناها الظاهر يوجب تخصيص الآية الذي هو في حكم النسخ، وليس ذلك إلى خبر الواحد- انتهى. قلت: حاصل هذا الجواب أن حمل الحديث على معناه الحقيقي الظاهر، وجعل التسمية في ابتداء الوضوء فرضا أي شرطا زيادة على آية الوضوء بخبر الواحد، في رتبة الشرطية، والزيادة على النص القطعي في مرتبة الركنية أو الشرطية بأخبار الآحاد لا تجوز، لأنها نسخ ونسخ النص القطعي بخبر الواحد لا يجوز. وفيه أن ذلك ليس بنسخ، لأن النسخ رفع حكم شرعي ثابت بالخطاب، ولم يرتفع ههنا حكم على أن الزيادة بخبر الواحد على النص القطعي في مرتبة الوجوب أو الاستحباب تجوز عند الحنفية فكأنها ليست بزيادة عندهم، فيلزمهم أن يقولوا بوجوب التسمية, كما قال به ابن الهمام، وكما ذهب جمهورهم إلى تعين الفاتحة وجوبا، على أن حديث التسمية أصح وأقوى وأشهر من حديث الوضوء بالنبيذ، والزيادة بالحديث المشهور على القطعي تجوز عند الحنفية فتأمل. والمراد بقوله: (لم يذكر اسم الله عليه)، أي لم يقل: بسم الله على وضوئه، لقوله في قصة الإناء الذي وضع فيه يده: (توضؤوا بسم الله). ولقوله: (يا أبا هريرة! إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله)، أخرجه الطبراني في الأوسط (رواه الترمذي وابن ماجه) وزاد هو في أوله: (لا صلاة لمن لا وضوء له)، وأخرجه أيضا أحمد والبزار والدارقطني والعقيلي والحاكم والبيهقي كلهم من طريق أبي ثفال المرى وهو مقبول قاله الحافظ، وذكره ابن حبان في الثقات عن رباح بن عبدالرحمن، وهو أيضا مقبول، ذكره ابن حبان في ثقات أتباع التابعين عن جدته أسماء، قال الحافظ في التلخيص: قد ذكرت الصحابة، وإن لم يثبت لها صحبة، فمثلها لا يسئل عن حالها عن أبيها سعيد بن زيد بن عمرو، قال الترمذي: قال محمد
(3/201)
يعني البخاري: أحسن شيء في هذا
الباب حديث رباح بن عبدالرحمن.
405- قوله: (ورواه أحمد وأبوداود عن أبي هريرة) وأخرجه أيضا الترمذي في العلل،
وابن ماجه، والدارقطني وابن السكن والطبراني والبيهقي والحاكم، وقال: صحيح
الإسناد. قال المنذري: وليس كما قال، فإنهم رووه عن يعقوب بن سلمة الليثي عن أبيه
عن أبي هريرة، وقد قال البخاري وغيره: لا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة ولا ليعقوب
سماع من أبيه- انتهى. وأبوه سلمة أيضا لا يعرف ما روى عنه غير ابنه يعقوب، فأين
شروط الصحة؟ وقد أطال الحافظ الكلام عليه في التلخيص(ص26) فارجع إليه.
406- قوله: (والدارمي عن أبي سعيد الخدري) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في العلل
وابن ماجه وابن عدي
عن أبيه، وزادوا في أوله: (لا صلاة لمن لا وضوء له).
407- (14) وعن لقيط بن صبرة، قال: قلت يا رسول الله ! أخبرني عن الوضوء. قال:
((أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق،
(3/202)
وابن السكن والبزار والدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق كثير بن زيد الأسلمي وهو صدوق يخطئ، صالح الحديث عن ربيح بن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري، وهو مقبول، قاله الحافظ عن أبيه عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري، وهو ثقة. قال أحمد بن حنبل: إنه أحسن شيء في هذا الباب، وقال أيضا: أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد عن ربيح. وقال إسحاق بن راهويه: هو أصح ما في الباب. وقال في الزوائد على ابن ماجه: هذا حديث حسن (عن أبيه) هذا من أوهام المصنف لأن الراوي للحديث هو أبوسعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري لا أبوه مالك بن سنان (وزادوا) أي أحمد وأبوداود والدارمي، وهذا أيضا من أوهامه فإن هذه الزيادة ليست للدارمي، ففي عبارة المصنف ههنا سهوان أحدهما في الإسناد، وهو زيادة (عن أبيه) بعد قوله: ( أبي سعيد الخدري) والثاني أن زيادة (لا صلاة لمن لا وضوء له) ليست للدارمي، خلاف ما يفهم من قوله، وزادوا في أوله، واعلم أنه ورد في الباب أحاديث كثيرة لا يخلو واحد منها عن مقال، لكنها تعاضدت بكثرة طرقها، قال المنذري في الترغيب: لا شك أن الأحاديث التي وردت فيها وإن كان لا يسلم شيء منها عن مقال، فإنها تتعاضد بكثرة طرقها، وتكتسب قوة- انتهى. وقال الحافظ: الظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلا، وقال أبوبكر بن أبي شيبة: ثبت لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله، وقال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: ولا يخلو هذا الباب من حسن صريح، وصحيح غير صريح، وقال ابن كثير في الإرشاد وقد روى من طرق يشد بعضها بعضا فهو حديث حسن أو صحيح، وقال ابن الصلاح: يثبت بمجموعها ما يثبت بالحديث الحسن.
(3/203)
407- قوله: (وعن لقيط) بفتح
اللام وكسر القاف وبالطاء المهملة(بن صبرة) بفتح المهملة وكسر الموحدة، هو لقيط بن
عامر بن صبرة أبورزين العقيلي، صحابي مشهور، له أربعة وعشرين حديثا، جعلهما واحدا
ابن عبدالبر وعبدالغني بن سعيد وابن معين، وحكى ذلك الأثرم عن أحمد، وإليه نحا
البخاري وجمعه ابن حبان وابن السكن، وقال ابن المديني وخليفة خياط وابن أبي خيثمة
وابن سعد ومسلم والترمذي وابن قانع والبغوي والدارمي وجماعة: إن لقيط بن صبرة غير
لقيط بن عامر بن صبرة. (أسبغ الوضوء) أي أبلغه مواضعه، وأوف كل عضو حقه، وقيل: أي
أكمله، وبالغ فيه بالزيادة على المفروض كمية وكيفية بالتثليث، والدلك، وتطويل
الغرة، وغير ذلك (وخلل بين الأصابع) أي أوصل الماء إلى ما بين أصابع اليدين
والرجلين بالتخليل. وفيه دليل على وجوب التخليل بين أصابع اليدين والرجلين مطلقا
من غير فرق بين إمكان وصول الماء بدون تخليل وعدمه (وبالغ في الاستنشاق) بإيصال
الماء إلى باطن الأنف. وفي رواية الدولابي (وبالغ في المضمضمة والاستنشاق) وفي
رواية لأبي داود: وإذا توضأت فمضمض،
إلا أن تكون صائما)). رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي وروى ابن ماجه، والدارمي
إلى قوله: ((بين الأصابع)).
408- (15) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأت
فخلل بين أصابع يديك ورجليك)). رواه الترمذي. وروى ابن ماجه نحوه. وقال الترمذي:
هذا حديث غريب.
409- (16) وعن المستورد
(3/204)
وفيه دليل على وجوب الاستنشاق والمضمضة، والاقتصار على ذكر هذه الخصال مع أن السؤال كان عن الوضوء إما من الرواة بسبب أن الحاجة دعتهم إلى نقل بعض، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين كيفية الوضوء بتمامها، أو من النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء على أنه علم أن مقصد السائل البحث عن هذه الخصال، وإن أطلق لفظه في السؤال، إما بقرينة حال، أو وحى، أو إلهام. وقال في التوسط: اقتصر في الجواب علما منه أن السائل لم يسأله عن ظاهر الوضوء، بل عما خفى من باطن الفم والأنف والأصابع، فإن الخطاب (بأسبغ) إنما يتوجه نحو من علم صفته- انتهى (إلا أن تكون صائما ) فلا تبالغ لئلا يصل إلى باطنه، ولئلا ينزل إلى حلقه، ما يفطره، وكذا حكم المضمضة (رواه أبوداود) في الطهارة، وفي الصيام وفي الحروف، مطولا ومختصرا، وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي، وأقره (والترمذي) في الطهارة وفي الصيام مختصرا وصححه (والنسائي) في الطهارة مختصرا (وروى ابن ماجه والدارمي إلى قوله: بين الأصابع) أي بدون قوله: وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما وهذا وهم من المصنف، لأن ابن ماجه رواه أولا في باب المبالغة في الاستنشاق مثل رواية الكتاب، إلا أنه ليس فيه قوله: (وخلل بين الأصابع). ثم رواه في باب تخليل الأصابع بلفظ أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع. وليس فيه ذكر المبالغة في الاستنشاق. والحديث أخرجه أيضا الشافعي وأحمد وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه، والبيهقي مطولا ومختصرا. ورواه الحافظ في الإصابة (ج3: ص329) وقال: هذا حديث صحيح. وصححه أيضا البغوي وابن القطان. وقال النووي: حديث لقيط بن صبرة أسانيده صحيحة.
(3/205)
408- قوله: (إذا توضأت) أي
شرعت في الوضوء أو غسلت أعضاء الوضوء (فخلل بين أصابع يديك ورجليك) فيه حجة على من
قيد التخليل وخصه بأصابع الرجلين (رواه الترمذي) الخ وأخرجه أيضا أحمد والحاكم
(وقال الترمذي: هذا حديث غريب) وفي نسخ الترمذي المصححة الموجودة عندنا"حديث
حسن غريب" والحديث في إسناده صالح مولى التوأمة، وقد اختلط في آخر عمره، ولكن
موسى بن عقبة راوي الحديث سمع منه قبل أن يختلط، ولذلك حسنه الترمذي، وحسنه
البخاري أيضا كما نقل الحافظ في التلخيص (ص34).
409- قوله: (وعن المستورد) بضم الميم وسكون السين المهملة وفتح التاء المثناة
وبكسر الراء وبالدال المهملة
بن شداد، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ يدلك أصابع رجليه
بخنصره)). رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.
410- (17) وعن أنس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أخذ كفا
من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي).
(بن شداد) بن عمرو القرشي الفهري الحجازي، سكن الكوفة، له ولأبيه صحبة. قال
الخزرجي: له سبعة أحاديث، انفرد له مسلم بحديثين، شهد فتح مصر، ومات بالإسكندرية
سنة (45) روى عنه جماعة. (يدلك) أي: يخلل كما في رواية أحمد (ج4: ص229) (بخنصره)
أي بخنصر يده اليسرى لأنها أليق به (رواه الترمذي) وقال: هذا حديث حسن غريب، كما
في بعض نسخ الترمذي المصححة المعتمدة (وأبوداود) وسكت عنه (وابن ماجه) وأخرجه أيضا
أحمد، وابن عبدالحكم في فتوح مصر(ص261) طبعه ليدن. كلهم من طريق ابن لهيعة، وقد
صرح الترمذي بانفراده ولكنه ليس كذلك، فقد قال الحافظ في التلخيص (ص34): تابعه
الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث وأخرجه البيهقي، وأبوبشر الدولابي، والدارقطني في
غرائب مالك من طريق ابن وهب عن الثلاثة، وصححه ابن القطان، انتهى. وفي الباب
أحاديث أخرى ذكرها الشوكاني في النيل (ج1:ص149).
(3/206)
410- قوله: (أخذ كفا من ماء)
أي عند غسل الوجه، قال المناوي: مقتضى الحديث أنه كان يخلل لحيته بكف واحد، لكن في
رواية لابن عدي "خلل لحيته بكفيه" (فأدخله) أي بيمينه (تحت حنكه) الحنك
بفتح الحاء المهملة والنون، أعلى باطن الفم والأسفل من طرف مقدم اللحيين، وتحت
الحنك تحت الذقن (فخلل به لحيته) قال القاري: أي: أدخل كفا من ماء تحت لحيته من
جهة حلقه فخلل به لحيته ليصل الماء إليها من كل جانب، وكان عند غسل الوجه لأنه من
تمامه لا بعد فراغه كما توهم (وقال) لمن حضره (هكذا أمرني ربي) أي أمرني بتخليل
اللحية بالوحى الخفى، أو بواسطة جبريل. وفيه وفي حديث عثمان الذي يتلوه دليل على
مشروعية تخليل اللحية، واختلف في ذلك اختلافا كثيرا حتى للحنفية وحدهم فيه ثمانية
أقوال كما في رد المختار، والراجح عندي أنه يجب في غسل الجنابة غسل جميع اللحية أي
ما يلاقي البشرة منها، وما يسترسل، ويلزم إيصال الماء إلى باطنها خفيفة كانت أو
كثة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا
البشر". وأما الوضوء فلا يجب فيه غسلها وإيصال الماء إلى باطنها وتخليلها
مطلقا لا ما يلاقي البشرة أي الشعر المقابل المماس للخدين والذقن، ولا المسترسل أي
الشعر الخارج عن دائرة الوجه، بل يسن تخليلها ومسحها، وذلك لما رواه البخاري عن
ابن عباس في صفة الوضوء "ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا" أضافها إلى
يده الأخرى فغسل بها وجهه، قال الشوكاني: لا شك أن الغرفة الواحدة لا تكفي كث
اللحية لغسل وجهه وتخليل لحيته، ودفع ذلك كما قال بعضهم بالوجدان
رواه أبوداود.
411- (18) وعن عثمان رضي الله عنه: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يخلل
لحيته)). رواه الترمذي، والدارمي.
412- (19) وعن أبي حية، قال: رأيت عليا توضأ فغسل كفيه
(3/207)
مكابرة منه انتهى. وأما الخفيفة التي ترى بشرتها فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها، هذا ما عندي، والله أعلم. واستدل بعضهم على الوجوب بما في حديث أنس من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (هكذا أمرني ربي). وفيه أنه حديث ضعيف لا يصلح مثله للاستدلال على إيجاب شيء، ولو سلم صلاحيته للاستدلال وانتهاضه للاحتجاج ما أفاد الوجوب على الأمة لظهوره في الاختصاص به ، وهو يتخرج على الخلاف المشهور في الأصول هل يعم الأمة ما كان ظاهر الاختصاص به - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ والفرائض لا تثبت إلا بيقين، نعم! الاحتياط والأخذ بالأوثق لا شك في أولويته. وأما أحاديث الباب الأخرى مما ذكره الزيلعي والحافظ فهي لا تدل على الوجوب لأنها أفعال (رواه أبوداود) وفي سنده الوليد بن زوران، قال الحافظ في التقريب: لين الحديث. وقال الآجري عن أبي داود: لا ندري سمع من أنس أو لا. وقال الذهبي في الميزان: ما ذا بحجة مع أن ابن حبان وثقه انتهى. قال الحافظ في التلخيص (ص31): وله طرق أخرى عن أنس ضعيفة ثم ذكر بعضها مع الكلام عليها.
(3/208)
411- قوله: (كان يخلل لحيته)
أي: يدخل يده في خللها وهي الفروج التي بين الشعر، ومنه فلان خليل فلان أي يخالل
حبه فروج جسمه حتى يبلغ إلى قلبه، ومنه الخلال (رواه الترمذي والدارمي) وأخرجه
أيضا ابن ماجه، وابن الجارود في المنتقي، والدارقطني وابن حبان والحاكم، قال
الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال في علله الكبير: قال محمد بن إسماعيل يعني البخاري:
أصح شيء في التخليل حديث عثمان، وهو حديث حسن. وقال الزيلعي: أمثل أحاديث تخليل
اللحية حديث عثمان. ونقل الحافظ في التهذيب (ج5: ص69) تصحيحه عن ابن خزيمة، وابن
حبان. وقال الحاكم صحيح الإسناد: وقد احتجا يعني البخاري، ومسلما بجميع رواته غير
عامر بن شقيق، قال: ولا أعلم في عامر طعنا بوجه من الوجوه. وتعقبه الذهبي في
مختصره، وقال إن عامر بن شقيق ضعفه ابن معين، وكذا قال تقي الدين. وقال النسائي:
ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات. وللحديث شواهد ذكرها الزيلعي في نصب الراية
(ج1:ص26،24) والحافظ في التلخيص (ص31) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص335) وهي
بمجموعها تصلح للاحتجاج على استحباب تخليل اللحية في الوضوء، قال شيخنا في شرح
الترمذي: وهذا هو الحق.
412- قوله: (عن أبي حية) بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناه التحتية، هو ابن
قيس الوادعي الهمداني الخارفي ولا يعرف اسمه، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن
القطان: وثقة بعضهم، وصحح حديثه ابن السكن وغيره. وقال ابن الجارود في الكنى: وثقة
ابن نمير (توضأ فغسل كفيه) أي شرع في الوضوء، أو أراده، فالفاء للتعقيب، أو لتفصيل
حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا، ومسح
برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلى الكعبين، ثم قام فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم، ثم
قال: أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)).رواه
الترمذي، والنسائي.
(3/209)
413- (20) وعن عبد خير، قال:
((نحن جلوس ننظر إلى على حين توضأ، فادخل يده اليمنى فملأ فمه، فمضمض واستنشق،
ونثر بيده اليسرى، فعل هذا ثلاث مرات، ثم قال: من سره أن ينظر إلى طهور رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -،
ما أجمل في قوله: توضأ، وتفسيره. والمراد بالكفين اليدان إلى الرسغين (حتى
أنقاهما) أي أزال الوسخ عنهما، وقد جاء التصريح بالتثليث في الروايات الأخرى (ثم
مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا) قال القاري: ظاهره الفصل المطابق لمذهبنا، قلت: بل هو
محتمل، فإنه يحتمل أن يكون معناه أنه مضمض ثلاثا بثلاث غرفات،ثم استنشق ثلاثا
بثلاث غرفات أخرى. ويحتمل أن يكون معناه أنه مضمض واستنشق بغرفة، ثم فعل هكذا في
الثانية والثالثة. والمحتمل لا يقوم به حجة، أو يرد هذا المحتمل إلى الأحاديث
المحكمة الصحيحة الصريحة في الوصل توفيقا بين الدليلين (وذراعيه) أي يديه من رؤس
الأصابع إلى المرفقين (ومسح برأسه مرة) فيه حجة للجمهور خلافا للشافعي (ثم غسل
قدميه) أي ثلاثا ثلاثا كما في رواية عبدخير عن علي عند أبي داود، والنسائي. وفيه
رد على الشيعة (فضل طهوره) بفتح الطاء أي بقية مائه الذي توضأ به (فشربه وهو قائم)
قال بعض العلماء: إن الشرب قائما مخصوص بفضل الوضوء بهذا الحديث، وبماء زمزم لما
جاء فيه أيضا، وفي غيرهما لا ينبغي الشرب قائما للنهى. والحق أنه جاء في غيرهما
أيضا، فالوجه أن النهي للتنزيه، وما جاء من الرخصة فهو لبيان الجواز (أحببت أن
أريكم) بصيغة المتكلم من الإراءة (كيف كان طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
) بضم الطاء أي وضوئه وطهارته (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن صحيح (والنسائي)
وأخرجه أيضا أبوداود، وابن ماجه مختصرا.
(3/210)
413- (وعن عبدخير) ضد شر، هو
عبدخير بن يزيد الهمداني أبوعمارة الكوفي، أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -
إلا أنه لم يلقه، وصحب عليا، وهو من كبار أصحابه، ثقة مأمون، سكن الكوفة، ويقال:
أتى عليه مائه وعشرون سنة. قال الحافظ في التقريب: مخضرم ثقة من كبار التابعين،
ولم يصح له صحبة (نحن جلوس) أي جالسون (ننظر إلى على حين توضأ) لنأخذ العلم من
بابه (فأدخل يده اليمنى) أي في الإناء، فأخذ بها الماء (ونثر) أي أخرج الماء،
والمخاط، والأذى من الأنف (فعل هذا) أي المذكور من المضمضة والاستنشاق، وهذا ظاهر
في الوصل (من سره) أي جعله مسرورا، أو
فهذا طهوره)). رواه الدارمي.
414- (21) وعن عبدالله بن زيد، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضمض
واستنشق من كف واحد، فعل ذلك ثلاثا)). رواه أبوداود، والترمذي.
415- (22) وعن ابن عباس، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه، وأذنيه،
باطنهما بالسباحتين، وظاهرهما بإبهاميه)). رواه النسائي.
أحب (فهذا طهوره) أي نحو وضوءه - صلى الله عليه وسلم -، والإشارة إلى تمام ما فعله
من الوضوء، والاقتصار من الراوي (رواه الدارمي) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي. ولحديث
علي في صفة الوضوء طرق عنه عند الترمذي، وأبي داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان،
البزار، ذكرها وجمعها الحافظ في التلخيص (ص28-29).
(3/211)
414- قوله: (عن عبدالله بن
زيد) أي ابن عاصم المازني، لا ابن عبد ربه الذي رأى النداء كما توهم الطيبي وقلده
فيه القاري، لأن الراوي لصفة الوضوء هو عبدالله بن زيد بن عصام المازني، ومنشأ
توهم الطيبي رواية سفيان بن عيينة عند النسائي، فإنه أخرج حديث صفة الوضوء من
رواية عبدالله بن زيد بن عبدربه، وهذا وهم من ابن عيينة، خطأه في ذلك البخاري
وغيره (مضمض واستنشق من كف واحد) كذا بالتذكير في طبعات الهند وفي نسخة القاري،
وهكذا في جامع الترمذي، وفي بعض نسخ أبي داوود، ووقع في نسخة الألباني بالتأنيث
وكذا في أكثر نسخ أبي داود. وهذا الحديث صريح في الجمع بين المضمضة والاستنشاق في
كل مرة؛ بأن يكون بثلاث غرفات يتمضمض ويستنشق من كل واحدة منها (فعل ذلك) أي الجمع
بين المضمضة والاستنشاق (رواه أبوداود والترمذي) وأصله عند الشيخين، وقد ذكره
المؤلف في الفصل الأول.
415- قوله: (مسح برأسه وأذنيه) فيه دليل على أن وظيفة الأذنين المسح مع الرأس،
وظاهره أنه مسحهما بماء رأسه. وفي رواية ابن حبان "غرف غرفة فمسح برأسه
وأذنيه داخلهما بالسبابتين، وخالف بإبهاميه إلى ظاهر أذنيه، فمسح ظاهرهما
وباطنهما". ذكرها الحافظ في التلخيص، وقال: صححها ابن خزيمة، وابن مندة.
وفيه، وفي حديث الربيع الآتي بيان كيفية مسح الأذنين (باطنهما) بالجر على البدلية
من لفظ أذنيه، والنصب بدل من محله، والمراد بالباطن الجانب الذي فيه الصماخ أي
الثقب (بالسباحتين) السباحة والمسبحة الإصبع التي تلي الأبهام، سميت بذلك لأنها
يشار بها عند التسبيح، وهذا اسم إسلامي وضعوها مكان السبابة لما فيه من الدلالة
على المعنى المكروه، وهو أن الجاهلية كانوا يسبون الناس ويشيرون بها إليهم
(وظاهرهما) بالوجهين وهو الطرف الذي يلي الرأس ويلتصق به (رواه النسائي) وأخرجه
أيضا الترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي بألفاظ متقاربة، وصححه الترمذي وابن
خزيمة وابن مندة.
(3/212)
416- (23) وعن الربيع بنت
معوذ: ((أنها رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، قالت فمسح رأسه ما أقبل منه
وما أدبر، وصدغيه، وأذنيه مرة واحدة. وفي رواية، أنه توضأ فأدخل إصبعيه في جحري
أذنيه)). رواه أبوداود. وروى الترمذي الرواية الأولى، وأحمد وابن ماجة الثانية.
417- (24) وعن عبدالله بن زيد: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، وأنه
مسح رأسه بماء غير فضل يديه)).
416- قوله: (وعن الربيع) بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتية المكسورة (بنت
معوذ) اسم فاعل من التعويذ، هي الربيع بنت معوذ بن عفراء، وعفراء أم معوذ، وأبوه
الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد، أنصارية نجارية صحابية من المبايعات تحت
الشجرة. قال ابن عبدالبر: لها قدر عظيم، وكانت ربما غزت مع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -. لها أحد وعشرون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين،
روى عنها جماعة (ما أقبل منه) أي: من الرأس، وما موصولة (وما أدبر) عطف عليه، وهما
بدل من رأسه، يعني مسح من مقدم الرأس إلى منتهاه ثم رد يديه من مؤخرة الرأس إلى
مقدمه (وصدغيه وأذنيه) معطوف على رأسه، والصدغ بضم الصاد وسكون الدال، الموضع الذي
بين العين والأذن، والشعر المتدلى على ذلك الموضع (مرة واحدة) متعلق بمسح، فيكون
قيدا في الإقبال والإدبار وما بعد هما، فباعتبار الإقبال يكون مرة، وباعتبار
الإدبار مرة أخرى، وهو مسح واحد. والحديث يدل على مشروعية مسح الصدغ والأذن، وأن
مسحهما مع الرأس، وأنه مرة واحدة (فأدخل إصبعيه) أي عند مسح الرأس وبعده (في جحري
أذنيه) بتقديم الجيم المضمومة تثنية جحر وهو الثقب والخرق يعني صماخهما (رواه
أبوداود) أي الروايتين كلتيهما (وروى الترمذي) الخ. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح،
وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وقيل: في تصحيحه نظر، لأن في
سنده عبدالله بن محمد بن عقيل، وفيه مقال. قال الشوكاني:
(3/213)
ولحديث الربيع روايات في صفة
الوضوء وألفاظ، مدار الكل على عبدالله بن محمد بن عقيل، وفيه مقال مشهور لاسيما إذا
عنعن، وقد فعل ذلك في جميعها-انتهى. قلت: هو مدلس كما صرح به الحافظ في طبقات
المدلسين، لكن قد احتج بحديثه أحمد، وإسحق، والحميدي. وقال البخاري: هو مقارب
الحديث. وقال الذهبي: حديثه في مرتبة الحسن، فالظاهر أن حديث الربيع هذا حسن.
417- قوله: (بماء غير فضل يديه) أي بماء جديد لا ببقية من ماء يديه، أي: أخذ لمسح
الرأس ماء جديدا ولم يقتصر على البلل الذي بيديه. قال النووي: لا يستدل بهذا على
أن الماء المستعمل لا تصح الطهارة به، لأن هذا إخبار عن الإتيان بماء جديد للرأس،
ولا يلزم من ذلك اشتراطه - انتهى. وروى أبوداود من حديث سفيان بن سعيد أي الثوري،
عن ابن عقيل، عن الربيع بنت معوذ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه من
فضل ماء كان في يده. وقد احتج به من رأى طهورية الماء المستعمل، وتأوله البيهقي
على أنه أخذ ماء جديدا وصب نصفه، ومسح ببلل يده، ليوافق حديث
رواه الترمذي. ورواه مسلم مع زوائد.
418- (25) وعن أبي أمامة ذكر وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((وكان
يمسح الماقين، وقال:
(3/214)
عبدالله بن زيد، "ومسح رأسه بماء غير فضل يديه". قلت: حديث الربيع هذا صحيح أو حسن، ولا تعارض بينه وبين حديث عبدالله بن زيد لأنهما عن حادثتين مختلفتين، فلا حاجة إلى تأويل البيهقي، بل يقال: كلا الأمرين جائزان، إن شاء أخذ لرأسه ماء جديدا، وإن شاء مسحه بفضل ماء يكون في يده، لكن قيل: في متن حديث الربيع اضطراب، فإن ابن ماجه أخرج من طريق شريك عن ابن عقيل عنها، قالت: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بميضاة فقال: اسكبي، فسكبت، فغسل وجهه وذراعيه، وأخذ ماء جديدا فمسح به رأسه مقدمه ومؤخره. قلت: شريك هذا هو ابن عبدالله القاضي، وهو صدوق يخطئ كثيرا، تغير حفظه منذ ولى القضاء بالكوفة. وقال ابن معين: صدوق، ثقة إلا إذا خالف فغيره أحب إلينا منه، وقد خالف ههنا الثوري، فحديث شريك هذا مرجوح، ولا يعل الراجح بالمرجوح. والحاصل أنه يجوز كلا الأمرين عندي إلا أن الأولى أن يأخذ ماء جديدا لمسح الرأس ولا يقتصر على بلل يديه (رواه الترمذي) وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضا أبوداود وسكت عنه. (ورواه مسلم مع زوائد) أي مطولا، وكذا الدارمي. فأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم، وما رواه الترمذي طرف منه، والظاهر أن البغوي لم يشعر أنه في كتاب مسلم، ونقله عن جامع الترمذي فجعله من الحسان، أو شعر بذلك لكن نسى ذكره في الصحاح.
(3/215)
418- قوله: (وعن أبي أمامة)
الظاهر أنه هو أبوأمامة الصدي بن عجلان الباهلي، لا أبوأمامة أسعد بن سهل بن حنيف
الأنصاري الأوسي كما توهم الطيبي، فقد ذكر الإمام أحمد هذا الحديث في مسنده في
مسانيد أبي أمامة الباهلي الصدي بن عجلان (ج5:ص258و268) فصنيعه هذا يدل على أن أبا
أمامة راوي حديث "الأذنان من الرأس" ومسح الماقين" عند أحمد، هو
صدي بن عجلان الباهلي لا غير، ويؤيد ذلك صنيع الحافظ في تهذيب التهذيب (ج4:ص430)
والإصابة (ج2:ص182)، حيث ذكر في ترجمة أبي أمامة الباهلي شهر بن حوشب (راوي هذا
الحديث عن أبي أمامة) فيمن روى عنه، ولم يذكر شهرا فيمن روى عن غير أبي أمامة الباهلي
ممن كنيته أبوأمامة، ويقوى ذلك أيضا أن الشيخ عبدالغني النابلسي ذكر هذا الحديث في
أحاديث أبي أمامة الباهلي، ولم يذكره في أحاديث غيره من كنيته أبوأمامة من الصحابة
كأسعد بن سهل بن حنيف المتقدم ذكره، وأياس بن ثعلبة أبي أمامة البلوي الأنصاري.
(ذكر وضوء رسول الله ) أي وصف وضوءه، وفي بضع نسخ أبي داود: وذكر وضوء النبي (قال)
أي أبوأمامة، وهو بدل من ذكر (وكان يمسح) أي يدلك (الماقين) تثنية مأق بفتح الميم
وسكون الهمزة، ويجوز تخفيفها، وهو طرف العين الذي يلي الأنف والأذن، واللغة
المشهورة موق، وإنما مسحهما على الاستحباب مبالغة في الإسباغ، لأن العين قلما تخلو
من قذى ترميه من كحل وغيره، أو رمص فيسيل وينعقد على طرفي العين (وقال) أي رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون مرفوعا، أو
الأذنان من الرأس))، رواه ابن ماجه، وأبوداود، والترمذي. وذكرا قال حماد: لا أدري
الأذنان من الرأس من قول أبي أمامة؛ أم من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(3/216)
أبوأمامة فيكون موقوفا، والراجح عندنا هو الأول لما سيأتي (الأذنان من الرأس) أي حكما من حيث أنهما يمسحان بماء الرأس لا من الوجه، فيغسلان معه، واختلفوا في أنهما يمسحان ببقية ماء الرأس، أو يؤخد لهما ماء جديد، والراجح عندنا أنهما يمسحان بماء الرأس، ولو أخذ لمسحهما ماء جديدا لم يفعل بأسا لقوله: الأذنان من الرأس. وتقرير دلالته على ذلك أنه لايخلو من أحد الأمرين: إما أن يراد به الحكم أو بيان الخلقة، لا يجوز الثاني لكونه - صلى الله عليه وسلم - مبعوثا لبيان الأحكام دون الخلقة والحقائق، ولكونهما من الرأس مشاهدة مغنية عن البيان، فتعين الأول، ثم لا يخفى إما أن يكون المراد من الحكم كونهما ممسوحتين بماء الرأس، أو كونهما ممسوحتين كالرأس، ولا يجوز الثاني، لأن اشتراك الشيء مع الشيء لا يوجب أن يكون ذلك الشيء من الشيء الآخر، كالرجل مع الوجه يشتركان في حكم الغسل، ولا يقال: إن الرجل من الوجه، فتعين الأول وهو كونهما ممسوحتين بماء الرأس، ويؤيد ذلك ما تقدم من حديث ابن عباس عند ابن حبان وغيره، في صفة الوضوء، وفيه "وغرف غرفة فمسح برأسه وأذنيه داخلهما بالسبابتين، وخالف بإبهاميه إلى ظاهر أذنيه..." الحديث. واستدل النسائي على ذلك بحديث: إذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، لأن خروج الخطايا منهما بمسح الرأس إنما يحسن إذا كانا منه، وقد سبق التنبيه على ذلك في أوائل الطهارة. قال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر ما احتج به على أخذ الماء الجديد لمسح الأذنين أخذا من النيل ما نصه: لم أقف على حديث مرفوع صحيح خال عن الكلام يدل على مسح الأذنين بماء جديد، نعم ثبت ذلك عن ابن عمر من فعله، روى مالك في موطأه عن نافع أن عبدالله بن عمر كان يأخذ الماء بإصبعيه لأذنيه - انتهى. وقال ابن القيم في الهدى: لم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماء جديدا، وإنما صح ذلك عن ابن عمر. (رواه ابن ماجه وأبوداود والترمذي) وأخرجه
(3/217)
أيضا أحمد (ج5:ص258و268)كلهم
من حديث حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، وعن أبي أمامة، قال
الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك القائم (وذكرا) أي أبوداود والترمذي في
روايتهما عن قتيبة، عن حماد، ولذا قدم المصنف عليهما ابن ماجه مع أنه خلاف العادة
(قال حماد) هو حماد بن زيد بن درهم الأزدى الجهضمي أبوإسماعيل البصرى أحد الأعلام
الأثبات. قال الحافظ: ثقة ثبت فقيه. قيل: إنه كان ضريرا، ولعله طرأ عليه لأنه صح
أنه كان يكتب. ولد سنة (98) ومات في رمضان سنة (179) وله إحدى وثمانون سنة. (لا
أدرى الأذنان من الرأس من قول أبي أمامة) أي موقوفا. (أم من قول رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -) أي مرفوعا. ورواه أبوداود أيضا عن سليمان بن حرب عن حماد، وقال:
قال سليمان بن حرب: يقولها أبوأمامة. ورواه ابن ماجه، عن محمد بن زياد، عن حماد
بإسناده بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأذنان من
الرأس"، وكان يمسح رأسه مرة، وكان يمسح المأقين. وهذا اللفظ لا يحتمل أن يكون
كلمة "الأذنان من الرأس" مدرجة في الحديث، بل هو نص في أنها من اللفظ
النبوى، وقد أطالوا البحث في هذه الكلمة، وهل هي مدرجة
419- (26) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((جاء أعرابي إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثا ثلاثا، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن
زاد على هذا
(3/218)
من قول أبي أمامة أو مرفوعة. ورجح كثير منهم أبوحاتم، وأبوزرعة، والدارقطني، والبيهقي الإدراج. وقال الحافظ في التلخيص (ص33): قد بينت أنه مدرج في كتابي في ذلك أي: تقريب المنهج بترتيب المدرج. والظاهر أنه مرفوع ليس بمدرج، والحديث حسن أو صحيح، فقد روى من غير وجه بأسانيد بعضها جيد ويؤيد بعضها بعضا. قال ابن دقيق العيد في الإمام في حديث أبي أمامة هذا: أنه معلول بوجهين: أحدهما الكلام في شهر بن حوشب، والثاني في الشك في رفعه، ولكن شهر وثقه أحمد، ويحيى، والعجلي، ويعقوب بن شيبة، وسنان بن ربيعة، أخرج له البخاري أي: مقرونا بآخر، وهو وإن كان قد لين فقال ابن عدى: أرجو أنه لابأس به، وقال ابن معين: ليس بالقوى. فالحديث عندنا حسن - انتهى. وقال الزيلعي في نصب الراية (ج1:ص19): قد اختلف فيه على حماد فوقفه ابن حرب عنه، ورفعه أبوالربيع، واختلف أيضا على مسدد عن حماد، فروى عنه الرفع، وروى عنه الوقف. وإذا رفع ثقة حديثا ووقفه آخر، أو فعلهما شخص واحد في وقتين ترجح الرافع لأنه أتى بزيادة، ويجوز أن يسمع الرجل حديثا فيفتى به في وقت، ويرفعه في وقت آخر، وهذا أولى من تغليط الراوي، ثم نقل الزيلعي حديث "الأذنان من الرأس" من حديث عبدالله بن زيد مرفوعا من سنن ابن ماجه وقال: هذا أمثل إسناد في الباب لا تصاله وثقة رواته - انتهى. وقال البوصيرى في الزوائد: هذا إسناده حسن إن كان سويد بن سعيد حفظه، قلت: سويد بن سعيد هذا صدوق في نفسه إلا أنه عمى فصار يتلقن ما ليس من حديثه، وقد أخرج له مسلم، واحتج به، ثم نقله الزيلعي من حديث ابن عباس مرفوعا أيضا من سنن الدارقطني من طريق أبي كامل الجحدري، عن غندر، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، ثم قال: قال ابن القطان: إسناده صحيح لاتصاله وثقة رواته، قال وأعله الدارقطني بالاضطراب في إسناده، وقال: إسناده وهم، وإنما هو مرسل، ثم أخرجه عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن النبي - صلى الله
(3/219)
عليه وسلم - مرسلا، وتبعه
عبدالحق في ذلك، وقال: إن ابن جريج الذي دار الحديث عليه يروى عنه عن سليمان بن
موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا. قال: وهذا ليس يقدح فيه، وما يمنع أن
يكون فيه حديثان مسند ومرسل - انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: كلام ابن القطان
هذا متجه، وقد روى "الأذنان من الرأس" من حديث أبي هريرة. وأبي موسى،
وابن عمر، وعائشة، وأنس أيضا، انظر التلخيص (ص33) ونصب الراية (ج1:ص20).
419- قوله: (وعن عمرو بن شعيب عن أبيه) شعيب (عن جده) أي: جد شعيب وهو عبدالله بن
عمرو بن العاس (يسأله) حال من فاعل جاء (عن الوضوء) أي: كيفيته (فأراه) أي:
بالفعل، لأنه أبلغ في التعليم من القول. وفي الكلام حذف، تقديره: أي: فأراد أن
يريه ما سأله فتوضأ (ثلاثا ثلاثا) أي: غير المسح، فقد جاء في هذا الحديث أن المسح
كان
فقد أساء وتعدى وظلم)). رواه النسائي، وابن ماجه، وورى أبوداود معناه.
420- (27) وعن عبدالله بن المغفل، أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر
الأبيض عن يمين الجنة. قال أي بني سل الله الجنة، وتعوذ به من النار: فإني سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في
الطهور
(3/220)
مرة في رواية سعيد بن منصور ذكره الحافظ في الفتح، وقد سبق التنبيه على ذلك (فقد أساء) أي: في مراعاة آداب الشرع، فإن الزيادة استنقاص لما استكمله الشرع (وتعدى) أي: عما حد له وجعله غاية التكميل (وظلم) أي: نفسه باتعابها فيما زاد على الثلاثة من غير حصول ثواب له، أو بإتلاف الماء ووضعه في غير محله، وإنما ذمه بهذه الكلمات الثلاث إظهارا لشدة النكير عليه, وزجرا له عن ذلك. وقد جاء في رواية أبي داود زيادة أو نقص، واستشكلت. والمحققون على أنها وهم لجواز الوضوء مرة مرة ومرتين ومرتين، وقد تكلف لتوجيهها بما هو مذكور في النيل (ج1:ص168) والعون (ج1:ص52) إن شئت الوقوف عليه فارجع إليهما (رواه النسائي وابن ماجه) إلا أن رواية ابن ماجه بلفظ "هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء، أو تعدى، أو ظلم" بأو، بدل الواو (وروى أبوداود معناه) بأطول من هذا، وسكت عليه: وأخرجه أيضا أحمد، وابن خزيمة. قال الحافظ في التلخيص: من طرق صحيحه، وصرح في الفتح: أنه صححه ابن خزيمة وغيره.
(3/221)
420- قوله: (أنه سمع ابنه)
يمكن أي يكون هو يزيد بن عبدالله بن مغفل، الذى روى عنه أبونعامة الحنفي في ترك
الجهر بالبسملة عند الترمذي وغيره، ويزيد هذا مجهول الحال، ويمكن أن يكون هذا ابنا
لعبدالله بن مغفل آخر غير هذا الذى روى عنه أبونعامة، وعلى هذا فلم أقف على اسمه
(أسألك القصر) قال في المجمع القصر هو الدار الكبيرة المشيدة لأنه يقصر فيه الحرم (قال)
أي: عبدالله لابنه حين سمعه يدعو بهذه الكلمات (أي) بفتح الهمزة وسكون الياء حرف
نداء ينادي به القريب (بني) تصغير للإبن مضافا إلى ياء المتكلم، (سل) أمر من سأل
يسئل (الله الجنة) أي ينبغي لك أن تكتفي بسؤال الجنة، ولا تجاوز في السؤال عن الحد
بزيادة القيود والأوصاف. قيل: إنما أنكر عبدالله على ابنه في هذا الدعاء، لأنه طمح
إلى ما لا يبلغه عملا حيث سأل منازل الأنبياء، وجعله من الإعتداء في الدعاء لما
فيه من التجاوز عن حد الأدب، ونظر الداعي إلى نفسه بعين الكمال. وقيل: لأنه سأل
شيئا معينا فربما كان مقدرا لغيره. وقيل: إنكار عبدالله على ابنه من قبيل سد باب
الإعتداء فإنه لما سمع ابنه يدعو بهذا الدعاء خاف عليه أن يتجاوز عنه إلى ما فيه
الإعتداء حقيقة فنبه على ذلك، وأنكر عليه سدا للباب (يعتدون) بتخفيف الدال من
الاعتداء، أي يتجاوزون عن الحد الشرعي (في الطهور) بالزيادة على الثلاث وإسراف
الماء، وبالمبالغة
والدعاء)). رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه.
421- (28) وعن أبي بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن للوضوء
شيطانا يقال له: الولهان، فاتقوا وسواس الماء)). رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال
الترمذي: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوى عند أهل الحديث، لأنا لا نعلم أحدا
أسنده غير خارجة،
(3/222)
في الغسل إلى حد الوسواس. والحديث عام يتناول الغسل، والوضوء، وإزالة النجاسة (والدعاء) قيل الاعتداء في الدعاء هو الدعاء بما لايجوز، ورفع الصوت به، والصياح. وقيل: سؤال منازل الأنبياء. وقيل: هو أن يتكلف السجع في الدعاء. (رواه أحمد وأبوداود) في الطهارة وسكت عنه هو والمنذري. (وابن ماجه) في أبواب الدعاء، لكن ليس في روايته لفظ الطهور فلا يكون شاهدا في الباب، فكان الأولى للمصنف أن لا يذكر ابن ماجه. وقيل عزا الحديث لابن ماجه نظرا إلى أصل الحديث، وإن اقتصر هو منه على الدعاء. والحديث أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم.
(3/223)
421- قوله: (إن للوضوء)
المشهور ضم الواو على إرادة الفعل، ويحتمل الفتح على إرادة الماء وهو أنسب بآخر
الحديث على بعض الاحتمالات، يعني أن لأجل إلقاء الوسوسة في الوضوء وما يتعلق به (شيطانا)
أي: نوعا خاصا، وصنفا معينا من الشيطان، اسم هذا النوع الولهان، وليس المراد أنه
واحد بالشخص .(الولهان) بالواو واللام المفتوحتين، صفة مشبهة من الوله، وقيل: أصله
مصدر "وله" بكسر اللام ومصدره أيضا "الوله" بفتح اللام، وهو
الحزن، أو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد وغاية العشق. وسمى به شيطان الوضوء إما
لشدة حرصه على طلب الوسوسة، وإما لإلقائه الناس بالوسوسة في مهواة الحيرة، حتى يرى
صاحبه حيران، ذاهب العقل، لايدري كيف يلعب به الشيطان، ولا يعلم هل وصل الماء إلى
العضو أم لا، وكم مرة غسله، كما ترى عيانا في الموسوسين في الوضوء (فاتقوا وسواس
الماء) بكسر الواو الأولى المصدر، وبفتحها الإسم، مثل الزلزال بفتح الزاى وكسرها،
أي: وسواسا يفضى إلى كثرة إراقة الماء حالة الوضوء والاستنجاء. والمراد بالوسواس
التردد في طهارة الماء ونجاسته بلا ظهور علامات النجاسة، ويحتمل أن يراد بالماء
البول، أي وساوس البول المفضية إلى الاستنجاء، وقال ابن الملك: أي وسواس الولهان،
وضع الماء موضع ضميره مبالغة في كمال الوسواس في شأن الماء، أو لشدة ملازمته له.
والحديث يدل على كراهية الإسراف في الماء للوضوء وهو أمر مجمع عليه (رواه الترمذي
وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج5:ص126) وأبوداود والطيالسي في مسنديهما، والحاكم
(هذا حديث غريب) أي إسنادا (لأنا لا نعلم) علة للغرابة والضعف (أحدا أسنده) أي
رفعه (غير خارجة) أي خارجه بن مصعب أبوالحجاج السرخسي، قال الترمذي: وقد روى هذا
الحديث من غير وجه عن الحسن قوله.
وهو ليس بالقوى عند أصحابنا.
(3/224)
422- (29) وعن معاذ بن جبل،
قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه)).
رواه الترمذي.
423- (30) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كانت لرسول الله - صلى الله عليه
وسلم - خرقة ينشف
وقال ابن أبي حاتم في العلل: سئل أبي عن هذا الحديث فقال: رفعه إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - منكر - انتهى. لكن يؤيده ما روي في الباب عن عمران بن حصين عند
البيهقي بسند ضعيف نحو حديث أبي بن كعب، وما روي عن عبدالله بن مغفل، وعن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده، وقد تقدما، وعن عبدالله بن عمر عند ابن ماجه، وعبدالله بن
عمرو بن العاص عند أحمد وابن ماجه، وسيأتي في الفصل الثالث (وهو) أي: خارجة (ليس
بالقوى عند أصحابنا) أي: أهل الحديث فقد ضعفه ابن المبارك وابن معين وأحمد ووكيع
والنسائي والدارقطني وابن حبان وغيرهم. وقال الحافظ: متروك، وكان يدلس عن
الكذابين. ويقال: إن ابن معين كذبه.
(3/225)
422- قوله: (مسح وجهه) أي:
نشفه بعد الوضوء. (بطرف ثوبه) فيه دليل على جواز التنشيف بعد الوضوء، واختلف فيه
على أقوال، والراجح عندي قول من قال بجواز التنشيف بعد الوضوء والغسل، للأحاديث
الواردة في الباب، واحتج من كرهه بحديث ميمونة في غسل النبي - صلى الله عليه وسلم
-، وفيه "فناولته ثوبا فلم يأخذه فانطلق وهو ينفض يديه" أخرجه البخاري،
وفي رواية ابن ماجه "فرده وجعل ينفض الماء" قال: هذا الحديث يدل على
كراهة التنشيف بعد الغسل، فيثبت به كراهته بعد الوضوء أيضا. وفيه ما قال الحافظ:
من أنه لا حجة فيه لأنها واقعة عين يتطرق إليه الاحتمال، فيجوز أن يكون الرد لأمر
آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلا، أو
غير ذلك. قال المهلب: يحتمل تركه لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أولشئ آخر رآه في
الثوب من حرير، أو وسخ. وقال إبراهيم النخعي: إنما رده مخافة أن يصير عادة. وقال
التيمي: في هذا الحديث دليل على أنه كان ينشف ولو لا ذلك لم تأته بالمنديل. وقال
ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أنه لا كراهة في التنشيف لأن كلا منهما
إزالة – انتهى كلام الحافظ مختصرا. (رواه الترمذي) وقال: هذا حديث غريب، وإسناده
ضعيف، ورشدين بن سعد، وعبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي يضعفان في الحديث -
انتهى. وقال الذهبي في ترجمة رشدين: كان صالحا عابدا سيئ الحفظ غير معتمد. وقال
الحافظ في ترجمة الإفريقي: ضعيف في حفظه، وكان رجلا صالحا، وكان البخاري يقوى
أمره، ولم يذكره في كتاب الضعفاء والحديث أخرجه أيضا ابن عساكر.
423- قوله: (ينشف) أي: يسمح من التنشيف، قال في القاموس: نشف الثوب العرق كسمع
ونصر، شربه، والحوض
بها أعضاءه بعد الوضوء)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث ليس بالقائم وأبومعاذ
الراوي ضعيف عند أهل الحديث.
?الفصل الثالث?
424- (31) عن ثابت بن أبي صفية، قال: قلت لأبي جعفر – هو محمد
(3/226)
الماء شربه، كتنشفه، وقال فيه: نشف الماء تنشيفا أخذه بخرقة ونحوها (أعضاءه) كذا في النسخ الموجودة عندنا بزيادة لفظ "أعضائه" بعد قوله "ينشف"، وليس هو في المصابيح، ولا في التلخيص، ولا جامع الترمذي، والمستدرك للحاكم، والسنن الكبرى للبيهقي، فالظاهر أنه خطأ من زيادة الناسخ. (بعد الوضوء) فيه أيضا دليل على جواز التنشيف وعدم كراهته، وفي الباب أحاديث أخرى تدل على جواز ذلك، ذكرها شيخنا في شرح الترمذي نقلا عن العيني، وكلها ضعيفة إلا حديث أبي مريم أياس بن جعفر، عن فلان رجل من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له منديل أو خرقة يمسح بها وجهه إذا توضأ. قال العيني: أخرجه النسائي في الكنى. بسند صحيح رواه الترمذي، وأخرجه الحاكم (ج1:ص154)، والبيهقي (ج1:ص185). (هذا حديث ليس بالقائم) أي ليس بالقوى، وبين وجهه بقوله (وأبو معاذ الراوي) قال الترمذي: يقولون: هو سليمان ابن أرقم. (ضعيف عند أهل الحديث) قال العلامة الشيخ أحمد محمد الشاكر في تعليقه على الترمذي: إسناد المؤلف هنا فيه سفيان بن وكيع بن الجراح، وهو في نفسه ثقة صادق إلا أن وراقه أفسد عليه حديثه، فأدخل عليه ما ليس منه، ونصح بتغييره فلم يقبل، فضعف حديثه باختلاطه بما ليس منه، ولكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث، فقد رواه الحاكم، في المستدرك من طريق محمد بن عبدالله بن الحكم عن ابن وهب، ورواه البيهقي عن الحاكم وغيره من طريق ابن عبدالحكم، وقد ضعف الترمذي هذا الحديث من أجل سليمان بن أرقم فإنه ضعيف، ولكن الترمذي لم يجزم بأن أبا معاذ هو سليمان بن أرقم، بل قال: يقولون. والبيهقي تبع الترمذي في ذلك، غير أنه جزم بأنه سليمان، وأما الحاكم فقال: أبومعاذ هو الفضيل بن ميسرة بصري، روى عنه يحيى بن سعيد، وأثنى عليه، وأقره الذهبي على ذلك فلم يتعقبه فيه، وبذلك يكون إسناد هذا الحديث صحيحا – انتهى.
(3/227)
424- قوله: (عن ثابت) بمثلثة
وبمؤحدة ومثناة فوق. (بن أبي صفية) بكسرة فاء مخففة وشدة ياء هو ثابت بن أبي صفية
الثمالي أبوحمزة واسم أبيه دينار، وقيل: سعيد، كوفي ضعيف رافضي، مات في خلافة أبي
جعفر من صغار التابعين (هو محمد) أي اسم أبي جعفر هو محمد، وهو ابن علي زين
العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، ثقة فاضل، من فقها التابعين، قال
محمد بن فضيل عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر وابنه جعفر بن محمد عن أبي بكر
وعمر فقالا لي: يا سالم! تولهما وابرأ من عدوهما فإنهما كانا إمامي هدى. وعنه قال:
ما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما.
الباقر – حدثك جابر: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، ومرتين
مرتين، وثلاثا ثلاثا؟ قال: نعم)). رواه الترمذي، وابن ماجه.
425-(32) وعن عبدالله بن زيد، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ
مرتين مرتين، وقال: هو نور على نور)).
426–(33) وعن عثمان، رضي الله عنه قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
توضأ ثلاثا ثلاثا، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي، ووضوء إبراهيم)).
(3/228)
كان مولده سنة (56) ومات
بالمدينة سنة (114)، وقيل (117) وقيل (118) وهو ابن (63)سنة، وقيل غير ذلك، ودفن
بالبقيع. (الباقر) أي: باقر العلم، لقب به لتبقره أي توسعه وتبحره في العلم،
واشتهر ابنه جعفر أبوعبدالله بالصادق، وقوله (هو محمد الباقر) زاده المؤلف لتعيين
أبي جعفر. (توضأ مرة مرة) الوضوء فعل مركب من غسلات ومسح، فقوله (مرة مرة) يتعلق
بالكل فلذلك جاء مكررا، وعلى هذا فينبغي أن يكون مرتين وثلاثا كذلك، لكن المعلوم
في المسح مرة فيحمل ذلك على التغليب، لكن الغالب هو الغسل (قال: نعم) قال الطيبي:
من عادة المحدثين أن يقول القاري بين يدى الشيخ حدثك فلان عن فلان برفع إسناده وهو
ساكت يقرر، وذلك كما يقول الشيخ حدثني فلان عن فلان ويسمعه الطالب - انتهى. وقال
السيوطي في تدريب الراوي: إذا قرأ على الشيخ قائلا: أخبرك فلان أو نحوه، كقلت:
أخبرنا فلان، والشيخ مصغ إليه فاهم له غير منكر، ولا مقر لفظا، صح السماع، وجازت
الرواية به اكتفاء بالقرائن الظاهرة، ولا يشترط نطق الشيخ بالاقرار، كقوله: نعم،
على الصحيح الذي قطع به جماهير أصحاب الفنون، وشرط بعض الشافعية والظاهرين نطقة به
- انتهى. وفي الحديث بيان ثلاث أحوال في ثلاث أوقات لا بيان حالة واحدة. (رواه
الترمذي وابن ماجه) كلاهما من طريق شريك بن عبدالله النخعي عن ثابت بن أبي صفية،
وشريك كثير الغلط، وثاب ضعيف الحديث بالاتفاق.
425- قوله: (توضأ مرتين مرتين) أي: غسل الأعضاء المغسولة مرتين مرتين. (هو نور على
نور) أي: غسل الأعضاء المغسولة في الوضوء مرتين مرتين سبب لزيادة النور. وقال
الطيبي: إشارة إلى قوله: "إن أمتي غر محجلون من آثار الوضوء" أو هداية
على هداية، أو سنة على فرض يهدى الله لنوره من يشاء.
(3/229)
426- قوله: (توضأ ثلاثا ثلاثا)
أي: غسل الأعضاء المغسولة في الوضوء ثلاثا. (وقال هذا) أي: الوضوء التام الكامل.
(ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء إبراهيم) تخصيص بعد تعميم، وقد احتج به من قال أن
الوضوء ليس مختصا بهذه
رواهما رزين، والنووي ضعف الثاني في شرح مسلم.
427- (34) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة،
وكان أحدنا يكفيه الوضوء ما لم يحدث)). رواه الدارمي.
428- (35) وعن محمد بن يحيى بن حبان، قال: قلت لعبيدالله بن عبدالله بن عمر:
((أرأيت وضوء
الأمة. لكنه حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به على ذلك لضعفه قاله الحافظ، نعم يؤيد
هذا القول ما صح في البخاري وغيره "أن إبراهيم وسارة توضآ وصليا، وإن جريجا
توضأ وصلى". فالظاهر أن الذي اختصت به الأمة هو الغرة والتحجيل لا أصل
الوضوء. (رواهما رزين) وروى أحمد عن ابن عمر مرفوعا: "من توضأ واحدة فتلك
وظيفة الوضوء التي لابد منها، ومن توضأ اثنتين فله كفلان من الأجر، ومن توضأ ثلاثا
فذاك وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي". وفيه زيد العمى وهو ضعيف. وروى ابن ماجه
نحوه عن أبي بن كعب، وفيه عبدالله بن عراوة عن زيد العمى، وهما ضعيفان. (والنووي
ضعف الثاني) أي: حديث عثمان. (في شرح مسلم) وكذا الحافظ في شرح البخاري كما تقدم.
قلت: والحديث الأول أي: حديث عبدالله بن زيد ما حكى فيه من وضوءه - صلى الله عليه
وسلم - مرتين مرتين قد رواه البخاري كما سبق، وأما قوله: هو نور على نور فقال
العراقي في تخريج الإحياء: لم أقف عليه، وقال المنذري في الترغيب (ج1:ص81): لا
يحضرني له أصل من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولعله من كلام بعض السلف.
(3/230)
427- قوله: (كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة) أي: مفروضة، ووقع في رواية الترمذي: طاهرا
أو غير طاهر، وظاهر الحديث أن تلك كانت عادته، وهو يحتمل أن ذلك كان واجبا عليه
خاصة، ثم نسخ يوم خيبر بحديث سويد بن النعمان الذي تقدم في باب ما يوجب الوضوء،
ويحتمل أنه كان يفعله استحبابا ثم خشي أن يظن وجوبه فتركه لبيان الجواز، قال
الحافظ: وهذا أقرب. قلت: ويدل لهذا، ما تقدم من حديث بريدة في باب ما يوجب الوضوء:
أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، وأن عمر سأله فقال:
عمدا صنعته. أي: لبيان الجواز، واحتج للنسخ بحديث عبدالله بن حنظلة الآتي، وسيجئ
الكلام فيه. (ما لم يحدث) من الإحداث. (رواه الدارمي) وأخرجه أيضا أحمد والطيالسي
والبخاري والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
428- قوله: (وعن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح المهملة وتشديد الموحدة ابن منقذ
الأنصاري المدني، يكنى أبا عبدالله، تابعي، ثقة فقيه. قال الواقدي: كان له حلقة في
مسجد المدينة، وكان يفتى، وكان ثقة كثير الحديث. وقال المصنف: روى عنه جماعة، وهو
من مشائخ مالك، وكان مالك يبجله ويذكره بكل فضل من العبادة والزهد والفقه والعلم،
مات بالمدينة سنة (141) وهو ابن (74) سنة. (قلت لعبيدالله بن عبدالله بن عمر) بن
الخطاب العدوى المدني،
عبد الله بن عمر لكل الصلاة طاهرا كان أو غير طاهر، عمن أخذه؟ فقال: حدثته أسماء
بنت زيد بن الخطاب أن عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل،
(3/231)
يكنى أبا بكر، شقيق سالم بن عبدالله بن عمر ثقة من أوساط التابعين، مات سنة (106) وقال المصنف: روى عنه الزهري ونفر من أعلام التابعين، مات قبل أخيه سالم وهو ثبت ثقة، حديثه في الحجازيين، ووقع في رواية أبي داود عبدالله بن عمر مكبرا، وهو أكبر ولد عبدالله بن عمر، ثقة قليل الحديث. مات سنة (105). (عمن أخذه) متعلق بمعنى: أرأيت أي: أخبرني عمن أخذه، والضمير بمعنى اسم الإشارة والمشار إليه الوضوء المخصوص. (فقال) أي: عبيد الله (حدثته) أي: عبيد الله ففي رواية أبي داود: فقال: حدثتنيه (أسماء). قال ميرك: هو معنى ما قاله لا ما تلفظ به، فإن لفظه "هو حدثتني". (بنت زيد بن الخطاب) هو أخو عمر بن الخطاب، قال في التقريب: أسماء بنت زيد بن الخطاب العدوية. يقال: لها صحبة وقال ابن الأثير: لها رؤية وقال في التهذيب (ج12:ص398): ذكرها ابن حبان وابن مندة في الصحابة، وذكرها الحافظ في الإصابة في القسم الثاني من حرف الألف من النساء (ج4:ص246): (وهو فيمن ذكر من الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض الصحابة من النساء والرجال، ممن مات - صلى الله عليه وسلم - وهو في دون سن التميز) وقال: يدل على أنها من أهل هذا القسم أن والدها استشهد باليمامة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل، وكانت دواعي الصحابة متوفرة على إحضار أولادهم إذا ولدوا ليبرك عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - - انتهى (أن عبدالله بن حنظلة) ويقال له: ابن الغسيل، لأن أباه حنظلة غسيل الملائكة كما سيأتي، وأم عبدالله جميلة بنت عبدالله بن أبي. قال ابن سعد: كان حنظلة لما أراد الخروج إلى أحد وقع على امرأته فعلقت يومئذ بعبد الله في شوال على رأس اثنين وثلاثين من الهجرة فولدته أمه بعد ذلك. وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن سبع وقد رآه، وروى عنه، وكان خيرا فاضلا مقدما في الأنصار. قال ابن عبدالبر: أحاديثه عندي مرسلة،
(3/232)
واستشهد يوم الحرة يوم
الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وكانت الأنصار قد بايعته يومئذ،
وبايعت قريش عبدالله بن مطيع: وكان عثمان بن محمد بن أبي سفيان قد أوفده إلى يزيد
بن معاوية، فلما قدم على يزيد حباه وأعطاه، وكان عبدالله فاضلا في نفسه، فرأى منه
ما لا يصلح فلم ينتفع بما وهب له، فلما انصرف خلعه في جماعة أهل المدينة فبعث
إليهم مسلم بن عقبة فكانت الحرة (الغسيل) أي غسيل الملائكة، وهو بالجر صفة حنظلة
بن أبي عامر الراهب الأنصاري الأوسي، ذكر أهل السير أن حنظلة الغسيل كان قد ألم
بأهله في حين خروجه إلى أحد، ثم هجم عليه من الخروج في النفير ما أنساه الغسل
وأعجله عنه، فلما قتل شهيدا أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الملائكة
غسلته. وروى عروة بن الزبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة
حنظلة: ما كان شأنه؟ قالت: كان جنبا وغسلت أحد شقى رأسه، فلما سمع الهيعة خرج فقتل
حدثها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو
غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسواك عند كل
صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. قال: فكان عبدالله يرى أن به قوة على ذلك ففعله
حتى مات)). رواه أحمد.
429- (36) وعن عبدالله بن عمرو بن العاص، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بسعد
وهو يتوضأ، فقال: ((ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف؟ قال نعم! وإن كنت
على نهر جار)). رواه أحمد وابن ماجه.
(3/233)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد رأيت الملائكة تغسله، كذا في الاستيعاب (ج1:ص105). (حدثها) أي: حديث عبدالله أسماء. (كان أمر) بصيغة المجهول. (بالوضوء) قال في التوسط شرح سنن أبي داود: هذا الأمر يحتمل كونه له خاصا به أو شاملا لأمته، ويحتمل كونه بقوله تعالى: ?إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا? بأن يكون الآية على ظاهرها – انتهى. قلت: وحمل علي رضي الله عنه هذه الآية على ظاهرها، كما يدل عليه ما رواه الدارمي عنه في باب قوله: ?إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم? من مسنده، وقد تقدم الكلام في معنى الآية مفصلا. (فلما شق ذلك) أي: الوضوء لكل صلاة. (أمر بالسواك عند كل صلاة) قال الطيبي: فيه تنبيه على فخامة السواك حيث أقيم مقام ذلك الواجب، وكاد أن يكون واجبا عليه. (ووضع عنه الوضوء) أي: وجوبه. (إلا من حدث) أي: من حدوث حدث حقيقي أو حكمي. (قال) أي: عبيدالله. (فكان عبدالله) أي: ابن عمر (يرى أن به) أي: بعبدالله، والجار مع مجروره خبر مقدم لأن (قوة) بالنصب على أنه اسمه المؤخر، والجملة قائمة مقام مفعولي يرى (على ذلك) أي: على نحو فعله - صلى الله عليه وسلم - قبل النسخ (ففعله) أي: الوضوء لكل صلاة. (رواه أحمد) (ج5:ص255) وأخرجه أيضا الدارمي وأبوداود وسكت عنه وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1:ص156،155) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي والبيهقي، وفي سنده عندهم جميعا محمد بن اسحق وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس، لكن صرح في رواية الحاكم بالتحديث.
(3/234)
429- قوله: (مر بسعد) أي: ابن
أبي وقاص (وهو يتوضأ) يعني يسرف في وضوئه، إما فعلا كالزيادة على الثلاث وإما قدرا
كالزيادة على قدر الحاجة في الاستعمال. (ما هذا السرف) بفتحتين بمعنى: الإسراف أي:
التجاوز عن الحد في الماء. (قال: أفي الوضوء سرف؟) بناء على ما قيل لا خير في سرف
ولا سرف في خير، فظن أن لا إسراف في الطاعة والعبادة. (قال: نعم! وإن كنت على نهر
جار) فإن فيه إسراف الوقت وتضييع العمر، أو تجاوزا عن الحد الشرعي كما تقدم. وقال
الطيبي: هو تتميم لإرادة المبالغة أي: نعم ذلك تبذير وإسراف في مالم يتصور فيه
التبذير، فكيف بما تفعله، ويحتمل أن يراد بالإسراف الإثم بسبب التجاوز عن الحد
الشرعي. (رواه أحمد وابن ماجه) وفيه ابن لهيعة، قال أبوحاتم
432،431،430- (39،38،37)وعن أبي هريرة، وابن مسعود، وابن عمر، أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: ((من توضأ وذكر اسم الله، فإنه يطهر جسده كله، ومن توضأ ولم يذكر
اسم الله، لم يطهر إلا موضع الوضوء)).
433- (40) وعن أبي رافع، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ
وضوء الصلاة حرك خاتمة في أصبعه)). رواهما الداقطني، وروى ابن ماجه الأخير.
(5) باب الغسل
?الفصل الأول?
وأبوزرعة: يكتب حديثه للاعتبار. وقال الحافظ في التلخيص (ص53) بعد ذكر هذا الحديث:
إسناده ضعيف، وقال في الفتح (ج1:ص118): بإسناد لين.
(3/235)
432،431،430- قوله: (إن النبي)
كذا في طبعات الهند، ووقع في نسختي القاري والألباني: عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - (وذكر اسم الله) أي: في أول وضوئه. (فإنه يطهر) من التطهير على البناء
للفاعل. (جسده كله) أي: من الذنوب. (لم يطهر إلا موضع الوضوء) أي: إلا ذنوب
المواضع المخصوصة، يعني: من الصغائر، وقد استدل به من قال بعدم وجوب التسمية في
أول الوضوء، لكنه حديث ضعيف جدا بجميع طرقه، فلا يصح الاحتجاج به على هذا المطلوب،
والحق أن التسمية في أول الوضوء واجب لا يصح الوضوء بدونها.
433- قوله: (وضوء الصلاة) احتراز عن غسل اليد فإنه وضوء لغوي. (حرك خاتمة في
إصبعه) قال القاري: أي لأن استيعاب الغسل فرض فيسن تحريك الخاتم إذا ظن وصول الماء
إلى ما تحته، وإلا فيجب تحريكه – انتهى. وفيه دليل على مشروعية تحريك الخاتم ليزول
ما تحته من الأوساخ، ويصل الماء إليه، وكذلك ما يشبه الخاتم من الأسورة والحلية
ونحوهما. (رواهما الدارقطني) قد تقدم الكلام في الحديث الأول في شرح حديث سعيد بن
زيد. (وروى ابن ماجه الأخير) وهو ضعيف، فإن في سنده معمر بن محمد بن عبيدالله، وهو
ضعيف منكر الحديث، عن أبيه محمد بن عبيدالله، وهو أيضا ضعيف منكر الحديث جدا، ذاهب
متروك، وقد ذكره البخاري تعليقا عن ابن سيرين، ووصله ابن أبي شيبه.
(باب الغسل) هو بفتح الغين أصح وأشهر من ضمها، مصدر غسل الشيء، وبمعنى الاغتسال،
وبكسرها اسم لما يغسل به من سدر وخطمى ونحوهما، وبالضم اسم للماء الذي يغتسل به،
قاله القسطلاني، وهو بالمعنيين الأولين إسالة الماء وإمراره على الشيء، واختلف في
الدلك فقيل: يجب، وقيل: لا يجب، والمسألة لغوية، واحتج من قال: ليس من
434- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا جلس
أحدكم بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل وإن لم ينزل)) متفق عليه.
(3/236)
مسماه الدلك، بقول العرب: غسل المطر الأرض، وليس في ذلك إلا الإسالة. قال الآلوسي في تفسيره (ج6: ص69): ومنع بأن وقعه من علو خصوصا مع الشدة والتكرر دلك أي: دلك، وهم لا يقولونه إلا إذا نظفت الأرض، وهو إنما يكون بدلك، وبأنه غير مناسب للمعنى المعقول من شرعية الغسل، وهو تحسين هيئة الأعضاء الظاهرة للقيام بين يدى الرب سبحانه الذي لا يتم بالنسبة إلى سائر المتوضئين إلا بالدلك – انتهى. وقال بعض الحنفية: الدلك معتبر في الغسل لغة، وأقر به الشيخ ابن الهمام في فتح القدير، ولذا شرطه المالكية، وما لا دلك فيه لا يسمى غسلا بل يقال له: الصب والإسالة – انتهى. قلت: قوله - صلى الله عليه وسلم -: بلوا الشعر وأنقوا البشر، يشعر بوجوب الدلك، لأن الإنقاء لا يحصل بمجرد الإفاضة والإسالة. وقيل: الدلك ليس واجبا لذاته، إنما هو واجب لتحقق وصول الماء، فلو تحقق لم يجب، كما قاله ابن الحاج في شرح المنية، واشترط الدلك في الغسل.
(3/237)
434- قوله: (إذا جلس أحدكم بين
شعبها الأربع) أي يديها ورجليها، أو رجليها وفخذيها وشغريها، أو ساقيها وفخذيها،
أو نواحي فرجها الأربع، والشعب - بضم المعجمة وفتح المهملة - النواحي جمع شعبة.
(ثم جهدها) يقال: جهد وأجهد أي: بلغ المشقة يعني بلغ جهده في العمل بها، أي: حفزها
وكدها بحركته، والمراد ههنا الجماع ومعالجة الإيلاج، كنى به عنها، ففي رواية أبي
داود: وألزق الختان بالختان، بدل قوله: ثم جهدها، فهذا يدل على أن المراد بالجهد
ههنا الجماع. (فقد وجب الغسل) أي: عليهما. (وإن لم ينزل) ولا أنزلت هي. فيه دليل
على أن الإنزال غير مشروط في وجوب الغسل، بل المدار على الإيلاج وغيبوبة الحشفة في
الفرج وهو الحق. وقيل: لا يجب الغسل إلا بالإنزال، وكان الخلاف فيه مشهورا بين
الصحابة، ثم استمر بين العلماء بعدهم إلى عصر المؤلفين من الأئمة حتى قال البخاري
في صحيحه: الغسل أحوط، وذاك الأخير إنما بينا لاختلافهم، والماء أنقى، لكن الخلفاء
الأربعة وجمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم على إيجاب الغسل بمجرد الجماع، ولو لم
ينزل وهو الصواب (متفق عليه) هذا يقتضي أن قوله: وإن لم ينزل، متفق عليه، وهو ليس
في صحيح البخاري، بل هو من أفراد مسلم عن البخاري، وسبق المصنف في عزوه إلى
الصحيحين جميعا ابن الأثير في جامع الأصول، والظاهر أن المصنف تبعه واعتمد عليه،
وقيل عزاه لهما جميعا نظرا إلى أصل الحديث لا بالنظر إلى جميع ألفاظه. والحديث
أخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه، لكن قوله: (وإن لم ينزل)، من أفراد
أحمد ومسلم.
435- (2) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الماء
من الماء)) رواه مسلم.
436- (3) قال الشيخ الإمام محى السنة رحمه الله: هذا منسوخ. وقال ابن عباس: إنما
الماء من الماء في الاحتلام.
(3/238)
435- قوله: (إنما الماء من الماء) أي: الاغتسال من الإنزال، فالماء الأول المعروف، والثاني المني، وفيه من البديع الجناس التام. والحديث دال بمفهوم الحصر على أنه لا غسل إلا من الإنزال، ولا غسل من مجاوزة الختان الختان، لكن الجمهور على أنه منسوخ. (رواه مسلم) في قصة عتبان بن مالك، قال أبوسعيد: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب عتبان فصرخ به فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعجلنا الرجل"، فقال عتبان: أرأيت الرجل يعجل عن امرأته، ولم يمن ما ذا عليه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الماء من الماء". وأخرجه أيضا أبوداود،و ابن خزيمة، وابن حبان بدون القصة. وروى البخاري القصة ولم يذكر الحديث، ولذا قال الحافظ في بلوغ المرام: وأصله عند البخاري، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أعجلت أو أقطحت فعليك الوضوء. والحديث له طرق عن جماعة من الصحابة عن أبي أيوب، ورافع بن خديج، وعتبان بن مالك، وأبي هريرة، وأنس، وغيرهم.
(3/239)
436- قوله: (هذا) أي: حديث أبي
سعيد (منسوخ) بحديث سهل بن سعد عن أبي كعب، قال: إنما كان الماء من الماء، رخصة في
أول الإسلام، ثم أمرنا بالاغتسال بعد. أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وأبوداود وابن
ماجه والبهقي والدارقطني وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال الإسماعيلي: إنه صحيح
على شرط البخاري، وقال الحافظ: هو إسناد صالح لأن يحتج به. وبحديث رافع بن خديج
قال: ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم
أنزل، فاغتسلت، وخرجت، فأخبرته، فقال: لا عليك، الماء من الماء. قال رافع: ثم
أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بالغسل. أخرجه أحمد (ج4:ص143)
وذكره الحازمي في كتابه الناسخ والمنسوخ (ص22) وحسنه، وفي تحسينه نظر، وبالجملة
الحديثان صريحان في النسخ، وقد ذكر الحازمي في كتابه آثارا تدل على النسخ. قال
الأمير اليماني: حديث الغسل وإن لم ينزل، أرجح لو لم يثبت النسخ، لأنه منطوق في
إيجاب الغسل، وذلك مفهوم، والمنطوق مقدم على العمل بالمفهوم، وإن كان المفهوم
موافقا للبراءة الأصلية، والآية تعضد المنطوق في إيجاب الغسل، فإنه قال تعالى:
?وإن كنتم جنبا فاطهروا?. قال الشافعي: إن كلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق
بالحقيقة على الجماع، وإن لم يكن فيه إنزال. قال: فإن كل من خوطب بأن فلانا أجنب
عن فلانة، عقل أنه أصابها وإن لم ينزل. قال: ولم يختلف أن الزنا الذي يجب به الجلد
هو الجماع ولو لم يكن منه إنزال، انتهى. فتعاضد الكتاب والسنة على إيجاب الغسل من
الإيلاج (وقال ابن عباس: إنما الماء من الماء في الاحتلام) يعني أن حديث
"الماء من الماء" محمول على صورة مخصوصة،و هي ما يقع في المنام
رواه الترمذي، ولم أجده في الصحيحين.
437- (4) وعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: ((قالت أم سليم: يا رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ! إن الله لا يستحي من الحق،
(3/240)
من رؤية الجماع، فإنه لا يجب الغسل في الاحتلام إلا بالانزال لا بالمجامعة، وهو تأويل يجمع بين الحديثين من غير تعارض، وهذا رأى من ابن عباس، تأول به الحديث، ولعله لم يبلغه التفصيل الذي في حديث أبي سعيد عند مسلم، وحديث رافع بن خديج عند أحمد، فإنه صريح في نفي هذا التأويل. وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي: يمكن أن يقال: أن قول ابن عباس هذا ليس تأويلا للحديث، وإخراجا له بهذا التأويل من كونه منسوخا، بل غرضه بيان حكم المسألة بعد العلم بكونه منسوخا، وحاصله أن عمومه منسوخ، فبقى الحكم في الاحتلام – انتهى. وقال بعضهم: حديث "إنما الماء من الماء" في المباشرة كما ذكره ابن رسلان في شرح أبي داود، وقيل: المراد من الماء الثاني الأعم من الحقيقي، وهو المنى، والحكمى، وهو الإيلاج، قلت: يأبي هذه التأويلات التفصيل المذكور في حديث أبي سعيد، فأرجح الأقوال وأسلمها أنه منسوخ. (رواه الترمذي ولم أجده) أي: قول ابن عباس (في الصحيحين) كأنه اعتراض على محى السنة، حيث أورد قول ابن عباس هذا في الصحاح، ولا اعتراض في ذلك عليه، لأنه إنما أورد قوله لبيان توجيه رواية مسلم، أعنى حديث "إنما الماء من الماء"، لا أنه مقصود الباب، فعدم وجوده في الصحيحين لا يضره، لأن ذلك الشرط إنما هو في مقاصد الباب، وهو ظاهر لمن تصفح وتتبع كتاب المصابيح.
(3/241)
437- قوله: (قالت أم سليم) بضم
السين مصغرا، هي أم سليم بنت ملحان، الأنصارية، والدة أنس بن مالك، يقال: اسمها
سهلة أو رميلة، أو رميثة، أو أنيثة، أو مليكة، وهي الغميصاء، أو الرميصاء، ثبت ذلك
البخاري، اشتهرت بكنيتها، وكانت من الصحابيات الفاضلات، لها أربعة عشر حديثا،
وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، وقال ابن عبدالبر: كانت تحت مالك بن النضر
في الجاهلية فولت له أنسا، فلما جاء الله بالاسلام, أسلمت وعرضت على زوجها
الإسلام، فغضب عليها وخرج إلى الشام فهلك، فتزوجت بعده أبا طلحة، خطبها وهو مشرك
فأبت عليه إلا أن يسلم، فأسلم فتزوجته، فولت له غلاما كان قد أعجب به، فمات صغيرا،
فأسف عليه، وقيل: إنه أبوعمير صاحب النغير، ثم ولدت له عبدالله بن أبي طلحة فبورك
فيه، وهو والد اسحق بن عبدالله بن أبي طلحة الفقيه وإخوته، وكانوا عشرة، كلهم حمل
عنه العلم، وروى عن أم سليم، قالت: لقد دعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
حتى ما أريد زيادة، ومناقبها كثيرة شهيرة. ماتت في خلافة عثمان (إن الله لا يستحي
من الحق) بيائين على الأصل بعد سكون الحاء، أي لا يمتنع من بيان الحق، ولا يتركه
ترك الحيي منا، فكذا لا أمتنع أنا من سؤالي عما أنا محتاجة إليه. وقيل: المعنى: إن
الله لا يأمر بالحياء في الحق ولايبيحه، وإنما قالت هذا اعتذارا بين يدي سؤالها
عما دعت الحاجة إليه مما تستحي النساء في العادة عن السؤال عنه، وذكره بحضرة
الرجال
فهل على المرأة من غسل إذا إحتملت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء، فغطت أم سلمة وجهها،
وقالت: يارسول الله! أو تحتلم المرأة؟ قال: نعم، تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها؟))
متفق عليه.
438- (5) وزاد مسلم برواية أم سليم:
(3/242)
(من غسل) زيادة من للتأكيد، أي: نوع من الغسل (إذا احتلمت) أي: إذا رأت في الحلم – بالضم – المجامعة، وفي رواية أنها قالت: إذا رأت أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل؟ (قال: نعم ! إذا رأت الماء) أي: المنى بعد الاستيقاظ. وفيه دليل على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال في الاحتلام، وكأن أم سليم لم تسمع حديث الماء من الماء أو سمعته، وقام عندها مايوهم خروج المرأة عن ذلك وهو ندور بروز الماء منها، وفيه رد على من قال: إن ماء المرأة لا يبرز. (فغطت) أي: سترت حياء (أم سلمة وجهها) قيل: إنه من كلام زينب الراوية عن أم سلمة، وقيل: من أم سلمة على سبيل الالتفات كأنها جردت من نفسها أخرى، وأسندت إليها التغطية. وفي مسلم من حديث أنس أن ذلك وقع لعائشة. ويمكن الجمع بينهما بأنهما كانتا حاضرتين عند سؤال أم سليم. (أو تحتلم) بإثبات همزة الاستفهام، وهو معطوف على مقدر يظهر من السياق، أي: أترى المرأة الماء وتحتلم؟ ووقع في بعض النسخ بحذف الهمزة. (المرأة) أي: ويكون لها مني، ويخرج منها كالرجل؟ وفيه دليل على قلة وقوع الاحتلام من النساء، (قال: نعم) فيه: أن المرأة ترى ما يراه الرجل في منامه (تربت يمينك) في معنى هذه اللفظة أقوال كثيرة، ذكر عشرة منها ابن العربي في شرح الترمذي، والأصح الأقوى الذي عليه المحققون أنها كلمة أصلها: لصقت بالتراب أي: افتقرت، ولكنها جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر بها بل يقصدون الإنكار والزجر واللوم ونحوه، أي: إن أم سليم فعلت ما يجب عليها من السؤال عن دينها فلم تستحق الإنكار واللوم، واستحققت أنت الإنكار لإنكارك ما لا إنكار فيه. (فبم) بالموحدة المكسورة، وأصله "فبما" حذفت ألف ما الإستفهامية المجرورة. (يشبهها) من الأشباه (ولدها) بالرفع على الفاعلية أي: في بعض الأحيان. وهو استدلال على أن لها منيا كما للرجل، والولد مخلوق منهما، إذ لو لم يكن لها ماء، وخلق من
(3/243)
ماءه فقط لم يشبهها. (متفق
عليه) أخرجه البخاري في العلم، والطهارة وبدأ الخلق، والأدب، ومسلم في الطهارة لكن
ليس في روايته لفظ "فغطت أم سلمة وجهها" بل إنما رواه البخاري في العلم.
والحديث أخرجه أيضا مالك في المؤطا والترمذي والنسائي وابن ماجه، وأخرجه أيضا مسلم
وأبوداود من حديث أنس عن أم سليم، وسنذكر روايتها. ووقعت هذه المسألة لنساء من
الصحابيات: لخولة بنت حكيم عند أحمد والنسائي وابن ماجه، ولسهلة بنت سهيل عند
الطبراني، ولبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبه.
438- قوله: (وزاد مسلم برواية أم سليم) روى مسلم عن أنس بن مالك: أن أم سليم حدثت
أنها سألت نبي
((إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا أو سبق يكون منه
الشبه)).
439- (6) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إذا اغتسل من الجنابة، بدأ فغسل يديه،
(3/244)
الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل، فقالت أم سلمة: واستحييت من ذلك، قالت: وهل يكون هذا؟ فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، فمن أين يكون الشبه؟ إن ماء الرجل الخ .. (إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر) هذا الوصف باعتبار الغالب، وحال السلامة، واعتدال الحال، لأن مني الرجل قد يصير رقيقا بسبب المرض، ومحمرا بكثرة الجماع، وقد يبيض مني المرأة لفضل قوتها (فمن أيهما) بكسر الميم بعدها نون ساكنة، وهي الحرف المعروف، أي: أي الماءين، ومن زائدة قاله الطيبي. (علا) أي: غلب (أوسبق) يعني غلب المني فيما إذا وقع منيهما في الرحم معا، أو سبق وقوع منيه في الرحم قبل وقوع مني صاحبه، فأو للتقسيم لا للترديد قاله القاري. (يكون منه الشبه) بكسر الشين وسكون الموحدة وبفتحهما لغتان، أي: شبه الولد بالأب أو الأم في المزاج، والذكورة، والأنوثة. وفي حديث أنس عند البخاري في قصة إسلام عبدالله بن سلام: إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة الرجل نزعت الولد. ووقع في حديث عائشة عند مسلم :إذا علا ماءها ماء الرجل أشبه الولد أخواله، وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه. قال الحافظ: المراد بالعلو ههنا السبق، لأن من سبق فقد علا شأنه فهو علو معنوي، وأما ما وقع عند مسلم من حديث ثوبان رفعه، ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا منى المرأة منى الرجل آنثا بإذن الله، فهو مشكل من جهة أنه يلزم منه اقتران الشبه للأعمام إذا علا ماء الرجل، ويكون ذكرا لا أنثى، وعكسه، والمشاهد خلاف ذلك، لأنه قد يكون ذكرا، ويشبه أخواله لا أعمامه، وعكسه. قال القرطبي يتعين تأويل حديث ثوبان بأن المراد بالعلو السبق، قال الحافظ والذي يظهر ما قدمته، وهو تأويل
(3/245)
العلو في حديث عائشة، وأما
حديث ثوبان فيبقى العلو فيه على ظاهره فيكون السبق علامة التذكير والتأنيث، والعلو
علامة الشبه، فيرتفع الإشكال، وكان المراد بالعلو الذي يكون سبب الشبه بحسب الكثرة
بحيث يصير الآخر مغمورا فيه، فبذلك يحصل الشبه، وينقسم ذلك ستة أقسام: الأول أن
يسبق ماء الرجل، ويكون أكثر فيحصل له الذكورة والشبه، والثاني عكسه، والثالث أن
يسبق ماء الرجل، ويكون ماء المرأة أكثر فتحصل الذكورة والشبه للمرأة، والرابع
عكسه، والخامس أن يسبق ماء الرجل ويستويان فيذكر، ولا يختص بشبه، والسادس عكسه
انتهى.
439- قوله: (إذا اغتسل) أي: أراد الغسل (من الجنابة) أي من أجل رفعها، أو بسبب
حدوثها (فغسل يديه)
ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب
على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله.
(3/246)
في حديث ميمونة مرتين، أو ثلاثا، وغسلهما يحتمل أن يكون للتنظيف مما بهما من مستقذر، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم، ويدل عليه الزيادة التي رواها مسلم وغيره بلفظ: "قبل أن يدخل يده في الإناء"، وزاد أيضا: فيغسل فرجه (ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة) فيه احتراز عن الوضوء اللغوي، وظاهره أنه يمسح رأسه أيضا. قيل: يحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد في الغسل، ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى. قلت: الظاهر هو الاحتمال الأول لقوله: ثم يفيض الماء على جلده كله. ثم اختلف في هذا الوضوء: فذهب الجمهور إلى أنه لا يجب الوضوء مع الغسل، وقال داود وغيره: الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث، ويلزم الجمع بين الوضوء والغسل، وهو الراجح، لأن المراد بقوله تعالى: "حتى تغتسلوا" هو الإغتسال الشرعي الذي ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا المراد بقوله "فالطهروا" هو التطهر الشرعي، فما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيان هيئة الغسل هو بيان للإغتسال الشرعي المجمل الواجب الذي لا يتبين المراد منه إلا ببيانه - صلى الله عليه وسلم - فيكون واجبا. وظاهر قولها: كما يتوضأ للصلاة، أنه يغسل الرجلين ولا يؤخر غسلهما إلى فراغ الغسل، لكن وقع في رواية لمسلم: "ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه"، وفي رواية أبي داود الطيالسي "فإذا فرغ غسل رجليه" فإما أن يحمل قولها: كما يتوضأ للصلاة على المجاز، بأن المراد يتوضأ أكثر الوضوء كما يتوضأ للصلاة وهو ما سوى الرجلين، أو يحمل على ظاهره، ويكون المراد بقولها: "ثم غسل رجليه" في رواية مسلم أي: أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كانت غسلهما في الوضوء، فيوافق قولها في
(3/247)
رواية الكتاب "ثم يفيض
على جلده كله". (ثم يدخل أصابعه في الماء) لتأخذ البلل ثم يخرجها (فيخلل بها)
أي: بأصابعه التي أدخلها في الإناء لأنه أسهل لوصول الماء. (أصول شعره) أي: شعر
رأسه، ويدل عليه رواية البيهقي: يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتتبع بها أصول الشعر،
ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك. وقيل: المراد شعر لحيته ورأسه جميعا، لعموم قوله:
أصول الشعر. (ثم يصيب) أي: الماء (على رأسه ثلاث غرفات) بفتحتين، وفي بعض النسخ
غرف بضم المعجمة وفتح الراء، جمع غرفة، وهي قدر ما يغرف من الماء بالكف، وفيه سنية
التثليث في الصب على الرأس، وألحق به غيره، فإن الغسل أولى بالتثليث من الوضوء
المبني على التخفيف. وقيل: لا يستحب التكرار في الغسل، والمراد من التثليث في هذه
الرواية أن كل غرفة كانت في جهة من جهات الرأس، فكان يقصد بالثلث الاستيعاب مرة لا
التكرار مرات، وكون الغسل أولى بالتثليث لا يخلو عن نظر، لأن في تثليث الغسل من
الحرج ما ليس في تثليث الوضوء. (ثم يفيض الماء على جلده كله) هذا التأكيد يدل على
أنه عمم جميع جسده بالغسل بعد ما تقدم، وهو يؤيد الاحتمال الأول أن الوضوء سنة
مستقلة قبل الغسل، لكن يعارضه ما وقع في بعض طرق هذا الحديث عند البخاري:
متفق عليه، وفي رواية لمسلم: ((يبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء، ثم يفرغ
بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ)).
440- (7) وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قالت ميمونة: ((وضعت للنبي - صلى
الله عليه وسلم - غسلا فسترته بثوب، وصب على يديه، فغسلهما، ثم صب بيمينه على
شماله. فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها، فمضمض واستنشق، وغسل وجهه
وذراعيه، ثم صب على رأسه، وأفاض على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه،
(3/248)
ثم غسل سائر جسده، أي بقيته، لأن السائر الباقي، ويحتمل أن يقال: أن "سائر" هنا: بمعنى الجميع جمعا بين الروايتين. (متفق عليه) وأخرجه أيضا الترمذي، وأبوداود، والنسائي وابن ماجه. (وفي رواية لمسلم يبدأ) أي: إذا أراد أن يغتسل يشرع (فيغسل) الخ .. قد ركب المصنف الألفاظ المذكورة من روايتين لمسلم، ففي رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه (بشماله) ثم يتوضأ الخ .. . وفي رواية زائدة عن هشام: بدأ فغسل يديه قبل أن يدخل يده في الإناء ثم يتوضأ الخ.
(3/249)
440- قوله: (غسلا) بضم الغين
المعجمة وسكون المهملة أي: ماء الإغتسال. (فسترته بثوب) أي: ضربت له سترا يغتسل
وراءه لئلا يراه أحد. وفيه مشروعية التستر في الغسل ولو في البيت (فغسلهما) أي:
إلى رسغيه (فغسل فرجه) أي: بشماله (فضرب بيده) أي: اليسرى (فمسحها) أي: الأرض لأجل
إزالة الرائحة من اليد، أو للمبالغة في التنظيف، وتعليما للأمة. (فمضمض واستنشق
وغسل وجهه وذراعيه) قال عياض: لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذكر
التكرار. قال الحافظ: بل قدر ورد ذلك من طريق صحيحه أخرجها النسائي والبيهقي من
رواية أبي سلمة عن عائشة: أنها وصفت غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من
الجنابة. الحديث، وفيه ثم يمضمض ثلاثا، ويستنشق ثلاثا، ويغسل وجهه ثلاثا ويديه
ثلاثا، ثم يفيض على رأسه ثلاثا. (ثم صب على رأسه) ظاهره أنه - صلى الله عليه وسلم
- لم يمسح رأسه كما يفعل في الوضوء اكتفاء بالغسل عن المسح في الوضوء. قال الحافظ:
لم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء، وتمسك به
المالكية لقولهم: إن وضوء الغسل لا تمسح فيه الرأس بل يكتفي عنه لغسلها- انتهى.
قلت: ظاهر قوله في روايات عائشة في صفة الغسل "يتوضأ وضوءه للصلاة" أنه
يمسح رأسه أيضا، فيحتمل أن ترك المسح في حديث ميمونة من اختصار الرواة، والله
أعلم. (ثم تنحى) أي: تبعد. (فغسل قدميه) وفي رواية للبخاري: توضأ رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وضوءه للصلاة غير رجليه. الحديث، وفي آخره: ثم نحى رجليه
فغسلهما. وفيه التصريح بتأخير الرجلين في وضوء الغسل إلى آخره، وهو مخالف
فناولته ثوبا فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه)). متفق عليه، ولفظه للبخاري.
441- (8) وعن عائشة، قالت: ((إن امرأة من الأنصار سألت النبي - صلى الله عليه وسلم
- عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، ثم قال: خذي فرصة
(3/250)
لظاهر رواية عائشة المتقدمة: "ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة"، ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة على المجاز كما تقدم، وإما بحمله على حالة أخرى، فكان يغسلهما أحيانا أي: إن لم يكن واقفا في المستنقع بل على لوح، أو حجر، أو مكان مرتفع، ويؤخرهما إلى الفراغ من الغسل أحيانا، أي: إذا كان واقفا في المستنقع، وأخذ منه جواز تفريق أعضاء الوضوء. قال مالك: إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم، وعند الشافعية في الأفضل قولان أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه. (فناولته ثوبا) أي: أردت إعطاءه لينشف به أعضاءه. (فلم يأخذه) أي: الثوب إما لكونه مستعجلا أو لأن الوقت كان حرا، والبلل مطلوب، أو لشئ رآه في الثوب من حرير، أو وسخ، ومع هذه الاحتمالات في الحديث لا يصلح أن يكون دليلا على كراهة التنشيف. (فانطلق وهو ينفض يديه) فيه جواز نفض اليدين من ماء الغسل قال الحافظ: وكذا الوضوء، وقد عارضه حديث: "لا تنفضوا أيديكم في الوضوء؛ فإنها مراوح الشيطان". أخرجه ابن حبان في الضعفاء، وابن أبي حاتم في العلل من حديث أبي هريرة إلا أنه حديث ضعيف جدا لو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح لم يكن صالحا لأن يحتج به. وفيه دليل على طهارة الغسالة، لأن النفض لا يخلوا عن إصابة الرشاش بالبدن. وحديث عائشة المتقدم وحديث ميمونة هذا مشتملان على بيان كيفية الغسل من ابتداءه إلى إنتهاءه، فإبتداءه غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، ثم غسل الفرج، ثم دلك اليد بالأرض وغسلها، ثم الوضوء ثم صب الماء على الرأس، ثم إفاضته على الجسد كله. (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواضع تسعة من كتاب الطهارة، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وليس لأحمد والترمذي نفض اليدين. (ولفظه للبخاري) في باب نفض اليدين من غسل الجنابة.
(3/251)
441- قوله: (إن امرأة) من
الأنصار قيل: هي أسماء بنت شكل الأنصارية. (من المحيض) مصدر ميمى أي: من أجل
انقطاع حيضها. (فأمرها كيف تغتسل) سكت في هذه الرواية عن بيان كيفية الاغتسال، وهي
مذكورة مشرحة في رواية أخرى، فقد أخرج مسلم عن إبراهيم بن المهاجر، عن صفية، عن
عائشة، أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض، فقال: تأخذ إحداكن
ماءها وسدرها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ
شؤون رأسها ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة. الحديث. (ثم قال) أي: بعد تعليمها
كيفية الإغتسال. (فرصة) بكسر الفاء، وحكى ابن سيدة تثليثها، وبإسكان الراء وإهمال
الصاد، قطعة من صوف، أو قطن، أو جلدة عليها صوف،
من مسك، فتطهري بها. قالت: كيف أتطهر بها؟ فقال: تطهري بها. قالت: كيف أتطهر بها؟
قال: سبحان الله! تطهري بها. فاجتذبتها إلي فقلت: تتبعي بها أثر الدم)). متفق
عليه.
442- (9) وعن أم سلمة، قالت: قلت: ((يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! إني
امرأة أشد ضفر رأسي،
(3/252)
وحكى أبوداود أن في رواية أبي الأحوض "قرصة" بفتح القاف، ووجه المنذري فقال: يعني شيئا يسيرا مثل القرصة بطرف الإصبعين (من مسك) بكسر الميم، وهو طيب معروف، أي: خذي قطعة من صوف مطيبة من مسك، وقيل بفتح الميم وهو الجلد، أي: خذي فرصة كائنة من جلد، ويؤيد الكسر، وأن المراد التطيب ما في الرواية الأخرى "فرصة ممسكة" ويقوى الكسر أيضا ما في رواية عبدالرزاق حيث وقع عنده "من ذريرة" والمقصود باستعمال الطيب تطيب المحل، ودفع الرائحة الكريهة، ورجح بعضهم فتح الميم بأنهم كانوا في ضيق يمتنع معه أن يمتهنوا المسك مع غلاء ثمنه، وفيه أنه لا وجه لاستبعاده لما عرف من شأن أهل الحجاز من كثرة استعمال الطيب، وقد يكون المأمور به من يقدر عليه، فإن فقدت المسك استعملت ما يخلفه في طيب الريح فإن لم تجد فمزيلا كالطين، وإلا فالماء كاف. (فتطهري بها) أي: بتنظفي وتطيبي بها، أي: فاستعمليها في الموضع الذي أصابه الدم حتى يصير مطيبا. (قال: سبحان الله) تعجبا من عدم فهمها المقصود فأراد بقوله: سبحان الله التعجب، ومعنى التعجب ههنا، أنه كيف يخفى مثل هذا الظاهر الذي لا يحتاج الإنسان في فهمه إلى فكر أو تصريح، ووقع في رواية "استحيى وأعرض" وللإسماعيلي: فلما رأيته استحيا علمتها، وإنما كرر الجواب مع كونها لم تفهمه أولا، لأن الجواب به يؤخذ من إعراضه بوجهه عند قوله: "تطهري" أي: في المحل الذي يستحيا من مواجهة المرأة بالتصريح به، فاكتفى بلسان الحال عن لسان المقال، وفهمت عائشة ذلك عنه فتولت تعليمها. (فاجتذبتها إلي) أي: قربتها إلى نفسي. (تتبعي) من التتبع بتشديد الباء. (بها) أي: الفرصة الممسكة. (أثر الدم) أي: اجعليها في الفرج، وحيث أصابه الدم، ففي رواية الإسماعيلي "تتبعي بها مواضع الدم" وزاد الدارمي "وهو يسمع فلا ينكر" وفيه صحة العرض على المحدث إذا أقره ولو لم يقل عقبه نعم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وفي الاعتصام، ومسلم
(3/253)
في الطهارة. ولفظ البخاري في
باب دلك المرأة نفسها.. إلخ، أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسلها
من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها، قالت: كيف أتطهر
بها؟ قال تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله ! تطهري، فاجتذبتها إلي.. الخ.
والحديث أخرجه أيضا أحمد، وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
442- قوله: (أشد) بفتح الهمزة وضم الشين أي: أحكم. (ضفر رأسي) بفتح الضاد المعجمة
وإسكان الفاء إما مصدر وهو نسج الشعر أو غيره، والضفير مثله، وإما أن يكون اسما
للمضفورة. قال في اللسان: ويقال للذؤابة: ضفيرة، وكل خصلة من خصل شعر المرأة تضفر
على حدته، وجمعها ضفائر. قال ابن سيده: والضفر كل خصلة من
أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلث حثيات، ثم
تفيضين عليك الماء،
(3/254)
الشعر على حدتها، ثم قال: والضفيرة كالضفر، انتهى. وقال النووي: بفتح الضاد وإسكان الفاء، هذا هو المشهور المعروف في رواية الحديث، والمستفيض عند المحدثين، والفقهاء، وغيرهم، ومعناه: أحكم فتل شعري. (أفأنقضه) أي: أفرقه، يعني أيجب على شرعا نقضه أم لا؟ وإلا فهي مخيرة (لغسل الجنابة) أي: لأجله حتى يصل الماء إلى باطنه. وفي رواية مسلم: أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ (فقال: لا) أي: لا يجب، لا أنه لا يجوز. (إنما يكفيك) بكسر الكاف. (أن تحثي) بسكون الياء لأنها ياء الخطاب للمؤنث، والنون محذوفة على إعمال أن الناصبة، ولا يجوز نصب الياء، من حثا يحثوا حثوا، وحثي يحثي حثيا، واوي ويائي، قال في اللسان: والياء أعلى وهو الرمي، ووقع في بعض النسخ النسائي "أن تحثين" بإثبات النون، قال السندهي: وكأنه على إهمال "أن" تشبيها لها بما المصدرية، وقد ورد مثل ذلك في الحديث كثيرا، وارجع إلى "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" (ص117و118) (حثيات) بفتحات أي: حفنات يعني ثلاث غرف بيديه واحدها حثية قاله في النهاية واللسان. (ثم تفيضين) بإثبات النون، والتقدير: أنت تفيضين، فيكون من باب عطف الجمل، قاله القاري. وقيل: جاء على لغة من يرفع الفعل بعد أن حملا على أختها. والحديث دليل على أنه لا يجب على المرأة نقض الضفائر في غسل الجنابة، ولا في غسل الحيض بل يكفيها أن تصب على رأسها ثلاث حفنات، ويدل عليه أيضا ما رواه أحمد ومسلم عن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبدالله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن، فقالت: يا عجبا لابن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن بنقض رؤسهن، أو ما يأمرهن أن يحلقن رؤسهن، الحديث. وأما ما رواه مسلم من حديث عائشة (أي في المنتقى) في صفة غسل المرأة من المحيض بلفظ: ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شئون رأسها. فلا يدل على نقض الضفائر، ولا على وجوب بل داخل الشعر ولو سلم فهو محمول على
(3/255)
العزيمة والندب، وحديث أم سلمة
على الرخصة جمعا بين الأدلة. وأما حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
لها: وكانت حائضا: "انقضي شعرك، واغتسلي". أخرجه الأئمة الستة، وهذا لفظ
ابن ماجه، وفي رواية للبخاري: انقضي رأسك، وامتشطي، وأمسكي عن عمرتك. فهو وارد في
مندوبات الإحرام، والغسل في تلك الحالة للتنظيف لا للصلاة، والنزاع في غسل الصلاة،
ذكره الشوكاني في النيل، وقال في السيل الجرار: واختصاص هذا بالحج لا يقتضي ثبوته
في غيره، ولا سيما وللحج مدخلة في مزيد التنظيف، ثم اقترانه بالامتشاط الذي لم
يوجبه احد يدل على عدم وجوبه. وأما ما رواه الدارقطني في الأفراد، والبيهقي في
السنن الكبرى، والطبراني في الكبير من حديث أنس مرفوعا: إذا اغتسلت المرأة من
حيضتها نقضت شعرها نقضا وغسلته بخطمي وأشنان، فإذا اغتسلت من الجنابة صبت على
رأسها الماء وعصرته. فقد تفرد به مسلم بن صبيح اليحمدي وهو مجهول، وهو غير أبي
الضحى مسلم بن صبيح المعروف، فإنه أخرج له الجماعة كلهم. وأيضا اقترانه بالغسل
بخطمي وأشنان يدل على عدم الوجوب فإنه لم
فتطهرين)). رواه مسلم.
443- (10) وعن أنس قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد، ويغتسل
بالصاع إلى خمسة أمداد)).
(3/256)
يقل أحد بوجوب الخطمي ولا الأشنان - انتهى. وهذا كل في حق المرأة، وأما الرجل فيجب عليه نقض شعره المضفور، وبل ظاهره وباطنه، أي: داخله إذا لم يصل الماء إلى أصول الشعر إلا بالنقض لحديثي أبي هريرة، وعلى الآتيين في الفصل الثاني، ولحديث ثوبان: أنهم استفتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلث غرفات بكفيها". قال ابن القيم: هذا الحديث رواه أبوداود من حديث إسماعيل بن عياش، وهذا إسناد شامي، وحديثه عن الشاميين صحيح. وقال الشوكاني: أكثر ما علل به أن في إسناده إسماعيل بن عياش، والحديث من مروياته عن الشاميين، وهو قوي فيهم فيقبل، انتهى. هذا وارجع للتفصيل إلى غاية المقصود شرح سنن أبي داود. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
(3/257)
443- قوله: (كان يتوضأ بالمد
ويغتسل بالصاع) الصاع أربعة أمداد بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمد رطل
وثلث بالعراق فيكون الصاع خمسة أرطال وثلثا برطل عراق، وإليه ذهب أبويوسف، ومالك،
والشافعي، وأحمد، وخالفهم أبوحنيفة ومحمد، فقالا: المد رطلان، والصاع ثمانية
أرطال، ولا حجة لهما على ما ذهبا إليه، ولذلك ترك أبويوسف مذهبه، واختار مذهب
الأئمة الثلاثة، ولمالك مع أبي يوسف فيه قصة مشهورة رواها البيهقي بإسناد جيد،
وارجع للتفصيل إلى شرح الترمذي (ج1ص159-160) لشيخنا العلامة الأجل المباركفوري.
والحديث يدل على كراهة الإسراف في الماء للوضوء والغسل، واستحباب الاقتصاد، وهو
مجمع عليه (إلى خمسة أمداد) بيان لغايته، حاصله أنه لم ينقص عن أربعة أمداد ولم
يزد على خمسة أمداد، يعنى أنه ربما اقتصر على الصاع، وربما زاد عليه إلى خمسة،
فكأن أنسا لم يطلع على أنه استعمل في الغسل أكثر من ذلك. لأنه جعلها النهاية، وقد
روى مسلم من حديث عائشة، أنه كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك.
وروى الشيخان عنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء
واحد من قدح يقال له الفرق. وفي رواية: كان يغتسل من إناء واحد يقال له الفرق،
والفرق ثلاثة آصع أي: ستة عشر رطلا بالعراق. فهذا يدل على اختلاف الحال في ذلك
بقدر الحاجة. وقد اختلف الروايات في الوضوء أيضا، ففي حديث عبدالله بن زيد عند ابن
خزيمة، وابن حبان، والحاكم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بثلثي مد من ماء،
فتوضأ فجعل يدلك ذراعيه. وفي حديث أنس عند أحمد، وأبي داود: كان النبي - صلى الله
عليه وسلم - يتوضأ بإناء يكون رطلين. وفي هذه الأحاديث رد على من قدر وضوئه وغسله
- صلى الله عليه وسلم - بما في حديث أنس الذي ذكره المؤلف من رواية الشيخين، وحمله
الجمهور على الاستحباب؛ لأن
متفق عليه.
(3/258)
444- (11) وعن معاذة، قالت:
قالت عائشة رضي الله عنها: ((كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من
إناء واحد بيني وبينه، فيبادرني، حتى أقول: دع لي دع لي. قالت: وهما جنبان)). متفق
عليه.
أكثر من قدر وضوءه وغسله - صلى الله عليه وسلم - من االصحابة قدرهما بذلك وهذا إذا
لم تدع الحاجة إلى الزيادة، وهو أيضا في حق من يكون خلقه معتدلا. قال الشوكاني:
القدر المجزئ عن الغسل ما يحصل به تعميم البدن على الوجه المعتبر، وسواء كان صاعا
أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في النقصان إلى مقدار لا يسمى مستعمله مغتسلا، أو إلى
مقدار في الزيادة يدخل فاعله في حد الإسراف، وهكذا الوضوء، القدر المجزئ ما يحصل
به غسل أعضاء الوضوء سواء كان مدا أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في الزيادة إلى حد
السرف أو النقصان إلى حد ما لا يحصل به الواجب (متفق عليه) وأخرج أحمد ومسلم
والترمذي وابن ماجه من حديث سفينة، وأبوداود من حديث عائشة بنحوه.
(3/259)
444- قوله: (وعن معاذة) بضم
الميم هي معاذة بنت عبدالله العدوية أم الصهباء البصرية العابدة، ثقة حجة، تابعية،
روت عن عائشة وعلي. يقال: إنها لم تتوسد فراشا بعد أبي الصهباء حتى ماتت. قال
الذهبي: بلغني أنها كانت تحيي الليل وتقول: عجبت لعين تنام وقد علمت طول الرقاد في
القبور. توفيت سنة (83). (أنا ورسول الله ) بالنصب على أن يكون مفعولا معه، والرفع
على أن يكون عطفا على الضمير، وإبراز الضمير ليصح العطف، وهو من باب تغليب المتكلم
على الغائب لكونها هي السبب في الاغتسال، فكأنها أصل في الباب. (من إناء واحد) من
قدح يقال له الفرق، كما في رواية البخاري، والفرق ثلاثة آصع (بيني وبينه) أي: يوضع
الإناء بيني وبينه وهو واسع الرأس، فنجعل أيدينا ونأخذ الماء للاغتسال به.
(فيبادرني) أي: يسبقني لأخذ الماء زاد النسائي "وأبادره" قال الأشرف:
ليس المعنى أنه يبادرني ويغتسل ببعضه ويترك الباقي فأغتسل منه، بل المعنى أنهما
اغتسلا منه معا كما ورد في رواية أخرى: "نغترف منه جميعا". وفي رواية:
"تختلف أيدينا فيه وتلتقي". (دع لي دع لي) أي: أترك لي ما أكمل غسلي،
والتكرار للتأكيد أو للتعديد. (قالت) أي: معاذة. (وهما) أي: النبي - صلى الله عليه
وسلم - وعائشة رضي الله عنها. (جنبان) بضم الجيم والنون تثنية جنب. وفي الحديث
دليل على جواز اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد معا، ونقل الطحاوي ثم القرطبي
والنووي الاتفاق على ذلك. وفيه أيضا جواز اغتراف الجنب من الماء القليل، وأن ذلك
لا يمنع من التطهير بذلك الماء، ولا بما يفضل منه، سواء فيه الرجل وامرأة. (متفق
عليه) أي: على أصل الحديث، واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا النسائي وقال السيد جمال
الدين: قوله: متفق عليه، فيه نظر؛ لأن البخاري لم يقل: فيبادرني حتى أقول "دع
لي دع لي" وإنما هو من أفراد مسلم.
?الفصل الثاني?
(3/260)
445- (12) عن عائشة، قالت:
((سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما.
قال: يغتسل. وعن الرجل الذي يرى أنه قد احتلم ولا يجد بللا. قال: لا غسل عليه.
قالت أم سليم: هل على المرأة ترى ذلك غسل؟ قال: نعم، إن النساء شقائق الرجال)).
رواه الترمذي وأبوداود. وروى الدارمي، وابن ماجه إلى قوله: لا غسل عليه.
445- قوله: (يجد البلل) بفتحتين أي: رطوبة المني على بدنه، أو في ثوبه، وذلك لأن
المسؤول عنه إنما هي بلة المني لا مطلق البلة بقرينة الحال، إذ لم يقل أحد بوجوب
الغسل على المنتبه من النوم برؤية بلل البول، فكذا المذي. (ولا يذكر احتلاما) أي:
لا يذكر أنه جامع في النوم (قال: يغتسل) خبر بمعنى الأمر وهو الوجوب، وفيه دليل
على اعتبار مجرد وجود المني في إيجاب الاغتسال على المنتبه من النوم سواء انضم إلى
ذلك ظن الشهوة، أم لا. قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافا، وبه قال المالك والشافعي
واسحق وغيرهم، لكن قال ابن رسلان: لا يجب عند الشافعي الغسل حتى يذكر التنبه من
النوم أنه جامع أحدا في النوم. (يرى) بفتح الياء أي: يعتقد وبضمها أي: يظن (أنه قد
احتلم ولا يجد بللا. قال: لا غسل عليه) أي: لا يجب عليه الغسل، لأن البلل علامة
ودليل، والنوم لا عبرة به، فالمدار على البلل سواء تذكر الاحتلام أم لا، وهذا لم
يختلف فيه أحد، وقد حكى عليه الإجماع ابن المنذر وابن قدامة وغيرهما، وأما إذا رأى
المستيقظ بللا، ولم يعلم أنه مني أو مذي، فالأحوط عندي وجوبا أن يغتسل لظاهر
الحديث، وهو مختلف فيه بين الأئمة جدا، حتى عند الحنفية أيضا، فقد ذكر ابن عابدين
في رد المختار. (ج1:ص151) أربعة عشر وجها في المسألة. (ترى ذلك) أي: البلل. (إن
النساء) بكسر الهمزة استئناف في معنى التعليل. (شقائق الرجال) أي: نظائرهم
وأمثالهم في الخلق والطبائع فكأنهن شققن من الرجال، يعني فيجب على المرأة الغسل
برؤية البلل بعد النوم
(3/261)
كالرجل. قال الخطابي: فيه من
الفقه إثبات القياس وإلحاق حكم النظير بالنظير، فإن الخطاب إذا ورد بلفظ المذكر
كان خطابا للنساء، إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها انتهى. (رواه
الترمذي) الخ. وأخرجه أيضا أحمد (ج2:ص256) والحديث قد تفرد به عبدالله بن عمر بن
حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وهو صدوق في حفظه شيء. قال الترمذى: إنما روى هذا
الحديث عبدالله بن عمر عن عبيد الله بن عمر، وعبدالله ضعفه يحيى بن سعيد من قبل
حفظه في الحديث، لكن أصل القصة معروفة في الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة، وهو
ثالث أحاديث الفصل الأول، ونحوه من حديث عائشة في مسلم أيضا وأبي داود، ومن حديث
أم سليم عند أحمد (ج 6:ص377)، ومن حديث أنس عند مسلم أيضا والدارمي، فهذه الروايات
شاهدة
446- (13) وعنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا جاوز الختان
الختان، وجب الغسل. فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاغتسلنا)).
رواه الترمذي ،وابن ماجه.
447- (14) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تحت كل
شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر،
لحديث عائشة من رواية عبدالله بن عمر العمري، وقد سكت عنه أبوداود.
(3/262)
446- قوله: (إذا جاوز الختان الختان) الأول بالرفع والثاني بالنصب، والمراد بالختان ههنا موضع الختن، والختن من الرجل قطع ما يغطي الحشفة بحيث إذا قطع ظهرت الحشفة، ومن المرأة قطع جلدة في أعلى فرجها مجاورة لمخرج البول كعرف الديك، وذلك لأن مدخل الذكر هو مخرج الولد، والمني، والحيض، وفوقه مخرج البول، وبينهما جلدة رقيقة، وفوق مخرج البول جلدة رقيقة يقطع منها في الختان، ويسمى موضع الختن من المرأة الخفاض، أطلق عليه الختان مشاكلة. والمراد بمجاوزة الختان الختان، الجماع، وهو غيبوبة الحشفة في فرجها، ففي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: إذا التقى الختانان، وتوارت الحشفة، فقد وجب الغسل، أخرجه ابن ماجه، وابن أبي شيبة (وجب الغسل) وإن لم ينزل، والحديث نص في أن الغسل يجب بمجرد مجاوزة الختان الخفاض، أي: الإيلاج، ولا يتوقف على الإنزال، وإليه ذهب الجمهور وهو الصواب. (فعلته) الضمير راجع إلى مصدر جاوز. (ورسول الله ) بالرفع أو النصب. (فاغتسلنا) ظاهره أنها تعني بغير الإنزال، وأنه ناسخ لمفهوم حديث "إنما الماء من الماء" (رواه الترمذي) أخرج الترمذي أولا حديث عائشة هذا بتمامه موقوفا من قولها، وكذا أخرجه الشافعي في اختلاف الحديث، وأحمد في المسند (ج1:ص161) وابن ماجه، ثم أخرجه الترمذي مرفوعا بسند آخر، وليس فيه "فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلنا" بل اقتصر على الجملة الأولى "إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل" وكذا اقتصر عليه البغوي في المصابيح، والمصنف ركب المرفوع والموقوف، أو جعل الموقوف مرفوعا، وهذا خطأ منه. وأخرج المرفوع أيضا الشافعي في اختلاف الحديث، وفي الأم، وأحمد في المسند من طرق. وقال الترمذي بعد رواية المرفوع: حديث عائشة حديث حسن صحيح، وصححه أيضا ابن حبان، وابن القطان، وأصله في مسلم بلفظ: "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل".
(3/263)
447- قوله: (تحت كل شعرة
جنابة) كناية عن شمول الجنابة تمام البدن الذي هو محل الشعر عادة، ولذلك رتب عليه
قوله: (فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة) وإلا فكون الجنابة تحت كل شعرة، يقتضي وجوب
إيصال الماء إلى ما تحت الشعر، ولا يقتضي غسل الشعر وإنقاء الجلد، قاله السندهي
(فاغسلوا الشعر) بسكون العين وفتحها، أي: جميعه، فلو بقيت شعرة واحدة لم يصل إليها
الماء بقيت جنابته. وظاهر الحديث يوجب نقض القرون والضفائر إذا أراد الاغتسال من
الجنابة
وأنقوا البشرة)). رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب،
والحارث بن وجيه الراوي وهو شيخ، ليس بذاك.
(3/264)
لأنه لا يكون شعره مغسولا إلا أن ينقضها، وهذا الحكم بعمومه يشتمل الرجال والنساء، لأن النساء شقائق الرجال، لكن رخص النساء في ترك ضفر رؤسهن كما تقدم، والعلة في دفع الحرج عنهن، فحكم الرجال مغائر للنساء، فحديث أبي هريرة هذا مخصوص بالرجال، وكذا حديث علي الذي يتلوه. (وأنقوه) من الإنقاء. (البشرة) أي: نظفوها من الأوساخ، لأنه لو منع شيء من ذلك وصول الماء لم يرتفع الجنابة. والبشرة بفتح الباء والشين، ظاهر جلد الإنسان، وفي حديث أبي هريرة هذا وحديث علي الآتي دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة لما في داخل الأنف من الشعر، ولأن داخل الفم من البشرة، واحتج به على وجوب الدلك في الغسل، فإنه فسر صاحب المصباح الإنقاء بالتنظيف ومعلوم أن التنظيف لا يكون إلا بالدلك. (رواه أبوداود) وضعفه، (والترمذي وابن ماجه) وأخرجه البيهقي. (ج1:ص175) (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) لأنه تفرد به الحارث عن مالك بن دينار. قال الحافظ: مداره على الحارث بن وجيه وهو ضعيف جدا، قال أبوداود: والحارث حديثه منكر وهو ضعيف، وقال الشافعي: الحديث ليس بثابت، وقال البيهقي: أنكره أهل العلم بالحديث البخاري، وأبوداود، وغيرهما. (والحارث بن وجيه) بكسر الجيم وبعدها ياء تحتية مثناة، ويقال: ابن وجبة باسكان الجيم وفتح الباء الموحدة. (وهو شيخ ليس بذاك) الظاهر أن قوله "الحارث بن وجيه" مبتدأ خبره "ليس بذاك" وقوله: (وهو شيخ) حال أو اعتراض، وهو خلاف نص عبارة الترمذي في جامعه ففيه "حديث الحارث بن وجيه" حديث غريب لا نعرفه إلا من حديثه "وهو شيخ ليس بذاك" قال الطيبي: أي: شيخ كبير غلب عليه النسيان، ليس بذاك المقام الذي يوثق به، يعني روايته ليست بقوية. وقال القاري: وظاهره يقتضي أن قوله:"وهو شيخ" للجرح، وهو مخالف لما عليه عامة أصحاب الجرح والتعديل من أن قولهم"شيخ" من ألفاظ مراتب التعديل فعلى هذا يجيء إشكال آخر في قول الترمذي، لأن قولهم "ليس
(3/265)
بذاك" من ألفاظ الجرح
اتفاقا، فالجمع بينهما في شخص واحد جمع بين المتنافيين، فالصواب أن يحمل قوله:
"وهو شيخ" على الجرح بقرينة مقارنته بقوله "ليس بذاك" وإن كان
من ألفاظ التعديل، ولإشعاره بالجرح لأنهم وإن عدوه من ألفاظ التعديل صرحوا أيضا
بإشعاره بالقرب من التجريح، أو نقول: لابد في كون الشخص ثقة من شيئين: العدالة
والضبط، كما بين في موضعه، فإذا وجد في الشخص العدالة دون الضبط، يجوز أن يعدل
باعتبار الصفة الأولى، ويجوز أن يجرح باعتبار الصفة الثانية، فإذا كان كذلك لا
يكون الجمع بينهما جمعا بين المتنافيين، كذا في حاشية السيد جمال الدين، ذكره
القاري في المرقاة. وقيل: الشيخ هنا بمعنى العالم فإنه يطلق على الأستاذ والعالم
وكبير القوم ورئيس الصناعة، وعلى من كان كبيرا في أعين القوم علما أو فضيلة أو
مقاما أو نحو ذلك.
448- (15) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من ترك موضع
شعرة من جنابة لم يغسلها، فعل بها كذا وكذا من النار)). قال علي: فمن ثم عاديت
رأسي، فمن ثم عاديت رأسي، فمن ثم عاديت رأسي، ثلاثا. رواه أبوداود وأحمد والدارمي،
إلا أنهما لم يكررا: فمن ثم عاديت رأسي.
449- (16) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا
يتوضأ بعد الغسل)). رواه الترمذي
(3/266)
448- قوله: (موضع شعره) لم يرد المحل الذي تحت الشعر، فإن إيصال الماء هناك مشكل بل أراد محلا يمكن قيام الشعر فيه، أي: شعرا قليلا من ظاهر البدن قدر ما يقوم فيه الشعر، كذا قاله السندهي. (من جنابة) متعلق بترك، أي: من أجل غسل جنابة، أو من عضو مجنب (لم يغسلها) أنث الضمير الراجع إلى الموضع لتأنيث المضاف إليه. (فعل) بصيغة المجهول. (بها) أي: بسبب تلك الشعرة، أو الضمير يرجع إلى الموضع، والتأنيث باعتبار المضاف إليه، ولفظ أحمد "فعل الله به" أي: بذلك التارك، أو بالموضع المتروك. (كذا كذا) كناية عن العذاب الشديد. (فمن ثم) أي: من أجل أني سمعت هذا التهديد والوعيد. (عاديت رأسي) وفي رواية أحمد وابن ماجه "عاديت شعري" أي: عاملت شعر رأسي معاملة العدو بالعدو أي: فعلت به ما يفعل بالعدو من الاستئصال والقطع والجز فجزرته، مخافة أن لا يصل الماء إلى جميع رأسي، وقوله: (عاديت) كناية عن دوام جز شعر الرأس وقطعه. زاد أبوداود، والدارمي: وكان يجز شعره. (ثلاثا) أي: قاله ثلاثا للتأكيد. (رواه أبوداود) وسكت عنه (وأحمد والدارمي) وأخرجه أيضا ابن ماجه. قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح، فإنه من رواية عطاء بن السائب، وقد سمع منه حماد بن سلمة قبل الاختلاط، أخرجه أبوداود، وابن ماجه من حديث حماد، لكن قيل: إن الصواب وقفه على علي- انتهى. وهذا التعليل الأخير - الذي أشار إليه الحافظ - ينافيه سياق الحديث كما هو ظاهر. وفي الباب عن أنس عند أبي يعلى، والطبراني في الصغير، وأبي أيوب عند ابن ماجه وإسنادهما ضعيف. (إلا أنهما) أي: أحمد والدارمي (لم يكررا: فمن ثم عاديت رأسي) أي: هذا اللفظ وأكتفيا بمرة واحدة.
(3/267)
449- قوله: (لا يتوضأ بعد
الغسل) من الجنابة أي: يصلي بعد الاغتسال وقبل الحدث بلا وضوء جديد اكتفاء بالوضوء
الذي كان قبل الاغتسال، فكان عادته - صلى الله عليه وسلم - تقديم الوضوء على غسل
الجنابة كما تقدم. وقيل: اكتفاء بالوضوء الحاصل في ضمن غسل الجنابة، لاندراج
ارتفاع الحدث الأصغر تحت ارتفاع الأكبر بإيصال الماء إلى جميع أعضاءه، علل به من
لم يوجب الوضوء في غسل الجنابة، والمعتمد هو الأول. وأداء الصلاة بعد غسل الجنابة
وقبل الحدث بلا وضوء جديد أمر مجمع عليه، لم يختلف فيه العلماء كما صرح به ابن
العربي في شرح الترمذي (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن
وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
450- (17) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه بالخطمي وهو
جنب يجتزئ بذلك ولا يصب عليه الماء)). رواه أبوداود.
451- (18) وعن يعلى، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يغتسل
بالبراز، فصعد المنبر،
صحيح كما في بعض نسخ جامع الترمذي، قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: تختلف نسخ
الترمذي في تصحيح حديث عائشة، وأخرجه البيهقي بأسانيد جيدة. (وأبو داود) وسكت عليه
(والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي.
(3/268)
450- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه بالخطمى) بكسر الخاء، نبت يتنظف به معروف. وفيه دليل على استحباب تنظيف الرأس عند غسل الجنابة بالخطمى ونحوه. (وهو جنب) جملة حالية. (يجتزئ بذلك) أي: يقتصر عليه، قاله الطيبي، يعني يكتفي بالماء الذي كان يفيضه على رأسه لإزالة الخطمى، وما كان يأخذ ماء جديدا للغسل. وقال المنذري: قيل: يكتفي بالماء الذي يغسل به الخطمى، وينوى غسل الجنابة ولا يستعمل بعده ماء آخر يخص به الغسل. (ولا يصب عليه) أي: على رأسه. (الماء) قال ابن رسلان: أي: يصب الماء الذي يزيل به الخطمى، ولا يصب على رأسه الماء الآخر بعد إزالته، وقال من ذهب إلى جواز التطهير بالماء المقيد في معنى الحديث: أنه كان يكتفي بالماء المخلوط به الخطمى الذي يغسل به رأسه، وينوى به غسل الجنابة، ولا يصب بعده ماء آخر قراحا صافيا يخص به الغسل. ولا يخفى ما فيه من التكلف، على أن الحديث ضعيف لا يكفي مثله للاستدلال. (رواه أبوداود) في سنده رجل من بني سواءة بن عامر، وهو مجهول. وقال الحافظ في الفتح: رواه أبوداود بإسناد ضعيف. وقد روى عن ابن مسعود أنه كان يغسل رأسه بخطمى، ويكتفي بذلك في غسل الجنابة، أخرجه ابن شيبة، والطبراني في الكبير.
(3/269)
451- قوله: (وعن يعلى) بفتح
ياء وسكون عين مهملة وفتح لام وقصر كيرضى، هو يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام
التميمي أبوصفوان المكي حليف قريش، وهو يعلى بن منية - بضم الميم وسكون النون
بعدها تحتانية مفتوحة – وهي أمه ويقال: جدته، صحابي مشهور من مسلمة الفتح، وشهد
حنينا، والطائف وتبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال ابن عبدالبر عن ابن
المديني: استعمله أبوبكر على حلوان، واستعمله عمر على بعض اليمن فبلغ عمر أنه حمى
لنفسه، فأمر أن يمشي على رجليه إلى المدينة، فمشى خمسة أيام أو ستة فبلغه موت عمر
فركب. واستعمله عثمان على الجند، فلما بلغه قتل عثمان أقبل لينصره فصحب الزبير
وعائشة. وله ثمانية وأربعون حديثا، اتفقا على ثلاثة، روى عنه جماعة من التابعين،
وروى عنه هذا الحديث ابنه صفوان، بقي إلى قرب الخمسين. (رأى رجلا يغتسل) أي: من
غير سترة عريانا. (بالبراز) بفتح الباء وهو
فحمدالله، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله حيي ستير يحب الحياء والتستر، فإذا اغتسل
أحدكم، فليستتر)). رواه أبوداود والنسائي، وفي روايته قال: إن الله ستير، فإذا
أراد أحدكم أن يغتسل فليتوار بشيء.
?الفصل الثالث?
452- (19) عن أبي بن كعب قال: إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي
عنها.
(3/270)
الفضاء الواسع، والباء للظرفية. (حيي) بيائين الأولى مخففة مكسورة والثانية مشددة مرفوعة، أي: كثير الحياء من تفضيح عباده وإظهار شنائعهم. (ستير) بوزن كريم، وقيل: هو كسكيت - بكسر السين وتشديد التاء المكسورة - فعيل بمعنى فاعل، أي: من شأنه وإرادته حب الستر والصون. (يحب) أي: من عبده. (الحياء) فإنه من الإيمان. (والتستر) كالتقبل، وفي أبي داود والنسائي الستر بفتح السين وسكون التاء، قال التوربشتي: يعنى أن الله تعالى تارك للقبائح، ساتر للعيوب والفضائح، يحب الحياء والستر من العبد ليكون متخلقا بأخلاقه تعالى، فهو تعريض للعباد، وحث لهم على تحري الحياء والتستر - انتهى مختصرا. (فإذا اغتسل) أي: أراد الاغتسال. (فليستتر) من الاستتار أي: فليجعل لنفسه سترة وجوبا إن كان ثم من يحرم نظره لعورته، وندبا في غير ذلك. واغتساله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحيان عريانا لبيان الجواز. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضا أحمد. قال الشوكاني: الحديث رجال إسناده رجال الصحيح، وقد أخرج البزار نحوه من حديث ابن عباس مطولا.وقد ذكره الحافظ في الفتح. (ج2:ص193) ولم يتكلم عليه. (وفي روايته) أي: في رواية أخرى للنسائي. (فليتوار) أمر من التواري بمعنى التستر (بشيء) من الثوب أو الجدار أو الحجر أو الشجر. قال ابن حجر: وحاصل حكم من اغتسل عاريا أنه كان بمحل خال لا يراه أحد ممن يحرم عليه نظر عورته حل له ذلك، لكن الأفضل التستر حياء من الله تعالى، يدل عليه حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عند أبي داود والترمذي بلفظ: احفظ عورتك إلا من زوجك. قلت: فالرجل يكون خاليا؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : "الله أحق أن يستحي منه"، وإن كان المغتسل بحيث يراه أحد يحرم عليه نظر عورته وجب عليه التستر منه إجماعا على ما حكى.
(3/271)
452- قوله: (إنما كان الماء)
أي: انحصار وجوب الغسل. (من الماء) أي: من إنزال المني لا بمجرد الجماع. (رخصة في
أول الإسلام) تدريجا لتكاليف الأحكام. (ثم نهي) بصيغة المفعول. (عنها) أي: عن تلك
الرخصة وفرض الغسل بمجرد الإيلاج ولو لم ينزل. ولفظ أبي داود: إن الفتيا التي
كانوا يفتون أن الماء من الماء، كان رخصة رخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد. وفي رواية للحازمي في كتاب الاعتبار قال:
كان الماء من الماء شيئا في أول الإسلام، ثم ترك ذلك بعد، وأمروا بالغسل إذا مس
الختان الختان. والحديث صريح في ما قاله الجمهور
رواه الترمذي وأبوداود والدارمي.
453- (20) وعن علي، قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني
اغتسلت من الجنابة، وصليت الفجر، فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه الماء. فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - : لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك)). رواه ابن ماجه.
454- (21) وعن ابن عمر، قال: ((كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات،
وغسل البول من الثوب سبع مرات. فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل،
حتى جعلت الصلاة خمسا، وغسل الجنابة مرة، وغسل الثوب من البول مرة)).
من النسخ، وقد سبق الكلام عليه. (رواه الترمذي) وقال: حسن صحيح. (وأبوداود) وسكت
عنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. (والدارمي) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه
والبيهقي والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الإسماعيلي: إنه صحيح على
شرط البخاري، وأطال الحافظ الكلام عليه في التلخيص، والشيخ أحمد محمد شاكر في
تعليقه على الترمذي (ج1:ص185،184) فارجع إليهما.
(3/272)
453- قوله: (فرأيت) أي: بعد
انقضاء صلاتي. (قدر موضع الظفر) بضم الظاء والفاء وقد يسكن الفاء، أي: مقدار موضعه
من بدني. (لم يصبه الماء) حال أو مفعول ثان. (لو كنت مسحت عليه بيدك) أي: ليسري
بذلك الماء عليه، فليس فيه اكتفاء بالمسح، قاله السندهي. وقال القاري: لو كنت أي:
عند الغسل مسحت عليه بيدك، أي: غسلته غسلا خفيفا، أو مررت عليه بيدك المبلولة.
(أجزأك) أي: كفاك. وأما المسح الذي هو إصابة اليد المبتلة فلا يكفي. قال الطيبي:
قد عرفت أن لو لامتناع الشيء لامتناع غيره، فالمعنى: لا يجزئك لأنك في زمان الغسل
ما مسحت بالماء على ذلك الموضع. وفيه أنه يلزمه الغسل جديدا وقضاء الصلاة - انتهى.
يعني غسل ذلك الموضع. (رواه ابن ماجه) وفي سنده محمد بن عبيدالله العزرمي الفزاري
وهو متروك.
454- قوله: (كانت الصلاة خمسين) قال الطيبي: أي: كان الصلاة مفروضة في ليلة المعرج
خمسين، لا أنهم صلوا خمسين صلاة. والحديث مشهور - انتهى. يعني أن حديث المعراج
مشهور لكن ليس في أحاديث المعراج في الصحيحين إلا ذكر الصلوات فقط. (سبع مرات) وفي
أبي داود "وسبع مرار" في الموضعين. (وغسل الثوب من البول) وفي أبي داود:
وغسل البول من الثوب. (فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل) أي: ربه في
التخفيف عن أمته. (خمسا) بالكمية، وخمسين بمضاعفة الفضيلة. (وغسل الجنابة مرة) أي:
بالفرضية فلا ينافي سنية التثليث. (وغسل الثوب من البول مرة) فيه
رواه أبوداود.
(6) باب مخالطة الجنب وما يباح له
?الفصل الأول?
455- (1) عن أبي هريرة، قال: ((لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنب،
فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل،
(3/273)
دليل لما ذهب إليه الشافعي ومن
وافقه من أن الثوب يطهر بالغسل مرة، وأن التثليث مندوب، خلافا للحنفية، فإن
التثليث عندهم واجب في النجاسة الغير المرئية. قال برهان الدين المرغيناني:
النجاسة ضربان مرئية وغير مرئية، فما كان منها مرئيا فطهارتها بزوال عينها، وما
ليس بمرئي فطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر، لأن التكرار لا بد
منه للاستخراج، وإنما قدروا بالثلاث لأن غالب الظن يحصل عنده، ويتأيد ذلك بحديث:
إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا - انتهى.
قلت: في الاستدلال بهذا الحديث على إيجاب التثليث في النجاسة الغير المرئية نظر،
لأن الحديث من باب النظافة لا من باب النجاسة كما ذهب إليه الباجي، وابن تيمية.
(رواه أبوداود) وسكت عنه، لكن في سنده أيوب بن جابر اليمامي، وقد ضعفه ابن معين
وابن المديني والنسائي وأبوزرعة وأبوحاتم وابن حبان ويعقوب بن سفيان. وقال أحمد:
حديثه يشبه حديث أهل الصدق. وقال الفلاس: صالح. وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة
متقاربة، وهو ممن يكتب حديثه. وقال البخاري في التاريخ الأوسط: هو أوثق من أخيه
محمد.
(باب مخالطة الجنب) أي: جواز مماسته، ومماسحته، ومماشاته، ومجالسته، ومصافحته،
ومواكلته، ونحوذلك. يقال أجنب الرجل إذا صار جنبا، بضمتين، وهو يقع على الواحد
والإثنين والجمع، والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، وقد يقال: جنبان وجنوب وأجناب،
والاسم الجنابة، وأصلها البعد لأنه نهي أن يقرب موضع الصلاة وعن كثير من العبادات
مالم يتطهر. (وما يباح له) أي: للجنب من الأكل والشرب والنوم والذكر وغيرها بعد
الوضوء وقبله.
(3/274)
455- قوله: (فأخذ بيدي)
للتأنيس، ويحتمل أن يكون أخذه بها للإتكاء عليها. وفيه جواز أخذ الإمام والعالم
بيد تلميذه ومشيه معه معتمدا عليه ومرتفقا به. (حتى قعد) أي: وتخلصت يدى منه.
(فانسللت) أي: مضيت وخرجت بتأن وتدريج. وفي رواية فانخنست أي: تأخرت وانقبضت
ورجعت. وإنما تأخر أبوهريرة ورجع وترك صحبته - صلى الله عليه وسلم - من غير أن
يستأذنه لما ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرضى بصنيعه الذي يصنعه لعلمه أنه
قد أمرهم بالطهارة والنظافة، وحثهم عليها، وأنه يحب أن يكون الرجل على أكمل
الهيئآت وأحسن الصفات عند ملاقاة ذوى الفضل ومصاحبتهم. (فأتيت الرحل) بالحاء
المهملة
فاغتسلت، ثم جئت، وهو قاعد. فقال: أين كنت يابا هريرة ؟. فقلت له. فقال: سبحان
الله! إن المؤمن لا ينجس)).
(3/275)
الساكنة أي: المكان الذي آوى إليه. (فاغتسلت) أي: في الرحل. (أين كنت) كان هذه ناقصة وخبرها الظرف، أو تامة، فلا تحتاج إلى الخبر. وفيه أن من حسن الأدب لمن مشى معه شيخه وإمامه أن لا ينصرف عنه ولا يفارقه حتى يعلمه بذلك، لأن قوله لأبي هريرة: أين كنت؟ يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - استحب أن لايفارقه حتى ينصرف معه. (ياباهريرة) بحذف الهمزة في الأب تخفيفا. (فقلت له) أي: الذى فعلته من الرواح إلى الرحل والاغتسال فيه وسببه. (فقال: سبحان الله) تعجبا من اعتقاد أبي هريرة التنجس بالجنابة وعدم علمه المسألة، أي: كيف يخفى مثل هذا الظاهر عليك. (إن المؤمن لا ينجس) بفتح الجيم وضمها من سمع وكرم أي: لا يتنجس نجاسة تمنع مصاحبته، وملامسته، وإصابة العرق منه بمجرد الحدث، سواء كان أصغر أو أكبر ما لم يتعلق بجسده شيء من النجاسة الحقيقية، يدل عليه المقام، إذا المقام مقام الحدث، فلا يرد أنه يتنجس بالنجاسة. والمقصود أن الحدث ليس بنجاسة تمنع عن المماسة، والمماشاة. والمصافحة إنما هو أمر تعبدى. وقد يقال: إن المراد أن نفسه لا يصير نجسا أصلا لا بالحدث ولا بالخبث، لأنه إن صحبه شيء من النجاسة فنجاسته بسبب صحبته بذلك، لا أن ذاته صار نجسا، فإذا زال ما كان معه من النجاسة فالمؤمن على حالة من الطهارة، فصدق: أن المؤمن لا ينجس أصلا. والحاصل أن مقتضى ما فعله أبوهريرة أن المؤمن يصير نجسا بحيث يحترز عن صحبته حالة الجنابة‘ فرده - صلى الله عليه وسلم - بأن المؤمن لا يصير كذلك أصلا. وذلك لا ينافي أن المؤمن قد يحترز عنه بالنظر إلى ما يصحبه من الأنجاس لأنه أمر معلوم من خارج. فالحديث دليل على أن المؤمن طاهر سواء كان جنبا أو محدثا، حيا أو ميتا، وكذا ما تحلب منه من عرقه ودمعه ولعابه وسؤره. وذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس تعليقا: المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا. ورواه الحاكم عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: لا تنجسوا موتاكم،
(3/276)
فإن المسلم لا ينجس حيا ولا
ميتا. قال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وهو أصل في طهارة المسلم حيا
وميتا. أما الحي فبالإجماع حتى الجنين إذا ألقته أمه، وأما الميت ففيه خلاف
للعلماء، والصحيح أنه طاهر لحديث ابن عباس هذا فلا ينجس المؤمن بالموت بتشرب الدم
المسفوح في أجزائه كرامة له، إذ لو نجس لما طهر بالغسل كسائر الحيوانات التي حكم
بنجاستها بالموت. وأما غسله فتعبد، أو للنظافة. وحديث ابن عباس حجة على العراقيين
من الحنفية حيث قالوا بتنجس المؤمن بالموت، فالغسل عندهم للتطهير، قالوا: يحكم
بطهارته بالغسل كرامة. وارجع للبسط إلى النيل. وأما الكافر الحي فحكمه في الطهارة
والنجاسة حكم المسلم عند الجمهور من السلف والخلف، وذكروا في تخصيص النبي - صلى
الله عليه وسلم - للمؤمن بقوله: "لا ينجس" مع أن الكافر كذلك عندهم
وجوها: الأول أن المقام مقام خطاب المسلم. والثاني أنه أشار به إلى أن الكفار يجب
أن يتجنب عنهم كما يتجنب من النجاسات الظاهرة، فهو تنفير عن الكفار وإهانة لهم.
والثالث أن فيه إشارة إلى
هذا لفظ البخاري. ولمسلم معناه، وزاد بعد قوله: ((فقلت له: لقد لقيتني وأنا جنب،
فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل)). وكذا البخاري في رواية أخرى.
456- (2) وعن ابن عمر، قال: ((ذكر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لرسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: توضأ،
(3/277)
أنهم لا يتطهرون فلا يتجنبون ولا يتحفظون عن النجاسات غالبا. فهم ملابسون لها غالبا فهم متنجسون، بخلاف المؤمن فإن شأنه التطهر في شأنه كله فهو طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة. والرابع أنه فيه إشارة إلى أن المؤمن لا ينجس بالحدث ظاهرا وباطنا بخلاف الكافر فإنه نجس باطنا لنجاسة اعتقاده. وأما ما روى عن ابن عباس من أن أعيانهم نجسة كالخنزير فمحمول على المبالغة في التعبد عنهم ولاحتراز منهم. وأما قوله تعالى: ?إنما المشركون نجس? [-28:9] فالمراد به أنهم نجس في الباطن والاعتقاد لا في أصل الخلقة، أو أن ذلك تنفير عن الكفار، وذم وإهانة لهم. وهذا وإن كان مجازا فقرينته ما ثبت في الصحيحين من أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة مشركة، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سوارى المسجد، فدل على أن الآدمي الحي ليس بنجس العين سواء كان محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء. (هذا لفظ البخاري) في باب الجنب يخرج ويمشى في السوق وغيره من كتاب الغسل. (وزاد) أي: مسلم. (لقد لقيتني) في محل النصب على أنه مفعول لقوله "زاد" وهو بيان للزيادة. (فكرهت أن أجالسك) أي: في هذه الحالة. (حتى أغتسل) لأكون على طهارة حقيقية. (وكذا) أي: زاد هذه الزيادة. (البخاري في رواية) فيه بحث لأن قوله: "حتى أغتسل" ليس للبخاري، فإن لفظه في باب عرق الجنب، وأن المسلم لا ينجس: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة. والحديث أخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه. وأخرج أحمد ومسلم وأبوداود والنسائي وابن ماجه عن حذيفة نحوه.
(3/278)
456- قوله: (عن ابن عمر)
مقتضاه وظاهره أن الحديث من مسند ابن عمر، وزاد بعض الرواة فيه عند النسائي عن
عمر، والظاهر أن ابن عمر حضر هذا السؤال. (أنه تصيبه الجنابة) الضمير المنصوب لابن
عمر لا لعمر لما في رواية النسائي من طريق ابن عون عن نافع قال: أصاب ابن عمر
جنابة فأتى عمر فذكر ذلك له، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأمره،
فقال: "ليتوضأ وليرقد". (من الليل) أي: في الليل، وحذف تمام السؤال لأن
الجواب يدل عليه، أو اكتفى عمر في السؤال بهذا القدر وفهم النبي - صلى الله عليه وسلم
- غرض السؤال أنه النوم قبل الغسل. (توضأ) أي: وضوءك للصلاة لأنه هو الحقيقة
الشرعية، وهي مقدمة على غيرها، وقد صرحت بذلك عائشة في حديثها الآتي. والخطاب فيه
لابن عمر لأنه كان حاضرا إذا ذاك، ويمكن أن يكون الخطاب لعمر لأنه كان سائلا.
والأمر للاستحباب لحديث عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام وهو جنب
فلا
واغسل ذكرك، ثم نم)). متفق عليه.
457- (3) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا
كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة)) متفق عليه.
458- (4) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إذا
أتى أحدكم أهله، ثم أراد
أن يعود، فليتوضأ بينهما وضوء)).
(3/279)