الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج11.وج12.مرعاة المفاتيح

 

11. : مرعاة المفاتيح

وأهل العلم بالحديث يرويها مرسلة. ومنها أن يصلى ركعتين ويسلم ثم ركعتين ويسلم هكذا حتى ينجلي الكسوف، روي هذا من حديث النعمان بن بشير عند أحمد (ج4 ص269)، وفيه: وكان يصلي ركعتين ثم يسأل ثم يصلي ركعتين ثم يسأل حتى انجلت الشمس...الخ. وأخرجه البيهقي (ج3 ص333) بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ويسلم حتى انجلت الشمس، قال في هامشه: كذا في المصرية. وفي المدراسية: ويصي ركعتين ويسلم ويصلي ركعتين ويسلم مرتين – انتهى. وهو عند الطحاوي بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ويسلم ويسأل حتى انجلت. وأخرجه أبوداود بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها حتى انجلت، ورواه النسائي من حديث قبيصة الهلالي بلفظ: فصلى ركعتين ركعتين حتى انجلت. واختار هذا إبراهيم النخعي والحسن كما في المحلى، وروى الحسن عن أبي حنيفة: إن شاءوا صلوا ركعتين وإن شاءوا صلوا أربعا وإن شاءوا صلوا أكثر من ذلك، ذكره في المحيط والبدائع.
...............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/238)


واستدلت الحنفية بحديث النعمان وقبيصة على ما ذهبوا إليه من أن صلاة ا لكسوف ركعتان كسائر النوافل بلا تكرار الركوع، وسيأتي الجواب عنه. ومنها كأحدث صلاة، روي هذا من حديث النعمان بن بشير عند النسائي وابن حزم (ج5 ص97) والبيهقي (ج3 ص332) بلفظ: ((إذا رأيتم ذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة))، وروي أيضا من حديث قبيصة الهلالي عند أحمد (ج5 ص60) وأبي داود والنسائي والبيهقي والحاكم والطحاوي والبغوي، وقوله ((كأحدث صلاة)) يعني كأقرب صلاة. قال ابن حزم محتجا بهذا الحديث: يصلي لكسوف الشمس خاصة إن كسفت من طلوعها إلى أن يصلي الظهر ركعتين، وإن كسفت من بعد صلاة الظهر إلى أخذها في الغروب صلى أربع ركعات كصلاة الظهر ولاعصر، وفي كسوف القمر خاصة إن كسفت بعد صلاة المغرب إلى أن يصلي العشاء الآخرة صلى ثلاث ركعات كصلاة المغرب، وإن كسفت بعد صلاة العتمة إلى الصبح صلى أربعا كصلاة العتمة – انتهى. وعليه حمله السندي حيث قال في حاشية النسائي: قوله ((كأحدث صلاة)) فيه أنه ينبغي أن يلاحظ وقت الكسوف فيصلي لأجله صلاة هي مثل ما صلاها من المكتوبة قبيلها، ويلزم منه أن يكون عدد الركعة على حسب تلك الصلاة، وأن يكون الركوع واحدا – انتهى. وحمله الحنفية على صلاة الصبح خاصة، قالوا: المراد أنه يصلي ركعتين كصلاة الصبح بركوعين وأربع سجدات. وقيل: التشبيه فيه محمول على بعض الصفات لا على جميعها، يعني أن التشبيه ههنا في عدد الركعات والقراءة فقط لا من كل الجهات، فيصلي ركعتين ويجهر بالقراءة كصلاة الصبح، لكن كل ركعة بركوعين، وهذا لئلا يعارض القول ما رواه الشيخان من فعله بتثنية الركوع في كل ركعة. وقيل: معناه إذا وقع الكسوف عقب صلاة جهرية يصلي ويجهر فيها بالقراءة، وإن وقع عقب صلاة سرية يصلي ويخافت فيها بالقراءة. ومنها: ركعتان في كل ركعة ركوع. روي هذا من حديث عبدالله بن عمر، وعند أحمد (ج2 ص198) وأبي داود والنسائي والترمذي في

(9/239)


الشمائل، والطحاوي والحاكم (ج1 ص329) وأبي حنيفة في مسنده، كلهم من طريق عطاء بن السائب عن أبيه عن عبدالله بن عمر. وقال الحاكم: صحيح، ولم يخرجاه من أجل عطاء بن السائب، وقال تقي الدين في الإمام: كل من روى عن عطاء بن السائب روى عنه في الاختلاط إلا شعبة وسفيان – انتهى. قلت: أخرجه أبوداود عن حماد بن سلمة عن عطاء، والترمذي عن جرير عن عطاء، والحاكم عن الثوري عن عطاء، والطحاوي عن حماد بن سلمة والثوري وغيرهما عن عطاء، وأخرج النسائي في رواية عن شعبة عن عطاء به، لكن ليس متنه بصريح في الركعتين، وحكى العراقي في التقييد والإيضاح (ص392) عن ابن معين أنه قال: حديث سفيان وشعبة وحماد بن سلمة عن عطاء بن السائب مستقيم – انتهى. وروي ذلك أيضا من حديث سمرة بن جندب عند أحمد (ج5 ص16) وأبي داود
................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/240)


والنسائي والحاكم (ج1 ص330) والبيهقي (ج3 ص339) وصححه الحاكم، وروي أيضا من حديث محمود بن لبيد عند أحمد (ج5 ص428)، قال الهيثمي (ج2 ص207): رجاله رجال الصحيح – انتهى. واختار هذه الصفة الحنفية، واستدلوا بهذه الأحاديث الثلاثة، وبما ورد من قوله "صلى ركعتين" في بيان صلاته - صلى الله عليه وسلم - لكسوف الشمس في حديث أبي بكرة عند البخاري والنسائي وعبدالرحمن بن سمرة عند مسلم وأبي داود والنسائي والحاكم، وابن مسعود عند ابن خزيمة، والنعمان بن بشير عند الحاكم، وقبيصة عند أبي داود والنسائي وغيرهما على عدم تعدد الركوع في الركعة. قال الزيلعي: ظاهر قوله "صلى ركعتين" إن الركعتين بركوع واحد. وأجيب بأن ذكر ركوع في ركعة لا يدل على نفي الزائد، فكان ذكر الركوع الثاني حذف فيها كما حذفت السجدة الثانية في ذكر السجدة، وبأن أحاديث تثنية الركوع أصح وأرجح وأكثر وأشهر، فتقدم على هذه الأحاديث، وبأن فيها زيادة فهي أولى بالقبول؛ لأنها أثبتت ما لم يثبت حديث عبدالله بن عمرو وسمرة ومحمود بن لبيد وغيرهم، وبأنها مثبتة فتقدم على غيرها مما يدل على عدم تعدد الركوع، وبأن معنى قوله "صلى ركعتين" أي ركوعين في ركعة فصار أربع ركوعات في ركعتين، قال القرطبي: يحتمل أنه إنما أخبر عن حكم ركعة واحدة، وسكت عن الأخرى، وبأن قوله "صلى ركعتين" مطلق، وفي أحاديث تثنية الركوع زيادة، فيحمل هذا المطلق على الروايات المقيدة، والمعنى: صلاها ركعتين بزيادة ركوع في كل ركعة. وقد ظهر بما ذكرنا أن جملة ما ورد في صفة صلاة الكسوف سبع صفات: ركوع في كل ركعة، وركوعان في كل ركعة، وثلاثة في كل ركعة، وأربعة في كل ركعة، وخمسة في كل ركعة، وكأحدث صلاة، وأن يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعتين ويسلم هكذا حتى تنجلي الشمس، وكثير من الأحاديث الواردة فيها صحيح، وأصحها أحاديث تثنية الركوع، فإن هذه هي الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة، ثم دونها في الصحة مع كونه

(9/241)


صحيحا أحاديث تثليث الركوع، وكذا أحاديث تربيع الركوع فإن ذلك قد انفرد به مسلم، ثم دون هذا حديث تخميس الركوع، وكذا أحاديث وحدة الركوع، وللعلماء فيها مسلكان؛ أحدهما مسلك الجمع: بحملها على تعدد الكسوف وتعدد صلاته في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذهب إليه إسحاق بن راهويه وابن خزيمة والخطابي، واستحسنه ابن المنذر، وقواه النووي، ورجحه ابن رشد في البداية وابن حزم في المحلى وابن جرير الطبري وغيرهم. وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة في الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء في أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعا، وحين زاد في الإبطاء زاد ثالثا، وهكذا إلى غاية ما ورد في ذلك، وتعقب
..............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/242)


بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم في أول الحال ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه منوى من أول الحال. والمسلك الثاني: الترجيح فرجح القائلون بكونها ركعتين في كل ركعة ركوعان أحاديث تثنية الركوع لكونها أكثر وأصح. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر من روى من الصحابة تثنية الركوع في كل ركعة ما لفظه: وفي رواياتهم زيدة رواها الحفاظ الثقات، فالأخذ بها أولى من إلغائها. وبذلك قال جمهور أهل العلم من أهل الفتيا، وقد وردت الزيادة في ذلك من طرق...، فذكر من روي عنه أحاديث تثليث الركوع وتربيعه وتخميسه ثم قال: ولا يخلو إسناد منها عن علة، وقد أوضح ذلك البيهقي وابن عبدالبر، ونقل صاحب الهدي عن الشافعي وأحمد والبخاري أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين غلطا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم – عليه السلام -، وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح، والراجح قطعا هو حديث عائشة وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمرو وأسماء بنت أبي بكر وجابر وغيرهم الذي فيه ركوعان في كل ركعة. وقال الشوكاني في السيل الجرار: إذا تقرر لك أن القصة واحدة عرفت أنه لا يصح ههنا أن يقال كما قيل في صلاة الخوف أنه يأخذ بأي الصفات شاء، بل الذي ينبغي ههنا أن يأخذ بأصح ما ورد وهو ركوعان في كل ركعة لما في الجمع بين هذه الروايات من التكلف البالغ. وقال ابن تيمية في التوسل والوسيلة (ص69-70): لا يبلغ تصحيح مسلم تصحيح البخاري، بل كتاب البخاري أجل ما صنف في هذا الباب، والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، قال: ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحا على قول من نازعه بخلاف مسلم فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه، كما روى في حديث الكسوف أن النبي - صلى

(9/243)


الله عليه وسلم - صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات كما روى أنه صلى بركوعين، والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم، وقد بين ذلك الشافعي، وهو قول البخاري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم، ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان له إبراهيمان، ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب – انتهى. وقال في منهاج السنة: حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر في مسلم من المواضع المنتقدة بلا ريب، وإلى ترجيح روايات تثنية الركوع ذهب أيضا صاحب فيض الباري من الحنفية حيث قال: لم تنكسف الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة، والروايات في تعدد الركوع بلغت إلى ست ركوعات في ركعتين، والأرجح عندي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعين في ركعة، والباقي أوهام كانت فتاوى الصحابة فاختلطت بالمرفوع، وإذن لا أتمسك من روايات ورد فيها ركوع
..............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/244)


واحد، بل أحملها على الاختصار – انتهى. قلت: وفي تاريخ الخميس وأوائل الثقات لابن حبان: أن الشمس كسفت في عهده - صلى الله عليه وسلم - مرتين: الأولى في السنة السادسة، والثانية في السنة العاشرة يوم توفي إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما القمر ففي شرح الإحياء ذكر صاحب جمع العدة: أن خسوف القمر وقع في السنة الرابعة في جمادى الآخرة ولم يشتهر أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع له الناس، وذكر في الهدي وفي تاريخ الخميس (ج1 ص469) عن السيرة لابن حبان أنه وقع في السنة الخامسة في جمادى الآخرة، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، وكانت أول صلاة كسوف في الإسلام، وقد جزم به مغلطائي في سيرته. والظاهر عندي ما ذهب إليه ابن تيمية وغيره من جمهور أهل العلم أنه لم يصلي صلاة كسوف الشمس في عهده - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة إلا مرة. قال الشيخ أحمد شاكر في حاشية المحلى (ج5 ص104، 105): لقد حاولت كثيرا أن أجد من العلماء بالفلك من يظهر لنا بالحساب الدقيق عدد الكسوفات التي حصلت في مدة إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وتكون ؤيتها بها ممكنة، وطلبت ذلك من بعضهم مرارا، فلم أوفق إلى ذلك، إلا أني وجدت للمرحوم محمود باشا الفلكي جزءا صغيرا سماه نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام، وقد حقق فيه بالحساب الدقيق يوم الكسوف الذي حصل فيه السنة العاشرة، وهو اليوم الذي مات فيه إبراهيم – عليه السلام -، ومنه اتضح أن الشمس كسفت في المدينة في يوم الاثنين 29 شوال سنة (10)، الموافق ليوم 27 يناير سنة 632 ميلادية في الساعة 8 والدقيقة 30 صباحا، وهو يرد أكثر الأقوال التي نقلت في تحديد يوم موت إبراهيم، وعسى أن يكون هذا البحث والتحقيق حافزا لبعض النبهاء من العالمين بالفلك إلى حساب الكسوفات الي حصلت بالمدينة في السنين العشر الأولى من الهجرة النبوية، أي إلى وقت وفاته - صلى الله عليه وسلم - في

(9/245)


يوم الأحد 12 ربيع الأول سنة 11 أو الاثنين 13 منه الموافقان ليومي 7 يونية سنة 632 و8 منه، فإذا عرف بالحساب عدد الكسوفات في هذه المدة أمكن التحقيق من صحة أحد المسلكين. إما حمل الروايات على تعدد الوقائع، وإما ترجيح الرواية التي فيها ركوعان في كل ركعة، وأنا أميل جدا إلى الظن بأن صلاة الكسوف ما صليت إلا مرة واحدة، فقد علمنا من رسالة محمود باشا الفلكي أنه حصل خسوف للقمر في المدينة في يوم الأربعاء 14 جمادى الثانية من السنة الرابعة للهجرة الموافق 20 نوفمبر سنة 625، ولم يرد ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع الناس فيه لصلاة الخسوف، ويؤيد هذا أن الأحاديث الواردة في صلاة الكسوف دالة بسياقها على أن هذه الصلاة كانت لأول مرة، وأن الصحابة لم يكونوا يعلمون ماذا يصنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقتها، وأنهم ظنوا أنها كسفت لموت إبراهيم، وأن المدة بين موت إبراهيم – عليه السلام – وبين موت أبيه - صلى الله عليه وسلم - لم تزد على أربعة أشهر ونصف، فلو كان الكسوف حصل مرة أخرى وقاموا للصلاة لظهر ذلك واضحا في النقل لتوفر الدواعي إلى نقله، كما نقلوا ما قبله بأسانيد كثيرة، والله أعلم بالصواب – انتهى كلام الشيخ أحمد. هذا وقد تقدم أن الحنفية اختاروا وحدة الركوع في كل ركعة كسائر
........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/246)


الصلوات ثم اختلفوا. فقال بعضهم: الأرجح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعين في كل ركعة والباقي أوهام وروايات وحدة الركوع محمولة على الاختصار، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن ركع ركوعين لكنه لم يعلمنا إلا أن نأتي بها كأحدث صلاة صلاها وفيها ركوع واحد، فتعدد الركوع مخصوص به - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بقوله: ((صلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة)) أن لا تصلوا أنتم، كما رأيتم من تعدد الركوع، ولكن صلوا كصلاة الصبح – انتهى مختصرا محصلا. وأجيب عنه بأن كل ما صح وثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم - يكون سنة لنا ما لم يقم دليل على اختصاصه به ولا دليل على كون تعدد الركوع في صلاة الكسوف مختصا به - صلى الله عليه وسلم -، فدعوى الاختصاص مردودة، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كأحدث صلاة...)) الخ فليس بصريح ولا بظاهر فيما قالوا به فإنه يحتمل معاني أخرى كما تقدم عن السندي وابن حزم وغيرهما مفصلا وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال والتشبيه لا يجب أن يكون من جميع الجهات فلا يترك به الأحاديث الصريحة التي هي أصح منه لكونها مروية في الصحيحين وغيرهما. وقال بعضهم أحاديث الفعل متعارضة فيطرح الكل ويؤخذ بالأصل، والأصل في الركوع الاتحاد دون التعدد وقد جاء في بعض الروايات كذلك. وفيه إن من شرط التعارض التساوي في الثبوت والقوة وهو منتف ههنا، فإن أحاديث الفعل ليست بمتساوية بل روايات تثنية الركوع أصح وأرجح وأقوى وأشهر لاتفاق الشيخين على تخريجها، فيجب تقديمها وترجيحها ويتعين الأخذ بها ولا يجوز طرحها. وقال بعضهم: أحاديث وحدة الركوع مرجحة بوجوه: منها أن روايات تعدد الركوع متعارضة، وهي مع ذلك تخالف قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كأحدث صلاة...)) الخ والعبرة للقول إذا خالف الفعل. وفيه أنه لا تعارض بين روايات التعدد لكون أحاديث تثنية الركوع أصح وأرجح

(9/247)


وأقوى فتقدم على غيرها ولا تخالف بينها وبين القول المذكور فإن المقصود منه التشبيه في بعض الصفات وهي عدد الركعات والجهر بالقراءة لا في جميعها وإلا فينبغي للحنفية أن يقولوا باستنان الجهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس وأن لا يقولوا باستحباب تطويل القراءة والركوع والسجود بل يكرهوا الإطالة، لكنهم قد صرحوا بأن صلاة الكسوف مستثناة من كراهة التطويل وقالوا: يطيل فيها الركوع والسجود والقراءة، واستدلوا لذلك بروايات الفعل، ولو فرضنا التعارض بين روايات الفعل والقول فالقول إنما يقدم ويرجح على الفعل إذا لم يمكن الجمع بينهما وكان القول مساويا للفعل في القوة والثبوت، والأمر ههنا ليس كذلك. ومنها أن روايات وحدة الركوع موافقة للقياس أي موافقة للأصول المعهودة فزيادة ركن في الصلاة لم تعهد. قال الحافظ: أشار الطحاوي إلى أن قول أصحابه أجري على القياس في صلاة النوافل لكن اعترض بأن القياس مع وجود النص يضمحل، وبأن صلاة الكسوف أشبه بصلاة العيد وبنحوها مما يجمع فيه من طلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيدين بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال
................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/248)


الكثيرة واستدبار القبلة، فلذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالأخذ به جامع بين العمل بالنص والقياس بخلاف من لم يعمل به – انتهى. وقد رد على هذا الوجه ابن حزم أيضا فأجاد، فعليك أن ترجع إلى المحلى (ج5 ص101). ومنها أن روايات التعدد متعارضة مضطربة. قال ابن الهمام: أحاديث تعدد الركوع مضطربة، والاضطراب موجب للضعف فوجب تركها. وفيه أن الاختلاف الواقع في روايات الفعل ليس اضطرابا قادحا مورثا للضعف فإن الاختلاف في الحديث من جهة الإسناد أو المتن إنما يورث الاضطراب الموجب للضعف إذا استوت وجوه الاختلاف وتساوت الروايات المختلفة، وأما إذا ترجحت إحداها بوجه من وجوه الترجيح قدمت ولا يعل الراجح بالمرجوح، يعني يكون العبرة للراجح، وههنا روايات تثنية الركوع أصح وأرجح وأقوى فيكون لها الاعتبار لا لروايات الزيادة على الركوعين ولا لروايات وحدة الركوع. هذا وتأول بعضهم أحاديث تعدد الركوع بتأويلات كلها أضاحيك نذكرها عبرة للناظرين وفي ذكرها غنى عن الرد. فمنها ما ذكره الفخر الزيلعي في شرح الكنز: أنه – عليه الصلاة والسلام – كان يرفع رأسه ليختبر حال الشمس هل انجلت أم لا فظنه بعضهم ركوعا فأطلق عليه اسمه فلا يعارض ما روينا يعني من أحاديث وحدة الركوع – انتهى. قال الحافظ في الفتح: أجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع بحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس هل انجلت أم لا، فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوعه ففعل ذلك مرة أو مرارا فظن بعض من رآه يفعل ذلك ركوعا زائدا. وتعقب بالأحاديث الصحيحة الصريحة في أنه أطال القيام بين الركوعين، ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يحتج إلى تطويل ولا سيما الأخبار الصريحة بأنه ذكر ذلك الاعتدال ثم شرع في القراءة، فكل ذلك يرد هذا الحمل، ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج لفعل الرسول عن العبادة المشروعة، أو لزم منه إثبات هيئة في الصلاة لا عهد بها وهو ما فر منه – انتهى كلام الحافظ.

(9/249)


ومنها ما ذكره صاحب المحيط البرهاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ركع ركوعين على وجه الصورة لا على وجه الحقيقة؛ لأنه قربت إليه الجنة والنار، وإنما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من الركوع فزعا حين قربت منه النار، وكان ذلك رفعا على وجه الصورة لا الحقيقة. ورد بما وقع من التصريح في الأحاديث الصحيحة بتطويل القيام الثاني وتطويل الركوع الذي بعده، وكذا تطويل الاعتدال الذي يليه السجود، وهذا كالصريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعين ركوعا حقيقة لا صوريا، وأن رفع الرأس لم يكن فزعا على وجه الصورة، بل كان قياما حقيقيا قرأ فيه قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى، ولو كان الرفع أي القيام فزعا والركوع لأنه قربت إليه الجنة لم يقع التطويل فيهما كما لم يقع في تقدمه وتأخره، ويرد ذلك أيضا أن الذي وقع منه - صلى الله عليه وسلم - حين قربت إليه الجنة والنار
.................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/250)


إنما هو التقدم والتأخر كما صرح به في رواية مسلم وغيره لا الركوع ورفع الرأس منه. ومنها ما ذكره صاحب العرف الشذى: أن الركوع الثاني لم يكن ركوعا صلويا بل كان ركوع آية وتخشع وتضرع يعني كان بدل السجود للآيات مما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنة والنار ممثلتين في جدار القبلة، فتعدد الركوع كتعدد السجود في الصلاة عند تلاوة آية السجدة، فكما تتعدد السجدة لداعية كذلك يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعين؛ لأنه شاهد فيما ما لم يكن يشاهد في عامة الصلوات والسجود عند ظهور آية معروف. قال أبوعبدالله البلخي: إن الزيادة ثبتت في صلاة الكسوف لا للكسوف بل لأحوال اعترضت حتى روي أنه - صلى الله عليه وسلم - تقدم في الركوع حتى كان كمن يأخذ شيئا ثم تأخر كمن ينفر عن شيء، فيجوز أن تكون الزيادة منه باعتراض تلك الأحوال، كذا في البدائع، وحاصل هذا كله أنه تعدد الركوع مختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا نحو ما تقدم من المحيط البرهاني، وقد تقدم جوابه، ويزاد عليه أنه لا فرق بين الركوعين في الصورة، فكما أن الركوع الأول كان ركوع صلاة لا ركوع آية وتخشع كذلك كان الركوع الثاني ركوع صلاة لا ركوع آية، ومن يدعي الفرق بينهما فليأت بدليل صريح قوي على ذلك، ولا يكفي في مثل هذا الإمكان والاحتمال والتجويز، ويدل على بطلان هذا القول ودعوى الاختصاص عمل الصحابة بتعدد الركوع بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويبطله أيضا أن التقدم والتأخر إنما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال قيامه الثاني من الركعة الثانية كما رواه سعيد بن منصور في سننه لا في الركوع كما قال البلخي. ومنها ما قال الفخر الزيلعي في شرح الكنز: أنه - صلى الله عليه وسلم - طول الركوع فيها فمل بعض القوم فرفعوا رؤوسهم أو ظنوا أنه – عليه الصلاة والسلام – رفع رأسه فرفعوا رؤوسهم أو رفعوا رؤوسهم على عادة الركوع المعتاد، فوجدوا النبي

(9/251)


- صلى الله عليه وسلم - راكعا فركعوا ثم فعلوا ثانيا وثالثا كذلك ففعل من خلفهم كذلك ظنا منهم أن ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم روى كل واحد منهم على ما وقع في ظنه، ومثل هذا الاشتباه قد يقع لمن كان في آخر الصفوف، فعائشة في صفوف النساء، وابن عباس في صفوف الصبيان، وحكى الطحطاوي على المراقي هذا التأويل عن الإمام محمد، وقال فروى كل واحد على حسب ما عنده من الاشتباه، قال بعض من كتب على الموطأ من أهل عصرنا: هذا أوجه؛ لأنه تجمع به الروايات كلها – انتهى. قلت: بل هو أسخف من جميع ما تأولوا به روايات تعدد الركوع فضلا عن أن يكون وجيها أو أوجه، لا يخفى ركاكته وسخافته على من له أدنى فهم، ولله در صاحب فيض الباري حيث اعترف بركاكته فقال: وما قالوا – أي في تأويل أحاديث تعدد الركوع – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ركع فيه ركوعا طويلا وكان الصحابة يرفعون رؤوسهم يرون أنه هل قام منه أم لا فتوهم المتأخرون منهم تعدد الركوع فإنه ركيك عندي وإن كان أصله من المبسوط للسرخسي – انتهى. قلت: ويبطل هذا التأويل أن عائشة وأسماء – وهما ممن روى تثنية الركوع – لم تكونا في صفوف النساء، بل صلتا في حجرة
متفق عليه.
1495- (2) وعنها قالت: جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف بقراءته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/252)


عائشة قريبا من القبلة، وابن عباس لم يكن في صفوف الصبيان، بل صلى بجنب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما رواه الطبراني والبيهقي في المعرفة، علاوة أن الزيادة في الركوع قد رويت من حديث جابر بن عبدالله وعبدالله بن عمرو وأبي هريرة وأبي بن كعب وابن عمر وحذيفة وعلي وغيرهم، وهؤلاء كانوا رجالا لا صبيانا ولا نساء، ولا دليل على أنهم قاموا في آخر الصفوف، أو كانوا خلف الصف الأول أو الثاني، فنسبة اشتباه الأمر إلى جميع هؤلاء غلط بلا شك. ومنها ما ذكر بعض من كتب على الموطأ من أهل عصرنا أنه يحتمل أن الركوع كان بدل سجود التلاوة، لما ورد في الروايات من قراءة سورة الحج، وفيها سجدتان عندهم، والركوع بدل السجود كاف. قلت: هذا تأويل فاسد باحتمال غير ناشيء عن دليل فهو مردود، وأما الرواية التي أشار إليها هذا البعض فأخرجها البيهقي في السنن (ج3 ص330) عن علي موقوفا عليه من فعله، وفيه حنش بن ربيعة، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة كما تقدم في باب الأضحية في ترجمة حنش، وفيه أيضا أن عليا قرأ سورة الحج ويس في الركعة الأولى ثم ركع أربع ركعات ثم سجد – أي بعد الركوع الرابع -، ثم قام فقرأ سورة الحج ويس ثم صنع كما صنع في الركعة الأولى، ثمان ركعات وأربع سجدات، فلو كانت الركوعات الزائدة بدل السجدتين في سورة الحج لم يزد عددها على ست ركوعات مع ضم ركوعي الصلاة، وههنا قد صرح بأنه ركع ثمان ركعات، وهذا يبطل الاحتمال الذي اخترعها هذا البعض، وقد رواه ابن أبي شيبة وأحمد (ج1 ص143) وابن خزيمة والطحاوي وابن جرير وأبوالقاسم بن منده في كتاب الخشوع والبيهقي أيضا (ج3 ص330، 331) عن علي مرفوعا من طريق حنش، وليس فيه ذكر سورة الحج، بل في رواية أحمد: فقرأ يس أو نحوها، وفي لفظ عند غير أحمد: بالحجر أو يس، وفي لفظ: يس والروم، وفي لفظ: سورة من المئين أو نحوها، وأما ما ذكر في كفاية الركوع عن سجدة التلاوة فهو دعوى بلا برهان فلا يلتفت

(9/253)


إليها، وقد تقدم الكلام عليه في باب سجدة التلاوة. (متفق عليه) وأخرجه أيضا النسائي والبيهقي (ج4 ص320) وأخرجه أبوداود مختصرا، وأخرجه البخاري ومسلم أيضا من حديث عبدالله بن عمرو.
1495- قوله (جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف) أي خسوف الشمس، كما صرح في رواية الإسماعيلي، وإسحاق بن راهويه وابن حبان، وفي رواية لأحمد (ج6 ص76) وفيه رد على من فسر لفظ الصحيحين بخسوف القمر (بقراءته) هذا نص في أن قراءته - صلى الله عليه وسلم - في صلاة كسوف الشمس كانت جهرا لا سرا، وهو يدل على أن السنة في صلاة الكسوف هي الجهر بالقراءة لا الإسرار، ويدل لذلك أيضا حديث أسماء عند البخاري، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص232)، والحافظ في الدراية (ص137)، وابن الهمام في فتح
.............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/254)


القدير، والعيني في البناية: وللبخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف – انتهى. ويدل له أيضا ما روى ابن خزيمة والطحاوي عن علي مرفوعا وموقوفا من الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، قال الطحاوي بعد رواية الحديث عن علي موقوفا: ولو لم يجهر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين صلى علي معه لما جهر علي أيضا؛ لأنه علم أنه السنة فلم يترك الجهر، والله أعلم، ذكره العيني. وقد اختلفت الأئمة في ذلك، فقال بالجهر أبويوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وابن العربي من المالكية، وقال الطبري: يخير بن الجهر والإسرار، وقال الأئمة الثلاثة: يسر في الشمس ويجهر في القمر، كذا في الفتح، قلت: وحكى الترمذي عن مالك الجهر، وقال القاضي عياض والقرطبي: إن معن بن عيسى والواقدي رويا عن مالك الجهر، قيل: هي رواية شاذة، والمشهور عنه هو الإسرار، وقال ابن العربي في العارضة: اختلف قول مالك، فروى المصريون أنه يسر، وروى المدنيون أنه يجهر، والجهر عندي أولى – انتهى. واحتج للشافعي ومن وافقه بقول ابن عباس: قرأ نحوا من سورة البقرة، أخرجه الشيخان. قال الشافعي: لو جهر بالقراءة لم يحتج إلى تقديره. وذكر البيهقي عنه أنه قال: فيه دليل على أنه لم يسمع ما قرأ؛ لأنه لو سمعه لم يقدر بغيره، وقال القرطبي: هذا دليل لمن قال يخفي القراءة؛ لأنه لو جهر لعلم ما قرأ، وقال المنذري: هذا الحديث يدل على الإسرار. وتعقب باحتمال أن يكون بعيدا منه في صفوف الصبيان، لكن ذكر الشافعي تعليقا عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف فلم يسمع منه حرفا، ورواه الطبراني في معجمه موصولا قال: ثنا علي بن المبارك، ثنا زيد بن المبارك، ثنا موسى بن عبدالعزيز، ثنا الحكيم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه البيهقي أيضا في المعرفة من طريق الحكم

(9/255)


بن أبان، وقال: يدفع حمله على البعد رواية الحكم بن أبان: صليت إلى جنبه – انتهى. قلت: موسى بن عبدالعزيز صدوق سيء الحفظ، والحكم بن أبان صدوق له أوهام، قاله الحافظ في التقريب. فرواية الطبراني لا تقاوم روايات الجهر الصحيحة الصريحة. واحتج له أيضا بقول عائشة عند أبي داود: فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة. قال الخطابي: هذا يدل على أنه لم يجهر بالقراءة فيها، ولو جهر لم تحتج فيها إلى الحزر والتخمين، وبحديث ابن عباس قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الكسوف فلم أسمع منه فيها حرفا، أخرجه أحمد (ج1 ص293، 350) وأبويعلى وأبونعيم في الحلية، والطحاوي (ج1 ص197)، والبيهقي (ج3 ص335)، وفيه ابن لهيعة، وبحديث سمرة الآتي في الفصل الثاني، وبأنها صلاة نهار فلا يجهر فيها كصلاة الظهر، وأجيب عن هذا كله بأن روايات الجهر نصوص صريحة صحيحة، والأحاديث المذكورة ليست بنص في السر ونفي الجهر، فكيف تعارض روايات الجهر
متفق عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/256)


بمثل هذا ! قال ابن قدامة: هذا نفي محتمل لأمور كثيرة، فكيف يترك من أجله الحديث الصحيح الصريح ! وقياسهم منتقض بالجمعة والعيدين والاستسقاء، وقياس هذه الصلاة على هذه الصلوات أولى من قياسها على الظهر لبعدها منها وشبهها بهذه – انتهى. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: حديث عائشة صحيح صريح في الجهر، وأحاديث هذا الباب – يعني أحاديث عائشة وابن عباس وسمرة – فيها دلالة على الإسرار، فكان المصير إلى ذلك الحديث أولى – انتهى. وقال العيني: روايات الجهر أصح. وقال ابن حزم: ليس لهم فيه – أي في حديث سمرة – حجة؛ لأنه ليس فيه أنه – عليه السلام – لم يجهر، وإنما فيه لا نسمع له صوتا، وصدق سمرة في أنه لم يسمعه، ولو كان بحيث يسمعه لسمعه كما سمعت عائشة – رضي الله عنها – التي كانت قريبا من القبلة في حجرتها، وكلاهما صادق، ثم لو كان فيه لم يجهر لكان خبر عائشة زائدا على ما في خبر سمرة، والزائد أولى – انتهى. وقال الزيلعي (ج2 ص234): واعلم أن الحديث يعني حديث ابن عباس بلفظ: نحوا من سورة البقرة، وما في معناه غير صريح في الإخفاء، وإن كان العلماء كلهم يحملوه عليه، ولكن قد ينسى الإنسان الشيء المقروء بعينه، وهو مع ذلك ذاكر لقدره، فيقول: قرأ فلان نحو سورة البقرة وهو قد سمع ما قرأ ثم نسيه، والله أعلم – انتهى. وقال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة – انتهى. وقال الحافظ: حديث عائشة مثبت للجهر ومعه قدر زائد، فالأخذ به أولى، وحديث سمرة إن ثبت لا يدل على نفي الجهر. قال ابن العربي: الجهري عندي أولى؛ لأنها صلاة جامعة ينادى لها ويخطب ـ فأشبهت العيد والاستسقاء، والله أعلم. وقال الشوكاني في النيل: إن كانت صلاة الكسوف لم يقع منه - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة واحدة، كما نص على ذلك جماعة من الحفاظ، فالمصير إلى الترجيح متعين، وحديث عائشة أرجح لكونه في الصحيحين، ولكونه متضمنا للزيادة، ولكونه مثبتا، ولكونه

(9/257)


معتضدا بما أخرجه ابن خزيمة وغيره عن علي مرفوعا من إثبات الجهر. وقال في السيل الجرار: رواية الجهر أصح وأكثر، وراوي الجهر مثبت وهو مقدم على النافي – انتهى. وسيأتي شيء من الكلام فيه في شرح حديث سمرة. وتأول بعض الحنفية حديث عائشة بأنه - صلى الله عليه وسلم - جهر بآية أو آيتين. قال في البدائع: نحمل ذلك على أنه جهر ببعضها اتفاقا، كما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسمع الآية والآيتين في صلاة الظهر أحيانا – انتهى. وهذا تأويل باطل؛ لأن عائشة كانت تصلي في حجرتها قريبا من القبلة، وكذا أختها أسماء، ومن كان كذلك لا يخفى عليه قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت قراءته في صلاة الكسوف سرا وكان يجهر بآية وآيتين أحيانا، كما فعل كذلك في صلاة الظهر، لما عبرت عن ذلك بأنه كان يجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، كما لم يقل أحد ممن روى قراءته في صلاة الظهر أنه جهر فيها بالقراءة (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي
1496- (3) وعن عبدالله بن عباس قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه، فقام قياما طويلا نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأبوداود وابن حبان والحاكم (ج1 ص334) وأبوداود الطيالسي والطحاوي والبيهقي (ج3 ص336) والدارقطني.

(9/258)


1496- قوله (انخسفت الشمس) بنون بعد ألف الوصل ثم خاء، كذا في البخاري في باب صلاة الكسوف جماعة، وفي مسلم: انكسفت، وفي الموطأ: خسفت، وكذا عند البخاري في باب كفران العشير من كتاب النكاح. (فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه) أي صلى صلاة الكسوف بالجماعة (فقام قياما طويلا) صفة لقياما أو لزمانا مقدر (نحوا) أي تقريبا، وبيانه قوله (من قراءة سورة البقرة) أي من مقدار قراءتها، وفي مسلم: قدر نحو سورة البقرة، وفي النسائي: قرأ نحوا من سورة البقرة، وفي رواية لعائشة: خسفت الشمس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه فكبر فاقترأ قراءة طويلة، وفي رواية: فقرأ بسورة طويلة، وفيه دليل على مشروعية تطويل القيام بقراءة سورة طويلة في صلاة الكسوف، وهو مستحب عند الجميع، وحكى الزبيدي في شرح الإحياء عن الشافعية استحباب الإطالة وإن لم يرض بها الناس، وعن ابن الهمام أنها مستثناة من كراهة التطويل. (ثم ركع ركوعا طويلا) وهو الركوع الأول، قال الحافظ: لم أر في شيء من الطرق بيان ما قال فيه، إلا أن العلماء اتفقوا على أنه لا قراءة فيه، وإما فيه الذكر من تسبيح وتكبير ونحوهما – انتهى. قال ابن دقيق العيد: لم يجد فيه حدا، وقد ذكر أصحاب الشافعي فيه أنه نحو من مائة آية، واختار غيرهم عدم التحديد إلا بما يضر بم خلفه، وقال القسطلاني: يسبح قدر مائة آية من البقرة، وقال ابن قدامة: يسبح قدر مائة. وقال المالكية: يركع كالقيام الذي قبله، ويؤيده ما في حديث جابر عند مسلم: ثم ركع نحوا مما قام. (ثم رفع) أي رأسه من الركوع (فقام قياما طويلا) وهو الاعتدال الأول (وهو دون القيام الأول) وفي رواية لعائشة: ثم كبر فركع ركوعا طويلا، ثم قال: سمع الله لمن حمده فقام ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى. وقدرها الشافعية والحنابلة بنحو سورة آل عمران، لكن في رواية لعائشة عند

(9/259)


أبي داود: أنها حزرت قراءته بآل عمران بعد القيام من السجدتين أي في قيام الركعة الثانية. وزاد في رواية لعائشة عند البخاري: ربنا ولك الحمد بعد قوله: سمع الله لمن حمده، قال الحافظ: استدل به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال في أول القيام الثاني من الركعة الأولى. واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال بدليل اتفاق العلماء ممن
ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الأول،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/260)


قال بزيادة الركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن كان محمد بن مسلمة المالكي خالف فيه، والجواب أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله فيها كان مشروعا؛ لأنها أصل برأسه، وبهذا المعنى رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة حتى منع من زيادة الركوع فيها – انتهى. وقال العيني: وأجاب عن ذلك شيخنا العراقي بقوله: في استشكاله نظر لصحة الحديث فيه، بل لو زاد الشارع عليه ذكرا آخر لما كان مستشكلا – انتهى. (ثم ركع ركوعا طويلا) وهو الركوع الثاني (وهو دون الركوع الأول) قال القسطلاني: وقدروه بثمانين آية، وقال ابن قدامة: يركع بقدر ثلثي ركوعه الأول – انتهى. واختلف في أن أي الركوعين من الركعتين فرض، وبإدراك أي الركوعين يكون مدركا للركعة؟ فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الأصل والفرض هو الركوع الأول وقيامه، وأما الركوع الثاني وقيامه فتابع وزائد وسنة كتكبيرات العيد، فمن أدرك الإمام في الركوع الأول من الركعة الأولى أو الثانية أدرك الركعة، كما في سائر الصلوات، ومن أدركه في الركوع الثاني من أي ركعة فلا يدرك شيئا، وعكسه المالكية فقالوا: الزائد والتابع والسنة في كل من الركعتين القيام الأول والركوع الأول، والفرض إنما هو الركوع الثاني والقيام الثاني في كل ركعة، فمن أدرك الإمام في الركوع الثاني من الركعة الأولى أدرك الركعة ولم يقض شيئا، وإن أدرك الركوع الثاني من الركعة الثانية يقضي الأولى بقيامها فقط ولا يقضي القيام الثالث. وقال ابن قدامة في المغني: إذا أدرك الإمام في الركوع الثاني احتمل أنه تفوته الركعة، قال القاضي: لأنه قد فاته من الركعة ركوع أشبه ما لو فاته الركوع من غير هذه الصلاة، ويحتمل أن تصح صلاته؛ لأنه يجوز أن يصلي هذه الصلاة بركوع واحد، فاجتزئ به في حق المسبوق – انتهى. واعلم أنه لم يرد تعيين ما قرأ به - صلى الله عليه

(9/261)


وسلم - إلا في حديث لعائشة عند الدارقطني (ص188) أنه قرأ في الركعة الأولى بالعنكبوت أو الروم، وفي الثانية بـ"يس"، وأخرجه البيهقي (ج3 ص236) وفيه أنه قرأ في الركعة الأولى بـ"العنكبوت"، وفي الثانية بـ"لقمان" أو "الروم"، وفي حديث علي عند البيهقي (ج3 ص330) أنه قرأ بـ"يس" ونحوها، وفي آخره ثم حدثهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل، وفي رواية عنده: أنه قرأ في الركعة الأولى سورة الحج ويس ثم ركع أربع ركعات ثم سجد في الرابعة ثم قام فقرأ بسورة الحج ويس وهو موقوف من فعله، ويأتي حديث أبي بن كعب أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ بسورة من الطوال، وتقدم الإشارة إلى حديث عائشة عند أبي داود والبيهقي (ج3 ص335) أنها قالت: حزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة ثم سجد سجدتين ثم قام فأطال القراءة، فحزرت فرأيت أنه قرأ سورة آل عمران، وهذا كله يدل على أنه لا تعيين في القراءة في صلاة الكسوف، فيختير
ثم رفع، ثم سجد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/262)


المصلي من القرآن ما شاء، وإن التطويل أولى، والله تعالى أعلم. قال الشوكاني: لا بد من القراءة بالفاتحة في كل ركعة لما تقدم من الأدلة الدالة على أنها لا تصح ركعة بدون الفاتحة. قال النووي: واتفق العلماء على أنه يقرأ الفاتحة في القيام الأول من كل ركعة، واختلفوا في القيام الثاني، فمذهبنا ومذهب مالك وجمهور أصحابه أنها لا تصح الصلاة إلا بقراءتها فيه، وقال محمد بن مسلمة من المالكية: لا تتعين الفاتحة في القيام الثاني – انتهى. قال الباجي: يستفتح القراءة في الركعة الأولى والثالثة بأم القرآن، وأما الثانية والرابعة فإنه يقرأ فيهما بالسورة، وهل يقرأ الفاتحة أم لا؟ قال مالك: نعم، وقال محمد بن مسملة: لا، وجه الأول أنها ركعة بقراءة، فوجب الفاتحة كالأولى، ووجه الثاني: أن الركعتين في حكم الركعة الواحدة، بدليل أن المأموم يجزيه إدراك أحدهما، فالقراءتان في حكم القراءة الواحدة، فوجب أن لا يتكرر الفاتحة – انتهى. وقال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج2 ص139): كأنه رآها ركعة واحدة زيد فيها ركوع، والركعة الواحدة لا تثنى الفاتحة فيها، وهذا يمكن أن يؤخذ من الحديث، كما سننبه عليه في موضعه – انتهى. وقال في شرح حديث عائشة بلفظ: فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات (ج2 ص142). أطلق الركعات على عدد الركوع، وجاء في موضع آخر في ركعتين، وهذا هو الذي أشرنا إلى أنه متمسك من قال من أصحاب مالك إنه لا يقرأ الفاتحة في الركوع الثاني من حيث أنه أطلق على الصلاة ركعتين، والله أعلم. (ثم رفع) أي رأسه من الركوع الثاني (ثم سجد) أي سجدتين، لم يذكر فيه تطويل الاعتدال الذي يتعقبه السجود، ووقع في حديث جابر عند مسلم تطويل هذا الاعتدال، ولفظه: ثم رفع فأطال ثم سجد. قال النووي: هي رواية شاذة مخالفة لرواية الأكثرين، فلا يعمل بها، أو المراد زيادة الطمأنينة في الاعتدال لا إطالته نحو الركوع. وتعقب بما رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث

(9/263)


عبدالله بن عمرو أيضا ففيه: ثم ركع فأطال حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع فأطال حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد فأطال حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد. لفظ ابن خزيمة من طريق الثوري عن عطاء بن السائب عن أبيه عنه. قال الحافظ: والثوري سمع من عطاء قبل الاختلاط، فالحديث صحيح – انتهى. قلت: قد صرح الشافعية والحنابلة في فروعهم بعدم تطويل الاعتدال الذي يلي السجود، وهو مقتضى مذهب الحنفية والمالكية، وكأنهم اتفقوا على عدم مشروعية هذا الاعتدال، وهذا ليس بشيء بعد ما ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة، وعدم ذكره في باقي الروايات أي السكوت عنه لا يدل على شذوذه، ولم يذكر في حديث ابن عباس تطويل السجود، ولكنه مذكور في حديث عائشة وغيرها، وقد تقدم الكلام في هذا، قال الحافظ: ولم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في حديث عبدالله بن عمرو، وقد
ثم قام فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياما طويلا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/264)


نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته، فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام وإلا فهو محجوج بهذه الرواية – انتهى. وقال النووي في الأذكار: قال أصحابنا: لا يطول الجلوس بين السجدتين، بل يأتي به على العادة في غيرها، وهذا الذي قالوه فيه نظر، فقد ثبت في حديث صحيح إطالته، وقد ذكرت ذلك واضحا في شرح المهذب، فالاختيار استحباب إطالته – انتهى. قال صاحب الأوجز: وهكذا ينبغي للحنفية أن يصرحوا باستحباب تطويله؛ لأن الرواية التي استدلوا بها في الكسوف صريحة في تطويله، وفي مسند أبي حنيفة من حديث ابن عمر: فكان جلوسه بين السجدتين قدر سجوده...الحديث. (ثم قام) أي إلى الركعة الثانية (فقام قياما طويلا) كذا في البخاري في باب كفران العشير من كتاب النكاح، وفي مسلم: ثم قام قياما طويلا، أي من غير تكرار قام، وكذا في البخاري في باب صلاة الكسوف جماعة. (وهو دون القيام الأول) يحتمل أن يراد منه القيام الأول من الركعة الأولى أو القيام الذي يليه. قال ابن عبدالبر: أي ذلك كان فلا حرج إن شاء الله تعالى. وفي المدونة قال مالك: إنما يعني دون القيام الذي يليه، وكذلك قال في الركوع إنما يعني دون الركوع الذي يليه، وقال ابن بطال: لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعيها تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعيها، وقال النووي: اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أقصر من القيام الأول وركوعه فيهما، واختلفوا في القيام الأول من الثانية وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني من الأولى وركوعه أو يكونان سواء؟ قيل: وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله:وهو دون القيام الأول، هل المراد به الأول من الثانية أو يرجع إلى الجميع؟ فيكون كل قيام دون الذي قبله، ورواية الإسماعيل لحديث عائشة بلفظ: الأولى فالأولى أطويل، تعين هذا الثاني ويرجحه أيضا أنه لو كان المراد من قوله: القيام الأول، أول قيام من الأولى فقط لكان القيام الثاني والثالث مسكوتا عن

(9/265)


مقدارهما فالأول أكثر فائدة، كذا في الفتح. قلت: وقدر الشافعية هذه القيام الثالث بنحو سورة النساء، والرابع بنحو المائدة، وأشكل بأن الراجح المختار أن القيام الثالث أقصر من الثاني، والنساء أطول من آل عمران، وأجاب الزرقاني بأنه إذا أسرع بقراءتها ورتل آل عمران كانت أطول، وقال السبكي في شرح المنهاج: قد ثبت بالأخبار تقدير القيام الأول بنحو البقرة وتطويله على الثاني والثالث، ثم الثالث على الرابع. وأما نقص الثالث عن الثاني أو زيادته عليه فلم يرد فيه شيء فيما أعلم فلأجله لا بعد في ذكر سورة النساء فيه وآل عمران في الثاني، نعم إذا قلنا بزيادة ركوع ثالث فيكون أقصر من الثاني. ذكره القسطلاني. (ثم ركع ركوعا) ثالثا طويلا (وهو دون الركوع الأول) قدروه بنحو سبعين آية (ثم رفع) رأسه من الركوع الثالث (فقام قياما) رابعا (طويلا) وقدروه بنحو المائدة
وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/266)


(وهو دون القيام الأول) أي الثالث (ثم ركع ركوعا) رابعا (طويلا) وقدروه بنحو خمسين آية تقريبا (وهو دون الركوع الأول) أي الثالث (ثم رفع) رأسه للقومة (ثم سجد) أي سجدتين كذلك (ثم انصرف) من الصلاة (وقد تجلت الشمس) بفوقية وشد لام أي انكشفت، وفي حديث جابر عند مسلم: فانصرف وقد آضت الشمس، وعند أبي داود: فقضى الصلاة وقد طلعت الشمس، وفي حديث قبيصة عند النسائي: فوافق انصرافه انجلاء الشمس، وفي حديث عبدالله بن عمرو عند أبي داود ففرغ من صلاته وقد امحصت الشمس، والمراد أنه انصرف من الصلاة بالسلام بعد التشهد، والحال أن الشمس انجلت بين جلوسه للتشهد والسلام، كما في حديث عبدالله بن عمر، وعند البخاري: ثم جلس ثم جلى عن الشمس، وفي حديث سمرة عند أبي داود والنسائي: فوافق تجلي الشمس جلوسه في الركعة الثانية ثم سلم، وفي حديث عبدالله بن عمرو عند النسائي: ثم رفع رأسه – أي من السجدة – وانجلت الشمس، وفي حديث أبي بن كعب الآتي: ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها، فهذه الروايات كلها تدل على أن الانجلاء كان في الجلوس آخر الصلاة، وحديث عبدالرحمن بن سمرة عند مسلم يدل بظاهره أن انجلاء الشمس وقع قبل الشروع في الصلاة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ صلاة الكسوف بعد الانجلاء، وهو خلاف جميع الروايات وخلاف ما ذهب إليه العلماء، وسيأتي توجيهه. (فقال) بإلفاء، وللأصيلي: وقال. ذكره القسطلاني يعني أنه خطب فقال في خطبته بعد الحمد والثناء على الله. (إن الشمس والقمر) فيه إيماء إلى أن حكم صلاة كسوف الشمس وخسوف القمر واحد. (آيتان) أي علامتان (من آيات الله) أي الدالة على وحدانيته وقدرته وعظمته أو على تخويف عباده من بأسه وسطوته، ويؤيده قوله تعالى: ?وما نرسل بالآيات إلا تخويفا? [الإسراء: 59]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي بكرة وأبي موسى عند البخاري: يخوف الله بهما عباده)) أو أنهما مسخران لقدرة

(9/267)


الله وتحت حكمه ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. (لا يخسفان) بفتح فسكون فكسر على أنه لازم، ويجوز ضم أوله على متعد أي لا يذهب الله نورهما، وأتى بالتذكير تغليبا للقمر طبق القمرين. (لموت أحد) من العظماء كما توهمه بعض الناس تبعا لما كان يعتقده أهل الجاهلية أن كسوف الشمس والقمر لا يكون إلا لموت عظيم، وقد وقع في رواية للبخاري من حديث أبي بكرة بيان سبب هذا القول، ولفظها: وذلك أن ابنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له إبراهيم مات، فقال الناس في ذلك، وعند ابن حبان: فقال الناس: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم، وفي حديث النعمان بن بشير الآتي: ثم
ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله، قالوا: يا رسول الله ! رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا، ثم رأيناك تعكعكت، فقال: إني رأيت الجنة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/268)


قال: إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلا لموت عظيم...الخ، وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض، وهو نحو قوله في الحديث المشهور: ((يقولون مطرنا بنوء كذا...))، قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. (ولا لحياته) أي لولادته، وهي تتمة للتقسيم وإلا فلم يدع أحد أن الكسوف لحياة أحد أو ذكر لدفع توهم من يقول: لا يلزم من نفي كونه سببا للفقدان لا يكون سببا للإيجاد، فعمم الشارع النفي لدفع هذا التوهم. (فإذا رأيتم ذلك) أي الكسوف في أحد منهما لاستحالة كسوفهما معا في وقت واحد عادة، واستدل به على مشروعية صلاة خسوف القمر (فاذكروا الله) بالصلاة والتسبيح والتكبير والدعاء والتهليل والاستغفار وسائر الأذكار (تناولت شيئا) أي قصدت تناول شيء وأخذه كذا للأكثر: تناولت، بصيغة الماضي، وفي رواية الكشمهيني: تناول، بحذف إحدى التائين تخفيفا وضم اللام بالخطاب من المضارع، ويروى تتناول على الأصل بإثباتها (في مقامك هذا) أي في الموضع الذي صليت فيه (تكعكعت) بتاء مثناة فوقية في أوله وكافين مفتوحتين ومهملتين ساكنتين بعد كل منهما، أي تأخرت أو تقهقرت، وفي رواية: كعكعت، بحذف التاء أوله، وهو يقتضي مفعولا أي رأيناك كعكعت نفسك، قال أبوعبيد: كعكته فتكعكع، وهو يدل على أن كعكع متعد وتكعكع لازم، واختلف في أنه ثلاثي مزيد أو رباعي مجرد، وقول الجوهري وغيره يدل على أنه ثلاثي مزيد فيه؛ لأنه نقل عن يونس كع يكع بالضم. وقال سيبويه: بالكسر أجود كمد وفر إذا نكص على عقيبه، وفي رواية مسلم: رأيناك كففت أي نفسك بفائين خفيفتين من الكف وهو المنع (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -

(9/269)


(إني رأيت الجنة) أي رؤية عين بأن الحجب كسفت له دونها فرآها على حقيقتها وطويت المسافة بينهما حتى أمكنه أن يتناول منها كبيت المقدس حيث وصفه لقريش، وهذا أشبه بظاهر هذا الحديث، ويؤيده ما روى البخاري من حديث أسماء في أوائل صفة الصلاة بلفظ: ((دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها)). ومنهم من حمله على أنه مثلت له في الحائط كما تنطبع الصورة في المرآة فرأى جميع ما فيها، ويؤيده حديث أنس عند البخاري في كتاب التوحيد: ((لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي))، وفي رواية: ((لقد مثلت))، ولمسلم (لقد صورت))، ولا يقال: إن الانطباع إنما هو في الأجسام
فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/270)


الصقيلة؛ لأن ذلك شرط عادي فيجوز أن تنخرق العادة خصوصا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر، ولا مانع أن يرى الجنة والنار مرتين بل مرارا على صور مختلفة، وأبعد من قال: إن المراد بالرؤية رؤية العلم، قال القرطبي: لا إحالة في بقاء هذه الأمور على ظواهرها، ولاسيما على مذهب أهل السنة أن الجنة والنار قد خلقتا، وهما موجودتان الآن، فيرجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه إدراكا خاصا به أدرك الجنة والنار على حقيقتهما (فتناولت) بين سعيد بن منصور في سننه من وجه آخر أن التناول كان حين قيامه الثاني من الركعة الثانية، ذكره الحافظ. (منها) أي من الجنة (عنقودا) بضم العين، وهو من العنب ونحوه ما تراكم من حبه، وقيل: المراد قطعة من العنب (ولو أخذته) وفي رواية أخرى للبخاري: ((ولو أصبته))، واستشكل هذا مع قوله: ((فتناولت))، وأجيب بأنه يحمل التناول على تكلف الأخذ لا حقيقة الأخذ. وقيل: المراد تناولت لنفسي، ولو أخذته لكم وأعطيتكم، حكامه الكرماني وليس بجيد. وقيل: المراد بقوله: تناولت، وضعت يدي عليه بحيث كنت قادرا على تحويله، لكن لم يقدر لي قطفه ولو أخذته أي لو تمكنت من قطفه، يدل عليه قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة: أهوى بيده ليتناول شيئا، وفي حديث أسماء المذكور: حتى لو اجترأت عليها، وكأنه لم يؤذن له في ذلك فلم يجترئ عليه. وقيل: الإرادة مقدرة، أي أردت أن أتناول ثم لم أفعل، ويؤيده حديث جابر عند مسلم: ((ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل))، ومثله للبخاري من حديث عائشة في آخر الصلاة بلفظ: ((حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني جعلت أتقدم))، ولعبدالرزاق من طريق مرسلة: ((أردت أن آخذ منها قطفا لأريكموه فلم يقدر))، ولأحمد من حديث جابر ((فحيل بيني وبينه))، كذا في الفتح (لأكلتم منه) أي من العنقود (ما بقيت الدنيا)

(9/271)


وجه ذلك أنه يخلق الله تعالى مكان كل حبة تقتطف حبة أخرى كما هو المروي في خواص ثمر الجنة، والخطاب عام في كل جماعة يتأتى منهم السماع والأكل إلى يوم القيامة لقوله ((ما بقيت الدنيا))، وسبب تركه - صلى الله عليه وسلم - تناول العنقود، قال ابن بطال: لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفني والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. وقيل: لأنه لو تناوله ورآه الناس لكان إيمانهم بالشهادة لا بالغيب فيخشى أن يقع رفع التوبة والتكليف فلا ينفع نفسا إيمانها. وقيل: لأن الجنة جزاء الأعمال والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة. (ورأيت النار) كانت رؤيته - صلى الله عليه وسلم - النار قبل رؤيته للجنة لما وقع في رواية عبدالرزاق المذكورة ((عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - النار فتأخر عن مصلاه حتى أن الناس ليركب بعضهم بعضا، وإذا رجع عرضت عليه الجنة فذهب يمشي حتى وقف في مصلاه))، ولمسلم من حديث جابر: ((لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها))، وفيه: ((ثم جيء بالجنة
فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/272)


وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي))، وزاد فيه ((ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاته هذه))، واللام في النار للعهد أي رأيت نار جهنم (فلم أر كاليوم) أي مثل اليوم، والمراد من اليوم الوقت الذي هو في (منظرا) منصوب بلم أر (قط) بتشديد الطاء ظرف للماضي أي أبدا، قال القاري: أي لم أر منظرا مثل منظر اليوم، فقوله كاليوم صفة منظرا فلما قدم نصب على الحال (أفظع) أي أقبح وأبشع وأشنع وأسوأ، كذا وقع في جميع النسخ الموجودة للمشكاة، وكذا في النسخ الموجودة للموطأ من طبعات الهند، ولفظ المصابيح فلم أر كاليوم منظرا أفظع قط منها، ولفظ البخاري في النكاح من طريق عبدالله بن يوسف عن مالك عن زيد بن أسلم والنسائي من طريق ابن القاسم عن مالك ومسلم من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم بلفظ: فلم أر كاليوم منظرا قط أي بدون لفظ أفظع، وكذا وقع في نسخ الموطأ من طبعات مصر، ورواه البيهقي من طريق القعنبي بلفظ: فلم أر كاليوم منظرا أفظع منها، قال البيهقي: ورواه الشافعي أي عن مالك ولم يذكر قوله أفظع منها والباقي سواء – انتهى. ورواه البخاري في صلاة الكسوف من طريق القعنبي بلفظ: فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص116) قال الحافظ: أي لم أر منظرا مثل منظر رأيته اليوم فحذف المرئي وأدخل التشبيه على اليوم لبشاعة ما رأى فيه وبعده عن النظر المألوف، وقيل: الكاف اسم، والتقدير: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرا، وقال القسطلاني: منظرا نصب بأر وأفظع صفة للمنصوب وكاليوم قط اعتراض بين الصفة والموصوف، وأدخل كاف التشبيه عليه لبشاعة ما رأى فيه، وجوز الخطابي في أفظع وجهين: أن يكون بمعنى فظيع كأكبر بمعنى كبير، وأن يكون أفعل تفضيل على بابه على تقدير منه فصفة فعل التفضيل محذوفة. قال ابن السيد: العرب تقول: ما رأيت كاليوم رجلا، وما رأيت كاليوم منظرا، والرجل والمنظر لا يصح أن يشبها باليوم،

(9/273)


والنحاة تقول معناه ما رأيت كرجل أراه اليوم رجلا وما رأيت كمنظر رأيته اليوم منظرا، وتلخيصه: ما رأيت كرجل اليوم رجلا وكمنظر اليوم منظرا، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وجازت إضافة الرجل والمنظر إلى اليوم لتعلقهما به وملابستهما له باعتبار رؤيتهما فيه، وقال غيره: الكاف هنا اسم، وتقديره: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرا، ومنظرا تمييز، ومراده باليوم الوقت الذي هو فيه، ذكره الدماميني والبرماوي، لكن تعقب الدماميني الأخير وهو قوله وقال غيره...الخ بأن اعتباره في الحديث يلزم منه تقديم على عامله، والصحيح منعه. فالظاهر في إعرابه أن منظرا مفعول أر وكاليوم ظرف مستقر صفة له، وهو بتقدير مضاف محذوف، كما تقدم أي كمنظر اليوم، وقط ظرف لأر وأفظع حال من اليوم على
ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن، قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/274)


ذلك التقدير، والمفضل عليه، وجار ومجرور محذوفان، أي كمنظر اليوم حال كونه أفظع من غيره – انتهى. (ورأيت أكثر أهلها النساء) استشكل مع حديث أبي هريرة أن أدنى أهل الجنة منزلة من له زوجتان من الدنيا، ومقتضاه أن النساء ثلثا أهل الجنة، وأجيب بحمل حديث أبي هريرة على ما بعد خروجهن من النار، وما قيل: إنه خرج مخرج التغليظ والتخويف فهو لغو؛ لأنه إخبار عن الرؤية الحاصلة، وفي حديث جابر: ((وأكثر من رأيت فيها النساء اللاتي إن اؤتمن أفشين، وإن سئلن بخلن، وإن سألن إلحفن، وإن أعطين لم يشكرن)) فدل على أن المرئى في النار منهم من اتصف بصفات ذميمة، قال الحافظ: حديث ابن عباس يفسر وقت الرؤية في قوله - صلى الله عليه وسلم - لهن في خطبة العيد: ((تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار))، قال النووي: فيه دليل على أن بعض الناس اليوم معذب في جهنم. (قالوا) أي الصحابة (بم) كذا في البخاي في صلاة الكسوف بالباء أصله بما بالألف وحذفت تخفيفا، أي بسبب أي شيء من الأعمال، وللبخاري في النكاح ((لم)) باللام، وكذا في مسلم والنسائي (قيل: يكفرن) بحذف همزة الاستفهام، والقائل أسماء بنت يزيد بن السكن التي تعرف بخطيبة النساء كما يدل عليه رواية البيهقي والطبراني من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد (قال يكفرن العشير) قال الحافظ: كذا للجمهور عن مالك بلا واو، وكذا عند مسلم من رواية حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم، ووقع في موطأ يحيى بن يحيى قال: ويكفرن العشير بزيادة واو، وقال ابن عبدالبر: هكذا ليحيى وحده بالواو، ولم يزدها غيره، والمحفوظ عن مالك من رواية سائر الرواة بلا واو، قال الحافظ: ورواية يحيى وإن كانت شاذة، لكن معناها صحيح؛ لأن الجواب طابق السوال وزاد، وذلك أنه أطلق لفظ النساء فعم المؤمنة والكافرة، فلما قيل: أيكفرن بالله؟ فأجاب ويكفرن العشير...الخ، وكأنه قال: نعم، يقع منهن الكفر بالله وغيره؛ لأن منهن من يكفر بالله، ومنهن من يكفر

(9/275)


الإحسان، وقال ابن عبدالبر: وجه رواية يحيى أن يكون الجواب لم يقع على وفق سؤال السائل لإحاطة العلم بأن من النساء من يكفر بالله فلم يحتج إلى جوابه؛ لأن المقصود في الحديث خلافه – انتهى. والعشير الزوج وحمله بعضهم على العموم، وقال: أراد به كل من يعاشرها من زوج أو غيره، والألف واللام على الأول للعهد، وعلى الثاني للجنس، قيل: لم يعد كفر العشير بالباء كما عدى الكفر بالله؛ لأن كفر العشير لا يتضمن معنى الاعتراف بخلاف الكفر مبينة للجملة الأولى على طريق أعجبني زيد وكرمه، وكفر الإحسان تغطيته وعدم الاعتراف به أو جحده وإنكاره، كما يدل عليه قوله (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر) بالنصب على الظرفية، زاد في رواية البخاري في صلاة
ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط)) متفق عليه.
1497- (4) وعن عائشة نحو حديث ابن عباس، وقالت: ثم سجد فأطال السجود، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكسوف كله أي تمام عمر الرجل أو الزمان جميعه لقصد المبالغة والخطاب في أحسنت لكل من يصلح لذلك من الرجال فهو خطاب خاص لفظا عام معنى (شيئا) أي ولو حقيرا لا يوافق هواها من أي نوع كان، وقيل: التنوين فيه للتقليل أي شيئا قليلا لا يوافق غرضها (خيرا) قليلا (قط) أي في جميع ما مضى من العمر، وفي الحديث المبادرة إلى الطاعة عند رؤية ما يحذر منه واستدفاع البلاء بذكر الله وأنواع طاعته وتحريم كفران الحقوق ووجوب شكر المنعم وغير ذلك من الفوائد الكثيرة التي ذكرت في شرحي البخاري للحافظ والعيني وشرح مسلم للنووي (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص298، 358) ومالك وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص321).

(9/276)


1497- قوله (وعن عائشة نحو حديث ابن عباس) برفع نحو أي مثل حديثه في المعنى (ثم سجد فأطال السجود) كالركوع (ثم انصرف) عن الصلاة بالسلام بعد التشهد (وقد انجلت الشمس) بنون بعد ألف الوصل أي صفت وانكشفت (فخطب الناس) هذا ظاهر في الدلالة على أن لصلاة الكسوف خطبة، قال العيني: حديث الباب صريح في الخطبة، وبها قال الشافعي وإسحاق وابن جرير وفقهاء أصحاب الحديث، وقال أبوحنيفة ومالك وأحمد: لا خطبة فيها. قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالصلاة والتكبير والصدقة ولم يأمرهم بالخطبة، ولو كانت سنة لأمرهم بها، وإنما خطب - صلى الله عليه وسلم - بعد الصلاة ليعلمهم حكمها فكأنه مختص به. وقيل: خطب بعدها لا لها بخصوصها بل ليردهم عن قولهم: إن الشمس كسفت لموت إبراهيم وليخبرهم بما رأى في الصلاة من الجنة والنار وغيرهما من الآيات، كما في الحديث، ولذا خطب بعد الانجلاء، ولو كانت سنة لخطب قبله كالصلاة والدعاء. وأجيب عن الأول بأن المشروعية والسنية لا تتوقف على البيان بالقول بل تثبت بفعله - صلى الله عليه وسلم - أيضا، وههنا قد ورد ذكر الخطبة بعد صلاة الكسوف في أحاديث كثيرة صحيحة فلا شك في مشروعيتها واستحبابها، وعن الثاني بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف والإخبار بما رأى من الجنة والنار وغيرهما من الآيات، كما لا يخفى على من تأمل في حديث أسماء وحديث عائشة متفق عليهما، وحديث جابر عند مسلم وحديث سمرة عند أحمد والحاكم، والأصل مشروعية الاتباع والخصائص لا تثبت إلا بدليل، وقال ابن دقيق العيد: العذر المذكور
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/277)


ضعيف؛ لأن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معين بعد الإتيان بما هو المطلوب منها من الحمد والثناء والموعظة، وقد يكون بعض هذه الأمور داخلا في مقاصدها مثل ذكر الجنة والنار وكونهما من آيات الله، بل هو كذلك جزما – انتهى. قال الحافظ: وجميع ما ذكر من سبب الكسوف وغيره هو من مقاصد خطبة الكسوف فينبغي التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيذكر الإمام ذلك في خطبة الكسوف – انتهى. وذكر الزيلعي كلام ابن دقيق العيد بتمامه ولم يتعقبه بشيء. قال صاحب الهداية من الحنفية: ليس في الكسوف خطبة؛ لأنه لم ينقل. وتعقب بأن الأحاديث قد ثبتت فيه، وهي ذات كثرة، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص236) بعد ذكر كلام صاحب الهداية المذكور: هذا غلط، ثم ذكر أحاديث أسماء وابن عباس وعائشة متفق عليها، وحديث جابر عند مسلم، وحديث سمرة عند أحمد وحديث عمرو بن العاص عند ابن حبان، وكلها مشتمل على ذكر الخطبة، وما قال فيها، وقال الحافظ في الدراية (ص138) بعد ذكر كلام صاحب الهداية: وهذا النفي مردود بما في الصحيحين عن أسماء: ثم انصرف بعد أن تجلت الشمس فقام فخطب الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه....الحديث، وفي المتفق أيضا عن ابن عباس وعائشة، ولمسلم عن جابر ولأحمد والحاكم عن سمرة ولابن حبان عن عمرو بن العاص – انتهى. قال بعض الحنفية: لعل مراد صاحب الهداية بقوله: "لم ينقل" أي الأمر بها كما نقل الأمر بالصلاة والذكر والدعاء وغير ذلك. قلت: صاحب الهداية قد نفى نقل الخطبة مطلقا، وهو الذي فهمه الزيلعي والحافظ، ولذلك اتفقا على تغليطه والرد عليه، والاحتمال الذي ذكره هذا البعض خلاف الظاهر فهو مردود. واحتج بعض أصحاب مالك على ترك الخطبة بأنه لم ينقل في الحديث أنه صعد المنبر. وقد زيفه ابن المنير بأن المنبر ليس شرطا، ثم لا يلزم من أنه لم يذكر أنه لم يقع، قلت: ورد ذكر صعود المنبر صريحا في حديث عائشة عند النسائي وحديث أسماء عند أحمد (ج6 ص354)،

(9/278)


قال الحافظ: صرح أحمد والنسائي وابن حبان في روايتهم بأنه صعد المنبر، وكذا قال الزيلعي في نصب الراية (فحمد الله وأثنى عليه) زاد النسائي والبيهقي والحاكم في حديث سمرة وشهد أنه عبدالله ورسوله. (فإذا رأيتم ذلك) أي الكسوف في أحدهما (فادعوا الله) قال القسطلاني: وللحموي والمستملي: ((فاذكروا الله))، بدل رواية الكشمهيني ((فادعوا الله)) انتهى. قال ابن الملك: إنما أمر بالدعاء لأن النفوس عند مشاهدة ما هو خارق للعادة تكون معرضة عن الدنيا ومتوجهة إلى الحضرة العلياء فتكون أقرب إلى الإجابة (وكبروا) أي عظموا الرب أو قولوا: الله أكبر (وصلوا) أي صلاة الكسوف والخسوف كما صليتم الآن، وروى البخاري عن أبي مسعود قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد ! والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/279)


إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد من الناس ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموها (أي الآية) فقوموا فصلوا، قال الحافظ: استدل به على أنه لا وقت لصلاة الكسوف معين؛ لأن الصلاة علقت برؤية الكسوف، وهي ممكنة في كل وقت من النهار، وبهذا قال الشافعي ومن تبعه، واستثنى الحنفية أوقات الكراهة، وهو مشهور مذهب أحمد، وعن المالكية وقتها من حل النافلة إلى الزوال، وفي رواية إلى صلاة العصر. ورجح الأول بأن المقصود إيقاع هذه العبادة قبل الانجلاء، وقد اتفقوا على أنها لا تقضى بعد الانجلاء، فلو انحصرت في وقت لأمكن الانجلاء قبله فيفوت المقصود، ولم أقف في شيء من الطرق مع كثرتها على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها الأضحى لكن ذلك وقع اتفاقا، ولا يدل على منع ما عداه، واتفقت الطرق على أنه بادر إليها – انتهى. (وتصدقوا) لأن الصدقة تطفئ غضب الرب، وفي الحديث المبادرة بالصلاة وسائر ما ذكر من الدعاء والتكبير والصدقة عند الكسوف، قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله: الأصل فيها إن الآيات إذا ظهرت انقادت لها النفوس والتجأت إلى الله تعالى وانفكت عن الدنيا نوع انفكاك، فتلك الحالة غنيمة للمؤمن ينبغي أن يبتهل في الدعاء والصلاة وسائر أعمال البر، وأيضا فإنها وقت قضاء الله الحوادث في عالم المثال، ولذلك يستشعر فيها العارفون الفزع وفزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها لأجل ذلك، وهي أوقات سريان الروحانية في الأرض، فالمناسب للمحسن أن يتقرب إلى الله في تلك الأوقات، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث النعمان: ((فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له))، وأيضا فالكفار يسجدون للشمس والقمر فكان من حق المؤمن إذا رأى آية عدم استحقاقهما العبادة أن يتضرع إلى الله ويسجد له، وهو قوله تعالى: ?لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن? [فصلت: 37] ليكون شعارا للدين وجوابا مسكتا لمنكريه – انتهى. (يا أمة محمد)

(9/280)


فيه ذكر الباعث لهم على الامتثال وهو نسبتهم إليه - صلى الله عليه وسلم -، قاله القاري، وقيل: خاطبهم بذلك إظهارا لمعنى الشفقة، كما يقول أحد: يا بني، وعدل عن يا أمتي لأن المقام مقام تخويف وتحذير، وفي قوله: ((أمتي)) إشعار بالتكريم (والله) أتى باليمين لإرادة التأكيد لخبره، وإن كان لا يرتاب في صدقه (ما من أحد أغير) أي أشد غيرة (من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) أي على زنا عبده أو أمته، قال القسطلاني: برفع أغير صفة لأحد باعتبار المحل، والخبر محذوف منصوب أي موجودا على أن ما حجازية – وهي تعمل عمل ليس -، أو يكون أحد مبتدأ وأغير خبره على أن ما تميمية، ويجوز نصب أغير على أنه خبر ما الحجازية، و"من" زائدة للتأكيد وأن يكون مجرورا بالفتحة على الصفحة للمجرور باعتبار اللفظ والخبر المحذوف مرفوع على أن ما تميمية، وقوله ((أن يزني)) متعلق بأغير
يا أمة محمد ! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/281)


وحذف الجار من أن قياس مستمر. قال الحافظ: أغير أفعل تفضيل من الغيرة بفتح الغين المعجمة، وهي في اللغة تغير يحصل من الحمية والأنفة، وأصلها في الزوجين والأهلين وكل ذلك محال على الله تعالى؛ لأنه منزه عن كل تغير ونقص فيتعين حمله على المجاز، فقيل: لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعم وزجر من يقصد إليهم أطلق عليه ذلك لكونه منع من فعل ذلك وزجر فاعله وتوعده فهو من باب تسمية الشيء بما يترتب عليه. وقال ابن فورك: المعنى ما أحد أكثر زجرا عن الفواحش من الله تعالى. وقال غيره: غيرة الله ما يغير من حال العاصي بانتقامه منه في الدنيا والآخرة أو في أحدهما، ومنه قوله تعالى: ?إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم? [الرعد: 11]، وقال ابن دقيق العيد: أهل التنزيه في مثل هذا على قولين إما ساكت وإما مؤول، على أن المراد بالغيرة شدة المنع والحماية، فهو من مجاز الملازمة، وقال الطيبي: وجه اتصال هذا المعنى بما قبله من قوله: ((فادعوا الله وكبروا...)) الخ، من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالدعاء والذكر والتكبير والصلاة والتصدق ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء وخص منها الزنا؛ لأنه أعظمها في ذلك. وقيل: لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرا في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب الغيرة وخالقها سبحانه وتعالى. ولعل تخصيص العبد والأمة بالذكر رعاية لحسن الأدب مع الله تعالى لتنزيهه عن الزوجة والأهل ممن يتعلق بهم الغيرة غالبا – انتهى كلام الحافظ، وقيل: الغيرة من صفات الكمال، فتثبت لله تعالى كما هو مدلول اللغة، ولا دليل على صرفه عن ظاهر معناه، وما ذكروه من حقيقته فهو بالنسبة إلينا، والله جل وعلا منزه عن مماثلة المخلوقات، فكما إن ذاته ليست كذواتنا فصفاته ليست كصفاتنا ولله المثل الأعلى. (لو تعلمون ما أعلم) قال الباجي: يريد أنه – عليه الصلاة

(9/282)


والسلام – خصه الله تعالى بعلم لا يعلمه غيره، ولعله ما أراه في مقامه من النار وشناعة منظرها. وقال النووي: لو تعلمون من عظم انتقام الله تعالى من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال القيامة وما بعدها ما علمت، وترون النار كما رأيت في مقامي هذا وفي غيره لبكيتم كثيرا ولقل ضحككم لفكركم فيما علمتموه – انتهى. ولا يخفى أنهم علموا بواسطة خبره إجمالا، فالمراد التفصيل كعلمه - صلى الله عليه وسلم -، فالمعنى لو تعلمون ما أعلم كما أعلم، وقيل: المعنى لو دام علمكم كما دام علمي، فإن علمه - صلى الله عليه وسلم - متواصل بخلاف علم غيره. (لضحكتم قليلا) أي زمانا قليلا أو مفعول مطلق، وقيل: القلة ههنا بمعنى العدم كما في قوله: قليل التشكي أي عديمه، والتقدير لتركتم الضحك ولم يقع منكم إلا نادرا لغلبة الخوف واستيلاء الحزن. (ولبكيتم كثيرا) خوفا من الله تعالى أو لتفكركم فيما علمتموه، وقيل: المعنى لو علمتم من سعة
متفق عليه.
1498- (5) وعن أبي موسى قال: خسفت الشمس، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعا يخشى أن تكون الساعة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/283)


رحمة الله وحلمه وغير ذلك ما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك، وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم الزجر عن كثرة الضحك والحث على كثرة البكاء والاعتبار بآيات الله، وفيه الرد على من زعم أن للكواكب تأثيرا في الأرض لانتفاء ذلك عن الشمس والقمر فكيف بما دونهما. ومن حكمة وقوع الكسوف، تبيين أنموذج ما سيقع في القيامة، وصورة عقاب من لم يذنب فكيف بمن له ذنب، والتنبيه على سلوك طريق الخوف مع الرجاء لوقع الكسوف بالكوكب ثم كشف ذلك عنه؛ ليكون المؤمن من ربه على خوف ورجاء، والإشارة إلى تقبيح من يعبد الشمس أو القمر (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج6 ص164) ومالك والنسائي والبيهقي، وأخرجه أبوداود مختصرا على قوله: ((الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد – إلى قوله – وتصدقوا)).

(9/284)


1498- قوله (خسفت الشمس) بفتح الخاء والسين (فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعا) بكسر الزاي صفة مشبهة أو بفتحها مصدر بمعنى الصفة أو مفعول مطلق لفعل مقدر (يخشى) بالبناء للفاعل في محل النصب على الحال (أن تكون) في موضع النصب مفعول يخشى (الساعة) بالرفع على أن تكون تامة أو على أنها ناقصة، والخبر محذوف أن أن تكون الساعة قد حضرت أو نصب على أنها ناقصة واسمها محذوف أي تكون هذه الآية الساعة أي علامة حضورها. قال ابن دقيق العيد: فيه إشارة إلى دوام المراقبة لفعل الله وتجريد الأسباب العادية عن تأثيرها لمسبباتها، وفيه جواز الإخبار بما يوجبه الظن من شاهد الحال؛ لأن سبب الفزع يخفى عن المشاهدة لصورة الفزع فيحتمل أن يكون الفزع لغير ما ذكر، فعلى هذا فيشكل هذا الحديث من حيث أن للساعة مقدمات كثيرة لم تكن وقعت كفتح البلاد واستخلاف الخلفاء وخروج الخوارج ثم الأشراط كطلوع الشمس من مغربها والدابة والدجال والدخان وغير ذلك. ويجاب عن هذا بأجوبة: منها أن غلبة الخشية والدهشة وفجاءة الأمور العظام تذهل الإنسان عما يعلم. ومنها احتمال أن يكون الأمور المعلومة وقوعها بينه وبين الساعة كانت مقيدة بشرط يعني أن حالة استحضار إمكان القدرة غلبت على استحضار ما تقدم من الشروط؛ لاحتمال أن تكون تلك الأشراط كانت مشروطة بشرط لم يتقدم ذكره، فيقع المخوف بغير أشراط لفقد الشرط، ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر وقوع الممكن لو لا ما أعمله الله تعالى بأنه لا يقع قبل الأشراط، وجعل ما سيقع كالواقع إظهارا لتعظيم شأن الكسوف
فأتى المسجد، فصلى بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته قط يفعله، وقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/285)


وتنبيها لأمته أنه إذا وقع بعده يخشون أمر ذلك، لاسيما إذا وقع لهم ذلك بعد حصول الأشراط أو أكثر ويفزعون إلى ذكر الله والصلاة والصدقة ليدفع عنهم البلايا. ومنها أن راويه ظن أنه - صلى الله عليه وسلم - خشي أن تكون الساعة، وليس يلزم من ظنه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - خشي ذلك حقيقة، بل خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مستعجلا مهتما بالصلاة وغيرها من أمر الكسوف مبادرا إلى ذلك، وربما خاف أن يكون نوع عقوبة تحدث كما كان يخاف عند هبوب الريح، فظن الراوي خلاف ذلك ولا اعتبار بظنه. وفيه أن تحسين الظن بالصحابي يقتضي أنه لا يجزم ذلك إلا بتوقيف. ومنها لعله خشي أن يكون ذلك بعض المقدمات يعني خشي أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلل بين الخسوف والطلوع المذكور أشياء مما ذكر، وتقع متتالية بعضها أثر بعض مع استحضار قوله تعالى: ?وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب? [النحل: 77]، ومنها أن هذا تخييل من الراوي وتمثيل منه كأنه قال فزع فزعا كفزع من يخشى أن تكون الساعة، وإلا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بأن الساعة لا تقوم وهو فيهم، وقد وعده الله مواعد لم تتم ولم تقع بعد، وإنما كان فزعه عند ظهور الآيات كالخسوف والزلازل والريح الصواعق شفقا على أهل الأرض أن يأتيهم عذاب الله كما أتى من قبلهم من الأمم لا عن قيام الساعة (فأتى المسجد) أي مسجد المدينة، قال ابن دقيق العيد: في الحديث دليل على أن سنة صلاة الكسوف في المسجد وهو المشهور عن العلماء، وخير بعض أصحاب مالك بين المسجد والصحراء، والصواب: المشهور الأول، فإن هذه الصلاة تنتهي بالانجلاء، وذلك مقتض لأن يعتني بمعرفته ويراقب حال الشمس، فلو لا أن المسجد أرجح لكانت الصحراء أولى؛ لأنها أقرب إلى إدراك حال الشمس في الانجلاء وعدمه، وأيضا فإنه يخاف من تأخيرها فوات إقامتها بأن يشرع الانجلاء قبل اجتماع

(9/286)


الناس وبروزهم – انتهى. (ما رأيته قط يفعله) أي ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل مثله، كذا في جميع النسخ الموجودة للمشكاة بذكر كلمة ما قبل رأيته، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص118) وفي نسخ البخاري من طبعات الهند ومصر الحاضرة عندنا رأيته قط يفعله أي بدون حرف النفي قبل رأيته، لكن قال العيني في كثير من النسخ أي للبخاري وقعت على الأصل وهو ما رأيته قط يفعله – انتهى. ولفظ مسلم والنسائي والبيهقي: ما رأيته يفعله في صلاة قط، قال العيني: كلمة "قط" لا تقع إلا بعد الماضي المنفي، ووجه النسخة التي هي بغير لفظ ما أن يقدر حرف النفي كما في قوله تعالى: ?تالله تفتؤ تذكر يوسف? [يوسف 85]، أي لا تفتؤ ولا تزال تذكره تفجعا، فحذف لا أو أن لفظ أطول فيه معنى عدم المساواة أي بما لم يساو قط قياما رأيته يفعله، أو قط بمعنى حسب أي صلى في تلك اليوم فحسب بأطول قيام رأيته يفعله أو تكون بمعنى أبدا لكن إذا كانت بمعنى حسب تكون القاف مفتوحة والطاء ساكنة (وقال) أي في خطبته بعد فراغه من
هذه الآيات التي يرسل الله، لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله بها عباده،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/287)


صلاة الكسوف (هذه الآيات) أي كسوف النيرين والزلزلة وهبوب الريح الشديدة (ولكن يخوف الله بها) أي بالآيات (عباده) قال الله تعالى: ?وما نرسل بالآيات إلا تخويفا? قال القسطلاني: فالكسوف من آياته تعالى المخوفة، إما أنه آية من آيات الله فلأن الخلق عاجزون عن ذلك، وإما أنه من الآيات المخوفة فلأن تبديل الطاعا بعد الإيمان الصلاة. وفيه رد على أهل الهيئة حيث قالوا: إن الكسوف أمر عادي لا تأخير فيه ولا تقديم؛ لأنه لو كان كما زعموا لم يكن فيه تخويف ولا فزع، ولم يكن للأمر بالصلاة والصدقة معنى. ولئن سلمنا ذلك فالتخويف باعتبار أنه يذكر القيامة لكونه أنموذجا قال الله تعالى: ?فإذا برق البصر. وخسف القمر?الآية [القيامة: 7]، ومن ثم قام – عليه السلام – فزعا فخشي أن تكون الساعة، وكان – عليه السلام – إذا اشتد هبوب الرياح تغير ودخل وخرج خشية أن تكون الريح كريح عاد، وإن كان هبوب الرياح أمرا عاديا، وقد كان أرباب الخشية والمراقبة يفزعون من أقل من ذلك، إذ كل ما في العالم علويه وسفليه دليل على نفوذ قدرة الله تعالى وتمام قهره. وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعمه أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة والحاكم بلفظ: ((إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، وإن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له))، وقد استشكل الغزالي هذه الزيادة، وقال: إنها غير صحيحة نقلا، فيجب تكذيب ناقلها، وبنى ذلك على أن قول الفلاسفة في باب الكسوف والخسوف حق لما قام عليه من البراهين القطعية، وهو أن خسوف القمر عبارة عن انمحاء ضوئه بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث أنه يقتبس نوره من الشمس والأرض كرة، والسماء محيطة بها من الجوانب، فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس، وأن كسوف الشمس معناه وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس، وذلك عند

(9/288)


اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة. قال ابن القيم: إسناد هذه الرواية لا مطعن فيه ورواته ثقات حفاظ، ولكن لعل هذه اللفظة مدرجة في الحديث من كلام بعض الرواة، ولهذا لا توجد في سائر أحاديث الكسوف، فقد روى حديث الكسوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر صحابيا فلم يذكر أحد منهم في حديثه هذه اللفظة، فمن ههنا نشأ احتمال الإدراج، وقال السبكي: قول الفلاسفة صحيح كما قال الغزالي، لكن إنكار الغزالي هذه الزيادة غير جيد، فإنه مروي في النسائي وغيره، وتأويله ظاهر فأي بعد في أن العالم بالجزئيات ومقدر الكائنات سبحانه يقدر في أزل الأزل خسوفهما بتوسط الأرض بين الشمس والقمر، ووقوف جرم القمر بين الناظر والشمس
فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره)) متفق عليه.
1499- (6) وعن جابر قال: انكسفت الشمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/289)


ويكون ذلك وقت تجليه سبحانه وتعالى عليهما، فالتجلي سبب لكسوفهما، قضت العادة بأنه يقارن توسط الأرض ووقوف جرم القمر، لا مانع من ذلك ولا ينبغي منازعة الفلاسفة فيما قالوا إذا دلت عليه براهين قطعية – انتهى. قال السندي: ويحتمل أن المراد إذا بدا – هذا لفظ أحمد والنسائي – أي بدو الفاعل للمفعول أي إذا تصرف في شيء من خلقه بما يشاء خشع له أي قبل ذلك ولم يأب عنه – انتهى. وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: ((يخوف الله بهما عباده)) وليس بشيء؛ لأن لله أفعالا على حسب الأسباب العادية، وأفعالا خارجة عن تلك الأسباب، وقدرته حاكمة على كل سبب ومسبب، فيقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فأصحاب المراقبة لله ولأفعاله الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانيته وعموم قدرته على خرق العادة واقتطاع المسببات عن أسبابها وأنه يفعل ما يشاء، إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة اعتقادهم المذكور، وذلك لا يمنع أن يكون ثمة أسباب تجرى عليها العادة إلى يشاء الله تعالى خرقها، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند اشتداد هبوب الريح يتغير ويدخل ويخرج خشية أن تكون كريح عاد، وإن كان هبوب الريح موجودا في العادة، وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفا لعباد الله تعالى، وذكر ابن القيم في كتاب مفتاح السعادة توجيها آخر لذلك، وقد نقله السيوطي في حاشية النسائي فارجع إليها. (فإذا رأيتم شيئا من ذلك) أي مما ذكر من الآيات (فافزعوا) بفتح الزاي أي التجأوا من عذابه أو توجهوا (إلى ذكره) ومنه الصلاة (ودعاء واستغفاره) يقال: فزعت إلى الشيء أي لجأت إليه، ويقال: فزعت إلى فلان فأفزعني أي لجأت إليه فألجأني واستعنت به فأعانني، في الحديث إشارة إلى المبادرة إلى ما أمر به، وتنبيه على الالتجاء إلى الله تعالى عند المخاوف بالدعاء

(9/290)


والاستغفار، وإشارة إلى أن الذنوب سبب البلايا والعقوبات العاجلة أيضا، وأن الاستغفار والتوبة سببان للمحو يرجى بهما زوال المخاوف. قال الحافظ: استدل بالحديث على أن الأمر لمبادرة إلى الذكر والدعاء والاستغفار وغير ذلك لا يختص بالكسوفين؛ لأن الآيات أعم من ذلك، ولم يقع في هذه الرواية ذكر الصلاة، فلا حجة فيه لمن استحبها عند كل آية، وقال العيني: قوله ((فافزعوا إلى ذكر الله)) حجة لمن قال ذلك؛ لأن الصلاة يطلق عليها ذكر الله؛ لأن فيها أنواعا من ذكر الله تعالى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا النسائي والبيهقي (ج3 ص340).
1499- قوله (انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وأمه
فصلى بالناس ست ركعات بأربع سجدات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/291)


مارية قبطية سرية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد أهداها إليه المقوقس صاحب الاسكندرية ومصر، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي وهو ابن ستة عشر شهرا، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وهو أصح، ودفن بالبقيع، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن له مرضعا يتم رضاعه في الجنة))، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات بالمدينة في السنة العاشرة من الهجرة، ثم اختلفوا، فقيل: في ربيع الأول، وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي الحجة، قيل: في عاشر الشهر، وعليه الأكثر، وقيل: في رابعه، وقيل: في رابع عشرة، ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذ ذاك بمكة في الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف، نعم قيل: إنه مات سنة تسع، فإن ثبت يصح، وذكر الواقدي أنه مات يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر، وتقدم قول ابن تيمية: أنه من نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب، وتقدم أيضا الإشارة إلى تحقيق المرحوم محمود باشا الفلكي ليوم الكسوف الذي حصل في السنة العاشرة يوم مات فيه إبراهيم – عليه السلام -. وحاصله أن الشمس كسفت بالمدينة في الساعة 8 والدقيقة 30 صباحا يوم الاثنين 29 شوال سنة 10 الموافق ليوم 27 يناير سنة 632 ميلادية، وعلى هذا يكون ولادته في جمادى الأولى سنة 9، وعمره ثمانية عشر شهرا أو سبعة عشر أو ستة عشر على اختلاف في الروايات بإدخال شهري الميلاد والوفاة على الأول وإخراجهما على الثالث وإدخال أحدهما على الثاني (فصلى بالناس ست ركعات) أي ركوعات إطلاقا للكل وإرادة الجزء (بأربع سجدات) أي في ركعتين فيكون في كل ركعة ثلاث ركوعات وسجدتان، قال الطيبي: أي صلى ركعتين كل ركعة بثلاث ركوعات – انتهى. والحديث قد اختلف فيه على جابر، فروى عنه عطاء كما ترى فصلى بالناس ست ركعات، وروى عنه أبوالزبير أنه صلى ركعتين بأربع ركوعات، أخرجه مسلم وأحمد والنسائي،

(9/292)


ورواية عطاء مع كونها في صحيح مسلم قد أعلها البيهقي، إذ قال (ج 3 ص326) بعد رواية حديث جابر من طريق عطاء مطولا ما لفظه: من نظر في هذه القصة وفي القصة التي رواها أبوالزبير عن جابر علم أنه قصة واحدة، وأن الصلاة التي أخبر عنها إنما فعلها يوم توفي إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اتفقت رواية عروة بن الزبير وعمرة بنت عبدالرحمن عن عبدالله بن عمر، ورواية عطاء بن يسار وكثيرة بن عباس عن ابن عباس، ورواية أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عبدالله بن عمر، ورواية أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلاها ركعتين في كل ركعة ركوعين، وفي حكاية أكثرهم قوله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله...))الخ دلالة على أنه صلاها يوم توفي ابنه فخطب، وقال هذه المقالة ردا لقولهم: إنما كسفت لموته، وفي اتفاق هؤلاء العدد مع فضل حفظهم دلالة على أنه لم يزد في كل ركعة على ركوعين، كما ذهب إليه الشافعي ومحمد بن إسماعيل البخاري – رحمهما الله تعالى – انتهى. وحاصله أن رواية أبي الزبير عن جابر أرجح لاتفاق الشيخين على
رواه مسلم.
1500- (7) وعن ابن عباس قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كسفت الشمس ثمان ركعات في أربع سجدات. وعن علي مثل ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تخريجها، ورواية عطاء مرجوحة لانفراد مسلم بها، وقد تقدم منا أن رواية تثليث الركوع وتربيعه في كل ركعة صحيحة، لكن رواية الركوعين في كل ركعة أصح وأكثر وأشهر فيجب ترجيحها وتتعين هي للعمل؛ لأنه إنما يؤخذ بالأصح، فالأصح من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3 ص326).

(9/293)


1500- قوله (ثمان ركعات) أي ركوعات (في أربع سجدات) يعني ركع ثمان مرات كل أربع في ركعة وسجد في كل ركعة سجدتين، وقد رواه مسلم من طريق آخر بلفظ: أنه صلى في كسوف قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ركع ثم قرأ ثم ركع ثم سجد، قال: والأخرى مثلها، والحديث يدل على أنه من جملة صفات صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة أربع ركوعات، وهو مع كونه في صحيح مسلم قد أعله البيهقي فقال (ج3 ص327) بعد روايته: وأما محمد بن إسماعيل البخاري فإنه أعرض عن هذه الروايات التي فيها خلاف رواية الجماعة، وقد روينا عن عطاء بن يسار وكثير بن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلاها ركعتين في كل ركعة ركوعان، وحبيب بن أبي ثابت وإن كان من الثقات فقد كان يدلس – وصفه بذلك ابن خزيمة والدارقطني وابن حبان وغيرهم -، ولم أجده ذكر سماعه في هذا الحديث عن طاوس، قال: وقد روى سليمان عن طاوس عن ابن عباس من فعله أنه صلاها ست ركعات في أربع سجدات، فخالفه في الرفع والعدد جميعا – انتهى. وفيه أن إخراج مسلم لحديث حبيب بن أبي ثابت في صحيحه دليل على أنه ثبت عنده أنه متصل وأنه لم يدلس فيه. قال النووي: ما في الصحيحين عن المدلس بعن ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى، فالحديث صحيح، وأما رواية سليمان الموقوفة فلا تعلل بها الرواية المرفوعة الصحيحة؛ لأن العبرة لما روى الراوي لا لما رأى كذا قيل، وقد تقدم كلام ابن تيمية أن الصواب مع من أنكر على مسلم ونازعه في إخراجه حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأربع ركوعات، وأن هذا من المواضع المنتقدة بلا ريب، وبالجملة هذا الحديث وإن كان مخرجا في صحيح مسلم لكن العمل على روايات الركوعين لكونها أكثر وأصح وأشهر وأرجح، والله تعالى أعلم. (وعن علي مثل ذلك) أي وروي عنه مثل رواي ابن عباس، كذا أحاله على حديث ابن عباس ولم يذكر لفظه. وقد أسلفنا أن حديث علي في تربيع الركوع أخرجه أحمد والبيهقي عنه مرفوعا من طريق

(9/294)


رواه مسلم.
1501- (8) وعن عبدالرحمن بن سمرة قال: كنت أرتمي بأسهم لي بالمدينة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ كسفت الشمس، فنبذتها، فقلت: والله لأنظرن إلى ما حدث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس؟ قال: فأتيته وهو قائم في الصلاة، رافع يديه، فجعل يسبح ويهلل ويكبر ويحمد ويدعو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحسن بن حر عن الحكم عن حنش عن علي، وقيل: المراد من قوله: وعن علي مثل ذلك، أي من فعله؛ لأنه لو كان من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لجعله حديثا على حدة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص327).

(9/295)


1501- قوله (وعن عبدالرحمن بن سمرة) - بفتح السين المهملة وضم الميم وسكونها - ابن حبيب بن عبد شمس العبشمي يكنى أباسعيد، أسلم يوم فتح مكة، وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقال: كان اسمه عبد كلال، وقيل غير ذلك، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدالرحمن، وشهد غزوة تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم شهد فتوح العراق، وهو الذي افتتح سجستان وكابل وغيرهما في خلافة عثمان، ثم نزل البصرة ومات بها سنة (50) أو بعدها. (كنت أرتمي) افتعال من الرمي، أي أرمي كما وقع في رواية أخرى لمسلم: كنت أرمي أي باب ضرب، وفي أخرى له: بينما أترمى أي من باب التفعل، وفي بعض النسخ: أترامي، أي من باب التفاعل، قال في المجمع (ج2 ص40): خرجت أرتمي بأسهمي، وروي أترامى رميت بالسهم، وارتميت وتراميت وراميت إذا رميت به عن القسي، وقيل:خرجت أرتمي إذا رميت القنص، وأترمى إذا خرجت ترمي في الأهداف ونحوها – انتهى. وقال النووي: قوله: كنت أرتمي بأسهم، أي أرمي، كما قاله في الرواية الأولى، يقال: أرمي وأرتمي وأترامي وأترمى كما قاله في الرواية الأخيرة (بأسهم) جمع سهم (في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي امتثالا لقوله تعالى: ?وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة? [الأنفال: 40]، فإنه صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسرها بالرمي، وقال: ((من تعلم الرمي فتركه فليس منا))، (فنبذتها) أي وضعت السهام وألقيتها (فقلت) أي في نفسي (لأنظرن) أي لأبصرن (إلى ما حدث) أي تجدد من السنة (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس) زعم عبدالرحمن أنه لابد أن يقرر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف شيئا من السنن، فأراد أن ينظره (وهو قائم في الصلاة رافع يديه) قال النووي: فيه دليل لأصحابنا في رفع اليدين في القنوت، ورد على من يقول لا ترفع الأيدي في دعوات الصلاة

(9/296)


حتى حسر عنها، فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين، رواه مسلم في صحيحه عن عبدالرحمن بن سمرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(حتى حسر عنها) على بناء المفعول أي أزيل الكسوف عن الشمس، ويحتمل أن لا يكون في "حسر" ضمير، ويكون مسندا إلى الجار والمجرور، أي أزيل وكشف ما بها (فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين) هذا صريح في أنه شرع في الصلاة بعد الانجلاء، وهو خلاف لسائر الروايات، فقال بعضهم: إن هذه الصلاة كانت تطوعا مستقلا بعد انجلاء الكسوف، لا أنها صلاة الكسوف، وهذا مخالف لظاهر قوله: فأتيته وهو قائم في الصلاة...الخ، وقال في اللمعات: صلى ركعتين، أي أتم صلاته التي كان شرع فيها وحسر عنها في أثنائها، وقال الطيبي: يعني دخل في الصلاة ووقف في القيام الأول وطول التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد حتى ذهب الخسوف، ثم قرأ القرآن وركع ثم سجد، ثم قام في الركعة الثانية وقرأ فيها القرآن وركع وسجد وتشهد وسلم – انتهى. وقال النووي بعد ذكر رواية مسلم بلفظ: فانتهيت إليه وهو رافع يديه يدعو ويكبر ويحمد ويهلل حتى جلي عن الشمس، فقرأ سورتين وركع ركعتين ما لفظه: هذا مما يستشكل ويظن أن ظاهره أنه ابتدأ صلاة الكسوف بعد انجلاء الشمس، وليس كذلك، فإنه لا يجوز ابتداء صلاتها بعد انجلائها، وقوله: فانتهيت إليه وهو رافع يديه، محمول على أنه وجده في الصلاة، كما في الرواية الأخرى: فأتيته وهو قائم في الصلاة، ثم جمع الراوي جميع ما جرى في الصلاة من دعاء وتكبير وتهليل وتحميد وتسبيح وقراءة سورتين في القيامين الأخيرين للركعة الثانية، وكانت السورتان بعد الانجلاء تتميما للصلاة فتمت جملة الصلاة ركعتين، أولها في حال الكسوف، وآخرها بعد الانجلاء، وهذا الذي ذكرته من تقديره لابد منه جمعا بين الروايتين؛ لأنه مطابق للرواية الثانية ولقواعد الفقه ولروايات باقي الصحابة – انتهى. لكن هذا الجواب لا يوافق رواية النسائي

(9/297)


لحديث عبدالرحمن بن سمرة بلفظ: فأتيته مما يلي ظهره وهو في المسجد، فجعل يسبح ويكبر ويدعو حتى حسر عنها، قال: ثم قام فصلى ركعتين وأربع سجدات – انتهى. وعلى هذا فالترجيح لسائر الروايات التي تدل على أن انجلاء كان في جلوس التشهد بعد الركعة الثانية وقبل السلام، وظاهر هذا الحديث أنه صلى ركعتين كل ركعة بركوع، وهو أيضا مستبعد بالنظر إلى سائر الروايات، وتأوله المازري على أنها كانت صلاة تطوع بعد الانجلاء لا صلاة كسوف فإنه إنما صلى بعد الانجلاء وابتداءها بعد الانجلاء لا يجوز، وضعفه النووي بمخالفة لقوله: فأتيته وهو قائم في الصلاة...الخ، فتأوله هو على أن قوله: صلى ركعتين يعني في كل ركعة قيامان وركوعان – انتهى. وقال القرطبي: يحتمل أنه إنما أخبر عن حكم ركعة واحدة وسكت عن الركعة الأخرى – انتهى. وهذا يرده لفظ النسائي: فصلى ركعتين أو أربع سجدات، فالصواب أن يقال: إن الترجيح لروايات الركوعين في كل ركعة لكونها صريحة، ولكونها أصح وأشهر وأكثر، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم في صحيحه عن عبدالرحمن بن سمرة) وأخرجه أيضا أحمد
وكذا في شرح السنة عنه، وفي نسخ المصابيح عن جابر بن سمرة.
1502- (9) وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعتاقة في كسوف الشمس، رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
1503- (10) عن سمرة بن جندب قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوف لا نسمع له صوتا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/298)


(ج5 ص61-62) وأبوداود والنسائي والحاكم (ج1ص129)، والبيهقي (ج3 ص332)، (وكذا في شرح السنة) للبغوي صاحب المصابيح (عنه) أي عن عبدالرحمن بن سمرة (وفي نسخ المصابيح عن جابر بن سمرة) أي بدل عبدالرحمن بن سمرة، فالظاهر أن ما في المصابيح من خطأ الناسخ وسهوه، ويؤيد ذلك رواية صاحب المصابيح هذا الحديث في شرح السنة عن عبدالرحمن بن سمرة، قال المؤلف: وجدت حديث عبدالرحمن بن سمرة في صحيح مسلم وكتاب الحميدي والجامع وفي شرح السنة بروايته، ولم أجد لفظ المصابيح في الكتب المذكورة برواية جابر بن سمرة، ذكره الطيبي، كذا في المرقاة.
1502- قوله (لقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعتاقة) بفتح العين المهملة أي الإعتاق يعني فك الرقاب من العبودية (في كسوف الشمس) فيه مشروعية الإعتاق عند الكسوف، والأمر محمول على الاستحباب دون الوجوب بالإجماع، والإعتاق وسائر الخيرات مأمور بها في خسوف الشمس والقمر؛ لأن الخيرات تدفع العذاب (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد ((ج6 ص345) وأبوداود والحاكم (ج1 ص332) والبيهقي (ج3 ص340).
1503- قوله (في كسوف) أي للشمس كما في رواية أبي داود والنسائي وغيرهما (لا نسمع له صوتا) قال القاري وغيره: هذا يدل على أن الإمام لا يجهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس – انتهى. وقال السندي: يمكن أنه حكاية لحال من كان مع سمرة في الصفوف البعيدة، ولا يلزم من عدم سماعهم نفي الجهر – انتهى. وكذا قال المجد بن تيمية في المنتقى، وابن حبان في صحيحه، لكن في رواية سمرة المطولة عند أبي داود والنسائي والبيهقي وغيرهم ما يدفع هذا الاحتمال كما لا يخفى على المتأمل، والصواب أن يقال: إن أحاديث الجهر – حديث عائشة المتقدم في أول الباب وحديث أسماء عند البخاري على ما ذكره الزيلعي في نصب الراية، وابن الهمام في فتح القدير، وحديث علي عند ابن خزيمة والطحاوي – نصوص صريحة في الجهر، وحديث سمرة وما في معناه إن ثبت

(9/299)


رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
1504- (11) وعن عكرمة قال: قيل لابن عباس: ماتت فلانة – بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - - فخر ساجدا، فقيل له: تسجد في هذه الساعة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس بنص في السر ونفي الجهر ولا يوازي أحاديث الجهر في الصحة، فيتعين تقديم أحاديث الجهر لكونها أصح، ولكونها متضمنة للزيادة ولكونها مثبتة (رواه الترمذي) وصححه (وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري (والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص16) وابن حبان والبيهقي (ج3 ص339) والطحاوي والحاكم (ج1 ص331، 334) وصححه، وقال ابن حزم في المحلى (ج5 ص102): هذا لا يصح؛ لأنه لم يروه – عن سمرة – إلا ثعلبة بن عباد وهو مجهول – انتهى. وقال الحافظ في التهذيب (ج2 ص24) في ترجمة ثعلبة: هذا ذكره ابن المديني في المجاهيل الذين يروي عنهم الأسود بن قيس، وأما الترمذي فصحح حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حزم: مجهول، وتبعه ابن القطان، وكذا نقل ابن المواق عن العجلي – انتهى. وقال في التلخيص: وأعله ابن حزم بجهالة ثعلبة بن عباد راويه عن سمرة، وقد قال ابن المديني: إنه مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، مع أنه لا راوي له إلا الأسود بن قيس – انتهى. والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه مختصرا، وأبوداود وابن حبان مطولا وأحمد والنسائي والحاكم والبيهقي مطولا ومختصرا.

(9/300)


1504- قوله ( وعن عكرمة) مولى ابن عباس (ماتت فلانة) هي صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي رواية للبيهقي (ج3 ص343) قال عكرمة: سمعنا صوتا بالمدينة، فقال لي ابن عباس يا عكرمة ! انظر ما هذا الصوت؟ قال: فذهبت فوجدت صفية بنت حيي امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توفيت....الحديث، وفي تهذيب الكمال للحافظ المزي عن عكرمة قال: توفيت بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال إسحاق بن راهويه: أظنه سماها صفية بنت حيي بالمدينة، فأتيت ابن عباس فأخبرته...الخ، كذا في حاشية تهذيب التهذيب (ج4 ص128). (بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -) الظاهر أن الراوي نسي اسمها فكنى عنها بلفظ فلانة، ثم بين أن المراد بقوله فلانة بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بالرفع بدل أو بيان أو خبر مبتدأ محذوف والنصب بتقدير يعني (فخر) أي سقط ووقع (ساجدا) أي آتيا بالسجود (فقيل له تسجد) بحذف الاستفهام (في هذه الساعة) وفي الترمذي وأبي داود والبيهقي: تسجد هذه الساعة، أي بحذف حرف الجر قبل هذه الساعة، وكان الوقت وقت كراهة الصلاة،فقاسوا عليها كراهة السجدة، ففي رواية البيهقي المذكورة: قال عكرمة: فجئت إلى ابن عباس فوجدته ساجدا ولما تطلع الشمس، فقلت: سبحان الله تسجد ولم تطلع الشمس
فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم آية فاسجدوا))، وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -؟، رواه أبوداود، والترمذي.
?الفصل الثالث?
1505- (12) عن أبي بن كعب قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بهم، فقرأ بسورة من الطول،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/301)


بعد...الخ، وفي رواية تهذيب الكمال: فأتيت ابن عباس فأخبرته فسجد، فقلت له: أتسجد ولما تطلع الشمس...الخ، (إذا رأيتم آية) أي علامة مخوفة، قال الطيبي: قالوا: المراد بها العلامات المنذرة بنزول البلايا والمحن التي يخوف الله بها عباده، ووفاة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من تلك الآيات؛ لأنهن ضممن إلى شرف الزوجية شرف الصحبة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أمنة أصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة أهل الأرض...)) الحديث، فهن أحق بهذا المعنى من غيرهن، فكانت وفاتهن سالبة للأمن، وزوال الأمنة موجب الخوف (فاسجدوا) قال الطيبي: هذا مطلق، فإن أريد بالآية خسوف الشمس والقمر فالمراد بالسجود الصلاة، وإن كانت غيرها كمجيء الريح الشديدة والزلزلة وغيرهما، فالسجود هو المتعارف، ويجوز الحمل على الصلاة أيضا لما ورد: ((كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)) – انتهى. قلت: قد ثبت عن ابن عباس أنه صلى في زلزلة بالبصرة، كما روى البيهقي (ج3 ص343). (وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -)؛ لأن لهن فضل الصحبة مع فضل خاص ثابت للزوجية ليس لأحد من الأصحاب، وأيضا بذهابهن يذهب ما تفردن من العلم بأحواله - صلى الله عليه وسلم -، قال القاري: لأنهن ذوات البركة فبحياتهن يدفع العذاب عن الناس ويخاف العذاب بذهابهن، فينبغي الالتجاء إلى ذكر الله والسجود عند انقطاع بركتهن ليندفع العذاب ببركة الذكر والصلاة – انتهى. ولفظ البيهقي في الرواية التي ذكرنا أولها فقال - أي ابن عباس -: يا لا أم لك، أليس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم آية فاسجدوا))، فأي آية أعظم من أن يخرجن أمهات المؤمنين من بين أظهرنا ونحن أحياء؟ (رواه أبوداود) وسكت عنه (والترمذي) وقال: هذا حديث غريب، وأخرجه أيضا البيهقي. قال المنذري: في إسناده سلم بن جعفر – البكراوي، أبوجعفر الأعمى -، قال يحيى بن كثير العنبري:

(9/302)


صاحبه كان ثقة، وقال الموصلي: يعني أباالفتح الأزدي: متروك الحديث لا يحتج به، وذكر هذا الحديث – انتهى. قلت: وثقه أيضا ابن المديني، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال في التقريب: صدوق تكلم فيه الأزدي بغير حجة.
1505- قوله (فصلى بهم) أي صلاة الكسوف (فقرأ بسورة من الطول) بضم الطاء وتكسر وبفتح
وركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم قام الثانية فقرأ بسورة من الطول، ثم ركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها. رواه أبوداود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/303)


الواو. قال الطيبي: جمع الطولي كالكبرى والكبر (وركع خمس ركعات) أي ركوعات (ثم قام الثانية) بالنصب على نزع الخافض، كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا في جامع الأصول (ج7 ص125) قال القاري: وفي نسخة أي من المشكاة: إلى الثانية – انتهى. وعند البيهقي: ثم قام في الثانية (ثم جلس كما هو) أي كائنا على الهيئة التي هو عليها (مستقبل القبلة) بالنصب أي جلس بعد الصلاة كجلوسه فيها يعني مستقبل القبلة (حتى انجلى كسوفها) أي انكشف وارتفع، والحديث دليل على أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة خمس ركوعات، لكنه معلول كما ستعرف، فلا يعارض أحاديث الركوعين (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا عبدالله بن أحمد في زيادات المسند (ج5 ص143)، والحاكم (ج1 ص333) والبيهقي (ج3 ص329)، وقد سكت عنه أبوداود، وقال المنذري: في إسناده أبوجعفر واسمه عيسى بن عبدالله بن ماهان الرازي، وفيه مقال، واختلف فيه قول ابن معين وابن المديني – انتهى. وقال الزيلعي: أبوجعفر الرازي فيه مقال، قال النووي في الخلاصة: لم يضعفه أبوداود، وهو حديث في إسناده ضعف – انتهى. وقال البيهقي: هذا إسناد لم يحتج بمثله صاحبا الصحيح، وهذا توهين منه للحديث بأن سنده مما لا يصلح للاحتجاج به، وقال الحاكم: الشيخان قد هجرا أباجعفر الرازي ولم يخرجا عنه، وحاله عند سائر الأئمة أحسن الحال، وهذا الحديث فيه ألفاظ ورواته صادقون – انتهى. وتعقبه الذهبي فقال: خبر منكر، وعبدالله بن أبي جعفر – الراوي عن أبي جعفر عند أبي داود والحاكم – ليس بشيء، وأبوه فيه لين – انتهى. وقال النيموي: في إسناده لين، وقال الشوكاني: وروي عن ابن السكن تصحيح هذا الحديث – انتهى. قلت: في تصحيحه نظر قوي، فإن أباجعفر الرازي قد تفرد بهذا الحديث عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب، وأبوجعفر مختلف فيه وثقه ابن معين في رواية إسحاق بن منصور والدوري، ووثقه أيضا ابن المديني في رواية وابن عمار الموصلي

(9/304)


وأبوحاتم وابن سعد والحاكم وابن عبدالبر، وقال أحمد - في رواية – والنسائي والعجلي: ليس بالقوي، وقال عمرو بن علي الفلاس وابن خراش: هو من أهل الصدق سيء الحفظ، وقال أبوزرعة: شيخ يهم كثيرا، وقال ابن حبان: كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير لا يعجبني الاحتجاج بحديثه إلا فيما وافق الثقات، وقال الحافظ في التقريب: صدوق سيء الحفظ – انتهى. والربيع بن أنس ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه؛ لأن في أحاديثه عنه اضطرابا كثيرا – انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن من وثق أباجعفر الرازي فإنما وثقه لكونه من أهل الصدق والستر والصلاح، ومن تكلم فيه إنما تكلم لسوء حفظه، ومن المعلوم أن الراوي إذا كان سيء الحفظ لا يحتج بحديثه إذا تفرد به، والله أعلم.
1506- (13) وعن النعمان بن بشير قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها، حتى انجلت الشمس،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/305)


1506- قوله (فجعل يصلي ركعتين ركعتين) أي ركوعين ركوعين في كل ركعة (ويسأل عنها) أي يسأل الله بالدعاء أن يكشف عنها أو يسأل الناس عن انجلائها، أي كلما صلى ركوعين يسأل بالإشارة هل انجلت؟ قال الحافظ: إن كان هذا الحديث محفوظا احتمل أن يكون معنى قوله: ركعتين أي ركوعين، وقد وقع التعبير عن الركوع بالركعة في حديث الحسن البصري: خسف القمر وابن عباس بالبصرة فصلى ركعتين في كل ركعة ركعتان... الحديث، أخرجه الشافعي، وأن يكون السؤال وقع بالإشارة، فلا يلزم التكرار، وقد أخرج عبدالرزاق بإسناد صحيح عن أبي قلابة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان كلما ركع ركعة أرسل رجلا ينظر هل انجلت؟ فتعين الاحتمال المذكور، وإن ثبت تعدد القصة زال الإشكال – انتهى. وقال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي الحنفي في معنى هذا الحديث: قوله: "فجعل يصلي ركعتين ركعتين" كلمة جعل توهم أن المعنى أخذ في صلاة ركعتين ثم ركعتين، وهو ينافي سائر ما نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف، إذ لم يرو أحد منهم زيادة على ركعتين، فالصحيح أن ركعتين بمعنى ركوعين تأكيد للأولى منهما، وعلى هذا فالمعنى ظاهر، وبذلك يظهر إيراد أبي داود هذا الحديث في باب من قال يركع ركعتين، وإنما افتقر إلى تأكيد في أمر الركوعين لمزيد الاختلاف قوله ويسأل عنها أي يدعو الله في شأنها وشأن أنفسهم أن ينجي كلامنا عما يؤخذ فيه – انتهى. قال صاحب البذل: يؤيد ذلك رواية الطحاوي بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ويسلم ويسأل حتى انجلت، فإنه ليس فيها لفظ عنها بل فيها ويسأل، وكذلك يؤيده حديث أحمد في مسنده (ج4 ص267، 269)، فإنه ليس فيه لفظ عنها، وكذلك يؤيده ما أخرجه الحاكم من طريق معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير: إن الشمس انكسفت، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، فإنه ليس فيه تكرار ركعتين ولا ذكر السؤال، قال: لكن يخالف ما قال الشيخ حديث أحمد، فإن فيه: كان

(9/306)


يصلي ركعتين ثم يسأل ثم يصلي ركعتين ثم يسأل حتى انجلت، فإنه صريح في أنه يصلي ركعتين ثم ركعتين – انتهى. قلت: في كون حديث النعمان بن بشير محفوظا نظر، فإنه مخالف لجميع الروايات الصحيحة في حكاية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكسوف الشمس، فإنها صريحة في الاقتصار على ركعتين وصريحة في الزيادة على الركوع، ولذا أعل البيهقي وغيره حديث النعمان وإن صححه ابن حزم وغيره فيتعين تقديم الأحاديث التي فيها أنه صلى ركعتين في كل ركعة ركوعان، قال ابن قدامة في المغني (ج3 ص424): فأما أحاديث الحنفية فمتروكة غير معمول بها باتفاقنا، فإنهم قالوا: يصلي ركعتين، وحديث النعمان أنه يصلي ركعتين ثم ركعتين حتى انجلت الشمس، وحديث قبيصة فيه أنه يصلي كأحدث صلاة صليتموها، وأحد الحديثين يخالف الآخر ثم حديث قبيصة
رواه أبوداود، وفي رواية النسائي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى حين انكسفت الشمس مثل صلاتنا يركع ويسجد، وله في أخرى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوما مستعجلا إلى المسجد، وقد انكسفت الشمس،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/307)


مرسل، ثم يحتمل أنه صلى ركعتين في كل ركعة ركوعين، ولو قدر التعارض لكان الأخذ بأحاديثنا أولى لصحتها وشهرتها واتفاق الأئمة على صحتها، والأخذ بها واشتمالها على الزيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، ثم هي نافلة عن العادة، وقد روي عن عروة أنه قيل له: إن أخاك صلى ركعتين، فقال: إنه أخطأ السنة – انتهى. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وأخرجه أيضا وأحمد والطحاوي (ص195) والبيهقي (ج3 ص332)، وهو عند أحمد (ج4 ص269) وأبي داود والطحاوي من طريق أبي قلابة عن النعمان بن بشير، وعند البيهقي من طريق أبي قلابة عن رجل عن النعمان بن بشير، وكذا عند أحمد في رواية أخرى (ج4 ص267) وأخرجه النسائي عن أبي قلابة عن قبيصة الهلالي، وأخرجه البيهقي عن أبي قلابة عن هلال بن عامر عن قبيصة الهلالي، قال الزيلعي: تكلموا في سماع أبي قلابة من النعمان، قال ابن أبي حاتم في علله: قال أبي: قال يحيى بن معين: قد أدرك أبوقلابة النعمان بن بشير ولا أعلم أسمع منه أو لا؟ وقد رواه عفان – عند أحمد – عن عبدالوارث عن أيوب عن أبي قلابة عن النعمان، وروي عنه عن قبيصة بن مخارق الهلالي، وروي عنه عن هلال بن عامر عن قبيصة – انتهى. وقال النووي في الخلاصة بعد ذكر رواية أبي داود: إسناده صحيح، إلا أنه بزيادة رجل بين أبي قلابة والنعمان، ثم اختلف في ذلك الرجل – انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج5 ص98): أبوقلابة قد أدرك النعمان، فروى هذا الخبر عنه، ورواه أيضا عن آخر فحدث بكلنا روايتيه، ولا وجه للتعلل بمثل هذا أصلا ولا معنى له – انتهى. وصححه ابن عبدالبر في التمهيد، وقال البيهقي بعد بسط الاختلاف في إسناده ومتنه ما لفظه: فألفاظ هذه الأحاديث تدل على أنها راجعة إلى الإخبار عن صلاته يوم توفي ابنه – عليهما السلام -، وقد أثبت جماعة من أصحاب الحفاظ عدد ركوعه في كل ركعة، فهو أولى بالقبول من رواية من لم يثبته – انتهى. (وفي رواية النسائي) من حديث أبي قلابة عن النعمان،

(9/308)


وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص271، 277). (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -) وفي النسائي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صلى حين انكسفت الشمس مثل صلاتنا) أي المعهودة فيفيد اتحاد الركوع، أو مثل ما نصلي في الكسوف فيلزم توقفه على معرفة تلك الصلاة، قاله السندي، قلت: الحديث بظاهره يؤيد الحنفية لكونه يفيد اتحاد الركوع، لكن أحاديث الركوعين في كل ركعة أصح وأشهر (وله) أي للنسائي (في أخرى) أي في رواية أخرى يعني من طريق الحسن عن النعمان عن النعمان بن بشير (خرج يوما مستعجلا) يجر رداءه
فصلى حتى انجلت، ثم قال: ((إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلا لموت عظيم من عظماء أهل الأرض، وإن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما خليقتان من خلقه، يحدث الله في خلقه ما شاء، فأيهما انخسف فصلوا حتى ينجلي، أو يحدث الله أمرا)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/309)


كما رواية البيهقي (فصلى) زاد في رواية الحاكم وعند ابن ماجه والبيهقي (ج3 ص233) والنسائي في رواية: فلم يزل يصلي (إلا لموت عظيم من عظماء أهل الأرض وإن الشمس) وفي رواية البيهقي وابن ماجه والنسائي المذكورة وليس كذلك، إن الشمس (ولكنهما خليقتان من خلقه) قال الطيبي: أي مخلوقتان ناشئتان من خلق الله تعالى المتناول لكل مخلوق على التساوي، ففيه تنبيه على أنه لا أثر لشيء منهما في الوجود، قال في نهاية: الخلق الناس، والخليقة البهائم، وقيل: هما بمعنى واحد، يعني المعنى الأعظم. قال الطيبي: والمعنى الأول أنسب في هذا المقام؛ لأنه رد لزعم من يرى أثرهما في هذا العالم بالكون والفساد أي ليس كما يزعمون، بل هما مسخران كالبهائم، دائبان مقهوران تحت قدرة الله تعالى، وفي هذا تحقير لشأنهما مناسب لهذا المقام (يحدث الله في خلقه ما شاء) وفي النسائي، وكذا البيهقي ((ما يشاء)) من من الكسوف والنور والظلمة، قال الطيبي: ((ما شاء)) مفعول المصدر المضاف إلى الفاعل، و"من" ابتدائية على ما تقدم بيانه – انتهى. يعني في قوله من خلقه (فأيهما انخسف فصلوا) وفي رواية البيهقي والنسائي المذكورة: ((إن الله عزوجل إذا بدأ لشيء من خلقه خشع له، فإذا رأيتم ذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة))، قال البيهقي: هذا مرسل أبوقلابة لم يسمعه من النعمان، إنما رواه عن رجل عن النعمان، وليس فيه هذه اللفظة الأخيرة – انتهى. (حتى ينجلي أو يحدث الله أمرا) تفوت به الصلاة كقيام الساعة أو وقوع فتنة مانعة من الصلاة، قال الطيبي: غاية لمقدر أي صلوا من ابتداء الانخساف منتهين إما إلى الإنجلاء أو إلى إحداث الله تعالى أمرا، وهذا القدر يربط الشيء بالجزاء لما فيه من العائد إلى الشرط – انتهى. ورواية النسائي هذه أخرجها أيضا البيهقي من طريق الحسن عن النعمان (ج3 ص333-334)، قال البيهقي: هذا أشبه أن يكون محفوظا، وأخرجها الحاكم من طريق أبي قلابة عن النعمان

(9/310)


وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، وأقره الذهبي، وهذا يدل على أنهما وافقا من قال بسماع أبي قلابة من النعمان بن بشير. فائدة: إن فرغ من الصلاة قبل انجلاء الشمس أي تمت الصلاة والكسوف قائم لا تعاد الصلاة ولا تكرر، بل يشتغل بالذكر والدعاء حتى تنجلي؛ لأن السنة في صلاة
(51) باب في سجود الشكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكسوف قد فرغوا عنها، ولم يزد النبي - صلى الله عليه وسلم - على ركعتين، وهو مذهب المالكية والحنابلة، وكذلك في ظاهر الرواية عند الحنفية، وإن انجلت الشمس كلها في أثناء الصلاة بعد تمام ركعة بركوعيها وسجدتيها أو قبل تمام الركعة الأولى بسجدتيها أتمها على سنتها وخففها ولا ينقص أحد الركوعين اللذين نواهما، وإليه ذهبت الحنابلة والشافعية، وإذا اجتمع صلاتان كالكسوف مع غيره من الجمعة أو صلاة مكتوبة أو الوتر أو التراويح، قال ابن قدامة: الصحيح عندي أن الصلوات الواجبة التي تصلى في الجماعة مقدمة على الكسوف بكل حال؛ لأن تقديم الكسوف عليها يفضي إلى المشقة لإلزام الحاضرين بفعلها مع كونها ليست واجبة عليهم وانتظارهم للصلاة الواجبة، مع أن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتخفيف الصلاة الواجبة كيلا يشق على المأمومين، فإلحاق المشقة بهذه الصلاة الطويلة الشاقة مع أنها غير واجبة أولى، وكذلك الحكم إذا اجتمعت مع التراويح قدمت التراويح لذلك، وإن اجتمعت مع الوتر في أول وقت الوتر قدمت؛ لأن الوتر لا يفوت، وإن خيف فوات الوتر قدم؛ لأنه يسير يمكن فعله وإدارك وقت الكسوف وإن لم يبق إلا قدر الوتر فلا حاجة بالتلبس بصلاة الكسوف؛ لأنها إنما تقع في وقت النهي، وإن اجتمع الكسوف وصلاة الجنازة قدمت الجنازة وجها؛ لأن الميت يخاف عليه – انتهى.

(9/311)


(باب في سجود الشكر) قال في اللمعات: السجدة المنفردة خارج الصلاة على عدة أقسام: منها سجدة الشكر على حصول نعمة واندفاع بلية، وفيها اختلاف: فعند الشافعي وأحمد سنة، وهو قول محمد، والأحاديث والآثار كثيرة في ذلك، وعند أبي حنيفة ومالك ليس بسنة، بل هي مكروهة، وهم يقولون: إن المراد بالسجدة الواقعة في تلك الأحاديث والآثار الصلاة، عبر عنها بالسجدة، وهو كثير إطلاقا للجزء على الكل، أو منسوخ، وقالوا: نعم الله لا تعد ولا تحصى، والعبد عاجز عن أداء شكرها، فالتكليف بها يؤدي إلى التكليف بما لا يطاق هذا، ولكن العاملين بها يريدون النعم العظيمة – انتهى. وقال القاري: سجدة الشكر عند حدوث ما يسر به من نعمة عظيمة وعند اندفاع بلية جسيمة سنة عند الشافعي، وليست بسنة عند أبي حنيفة خلافا لصاحبيه – انتهى. وقال السندي: ظاهر الأحاديث أن سجود الشكر مشروع، كما قال محمد من علمائنا وغيره، وكونه - صلى الله عليه وسلم - صلى شكرا ركعتين يوم بشر بقطع رأس أبي جهل في بدر لا ينافي شرع السجود شكرا كما جاء، وقال الشوكاني في النيل بعد ذكر أحاديث سجود الشكر ما لفظه: وهذه الأحاديث تدل على مشروعية سجود الشكر، وإلى ذلك ذهب أحمد والشافعي، وقال مالك، وهو مروي عن أبي حنيفة: إنه يكره، إذ لم يؤثر عنه - صلى الله عليه وسلم - مع تواتر النعم عليه - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية عن أبي حنيفة: أنه مباح؛ لأنه لم يؤثر، وإنكار ورود سجود الشكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من
وهذا الباب خال من الفصل الأول والثالث
?الفصل الثاني?
1507- (1) عن أبي بكرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه أمر سرورا – أو يسر به -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/312)


مثل هذين الإمامين مع وروده عنه - صلى الله عليه وسلم - من هذه الطرق التي ذكرها المصنف وذكرناها من الغرائب، ومما يؤيد ثبوت سجود الشكر قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سجدة ص: ((هي لنا شكر، ولداود توبة)) انتهى.
(وهذا الباب خال عن الفصل الأول) اعتذار عن صاحب المصابيح (والثالث) اعتذار عن نفسه، قال الشيخ الجزري: لم يذكر – أي صاحب المصابيح – من الصحاح حديثا فيه، أي في هذا الباب، وكل ما أورده فيه من الحسان، وقد وجدت منه في الصحاح عن كعب بن مالك أنه سجد لله شكرا لما بشر بتوبة الله عليه، وقصته مشهورة متفق عليها، كذا في المرقاة.

(9/313)


(1507) – قوله (عن أبي بكرة) صحابي، اسمه نفيع بن الحارث (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء أمر) بالتنوين للتعظيم، ولفظ ابن ماجه: ((كان إذا أتاه أمر))، قال السندي: أي عظيم جليل القدر رفيع المنزلة من هجوم نعمة منتظرة أو غير منتظرة مما يندر وقوعها لا ما يستمر وقوعها، إذ لا يقال في المستمر: إذا أتاه، فلا يرد قول من قال: لو ألزم العبد السجود عند كل نعمة متجددة عظيمة الموقع عند صاحبها لكان عليه أن لا يغفل عن السجود طرفة عين؛ لأنه لا يخلو عنها أدنى ساعة، فإن من أعظم نعمه على العباد نعمة الحياة، وذلك يتجدد عليه بتجدد الأنفاس عليه، على أنه لم يقل أحد بوجوب السجود ولا دليل عليه، وإنما غاية الأمر أن يكون السجود مندوبا، ولا مانع منه، فليتأمل. والله تعالى أعلم. (سرورا) نصب على تقدير يوجب أو حال بمعنى سارا، وقال القاري: بالنصب على نزع الخافض، أي لأجل حصوله أو على التمييز من النسبة أو بتقدير أعني يعني أمر سرور، وفي نسخة: أمر سرور على الوصفية للمبالغة أو على أن المصدر بمعنى الفاعل أو المفعول به أو على المضاف المقدر أي أمر ذو سرور، وفي نسخة: أمر سرور على الإضافة. قلت: وكذا وقع في أبي داود، قال في العون: أمر سرور بالإضافة – انتهى. وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص367)، قال القاري: وقال ابن حجر: قوله ((إذا جاءه أمر سرور)) أي إذا جاءه أمر عظيم حال كونه سرورا – انتهى. وهو لا يتم إلا بتقدير مضاف، أو يكون المصدر بمعنى الفاعل أو المفعول، أو على طريق المبالغة كرجل عدل (أو يسر به) بصيغة المضارع المجهول من السرور شك من الراوي، وفي بعض نسخ أبي داود: ((أو بشر به)) على بناء الماضي المجهول من التبشير، ولفظ ابن ماجه: ((إذا أتاه أمر يسره
خر ساجدا شاكرا لله تعالى)) رواه أبوداود، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن غريب".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/314)


أو يسر به)) (خر ساجدا شاكرا) وفي بعض النسخ: شاكرا بالنصب للعلة، وكذا نقله الجزري، والحديث صريح في مشروعية سجود الشكر، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، رأوا سجدة الشكر – انتهى. وحمل هذا الحديث وأمثاله على الصلاة بعيد غاية البعد، بل هو باطل جدا؛ لأنه لا دليل عليه. واعلم أنه قد اختلف هل يشترط لسجدة الشكر الطهارة أم لا؟ فقيل: يشترط قياسا على الصلاة، وقيل: لا يشترط، قال الأمير اليماني: وهو الأقرب، أي لأن الأصل أنه لا يشترط الطهارة إلا بدليل، وأدلة وجوب الطهارة ودرت للصلاة، والسجدة الفردة لا تسمى صلاة، فلا دليل على من شرط ذلك، وليس في أحاديث الباب ما يدل على اشتراطها، وليس فيها أيضا ما يدل على التكبير. (رواه أبوداود) في الجهاد (والترمذي) في أبواب السير، وأخرجه أيضا ابن ماجه والدارقطني (ص157) والحاكم (ص276) والبيهقي (ج2 ص370)، وأخرجه أحمد (ج5 ص45) بلفظ: أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه بشير يبشره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حجر عائشة – رضي الله عنها -، فقام فخر ساجدا...الحديث، والحديث سكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وقال المنذري: في إسناده بكار بن عبدالعزيز بن أبي بكرة، وفيه مقال، قلت: ذكره العقيلي في الضعفاء، وقال يعقوب بن سفيان في باب من يرغب عن الرواية عنهم: ضعيف، وقال ابن معين في رواية الدوري: ليس بشيء، وفي رواية إسحاق بن منصور: صالح، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، وقال البزار: ليس به بأس، وقال مرة: ضعيف، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ في التقريب: صدوق يهم، وقال الحاكم: صدوق عند الأئمة، ولهذا الحديث شواهد يكثر ذكرها، ثم ذكر أربعة منها، قلت: في الباب أحاديث كثيرة، منها حديث عبدالرحمن بن عوف عند أحمد والحاكم والبزار والبيهقي وغيرهم، قال الهيثمي: رجاله ثقات، ومنها

(9/315)


حديث أنس عند ابن ماجه بنحو حديث أبي بكرة، وفي سنده ضعف واضطراب، ومنها حديث البراء بن عازب، أخرجه البيهقي بإسناد صحيح في المعرفة، وفي السنن الكبرى (ج3 ص369)، ومنها حديث كعب بن مالك متفق عليه، ومنها حديث سعد بن أبي وقاص الآتي، ومنها حديث حذيفة عند أحمد، وفيه ابن لهيعة، ومنها حديث ابن عمر عند الطبراني في الأوسط والصغير، ومنها حديث أبي قتادة عند الطبراني أيضا، ومنها حديث ابن عمر عند الطبراني في الأوسط بسند ضعيف، ومنها حديث أبي موسى عند الطبراني في الكبير، وفيه ضعف، ومنها حديث جابر عند ابن حبان في الضعفاء، ومنها حديث جرير بن عبدالله عند الطبراني في الكبير، وفي الحسن بن عمارة ضعفه جماعة كثيرة، ومنها حديث أبي جحيفة أشار إليه البيهقي، ومنها حديث عرفجة عند البيهقي والطبراني في الأوسط، ومنها حديث أبي
1508- (2) وعن أبي جعفر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا من النغاشين فخر ساجدا، رواه الدارقطني مرسلا، وفي شرح السنة: لفظ المصابيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جعفر الباقر الآتي، وفي الباب آثار عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعلي، ذكرها البيهقي، من أحب الاطلاع على ألفاظ هذه الأحاديث رجع إلى مجمع الزوائد (ج2 ص287، 289)، والسنن الكبرى للبيهقي (ج2 ص369، 371).

(9/316)


1508- قوله (وعن أبي جعفر) أي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بالباقر (رأى رجلا من النغاشين) بضم النون والغين والشين معجمتان، واحده نغاش، هو والنغاشي القصير جدا أقصر ما يكون من الرجال، وزاد في ا لنهاية: الضعيف الحركة الناقص الخلق، كذا في اللمعات، وقال القاري: النغاشين بضم النون وتخفيف الياء، وفي نسخة بتشديدها، قال ميرك النغاشي بتشديد الياء، والنغاش بحذفها: هو القصير جدا الضعيف الحركة الناقص الخلقة – انتهى. وفي المصابيح رأى رجلا نغاشيا فسجد شكرا لله. قال القاري: قال بعض الشراح: وروي نغاشيا بتشديد الياء (فخر ساجدا) فيه دليل على شرعية سجدة الشكر على العافية إذا رأى مبتلى بمرض سيء أو زمانة، قال المظهر: السنة إذا رأى مبتلى أن يسجد شكرا لله على أن عافاه الله تعالى من ذلك البلاء وليكتم والسجود، وإذا رأى فاسقا فليظهر السجود لينتبه ويتوب – انتهى. (رواه الدارقطني) (ص157) (مرسلا)؛ لأن أباجعفر لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي إسناده جابر الجعفي، وفيه كلام مشهور، وأخرجه أيضا البيهقي (ج3 ص371) وقال: هذا منقطع، ورواية جابر الجعفي، ولكن له شاهد من وجه آخر، يعني ما رواه عن عرفجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلا به زمانة فسجد، قال: ويقال: هذا عرفجة السلمي، ولا يرون له صحبة، فيكون مرسلا شاهدا لما تقدم – انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص115): حديث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا نغاشيا فخر ساجدا ثم قال أسأل الله العافية، هذا الحديث ذكره الشافعي في المختصر بلفظ: فسجد شكرا لله، ولم يذكر إسناده، وكذا صنع الحاكم في المستدرك واستشهد به على حديث أبي بكرة وأسنده الدارقطني والبيهقي من حديث جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي مرسلا، وزاد أن اسم الرجل زنيم، وكذا هو في مصنف ابن أبي شيبة من هذا الوجه، ووصله ابن حبان في الضعفاء في ترجمة يوسف بن

(9/317)


محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر – انتهى. ولعل الحافظ يريد بحديثه ما ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص289) بلفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى رجلا متغيرا الخلق سجد، وعزاه للطبراني وقال: فيه يوسف بن محمد بن المنكدر، وثقه أبوزرعة، وضعفه جماعة. (وفي شرح السنة لفظ المصابيح) وفي بعض النسخ بلفظ المصابيح يعني نغاشيا بدل من النغاشين، وكذا عند البيهقي: رأى رجلا نغاشيا.
1509- (3) وعن سعد بن أبي وقاص قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريبا من عزوزاء، نزل ثم رفع يديه، فدعا الله ساعة، ثم خر ساجدا، فمكث طويلا، ثم قام فرفع يديه ساعة، ثم خر ساجدا، فمكث طويلا، ثم قام فرفع يديه ساعة، ثم خر ساجدا، قال: ((إني سألت ربي، وشفعت لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجدا لربي شكرا، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجدا لربي شكرا، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي لأمتي، فأعطاني الثلث الآخر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/318)


1059- قوله (نريد) بصيغة المتكلم مع الغير (فلما كنا قريبا) أي في موضع قريب أو قريبين أو ذوي قرب (من عزوزاء) هكذا في جميع النسخ الحاضرة للمشكاة، بفتح العين المهملة والزائين المعجمتين بينهما واو مفتوحة وبعد الزاي الثانية ألف ممدودة، والأشهر حذف الألف، هكذا صحح هذه اللفظة شراح المصابيح، وقالوا: هي موضع بين مكة والمدينة، والعزازة – بفتح العين – الأرض الصلبة، وقال صاحب المغرب والشيخ الجزري في تصحيح المصابيح: عزوراء – بفتح العين المهملة وزاي ساكنة ثم واو وراء مهملة مفتوحتين وألف، وضبط بعضهم بحذف الألف، وهي ثنية عند الجحفة خارج مكة، قال الشيخ الجزري: ولا ينبغي أن يلتفت إلى ما ضبطه شراح المصابيح مما يخالف ذلك، فقد اضطربوا في تقييدها، ولم أر أحدا منهم ضبطها على الصواب – انتهى. كذا في المرقاة، قلت: وفي أبي داود عزوراء، قال في العون: بفتح العين المهملة وسكون الزاي وفتح الواو وفتح الراء المهملة بالقصر، ويقال فيها: عزور – أي بحذف الألف مثل قسور، وكذا وقع في البيهقي -، ثنية بالجحفة عليها الطريق من المدينة إلى مكة، كذا في النهاية، وفي المراصد: عزور بفتح أوله وسكون ثانيه وفتح الواو وآخره راء مهملة موضع أو ماء قريب من مكة، وقيل: ثنية المدينتين إلى بطحاء مكة، وقيل: هي ثنية الجحفة عليها الطريق بين مكة والمدينة – انتهى. (نزل) نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع لم يكن لخاصية البقعة، بل لوحي أوحي إليه في النهي والأمر، قاله الطيبي. (فمكث) بفتح الكاف وضمها (طويلا) أي مكثا طويلا أو زمانا كثيرا (إني سألت ربي) أي دعوته أو طلبت رحمته (وشفعت لأمتي) هو بيان للمسؤول أو بعضه (فخررت) بفتح الراء (ساجدا لربي شكرا) أي لهذه النعمة وطلبا للزيادة، قال تعالى: ?لئن شكرتم لأزيدنكم...? [إبراهيم: 7]. (فأعطاني الثلث الآخر) بكسر الخاء، وقيل: بفتحها، قال التوربشتي: أي فأعطانيهم فلا يجب عليهم

(9/319)


الخلود، وتنالهم شفاعتي فلا يكونون كالأمم السالفة، فإن من عذب منهم وجب عليه الخلود، وكثير منهم لعنوا لعصيانهم الأنبياء، فلم تنلهم الشفاعة، والعصاة من هذه الأمة من عوقب منهم نقي وهذب، ومن مات منهم على الشهادتين يخرج من النار وإن عذببها، وتناله الشفاعة
فخررت ساجدا لربي شكرا))، رواه أحمد، وأبوداود.
(52) باب الاستسقاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإن اجترح الكبائر ويتجاوز عنهم ما وسوست به صدورهم ما لم يعلموا أو يتكلموا إلى غير ذلك من الخصائص التي خص الله تعالى هذه الأمة كرامة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - - انتهى. وقال المظهر: ليس معنى الحديث أن يكون جميع أمته مغفورين بحث لا تصيبهم النار؛ لأنه يناقض كثيرا من الآيات والأحاديث الواردة في تهديد آكل مال اليتيم والربا ولزاني وشارب الخمر وقاتل النفس بغير حق وغير ذلك، بل معناه أنه سال أن يخص أمته من سائر الأمم بأن لا يمسخ صورهم بسبب الذنوب، وأن لا يخلدهم في النار بسبب الكبائر، بل يخرج من النار من مات في الإسلام بعد تطهيره من الذنوب وغير ذلك من الخواص التي خص الله تعالى أمته – عليه السلام – من بين سائر الأمم. قال الطيبي: يفهم من كلام المظهر: إن الشفاعة مؤثرة في الصغائر وفي عدم الخلود في حق أهل الكبائر بعد تمحيصهم بالنار، ولا تأثير للشفاعة في حق أهل الكبائر قبل الدخول في النار، وقد روينا عن الترمذي وأبي داود عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي))، وعند الترمذي عن جابر: ((من لم يكن من أهل الكبائر فما له للشفاعة))، والأحاديث فيها كثيرة، نعم يتعلق ذلك بالمشيئة والإذن، فإذا تعلقت المشيئة بأن تنال بعض أصحاب الكبائر قبل دخول النار وإذن فيها فذاك وإلا كانت بعد الدخول، والله أعلم بحقيقة الحال – انتهى. والحديث يدل على مشروعية سجود الشكر ورفع اليدين في الدعاء. (رواه أحمد وأبوداود) كذا

(9/320)


في جميع النسخ، لكن لم أجده في مسند الإمام أحمد في مسند سعد بن أبي وقاص، والحديث ذكره المجد بن تيمية في المنتقى، وعزاه لأبي داود فقط، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (ج2 ص370) من طريق أبي داود، وقد سكت عليه أبوداود، وقال المنذري: في إسناده موسى بن يعقوب الزمعي، وفيه مقال – انتهى. قلت: وثقه ابن معين وابن القطان، وقال أبوداود: هو صالح، وقال ابن عدي: لا بأس به عندي ولا برواياته، وذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه ابن المديني، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أحمد: لا يعجبني حديثه، كذا في التهذيب، وقال في التقريب: صدوق سيء الحفظ.
(باب الاستسقاء) أي هذا باب في بيان أحكام الاستسقاء، قال القاري: وفي نسخة صحيحة: باب صلاة الاستسقاء، وهو لغة: طلب سقي الماء من الغير للنفس أو للغير، وشرعا: طلبه من الله عند حصول الجدب على الوجه المبين في الأحاديث، قال الجزري في النهاية: هو استفعال من طلب السقيا، أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم، والاسم: السقيا – بالضم -، واستسقيت فلانا، إذا طلبت منه أن يسقيك – انتهى. قال القسطلاني: الاستسقاء ثلاثة أنواع: أحدها – وهو أدناها – أن يكون بالدعاء مطلقا – أي من غير صلاة – فرادى
?الفصل الأول?
1510- (1) عن عبدالله بن زيد قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس إلى المصلى يستسقي، فصلى بهم ركعتين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/321)


ومجتمعين. وثانيها – وهو أفضل من الأول – أن يكون بالدعاء، خلف الصلوات ولو نافلة كما في البيان وغيره عن الأصحاب، خلافا لما وقع للنووي في شرح مسلم من تقييده بالفرائض، وفي خطبة الجمعة. وثالثها – وهو أفضلها وأكملها – أن يكون بصلاة ركعتين والخطبتين. قال النووي: يتأهب قبله بصدقة وصيام وتوبة وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة الله تعالى. قال الشاه ولي الله الدهلوي: قد استسقى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته مرات على أنحاء كثيرة، لكن الوجه الذي سنه لأمته أن خرج بالناس إلى المصلى متبذلا متواضعا متضرعا، فصلى بهم ركعتين، جهر فيهما بالقراءة، ثم خطب واستقبل فيها القبلة يدعو ويرفع يديه، وحول رداءه، وذلك لأن لاجتماع المسلمين في مكان واحد راغبين في شيء واحد بأقصى هممهم واستغفارهم وفعلهم الخيرات أثرا عظيما في استجابة الدعاء، والصلاة أقرب أحوال العبد من الله، ورفع اليدين حكاية من التضرع التام، والابتهال العظيم تنبه النفس على التخشع، وتحويل ردائه حكاية عن تقلب أحوالهم كما يفعل المستغيث بحضرة الملوك – انتهى.

(9/322)


1510- قوله (عن عبدالله بن زيد) بن عاصم المازني، لا عبدالله بن زيد بن عبد ربه الذي أري الأذان كما زعم ابن عيينة (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس) في شهر رمضان سنة ست من الهجرة، أفاده ابن حبان، قاله الحافظ. وهذا يدل على أن بدأ مشروعية صلاة الاستسقاء كان في رمضان سنة (6) من الهجرة. (إلى المصلى) أي في المدينة، وفيه دليل على أن سنة الاستسقاء البروز إلى المصلى، وقد حكى ابن عبدالبر الإجماع على استحباب الخروج إلى الاستسقاء، والبروز إلى ظاهر المصر. (يستسقي) حال أي حال كونه يريد الاستسقاء، أو استئناف فيه معنى التعليل (فصلى بهم ركعتين) فيه دليل على أن الصلاة في الاستسقاء في جماعة في حالة البروز سنة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وهو قول أبي يوسف ومحمد، قال محمد في موطأه: أما أبوحنيفة فكان لا يرى في الاستسقاء صلاة، وأما في قولنا: فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه – انتهى. كذا ذكر شيخنا في شرح الترمذي. قلت: اختلفوا في حكم صلاة الاستسقاء جدا، فقال أبويوسف ومحمد: هي سنة، وقالت المالكية والشافعية والحنابلة: إنها سنة مؤكدة، واضطربت الحنفية في بيان مذهب إمامهم، فقال بعضهم: إنه إنما أنكر سنية صلاة الاستسقاء في جماعة ولم ينكر مشروعيتها وجوازها، قال صاحب الهداية: قال أبوحنيفة: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، وإن صلى الناس وحدانا جاز، وإنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار، قال: فعله مرة وتركه أخرى، فلم يكن سنة، قال ابن الهمام: وإنما يكون سنة ما واظب عليه، وقال بعضهم: أنكر أبوحنيفة مشروعية صلاة
......................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/323)


الاستسقاء بجماعة، قال صاحب البدائع: وأما صلاة الاستسقاء فظاهر الرواية عن أبي حنيفة أنه قال: لا صلاة في الاستسقاء، وإنما هو الدعاء، وأراد بقوله: لا صلاة في الاستسقاء: الصلاة بجماعة، أي لا صلاة فيه بجماعة، بدليل ما روي عن أبي يوسف أنه قال: سألت أباحنيفة عن الاستسقاء هل فيه صلاة أو دعاء مؤقت أو خطبة؟ فقال: أما صلاة بجماعة فلا، ولكن الدعاء والاستغفار، وإن صلوا وحدانا فلا بأس به، والدليل له قوله: ?واستغفروا ربكم إنه كان غفارا? [نوح: 10]، والمراد منه الاستغفار في الاستسقاء، فمن زاد عليه الصلاة فلا بد له من دليل، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الروايات المشهورة أنه صلى في الاستسقاء... إلى آخر ما قال. وقال بعضهم: لم ينكر أبوحنيفة استنان صلاة الاستسقاء بجماعة واستحبابها، وإنما أنكر كونها سنة مؤكدة، قال بعض من كتب على المشكاة من أهل عصرنا ما لفظه: صلاة الاستسقاء سنة عند أبي حنيفة، لكنها غير مؤكدة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها مرة وتركها مرة، واقتصر على الاستغفار فقط، قال: فقد استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة، كما في حديث أنس في الصحيحين ولم يصل له، وثبت أن عمر بن الخطاب استسقى ولم يصل ولو كانت سنة – أي مؤكدة – لما تركها؛ لأنه كان أشد الناس اتباعا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتأويل ما رواه أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله مرة وتركه أخرى، والسنة لا تثبت بمثله بل بالمواظبة، كذا في التبيين – انتهى. وقال صاحب العرف الشذي: قال في الهداية: لأنه – عليه السلام – صلى مرة لا أخرى، فلا تكون سنة...الخ. أقول: لا تكون سنة مؤكدة، وإلا فمطلق السنة والاستحباب لا يمكن إنكاره لما قال صاحب الهداية أنه – عليه السلام – صلى مرة. وقال المحقق ابن أمير الحاج: نسب البعض إلينا أن الصلاة عندنا منفية، وهذا غلط، والصحيح أن الصلاة عندنا مستحبة...الخ – انتهى

(9/324)


كلام صاحب العرف. ولعلك قد عرفت بما ذكرنا وجه تخبط الحنفية في بيان مذهب إمامهم، وهو أنه قد نفى الصلاة في الاستسقاء مطلقا كما هو مصرح في كلام أبي يوسف ومحمد في بيان مذهب أبي حنيفة، ولا شك أن قوله هذا مخالف ومنابذ للسنة الصحيحة الثابتة الصريحة، فاضطربت الحنفية لذلك وتخبطوا في تشريح مذهبه وتعليله حتى اضطر بعضهم إلى الاعتراف بأن الصلاة في الاستسقاء بجماعة سنة، وقال: لم ينكر أبوحنيفة سنيتها واستحبابها، وإنما أنكر كونها سنة مؤكدة، وهذا كما ترى من باب توجيه الكلام بما لا يرضى به قائله؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لم يكن بينه وبين صاحبيه خلاف، مع أنه قد صرح جميع الشراح وغيرهم ممن كتب في اختلاف الأئمة بالخلاف بينه وبين الجمهور في هذه المسألة. قال شيخنا في شرح الترمذي: قول الجمهور هو الصواب والحق؛ لأنه قد ثبت صلاته - صلى الله عليه وسلم - ركعتين في الاستسقاء من أحاديث كثيرة صحيحة. منها: حديث عبدالله بن زيد – الذي نحن بصدد شرحه -، وهو حديث متفق عليه. ومنها: حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد وابن ماجه وأبوعوانة والطحاوي والبيهقي في السنن
...........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/325)


(ج3 ص347) وقال تفرد به النعمان بن راشد. وقال في الخلافيات: رواته ثقات. ومنها حديث ابن عباس أخرجه أحمد وأصحاب السنن وأبوعوانة وابن حبان والحاكم والبيهقي والدارقطني، وصححه الترمذي وأبوعوانة وابن حبان. ومنها: حديث عائشة أخرجه أبوداود وقال: إسناده جيد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وأبوعوانة والبيهقي، وصححه الحاكم وابن السكن، وسيأتي في الفصل الثالث. قال الشيخ: فهذه الأحاديث حجة بينه لقول الجمهور، وهي حجة على الإمام أبي حنيفة – انتهى. ويدل لقول الجمهور أيضا ما روى البخاري ومسلم والبيهقي عن أبي إسحاق قال: خرج عبدالله بن يزيد الأنصاري – وقد كان رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - وكان خروجه إلى الصحراء بأمر عبدالله بن الزبير حين كان أميرا على الكوفة من جهته -، وخرج معه البراء بن عازب وزيد بن أرقم فاستسقى فقام لهم على رجليه على غير منبر فاستسقى ثم صلى ركعتين يجهر بالقراءة ولم يؤذن ولم يقم. قال الشيخ عبدالحي اللكنوي في تعليقه (ص155) على موطأ الإمام محمد بعد ذكر الأحاديث الأربعة المرفوعة ما نصه: وبه ظهر ضعف قول صاحب الهداية في تعليل مذهب أبي حنيفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى، ولم ترو عنه الصلاة – انتهى. فإنه إن أراد أنه لم يرو بالكلية، فهذه الأخبار تكذبه، وإن أراد أنه لم يرو في بعض الروايات – أو في كثير من الروايات – فغير قادح – انتهى. قال العيني في شرح البخاري (ج7 ص35-36) قال أبوحنيفة: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، فإن صلى الناس وحدانا جاز، إنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار لقوله تعالى: ?استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا? [نوح: 10-11]، علق نزول الغيث بالاستغفار لا بالصلاة، فكان الأصل فيه الدعاء دون الصلاة، ويشهد لذلك أحاديث، ثم ذكر أحاديث الاستسقاء وآثاره التي ليس فيها ذكر الصلاة، ثم قال: فهذه الأحاديث والآثار كلها تشهد لأبي حنيفة أن

(9/326)


الاستسقاء دعاء واستغفار – انتهى. وأجيب عن الآية بأنها لا تنافي سنية الصلاة في الاستسقاء، إذ ليس فيها نفيها، وكذا ليس فيها حصر ا لاستسقاء في الدعاء والاستغفار، بل هي ساكتة عن ذكر الصلاة نفيا وإثباتا، وقد ثبت بأحاديث صحيحة أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى مع الناس في الاستسقاء فالاستدلال لأبي حنيفة بالآية ليس بصحيح، ولذلك خالفه صاحباه الإمام أبويوسف ومحمد وغيرهما، وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي: الفتوى على قول صاحبيه. وأما الأحاديث التي ذكرها العيني ونقلها عنه صاحب الأوجز فليس فيها أنه - صلى الله عليه وسلم - استسقى ولم يصل بل غاية ما فيها ذكر الاستسقاء بدون ذكر الصلاة ولا يلزم من عدم ذكر الشيء عدم وقوعه فالاستشهاد بها لأبي حنيفة على عدم كون الصلاة في الاستسقاء سنة غير صحيح. قال النووي: أما الأحاديث التي ليس فيها ذكر الصلاة فبعضها محمول على نسيان الراوي، وبعضها كان في الخطبة للجمعة، ويتعقبه الصلاة للجمعة
............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/327)


فاكتفى بها ولو يصل أصلا كان بيانا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة ولا خلاف في جوازه وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة؛ لأنها زيادة علم، ولا معارضة بينهما، ثم ذكر النووي أنواع الاستسقاء التي ذكرنا في أول الباب، وقال ابن رشد بعد ذكر بعض الأحاديث والآثار التي ليس فيها ذكر الصلاة ما لفظه: والحجة للجمهور أنه من لم يذكر شيئا فليس هو بحجة على من ذكره، والذي يدل عليه اختلاف الآثار في ذلك ليس عندي فيه شيء أكثر من أن الصلاة ليست من شرط صحة الاستسقاء، إذ قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قد استسقى على المنبر لا أنها ليست من سنته كما ذهب إليه أبوحنيفة – انتهى. وأجاب العيني عن الأحاديث التي فيها الصلاة بأنه - صلى الله عليه وسلم - فعلها مرة – أي واحدة – وتركها أخرى – أي في مرات أخرى – وذا لا يدل على السنية، وإنما يدل على الجواز – انتهى. وفيه أنه لم يرو في حديث صحيح أو ضعيف نفي الصلاة وعدم نقل الصلاة لا يستلزم عدم الوقوع، فدعوى أنه لم يصل إلا مرة واحدة وتركها أخرى مردودة، ولو سلم فصلاته في المصلى في الاستسقاء ولو مرة تدل على أنها سنة في حق أمته من غير شك، كما قال صاحب العرف الشذي: إن مطلق السنة والاستحباب لا يمكن إنكاره لما قال صاحب الهداية: أنه – عليه السلام – صلى مرة، وكما قال الشاه ولي الله الدهلوي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى لأمته مرات على أنحاء كثيرة، لكن الوجه الذي سنه لأمته أن خرج بالناس إلى المصلى متبذلا متواضعا متضرعا فصلى بهم ركعتين... إلى آخر ما تقدم من كلامه. وقال الشيخ عبدالحي اللكنوي في التعليق الممجد: وأما ما ذكروا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة فليس بشيء، فإنه لا ينكر ثبوت كليهما – أي على زعمه – مرة هذا ومرة هذا لكن يعلم من تتبع الطرق أنه لما خرج إلى الصحراء صلى فتكون الصلاة مسنونة في هذه الحالة بلا ريب ودعائه المجرد

(9/328)


كان في غير هذه الصورة – انتهى. قال القسطلاني في شرح البخاري، وابن حجر المكي في شرح المشكاة، والشيخ عبدالحي في عمدة الرعاية حاشية شرح الوقاية: لعله لم تبلغ أباحنيفة تلك الأحاديث، وإلا لم ينكر استنان الجماعة، قال شيخنا: هذا هو الظن به والله تعالى أعلم. قال الكاساني في البدائع: ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بجماعة حديث شاذ، ورد في محل الشهرة لأن الاستسقاء يكون بملأ من الناس، ومثل هذا الحديث يرجح كذبه على صدقه أو وهمه على ضبطه، فلا يكون مقبولا مع أن هذا مما تعم به البلوى في ديارهم، وما تعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته لا يقبل فيه الشاذ – انتهى. وكذا تفوه السرخسي، وقال في المحيط البرهاني والكافي: إنه لم يبلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك صلاة إلا حديث واحد شاذ لا يؤخذ به، قال ابن الهمام: ووجه الشذوذ أن فعله – عليه الصلاة والسلام – لو كان ثابتا لاشتهر نقله اشتهارا واسعا ولفعله عمر حين استسقى ولأنكروا عليه إذا لم يفعل؛ لأنها كانت بحضرة جميع الصحابة لتوفر
جهر فيهما بالقراءة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/329)


الكل في الخروج معه – عليه الصلاة والسلام – للاستسقاء، فلما لم يفعل ولم ينكروا ولم تشتهر روايتها في الصدر الأول، بل هو عن ابن عباس وعبدالله بن زيد على اضطراب في كيفيتها عن ابن عباس وأنس كان ذلك شذوذا فيما حضره الخاص والعام والصغير والكبير. واعلم أن الشذوذ يراد باعتبار الطرق إليهم، إذ لو تيقنا عن الصحابة المذكورين رفعه لم يبق إشكال – انتهى. كذا في المرقاة. قلت: قد روى صلاته- صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء أربعة نفر من كبراء الصحابة: عبدالله بن زيد، وأبوهريرة، وابن عباس، وعائشة، والطرق إليهم صحيحة ثابتة قطعا، لا يمكن إنكاره، وليس فيها اضطراب قادح أصلا، كما لا يخفى على من تأمل في طرق هذه الأحاديث ومتونها، فالارتياب في كونها مرفوعة والتوهم بكونها كذبا أو وهما ليس منشأه إلا التقليد الأجوف والعصبية العمياء وغمط الحق والنفور عن السنة، والخبر المذكور مشهور، قد عمل به الصحابة وغيرهم كابن الزبير وعبدالله بن يزيد والبراء بن عازب وزيد بن أرقم، وكذا عمل به من بعدهم، كما قال ابن قدامة في المغني (ج2 ص329، 339) فتبين أن الحديث قد اشتهر بينهم واستفاض في الصدر الأول حديث عمل به الصحابة وغيرهم، وتلقوه بالقبول، فادعاء شذوذه باطل مردودة على من تفوه به، ولا يلزم من اقتصار عمر على الاستغفار عدم ثبوت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز تكذيب الرواة العدول الثقات لفعل عمر، والظاهر أن عمر إنما لم يزد على الاستغفار ليبين للناس أن الصلاة ليست من شرط صحة الاستسقاء، كما قال ابن رشد، وأيضا فقد أنكروا على عمر اقتصاره على الاستغفار، إذ قالوا: ما رأيناك استسقيت، أي على الوجه الذي استسقى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة الخروج إلى الصحراء من الصلاة والدعاء والخطبة وتحويل الرداء، ولا يضر هذه الأحاديث كونها مما تعم به البلوى، فإن خبر الواحد مقبول في ذلك في قول الجمهور لعمل الصحابة

(9/330)


والتابعين بأخبار الآحاد في عموم البلوى، فقد قبلوا خبر عائشة في الغسل من الجماع بغير الإنزال، وخبر رافع بن خديج في المخابرة، وقد أثبتت الحنفية تثنية الإقامة وانتقاض الوضوء بخروج النجاسة من غير السبيل، ورفع اليدين مع تكبيرات العيدين بأخبار الآحاد مع كون ذلك مما تعم به البلوى. (جهر فيهما بالقراءة) قال النووي في شرح مسلم: أجمعوا على استحباب الجهر بالقراءة، وكذا نقل الإجماع على استحبابه ابن بطال، كما في الفتح، قال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق حديث عبدالله بن زيد صفة الصلاة المذكورة، ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدارقطني – والحاكم والبيهقي – من حديث ابن عباس أنه قال: سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين – الحديث، وفيه: وصلى ركعتين كبر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، وقرأ في الثانية: ?هل أتاك حديث الغاشية?، وكبر فيها خمس تكبيرات، وفي إسناده مقال، فإن في سنده محمد بن عبدالعزيز وقال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وضعفه أيضا أبوحاتم
واستقبل القبلة يدعو، ورفع يديه، وحول رداءه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/331)


وابن حبان وابن القطان، وأصله في السنن بلفظ: فصلى ركعتين، كما يصلي في العيد، فأخذ بظاهره الشافعي فقال: يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو رواية عن أحمد، وذهب الجمهور مالك والأوزاعي وإسحاق وأبويوسف ومحمد وأحمد – في رواية – إلى أنه يكبر فيهما كسائر الصلوات تكبيرة واحدة للافتتاح؛ لأنه لم يذكر عبدالله بن زيد وأبوهريرة وعائشة تكبيرات الزوائد في رواياتهم، ولا ابن عباس فيما صح من روايته، وظاهرها أنه لم يكبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والزيادة تحتاج إلى دليل صحيح يؤيدها، وتأويل الجمهور قول ابن عباس: صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد، على أن المراد كصلاة العيد في العدد والجهر بالقراءة، وكونهما قبل الخطبة، قال الزرقاني: لم يأخذ به مالك لضعف الرواية المصرحة بالتكبير، ولما يطرق الثانية من احتمال نقص التشبيه – انتهى. وقال ابن قدامة: كيفما فعل كان جائزا حسنا – انتهى. (واستقبل القبلة) أي بعد الصلاة، واختلفوا في استقبال القبلة متى يكون؟ فقال محمد: يخطب خطبتين بعد الصلاة، ويتوجه إلى القبلة بعد الفراغ من الخطبة، ويشتغل بالدعاء رافعا يديه. وقالت الشافعية: إذا مضى الثلث من الخطبة الثانية يتوجه إلى القبلة ويدعو، وبعد الدعاء يستقبل الناس ويكمل الخطبة، وقالت المالكية: يتوجه إلى القبلة بعد الفراغ من الخطبة الثانية ويدعو مستقبلا للقبلة. قال الباجي: اختلف قول مالك في استقبال القبلة متى يكون، فروى عنه ابن القاسم أنه يفعل ذلك إذا فرغ من الخطبة، وقال عنه علي بن زياد: يفعل ذلك في أثناء خطبته يستقبل القبلة ويدعو ما شاء ثم ينصرف فيستقبل الناس ويتم خطبته، وجه الأول أنه خطبة مشروعة فلا يسن قطعها بذكر كخطبتي العيد، وجه الثاني: أن السنة فيها خطبتان لا زيادة عليهما، فإذا أتى بالدعاء مفردا كان ذلك كالخطبة الثالثة – انتهى. وقالت

(9/332)


الحنابلة: يخطب بعد الصلاة خطبة واحدة ويدعو رافعا يديه، ويجهر ببعض دعائه ليسمع الناس فيؤمنون على دعائه، ثم يستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويدعو حال استقباله، والراجح عندنا: أنه يخطب خطبة واحدة ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويدعو مستقبلا للقبلة؛ لأن ظاهر الحديث يدل على هذا. (يدعو) حال (ورفع يديه) أي للدعاء، وكذا يرفع الناس أيديهم مع الإمام يدعون، وقد بوب البخاري في صحيحه: باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، وأورد فيه حديث أنس في استسقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة عند شكوى الأعرابي، وفيه: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه يدعو ورفع الناس أيديهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعون. (وحول رداءه) بحيث صار الأيمن إلى الجانب الأيسر وطرفه الأيسر إلى الجانب الأيمن، وصار باطنه ظاهرا وظاهره باطنا، وطريقة هذا القلب والتحويل أن يأخذ بيده اليمنى الطرف الأسفل من جانب يساه وبيه اليسرى الطرف الأسفل من جانب يمينه، ويقلب يديه خلف ظهره حتى يكون الطرف المقبوض بيده اليمنى على كتفه
حين استقبل القبلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/333)


الأعلى من جانب اليمين والطرف المقبوض بيده اليسرى على كتفه الأعلى من جانب اليسار، فإذا فعل ذلك فقد انقلب اليمين يسارا واليسار يمينا والأعلى أسفل وبالعكس، ذكر الواقدي أن طول ردائه - صلى الله عليه وسلم - كان في ستة أذرع في ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين في ذراعين وشبر كان يلبسهما في الجمعة والعيد – انتهى. وفيه دليل على استحباب تحويل الرداء في هذه العبادة، وخالف أبوحنيفة في ذلك فأنكر استنانه واستحبابه، وقال: كان ذلك تفاؤلا بتغيير الحال كما جاء مصرحا عند الدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر بلفظ: وحول رداءه ليتحول القحط. قال الحافظ: رجاله ثقات، ورجح الدارقطني إرساله، وفي الطوالات للطبراني من حديث أنس بلفظ: وقلب رداءه لكي ينقلب القحط إلى الخصب. قلت: كون التحويل للتفاؤل لا ينافي استحبابه عند الدعاء في الاستسقاء في الصحراء، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع. قال ابن دقيق العيد: وقال من احتج لأبي حنيفة: إنما قلب رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع اليدين في الدعاء أو عرف من طريق الوحي تغيير الحال عند تغيير ردائه. قلنا: القلب من جهة أخرى أو من ظهر إلى بطن لا يقتضي الثبوت على العاتق، بل أي حالة اقتضت الثبوت أو عدمه في إحدى الجهتين فهو موجود في الأخرى، وإن كان قد قرب من السقوط تلك الحال فيمكن تثبيته من غير قلب، والأصل عدم ما ذكر من نزول الوحي بتغير الحال عند تغيير الرداء، والاتباع لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص مع ما عرف من الشرع من صحة التفاؤل – انتهى. ويستحب أن يحول الناس بتحويل الإمام، وهو قول الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، لما روى أحمد من حديث عبدالله بن زيد بلفظ: وحول الناس معه، وقال الليث وأبويوسف ومحمد وابن المسيب وعروة والثوري: يحول الإمام وحده، والحق ما ذهب إليه

(9/334)


الجمهور؛ لأن الظاهر أن تحويلهم كان عن علمه - صلى الله عليه وسلم -، فتقريره إياهم إذ حولوا على كونه سنة في حقهم أيضا، واستثنى الشافعية والمالكية النساء، فقالوا: لا يستحب في حقهن، وظاهر قوله: وحول الناس معه أنه يستحب ذلك للنساء أيضا. (حين استقبل القبلة) وفي رواية لمسلم: لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه، وفي أخرى له: فجعل إلى الناس ظهره يدعو الله واستقبل القبلة وحول رداءه، وأفادت هذه الروايات أن التحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء حال استقبال القبلة، وفي رواية للبخاري: فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه، قال الحافظ: ظاهره أن الاستقبال وقع سابقا لتحويل الرداء، وهو ظاهر كلام الشافعي، ووقع في كلام كثير من الشافعية أنه يحوله حال الاستقبال – انتهى. وقيل: يحمل "ثم" في رواية البخاري على معنى "الواو" لتوافق الروايات الأخرى. واعلم أنه لم يرد في حديث عبدالله بن زيد في الصحيحين التصريح بالخطبة، وإنما ذكر تحويل الظهر إلى
.........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/335)


الناس واستقبال القبلة والدعاء وتحويل الرداء فاحتج به لأبي حنيفة على أنه لا خطبة في الاستسقاء، وإنما يدعو ويتضرع، وهي رواية عن أحمد، وهو الحق والصواب لما وقع من التصريح بالخطبة في حديث عبدالله بن زيد عند أحمد (ج4 ص41) وفي حديث أبي هريرة عند ابن ماجه والبيهقي (ج3 ص374) والطحاوي (ص192)، وفي حديث عائشة عند أبي داود والحاكم (ج1 ص328) والبيهقي (ج3 ص349) واحتج أيضا لمن لم يقل بالخطبة بقول ابن عباس: لم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير. أخرجه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم (ج1 ص327) والبيهقي (ج3 ص347-348) والطحاوي (ج1 ص191)، وأجيب عنه بأن ابن عباس إنما نفى وقوع خطبة منه - صلى الله عليه وسلم - مشابهة لخطبة المخاطبين ولم ينف وقوع مطلق الخطبة منه - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخنا: النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد كما يدل على ذلك الأحاديث المصرحة بالخطبة. وفي رواية أبي داود: فرقى المنبر ولم يخطب خطبتكم هذه، فقوله: فرقى المنبر أيضا يدل على أن النفي متوجه إلى القيد، قال الزيلعي (ج2 ص242): مفهوم قول ابن عباس أنه خطب لكنه لم يخطب خطبتين كما يفعل في الجمعة، ولكنه خطب خطبة واحدة، فلذلك نفى النوع ولم ينف الجنس، ولم يرو أنه خطب خطبتين، فلذلك قال أبويوسف: يخطب خطبة واحدة، ومحمد يقول: يخطب خطبتين، ولم أجد له شاهدا – انتهى. وقال ابن قدامة: قول ابن عباس نفي للصفة لا لأصل الخطبة أي لم يخطب كخطبتكم هذه إنما كان جل خطبته الدعاء والتضرع والتكبير – انتهى. قال بعض من كتب على سنن أبي داود من أهل عصرنا: ظاهر قوله: فلم يخطب خطبتكم هذه أن النفي راجع إلى القيد والمقيد جميعا ولم يخطب - صلى الله عليه وسلم - في هذه المرة قال: وقوله ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير كالصريح في أنه لم يخطب مطلقا فإن الخطبة كانت مستقبل الناس مستدير الكعبة والدعاء بالعكس، قال: وأما

(9/336)


قوله: فرقى المنبر فهو مختلف فيه، ذكره عثمان بن أبي شيبة عند أبي داود ومحمد بن عبيد بن محمد عند النسائي، وعثمان له مع كونه ثقة أوهام، ومحمد بن عبيد قال فيه النسائي ومسلمة: لا بأس به، ولم يذكر هذا اللفظ غيرهما. قلت: وقع عند أحمد والبيهقي من رواية وكيع عن سفيان عن هشام بن إسحاق عن أبيه عن ابن عباس: لم يخطب كخطبتكم هذه، وهذا صريح في أن ابن عباس إنما نفى الخطبة المشابهة لخطبتهم ولم ينف وقوع مطلق الخطبة، ولا يفهم منه غير ذلك، فهو ظاهر في أن النفي راجع إلى القيد فقط، وأما قوله: لكن لم يزل في الدعاء... الخ فلا ينافي الخطبة؛ لأن معناه أن جل خطبته وأكثرها كان الدعاء والتضرع والتكبير، كما قال ابن قدامة، وأيضا الدعاء يكون بعد فراغ الموعظة في آخر الخطبة وبعد الدعاء يستقبل الإمام الناس ويتم خطبته، وقوله: فرقى المنبر صريح في وقوع الخطبة في هذه المرة أيضا؛
..........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/337)


لأن الظاهر أنه لا يرقاه إلا للخطبة، ولم يتفرد به عثمان ومحمد بن عبيد، بل قد تابعهما أبوثابت المدني محمد بن عبيدالله بن محمد عند البيهقي، وهو أيضا ثقة، فهي زيادة صحيحة، رواها جماعة من الثقات ولا يضرها سكوت من سكت عنها، ولا دليل على كونها وهما فلابد من قبولها. ثم إنه اختلفت الأحاديث في وقت الخطبة للاستسقاء، ففي حديث عبدالله بن زيد عند أحمد (ج4 ص41) وحديث أبي هريرة أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وفي حديث عائشة عند أبي داود وغيره أنه بدأ بالخطبة قبل الصلاة، وكذا في حديث ابن عباس عند أبي داود ففيه خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى فرقى المنبر فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين، وقد استدل بها على أن الخطبة قبل الصلاة لكن ليس فيها التصريح بأنه خطب، واختلفوا في دفع هذا الاختلاف، فقال الزيلعي في نصب الراية (ج3 ص242) بعد ذكر الروايات المذكورة: ولعلهما واقعتان، وقال ابن قدامة: يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل الأمرين، ورجح البيهقي رواية تقديم الصلاة على الخطبة من حديث عبدالله بن زيد، كما يظهر من كلامه في باب ذكر الأخبار التي تدل على أنه دعا أو خطب قبل الصلاة (ج3 ص348-349)، قال القرطبي: ويعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة بمشابهتها للعيد، وكذا ما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة، ورجح بعضهم تقديم الخطبة. قال ابن رشد في الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالدعاء ثم صلى ركعتين ثم خطب فاقتصر بعض الرواة على شيء، وبعضهم على شيء، وعبر بعضهم عن الدعاء بالخطبة، فلذلك وقع الاختلاف – انتهى. واختلف أيضا مذاهب العلماء في محل الخطبة، واختلافهم إنما هو في الاستحباب لا في الجواز، فالمرجح عند مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد: الشروع بالصلاة، وهو المشهور عن أحمد. قال ابن عبدالبر:

(9/338)


وعليه جماعة الفقهاء. وقال النووي: وبه قال الجماهير، وذهب ابن حزم والليث وابن المنذر إلى أن الخطبة قبل الصلاة، وروي ذلك عن عمر – رضي الله عنه – وابن الزبير وأبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، كما في سنن الأثرم، وعن أحمد رواية كذلك، قال النووي: وكان مالك يقول به ثم رجع إلى قول الجماهير. قال أصحابنا: ولو قدم الخطبة على الصلاة صحتا، ولكن الأفضل تقديم الصلاة كصلاة العيد وخطبتها، وجاء في الأحاديث ما يقتضي جواز التقديم والتأخير، واختلفت الرواية في ذلك عن الصحابة – انتهى. وعن أحمد رواية ثالثة أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها. قال ابن قدامة: لورود الأخبار بكلا الأمرين ودلالتها على كلتا الصفتين، فيحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل الأمرين – انتهى. وقال الشوكاني بعد ذكر القولين الأولين ما لفظه:
متفق عليه.
1511- (2) وعن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شيء من دعاء إلا في الاستسقاء، فإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/339)


وجواز التقديم والتأخير بلا أولوية هو الحق – انتهى. وتقدم أنه روي عن أحمد نفي الخطبة أيضا، قال ابن قدامة بعد ذكر الروايات الأربعة عنه: وأيا ما فعل من ذلك فهو جائز؛ لأن الخطبة غير واجبة على الروايات كلها، فإن شاء فعلها وإن شاء تركها، والأولى أن يخطب بعد الصلاة خطبة واحدة لتكون كالعيد، وليكونوا قد فرغوا من الصلاة أن أجيب دعاءهم فأغيثوا فلا يحتاجون إلى الصلاة في المطر – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الاستسقاء في مواضع، وأخرجه أيضا في الدعوات، وأخرجه مسلم في الاستسقاء كلاهما بألفاظ مختلفة، ولفظ المشكاة بهذا السياق والنسق ليس لهما ولا لأحدهما، بل ولا لغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم، والجهر بالقراءة لم يذكره في رواية مسلم قد انفرد به البخاري، وليس في رواية الصحيحين من حديث عبدالله بن زيد ذكر رفع اليدين أصلا، نعم رواه الترمذي وأبوداود والنسائي، ولا أدري من أين نقل البغوي والمصنف هذا السياق؟ والظاهر أن هذا من تصرف البغوي، والعجب من المصنف إنه لم ينتبه لذلك، والحديث أخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

(9/340)


1511- قوله (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه) أي رفعا بليغا، يعني لا يبالغ في الرفع، وإلا فأصل الرفع ثابت في مطلق الدعاء، وآخر الحديث يشعر بهذا المعنى (في شي من دعاء إلا في الاستسقاء) أي في دعائه (فإنه يرفع) أي كان يرفع يديه (حتى يرى) بصيغة المجهول (بياض إبطيه) بكسر الهمزة وسكون الباء الموحدة وقد تكسر باطن المنكب يذكر ويؤنث، قال الحافظ: قوله: إلا في الاستسقاء، ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة في الرفع في غير الاستسقاء وهي كثيرة، فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره، ورواية المثبت مقدمة على النافي، وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع، بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة، إما على الرفع البليغ، ويدل عليه قوله: حتى يرى بياض إبطيه، ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء، إنما المراد به مد اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه، وحينئذ يرى بياض إبطيه، وإما على صفة اليدين في ذلك كما في رواية مسلم التي تليه، ولأبي داود من حديث أنس أيضا: كان يستسقي هكذا، ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه.
متفق عليه.
1512- (3) وعنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء. رواه مسلم.
1513- (4) وعن عائشة قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى المطر قال: ((اللهم صيبا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/341)


(متفق عليه)، وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص357)، والحاكم (ص327)، وذكر المنذري والقسطلاني والعيني: ابن ماجه أيضا فيمن خرجه في الاستسقاء، ولم أجده، ونسبه الجزري في جامع الأصول (ج7 ص139) للبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي فقط، نعم روى ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى حتى رأيت أو رؤي بياض إبطيه، أخرجه أيضا أحمد (ج2 ص236) والبزار.
1512- قوله (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء) على عكس ما هو المتعارف في الدعاء، قيل: الحكمة في الإشارة بظهر الكفين في الاستسقاء دون غيره التفاؤل بتقليب الحال، كما قيل في تحويل الرداء، قال التوربشتي: معنى الحديث أنه كان يجعل بطن كفيه إلى الأرض وظهرهما إلى السماء، يشير بذلك إلى قلب الحال ظهر البطن وذلك مثل صنيعه في تحويل الرداء، ويحتمل وجها آخر، وهو أنه جعل بطن كفيه إلى الأرض إشارة إلى مسألته من الله تعالى بأن يجعل بطن السحاب إلى الأرض لينصب ما فيه من المطر كما أن الكف إذا جعل وجهها أي بطنها إلى الأرض أنصب ما فيها من الماء – انتهى. وقال النووي: قال العلماء: السنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلا ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء – انتهى. وقد أخرج أحمد من حديث السائب بن خلاد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سأل جعل باطن كفيه إليه، وإذا استعاذ جعل ظاهرهما إليه، وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال مشهور. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود، وتقدم لفظه، وأخرجه البيهقي بكلا اللفظين (ج3 ص357).

(9/342)


1513- قوله (كان إذا رأى المطر) يحتمل أن يكون المراد إذا رأى المطر بعد الاستسقاء، والمطر بفتح الطاء: ماء السحاب (صيبا) بفتح الصاد وتشديد الياء المكسورة أي منهمرا متدافعا، أصله واو لأنه من صاب يصوب صوبا إذا نزل فأصاب الأرض وبناءه صيوب كفعيل، فأبدلت الواو ياء وأدغمت كسيد، قال ابن عباس في قوله تعالى: ?أو كصيب من السماء? [البقرة: 19]: الصيب المطر، وبه قال الجمهور. قال الواحدي: هو المطر الكثير، وقيل: المطر الذي يجري ماؤه، وقال بعضهم: الصيب السحاب، ولعله أطلق ذلك مجازا؛ لأنه من صاب المطر يصوب إذا نزل فأصاب الأرض، ويؤيد معنى المطر الكثير ما في الكشاف: الصيب المطر الذي يصوب، أي
نافعا)) رواه البخاري.
1514- (5) وعن أنس قال: أصابنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطر، قال: فحسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله ! لم صنعت هذا؟ قال: ((لأنه حديث عهد بربه)) رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/343)


ينزل ويقع، وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء والتكثير، فدل على أنه نوع من المطر شديد هائل، ولذا تممه بقوله: ((نافعا)) صيانة عن الأضرار والفساد، وهو منصوب بفعل مقدر أي اجعله، كما في رواية النسائي وابن ماجه والبيهقي أو أسقنا أو أسألك. وقيل: على الحال، أي أنزله علينا حال كونه صيبا أي مطرا (نافعا) صفة للصيب؛ ليخرج بذلك الصيب الضار أو ما لا يترتب عليه نفع أعم من أن يترتب عليه ضرر أم لا، قال في المصابيح: وهذا أي قوله ((صيبا نافعا)) كالخبر الموطئ في قولك: زيد رجل فاضل، إذ الصفة هي المقصودة بالإخبار بها، ولو لا هي لم تحصل الفائدة، هذا إن بنينا على قول ابن عباس: إن الصيب هو المطر، وإن بنينا على أنه المطر الكثير كما نقله الواحدي فكل من صيبا ونافعا مقصود، والاقتصار عليه محصل للفائدة – انتهى. وفي الحديث دليل على استحباب الدعاء المذكور عند نزول المطر للازدياد من الخير والبركة، وفي رواية ابن ماجه والبيهقي والنسائي في عمل اليوم والليلة: هنيئا، بدل نافعا، وفي رواية ابن أبي شيبة، وكذا في رواية لابن ماجه: سيبا نافعا – بفتح السين المهملة وإسكان الياء – مصدر بمعنى الفاعل صفة لمحذوف، أي اجعله مطرا جاريا، من ساب المطر يسيب سيبا إذا جرى، وذهب كل مذهب، وقيل: السيب العطاء (رواه البخاري) في الاستسقاء، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي في السنن، وفي عمل اليوم والليلة وابن ماجه في الدعاء والبيهقي (ج3 ص361) وابن أبي شيبة.

(9/344)


1514- قوله (فحسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبه) أي كشف بعض ثوبه عن بدنه (لم صنعت هذا) أي ما الحكمة فيه (قال: لأنه) أي المطر الجديد (حديث عهد بربه) أي جديد النزول بأمر ربه أو بإيجاد ربه وتكوينه إياه، يعني أن المطر رحمة، وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها، وفيه دليل على أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف بدنه ليناله المطر لذلك. وقال التوربشتي: أراد أنه قريب عهد بالفطرة، وأنه هو الماء المبارك الذي أنزله الله من المزن ساعتئذ فلم تمسه الأيدي الخاطئة ولم تكدره ملاقاة أرض عبد عليها غير الله. قال المظهر: فيه تعليم لأمته أن يتقربوا ويرغبوا فيما فيه خير وبركة – انتهى. ويسن الدعاء وطلب الإجابة عند نزول المطر، كما في حديث سهل بن سعد وحديث أبي أمامة رواهما البيهقي (ج3 ص360) (رواه مسلم) في الاستسقاء، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود في الدعاء والبيهقي (ج3 ص359).
?الفصل الثاني?
1515- (6) عن عبدالله بن زيد قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى، فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة، فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله، رواه أبوداود.
1516- (7) وعنه أنه قال: استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه خميصة له سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها، فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها على عاتقيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/345)


1515- قوله (فجعل عطافه) بكسر العين المهملة، أي طرف ردائه (الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن) قال في المجمع: العطاف والعطف الرداء، سمي عطافا لوقوعه على عطفي الرجل، وهما ناحيتا عنقه، إنما أضاف العطاف إلى الرداء لأنه أراد أحد شقي العطاف، فالهاء ضمير الرداء، ويجوز أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويريد بالعطاف جانب الرداء وطرفه (ثم دعا الله) أي لرفع القحط ونزول الغيث، وفي الحديث بيان المراد من تحويل الرداء، وهو أن يجعل الأيمن منه أيسر والأيسر منه أيمن، وليس فيه ذكر الصلاة، وهو محمول على نسيان الراوي أو أنه اختصره. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وأخرجه أيضا البيهقي (ج3 ص350) من طريق أبي داود.
1516- قوله (وعليه خميصة) أي كساء أسود مربع له علمان في طرفيه من صوف وغيره، فإن لم يكن معلما فليس بخميصة (له) أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - (سوداء) صفة لخميصة، وفيه تجريد، وقال الجزري في النهاية: الخميصة ثوب خز أو صوف معلم. وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وكانت من لباس الناس قديما، وجمعها الخمائص – انتهى. (فلما ثقلت) أي الخميصة يعني عسر عليه جعل أسفلها أعلاها (قلبها) أي الخميصة بتخفيف اللام. وقيل: بتشديدها (على عاتقيه) بأن جعل جانبها الأيمن على عاتقه الأيسر، والجانب الأيسر على عاتقه الأيمن. قال الطحاوي بعد رواية الأحاديث التي فيها ذكر صفة قلب الرداء ما لفظه: ففي هذه الآثار قلبه لردائه وصفة قلب الرداء كيف كان وإنه إنما جعل ما على يمينه منه على يساره، وما على يساره على يمينه لما ثقل عليه أن يجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، فكذلك نقول ما أمكن أن يجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، فقلبه كذلك هو وما لا يمكن ذلك فيه حوله فجعل الأيمن منه أيسر والأيسر منه أيمن – انتهى. قلت: اختلفوا في حكم التنكيس – وهو أن يجعل
رواه أحمد وأبوداود.

(9/346)


1517- (8) وعن عمير مولى آبي اللحم، أنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسفله أعلاه -، فقال الجمهور: مالك وأحمد باستحباب التحويل فقط، وروي ذلك عن أبان بن عثمان وعمر بن عبدالعزيز وهشام بن إسماعيل وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان يقول به الشافعي ثم رجع فاستحب فعل ما هم به - صلى الله عليه وسلم - من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف، وتقدم مذهب الحنفية في كلام الطحاوي، وزعم القرطبي كغيره إن الشافعي اختار في الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذي في كتاب الأم أنه اختار التنكيس مع التحويل. قال الحافظ في الفتح: ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط – انتهى. وذلك لأنه اختار الجمع بين التحويل والتنكيس كما تقدم، وإذا كان مذهبه ما ذكره عنه القرطبي فليس بأحوط، واستدل الجمهور بحديث العطاف. قال ابن قدامة: وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك والزيادة التي نقلوها – يعني في التنكيس – إن ثبتت فيه ظن الراوي لا يترك لها فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نقل تحويل الرداء جماعة لم ينقل أحد منهم أنه جعل أعلاه أسفله، ويبعد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك ذلك في جميع الأوقات لثقل الرداء – انتهى. قلت: الزيادة المذكورة لا تنحط عن درجة الحسن، بل هي صحيحة، وهي إخبار عن مشاهدة، وفيها الجمع بين الروايات، فالأحوط عندنا هو ما ذكره الشافعي في الأم من استحباب التنكيس مع التحويل، والله تعالى أعلم. (رواه أحمد) (ج4 ص41-42)، (وأبوداود) وأخرجه الحاكم (ج1 ص327) والبيهقي (ج3 ص351) وأبوعوانة وابن حبان، وأخرجه النسائي مختصرا، أي إلى قوله: وعليه خميصة سوداء، والحديث قد سكت عنه أبوداود والمنذري، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال في الإلمام: إسناده على شرط الشيخين.

(9/347)


1517- قوله (وعن عمير) بالتصغير مولى آبي اللحم الغفاري، صحابي شهد خيبر مع مولاه، وعاش إلى نحو السبعين. (مولى آبى اللحم) بألف ممدودة اسم فاعل من أبى بمعنى امتنع. قال الحافظ: آبى اللحم – بالمد – بلفظ اسم الفاعل من الإباء، صحابي مشهور غفاري، يقال: إن اسمه خلف، وقيل غير ذلك، شهد حنينا، ومعه مولاه عمير، وإنما لقب بآبي اللحم لأنه كان يأبى أن يأكل اللحم مطلقا، وقيل: لأنه كان لا يأكل ما ذبح للأصنام في الجاهلية، قال ابن عبدالبر: هو من قدماء الصحابة وكبارهم، ولا خلاف أنه شهد حنينا وقتل بها، قيل: هو الذي يروي هذا الحديث ولا يعرف له حديث سواه، قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة آبي اللحم: له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد في الاستسقاء، روى عنه عمير مولاه (أنه) الضمير لعمير.
رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي عند أحجار الزيت، قريبا من الزوراء قائما يدعو يستسقي، رافعا يديه قبل وجهه لا يجاوزه بهما رأسه، رواه أبوداود، وروى الترمذي، والنسائي نحوه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/348)


(رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - يستسقي عند أحجار الزيت) قال ياقوت الحموي: موضع بالمدينة، قريب من الزوراء، وهو موضع صلاة الاستسقاء، وقال العمراني: أحجار الزيت موضع بالمدينة داخلها، وقال القاري: موضع بالمدينة من الحرة، سمي بذلك لسواد أحجاره كأنها طليت بالزيت – انتهى. (قريبا) أي حال كونه قريبا أو في مكان قريب (من الزوراء) بفتح الزاء المعجمة وسكون الواو موضع عند سوق المدينة مرتفع كالمنارة قرب المسجد (قائما) أي يستسقي قائما (يدعو يستسقي) حالان أي داعيا مستسقيا (رافعا يديه) وفي رواية لأحمد: رافعا كفيه (قبل وجهه) بكسر القاف وفتح الموحدة أي قبالته (لا يجاوز بهما) أي بيديه حين رفعهما (رأسه) قال القاري: لا ينافي ما مر عن أنس أنه كان يبالغ في الرفع للاستسقاء لاحتمال أن ذلك كان أكثر أحواله، وهذا في نادر منها أو بالعكس – انتهى. وزاد أحمد في روايته: مقبل بباطن كفيه إلى وجهه ، وهذا لا يخالف ما مر من حديثه أيضا أنه كان يشير بظهر كفيه إلى السماء في الاستسقاء، أي يجعل بطون يديه مما يلي الأرض؛ لأنه يحتمل أنه كان يفعل تارة كذا وتارة كذا، والله تعالى أعلم. والحديث استدل به لأبي حنيفة على عدم استنان الصلاة في الاستسقاء؛ لأنه ليس فيه ذكر الصلاة، وقد تقدم الجواب عنه. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص223) وسكت عنه أبوداود. (وروى الترمذي والنسائي نحوه) أي معناه كلاهما عن قتيبة عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن يزيد بن عبدالله عن عمير مولى آبي اللحم عن آبي اللحم أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أحجار الزيت يستسقي، وهو مقنع بكفيه يدعو، قال الترمذي: كذا قال قتيبة في هذا الحديث "عن آبي اللحم" ولا نعرف له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث الواحد، وعمير مولى آبي اللحم قد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وله صحبة – انتهى. قال الشيخ أحمد

(9/349)


شاكر في تعليقه على الترمذي: هكذا روى الترمذي والنسائي عن قتيبة أنه زاد في الإسناد "عن آبي اللحم"، ولكن رواه أحمد عن قتيبة نفسه من حديث عمير مولى آبي اللحم ولم يذكر عن آبي اللحم، وذكر الحديث في مسند عمير، فلعل قتيبة لم يحفظ هذا الحديث جيدا، فكان يرويه مرة هكذا ومرة هكذا، وقد أخطأ في إسناده خطأ آخر إذ جعل الرواية عن يزيد بن عبدالله بن الهاد عن عمير مباشرة، والصواب أن يزيد رواه عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عمير كما في رواية أحمد وأبي داود من طريق حيوة وعمر بن مالك عن ابن الهاد – انتهى. قلت: ورواه الحاكم (ج1 ص327) من طريق يحيى بن بكير عن الليث، فجعله من حديث عمير مولى آبي اللحم، ولم يذكر "عن آبي اللحم" وقال: صحيح الإسناد، وعمير مولى آبي اللحم له صحبة – انتهى. وهذا يؤيد أن الحديث
1518- (9) وعن ابن عباس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - يعني في الاستسقاء متبذلا، متواضعا، متخشعا، متضرعا، رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مسند عمير لا من مسند مولاه آبي اللحم، وأن قتيبة لم يحفظ جيدا، ووافق الذهبي الحاكم في تصحيح الحديث، لكن زاد في السند لفظ "عن آبي اللحم" وروى أحمد (ج4 ص36) وأبوداود من طريق شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن محمد بن إبراهيم قال: أخبرني من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو عند أحجار الزيت باسطا كفيه، اللفظ لأبي داود، قال الحافظ في مبهمات التقريب، وتهذيب التهذيب: محمد بن إبراهيم التيمي أخبرني من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أحجار الزيت، هو عمير مولى آبي اللحم – انتهى. وهو أيضا يرجح كون الحديث من مسند عمير لا من مسند مولاه آبي اللحم.

(9/350)


1518- قوله (يعني في الاستسقاء) أي يريد ابن عباس أنه – عليه الصلاة والسلام – خرج إلى المصلى في الاستسقاء، وهو من كلام البغوي، وأول الحديث قال إسحاق بن عبدالله بن الحارث بن كنانة: أرسلني الوليد بن عتبة - وكان أمير المدينة – إلى ابن عباس أسأله عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء فأتيته فقال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (متبذلا) بمثناة فوقية ثم موحدة ثم ذال معجمة، أي لابسا ثياب البذلة، تاركا لثياب الزينة، تواضعا لله تعالى وإظهارا للحاجة. قال في النهاية: التبذل ترك التزين والتهيء بالهيئة الحسنة الجميلة على جهة التواضع (متواضعا) في الظاهر (متخشعا) في الباطن، وقال الشوكاني: قوله: متخشعا، أي مظهرا للخشوع ليكون ذلك وسيلة إلى نيل ما عند الله عز وجل، زاد في رواية ابن ماجه والحاكم، وكذا في رواية لأحمد (ج1 ص230) والبيهقي (ج3 ص344): مترسلا، أي متأنيا غير مستعجل في مشيه، يقال: ترسل الرجل في كلامه ومشيه: إذا لم يعجل (متضرعا) أي مظهرا للضراعة، وهي التذلل عند طلب الحاجة والمبالغة في السؤال والرغبة، ووقع عند أبي داود فيما روى عن عثمان بن أبي شيبة: حتى أتى المصلى فرقى على المنبر، وكذا وقع ذكر الجلوس على المنبر عند النسائي من رواية أبي جعفر محمد بن عبيد بن محمد النحاس الكوفي المحاربي، وعند البيهقي من رواية أبي ثابت محمد بن عبيدالله بن محمد المدني، ووقع عند الثلاثة، وكذا عند الترمذي وغيره: فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيدين، ولفظ أبي داود: ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد، وقد تقدم الكلام على معناه (رواه الترمذي)...الخ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص230، 269، 355)، وأبوعوانة وابن حبان والحاكم (ج1 ص326)، والدارقطني والبيهقي (ج3 ص344)، وصححه الترمذي وأبوعوانة وابن حبان.

(9/351)


1519- (10) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استسقى قال: ((اللهم اسق عبادك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت)) رواه مالك وأبوداود.
1520- (11) وعن جابر قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواكيء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1519- قوله (عن أبيه) شعيب (عن جده) عبدالله بن عمرو بن العاص (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استسقى) أي طلب الغيث عند الحاجة (قال) أي في دعائه (اللهم اسق) بهمزة الوصل والقطع (عبادك) من الرجال والنساء والعبيد والإماء والصغير والكبير، وفي الإضافة إليه تعالى مزيد الاستعطاف (وبهيمتك) أي بهائمك من جميع دواب الأرض وحشراتها، قال في القاموس: البهيمة كل ذات أربع قوائم، ولو في الماء، أو كل حي لا يميز – انتهى. وهذا لفظ مالك في الموطأ، وعند أبي داود: وبهائمك، بلفظ الجمع (وانشر) بضم الشين، أي ابسط وعمم (رحمتك) أي المطر ومنافعه وبركاته، قال تعالى: ?وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته? [الشورى: 28]، (وأحي) أمر من الإحياء (بلدك الميت) بتشديد الياء أن بإنبات الأرض بعد موتها أي جدبها ويبسها كأنه تلميح إلى قوله تعالى: ?فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها? [الروم: 50] وإلى قوله: ?والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها? [فاطر: 9]، وإلى قوله: ?وأحيينا به بلدة ميتا? [ق: 11]، قال الطيبي: يريد به بعض البلاد المبعدين عن مظان الماء الذي لا ينبت فيها عشب للجدب فسماه ميتا على الاستعارة ثم فرع عليه الإحياء، والحديث دليل على استحباب الدعاء بما اشتمل عليه عند الاستسقاء (رواه مالك وأبوداود) ظاهر هذا أنهما روياه موصولا، وليس كذلك، فإن حديث مالك مرسل، قال الزرقاني: رواه مالك وجماعة عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه أن رسول الله - صلى الله

(9/352)


عليه وسلم - مرسلا، ورواه آخرون عن يحيى عن عمرو عن أبيه عن جده مسندا، منهم الثوري عند أبي داود – انتهى. قلت: وأخرجه البيهقي (ج3 ص356) من طريق عبدالرحيم بن سليمان الأشل عن الثوري موصولا، قال الحافظ في التلخيص (ص151): ورجح أبوحاتم إرساله – انتهى.
1520- قوله (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواكئ) بضم الياء المثناة تحت وآخره همزة بصيغة المضارع من المواكأة، هكذا وقع في جميع النسخ من المصابيح والمشكاة، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص140)، وهكذا ذكره الخطابي في معالم السنن (ج1 ص254)، ثم فسره فقال: معناه يتحامل على يديه إذا رفعهما ومدهما في الدعاء، ومن هذا التوكؤ على العصا وهو التحامل عليها – انتهى. قال القاري: المواكأة والتوكؤ والاتكاء: الاعتماد، والتحامل على الشيء في النهاية، أي يتحامل على يديه أي يرفعهما ويمدهما في الدعاء، ومنه
فقال: ((اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مريئا، مريعا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/353)


التوكؤ على العصا، وهو التحامل عليها، هكذا قال الخطابي في معالم السنن، والذي جاء في سنن أبي داود: "بواكئ" بالباء الموحدة، هكذا جاء في الكتاب فيما قرأناه، وبحثت عنه في نسخ أخرى فوجدته كذلك – انتهى. قلت: وهكذا وقع بالباء الموحدة المفتوحة عند الحاكم في المستدرك، أي جاءت عند النبي- صلى الله عليه وسلم - نفوس باكية أو نساء باكيات لانقطاع المطر عنهم، ملتجئة إليه، قال في فتح الودود: هذه هي الرواية المعتمدة في سنن أبي داود، وقد صحف كثير منهم نسخ السنن بوجوه متعددة لا يظهر لبعضها معنى صحيح – انتهى. وقال المنذري: هكذا وقع في روايتنا وفي غيرها مما شاهدناه "بواكئ" بالباء الموحدة المفتوحة، وذكر الخطابي قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يواكئ – بضم الياء باثنتين من تحتها – انتهى. قال الحافظ في التلخيص: وقد تعقبه النووي في الخلاصة وقال: وهذا الذي ادعاه الخطابي لم تأت به الرواية ولا انحصر الصواب فيه، بل ليس هو واضح المعنى، وصحح بعضهم ما قال الخطابي. قال الحافظ: وقد رواه البزار بلفظ يزيل الإشكال، وهو عن جابر أن بواكي أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أعله الدارقطني في العلل بالإرسال، وقال: رواية من قال عن زيد الفقير من غير ذكر جابر أشبه بالصواب، وكذا قال أحمد بن حنبل كما في البيهقي (ج3 ص355)، وجرى النووي في الأذكار على ظاهره فقال: صحيح على مسلم – انتهى. قلت: وفي رواية للبيهقي: أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - هوازن بدل بواكي. (اللهم أسقنا) بالوصل والقطع (غيثا) أي مطرا يغيثنا من الجدب، فقوله (مغيثا) بضم الميم تأكيدا وتجريدا، وأريد به المنقذ من الشدة على ما في النهاية. قال الطيبي: عقب الغيث وهو المطر الذي يغيث الخلق من القحط على الإسناد المجازي وإلا فالمغيث في الحقيقة هو الله سبحانه – انتهى. وقال القاري: مغيثا بضم أوله أي معينا من الإغاثة بمعنى الإعانة، وقيل: أي مشبعا

(9/354)


(مريئا) بفتح الميم وبالمد وبالهمزة أي هنيئا محمود العاقبة لا ضرر فيه من الغرق والهدم، في النهاية: مرأني الطعام وامرأني: إذا لم يثقل على المعدة وانحدر عنها طيبا، وقيل: بفتح الميم وتشديد الياء بغير همز، أبدلت الهمزة ياء ثم أدغمت، وقيل: هو ناقص، ومعناه: كثيرا غزيرا، المري والمرية: الناقة العزيرة الدر، من المري وهو الحلب، قال التوربشتي: في شرح المصابيح: مريئا أي صالحا كالطعام الذي يمرأ، ومعناه الخلو عن كل ما ينقصه كالهدم والغرق، ويحتمل أن يكون بغير همزة، ومعناه مدرارا، من قولهم: ناقة مري، أي كثير اللبن ولا أحققه رواية – انتهى. (مريعا) بفتح الميم وسكون التحتية – أي ذا مراعة، وهي الخصب، فعيل من مرع الأرض – بالضم – مراعة، أي صارت كثيرة الماء والنبات، وقيل: بضم الميم وسكون التحتية أي أسقنا غيثا كثير النماء ذا ريع، من أراعت الإبل إذا كثرت أولادها، ويقال: راع الطعام وأراع إذا صارت له زيادة في العجين والخبز، وروي مربعا – بضم الميم وكسر الباء الموحدة – أي منبتا للربيع، وهو النبات الذي يرعاه الشاء في الربيع من أربع الغيث إذا أنبت الربيع، وقيل: معناه مقيما للناس مغنيا لهم عن
نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل))، قال: فأطبقت عليهم السماء. رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
1521- (12) عن عائشة قالت: شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر، فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/355)


الارتياد والنجعة أي طلب الكلأ، فالناس يربعون حيث شاءوا أي يقيمون ولا يحتاجون إلى الانتقال في طلب الكلأ لعمومه جميع البلاد، من أربع بالمكان إذا أقام به، وروي مرتعا – بفتح الميم وبالباء المثناة من فوق – أي منبتا ما ترتع فيه المواشي وترعاه، من الرتع وهو الاتساع في الخصب، فكل خصب مرتع، ومنه: ?يرتع ويلعب?. (نافعا) إجمال بعد تفصيل (غير ضار) تأكيد (عاجلا) في الحال (غير آجل) مبالغة (قال) أي جابر (فأطبقت) على بناء الفاعل، وقيل بالمفعول (عليهم السماء)، يقال: أطبق إذا جعل الطبق على رأس شيء وغطاه به، أي جعلت عليهم السحاب كطبق، قيل: أي ظهر السحاب في ذلك الوقت وغطاهم كطبق فوق رؤسهم بحيث لا يرون السماء من تراكم السحاب وعمومه الجوانب، وقيل: أطبقت بالمطر الدائم، يقال: أطبقت عليه الحمى أي دامت، وفي شرح السنة: أي ملأت، والغيث المطبق هو العام الواسع (رواه أبوداود) وأخرجه الحاكم (ج1 ص327) والبيهقي (ج3 ص355) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال النووي: صحيح على شرط مسلم، وتقدم أن الدارقطني أعله في العلل بإرسال، وقد رويت بعض هذه الألفاظ وبعض معانيها عن جماعة من الصحابة مرفوعة، ذكرها الشوكاني في النيل.

(9/356)


1521- قوله (قحوط المطر) بضم القاف أي حبس المطر وفقده، قال الطيبي: القحوط مصدر كالقحط أو هو جمعه، وأضافه إلى المطر ليشير إلى عمومه في بلدان شتى، وقال المجد في القاموس: القحط احتباس المطر، قحط العام كمنع وفرح وعني قحطا وقحط الناس كسمع وقحطوا وأقحطوا بضمهما لغتان (فأمر) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بمنبر فوضع له في المصلى) فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بإخراج المنبر في الاستسقاء إلى المصلى، وخالفه الحنفية فقالوا: لا يخرج (ووعد الناس يوما) أي عينه لهم (يخرجون فيه) أي في ذلك اليوم، وفيه ما يدل على أنه يحسن تقديم تبيين اليوم للناس ليتأهبوا ويتخلصوا من المظالم ونحوها ويقدموا التوبة، وهذه الأمور واجبة مطلقا إلا أنه مع حصول الشدة وطلب تفريجها من الله تعالى يتضيق ذلك، وقد ورد في الإسرائيليات: إن الله حرم قوما من بني إسرائيل السقيا؛ لأنه كان فيهم فيهم عاص واحد، وقال الله تعالى: ?ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون?
قالت عائشة: ((فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدأ حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر، وحمد الله،

(9/357)


[الأعراف: 96] ولفظ الناس يعم المسلمين وغيرهم، قيل: فيشرع إخراج أهل الذمة ويعتزلون المصلى. وقال ابن قدامة: لا يستحب إخراج أهل الذمة وإن خرجوا لم يمنعوا ويؤمروا بالانفراد عن المسلمين (حين بدا) بالألف لا بالهمز أي ظهر (حاجب الشمس) أي أولها أو ناحيتها. قال ميرك: الظاهر أن المراد بالحاجب ما طلع أولا من جرم الشمس مستدقا مشبها بالحاجب. وقال في المغرب: حاجب الشمس أول ما يبدو من الشمس، مستعار من حاجب الوجه. وقال في القاموس: حاجب الشمس ضوءها أو ناحيتها- انتهى. وإنما سمي الضوء حاجبا لأنه يحجب جرمها عن الإدراك، وفيه استحباب الخروج لصلاة الاستسقاء عند طلوع الشمس. قال القسطلاني بعد ذكر حديث عائشة هذا ما لفظه. وبهذا أخذ الحنفية والمالكية والحنابلة فقالوا: إن وقتها وقت صلاة العيد، والراجح عند الشافعية أنه لا وقت لها معين وإن كان أكثر أحكامها كالعيد بل جميع الليل والنهار وقت لها لأنها ذات سبب فدارت مع سببها كصلاة الكسوف لكن وقتها المختار وقت صلاة العيد كما صرح الماوردي وابن الصلاح لهذا الحديث- انتهى. قلت: ظاهر كلام العيني في شرح الهداية أن مذهب الحنفية التعميم فإنه قال: ثم الاستسقاء لا يختص بوقت صلاة العيد ولا بغيره ولا بيوم، وقيل يختص بوقت صلاة العيد والصحيح أنه لا يختص، وفي المدونة يصلي ركعتين ضحوة فقط. وقال ابن قدامة: ليس لصلاة الاستسقاء وقت معين إلا أنها لا تفعل في وقت النهي بغير خلاف قال والأولى فعلها في وقت العيد لحديث عائشة عند أبي داود؛ ولأنها تشبهها في الموضع والصفة فكذلك في الوقت؛ لأن وقتها لا يفوت بزوال الشمس؛ لأنها ليس لها يوم معين فلا يكون لها وقت معين- انتهى. وهذا الاختلاف إنما هو في الاستسقاء الذي يكون معهودا بالصلاة، وأما بمجرد الدعاء فلا وقت له بلا خلاف (فقعد على المنبر) فيه استحباب الصعود على المنبر لخطبة الاستسقاء، وإليه ذهب أحمد. قال ابن قدامة: قال أبوبكر اتفقوا عن

(9/358)


أبي عبدالله إن في صلاة الاستسقاء خطبة وصعودا على المنبر- انتهى. ومنعه الحنفية، قال في البدائع: لا يخرج المنبر في الاستسقاء ولا يصعده لو كان في موضع الدعاء منبر، لأنه خلاف السنة - انتهى. وحديث عائشة هذا نص في إخراج المنبر والصعود عليه، وهو حديث متصل جيد الإسناد كما قال أبوداود، وقد أقره المنذري، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وابن السكن، ويؤيده لفظ: فرقي المنبر في حديث ابن عباس عند أبي داود وغيره فالظاهر ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه من استحباب إخراج المنبر والصعود عليه لخطبة الاستسقاء وهذا بخلاف العيد فإن إخراج المنبر فيه أمر منكر فقد عاب الناس على مروان عند إخراجه المنبر في العيدين ونسبوه إلى خلاف السنة كما تقدم ولا يخالفه ما روى البخاري وغيره أن عبدالله بن يزيد
ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم واستيخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت الغني، ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين، ثم رفع يديه، فلم يترك الرفع حتى بدا

(9/359)


خرج ومعه البراء بن عازب وزيد بن أرقم فاستسقى فقام لهم على رجليه على غير منبر فاستسقى ثم صلى ركعتين- الحديث. لأن إخراج المنبر والصعود عليه لخطبة الاستسقاء ليس واجبا ولا سنة مؤكدة فلا يكون في تركه الأمر بإخراج المنبر وفي تركهم الإنكار عليه دليل على كونه خلاف السنة (إنكم شكوتم) إلى الله ورسوله (جدب دياركم) بفتح الجيم وسكون المهملة أي قحطها (وأستيخار المطر) أي تأخره. قال الطيبي: والسين للمبالغة يقال: استأخر الشيء إذا تأخر تأخرا بعيدا (عن إبان زمانه) بكسر الهمزة بعدها باء موحدة مشددة أي عن أول زمان المطر والإبان أول الشيء. قال في النهاية: قيل نونه أصلية فيكون فعالا، وقيل زائدة فيكون فعلان من آب الشيء يؤب إذا تهيأ للذهاب، وفي القاموس: إبان الشيء بالكسر حينه أو أوله (عنكم) متعلق باستيخار (وقد أمركم الله) في كتابه (أن تدعوه) أي دائما خصوصا عند الشدائد. قال تعالى: ?أدعوني أستجب لكم? [غافر:60] (ووعدكم أن يستجيب لكم) كما في الآية الأولى، وفي قوله: ?وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان? [البقرة: 186] (مالك يوم الدين) قال القاري: بالألف في جميع النسخ- انتهى. وكذا وقع في جامع الأصول (ج7:ص137) وفي سنن أبي داود: ملك يوم الدين بقصر الميم أي بلا ألف بعد الميم، وكذا عند البيهقي قال أبوداود بعد رواية الحديث أهل المدينة يقرؤون ملك يوم الدين (بغير ألف) وأن هذا الحديث حجة لهم – انتهى. (ونحن الفقراء) أي إلى إيجادك وإمدادك (الغيث) أي المطر الذي يغيثنا من الضرر (ما أنزلت) أي من الخير المنزل (قوة) أي سببا لقوتنا على الطاعة (وبلاغنا) أي زادا يبلغنا (إلى حين) أي إلى زمان طويل يعني مده لنا مدا طويلا ليكمل ويتم انتفاعنا به. قال الطيبي: البلاغ ما يتبلغ به إلى المطلوب. والمعنى اجعل الخير الذي أنزل علينا سببا لقوتنا ومددا لنا مددا طوالا، وفي بعض نسخ أبي داود "إلى خير" بدل "إلى

(9/360)


حين" (ثم رفع يديه) (أي للدعاء (فلم يترك الرفع) بل بالغ، فيه كذا في جميع النسخ فلم يترك، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7:ص137) وكذا وقع عند البيهقي. وفي أبي داود: فلم يزل في الرفع، وكذا وقع في المستدرك، وكذا نقله المجد في المنتقى والزيلعي في نصب الراية: والحافظ في بلوغ المرام (حتى بدا)
بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره وقلب أو حول رداءه، وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل، فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبدالله ورسوله)) رواه أبوداود.
1522- (13) وعن أنس، أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس

(9/361)


أي ظهر (بياض إبطيه) فيه استحباب المبالغة في رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، وقد تقدم بيانه (ثم حول إلى الناس ظهره) فاستقبل القبلة إشارة إلى الرجوع إلى الله والانقطاع عما سواه (وقلب) بالتشديد والتخفيف (أو حول) شك من الراوي (رداءه) فيه استحباب تحويل الرداء عند استقبال الخطيب القبلة (وهو رافع يديه) حال من قوله: حول إلى الناس ظهره، يعني هذه الحالة كانت موجودة في حال تحويل ظهره أيضا (ثم أقبل على الناس) أي توجه إليهم بعد تحويل ظهره عنهم (ونزل) من المنبر (فأنشأ الله) أي أوجد وأحدث (فرعدت وبرقت) بفتح الراء أي ظهر فيها الرعد والبرق فالنسبة مجازية (ثم أمطرت بإذن الله) بالألف من الأمطار، وفيه دليل للمذهب المختار الذي عليه الأكثرون، والمحققون من أهل اللغة، أن أمطرت ومطرت لغتان في المطر، خلافا لما قال بعض أهل اللغة أنه لا يقال أمطرت إلا في العذاب (فلم يأت) رسول الله صلى الله عليه وسلم من المحل الذي استسقى فيه من الصحراء (مسجده) النبوي (حتى سالت السيول) من جميع الجوانب (فلما رأى سرعتهم) أي سرعة مشيهم والتجاءهم (إلى الكن) بكسر الكاف وتشديد النون وهو ما يرد به الحر والبرد من المساكن. وقال في القاموس: الكن وقاء كل شيء وستره كالكنة والكنان بكسرهما والبيت والجمع أكنان وأكنة- انتهى. (ضحك حتى بدت نواجذه) النواجذ على ما ذكره صاحب القاموس أقصى الأضراس، وهي أربعة أو هي الأنياب أو التي تلي الأنياب أو هي الأضراس كلها جمع ناجذ، والنجذ شدة العض بها- انتهى. قال الطيبي: كان ضحكه تعجبا من طلبهم المطر اضطرارا ثم طلبهم الكن عنه فرارا ومن عظيم قدرة الله وإظهار قربة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وصدقه بإجابة دعاءه سريعا ولصدقه أتى بالشهادتين (رواه أبوداود) وقال: هذا حديث غريب إسناده جيد، وأخرجه أيضا أبوعوانة وابن حبان والحاكم (ج1:ص328) والبيهقي (ج3:ص349) وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وصححه أيضا أبوعلي بن

(9/362)


السكن، كما في التلخيص.
1522- قوله: (كان إذا قحطوا) بضم القاف وكسر الحاء المهملة أي أصابهم القحط (استسقى بالعباس)
ابن عبدالمطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك نبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا،فاسقنا فيسقون.
أي توسل عمر بدعائه وشفاعته في الاستسقاء. وقال القاري: أي تشفع به في الإستسقاء بعد استغفاره ودعائه (بن عبدالمطلب) للرحم التي بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد عمر أن يصلها بمراعاة حقه إلى من أمر بصلة الأرحام ليكون ذلك وسيلة إلى رحمة الله. قال الحافظ: وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناده أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس، وأخرج أيضا من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب فذكر الحديث وفيه فخطب الناس عمر فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا أيها الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله، وفيه: فما برحوا حتى سقاهم الله، وذكر ابن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة ثمان عشرة وكان ابتداءه مصدر الحاج منها ودام تسعة أشهر، والرمادة بفتح الراء وتخفيف الميم، سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب فأغبرت الأرض جدا من عدم المطر- انتهى. وعند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان فلما صعد عمر ومعه العباس المنبر قال عمر: اللهم توجهنا إليك بعم نبيك وصنو أبيه فاسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ثم قال: قل يا أباالفضل فقال العباس: اللهم لم ينزل بلاء إلا بذنب إلخ

(9/363)


(اللهم إنا كنا نتوسل إليك نبينا) أي بدعائه وشفاعته في حال حياته لا بذاته (فتسقينا) بفتح حرف المضارعة وضمها (وإنا) أي بعده (نتوسل إليك بعم نبينا) العباس أي بدعائه وشفاعته (فاسقنا) بالوجهين (فيسقون) في هذه القصة الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيها فضل العباس وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه، قاله الحافظ. وقد استدل القبوريون بهذا الحديث على التوسل المعهود فيما بينهم، وهو مردود، فإن التوسل المذكور في الحديث ليس هو التوسل بذات الحي أو الميت أو التوسل بذكر إسمه، بل إنما هو التوسل بدعاء الحي وشفاعته والذي فعله عمر، فعله مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين فتوسلوا بدعاء يزيد بن الأسود الجرشي، كما توسل عمر بالعباس، وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم أنه يتوسل في الإستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح قالوا: وإن كان من أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أفضل إقتداء بعمر ولم يقل أحد من أهل العلم يسأل الله تعالى في ذلك بمخلوق لا بنبي ولا بغير نبي. قال ابن قدامة (ج2:ص439) ويستحب أن يستسقى بمن ظهر صلاحه؛ لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء ثم ذكر قصة
رواه البخاري.
1523- (14) وعن أبي هريرة، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقى، فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء، فقال: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة)) رواه الدارقطني.

(9/364)


استسقاء عمر بدعاء العباس وقصة استسقاء معاوية والضحاك بدعاء يزيد بن الأسود الجرشي. وقال صاحب فيض الباري: ليس في الحديث التوسل المعهود الذي يكون بالغائب حتى قد لا يكون به شعور أصلا بل فيه توسل السلف، وهو أن يقدم رجلا ذا وجاهة عند الله تعالى ويأمره أن يدعو لهم ثم يحيل عليه في دعائه كما فعل بعباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان فيه توسل المتأخرين (أي من الحنفية ومنهم القبوريون) لما احتاجوا إلى إذهاب العباس معهم ولكفى لهم التوسل بنبيهم بعد وفاته أيضا أو بالعباس مع عدم شهوده معهم - انتهى. هذا وقد بسط الكلام في الرد على استدلال القبوريين بهذا الحديث الإمام تقي الدين بن تيمية في رسالته التوسل (ص50-51 و86-87 و110) والعلامة السهسواني في صيانة الإنسان (ص131-210) فعليك أن ترجع إليهما (رواه البخاري) وأخرجه أيضا البيهقي (ج3:ص352) وقد وقع في رواية الإسماعيلي رفع هذا الحديث ولفظه: قال أي أنس كانوا إذا قحطوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقوا به فيستسقى لهم فيسقون فلما كان في إمارة عمر- الحديث. وكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه، كما في الفتح.

(9/365)


1523- قوله: (خرج نبي من الأنبياء) هو سليمان عليه السلام (بالناس يستسقى) فيه دلالة على أن الإستسقاء شرع قديم والخروج له كذلك (فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال ارجعوا) إلخ. وفي لفظ لأحمد: خرج سليمان يستسقى فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم (من أجل هذه النملة) في السنن للدارقطني من أجل شأن هذه النملة، وفي الحديث إظهار عظمة الله تعالى وقدرته وغناه عما سواه، وفيه بيان رأفته ورحمته على كافة المخلوقات وإحاطة علمه بأحوال سائر الموجودات وأنه مسبب الأسباب وقاضي الحاجات وأن للبهائم إدراكا يتعلق بمعرفة الله ومعرفة بذكره فتطلب الحاجات منه (رواه الدارقطني) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج1:ص325) وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وأخرجه الطحاوي من طرق منها من حديث أبي الصديق الناجي قال: خرج سليمان عليه السلام فذكره، وفي آخره: ارجعوا فقد كفيتم بغيركم، وفي ابن ماجه
(53) باب في الرياح
?الفصل الأول?
1524- (1) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نصرت بالصبا،

(9/366)


من حديث ابن عمر في أثناء حديث ولولا البهائم لم يمطروا، وفي إسناده خالد بن يزيد بن عبدالرحمن بن أبي مالك، وهو ضعيف، وفي حديث أبي هريرة عند أبي يعلى والبزار والبيهقي، مهلا عن الله مهلا فاته لولا شباب خشع وبهائم رتع وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صبا، وفي إسناده إبراهيم بن خثيم بن عراك، وقد ضعفوه، وأخرجه أبونعيم والبيهقي وابن عدي من طريق مالك بن عبيدة بن مسافع عن أبيه عن جده ومالك بن عبيده قال: أبوحاتم وابن معين مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدي ليس له غير هذا الحديث، وله شاهد مرسل أخرجه أبونعيم أيضا. فائدة إذا تأخر المطلوب أي لم يسقوا بعد الخروج إلى الصحراء وصلاة الاستسقاء كرروا الخروج في اليوم الثاني والثالث لا أكثر، وهذا عند الحنفية والحنابلة، وأما عند الشافعية والمالكية فيكرروا الخروج ثانيا وثالثا وأكثر حتى يسقوا وإذا سقوا قبل الخروج وقد كانوا تأهبوا للخروج خرجوا وصلوا شكرا لله تعالى وحمدوه ودعوه وسألوه المزيد من فضله، وكذلك إذا خرجوا وسقوا قبل أن يصلوا فائدة أخرى إذا كثر المطر بحيث يضرهم، أو مياه الأنهار والعيون دعوا الله تعالى أن يخففه ويصرف عنهم مضرته ويجعله في أماكن تنفع ولا تضر كدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: باللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر، ولأن الضرر بزيادة المطر أحد الضررين فيستحب الدعاء لإزالته كإنقطاعه، وأما النداء بكلمات الأذان المشروعة للإعلام بأوقات الصلوات الخمس لرفع المطر أو تخفيفه عند الضرر بكثرته كما يفعله القبوريون فليس في شيء من السنة ولم يعرف في عهد السلف الصالح من الصحابة والتابعين ولم يؤثر من أتباعهم.

(9/367)


(باب في الرياح) وفي بعض النسخ: باب الرياح بالإضافة، وفي بعضها: باب من غير ترجمة، وهو بالسكون على الوقف أو بالرفع منونا على أنه خبر مبتدأ محذوف، وعلى النسختين الأوليين ما ذكر فيه من الرياح وقع بطريق التبع فلذا لم يتعرض له بالترجمة، ووجه ذكر ترجمة للرياح عقب باب الاستسقاء إن المطلوب بالاستسقاء نزول المطر والريح في الغالب تعقبه.
1254- قوله: (نصرت) بضم النون (بالصبا) بفتح المهملة وتخفيف الموحدة مقصورة هي الريح الشرقية
وأهلكت عاد بالدبور)).

(9/368)


(وأهلكت) بضم الهمزة وكسر اللام (عاد) قوم هود (بالدبور) بفتح الدال وتخفيف الموحدة المضمومة، هي الريح الغربية. قال الطيبي: الصبا الريح التي تجيئ من قبل ظهرك إذا استقبلت القبلة، ويقال لها: القبول بفتح القاف لأنها تقابل باب الكعبة إذ مهبها من مشرق الشمس ومطلعها، والدبور هي التي تجيئ من قبل وجهك إذا استقبلت القبلة أيضا فهي تأتي من دبرها ومهبها من مغرب الشمس قيل هذا في ديار خراسان وما وراء النهر وما في حكمهما من الأماكن التي قبلتها السمت الغربي دون الروم والعرب. وقال ابن الأعرابي: الصبا مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش، والدبور من مسقط النسر الطائر إلى سهيل، وفرق بين تفسير الطيبي وتفسير ابن الأعرابي: فإن الأول يشمل سعة المشرق والمغرب كلها، والثاني الناحية منها، قيل إن الصبا هي التي حملت ريح يوسف عليه السلام إلى يعقوب قبل البشير إليه فإليها يستريح كل مخزون، والدبور هي الريح العقيم ونصرته - صلى الله عليه وسلم - بالصبا كانت يوم الخندق الذي يقال له غزوة الأحزاب، وكانوا زهاء أثني عشر ألفا أو أكثر حين حاصروا المدينة فأرسل الله عليهم ريح الصبا باردة في ليالي شاتية شديدة البرد فسقت التراب والحصى في وجوههم وأطفأت نيرانهم وقطعت خيامهم فانهزموا من غير قتال ?إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها?- الآية. ومع ذلك فلم يهلك منهم أحد ولم يتأصلهم لما علم الله من رأفة نبيه عليه الصلاة والسلام بقومه رجاء أن يسلموا، وأما عاد فإنه ابن عوص بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام فتفرعت أولاده فكانوا ثلاث عشرة قبيلة ينزلون الأحقاف وبلادها وكانت ديارهم بالدهناء وعالج وبثرين ودبار وعمان إلى حضر موت وكانت أخصب البلاد وأكثرها جنانا، فلما سخط الله عليهم جعلها مفاوز فأرسل الله عليهم الدبور فأهلكتهم وكانت عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما أي متتابعة ابتدأت غدوة الأربعاء وسكنت في آخر الثامن

(9/369)


واعتزل هو ونبي الله عليه السلام ومن معه من المؤمنين، قيل :وكانوا أربعة آلاف في حظيرة لا يصيبهم منها إلا ما يلين الجلود وتلذ الأعين وكانت الريح تقلع الشجر وتهدم البيوت ومن لم يكن في بيته منهم أهلكته في البراري والجبال، وكان ترفع الظعينة بين السماء والأرض حتى ترى كأنها جرادة وترميهم بالحجارة فتدق أعناقهم، قيل: كان طول أحدهم أثني عشرة ذراعا، وقيل: كان أكثر من عشرة، وقيل: غير ذلك، وفي التفسير: أن الريح كانت تحمل الرجل فترفعه في الهواء ثم تلقيه فتشدخ رأسه فيبقى جثة بلا رأس فذلك قوله: ?كأنهم أعجاز نخل خاوية?[ الحاقة :6]، وروى ابن أبي حاتم من حديث ابن عمر والطبراني من حديث ابن عباس رفعاه ما فتح الله على عاد من الريح إلا موضع الخاتم فمرت بأهل البادية فحلمتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء والأرض فرأهم الحاضرة فقالوا: هذا عارض ممطرنا فألقتهم عليهم فهلكوا جميعا، والحديث قد استنبط منه ابن بطال تفضيل بعض المخلوقات على بعض يعني أن المقصود منه تفضيل الصبا على الدبور من جهة إضافة النصر للصبا والإهلاك للدبور وتعقب بأن كل واحدة منهما أهلكت أعداء الله ونصرت
متفق عليه.
1525- (2) وعن عائشة، قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يبتسم، فكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه))

(9/370)


أنبياءه وأولياءه، وقيل المقصود: بيان أن الأشياء والعناصر مسخرة تحت أمر الله تعالى وإرادته ردا على الطبيعيين والحكماء المتفلسفيين، فالريح مأمورة تجيئ تارة بأمره تعالى لنصرة قوم وتارة لإهلاك قوم، وفيه أيضا إخبار المرأ عن نفسه بما فضله الله تعالى به على سبيل تحديث النعمة لا على الفخر، ومن الرياح الجنوب وهي التي مهبها من جهة يمين القبلة والشمال وهي التي تهب من جهة شمالها، فهذه الأربع تهب من الجهات الأربع ولكل من الأربعة طبع فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة وهي ريح الجنة التي تهب عليهم كما في صحيح مسلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الاستسقاء وبدأ الخلق والأنبياء والمغازي ومسلم في الاستسقاء، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص222-228-324-341-355-373) والنسائي في التفسير من السنن الكبرى والبيهقي (ج3:ص364).

(9/371)


1525- قوله: (ضاحكا) حال أو مفعول ثان، وفي رواية للشيخين: مستجمعا ضاحكا. قال الحافظ في رواية الكشمهيني: مستجمعا ضحكا، أي مبالغا في الضحك لم يترك منه شيئا، يقال: استجمع السيل اجتمع من كل موضع واستجمعت للمرأ أموره اجتمع له ما يحبه، فعلى هذا قوله: ضاحكا منصوب على التمييز وإن كان مشتقا مثل لله دره فارسا، أي ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكا تاما مقبلا بكليته على الضحك (حتى أرى) أي أبصر (منه لهواته) بفتح اللام والهاء جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أعلى الحنك. قاله الأصمعي وقيل: هي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم وقيل: هي اللحمات في سقف أقصى الفم. وقيل: اللهاة قعر الفم قريب من أصل اللسان (إنما كان يتبسم) لا ينافي هذا الحديث ما جاء في الحديث الآخر: أنه ضحك حتى بدت نواجذه؛ لأن ظهور النواجذ وهي الأسنان التي في مقدم الفم أو الأنياب لا يستلزم ظهور اللهاة. قاله الحافظ: وقيل: كان التبسم على سبيل الأغلب وظهور النواجذ على سبيل الندرة (فكان) وفي الصحيحين قالت (أي عائشة) وكان (إذا رأى غيما) أي سحابا (عرف) بضم العين وكسر الراء مبنيا للمفعول أي التغيير (في وجهه) قال الطيبي: أي ظهر أثر الخوف في وجهه مخافة أن يحصل من ذلك السحاب أو الريح ما فيه ضرر الناس، دل نفي الضحك البليغ على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن فرحا لاهيا بطرا، ودل إثبات التبسم على طلاقة وجهه، ودل أثر خوفه من رؤية الغيم أو الريح على رأفته ورحمته على الخلق وهذا هو الخلق العظيم، كذا في المرقاة. وهذا
متفق عليه.

(9/372)


1526- (3) وعنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، وإذا تخيلت السماء، تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرى عنه، فعرفت ذلك عائشة، فسألته، فقال: لعله يا عائشة
القدر المذكور من حديث عائشة طرف من حديث طويل. أخرجه البخاري في تفسير سورة الأحقاف، ومسلم في الإستسقاء وبعده قالت يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية فقال يا عائشة: ما يؤمني أن يكون فيه عذاب عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا، وارجع لشرح هذا إلى الفتح من سورة الأحقاف (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير مطولا وفي الأدب مختصرا إلى قوله: إنما كان يبتسم. وأخرجه أيضا مطولا أبوداود في الأدب، والبيهقي في الاستسقاء (ج3:ص360).

(9/373)


1526- قوله: (إذا عصفت الريح) أي اشتد هبوبها (اللهم إني أسألك خيرها) أي خبر ذاتها (وخير ما فيها) أي من منافعها (وخير ما أرسلت به) أي بخصوصها في وقتها، وهو بصيغة المفعول، ويجوز أن يكون بصيغة الفاعل. قال الطيبي: يحتمل الفتح على الخطاب وشرما أرسلت على بناء المفعول ليكون من قبيل أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم، وقوله صلى الله عليه وسلم: الخير بيديك والشر ليس إليك (وإذا تخيلت السماء) أي تهيأت السحاب للمطر. قال الطيبي: السماء هنا بمعنى السحاب وتخيلت السماء إذا ظهر في السماء أثر المطر. وقال أبوعبيدة: تخيلت من المخيلة بفتح الميم وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة، وهي سحابة فيها رعد وبرق يخيل إليه أنها ماطرة يعني سحابة يخال فيها المطر وتكون مظنة للمطر. وقال الجزري: المخيلة السحابة التي يظن أن فيها مطرا وتخيلت السماء إذا تغيمت (تغير لونه) من خشية الله ومن رأفته على أمته وتعليما لهم في متابعته (وخروج) من البيت تارة (ودخل) أخرى (وأقبل وأدبر) فلا يستقر في حال من الخوف (فإذا مطرت) أي السحاب. وفي رواية البخاري: فإذا أمطرت السماء من الأمطار. قال الحافظ: فيه رد على من زعم أنه لا يقال أمطرت إلا في العذاب، وأما الرحمة فيقال مطرت- انتهى. ومطر السحاب وأمطرت بمعنى (سري عنه) بضم المهملة وتشديد الرأي بلفظ المجهول، أي كشف عنه الخوف والحزن وأزيل (فعرفت ذلك) أي التغيير (فسألته) أي عن سببه (لعله) أي لعل هذا
كما قال قوم عاد: ?فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا?)). وفي رواية : ويقول إذا رأى المطر رحمة - متفق عليه.

(9/374)


المطر. وقيل: لعل هذا السحاب (كما قال قوم عاد) الإضافة للبيان، أي مثل الذي قال في حقه قوم عاد هذا عارض ممطرنا قال تعالى: ?فلما رأوه? أي السحاب ?عارضا? أي سحابا عرض ?مستقبل أوديتهم? أي صحاريهم ومحال مزارعهم. قال الجزري: العارض السحاب الذي يعرض في السماء (قالوا) ظنا أنه سحاب ينزل منه المطر ?هذا عارض ممطرنا?، أي سحاب عرض ليمطر قال تعالى ردا عليهم: ?بل هو ما استعجلتم به? أي من العذاب ?ريح فيها عذاب أليم? ?تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين?[الأحقاف:25] فظهرت منه ريح فأهلكتهم فلا يجوز لأحد أن يأمن من عذاب الله تعالى. قال النووي: في الحديث الاستعداد بالمراقبة لله والالتجاء إليه عند إختلاف الأحوال وحدوث ما يخاف بسببه، وكان خوفه صلى الله عليه وسلم أن يعاقبوا بعصيان العضاة، وفيه تذكر ما يذهل المرأ عنه مما وقع للأمم الخالية والتحذير من السير في سبيلهم خشية من وقوع مثل ما أصابهم. وفيه شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم كما وصفه الله تعالى، فإن قيل كيف يخشى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب القوم وهو فيهم مع قوله تعالى: ?وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم?[الأنفال:33]، والجواب إن في الآية احتمال التخصيص بالمذكورين أو بوقت دون وقت أو مقام الخوف يقتضي غلبة عدم الأمن من مكر الله، (ويقول إذا رأى المطر رحمة) بالنصب أي اجعله رحمة لا عذابا وبالرفع أي هذا رحمة (متفق عليه) فيه نظر؛ لأن لفظ الرواية الأولى بالسياق المذكور من رواية ابن وهب عن ابن جريج عن عطاء عن عائشة من إفراد مسلم والرواية الثانية أيضا من إفراده أخرجها من طريق جعفر بن محمد عن عطاء عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقل وأدبر فإذا مطرت سربه، وذهب عنه ذلك قالت عائشة: فسألته فقال: إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي ويقول إذا

(9/375)


رأى المطر رحمة، وأما البخاري فأخرجه في أوائل بدء الخلق عن مكي بن إبراهيم عن ابن جريج عن عطاء عن عائشة مختصرا بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه فإذا مطرت سري عنه فعرفته عائشة ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما أدري لعله كما قال قوم ?فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم? الآية، فظهر بهذا أن قوله متفق عليه لا يخلو عن نظر اللهم إلا أن يقال إن المراد اتفاق الشيخين على أصل الحديث، ومعناه وقد أخرجه بسياق المشكاة البيهقي (ج3:ص360) وأخرجه الترمذي في الدعوات مختصرا إلى قوله وشر ما أرسلت به وأخرجه ابن ماجه في الدعاء بنحو رواية البخاري.
1527- (4) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مفاتيح الغيب خمس، ثم قرأ ?إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث? الآية))

(9/376)


1527- قوله: (مفاتيح الغيب) بوزن مصابيح جمع مفتاح، وهو الآلة التي يفتح بها (خمس) يعني العلوم التي يتوصل بها إلى الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، وروى مفاتح بوزن مساجد، وهو جمع مفتح بفتح الميم، وهو المخزن أي مخازن الغيب جعل للأمور الغيبية مخازن يخزن فيها على طريق الاستعارة أو جمع مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح جعل للأمور الغيبية مفاتيح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الاستعارة أيضا وقد عقد البخاري على هذا الحديث في تفسير سورة الأنعام باب قوله: ?وعند مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو?[ الأنعام: 59] وأراد بذلك أن يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر آية الأنعام بتلك الخمس المذكورة في سورة لقمان. قال الحافظ: المفاتح جمع مفتح بكسر الميم الآلة التي يفتح بها مثل منجل ومناجل، وهي لغة قليلة في الآلة، والمشهور مفتاح بإثبات الألف وجمعه مفاتيح بإثبات الياء، وقد قرئ بها في الشواذ قرأ ابن السميفع وعنده مفاتيح الغيب وقيل: بل هو جمع مفتح بفتح الميم وهو المكان، ويؤيده تفسير السدي فيما رواه الطبري مفاتح الغيب خزائنة-انتهى. قال القسطلاني: وعلى الأول قد جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة؛ لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالإغلاق فمن علم كيف يفتح بها ويتوصل إلى ما فيها فهو عالم، وكذلك ههنا لما كان الله تعالى عالما بجميع المعلومات ما غاب منها وما لم يغب عبر عنه بهذه العبارة إشارة إلى أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره وهذا هو الفائدة في التعبير بعند- انتهى. وقال في النهاية: المفاتيح والمفاتح جمع مفتاح ومفتح وهما في الأصل كل ما يتوصل به إلى استخراج المغلقات التي يتعذر الوصول إليها والمعنى لا يعلم كلياتها غير الله وقد يطلع بعض أصفيائه على جزئيات منهن، والغيب ما غاب عن الخلق وسواء كان محصلا في القلوب أو غير محصل ولا غيب عند الله عزوجل ذكره

(9/377)


العيني. وقال البيضاوي:الغيب هو الأمر الخفي الذي لا يدركه الحس ولا يقتضيه بداهة العقل، وهو قسمان: قسم لا دليل عليه وهو المعنى بقوله تعالى: ?وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو?[الأنعام:59]، وقسم نصب عليه دليل عقلي أو نقلي كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد في قوله: ?يؤمنون بالغيب?[البقرة:3] - انتهى. (ثم قرأ) أي بيانا لتلك الخمس (إن الله عنده) أي لا عند غيره (علم الساعة) أي علم وقت قيامها فلا يعلم ذلك نبي مرسل ولا ملك مقرب، لا يجليها لوقتها إلا هو (وينزل) بالتشديد (الغيث) أي يرسل المطر الذي يغيث البلاد والعباد في وقته المقدر له والمحل المعين له في علمه وبالكمية والكيفية المقررتين عنده لا يعلم ذلك إلا هو (الآية) بالنصب أي اقرأ، أو أذكر بقية الآية وبالجر أي إلى آخر الآية وهو ?ويعلم ما في الأرحام? مما يريد أن يخلقه من ذكر أو أنثى تام
رواه البخاري.
1528- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليست السنة

(9/378)


أو ناقص أبيض أو أسود طويل أو قصير سعيد أو شقي وغير ذلك مما لا يعلم تفصيله إلا هو. قال القاري: ولا يعلم مجملة بحسب خرق العادة إلا من قبله تعالى. وقال القسطلاني: لكن إذا أمر به علمته ملائكته المؤكلون به ?وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا? في الدنيا من الخير والشر والطاعة والمعصية، وفي الآخرة من الثواب والعقاب ?وما تدري نفس بأي أرض تموت? أي في بلدها أم في غيرها فليس أحد من الناس يدري أين مضجعة من الأرض أفي بر أو بحر سهل أو جبل (إن الله عليم) أي بما ذكر وغيره من الكليات والجزئيات إلا يعلم من خلق (خبير) أي مطلع على خفايا الأمور، فإن قيل الغيوب التي لا يعلمها إلا الله كثيرة ولا يعلم مبلغها إلا الله تعالى، وقال الله تعالى: ?وما يعلم جنود ربك إلا هو?[المدثر:31] فما وجه التخصيص بالخمس. قلت: أجيب عنه بوجوه: الأول: أن التخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائد، والثاني: أن ذكر هذا العدد في مقابلة ما كان القوم يعتقدون أنهم يعرفون من الغيب هذه الخمس، والثالث: أنهم كانوا يسألونه عن هذه الخمس، والرابع: أن أمهات الأمور هذه لأنها إما أن تتعلق بالآخرة، وهو علم الساعة وإما بالدنيا وذلك إما متعلق بالجماد أو بالحيوان،والثاني إما يحسب مبدأ وجوده أو بحسب معاده أو بحسب معاشه. قال القرطبي: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمس لهذا الحديث (يعني حديث أبي هريرة في سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام وفيه خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلى النبي صلى الله عليه وسلم ?إن الله عنده علم الساعة? الآية [لقمان:34] وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - قول الله تعالى: ?وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو?[الأنعام:59] بهذه الخمس، وهو في الصحيح قال فمن أدعى علم شئ منها غير مسنده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان كاذبا في دعواه قال: وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم، كذا في الفتح

(9/379)


(رواه البخاري) أي هكذا مختصرا في تفسير سورة الأنعام على رواية أبي ذر، وفي تفسير سورة لقمان وأخرجه أيضا في الاستسقاء وتفسير سورة الرعد والتوحيد بألفاظ، وقد بسط الشيخ أبومحمد بن جمرة في شرح هذا الحديث وأجاد ولخص كلامه الحافظ في الفتح في شرح باب قوله: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلخ. من كتاب التوحيد من أحب الوقوف عليه رجع إلى الفتح، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج2:ص24و58-85-122) والطبري (ج2:ص56) وأخرجه ابن حبان (ج1:ص228-229) وأحمد أيضا (ج2:ص52) بتفصيل الأنواع الخمسة بدل تلاوة الآية.
1528- قوله: (ليست السنة) بفتح السين الجدب والقحط، ومنه قوله تعالى: ?ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين? [الأعراف:130] قال في النهاية: السنة الجدب، وهي من الأسماء الغالبة، ويقال: أسنتوا إذا أجدبوا، قلبوا
بأن لا تمطروا،ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض شيئا)) رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1529- (6) عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب، فلا تسبوها، وسلوا الله من خيرها، وعوذوا به من شرها)).
لامها تاء (بأن لا تمطروا) أي لا ينزل عليكم المطر يعني عدم المطر فالباء زائدة (ولكن) بالتخفيف (السنة) أي قد تكون (أن تمطروا وتمطروا) التكرير للتأكيد والتكثير أي تمطروا المرة بعد الأخرى مطرا كثيرا (ولا تنبت الأرض شيئا) أي لإمساكه تعالى لها من الإنبات والمعنى لا تظنوا أن الرزق والبركة من المطر بل الرزق من الله تعالى فرب مطر لا ينبت منه شيء فالقحط الشديد ليس بأن لا يمطر بل بأن يمطر ولا ينبت لأن حصول الشدة بعد توقع الرخاء وظهور مخائله وأسبابه أفظع مما إذا كان اليأس حاصلا من أول الأمر (رواه مسلم) في الفتن وأشراط الساعة وأخرجه أيضا أحمد والشافعي والبيهقي (ج3:ص363).

(9/380)


1529- قوله: (الريح) أي الهواء المسخر بين السماء والأرض (من روح الله) قيل: الروح بفتح الراء النفس والفرج والرحمة أي من رحمته تعالى يريح بها عباده ومنه قوله تعالى ?فروح وريحان?[الواقعة:89] وقوله ?ولا تيأسوا من روح الله?[يوسف:87] فإن قيل: كيف يكون الريح من رحمته مع أنها تجيء بالعذاب؟ قلت: إذا كان عذابا للظلمة فيكون رحمة للمؤمنين حيث يتخلصون من الكفار الفجار، وأيضا الروح بمعنى الرائح أي الجائي من حضرة الله بأمره تارة للكرامة وأخرى للعذاب فلا يعيب فإنه تأديب والتأديب حسن (تأتي بالرحمة) من إنشاء سحاب ماطر مثلا لمن أراد الله تعالى أن يرحمه (وبالعذاب) لمن أراد أن يهلكه (فلا تسبوها) أي بلحوق ضرر منها فإنها مأمورة مقهورة مسخرة (وسلوا الله) وروى واسألوا (من خيرها) أي خير ما أرسلت به (وعوذوا به) بفتح العين وتشديد الواو من التعويذ يقال عوذ الرجل إذا دعا له بالحفظ، وقال له أعيذك بالله، ولفظ أبي داود استعيذوا، وابن ماجه تعوذوا يقال تعوذ واستعاذة بالله فأعاذه وعوذه أي حفظه (من شرها) أي من شر ما أرسلت به. قال المظهر: فإن قيل: كيف تكون الريح من روح الله أي رحمته مع أنها تجيء بالعذاب فجوابه من وجهين: الأول أنه عذاب لقوم ظالمين رحمة لقوم مؤمنين. قال الطيبي: يؤيده قوله تعالى: ?فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين?[الأنعام:45] الكشاف، فيه إيذان بوجوب الحمد عند إهلاك الظلمة، وهو من أجل النعم، الثاني بأن الروح مصدر بمعنى الفاعل أي الرائح. فالمعنى أن الريح من روائح الله تعالى أي من الأشياء التي تجيء من حضرته بأمره ليس لأحد مدخل في مجيئها فتارة تجيء بالرحمة وأخرى
رواه الشافعي، وأبوداود، وابن ماجه، والبيهقي في الدعوات الكبير.

(9/381)


1530- (7) وعن ابن عباس، أن رجلا لعن الريح عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((لا تلعنوا الريح، فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئا له بأهل رجعت اللعنة عليه)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
1531- (8) وعن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون
بالعذاب فلا يجوز سبها بل تجب التوبة عند التضرر بها وهو تأديب من الله تعالى وتأديبه رحمة للعباد- انتهى. (رواه الشافعي) في الأم (ج1:ص224) وفي المسند (ج6:ص114) (وأبوداود) في الأدب وسكت عليه هو والمنذري (وابن ماجه) في الدعاء وأخرجه أيضا أحمد (ج2:ص250-268) والبخاري في الأدب المفرد (ص132) والحاكم في المستدرك (ج4:ص285) وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وعزاه المنذري في تلخيص السنن للنسائي والشوكاني في تحفة الذاكرين لابن حبان أيضا، ولعل النسائي أخرجه في السنن الكبرى.

(9/382)


1530- قوله: (إن رجلا لعن الريح عند النبي - صلى الله عليه وسلم -) الحديث. رواه أبوداود أيضا ولفظه في رواية: إن رجلا نازعته الريح رداءه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلعنها (لا تلعنوا الريح) لفظ الترمذي وأبي داود: لا تلعن الريح (فإنها مأمورة ) إما بالرحمة أو بالنقمة، وقيل: أي بأمر منا والمنازعة من خاصيتها ولوازم وجودها عادة أو فإنها مأمورة حتى بهذه المنازعة أيضا ابتلاء لعباده (وإنه) أي الشأن (من لعن شيئا ليس) أي ذلك الشيء (له) أي اللعن (بأهل) أي بمستحق (رجعت اللعنة عليه) أي على اللاعن لأن اللعنة، وكذا الرحمة تعرف طريق صاحبها. قال الطيبي: ليس له صفة شيئا واسمه ضمير راجع إليه والضمير في "له" راجع إلى مصدر لعن، وفي عليه إلى من على تضمين رجعت معنى استقلت يعني استقلت اللعنة عليه راجعة لأن اللعن طرد عن رحمة الله فمن طرد ما هو أهل لرحمة الله عن رحمته جعل مطرودا (رواه الترمذي) في باب اللعنة من أبواب البر والصلة (وقال هذا حديث غريب) وفي بعض نسخ الترمذي: حديث حسن غريب وبعده لا نعلم أحدا أسنده غير بشر بن عمر- انتهى. والحديث أخرجه أبوداود في الأدب وسكت عنه، وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي المذكور ما لفظه وبشر بن عمر هذا هو الزهراني احتج به البخاري ومسلم- انتهى.
1531- قوله: (لا تسبوا الريح) فإن المأمور معذور (فإذا رأيتم ما تكرهون) أي ريحا تكرهونها
فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به)) رواه الترمذي.
1532- (9) وعن ابن عباس، قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي - صلى الله عليه وسلم - على ركبتيه، وقال: ((اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابا، اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا)). قال ابن عباس في كتاب الله تعالى:

(9/383)


لشدة حرارتها أو برودتها أو تأذيتم لشدة هبوبها (فقولوا) أي راجعين إلى خالقها وآمرها (اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح) أي باعتبار ذاتها (وخير ما فيها) أي باعتبار صفاتها (وخير ما أمرت به) على بناء المفعول أي من خالقها لطفا وجمالا (رواه الترمذي) في الفتن وصححه وأخرجه أيضا ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص98).
1532- قوله: (ما هبت ريح) أي ثارت وهاجت يعني اشتدت (إلا جثا) بالألف من الجثو بمعنى القعود على الركب فقوله (على ركبتيه) تأكيد أو تجريد وكان هذا منه صلى الله عليه وسلم تواضعا لله تعالى وخوفا على أمته وتعليما لهم في تبعيته. قال الأمير اليماني: أي برك على ركبتيه وهي قعدة المخافة لا يفعلها في الأغلب إلا الخائف، ورواه الطبراني بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا هاجت ريح استقبلها بوجهه وجثا على ركبتيه ومد يديه، وقال: اللهم إني أسألك من خير هذه الريح وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به اللهم اجعلها رحمة إلخ (اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا) وجه هذا إن العرب تقول لا تلقح الشجر إلا من الرياح المختلفة ولا تلقح من ريح واحدة فهو - صلى الله عليه وسلم - دعاء بأن يجعلها رياحا تلقح ولا يجعلها ريحا لا تلقح. قال الخطابي: إن الرياح إذا كثرت جلبت السحاب وكثرت الأمطار فزكت الزروع والأشجار وإذا لم تكثر وكانت ريحا واحدة فإنها تكون عقيمة والعرب تقول لا تلقح السحاب إلا من رياح. وقيل: إن الرياح هي المذكورة في آيات الرحمة والريح هي المذكورة في آيات العذاب كقوله عزوجل ?الريح العقيم? ?وريحا صرصرا? لكن قد عرف مما تقدم من حديث عائشة وأبي هريرة وأبي بن كعب، ومن رواية الطبراني لهذا الحديث إن الريح قد تأتي بالخير وقد تأتي بالشر، فلعل وجه قوله في هذا الحديث اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا أن الرياح لا تأتي إلا بالخير والريح تأتي تارة بهذا وتارة بهذا فسأل الله

(9/384)


أن يجعلها رياحا لأنها خير محض ولا يجعلها ريحا تحتمل الخير والشر وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (قال ابن عباس في كتاب الله تعالى) أورد المؤلف قول ابن عباس تائيدا لقوله عليه الصلاة
?إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا? و?أرسلنا عليهم الريح العقيم? و?أرسلنا الرياح لواقح? و?أن يرسل الرياح مبشرات?
والسلام رياحا وريحا فقوله في كتاب الله خبر مقدم وقوله: ?إنا أرسلنا عليهم? مبتدأ بتقدير هذه الآيات الدالة على أن الرياح للخير والريح بالأفراد للشر والجملة مقول القول ?ريحا صرصرا? أي شديدة البرد والهبوب والآية من سورة القمر ?وأرسلنا عليهم الريح العقيم? أي ما ليس فيه خير سميت عقيما؛ لأنها أهلكت قوم عاد وقطعت دابرهم والمرأة العقيم التي لا تلد ولا تلقح والآية من سورة الذاريات ?وأرسلنا الرياح لواقح? يعني تلقح الأشجار وتجعلها حاملة بالأثمار، قيل: أصله ملاقح جمع ملقحة فحذفت الميم تخفيفا وزيدت الواو بعد اللام وهو من النوادر، وهذا قول أبي عبيدة يقال القح الفحل الناقة احبلها والقحت الريح الشجر أو السحاب احملتها، وقيل: هي جمع لاقحة بمعنى حاملة. قال البغوي في تفسيره: لواقح أي حوامل؛ لأنها تحمل الماء إلى السحاب، وهي جمع اللاقحة - انتهى. وقال البيضاوي: أي حوامل شبه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه مالا يكون كذلك بالعقيم، وقيل: اللواقح بمعنى الملقحات للشجر أو السحاب، ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات- انتهى. وإطلاق اللواقح على الملقحات إما على الإسناد المجازي بأن يوصف الرياح بصفة ما هي أسباب له أو المجاز اللغوي بإعتبار السببية؛ لأن لقح الرياح سبب لالقاحها أو بإعتبار ما كان فإن الملقح كان أولا لاقحا أو من باب النسبة (أي ذات اللقاح) كلابن وتامر على حذف الزوائد نحو أثقل فهو ثاقل كذا قيل ذكره في اللمعات، وقيل اللواقح من الرياح التي تحمل اللقاح (ما تلقح به النخلة) إلى

(9/385)


الشجر والتي تحمل الندى ثم تمجه في السحاب فإذا اجتمع في السحاب صار مطرا والآية من سورة الحجر ?وأن يرسل الرياح مبشرات? بالمطر كقوله سبحانه وتعالى: ?بشرا بين يدي رحمته?[الأعراف: 57] والآية من سورة الروم. قال الأمير اليماني: قول ابن عباس بيان أنها جاءت مجموعة في الرحمة ومفردة في العذاب فاستشكل ما في الحديث من طلب أن تكون رحمة وأجيب بأن المراد لا تهلكنا بهذه الريح لأنهم لو هلكوا بهذه الريح لم تهب ريح أخرى فتكون ريحا لا رياحا- انتهى. قال الطيبي: معظم الشارحين على أن تأويل ابن عباس غير موافق للحديث نقل التوربشتي عن أبي جعفر الطحاوي أنه ضعف هذا الحديث جدا وأبى أن يكون له أصل في السنن وأنكر على أبي عبيدة تفسيره كما فسره ابن عباس، ثم استشهد أي الطحاوي بقوله تعالى: ?وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف? الآية [يونس: 22]. وبالأحاديث الواردة في هذا الباب فإن جل استعمال الريح المفردة في الباب في الخير والشر، ثم قال التوربشتي: والذي قاله أبوجعفر وإن كان قولا متينا فإنا نرى أن
رواه الشافعي، والبيهقي في الدعوات الكبير.

(9/386)


لا نتسارع إلى رد هذا الحديث، وقد تيسر لنا تأويله على وجه لا يكون مخالفا للنصوص المذكورة ثم ذكره بنحو ما تقدم عن الأمير اليماني من شاء الوقوف عليه رجع إلى شرح المصابيح للتوربشتي وشرح المشكاة للقاري. وقال الطيبي: معنى كلام ابن عباس في كتاب الله معناه إن هذا الحديث مطابق لما في كتاب الله تعالى فإن استعمال التنزيل دون أصحاب اللغة إذا حكم على الريح والرياح مطلقين كان إطلاق الريح غالبا في العذاب والرياح في الرحمة، فعلى هذا لا ترد تلك الآية على ابن عباس؛ لأنها مقيدة بالوصف ولا تلك الأحاديث؛ لأنها ليست من كتاب الله وإنما قيدت الآية بالوصف ووحدت؛ لأنها في حديث الفلك وجريانها في البحر فلو جمعت لأوهمت اختلاف الرياح وهو موجب للعطب أو الاحتباس ولو أفردت ولم تقيد بالوصف لآذنت بالعذاب والدمار؛ ولأنها أفردت وكررت ليناط به مرة طيبة وأخرى عاصف ولو جمعت لم يستقم التعلق- انتهى. وقال السيوطي في الإتقان (ج1ص192) ذكرت الريح مجموعة ومفردة فحيث ذكرت في سياق الرحمة جمعت أو في سياق العذاب أفردت أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن أبي بن كعب قال كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة وكل شيء فيه من الريح فهو عذاب، لهذا ورد في الحديث: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا، وذكر في حكمة ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والهيآت والمنافع وإذا هاجت منها ريح أثير لها من مقابلها ما يكسر سورتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات فكانت في الرحمة رياحا، وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد ولا معارض لها ولا دافع، وقد أخرج عن هذه القاعدة قوله تعالى في سورة يونس: ?وجرين بهم بريح طيبة? وذلك لوجهين: لفظي وهو المقابلة في قوله: ?جاءتها ريح عاصف?، ورب شيء يجوز في المقابلة، ولا يجوز استقلالا نحو ?ومكروا ومكر الله?. ومعنوي وهو أن تمام الرحمة هناك أنما يحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة

(9/387)


من وجه واحد فإذا اختلف عليها الرياح كانت سبب الهلاك فالمطلوب هناك ريح واحدة ولهذا أكد هذا المعنى بوصفها بالطيب وعلى ذلك أيضا جرى قوله: ?إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد?[الشورى: 33] وقال ابن المنير: إنه على القاعدة لأن سكون الريح عذاب وشدة على أصحاب السفن- انتهى. (رواه الشافعي) في الأم (ج1ص224) وفي المسند (ج6ص114) قال أخبرني من لا أتهم عن العلاء بن راشد عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه أبويعلى والطبراني في الدعاء وفي الكبير من طريق حسين ابن قيس الرحبي الواسطي عن عكرمة وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص135- 136) للطبراني فقط وقال: فيه حسين بن قيس الرحبي الملقب بحنش، وهو متروك، وقد وثقه حصين بن نمير وبقية رجاله رجال الصحيح- انتهى. وفي تهذيب التهذيب (ج2ص365) زعم أبومحصن حصين بن نمير أنه أي حصين بن قيس شيخ صدوق- انتهى. وقد ضعفه جميع من عداه.
1533- (10) وعن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أبصر ناشئا من السماء ـ تعني السحاب ـ ترك عمله واستقبله، وقال: ((اللهم إني أعوذ بك من شر ما فيه، فإن كشفه حمد الله، وإن مطرت، قال: اللهم سقيا نافعا)). رواه أبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والشافعي، واللفظ له.
1534- (11) وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد

(9/388)


1533- قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أبصر ناشئا) أي سحابا خارجا يعني حادثا مرتفعا ظاهرا (من السماء) قال التوربشتي: سمي السحاب ناشئا؛ لأنه ينشأ من الأفق يقال: نشأ أي خرج أو ينشأ في الهواء أي يظهر، أو لأنه ينشأ من الأبخرة المتصاعدة من البحار والأراضي النزه ونحو ذلك. وقال الجزري: الناشى من السحاب هو الذي لم يتكامل اجتماعه واصطحابه فهو في أول أمره (تعني) أي تريد عائشة بقولها ناشئا (السحاب) جملة معترضة لتفسير اللغة بين الشرط وجزاءه وهو قولها ترك. ولفظ أبي داود: كان إذا رأى ناشئا في أفق السماء. ولفظ النسائي وابن ماجه: كان إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق أي من ناحية من النواحي (ترك) أي النبي صلى الله عليه وسلم (عمله) المشتغل به من الأمور المباحة، قاله القاري. وفي رواية أبي داود: ترك العمل وإن كان في صلاة. ولفظ النسائي وابن ماجه ترك ما هو فيه وإن كان في صلاته (واستقبله) أي السحاب. وفي رواية النسائي وابن ماجه: حتى يستقبله. وليس عند أبي داود شيء منهما (من شر ما فيه) وعند النسائي وابن ماجه، من شر ما أرسل به وانتهت رواية النسائي إلى هذا (فإن كشفه) أي أذهب الله ذلك السحاب ولم يمطر (حمد الله) أي على النجاة مما كان يخاف من العذاب. وقيل: أي من حيث أن الخير فيما اختاره الله، ولعل الشر كان في ذلك السحاب فيجب الحمد على دفع الشر، كأنه صلى الله عليه وسلم تذكر قوله تعالى في قوم عاد: ?فلما رأوه عارضا? الآية [الأحقاف: 24]. وليست هذه الجملة عند أبي داود (وإن مطرت قال اللهم سقيا نافعا) قال القاري: بفتح السين وضمها أي اسقنا سقيا أو أسألك سقيا، فهو مفعول مطلق أو مفعول به. ولفظ ابن ماجه: إن أمطر قال: اللهم سيبا نافعا مرتين أو ثلاثة. وعند أبي داود: إن مطر قال: اللهم صيبا هنيئا ودعا بذلك خوفا من الضرر الذي قد يكون في المطر (رواه أبوداود) في الأدب وسكت عنه هو والمنذري

(9/389)


(والنسائي) في عمل اليوم والليلة (وابن ماجه) في الدعاء (والشافعي) في الأم (ج1ص224) والمسند (ج6ص114) (والفظ له) أي لفظ الحديث للشافعي وللباقين معناه.
1534- قوله: (كان إذا سمع صوت الرعد) بإضافة العام إلى الخاص للبيان، فإن الرعد هو الصوت
والصواعق،
الذي يسمع من السحاب، كذا قاله ابن الملك. والصحيح أن الرعد ملك مؤكل بالسحاب، فقد روى عن ابن عباس أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد، فقال: ملك من الملائكة مؤكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله، وسألوا عن الصوت الذي يسمع من السحاب، فقال زجرة بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر، أخرجه الترمذي وصححه. ونقل الشافعي عن الثقة عن مجاهد أن الرعد ملك والبرق أجنحته يسوق السحاب بها، ثم قال: وما أشبه ما قاله بظاهر القرآن. قال بعضهم: وعليه فيكون المسموع صوته أو صوت سوقه على اختلاف فيه. ونقل البغوي عن أكثر المفسرين أن الرعد ملك يسوق السحاب، والمسموع تسبيحه. وقيل: البرق لمعان سوط الرعد يزجر به السحاب. وأما قول الفلاسفة: إن الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، البرق ما يقدح من اصطكاكها فهو من حرزهم وتخمينهم فلا يعول عليه، كذا في المرقاة. وقال الآلوسي: للناس في الرعد والبرق أقوال: والذي عول عليه أن الأول صوت زجر الملك المؤكل بالسحاب، والثاني لمعان مخاريقه التي هي من نار، والذي اشتهر عند الحكماء أن الشمس إذا أشرقت على الأرض اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب منهما دخان ويختلط بالبخار، وهو الحادث بسبب الحرارة السماوية إذا أثرت في البلة، ويتصاعدان معا إلى الطبقة الباردة، وينعقد ثمة سحاب ويحتقن الدخان فيه، ويطلب الصعود إن بقي على طبعه الحار، والنزول إن ثقل وبرد وكيف كان يمزق السحاب بعنفه، فيحدث منه الرعد وقد تشتعل منه لشدة حركته ومحاكته نار لامعة، وهي البرق إن لطفت، والصاعقة إن غلظت. وربما كان البرق

(9/390)


سببا للرعد، فإن الدخان المشتعل ينطفيء في السحاب، فيسمع لإنطفاءه صوت، كما إذا أطفأنا النار بين أيدينا، والرعد والبرق يكونان معا إلا أن البرق يرى في الحال، لأن الأبصار لا يحتاج إلا إلى المحاذاة من غير حجاب، والرعد يسمع بعد، لأن السماع إنما يحصل بوصول تموج الهواء إلى القوة السامعة، وذلك يستدعى زمانا كذا قالوه، وربما يختلج في ذهنك قرب هذا، ولا تدري ماذا تصنع بما ورد عن حضرة من أسرى به ليلا بلا رعد ولا برق على ظهر البراق، وعرج إلى ذي المعارج فرجع، وهو أعلم خلق الله على الإطلاق، فأنا بحول الله تعالى أوفق لك بما يزيل الغين عن العين وسر جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الآلوسي توجيها لذلك يشبه طريق الصوفية من كان له ذوق بذلك فليرجع إلى روح المعاني (ج1ص171) (والصواعق) جمع صاعقة. والظاهر أنها في الأصل صفة من الصعق وهي الصراخ. وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة لمؤنث، أو للمبالغة إن لم تقدر كرواية، أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كحقيقة. وقيل: إنها مصدر كالعافية والعاقبة، وهي اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد. والمشهور أنها الرعد الشديد معه قطعة من نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه، وقد يكون معه جرم حجري أو حديدي، كذا قال الآلوسي. وفي الجلالين: الصاعقة شدة صوت الرعد
((قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك)). رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
?الفصل الثالث?
1535- (12) عن عبدالله بن الزبير،

(9/391)


فهي مأخوذة من الصعق، وهي شدة الصوت. وقيل: هي نار تخرج من السحاب فيقدر له فعل أي ورأى الصواعق، فهو من باب علفته تبنا وماءا باردا لمجاورة الصاعقة غالبا صوت الرعد مسموعا. ولعل إعتبار الجمع موافقة للآية المراد فيها التعدد المحيط بهم زيادة للنكال، قاله القاري في شرح الحصن. وقال في المرقاة: والصواعق بالنصب، فيكون التقدير وأحس الصواعق من باب علفتها تبنا وماءا باردا، أو أطلق السمع وأريد به الحس من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، وفي نسخة بالجر عطفا على الرعد، وهو إنما يصح على بعض الأقوال في تفسير الصاعقة. قال بعضهم: هي نار تسقط من السماء في رعد شديد، فعلى هذا لا يصح عطفه على شيء مما قبله. وقيل: الصاعقة صيحة العذاب أيضا وتطلق على صوت شديد غاية الشدة يسمع من الرعد، وعلى هذا يصح عطفه على صوت الرعد أي صوت السحاب، فالمراد بالرعد السحاب بقرينة إضافة الصوت إليه، أو الرعد صوت السحاب ففيه تجريد. وقال الطيبي هي قعقعة رعد ينقض معها قطعة من نار يقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق أي مات إما لشدة الصوت وإما بالإحراق- انتهى. (وعافنا) أي أمتنا بالعافية (قبل ذلك) أي قبل نزول عذابك (رواه أحمد) (ج2ص100) (والترمذي) في الدعوات، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد، والدولابي في الكي، وابن السني في عمل اليوم والليلة، والحاكم في المستدرك (ج4ص286) والبيهقي (ج3ص362) قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال ميرك نقلا عن التصحيح: إسناده جيد وله طرق. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين: ضعف النووي إسناد الترمذي- انتهى. قلت: حديث ابن عمر هذا قد تفرد به أبومطر عند الجميع. وقال الحافظ في التقريب: أبومطر شيخ الحجاج بن أرطاة مجهول، وقال في التهذيب في ترجمته: ذكره ابن حبان في الثقات.

(9/392)


1535- قوله: (عن عبدالله بن الزبير) كذا في جميع النسخ، وهو يدل على أن هذا الأثر موقوف على عبدالله بن الزبير. ورواية البيهقي نص في ذلك حيث رواه بسنده إلى مالك عن عامر بن عبدالله بن الزبير عن عبدالله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد إلخ وفي النسخ الهندية من الموطأ "مالك عن عامر بن عبدالله بن الزبير أنه كان" إلخ هكذا وقع في نسخة الزرقاني والتنوير للسيوطي والمنتقى للباجي، ولم يبين الزرقاني والسيوطي مرجع
أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: ((سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته)). رواه مالك.

(9/393)


ضمير قوله "أنه كان" وقال الباجي: قوله" إن ابن الزبير" يريد عبدالله كان إذا سمع الرعد ترك الحديث إلخ. وهذا يدل على أن الأثر عنده موقوف على عبدالله بن الزبير، وعليه يدل ما وقع في تفسير ابن كثير وتحفة الذاكرين وحاشية الحصن الحصين وهو الظاهر عندنا، وعامر بن عبدالله بن الزبير بن العوام الأسدي أبوالحارث المدني ثقة عابد تابعي مات سنة إحدى وعشرين ومائة. (كان إذا سمع الرعد) أي صوته (ترك الحديث) أي الكلام مع الأنام. قال الباجي: يريد- والله أعلم. ارتياعا منه وإقبالا على ذكر الله عزوجل والتسبيح والإخبار بأن الرعد يسبح بحمده عزوجل. ويحتمل أن يكون الرعد ملكا يزجر السحاب- انتهى. قلت: ويؤيد هذا ما تقدم من حديث ابن عباس مرفوعا: أن الرعد ملك مؤكل بالسحاب معه مخاريق من نار (يسبح الرعد) أي ينزهه حال كونه متلبسا (بحمده) له تعالى، وقد تقدم أن الرعد ملك، فنسبة التسبيح إلى حقيقة، وهو الصحيح. وقيل: إسناده مجازي، لأن الرعد بمعنى الصوت سبب؛ لأن يسبح الله السامع حامدا له خائفا راجيا (والملائكة من خيفته) أي من أجل خوف الله تعالى. وقيل: من خوف الرعد، فإنه رئيسهم. وبعده في الموطأ: ثم يقول (أي ابن الزبير): أن هذا الوعيد لأهل الأرض شديد. وروى ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا أنه كان إذا سمع الرعد قال: سبحان من يسبح الرعد بحمده. وروى عن علي أنه كان إذا سمع الرعد يقول: سبحان من سبحت له، وكذا روى عن ابن عباس وطاؤس والأسود بن يزيد أنهم كانوا يقولون كذلك، وكأنهم يذهبون إلى قوله تعالى: ?ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته?[الرعد: 13] وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله تعالى، فإنه لا يصيب ذاكرا، وفي إسناده يحيى بن أبي كثير أبوالنضر وهو ضعيف (رواه مالك) في الموطأ في باب القول إذا سمعت الرعد من كتاب الجامع عن عامر ابن عبدالله بن الزبير أنه كان

(9/394)


إلخ وقد صحح النووي إسناده، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي (ج3ص362).
(5) كتاب الجنائز
(1) باب عيادة المريض وثواب المرض
?الفصل الأول?
1536- (1) عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض،
(كتاب الجنائز) بفتح الجيم لا غير، جمع جنازة بالفتح والكسر، والكسر أفصح، اسم للميت في النعش أو بالفتح، اسم لذلك وبالكسر اسم للنعش وعليه الميت. وقيل: عكسه. وقيل: هما لغتان فيهما، فإن لم يكن عليه ميت فهو سرير ونعش، وهي من جنزه يجنزه من باب ضرب إذا ستره، ذكره ابن فارس وغيره. أورد كتاب الجنائز بعد الصلاة كأثر المصنفين من المحدثين والفقهاء، لأن الذي يفعل بالميت من غسل وتكفين وغير ذلك لهمه الصلاة عليه لما فيها من فائدة الدعاء له بالنجاة من العذاب لاسيما عذاب القبر الذي سيدفن فيه. وقيل: لأن للإنسان حالتين: حالة الحياة وحالة الممات. ويتعلق بكل منهما أحكام العبادات وأحكام المعاملات، وأهم العبادات الصلاة، فلما فرغوا من أحكامها المتعلقة بالأحياء ذكروا ما يتعلق بالموتى من الصلاة وغيرها. قيل: شرعت صلاة الجنازة بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة، فمن مات بمكة قبل الهجرة لم يصل عليه.
(باب عيادة المريض) أي وجوبا وثوابا. وأصل عيادة عوادة بالواو فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، يقال: عدت المريض أعوده عيادا وعيادة وعوادة إذا زرته وسألت عن حاله (وثواب المرض) الذي يصيب الإنسان إذا صبر عليه.

(9/395)


1536- قوله: (أطعموا الجائع) ندبا أو وجوبا إن كان مضطرا. قال في اللمعات: هو سنة إن لم يصل حد الاضطرار، وفرض إن وصل على الكفاية إن لم يتعين أحد، وعين إن يتعين (وعودوا) أمر من العيادة (المريض) وهي سنة إن كان له متعهد، وواجب إن لم يكن، وجزم البخاري بالوجوب لظاهر الأمر، فقد ترجم عليه في كتاب المرضى بلفظ "باب وجوب عيادة المريض" قال الحافظ: قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية كإطعام الجائع وفك الأسير، ويحتمل أن يكون للندب للحث على التواصل والألفة. وجزم الداودى بالأول فقال هي فرض يحمله بعض الناس عن بعض. وقال الجمهور: هي في الأصل للندب، وقد
وفكوا العاني)). رواه البخاري.
1537 - (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم خمس:

(9/396)


تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض. وعن الطبري تتأكد في حق من ترجى بركته، وتسن فيمن يراعي حاله، وتباح فيما عدا ذلك. وفي الكافر خلاف كما سيأتي في أول الفصل الثالث. ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب يعني على الأعيان. واستدل بعموم قوله عودوا المريض على مشروعية العيادة في كل مريض واستثنى بعضهم الأرمد لكون عائدة قد يرى ما لا يراه هو. وتعقب بأنه قد يتأتى مثله في بقية الأمراض كالمغمى عليه، وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم عند أبي داود وغيره، وقد ذكره المصنف في الفصل الثاني، وسيأتي الكلام عليه هناك مفصلا، ويؤخذ من إطلاقه أيضا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه وهو قول الجمهور، وجزم الغزالي في الأحياء بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث، واستند إلى حديث أنس الآتي في الفصل الثالث، وهو حديث ضعيف جدا وسيجيء الكلام عليه هناك، وفي إطلاق الحديث أيضا أن العيادة لا تتقيد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفي النهار، ونقل ابن الصلاح عن الفراوى: أن العيادة تستحب في الشتاء ليلا وفي الصيف نهارا وهو غريب ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض أو يشق على أهله، فإن اقتضت ذلك ضرورة فلا بأس ويلتحق بعيادة المريض تعهده وتفقد أحواله والتلطف به وربما كان ذل في العادة سببا لوجود نشاطه وانتعاش قوته (وفكوا) بضم الفاء وتشديد الكاف أي خلصوا (العاني) بالعين المهملة والنون المكسورة المخففة، وزن القاضي أي الأسير، وفكه تخليصه بالفداء أي أخلصوا الأسير المسلم في أيدي الكفار أو المحبوس ظلما بغير حق، قال ابن بطال: فكاك الأسير واجب على الكفاية، وبه قال الجمهور. وقال إسحاق بن راهوية: من مال ببيت المال. وقيل: المعنى أعتقوا الأسير أي الرقيق، وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنى (رواه البخاري) في الأطعمة والنكاح والأحكام والجهاد والمرضى، وأخرجه أيضا أحمد، وأبوداود والبيهقي (ج3ص379).

(9/397)


1537- قوله: (حق المسلم على المسلم خمس) أي خصال كلهن فروض على الكفاية. وقال القسطلاني: هذا يعم وجوب العين والكفاية والندب. وقال الشوكاني: المراد بحق المسلم أنه لا ينبغي تركه ويكون فعله إما واجبا أو مندوبا ندبا مؤكدا شبيها بالواجب الذي لا ينبغي تركه، ويكون استعماله في المعنيين من باب استعمال المشترك في معنييه، فإن الحق يستعمل في معنى الواجب، كذا ذكره ابن الأعرابي، وكذا يستعمل في معنى الثابت
رد السلام، وعيادة المريض، وإتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) متفق عليه.
1538 - (3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم ست. قيل: ما هن يا رسول الله؟

(9/398)


ومعنى اللازم ومعنى الصدق وغير ذلك- انتهى. قلت وفي رواية لمسلم، وكذا عند أبي داود: وخمس تجب للمسلم على أخيه. وقد تبين بهذه الرواية أن معنى الحق هنا الوجوب. قال الحافظ: والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية. ثم العدد قد جاء في الروايات مختلفا، فيدل على أنه لا عبرة لمفهوم العدد، ولا يقصد به الحصر. ويؤتي به أحيانا على حسب ما يليق بالمخاطب (رد السلام) أي جوابه. وهو فرض عين من الواحد، وفرض كفاية من جماعة يسلم عليهم. وأما السلام فسنة، فقد نقل ابن عبدالبر وغيره إجماع المسلمين على أن ابتداء السلام سنة، وأن رده فرض وصفة الرد أن يقول وعليكم السلام. ويأتي الكلام عليه في باب السلام من كتاب الآداب (واتباع الجنائز) أي المضي معها والمشي خلفها إلى حين دفنها بعد الصلاة عليها، وهو من الواجبات على الكفاية (وإجابة الدعوة) بفتح الدال فيه مشروعية إجابة الدعوة، وهذا إذا لم يكن هناك مانع شرعي أو عرفي، وهي أعم من الوليمة. ويأتي الكلام عليها في باب الوليمة من كتاب النكاح (وتشميت العاطس) أي جوابه بـ "يرحمك الله" إذا قال الحمد لله. قال في النهاية: التشميت بالشين المعجمة والسين المهملة الدعاء للعاطس بالخير والبركة، والمعجمة أعلاهما. واشتقاقه من الشوامت وهي القوائم، كأنه دعاء للعاطس بالثبات على طاعة الله. وقيل: الأصل فيه المهملة فقلبت معجمة. وقال صاحب المحكم: تشميت العاطس معناه الدعاء له بالهداية إلى السمت الحسن. وفيه دليل على مشروعية تشميت العاطس. ويأتي الكلام عليه في باب العطاس والتثاؤب من كتاب الآداب. قال في شرح السنة هذه الخصال كلها في حق الإسلام يستوي فيها جميع المسلمين برهم وفاجرهم غير أن يخص البر بالبشاشة والمسألة والمصافحة دون الفاجر المظهر لفجوره. قال المظهر: إذا دعا المسلم المسلم إلى الضيافة والمعاونة يجب عليه طاعته إذا لم يكن ثمة ما يتضرر به في دينه من الملاهي ومفارش الحرير ورد السلام

(9/399)


واتباع الجنائز فرض على الكفاية. وأما تشميت العاطس إذا حمد الله وعيادة المريض فسنة إذا كان له متعهد، وإلا فواجب. ويجوز أن يعطف السنة على الواجب إن دل عليه القرينة كما يقال: صم رمضان وستة من شوال، ذكره الطيبي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز ومسلم في كتاب الآداب، وأخرجه أيضا أبوداود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة، وأخرجه ابن ماجه في الجنائز بغير هذا السياق.
1538- قوله: (حق المسلم على المسلم ست) من الخصال. ومفهوم العدد لا يفيد الحصر، فللمسلم
قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)) رواه مسلم.
1539- (4) وعن البراء بن عازب، قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا: ((بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم،

(9/400)


حقوق آخر (إذا لقيته فسلم عليه) ندبا، ويلزمه رد السلام، واكتفى بذكره في الحديث الأول (وإذا دعاك) أي للإعانة أو الدعوة (فأجبه) وجوبا إن كانت للإعانة أو وليمة العرس، وندبا إن كانت لغيرها (وإذا استنصحك) أي طلب منك النصيحة (فانصح له) وجوبا، وكذا يجب النصح وإن لم يستنصحه. وقال في اللمعات: هي سنة، وعند الاستنصاح واجبة. والنصيحة إرادة الخير للمنصوح له. وقال الراغب: النصح تحري قول أو فعل فيه إصلاح صاحبه. وفي رواية الترمذي والنسائي: وينصح له إذا غاب أو شهد أي يريد له الخير في جميع أحواله، وهو المراد بقوله إذا غاب أو شهد، إذ الأحوال لا تخلوا عن غيبة وحضور. والمقصود أنه لا يقصر النصح على الحضور كحال من يراعي الوجه، بل ينصح لأجل الإيمان، فيسوى بين السر والإعلان (وإذا عطس) بفتح الطاء ويكسر (فحمد الله) فيه أنه لا يشرع تشميت العاطس إذا لم يحمد الله، فالمطلق في الحديث المتقدم محمول على هذا المقيد (فشمته) أي قل له يرحمك الله (وإذا مرض فعده) أمر من العيادة أي زره واسأل عن حاله (وإذا مات فاتبعه) حتى تصلى ويدفن. قال السيد: هذا الحديث لا يناقض الأول في العدد، فإن هذا زائد، والزيادة مقبولة، والظاهر أن الخمس مقدم في الصدور، قال والأمر للتسليم، والعيادة للندب والاستحباب، ولام فانصح له زائدة، ولو لم يحمد الله لم يستحب التشميت، ولذلك قال فحمد الله فشمته، كذا قاله في الأزهار (رواه مسلم) في الآداب، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد، وأخرجه الترمذي في الآداب، والنسائي في الجنائز بلفظ: للمؤمن على المؤمن ست خصال: يعوده إذا مرض، ويشهده إذا مات، ويجيبه إذا دعاه، ويسلم عليه إذا لقيه، ويشمته إذا عطس، وينصح له إذا غاب أو شهد. وفي الباب عن علي عند أحمد والترمذي وابن ماجه وأبي مسعود عند أحمد وابن ماجه.

(9/401)


1539- قوله: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع) بحذف مميز العدد في الموضعين أي خصال (ورد السلام) وفي رواية مسلم، وكذا في رواية البخاري: وإفشاء السلام، وهو يحتمل الإبتداء بالسلام ورده (وإبرار المقسم) بكسر همزة إبرار إفعال من البر خلاف الحنث، والمقسم بضم الميم وسكون القاف وكسر السين،
ونصر المظلوم، ونهانا: عن خاتم الذهب، وعن الحرير، والإستبرق، والديباج، والميثرة الحمراء،
اسم فاعل من الأقسام أي تصديق من أقسم عليه، وهو أن يفعل ما سأله الملتمس وأقسم عليه أن يفعله، يقال بر وأبر القسم إذا صدقه. وقال الطيبي: المراد من المقسم الحالف، وإبراره جعله باردا صادقا في يمينه أو جعل يمينه صادقه. والمعنى أنه لو حلف أحد على أمر مستقبل، وأنت تقدر على تصديق يمينه ولم يكن فيه معصية، كما لو أقسم أن لا يفارقك حتى تفعل كذا، وأنت تستطيع فعله، فافعل كيلا يحنث- انتهى. وفي رواية القسم بفتحات. قال السندي: إبرار القسم جعل الحالف بارا في حلفه إذا أمكن كما إذا حلف والله زيد يدخل الدار اليوم، فإذا علم به زيد وهو قادر عليه ولا مانع منه ينبغي له أن يدخل لئلا يحنث القائل- انتهى. قال القسطلاني: وهو خاص فيما يحمل من مكارم الأخلاق، فإن ترتب على تركه مصلحة فلا، ولذا قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر في قصة تعبير الرؤيا: لا تقسم حين قال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بالذي أصبت- انتهى. وقال النووي: إبرار القسم سنة مستحبة متأكدة، وإنما يندب إليه إذا لم يكن فيه مفسدة أو خوف وضرر أو نحو ذلك، فإن كان شيء من هذا لم يبر قسمه، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في قصة تعبير الرؤيا لا تقسم ولم يخبر. وفي رواية لمسلم: وإنشاد الضوال مكان قوله: وإبرار المقسم. والضوال جمع الضالة، وهي الضائعة وإنشادها تعريفها طريقها أو تعريف صاحبها بها (ونصر المظلوم) مسلما كان أو ذميا بالقول أو بالفعل. قال في

(9/402)


شرح السنة: هو واجب يدخل فيه المسلم والذمي، وقد يكون ذلك بالقول، وقد يكون بالفعل وبكف الظالم عن الظلم - انتهى. وقال النووي: نصر المظلوم من فروض الكفاية، وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يتوجه الأمر به على من قدر عليه ولم يخف ضررا (ونهانا عن خاتم الذهب) بفتح التاء ويكسر أي عن لبسة للرجال (وعن الحرير) أي لبس الثوب المنسوج من الأبريسم للرجال (والإستبرق) بهمزة قطع مكسورة، وهو الديباج الغليظ على الأشهر. وقيل: الرقيق، وهو تعريب استبرك (والديباج) بكسر الدال وتفتح، عجمي معرب الديبا، جمعه دبابيج ودباييج بالباء وبالياء، لأن أصله دباج. وقيل: جمعه ديابيج، وهو الثوب الذي سداه ولحمته حرير يعني الثوب المتخذ من الأبريسم. وذكر الإستبرق والديباج بعد الحرير مع تناوله لهما من باب ذكر الخاص بعد العام اهتماما بحكمهما أو دفعا لتوهم أن اختصاصها باسم يخرجهما عن حكم العام أو أن العرف فرق أسماءها لاختلاف مسمياتهما، فربما توهم متوهم أنهما غير الحرير. وقال القاري: الديباج هو الرقيق. وقيل: الحرير المركب من الأبريسم وغيره مع غلبة الأبريسم والمراد بها الأنواع والتفصيل لتأكيد التحريم (والميثرة الحمراء) بكسر الميم وسكون التحتية وفتح المثلثة بلا همز، فهي مفعلة من الوثار، يقال وثر يوثر بضم الثاء فيهما وثارة بفتح الواو فهو وثير أي وطيء لين وأصلها موثرة فقلبت الواو لكسرة الميم، جمعها مواثر ومياثر وهي من مراكب العجم تعمل من حرير أو ديباج وتتخذ كالفراش
والقسي، وآنية الفضة. ـ وفي رواية ـ وعن الشرب في الفضة. فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة))

(9/403)


الصغير، وتحشى بقطن أو صوف يجعلها الراكب تحته على الرحال والسروج، كذا في النهاية. وقيل: هي وطاء كانت النساء يصنعنه لأزواجهن على السروج، وكان من مراكب العجم، وتكون من الحرير، وتكون من الصوف وغير ذلك. وقيل: أغشية للسروج تتخذ من الحرير. وقيل: هي سروج من الديباج. قال الطيبي: وصفها بالحمراء، لأنها كانت الأغلب في مراكب الأعاجم يتخذونها رعونة- انتهى. والميثرة إن كانت من الحرير، كما هو الغالب فيما كان من عادتهم، فهي حرام، لأنه جلوس على الحرير واستعمال له وهو حرام على الرجال، سواء كان على رحل أو سرج أو غيرهما، وإن كانت ميثرة من غير الحرير فليست بحرام، ويكون النهي فيها للزجر عن التشبه بالأعاجم أو للسرف أو التزين لا للحمرة، لن الثوب الأحمر لا كراهة فيه وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس حلة حمراء، وبحسب ذلك تفصيل النهي بين التحريم والتنزيه (والقسي) بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة، فسرت في كتاب اللباس من صحيح البخاري بأنها ثياب يؤتي بها من الشام أو مصر مضلعة فيها حرير فيها أمثال الأترج. وقال الجزري: هو ثياب منسوجة من كتان مخلوط بحرير يؤتي بها من مصر، نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبا من تنيس يقال لها: القس بفتح القاف، وبعض أهل الحديث يكسرها. وقيل: أصل القسي القزى بالزاي منسوب إلى القز، وهو ضرب من الأبريسم. وقيل: هو ردى الحرير فأبدلت الزاي سينا. قال العيني: القس والتنيس وفرما كانت مدنا على ساحل بحر دمياط، غلب عليها البحر فاندثرت فكانت يخرج منها ثياب مفتخرة ويتاجر بها في البلاد- انتهى. وهذا القسي إن كان من حرير أو كان حريره أكثر من الكتان فالنهي عنه للتحريم وإلا فلكراهة التنزيه. قال ميرك: فإن قلت ما الفرق بين هذه الأربعة؟ قلت: الحرير اسم عام والديباج نوع منه والإستبرق نوع من الديباج والقسي ما يخالطه الحرير أو ردى الحرير، وفائدة ذكر الخاص بعد العام

(9/404)


بيان الاهتمام بحكمه ودفع توهم أن تخصيصه باسم مستقل ينافي دخوله تحت الحكم العام والإشعار بأن هذه الثلاثة غير الحرير نظرا إلى العرف وكونها ذوات أسماء مختلفة مقتضية لاختلاف مسمياتها (وآنية الفضة) والذهب أولى مع أنه صرح به في حديث آخر، وهي حرام على العموم للسرف والخيلاء. قال الخطابي: وهذه الخصال مختلفة المراتب في حكم العموم والخصوص والوجوب فتحريم خاتم الذهب وما ذكر معه من لبس الحرير والديباج خاص للرجال، وتحريم آنية الفضة عام للرجال والنساء لأنه من باب السرف والمخيلة (وفي رواية) أي لمسلم (وعن الشرب) بضم الشين وفي معناه الأكل (في الفضة) والذهب بالطريق الأولى (فإنه) أي الشأن (من شرب فيها في الدنيا) أي ثم مات ولم يتب (لم يشرب فيها في الآخرة) قال المظهر: أي من اعتقد حلها ومات عليه فإنه كافر، وحكم من لم يعتقد ذلك خلاف ذلك فإنه ذنب صغير غلظ وشدد للرد والارتداع- انتهى. قال الطيبي: قوله
متفق عليه.
1540 - (5) وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع)) رواه مسلم.

(9/405)


لم يشرب فيها كناية تلويحية عن كونه جهنميا فإن الشرب من أواني الفضة من دأب أهل الجنة لقوله تعالى: ?قوارير من فضة?[الدهر: 16] فمن لم يكن هذا دأبه لم يكن من أهل الجنة فيكون جهنميا فهو كقوله: إنما يجرجر في بطنه نار جهنم- انتهى. وقيل: الأولى أن يقال إنه لم يشرب فيها في الجنة وإن دخلها فيحرم من الشرب فيها في الجنة لشربه فيها في الدنيا، وظاهر الحديث تأييد التحريم فإن دخل الجنة شرب في جميع أوانيها إلا في آنية الفضة والذهب ومع ذلك لا يتألم لعدم الشرب فيها ولا يحسد من يشرب فيها ويكون حاله كحال أصحاب المنازل في الخفض والرفعة (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز والمظالم والنكاح والأشربة والمرضى واللباس والأدب والاستيذان والنذور، ومسلم في اللباس، واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا الترمذي في الاستيذان والأدب مطولا، وفي اللباس مختصرا، والنسائي في الجنائز والإيمان والنذور والزينة وابن ماجه في الكفارات واللباس مختصرا. ثم قوله: "متفق عليه" يشعر بأن قوله وعن الشرب في الفضة إلخ اتفق الشيخان على إخراجه والأمر ليس كذلك فإنه قد تفرد مسلم به ولم يخرجه البخاري.

(9/406)


1540- قوله:(إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم) أي زاره في مرضه (لم يزل في خرفة الجنة) بضم المعجمة وسكون الراء وفتح الفاء بعدها هاء هي الثمرة إذا نضجت، وقيل: ما يخترف ويجتنى من ثمار النخيل إذا أدركت أي لم يزل في التقاط فواكه الجنة واختراف مجتناها أو لم يزل في مواضع خرفتها أي في بساتينها شبه - صلى الله عليه وسلم - ما يحوزه ويحرزه عائد المريض من الثواب بما يحرزه المجتنى والمخترف من الثمر، وقيل: المراد بها هنا الطريق، والمعنى أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنة. قال الحافظ في الفتح: والتفسير الأول أولى، فقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد من هذا الوجه، وفيه قلت لأبي قلابة ما خرفة الجنة؟ قال جناها، وهو عند مسلم من جملة المرفوع- انتهى. وفي رواية لمسلم: عائد المريض في مخرفة الجنة حتى يرجع بفتح الميم والراء بينهما خاء معجمة ساكنة أي في بستانها. قال الشوكاني: بالخاء المعجمة على زنة مرحلة، وهي البستان، ويطلق على طريق اللاحب أي الواضح أي عائد المريض في بساتين الجنة وثمارها (حتى يرجع) أي الثواب حاصل للعائد من حين يذهب للعيادة حتى يرجع إلى محله ويعلم منه أن من كان طريقه أطول كان أكثر ثوابا وليس المراد المكث الكثير عند المريض لما علم أنه يطلب التخفيف في المكث عنده (رواه مسلم) في البر والصلة والأدب، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في الجنائز، والبخاري في الأدب المفرد والبيهقي (ج3ص380) وابن أبي شيبة.

(9/407)


1541- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني. قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني! قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما أنك لو سقيته وجدت

(9/408)


1541- قوله: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة) على لسان ملك أو بلا واسطة بلسان القال معاتبا لابن آدم بما قصر في حق أولياؤه (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني) بفتح المثناة الفوقية وضم العين وسكون الدال أي مرض عبدي الكامل الشديد القرب مني قرب مكانة إذ إسناد وصف العبد له تعالى دليل على ذلك، قاله الحفني وقال القاري: أراد مرض عبده وإنما أضاف إلى نفسه تشريفا لذلك العبد فنزله منزلة ذاته، والحاصل أن من عاد مريضا لله تعالى فكأنه زار الله- انتهى. وقال النووي: قال العلماء إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد تشريفا للعبد وتقريبا له (كيف أعودك) أي كيف تمرض حتى أعودك (وأنت رب العالمين) والرب المالك والسيد والمدبر والمربي والمنعم، وهذه الأوصاف تنافي المرض والنقصان والاحتياج والهلاك. قال القاري: حال مقررة لجهة الإشكال الذي يتضمنه كيف أي المرض إنما يكون للمريض العاجز وأنت القاهر القوي المالك، فإن قيل إن الظاهر أن يقال كيف تمرض مكان كيف أعودك؟ قلنا عدل عنه معتذرا إلى ما عوتب عليه وهو مستلزم لنفي المرض (أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده) أي لوجدت رضائي وثوابي وكرامتي. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى في تمام الحديث لو أطعمته لوجدت ذلك عندي أي ثوابه. قال الطيبي: في العبارة إشارة إلى أن العيادة أكثر ثوابا من الإطعام والإسقاء الآتيين حيث خص الأول بقوله لوجدتني عنده فإن فيه إيماء إلى أن الله تعالى أقرب إلى المنكسر المسكين- انتهى (استطعمتك) أي طلبت منك الطعام (كيف أطعمك وأنت رب العالمين) أي والحال أنك تطعم ولا تطعم (أما علمت أنه) أي الشأن (أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك) أي ثواب إطعامه (استسقيتك) أي طلبت منك الماء (فلم تسقني) بالفتح والضم في أوله (كيف أسقيك) بالوجهين (وأنت رب العالمين) أي مربيهم غير محتاج إلى شيء من الأشياء فضلا عن الطعام والماء (لو سقيته وجدت) بلا لام هنا إشارة على

(9/409)


جواز
ذلك عندي؟)) رواه مسلم.
1543 - (7) وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده، وكان إذا دخل على مريض يعوده قال: ((لا بأس، طهور إنشاءالله، فقال له: لا بأس، طهور إنشاءالله. قال: كلا، بل حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فنعم إذا))
حذفها لكن وقع في صحيح مسلم باللام كإخواته، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10:ص350) (ذلك عندي) فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وفي الحديث بيان أن الله تعالى عالم بالكائنات يستوي في علمه الجزئيات والكليات وأنه مبتل عباده بما شاء من أنواع الرياضات ليكون كفارة للذنوب ورفعا للدرجات العاليات (رواه مسلم) في البر والصلة والأدب.

(9/410)


1542- قوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي) بفتح الهمزة أي واحد من سكان البادية قيل: اسمه قيس بن أبي حازم، كما في ربيع الأبرار للزمخشري، فقال في باب الأمراض والعلل دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على قيس بن أبي حازم يعوده، فذكر القصة. قال الحافظ: إن كان هذا محفوظا فهو غير قيس بن أبي حازم أحد المخضرمين، لأن صاحب القصة مات في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في حال إسلامه فلا صحبة له ولكن أسلم في حياته ولأبيعه صحبة عاش بعده دهرا طويلا (يعوده) جملة حالية، قال ابن عباس (وكان) النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا دخل على مريض) حال كونه (يعوده قال) له (لا بأس) أي لا مشقة ولا تعب عليك من هذا المرض بالحقيقة. قال الحافظ: أي إن المرض يكفر الخطايا فإن حصلت العافية فقد حصلت الفائدتان وإلا حصل ربح التكفير (طهور) خبر مبتدأ محذوف أي هو طهور لك من ذنوبك أي مطهرة (إن شاء الله) يدل على أن قوله طهور دعاء لا خبر (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (له) أي للأعرابي (لا بأس) عليك هو (طهور) لك من ذنوبك أي مطهر لك (قال) أي الأعرابي مخاطبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أقلت طهور (كلا) أي ليس بطهور. وقال القاري: أي ليس الأمر كما قلت أو لا تقل هذا فإن قوله كلا محتمل للكفر وعدمه، ويؤيده كونه أعرابيا حلفا فلم يقصد حقيقة الرد والتكذيب ولا بلغ حد اليأس والقنوط (بل حمى) وفي البخاري: بل هي حمى، وهكذا نقله الجزري (ج7:ص403) (تفور) بالفاء أي يظهر حرها ووجهها وغليانها (على شيخ كبير) أي تغلى في بدنه كغلى القدور (تزبرة) بضم الفوقية وكسر الزاى من إزاره إذا حمله على الزيارة (القبور) نصب مفعول ثان، والهاء في أول والمعنى تبعثه إلى القبور (فنعم) بفتح العين (إذا) بالتنوين، وفي بعض النسخ: إذن كما في البخاري
رواه البخاري.

(9/411)


1543 - (8) وعن عائشة، قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى منا إنسان، مسحه بيمينه، ثم قال: ((اذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاءك،
في باب عيادة الأعراب. قال القسطلاني: الفاء مرتبة على محذوف وإذا جواب وجزاء. ونعم تقرير لما قال الأعرابي أي إذا أبيت فنعم أي كان كما ظننت. وقال الطيبي: يعني أرشدتك بقولي لا بأس عليك إلى أن الحمى تطهرك من ذنوبك فاصبر واشكر الله عليها فأبيت إلا اليأس والكفران فكان كما زعمت وما اكتفيت بذلك بل رددت نعمة الله وأنت مسجع به قاله غضبا عليه – انتهى. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون ذلك دعاء عليه، ويحتمل أن يكون خبرا عما يؤل إليه أمره. وقال غيره: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنه سيموت من ذلك المرض فدعا له بأن تكون الحمى له طهره لذنوبه فأصبح ميتا، ويحتمل أن يكون أعلم بذلك لما أجابه الأعرابي بما أجابه، وزاد الطبراني من حديث شرجيل والد عبدالرحمن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي إذا أبيت فهي كما تقول قضاء الله كائن فما أمسى من الغد إلا ميتا. وأخرجه الدولابي في الكنى وابن السكن في الصحابة، ولفظه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قضى الله فهو كائن فأصبح الأعرابي ميتا، وفائدة الحديث: أنه لا نقص على الإمام في عيادة مريض من رعيته ولو كان أعرابيا جافيا ولا على العالم في عيادة الجاهل ليعلمه ويذكره بما ينفعه ويأمره بالصبر لئلا يتسخط قدر الله فيسخط عليه ويسليه عن ألمه بل يغبطه بسقمه إلى غير ذلك من جبر خاطره وخاطر أهله. وفيه أنه ينبغي للمريض أن يتلقى موعظة العائدة بالقبول، ويحسن جواب من يذكره بذلك (رواه البخاري) في علامات النبوة والمرضى والتوحيد. وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة، والبيهقي (ج3:ص382-383).

(9/412)


1543- قوله: (إذا اشتكى) أي مرض (مسحه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك المريض. وقيل: موضع الوجع تفاؤلا لزوال ذلك الوجع (بيمينه ثم قال) أي داعيا (اذهب البأس) أي أزل شدة المرض، والباس بغير همزة للمواخاة والازدواج فإن أصله الهمزة، وقيل: سهلت الهمزة بقلبها ألفا لانفتاح ما قبلها، وهي لغة لقريش (رب الناس) نصبا بحذف حرف النداء (واشف أنت الشافي) وفي رواية البخاري: واشفه وأنت الشافي. قال الحافظ: في رواية الكشمهيني بحذف الواو، والضمير في اشفه للعليل أو هي هاء السكت، ويؤخذ منه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن بشرطين:أحدهما أن لا يكون في ذلك ما يوهم نقصا، والثاني أن يكون له أصل في القرآن، وهذا من ذاك فإن في القرآن: ?وإذا مرضت فهو يشفين? (لا شفاء) بالمد مبنى على الفتح والخبر محذوف، والتقدير حاصل لنا أو للمريض ( إلا شفاءك) بالرفع على أنه بدل من موضع لا شفاء، وفي حديث أنس عند البخاري لا شافي إلا أنت، وفيه إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوى لا ينجع إن لم يصادف تقدير الله تعالى. وقال الطيبي: قوله لا شفاء خرج مخرج
شفاء لا يغادر سقما)) متفق عليه.
1544 - (9) وعنها، قالت كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة أو جرح، قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه: ((بسم الله، تربة أرضنا بريقة بعضنا،

(9/413)


الحصر تأكيدا لقوله: أنت الشافي، لأن خبر المبتدأ إذا كان معرفا باللام أفاد الحصر لأن تدبير الطبيب ونفع الدواء لا ينجع في المريض إذا لم يقدر الله الشفاء (شفاء) منصوب بقوله اشف على أنه مفعول مطلق ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني الشفاء المطلوب (لا يغادر) بالغين المعجمة أي لا يترك (سقما) بفتحتين ويجوز ضم ثم إسكان لغتان أي مرضا، والتنكير للتقليل، والجملة صفة لقوله "شفاء" وهو تكميل لقوله اشف، والجملتان معترضتان بين الفعل والمفعول المطلق، وفائدة قوله لا يغادر أنه قد يحصل الشفاء من ذلك المرض فيخلفه مرض آخر متولد منه فكان يدعو له بالشفاء المطلق لا بمطلق الشفاء. وفي الحديث: استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له. قال النووي: وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار، وهذا المذكور ههنا من أحسنها، وقد استشكل الدعاء للمريض بالشفاء مع ما في المرض من كفارة الذنوب والثواب كما تظافرت الأحاديث بذلك، والجواب أن الدعاء عبادة ولا ينافي الثواب والكفارة لأنهما يحصلان بأول مرض وبالصبر عليه والداعي بين حسنتين إما أن يحصل له مقصودة أو يعوض عنه بجلب نفع أو دفع ضرر وكل من فضل الله تعالى (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى في الطب،ومسلم في الطب، واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه في الطب.

(9/414)


1544- قوله: (وعنها قالت كان) إما زائدة أو فيها ضمير الشأن يفسره ما بعده (إذا اشتكى الإنسان الشيء) بالنصب على المفعولية أي شكا وجع العضو (منه) الضمير للإنسان أي من جسده (أو كانت به) أي بالإنسان (قرحة) بفتح القاف وضمها ما يخرج من الأعضاء مثل الدمل (أو جرح) بالضم كالجراحة بالسيف وغيره (قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بإصبعه) أي أشار بها قائلا، قاله القاري: قلت. وفي مسلم بعد قوله بإصبعه "هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها" والمعنى أنه كان يأخذ من ريقه على إصبعه شيئا ثم يضعها على التراب فيتعلق بها منه شيء فيمسح بها على الموضع الجريح، ويقول هذه الكلمات (بسم الله) أي أتبرك به (تربة أرضنا) أي هذه تربة أرضنا (بريقة بعضنا) أي ممزوجة بريقه. وهذا يدل على أنه كان يتفل عند الرقية، وفي رواية: وريقة بالواو بدل الموحدة. قال النووي: قال جمهور العلماء: المراد بأرضنا ههنا جملة الأرض، وقيل: أرض المدينة خاصة لبركتها والريقة أقل من الريق. قيل: وبعضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف
................................

(9/415)


ريقه فيكون ذلك مخصوصا، وفيه نظر، قال النووي: معنى الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا الكلام في حال المسح- انتهى. قلت: الظاهر أن هذا ليس مخصوصا بأرض المدينة ولا بريق النبي صلى الله عليه وسلم فالمراد بالأرض ههنا جملة الأرض وبالبعض كل من يرقى بذلك، فيجوز هذا بل يستحب فعله عند الرقية في كل مكان، وأما حكم نقل تراب الحرم المكي أو المدني ونقل حصاهما وأحجارهما للتبرك أو للدواء وحكم الاستشفاء بتراب المدينة فقد بسط القول فيه السمهودي في وفاء الوفاء (ص67-68-69-114-115-116-117) وفي بعض كلامه خدشات لا تخفى على متبع السنة. قال القرطبي: فيه دليل على جواز الرقى من كل الآلام وإن ذلك كان أمرا فاشيا معلوما بينهم، قال: ووضع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية ثم قال وزعم بعض العلماء أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرى الموضع الذي به الألم ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها قال وقال في الريق أنه يختص بالتحليل والانضاح وأبراء الجرح والألم لاسيما من الصائم الجائع، وتعقبه القرطبي: أن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يتعلق بها ما ليس له بال ولا أثر وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك أو لحكمة أخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة. وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضح وتبديل المزاج وتعديله ولتراب الوطن تأثير في حفظ المزاج الأصلي ودفع نكاية المضرات ولذا ذكر في تيسير المسافرين أنه ينبغي أن يستصحب المسافر تراب أرضه إن عجز

(9/416)


عن استصحاب ماءها حتى إذا ورد ماء غير ما اعتاده جعل شيئا منه في سقاءه وشرب الماء منها ليأمن من تغير مزاجه ثم أن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها- انتهى. وقال التوربشتي: الذي يسبق إلى الفهم من صنيعه ذلك، ومن قوله هذا: إن تربة أرضنا إشارة إلى فطرة آدم عليه السلام والريقة أشارة إلى النطفة التي خلق منها الإنسان، فكأنه يتضرع بلسان الحال ويعرض بفحوى المقال أنك اخترعت الأصل الأول من طين ثم أبدعت بنيه من ماء مهين فهين عليك أن تشفي من كان هذا شأنه وتمن بالعافية على من استوى في ملكك حياته ومماته- انتهى. وقد علم كل أناس مشربهم وكل إناء يرشح بما فيه. قال القاري، وقوله: بإصبعه في موضع الحال من فاعل قال وتربة أرضنا خبر مبتدأ محذوف أي هذه، والباء في بريقة متعلق بمحذوف، وهو خبر ثان أو حال والعامل معنى الإشارة أي قال النبي صلى الله عليه وسلم مشيرا بإصبعه: بسم الله هذه تربة أرضنا معجونة بريقة بعضنا، قلنا بهذا القول أو صنعنا هذا الصنيع
ليشفي سقيمنا، بإذن ربنا)) متفق عليه.
1545 - (10) وعنها، قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده،
(ليشفي) على بناء المفعول (سقيمنا) بالرفع نائب عن الفاعل. قال الطيبي: فعلى هذا بسم الله مقول القول صريحا ويجوز أن يكون بسم الله حالا أخرى متداخلة أو مترادفة على تقدير قال متبركا بسم الله، ويلزم منه أن يكون مقولا والمقول الصريح قوله تربة أرضنا- انتهى. وقال السندي: ليشفي علة للممزوج. قلت: وفي رواية يشفي بحذف اللام (بإذن ربنا) متعلق بيشفي أي بأمره على الحقيقة سواء كان بسبب دعاء أو دواء أو بغيره (متفق عليه) أخرجاه في الطب، اللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا أبوداود وابن ماجه في الطب، والنسائي في اليوم والليلة.

(9/417)


1545- قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم) أي مرض وهو لازم وقد يأتي متعديا فيكون التقدير وجعا (نفث) بالمثلثة من باب ضرب ونصر أي أخرج الريح من فمه مع شيء من ريقه. وقيل: النفث نفخ لطيف بلا ريق (على نفسه بالمعوذات) بكسر الواو المشددة أي قرأها على نفسه ونفث الريق على بدنه، والمراد بالمعوذات سورة الفلق والناس والإخلاص فيكون من باب التغليب أو المراد المعوذتان (الفلق والناس) وكل ما ورد من التعويذ في القرآن كقوله تعالى ?وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم?[المؤمنون:97] وغير ذلك، أو المراد المعوذتان فقط، وجمع باعتبار أن أقل الجمع اثنان أو أطلق الجمع على التثنية مجازا أو الجمع باعتبار الآيات، وإنما اجتزا بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من المكروهات جملة وتفصيلا من السحر والحسد وشر الشيطان ووسوسته وغير ذلك وقيل المراد الكلمات المعوذات بالله من الشيطان والأمراض والآفات ونحوها (ومسح عنه) أي عليه وعلى أعضاءه (بيده) وقع عند البخاري في آخر الحديث بيان كيفية ذلك، ففيه قال معمر سألت ابن شهاب كيف كان ينفث قال ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعا ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده، فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك، وقال الطيبي: الضمير في عنه راجع إلى ذلك النفث والجار والمجرور حال أي نفث على بعض جسده ثم مسح بيده متجاوزا عن ذلك النفث إلى سائر أعضاءه. قال عياض: فائدة النفس التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشرة للرقية والذكر الحسن كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر، وقد يكون على سبيل التفاؤل بزوال

(9/418)


فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه.كنت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم)) .متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قالت: كان إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذات.
1546- (11) وعن عثمان بن أبي العاص، أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضع يدك
ذلك الألم عن المريض كانفصال ذلك عن الراقي- انتهى. (فلما أشتكى) أي النبي صلى الله عليه وسلم (وجعه) بالنصب أي مرضه (الذي توفي فيه) صلى الله عليه وسلم (كنت أنفث عليه) وفي البخاري في هذه الرواية: طفقت أنفث على نفسه، ولأبي ذر: أنفث عنه (بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي - صلى الله عليه وسلم -) لبركتها، وفي الحديث دلالة على أن الرقية والنفث بكلام الله سنة. قال النووي: فيه استحباب النفث في الرقية، وقد أجمعوا على جوازه، واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال الحافظ: قد أجمع العلماء على جواز الرقي عند إجتماع ثلاثة شروط أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسماءه وصفاته وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله. قلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين قال نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله- انتهى. وفي الموطأ: أن أبابكر قال لليهودية التي كانت ترقى عائشة أرقيها بكتاب الله. وروى ابن وهب عن مالك كراهية الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان وقال لم يكن ذلك من أمر الناس القديم (متفق عليه) أخرجه البخاري في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فضائل القرآن وفي الطب. وأخرجه مسلم في الطب، واللفظ البخاري في الوفاة النبوية، وأخرجه أيضا مالك في كتاب الجامع من الموطأ وأبوداود وابن ماجه في الطب

(9/419)


(وفي رواية لمسلم قالت كان إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذات) لم يذكر المسح فيحتمل أنه كان يفعله وتركت ذكره للعلم به من النفث، ويحتمل أنه كان يتركه أحيانا اكتفاء بالنفث والأظهر الأول والجمع أفضل.
1546- قوله: (أنه شكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعا يجده في جسده) أي في بدنه، ويؤخذ منه جواز شكاية ما بالإنسان لمن يتبرك به رجاء لبركة دعاءه (ضع) أمر من الوضع (يدك) وفي رواية مالك والترمذي وأبي داود: أمسحه بيمينك، وعند ابن ماجه: إجعل يدك اليمنى عليه وللطبراني والحاكم: ضع يمينك على المكان
على الذي يألم من جسدك، وقل: بسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شرما أجد وأحاذر، قال: ففعلت، فأذهب الله ما كان بي)) رواه مسلم.
1547- (12) وعن أبي سعيد الخدري، أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! اشتكيت؟ فقال: نعم، قال: ((بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد،

(9/420)


الذي تشتكي فامسح بها سبع مرات (على الذي يألم) أي على الموضع الذي يوجع (من جسدك) فيه استحباب وضع اليد اليمنى على موضع الألم مع الدعاء (وقل بسم الله ثلاث وقل سبع مرات) إلخ. قال الشوكاني في الأعداد: التي ترد في مثل هذا الحديث سر من أسرار النبوة، وليس لنا أن نطلب العلة، والسبب الذي يقتضيه كما في إعداد الركعات والانصباء والحدود (أعوذ بعزة الله) أي بعظمته وغلبته (من شر ما أجد) أي من الوضع (وأحاذر) أي أخاف وأحترز، وصيغة المفاعلة للمبالغة. قال الطيبي: تعوذ من وجع هو فيه ومما يتوقع حصوله في المستقبل من الحزن والخوف، فإن الحزن هو الاحتراز عن مخوف، وللترمذي في الدعوات وحسنه والحاكم وصححه عن محمد بن سالم قال: قال لي ثابت البناني: يا محمد! إذا اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي ثم قل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شرما أجد من وجعي ثم أرفع يدك ثم أعد ذلك وترا. قال فإن أنس بن مالك حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بذلك (قال) أي عثمان (ففعلت) أي ما قال لي (فاذهب الله ما كان بي) من الوجع والألم ببركة الامتثال، زاد في رواية مالك والترمذي وأبي داود بعده "فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم" (رواه مسلم) في الطب وأخرجه مالك في كتاب الجامع والترمذي وأبوداود وابن ماجه في الطب والنسائي في اليوم والليلة والحاكم في الجنائز (ج1:ص343) وابن أبي شيبة في مصنفه.

(9/421)


1547- قوله: (أشتكيت) ففتح الهمزة للإستفهام، وحذف همزة الوصل. وقيل: بالمد على إثبات همزة الوصل وأبدالها ألفا. وقيل: بحذف الاستفهام، قاله القاري (فقال نعم قال) أي جبرئيل (بسم الله أرقيك) بفتح الهمزة وكسر القاف مأخوذ من الرقية أي أعوذك (من كل شيء يؤذيك) بالهمزة ويبدل أي من أنواع المرض (من شر كل نفس) أي خبيثة (وعين) بالتنوين فيهما. وقيل: بالإضافة. وقيل: بالتنوين في الأول، وبالإضافة في الثاني (حاسد) وأو تحتمل الشك والأظهر أنها للتنويع. قال النووي: قيل يحتمل أن المراد بالنفس نفس الآدمي. وقيل: يحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق على العين، ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه، كما قال في الرواية الأخرى من شر كل ذي عين ويكون قوله أو عين حاسد من باب التوكيد بلفظ
الله يشفيك، بسم الله أرقيك)) رواه مسلم.
1548 - (13) وعن ابن عباس، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين: ((أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة،
مختلف أو شكا من الراوي في لفظه- انتهى. (ألله يشفيك) يجوز أن يكون بفتح حرف المضارعة، ويجوز أن يكون بضمة من أشفاءه (بسم الله أرقيك) كرره للمبالغة وبدأ به وختم به إشارة إلى أنه لا نافع إلا هو (رواه مسلم) في الطب، وأخرجه أيضا الترمذي في الجنائز، والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه في الطب، وروى مسلم من حديث عائشة أنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبرئيل عليه السلام قال: بسم الله يبريك ومن كل داء يشفيك من شر حاسد إذا حسد وشر كل ذي عين.

(9/422)


1548- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوذ) بتشديد الواو المكسورة بعدها ذال معجمة من التعويذ (الحسن والحسين) ابني فاطمة أي يرقيهما. وقيل: يدعو لهما بالحفظ، ويطلب لهما من الله عصمة (أعيذكما) أي يقول أعيذكما، وهو تفسير وبيان ليعوذ، وهذا لفظ أحمد والترمذي وأبي داود والنسائي، ولفظ البخاري: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، ويقول إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق أعوذ (بكلمات الله) قيل: المراد بها كلامه على الإطلاق أو المعوذتان أو القرآن. وقيل: أسماءه وصفاته (التامة) صفة لازمة أي الكاملة أو النافعة أو الشافية أو المباركة أو الوافية في دفع ما يتعوذ منه. وقال الجزري: إنما وصف كلامه بالتمام لأنه لا يجوز أن يكون في شيء من كلامه نقص أو عيب كما يكون في كلام الناس. وقيل: معنى التمام ههنا أنها تنفع المتعوذ بها وتحفظه من الآفات وتكفيه- انتهى. قال الخطابي في المعالم: كان أحمد بن حنبل يستدل بقوله بكلمات الله التامة على أن القرآن غير مخلوق وما من كلام مخلوق إلا وفيه نقص فالموصوف منه بالتمام هو غير مخلوق وهو كلام الله سبحانه ويحتج أيضا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستعيذ بمخلوق (من كل شيطان) أنسى وجنى (وهامة) بالتنوين وهي بتشديد الميم واحدة الهوام التي تدب على الأرض وتؤذي الناس. وقيل: هي ذوات السموم. قال الشوكاني: والظاهر أنها أعم من ذوات السموم لما ثبت في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: أيؤذيك هوام رأسك. وقال الجزري: الهامة كل ذات سم يقتل، والجمع الهوام، فأما ما يسم ولا يقتل فهو السامة كالعقرب والزنبور، وقد يقع الهوام على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات- انتهى. وقيل المراد كل نسمة تهم بسوء (ومن كل عين ) بالتنوين (لامه) بتشديد الميم أيضا أي ذات لمم، واللمم كل داء يلم من خبل أو جنون أو نحوهما أي من كل عين تصيب بسوء، ويجوز أن تكون على

(9/423)


ظاهرها بمعنى جامعة للشر على المعيون من لمه إذا
ويقول: إن أبا كما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق)) رواه البخاري. وفي أكثر نسخ المصابيح "بهما" على لفظ التثنية.
1549- (14) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيرا يصب منه))
جمعه. وقال في الصحاح: العين اللامه هي التي تصيب بسوء اللمم طرف من الجنون ولامه أي ذات لمم، وأصلها من الممت بالشيء إذا نزلت به. وقيل: لامه لازدواج هامة والأصل ملمة لأنها فاعل الممت - انتهى. وقال الجزري: اللمم طرف من الجنون يلم بالإنسان أي يقرب منه ويعتريه، ومنه حديث الدعاء أعوذ بكلمات الله التامة من شر كل سامة ومن كل عين لامه أي ذات لمم ولذلك لم يقل ملمة وأصلها من الممت بالشيء ليزاوج قوله من شر كل سامة أي لكونه أخف على اللسان (ويقول) لهما (أن أباكما) يريد إبراهيم عليه السلام وسماه أبا لكونه جدا أعلى (كان يعوذ بها) أي بهذه الكلمات (إسماعيل وإسحاق) ابنيه (رواه البخاري) في الأنبياء وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص235-269) والترمذي في الطب وأبوداود في باب القرآن من كتاب السنة والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه في الطب (وفي أكثر نسخ المصابيح بهما على لفظ التثنية) قال الطيبي: الظاهر أنه سهو من الناسخ - انتهى. قلت: قد وقع في بعض روايات البخاري بهما بالتثنية، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج5:ص132) قال القسطلاني: ولأبي الوقت وابن عساكر بهما بلفظ التثنية - انتهى. وكذا وقع بلفظ التثنية في بعض نسخ السنن لأبي داود كما في عون المعبود، وتأوله القاري بأن كلمات الله مجاز من معلومات الله ومما تكلم به سبحانه من الكتب المنزلة أو الأولى جملة المستعاذ به والثانية جملة المستعاذ منه، ولا يخفى ما في من التكلف.

(9/424)


1549- قوله: (من يرد الله به خيرا يصب) بضم التحتية وكسر الصاد المهملة، وعليه عامة المحدثين، والفاعل الله، أي ينل الله تعالى (منه) أي من ذلك الشخص المعبر عنه بمن، فالضمير المجرور لمن أي يبتليه الله تعالى بالمصائب ليثيبه عليها. وقيل: الفاعل الضمير الراجع لمن، وضمير منه راجع للخير أي يحصل له من ذلك الخير، فهذا علامة أرادة الله له الخير. وقيل: الفاعل الله وقوله منه بمعنى لأجله، وضميره عائد إلى الخير أي يجعله الله ذا مصيبة لأجل ذلك الخير، وروى بفتح الصاد. قال ابن الخشاب: وهو أحسن وأليق. وقال الطيبي: أنه أليق الأدب كما قال تعالى: ?وإذا مرضت فهو يشفين?[الشعراء:80] والمعنى يصير ذا مصيبة أي يوصل له المصائب عن الله، فضمير يصب حينئذ راجع لمن، وضمير منه راجع لله. وقال ميرك: يصب مجزوم
رواه البخاري.
1550 -1551- (15-16) وعنه، وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة
لأنه جواب الشرط أي من يرد الله به خيرا أوصل إليه مصيبة فمن للتعدية يقال أصاب زيد من عمرو أي أوصل إليه مصيبة ليطهره بها من الذنوب وليرفع درجته، قال الحافظ: ويشهد للكسر ما أخرجه أحمد من حديث محمود بن لبيد رفعه إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع، فله الجزع ورواته ثقات إلا أن محمود بن لبيد، اختلف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه وهو صغير، وله شاهد من حديث أنس عند الترمذي وحسنه (رواه البخاري) في المرضى وأخرجه أيضا مالك (ج2:237) وأحمد والنسائي في الكبرى.

(9/425)


1550-1551- قوله: (وعنه) أي عن أبي هريرة (وعن أبي سعيد) أي الخدري (ما يصيب المسلم) ما نافية ومن زائدة للاستغراق في قوله (من نصب ولا وصب) بفتحتين فيهما والأول التعب والألم الذي يصيب البدن من جراحة وغيرها والثاني الوجع اللازم والمرض الدائم، ومنه قوله تعالى ?ولهم عذاب واصب?[ الصافات:9] أي لازم ثابت (ولا هم) بفتح الهاء وتشديد الميم (ولا حزن) بضم الحاء وسكة الزاى بفتحهما. قال الحافظ: هما من أمراض الباطن ولذلك ساغ عطفهما على الوصب. وقيل: ألهم يختص بما هو آت والحزن بما مضى، وقيل: ألهم الحزن الذي يهم الرجل أي يذيبه من هممت الشحم إذا أذبته فانهم، ويقال: هم السقم جسمه أذابه وأذهب لحمه، والحزن هو الذي يظهر من في القلب حزونة أي خشونة وضيق يقال مكان حزن أي خشن وبهذا الاعتبار قيل خشنت صدره أي حزنته، وعلى هذا فالهم أخص وأبلغ في المعنى من الحزن (ولا أذى) هو أعم مما تقدم، وقيل: هو خاص بما يلحق الشخص من تعدي غيره عليه (ولا غم) بالغين المعجمة ولا لتأكيد النفي في كلها، وهو أيضا من أمراض الباطن، وهو ما يضيق على القلب. وقيل: هو الحزن الذي يغم الرجل أي يصيره بحيث يقرب أن يغمى عليه، والحزن أسهل منه. قال الحافظ: وقيل في هذه الأشياء الثلاثة، وهي الهم والغم والحزن أن الهم ينشأ عن الفكر فيما يتوقع حصوله مما يتأذى به، والغم كرب يحصل للقلب بسبب ما حصل، والحزن يحدث لفقد ما يشق على المرأ فقده. وقيل: الهم والغم بمعنى واحد. قال الترمذي: سمعت الجارود يقول سمعت وكيعا يقول إنه لم يسمع في الهم أنه كفارة إلا في هذا الحديث (حتى الشوكة) بالرفع فحتى ابتدائية، والجملة بعد الشوكة خبرها وبالجر فحتى عاطفة أو بمعنى إلى فما بعدها حال. وقال الزركشي
يشاكها، إلا كفر الله بها خطاياه)) متفق عليه.
1552 - (17) وعن عبدالله بن مسعود، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فمسسته بيدي،

(9/426)


بالنصب على أنه مفعول فعل مقدر أي حتى يجد الشوكة (يشاكها) بضم أوله أي يشوكه غيره بها، ففيه وصل الفعل لأن الأصل يشاك بها. قال في الكشاف: شكت الرجل شوكة أدخلت في جسده شوكة وشيك على ما لم يسم فاعله يشاك شوكا- انتهى. وقال السفاقسي: حقيقة قوله يشاكها أن يدخلها غيره في جسده يقال شكته أشوكه. قال الأصمعي: يقال شاكتني تشوكني إذا دخلت هي ولو كان المراد هذا لقيل تشوكه ولكن جعلها مفعولة، وهذا يرده ما في مسلم من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ولا يصيب المؤمن شوكة فأصاب الفعل إليها، وهو الحقيقة ولكنه لا يمنع إرادة المعنى الأعم، وهو أن تدخل هي بغير إدخال أحد أو بفعل أحد، قاله القسطلاني وقيل: فيه أي في يشاكها ضمير المسلم أقيم مقام فاعله و"ها" ضمير الشوكة أي حتى الشوكة يشاك المسلم تلك الشوكة أي تجرح أعضاءه بشوكة، والشوكة ههنا للمرة من شاكة ولو أراد واحدة النبات لقال يشاك بها والدليل على أنها المرة من المصدر جعلها غاية للمعاني، كذا قال القاري (إلا كفر الله من خطاياه) ظاهره تعميم جميع الذنوب، لكن الجمهور خصوا ذلك بالصغائر لحديث الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر فحملوا المطلقات الواردة في التفكير على هذا المقيد، كذا في الفتح ولابن حبان من حديث عائشة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة وهذا يقتضي حصول الأمرين معا حصول الثواب ورفع العقاب وشاهده عند الطبراني في الأوسط من وجه آخر عن عائشة بلفظ ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عنه خطيئة وكتب له حسنة ورفع له درجة وسنده جيد (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في الأدب، واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (ج4:ص70) والبيهقي (ج3:ص373) وأخرجه الترمذي في الجنائز عن أبي سعيد متفردا نحوه. وقال: قد روى بعضهم هذا الحديث عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم

(9/427)


- وصرح الجزري في جامع الأصول (ج10ص354) بإخراج البخاري، ومسلم والترمذي عنهما جميعا، ثم قال: وذكره الحميدي في مسند أبي هريرة.
1552- قوله: (دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك) الواو للحال ويوعك بفتح العين المهملة من وعكته الحمى أي اشتدت عليه وآذته، والوعك بفتح الواو وسكون العين المهملة وقد تفتح وهي الحمى. وقيل: ألمها وقيل: تعبها. وقيل: إرعادها الموعوك. وقيل: حرارتها (فمسسته بيدي) في الصحاح مسست الشيء بالكسر
فقلت: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكا شديدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قال: فقلت: ذلك لأن لك أجرين؟ فقال: أجل، ثم قال: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله تعالى به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها)) متفق عليه.

(9/428)


امسه هي اللغة الفصيحة، وحكى أبوعبيد مسست بالفتح امسه بالضم (إنك لتوعك وعكا شديدا) قال القاري: هو بيان للواقع (فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجل) أي نعم وزنا ومعنى إني (أوعك) على بناء المجهول أي يأخذني الوعك (كما يوعك) يعني أحم كما يحم (رجلان منكم) قال ابن مسعود (فقلت ذلك) أي تضاعف الحمى (لأن) وفي البخاري بأن، وكذا نقله الجزري (ج10:ص355) وفي مسلم: إن بغير الموحدة أو اللام (لك أجرين) قال القاري: يحتمل أن يكون المراد بالتثنية التكثير (فقال) النبي - صلى الله عليه وسلم - (أجل) أي نعم وفي البخاري بعد هذا "ذلك كذلك" وذلك إشارة إلى مضاعفة الأجر بشدة الحمى وتضاعفها (ما من مسلم يصيبه الأذى) أي ما يؤذيه ويتعبه (من مرض فما سواه) أي فما دونه أو غيره مما تتأذى به النفس. وفي رواية للبخاري: ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها. قال الحافظ: شوكة بالتنكير للتقليل ليصح ترتب قوله فما فوقها ودونها في العظم والحقارة عليه بالفاء، وهو يحتمل وجهين فوقها في العظم ودونها في الحقارة وعكس ذلك (إلا حط الله تعالى به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) بالنصب على المفعولية وتحط بفتح أوله وضم المهملة وتشديد الطاء المهملة أي تلقيه الشجرة منتشرا. قال الحافظ: والحاصل أنه أثبت أن المرض إذا اشتد ضاعف الأجر ثم زاد عليه بعد ذلك أن المضاعفة تنتهي إلى أن تحط السيئات كلها أو المعنى قال: نعم شدة المرض ترفع الدرجات وتحط الخطيئات أيضا حتى لا يبقى منها شيء ويشير إلى ذلك حديث سعد عند الدارمي والنسائي في الكبرى،و صححه الترمذي وابن حبان حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئه - انتهى. قال الطيبي: شبه حالة المريض وإصابة المرض جسده ثم محو السيئآت عنه سريعا بحالة الشجر وهبوب الرياح الخريفية وتناثر الأوراق منها وتجردها عنها فهو تشبيه تمثيل لانتزاع الأمور المتوهمة في المشبه من المشبه به فوجه التشبيه الإزالة الكلية على سبيل

(9/429)


السرعة لا الكمال والنقصان، لأن إزالة الذنوب عن الإنسان سبب كماله وإزالة الأوراق عن الشجر سبب نقصانها- انتهى كلام الطيبي. وفي الحديث بشارة عظيمة لأن كل مسلم لا يخلو عن كونه متأذيا (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في الأدب، واللفظ له، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص381-441-445) والبيهقي (ج3:ص372) وابن أبي شيبة (ج4:ص70).
1553- (18) عن عائشة، قالت: ((ما رأيت أحدا الوجع عليه أشد من رسول الله صلى الله عليه وسلم )) متفق عليه.
1554- (19) وعنها، قالت: ((مات النبي صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم))
1553- قوله: (ما رأيت أحدا الوجع) بالرفع، قال العلماء: الوجع ههنا المرض، والعرب تسمى كل مرض وجعا، ذكره النووي (عليه أشد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي من وجعه. قال الطيبي: الوجع مبتدأ وأشد خبره، والجملة بمنزلة المفعول الثاني لرأيت أي ما رأيت أحدا أشد وجعا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في الأدب، واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا الترمذي في الزهد وابن ماجه في الجنائز.

(9/430)


1554- قوله: (مات النبي - صلى الله عليه وسلم - بين حاقنتي) بالحاء المهملة والقاف المكسورة والنون المفتوحة الوهدة المنخفضة بين الترقوتين. وقيل: النقرة بين الترقوة وحبل العاتق. وقيل: ما دون الترقوة من الصدر (وذاقنتي) بالذال المعجمة والقاف المكسورة الذقن. وقيل: طرق الحلقوم.و قيل: ما يناله الذقن من الصدر. وقال الجزري في جامع الأصول (ج11:ص482) الحاقنة ما سف من البطن والذاقنة طرق الحلقوم الناتئ. وقيل: الحاقنة المطمئن من الترقوة والحلق والذاقنة نقرة الذقن- انتهى. وفي رواية للبخاري: توفى في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحرى، والسحر بفتح المهملة وسكون الحاء المهملة هو الصدر، وفي الأصل الرئة والنحر بفتح النون وسكون المهملة، والمراد به موضع النحر، والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر والنحر، والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنها، وهذا لا يعارض حديثها أن رأسه كان على فخذها لاحتمال أنها رفعته عن فخذها إلى صدرها. وأما ما رواه الحاكم وابن سعد من طرق أنه - صلى الله عليه وسلم - مات ورأسه في حجر علي، ففي كل طريق من طرقه شيعي، فلا يحتج به، وقد بين حالها الحافظ في الفتح من أحب الاطلاع عليه رجع إليه (فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -) يعني ظننت شدة الموت تكثرة الذنوب وظننتها من علامة الشقاوة وسوء حال الرجل عند الله وهذا قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيت شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم علمت أن شدة الموت ليست بعلامة الشقاوة ولا بعلامة سوء حال الرجل ولا من المنذرات بسوء العاقبة، لأنه لو كان كذلك لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الموت بل شدة الموت لرفع الدرجة وتضعيف الأجر ولتطهير الرجل من الذنوب فإذا كان كذلك فلا أكره شدة الموت لأحد بعد ما علمت هذا
رواه البخاري.

(9/431)


1555 - (20) وعن كعب بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح، تصرعها مرة وتعدلها أخرى،
(رواه البخاري) في مواضع بألفاظ، واللفظ المذكور له في باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - في أواخر المغازي وأخرجه أيضا النسائي في الجنائز.
1555- قوله: (مثل المؤمن كمثل الخامة) وفي مسلم: مثل الخامة، وهي بالخاء المعجمة والميم المخففة الطاقة الغضة الطريقة اللينة (من الزرع) وألفها منقلبة عن الواو. قال الجزري في جامع الأصول (ج1:ص307) الخامة من النبات الغضة الرطبة اللينة – انتهى. وقيل: الخامة هي الزرع أول ما ينبت على ساق واحد، ووقع عند أحمد في حديث جابر: مثل المؤمن مثل السنبلة تستقيم مرة وتخر أخرى، وله في حديث لأبي بن كعب: مثل المؤمن مثل الخامة تحمر مرة وتصفر أخرى (تفيئها) بتشديد الياء المكسورة وهمزة بعدها، وقيل بكسر الفاء وسكون الياء أي تميلها وتحركها (الرياح) يعني تميلها كذا وكذا حتى ترجع من جانب إلى جانب. قال النووي: تميلها وتفيئها بمعنى واحد، ومعناه تقلبها الريح يمينا وشمالا- انتهى. قال التوربشتي: وذلك أن الريح إذا هبت شمالا أمالت الخامة إلى الجنوب فصار فيئها في الجانب الجنوبي، وإذا هبت جنوبا صار فيئها في الجانب الشمالي (تصرعها) بفتح الراء بيان لما قبله أي تسقطها. قال الجزري: أي ترميها وتلقيها من المصارعة. وقال النووي: أي تخفضها (وتعدلها) بفتح التاء وسكون المهملة وكسر الدال المخففة وبضم التاء أيضا وفتح المهملة وتشديد الدال المكسورة أي ترفعها وتقيمها وتسويها (أخرى) أي تارة أخرى، وعند مسلم في هذه الرواية مرة. قال الحافظ: وكان ذلك باختلاف الريح فإن كانت شديدة حركتها فمالت يمينا وشمالا حتى تقارب السقوط وإن كانت ساكنة أو إلى السكون أقر إقامتها، ووقع في رواية لمسلم حتى تهيج. قال الحافظ: أي حتى تستوي ويكمل نضجها. وقال النووي: أي

(9/432)


تيبس. وقال الجزري: هاج النبات يهيج هيجا إذا أخذ في الجفاف والاصفرار بعد الغضاضة والاخضرار. قال المهلب: ووجه التشبيه أن المؤمن من حيث أنه جاءه أمر الله أن طاع له ورضى به، فإن وقع له خير فرح به وشكر، وإن وقع له مكروه صبر ورجا فيه الخير والأجر، فإذا اندفع عنه اعتدل شاكرا. قال أبوالفرج ابن الجوزي: والناس في ذلك على أقسام: منهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء، ومنهم من يرى أن هذا من تصرف المالك في ملكه فيسلم ولا يعترض، ومنهم من تشغله المحبة عن طلب رفع البلاء وهذا أرفع من سابقه، ومنهم من يتلذذ به وهذا أرفع الأقسام، لأنه عن اختياره نشأ. وقال الزمخشري في الفائق: قوله من الزرع صفة للخامة؛ لأن التعريف في
حتى يأتي أجله، ومثل المنافق كمثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة)) متفق عليه.

(9/433)


الخامة للجنس، وتفيئها يجوز أن يكون صفة أخرى للخامة وأن يكون حالا من الضمير المتحول إلى الجار والمجرور. وهذا التشبيه يجوز أن يكون تمثيليا فيتوهم للمشبه ما للمشبه به وأن يكون معقولا بأن تؤخذ الزبدة من المجموع. وفيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي له أن يرى نفسه في الدنيا عارية معزولة عن استيفاء اللذات والشهوات معروضة للحوادث والمصيبات مخلوقة للآخرة؛ لأنها جنته ودار خلوده (حتى يأتي) وفي بعض النسخ: يأتيه كما في صحيح مسلم (أجله) أي يموت (ومثل المنافق) وفي رواية لمسلم:ومثل الكافر، وبهذا يظهر أن المراد بالمنافق في رواية الكتاب نفاق الكفر (كمثل الأرزة) بفتح الهمزة والزاى بينهما راء ساكنة هذا هو المشهور في ضبطها وهو المعروف في الروايات وكتب الغريب. وذكر الجوهري وصاحب نهاية الغريب: أنها تقال أيضا بفتح الراء قال في النهاية: وقال بعضهم يعني أباعبيدة أنما هو الآرزة بالمد وكسر الراء على وزن فاعلة ومعناها الثابتة في الأرض، ورده أبوعبيد بأن الرواة اتفقوا على عدم المد، وإنما اختلفوا في سكون الراء وتحريكها والأكثر على السكون، قيل: هي واحدة شجر الأرز وهو شجر معروف يقال له الأرزن يشبه شجر الصنوبر وليس به يكون بالشام وبلاد الأرمن وهو الشجر الذي يعمر طويلا ويكثر وجوده في جبال لبنان، وقيل: هو شجر الصنوبر والصنوبر ثمرته وهو شجر صلب شديد الثبات في الأرض. وقيل: هو شجر الصنوبر الذكر خاصة، وقيل: هو شجر العرعر (المجذية) بميم مضمومة ثم جيم ساكنة ثم ذال معجمة مكسورة ثم ياء تحتية أي الثابتة المنتصبة القائمة من جذا يجذوا وأجذى يجذى لغتان أي ثبت قائما والجذاة أصول الشجر العظام (التي لا يصيبها شيء) أي من الميلان باختلاف الرياح. وفي رواية لمسلم: المجذية على أصلها لا يفيئها شيء (حتى يكون انجعافها) بسكون النون وكسر الجيم بعدها عين ثم ألف ثم فاء أي انقطاعها وإنقلاعها. وقيل: انكسارها من وسطها أو أسفلها وهو

(9/434)


مطاوع جعف تقول: جعفته فانجعف مثل قلعته فانقلع (مرة واحدة) وجه التشبيه أن المنافق لا يتفقده الله باختياره بل يحصل له التيسير في الدنيا ليتعسر عليه الحال في المعاد حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمة فيكون موته أشد عذابا وعليه أكثر ألما في خروج نفسه. وقيل: المعنى أن المؤمن يتلقى الأعراض الواقعة عليه لضعف حظه من الدنيا فهو كأوائل الزرع شديد الميلان لضعف ساقه والمنافق بخلاف ذلك وهذا في الغالب من حال الاثنين (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في التوبة، واللفظ له، وأخرجه أيضا أحمد (ج6:ص386) والنسائي في الكبرى.
1556-(21) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، لا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تستحصد)) متفق عليه.
1557- (22) وعن جابر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم السائب

(9/435)


1556- قوله: (كمثل الزرع) وفي مسلم: مثل الزرع. وفي البخاري: كمثل الخامة من الزرع وفي رواية له: كمثل خامة الزرع. وفي الترمذي: كمثل الزرع (لا تزال الريح) اللام للجنس. وفي الترمذي: الرياح (تميله) بتشديد الياء وبتخفيفها (لا يزال المؤمن يصيبه البلاء) قال الطيبي: التشبيه إما تمثيلي، وإما مفرق، فيقدر للمشبه معان بإزاء ما للمشبه به، وفيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي له أن يرى نفسه عارية معزولة عن استعمال اللذات معروضة للحوادث والمصيبات مخلوقة للآخرة؛ لأنها دار خلود (لا تهتز) أي لا تتحرك (حتى تستحصد) على بناء المفعول. وقال ابن الملك: بصيغة الفاعل أي يدخل وقت حصادها فتقطع- انتهى. وقال النووي: بفتح أوله وكسر الصاد كذا ضبطنا، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين، وبعضهم بضم أوله وفتح الصاد على ما لم يسم فاعله، والأول أجود أي لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة كالزرع الذي انتهى يبسه. قال معنى الحديث: أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفر لسيئاته ورافع لدرجاته. وأما المنافق والكافر فقليلها وإن وقع به شيء لم يكفر شيئا من سيئاته بل يأتي بها يوم القيامة كاملة (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى وفي التوحيد ومسلم في التوبة واللفظ له وأخرجه أيضا أحمد (ج2ص234، 284، 285) والترمذي في الأمثال ولفظ البخاري في التوحيد: مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها فإذا سكنت اعتدلت وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء ومثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء.

(9/436)


1557- قوله: (دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أم السائب) وفي مسلم بعد ذلك "أو أم المسيب" وفي البيهقي: دخل على أم السائب أو أم المسيب، وهي ترفرف. قال ابن عبدالبر: أم السائب الأنصارية روى عنها أبوقلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحمى. وقال بعضهم: فيها أم المسيب- انتهى. قلت: أخرجه أبونعيم بلفظ: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من الأنصار يقال لها أم المسيب فذكر نحو حديث الباب، وأخرجه ابن مندة فقال: أم السائب جزما، وأسنده من طريق الثقفي عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أم السائب، فذكر الحديث نحوه. قال الحافظ: ولم أر في شيء من طرقه أنها أنصارية بل
فقال: مالك تزفزفين؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد)). رواه مسلم.
1558- (23) وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر، كتب له

(9/437)


ذكرها ابن كعب في قبائل العرب بين المهاجرين والأنصار (فقال مالك تزفزفين) وفي مسلم والبيهقي وابن سعد وأبي يعلى: مالك يا أم السائب أو يا أم المسيب إلخ. وتزفزفين بالزايين بصيغة المعلوم والمجهول فإنه لازم ومتعد. قال القاري في نسخة صحيحة: بالراءين المهملتين على بناء الفاعل. قال الطيبي: رفرف الطائر بجناحيه إذا بسطهما عند السقوط على شيء والمعنى مالك ترتعدين، ويروي بالزاء من الزفزفة وهي الارتعاد من البرد والمعنى ما سبب هذا الارتعاد الشديد. وقال النووي: تزفزفين بزائين معجمتين وفائين والتاء مضمومة هذا هو الصحيح المشهور في ضبط هذه اللفظة، وادعى القاضي أنها رواية جميع رواة مسلم. ووقع في بعض نسخ بلادنا بالراء والفاء ومعناه تتحركين حركة شديدة أي ترعدين- انتهى. وقال المنذري: روى برائين وبزائين ومعناهما متقارب وهو الزعدة التي تحصل للمحموم، ونقله الجزري في جامع الأصول (ج10ص355) تزفزفين بالزايين وقال أصل الزفيف الحركة السريعة ومنه زف الظليم إذا أسرع حتى يسمع لجناحه حركة فكأنه سمع ما عرض لها من رعدة الحمى هذا على من رواه بالزاي المعجمة ومن رواه بالراء المهملة فعنى به زفزفة جناح الطائر وهو تحريكه عند الطيران فشبه حركة رعدتها به والزاي أكثر رواية (الحمى لا بارك الله فيها) مبتدأ وخبره الجملة تتضمن الجواب أو تقديره تأخذني الحمى أو الحمى معي، والجملة بعده دعائية، قاله القاري. ولفظ أبي يعلى قالت من الحمى لا بارك الله فيها (فإنها تذهب) من الإذهاب أي تمحوا وتكفر وتزيل (خطايا بني آدم) أي مما يقبل التكفير (كما يذهب الكير) بكسر الكاف بعدها تحتية ثم راء مهملة (خبث الحديد) بفتحتين أي وسخه. قال الطيبي: كير الحداد وهو المبني من الطين. وقيل: الزق الذي ينفخ به النار والمبنى الكور (رواه مسلم) في الأدب، وأخرجه أيضا البيهقي (ج3ص377) وابن سعد وأبويعلى وأبونعيم وابن مندة وفضل الحمى والمرض روايات عن جماعة من

(9/438)


الصحابة ذكرها المنذري في الترغيب في كتاب الجنائز.
1558- قوله: (إذا مرض العبد) المؤمن وكان يعمل عملا قبل مرضه ومنعه منه المرض ونيته لولا المانع مداومته عليه (أو سافر) سفر طاعة ومنعه السفر مما كان يعمل من الطاعات ونيته المداومة، ففي رواية أبي داود: إذا كان العبد يعمل عملا صالحا فشغله عنه مرض أو سفر (كتب له) أي للعبد من الأجر كما في
بمثل ما كان يعمل مقيما صحيحا)) رواه البخاري.
1559 -(24) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون شهادة كل مسلم))

(9/439)


رواية أحمد (بمثل ما كان يعمل) حال كونه (مقيما) وحال كونه (صحيحا) فهما حالان مترادفان أو متداخلان، وفيه اللف والنشر الغير المرتب؛ لأن مقيما يقابل إذا سافر وصحيحا يقابل إذا مرض. قال القاري: والباء زائدة كهى في قوله تعالى: ?فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به?[البقرة: 137] انتهى. قلت: وفي البخاري كتب له مثل ما كان يعمل أي بغير الباء، وفي رواية أبي داود كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم. ووقع في حديث عبدالله بن عمرو ابن العاص مرفوعا عند عبدالرزاق وأحمد والحاكم وصححه، والبيهقي: إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به: أكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه أو أكفته إلى، ولأحمد من حديث أنس رفعه إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله: أكتب له صالح عمله الذي كان يعمله فإن شفاه غسله وطهره وإن قبضه غفر له ورحمه، وعند الطبراني من حديث أبي موسى: إن الله يكتب للمريض أفضل ما كان يعمل في صحته ما دام في وثاقه- الحديث. وفي حديث عائشة عند النسائي: ما من امريء تكون له صلاة من الليل يغلبه نوم أو وجع إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة، وحمل ابن بطال الحكم المذكور على النوافل لا للفرائض فلا تسقط بالسفر والمرض، وتعقبه ابن المنير بأنه حجر واسعا بل تدخل فيه الفرائض التي شأنه أن يعمل بها وهو صحيح إذا عجز عن جملتها أو بعضها بالمرض كتب له أجر ما عجز عنه فعلا؛ لأنه قام به عزما إن لو كان صحيحا حتى صلاة الجالس في الفرض لمرضه يكتب له عنها أجر صلاة القائم-انتهى. قال الحافظ: وليس اعتراض ابن المنير بجيد، لأنهما لم يتواردا على محل واحد، وفي الأحاديث المذكورة تعقب على من زعم من الشافعية أن الأعذار المرخصة لترك الجماعة تسقط الكراهة والإثم خاصة من غير أن تكون محصلة للفضيلة والثواب، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب: ومما يدل على بطلان قوله حديث أبي هريرة رفعه: من

(9/440)


توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلى وحضر لا ينقص ذلك من أجره شيئا. أخرجه أبوداود والنسائي والحاكم، وإسناده قوي (رواه البخاري) في كتاب الجهاد، وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص410، 418) وأبوداود في الجنائز وابن أبي شيبة (ج4ص70) والبيهقي (ج3ص374).
1559- قوله: (الطاعون شهادة كل مسلم) أي حكما، كذا بالإضافة في نسخ المشكاة. وفي الصحيحين شهادة لكل مسلم، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج8ص364) أي سبب لكونه شهيدا يعني شهادة أخروية لكل مسلم مات به لمشاركته للشهيد فيما يكابده من الشدة، وهكذا جاء مطلقا في هذا الحديث، وسيأتي
................................

(9/441)


مقيدا بثلاثة قيود في حديث عائشة الذي يلي حديث أبي هريرة. قال المناوي: ظاهر حديث أنس يشمل الفاسق. وقال الحافظ بعد ذكر أحاديث: تدل على أن سبب الطاعون ظهور الفاحشة وفشوا الزنا ما لفظه: ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ ويحتمل أن يقال بل تحصل له درجة الشهادة لعموم الأخبار الواردة، ولاسيما حديث أنس الطاعون شهادة لكل مسلم، ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترح السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة، لأن درجات الشهداء متفاوتة كنظيره من العصاة إذا قتل مجاهدا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العلياء مقبلا غير مدبر- انتهى. والطاعون بوزن فاعول من الطعن، عدلوا به عن أصله ووضعوه دالا على الموت العام كالوباء. قال النووي في تهذيبه: هو بثر وورم مؤلم جدا يخرج مع لهب ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان وقيء، ويخرج غالبا في المراق والآباط، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد. وقال جماعة من الأطباء منهم ابن سينا: الطاعون مادة سمية تحدث ورما قتالا يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما تكون تحت الإبط أو خلف الأذن أو عند الأرنبة، قال وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد، ويستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فتحدث القيء والغثيان والغشى والخفقان، ولرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبيئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس، والوباء فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده- انتهى. وحاصل هذا أن حقيقة الطاعون ورم ينشأ عن هيجان الدم أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعونا بطريق المجاز لإشتراكهما في عموم المرض به أو كثرة الموت. وما قال الأطباء: أن الطاعون ينشأ عن

(9/442)


هيجان الدم أو انصبابه لا يعارض حديث الطاعون وخز أعداءكم من الجن، أخرجه أحمد وغيره من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعا، إذ يجوز أن ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة فتحدث منها المادة السمية ويهيج الدم بسببها أو ينصب، وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن، لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما يعرف من جهة الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم، لكن في وقوع الطاعون في أعدل الفصول وأصح البلاد هواء وأطيبها ماء دلالة على أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض، لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، والطاعون يذهب أحيانا ويجيء أحيانا على غير قياس ولا تجربة، وربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وأيضا لو كان من فساد الهواء لعم الناس والحيوان وربما يصيب الكثير من الناس، ولا يصيب من هو بجانبهم ممن هو في مثل مزاجهم، وربما يصيب بعض أهل البيت الواحد، ويسلم منه الآخرون منهم وقوله: وخز بفتح أوله وسكون المعجمة بعدها زاي، هو الطعن إذا كان غير نافذ، ووصف طعن الجن بأنه وخز، لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر فيؤثر بالباطن أولا ثم يؤثر في الظاهر وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف
متفق عليه.
1560 -(25) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله))
طعن الإنس، فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن فيؤثر في الظاهر أولا ثم يؤثر في الباطن وقد لا ينفذ. وأما ما يقع في الألسنة بلفظ: وخز إخوانكم من الجن. فقال الحافظ: إنه لم يجده في شيء طرق الحديث المسندة لا في الكتب المشهورة ولا الأجزاء المنثورة بعد التتبع الطويل البالغ، وعزاه في آكام المرجان لمسند أحمد والطبراني وكتاب الطواعين لابن أبي الدنيا، ولا وجود له في واحد منها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجهاد وفي الطب، ومسلم في الجهاد، وأخرجه أيضا أحمد.

(9/443)


1560- قوله: (الشهداء) جمع شهيد سمي به، لأن الملائكة يشهدون موته فكان مشهودا، وقيل مشهود له بالجنة، فعلى هذا الشهيد فعيل بمعنى مفعول. وقيل: سمي به، لأنه حي عند الله تعالى حاضر ويشهد حضرة القدس. وقيل: لأنه شهد ما أعد الله له من الكرامات. وقيل: لأنه يستشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على سائر الأمم المكذبين، فعلى على هذه المعاني يكون الشهيد بمعنى الشاهد، قاله العيني. وقال القاري: بمعنى فاعل، لأنه يشهد مقامه قبل موته أو بمعنى مفعول، لأن الملائكة تشهده أي تحضره مبشرة له. وذكر الحافظ في سبب تسميته بذلك أقوالا أخرى (خمسة) وفي حديث جابر بن عتيك الآتي: الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله. وفي حديث عمر عند أحمد والترمذي: الشهداء أربعة فاختلفت الأحاديث في عدد أسباب الشهادة. قال الحافظ: الذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بالأقل ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك- انتهى. (المطعون) أي الذي يموت بالطاعون (والمبطون) أي الذي يموت بمرض البطن مطلقا أو الاستسقاء أو الإسهال أو القولنج. قال القرطبي: اختلف هل المراد بالبطن الاستسقاء أو الإسهال على قولين للعلماء (والغريق) بالياء بعد الراء. وفي رواية: الغرق بغير ياء، وهو بفتح الغين المعجمة وكسر الراء بعدها قاف أي الذي يموت من الغرق في الماء. قال القاري: الظاهر انه مقيد بمن ركب البحر ركوبا غير محرم (وصاحب الهدم) أي الذي يموت تحت الهدم، وهو بفتح الهاء والدال ما يهدم به من البناء. قال في النهاية: الهدم بالتحريك البناء المهدوم، فعل بمعنى المفعول، وبالسكون الفعل نفسه. وقال الحفنى: قوله الهدم هو مجاز، لأنه يموت تحت المهدوم الذي سببه الهدم أي الفعل، فإن قريء بفتح الدال فهو ظاهر، لأنه اسم للمهدوم - انتهى. وحاصل جميع ذلك أن صاحب الهدم هو الذي يقع عليه بناء أو حائط فيموت تحته. قال القرطبي: هذا والغريق

(9/444)


إذا لم يغررا بأنفسهما ولم يهملا التحرز، فإن فرطا في التحرز حتى أصابهما ذلك فهما عاصيان (والشهيد) أي الذي يقتل (في سبيل الله)
متفق عليه.
1561 - (26) وعن عائشة، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرني: ((أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين،
يعني الذي حكمه أن لا يغسل ولا يصلي عليه بخلاف الأربعة السابقة، فالحقيقية الأخير والذي قبله مجاز، فهم شهداء في الثواب كثواب الشهيد واستشكل التعبير بالشهيد في سبيل الله مع قوله: الشهداء خمسة، فإنه يلزم منه حمل الشيء على نفسه، لأن قوله: خمسة خبر للمبتدأ، والمعدود بعده بيان له، فكأنه قال الشهيد هو الشهيد. وأجيب بأنه عبر عن المقتول بالشهيد، لأنه هو الشهيد الكامل فهو من باب أنا أبوالنجم، وشعري شعري أو معنى الشهيد القتيل، فكأنه قال والمقتول، فعبر عنه بالشهيد أو يقال: إن الشهيد مكرر في كل واحد منها، فيكون من التفصيل بعد الإجمال، والتقدير الشهداء خمسة، الشهيد كذا والشهيد كذا والشهيد القتيل في سبيل الله. قال ابن الملك: وإنما أخره، لأنه من باب الترقي من الشهيد الحكمي إلى الحقيقي. واعلم أن الشهداء الحكمية كثيرة وردت في أحاديث شهيرة، جمعها السيوطي في كراسته سماها أبواب السعادة في أبواب الشهادة. وقد سرد العيني والحافظ هذه الروايات، ولخصها القسطلاني والزرقاني، إن شئت الإطلاع عليها فارجع إلى العمدة والفتح. قال العيني: فإن قلت: كيف التوفيق بين الأحاديث التي فيها العدد المختلف صريحا والأحاديث الأخر أيضا؟ قلت: أما ذكر العدد المختلف فليس على معنى التحديد،بل كل واحد من ذلك بحسب الحال وبحسب السؤال وبحسب ما تجدد العلم في ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، على أن التنصيص على العدد المعين لا ينافي الزيادة- انتهى. قال العلماء: الشهداء على ثلاثة أنواع: شهيد الدنيا والآخرة وهو المقتول في سبيل الله، وشهيد الآخرة دون الدنيا وهم

(9/445)


الأربعة المذكورون في حديث أبي هريرة، وشهيد الدنيا دون الآخرة وهو من قتل مدبرا أو غل في الغنيمة أو قاتل لغرض دنياوي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأذان وفي الصلاة وفي الجهاد، ومسلم في الجهاد، وأخرجه أيضا مالك في الصلاة والترمذي في الجنائز.
1561- قوله: (فأخبرني) بالإفراد (أنه عذاب) من قبل الجن كما تقدم. وفي رواية: أنه كان عذابا (يبعثه الله على من يشاء) أي من كافر أو عاص كما في قصة آل فرعون وفي قصة أصحاب موسى مع بلعام (وأن الله جعله) بفتح الهمزة على العطف وبكسرها على الاستئناف. وفي رواية: فجعله الله (رحمة للمؤمنين) أي من هذه الأمة. وفي حديث أبي عسيب عند أحمد: فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم ورجس على الكافر، وهو صريح في أن كون الطاعون رحمة إنما هو خاص بالمسلمين، وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب عليهم يعجل لهم في الدنيا قبل الآخرة. وأما العاصي من هذه الأمة فهل يكون الطاعون له شهادة أو يختص بالمؤمن الكامل والمراد
ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد)).

(9/446)


بالعاصي مرتكب الكبيرة الذي يهجم عليه الطاعون وهو مصر، فإنه يحتمل أن لا يكرم بدرجة الشهادة لشؤم ما كان متلبسا به لقوله تعالى: ?أم حسب الذين اجترحوا السيئآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات?[الجاثيات:21] وفي حديث ابن عمر عند ابن ماجه والبيهقي ما يدل على أن الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة. ولفظه: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها الإفشاء فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك، وقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما، ووثقه أحمد بن صالح المصري وأبوزرعة الدمشقي. وقال ابن حبان: كان بخطئي كثيرا لكن له شاهد عن ابن عباس في الموطأ بلفظ: ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت- الحديث. قال في الفتح: فيه إنقطاع فدل هذا وغيره مما روى في معناه أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ نعم يحتمل أنه يحصل له درجة الشهادة لعموم الأحاديث في ذلك، ولا يلزم المساواة بين الناقص والكامل في المنزلة، لأن درجات الشهادة متفاوتة- انتهى ملخصا من الفتح (ليس) هذه الجملة بيان لقوله: جعله رحمة (من أحد) من زائدة أي ليس أحد يعني من المسلمين. وفي رواية: ليس من عبد أي مسلم (يقع الطاعون) صفة أحد، والراجع محذوف أي يقع في مكان هو فيه أو يقع في بلده (فيمكث) عطف على يقع (في بلده) وفي رواية أحمد في بيته، وفي رواية البخاري في القدر بلفظ: ما من عبد يكون في بلد يكون (أي الطاعون) فيه ويمكث فيه ولا يخرج من البلد أي التي وقع فيها الطاعون (صابرا) أي غير منزعج ولا قلق محتسبا أي طالبا للثواب على صبره، وهما حالان من فاعل يمكث أي يصبر وهو قادر على الخروج متوكلا على الله طالبا لثوابه لا غير كحفظ ماله أو غرض آخر. وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون، وهو أن يمكث بالمكان الذي يقع به فلا يخرج منه فرارا، كما ورد النهى عنه صريحا في الحديث الذي يليه

(9/447)


(يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له) أي من الحياة والممات. وهذا قيد آخر وهي جملة حالية تتعلق بالإقامة، فلو مكث وهو قلق أو متندم على عدم الخروج ظانا أنه لو خرج لما وقع به أصلا ورأسا وأنه بإقامته يقع به، فهذا لا يحصل له أجر الشهيد ولو مات بالطاعون. هذا الذي يقتضيه مفهوم هذا الحديث كما اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت بالطاعون، ويدخل تحته ثلاث صور من اتصف بذلك فوقع به الطاعون فمات به أو وقع به ولم يمت به أو لم يقع به أصلا ومات بغيره عاجلا أو آجلا، قاله الحافظ. (إلا كان له مثل أجر الشهيد) خبر ليس، والاستثناء مفرغ. ولعل السر في التعبير مع ثبوت التصريح بأن من مات بالطاعون كان شهيدا، أن من لم يمت من هؤلاء بالطاعون كان له مثل أجر الشهيد وإن لم يحصل له درجة الشهادة بعينها،
رواه البخاري.
1562- (27) وعن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم،
وذلك أن من اتصف بكونه شهيدا أعلى درجة ممن وعد بأنه يعطي مثل أجر الشهيد ويكون كمن خرج على نية الجهاد في سبيل الله ليتكون كلمة الله هي العليا فمات بسبب آخر غير القتل، وفضل الله واسع ونية المؤمن أبلغ من عمله (رواه البخاري) في ذكر بني إسرائيل وفي التفسير وفي الطب وفي القدر وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج3:ص376).

(9/448)


1562- قوله: (وعن أسامة بن زيد) أي ابن حارثة (الطاعون رجز) بكسر الراء أي عذاب (أرسل على طائفة من بني إسرائيل) قال الطيبي: هم الذين أمرهم الله تعالى أن يدخلوا الباب سجدا فخالفوا. قال تعالى: ?فأرسلنا عليهم رجزا من السماء?[ الأعراف:162] قال ابن الملك: فأرسل عليهم الطاعون فمات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا من شيوخهم وكبراءهم (أو على من كان قبلكم) قال الحافظ: كذا وقع بالشك، ووقع في رواية عند ابن خزيمة بالجزم بلفظ: فإنه رجز سلط على طائفة من بني إسرائيل، ووقع في رواية أخرى عنده بالجزم أيضا، لكن قال رجز أصيب به من كان قبلكم، قال: والتنصيص على بني إسرائيل أخص، فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام، فأخرج الطبري من طريق سليمان التيمي عن سيار أن رجلا كان يقال له بلعام كان مجاب الدعوة وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام فأتاه قومه، فقالوا: ادع الله عليهم قال حتى أو أمر ربي فمنع، فأتوه بهدية فقبلها، وسألوه ثانيا، فقال: حتى أو أمر ربي فلم يرجع إليه بشئ، فقالوا لو كره لنهاك، فدعا عليهم فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك، فقال: سأدلكم على ما فيه هلاكهم إلخ. وفيه فوقع في بني إسرائيل الطاعون (أي بسبب تمكين بنت الملك رأس بعض الأسباط من نفسها) فمات منهم سبعون ألفا في يوم، قال وهذا مرسل جيد وسيار شامي موثق. وذكر ابن إسحاق في المبتدأ: أن بني إسرائيل كثر عصيانهم فخيرهم بين ثلاث: إما أن أبتليهم بالقحط أو للعدو شهرين، أو الطاعون ثلاثة أيام فأخبرهم، فقالوا اختر لنا، فاختار الطاعون فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفا. وقيل: مائة ألف، فتضرع داود إلى الله فرفعه، قال: وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل فيحتمل أن يكون هو المراد بقوله: من كان قبلكم، فمن ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير

(9/449)


قال: أمر موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشا، ثم ليخضب كفه في دمه، ثم
فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه))
ليضرب به على بابه ففعلوا، فسألهم القبط عن ذلك، فقالوا: إن الله سيبعث عليكم عذابا، وإنما ينجو منه بهذا العلامة، فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفا، فقال فرعون عند ذلك لموسى: ?أدع لنا ربك بما عهد عندك، لئن كشفت عنا الرجز?[الآية]، فدعا فكشفه عنهم، وهذا مرسل جيد الإسناد، وأخرج عبدالرزاق في تفسيره والطبري من طريق الحسن في قوله تعالى: ?ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت?[البقرة:243] قال: فروا من الطاعون، فقال لهم الله: موتوا ثم أحياءهم ليكملوا بقية آجالهم، قال فأقدم من وقفنا عليه في المنقول ممن وقع الطاعون به من بني إسرائيل في قصة بلعام ومن غيرهم في قصة فرعون وتكرر بعد ذلك لغيرهم- انتهى مختصرا. (فإذا سمعتم به) أي بالطاعون (بأرض) قال الطيبي: الباء الأولى متعلقة بسمعتم على تضمين أخبرتم. وبأرض حال أي واقعا في أرض- انتهى. ويروي فإذا سمعتم أنه بأرض. قال ابن حجر الهيثمي في فتاواه: المراد بالأرض محل الإقامة وقع به الطاعون، سواء كان بلدا أم قرية أم محلة أم غيرها لا جميع الإقليم. وقال المناوي: قوله: إذا سمعتم بالطاعون بأرض أي إذا بلغكم وقوعه في بلدة أو محلة (فلا تقدموا) بسكون القاف وفتح الدال (عليه) أي لا تدخلوا عليه ليكون أسكن لأنفسكم وأقطع لوساوس الشيطان (وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا) أي لأجل الفرار (منه) أي من الطاعون، فإنه فرار من القدر ومعارضة له، والحديث يدل على حرمة الخروج من أرض وقع بها الطاعون فرارا منه، وكذا الدخول في أرض وقع بها الطاعون، لأن الأصل في النهى التحريم. ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة عند أحمد: الفار منها كالفار من الزحف. وفي الباب أحاديث أخرى

(9/450)


ذكر بعضها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص314-315) والحافظ في الفتح: وأشار إلى بعضها الترمذي بقوله: وفي الباب. وقد اختلف العلماء في ذلك. فذهب بعضهم إلى الجواز. قال الحافظ: نقل عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي يقع بها الطاعون (أي لمن قوى توكله وصح يقينه) عن جماعة من الصحابة منهم أبوموسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق. ومنهم من قال: النهى فيه للتنزيه فيكره ولا يحرم، وخالفهم جماعة، فقالوا: يحرم الخروج منها لظاهر النهى الثابت في الأحاديث الماضية. وهذا هو الراجح عند الشافعية وغيرهم، ويؤيده ثبوت الوعيد على ذلك، فأخرج أحمد وابن خزيمة من حديث عائشة مرفوعا بسند حسن. قلت: يارسول الله ! فما الطاعون؟ قال: غدة كغدة البعير، المقيم فيها كالشهيد والفار منها كالفار من الزحف. وله شاهد من حديث جابر مرفوعا عند أحمد أيضا وابن خزيمة وسنده صالح للمتابعات- انتهى. وفصل بعضهم في هذه المسألة تفصيلا جيدا فقال من خرج لقصد الفرار محضا فهذا يتناوله النهى لا محالة ومن خرج لحاجة متمحضة لا لقصد
.............................

(9/451)


الفرار أصلا ويتصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد كان بها إلى بلد إقامته مثلا. ولم يكن الطاعون وقع فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه فهذا لم يقصد الفرار أصلا فلا يدخل في النهى. والثالث: من عرضت له حاجة فأراد الخروج وانضم لذلك أنه قصدا الراحة من الإقامة بالبلد الذي به الطاعون فهذا محل النزاع. وقال النووي في شرح مسلم: وفي هذه الأحاديث منع القدوم على بلدة الطاعون ومنع الخروج فرارا من ذلك. أما الخروج لعارض فلا بأس. وهذا الذي ذكرنا هو مذهبنا ومذهب الجمهور. قال القاضي: هو قول الأكثريين حتى قالت عائشة: الفرار منه كالفرار من الزحف، قال ومنهم من جوز القدوم عليه. والخروج منه فرارا، ثم قال: والصحيح ما قدمناه من النهى عن القدوم عليه والفرار منه لظاهر الأحاديث الصحيحة- انتهى. وقال الزرقاني المالكي في شرح الموطأ: والجمهور على أنه للتحريم حتى قال ابن خزيمة: إنه من الكبائر التي يعاقب الله عليها إن لم يعف-انتهى. وقال في شرح المواهب اللدنية: وخالفهم الأكثر وقالوا إنه للتحريم، حتى قال ابن خزيمة: إنه من الكبائر التي يعاقب عليها إن لم يعف، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: الطاعون غدة كغدة البعير، المقيم بها كالشهيد، والفار منه كالفار من الزحف. رواه أحمد برجال ثقات. وروى الطبراني وأبونعيم بإسناد حسن مرفوعا الطاعون شهادة لأمتي، وخز أعداءكم من الجن، غدة كغدة الإبل تخرج في الآباط والمراق، من مات منه مات شهيدا ومن أقام به كان كالمرابط في سبيل الله، ومن فر منه كان كالفار من الزحف- انتهى. وقال الشيخ إسماعيل المهاجر الحنفي في تفسيره روح البيان: والفرار من الطاعون حرام إلى أن قال: وفي الحديث الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف، فهذا الخبر يدل على أن النهى عن الخروج للتحريم، وأنه من الكبائر- انتهى. وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي الحنفي في أشعة اللمعات (ج2:ص682) ضابطه دور همين أست

(9/452)


كه در آنجا كه هست نبايد رفت، واز آنجا كه باشد نبايد كريخت، واكرجه كريختن در بعض مواضع مثل خانه كه دورى زلزله شده يا آتش كرفته يا نشستن در زير ديواريكه خم شده نزد غلبه ظن بهلاك آمده است أما در باب طاعون جز صبر نيامده وكريختن تجويز نيافته، وقياس اين برآن مواد فاسد است كه آنها از قبيل أسباب عادية أند، واين از أباب وهمى، وبرهر تقدير كريختن أز آنجا جائز نيست؛ وهيج جاوارد نشده وهركه بكريزد عاصي ومرتكب كبيره ومردود است، نسأل الله العافية- انتهى. قلت: وهذا هو الحق عندنا فالخروج من أرض وقع فيها الطاعون فرارا منه حرام، وكذا الدخول فيها لظاهر الأحاديث الصحيحة، وهو الذي حققه وصوبه شيخنا في شرح الترمذي . وقد ألف أيضا في هذه المسألة رسالة مستقلة في جزئيين متوسطين باللغة الأردية سماها "خير الماعون في منع الفرار من الطاعون" ذكر في الجزء الأول
متفق عليه.
1563- (28) وعن أنس، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله سبحانه وتعالى: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه،

(9/453)


الأحاديث والآثار التي تدل على عدم جواز الفرار من الموضع الذي وقع فيه وباء الطاعون، وأفرز الجزء الثاني بذكر الأجوبة عن دلائل القائلين بالفرار ودفع شبهاتهم وأعذارهم، وهي عديم النظير في بابها فعليك أن تطالعها. هذا وقد ذكر العلماء في النهى عن الخروج حكما بسطها الحافظ في الفتح (ج23:ص415) والغزالي في الأحياء، وغيرهما في غيرهما، لا يخلوا واحد منها عن نظر. والظاهر أن النهى للتعبد، والله تعالى اعلم. قال العلامة الآلوسي في روح المعاني (ج28:ص98) واختلفوا في علة النهى فقيل: هي أن الطاعون إذا وقع في بلد مثلا عم جميع من فيه بمداخلة سببه فلا يفيد الفرار منه، بل إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل، وإلا فلا وإن أقام فتعينت الإقامة لما في الخروج من العبث الذي لا يليق بالعقلاء. واعترض بمنع عمومه إذا وقع في بلد جميع من فيه بمداخلة سببه، ولو سلم فالوباء مثله في أن الشخص الذي في بلده إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل، وإلا فلا وإن أقام مع أنهم جوزوا الفرار منه. وقيل: هي أن الناس لو تواردوا على الخروج لضاعت المرضى العاجزون عن الخروج لفقد من يتعهدهم والموتى لفقد من يجهزهم، وأيضا في خروج الأقوياء كسر قلوب الضعفاء عن الخروج، وأيضا إن الخارج يقول: لو لم أخرج لمت، والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت، فيقعان في اللو المنهى عنه. واعترض كل ذلك بأنه موجود في الفرار عن الوباء أيضا وكذا الداء الحادث ظهوره المعروف بين الناس بأبي زوعة الذي أعيا الأطباء علاجه، ولم ينفع فيه التحفظ والعزلة على الوجه المعروف في الطاعون. وقيل: هي أن للميت به وكذا للصابر المحتسب المقيم في محله وإن لم يمت به، أجر شهيد، وفي الفرار إعراض عن الشهادة، وهو محل التشبيه في حديث عائشة عند بعض. واعترض بأنه قد صح أنه صلى الله عليه وسلم مر بحائط مائل فأسرع ولم يمنع أحد من ذلك، وكذا في الفرار من الحريق مع أن الميت بذلك شهيد أيضا. وذهب بعض

(9/454)


العلماء إلى أن النهى تعبدى، وكأنه لما رأى أنه لا تسلم علة له من الطعن قال ذلك، ولهم في ذلك رسائل عديدة فمن أراد استيفاء الكلام فيها فليرجع إليها- انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل وفي الطب وفي ترك الحيل، ومسلم في الطب، وأخرجه أيضا أحمد (ج5:ص201-202-206-207-208-209-210) والترمذي في الجنائز، والبيهقي (ج3:ص376).
1563- قوله: (إذا ابتليت عبدي) المؤمن (بحبيبتيه) بالتثنية أي محبوبيه يعني يفقد بصر عينيه، وقيل أي أنزلت البلاء بعينيه حتى يصير أنه لا يرى بهما. قال الحافظ: المراد بالحبيبتين المحبوبتان، لأنهما أحب أعضاء
ثم صبر، عوضته منهما الجنة يديد عينيه)) رواه البخاري.
(( الفصل الثاني))
1564- (29) عن علي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مسلم يعود مسلما غدوة

(9/455)


الإنسان إليه لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات روية ما يريد رؤيته من خير فيسر به أو شر فيجتنبه (ثم صبر) قال الطيبي: ثم ههنا لتراخي الرتبة. وفي البخاري: فصبر أي بالفاء يدل ثم، وزاد الترمذي وابن حبان في روايتهما عن أبي هريرة واحتسب، وكذا لابن حبان من حديث ابن عباس أيضا. قال الحافظ: والمراد أنه يصبر مستحضرا ما وعد الله به الصابر من الثواب لا أن يصبر مجردا عن ذلك، لأن الأعمال بالنيات، وابتلاء الله عبده في الدنيا ليس من سخطه عليه، بل إما لدفع مكروه أو لكفارة ذنوب أو لرفع منزلة فإذا تلقى ذلك بالرضاء تم له المراد، وإلا يصبر كما جاء في حديث سلمان: أن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتبا، وأن مرض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عقل ولم أرسل أخرجه البخاري في الأدب المفرد (وابن أبي شيبة) موقوفا (عوضته منهما) أي بدلهما أو من أجل فقدهما (الجنة) أي دخولها مع السابقين أو بغير عذاب أو منازل مخصوصة فيها، وقال الحافظ: هذا أعظم العوض، لأن الالتذاذ بالبصر يفنى بفناء الدنيا والالتذاذ بالجنة باق ببقاءها، وهو شامل لكل من وقع له ذلك بالشرط المذكور، ووقع في حديث أبي أمامة فيه قيد آخر أخرجه البخاري في الأدب المفرد بلفظ: إذا أخذت كريمتيك فصبرت عند الصدمة واحتسبت، فأشار إلى أن الصبر النافع هو ما يكون في وقوع البلاء فيفوض ويسلم، وإلا فمتى تضجر وتقلق في أول وهلة، ثم يئس فيصبر لا يكون حصل المقصود. وورد في حديث أنس (الآتي في باب البكاء على الميت) إنما الصبر عند الصدمة الأولى، وقد وقع في حديث العرباض بن سارية فيما صححه ابن حبان فيه بشرط آخر ولفظه: إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين لم أرض له ثوابا دون الجنة، إذا هو حمدني عليهما ولم أر هذه الزيادة في غير هذه الطريق، وإذا كان ثواب من وقع له ذلك الجنة فالذي له أعمال صالحة أخرى يراد في رفع الدرجات- انتهى. (يريد) أي النبي صلى

(9/456)


الله عليه وسلم بحبيبتيه (عينيه) قال القاري: والظاهر أن هذا التفسير من أنس. وقال الحافظ: قد فسرهما آخر الحديث بقوله: يريد عينيه، ولم يصرح بالذي فسرهما (رواه البخاري) في المرضى، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في الزهد، والبيهقي (ج3:ص375) وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكرها أحاديثهم المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد.
1564- قوله: ( غدوة) بضم الغين ما بين صلاة الغداوة وطلوع الشمس، كذا قاله ابن الملك. والظاهر
إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عادة عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة)) رواه الترمذي، وأبوداود.
1565- (30) وعن زيد بن أرقم، قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني.

(9/457)


أن المراد به أول النهار ما قبل الزوال ( إلا صلى عليه) أي دعا له بالمغفرة (حتى يمسى) بضم التحتية من الإمساء، أي يدخل في المساء. وقال القاري: أي يغرب بقرينة مقابلته (وإن عاده) إن نافية بدلالة إلا ولمقابلتها ما (عشية) أي ما بعد الزوال أو أول الليل (وكان له) أي للعائد (خريف) أي بستان. وهو في الأصل الثمر المجتنى أو مخروف من ثمر الجنة، فعيل بمعنى مفعول، قاله القاري. وقال الجزري: الخريف الثمر الذي يخترف أي يجنى ويقطف، فعيل بمعنى مفعول (رواه الترمذي وأبوداود) في الجنائز، واللفظ للترمذي. قال الترمذي: هذا حديث غريب حسن. وقد روى عن علي هذا الحديث من غير وجه ومنهم من وقفه ولم يرفعه- انتهى. قال المنذري في الترغيب. بعد إيراد الحديث ونقل كلام الترمذي. ما لفظه: ورواه أبوداود موقوفا على علي، ثم قال وأسند هذا عن علي من غير وجه صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رواه مسندا بمعناه. ولفظ الموقوف: ما من رجل يعود مريضا ممسيا إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة، ومن أتاه مصبحا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسى، وكان له خريف في الجنة، ورواه بنحو هذا أحمد وابن ماجه مرفوعا، وزادا في أوله إذا عاد المسلم أخاه مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة- الحديث. وليس عندهما خريف في الجنة، ورواه ابن حبان في صحيحه مرفوعا أيضا. ولفظه: ما من مسلم يعود مسلما إلا يبعث إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه في أي ساعات النهار حتى يمسى وفي أي ساعات الليل حتى يصبح. ورواه الحاكم مرفوعا بنحو الترمذي وقال صحيح على شرطهما- انتهى. قلت: في سند الترمذي ثوير بن أبي فاختة وهو ضعيف روى البخاري في الكبير والصغير عن الثوري قال: كان ثوير من أركان الكذب. ولعل الترمذي حسنه لتعدد طرقه، فقد رواه أحمد بطرق أخرى (ج1:ص81-97-118-121) مرفوعا وموقوفا، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة

(9/458)


(ج4:ص73)، والبيهقي مرفوعا وموقوفا (ج3:ص380-381).
1565- قوله: (عادني النبي صلى الله عليه وسلم من وجع) أي من رمد، كما في رواية أحمد، وفي حديث أنس عند الحاكم (كان بعيني) بفتح النون وتشديد الياء. قال ابن الملك: هذا يدل على أن من به وجع يجلس لأجله في بيته ولم يقدر أن يخرج منه فعيادته سنة. وقال في الأزهار: فيه بيان استحباب العيادة وإن لم يكن المرض مخوفا
رواه أحمد، وأبوداود.
1566- (31) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ فأحسن الوضوء، وعاد أخاه المسلم محتسبا، بوعد من جهنم مسيرة ستين خريفا)) رواه أبوداود.

(9/459)


كالصداع ووجع الضرس، وأن ذلك عيادة حتى يحوز بذلك أجر العيادة. وروى عن بعض الحنفية أن العيادة في الرمد ووجع الضرس خلاف السنة. والحديث يرده ولا أعلم من أين تيسر لهم الجزم بأنه خلاف السنة مع أن السنة خلافه نعوذ بالله من شرور أنفسنا. وقد ترجم عليه أبوداود في سننه، فقال "باب العيادة من الرمد" ثم أسند الحديث والله الهادي، ذكره ميرك. وأما ما أخرجه البيهقي والطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعا: ثلاثة لا يعادون صاحب الرمد وصاحب الضرس وصاحب الدملة، ففيه مسلمة بن على الخشني البلاطي وهو ضعيف متروك. وقال الحافظ في الفتح: صحح البيهقي أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير، وقال في تهذيب التهذيب في ترجمة مسلمة المذكور. أخرج له العقيلي من رواية سعيد بن أبي مريم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي جعفر عن أبي هريرة رفعه: ثلاثة لا يعادون صاحب الرمد والضرس والدمل، قال ورواه بقية عن الأوزاعي عن ابن أبي كثير من قوله، وقال هذا أولى. قال أبوحاتم: هذا باطل منكر- انتهى. (رواه أحمد) (ج4 ص375) (وأبوداود) في الجنائز وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي (ج3 ص381) والحاكم (ج1 ص342) وقال صحيح على شرط الشيخين، قال: وله شاهد صحيح من حديث أنس بن مالك، فرواه بإسناده عن أنس قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم من رمد كان به، وقد وافقه الذهبي الحاكم على تصحيح الحديثين.

(9/460)


1566- قوله: (فأحسن الوضوء) أي أتى به كاملا (وعاد أخاه المسلم) قال الطيبي: فيه أن الوضوء سنة في العيادة، لأنه إذا دعا على الطهارة، كان أقرب إلى الإجابة. وقال زين العرب: ولعل الحكمة في الوضوء هنا أن العيادة عبادة، وأداء العبادة على وجه الأكمل أفضل (محتسبا) أي طالبا للأجر والثواب (بوعد) ماض مجهول من المباعدة والمفاعلة للمبالغة (خريفا) أي عاما سمي بذلك لاشتماله عليه إطلاقا للبعض على الكل. والخريف في الأصل فصل بين الصيف والشتاء (رواه أبوداود) في الجنائز من طريق الفضل بن دلهم الواسطي البصري، وقد تفرد هو بزيادة الوضوء للعيادة. قال أبوداود فيما رواه أبوالحسن بن العبد عنه حديثه منكر، وليس هو برضي، كذا في تهذيب التهذيب. وقال المنذري: في إسناده الفضل بن دلهم. قال يحيى بن معين: ضعيف الحديث، وقال مرة حديثه صالح. وقال أحمد: لا يحفظ وذكر أشياء مما أخطأ فيها، وقال مرة ليس به بأس. وقال ابن حبان:
1567- (32) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يعود مسلما فيقول سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا شفى، إلا أن يكون قد حضر أجله)) رواه أبوداود، والترمذي.
1568- (33) وعنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الحمى ومن الأوجاع كلها أن يقولوا:
كان ممن يخطئ فلم يفحش خطأه حتى يبطل الاحتجاج به ولا اقتضى أثر العدول فيسلك به سننهم فهو غير محتج به إذا انفرد- انتهى.

(9/461)


1567- قوله: (ما من مسلم) ما للنفي ومن زائدة (يعود مسلما) أي يزوره في مرضه.و لفظ الترمذي: ما من عبد مسلم يعود مريضا لم يحضر أجله، ولفظ أبي داود من عاد مريضا لم يحضر أجله (فيقول) أي العائد في دعاءه له (سبع مرات) هذا العدد من أسرار النبوة، فليس لأحد أن يطلب العلة لذلك أو يبحث عن السبب، وهكذا كل عدد يرد عن الشارع صلى الله عليه وسلم (أسأل الله العظيم) أي في ذاته وصفاته (أن يشفيك) بفتح أوله مفعول ثان (إلا شفى) على بناء المجهول أي ذلك المسلم المريض. والحصر غالبي أو مبني على شروط لابد من تحققه. ولفظ الترمذي: إلا عوفي. ولفظ أبي داود: إلا عافاه الله من ذلك المرض (إلا أن يكون قد حضر أجله) أي فلا ينفعه شيء كما قال الشاعر: وإذا المنية أنشبت أظفارها ألقيت كل تميمة لا تنفع. ويمكن أن يهون الله عليه الموت ببركة هذا الدعاء (رواه أبوداود) في الجنائز (والترمذي) في الطب واللفظ الذي ذكره المصنف ليس للترمذي ولا لأبي داود. وقد ذكره الجزري في جامع الأصول (ج8:ص355) بلفظ أبي داود وعزاه للترمذي وأبي داود والحديث أخرجه أيضا ابن السني في اليوم والليلة (ص174)، والحاكم (ج1:ص342) و(ج4:ص213) كلهم من طريق يزيد بن عبدالرحمن عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. والحديث قد حسنه الترمذي، وسكت عنه أبوداود، وصححه الحاكم على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وقال المنذري: في إسناده يزيد بن عبدالرحمن أبوخالد الدالاني وقد وثقه أبوحاتم الرازي وتكلم فيه غير واحد- انتهى. قلت: وأخرجه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم أيضا عن طريق عبد ربه بن سعيد عن المنهال به. قال الحاكم: هذا شاهد صحيح غريب ووافقه الذهبي. والحديث أخرجه ابن حبان أيضا كما في الترغيب.

(9/462)


1568- قوله: (كان يعلمهم) أي أصحابه (من الحمى) أي من أجلها (أن يقولوا) أي المرضى أو عوادهم، وهذا لفظ ابن ماجه، وعند الترمذي وابن السني في عمل اليوم والليلة، والحاكم (ج4:ص414):
بسم الله الكبير، أعوذ بالله العظيم، من شر كل عرق نعار، ومن شر حز النار)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، لا يعرف إلا من حديث إبراهيم بن إسماعيل وهو يضعف في الحديث.
1569- (34) وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من اشتكى منكم شيئا أو اشتكاه أخ له،

(9/463)


أن يقول أي المريض أو عائده (أعوذ بالله) كذا في الترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة ولفظ ابن السني والحاكم نعوذ بالله (من شر كل عرق) بكسر فسكون منونا (نعار) بفتح النون وتشديد العين المهملة وبالراء المهملة أي الممتلى من الدم أو فوار الدم يقال: نعر العرق ينعر بالفتح فيهما إذا فار منه الدم استعاذ، لأنه إذا غلب لم يمهل. وقال الطيبي: نعر العرق بالدم إذا ارتفع وعلا وجرح نعار ونعور إذا صوت دمه عند خروجه. وقال القاضي أبوبكر ابن العربي في شرح الترمذي: النعار هو الذي يرتفع دمه ويزيد فيحدث فيه الحر. وفي رواية لابن ماجه: من شر عرق يعار بفتح المثناة التحتية وتشديد العين المهملة أي صوات بخروج الدم. وأصل اليعار صوت الغنم يقال: يعرت العنز تيعر بالكسر يعارا بالضم أي صاحت (ومن شر حر النار) فمن قال ذلك ولازمه بنية صادقة نفعه من جميع الآلام والأسقام. وفي الحديث إشارة إلى أن الحمى تكون من فوران الدم في البدن، وأنها نوع من حر النار. وقد وردت أحاديث في أن الحمى من فيح النار، وأنها تبرد بالماء (رواه الترمذي) في الطب، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص299)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص181)، وابن ماجه في الطب، والحاكم (ج4:ص414)، وابن أبي شيبة والبيهقي في الدعوات الكبير، وابن أبي الدنيا (وقال) أي الترمذي (هذا حديث غريب لا يعرف) وفي الترمذي لا نعرفه (إلا من حديث إبراهيم بن إسماعيل) أي ابن أبي حبيبة الأنصاري الأشهلي (وهو يضعف في الحديث) ضعفه ابن معين والنسائي. وقال البخاري في التاريخ الكبير والضعفاء، وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال الدارقطني: متروك الحديث ووثقه أحمد والعجلي. وقال الحربي: شيخ مدني صالح له فضل ولا أحسبه حافظا. وقال ابن سعد: كان مصليا عابدا صام ستين سنة، وكان قليل الحديث. وقال العقيلي: له غير حديث لا يتابع على شيء منها، ثم ضرب المثل بهذا الحديث. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد

(9/464)


(ج4:ص257) بعد ذكر أقوال الجارحين: والظاهر عندي أن من تكلم فيه إنما تكلم في حفظه وفي خطئه في بعض ما يروي، ثم ذكر كلام الحربي وابن سعد والعقيلي المذكور، ثم قال: ومثل هذا لا يقل حديثه عن درجة الحسن- انتهى. قلت: وقال الحاكم بعد روايته: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.وقال الذهبي في تلخيصه: إبراهيم قد وثقه أحمد.
1569- قوله: (من اشتكى منكم شيئا) أي من الوجع في جسده (أو اشتكاه) قال القاري: الضمير عائد
فليقل: ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، أغفرلنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك، على هذا الوجع، فيبرأ)) رواه أبوداود.

(9/465)


إلى شيئا. وقيل: التقدير أي اشتكى إليه (ربنا الله) بالرفع فيهما على الابتداء والخبر (الذي في السماء) صفة وهو كقوله تعالى: ?وهو الله في السماوات وفي الأرض?[ الأنعام:3] وقوله: ?وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله? (تقدس إسمك) خبر بعد خبر أو استئناف. وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب أي تطهرت وتنزهت عما لا يليق بك. قال الطيبي: ربنا مبتدأ، الله خبره، الذي صفة مادحة عبارة عن مجرد العلو والرفعة، لأنه منزه عن المكان، ومن ثمة نزه اسمه عما لا يليق فيلزم منه تقديس المسمى بطريق الأولى (أمرك في السماء والأرض) أي نافذ وماض وجار (كما رحمتك) بالرفع على أن ما كافة مهيئة لدخول الكاف على الجملة (في السماء) أي لجميع من في السماء من الملائكة وأرواح الأنبياء والصلحاء. قال في الفائق: الأمر مشترك بين السماء والأرض، لكن الرحمة شأنها أن تخص بالسماء دون الأرض، لأنها مكان الطيبين المعصومين. قال ابن الملك: ولذلك أتى بالفاء الجزائية، فالتقدير إذا كان كذلك (فاجعل رحمتك في الأرض) أي لكل مؤمن من أهل الأرض، فالمراد الرحمة الخاصة المختصة بالمؤمنين، وإلا فالرحمة العامة شاملة للجميع. قال تعالى: ?ورحمتي وسعت كل شيء?[ الأعراف:156] (أغفر لنا حوبنا) بضم الحاء المهملة وفتحها أي ذنبنا وإثمنا. وقال الجزري: حوبنا بضم الحاء الإثم وبالفتح مثله. وقيل: إن الضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغة تميم- انتهى. والمراد الذنب الكبير. وفي رواية الحاكم ذنوبنا يدل حوبنا (وخطايانا) أي صغائرنا أو المراد بالحوب العمد، وبالخطأ ضده (أنت رب الطيبين) أي الطاهرين من المعاصي. والإضافة تشريفية. خصوا بالذكر لشرفهم وفضلهم، وإلا فهو رب كل شيء من الخبيث والطيب، ولا ينسب إلى الله إلا الطيب. قيل هذا بمنزلة العلة لطلب المغفرة أي أغفرلنا آثامنا لنكون طاهرين من الذنوب مستحقين لتربيتك ورحمتك الخاصة (أنزل) بفتح الهمزة. وفي رواية الحاكم: فأنزل، وكذا نقله

(9/466)


الجزري (ج7:ص351) عن أبي داود (رحمة) خاصة عظيمة (من رحمتك) الواسعة التي وسعت كل شيء. قال الطيبي: هذا إلى آخره تقرير للمعنى السابق (على هذا الوجع) بفتح الجيم أي المرض أو بكسر الجيم أي المريض (فيبرأ) بفتح الراء وضم الهمزة من البرء أي فهو يتعافى (رواه أبوداود) في الطب، وأخرجه أيضا الحاكم (ج1:ص344) والنسائي في الكبرى، كما في تلخيص المنذري وتهذيب التهذيب (ج3:ص392): وأول حديث الحاكم عن فضالة بن عبيد. أن رجلين أقبلا يلتمسان الشفاء من البول فانطلق بهما إلى أبي الدرداء، فذكرا وجع اثنيهما له.
1570- (35) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاء الرجل يعود مريضا فليقل: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدوا أو يمشى لك إلى جنازة) رواه أبوداود.
فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اشتكى إلخ. وذكره الجزري في جامع الأصول (ج8:ص351) بلفظ: أتاه (أي أباالدرداء) رجل يذكر أن أباه أصابه الأسر وهو احتباس البول فعلمه رقية سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من اشتكى منكم شيئا أو اشتكى أخ له فليقل إلخ. قال الجزري: ولم يذكر مجيء الرجل إليه وما قال له – انتهى. والحديث قد سكت عنه أبوداود، وفي سنده زيادة بن محمد الأنصاري. قال البخاري والنسائي وابن حبان وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال الحاكم في المستدرك: هو شيخ من أهل مصر قليل الحديث. قال الذهبي في التلخيص: قال البخاري وغيره منكر الحديث.

(9/467)


1570- قوله: (ينكأ) بفتح الياء في أوله وبالهمزة في آخره مجزوما على جواب الأمر. وروى بالرفع أي فهو ينكأ (لك) أي لمرضاتك (عدوا) أي يجرحهم ويقتلهم. والمعنى يغزو في سبيك، يقال: نكأ القرحة ينكأ من باب فتح نكأ قشرها قبل أن تبرأ فنديت ونكأ العدو في العدو قتل فيهم وجرح أثخن. وقال في النهاية: أو ينكى لك عدوا من نكيت في العدو وأنكى إذا أكثرت فيهم الجراح والقتل فوهنوا لذلك. وقد يهمز لغة، يقال نكأت القرحة أنكأها إذا قشرتها. وقال في جامع الأصول (ج7:ص574) (ينكأك عدوا) نكأت العدو في الغزو إذا أثرت فيه أثرا بينا من قتل أو نهب أو غير ذلك- انتهى. ولا يخفى أن قول الجزري في النهاية يدل على أن ينكأ من المعتل، وقد يهمز فيفيد الضبط بالهمزة والياء، والهمزة ضعيف بالنسبة إلى الناقص، لكن نسخ المشكاة وأبي داود والمستدرك على كتابة بالألف وضبطه بالهمز على خلاف في رفعه وجزمه فلو كان من الناقص اليائي كما ذكره صاحب النهاية لكان يكتب بالياء. ثم رأيت القاموس ذكر في الناقص اليائي نكى العدو وفيه نكاية قتل وجرح والقرحة نكأها، وقال في المهموز: نكأ القرحة كمنع قشرها قبل أن تبرأ فنديت والعدو نكأهم. وحاصل هذا أنهما لغتان، وأن الحديث من المهموز ورفعه أقوى لقوله: أو يمشي لك إلى جنازة. وقال الطيبي: ينكأ مجزوم على جواب الأمر، ويجوز الرفع أي فانه ينكأ (أو يمشي) بالرفع أي أو هو يمشي. قال ميرك: كذا ورد بالياء وهو على تقدير ينكأ بالرفع ظاهر، وعلى تقدير الجزم فهو وارد على قراءة من يتق ويصبر (لك) أي لأمرك وابتغاء وجهك أو لأجلك طلبا لرضاك وامتثالا لأمرك (إلى جنازة) أي إلى إتباعها للصلاة لما جاء في رواية ابن السني والحاكم: إلى صلاة، وهذا توسع شائع. قال الطيبي: ولعله جمع بين النكاية وتشييع الجنازة، لأن الأول كدح في إنزال العقاب على عدو الله، والثاني سعى في إيصال الرحمة إلى ولي الله- انتهى. (رواه أبوداود)

(9/468)


1571- (36) وعن علي بن زيد، عن أمية أنها سألت عائشة عن قول الله عزوجل: ?إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله?
في الجنائز، وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا ابن السني في اليوم والليلة (ص175)، وابن حبان والحاكم (ج1:ص344) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي.
1571- قوله: (وعن علي بن زيد) هو علي بن زيد بن عبدالله بن زهير بن عبدالله بن جدعان التيمي البصري، أصله من مكة وهو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان بضم الجيم وإسكان الدال وفتح العين المهملتين، ينسب أبوه إلى جد جده. قال العجلي: لا بأس به. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صالح الحديث وإلى اللين ما هو. وقال الترمذي: صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره. وقال الساجي: كان من أهل الصدوق ويحتمل لرواية الجلة عنه، وليس يجرى مجرى من أجمع على ثبته، وضعفه آخرون، روى له مسلم مقرونا بغيره. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه (عن أمية) بالتصغير بنت عبدالله، ويقال أمينة وهي أم محمد إمرأة والد علي بن زيد بن جدعان وليست بأمه، ذكرها الذهبي في الميزان في فصل المجهولات. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: أمية بنت عبدالله عن عائشة وعنها ربيبها علي بن زيد بن جدعان وقيل: عن علي عن أم محمد وهي إمرأة أبيه واسمها أمينة. ووقع في بعض النسخ من الترمذي عن علي بن زيد بن جدعان عن أمه وهو غلط، فقد روى علي بن زيد عن إمرأة أبيه أم محمد عدة أحاديث- انتهى. (إن تبدوا) أي إن تظهروا (ما في أنفسكم) أي ما في قلوبكم من السوء بالقول أو الفعل (أو تخفوه) أي تضمروه مع الإصرار عليه، إذ لا عبرة بخطور الخواطر. وقال الآلوسي في تفسيره (ج3:ص64): (إن تبدوا) أي تظهروا للناس (ما في أنفسكم) أي ما حصل فيها حصولا أصليا بحيث يوجب اتصافها به كالملكات الرديئة والأخلاق الذميمة كالحسد والكبر والعجب والكفران وكتمان الشهادة (أو تخفوه) بأن لا تظهروه ?يحاسبكم به الله? أي يجازيكم به يوم

(9/469)


القيامة. وأما تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان. وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم أي إن الله تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية، وإنما يعاقب على عملها، فلا منافاة بين الحديث والآية، ولا يشكل على هذا أنهم قالوا إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى: ?ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم?[البقرة:225] لأنا نقول المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان، وهو أيضا من الكيفيات النفسية التي تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس- انتهى. ?يحاسبكم به الله? أي
وعن قوله: ?من يعمل سوء يجز به? فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة، حتى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها، فيفزع لها،حتى

(9/470)


يجازيكم بسركم وعلنكم أو يخبركم بما أسررتم وما أعلنتم (وعن قوله) تعالى ?من يعمل? ظاهرا وباطنا ?سوء? أي صغيرا أو كبيرا ?يجز به? أي في الدنيا والعقبى إلا ما شاء ممن شاء (فقالت) عائشة (ما سألني عنها) أي عن هذه المسألة (منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي عنها (فقال هذه) إشارة إلى مفهوم الآيتين المسؤل عنهما أي محاسبة العباد أو مجازاتهم بما يبدون وما يخفون من الأعمال (معاتبة الله العبد) أي مؤاخذة العبد بما اقترف من الذنب (بما يصيبه) أي في الدنيا، وهو صلة معاتبة ويصح كون الباء سببية (من الحمى) وغيرها مؤاخذة المعاتب، وإنما خصت الحمى بالذكر، لأنها من أشد الأمراض وأخطرها. قال في المفاتيح: العتاب أن يظهر أحد الخليلين من نفسه الغضب على خليله لسوء أدب ظهر منه مع أن في قلبه محبته، يعني ليس معنى الآية أن يعذب الله المؤمنين بجميع ذنوبهم يوم القيامة، بل معناها أنه يلحقهم بالجوع والعطش والمرض والحزن وغير ذلك من المكاره حتى إذا خرجوا من الدنيا صاروا مطهرين من الذنوب. قال الطيبي: كأنها فهمت أن هذه مؤاخذة عقاب أخروي فأجابها بأنها مؤاخذة عتاب في الدنيا صادرة عن مبدأ عناية ورحمة على ما هو معهود من ذي عاطفة وإشفاق على معطوف عليه يراقب أوقاته وأخواله وينبهه لطريق السعادة كلما ازور عن سواء الطريق يرده إليه لطفا وقهرا، فكأنه عليه الصلاة والسلام يقول لها: لا تظني أن هذه المحاسبة مؤاخذة سخط وغضب وأنها مخصوصة بالآخرة إنما هي مؤاخذة عتاب يجرى بين المتعاتبتين، ولهذا جاء بصلة المعاتبة توضيحا لها وتحقيقا لمعناها في قوله: بما يصيبه من الحمى- انتهى. (والنكبة) بفتح النون أي المحنة وما يصيب الإنسان من حوادث الدهر (حتى البضاعة) بالجر عطفا على ما قبلها وبالرفع على الابتداء، وهي بالكسر قطعة من المال تعين للتجارة والأصل فيها البضع وهو جملة من اللحم تبضع أي تقطع (يضعها في يد قميصه) أي كمه سمى باسم ما

(9/471)


يحمل فيه، ووقع في بعض النسخ من الترمذي: في كم قميصه (فيفقدها) أي يتفقدها ويطلبها فلم يجدها لسقوطها أو أخذ سارق لها منه يقال فقدت الشيء أفقده فقدا أي طلبته بعد ما غاب قال الله تعالى: ?ما ذا تفقدون? [يوسف:71] (فيفزع لها) أي يحزن لضياع البضاعة، فيكون كفارة، كذا قاله ابن الملك. وقال الطيبي: يعني إذا وضع بضاعة في كمه، ووهم أنها غابت فطلبها وفزع لذلك كفرت عنه ذنوبه، وفيه من المبالغة ما لا يخفى يقال فزع له أي تغير وتحول من حال إلى حال. قال في النهاية: يقال: فزعت لمجئ فلان إذا تأهبت له متحولا من حال إلى حال (حتى) أي لا يزال يكرر
إن العبد ليخرج من ذنوبه، كما يخرج التبر الأحمر من الكير)) رواه البخاري.
1572- (37) وعن أبي موسى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله تعالى عنه أكثر، وقرأ ?وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير?
عليه تلك الأحوال حتى (إن العبد) بكسر الهمزة. وفي بعض النسخ بالفتح: وأظهر العبد موضع ضميره إظهارا لكمال العبودية المقتضي للصبر والرضا بأحكام الربوبية. وقال الطيبي: كأنه قيل: يخرج عبدي ومن هو تحت عنايتي ولطفي (ليخرج من ذنوبه) بسبب الابتلاء (كما يخرج التبر) بالكسر أي الذهب والفضة قبل أن يضربا دراهم ودنانير فإذا ضربا كانا عينا. وفي رواية ابن أبي الدنيا: الذهب بدل التبر (من الكير) بكسر الكاف متعلق بيخرج (رواه الترمذي) في تفسير البقرة. وأخرجه أيضا ابن جرير وابن أبي حاتم. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة- انتهى. قال ابن كثير وشيخه علي بن زيد بن جدعان ضعيف يغرب في رواياته، وهو يروي هذا الحديث عن إمرأة أبيه أم محمد أمية بنت عبدالله عن عائشة وليس عنها في الكتب سواه - انتهى.

(9/472)


1572- قوله: (لا يصيب عبدا) التنوين للتنكير (نكبة) أي محنة وأذى والتنوين للتقليل لا للجنس ليصح ترتب ما بعدها عليها بالفاء وهو (فما فوقها) أي في العظم (أو دونها) أي في المقدار. وقال ابن حجر: فما فوقها في العظم أو دونها في الحقارة ويصح عكسه (إلا بذنب) أي يصدر من العبد (وما يعفو الله) "ما" موصولة أي الذي يغفره ويمحوه (أكثر) مما يجازيه (وقرأ) أي النبي صلى الله عليه وسلم ?وما أصابكم? خطاب للمؤمنين،و "ما" شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط ?من مصيبة? أي بليه وشدة ?فبما كسبت أيديكم? أي كسبتم من الذنوب وعبر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تزاول بها ?ويعفو عن كثير? أي من الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلا قيل وآجلا. قال ابن كثير: ?ويعفو عن كثير? أي من السيئآت فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها ?ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة?-انتهى. وهذا في المذنبين، وأما غيرهم فما يصيبهم في الدنيا يكون لرفع درجاتهم في الآخرة أو لحكم أخرى خفيت علينا. وأما الأطفال والمجانين فغير داخلين في الخطاب، لأنه للمكلفين، وبفرض دخولهم أخرجهم للتخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية.وقيل: في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر ثم أن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة، ويدل على ذلك ما رواه أحمد
رواه الترمذي.
1573- (38) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا كان على طريقه حسنة من العبادة، ثم مرض، قيل للملك المؤكل به: أكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه، أو أكتفه إلى)).
1574- (39) وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ابتلى المسلم ببلاء في جسده، قيل للملك:

(9/473)


(ج1:ص85) وغيره من حديث علي قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ?وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيدكم ويعفو عن كثير?، وسأفسرها لك يا علي ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثنى عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى فمنه في الدنيا فالله سبحانه أكرم من أن يعود بعد عفوه، ولا استحالة في كون الدنيا دار تكليف ويقع فيها لبعض الأشخاص ما يكون جزاء له على ذنبه أي مكفرا له (رواه الترمذي) في تفسير سورة الشورى من طريق عبيدالله بن الوازع الكلابي عن شيخ من بني مرة عن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى به، وعبيدالله وشيخه مجهولان وبلال بن أبي بردة قاضي البصرة كان ظلوما، وذكره أبوالعرب الصقلي في الضعفاء، وابن حبان في الثقات، فالحديث ضعيف، وله شاهد من حديث علي عند أحمد وغيره، وتقدم لفظه وفيه: أزهر بن راشد الكاهلي وهو ضعيف، ويؤيده حديث معاوية عند أحمد (ج4:ص98) وابن أبي شيبة (ج4:ص71) وحديث أبي سعيد، وحديث ابن مسعود المتقدمان في الفصل الأول.

(9/474)


1573- قوله: (وعن عبدالله بن عمرو) بالواو (إن العبد إذا كان على طريقه حسنة) أي على جهة المتابعة الشرعية (من العبادة) أي نوع من أنواعها من النوافل بعد قيامه بالفرائض (ثم مرض) ولم يقدر على تلك العبادة (قيل) أي قال الله تعالى، كما في رواية، ودل عليه قوله: هنا حتى أطلقه (إذا كان طليقا) أي مطلقا من المرض الذي عرض له غير مقيد به من أطلقه إذا رفع عنه القيد أي إذا كان صحيحا لم يقيده المرض عن العمل، كذا ذكره ميرك (حتى أطلقه) بضم الهمزة أي أكتب إلى حين أرفع عنه قيد المرض (أو أكفته إلى) بفتح الهمزة وكسر الفاء بعدها تاء مثناة فوق أي أضمه إلى وأقبضه. قال في النهاية: أي أضمه إلى القبر، وكل ضممته إلى شيء فقد كفته، ومنه قيل للأرض كفأت.وقال المظهر: أي أميته. قيل: الكفت الضم والجمع وهنا مجاز عن الموت.
1574- قوله: (إذا ابتلى المسلم ببلاء في جسده قيل للملك) وذكره الحافظ في الفتح، والمنذري في
أكتب له صالح عمله الذي كان يعمل، فإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه)) رواهما في شرح السنة.
1575- (40) وعن جابر بن عتيك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهادة سبع، سوى القتل في سبيل الله، المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد،

(9/475)


الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد نقلا عن أحمد بلفظ: إذا ابتلى الله عزوجل العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله عزوجل للملك: أي صاحب يمينه، وهو كاتب الحسنات (أكتب له صالح عمله) أي مثله (الذي كان يعمل) قال القاري: الظاهر من الحديث أنه يكتب له نفس العمل، وقيل ثوابه، والأول أبلغ فانه يشمل التضاعف (فإن شفاه) الله عزوجل (غسله) بالتشديد ويخفف أي نظفه (وطهره) من الذنوب؛ لأن المرض كفرها، والواو تفسيرية أو تأكيدية (وإن قبضه) أي أمر بقبضه وأماته (غفر له) من السيئآت (ورحمه) بقبول الحسنات أو تفضل عليه بزيادة المثوبات (رواهما) أي روى صاحب المصابيح الحديثين السابقين (في شرح السنة) الحديث الأول أخرجه أيضا عبدالرزاق وأحمد (ج2:ص203-205) والبيهقي (ج3:ص374) قال المنذري: إسناده حسن.وقال الهيثمي (ج2:ص303) إسناده صحيح، وأخرج أيضا نحوه أحمد (ج2:ص159-194-198) والدارمي وابن أبي شيبة والبزار والطبراني والحاكم (ج1:ص348) وصححه. والحديث الثاني أخرجه أيضا أبويعلى وأحمد وابن أبي شيبة (ج4:ص72) قال المنذري، والهيثمي: رجاله ثقات، وذكره الحافظ في الفتح، وسكت عنه.

(9/476)


1575- قوله: (وعن جابر بن عتيك) بفتح العين المهملة وكسر التاء المثناة الفوقية. قال الحافظ في التقريب: جابر بن عتيك بن قيس الأنصاري صحابي جليل، اختلف في شهوده بدرا مات سنة (61) وهو ابن (91) سنة (الشهادة) أي الحكمية (سبع سوى القتل في سبيل الله) أي غير الشهادة الحقيقية، وقد تقدم أن العدد ليس للحصر (المطعون شهيد) قال الطيبي: هو إلى آخره بيان للسبع بحسب المعنى (والغريق) بالياء، وفي رواية: الغرق بفتح فكسر بلا ياء (وصاحب ذات الجنب) قال في النهاية: ذات الجنب الدبيلة والدمل الكبيرة التي تظهر في باطن الجنب وتنفجر إلى داخل وقلما يسلم صاحبها وذو الجنب الذي يشتكي جنبه بسبب الدبيلة إلا أن ذو للمذكر وذات للمؤنث وصارت ذات الجنب علما لها وإن كانت في الأصل صفة مضافة- انتهى. وقال في جامع الأصول (ج3:ص376): ذات الجنب دمل أو قرحة تعرض في جوف الإنسان تنفجر إلى داخل فيموت صاحبها وقد تنفجر إلى خارج. وقال القاري: هي قرحة أو قروح تصيب الإنسان داخل جنبه ثم تفتح ويسكن الوجع
وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد)) رواه مالك، وأبوداود والنسائي.
1576- (41) وعن سعد، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل،

(9/477)


وذلك وقت الهلاك ومن علاماتها الوجع تحت الأضلاع وضيق النفس مع ملازمة الحمى والسعال وهي في النساء أكثر. وقال الحافظ ابن القيم: ذات الجنب عند الأطباء نوعان: حقيقي وغير حقيقي، فالحقيقي ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع، وغير الحقيقي ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية تحتقن بين الصفاقات فتحدث وجعا قريبا من وجع ذات الجنب الحقيقي إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود وفي الحقيقي ناخس، قال: ويلزم ذات الجنب الحقيقي خمسة أعراض: وهي الحمى، والسعال، والوجع الناخس، وضيق النفس، والنبض المنشاري- انتهى (وصاحب الحريق) أي المحرق وهو الذي يموت بالحرق، وهذا لفظ أبي داود، وعند النسائي، وصاحب الحرق. قال السندي: بفتحتين النار وصاحب النار من قتله النار، وفي الموطأ: والحرق شهيد، وهو بفتح فكسر بمعنى من يموت حريفا في النار (والذي يموت تحت الهدم) بفتح الدال أي البناء المهدوم يعني الذي وقع عليه بناء أو حائط فمات تحته (والمرأة تموت بجمع) قال الجزري: قيل هي التي تموت وفي بطنها ولد، وقيل التي تموت بكرا، والجمع بالضم بمعنى المجموع كالذخير بمعنى المذخور، وكسر الكسائي الجيم، والمعنى أنها ماتت مع شيء مجموع فيها غير منفصل عنها من حمل أو بكارة- انتهى (رواه مالك وأبوداود) في الجنائز واللفظ له (والنسائي) في الجنائز وفي الجهاد وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص446) وابن ماجه في الجهاد، وابن حبان والحاكم (ج1ص352) وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال النووي في شرح مسلم: هذا الحديث صحيح بلا خلاف وإن لم يخرجه الشيخان.

(9/478)


1576- قوله: (وعن سعد) بن أبي وقاص (قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -) وفي رواية لأحمد، والبيهقي، والحاكم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية ابن ماجه: قال: قلت يا رسول الله (أي الناس أشد) أي أكثر أو أصعب (بلاء) أي محنة ومصيبة بدليل السياق وإن كان البلاء يطلق على المنحة للاختبار أيضا فيعطي بعض الناس الصحة والعلم والسعة ليختبر هل يقوم بشكر تلك النعمة (قال الأنبياء) أي هم أشد في الابتلاء، لأنهم يتلذذون بالبلاء كما يتلذذ غيرهم بالنعماء، ولأنهم لو لم يبتلوا لتوهم فيهم الألوهية وليتوهن على الأمة الصبر على البلية، ولأن من كان أشد بلاء كان أشد تضرعا والتجاء إلى الله تعالى (ثم الأمثل فالأمثل) أي الأفضل فالأفضل
يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاءه، وإن كان في دينه رقة هون عليه، فما زال كذلك حتى يمشي على الأرض ماله ذنب)). رواه الترمذي. وابن ماجه، والدارمي،

(9/479)


على ترتيبهم في الفضل، فكل من كان أفضل فبلاءه أشد. قال الحافظ: الأمثل أفعل من المثالة، والجمع أماثل وهم الفضلاء. وقال الخطابي: الأمثل يعبر به عن الأشبه بالفضل والأقرب إلى الخير، وأماثل القوم كناية عن خيارهم. وقال ابن الملك: أي الأشرف فالأشرف والأعلى فالأعلى رتبة ومنزلة يعني من هو أقرب إلى الله بلاءه أشد ليكون ثوابه أكثر. قال الطيبي: ثم فيه للتراخي في الرتبة، والفاء للتعاقب على سبيل التوالي تنزلا من الأعلى إلى الأسفل، واللام في الأنبياء للجنس. قال القاري: ويصح كونها للاستغراق إذ لا يخلو واحد منهم من عظيم محنة وجسيم بلية بالنسبة لأهل زمنه، ويدل عليه قوله (يبتلى) بالبناء للمفعول (الرجل) وفي رواية ابن ماجه، العبد (على حسب) بالتحريك (دينه) أي مقداره ضعفا وقوة ونقصا وكمالا يعني بقدر قوة إيمانه وضعفه. قال الطيبي: الجملة بيان للجملة الأولى، واللام في الرجل للاستغراق في الأجناس المتوالية (فإن كان) تفصيل للابتلاء وقدره (في دينه صلبا) بضم فسكون أي قويا شديدا، وهو خبر كان، واسمه ضمير راجع إلى الرجل، والجار متعلق بالخبر (اشتد بلاءه) أي كمية وكيفية (وإن كان) أي هو (في دينه رقة) أي ضعف ولين، والجملة خبر كان، ويحتمل أن يكون رقة اسم كان. قال الطيبي: جعل الصلابة صفة له والرقة صفة لدينه مبالغة وعلى الأصل. وقال القاري: وكان الأصل في الصلب أن يستعمل في الجثث، وفي الرقة أن تستعمل في المعاني، ويمكن أن يحمل على التفنن في العبارة- انتهى. (هون) على بناء المفعول أي سهل (عليه) أي البلاء، وفي رواية لأحمد: فإن كان في دينه صلابة زيد في بلاءه وإن كان في دينه رقة خفف عنه- انتهى. والسر في ذلك أن البلاء في مقابلة النعمة فمن كانت النعمة عليه أكثر فبلاءه أغزر (فما زال) أي الرجل المبتلى. قال الطيبي: الضمير راجع إلى اسم كان الأول (كذلك) أي أبدا يصيب الصالح البلاء ويغفر ذنبه بإصابته إياه (حتى يمشي على

(9/480)


الأرض ماله) أي عليه (ذنب) كناية عن خلاصة من الذنوب فكأنه كان محبوسا ثم أطلق وخلى سبيله يمشي ما عليه بأس، ولفظ الحديث من قوله: هون عليه إلى آخره ليس لواحد ممن نسب إليه الحديث. والظاهر أن البغوي ذكر معنى آخر الحديث اختصارا، ولفظ الترمذي: ابتلى على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة، وعند ابن ماجه: ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه من خطيئة، ونحوه في رواية لأحمد والحاكم والبيهقي، ولفظ الدارمي: فإن كان في دينه صلابة زيد صلابة وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ماله خطيئة، وفي رواية ابن حبان: فمن ثخن دينه اشتد بلاءه ومن ضعف دينه ضعف بلاءه إلخ (رواه الترمذي) في الزهد (وابن ماجه) في الفتن (والدارمي) في
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
1577-(42) وعن عائشة، قالت: ما أغبط أحدا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -. رواه الترمذي، والنسائي.
1578-(43) وعنها، قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بالموت،
الرقاق، وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص172، 174، 180، 185) والنسائي في الكبرى، وابن حبان والحاكم (ج1ص41) وابن أبي شيبة (ج4ص72) وابن أبي الدنيا، والبيهقي (ج1ص372) (وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح) وصححه أيضا الحاكم، والبغوي في المصابيح، وله شاهد من حديث أبي سعيد عند ابن ماجه، وابن أبي الدنيا، والحاكم (ج1ص40) والبيهقي (ج3ص372) بلفظ: قال الأنبياء قال ثم من قال العلماء قال ثم من قال الصالحون- الحديث. وليس فيه ما في آخر حديث سعد، وفي الباب أيضا عن فاطمة بنت اليمان أخت حذيفة عند أحمد (ج6ص369) والنسائي في الكبرى وقد صححه الحاكم (ج4ص404) وحسنه الهيثمي.

(9/481)


1577- قوله: (ما أغبط) بكسر الباء يقال غبطت الرجل أغبطه إذا اشتهيت أن يكون لك مثل ماله وأن يدوم عليه ما هو فيه أي ما أحسد (أحدا) ولا أتمنى ولا أفرح لأحد (بهون الموت) الهون بالفتح الرفق واللين أي بسهولة موت، والإضافة فيه إضافة الصفة إلى الموصوف، وفي جامع الأصول (ج11ص385) يهون عليه الموت (بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي لما رأيت شدة وفاته علمت أن ذلك ليس من المنذرات الدالة على سوء عاقبة المتوفى وأن هون الموت وسهولته ليس من المكرمات وإلا لكان - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس به فلا أكره شدة الموت لأحد ولا أغبط أحدا يموت من غير شدة (رواه الترمذي والنسائي) أي في الجنائز، واللفظ للترمذي أخرجه من طريق عبدالرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه عن ابن عمر عن عائشة به، وقال: إنما أعرفه من هذا الوجه-انتهى. قال شيخنا: لم يحكم (الترمذي) عليه بشيء من الصحة والضعف، والظاهر أنه حسن- انتهى. ولفظ النسائي، وقد أخرجه من غير طريق الترمذي: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لبين حاقنتني وذاقنتني ولا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد تقدم في الفصل الأول من رواية البخاري، وسياق الكتاب نسبه النابلسي في ذخائر المواريث (ج4ص202) للترمذي فقط.
1578- قوله: (وهو بالموت) أي مشغول أو ملتبس به، وفي رواية ابن ماجه: وهو يموت
وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه، ثم يقول: ((اللهم اعني على منكرات الموت أو سكرات الموت)). رواه الترمذي، وابن ماجه.
1579-(44) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله تعالى بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه يوم القيامة)).

(9/482)


(وعنده قدح) بفتحتين معروف (وهو يدخل) وعند ابن ماجه: فيدخل (ثم يمسح وجهه) أي بالماء كما في الترمذي وابن ماجه وسقط لفظ "بالماء" من نسخ المشكاة والمصابيح وكان - صلى الله عليه وسلم - يمسح تخفيفا للحرارة أعنى ما سأل دفع تلك المكروهات عنه بل سأل الإعانة على حملها، ففيه أن ذاك خير لرفع الدرجات، قاله السندي. وقيل: أو دفعا للغشيان وكربه (اللهم اعني على منكرات الموت أو سكرات الموت) قال القاري: قيل أو للشك، وبه جزم ابن حجر، ويحتمل أن تكون للتنويع، ويراد من منكرات الموت ما يقع من تقصير في تلك الحال من المريض أو وساوس الشيطان وخطراته وتزيين خطراته ومن سكرات الموت شدائده التي لا يطيقها المحتضر فيموت جزعا فزعا، والمطلوب أنه لا يموت إلا أنه مسلم ومسلم محسن للظن بربه، وفي هذا تعليم منه عليه الصلاة والسلام لأمته- انتهى. قلت: هكذا وقع في المصابيح والمشكاة على منكرات الموت أو سكرات الموت، والذي في الترمذي على غمرات الموت وسكرات الموت، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج11ص385) قال في مجمع البحار: غمرات الموت شدائده. وقال في القاموس: غمرة الشيء شدته ومزدحمة ج غمرات وغمار- انتهى. وسكرات جمع سكرة بفتح السين وسكون الكاف وهي شدة الموت. قال سراج أحمد في شرح الترمذي: هو عطف بيان لما قبله، والظاهر أن يراد بالأولى الشدة وبالأخرى ما يترتب عليها من الدهشة والحيرة الموجبة للغفلة، وقال القاضي في تفسير قوله تعالى: ?وجاءت سكرة الموت بالحق?[ق: 19] أن سكرته شدته الذاهبة بالعقل-انتهى. (رواه الترمذي وابن ماجه) في الجنائز، وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة، وفي سنده موسى بن سرجس، وهو مستور.

(9/483)


1579- قوله: (عجل) بالتشديد أي أسرع (له بالعقوبة) أي الابتلاء بالمكاره (في الدنيا) ليخرج منها وليس عليه ذنب ومن فعل ذلك معه فقد أعظم اللطف به والمنية عليه (أمسك) أي أخر (عنه) ما يستحقه من العقوبة (بذنبه) أي بسببه (حتى يوافيه) أي يجازيه جزاء وافيا (به) أي بذنبه (يوم القيامة) قال الطيبي الضمير المرفوع راجع إلى الله تعالى. والمنصوب إلى العبد، ويجوز أن يعكس- انتهى. قال القاري: ولعل الموافاة حينئذ بمعنى الملاقاة قال: والمعنى لا يجازيه بذنبه حتى يجيء في الآخرة متوافر الذنوب وافيها فيستوفي حقه من
1580- (45) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله عزوجل إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) رواه الترمذي، وابن ماجه.
1581- (46) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة
العقاب - انتهى. قلت: وفي الترمذي حتى يوافي به أي بدون الضمير المنصوب أي حتى يأتي العبد بذنبه يوم القيامة ونقله الجزري هكذا "حتى يوافي يوم القيامة" (رواه الترمذي) في الزهد، وهو حديث حسن، وأخرجه الحاكم في الجنائز (ج1ص349) والحدود (ج4ص377) من حديث عبدالله بن مغفل وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

(9/484)


1580- قوله: (إن عظم الجزاء) أي عظمة الأجر وكثرة الثواب (مع عظم البلاء) بكسر العين المهملة وفتح الظاء فيهما، ويجوز ضمها مع سكون الظاء فمن كان ابتلاءه أعظم فجزاءه أعظم (ابتلاهم) أي اختبرهم بالمحن والرزايا (فمن رضي) أي بما ابتلاه الله به (فله الرضا) منه تعالى وجزيل الثواب. قال السندي: قوله: فمن رضي فله الرضا أي رضا الله تعالى عنه جزاء لرضاه أو فله جزاء رضاه، وكذا قوله فله السخط، ثم الظاهر أنه تفصيل لمطلق المبتلين لا لمن أحبهم فابتلاهم إذا الظاهر أنه تعالى يوفقهم للرضا فلا يسخط منهم أحد- انتهى. (ومن سخط) بكسر الخاء أي كره بلاء الله وفزع ولم يرض بقضاءه (فله السخط) منه تعالى وأليم العذاب ?ومن يعمل سوء يجز به?، والمقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه لا الترغيب في طلبه للنهي عنه (رواه الترمذي) في الزهد بسند الحديث الذي قبله وقال: حديث حسن غريب (وابن ماجه) في الفتن، وفي الباب عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الرضا ومن جزع فله الجزع. أخرجه أحمد قال المنذري، والهيثمي: رواته ثقات، ومحمود بن لبيد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف في سماعه منه.
1581- قوله: (لا يزال) في الترمذي ما يزال، وكذا وقع في رواية الحاكم (ج4ص314) وهكذا نقله المنذري في الترغيب والجزري في جامع الأصول (ج11ص357) عن الترمذي نعم وقع في رواية أحمد والحاكم (ج1ص346) وابن أبي شيبة والبيهقي لا يزال (البلاء بالمؤمن) أي ينزل بالمؤمن الكامل (أو المؤمنة)
في نفسه وماله وولده، حتى يلقي الله تعالى وما عليه من خطيئة)) رواه الترمذي، وروى مالك نحوه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
1582- (47) وعن محمد بن خالد السلمي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(9/485)


قال القاري: أو للتنويع، ووقع في أصل ابن حجر: بالواو فقال الواو بمعنى أو بدليل إفراد الضمير أي في نفسه وماله وولده، وهو مخالف للنسخ المصححة والأصول المعتمدة يعني من المشكاة. قلت: وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا وقع بالواو وكذا في الترغيب للمنذري وجامع الأصول للجزري، وهكذا رواه البيهقي وابن أبي شيبة ووقع عند أحمد بلفظة "أو" (وولده) بفتح الواو واللام وبضم فسكون أي أولاده (حتى يلقي الله) أي يموت (وما عليه من خطيئة) وفي الترمذي: وما عليه خطيئة أي بحذف من، وهكذا في الترغيب وجامع الأصول، وكذا في رواية الحاكم (ج4ص314) ووقع عند أحمد والحاكم (ج1ص346) والبيهقي وابن أبي شيبة من خطيئة. قال القاري: بالهمز والإدغام أي وليس عليه سيئة لأنها زالت بسبب البلاء. وقال الباجي: يحتمل أن يريد أنه يحط لذلك عنه خطاياه حتى لا يبقى له خطيئة، ويحتمل أن يريد أنه يحصل له على ذلك من الأجر ما يزن جميع ذنوبه فيلقي الله تعالى وليس له ذنب يزيد على حسناته فهو بمنزلة من لا ذنب له وإنما هذا لمن صبر واحتسب، وأما من سخط ولم يرض بقدر الله تعالى فإنه أقرب إلى أن يأثم لتسخطه فيكثر بذلك سائر آثامه (رواه الترمذي) في الزهد، وأخرجه أيضا أحمد وابن أبي شيبة (ج4ص71) والبزار والحاكم (ج1ص346ج4ص314، 315) والبيهقي (ج3ص374) (وروى مالك) في الجنائز (نحوه) أي بمعناه، ولفظه ما يزال المؤمن يصاب في ولده وحامته حتى يلقي الله وليست له خطيئة (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) وصححه أيضا البغوي في المصابيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

(9/486)


1582- قوله: (وعن محمد بن خالد السلمي) بضم السين وفتح اللام مجهول من طبقة كبار أتباع التابعين (عن أبيه) خالد وهو مجهول أيضا من أوساط التابعين. قال الهيثمي: محمد بن خالد وأبوه لم أعرفهما (عن جده) أي جد محمد بن خالد، زاد في روايات من خرج حديثه هذا وكانت له (أي لجد محمد بن خالد) صحبة، يقال اسمه اللجلاج بجيمين وفتح اللام الأولى. زيد، ويكنى أباخالد. قال الحافظ في الأسماء من الإصابة: اللجلاج بن حكيم السلمي أخو الجحاف، ذكره ابن مندة وقال له صحبة عداده في أهل الجزيرة، وقال في الكنى منه أبوخالد السلمي جد محمد بن خالد، أورده البغوي في الكنى، وأورد من طريق أبي المليح عن محمد بن خالد
((إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله)) رواه أحمد، وأبوداود.
1583- (48) وعن عبدالله بن شخير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل ابن آدم وإلى جنبه تسع

(9/487)


السلمي عن أبيه عن جده وكانت له صبحة، فذكر حديثا وسماه ابن مندة اللجلاج. وقال ابن الأثير: أبوخالد السلمي له صحبة سكن الجزيرة حديثه عند أولاده روى أبوالمليح عن محمد بن خالد عن أبيه عن جده وكانت له صحبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث. وقال أخرجه ابن مندة وأبونعيم (إن العبد إذا سبقت له) أي في علم الله أو في قضاءه وقدره (من الله منزلة) أي مرتبة عالية في الجنة (لم يبلغها بعمله) لعجزه عن العمل الموصل إليها. قال القاري: وفيه دليل على أن الطاعات سبب للدرجات، قيل ودخول الجنة بفضل الله تعالى وإيمان العبد والخلود بالنية. وقال الطيبي: فيه إشعار بأن للبلاء خاصية في نيل الثواب ليس للطاعة ولذا كان الأمثل فالأمثل أشد بلاء (ابتلاءه الله في جسده أو في ماله أو في ولده) أو في الموضعين للتنويع باعتبار الأوقات أو بإختلاف الأشخاص (ثم صبره) بالتشديد أي رزقه الصبر (حتى يبلغه) الله بالتشديد، وقيل: بالتخفيف. قال الطيبي: "حتى" هذه إما للغاية وإما بمعنى كي، والمعنى حتى يوصله الله تعالى (المنزلة) أي المرتبة العليا (التي سبقت له) أي إرادتها (من الله) تعالى شأنه (رواه أحمد) (وأبوداود) في الجنائز وسكت عنه، قال في عون المعبود: والحديث ليس من رواية اللؤلؤي، ولذا لم يذكره المنذري في مختصره. وقال المزي في الأطراف: هذا الحديث في رواية ابن العبد وابن داسة، ولم يذكره أبوالقاسم- انتهى. وأخرجه أيضا البيهقي (ج3ص374) من طريق أبي داود وأبويعلى والطبراني في الكبير والأوسط. قال المنذري في الترغيب: محمد بن خالد لم يرو عنه غير أبي المليح الرقي ولم يرو عن خالد إلا ابنه محمد- انتهى. وله شاهد جيد من حديث أبي هريرة بلفظ: إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمله فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغها، وفي رواية يكون له عند الله المنزلة الرفيعة. أخرجه أبويعلى. قال الهيثمي: ورجاله ثقات، وابن

(9/488)


حبان في صحيحه من طريقه وغيرهما.
1583- قوله: (مثل) بضم الميم وتشديد المثلثة أي صور وخلق (ابن آدم) بالرفع نائب الفاعل، وقيل: مثل ابن آدم بفتحتين وتخفيف المثلثة، ويريد به صفته وحاله العجيبة الشأن، وهو مبتدأ خبره الجملة التي بعده أي الظرف وتسعة وتسعون مرتفع به أي حال ابن آدم أن تسعة وتسعين منية متوجهة إلى نحوه منتهية إلى جانبه، وقيل: خبره محذوف والتقدير مثل ابن آدم مثل الذي يكون إلى جنبه تسعة وتسعون منية، ولعل الحذف من بعض الرواة (وإلى جنبه) الواو للحال أي بقربه (تسع) وفي المصابيح: تسعة، وكذا في جامع الترمذي
وتسعون منية، إن أخطأته المنايا وقع في الهرم حتى يموت)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
1584- (49) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطي أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض))

(9/489)


(وتسعون) أراد به الكثرة لا الحصر (منية) بفتح الميم أي بلية مهلكة. وقال بعضهم: أي سبب موت (إن أخطأته المنايا) قال الطيبي: المنايا جمع منية، وهي الموت لأنها مقدرة بوقت مخصوص من المنى، وهو التقدير سمي كل بلية من البلايا منية لأنها طلائعها ومقدماتها- انتهى. أي أسباب الموت كثيرة متعددة كالأمراض والجوع والغرق والحرق والهدم وغير ذلك، فإن جاوزه واحد وقع في الآخر فإن جاوزه فرضا الجميع مرة بعد أخرى (وقع في الهرم) قال في القاموس: الهرم محركة أقصى الكبر (حتى يموت) أي وقع في السبب الذي يفضى إلى الموت ولا محالة وهو الهرم. وقال بعضهم: يريد أن أصل خلقة الإنسان من شأنه أن لا تفارقه المصائب والبلايا والأمراض والأدواء كما قيل البرايا أهداف البلايا، وكما قال صاحب الحكم ابن عطاء: ما دمت في هذه الدار لا تستغرب وقوع إلا كدار فإن أخطأته تلك النوائب على سبيل الندرة أدركه من الأدواء الداء الذي لا دواء له وهو الهرم، وحاصله أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والمصائب كفارة لذنوبه، فينبغي للمؤمن أن يكون صابرا على حكم الله راضيا بما قدره الله تعالى وقضاه (رواه الترمذي) في أواخر القدر وقال: حديث حسن غريب، وأعاده في أواخر الزهد سندا ومتنا، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ولعله صححه ههنا لشواهد رويت في ذلك والله اعلم. والحديث أخرجه أيضا الضياء المقدسي في المختارة، كما في الجامع الصغير.

(9/490)


1584- قوله: (يود) أي يتمنى (أهل العافية) أي في الدنيا (يوم القيامة) ظرف يود (حين يعطي) بالبناء للمفعول (الثواب) مفعول ثان أي كثيرا وبلا حساب لقوله تعالى: ?إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب?[الزمر: 10] (قرضت) بالتخفيف، ويحتمل التشديد للمبالغة والتأكيد أي قطعت (في الدنيا) قطعة قطعة (بالمقاريض) جمع المقراض ليجدوا ثوابا كما وجد أهل البلاء. قال الطيبي: الود محبة الشيء وتمنى كونه له، ويستعمل في كل واحد من المعنيين من المحبة والتمني، وفي الحديث هو من المودة التي هي بمعنى التمني وقوله لو أن إلخ منزلة مفعول يود كأنه قيل يود أهل العافية ما يلازم لو أن جلودهم كانت مقرضة في الدنيا وهو الثواب المعطي. قال ميرك: ويحتمل أن مفعول يود الثواب على طريق التنازع وقوله لو أن جلودهم حال أي متمنين أن جلودهم إلخ أو قائلين لو أن جلودهم على طريقة الالتفات من التكلم إلى الغيبة- انتهى. قلت: ورواه
رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
1585 - (50) وعن عامر الرام، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسقام، فقال: ((إن المؤمن إذا أصابه السقم، ثم عافاه الله عزوجل منه، كان كفارة لما مضى من ذنوبه، وموعظة له فيما يستقبل، وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي، كان كالبعير عقله أهله

(9/491)


البيهقي بلفظ: يود أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلاء (رواه الترمذي) في الزهد، وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا والبيهقي (ج3ص375) كلهم من طريق عبدالرحمن بن مغراء عن الأعمش عن أبي الزبير عن جابر، وابن مغراء هذا صدوق تكلم في حديثه عن الأعمش. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي وابن أبي الدنيا من رواية عبدالرحمن بن مغراء، وبقية رجاله ثقات. وقال الترمذي: حديث غريب، ورواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود موقوفا عليه، وفيه رجل لم يسم. قال الهيثمي: وبقية رجاله ثقات، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه الطبراني في الكبير، وفيه مجاعة بن الزبير. قال الهيثمي (ج2ص305) وثقة أحمد وضعفه الدارقطني.

(9/492)


1585- قوله: (وعن عامر الرام) بحذف الياء تخفيفا كما في المتعال، ويقال الرامي لأنه كان ارمي العرب صحابي، روى له أبوداود وحده. قال الحافظ في تهذيبه: عامر الرام، وقيل: الرامي أخو الخضر بن محارب عداده في الصحابة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن إذا ابتلى ثم عافاه الله كان كفارة لذنوبه- الحديث. وقال في الإصابة: عامر الرامي أخو الخضر بضم الخاء وسكون الضاد المعجمتين المحاربي من ولد مالك بن مطرف ابن خلف بن محارب وكان يقال لولد مالك الخضر لأنه كان شديد الأدمة وكان عامر راميا حسن الرمي فلذلك قيل له الرامي (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسقام) جمع سقم أي الأمراض وثوابها (إذا أصابه السقم) بضم فسكون وبفتحتين أي المرض (ثم عافاه الله) من المعافاة وفي أبي داود أعفاه الله أي من الإعفاء، وكذا في الترغيب للمنذري وجامع الأصول للجزري (ج5ص277) يقال أعفا الله فلانا أي عافاه وأعفاه من الأمر برأه (منه) أي من ذلك السقم (كان) أي السقم (وموعظة له) أي تنبيها للمؤمن فيتوب ويتقي (فيما يستقبل) من الزمان. قال الطيبي: أي إذا مرض المؤمن ثم عوفي تنبه وعلم أن مرضه كان مسببا عن الذنوب الماضية فيندم ولا يقدم على ما مضى فيكون كفارة لها (وإن المنافق) وفي معناه الفاسق المصر (إذا مرض ثم أعفي) بمعنى عوفي كما تقدم، والاسم منه العافية (كان) أي المنافق في غفلته (كالبعير عقله أهله) أي شدوه وقيدوه، يقال: عقل البعير أي ثنى وظيفة مع ذراعه فشدهما معا بحبل هو العقال، وهو كناية عن المرض استئناف مبين
ثم أرسلوه، فلم يدر لم عقلوه ولم أرسلوه. فقال رجل: يا رسول الله! وما الأسقام؟ والله ما مرضت قط، فقال: قم عنا فلست منا)). رواه أبوداود.
1586-(51) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئا، ويطيب

(9/493)


لوجه الشبه (ثم أرسلوه) أي أطلقوه من عقاله، وهو كناية عن العافية (فلم يدر) أي لم يعلم (لم) أي لأي سبب (عقلوه ولم أرسلوه) يعني أن المنافق لا يتعظ بما حصل له ولا يستيقظ من غفلته ولا يتوب فلا يفيد مرضه لا فيما مضى ولا فيما يستقبل (وما الأسقام) قال الطيبي: عطف على مقدر أي عرفنا ما يترتب على الأسقام وما الأسقام (قم عنا) أي تنح وأبعد (فلست منا) أي لست من أهل طريقتنا حيث لم تبتل ببلية ومصيبة، وشأن المؤمن أن يبتلى بالبلايا حتى يطهر من الذنوب في الدنيا، وقيل: الظاهر أن هذا الرجل كان منافقا (رواه أبوداود) في أول الجنائز، وأخرجه أيضا أحمد وابن السكن وابن أبي شيبة وغيرهم كلهم من طريق ابن إسحاق عن أبي منظور عن عمه عن عامر الرامي، وأبومنظور وعمه مجهولان. قال الحافظ في التقريب في ترجمة عامر الرامي: صحابي له حديث يروي بإسناد مجهول.

(9/494)


1586- قوله: (إذا دخلتم على المريض) أي لعيادته (فنفسوا له في أجله) من التنفيس، وأصله التفريج يقال: نفس الله عنه كربته أي فرجها، وتعديته بفي لتضمين معنى التطمع أي طمعوه في طول عمره، واللام بمعنى عن وقال الطيبي: اللام للتأكيد وهذا التنفيس إما أن يكون بالدعاء بطول العمر أو بنحو يشفيك الله وإما الجزم فلا يمكن. وقال القاري: أي اذهبوا حزنه فيما يتعلق بأجله بأن تقولوا لا بأس طهورا ويطول الله عمرك ويشفيك ويعافيك أو وسعوا له في أجله فينفس عنه الكرب، والتنفيس التفريج. وقال الجزري: نفست عن المريض إذا منيته طول الأجل وسألت الله أن يطيل عمره. وقال في اللمعات: التنفيس التفريج أي فرجوا له واذهبوا كربه فيما يتعلق بأجله بأن تدعوا له بطول العمر وذهاب المرض، وأن تقولوا لا بأس طهور ولا تخف سيشفيك الله وليس مرضك صعبا وما أشبه ذلك فإنه وإن لم يرد شيئا من الموت المقدر ولا يطول عمره لكن يطيب نفسه ويفرحه ويصير ذلك سببا لانتعاش طبيعته وتقويتها فيضعف المرض- انتهى. (فإن ذلك) أي تنفيسكم له (لا يرد شيئا) أي من القدر والقضاء قيل: قوله فإن ذلك تعليل لما يفهم من المقام كأنه قيل: هل يزيد بذلك العمر أو ماذا فائدته، فقال: لا، فإن التنفيس لا يرد شيئا مما أريد بالمريض (ويطيب) من طاب يطيب والباء في قوله
بنفسه)) رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
1587 - (52) وعن سليمان بن صرد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتله بطنه لم يعذب في قبره)) رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب.

(9/495)


(بنفسه) للتعدية أو زائدة على الفاعل، كما قيل: ويحتمل أنه من طيب بالتشديد والباء زائدة. وفي الترمذي: ويطيب نفسه أي بدون الباء، وهكذا نقله الجزري (ج7:ص402) ولفظ ابن ماجه: وهو يطيب بنفس المريض. قال المناوي: يعني لا بأس عليكم بتنفيسكم له فإن ذلك التنفيس لا أثر له إلا في تطيب نفسه فلا يضركم ذلك ومن ثم عدوا من آداب العيادة تشجيع العليل بلطيف المقال وحسن الحال- انتهى. وارجع لمزيد الكلام إلى زاد المعاد (ج2:ص94) (رواه الترمذي) في الطب (وابن ماجه) في أول الجنائز وأخرجه أيضا ابن السني في اليوم والليلة وابن أبي شيبة (ج4:ص74) (وقال الترمذي هذا حديث غريب) لم يحكم الترمذي عليه بشيء من الصحة والضعف، وفي إسناده موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي المدني. قال البخاري: وأبوزرعة والنسائي وأبوحاتم وأبوأحمد الحاكم منكر الحديث، فالحديث ضعيف.

(9/496)


1587- قوله: (وعن سليمان بن صرد) بضم المهملة وفتح الراء ابن الجون الخزاعي أبومطرف الكوفي صحابي. قال ابن عبدالبر: كان خيرا فاضلا وكان اسمه في الجاهلية يسار فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سليمان سكن الكوفة وكان له سن عالية وشرف وقدر وكلمة في قومه وشهد مع علي صفين وهو الذي قتل حوشب ذا ظليم الألهاني بصفين مبارزة وكان فيمن كتب إلى الحسين يسأله القدوم إلى الكوفة فلما قدمها ترك القتال معه فلما قتل الحسين ندم هو والمسيب بن نجية الفزاري في آخرين إذ لم يقاتل معه ثم قالوا مالنا من توبة مما فعلنا إلا أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه فخرجوا فعسكروا بالنخيلة وولوا أمرهم سليمان بن صرد وسموه أمير التوابين ثم ساروا فالتقوا بمقدمة عبيدالله بن زياد في أربعة آلاف بموضع يقال له عين الوردة فقتل سليمان والمسيب في ربيع الآخر سنة (65) وقيل رماه يزيد بن الحصين بن نمير بسهم فقلته وحمل رأسه ورأس المسيب إلى مروان بن الحكم وكان سليمان يوم قتل ابن (93) سنة (من قتله بطنه) إسناده مجازي أي من مات من مرض بطنه، وهو يحتمل الإسهال والاستسقاء والنفاس (لم يعذب في قبره) وفي رواية لأحمد "فلن يعذب في قبره" لأنه لشدته كان كفارة لسيئته. قال المناوي: وإذا لم يعذب في قبره لم يعذب في غيره لأنه أول منازل الآخرة فإن كان سهلا فما بعده أسهل. وصح في مسلم وغيره أن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين أي إلا حقوق الآدميين (رواه أحمد) (ج4:ص262) (والترمذي) في الجنائز وأخرجه أيضا النسائي في الجنائز، وابن حبان (وقال هذا حديث غريب) وفي
?الفصل الثالث?
1588- (53) عن أنس، قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: ((أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار))

(9/497)


نسخ الترمذي الموجودة عندنا:هذا حديث حسن غريب في هذا الباب، وقد روى من غير هذا الوجه- انتهى. قلت: روى أحمد والنسائي من غير طريق الترمذي. والحديث لا ينحط عن درجة الحسن.
1588 – قوله: (كان غلام يهودي) لم يقف الحافظ على اسمه نعم نقل عن ابن بشكوال أن صاحب العتبية حكى عن زياد أن اسمه عبدالقدوس قال وهو غريب ما وجدته عند غيره (يخدم النبي صلى الله عليه وسلم) بكسر الدال وضمها (فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم) حال كونه (يعوده فقعد) النبي صلى الله عليه وسلم (عند رأسه) أي رأس الغلام وهو من مستحبات العيادة (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم (له) أي للغلام (أسلم) بكسر اللام فعل أمر من الإسلام، والظهر أن الغلام كان عاقلا (فنظر) أي الغلام (إلى أبيه وهو) أي أبوالغلام (عنده) وفي رواية أبي داود عند رأسه (فقال) له أبوه (أطع أبا القاسم) صلى الله عليه وسلم (فأسلم) بفتح اللام أي الغلام، وفي رواية النسائي: فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم (فخرج النبي صلى الله عليه وسلم) من عنده (وهو) أي النبي (يقول الحمد لله الذي أنقذه) بالذال المعجمة أي خلصة ونجاه (من النار) أي لو مات كافرا، في رواية أبي داود: أنقذه بي من النار أي أنقذه الله بسببي من النار. قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث جواز استخدام المشرك وعبادته إذا مرض، وفيه حسن العهد واستخدام الصغير وعرض الإسلام على الصبي ولو لا صحته منه ما عرضه عليه، وفي قوله: أنقذه بي من النار، دلالة على أنه صح إسلامه وعلى أن الصبي إذا عقل الكفر ومات عليه أنه يعذب- انتهى. قيل: هذا يحمل على أنه كان قبل أن يعلمه الله تعالى أن أطفال المشركين في الجنة، كما هو مذهب الأكثرين، وعلى تقدير تسليم أن هذا الحديث وقع بعد تقرر أن الأطفال في الجنة، فالمراد من قوله: من النار الكفر المسمى نارا لأنه سببها أو يؤول إليها. والله تعالى أعلم. قيل: إنما تشرع

(9/498)


عيادة غير المسلم ليدعى إلى الإسلام إذا رجى أن يجيب إلى الدخول في الإسلام ألا ترى أن اليهودي أسلم حين عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأما إذا لم يطمع في إسلام الكافر ولا يرجى إنابته فلا ينبغي
رواه البخاري.
1589 - (54) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضا نادى منادى من المساء: طبت وطاب ممشاك، وتبؤت من الجنة منزلا)). رواه ابن ماجه.
1590- (55) وعن ابن عباس، قال: ((إن عليا خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أباالحسن! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا))
عيادته. قال الحافظ: والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى. قال الماوردي: عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة- انتهى. (رواه البخاري) في الجنائز، وفي المرضى، وأخرجه أيضا أبوداود في الجنائز، والنسائي والبيهقي (ج3:ص383).

(9/499)


1589- قوله: (من عاد مريضا) أي محتسبا (نادى مناد) أي ملك (طبت) بكسر الطاء أي طاب حالك (وطاب ممشاك) مصدر أي كثر ثواب مشيك إلى هذه العبادة، وقيل: مكان أو زمان مبالغة (وتبوأت) أي تهيأت (من الجنة) أي من منازلها العالية (منزلا) أي منزلة عظيمة بما فعلت. وقيل: أي ثبت وتحقق دخولك الجنة بسبب هذه العبادة. وقال الطيبي: طبت دعاء له بأن يطيب عيشه في الدنيا، وطيب الممشى كناية عن سيره وسلوكه طريق الآخرة بالتعري عن رذائل الأخلاق والتحلي بمكارمها، وقوله: تبوأت دعاء له بطيب العيش في الآخرة، وإنما أخرجت الأدعية في صورة الإخبار إظهارا للحرص على وقوعها كأنها حاصلة وهو يخبر عنها كما تقول رحمك الله وعصمك الله من الآفات ( (رواه ابن ماجه) في الجنائز، وأخرجه أيضا الترمذي في باب زيارة الأخوان من أبواب البر والصلة بلفظ: ما عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد الخ. وأخرجه ابن حبان في صحيحه بلفظ: إذا عاد الرجل أخاه أو زاره قال الله تعالى طبت إلخ. ذكر المنذري في الترغيب: إن الترمذي حسنه، وفيه أنه ليس في نسخ الترمذي الموجودة عندنا لفظ: حسن، بل فيها حديث غريب، وفي سنده عندهم أبوسنان عيسى بن سنان القسملي، وهو لين الحديث.
1590- قوله: (في وجعه) أي في زمن مرضه (الذي توفي فيه) أي قبض روحه فيه (فقال الناس) أي لعلي (يا أباالحسن) كنية علي (أصبح بحمد الله) أي مقرونا بحمده أو متلبسا بموجب حمده وشكره (بارئا)
رواه البخاري.
1591 - (56) وعن عطاء بن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله، فقال: ((إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك.

(9/500)


بالهمزة إسم فاعل من برأ المريض إذا أفاق من المرض. قال القاري: خبر بعد خبر أو حال من ضمير أصبح، والمعنى قريبا من البرء بحسب ظنه أو للتفاؤل أو بارئا من كل ما يعترى المريض من القلق والغفلة. وفي الحديث استحباب السؤال عن حال المريض بلفظ: كيف أصبح، والجواب عنه بقوله أصبح بحمد الله بارئا (رواه البخاري) مطولا في باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته من أواخر المغازي، وفي باب المعانقة من الاستيذان، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص263-325).

(10/1)


1591- قوله: (ألا) بتخفيف اللام قبلها همزة مفتوحة (أريك) بضم الهمزة وكسر الراء (هذه المرأة السوداء) إسمها سعيرة بالمهملات مصغرا الأسدية، كما في رواية جعفر المستغفري في كتاب الصحابة، وأخرجه أبوموسى في الذيل من طريقه، ووقع في رواية ابن مندة بقاف بدل العين، وفي أخرى للمستغفري بالكاف، وذكر ابن سعد وعبدالغني في المبهمات من طريق الزبير أن هذه المرأة هي ماشطة خديجة التي كانت تتعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بالزيادة (أتت النبي صلى الله عليه وسلم) استئناف بيان لكونها من أهل الجنة (إن أصرع) بصيغة المجهول، قيل: الصرع علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن انفعالها منعا غير تام، وسببه ريح غليظ يحتبس في منافذ الدماغ أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصبا بل يسقط ويقذف بالزيد لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصرع من الجن ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم إما لاستحسان بعض الصور الإنسية وإما لإيقاع الأذية به، وأنكر ذلك كثير من الأطباء، وقد رد عليهم ابن القيم في زاد المعاد ردا حسنا، فعليك أن تراجعه (وإني أتكشف) بفتح المثناة الفوقية والشين المعجمة المشددة من التكشف. قال الحافظ: وبالنون الساكنة بدل الفوقية وكسر المعجمة مخففا من الانكشاف، والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر (فادع الله) لي أي يشفيني من ذلك الصرع (فقال) صلى الله عليه وسلم مخبرا لها (إن شئت صبرت) على ذلك (ولك الجنة) فيه إيماء إلى جواز ترك الدواء بالصبر على البلاء والرضاء بالقضاء بل ظاهره أن إدامة
فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها)) متفق عليه.
1592- (57) وعن يحيى بن سعيد، قال: إن رجلا جاءه الموت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل، هنيئا له، مات ولم يبتل بمرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويحك!

(10/2)


الصبر مع المرض أفضل من العافية لكن بالنسبة إلى بعض الأفراد وأن ترك التداوى أفضل وإن كان يسن التداوى (فقالت أصبر) على الصرع. قال ابن القيم: من حدث له الصرع، وله خمس وعشرون سنة وخصوصا بسبب دماغي أيس من برءه، وكذلك إذا استمر به إلى هذا السن قال: فهذه المرأة التي جاء في الحديث أنها كانت تصرع وتنكشف، يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع فوعدها صلى الله عليه وسلم بصبرها على هذا المرض بالجنة ودعا لها أن تنكشف وخيرها بين الصبر والجنة وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان فاختارت الصبر والجنة - انتهى. قال الحافظ: وفي الحديث فضل من يصرع وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه دليل على جواز ترك التداوى، وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير وأن تأثير ذلك وإنفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما من جهة العليل، وهو صدق القصد والآخر من جهة المداوى، وهو قوة توجهه، وقوة قلبه بالتقوى والتوكل والله اعلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى ومسلم في الأدب وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص346- 347) والنسائي في الكبرى في الطب.

(10/3)


1592- قوله: (وعن يحيى بن سعيد) هو يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني أبوسعيد القاضي ثقة ثبت من صغار التابعين سمع أنس بن مالك والسائب بن يزيد وخلقا سواهما روى عنه هشام بن عروة ومالك ابن أنس وشعبة والثوري وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم كان يتولى القضاء بالمدينة زمن بني أمية وأقدمه منصور العراق وولاه القضاء بالهاشمية مات سنة (143) وقيل (144) وقيل بعدها. قال المؤلف: كان إماما من أئمة الحديث والفقه عالما ورعا زاهدا صالحا مشهورا بالفقه والدين (إن رجلا جاءه الموت) أي فجأة من غير مرض (هنيئا له) مصدر لفعل محذوف (مات ولم يبتل بمرض) استئناف مبين لموجب التهنئة، والواو حالية (ويحك) كلمة ترحم وتوجع يقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها وهي منصوبة بإضمار فعل كأنه قيل ألزمك الله ويحا
ما يدريك لو أن الله ابتلاه بمرض فكفر عنه من سيئاته)). رواه مالك مرسلا.
1593- (58) وعن شداد بن أوس، والصنابحى،

(10/4)


يعني لا تمدح عدم المرض وإنما ترحم عليه لعذره في ظنه أن عدم المرض مكرمة (ما يدريك) أي أي شيء يعلمك أن عدم المرض خير ومكرمة (لو أن الله ابتلاه بمرض) قال الطيبي: لو للتمني لأن الامتناعية لا تجاب بالفاء أي لا تقل هنيئا له ليت أن الله ابتلاه بمرض، ويجوز أن يقدر لو ابتلاه الله لكان خيرا له فكفر. قال القاري: وعلى الأول ما يدريك معترضة وعلى الثاني متصلة بما بعدها (فكفر عنه من سيئاته) وفي نسخ الموطأ الموجودة عندنا: يكفر به عنه من سيئاته. قال في المحلى: لو أن الله إلخ. جملة شرطية والجزاء قوله يكفر أو هو صفة لمرض والجزاء محذوف أي لكان خيرا له، ويحتمل أن يكون لو للتمني بمعنى ليت وعلى هذا يتعين قوله: يكفر صفة- انتهى. وفي الحديث أن الابتلاء بالمصائب طب الهي يداوي به الإنسان من أمراض الذنوب فإن غير المعصوم لا يخلو غالبا من السيئات فالمرض مكفر لها أو رافع للدرجات وكاسر لشماخة النفس (رواه مالك) في كتاب الجامع من الموطأ عن يحيى بن سعيد (مرسلا) لأن يحيى بن سعيد تابعي. قال ابن المديني في العلل: لا أعلمه سمع من صحابي غير أنس، ذكره الحافظ في تهذيبه، وقد اعتضد هذا المرسل بما في الباب من الأحاديث المسندة الدالة على كون المرض كفارة للذنوب.

(10/5)


1593- قوله: (وعن شداد بن أوس) تقدم ترجمته (والصنابحى) عطف على شداد، وهذا يدل على أن الراوي، وهو أبوالأشعث الصنعاني، روى القصة عن شداد والصنابحى، وفيه نظر، فإن الرواية في مسند الإمام أحمد هكذا قال عبدالله حدثني أبي ثنا هيثم بن خارجة ثنا إسماعيل بن عياش عن راشد بن داود الصنعاني عن أبي الأشعث الصنعاني أنه راح إلى مسجد دمشق وهجر بالرواح فلقي شداد بن أوس والصنابحى معه فقلت أين تريد أن يرحمكما الله قالا نريد ههنا إلى أخ لنا مريض نعوده فانطلقت معهما حتى دخلا على ذلك الرجل فقالا له كيف أصبحت إلخ والظاهر أن هذا التقصير إنما وقع من اختصار المصنف وكان الأولى أن يذكر الرواية من قوله: عن أبي الأشعث الصنعاني أنه راح إلخ كما صنع الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص303) والمنذري في الترغيب (ج4ص90) والصنابحى هذا هو عبدالرحمن بن عسيلة بمهملة مصغرا المرادي أبوعبدالله الصنابحى بضم الصاد المهملة وتخفيف النون والباء الموحدة المكسورة والحاء المهملة نسبة إلى صنابح بن زاهر بطن من مراد ثقة من كبار التابعين قدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام، مات في خلافة عبدالملك بن مروان روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا وعن أبي بكر وعمر وعلي وبلال وسعد بن عبادة وعمرو بن عبسة وشداد بن أوس
أنهما دخلا على رجل مريض يعودانه، فقالا له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بنعمة، قال شداد: أبشر بكفارات السيئات، وحط الخطايا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عزوجل يقول: إذا أنا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا، فحمدني على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول رب تبارك وتعالى: أنا قيدت عبدي وابتليته، فأجروا له ما كنتم تجرون له وهو صحيح)). رواه أحمد.

(10/6)


1594- (59) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها من العمل، ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه))
وغيرهم، وروى عنه أسلم مولى عمر ومحمود بن لبيد الأنصاري وجماعة (أنهما دخلا على رجل مريض يعودانه فقالا له كيف أصبحت) استدل به على أن العيادة في أول النهار أفضل (أصبحت بنعمة) أي مصحوبا بنعمة عظيمة وهي نعمة الرضا والتسليم للقضاء (أبشر) أمر من الابشار، ويجوز أن يكون من باب ضرب وسمع (بكفارات السيئات) أي المعاصي (وحط الخطايا) أي وضع التقصيرات في الطاعات والعبادات (مؤمنا) نعت أو حال (فحمدني على ما ابتليته) أي به من مرض أو وجع (فإنه يقوم من مضجعه) أي مرقده (ذلك) أي الذي هو فيه، والمراد من مرضه سمي باسم ملازمه غالبا وهو متجرد باطنا عن ذنوبه (كيوم ولدته أمه) بفتح الميم، وفي نسخة بالجر أي كتجرده ظاهرا في وقت ولدته أمه من الخطايا (أنا قيدت عبدي) أي حبسته بالمرض (وابتليته) أي امتحنته ليظهر منه الشكر أو الكفر (فاجروا له) أمر من الإجراء (ما كنتم تجرون له) أي من كتابة الأعمال، وفي المسند كما كنتم تجرون له، وكذا نقله الهيثمي، والمنذري (وهو صحيح) حال (رواه أحمد) (ج4ص123) وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط كلاهما من رواية إسماعيل بن عياش عن راشد ابن داود الصنعاني، وهو ضعيف في غير الشاميين، وهذا الحديث قد رواه عن راشد الصنعاني صنعاء دمشق الشام فهو من أحاديثه المستقيمة. قال المنذري: وله شواهد كثيرة.
1594- قوله: (إذا كثرت ذنوب العبد) أي الإنسان المسلم (ما يكفرها من العمل) أي الصالح لفقده أو لقلته (ابتلاه الله بالحزن) أي بأسبابه وهو بضم فسكون وبفتحتين (ليكفرها) أي الذنوب (عنه) أي عن
رواه أحمد.
1595- (60) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضا لم يزل يخوض الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس اغتمس فيها)) رواه مالك، وأحمد.

(10/7)


1596- (61) وعن ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصاب أحدكم الحمى، فإن الحمى قطعة من النار، فليطفئها عنه بالماء، فليستنقع في نهر جار
العبد بسبب الحزن (رواه أحمد) قال الهيثمي: وفيه ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات. وقال المنذري: رواته ثقات إلا ليث بن أبي سليم.
1595 – قوله: (لم يزل يخوض الرحمة) أي يدخل فيها من حين يخرج من بيته بنية العيادة (حتى يجلس) أي عنده (اغتمس فيها) أي غاص فيها وغطس، وفي رواية البخاري في الأدب المفرد: استقر فيها. قال الطيبي: شبه الرحمة بالماء إما في الطهارة أو في الشيوع والشمول ثم نسب إليها ما هو منسوب إلى المشبه به من الخوض ثم عقب الاستعارة بالانغماس ترشيحا (رواه مالك) أي في كتاب الجامع من الموطأ بلاغا ففيه "مالك أنه بلغه عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا عاد الرجل المريض خاض في الرحمة حتى إذا قعد عنده قرت فيه أو نحو هذا" (وأحمد) أي مسندا. قال الزرقاني: برجال الصحيح، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد، وقاسم بن أصبغ والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص350) وصححه البيهقي (ج3ص380) قال الهيثمي والمنذري: رجال أحمد رجال الصحيح، وفي الباب عن أنس وأبي هريرة وكعب بن مالك وعمرو بن حزم وأبي أمامة وابن عباس وصفوان بن عسال وأبي الدرداء ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص297- 298) والمنذري في الترغيب.

(10/8)


1596- قوله: (إذا أصاب أحدكم الحمى) أي أخذته (فإن الحمى قطعة من النار) أي لشدة ما يلقي المريض فيها من الحرارة الظاهرة والباطنة، وفي حديث رافع بن خديج عند الشيخين: الحمى من فيح جهنم. وسيأتي الكلام عليه في الطب. وقال الطيبي: جواب إذا فليعلم أنها كذلك (فليطفئها عنه بالماء) أي البارد قال ويحتمل أن يكون الجواب فليطفئها وقوله. فإن الحمى معترضة قالوا هذا خاص ببعض أنواع الحمى الحادثة من الحرارة التي يعتادها أهل الحجاز ولما كان بيانه صلى الله عليه وسلم لعلاج الأمراض البدنية تبعا لم يستفض في تعميم أنواعها واقتصر على علاج ما هو أعم وأغلب وقوعها (فليستنقع في نهر جار) بيان للإطفاء. قال في القاموس:
- وليستقبل جريته، فيقول: بسم الله، اللهم أشف عبدك، وصدق رسولك ـ بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، وليغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ في ثلاث فخمس، فإن لم يبرأ في خمس فسبع، فإن لم يبرأ في سبع فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله عزوجل))

(10/9)


استنقع في الغدير نزل واغتسل ثبت فيه ليتبرد (وليستقبل جريته) بكسر الجيم. قال الطيبي: يقال: ما أشد جرية هذا الماء بالكسر، وهو مصدر بمعنى السيلان كالجري والجريان يقال نهر سريع الجرية (فيقول) أي حال الاستقبال (وصدق رسولك) أي اجعل قوله هذا صادقا بأن تشفيني، ذكره الطيبي (بعد صلاة الصبح) ظرف ليستنقع، وكذا قوله قبل طلوع الشمس (وليغمس) بفتح الياء وكسر الميم (فيه) أي في النهر أو في ماءه (ثلاث غمسات) بفتحتين (ثلاثة أيام) قال الطيبي: قوله وليغمس بيان لقوله فليستنقع جيء به لتعلق المرات (فإن لم يبرأ) بفتح الراء (في ثلاث) أي ثلاث غمسات أو في ثلاثة أيام (فخمس) بالرفع. قال الطيبي: أي فالأيام التي ينبغي أن ينغمس فيها أو فالمرات (فسبع) بالرفع كما تقدم آنفا (فتسع) كذلك (فإنها) أي الحمى (لا تكاد) أي تقرب (تجاوز تسعا) أي بعد هذا العمل (بإذن الله) أي بإرادته أو بأمره لها بالذهاب وعدم العود. قال ابن القيم في زاد المعاد في بحث علاج الحمى بالماء بعد ذكر حديث ابن عمر بلفظ: إنما الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء. ما لفظه خطابه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز وما والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا إلخ. وقال بعد تقسيم الحمى إلى عرضية ومرضية، فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية (وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك) فإنها تسكن على المكان بالانغماس في الماء البارد وسقي الماء البارد المثلوج ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر فإنها مجرد كيفية حادة متعلقة بالروح فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة تسكنها وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة أو انتظار نضج، ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات وقد اعترف جالينوس بأن الماء البارد ينفع فيها،

(10/10)


قال في كتاب حيلة البرء: ولو أن رجلا شابا حسن اللحم خصب البدن في وقت القيظ وفي وقت منتهى الحمى وليس في احشاءه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه لا تنفع بذلك قال ونحن نأمر بذلك بلا توقف. وقال الرازي في كتابة الكبير: إذا كانت القوي قوية والحمى حادة جدا والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق ينفع الماء البارد شربا وإن كان العليل خصب البدن والزمان حار وكان معتاد الاستعمال الماء البارد من خارج فليؤذن له فيه- انتهى.وقد نزل ابن القيم حديث ثوبان على هذه القيود فقال بعد ذكره: وهذه الصفة تنفع في فصل الصيف
رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.
1597 - (62) وعن أبي هريرة، قال: ذكرت الحمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبها رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبها فإنها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الحديد)). رواه ابن ماجه.
1598- (63) وعنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضا فقال: ((أبشر فإن الله تعالى يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن
في البلاد الحارة على الشرائط التي تقدمت (أي الحمى العرضية أو الغب الخالصة التي لا ورم معها ولا شيء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة) فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لعبده عن ملاقاة الشمس ووفور القوى في ذلك الوقت لكونه عقب النوم والسكون وبرد الهواء قال والأيام التي أشار إليها هي التي يقع فيها بحران الأمراض الحادة غالبا ولاسيما في البلاد الحارة- انتهى. ويأتي مزيد الكلام عليه في كتاب الطب إنشاء الله تعالى (رواه الترمذي) في الطب وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص281) وابن السني (ص182) كلهم من رواية سعيد بن زرعة الشامي الحمصى، الجرار الخزاف عن ثوبان. قال الحافظ في التقريب في ترجمة سعيد أنه مستور، وقال في الفتح: وفي سنده سعيد بن زرعة، مختلف فيه. وقال في تهذيب التهذيب: قال أبوحاتم مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات.

(10/11)


1597- قوله: (ذكرت الحمى) على صيغة المجهول أي وصفت شدتها (لا تسبها) بفتح الباء (تنفي الذنوب) من النفي أي تزيل وهو أبلغ من تمحو (كما تنفي النار خبث الحديد) كناية عن المبالغة في تمحيصها من الذنوب وخبث الحديد بفتح الخاء المعجمة والباء الموحدة هو ما تلقيه النار من وسخه إذا أذيب، والمعنى أن الحمى من هذه الحيثية توجب الصبر والشكر لا السب (رواه ابن ماجه) في الطب. قال البوصيري في الزوائد: وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف- انتهى. ويؤيده ما تقدم من حدث جابر في الفصل الأول في نهيه - صلى الله عليه وسلم - أم السائب عن سب الحمى وقد جاء في معناه أحاديث أخرى.
1598- قوله: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضا) وبعده في ابن ماجه وغيره من وعك كان به ومعه أبوهريرة (هي) أي الحمى كما يفيده السباق والسياق (ناري أسلطها على عبدي المؤمن) قال الطيبي: في إضافة النار إشارة إلى أنها لطف ورحمة منه ولذلك صرح بقوله عبدي، ووصفه بالمؤمن وقوله أسلطها خبر بعد خبر أو
في الدنيا لتكون حظه من النار يوم القيامة)) رواه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان.
1599 - (64) وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرب سبحانه وتعالى يقول: وعزتي وجلالي لا أخرج أحدا من الدنيا أريد أغفر له، حتى استوفي كل خطيئة في عنقه بسقم في بدنه، وإقتار في رزقه)) رواه رزين.

(10/12)


استئناف (في الدنيا) متعلق بأسلطها (لتكون) أي الحمى (حظه) أي نصيبه بدلا (من النار) مما اقترف من الذنوب، ويحتمل أنها نصيب من الحتم المقضي في قوله تعالى: ?وإن منكم إلا واردها?[ مريم: 71] قال الطيبي: والأول هو الظاهر، وقيل: المعنى أن الحمى تسهل عليه الورود حتى لا يشعر به ولا يحس (يوم القيامة) وعند ابن ماجة وابن السني والحاكم "في الآخرة" (رواه أحمد) (وابن ماجه) في الطب (والبيهقي) وأخرجه أيضا ابن السني (ص173) والحاكم (ج1ص345) وصححه ووافقه الذهبي، وفي الباب عن أبي ريحانة عند ابن أبي الدنيا والطبراني وعن أبي أمامة عند أحمد بإسناد لا بأس به، وعن عائشة عند البزار بإسناد حسن، وعن أنس عند الطبراني في الأوسط ذكرهم المنذري في الترغيب (ج4ص94) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص306) والسيوطي في الجامع الصغير، وعلى المتقي في الكنز (ج2ص66).

(10/13)


1599- قوله: (وعزتي) أي غلبتي وقوتي (وجلالي) أي عظمتي وقدرتي (أريد أغفر له) قال القاري بالرفع. وفي نسخة بالنصب. قال الطيبي: أي أريد أن أغفر فحذف أن والجملة إما حال من فاعل أخرج أو صفة للمفعول، وفي جامع الأصول (ج10ص358) نقلا عن رزين أريد أن أغفر له (حتى استوفي) يقال استوفى حقه أي أخذه تاما وافيا (كل خطيئة) أي جزاء كل سيئة اقترفها وكنى عنه بقوله (في عنقه) بضمتين في ذمته حيث لم يتب عنها أي كل خطيئة باقية (بسقم) بفتحتين وضم وسكون متعلق باستوفي، والباء سببية فلا تحتاج إلى تضمين استبدل كما اختاره ابن حجر (في بدنه) إشارة على سلامة دينه (وإقتار) أي تضييق (في رزقه) أي نفقته. قال ميرك: الإقتار التضييق على الإنسان في الرزق يقال اقتر الله رزقه أي ضيقه وقلله وقد اقتر الرجل فهو مقتر وقتر فهو قتور، كذا في الطيبي، فعلى هذا الإقتار مستعمل في جزء معناه على سبيل التجريد (رواه رزين) أي ابن معاوية العبدري السرقسطي، والحديث أورده المنذري في الترغيب، وقال ذكره رزين (يعني في كتاب التجريد الذي جمع فيه ما في الصحاح الخمسة والموطأ) ولم أره. وقال ميرك: لم أره في الأصول - انتهى. فلا يعرف حال إسناده لكنه يؤيده ما في هذا الباب من الأحاديث في كون المصائب والبلايا كفارة للسيئات.
1600- (65) وعن شقيق، قال: مرض عبدالله بن مسعود، فعدناه، فجعل يبكي، فعوتب، فقال: إني لا أبكي لأجل المرض، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المرض كفارة، وإنما أبكي أنه أصابني على حال فترة، ولم يصبني في حال اجتهاد، لأنه يكتب للعبد من الأجر إذا مرض ما كان يكتب له قبل أن يمرض فمنعه منه المرض)). رواه رزين.
1601- (66) وعن أنس، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث))

(10/14)


1600- قوله: (وعن شقيق) أي ابن أبي سلمة الأسدي أبي وائل الكوفي تقدم ترجمته (فعوتب) أي في البكاء فإنه مشعر بالجزع من المرض، وهو ليس من أخلاق الأكابر (وإنما أبكي أنه) أي لأجل أنه (أصابني) أي المرض (على حال فترة) أي على حال فتور وضعف في الجسم من الكبر لا أقدر على عمل كثير. وقال القاري: على حال فترة أي ضعف في العبادة (ولم يصبني في حال اجتهاد) أي في الطاعة البدنية فلو وقعت الإصابة حال الاجتهاد في العبادة والقوة في الجسم لكانت سببا للزيادة (لأنه) أي الشأن (يكتب للعبد) المؤمن (من الأجر إذا مرض ما كان) أي مثل جميع ما كان من الأعمال (يكتب له قبل أن يمرض) بفتح الياء والراء (فمنعه منه المرض) أي لا مانع آخر من الشغل والكبر (رواه رزين) لم أقف على هذا الأثر في شيء من الأصول، ويؤيده ما تقدم من حديث شداد بن أوس عند أحمد، وحديث عبدالله بن عمرو وأنس عند البغوي في الفصل الثاني، وحديث أبي موسى عند البخاري في الفصل الأول.

(10/15)


1601- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث) قال الشوكاني: هذا يدل على أن عيادة المريض إنما تشرع بعد مضي ثلاثة أيام من ابتداء مرضه فتقيد به مطلقات الأحاديث الواردة في العيادة ولكنه غير صحيح أو حسن (كما ستعرف) فلا يصلح لذلك- انتهى. قلت: ذهب الجمهور إلى أن العيادة لا تتقيد بزمان يمضي من ابتداء مرضه بل هي سنة من أول المرض لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم عودوا المريض، وجزم الغزالي في الأحياء بأنه لا يعاد إلى بعد مضي ثلاث ليال، مستند الحديث أنس، وتعقب بأنه ضعيف جدا لأنه تفرد به مسلمة ابن علي الخشني، وهو متروك، وقد سئل عنه أبوحاتم فقال: هو حديث باطل وله شاهد من حديث أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط مرفوعا لا يعاد المريض إلا بعد ثلاث، وفيه نصر بن حماد، وهو متروك أيضا. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: لعل حديث أنس إن صح يحمل على أنه لتحقق مرضه أي يؤخر حتى يتحقق عنده أنه مرض. وقال القاري: يمكن حمل الحديث على أنه ما كان يسأل عن أحوال من يغيب عنه إلا بعد ثلاث فبعد العلم بها
رواه ابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان.
1602 - (67) وعن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلت على مريض فمره يدعوا لك، فإن دعاءه كدعاء الملائكة)) رواه ابن ماجه.
1603- (68) وعن ابن عباس، قال: من السنة تخفيف الجلوس

(10/16)


كان يعود. قلت: ويؤيد هذا ما رواه أبويعلى عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائبا دعا له وإن كان شاهدا زاره وإن كان مريضا عاده- الحديث. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: فيه عباد بن كثير وكان رجلا صالحا، ولكنه ضعيف الحديث متروك لغفلته- انتهى. (رواه ابن ماجه) في الجنائز (والبيهقي) وفي سنده عندهما مسلمة بن علي الخشني. قال البخاري وأبوحاتم وأبوزرعة: منكر الحديث. وقال النسائي والدارقطني والبرقاني: متروك الحديث. قال الحافظ: ومن منكراته عن ابن جريج عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يعود مريضا إلا بعد ثلاثة أيام- انتهى. وقال السخاوي في المقاصد: عيادة المريض بعد ثلاث، له طرق ضعاف يتقوى بعضها ببعض، ولهذا أخذ بمضمونها جماعة كالنعمان ابن أبي عياش الزرقي من فضلاء أبناء الصحابة فقال عيادة المريض بعد ثلاث، والأعمش ولفظه: كنا نقعد في المجالس فإذا فقدنا الرجل ثلاثة أيام سألنا عنه فإن كان مريضا عدناه، وهذا يشعر بعدم انفراده، كذا قال ولا يخفى ما فيه.

(10/17)


1602- قوله: (فمره يدعوا لك) أي التمس منه الدعاء. قال المناوي: قوله يدعو لك مفعول بإضمار "أن" أي مره بأن يدعو لك، قال الطيبي أي مره يدعو لك لأنه خرج عن الذنوب (فإن دعاءه كدعاء الملائكة) أي في قرب الاستجابة. وقال الطيبي: إنما يؤمر بالدعاء حينئذ، لأنه نقي من الذنوب كيوم ولدته أمه وصار معصوما كالملائكة ودعاء المعصوم مقبول. وقال العلقمي: في الحديث استحباب طلب الدعاء من المريض، لأنه مضطر ودعاءه أسرع إجابة من غيره، ففي السنة أقرب الدعاء إلى الله إجابة دعوة المضطر (رواه ابن ماجه) في الجنائز وأخرجه أيضا ابن السني في اليوم والليلة (178) قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات إلا أنه منقطع. قال العلائي في المراسيل والمزي في رواية ميمون بن مهران عن عمر ثلمة- انتهى. وقال النووي في الأذكار: ميمون لم يدرك عمر. وقال المنذري رواته ثقات مشهورون إلا أن ابن ميمون بن مهران لم يسمع من عمر- انتهى. وفي الباب عن أنس عند الطبراني في الأوسط، وفيه عبدالرحمن بن قيس الضبي، وهو متروك الحديث.
1603- قوله: (من السنة تخفيف الجلوس) هذا مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور، لأن مطلق
وقلة الصخب في العيادة عند المريض، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثر لغطهم واختلافهم: ((قوموا عني)). رواه رزين.

(10/18)


ذلك ينصرف بظاهره إلى من جب إتباع سنته وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيضا فالسنة في عرف الاستعمال صارت موضوعة لطريقته عليه السلام في الشريعة (وقله الصخب) بفتحتين ويسكن الثاني أي رفع الصوت (في العيادة عند المريض) قال الطيبي: اضطراب الأصوات للخصام منهي من أصله لاسيما عند المريض فالقلة بمعنى العدم، وفيه دليل على أن الأدب في العيادة أن لا يطيل العائد الجلوس عند المريض حتى يضجره وأن لا يتكلم عنده بما يزعجه (قال) أي ابن عباس. قال القاري: كذا في أصل العفيف، وفي أكثر النسخ ليس بموجود. قلت: هو موجود في جامع الأصول (ج7ص404) (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثر لغطهم) قال في النهاية: اللغط صوت وضجة لا يفهم معناه (واختلافهم قوموا عني) قال الطيبي: وكان ذلك عند وفاته روى ابن عباس أنه لما احتضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هلموا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده فقال ـ عمر وفي رواية فقال بعضهم ـ رسول الله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول غير ذلك فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا عني. متفق عليه. ويأتي هذا الحديث مطولا في باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حجر: وكأنه عليه الصلاة والسلام لما أراد الكتابة فوقع الخلاف ظهر له أن المصلحة في عدمها فتركها اختيارا منه كيف وهو عليه الصلاة والسلام لو صمم على شيء لم يكن لأحد عمر أو غيره أن ينطق ببنت شفة ولقد بقي حيا بعد هذه القضية نحو ثلاثة أيام ليس عنده عمر ولا غيره بل أهل البيت كعلي والعباس فلو رأى المصلحة في الكتابة بالخلافة أو غيرها لفعل على أنه اكتفى في الخلافة بما كاد أن يكون نصا جليا، وهو تقديم أبي بكر رضي

(10/19)


الله عنه للإمامة بالناس أيام مرضه ومن ثم قال علي رضي الله عنه لما خطب لمبايعة أبي بكر على رؤس الأشهاد رضية رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه أن صل بالناس وأنا جالس عنده ينظرني ويبصر مكاني، ونسبة علي رضي الله عنه فارس الإسلام على التقية جهل بعظم مكانته- انتهى. (رواه رزين) لم أره في الأصول والله اعلم بحال إسناده، ويؤيده ما روى عن علي بن عمر بن علي عن أبيه عن جده رفعه قال أعظم العيادة أجرا أخفها والتعزية مرة. رواه البزار، وقال: أحسب ابن أبي فديك لم يسمع من علي، كذا في مجمع الزوائد (ج2ص296).
1604- (69) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العيادة فواق ناقة))
1605- (70) وفي رواية سعيد بن المسيب، مرسلا، أفضل العيادة سرعة القيام. رواه البيهقي في شعب الإيمان.
1606- (71) وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلا، فقال له: ((ما تشتهي؟ قال أشتهي خبز بر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان عنده خبز بر فليبعث إلى أخيه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا اشتهى مريض أحدكم شيئا
1604- قوله: (العيادة فواق ناقة) بفتح الفاء وضمها وبالرفع. قال القاري: وفي نسخة بالنصب خبر المبتدأ أي أفضل زمان العيادة مقدار فواقها، وهو قدر ما بين الحلبتين من الوقت لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب يقال ما أقام عنده إلا فواقا، وقبل هو ما بين فتح يد الحالب وقبضها على الضرع، والذي ذكره الجوهري في الصحاح الأول أعني الزمن الذي بين حلبتي الناقة فإنها إذا حلبت وشح لبنها أطلق ولدها ليرضعها ليدر اللبن ثم تحلب ثانيا.

(10/20)


1605- قوله: (وفي رواية سعيد بن المسيب مرسلا) أي بحسب الصحابي، وإسناد الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (أفضل العيادة سرعة القيام) قال الطيبي أي أفضل ما يفعله العائد في العيادة أن يقوم سريعا. قال ميرك: والأظهر أن يقال أفضل العيادة عيادة فيها سرعة القيام هذا ويستثنى منه ما إذا ظن أن المريض يؤثر التطويل لنحو صداقة أو تبرك أو قيام بما يصلحه ونحو ذلك (رواه) أي ما ذكر من الحديثين الموصول والمرسل (البيهقي في شعب الإيمان) ولم أقف على سنده.
1606- قوله: (ما تشتهي) فيه أنه ينبغي سؤال المريض عن أحواله وعما يحتاج إليه (من كان عنده خبز بر فليبعث) أي به (إلى أخيه) فيه أنه ينبغي إيثار المريض والمحتاج على نفسه وعياله فيخص به ما جاء من حديث ابدأ بنفسك إلا أن يقال المراد من كان عنده خبز بر زائد على قوته وقوت عياله (إذا اشتهى مريض أحدكم شيئا) أي غير مخالف لمرضه، ويحتمل أن المراد ولو مخالفا وكثيرا ما يجعل الله شفاءه فيما يشتهى وإن كان مخالفا ظاهرا، قاله السندي. وقال في اللمعات: قوله إذا اشتهى مريض أحدكم أي اشتهاء صادقا، فإنه علامة الصحة وقد لا يضر لبعض المرضى الأكل مما يشتهي إذا كان قليلا ويقوي الطبيعة ويفضي إلى الصحة ولكن فيما لا يكون ضرره غالبا، وبالجملة ليس هذا الحكم كليا بل جزئيا. وقال الطيبي: مبني على التوكل وأنه هو الشافي
فليطعمه)). رواه ابن ماجه.
1607 - (72) وعن عبدالله بن عمرو، قال: توفي رجل بالمدينة ممن ولد بها، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا ليته مات بغير مولده، قالوا: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: إن الرجل إذا مات بغير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره

(10/21)


أو على اليأس من حياته لكونه قد شارف الموت. وقيل في الحديث حكمة لطيفة، وهي أن المريض إذا تناول ما يشتهيه وإن كان يضر قليلا كان أنفع أو أقل ضررا مما لا يشتهيه وإن كان نافعا لاسيما إن كان ما يشتهيه غداء بلاغا كالخبر والكعك فينبغي للطبيب الكيس أن يجعل شهوة المريض من جملة أدلته على الطبيعة وما يهتدي به إلى طريق علاجه (فليعمه) من الإطعام. قال المناوي: أي ما اشتهاه ندبا لأن المريض إذا تناول ما اشتهاه عن شهوة صادقة طبيعية وإن كان فيه ضرر ما فهو أنفع له مما لا يشتهيه وإن كان نافعا لكن لا يطعم إلا قليلا بحيث تنكسر حدة شهوته. قال بقراط: الإقلال من الضار خير من الإكثار من النافع ووجود الشهوة في المريض علامة جيدة عند الأطباء. قال ابن سينا: مريض يشتهي أحب إلى من صحيح لا يشتهي، وأرجع لمزيد الكلام إلى زاد المعاد (ج2:ص90-91) (رواه ابن ماجه) في الجنائز، وفي الطب، وفي إسناده صفوان بن هبيرة العيشى. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال أبوحاتم شيخ، وروى له ابن ماجه حديثا واحدا في الطب. وقال العقيلي لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلا به، وذكر البوصيري في الزوائد أن ابن حبان ذكره في الثقات. وقال الحافظ في التقريب. أنه لين الحديث، وفي الباب عن أنس قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده فقال أتشتهي شيئا أتشتهي كعكا قال نعم فطلبوا له. أخرجه ابن ماجه وابن السني، وفي سنده يزيد بن أبان الرقاشي، قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاشي.

(10/22)


1607- قوله: (وعن عبدالله بن عمرو) بالواو (توفي رجل) أي مات (ممن ولد بها) أي بالمدينة (يا ليته مات بغير مولده) لعله صلى الله عليه وسلم لم يرو بذلك ياليته مات بغير المدينة بل أراد ياليته كان غريبا مهاجرا بالمدينة ومات بها فإن الموت في غير مولده فيمن مات بالمدينة كما يتصور بأن يولد في المدينة ويموت في غيرها كذلك يتصور بأن يولد في غير المدينة ويموت بها فليكن التمني راجعا إلى هذا الشق حتى لا يخالف الحديث حديث فضل الموت بالمدينة المنورة (أن الرجل) يعني الإنسان (إذا مات بغير مولده) أي بغير المحل الذي ولد فيه بأن مات غريبا سواء كان في سفر أو في إقامة بغير وطنه (قيس له) أي أمر الله الملائكة أن تقيس له أي تذرع له (من مولده إلى منقطع) بفتح الطاء (أثره) أي إلى موضع قطع أجله، فالمراد بالأثر الأجل، لأنه يتبع العمر
في الجنة)). رواه النسائي، وابن ماجه.
1608 - (73) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موت غربة شهادة)) رواه ابن ماجه.
قال زهير- والمرأ ما عاش ممدود له أجل- لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر. ذكره الطيبي. ويحتمل أن يكون المراد إلى موضع انقطع فيه سفره وانتهى إليه فمات فيه يعني إلى منتهي سفره ومشيه فالمراد أثر أقدامه (في الجنة) متعلق بقيس، وظاهره أنه يعطي له في الجنة هذا القدر لأجل موته غريبا يعني بفسح له في الجنة بقدر مسافة ما بين مولده ومنتهى سفره، وقيل هذا ليس بمراد فإن هذا القدر من المكان لا اعتبار له في جنب سعة الجنة إلا أن يقال المراد يعطي ثواب عمل عمله في مثل هذه المسافة. وقيل: منقطع أثره هو قبره، وفي الجنة متعلق بمحذوف، والمعنى يفسح له في قبره قدر ما بين مولده وبين قبره ويفتح له باب إلى الجنة ودلالة اللفظ على هذا المعنى خفية (رواه النسائي وابن ماجه) في الجنائز وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه.

(10/23)


1608- قوله: (موت غربة) بضم الغين مصدر غريب بفتح الراء يغرب بضمها أي نزح عن وطنه، فالمراد بالغربة غربة بالجسم (شهادة) أي في حكم الآخرة، وهذا إذا لم يكن الغريب عاصيا بغربته، وفي الحديث دليل على فضيلة موت الغربة (رواه ابن ماجه) في الجنائز من رواية الهذيل بن الحكم الأزدي عن عبدالعزيز بن أبي رواد عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه أيضا البيهقي في الشعب من هذا الطريق وقال أشار البخاري إلى تفرد الهذيل به، وهو منكر الحديث، قال وروينا من حديث إبراهيم بن بكر الكوفي عن عبدالعزيز بن أبي رواد وزعم ابن عدي أنه سرقه من الهذيل- انتهى كلام البيهقي. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: قال السيوطي أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات من وجه آخر عن عبدالعزيز ولم يصب في ذلك، وقد سقت له طرقا كثيرة في اللآلي المصنوعة. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: إسناد ابن ماجه ضعيف، لأن الهذيل منكر الحديث، وذكر الدارقطني في العلل الخلاف فيه على الهذيل وصحح قول من قال عن الهذيل عن عبدالعزيز عن نافع عن ابن عمر واغتر عبدالحق بهذا وادعى أن الدارقطني صححه من حديث ابن عمر وتعقبه ابن القطان فأجاد وفي الزوائد هذا إسناد فيه الهذيل بن الحكم قال فيه البخاري منكر الحديث. وقال ابن عدي: لا يقيم الحديث. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا. وقال ابن معين: هذا الحديث منكر ليس بشيء وقد كتبت عن الهذيل ولم يكن به بأس -انتهى. وقال المنذري في الترغيب: قد جاء في أن الموت الغريب شهادة جملة من الأحاديث لا يبلغ شيء منها درجة الحسن فيما أعلم - انتهى. وقد أطال الحافظ الكلام على طرق هذا الحديث في التلخيص (ص169) فعليك أن ترجع إليه.
1609- (74) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات مريضا مات شهيدا، أو وقى فتنة القبر، وغدى وريح عليه برزقه من الجنة )) رواه ابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان.

(10/24)


1609- قوله: (من مات مريضا) قال السندي: هذا إن صح يحمل على مرض مخصوص كمرض البطن مثلا-انتهى. وذكر ابن حجر أن القرطبي قال: هذا عام في جميع الأمراض لكن يقيد بالحديث الآخر من قتله بطنه لم يعذب في قبره. أخرجه النسائي وغيره، والمراد به الاستسقاء، وقيل: الإسهال، كذا في المرقاة. وقيل قوله مريضا مصحف مرابطا كما سيأتي (مات شهيدا أو وقى) أي حفظ، كذا في أكثر النسخ الموجودة عندنا وفي بعض النسخ مات شهيدا ووقى أي بالواو بدل أو، وكذا وقع في ابن ماجه (فتنة القبر) أي سؤال الملكين فيه فإنه اختبار وقيل أي عذابه (وغدى) بمعجمة ثم مهملة على بناء المفعول من الغدو (وريح) بلفظ المجهول من الرواح (عليه) حال (يرزقه) نائب الفاعل أي جئ له برزقه حال كونه نازلا عليه (من الجنة) يعني يؤتى عنده برزقه أول النهار وآخره كالشهيد والتعدية بعلى لتضمين معنى الدر والإفاضة والإنزال ونحوها، والمراد بالغدو والرواح الدوام كما قال تعالى ?أكلها دائم?[الرعد:35] أو كناية عن التعميم كقوله تعالى: ?ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا?[مريم:62] ويمكن أن يكون للوقتين المخصوصين رزق خاص لهم، ثم المراد بالرزق هنا حقيقته لعدم استحالته (رواه ابن ماجه) في الجنائز (والبيهقي) وفي إسناده إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي وكنى ابن جريج جده أباعطاء، والحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وتعقبه السيوطي فقال في تعقباته (ص22) حديث أبي هريرة من مات مريضا مات شهيدا- الحديث. قال ابن الجوزي: فيه إبراهيم بن محمد ابن أبي يحيى الأسلمي متروك. قلت (هو قول السيوطي) كان الشافعي يوثقه. والحديث أخرجه ابن ماجه، والحق فيه أنه ليس بموضوع وإنما وهم راويه في لفظه منه، فقد روى الدارقطني أن إبراهيم بن محمد أنكر على ابن جريج هذا الحديث عنه وقال إنما حدثته من مات مرابطا فروى عني من مات مريضا وما هكذا حدثته، وكذا قال أحمد بن حنبل إنما الحديث من مات مرابطا

(10/25)


فالحديث إذن من نوع المعلل أو المصحف- انتهى. ونقل السندي عن السيوطي: أنه قال أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات وأعله بإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي فإنه متروك قال وقال أحمد بن حنبل إنما هو من مات مرابطا. قال الدارقطني: بإسناده عن إبراهيم بن أبي يحيى حدثت ابن جريج هذا الحديث من مات مرابطا فروى عني من مات مريضا وما هكذا حدثته. وفي الزوائد. في إسناده إبراهيم بن محمد كذبه مالك ويحيى بن سعيد القطان وابن معين. وقال أحمد بن حنبل: قدري معتزلي
1610- (75) وعن العرباض بن سارية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا عزوجل في الذين يتوفون من الطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا، ويقول المتوفون: إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا، فيقول ربنا: أنظروا إلى جراحتهم فإن أشبهت جراحهم جراح المقتولين، فإنهم منهم ومعهم، فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم))
جهمي كل بلاء فيه. وقال البخاري: جهمي، تركه ابن المبارك والناس، فقد كذبه مالك وابن معين- انتهى. قلت: وقال الشافعي لأن يخر إبراهيم من بعد أحب إليه من أن يكذب، وكان ثقة في الحديث، كذا في التهذيب.

(10/26)


1610- قوله: (وعن العرباض) بكسر أوله وسكون الراء بعدها موحدة وآخره معجمة (ابن سارية) بسين مهملة وكسر راء وبمثناة تحت (يختصم الشهداء) أي الذين قتلوا في سبيل الله (والمتوفون) بتشديد الفاء المفتوحة (إلى ربنا) أي رافعين اختصامهم إلى الله، فهو حال من المعطوف والمعطوف عليه (في الذين) متعلق بيختصم (يتوفون) على بناء المفعول (من الطاعون) أي بسببه (فيقول للشهداء) بيان الاختصام (أخواننا) خبر لمبتدأ هو هم أي المطعونون أخواننا (قتلوا كما قتلنا) بيان المشابهة، ولا شك أن مقصود الشهداء بذلك إلحاق المطعون معهم ورفع درجته إلى درجاتهم. وأما الأموات على الفرش فلعله ليس مقصودهم أصالة أن لا ترفع درجة المطعون إلى درجات الشهداء، فإن ذلك حسد مذموم، وهو منزوع عن القلوب في ذلك الدار. وإنما مرادهم أن ينالوا درجات الشهداء كما نال المطعون مع موته على الفراش، فمعنى قولهم أخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا أي فإن نالوا مع ذلك درجات الشهداء ينبغي أن ننالها أيضا. وعلى هذا فينبغي أن يعتبر هذا الخصام خارج الجنة وإلا فقد جاء فيها ?ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم?، فينبغي أن ينال درجة الشهداء من يشتهيها في الجنة، والظاهر أن الله تعالى ينزع من قلب كل أحد في الجنة اشتهاه درجة من فوقه ويرضيه بدرجته والله تعالى أعلم، قاله السندي (ويقول المتوفون) أي على فرشهم (أخواننا) أي هم أمثالنا (كما متنا) بكسر الميم وضمها (أنظروا) أي تأملوا ليتبين لكم الحكم وأبصروا (إلى جراحتهم) بكسر الجيم وبفتح والخطاب للملائكة أو للفريقين المختصمين. وفي النسائي إلى جراحهم، وكذا نقله الجزري (ج3:ص341) عن النسائي، وهكذا وقع في رواية لأحمد، وفي أخرى له: إلى جراحات المطعنين (فإن أشبهت جراحهم) جمع جراحة بالكسر (فإنهم منهم) أي ملحق بهم في ثوابهم (ومعهم) أي في حشرهم ومقامهم (فإذا) أي فنظروا فإذا (جراحهم) أي جراح المطعونين (قد أشبهت جراحهم) أي جراح

(10/27)


المقتولين. زاد في رواية لأحمد: فيلحقون معهم. واستدل بالحديث على أستواء شهيد الطاعون وشهيد المعركة، ويدل عليه
رواه أحمد، والنسائي.
1611 - (76) وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه له أجر شهيد)) رواه أحمد.
(2) باب تمنى الموت وذكره
?الفصل الأول?
1612- (1) عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنى
أيضا ما روى الطبراني في الكبير. وقال الحافظ: أخرجه أحمد بسند حسن عن عقبة بن عبدالسملي رفعه يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون فيقول أصحاب الطاعون نحن شهداء فيقال أنظروا، فإن كان جراحهم كجراح الشهداء تسيل دما وريحها كريح المسك فهم شهداء فيجدونهم كذلك (رواه أحمد) (ج4:ص128-129) (والنسائي) في الجنائز. قال الحافظ: بسند حسن.
1611- قوله: (الفار من الطاعون كالفار من الزحف) أي جهاد الكفار فكما يحرم الفرار من الزحف يحرم الخروج من بلد وقع فيها الطاعون بقصد الفرار والزحف في الأصل مصدر أطلق على الجيش العظيم، لأنه يرى لكثرته كأنه يزحف باسته أي دبره على الأرض. قال الطيبي: شبه به في ارتكاب الكبيرة والزحف الجيش الدهم الذي لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيبا من زحف الصبي إذا دب على أسته قليلا قليلا سمى بالمصدر (والصابر فيه) أي في الطاعون (له أجر شهيد) سواء مات به أو لا، لما في إثبات من الرضا والوقوف مع المقدور (رواه أحمد) بسند حسن، قاله المنذري. وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وأخرجه أيضا البزار والطبراني في الأوسط وابن خزيمة. قال الحافظ: وسنده صالح للمتابعات وله شاهد جيد من حديث عائشة مرفوعا في أثناء حديث قلت يارسول الله فما الطاعون؟ قال غدة كغدة الإبل المقيم فيها كالشهيد والفار منها كالفار من الزحف أخرجه أحمد وابن خزيمة. قال الحافظ: بسند حسن، وأبويعلى والطبراني في الأوسط. قال الهيثمي رجال أحمد ثقات.

(10/28)


(باب تمنى الموت) أي حكم تمنيه (وذكره) أي فضل ذكر الموت.
1612- قوله: (لا يتمنى) قال الحافظ: كذا للأكثر بإثبات التحتية وهو لفظ نفي بمعنى النهى، ووقع في رواية الكشمهيني: لا يتمن على لفظ النهى أي بدون الياء، ووقع في رواية معمر في كتاب التمنى، بلفظ: لا يتمنى للأكثر،
أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب))
وبلفظ: لا يتمنين للكشمهيني بزيادة نون التأكيد بعد التحتية – انتهى. وقال الطيبي: الياء في قوله: لا يتمنى مثبتة في رسم الخط في كتب الحديث، فلعله نهى ورد على صيغة الخبر، أو المراد منه لا يتمن فأجرى مجرى الصحيح. وقيل: هو لفظ النهى وأشبعت الفتحة. قيل: والنفي بمعنى النهى أبلغ وآكد لإفادته أن من شأن المؤمن انتفاء ذلك عنه وعدم وقوعه عنه بالكلية أو لأنه قدر أن المنهى حين ورد النهى عليه انتهى عن المنهى عنه، وهو يخبر عن انتهائه ولو ترك على النهى المحض ما كان أبلغ (أحدكم) الخطاب للصحابة والمراد هم ومن بعدهم من المسلمين عموما (الموت) قال التوربشتي: النهى عن تمنى الموت وإن أطلق في هذا الحديث، فالمراد منه المقيد، كما في حديث أنس الآتي، فعلى هذه يكره تمنى الموت من ضر أصابه في نفسه أو ماله، لأنه في معنى التبرم عن قضاء الله في أمر يضره في دنياه وينفعه في آخرته ولا يكره للخوف في دينه من فساد (إما محسنا) قال ابن الملك: بكسر الهمزة أصله "إن ما" فأدغمت، و"ما" زائدة عوضا عن الفعل المحذوف أي إن كان محسنا. وقال المالكي: تقديره إما أن يكون محسنا، وإما أن يكون مسيئا، فحذف يكون مع إسمها مرتين وأبقى الخبر وأكثر ذلك إنما يكون بعد أن، ولو قال زين العرب كقوله الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقال السندي: إما بكسر الهمزة بتقدير يكون أي لا يخلو التمنى إما يكون محسنا فليس له أن يتمنى فإنه لعله يزداد خيرا بالحياة وإما مسيئا فكذلك ليس له أن يتمنى فإنه

(10/29)


لعله أن يستعتب أي يرجع عن الإساءة ويطلب رضاءالله تعالى بالتوبة. وجملة إما محسنا إلخ بمنزلة التعليل للنهى، ويمكن أن يكون إما بفتح الهمزة، والتقدير إما إن كان محسنا فليس له التمنى لأنه لعله يزداد بالحياة خيرا فهو مثل قوله تعالى: ?فأما إن كان من المقربين?[الواقعة:88] والله تعالى أعلم – انتهى. (فلعله) جواب إن الشرطية (أن يزداد خيرا) أي من فعل الخير (وإما مسيئا فلعله أي يستعتب) أي يرجع عن موجب العتب عليه. وقيل: أي يطلب العتبى وهو الرضا أي يطلب رضاءالله تعالى بالتوبة ورد المظالم وتدارك الفائت. وقال الحافظ: يستعتب أي يسترضى الله بالإقلاع والاستغفار والاستعتاب طلب الأعتاب. والهمزة للإزالة أي يطلب إزالة العتاب عاتبه لامه واعتبه أزال عتابه. قال الكرماني: وهو مما جاء على غير القياس إذ الاستفعال إنما ينبني من الثلاثي لا من المزيد. قال ابن الملك: لعل هنا بمعنى عسى. وقال القسطلاني: لعل في الموضعين للرجاء المجرد من التعليل وأكثر مجيئها في الرجاء إذا كان معه تعليل نحو ?وأتقو الله لعلكم تفلحون?[آل عمران:200،130] انتهى. قال الحافظ: وفيه إشارة إلى أن المعنى في النهى عن تمنى الموت والدعاء به هو انقطاع العمل وبالموت فإن الحياة يتسبب منها العمل وبالعمل يحصل زيادة الثواب ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد، فهو أفضل الأعمال ولا يرد على هذا أنه يجوز أن يقع الارتداد عن الإيمان، لأن ذلك نادر والإيمان بعد أن تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وعلى تقدير وقوع ذلك وقد وقع لكن نادرا فمن سبق له في علم الله خاتمة السوء فلا بد من وقوعها
رواه البخاري.
1613 - (2) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات انقطع أمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا))

(10/30)


طال عمره أو قصر فتعجيله لطلب الموت لا خير له فيه- انتهى. (رواه البخاري) في المرضى، وفي التمني وأخرجه أيضا أحمد في مواضع والنسائي في الجنائز،و الدارمي والبيهقي (ج3:ص377).
1613 – قوله: (لا يتمنى) وفي مسلم: لا يتمنين بزيادة نون التأكيد، وهكذا في جامع الأصول (ج3:ص108) (أحدكم الموت) أي بقلبه (ولا يدع) أي بلسانه (به) أي بالموت. وقال الحافظ: الدعاء بالموت أخص من تمنى الموت وكل دعاء تمنى من غير عكس. قال ابن الملك: قوله: لا يدع بحذف الواو على أنه نهى. قال الزين: وجه صحة عطفه على النفي من حيث أنه بمعنى النهى. وقال ابن حجر: فيه إيماء إلى أن الأول نهى على بابه، ويكون قد جمع بين لغتي حذف حرف العلة وإثباته (من قبل أن يأتيه) قال الحافظ: وهو قيد في الصورتين، ومفهومه أنه إذا حل به لا يمنع من تمنيه رضا بلقاء الله ولا من طلبه من الله لذلك، وهو كذلك ولهذه النكتة عقب البخاري حديث أبي هريرة بحديث عائشة: اللهم اغفرلي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى، إشارة إلى أن النهى مختص بالحالة التي قبل نزول الموت، فلله دره ما كان استحضاره وإيثاره الأخفى على الأجلى تشحيذا للأذهان (إنه) بكسر الهمزة والضمير للشأن وهو استئناف فيه معنى التعليل (إذا مات) أي أحدكم (انقطع أمله) أي رجاءه من زيادة الخير. قال الطيبي: بالهمزة في الحميدى وجامع الأصول، وفي شرح السنة بالعين- انتهى. قلت: وكذا وقع في النسخ الموجودة عندنا لصحيح مسلم عمله أي بالعين المهملة، وكذا ذكره المنذري في الترغيب، وكذا وقع في جامع الأصول (ج3:ص108) وقال النووي: هكذا هو في بعض النسخ عمله، وفي كثير منها أمله، وكلاهما صحيح لكن الأول أجود وهو المكرر في الأحاديث (وإنه) أي الشأن ( لا يزيد المؤمن عمره) بضم الميم ويسكن أي طول عمره (إلا خيرا) لصبره على البلاء وشكره على النعماء ورضاه بالقضاء وامتثاله أمر المولى. قال الحافظ: واستشكل بأنه قد يعمل السيئات فيزيد عمره

(10/31)


شرا وأجيب بأجوبة: أحدها حمل المؤمن على الكامل، وفيه بعد. والثاني أن المؤمن بصدد أن يعمل ما يكفر ذنوبه إما من إجتناب الكبائر وإما من فعل حسنات أخر قد تقاوم بتضعيفها سيئاته ومادام الإيمان باق فالحسنات بصدد التضعيف والسيئات بصدد التكفير. والثالث يقيد ما أطلق في هذه الرواية بما وقع في الرواية المتقدمة من الترجي حيث جاء بقوله لعله والترجي مشعر بالوقوع غالبا لا جزما، فخرج الخبر مخرج تحسين الظن بالله وأن المحسن يرجو من الله الزيادة بأن يوفقه للزيادة من
رواه مسلم.
1614- (3) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي)) متفق عليه.
عمله الصالح وأن المسيء لا ينبغي له القنوط من رحمة الله ولا قطع رجاءه (رواه مسلم) في الدعوات،وأخرجه أيضا أحمد.

(10/32)


1614 – قوله: (لا يتمنين أحدكم الموت من ضر) بضم الضاد وتفتح أي من أجل ضرر مالي أو بدني (أصابه) فإنه يدل على الجزع في البلاء وعدم الرضاء بالقضاء. قال الحافظ: قوله من ضر أصابه. حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي فإن وجد الضر الأخروي بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهى، ويمكن أن يؤخذ من رواية ابن حبان لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا على أن في هذا الحديث سببية أي بسبب أمر من الدنيا وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب كما في الموطأ: اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط. وعند أبي داود من حديث معاذ مرفوعا فإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون (فإن كان) أي أحدكم (لا بد فاعلا) ما ذكر من تمنى الموت، ففي رواية للبخاري فإن كان لا بد متمنيا للموت (فليقل إلخ) أي فلا يتمن صريحا بل يعدل عنه إلى التعليق بوجود الخير فيه. قال الحافظ: هذا يدل على أن النهى عن تمنى الموت مقيد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة، لأن في التمنى المطلق نوع اعتراض ومراغمة للقدر المختوم، وفي هذه الصورة المأمور بها نوع تفويض وتسليم للقضاء، وقوله: فإن كان لا بد إلخ. فيه ما يصرف عن حقيقته من الوجوب والاستحباب، ويدل على أنه لمطلق الإذن لأن الأمر بعد الحظر لا يبقى على حقيقته (اللهم أحيني) أي أبقني على الحياة (ما كانت الحياة) أي مدة بقاءها (خيرا لي) أي من الموت، وهو أن تكون الطاعة غالبة على المعصية والأزمنة خالية عن الفتنة والمحنة (وتوفني) أي أمتني (إذا كانت الوفاة خيرا لي) من الحياة بأن يكون لأمر عكس ما تقدم. قال العراقي في شرح الترمذي: لما كانت الحياة حاصلة وهو متصف بها حسن الإتيان بما أي ما دامت الحياة متصفة بهذا الوصف، ولما كانت الوفاة معدومة في حال التمنى لم يحسن أن يقول ما كانت بل أتى بإذا الشرطية فقال إذا كانت أي إذا آل الحال إلى أن تكون الوفاة بهذا الوصف (متفق عليه) أخرجه

(10/33)


البخاري في المرضى والدعوات، ومسلم في الدعوات، وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي في الجنائز وابن ماجه في الزهد والبيهقي (ج3:ص377).
1615- (4) وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه،
1615- قوله: (من أحب لقاء الله) أي المصير إلى الدار الآخرة بمعنى أن المؤمن عند الغرغرة يبشر برضوان الله فيكون موته أحب إليه من حياته، قيل: الحب هنا هو الذي يقتضيه الإيمان بالله والثقة بوعده دون ما يقتضيه حكم الجبلة. وقال الخطابي: معنى محبة العبد للقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا فلا يجب استمرار الإقامة فيها بل يستعد للارتحال عنها والكراهة بضد ذلك، واللقاء على وجوه منها الرؤية، ومنها البعث كقوله تعالى: ?قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله?[الأنعام: 31] أي بالبعث ومنها الموت كقوله: ?من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت?. وقال الجزري في النهاية: المراد بلقاء الله هنا المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله (وعدم الركون إلى الدنيا والرضا بحياتها والاطمينان بها) وليس الغرض به الموت، لأن كلا يكرهه فمن ترك الدنيا، وأبغضها أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله لأنه إنما يصل إليه بالموت، وقوله: والموت دون لقاء الله يبين أن الموت غير اللقاء لكنه معترض دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه، ويحتمل مشاقه حتى يصل بعده إلى الفوز باللقاء. قال الطيبي: يريد أن قول عائشة "إنا لنكره الموت" يوهم أن المراد بلقاء الله في الحديث الموت، وليس كذلك، لأن لقاء الله غير الموت. بدليل قوله: في الرواية الأخرى، والموت دون لقاء الله لكن لما كان الموت وسيلة إلى لقاء الله عبر عنه بلقاء الله. قال الحافظ: وقد سبق ابن الأثير إلى تفسير لقاء الله بغير الموت الإمام أبوعبيد القاسم بن سلام فقال: ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته، لأن هذا لا

(10/34)


يكاد يخلو عنه أحد، ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة قال ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قوما بحب الحياة فقال: ?إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها?. قلت: الصواب في معنى الحديث ما فسره به قائله صلى الله عليه وسلم وهو أن هذه المحبة محمولة على حالة النزع والاحتضار والمعاينة. قال النووي: هذا الحديث يفسر آخره أوله وبين المراد بباقي الأحاديث المطلقة من أحب لقاء الله وكره لقاء الله، ومعنى الحديث أن الكراهة المعتبرة هي التي تكون عند النزع في حالة لا تقبل توبته ولا غيرها، فحينئذ يبشر كل إنسان بما هو صائر إليه وما أعد له ويكشف له عن ذلك فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله لينتقلوا إلى ما أعد لهم ويحب الله لقاءهم أي فيجزل لهم العطاء وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه ويكره الله لقاءهم أي يبعدهم عن رحمته وكرامته ولا يريد ذلك بهم- انتهى. (أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله) حين يرى ماله من العذاب عند الغرغرة (كره الله لقاءه) أي أبعده عن
فقالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت

(10/35)


رحمته وأدناه من نقمته، فإن قيل: الشرط ليس سببا للجزاء بل الأمر بالعكس. أجيب بأن المعنى فليفرح أو فأخبره بأن الله يحب لقاءه. قال الكرماني: مثله مؤل بالإخبار أي من أحب لقاء الله أخبره الله بأن الله أحب لقاءه، وكذلك الكراهة. قال الحافظ في قوله: أحب الله لقاءه. العدول عن الضمير إلى الظاهر تفخيما وتعظيما ودفعا لتوهم عود الضمير على الموصول لئلا يتحد في الصورة المبتدأ والخبر، ففيه إصلاح اللفظ لتصحيح المعنى، وأيضا فعود الضمير على المضاف إليه قليل. وقال ابن الصائغ في شرح المشارق: يحتمل أن يكون لقاء الله مضافا للمفعول فأقامه مقام الفاعل ولقاءه إما مضاف للمفعول أو للفاعل الضمير أو للموصول، لأن الجواب إذا كان شرطا فالأولى أن يكون فيه ضمير نعم هو موجود هنا ولكن تقديرا (فقالت عائشة أو بعض أزواجه) كذا في هذه الرواية بالشك، وجزم سعد بن هشام في روايته عن عائشة عند مسلم بأنها هي التي قالت ذلك ولم يتردد. قال الحافظ: وهذه الزيادة في هذا الحديث لا تظهر صريحا هل هي من كلام عبادة والمعنى أنه سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وسمع مراجعة عائشة أو من كلام أنس (راوي الحديث عن عبادة) بأن يكون حضر ذلك فقد وقع في رواية حميد عن أنس عند أحمد وغيره بلفظ: فقلنا يا رسول الله فيكون أسند القول إلى جماعة وإن كان المباشر له واحدا وهي عائشة، ويحتمل أيضا أن يكون من كلام قتادة (الراوي عن أنس عن عبادة) أرسله في رواية همام (الراوي عن قتادة) ووصله في رواية سعيد بن أبي عروبة عنه عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة (عند مسلم) فيكون في رواية همام إدراج، وهذا أرجح في نظري، فقد أخرجه مسلم عن هداب بن خالد عن همام مقتصرا على أصل الحديث دون قوله: فقالت عائشة إلخ ثم أخرجه من رواية سعد بن عروبة موصولا تاما، وكذا أخرجه هو وأحمد من رواية شعبة والنسائي من رواية سليمان التيمي كلاهما عن قتادة، وكذا جاء عن أبي هريرة

(10/36)


وغير واحد من الصحابة بدون المراجعة. وقد أخرجه أبويعلى عن هدبة بن خالد عن همام تاما، كما أخرجه البخاري عن حجاج عن همام، وهدبة هو هداب شيخ مسلم فكان مسلما، حذف الزيادة عمدا لكونها مرسلة من هذا الوجه واكتفى بإيرادها موصولة من طريق سعيد بن أبي عروبة، وقد رمز البخاري إلى ذلك حيث علق رواية شعبة بقوله اختصره أبوداود وعمر وعن شعبة، وكذا أشار إلى رواية سعيد تعليقا، وهذا من العلل الخفية جدا -انتهى كلام الحافظ. (إنا لنكره الموت) وفي رواية سعد بن هشام: فقلت. يا نبي الله أكراهية الموت فكلنا يكره الموت أي بحسب الطبع وخوفا مما بعده (ليس ذلك) بكسر الكاف أي ليس الأمر كما ظننت يا عائشة إذ ليس كراهة المؤمن الموت لخوف شدته كراهة لقاء الله، بل تلك الكراهة هي كراهة الموت لإيثار الدنيا على الآخرة والركون إلى الحظوظ العاجلة إذا بشر بعذاب الله وعقوبته عند حضور الموت (ولكن المؤمن)
بشر برضوان الله وكرامته،فليس أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه)). متفق عليه.

(10/37)


بتشديد نون لكن، ولأبي ذر: ولكن المؤمن بالتخفيف ورفع المؤمن (بشر برضوان الله) بضم الموحدة وكسر الشين المعجمة المشددة (مما أمامه) بفتح الهمزة أي مما يستقبله بعد الموت (فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه) وفي حديث حميد عن أنس عند أحمد: ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله وليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه (وإن الكافر إذا حضر) على بناء المفعول أي حضره الموت (بشر) فيه تهكم نحو ?فبشرهم بعذاب أليم?، أو مشاكلة للمقابلة، أو أريد المعنى اللغوي أي أخبر (بعذاب الله له) في القبر (وعقوبته) وهي أشد العذاب في النار (فليس شيء) يومئذ (أكره إليه مما أمامه) أي قدامة (فكره لقاء الله وكره الله لقاءه) وفي حديث عائشة عند عبد بن حميد مرفوعا: إذا أراد الله بعبد خيرا قيض له قبل موته بعام ملكا يسدده ويوفقه حتى يقال مات بخير ما كان فإذا حضر ورأى ثوابه اشتاقت نفسه فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإذا أراد الله بعبد شرا قيض له قبل موته بعام شيطانا فأضله وفتنه حتى يقال مات بشر ما كان عليه فإذا حضر ورأى ما أعد له من العذاب جزعت نفس فذلك حين كره لقاء الله وكره الله لقاءه وفي الحديث فوائد: منها أن المحتضر إذا ظهر عليه علامات السرور كان ذلك دليلا على أنه بشر بالخير، وكذا بالعكس. ومنها أن محبة لقاء الله لا تدخل في النهي عن تمني الموت، لأنها ممكنة مع عدم تمني الموت كأن تكون المحبة حاصلة لا يفترق حاله فيها بحصول الموت ولا بتأخره، وأن النهي عن تمني الموت محمول على حالة الحياة المستمرة، وأما عند الاحتضار والمعاينة فلا تدخل تحت النهي، بل هي مستحبة. ومنها أن في كراهة الموت في حال الصحة تفصيلا فمن كرهه إيثارا للحياة على ما بعد الموت من نعيم الآخرة كان مذموما، ومن كرهه خشية أن يفضي إلى المؤاخذة كأن يكون مقصرا في العمل لم ستعد له بالأهبة بأن يتخلص من التبعات ويقوم بأمر الله كما

(10/38)


يجب فهو معذور، لكن ينبغي لمن وجد ذلك أن يبادر إلى أخذ الأهبة حتى إذا حضره الموت لا يكرهه بل يحبه لما يرجو بعده من لقاء الله (متفق عليه) فيه نظر فإن الحديث من رواية عبادة مع الزيادة المذكورة. أعني قوله فقالت عائشة أو بعض أزواجه إلى آخره من أفراد البخاري، أخرجه في أواخر الرقاق، ورواه مسلم بدون هذه الزيادة، فإنه أخرجه أولا عن هداب بن خالد عن همام عن قتادة عن أنس بن مالك عن عبادة مقتصرا على أصل الحديث دون قوله فقالت عائشة إلخ. وكذا أخرجه أحمد والترمذي في الجنائز والزهد، والنسائي في الجنائز من طرق أخرى عن
1616- (5) وفي رواية عائشة والموت قبل لقاء الله.
1617- (6) وعن أبي قتادة: أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة، فقال: مستريح، أو مستراح منه،
قتادة بدون المراجعة، وكذا جاء عن أبي هريرة، ثم أخرجه مسلم من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقلت يا نبي الله أكراهية الموت فكلنا يكره الموت قال ليس كذلك ولكن المؤمن. فذكره. والحاصل أن المراجعة المذكورة ليست عند مسلم في حديث عبادة بل هي في حديث عائشة كما رأيت، فالصواب أن يعزو المصنف الحديث للبخاري فقط أو يذكر لفظ "متفق عليه" بعد قوله:"كره الله لقاءه" ثم يقول وزاد البخاري في رواية من طريق همام عن قتادة فقالت عائشة أو بعض أزواجه إنا لنكره الموت قال ليس ذلك الخ، وحديث عائشة مع المراجعة المذكورة أخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي كلاهما في الجنائز، وابن ماجه في الزهد.

(10/39)


1616- قوله: (وفي رواية عائشة إلخ) هذه الرواية عند مسلم وحده أخرجها من رواية الشعبي عن شريح ابن هانيء عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه والموت قبل لقاء الله، وعزاها الحافظ في الفتح لمسلم والنسائي وذكرها بلفظ: والموت دون لقاء الله، قال وهذه الزيادة من كلام عائشة فيما يظهر لي ذكرتها استنباطا مما تقدم- انتهى. (والموت قبل لقاء الله) يعني لا تمكن رؤية الله قبل الموت بل بعده، أو المراد أن من أحب لقاء الله أحب الموت، لأنه يتوصل به إلى لقاءه ولا يتصور وجوده قبله، وفيه دلالة على أن اللقاء غير الموت. وقال الحافظ: وفي الحديث إن الله تعالى لا يراه في الدنيا أحد من الأحياء وإنما يقع ذلك للمؤمنين بعد الموت أخذا من قوله والموت دون لقاء الله وقد تقدم أن اللقاء أعم من الموت فإذا انتفى اللقاء انتفت الرؤية، وقد ورد بأصرح من هذا في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة مرفوعا في حديث طويل وفيه: واعلموا أنكم لن تروه حتى تموتوا.
1617- قوله: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر) بضم الميم وتشديد الراء على البناء المجهول من المرور (عليه بجنازة) قال الحافظ: لم أقف على اسم المار ولا المرور بجنازته (فقال) - صلى الله عليه وسلم - (مستريح) أي هو مستريح. قال في النهاية: يقال أراح الرجل واستراح إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعباء (أو مستراح منه) أو للتنويع أو للترديد أي لا يخلو الميت عن أن يكون من أحد هذين القسمين، فعلى الأول يراد بالميت الجنس استطرادا، وعلى الثاني
فقالوا: يا رسول الله! ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد، والبلاد، والشجر،والدواب)).

(10/40)


الشخص الحاضر. وفي الصحيحين والمؤطا والنسائي مستريح أو مستراح منه أي بالواو بدل أو. قال السندي: الواو بمعنى أو، والتقدير هذا الميت أو كل ميت إما مستريح أو مستراح منه، أو بمعناها على أن هذا الكلام بيان لمقدر يقتضيه الكلام كأنه قال: هذا الميت أو كل ميت أحد رجلين فقال مستريح ومستراح منه. وقال الحافظ: الواو فيه بمعنى أو، وهي للتقسيم على ما صرح بمقتضاه في جواب سؤالهم (فقالوا) أي الصحابة. قال الحافظ: ولم أقف على اسم السائل منهم بعينه إلا أن في رواية إبراهيم الحربي عند أبي نعيم قلنا فيدخل فيهم أبوقتادة، فيحتمل أن يكون هو السائل- انتهى. وهذا لفظ النسائي. وفي المؤطا والصحيحين قالوا بدون الفاء (ما المستريح والمستراح منه) أي ما معناهما.وفي رواية الدارقطني: ما المستراح منه بإعادة ما (فقال) كذا في جميع النسخ، وهكذا في جامع الأصول (ج11ص446) وفي الأصول قال بدون الفاء (العبد المؤمن) يحتمل أن يراد به التقى خاصة أي المؤمن الكامل، ويحتمل كل مؤمن (يستريح) أي يجد الراحة بالموت (من نصب الدنيا) بفتحتين أي من تعبها ومشقتها (وأذاها) من عطف العام على الخاص، كذا ذكره الحافظ قال السندي بعد نقله عن السيوطي: قلت وما أشبهه بعطف المتساويين (إلى رحمة الله) أي ذاهبا وواصلا إليها، ومن ثم قال مسروق: ما غبطت شيئا لشيء كمؤمن في لحده أمن من عذاب الله واستراح من الدنيا (والعبد الفاجر) أي الكافر أو ما يعمه والعاصي. قيل: الظاهر حمله على الكافر لمقابلته بالمؤمن، وعليه حمله النسائي حيث ترجم على الحديث بالاستراحة من الكفار. قلت: آخر الحديث أي الجملة الآتية يدل على أن المراد بالفاجر ما هو أعم من الكافر فإن الظلم والفساد والفجور يحصل من المسلم أيضا كما يحصل من الكافر فيستريح العباد والبلاد من الفاجر المسلم كما تستريح من الفاجر الكافر، فالأولى حمل الفاجر هنا على العموم، كما قال القاري هو أعم من الكافر (يستريح منه) أي

(10/41)


من شره (العباد) من جهة ظلمة عليهم ومن جهة أنه حين فعل منكرا أن منعوه آذاهم وعاداهم وإن سكتوا عنه أضر بدينهم ودنياهم (والبلاد) لما يأتي به من المعاصي فإنه يحصل به الجدب فيقتضي هلاك الحرث والنسل أو لما يقع له من غصبها ومنعها من حقها وصرفه في غير وجهه (والشجر) لقلعه إياها غصبا أو غصب ثمرها أو بما يحصل من الجدب لشوم معاصيه (والدواب) لاستعماله لها فوق طاقتها وتقصيره في علفها وسقيها أو للجدب بمعاصيه. قال النووي: معنى استراحة العباد من الفاجر اندفاع أذاه عنهم، وأذاه كون من وجوه منها ظلمة لهم، ومنه ارتكابه للمنكرات فإن أنكروها قاسوا مشقة من ذلك وربما نالهم ضرره وإن سكتوا عنه أثموا، وتعقب هذا
متفق عليه.
1618- (7) وعن عبدالله بن عمر، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل،
بأن من ناله الأذى من أهل المنكر لا يأثم بترك الإنكار عليهم، ويكفيه أن ينكره بقلبه أو بوجه لا يناله به أذاه. قال النووي: واستراحة الدواب منه لأنه كان يؤذيها ويضربها ويحملها ما لا يطيقه ويجيعها في بعض الأوقات وغير ذلك واستراحة البلاد والشجر لأنها تمنع القطر بمعصية، ولأنها يغصبها ويمنعها حقها من الشرب. وقال الطيبي: أما استراحة البلاد والأشجار فإن الله تعالى بفقده يرسل السماء عليكم مدرارا ويحي به الأرض والشجر والدواب بعد ما حبس بشوم ذنوبه الأمطار (متفق عليه) أخرجه البخاري في آخر الرقاق، ومسلم في الجنائز، وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص302،296،304) ومالك، والنسائي في الجنائز والبيهقي (ج3 ص379).

(10/42)


1618- قوله: (أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي) بكسر الكاف الموحدة وتخفيف التحتية مجمع العضد والكتف. قال الحافظ وضبط في بعض الأصول بمنكبتي بلفظ التثنية (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) قال الطيبي: أو يجوز أن تكون للتخيير والإباحة. والأحسن أن تكون بمعنى بل كما في قول الشاعر: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح، قال الجوهري: يريد بل أنت في العين أملح شبه النبي صلى الله عليه وسلم الناسك السنالك أولا بالغريب الذي ليس له مسكن يأويه ولا سكن يسلبه ثم ترقى وأضرب عنه بقوله أو عابر سبيل لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة ويقيم فيها بخلاف عابر السبيل القاصد للبلد الشاسع وبينه وبينها أودية مردية ومفاوز مهلكة وهو بمرصد من قطاع طريق، فهل له أن يقيم لحظة أو يسكن لمحة كلا، ومن ثم عقبه بقوله (عند أحمد والترمذي وابن ماجه) وعد نفسك في أهل القبور. وقال ابن عمر: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء أي سر دائما ولا تفتر من السير ساعة فإنك إن قصرت في السير انقطعت عن المقصود وهلكت في تلك الأودية، وهذا معنى المشبه به، وأما المشبه فهو قوله وخذ من صحتك لمرضك يعني عمرك لا يخلو من الصحة والمرض فإذا كنت صحيحا سر سيرك القصد بل لا تقنع به وزد عليه ما عسى أن يحصل لك الفتور بسبب المرض وفي قوله: ومن حياتك لموتك إشارة إلى أخذ نصيب الموت وما يحصل فيه من الفتور من السقم يعني لا تقعد بسبب المرض من السير كل القعود بل ما أمكنك منه فاجتهد فيه حتى تنتهي إلى لقاء الله وما عنده من الفلاح والنجاح وإلا خبت وخسرت- انتهى. وقال النووي: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنا ولا تحدث نفسك بالبقاء
وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)). رواه البخاري.

(10/43)


فيها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه. وقيل: المراد أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا منزلة الغريب فلا يعلق قلبه بشيء من بلد الغربة بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه ويجعل إقامته في الدنيا ليقضي حاجته وجهازه للرجوع إلى وطنه، وهذا شأن الغريب أو يكون كالمسافر لا يستقر في مكانه بعينه بل هو دائم السير إلى بلد الإقامة ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهمته تحصيل الزاد للسفر فليس له همة للاستكثار من طلب متاع الدنيا (وكان ابن عمر يقول) وفي رواية: ليث عن مجاهد عند الترمذي فقال لي ابن عمر إذا أصبحت إلخ وهو مقولة مجاهد أي قال ابن عمر مخاطبا لي (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) وصية ابن عمر هذه مأخوذة من الحديث الذي رواه وهي متضمنة لنهاية قصر الأمل وأن الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصباح وإذا أصبح لم ينتظر المساء بل يظن أن أجله يدرك قبل ذلك. قال القاري أي ليكن الموت في إمسائك وإصباحك نصب عينك مقصرا للأمل مبادرا للعمل غير مؤخر عمل الليل إلى النهار وعمل النهار إلى الليل (وخذ من صحتك) أي زمن صحتك (لمرضك) وفي رواية الترمذي: قبل سقمك أي خذ زادا من وقت صحتك لوقت مرضك أي اغتنم صحتك واغتنم العمل فيها، والمعنى إشتغل في الصحة بالطاعة بحيث لو حصل تقصير في المرض لا تجبر بذلك (ومن حياتك لموتك) أي اغتنم الأعمال الصالحة في الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت. وزاد في رواية الترمذي: فإنك لا تدري يا عبدالله ما اسمك غدا يعني لعلك غدا من الأموات دون الأحياء أي لا يدري هل يقال لك حي أو ميت؟ وهذا القدر الموقوف من الحديث قد جاء معناه من حديث ابن عباس مرفوعا أخرجه الحاكم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل وهو يعظه اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وفي الحديث مس المعلم أعضاء المتعلم والموعوظ عند

(10/44)


الموعظة، وذلك للتأنيس والتنبيه ولا يفعل ذلك غالبا إلا بمن يميل إليه، وفيه حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إيصال الخير لأمته والحض على ترك الدنيا والاقتصار على ما لابد منه (رواه البخاري) في الرقاق وأخرجه أيضا الترمذي في الزهد، والبيهقي (ج3 ص369) وأخرجه أحمد (ج2 ص41،24،132) وابن ماجه في الزهد مقتصرا على الحديث المرفوع، وزاد أحمد، والترمذي، وابن ماجه: وعد نفسك في أهل القبور.
1619- (8) وعن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: (( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)) رواه مسلم.

(10/45)


1619- قوله: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام) يفيد كمال ضبط الراوي وأحكام المروى (يقول لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله) قال القاري: أي لا يموتن أحدكم في حال من الأحوال إلا في هذه الحالة، وهي حسن الظن بالله بأن يغفر له، فالنهي وإن كان في الظاهر عن الموت وليس إليه ذلك حتى ينتهي، لكن في الحقيقة عن حالة ينقطع عندها الرجاء لسوء العمل كيلا يصادفه الموت عليها، وفي الحديث حث على الأعمال الصالحة المقتضية لحسن الظن- انتهى. وقال السندي: أي دوموا على حسن الظن وأثبتوا عليه حتى يجيء الموت وأنتم عليه قيل الأمر بحسن الظن يستلزم الأمر بحسن العمل إذ لا يحسن الظن إلا عند حسن العمل. قال الخطابي: إنما يحسن الظن بالله من حسن عمله فكأنه قال أحسنوا أعمالكم بحسن ظنكم بالله تعالى إذ من ساء عمله ساء ظنه. وقد يكون أيضا حسن الظن بالله من جهة الرجاء وتأميل عفوه عزوجل. وقال الطيبي: أي أحسنوا أعمالك الآن حتى يحسن ظنكم بالله عند الموت فإن من ساء عمله قبل الموت يسوء ظنه عند الموت. وقال النووي في شرح المهذب: معنى تحسين الظن بالله أن يظن إن الله تعالى يرحمه ويرجو ذلك بتدبر الآيات والأحاديث الواردة في كرم الله تعالى وعفوه ورحمته وما وعد به أهل التوحيد وما يسره لهم من رحمته يوم القامة كما قال الله تعالى في الحديث الصحيح: أنا عند ظن عبدي بي. هذا هو الصواب في معنى الحديث، وهو الذي قاله جمهور العلماء، وشذ الخطابي فذكر تأويلا آخر أن معناه أحسنوا أعمالكم حتى يحسن ظنكم بربكم فمن حسن عمله حسن ظنه ومن ساء عمله ساء ظنه، وهذا تأويل باطل نبهت عليه لئلا يغتر به، وقال في شرح مسلم هذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة، ومعنى إحسان الظن بالله أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه قالوا وفي حالة الصحة يكون خائفا راجيا ويكونان سواء، وقيل: يكون الخوف أرجح فإذا دنت إمارات الموت غلب الرجاء أو

(10/46)


محضه، لأن مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال فاستحب إحسان الظن المتضمن الافتقار إلى الله تعالى والإذعان له، ويؤيده حديث يبعث كل عبد على ما مات عليه. قال العلماء: معناه يبعث على الحال التي مات عليها ومثله حديث ثم بعثوا على نياتهم- انتهى. وسيأتي شيء من الكلام على هذا في شرح أنس آخر أحاديث الفصل الثاني من هذا الباب (رواه مسلم) في صفة النار، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود في الجنائز، وابن ماجه في الزهد، والبيهقي، (ج3 ص378).
?الفصل الثاني?
1620- (9) عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن شئتم أنبأتكم: ما أول ما يقول الله للمؤمنين يوم القيامة؟ وما أول يقولون له؟ قلنا نعم يا رسول الله! قال: إن الله يقول للمؤمنين: هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا! فيقول:لم؟ فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك، فيقول: قد وجبت لكم مغفرتي)) رواه في شرح السنة، وأبو نعيم في الحلية.

(10/47)


1620- قوله: (إن شئتم أنبأتكم) أي أخبرتكم (ما) أي بالذي هو (أول ما يقول الله) وقال القاري: ما الأولى استفهامية والثانية موصولة (للمؤمنين) بلا واسطة أو بواسطة ملك (يوم القيامة وما أول ما يقولون) أي المؤمنون (له) أي لله تعالى (قلنا نعم) أخبرنا (يا رسول الله) وهذا توطئة للتهيؤ بالإصغاء للكلام ليحصل الإدراك على الوجه التام (هل أحببتم لقائي) قد تقدم أن المراد باللقاء المصير إلى دار الآخرة وطلب ما عند الله (فيقولون نعم يا ربنا) استعطاف لمزيد عطاءه ورضوانه (فيقول لم) أي لأي شيء أحببتم لقائي (رجونا عفوك ومغفرتك) فيه أن من حسن الظن بالله أحب لقاء الله، ولعل حكمة الاستفهام مع علمه تعالى ببواطنهم إعلام السامعين بسبب محبتهم للقاءه على حد أو لم تؤمن قال بلى (فيقول قد وجبت لكم مغفرتي) أي ثبتت لأن الله تعالى عند ظن عبده به (رواه) البغوي (في شرح السنة وأبونعيم) هو الحافظ الكبير محدث العصر أحمد بن عبدالله ابن أحمد بن إسحاق الأصبهاني الصوفي الأحول صاحب حلية الأولياء، كان من الأعلام المحدثين، وأكابر الحفاظ الثقات أخذ عن الأفاضل وأخذوا عنه وانتفعوا به. قال المؤلف: هو من مشائخ الحديث الثقات المعمول بحديثهم المرجوع إلى قولهم كبير القدر ولد سنة (334) وقيل (336) ومات في صفر، وقيل: في العشرين من المحرم سنة (430) بأصبهان وله من العمر (96) سنة، وبسط الذهبي ترجمته في التذكرة (ج3 ص291-296) (في الحلية) قال ابن خلكان هو من أحسن الكتب. وقال السلفي: لم يصنف مثل كتاب حلية الأولياء. وقال حمزة بن العباس العلوي: كان أصحاب الحديث يقولون لما صنف أبونعيم كتاب الحلية حمل الكتاب في حياته إلى نيسابور فاشتروه بأربع مائة دينار، وله تصانيف أخرى مشهورة ككتاب معرفة الصحابة، والمستخرج على البخاري، والمستخرج على مسلم ودلائل النبوة، وفضائل الصحابة. وحديث معاذ بن جبل هذا أخرجه أيضا أحمد (ج5 ص238) والطبراني في الكبير، وفيه

(10/48)


عبيدالله بن زجر. قال الهيثمي: وهو ضعيف قلت: قال أبوزرعة الرازي صدوق، وقال النسائي لا بأس به، وحسن الترمذي غير ما حديث له.
1621- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت) رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
1622- (11) وعن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه:استحيوا من الله حق الحياء،
1621- قوله: (أكثروا ذكر هاذم اللذات) بالذال المعجمة بمعنى قاطعها أو بالمهملة من هدم البناء، والمراد الموت وهو هاذم اللذات إما لأن ذكره يزهد فيها أو لأنه إذا جاء ما يبقى من لذائذ الدنيا شيئا. قال ميرك: وصحح الطيبي بالدال المهملة حيث قال شبه اللذات الفانية والشهوات العاجلة، ثم زوالها ببناء مرتفع ينهدم بصدمات هائلة ثم أمر المنهمك فيها بذكر الهادم لئلا يستمر على الركون إليها ويشتغل عما يجب عليه من التزود إلى دار القرار- انتهى كلامه. لكن قال الأسنوي في المهمات: الهاذم بالذال المعجمة هو القاطع، كما قاله الجوهري. وهو المراد هنا، وقد صرح السهيلي في الروض الأنف: بأن الرواية بالذال المعجمة ذكر في غزوة أحد في الكلام على قتل وحشي لحمزة. وقال الجزري: هادم يروي بالدال المهملة أي دافعها أو مخربها وبالمعجمة أي قاطعها، وأختاره بعض من مشائخنا، وهو الذي لم يصحح الخطابي غيره وجعل الأول من غلط الرواة، كذا في المرقاة. وقال الحافظ في التلخيص (ص152) ذكر السهيلي في الروض أن الرواية فيه بالذال المعجمة، ومعناه القاطع، وأما بالمهملة فمعناه المزيل للشيء وليس ذلك مرادا هنا وفي هذا النفي نظر لا يخفى- انتهى كلام الحافظ. قال الأمير اليماني: يريد أن المعنى على الدال المهملة صحيح فإن الموت يزيل اللذات كما يقطعها ولكن العمدة الرواية والحديث دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يغفل عن ذكر أعظم المواعظ وهو الموت (الموت) بالجر عطف بيان وبالرفع خبر مبتدأ محذوف هو

(10/49)


هو وبالنصب على تقدير أعني يعني أذكروه ولا تنسوه لأنه أزجر عن المعصية وأدعى إلى الطاعة وهذا تفسير من بعض الرواة ففي الترمذي وابن ماجه يعني الموت (رواه الترمذي) في الزهد وحسنه (والنسائي) في الجنائز (وابن ماجه) في الزهد، وأخرجه أحمد، وصححه ابن حبان والحاكم (ج4 ص321) وابن السكن وابن طاهر كلهم من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأعله الدارقطني بالإرسال، كذا في التلخيص وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط بإسناد حسن والبيهقي في شعب الإيمان، وفي الباب عن أنس وابن عمرو أبي سعيد ذكرهم المنذري في الترغيب (ج4 ص70-71) والمتقي في الكنز (ج8 ص70-71).
1622- قوله: (ذات يوم) قيل: ذات مقحم. وقيل: صفة لمدة. وقيل: غير ذلك (لأصحابه) ليس هذا اللفظ في مسند الإمام أحمد ولا في الترمذي (استحيوا من الله حق الحياء) أي حياء ثابتا لازما صادقا، قاله المناوي.وقيل:
قالوا: إنا نستحي من الله يا نبي الله! والحمد لله، قال: ليس ذلك، ولكن من استحي من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحي من الله حق الحياء ))

(10/50)


أي اتقوا الله حق تقاته (قالوا إنا نستحي من الله يا نبي الله) وفي المسند: قال قلنا يا رسول الله إنا نستحي، وفي الترمذي: قلنا يا نبي الله إنا لنستحي. قال القاري: لم يقولوا حق الحياء اعترافا بالعجز عنه (والحمد لله) على توفيقنا به (قال ليس ذلك) أي ليس حق الحياء من الله تعالى ما تحسبونه (فليحفظ الرأس) أي عن استعماله في غير طاعة الله بأن لا تسجد لغيره ولا تصلي للرياء ولا تخضع به لغير الله ولا ترفعه تكبرا على عباد الله (وما وعى) من الوعي وهو الحفظ أي ما جمعه الرأس من اللسان والعين والأذن عما لا يحل (وليحفظ البطن) أي عن أكل الحرام (وما حوى) أي ما اتصل اجتماعه به من الفرج والرجلين واليدين والقلب، فإن هذه الأعضاء متصلة بالجوف وحفظها بأن لا تستعملها في المعاصي بل في مرضاة الله تعالى. قال الطيبي: أي ليس حق الحياء من الله ما تحسبونه بل أن يحفظ نفسه بجميع جوارحه، وقوله: عما لا يرضاه فليحفظ رأسه وما وعاه من الحواس الظاهرة والباطنة من السمع والبصر واللسان حتى لا يستعملها إلا في ما يحل والبطن وما حوى أي لا يجمع فيها إلا الحلال ولا يأكل إلا الطيب، وقوله: ليس ذلك رد لحملهم الحياء على ما تعورف مطلقا لما ضم إليه من التقييد بقوله حتى الحياء ولذلك أعادها في الجواب يعني حق الحياء، أن لا يترك شيئا منها وما يتصل بها وما يتفرغ عليها إلا أن يتحرى ويقام به كما قال الله تعالى ?اتقوا الله حق تقاته?[آل عمران: 102] قال صاحب الكشاف: أي واجب تقواه وما يحق منها وهو القيام بالواجب واجتناب المحارم ونحوه فاتقوا الله ما استطعتم يريد بالغوا بالتقوى حتى لا تتركوا في المستطاع منها شيئا- انتهى. (وليذكروا الموت والبلى ) بكسر الباء من بلى الشيء إذا صار خلقا متفتتا يعني وليذكر صيرورته في القبر عظاما بالية، لأن من ذكر هذا هان عليه ما فاته من اللذات العاجلة وأهمه ما يجب عليه من طلب الآجلة (ومن أراد الآخرة ترك

(10/51)


زينة الدنيا) فإنهما لا يجتمعان على وجه الكمال حتى للأقوياء، قاله القاري. وقال المناوي: لأنهما ضرتان فمتى أرضيت أحديهما أغضبت الأخرى، واللفظ المذكور لأحمد، ولفظ الترمذي: ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ويذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى (فمن فعل ذلك) أي جميع ما ذكر (فقد استحي من الله حق الحياء) قال الطيبي: المشار إليه جميع ما سبق فمن أهمل من ذلك شيئا لم يخرج من عهدة الاستحياء فظهر من هذا أن جبلة الإنسان وخلقته من رأسه إلى قدمه ظاهره وباطنه معدن العيب ومكان المخازي وأن الله سبحانه وتعالى
رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
1623 - (12) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحفة المؤمن الموت)) رواه البيهقي في شعب الإيمان.

(10/52)


هو العالم والواقف على ما ينشأ منها من القبائح فحق الحياء أن يستحي منه ويصونها عما يعاب فيها (رواه أحمد) (ج1ص387) (والترمذي) في الزهد (وقال) أي الترمذي (هذا حديث غريب) إنما نعرفه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد - انتهى. قلت: أبان بن إسحاق الأسدي ثقة تكلم فيه الأزدي بلا حجة. وثقة العقيلي، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن معين: ليس به بأس، والصباح بن محمد البجلي الأحمسي ضعيف، أفرط فيه ابن حبان. وقال العقيلي: في حديثه وهم، ويرفع الموقوف. وقال الذهبي في الميزان: رفع حديثين هما من قول عبدالله يعني هذا، والذي رواه أحمد في مسنده (ج1ص387) بلفظ إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم- الحديث. وحديث الباب رواه الحاكم في المستدرك (ج4ص323) ولكن سمي رواية الصباح بن محارب. قال الشيخ أحمد شاكر: وهو خطأ عجيب فليس للصباح بن محارب رواية في هذا الحديث ولا هو من هذه الطبقة بل هو متأخر عن الصباح بن محمد ثم الحديث حديث الصباح بن محمد دون شك وأعجب منه أن يوافقه الذهبي على ذكر الصباح بن محمد وعلى تصحيح الحديث- انتهى. والحاصل أن سنده ضعيف، ويؤيده ما روى عن عائشة مرفوعا بنحوه عند الطبراني في الأوسط، ذكره المنذري في الترغيب (ج4ص71).

(10/53)


1623- قوله: (وعن عبدالله بن عمرو) بالواو (تحفة المؤمن الموت) لما كانت الدنيا دار هم وبالموت يستريح الشخص من مشقة مجاهدة النفس وغيرها، وبه يصل المحبوب إلى محبة والحياة سجن كأن الموت تحفة، وهي اسم لما كان به العبد من النفائس. وقيل: التحفة البر واللطف والطرفة، فالمراد أن الموت لطف من الله تعالى للمؤمن وبر منه ونعمة هنيئة له يوصله إلى جنته وقربه ويذهب عنه مشقة الدنيا وشدتها. وقال الطيبي: اعلم أن الموت ذريعة إلى وصول السعادة الكبرى ووسيلة إلى نيل الدرجات العلى وهو أحد الأسباب الموصلة إلى النعيم المقيم وهو انتقال من دار إلى دار، فهو وإن كان في الظاهر فناء واضمحلالا ولكنه في الحقيقة ولادة ثانية وهو باب من أبواب الجنة منه يتوصل إليها ولو لم يكن الموت لم يكن الجنة. وفي النهاية: التحفة طرفة الفاكهة وقد تفتح الحاء ثم تستعمل في غير الفاكهة من الألطاف. قال الأزهري: أصلها وحفة فأبدلت الواو تاء يريد به ماله عند الله من الخير الذي لا يصل إليه إلا بالموت- انتهى. (رواه البيهقي إلخ) وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير، وأبونعيم في الحلية، والحاكم في المستدرك كما في الجامع الصغير، ونسبه المنذري في الترغيب والهيثمي في مجمع
1624- (13) وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن يموت بعرق الجبين)) رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
1625- (14) وعن عبيدالله بن خالد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الزوائد إلى الطبراني. قال المنذري: إسناده جيد. وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وفي الباب عن جابر عند الدارقطني كما في الكنز (ج8ص77).

(10/54)


1624 – قوله: (المؤمن يموت بعرق) بفتح العين المهملة والراء (الجبين) أي متلبسا بعرق الجبين، والحديث قد اختلف في معناه، فقيل: إن عرق الجبين يكون لما يعالج من شدة الموت فقد تبقى عليه بقية من الذنوب فيشدد عليه وقت الموت ليخلص منها أو يكون ذلك لما يشدد عليه عند الموت لتزيد درجته، والمعنى أن حالة الموت ونزوع الروح شديد عليه فهو صفة لكيفية الموت وشدته على المؤمن وقيل هو من الحياء فإنه إذا جاءته البشرى مع ما كان قد اقترف من الذنوب حصل له بذلك خجل وحياء من الله تعالى فيعرق لذلك جبينه وقيل يحتمل أن عرق الجبين علامة جعلت لموت المؤمن وإن لم يعقل معناه وقيل كناية عن كده في طلب الحلال وتضييقه على النفس بالصوم والصلاة إلى وقت الموت، والمعنى أنه يدركه الموت في حال كونه على هذه الحالة الشديدة التي يعرق منها الجبين فهو صفة للحال التي يفاجئه الموت عليها (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه) في الجنائز، وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص350، 357، 360) والحاكم في المستدرك (ج1ص361) وقال على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال بعض أهل الحديث: لا نعرف لقتادة سماعا من عبدالله بن بريدة- انتهى. قلت: قتادة بن دعامة السدوسي حافظ ثقة ثبت، لكنه مدلس ولم يصرح هنا بالتحديث. وقال البخاري: لا نعرف له سماعا من ابن بريدة، وذكره الحافظ في تهذيب التهذيب (ج8ص355) وعبدالله بن بريدة من ثقات التابعين إلا أنه تكلم في روايته عن أبيه بريدة. قال البغوي: عن محمد بن علي الجوزجاني عن أحمد أنه ضعفه فيما يروي عن أبيه. وقال إبراهيم الحربي: عبدالله أشهر من أخيه سليمان ولم يسمعا من أبيهما وفيما روى عبدالله عن أبيه أحاديث منكرة وسليمان أصح حديثا- انتهى. وله في البخاري من روايته عن أبيه فرد حديث ووافقه مسلم على إخراجه، وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات ورجال الصحيح،

(10/55)


قاله الهيثمي (ج2ص320).
1625- قوله: (وعن عبيدالله بن خالد) كذا في جميع النسخ، وهو غلط، والصواب عبيد بن خالد وهو عبيد بن خالد السلمي البهزي، صحابي مهاجري، يكنى أباعبدالله، سكن الكوفة. وروى عنه جماعة من
((موت الفجاءة أخذة الأسف)) رواه أبوداود،
الكوفيين، منهم سعد بن عبيدة، وتميم بن سلمة، شهد صفين مع علي، وبقي إلى إمرة الحجاج (موت الفجاءة) بضم الفاء والمد، أو بفتح الفاء وسكون الجيم بلا مد أي الموت بغتة. قال الجزري في النهاية: يقال فجئه الأمر وفجأه فجاءة بالضم والمد، وفاجأه مفاجأة إذا جاءه بغتة من غير تقدم سبب، وقيده بعضهم بفتح الفاء وسكون الجيم من غير مد- انتهى. (أخذة الأسف) هكذا في جميع النسخ. وفي أبي داود: أخذة أسف بدون اللام، وكذا في مسند الإمام أحمد والبيهقي، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج11ص398) والسيوطي في الجامع الصغير، وعلى المتقى في الكنز، والأسف روى بفتح المهملة بمعنى السخط والغضب، وبكسرها ككتف بمعنى الساخط والغضبان. قيل وهذه الإضافة فيه بمعنى من نحو خاتم فضة. قال الزين: لأن اسم الغضب يقع على الأخذة وقوع اسم الفضة على الخاتم يعني أن موت الفجاءة من آثار غضب الله وسخطه حيث لم يتركه، لأن يستعد للآخرة بالتوبة والعمل ولم يمرضه ليكون كفارة لذنوبه، وهذا للكافر ولمن ليس على طريقة محمودة (أي الفاسق الغير المتأهب للموت) بدليل الرواية الأخرى. قال التوربشتي: والمعنى أن موت الفجاءة من آثار غضب الرب. لأنه أخذ بغتة فلم يتفرغ لأن يستعد لمعاده على سنة من درج من عصاة الأولين. قال الله تعالى: ?أخذناهم بغتة?[الأنعام: 44] قال: والحديث مخصوص بالكفار للحديث الآخر، والظاهر أن موت الفجاءة مما لا يحمد ويستعاذ منه بالله- انتهى. قلت: روى الطبراني في الأوسط عن أبي أمامة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من موت الفجاءة وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت. قال الهيثمي: وفيه عثمان

(10/56)


بن عبدالرحمن القرشي، وهو متروك، وروى أحمد والبزار والطبراني في الكبير عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من سبع موتات موت الفجاءة ومن لدغ الحية- الحديث. قال الهيثمي: وفيه ابن لهيعة (رواه أبوداود) في الجنائز وأخرجه أيضا أحمد(ج3ص424) والبيهقي (ج3ص378) واختلف فيه على شعبة عن منصور، فرواه يحيى بن سعيد عن شعبة مرة مرفوعا مرة أخرى موقوفا من قول عبيد بن خالد، ورواه عنه روح بن عبادة فرفعه، كما في البيهقي، ورواه محمد بن جعفر عنه فوقفه، كما في مسند الإمام أحمد، والبيهقي. قال المنذري في مختصر السنن: قد روى هذا الحديث من حديث عبدالله بن مسعود (عند البيهقي واختلف في رفعه ووقفه) وأنس بن مالك وأبي هريرة وعائشة (حديث عائشة أخرجه أحمد والبيهقي والطبراني في الأوسط، وذكر البيهقي الاختلاف في رفعه ووقفه، وفيه أيضا عبيدالله بن الوليد الوصافي. قال الهيثمي: متروك) وفي كل منها مقال. وقال الأزدي: ولهذا الحديث طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المنذري: وحديث عبيد هذا رجال إسناده ثقات والوقف فيه لا يؤثر فإن مثله لا يؤخذ بالرأي وكيف وقد أسنده مرة الراوي- انتهى.
وزاد البيهقي في شعب الإيمان، ورزين في كتابه: أخذة الأسف للكافر ورحمة للمؤمن.
1626- (15) وعن أنس، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله! وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف)). رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

(10/57)


(وزاد البيهقي في شعب الإيمان ورزين في كتابه) التجريد، وقول المصنف زاد إلخ. يدل بظاهره على أن الزيادة "للكافر ورحمة للمؤمن" وقع عند البيهقي ورزين في حديث عبيد بن خالد، وفيه نظر، فإن الرواية مع الزيادة المذكورة حديث آخر مستقل مروي عن عائشة. أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي في السنن الكبرى (ج3ص379) وقد تقدم الكلام فيه آنفا (أخذة الأسف) وفي بعض النسخ: أخذة أسف، كما في البيهقي وغيره، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (للكافر) وعند البيهقي وأحمد والطبراني الفاجر وهو يعم الكافر والفاسق الغير المتأهب للموت (ورحمة) بالرفع (للمؤمن) أي المتأهب المراقب له.

(10/58)


1626- قوله: (وهو في الموت) أي في سكراته (كيف تجدك) قال ابن الملك: أي كيف تجد قلبك أو نفسك في الانتقال من الدنيا إلى الآخرة أراجيا رحمة الله أو خائفا من غضب الله (أرجو الله) أي أجدني أرجو رحمته (وإني) أي مع هذا (أخاف ذنوبي) قال الطيبي: علق الرجاء بالله والخوف بالذنب، وأشار بالفعلية إلى أن الرجاء حدث عند السياق (النزع) وبالاسمية والتأكيد بأن إلى أن خوفه كان مستمرا محققا (لا يجتمعان) أي الرجاء والخوف (في مثل هذا الموطن) أي في هذا الوقت، وهو زمان سكرات الموت ومثله كل زمان يشرف على الموت حقيقة أو حكما كوقت المبارزة وزمان القصاص ونحوهما. فلا يحتاج إلى القول بزيادة المثل. وقال الطيبي: مثل زائدة، والموطن إما مكان أو زمان كمقتل الحسين رضي الله تعالى عنه (ما يرجو) أي من الرحمة (وآمنه مما يخاف) أي من العقوبة بالعفو والمغفرة. قال السندي: والحديث يدل على أنه ينبغي وجود الأمرين (الرجاء والخوف) على الدوام حتى في ذلك الوقت (أي وقت الإشراف على الموت) وأنه لا ينبغي أن يغلب في ذلك الوقت بحيث لا يبقي من الخوف شيء- انتهى. فالحديث مؤيد لمن قال لا يهمل عند الإشراف على الموت جانب الخوف أصلا بحيث يجزم أنه آمن، وفيه رد على من استحب الاقتصار على الرجاء في ذلك الوقت. والله تعالى اعلم (رواه الترمذي) في الجنائز (وابن ماجه) في الزهد، وأخرجه أيضا ابن السني
?الفصل الثالث?
1627- (16) عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عزوجل الإنابة)) رواه أحمد.
1628- (17) وعن أبي أمامة، قال: جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ورققنا،

(10/59)


في اليوم والليلة (ص172) وابن أبي الدنيا كلهم من رواية جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت عن أنس. قال الترمذي: حديث غريب. وقد روى بعضهم هذا الحديث عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا- انتهى. وقال المنذري في الترغيب: إسناده حسن، فإن جعفرا صدوق صالح، احتج به مسلم، وتكلم فيه الدارقطني وغيره- انتهى.
1627- قوله: (لا تمنوا الموت) بحذف إحدى التائين (فإن هول المطلع) بضم الميم وتشديد الطاء وفتح اللام موضع الإطلاع من إشراف إلى انحدار، والمراد ما يطلع عليه العبد من أهوال الآخرة في مواقف القيامة، أو أمور بطلع عليها عقب الموت من أحوال البرزخ (شديد) أي لا فائدة في تمني الموت إلا تمني الشدائد والآلام، وليس هذا من شأن العاقل (وإن من السعادة) أي العظمى (أن يطول عمر العبد) بضم الميم ويسكن (ويرزقه الله عزوجل الإنابة) أي الرجوع والإقبال إليه. قال في النهاية: المطلع مكان الإطلاع من موضع عال يقال مطلع هذا الجبل من موضع كذا أي ماتأه ومصعده يريد به ما يشرف عليه من سكرات الموت وشدائده، فشبهه بالمطلع الذي يشرف عليه من موضع عال. قال الطيبي: علل النهي عن تمني الموت أولا بشدة المطلع، لأنه إنما يتمناه من قلة صبر وضجر فإذا جاءه متمناه يزداد ضجرا على ضجر فيستحق مزيد سخط، وثانيا بحصول السعادة في طول العمر لأن الإنسان إنما خلق لاكتساب السعادة السرمدية ورأس ماله العمر، وهل رأيت تاجرا يضيع رأس ماله فإذا بم يربح إذا ضيعه- انتهى. وقال ميرك: يجوز أن يكون المراد من المطلع زمان إطلاع ملك الموت أو المنكر والنكير أو زمان إطلاع الله تعالى بصفة الغضب في القيامة أو زمان الإطلاع على أمور تترتب على الموت (رواه أحمد) (ج3ص332) بإسناد حسن، وأخرجه أيضا البيهقي وابن منيع وعبد بن حميد، وعزاه الهيثمي (ج10ص203) لأحمد والبزار، وقال: إسناده حسن.

(10/60)


1628- قوله: (جلسنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي متوجهين إليه (فذكرنا) بالتشديد من التذكير أي العواقب أو وعظنا (ورققنا) من الترقيق أي رقق أفئدتنا بالتذكير، قاله الطيبي. وقيل: أي زهدنا في الدنيا
فبكا سعد بن أبي وقاص، فأكثر البكاء، فقال: يا ليتني مت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا سعد! أعندي تتمنى الموت؟! فردد ذلك ثلاث مرات، ثم قال: يا سعد! إن كنت خلقت للجنة فما طال عمرك وحسن من عملك، فهو خير لك)). رواه أحمد.
1629- (18) وعن حارثة بم مضرب،

(10/61)


ورغبنا في الأخرى (يا ليتني مت) بضم الميم وكسرها أي في الصغر أو قبل ذلك مطلقا حتى استريح مما اقترفت (أعندي) بهمزة الاستفهام للإنكار (تتمنى الموت) يعني لتمنيه بعدي وجه في الجملة، وأما مع وجودي فكيف يطلب العدم، قاله القاري. وقيل تتمنى الموت وقد نهيت عن تمنيه لما فيه من النقص من الأجر والدرجات التي تحصل بسبب كثرة العمل وحسنه في طول العمر. وقيل: المراد بحضرتي وحياتي تتمنى الموت وحضورك عندي ومشاهدتك لجمالي وكمالي خير لك من الموت وإن حصل لك بعد الموت درجات فكل ذلك لا يوازي النظر إلى وجهي (فردد) أي النبي صلى الله عليه وسلم (ذلك) أي يا سعد إلخ (ثلاث مرات) لتأكيد الإنكار (إن كنت) أي لا وجه لتمني الموت فإنك إن كنت (خلقت للجنة فما طال عمرك) قال الطيبي: ما مصدرية والوقت مقدر، ويجوز أن تكون موصولة والمضاف محذوف أي الزمان الذي طال فيه عمرك (وحسن من عملك) قال الطيبي: "من" زائدة على مذهب الأخفش أو تبعيضية أي حسن بعض عملك (فهو) أي ما ذكر من طول العمر وحسن العمل قال الطيبي: الفاء داخلة على الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط (خير لك) زاد الطبراني فيه، وإن كنت خلقت للنار فبئس الشيء تتعجل إليه. قال الطيبي: فإن قيل هو من العشرة المبشرة فكيف قال إن كنت أجيب بأن المقصود التعليل لا الشك أي كيف تتمنى الموت عندي وأنا بشرتك بالجنة، أي لا تتمن لأنك من أهل الجنة وكلما طال عمرك زادت درجتك. ونظيره في التعليل قوله تعالى: ?ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين?[آل عمران: 139] فقيل له: الشهادة خير لك مما طلبت، وهي إنما تحصل بالجهاد، ويعضده ما ورد في المتفق عليه عن سعد أنه قال أخلف بعد أصحابي قال صلى الله عليه وسلم إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضربك آخرون- انتهى. وقيل: يحتمل أن هذا الحديث وقع البشارة (رواه أحمد) (ج5ص267) وأخرجه

(10/62)


أيضا الطبراني وابن عساكر، وفيه علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف لكن الحديث يؤيده ما جاء من الأحاديث في طول عمر المؤمن والنهي عن تمنيه الموت.
1629- قوله: (وعن حارثة) بالحاء المهملة والثاء المثلثة (بن مضرب) بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء المكسورة العبدى الكوفي، ثقة من كبار التابعين غلط من نقل عن ابن المديني أنه تركه
قال: دخلت على خباب وقد اكتوى سبعا، فقال: لو لا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يتمن أحدكم الموت لتمنيته، ولقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أملك درهما، وإن في كل جانب بيتي الآن لأربعين ألف درهم، قال: ثم أتى بكفنه، فلما رآه بكى، وقال: لكن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء

(10/63)


(دخلت على خباب) بالموحدتين الأولى مثقلة ابن الأرت بهمزة وراء مفتوحتين، وشدة مثناة فوق تميمي سبى في الجاهلية وبيع بمكة ثم حالف بني زهرة وأسلم قبل أن يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم. قيل: إنه أسلم سادس ستة، وهو أول من أظهر إسلامه، فعذب عذابا شديدا لذلك ذكر أن عمر بن الخطاب سأله عما لقي في ذات الله فكشف عن ظهره فقال عمر ما رأيت كاليوم قال خباب لقد أوقدت لي نار وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري، شهد بدرا والمشاهد كلها وكان قينا في الجاهلية يعمل السيوف، ونزل الكوفة، ومات بها سنة (37) منصرف علي رضي الله عنه من صفين وصلى عليه علي رضي الله عنه، وقيل: لما رجع على من صفين مر على قبر خباب فقال رحم الله خبابا، أسلم راغبا وهاجر طائعا وعاش مجاهدا وابتلى في جسمه أحوالا ولن يضيع الله أجره (وقد اكتوى) من الكي، وهو إحراق الجلد بحديدة ونحوها (سبعا) أي في سبع مواضع من بدنه. وفي رواية الترمذي: وقد اكتوى في بطنه. قال الطيبي: الكي علاج معروف في كثير من الأمراض، وقد ورد النهي عن الكي، فقيل النهي لأجل أنهم كانوا يرون أن الشفاء منه. وأما إذا اعتقد أنه سبب ,ان الشافي هو الله فلا بأس به، ويجوز أن يكون النهي من قبل التوكل، وهو درجة أخرى غير الجواز- انتهى. ويؤيده حديث لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون (لا يتمن) بصيغة النهي وفي رواية أخرى لأحمد: لا يتمنى (أحدكم الموت) أي لضر نزل به (لتمنيته) أي لأستريح من شدة المرض الذي من شأن الجبلة البشرية أن تنفرد منه ولا تصبر عليه (لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أملك درهما) كأكثر الصحابة لأن الفتوحات العظيمة لم تقع إلا بعد ألا ترى أن عبدالله بن أبي السرح لما افتتح افرقية في زمن عثمان بلغ سهم الفارس فيه ثلاثة آلاف دينار (قال) أي حارثة (ثم أتى) على بناء المفعول (بكفنه) وكان نفيسا من الأقمشة (فلما رآه) أي ما هو

(10/64)


عليه من الحسن والبهاء (بكى) قال الطيبي: كأنه اضطر إلى تمنى الموت إما من ضر أصابه فاكتوى بسببه أو غنى خاف منه والظاهر الثاني، ولذا عقبه بالجملة القسمية، وبين فيها تغير حالتيه حالة صحبته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحالته يومئذ ثم قال حاله في جودة الكفن على حال عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تكفينه و(لكن حمزة) عم رسول الله صلى الله عليه وسلم (لم يوجد له كفن إلا بردة) بالرفع على البدلية (ملحاء) بفتح الميم وسكون اللام أي فيها خطوط بيض وسود
إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإذخر)). رواه أحمد، والترمذي، إلا أنه لم يذكر: ثم أتى بكفنه إلى آخره.
(3) باب ما يقال عند من حضره الموت
?الفصل الأول?
1630- 1631- (1- 2) عن أبي سعيد، وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقنوا موتاكم

(10/65)


(إذ جعلت) أي البردة (على رأسه قلصت) بفتحتين أي قصرت وانكشفت واجتمعت وانضمت (حتى مدت) بضم الميم أي وضعت ممدودة (وجعل على قدميه الإذخر) حشيشة معروفة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب وتجعل في القبور. قال الطيبي: لكن تستدعى المخالفة بالنفي والإثبات بين الكلامين لفظا أو معنى، فأين المخالفة بينهما. قلت: المعنى إني تركت متابعة أولئك السعادة الكرام وما اقتفيت أثرهم حيث هيأت لكفني مثل هذا الثوب النفيس لكن حمزة سار بسيرهم فما وجد ما يواريه حيث جعل على قدميه الإذخر- انتهى. (رواه أحمد) (ج5ص111وج6ص395- 396) (والترمذي) في الجنائز (إلا أنه) أي الترمذي (لم يذكر ثم أتى بكفنه إلى آخره) لحديث حارثة بن مضرب ثلاث طرق: الأولى طريق شريك عن أبي إسحاق عن حارثة عند أحمد (ج5ص109) اقتصر فيها على ذكر النهي عن تمني الموت. والثانية طريق شعبة عن أبي إسحاق، وهي عند الترمذي، وكذا عند أحمد (ج5ص110). والثالثة طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، وهي عند أحمد (ج6ص395- 396) وهي التي ذكر لفظها في المشكاة.
(باب ما يقال عند من حضره الموت) أي علامته.
1630- 1631- قوله: (لقنوا) أي ذكروا (موتاكم) أي الذين هم في سياق الموت سماهم الموتى، لأن الموت قد حضر لهم. قال الطيبي: أي من قرب منكم الموت سماه باعتبار ما يؤل إليه مجازا، وعليه يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: اقرؤا على موتاكم يس- انتهى. ويدل عليه أن ابن حبان روى هذا الحديث عن أبي هريرة
لا إله إلا الله)) رواه مسلم.

(10/66)


باللفظ المذكور وزاد فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة يوما من الدهر وإن أصابه ما أصاب قبل ذلك، ذكره الحافظ في التلخيص. وقال فيه: وروى من حديث عطاء بن السائب عن أبيه عن جده بلفظ: من لقن عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة- انتهى. والتلقين أن يذكره عنده ويقوله بحضرته ويتلفظ به عنده حتى يسمع ليتفطن فيقوله لا أن أن يأمره به ويقول قل لا إله إلا الله إلا أن يكون كافرا فيقول له قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب وللغلام اليهودي. والمقصود من هذا التلقين أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله كما في الحديث الآتي في الفصل الثاني من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، ولذلك قالوا إذا قال مرة لا تعاد عليه إلا أن يتكلم بكلام آخر. وفي الترمذي: روى عن ابن المبارك أنه لما حضرته الوفاة جعل رجل يلقنه لا إله إلا الله ويكثر عليه فقال له عبدالله إذا قلت ذلك مرة فإنا على ذلك ما لم أتكلم بكلام. قال النووي: والأمر بهذا التلقين أمر ندب، وأجمع العلماء على هذا التلقين وكرهوا الإكثار عليه والموالاة لئلا يضجر بضيق حاله وشدة كربه فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بما لا يليق - انتهى. وقال القاري: الجمهور على أنه يندب هذا التلقين، وظاهر الحديث يقتضي وجوبه وذهب إليه جمع بل نقل بعض المالكية الاتفاق عليه- انتهى. (لا إله إلا الله) قيل: أي ومحمد رسول الله، فالمراد كلمتا الشهادة. قال الزين بن المنير: قول لا إله إلا الله لقب جري على النطق بالشهادتين شرعا- انتهى. وقال الدميري: نقل في الروضة عن الجمهور الاقتصار على لا إله إلا الله، ونقل جماعة من الأصحاب أنه يضيف إليها محمد رسول الله، لأن المراد ذكر التوحيد، والمراد موته مسلما ولا يسمى مسلما إلا بهما والأول أصح. أما إذا كان المحتضر كافرا فينبغي الجزم بتلقين الشهادتين لأنه لا يصير مسلما إلا بهما، كذا في السراج المنير. قلت:

(10/67)


كلمة لا إله إلا الله كلمة إسلام وكلمة ذكر فإذا قالها الكافر ليدخل في الإسلام، فهي كلمة إسلام وكلمة الإسلام هي كلمتا الشهادة جميعا، وإذا ذكر بها المسلم فهي ذكر كسائر الأذكار، كما قال صلى الله عليه وسلم أفضل الذكر لا إله إلا الله، والظاهر أن المراد في حديث الباب تلقينها من حيث أنها كلمة ذكر فلا يشترط قول محمد رسول الله عند المحتضر فإنه ليس بذكر وإن كان ركن الإسلام، والمراد بموتاكم موتى المسلمين. وأما موتى غيرهم فيعرض عليهم الإسلام كما عرضه عليه السلام على عمه عند السياق وعلى الغلام الذمي الذي كان يخدمه. قال في المجموع: يذكر عند المحتضر لا إله إلا الله بلا زيادة عليها فلا تسن زيادة محمد رسول الله لظاهر الأخبار وقيل: تسن زيادته لأن المقصود بذلك التوحيد، ورد بأن هذا موحد، ويؤخذ من هذه العلة ما بحثه الأسنوي: أنه لو كان كافرا لقن الشهادتين وأمر بهما، قال القسطلاني (رواه مسلم) في الجنائز، والحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير. وقال: رواه أحمد، ومسلم والأربعة (الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه)
1632- (3) وعن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حضرتم المريض، أو الميت فقولوا خيرا، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون)) رواه مسلم.
1633- (4) وعنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به
عن أبي سعيد ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة والنسائي عن عائشة- انتهى. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، كما في مجمع الزوائد والنيل. قال العقيلي: روى في الباب أحاديث صحاح عن غير واحد من الصحابة.

(10/68)


1632- قوله: (وعن أم سلمة) أم المؤمنين (إذا حضرتم المريض أو الميت) أي الحكمي، وهو المحتضر فأو للشك أو الحقيقي فأو للتنويع، قاله القاري. وفي أبي داود والبيهقي: إذا حضرتم الميت من غير ذكر المريض (فقولوا خيرا) قال السندي: أي أدعوا له بالخير لا بالشر أو أدعوا بالخير مطلقا لا بالويل ونحوه والأمر للندب، ويحتمل أن المراد فلا تقولوا شرا فالمقصود النهي عن الشر بطريق الكناية لا الأمر بالخير- انتهى. وقال المظهر: أي ادعوا للمريض بالشفاء وقولوا: اللهم اشفه وللميت بالرحمة والمغفرة وقولوا اللهم اغفر له وارحمه (فإن الملائكة) أي ملك الموت وأعوانه أو غيره (يؤمنون) بالتشديد من التأمين أي يقولون آمين (على ما تقولون) أي من الدعاء خيرا أو شرا ودعاء الملائكة مستجاب، وفي الحديث الندب إلى قول الخير حينئذ من الدعاء والاستغفار وطلب اللطف به والتخفيف عنه ونحوه، وفيه حضور الملائكة حينئذ وتأمينهم، قاله النووي. (رواه مسلم) في الجنائز مطولا. وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص384) وابن أبي شيبة (ج4 ص74).

(10/69)


1633- قوله: (ما من مسلم تصيبه مصيبة) أي مصيبة كانت لقوله - صلى الله عليه وسلم - كل شيء ساء المؤمن فهو مصيبة رواه ابن السني، قاله الزرقاني. (فيقول ما أمره الله به) المراد بالأمر الندب بالترغيب فيه وترتيب الأجر فإنه بمنزلة الندب وإلا فلا أمر في قوله تعالى: ?وبشر الصابرين? الآية [البقرة:155? وقال الآبي: يحتمل الأمر أنه بوحي في غير القرآن، ويحتمل أن الأمر مفهوم من الثناء على قائل ذلك، لأن المدح على الفعل يستلزم الأمر به. وقال الباجي: لم يرد لفظ الأمر بهذا القول، لأنه إنما ورد القرآن بتبشير من قاله والثناء عليه، ويحتمل أن يشير إلى غير القرآن فيخبر صلى الله عليه وسلم عن أمر الباري لنا بذلك، ولذا وصله بقوله اللهم أجرني إلخ. وقال الطيبي: فإن قلت أين الأمر في الآية؟ قلت: لما أمره بالبشارة وأطلقها ليعم كل مبشر به، وأخرجه مخرج الخطاب ليعم كل أحد نبه على تفخيم الأمر وتعظيم شأن هذا القول، فنبه بذلك على كون القول مطلوبا وليس الأمر
إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها. فلما مات أبوسلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(10/70)


إلا طلب الفعل. وأما التلفظ بذلك مع الجزع فقبيح وسخط للقضاء. وقال القاري: والأقرب أن كل ما مدح الله تعالى في كتابه من خصلة يتضمن الأمر بها، كما أن المذمومة فيه تقتضي النهي عنها (إنا) بدل من ما أي إن ذواتنا وجميع ما ينسب إلينا (لله) ملكا وخلقا (وإنا إليه راجعون) في الآخرة (اللهم) ظاهره أنه من جملة ما أمره الله به، كما تقدم عن الباجي. قال ابن حجر: الظاهر أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلم أمته أنه أمرهم أن يقولوا ذلك كله بخصوصه (أجرني) بسكون الهمزة وضم الجيم وبالمد وكسر الجيم على أنه من باب الأفعال. قال في النهاية: أجره يوجره إذا أثابه وأعطاه الأجر والجزاء، وكذلك اجره يأجره والأمر منها آجرني وأجرني (في مصيبتي) قال القاري: الظاهر أن في بمعنى باء السببية (واخلف لي خيرا منها) أي اجعل لي خلفا مما فات عني في هذه المصيبة خيرا من الفائت فيها، ففي الكلام تجوز وتقدير. قال في النهاية: يقال خلف الله لك خلفا بخير واخلف عليك خيرا أي أبدلك بما ذهب منك وعوضك عنه. وقيل: إذا اذهب للرجل ما يخلفه مثل المال والولد. قيل: أخلف الله لك وعليك وإذا ذهب له ما لا يخلفه غالبا كالأب والأم. قيل: خلف الله عليك، وقد يقال: خلف الله عليك إذا مات لك ميت أي كان الله خليفة عليك وأخلف الله عليك أي أبدلك- انتهى. وقال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: واخلف لي هو بقطع الهمزة وكسر اللام، قال أهل اللغة: يقال لمن ذهب له مال أو ولد أو قريب أو شيء يتوقع حصول مثله أخلف الله عليك أي رد عليك مثله فإن ذهب ما لا يتوقع مثله بأن ذهب والد أو عم أو أخ لمن لا جد له ولا والد له. قيل: خلف الله عليك بغير ألف كان الله خليفة منه عليك - انتهى. (فلما مات أبوسلمة) تعني زوجها عبدالله بن عبدالأسد المخزومي (قلت) في نفسي أو باللسان تعجبا (أي المسلمين خير) وفي رواية لمسلم: من خير من أبي سلمة. قال الطيبي:

(10/71)


تعجب من تنزيل قوله صلى الله عليه وسلم: إلا أخلف الله خيرا منها على مصيبتها استعظاما لأبي سلمة انتهى يعني على زعمها (أول بيت) استئناف فيه بيان للتعجب وتعليل له، والتقدير فإنه أول بيت أي أول أهل بيت (هاجر) أي مع عياله، قاله القاري. وقال الآبي: تعجبت أم سلمة لاعتقادها أنه لا أخير من أبي سلمة ولم تطمع أن يتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو خارج من هذا العموم وتعني بقولها من خير من أبي سلمة بالنسبة إليها فلا يكون خيرا من أبي بكر، لأن الأخير في ذاته قد لا يكون خيرا لها، ويحتمل أن تعني أنه خير مطلقا والإجماع على أفضلية أبي بكر إنما هو على من تأخرت وفاته
ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم)). رواه مسلم.
1634- (5) وعنها، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه سلم على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله،
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهل هو أفضل ممن تقدمت وفاته، فيه خلاف فلعلها أخذت بأحد القولين وقولها أول بيت هاجر يدل على أنه أرادت أنه أفضل مطلقا بالنسبة إليها- انتهى. والظاهر أن الخيرية بالنسبة إليها وباعتبار نفسها والله اعلم. (ثم إني قلتها) أي كلمة الاسترجاع والدعاء المذكور بعدها (فأخلف الله لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي بأني جعلني زوجته وكان عوض خير لي من زوجي أبي سلمة (رواه مسلم) في الجنائز، وأخرجه أيضا مالك وأبوداود فيه، والنسائي في اليوم والليلة، وأخرجه الترمذي في الدعوات وابن ماجه في الجنائز عن أم سلمة عن أبي سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

(10/72)


1634- قوله: (وقد شق بصره) أي بقي بصره منفتحا. قال النووي: هو بفتح الشين ورفع بصره، وهو فاعل شق، هكذا ضبطناه وهو المشهور، وضبطه بعضهم بصره بالنصب وهو صحيح أيضا والشين مفتوحة بلا خلاف قال القاضي: قال صاحب الأفعال يقال شق بصر الميت وشق بصر الميت وشق الميت بصره، ومعناه شخص، كما في حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعا: ألم تروا أن الإنسان إذا مات شخص بصره قالوا بلى قال: فذلك حين يتبع بصره نفسه. وقال ابن السكيت في الإصلاح، والجوهري حكاية عن ابن السكيت: يقال شق بصر الميت ولا يقال شق الميت بصره (يعني أن شق ههنا لازم لا متعد بمعنى انفتح لا فتح) وهو الذي حضره الموت وصار ينظر إلى الشيء لا يرتد إليه طرفه- انتهى. (فأغمضه) أي غمض رسول الله صلى الله عليه وسلم عيني أبي سلمة لئلا يقبح منظره، والإغماض بمعنى التغميض والتغطية (إن الروح إذا قبض تبعه البصر) يحتمل أن يكون علة للإغماض كأنه قال أغمضته لأن الروح إذا خرج من الجسد تبعه البصر في الذهاب فلم يبق لانفتاح بصره فائدة، وأن يكون بيانا لسبب الشق، والمعنى أن المحتضر يتمثل له ملك الموت فينظر إليه ولا يرتد طرفه حتى تفارقه الروح ويضمحل بقايا قوى البصر فيبقى البصر على تلك الهيئة. قال التوربشتي: يحتمل هذا وجهين: أحدهما أن الروح إذا قبض تبعه البصر أي في الذهاب، فلهذا أغمضته لأن فائدة الانفتاح ذهبت بذهاب البصر عند ذهاب الروح، والوجه الآخر أن روح الإنسان إذا قبضها الملائكة نظر إليها الذي حضره الموت نظرا شزرا لا يرتد إليه طرفه حتى يضمحل بقية القوة الباصرة الباقية بعد مفارقة الروح الإنساني التي يقع لها الإدراك والتمييز دون الحيواني الذي به الحس والحركة وغير مستنكر من قدرة الله تعالى أن يكشف عنه الغطاء ساعتئذ حتى يبصر مالم يكن يبصره وهذا الوجه في حديث أبي هريرة (يعني الذي تقدم في كلام النووي) أظهر (فضج) بالجيم المشددة أي رفع الصوت بالبكاء وصاح (ناس من

(10/73)


أهله) أي من أهل أبي سلمة
فقال: ((لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه)). رواه مسلم.
1635- (6) وعن عائشة، قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفي سجى ببرد حبرة. متفق عليه.
?الفصل الثاني?
1636- (7) وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان آخر كلامه
(لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير) أي لا تدعوا بالويل والثبور على عادة الجاهلية (فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) أي في دعائكم من خير أو شر (وارفع درجته في المهديين) بتشديد الياء الأولى، أي الذين هداهم الله إلى الإسلام سابقا (واخلفه) بهمزة الوصل وضم اللام من خلف يخلف إذا قام مقام غيره في رعاية أمره وحفظ مصالحه أي كن خليفة له (في عقبه) بكسر القاف، قال الطيبي: أي أولاده، وقيل: أي من يعقبه ويتأخر عنه من ولد وغيره، ولذا أبدل عن عقبه بقوله (في الغابرين) بإعادة الجار، وقال الطيبي: أي الباقين في الأحياء من الناس فقوله: في الغابرين حال من عقبه أي أوقع خلافتك في عقبه كائنين في جملة من الباقين من الناس (وافسح) أي وسع (له في قبره) دعاء بعدم الضغطة، قاله القاري. (ونور له فيه) أي في قبره أراد به دفع الظلمة، وفي الحديث دليل لمن يقول إن الأرواح أجسام لطيفة متحللة في البدن وتذهب الحياة من الجسد بذهابها وليس عرضا كما يقوله آخرون، وفيه دليل على أنه يدعى للميت عند موته ولأهله ولعقبه بأمور الآخرة والدنيا، وفيه دلالة على أن الميت ينعم في قبره أو يعذب (رواه مسلم) الأخصر أن يجمل ويقول روى الأحاديث الأربعة مسلم. وحديث أم سلمة هذا أخرجه أيضا أبوداود، وابن ماجه، والبيهقي (ج3ص384).

(10/74)


1635- قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي) بصيغة المجهول (سجى) بضم السين وبعدها جيم مشددة مكسورة أي غطى وستر بعد الموت قبل الغسل (ببرد حبرة) بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة بعدها راء مهملة فتاء تأنيث وزن عتبة، وهي برد قطن يماني موشي مخطط، والبرد يجوز إضافته إليها ووصفه بها. وفيه استحباب تسجية الميت قبل الغسل. قال النووي: وهو مجمع عليه، وحكمته صيانة الميت عن الانكشاف وستر صورته المتغيرة عن الأعين (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد، وأبوداود، والنسائي، وللبيهقي (ج3ص385).
1636- قوله: (من كان آخر كلامه) أي عند خروجه من الدنيا. قال القاري: برفع آخر. وقيل: بنصبه
لا إله إلا الله، دخل الجنة)) رواه أبوداود.
1637 - (8) وعن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرأوا سورة يس على موتاكم))

(10/75)


وقوله (لا إله إلا الله) محله النصب أو الرفع على الخبرية أو الاسمية. وقال القسطلاني: وآخر بالنصب لأبي ذر خبر كان تقدم على اسمها وهو لا إله إلا الله، وساغ كونها مسندا إليها مع أنها جملة، لأن المراد بها لفظها فهي في حكم المفرد. ولغير أبي ذر آخر بالرفع اسم كان- انتهى. قيل: المراد بقول: لا إله إلا الله الشهادتان؛ لأنه علم لهما. قال الحافظ: والمراد بقول: لا إله إلا الله في هذا الحديث وغيره كلمتا الشهادة، فلا يرد إشكال ترك ذكر الرسالة. قال الزين بن المنير: قول لا إله إلا الله لقب جري على المنطق بالشهادتين شرعا- انتهى. قلت: الظاهر أن المراد به كلمة التوحيد فقط، أي من غير زيادة محمد رسول الله، لأن المطلوب قولها عند الموت من حيث أنها كلمة ذكر لا من حيث أنها كلمة إسلام كما سبق تحقيقه في شرح حديث التلقين (دخل الجنة) أي قبل العذاب دخولا خاصا أو بعد أن عذب بقدر ذنوبه والأول الأظهر ليتميز عن غيره من المؤمنين الذين لم يكن آخر كلامهم هذه الكلمة، قاله القاري. وقال ابن رسلان: معنى ذلك أنه لابد له من دخول الجنة فإن عاصيا غير تائب فهو في أول أمره في خطر المشيئة. يحتمل أن يغفر الله له، ويحتمل أن يعاقبه ويدخل الجنة بعد العقاب، ويحتمل أن يكون من وفق لأن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله، يكون ذلك علامة على أن الله تعالى يعفو عنه فلا يكون في خطر المشيئة تشريفا له على غيره ممن لم يوفق أن يكون آخر كلامه ذلك- انتهى. قلت: الاحتمال الثاني أي احتمال أن قول ذلك عند الموت علامة على عفو الله تعالى عنه ومسقط لما تقدم له، هو الراجح عندي، فيدخل قائلها عند الموت الجنة قبل العذاب مع السابقين والله تعالى اعلم، ولأجل ذلك يستحب أن تذكر هذه الكلمة عند من حضره الموت ليتفطن لها ويتكلم بها فتكون آخر كلامه ويدخل الجنة (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج1ص351) وسكت عنه أبوداود، والمنذري، وصححه الحاكم، ووافقه

(10/76)


الذهبي. وقال الحافظ في التلخيص: وأعله ابن القطان بصالح بن أبي عريب، وأنه لا يعرف وتعقب بأنه روى عن جماعة، وذكره ابن حبان في الثقات-انتهى. وفي الباب عن علي رواه الطبراني في الأوسط وفيه أبوبلال الأشعري، ضعفه الدارقطني. وفي الباب أيضا أحاديث أخرى، ذكرها الحافظ في التلخيص، والهيثمي في مجمع الزوائد.
1637- قوله: (وعن معقل) بفتح الميم وسكون المهملة وكسر القاف (بن يسار) المزني صحابي أسلم قبل الحديبية وشهد بيعة الرضوان، وكنيته أبوعلي المشهور وهو الذي حفر وفجر نهر معقل بالبصرة بأمر عمر فنسب إليه ونزل البصرة وبنى بها دارا ومات بها في آخر خلافته معاوية، وقيل في ولاية يزيد وذكره البخاري في الأوسط في فصل من مات بين الستين إلى السبعين (اقرؤا سورة يس على موتاكم) أي على من حضره مقدمات الموت، لأن الميت
رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه.

(10/77)


لا يقرأ عليه. وقيل لأن سورة يس مشتملة على أصول العقائد من البعث والقيامة فيتقوى بسماعها التصديق والإيمان حتى يموت. وقيل: المراد به من قضى نحبه، وهو في بيته أو دون مدفنه أو في القبر، لأن اللفظ نص في الأموات وتناوله للحي المحتضر مجاز فلا يصار إليه إلا لقرينة. وقيل: الأولى الجمع عملا بالقولين. والراجح عندي هو الأول، لما روى أحمد (ج4ص105) عن أبي المغيرة ثنا صفوان حدثني المشيخة: أنهم حضروا غضيف بن الحارث الثمالي حين اشتد سوقه فقال: هل منكم أحد يقرأها يس؟ قال: فقرأها صالح بن شريح السكوني فلما بلغ أربعين منها قبض، قال: فكان المشيخة يقولون إذا قرئت عند الميت خفف عنه بها. قال الحافظ في التلخيص: وأسنده صاحب الفردوس (الديلمي) من طريق مروان بن سالم عن صفوان بن عمرو عن شريح عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من ميت يموت فيقرأ عنده يس إلا هون الله عليه- انتهى. قال الأمير اليماني بعد ذكر الحديثين: وهذان يؤيدان ما قاله ابن حبان من أن المراد به المحتضر، وهما أصرح في ذلك مما استدل به. وقال في اللمعات: الظاهر أن المراد المحتضر، وعليه العمل. وقال ابن القيم في كتاب الروح (ص14): حديث معقل يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله: لقنوا موتكم لا إله إلا الله، ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر والأول أظهر لوجوه: أحدها: أنه نظير قوله: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله. الثاني: انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله: ?يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين?. فيستبشر الروح بذلك فيحب لقاء الله فيحب الله لقاءه، فإن هذه السورة قلب القرآن، ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر. الثالث: أن هذا عمل الناس وعادتهم قديما وحديثا يقرؤن يس عند المحتضر. الرابع: أن الصحابة لو فهموا من

(10/78)


قوله - صلى الله عليه وسلم - اقرؤا يس عند موتاكم قراءتها عند القبر لما أخلوا به وكان ذلك أمرا معتادا مشهورا بينهم. الخامس: أن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود، وأما قراءتها عند القبر فإنه لا يثاب على ذلك، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع وهو عمل وقد انقطع من الميت- انتهى. (رواه أحمد) (ج5ص26- 27) (وأبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم (ج1ص565) والبيهقي (ج3ص383) وابن أبي شيبة (ج4ص74) كلهم من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان غير النهدي عن أبيه عن معقل بن يسار، وعزاه الحافظ في التلخيص وبلوغ المرام والمنذري في تلخيص السنن للنسائي أيضا. قال الحافظ: ولم يقل النسائي عن أبيه، ونقل في العون عن المزي أن الحديث أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة. والحديث قد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري أبوعثمان وأبوه ليسا بمشهورين. وقال الحافظ: أعله ابن القطان بالاضطراب وبالوقف وبحهالة حال أبي عثمان وأبيه، ونقل أبوبكر بن العربي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصح في الباب حديث - انتهى. وقال النووي
1638- وعن عائشة، قالت: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون وهو ميت، وهو يبكي حتى سال دموع النبي صلى الله عليه وسلم على وجه عثمان))رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.
1639- وعنها، قالت: ((إن أبابكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم
في الأذكار: إسناده ضعيف. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: أبوعثمان وليس بالنهدي. قيل: اسمه سعد روى عن معقل بن يسار. وقيل: عن أبيه عن معقل روى عنه سليمان التيمي. قال ابن المديني: ولم يرو عنه غيره، وهو مجهول. وقال الآجري عن أبي داود: هو ابن عثمان السكنى، وذكره ابن حبان في الثقات- انتهى. وقال في التقريب: أبوعثمان شيخ لسليمان التيمي، قال في روايته عنه وليس بالنهدي. قيل اسمه سعد مقبول.

(10/79)


1638- قوله: (قبل) من التقبيل (عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة أي بعد ما غسل وكفن، كما في الاستيعاب (وهو ميت) حال من المفعول (وهو) أي النبي صلى الله عليه وسلم (يبكي حتى سال دموع النبي صلى الله عليه وسلم على وجه عثمان) لفظ الترمذي: وهو يبكي أو قالت عيناه تذرفان، وعند أبي داود: حتى رأيت الدموع تسيل، ولفظ ابن ماجه: فكأني أنظر إلى دموعه تسيل على خديه. ورواه البيهقي بلفظ: بكى حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه. وعند الحاكم: وهو يبكي قال وعيناه تهرقان. وذكر المجد بن تيمية في المنتقى بلفظ: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون، وهو ميت حتى رأيت الدموع تسيل على وجهه، وعزاه لأحمد وابن ماجه والترمذي. وهذه الروايات كما ترى ليس فيها تصريح أنه سال الدموع على وجه عثمان بل هي تحتمل أنه سال الدموع على خدي النبي صلى الله عليه وسلم أو على خدي عثمان، ولم أقف على رواية تعين الاحتمال الثاني أو تؤيده، والحديث يدل على أن تقبيل المسلم بعد الموت والبكاء عليه جائز (رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج1ص361) والبيهقي (ج3ص407) وسكت عنه أبوداود، وصححه الترمذي. وقال المنذري بعد نقل تصحيح الترمذي، وفي إسناد الحديث عاصم بن عبيدالله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة- انتهى. ورواه البزار من حديث عامر بن ربيعة قال الهيثمي: إسناده حسن.
1639- قوله: (إن أبابكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم) أي بين عينيه، كما في رواية النسائي، والترمذي في الشمائل. وفي رواية للبخاري: كشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبله. وفي رواية لأحمد: أتاه من قبل رأسه فحدر فاه فقبل جبهته ثم قال: وانبياه ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واصفياه ثم رفع رأسه وحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واخليلاه. ولابن أبي شيبة عن ابن عمر: فوضع فاه على جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم

(10/80)


وهو ميت)) رواه الترمذي، وابن ماجه.
1640- (11) وعن حصين بن وحوح، أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال: ((إني لا أرى طلحة إلا قد حدث به الموت، فآذنوني به وعجلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله)). .
فجعل يقبله ويبكي ويقول: بأبي وأمي طبت حيا وميتا: وللطبراني من حديث جابر: أن أبابكر قبل جبهته (وهو ميت) قال الحافظ: فيه جواز تقبيل الميت تعظيما وتبركا. قال الشوكاني: لأنه لم ينقل أنه أنكر أحد من الصحابة على أبي بكر فكان إجماعا- انتهى. (رواه الترمذي) أي موصولا في شمائله بلفظ: أن أبابكر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما مات. وأما في جامعه، فذكره معلقا حيث قال بعد رواية حديث عائشة المتقدم، وفي الباب عن ابن عباس وجابر وعائشة قالوا: إن أبابكر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ميت (وابن ماجه) في الجنائز، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والبيهقي (ج3ص406) وأخرجه البخاري في باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته عن عائشة وابن عباس أن أبابكر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، فالأولى بل الصواب إيراد هذا الحديث في الصحاح أي الفصل الأول.

(10/81)


1640- قوله: (وعن حصين) بضم حاء وفتح صاد مهملتين (بن وحوح) بفتح واوين وسكون حاء مهملة أولى، الأنصاري الأوسي المدني، صحابي، له حديث واحد في ذكر طلحة بن البراء، ذكر ابن الكلبي: أنه استشهد بالقادسية، كذا في تهذيب التهذيب (أن طلحة بن البراء) البلوى الأنصاري، صحابي، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مات وصلى عليه: اللهم الق طلحة وأنت تضحك إليه وهو يضحك إليك، وكان لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غلام فجعل يلصق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقبل قدميه ويقول مرني بما أحببت يا رسول الله فلا أعصي لك أمرا فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعجب به ثم مرض ومات فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبره وذلك أنه توفي البراء ليلا فقال: أدفنوني وألحقوني بربي ولا تدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أخاف عليه اليهود وأن يصاب في سببي فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح فجاء حتى وقف على قبره وصف الناس معه فصلى ودعا له (إني لا أرى) بضم الهمزة أي أظن (إلا قد حدث به الموت) أي ظهرت فيه آثار الموت ومقدماته (فآذنوني) بالمد وكسر الذال (به) أي إذا مات فأخبروني بموته حتى أصلي عليه (وعجلوا) أي تجهيزه وتكفينه (فإنه) أي الشأن (لا ينبغي لجيفة مسلم) أي جئته. وفي رواية: لجسد مسلم (أن تحبس) أي تقام وتوقف (بين ظهراني أهله) أي بين أهله والظهر مقحم أي لا تتركوا الميت زمانا طويلا لئلا ينتن ويزيد حزن أهله عليه. قال الطيبي: أن المؤمن عزيز كريم فإذا استحال جيفة ونتنا استقذرته النفوس وينفر عنه الطباع، فينبغي أن
رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?

(10/82)


1641- (12) عن عبدالله بن جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، قالوا: يا رسول الله! كيف للأحياء؟ قال: أجود وأجود)) رواه ابن ماجه.
يسرع فيما يواريه فذكر الجيفة ههنا كذكر السوأة في قوله تعالى: ?كيف يواري سوأة أخيه?[المائدة: 31] قال ميرك: وليس في قوله جيفة مسلم دليل على نجاسته- انتهى. والحديث يدل على مشروعية التعجيل بالميت والإسراع في تجهيزه، وتشهد له أحاديث الإسراع بالجنازة، قاله الشوكاني: (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا البيهقي (ج3ص386) والطبراني وابن شاهين وابن أبي عاصم وابن أبي خيثمة والبغوي وغيرهم، وسكت عنه أبوداود، وفيه عروة بن سعيد الأنصاري، ويقال عزرة بن سعيد عن أبيه، وهو وأبوه مجهولان. وقال الحافظ في الإصابة في ترجمة حصين بن وحوح، وعلى ما ذكر ابن الكلبي من أنه قتل بالقادسية يكون هذا الحديث مرسلا، لأن سعيدا والد عروة لم يدرك زمن القادسية، فإما أن يكون حصين بن وحوح آخر ممن أدركهم سعيد، وإما أن يكون لم يقتل بالقادسية، كما قال ابن الكلبي- انتهى.

(10/83)


1641- قوله: (عن عبدالله بن جعفر) أي ابن أبي طالب القرشي الهاشمي، يكنى أباجعفر، ولدته أمه أسماء بنت عميس بأرض الحبشة، وهو أول مولود، ولد في الإسلام بها وقدم مع أبيه المدينة وحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه كان جوادا ظريفا خليقا عفيفا حليما يسمى بحر الجود، ويقال: أنه لم يكن في الإسلام أسخى منه وأخباره في الكرم شهيرة. وقال ابن حبان: كان يقال له قطب السخاء، روى عنه خلق كثير، توفي بالمدينة سنة (80) وهو ابن (80) سنة وقيل ابن (90) وصلى عليه أبان بن عثمان، وهو يومئذ أمير المدينة، وذلك العام يعرف بعام الجحاف لسيل كان بمكة أجحف بالحاج وذهب بالإبل وعليها الحمولة (لقنوا موتاكم) أي المشرفين على الموت (العظيم) صفة للرب أو العرش، والثاني أبلغ ووصفه بالعظمة؛ لأنه أكبر المخلوقات ومحيط بالمكونات (الحمد الله) أي على الحياة والممات (كيف) أي هذا التلقين (للأحياء) أي للأصحاء أيحسن أم لا (أجود وأجود) أي أحسن وأحسن كرر للتأكيد والمبالغة. قال الطيبي: التكرار للاستمرار أي جودة وهذا معنى الواو فيه (رواه ابن ماجه) وفي سنده إسحاق بن عبدالله بن
1642- (13) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء

(10/84)


جعفر، وهو مستور، روى عنه كثير بن زيد الأسلمي المدني، وهو صدوق، فيه لين، ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه ابن عمار الموصلي، ونقل السندي عن البوصيري، أنه قال في الزوائد: في إسناده إسحاق لم أر من وثقة ولا من جرحه، وكثير بن زيد، قال فيه أحمد: ما أرى به بأسا. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال مرة: ليس به بأس. وقال مرة: صالح. وقال أبوحاتم: صالح ليس بالقوى. وقال النسائي: ضعيف. وقيل: ثقة، وباقي رجاله ثقات-انتهى. والحديث أخرجه أيضا الحكيم الترمذي، والطبراني كما في الكنز (ج8ص78).

(10/85)


1642- قوله: (الميت) أي جنسه، والمراد من قرب موته (تحضره الملائكة) أي ملائكة الرحمة أو ملائكة العقوبة، قاله ابن حجر. قيل: وهذه الملائكة هم أعوان ملك الموت في قبض الأرواح، وحاصل الأحاديث في ذلك أن ملك الموت يقبض الأرواح والأعوان يكونون معه يعملون عمله بأمره والله تعالى هو الذي يزهق الروح بأمره، وبه يجمع بين الآيات والأحاديث المختلفة التي أضيف التوفي فيها تارة إلى الله تعالى، وتارة إلى ملك الموت، وتارة إلى أعوانه من الملائكة، فملك الموت يقبض الروح من الجسد بأمره تعالى، ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمنا، وملائكة العذاب إن كان كافرا وعند معاينتهم يعاين ما يصير إليه من رحمة وعذاب (صالحا) أي مؤمنا. وقيل: أو قائما بحقوق الله تعالى وحقوق عباده (أخرجي) أي من جسدك الطيب والخطاب للنفس فيستقيم هذا الخطاب مع عموم الميت للذكر والأنثى (أيتها النفس) أي الروح (كانت في الجسد الطيب) قال الطيبي: الظاهر كنت، ليطابق النداء وأخرجي لكن اعتبر اللام الموصولة أي النفس التي طابت كائنة في الجسد، ويحتمل أن يكون صفة أخرى للنفس، لأن المراد ليست نفسا معينة بل الجنس مطلقا- انتهى. (أخرجي) فيه دلالة على أن الروح جسم لطيف يوصف بالدخول والخروج والصعود والنزول، وهو خطاب ثان أو تأكيد لقوله (حميدة) أي محمودة (بروح) بفتح الراء أي راحة أو رحمة (وريحان) أي رزق أو طيب، والتنوين فيهما للتعظيم والتكثير (ورب) أي وبملاقاة رب (غير غضبان) بعدم الانصراف. وقيل: بالانصراف. قال ابن حجر: وعدل إليه عن راض رعاية للفاصلة أي السجع (فلا تزال) أي النفس (يقال لها ذلك) أي ما تقدم من أنواع البشارة زيادة في سرورها بسماعها ما تقر به عينها (ثم يعرج بها) بصيغة المجهول (إلى السماء)

(10/86)


فيفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقال: مرحبا بالنفس الطيبة: كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك، حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله، فإذا كان الرجل السوء، قال: أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، أخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فما تزال يقال لها ذلك، حتى تخرج ثم يعرج إلى السماء فيفتح لها
أي الدنيا (فيفتح لها) أي بعد الاستفتاح أو قبله، وعند أحمد: فيستفتح لها (فيقال) أي يقول ملائكة السماء (من هذا فيقولون) أي يقول ملائكة الرحمة الذين معه (فلان) أي هذا فلان أي روحه (فلا تزال) أي هي (يقال لها ذلك) أي ما ذكر من الأمر بالدخول والبشارة بالصعود من سماء إلى سماء (حتى تنتهي) أي تصل إلى السماء (التي فيها الله) أي أمره وحكمه أي ظهور ملكه وهو العرش، قاله القاري. وقيل: أي فيها يظهر ويلقي حكمه. وقيل: أي قدرته ورحمته الخاصة (فإذا كان الرجل) بالرفع. وقيل: بالنصب على أن كان تامة أو ناقصة (السوء) بفتح السين وضمها صفة الرجل (قال) أي ملك الموت أو رئيس ملائكة العذاب أو كل واحد منهم فيطابق ما سبق بصيغة الجمع (ذميمة) أي مذمومة (وأبشري) قال الطيبي: استعارة تهكمية، كقوله تعالى: ?فبشرهم بعذاب أليم?[آل عمران: 21] أو على المشاكلة والازدواج وحميم وغساق مقابل لروح وريحان (بحميم) أي ماء حار غاية الحرارة (وغساق) بتخفيف وتشديد ما يغسق أي يسيل من صديد أهل النار. وقيل: البارد المنتن (وآخر) قال القاري: عطف على حميم أي وبعذاب آخر. وفي نسخة: بضم الهمزة أي وبأنواع آخر من العذاب (من شكله) أي مثل ما ذكر في الحرارة والمرارة (أزواج) بالجر أي أصناف. قال الطيبي: أي مذوقات آخر مثل الغساق في الشدة والفظاعة أزواج أجناس- انتهى. ولا وجه لإرجاع الضمير إلى الغساق وحده وإن كان هو أقرب مذكور فالصحيح ما ذكرناه من أن إفراد الضمير

(10/87)


باعتبار ما ذكر. قال: وآخر في محل الجر عطف على حميم وأزواج صفة لآخر وإن كان مفردا، لأنه في تأويل الضروب والأصناف كقول الشاعر: معي جياعا. والظاهر أنه في تأويل النوع والصنف، كذا قال القاري. وقال السندي: وآخر أي بأخر وأزواج، بدل منه أي بأصناف ومن شكله جار ومجرور وقع حالا من أزواج أي وبأصناف كائنة من جنس المذكور من الحميم والغساق (ثم يعرج إلى السماء) كذا في أكثر النسخ، ووقع في بعض النسخ ثم يعرج بها إلى السماء، وهو مطابق لما في مسند الإمام أحمد وابن ماجه (فيفتح لها) أي يستفتح لها لقوله تعالى: ?لا تفتح لهم أبواب السماء?[الأعراف: 40] وعند
فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لا تفتح لك أبواب السماء، فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر)). رواه ابن ماجه.
1643- (14) وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها)) قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك، قال ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض،
أحمد فيستفتح لها (فترسل) أي ترد وسيأتي أنها تطرح (ثم تصير) أي ترجع (إلى القبر) وتكون محبوسة في أسفل السافلين، بخلاف روح المؤمن فإنها تسرح في الجنة حيث تشاء، ولها تعلق بجسده أيضا تعلقا كليا بحيث يتنعم في قبره وينظر إلى منازله في الجنة بحسب مرتبته فأمر الروح وأحوال البرزخ والآخرة كلها على خوارق العادات فلا يشكل شيء منها على المؤمن بالآيات (رواه ابن ماجه) في الزهد بإسناد صحيح، قاله المنذري في الترغيب. وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات- انتهى. والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج2ص344) وذكره ابن القيم في كتاب الروح، وعزاه لابن منذه، وذكر توثيق رواته عن الحافظ أبي نعيم.

(10/88)


1643- قوله: (تلقاها ملكان) وفي الحديث السابق ذكر الملائكة بإرادة ما فوق الواحد أو يلقي بعضهم ملكان، وبعضهم أكثر. وقال القاري: هذا تفصيل للمجمل السابق ويحتمل أنهما الكريمان الكاتبان ولا ينافي الجمع فيما مر، أما على قول من يقول أقل الجمع اثنان فظاهر، وأما على قول غيره فلاحتمال أن الحاضرين جمع المفوض إليه منهم ذلك اثنان والبقية أو الكل يقولون لروحه اخرجي أيتها النفس أو القائل واحد ونسب إلى الكل مجازا كقوله تعالى: ?فعقروها?[الشمس: 14] وكقولهم قتله بنو فلان، ويؤيده حديث البراء الآتي (يصعدانها) بضم الياء (قال حماد) وهو ابن زيد الأزدي البصري، راوي الحديث عن بديل عن عبدالله بن شقيق عن أبي هريرة (فذكر) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الصحابي، وهو أبوهريرة وكان سبب ذلك نسيان رواية لفظ النبوة في هذا دون معناه، فذكره بسياق يشعر بذلك، قاله القاري. والظاهر أن فاعل ذكر بديل بن ميسرة شيخ حماد بن زيد (من طيب ريحها) أي أوصافها عظيمة من طيب ريحها (وذكر المسك) أي بطريق التشبيه أي رائحة كرائحة المسك. وقال القاري: أي ومن أنواع ذلك المسك. وقال الطيبي: أي وذكر المسك لكن لم يعلم أن ذلك كان طريقة التشبيه أو الاستعارة أو غير ذلك. وقال الأبهري: الأظهر أن يقال وذكر أن طيب ريحها أطيب من ريح المسك (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (ويقول أهل السماء) أراد به الجنس أي كل سماع (روح طيبة) مبتدأ أو خبر لمحذوف هو هي وقوله (جاءت) الآن (من قبل الأرض) بكسر القاف وفتح الموحدة
صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال: وإن الكافر إذا خرجت روحه، قال حماد: وذكر من نتنها وذكر لعنا، ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال أبوهريرة: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا. رواه مسلم.

(10/89)


1644- (15) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حضر المؤمن
أي من جهتها صفة ثانية (صلى الله عليك) أي أنزل الرحمة عليك، والخطاب للروح. قال الطيبي: في عليك التفات من الغيبة في قوله: جاءت إلى الخطاب، وفائدته مزيد اختصاص لها بالصلاة عليها (وعلى جسد كنت تعمرينه) بضم الميم. قال الطيبي: استعارة شبه تدبيرها الجسد بالعمل الصالح بعمارة من يتولى مدينة ويعمرها بالعدل والإحسان (فينطلق به) على بناء المفعول (إلى ربه) وفي حديث براءة الآتي إلى السماء السابعة (ثم يقول) أي الرب سبحانه (انطلقوا به) أي الآن أي ليكون مستقرا في الجنة أو عندها (إلى آخر الأجل) قال القاري: المراد بالأجل هنا مدة البرزخ، يعني اذهبوا به إلى المكان الذي أعد له إلى وقت القيامة. قال الطيبي: يعلم من هذا أن لكل أحد أجلين أولا وآخرا ويشهد له قوله تعالى: ?ثم قضى أجلا وأجل مسمى?[الأنعام: 2] عنده أي أجل الموت وأجل القيامة. وقال القاضي: المراد هنا انطلقوا بروح المؤمن إلى سدرة المنتهى، وفي روح الكافر انطلقوا بروح الكافر إلى سجين فهي منتهى الأجل. ويحتمل أن المراد إلى انقضاء الدنيا (وذكر من نتنها) بسكون التاء (وذكر لعنا) أي مع النتن فإن البعد من لوازم النتن (روح خبيثة جاءت) أي قاربت السماء (فيقال انطلقوا به) قال الطيبي: ذكر ههنا يقال وفي الأول يقول رعاية لحسن الأدب حيث نسب الرحمة إلى الله سبحانه ولم ينسب إليه الغضب كما في قوله تعالى: ?أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم?[الفاتحة: 7] (فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة) أي طرف ريطة وهي بفتح الراء وإسكان الياء التحتية كل ملاءة على طاقة واحدة ليست لفقتين، وقيل: كل ثوب رقيق (كانت عليه) أي على بطنه عليه الصلاة والسلام (على أنفه) متعلق برد. قال الطيبي: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الريطة على الأنف لما كوشف بروح الكافر وشم من نتن ريح روحه كما أنه غطى رأسه حين مر بالحجر

(10/90)


لما شاهد من عذاب أهلها، وقيل: رد عليه السلام الريطة على أنفه ليرى أصحابه كيف تتقي الملائكة نتن ريح تلك الروح بوضع شيء على الأنف لئلا تتضرر بذلك (هكذا) أي كفعلي هذا وكان أبوهريرة وضع ثوبه على أنفه بكيفية خاصة صدرت منه عليه الصلاة والسلام (رواه مسلم) قبيل كتاب الفتن.
1644- قوله: (إذا حضر المؤمن) على بناء المفعول أي حضره الموت. وفي رواية الحاكم: إذا احتضر
أتت ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضيا عنك، إلى روح الله وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا حتى يأتوا به أبواب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغايبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه،

(10/91)


وفي رواية ابن حبان: إذا قبض (أتت) وفي النسائي: أتته (ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء) ولعل روحه تلف فيها وترفع إلى السماء والكفن الدنيوي يصحب الجسد الصوري، قاله القاري. وفي رواية أبي حاتم: أن المؤمن إذا حضره الموت حضرته ملائكة الرحمة فإذا قبض جعلت روحه في حريرة بيضاء فينطلق بها إلى باب السماء (اخرجي) الخطاب للنفس فيستقيم هذا الخطاب مع عموم المؤمنين للذكر والأنثى (راضية) عن الله سابقا وبثواب الله لاحقا (مرضيا عنك) أي أولا وآخرا. وفي بعض النسخ: مرضية عنك، كما في النسائي (إلى روح الله) بفتح الراء أي رحمته أو راحة منه (وريحان) أي رزق أو مشموم (كأطيب ريح المسك) حال أي حال كونه مثل أطيب ريح المسك.وقيل: صفة مصدر محذوف أي خروجا كخروج أطيب ريح المسك، يعني تخرج خروجا مثل ريح مسك بفتق فأرتها وهو قد فاق سائر أرواح المسك (حتى أنه) أي روح المؤمن (ليناوله بعضهم بعضا) أي يتداولونه ويصعدون به من يد إلى يد تكريما وتعظيما وتبركا وتشريفا لا كسلا وتعبا (حتى يأتوا به) وفي رواية الحاكم: يشمونه حتى يأتوا به (أبواب السماء) أي باب بعد باب. وفي النسائي والمستدرك: باب السماء، وهو منصوب بنزع الخافض أي إلى أن يأتوا به، وهو غاية للمناولة (فيقولون) أي بعض الملائكة لبعض ملائكة السماء على جهة التعجب من غاية عظمة طيبة (فيأتون به) وفي رواية الحاكم: فكلما أتوا سماء قالوا ذلك حتى يأتوا به (أرواح المؤمنين) منصوب بنزع الخافض أي إلى مقر أرواحهم في عليين (فلهم) الضمير للمؤمنين أو لأرواحهم (أشد فرحا) قال الطيبي: اللام المفتوحة لام الابتداء مؤكدة نحو قوله تعالى: ?لهو خير للصابرين?[النحل: 126] وهم مبتدأ وأشد خبره، ولا يبعد أن تكون اللام جارة، والتقدير لهم فرح هو أشد فرحا على توصيف الفرح بكونه فرحا على المجاز فيكون الفرح فرحا على سبيل المبالغة. قلت: ويؤيد الأول رواية الحاكم بلفظ: فلهم أفرح به (به) أي

(10/92)


بقدومه (من أحدكم) أي من فرح أحدكم (بغائبه يقدم عليه) أي حال قدومه (فيسألونه) أي بعض أرواح المؤمنين (ماذا فعل فلان) على بناء الفاعل، والمراد ما شأنه وحاله (ماذا فعل فلان) تأكيد أو المراد شخص آخر، وهو الآظهر (فيقولون) أي بعض أخر من الأرواح (دعوه) أي أتركوه، زاد في رواية الحاكم: حتى
فإنه كان في غم الدنيا. فيقول: قد مات، أما أتاكم؟ فيقولون: قد ذهب به إلى أمه الهاوية. وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح، فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله عزوجل. فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به إلى باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح، حتى يأتون به أرواح الكفار. رواه أحمد، والنسائي.
1645- (16) وعن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد،

(10/93)


يستريح. قال الطيبي: أي يقول بعضهم لبعض دعوا القادم فإنه حديث عهد بتعب الدنيا (فإنه) أي الشأن (كان) أي القادم (في غم الدنيا) أي إلى الآن ما استراح من همها (فيقول) أي القادم في جواب السؤال (قد مات) أي فلان المسؤل (أما أتاكم) أي أما جاءكم (فيقولون) وفي رواية الحاكم: فإذا قال لهم أما أتاكم فإنه قد مات قال فيقولون أي أرواح المؤمنين (قد ذهب به) على بناء المفعول (إلى أمه الهاوية) أي أنه لم يلحق بنا فقد ذهب به إلى النار، والهاوية من أسماء النار كأنها العميقة تهوي أهل النار فيها مهوى بعيدا، وهي بدل أو عطف بيان، وتسمية النار إما باعتبار أنها مأوى صاحبها كالأم مأوى الولد ومفزعه، ومنه قوله تعالى: ?فأمه هاوية?[القارعة:9] (إذا احتضر) بصيغة المجهول (بمسح) بكسر الميم البلاس. وقال النووي: هو ثوب من الشعر غليظ معروف (اخرجي) أي إلى غضب الله (ساخطة) أي كارهة غير راضية عن الله حيا وميتا (مسخوطا) أي مغضوبا (إلى عذاب الله) متعلق بأخرجي (حتى يأتون به) بإثبات النون ورفعه على حكاية الحال الماضية على حد ?وزلزلوا حتى يقول الرسول? في قراءة نافع بالرفع أي حتى أتوا به (إلى باب الأرض) فيرد إلى أسفل السافلين (فيقولون) أي ملائكة الأرض (حتى يأتون به) وفي رواية الحاكم كلما أتوا على أرض قالوا ذلك حتى يأتوا به فيتعين أن يكون حتى غاية لقولهم ذلك (أرواح الكفار) ومحلها سجين، وهو موضع في مقر جهنم (رواه أحمد) (ج4ص287- 288) (والنسائي) في الجنائز، وأخرجه أيضا البزار، وأبوحاتم، وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم (ج1ص352- 353) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
1645- قوله: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار) أي إلى البقيع (فانتهينا إلى القبر) أي وصلنا إليه (ولما يلحد) من الحد أو لحد كمنع على بناء المفعول أو الفاعل أي الحفار،

(10/94)


فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأن على رؤسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر، مرتين أو ثلاثا، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء،

(10/95)


يقال الحد الميت ولحده أي دفنه وألحد اللحد ولحده أي حفره وألحد للميت ولحد له حفر له لحدا، ولما بمعنى لم، وفيه توقع، فدل على نفي اللحد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل، والجملة حال أي وصلنا إلى القبر حال كون الميت لم يحفر اللحد له بعد (فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في انتظار أن يحفر اللحد (وجلسنا حوله كأن) بتشديد النون. وفي رواية: وكأن (على رؤسنا الطير) بالنصب على أنه اسم كأن، وهذا كناية عن غاية السكون أي لا يتحرك منا أحد ولا يتكلم توقيرا لمجلسه - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى جلسنا ساكنين متأدبين في حضرته متواضعين بحيث يكاد يقعد الطير على رؤسنا والطير لا يكاد يقعد إلا على شيء لا تحرك له وكانوا رضي الله عنهم يراعون أوقاته فأحيانا يتكلمون عنده ويضحكون وأحيانا يتأدبون ولا يتحركون. قال الجزري: وصفهم بالسكون والوقار وأنهم لم يكن فيهم طيش ولا خفة؛ لأن الطير لا تكاد تقع إلا على شيء ساكن (وفي يده عود ينكت) بضم الكاف (به في الأرض) أي يؤثر بطرف العود الأرض فعل المتفكر المهموم، ذكره الطيبي. يقال: نكت الأرض بقضيب أي ضربها به حال التفكر فأثر فيها، ويسمى المعنى الدقيق الذي أخرج بدقة نظر وإمعان فكر نكتة؛ لأن من عادة المتفكر أن ينكت (مرتين أو ثلاثا) ظرف لقال وأو للشك من الراوي (في انقطاع من الدنيا) أي إدبار منها (وإقبال من الآخرة) أي اتصال بها (كأن وجوههم الشمس) أي وجه كل واحد منهم كالشمس (وحنوط) بفتح الحاء. قال الطيبي: الحنوط ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسادهم (حتى يجلسوا منه مد البصر) أي قريبا منه (الطيبة) وفي رواية الحاكم وابن منده: المطمئنة (اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان) أي ليس أمامك إلا المغفرة والرضوان، وفيه بشارة دفع العذاب وكمال الثواب (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (فتخرج) أي روحه (تسيل) حال (كما تسيل القطرة) أي كسيلان القطرة في السهولة (من السقاء) بكسر

(10/96)


السين أي القربة وفي المسند: من في السقاء، والمقصود بيان أن الروح تخرج من البدن بسهولة. قال القاري: لا منافاة بين اضطراب
فيأخذها، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون ـ يعني بها ـ على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة،

(10/97)


الجسد وسهولة خروج الروح بل قد يكون الأول سببا للثاني كما أن رياضة النفس وتضعيف البدن عند الصوفية موجب لقوة الروح على العبادة والمعرفة. وقال ابن حجر: ولا ينافي ذلك ما مر أن المؤمن يشدد عليه عند النزع دون غيره، لأن محله فيما قبل خروج الروح، واعترض عليه القاري بأن حالة النزع هو وقت خروج الروح فبين كلاميه تناقض- انتهى. فتأمل. (فيأخذها) أي ملك الموت (لم يدعوها) بفتح الدال أي لم يتركوها (في يده طرفة عين) أدبا معه أو اشتياقا إليها. قال الطيبي: فيه إشارة إلى أن ملك الموت إذا قبض روح العبد سلمها إلى أعوانه الذين معهم كفن من أكفان الجنة- انتهى. والطرفة بفتح الطاء وسكون الراء المرة من طرف أي يك بلك زدن يقال: طرف بصره أو طرف بعينه يطرف طرفا أي أطبق أحد جفنيه على الآخر (ويخرج منها) أي من الروح ريح أو شيء (كأطيب نفحة مسك) أي مثل أطيبها فالكاف مثليه. قال الطيبي: صفة موصوف محذوف هو فاعل يخرج منها رائحة كأطيب نفحة مسك- انتهى. والنفحة المرة من نفح الطيب أي انتشرت رائحته ونفحة الطيب رائحته (فيصعدون) أي أعوان ملك الموت أو ملائكة الرحمة منهم أو من غيرهم (يعني بها) هذا كلام الصحابي أو الراوي على ملأ أي جمع عظيم (من الملائكة) أي الذين بين السماء والأرض (إلا قالوا) أي الملأ (ما هذا الروح) بفتح الراء أي الريح وضمها (فيقولون) أي ملائكة الرحمة (فلان بن فلان) أي روحه أو روحه (بأحسن أسماءه) أي ألقابه وأوصافه (التي كانوا) أي أهل الدنيا (يسمونه) أي يذكرونه (بها) أي بتلك الأسماء (حتى) أي لا يزال الملائكة يسألون ويجابون كذلك (حتى ينتهوا بها) أي بتلك الروح (فيستفتحون له) الضمير للروح فإنه يذكر ويؤنث (فيفتح) بالتذكير والجار نائب الفاعل (لهم) قال ابن حجر: أفرد الضمير، لأنه المقصود بالاستفتاح، ثم جمع إشارة إلى أنهم لا يفارقونه بل يستمرون معه (فيشيعه) من التشييع، وهو الخروج مع أحد لتوديعه أو لتبليغه

(10/98)


منزله يعني يستقبله ويصحبه بعد دخوله في السماء (حتى ينتهي به) بصيغة المجهول والجار
فيقول الله عزوجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي،

(10/99)


نائب الفاعل (اكتبوا) أي أثبتوا (كتاب عبدي) الإضافة للتشريف، ولذا قال في الكافر اكتبوا كتابه أي اجعلوا كتابة عبدي بكتابة اسمه (في عليين) أي في دفتر المؤمنين وديوان المقربين، والظاهر أنه اسم موضع في السماء السابعة، فيه كتاب الأبرار فالمراد بكتاب العبد صحيفة أعماله. وقال الأبهري: أي في كتاب عبدي، يعني أنه في عليين أو في عوال أو غرف من الجنة مآلا. قال ابن حجر في فتاواه: أرواح المؤمنين في عليين، وأرواح الكفار في السجين، ولكل روح بجسدها اتصال معنوي لا يشبه الاتصال في الحياة الدنيا بل أشبه شيء به حال النائم وإن كان هو أشد من حال النائم اتصالا، قال: وإذا نقل الميت من قبر إلى قبر فالاتصال المذكور مستمر وكذا لو تفرقت الأجزاء- انتهى مختصرا. (وأعيدوه) الآن (إلى الأرض) أي إلى جسده الذي دفن في الأرض (فإني منها خلقتهم) أي أجساد بني آدم (وفيها أعيدهم) أي أجسادهم وأرواحهم (فتعاد روحه في جسده) ظاهر الحديث أن عود الروح إلى جميع أجزاء بدنه فلا التفات إلى ما قيل إن العود إنما يكون إلى البعض أو إلى النصف فإنه محتاج إلى النقل الصحيح (فيأتيه ملكان) أي المنكر والنكير لكن في صورة مبشر وبشير. وفي بعض الأحاديث جاء سؤال ملك ولا تعارض في ذلك بل الكل صحيح المعنى فإن هذا الاختلاف بالنسبة إلى الأشخاص (ما هذا الرجل الذي بعث فيكم) أي أرسل إليكم يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم وعبر بذلك امتحانا لئلا يتلقن تعظيمه من عبارة القائل والإشارة لما في الذهن فإنه لم يرد حديث صحيح ولا ضعيف في أنه يكشف للميت حتى يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا التفات إلى قول القبوريين ومن شاكلهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهد بذاته في الخارج في قبر كل ميت عند سؤال الملكين (وما علمك) أي ما سبب علمك برسالته ومن أين علمت ذلك وما حجتك على رسالته (فآمنت به) أي بالكتاب أو بالرسول أو بما فيه وعلمت جميع ما ذكرت من معانيه

(10/100)


(وصدقت) أي تصديقا قلبيا وما اكتفيت بالإيمان اللساني أو هو تأكيد (أن صدق عبدي) أن تفسيرية؛ لأن في النداء معنى القول
فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، قال: فيأتيها من روحها وطيبها، فيفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة! حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه،

(10/101)


وقيل مصدرية (فأفرشوه) بقطع الهمزة أي أعطوه فراشا أو أفرشوا له فراشا، فالهمزة لتأكيد التعدية، ففي القاموس: أفرش فلانا بساطا بسطه له كفرشه فرشا وفرشه تفريشا (من الجنة) أي من فرشها (وألبسوه) بقطع الهمزة أي أكسوه (من الجنة) أي من ثيابها (وافتحوا له) أي لأجله (بابا) أي من القبر (إلى الجنة) أي جهتها (من روحها) بفتح الراء أي من نسيمها (وطيبها) أي رائحتها (فيفسح) بالتخفيف أي يوسع له (في قبره مد بصره) أي منتهى بصره، وهو مختلف باختلاف البصر (ويأتيه) أي المؤمن (رجل) وفي رواية الحاكم: ويتمثل له رجل (أبشر بالذي يسرك) أي بما يجعلك مسرورا (فيقول) أي المؤمن (له من أنت) قال الطيبي: لما سره بالبشارة قال له: إني لا أعرفك من أنت حتى أجازيك بالثناء والمدح، ثم قال وقوله من أنت متضمن معنى المدح مجملا أي بمعونة المقام، وقرينه الحال ثم قال: والفاء في (فوجهك) لتعقيب البيان بالمجمل على عكس قول الشقي للملك من أنت (الوجه) أي وجهك هو الكامل في الحسن والجمال والنهاية في الكمال وحق لمثل هذا الوجه أن يجيء بالخير ويبشر بمثل هذه البشارة وقوله (يجيء بالخير) جملة استئنافية، وقيل الموصول مقدر أي وجهك الوجه الذي يجيء بالخير (فيقول) أي المصور بصورة الرجل (فيقول رب أقم الساعة رب أقم الساعة) التكرار للإلحاح في الدعاء (حتى أرجع إلى أهلي) أي من الحوار العين والخدم (ومالي) من القصور والبساتين وغيرهما مما يطلق عليه اسم المال، وقيل المراد بالأهل أقاربه من المؤمنين وبمالي ما يشتمل الحور والقصور. قال ميرك: طلب إقامة القيامة لكي يصل إلى ما أعد له من الثواب والدرجات، ويؤيده ما ذكر في الكافر حكاية عنه: رب لا تقم الساعة لكي يهرب به عما يعد له من العقاب. وقال الطيبي: لعله عبارة عن طلب أحياءه لكي يرجع إلى الدنيا ويزيد في العمل الصالح والإنفاق في سبيل الله حتى يزيد ثوابا ويرفع في درجاته يعني لكنه لما علم أن ليس

(10/102)


الأحياء بعد الموت إلا بالبعث يوم القيامة طلب قيام الساعة كناية عن الأحياء، وقيل: يحتمل أن يكون قول المؤمن في القبر: حتى أرجع إلى أهلي ومالي لفرط سروره وغاية فرحة ويكون تمنيه الرجوع إلى أهله
معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسماءه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيستفح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ?لا تفتح لهم أبواب السماء

(10/103)


ليخبرهم بذلك كما يقول ويتمنى المسافر الذي حصل له التنعم في بلد الغربة (معهم المسوح) بضم الميم جمع المسح بكسرها وهو البلاس واللباس الخشن (إلى سخط الله) أي آثار غضب الله من أنواع عقابه، وفي المسند إلى سخط من الله وغضب، وكذا عند الحاكم) (فتفرق) بحذف إحدى التائين أي الروح (في جسده) أي تنتشر في أعماق البدن فزعا وكراهة للخروج إلى ما يسخن عينه من العذاب الأليم، كما أن أرواح المؤمن تخرج وتسيل، كما تسيل القطرة من السقاء فرحا إلى ما تقربه عينه من الكرامة (فينتزعها) أي ملك الموت يستخرج روحه بعنف وشدة ومعالجة (كما ينزع) بالبناء للمجهول، وفي المسند كما ينتزع (السفود) كتنور الحديدة التي يشوى عليها اللحم، وفي رواية لأحمد: السفود الكثير الشعب (من الصفوف المبلول) قال الطيبي: شبه نزع روح الكافر من أقصى عروقه بحيث يصحبه العروق، كما قال في الرواية الأخرى وتنزع نفسه مع العروق بنزع السفود وهو الحديدة التي يشوي بها اللحم فيبقى معها بقية من المحروق فيستصحب عند الجذب شيئا من ذلك الصوف مع قوة وشدة وبعكسه شبه خروج روح المؤمن من جسده بترشح الماء وسيلانه من القربة المملوءة ماء مع سهولة ولطف (لم يدعوها في يده طرفة عين) أي مبادرة إلى الأمر (ويخرج منها) أي من روح الكافر (فيصعدون) افتضاحا لها وإظهارا لرداءتها (بأقبح أسماءه) أي يذكرونه بأشنع أوصافه (التي كان يسمي) أي ذلك الكافر (بها) أي بتلك الأسماء (ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي استشهادا على ما ذكر من عدم الفتح للكافر قوله تعالى: ?إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها?[ الأعراف: 40،36] (لا تفتح) بالتأنيث مع التشديد قراءة الجمهور (لهم) أي لأرواحهم (أبواب السماء) أي شيء منها، وقيل: المعنى لا تفتح أبواب السماء

(10/104)


ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط? فيقول الله عزوجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا، ثم قرأ: ?ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق?، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه فيقولان له:
لأدعيتهم إذا دعوا، قاله مجاهد، والنخعي. وقيل: لأعمالهم أي لا تقبل بل ترد عليهم فيضرب بها في وجوههم قال العلامة الشوكاني في فتح القدير (ج2 ص195): ولا مانع من حمل الآية على ما يعم الأرواح والدعاء والأعمال ولا ينافيه ورود من أنها لا تفتح أبواب السماء لواحد من هذه، فإن ذلك لا يدل على عدم فتحها لغيره مما يدخل تحت عموم الآية ?ولا يدخلون الجنة حتى يلج? أي يدخل من الولوج وهو الدخول بشدة ولذلك يقال هو الدخول في ضيق فهو أخص من مطلق الدخول ?الجمل? هو الذكر من الإبل، ولا يقال للبعير جمل إلا إذا بزل أي دخل في السنة التاسعة، وقيل: إنما يسمى جملا إذا أربع أي بلغ أربع سنين ?في سم الخياط? السم مثلث السين لغة لكن السبعة على الفتح، وقرى شاذا بالكسر والضم وهو الثقب اللطيف الضيق والخياط الآلة التي يخاط بها كالمخيط فعال ومفعل كإزار ومئزر ولحاف وملحف والمراد به الإبرة في هذه الآية، وخص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات، لأنه أكبر من سائر الحيوانات جسما عند العرب، ويضرب به المثل عندهم في كبر الذات وعظم الجرم، وخص سم الخياط لكونه غاية الضيق وأضيق المنافذ ودخول الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق غير ممكن فكذا ما توقف عليه (في سجين) قيل هو كتاب جامع الأعمال الشياطين والكفرة، وقيل هو مكان في أسفل الأرض السابعة، وهو محل إبليس وجنوده (في الأرض) حال لازمه أو بدل بإعادة الجار بدل كل من بعض (السفلى) أي السابعة، وفيه إشارة إلى محل جهنم، وهو الأشهر من خلاف فيه (فتطرح روحه طرحا) أي ترمي رميا شديدا ?ومن يشرك بالله فكأنما خر? أي سقط?من

(10/105)


السماء? إلى الأرض ?فتخطفه? بفتح الطاء المخففة (الطير) أي تسلب لحمه وتقطعه بمخالبها وتذهب به ?أو تهوى به الريح? أي تقذفه وترمى به. قال القاري: أو للتنويع أو للتخيير في التمثيل (في مكان سحيق) أي بعيد لا يصل إليه أحد بحال. قال الزمخشري: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فإن كان تشبيها مركبا فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده هلاك بأن صور حالة من خر من السماء فاختطفته الطير متفرقا موزعا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض الأماكن البعيدة وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء المردية بالطير المختطفة والشيطان الموقع في الضلال بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة- انتهى. قال الطيبي: أو تهوى به الريح أي عصفت
من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي منادى من السماء: أن كذب فافرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة. وفي رواية نحوه، وزاد فيه: إذا خرج روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، وليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله

(10/106)


به أي هوت به في بعض المطارح البعيدة، وهذا استشهاد مجرد لقوله صلى الله عليه وسلم في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا لا أنه بيان لحال الكافر حينئذ؛ لأنه شبه في الآية من يشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي توزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان الذي يغويه ويطرح به في وادي الضلالة بالريح الذي هو يهوى بما عصف به في بعض المهاوي المتلفة (هاه هاه) بسكون الهاء الأخيرة فيهما كلمة يقولها المبهوت المتحير في الجواب من الدهشة والخوف (أن كذب) هذا الكافر في النفي الدراية عنه مطلقا بل عرف الله وأشرك به وتبين الدين وما تدين به وظهرت رسالة النبي بالمعجزات عنده وما أطاعه (فافرشوه من النار) زاد في رواية أبي داود والحاكم: وألبسوه من النار (فيأتيه من حرها) أي يأتيه بعض حرها في قبره، وأما تمامه ففي الآخرة قال تعالى: ?ولعذاب الآخرة أشد وأبقى?[طه:127] (وسمومها) بفتح السين، وهي الريح الحارة (ويضيق) بصيغة المجهول من التضييق (حتى تختلف فيه) أي في قبره وفي بدنها (أضلاعه) أي عظام جنبه بأن يدخل عظام الجنب الأيمن في عظام الأيسر وعظام الجنب الأيسر في الأيمن من شدة التضييق. وأما ضغطة القبر للمؤمن فإنما هي ضمة للأرض كمعانقة الأم المشتاقة لولدها (يسوءك) أي يحزنك (فوجهك الوجه) أي الكامل في القبح (أنا عملك الخبيث) أي المركب من خبث عقائدك وأعمالك وأخلاقك فالمعاني تتجسد وتتصور في قوالب المباني (وفي رواية) أي لأحمد (ونحوه) أي معنى ما ذكر من الألفاظ (وزاد) أي الروي (فيه) أي في نحوه في بيان حال المؤمن (إذا خرج روحه) أي روح المؤمن (وكل ملك في السماء) أريد بها الجنس (ليس من أهل باب)
أن يعرج بروحه من قبلهم، وتنزع نفسه- يعني الكافر- مع العروق، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن لا يعرج روحه من قبلهم)) رواه أحمد.

(10/107)


أي من أبواب كل سماء (أن يعرج بروحه) بالبناء للمفعول أي يعرج الملائكة به (من قبلهم) بكسر القاف وفتح الباء أي من جهتهم وقال صلى الله عليه وسلم في ذكر حال الكافر (وتنزع) بصيغة المجهول (نفسه) أي روحه (يعني الكافر) تفسير من المؤلف (مع العروق) إشارة إلى كراهة خروجه وشدة الجذب في نزع روحه (وتغلق) أي دونه (أبواب السماء) أي جميعها (ليس من أهل باب) أي من أبواب سماء الدنيا (أن لا يعرج روحه) بالتذكير وبصيغة المجهول ويصح أن يكون للفاعل أي أن لا يصعد روحه. وفي المسند: أن لا تعرج روحه أي بالتأنيث (من قبلهم) كراهة لظاهره وباطنه، والحديث نص في أن الروح تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال، وهو مذهب جميع أهل السنة من سائر الطوائف. قال ابن تيمية: الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عود الروح إلى البدن وقت السؤال وسؤال البدن بلا روح، قول قاله طائفة وأنكره الجمهور، وقابله آخرون، فقالوا: السؤال للروح بلا بدن، وهذا قاله ابن مرة، وابن حزم، وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة ترده. وارجع للتفصيل إلى كتاب الروح لابن القيم (رواه أحمد) الرواية الأولى في (ص287-288) والثانية في (ج2 ص295-296) وكلتاهما من رواية المنهال بن عمرو عن زادان عن البراء بن عازب، وأخرجه من هذا الطريق أبوداود في السنة، وسكت عنه، والحاكم (ج1 ص37- 38- 39) وصححه ووافقه الذهبي، وأبوعوانة وصححه، والبيهقي وقال: حديث صحيح الإسناد، وأخرجه أبوداود أيضا والنسائي وابن ماجه كلهم في الجنائز من طريق المنهال مختصرا أي إلى قوله جلسنا حوله، وأخرجه ابن مندة مطولا في كتاب الروح والنفس من طريق عيسى بن المسيب عن عدي بن ثابت عن البراء، ومن طريق خصيف الجزري عن مجاهد عن البراء. وقال السيوطي بعد ذكر الحديث من رواية أحمد: ورواه أبوداود في سننه، والحاكم في مستدركه، وابن أبي شيبة في مصنفه، وأبوداود الطيالسي وعبد بن حميد في مسنديهما، وهناد بن السري في الزهد، وابن

(10/108)


جرير وابن أبي حاتم وغيره من طريق صحيحة- انتهى. ونسبه على المتقى في الكنز (ج8 ص94) إلى ابن خزيمة والضياء أيضا. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر الحديث من رواية أحمد ما لفظه: هذا الحديث حديث حسن رواته محتج بهم في الصحيح، وهو مشهور بالمنهال بن عمرو عن زادان عن البراء، كذا قال أبوموسى الأصبهاني والمنهال روى له البخاري حديثا واحدا. وقال ابن معين والعجلي: المنهال ثقة. وقال أحمد: تركه شعبة على عمد.
1646- (17) وعن عبدالرحمن بن كعب، عن أبيه، قال: لما حضرت كعبا الوفاة أتته أم بشر بنت البراء بن معرور،
قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: لأنه سمع من داره صوت قراءة بالتطريب. وقال عبدالله بن احمد سمعت أبي يقول: أبوبشر أحب إلى من المنهال. وزاذان ثقة مشهور ألانه بعضهم، وروى له مسلم حديثين في صحيحه، ورواه البيهقي من طريق المنهال بنحو رواية أحمد، ثم قال: وهذا حديث صحيح الإسناد، وقد رواه عيسى بن المسيب عن عدي بن ثابت عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن القيم في كتاب الروح (ص75) هذا حديث ثابت مشهور مستفيض صححه جماعة من الحفاظ، ولا نعلم أحدا من أئمة الحديث طعن فيه، بل رووه في كتبهم وتلقوه بالقبول وجعلوه أصلا من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه ومسائلة منكر ونكير وقبض الأرواح وصعودها إلى بين يدي الله ثم رجوعها إلى القبر، قال: ورواه عن البراء غير زاذان، ورواه عنه عدي بن ثابت ومجاهد بن جبر ومحمد بن عقبة وغيرهم، وقد جمع الدارقطني طرقه في مصنف مفرد، وزاذان من الثقات وروى له مسلم في صحيحه، ثم ذكر توثيقه عن ابن معين والعجلى وابن عدي، قال: والمنهال أحد الثقات العدول، ثم ذكر توثيقه عن ابن معين والعجلى، قال وأعظم ما قيل فيه: إنه سمع من بيته صوت غناء، وهذا لا يوجب القدح في روايته وإطراح حديثه- انتهى.

(10/109)


1646- قوله: (وعن عبدالرحمن بن كعب) أي ابن مالك الأنصاري السلمي أبوالخطاب المدني، ثقة من كبار التابعين، ويقال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مات في خلافة سليمان بن عبدالملك (عن أبيه) أي كعب ابن مالك الأنصاري السلمي الصحابي المشهور الشاعر، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا. قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: عن عبدالرحمن بن كعب عن أبيه هكذا في النسخ التي رأيت، والظاهر أن قوله عن أبيه زيد، والحديث من قول عبدالرحمن نفسه، فإنه شاهده ورواه لا أنه أخذه عن أبيه، وهو الأوفق باللفظ، لكن إمكان الأخذ موجود، فيمكن أن عبدالرحمن ما كان حاضرا ثم سمعه من أبيه قبل موته ثم مات. وأما لفظ لما حضرت كعبا الوفاة فأمره سهل- انتهى. (قال) أي عبدالرحمن (أتته) أي كعبا (أم بشر) بكسر الباء، ويقال لها: أم بشر أيضا. قيل: اسمها خليدة ولم يصح. قال الحافظ: والذي ظهر لي بعد البحث أن خليدة والدة بشر بن البراء ابن معرور (بنت البراء معرور) الأنصارية صحابية روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنها عبدالله بن كعب ابن مالك ومجاهد وعبدالرحمن بن كعب بن مالك. وأما أبوها فهو البراء بن معرور بن صخر الأنصاري السلمي الخزرجي أبوبشر كان من النفر الذين بايعوا البيعة الأولى بالعقبة، وهو أول من بايع وأول من استقبل الكعبة حيا وميتا، وهو أول من أوصى بثلث ماله، وهو أحد النقباء مات في صفر قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة بشهر، فلما
فقالت: يا أباعبدالرحمن! إن لقيت فلانا فأقرأ عليه مني السلام. فقال: غفر الله لك يا أم بشر! نحن أشغل من ذلك، فقالت: يا أباعبدالرحمن! أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أرواح المؤمنين في طير

(10/110)


قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتى قبره في أصحابه فكبر عليه وصلى وقد أمر البراء أهله عند موته أن يوجهوه إلى الكعبة فوجه قبره إليها. ومعرور بفتح الميم وسكون العين المهملة وضم الراء الأولى (يا أباعبدالرحمن) كنيته كعب (إن لقيت) أي بعد موتك (فلانا) أي روحه قيل: تعني أباها البراء، ففي رواية للطبراني في الكبير: إن لقيت أبي فاقرأ مني السلام، وذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص329). وقيل: المراد به ولدها مبشر ففي رواية لأحمد (ج2ص455) قالت أم مبشر للكعب بن مالك وهو شاك اقرأ على ابني السلام تعني مبشرا، فقال: يغفر الله لك يا أم مبشر- الحديث. وقيل: المراد ولدها بشر، فقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن أبي لبيبة الأشهلى قال: لما مات بشر بن البراء بن معرور وجدت أمه وجدا شديدا فقالت: يا رسول الله! لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل تتعارف الموتى؟ فأرسل إلى بشر بالسلام، قال: نعم والذي نفسي بيده إنهم يتعارفون كما يتعارف الطير في رؤس الأشجار، وكان لا يهلك هالك من بني سلمة إلا جاءته أم بشر. فقالت: يا فلان عليك السلام فيقول وعليك، فتقول: اقرأ على بشر مني السلام (نحن أشغل) أي بأعمالنا وجزاءها (من ذلك) أي مما تقولين من تعارف الموتى وإبلاغ سلام الأحياء إياهم (أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ) أي لست ممن يشغل عن ذلك، بل أنت ممن ورد فيهم هذه الكرامة وقولها فهو ذلك أي الفضل والكرامة التي ترجى لك ذاك، فتكون أنت في غاية السرور والحبور لا مشغولا ومخذولا، كذا في اللمعات. وقال الطيبي: هذا جواب عن اعتذاره بقوله: نحن أشغل أي لست ممن يشغل عما كلفتك، بل أنت ممن قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت (إن أرواح المؤمنين) ظاهر هذا السوق العموم، فيتناول كل مؤمن شهيدا كان أم غير شهيد، وإليه ذهب ابن القيم وابن كثير، فقالا: أرواح المؤمنين كلهم في الجنة شهداء كانوا أو غير

(10/111)


شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم، لأن هذا الحديث وكذا الحديث الآتي لم يخص فيهما شهيدا من غير شهيد. وقيل: المراد بالمؤمنين الشهداء خاصة دون غيرهم لما في رواية أحمد (ج6ص386) والترمذي من طريق عمرو بن دينار عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه مرفوعا أن أرواح الشهداء الخ، وهذا اختاره ابن القرطبي وابن عبدالبر، فقالا: الكرامة المذكورة في الحديث خاصة بالشهداء دون غيرهم، لأن القرآن والسنة إنما يدلان على ذلك، فالروايات المطلقة تحمل على المقيدة (في طير) جمع
خضر

(10/112)


طائر، ويطلق على الوحد (خضر) بضم فسكون جمع أخضر أي تدخل في أجواف طير وأبدانها، ففي رواية للطبراني: أن أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر، ذكرها الهيثمي، وليس ذلك حبسا للأرواح وتسجنا لجواز أن يقدر الله تعالى في تلك الأجواف من السرور والنعيم ما تجده في الفضاء الواسع يعني أنها تجد فيها من النعيم ما لا يوجد في الفضاء أو تكون الطيور وأجوافها بمنزلة المراكب للأرواح ترتع وتسرح بها في الجنة وتتنعم أو تكون الطيور للأرواح كالهوادج للجالسين فيها والله اعلم. وقيل: المعنى أن الأرواح تجعل في صور طير أي أن الروح نفسها تتشكل وتتمثل بأمر الله طائرا كتمثل الملك بشرا. قال السيوطي في حاشية أبي داود: إذا فسرنا الحديث أن الروح يتشكل طيرا فالأشبه أن ذلك في القدرة على الطيران فقط لا في صورة الخلقة، لأن شكل الإنسان أفضل الأشكال- انتهى. قال السندي: هذا إذا كان الروح الإنساني له شكل في نفسه ويكون على شكل الإنسان وأما إذا كان لا شكل له، بل يكون مجردا أو أراد الله تعالى أن يتشكل ذلك المجرد لحكمة ما فلا يبعد أن يتشكل من أول الأمر على شكل الطائر- انتهى. قلت: اختلف ألفاظ الرواية في أن الروح والنسمة تكون طيرا أو تكون في جوف طير كما اختلفت في أن هذه الكرامة للشهداء خاصة أو لجميع المؤمنين شهداء كانوا أم غير الشهداء، وقد تقدم شيء من الكلام على الاختلاف الثاني. وأما الاختلاف الأول فرجح القرطبي وابن عبدالبر والقاضي عياض رواية من روى أن الروح والنسمة طير أو كطير أو في صورة طير، وأنكروا رواية في أجواف طير وبحواصل طير، لأنها حينئذ تكون محصورة مضيقا عليها. ورد بأن رواية في أجواف طير في صحيح مسلم فلا يمكن إنكارها والتأويل محتمل كما تقدم. وذهب آخرون إلى الجمع والتوفيق. قال ابن القيم في كتاب الروح (ص157): إن الله سبحانه جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر فإنهم لما بذلوا أنفسهم لله حتى أتلفها أعداءه فيه أعاضهم منها

(10/113)


في البرزخ أبدانا خيرا منها تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من نعيم الأرواح المجردة عنها، ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير ونسمة الشهيد في جوف طير. وتأمل لفظ الحديثين، فإنه قال (أي في حديث كعب الآتي) نسمة المؤمن طير، فهذا يعم الشهيد وغيره، ثم خص الشهيد بأن قال هي في جوف طير، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير-انتهى. قال ابن كثير في هذا الحديث: إن روح المؤمن على شكل طير في الجنة، وأما أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، كما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعا، فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها فهو بشرى لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة أيضا وتسرح فيها وتأكل من ثمارها، كذا في شرح الموطأ للزرقاني. ومال القاري إلى الجمع بوجه
تعلق بشجر الجنة؟ قال: بلى، قالت: فهو ذلك)). رواه ابن ماجه، والبيهقي في كتاب البعث والنشور.

(10/114)


آخر حيث قال في أجواف طير خضر أي في صورة طير كما تقول رأيت ملكا في صورة إنسان- انتهى. وحاصله أن مؤدي رواية في أجواف طير هو كون الروح أو النسمة في صورة طير فكأنه أرجع هذه الرواية إلى رواية النسمة طير أو كطير أو في صورة طير (تعلق) بفتح المثناة فوق وسكون المهملة وضم اللام أي ترعى من أعلي شجر الجنة، قاله المنذري. وقال الجزري: أي تأكل وهو في الأصل للإبل إذا أكلت العضاه، يقال: علقت تعلق علوقا فنقل إلى الطير- انتهى. وقال ابن عبدالبر: يروي بفتح اللام وهو الأكثر ويروي بضم اللام والمعنى واحد وهو الأكل والرعي. وقيل بفتح اللام أي يتعلق ويتشبث بها ويقع عليها تكرمة للمؤمن وثوابا له، وبضم اللام بمعنى يشيب منها العلقة من الطعام (بشجر الجنة) وفي رواية لأحمد والطبراني في شجر الجنة. قيل: الظاهر أن يقال تعلق شجر الجنة أو من شجر الجنة، كما وقع في رواية لأحمد من ثمر الجنة. وفي الترمذي: من ثمر الجنة أو شجر الجنة. قيل: الباء زائدة. وقيل: تعديته بالباء تفيد الاتصال، لعله كنى به عن الأكل، لأنها إذا اتصلت بشجر الجنة وتشبثت بها أكلت من ثمرها وأرادت أم بشر بذلك أنهم أحياء فيمكن إرسال السلام إليهم (فهو ذلك) وفي بعض النسخ: فهو ذاك، كما في ابن ماجه. قال القاري: وقد تعلق بهذا الحديث وأمثاله بعض القائلين بالتناسخ وانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة وتعذيبها في الصور القبيحة، وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب، وهذا باطل مردود لا يطابق ما جاءت به الشرائع من إثبات الحشر والنشر والجنة والنار، ولهذا قال في الحديث الآتي حتى يرجعه الله إلى جسده، وفي بعض حواشي شرح العقائد: اعلم أن التناسخ عند أهله هو رد الأرواح إلى الأبدان الأخر في هذا العالم (أي عالم الدنيا يعني بالتوالد والتناسل) لا في الآخرة، إذ هم ينكرون الآخرة والجنة والنار ولذا كفروا- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي على بطلان التناسخ دلائل كثيرة

(10/115)


واضحة في الكتاب والسنة: منها قوله تعالى: ?حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون، لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا، إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون?[المؤمنون: 100] (رواه ابن ماجه) في الجنائز من طريق محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه، وأخرجه الطبراني في الكبير وفيه أيضا محمد بن إسحاق. قال الهيثمي: وهو مدلس وبقية رجاله الصحيح - انتهى. وأخرجه أحمد والترمذي من طريق عمرو بن دينار عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه مختصرا بدون القصة، ورواه أحمد من طريق معمر عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك قال: قالت أم مبشر لكعب بن مالك وهو شاك: اقرأ على ابني السلام تعني مبشرا، فقال: يغفر الله لك يا أم مبشر- الحديث. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد باختلاف يسير، وعزاه للطبراني في الكبير، وقال: رجاله رجال الصحيح. قلت: واختلف في سماع الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك. وسيأتي الكلام فيه في تخريج الحديث الذي بعدها هذا.
1647- (18) وعنه، عن أبيه، أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما نسمة المؤمن طير تعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله في جسده، يوم يبعثه)) رواه مالك، والنسائي، والبيهقي في كتاب البعث والنشور.

(10/116)


1647- قوله: (وعنه) أي عن عبدالرحمن (عن أبيه) أي كعب بن مالك (إنما نسمة المؤمن) بفتح النون والسين المهملة أي روحه. قال النووي: النسمة يطلق على ذات الإنسان جسما وروحا وعلى الروح مفردة، وهو المراد ههنا لقوله: حتى يرجعه الله في جسده. وبنحو ذلك قال ابن عبدالبر. وقال الخليل بن أحمد: النسمة الإنسان، قال والنسمة الروح والنسيما هبوب الريح- انتهي. والمراد روح المؤمن الشهيد، كما جاء في بعض روايات الحديث أرواح كل مؤمن شهيدا كان أو غير شهيد (طير) وفي رواية: طائر. وظاهره أن الروح يتشكل ويتمثل بأمر الله تعالى طائرا كتمثل الملك بشرا. ويحتمل أن المراد أن الروح يدخل في بدن طائر كما يدل عليه رواية: بأجواف طير وفي طير (تعلق) بالتأنيث وفي الموطأ يعلق أي بالتذكير، وكذا عند أحمد من طريق مالك عن الزهري أي ترعى وتسرح (حتى يرجعه الله) أي يرده (في جسده يوم يبعثه) أي يوم القيامة (رواه مالك) في الجنائز عن ابن شهاب عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إلخ. (والنسائي) في الجنائز، وأخرجه أيضا أحمد (ج3:ص455) وابن ماجه في الزهد كلهم من طريق مالك عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك إلخ. قال ابن عبدالبر: في رواية مالك هذه بيان سماع الزهري لهذا الحديث من عبدالرحمن بن كعب بن مالك، وكذلك رواه يونس عن الزهري قال سمعت عبدالرحمن بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه. وكذلك رواه الأوزاعي عن الزهري حدثني عبدالرحمن بن كعب. وقد أعل محمد بن يحيى الذهلي هذا الحديث بأن شعيب بن أبي حمزة ومحمد بن أخي الزهري وصالح بن كيسان رووه عن الزهري عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك عن جده كعب فيكون منقطعا، وقال صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن عبدالرحمن أنه بلغه أن كعب بن مالك كان يحدث، قال الذهلي وهذا المحفوظ عندنا. وخالفه في هذا غيره من

(10/117)


الحفاظ فحكموا لمالك والأوزاعي. قال ابن عبدالبر: فاتفق مالك ويونس والأوزاعي والحارث بن فضيل على رواية هذا الحديث عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه، قال ابن عبدالبر: ولا وجه عندي لما قاله الذهلي من ذلك ولا دليل عليه، واتفاق مالك ويونس والأوزاعي ومحمد بن إسحاق أولى بالصواب، والنفس إلى قولهم وروايتهم أسكن، وهم من الحفظ والإتقان بحيث لا يقاس بهم من خالفهم في هذا الحديث- انتهى. قلت: ورواية شعيب عند أحمد (ج3:ص456) وفيها تصريح بسماع الزهري عن عبدالرحمن بن كعب قال أحمد: حدثنا أبواليمان قال أنبأنا
1648- (19) وعن محمد بن المنكيدر، قال: دخلت على جابر بن عبدالله، وهو يموت، فقلت: ((اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم)). رواه ابن ماجه.
(4) باب غسل الميت وتكفينه
شعيب عن الزهري قال أنا عبدالرحمن بن كعب بن مالك أن كعب بن مالك الأنصاري كان يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إلخ. والظاهر عندي أن الزهري سمع هذا الحديث من عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب، كما قال مالك ومن معه، وسمع أيضا من ابن أخيه عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك عن جده كعب بن مالك، كما قال صالح بن كيسان، ودعوى كون هذه الرواية منقطعة مخدوشة. قال الحافظ: وقع في جهاد صحيح البخاري تصريحه بالسماع من جده- انتهى. وبرواية مالك ومن معه يرد ما قال أحمد بن صالح إنه لم يسمع الزهري من عبدالرحمن ابن كعب شيئا، إنما روى عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب. وأما تأويل رواية مالك ومن وافقه بأن عبدالرحمن المذكور فيها هو عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك ونسب في رواية مالك إلى جده فبعيد جدا.

(10/118)


1648- قوله: (وعن محمد بن المنكدر) ثقة فاضل من أوساط التابعين. قال المؤلف: من مشاهير التابعين جميع بين العلم والزهد العبادة مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها (دخلت على جابر بن عبدالله) بن حرام الأنصاري صحابي ابن صحابي غزا تسع عشرة غزوة (وهو يموت) أي في سياق الموت ونزعه (اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه ابن ماجه) في الجنائز قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات إلا أنه موقوف- انتهى. وروى البخاري في تأريخه من طريق أم سلمة بنت معقل عن جدتها خلدة بنت عبدالله بن أنس قال: جاءت أم البنين بنت أبي قتادة بعد موت أبيها بنصف شهر إلى عبدالله بن أنيس وهو مريض، فقالت يا عم: اقرأ أبي مني السلام. ذكره الحافظ في الإصابة في ترجمة عبدالله بن أنيس الجهني، وفي هذا وفي حديث محمد بن المنكدر وحديث عبدالرحمن بن كعب دليل على جواز إرسال السلام إلى الأموات، لكنها موقوفة ولم أجد حديثا مرفوعا صريحا صحيحا أو ضعيفا يدل على ذلك.
(باب غسل الميت وتكفينه) أي بيان أحكامها وآدابها. واعلم أنه اختلف في حكم غسل الميت. فذهب الجمهور إلى أن فرض كفاية على الأحياء. واختلفت المالكية في ذلك، فقال بعضهم بالوجوب كالجمهور، وذهب بعضهم إلى أنه سنة على الكفاية، حكى ذلك الخلاف ابن رشد في البداية، والحافظ في الفتح، والدسوقي وغيرهم. قال الحافظ: قد نقل النووي الإجماع على أن غسل الميت فرض كفاية وهو ذهول شديد، فإن الخلاف مشهور عند الماليكة حتى أن القرطبي رجع في شرح مسلم أنه سنة. ولكن الجمهور على وجوبه، وقد رد ابن العربي على
?الفصل الأول?
1649- (1) عن أم عطية، قالت:

(10/119)


من لم يقل بذلك. وقد توارد به القول والعمل وغسل الطاهر المطهر فكيف بمن سواه- انتهى. واستدل للوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم: اغسلوه، وبقوله في حديث أم عطية اغسلنها كما سيأتي. قلت: غسل الأموات ثابت في هذه الشريعة ثبوتا قطعيا ولم يسمع في أيام النبوة أنه مات ميت غير شهيد فترك غسله، بل هذه الشريعة في غسل الأموات ثابتة من لدن أبينا آدم عليه الصلاة والسلام، فقد روى الحاكم في المستدرك (ج2ص545) من طريق ثابت البناني عن الحسن عن عتي بن ضمرة السعدي عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لما توفى آدم غسلته الملائكة بالماء وترا وألحدوا له، وقالوا هذه سنة آدم في ولده. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وأخرجه عبدالله بن أحمد في زوائد المسند (ج5ص136) مطولا من طريق حميد عن الحسن عن عتي عن أبي بن كعب موقوفا عليه، ورواه البيهقي (ج3ص404) مرفوعا من طريق خارجة ابن مصعب (وهو متروك) عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عتي عن أبي وموقوفا من طريق هشيم عن يونس. واختلف في أن غسل الميت تعبد أو للنظافة، فالمشهور عند الجمهور أنه غسل تعبدي فيشترط فيه ما يشترط في بقية الأغسال الواجبة والمندوبة. وقال ابن شعبان وغيره من المالكية: إنه للتنظيف فيجزىء بالماء المضاف كماء الورد ونحوه وقال محمد بن شجاع البلخي: سبب وجوب الغسل هو الحدث، لأن الموت لا يخلو عن سابقة حدث لوجود استرخاء المفاصل وزوال العقل وهو القياس في الحي، لأن الإنسان لا ينجس لكرامته، وإنما اقتصر في الحي على الأعضاء للحرج لكثرة تكرر سبب الحدث، فلما لم يلزم سبب الحرج في الميت عاد الأصل، قال: وليس غسله للتطهير أي لإزالة نجاسة تحل بالموت، فإن الآدمي لا ينجس بالموت بتشرب الدم المسفوح في أجزاءه كرامة له؛ لأنه لو تنجس لما حكم بطهارته بالغسل كسائر الحيوانات التي حكم بنجاستها بالموت، وقد روى عن ابن عباس أنه قال: المسلم لا ينجس

(10/120)


حيا ولا ميتا. وقال عامة مشائح الحنفية: إن غسله للتطهير من النجاسة، قالوا إن بالموت يتنجس الميت لما فيه من الدم المسفوح كما يتنجس سائر الحيوانات التي لها دم مسفوح إلا أنه إذا غسل يحكم بطهارته كرامة له فكانت الكرامة عندهم في الحكم عندهم في الحكم بالطهارة عند وجود السبب المطهر في الجملة. والراجح عندنا أن غسله إنما هو للتعبد وأنه لا ينجس بالموت كما قال ابن عباس، والله اعلم.
1649- قوله: (عن أم عطية) اسمها نسيبة بنت كعب الأنصارية وكانت تغسل الميتات، وقد شهدت غسل ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحكت ذلك فأتقنت، وحديثها أصل في غسل الميت، ومدار حديثها على محمد وحفصة
دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثا أو خمسا

(10/121)


ابني سيرين، وحفظت منها حفصة ما لم يحفظ محمد بن سيرين. قال ابن المنذر: ليس في أحاديث الغسل للميت أعلى من حديث أم عطية وعليه عول الأئمة (دخل علينا) أي معشر النسائي (ونحن نغسل ابنته) لم تقع في شيء من روايات البخاري ابنته هذه مسماه. والمشهور أنها زينب زوج أبي العاص بن الربيع والدة أمامة التي تقدم ذكرها في باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه، وزينب أكبر بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت وفاتها في أول سنة ثمان، وقد وردت مسماة في هذا عند مسلم من طريق عاصم الأحول عن حفصة عن أم عطية قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اغسلنها إلخ. وقيل: إنها أم كلثوم زوج عثمان، كما في ابن ماجه من رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت: دخل علينا ونحن نغسل ابنته أم كلثوم. قال الحافظ: هذا الإسناد على شرط الشيخين، وكما وقع في المبهمات لابن بشكوال من طريق الأوزاعي عن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم- الحديث، وكما وقع في الذرية الطاهرة للدولابي من طريق أبي الرجال عن عمرة أن أم عطية كانت ممن غسل أم كلثوم ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: فيمكن ترجيح ذلك لمجيئه من طرق متعددة وفيه أنه وقع في رواية للبخاري قول ابن سيرين: ولا أدري أي بناته، وهذا يدل على أن تسميتها في رواية ابن ماجه وابن بشكوال ممن دون ابن سيرين، وأن أيوب لم يسمع تسميتها من حفصة بنت سيرين ولا ينافي هذا تسمية الآخر لها بزينب، لأنه علم ما لم يعلمه أيوب، وقد صرح عاصم في روايته عن حفصة عند مسلم أنها زينب. وأما رواية الدولابي فلا يلزم منها أن تكون البنت في حديث الباب أم كلثوم، لأن أم عطية كانت غاسلة الميتات، كما جزم به ابن عبدالبر، فيمكن أن تكون حضرت لهما جميعا (اغسلنها) أمر لأم عطية ومن

(10/122)


معها من النساء. قال ابن بزيزة: استدل به على وجوب غسل الميت. قال ابن دقيق العيد: لكن قوله ثلاثا ليس للوجوب على المشهور من مذاهب العلماء، فيتوقف الاستدلال به على تجويز إرادة المعنيين المختلفين بلفظ واحد، لأن قوله ثلاثا غير مستقل بنفسه، فلابد أن يكون داخلا تحت صيغة الأمر فيراد بلفظ الأمر الوجوب بالنسبة إلى أصل الغسل والندب بالنسبة إلى الايتار- انتهى. فمن جوز ذلك كالشافعية جوز الاستدلال بهذا الأمر على الوجوب، ومن لم يجوزه حمل الأمر على الندب لهذه القرينة. واستدل على الوجوب بدليل آخر كما سبق (ثلاثا أو خمسا) وفي رواية للنسائي اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا و"أو" هنا للترتيب لا للتخيير. قال النووي: المراد اغسلنها وترا وليكن ثلاثا فإن احتجن إلى زيادة فخمسا. وحاصله أن الايتار مطلوب والثلاث مستحبة، فإن حصل الانقاء بها لم يشرع ما فوقها، والأزيد وترا حتى يحصل الانقاء، والواجب من ذلك مرة واحدة عامة للبدن- انتهى. وقال ابن العربي: في قوله: أو خمسا إشارة إلى أن المشروع هو الايتار، لأنه نقلهن
أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك بماء وسدر،

(10/123)


من الثلاث إلى الخمس وسكت عن الأربع (أو أكثر من ذلك) أي من الخمس بكسر الكاف، لأنه خطاب للمؤنث. ويدل الحديث على أنه لا تحديد في غسل الميت، بل المطلوب التنظيف، لكن لابد من مراعاة الايتار، فقد وقع في رواية للشيخين كما سيأتي: ثلاثا أو خمسا أو سبعا، وفي رواية لهما ولأبي داود والنسائي: أو سبعا أو أكثر من ذلك، وهذا ظاهر في شرعية الزيادة على السبع إن احتيج إلى ذلك (إن رأيتن ذلك) بكسر الكاف خطاب لأم عطية، فإنها كانت رئيستهن فخصت بالخطاب وعممن في قوله رأيتن. قال الطيبي: رأيت من الرأي أي إن احتجتن إلى أكثر من ثلاث أو خمس للانقاء لا للتشهي فافعلنه. وفيه دليل على التفويض إلى اجتهاد الغاسل، ويكون ذلك بحسب الحاجة لا التشهي. قال ابن المنذر: إنما فوض الرأي إليهن بالشرط المذكور وهو الايتار (بماء وسدر) بكسر السين شجر النبق، والنبق حمله وثمره. والمراد في الحديث ورق السدر، قيل الحكمة فيه: أنه يقلع الأوساخ وينقى البشرة وينعمها ويشد العصب. قال ابن التين: قوله: بماء والسدر هو السنة في ذلك، والخطمي مثله، فإن عدم فما يقوم مقامه كالأشنان والنطرون. قال الزين: قوله: بماء وسدر متعلق بقوله اغسلنها، وظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل وهو مشعر بأن غسل الميت للتنظيف لا للتطهير، لأن الماء المضاف (أي الماء المقيد وهو الذي خالطه طاهر كالأشنان والصابون والزعفران والباقلاء فغير إحدى صفاته طعمه أو لونه أو ريحه وبقي رقيقا كالماء المطلق) لا يتطهر به (أي عند الأئمة الثلاثة خلافا للحنفية) . قال الحافظ: وقد يمنع كون الماء يصير مضافا بذلك لاحتمال أن لا يغير السدر وصف الماء بأن يمعك (أي يدلك) بالسدر ثم يغسل بالماء في كل مرة، فإن لفظ الخبر لا يأبى ذلك وقال القرطبي: يجعل السدر في ماء ويخضخض إلى أن تخرج رغوته ويدلك به جسده، ثم يصب عليه الماء القراح فهذه غسله. وقيل. تطرح ورقات السدر في الماء أي لئلا يمازج

(10/124)


الماء فيتغير وصفه المطلق. وحكى عن أحمد أنه أنكر ذلك، وقال يغسل في كل مرة بالماء والسدر. قال ابن قدامة: هذا المنصوص عن أحمد. قال صالح: قال أبي: الميت يغسل بماء وسدر ثلاث غسلات. قلت: فيبقى عليه فقال: أي شيء يكون هو أنقى له. وذكر عن عطاء أن ابن جريج قال له إنه يبقى عليه السدر إذا غسل به كل مرة، فقال عطاء هو طهور. قال ابن قدامة. قول أحمد هذا دال على أن تغيير الماء بالسدر لا يخرجه عن طهوريته. وقيل الغسلة الأولى تكون بالماء وحده وفي الثانية تكون بماء وسدر، لأن الغسل أولا هو الفرض، فوجب أن يكون بالماء وحده وما بعد ذلك فإنما هو على وجه التنظيف والتطييب فلا يضره ما خالطه مما يزيد في تنظيفه. وقيل: يغسل أولا بالماء والسدر ثم بالماء وحده، لأن فرض الغسل إنما يجب أن يكون بعد المبالغة في تنظيفه. وقيل غير ذلك ولا يخفى أن هذه التأويلات كلها مخالفة لظاهر قوله اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك بماء وسدر
واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور، فإذا فرغتن آذنني، فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه، فقال: أشعرنها إياه. وفي رواية: اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا، وأبدأن

(10/125)


في حديث أم عطية، وقوله: اغسلوه بماء وسدر في حديث ابن عباس الآتي في المحرم، وقوله: اغسليها بعد ذلك ثلاث مرات بماء وسدر في حديث أم سليم عند الطبراني، فالراجح عندنا هو أنه يغسل في كل مرة بماء وسدر بأن يغلي الماء بالسدر ثم يغسل به، وقد روي أبوداود بإسناد صحيح عن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية يغسل بالسدر مرتين والثالثة بالماء والكافور. وقال ابن الهمام: الأولى كون الأوليين بالسدر كما هو ظاهر كتاب الهداية لما في أبي داود عن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية يغسل بالسدر مرتين والثالث بالماء والكافور، وسنده صحيح- انتهى. (واجعلن في الآخرة) أي المرة الآخرة (كافورا أو شيئا من كافور) هو شك من الراوي أي اللفظتين قال. والأول محمول على الثاني، لأنه نكرة في سياق الإثبات، فيصدق بكل شئ منه. وجزم في رواية للبخاري باللفظ الأول. وظاهره أنه يجعل الكافور في الماء، ولا يضر الماء تغييره به. قيل: الحكمة في الكافور مع كونه يطيب رائحة الموضع لأجل من يحضر من الملائكة وغيرهم أنه فيه تجفيفا وتبريدا وقوة نفوذ وخاصية في تصليب بدن الميت وطرد الهوام عنه وردع ما يتخلل من الفضلات ومنع إسراع الفساد إليه وهو أقوى الأرابيح الطيبة في ذلك، وهذا هو السر في جعله في الغسلة الأخيرة، إذ لو كان في الأولى مثلا لأذهبه الماء، وإذا عدم الكافور قام غيره مقامه مما فيه هذه الخواص أو بعضها (فإذا فرغتن) من غسلها (آذنني) بمد الهمزة وكسر الذال المعجمة وفتح النون الأولى المشددة وكسر الثانية من الإيذان، وهو الأعلام، والنون الأول أصلية ساكنة، والثانية ضمير فاعل، وهي مفتوحة والثالثة للوقاية (فلما فرغنا) من غسلها (آذناه) بالمد أي أعلمناه بالفراغ (فألقى إلينا) وفي رواية: فأعطانا (حقوه) بفتح الحاء المهملة، ويجوز كسرها بعدها قاف ساكنة أي إزارة. والحقو في الأصل معقد الإزار فسمى به ما يشد على الحقو توسعا للمجاورة==

12. مرعاة المفاتيح

(أشعرنها) بهمزة القطع أي زينب ابنته (إياه) أي الحقو أي اجعلنه شعارها. والشعار والثوب الذي يلي الجسد، لأنه يلى شعره يعني اجعلنه تحت الأكفان بحيث يلاقي بشرتها. والمراد إيصال البركة إليها والحكمة في تأخير الإزار إلى أن يفرغن من الغسل ولم يناولهن إياه أولا ليكون قريب العهد من جسده الكريم حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل، وهو أصل في التبرك بآثار الصالحين واختلف في صفة أشعارها إياه، فقيل: يجعل لها مئزرا. وقيل: تلف فيه، وهو الصواب. وفي الحديث جواز تكفين المرأة في ثوب الرجل. وقد نقل ابن بطال الاتفاق على ذلك (وفي رواية) أي للشيخين (اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا) ظاهره أنه لا يزاد على السبع، لأنه نهاية ما ورد في عدد التطهير، لكن ورد في رواية أخرى للشيخين وغيرهما الإذن بالزيادة عند الحاجة كما تقدم ( أبدأن)
بميامنها ومواضع الوضوء منها، وقالت: فضفرنا شعرها ثلاثة قرون، فألقيناها خلفها)) متفق عليه.

(10/127)


يجمع المؤنث من بدأ يبدأ (بميامنها) جمع ميمنة أي بالأيمن من بدنها من اليد والجنب والرجل يعني ابدأن بغسل أعضاء اليمين منها قبل المياسر في الغسل والوضوء (ومواضع الوضوء منها) أي وابدأن بغسل مواضع الوضوء قبل باقي الأعضاء، قال الحافظ: ليس بين الأمرين تناف لإمكان البداءة بمواضع الوضوء وبالميامن معا. وقال الزين بن المنير: ابدأن يميامنها أي في الغسلات التي لا وضوء فيها ومواضع الوضوء منها أي في الغسلة المتصلة بالوضوء. وفيه دليل على شرعية الوضوء للميت. وأصرح منه ما ورد في حديث أم سليم عند الطبراني: فإذا فرغت من غسل سفلتها غسلا نقيا بماء وسدر فوضئيها وضوء الصلاة ثم اغسليها. قال العيني: وضوء الميت سنة كما في الاغتسال في حالة الحياة غير أنه لا يمضمض ولا يستنشق، لأنهما متعسران لتعذر إخراج الماء من الأنف والفم قال ابن قدامة في المغني: يوضأه وضوء الصلاة فيغسل كفيه ثم يأخذ خرقة خشنه، فيبلها ويجعلها على إصبعه فيمسح أسنانه وأنفه حتى ينظفهما ويكون ذلك في رفق ثم يغسل وجهه ويتم وضوءه، قال: ولا يدخل الماء فاه ولا منخريه في قول أكثر أهل العلم، كذلك قال سعيد بن جبير والنخعي والثوري وأبوحنيفة. وقال الشافعي: يمضمض ويستنشق كما يفعل الحي (وقالت) أم عطية في جملة حديثها (فضفرنا) بالضاد المعجمة وتخفيف الفاء من الضفر (شعرها) أي نسجنا شعر رأسها عريضا. قال العيني: الضفر نسج الشعر عريضا، وكذلك التضفير. وقال الطيبي: من الضفيرة وهي النسج، ومنه ضفر الشعر وإدخال بعضه في بعض (ثلاثة قرون) أي ضفائر جمع القرن وهو الخصلة من الشعر (فألقيناها) أي الضفائر (خلفها) أي وراء ظهرها. وفي رواية: ضفرنا شعرها ناصيتها وقرنيها أي اجعلنا ناصيتها ضفيرة وقرنيها أي جانبي رأسها ضفيرتين. والمراد بالقرون في رواية الكتاب الضفائر والذوائب. ووقع في رواية: مشطناها ثلاثة قرون أي سرحنا شعرها بالمشط ثم جعلناه ثلاث ضفائر. وفيه حجة للشافعي

(10/128)


ومن وافقه على استحباب تسريح شعر الميت وجعله ثلاث ضفائر وإلقاءها خلف ظهره. وقال ابن القاسم: لا أعرف الضفر.وقال العيني من الحنفية: يجعل ضفيرتين على صدرها فوق الدرع. وقال بعضهم: يسدل شعرها بين ثديها من الجانبين جميعا تحت الخمار ولا يسدل شعرها خلف ظهرها، قالوا: ليس في الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمور، وإنما المذكور فيه الأخبار عن أم عطية عن فعلهن، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك. وأجيب بأن الأصل أن لا يفعل بالميت شيء من القرب إلا بإذن من الشارع محقق. وقال النووي: الظاهر إطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره له- انتهى. وهو عجيب، ففي صحيح ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك. ولفظه: واجعلن لها ثلاثة قرون وترجم عليه ذكر البيان بأن أم عطية
متفق عليه.
1650- (2) وعن عائشة، قالت: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب
إنما مشطت قرونها بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من تلقاء نفسها، وفي السنن لسعيد بن منصور: اغسلنها وترا واجعلن شعرها ضفائر، وفي حديث أم سليم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واضفرن شعرها ثلاثة قرون قصة وقرنين ولا تشبهنها بالرجال. وقد ظهر بهذا بطلان قول من قال من الحنفية بأن ضفرها ومشطها وإلقاءها خلف ظهرها من باب الزينة، وهذه ليست بحال الزينة. (متفق عليه) إلا قولها فألقيناها خلفها، فإنه للبخاري فقط. والحديث أخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم.

(10/129)


1650- قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن) بصيغة المجهول من التكفين. (في ثلاثة أثواب) في طبقات ابن سعد إزارا ورداء ولفافة. وفيه رد على من قال: إن المشروع في كفن الرجل إلى سبعة ثياب. واستدل لذلك بما روى أحمد (ج1ص94، 102) والبزار وابن سعد في طبقاته (ج2ص67)، وابن عدي في الكامل، وابن حبان في الضعفاء من حديث علي بن أبي طالب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في سبعة أثواب. وأجيب عنه بأن في سنده عندهم عبدالله بن محمد بن عقيل، وقد وهم هو فيه. قال الحافظ في التلخيص (ص155): هو سيء الحفظ لا يصلح حديثه للاحتجاج إذا خالف الثقات كما هنا، وقد خالف هو رواية نفسه، فإنه روى عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثوب نمرة. قال الحافظ: وروى الحاكم من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر ما يعضد رواية عقيل عن ابن الحنفية بمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - كفن في سبعة. قلت: ويعارضه ما روى ابن ماجه من طريق سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر أنه كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث رياط بيض سحولية. قال في الزوائد: إسناده حسن. وقد قال الترمذي: تكفينه في ثلاثة أثواب أصح ما ورد في كفنه. وقال الحاكم: إنها تواترت الأخبار عن علي وابن عباس وابن عمر وعبدالله بن مغفل وعائشة في تكفين النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، ذكره الشوكاني في النيل. وقال في السيل الجرار: لم يرو في عدد الأكفان شيء يعتمد عليه إلا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة، قال: ولم يثبت في تكفينه - صلى الله عليه وسلم - ما يخالف هذا، وكل ما روي في ذلك فهو لا يصلح لمعارضة هذا مع كونه في نفسه غير صحيح لا يحل العمل به فضلا عن أن يعارض ما في الصحيحين وغيرهما. وفيه أيضا رد على المالكية حيث أن المرجح عندهم في كفن الرجل خمسة ثياب: إزار ولفافتان وقميص وعمامة، وعلى الشافعي حيث قال بجواز الخمسة

(10/130)


من غير استحباب، واستدل لذلك بما روى سعيد بن منصور أنه كفن ابنه واقدا في خمسة أثواب: قميص وعمامة وثلاث لفائف، ولا يخفى أنه فعل صحابي، وقد خالف فيه ما روى هو وغيره من الصحابة في تكفين النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه أيضا
يمانية، بيض سحولية، من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة)).
رد على من استحسن من المتأخرين من الحنفية زيادة العمامة للعالم، وقال بأربعة أثواب في كفنه، واحتج بفعل ابن عمر المذكور. ولا يخفى ما فيه، فالصواب هو عدم الزيادة على الثلاثة. قال ابن قدامة: وتكره الزيادة على ثلاثة أثواب في الكفن لما فيه من إضاعة المال. (يمانية) بالتخفيف، وأصله يمنية بالتشديد نسبة إلى اليمن، لكن قدمت إحدى اليائين ثم قلبت الفاء أو حذفت وعوض عنها بألف على خلاف القياس. وقال الشوكاني: يمانية بتخفيف الياء على اللغة الفصيحة المشهورة. وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما لغة في تشديدها. ووجه الأول أن الألف بدل من ياء النسبة فلا يجتمعان، فيقال يمنية بالتخفيف، وكلاهما نسبة إلى اليمن. (بيض) بكسر الباء جمع أبيض، فيستحب الثياب البيض للكفن؛ لأن الله تعالى لم يكن ليختار لنبيه إلا الأفضل. وسيأتي حديث ابن عباس بلفظ: وكفنوا فيها. (أي في الثياب البيض) موتاكم. قال النووي: استحباب التكفين في البياض مجمع عليه. (سحولية) بضم السين والحاء المهملتين ولام، ويروي بفتح أوله نسبة إلى سحول قرية باليمن. وقال الأزهري: بالفتح المدينة، وبالضم الثياب. وقيل: النسبة إلى القرية بالضم. وأما بالفتح فنسبة إلى القصار؛ لأنه يسحل الثياب أي ينقيها، كذا في الفتح. وقال النووي بضم السين وفتحها وهو أشهر، وهو رواية الأكثرين قال في النهاية تبعا للهروى: فالفتح منسوب إلى السحول وهو القصار؛ لأنه يسحلها أي يغسلها أو إلى سحول وهي قرية باليمن. وأما الضم فهو جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلا من قطن، وفيه شذوذ؛ لأنه نسب إلى الجمع. وقيل: إن

(10/131)


اسم القرية بالضم أيضا-انتهى. وفي الصحاح السحل الثوب الأبيض من الكرسف من ثياب اليمن، والجمع سحول وسحل مثل سقف، ثم ذكر هذا الحديث، ثم قال: ويقال سحول موضع باليمن وهي تنسب إليه. (من كرسف) بضم الكاف والسين بينهما راء ساكنة أي من قطن. ووقع في رواية للبيهقي: سحولية جدد. (ليس فيها قميص ولا عمامة) أي ليس موجودا أصلا، بل هي الثلاثة فقط. فالمقصود نفي وجودهما جملة. قال النووي: معناه لم يكفن في قميص ولا عمامة، وإنما كفن في ثلاثة أثواب غيرهما ولم يكن مع الثلاثة شيء آخر، هكذا فسره الشافعي وجمهور العلماء، وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث. وقيل: معناه لم يكن القميص والعمامة من جملة الثلاثة، بل كانا زائدين على الثلاثة فيكون ذلك خمسة، وهو تفسير مالك. قال العراقي: وهو خلاف الظاهر. قال السندي: بل يرده حديث أبي بكر : في كم كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت عائشة: في ثلاثة أثواب، فقال أبوبكر لثوب عليه كفنوني فيه مع ثوبين آخرين، وهو حديث صحيح. (أخرجه مالك والبخاري وغيرهما). قال بعض الحنفية: سألها أبوبكر وإن تولى تكفينه علي والعباس وابنه الفضل؛ لأنها كانت في البيت شاهدت ذلك-انتهى. قلت: ويؤيد التفسير الأول ما رواه ابن سعد في طبقاته عن عائشة بلفظ: ليس في كفنه

(10/132)


قميص ولا عمامة، والأفضل أن يكفن الرجل في ثلاث لفائف بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ولا يزيد عليها، وإليه ذهب الجمهور. قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العمل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، والمستحب عند الحنفية ثلاثة ثياب كالجمهور، لكن الثلاثة عند الحنفية: إزار. (من القرن إلى القدم. وقيل: من الحقو إلى القدم كإزار الحي)، وقميص غير مخيط ولا مكفوف ولا مزرر بلا جيب ودخاريص وكمين (من الرقبة إلى القدمين، وقيل: إلى نصف الساق) ولفافة، وكان محمد بن سيرين يستحب أن يكون قميص الميت كقميص الحي مكففا مزررا. واستدل الحنفية على استحباب القميص بما في قصة عبدالله بن أبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى ابنه قميصه ليكفنه فيه. وفيه أن غاية ما فيه أنه يدل على جواز التكفين في القميص ولا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف في الأفضلية، وفعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - تكرمة لابنه عبدالله بن عبدالله بن أبي وإجابة لسؤاله حين سأله ذلك ليتبرك به أبوه. وقيل: إنما فعل ذلك جزاء لعبدالله بن أبي عن كسوته العباس قميصه يوم بدر، فيكون مختصا بهذه القضية، على أن قميصه - صلى الله عليه وسلم - هذا كان مخيطا مكفوف الأطراف ذا الكمين والجيب، والمستحب عند الحنفية هو غير هذا كما تقدم. واستدلوا أيضا بما روى النسائي والطحاوي والبيهقي (ج4ص15- 16) في قصة الأعرابي من حديث شداد بن الهاد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفنه في جبته - صلى الله عليه وسلم -. وفيه ما تقدم أنه إنما يدل على الجواز ولا اختلاف فيه، على أنه يخالف الحنفية من جهة أن المستحب عندهم إنما هو القميص الغير المخيط بلا كمين، والجبة المذكورة كانت مخيطة مكفوفة الأطراف ذات كمين واستدلوا أيضا بما روى عن عبدالله بن مغفل أنه قال: إذا أنا مت فاجعلوا في غسلي كافورا، وكفنوني في بردين وقميص، فإن النبي - صلى الله عليه

(10/133)


وسلم - فعل ذلك، أخرجه الحاكم (ج3ص578) والطبراني في الكبير، وابن سعد في طبقاته (ج2ص68)، وبما روى البزار وابن عدي في الكامل عن جابر بن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب بيض قميص وإزار ولفافة، وبما روى أحمد وأبوداود وابن ماجه والبيهقي وابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب نجرانية: الحلة ثوبان وقميصه الذي توفي فيه، وبما روى محمد بن الحسن في كتاب الآثار، وابن سعد في طبقاته عن إبراهيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في حلة يمانية وقميص، وأخرجه ابن سعد أيضا وعبدالرزاق عن الحسن نحوه، وبما روى الطبراني في الأوسط عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب أحدها قميص. قال الهيثمي: إسناده حسن، وبما روى ابن أبي شيبة عن عبدالله بن عمرو قال: يكفن الميت في ثلاثة أثواب قميص وإزار ولفافة. وأجيب بأن هذه الأحاديث لا تنتهض لمعارضة حديث عائشة الثابت في الصحيحين وغيرهما؛ لأنها كلها مدخولة، أما حديث ابن مغفل ففيه صدقة بن موسى. قال الحافظ:

(10/134)


صدوق، له أوهام. قلت: وضعفه ابن معين وأبوداود والنسائي والدولابي والساجي. وقال أبوأحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال الترمذي: ليس عندهم بذاك القوي. وقال البزار: ليس بالحافظ عندهم، وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وأما حديث جابر بن سمرة فقد تفرد به ناصح بن عبدالله المحلمي، وهو منكر الحديث قاله البخاري غيره. وأما حديث ابن عباس ففيه يزيد بن أبي زياد وقد تغير، وهذا من ضعيف حديثه. قال النووي: هذا الحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به؛ لأن يزيد بن أبي زياد مجمع على ضعفه، سيما وقد خالف روايته رواية الثقات. وقال السندي: ولا يخفى أن التكفين في القميص الذي مات فيه وغسل فيه مستبعد عادة أيضا لكونه يبل الأكفان. وقال ابن الهمام: قد ذكروا أنه عليه الصلاة والسلام غسل في قميصه الذي توفي فيه فكيف يلبسونه الأكفان فوقه وفيه بللها-انتهى. على أنه يخالف الحنفية؛ لأن قميصه الذي توفي فيه كان مخيطا مكفوف الأطراف ذا الجيب والدخاريص والكمين؛ لأنه هو المعتاد في قميص الحي. وهذا خلاف الحنفية، ولذا أول بعضهم حديث عائشة بأن المراد فيه نفي القميص ذي الكمين والدخاريص لا نفي القميص مطلقا، قالوا: لو كفن أحد في قميصه قطع جيبه ولبته وكماه. وأما حديث إبراهيم النخعي فمرسل، وكذا حديث الحسن، المرسل ليس بحجة على الصحيح خصوصا في مقابلة الحديث الصحيح. وأما حديث أنس ففي كونه حسنا قابلا للاحتجاج نظر، فإن صحة الإسناد أو حسنه لا يستلزم صحة الحديث أو حسنه كما تقرر في مقره. وحديث أنس هذا وإن حسن الهيثمي إسناده فهو شاذ لكونه مخالفا لحديث عائشة الصحيح المخرج في الصحيحين وغيرهما. على أنه لا يطمئن القلب بتحسين الهيثمي، فإن له أوهاما في كتابه، وقد تتبع الحافظ أوهامه فيه فبلغه فعاتبه فترك التتبع. وأما أثر عبدالله بن عمرو فهو من قوله ورأيه، وقد خالف به ما اختاره الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. هذا، وقد تأول بعض الحنفية حديث عائشة

(10/135)


بأن معناه ليس فيها قميص أي جديد. وقيل: ليس فيها القميص الذي غسل فيها. وقيل: معناه ليس فيها قميص مخيط مكفوف الأطراف ذو الكمين والدخاريص، فإن قميص الكفن ليس له دخاريص ولا كمان حتى لو كفن في قميصه قطع جيبه ولبته وكماه، قاله الكبيري من الحنفية. وحاصل هذا أن محمل رواية عائشة نفي القميص المخيط مع الكمين، ومحمل الروايات المتقدمة المثبتة أن الثوب الواحد من الثلاثة كان على هيئة القميص. قلت: تفسير الشافعي ومن وافقه هو الظاهر وما عداه تعسف لا يخفى عسفه على المنصف، وإنما ارتكبه من ارتكبه تمشية للمذهب فلا يلتفت إليه. وأما الجمع فإنما يصار إليه عند المعارضة والمعادلة، ولا يعادل حديث الصحيحين أحاديث غيرهما، فالعمل على حديث عائشة هو الأولى. قال ابن قدامة: هو أصح حديث روي في كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعائشة أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعرف
متفق عليه.
1651-(3) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أكفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه)) رواه مسلم.
1652-(4) وعن عبدالله بن عباس، قال: (( إن رجلا كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -
بأحواله، ولهذا لما ذكر لها قول الناس: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في برد، قالت: قد أتى بالبرد، ولكنهم لم يكفنوه فيه، فحفظت ما أغفله غيرها، وقالت أيضا: أدرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلة يمنيه كانت لعبدالله بن أبي بكر ثم نزعت عنه فرفع عبدالله بن أبي بكر الحلة، وقال: أكفن فيها، ثم قال: لم يكفن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكفن فيها! فتصدق بها، رواه مسلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد، ومالك، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم.

(10/136)


1651- قوله: (إذا كفن) بتشديد الفاء. (أحدكم أخاه) وفي رواية النسائي: إذا ولي أحدكم أخاه بفتح الواو وكسر اللام المخففة من الولاية أي تولى أمر تجهيزه وتكفينه. (فليحسن) بضم الياء وفتح الحاء وتشديد السين المهملة المكسورة. وقيل: بإسكان الحاء وتخفيف السين. قال النووي: كلاهما صحيح. (كفنه) قيل بسكون الفاء مصدر أي تكفينه فيشمل الثوب وهيئته وعمله، والمعروف الفتح. قال النووي في شرح المهذب: هو الصحيح، والمراد بتحسين الكفن بياضه ونظافته ونقاءه وسبوغه وكثافتة (أي كونه صفيقا) وستره وتوسطه، وكونه من جنس لباسه في الحياة لا أفخر منه ولا أحقر، وليس المراد بإحسانه السرف فيه والمغالاة (أي كونه غالي الثمن) ونفاسته لحديث علي الآتي: لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلب سلبا سريعا. قال التوربشتي: معنى الحديث أن يختار لأخيه المسلم من الثياب أتمها وأنظفها وأنصعها لونا على ما ورد به السنة، ولم يرد بالتحسين ما يؤثره المبذرون أشرا ورياء وسمعة من الثياب الرفيعة، فإن ذلك منهي عنه بأصل الشرع، وهو النهي عن إضاعة المال، ثم ذكر حديث علي، ثم قال: وفي حديث جابر هذا زيادة مبينة للمعنى الذي ذكرناه ولم يذكره في المصابيح، وقد ذكر مسلم الحديث بتمامه، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل. (أي غير جيد يعني حقير غير كامل) وقبر ليلا فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل ليلا حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3ص403) والحاكم (ج1ص369) أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي قتادة.
1652- قوله: (إن رجلا) قال الحافظ: لم أقف على تسميته. (كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي بعرفة عند

(10/137)


فوقصته ناقته وهو محرم فمات، فقال رسول الله صلى اله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا)).
الصخرات راكبا على ناقته فوقع عنها. (فوقصته) بفتح الواو بعدها قاف ثم صاد مهملة. (ناقته) أي كسرت عنقه قال في النهاية: الوقص كسر العنق وقصت عنقه اقصها وقصا ووقصت به راحلته كقولك: خذ الخطام وبالخطام ولا يقال وقصت العنق نفسها ولكن يقال وقص الرجل فهو موقوص-انتهى. قال الكرماني: إن كان الكسر حصل بسبب الوقوع فإسناد الوقص إلى الناقة مجاز، وإن حصل من الناقة بأن أصابته بعد أن وقع فحقيقة. (اغسلوه بماء وسدر) فيه دليل على وجوب غسل الميت. وفيه إباحة غسل المحرم الحي بالسدر خلافا لمن كرهه له، قاله ابن المنذر. (وكفنوه في ثوبيه) أي إزاره وردائه اللذين لبسهما في الإحرام، وفيه أن الوتر ليس بشرط في الصحة، وأن الثلاث في حديث عائشة المتقدم ليست واجبة، وإنما هي مستحبة، وهو قول الجمهور. وأما الواحد الساتر لجميع البدن فلا بد منه بالاتفاق. وقيل: يحتمل اقتصاره له على التكفين في ثوبيه لكونه مات فيهما وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة. ويحتمل أنه لم يجد غيرهما. وفيه أن الكفن من رأس المال؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر به ولم يستفصل هل عليه دين مستغرق أم لا؟ وفيه استحباب تكفين المحرم في ثياب إحرامه، وأنه لا يكفن في المخيط. وفيه التكفين في الثياب الملبوسة وهو مجمع عليه. (ولا تمسوه بطيب) بضم المثناة الفوقية وكسر الميم من الإمساس. وقيل بفتح التاء والميم من المس. وفي رواية: لا تحنطوه. (ولا تخمروا) بالتشديد أي لا تغطوا ولا تستروا. (رأسه) في النهي عن تخمير الرأس دليل على بقاء حكم الإحرام، وكذا في المنع عن التحنيط. وأصرح من ذلك التعليل بقوله: (فإنه يبعث) أي يحشر (يوم القيامة ملبيا) أي بصفة الملبين بنسكه الذي مات فيه من الحج قائلا: لبيك

(10/138)


اللهم لبيك. وفي رواية النسائي: فإنه يبعث يوم القيامة محرما. والحديث دليل لما ذهب إليه الشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وعطاء أن المحرم إذا مات يبقى في حقه حكم الإحرام فلا يغطى رأسه ولا يحنط ويكفن في ثوبي الإحرام. وخالف في ذلك مالك وأبوحنيفة. قال ابن دقيق العبد: وهو مقتضى القياس لانقطاع العبادة بزوال محل التكليف وهو الحياة، لكن اتبع الشافعي الحديث، وهو مقدم على القياس. قلت: استدل الحنفية والمالكية بما رواه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: إذا مات ابن آدم انقطع عمله. وأجيب بأن تكفينه في ثوبي إحرامه وتبقيته على هيئة إحرامه من عمل الحي بعده كغسله والصلاة عليه، فلا معنى لما ذكروه. وأجاب الحنفية والمالكية عن حديث ابن عباس بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعله عرف بالوحي بقاء إحرامه بعد موته فهو خاص بذلك الرجل، وبأنه واقعة حال لا عموم لها، وبأنه علل بقوله: فإنه يبعث ملبيا، وهذا الأمر لا يتحقق في غيره وجوده، فيكون خاصا به. قال الشيخ
متفق عليه. وسنذكر حديث خباب: قتل

(10/139)


عبدالحي اللكنوي في التعليق الممجد بعد ذكر هذه الأجوبة ما لفظه: ولا يخفى على المنصف أن هذا كله تعسف، فإن البعث ملبيا ليس بخاص به بل هو عام في كل محرم حيث ورد: يبعث كل عبد على ما مات عليه، أخرجه مسلم، وورد من مات على مرتبة من هذه المراتب بعث عليها يوم القيامة، أخرجه الحاكم. وورد أن المؤذن يبعث وهو يؤذن والملبي يبعث وهو يلبي، أخرجه الأصبهاني في الترغيب والترهيب. وورد غير ذلك مما يدل عليه أيضا كما بسطه السيوطي في البدور السافرة، فهذا التعليل لا دلالة له على الاختصاص، وإنما علل به لأنه لما حكم بعدم التخمير المخالف لسنن الموتى نبه على حكمة فيه وهو أنه يبعث ملبيا، فينبغي إبقاءه على صورة الملبين، واحتمال الاختصاص بالوحي مجرد احتمال لا يسمع، وكونه واقعة حال لا عموم لها إنما يصح إذا لم يكن فيه تعليل. وأما إذا وجد وهو عام فيكون الحكم عاما. والجواب عن أثر ابن عمر يعني الذي رواه محمد بن مالك عن نافع أن ابن عمر كفن ابنه واقد بن عبدالله وقد مات محرما بالجحفة وخمر رأسه أنه يحتمل أنه لم يبلغه الحديث، ويحتمل أن يكون بلغه وحمله على الأولوية، وجوز التخمير. ولعل هذا هو الذي لا يتجاوز الحق عنه-انتهى كلام الشيخ اللكنوي. وقال الحافظ في الفتح: قال أبوالحسن بن القصار: لو أريد تعميم هذا الحكم في كل محرم لقال: فإن المحرم كما جاء أن الشهيد يبعث وجرحه يثعب دما. وأجيب بأن الحديث ظاهر في أن العلة في الأمر المذكور كونه كان في النسك، وهي عامة في كل محرم. والأصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت لغيره حتى يتضح التخصيص. قال الحافظ: وأورد بعضهم أنه لو كان إحرامه باقيا لوجب أن يكمل به المناسك ولا قائل به. وأجيب بأن ذلك ورد على خلاف الأصل فيقتصر به على مورد النص، ولا سيما وقد وضح أن الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام كاستبقاء دم الشهيد-انتهى. وفي الحديث أن الإحرام يتعلق بالرأس،

(10/140)


وأن من شرع في عمل طاعة ثم حال بينه وبيت إتمامه الموت رجي له أن الله يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز والحج، ومسلم في الحج، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في الحج، وأبوداود والنسائي في الجنائز، وابن ماجه في الحج والبيهقي (ج3ص390) قال ابن الهمام عند قول صاحب الهداية: "والإزار من القرن إلى القدم واللفافة كذلك" لا إشكال أن اللفافة من القرن إلى القدم، وأما كون الإزار كذلك فلا أعلم وجه مخالفة إزار الميت إزار الحي من السنة. وقد قال عليه الصلاة والسلام في ذلك المحرم: كفنوه في ثوبيه وهما إزاره ورداءه، ومعلوم أن إزاره من الحقو، وكذا حديث ليلى بنت قانف قالت: كنت فيمن يغسل أم كلثوم بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان أول ما أعطانا الحقاء ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر. رواه أبوداود، وروى حقوه في حديث غسل زينب، وهذا ظاهر في أن إزار الميت كإزار الحي من الحقو فيجب كونه في المذكر كذلك لعدم الفرق في هذا-انتهى. (وسنذكر حديث خباب) بالتشديد. (قتل) قال الطيبي: مجهول حكاية ما في
مصعب بن عمير في "باب جامع المناقب" إن شاء الله تعالى.
?الفصل الثاني?
1653-(5) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألبسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، ومن خير أكحالكم الإثمد،

(10/141)


الحديث بدل من قوله حديث خباب أي سنذكر هذا اللفظ وهو قتل. (مصعب بن عمير) أي إلى آخره. (في باب جامع المناقب). قال القاري: هذا اعتذار قولي واعتراض فعلي على صاحب المصابيح زعما من المؤلف أن حديث خباب أليق بذلك الباب مع أنه ليس كذلك. وها أنا أذكر الحديث على ما في الكتاب. قال خباب بن الأرت: قتل مصعب بن عمير يوم أحد فلم نجد شيئا نكفنه فيه إلا نمرة، وهي بفتح النون وكسر الميم شملة مخططة بخطوط بيض في سود، كنا إذا غطينا أي سترنا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا بها رجليه خرج رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام: ضعوها مما يلي أي يقرب رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر-انتهى. وهذا كحديثه عن حمزة في ما تقدم وهما دليلان على أن كفن الضرورة ثوب واحد، وعلى أن ستر جميع الميت واجب-انتهى. قلت: حديث خباب هذا قد أورده مخرجوه في الجنائز إلا الترمذي، فإنه أورده في المناقب، وقد تبعه المؤلف. ولا شك أنه أليق بالجنائز. وأورده البخاري في الهجرة والمغازي والرقاق أيضا، وقد استدل به على أنه إذا ضاق الكفن عن ستر جميع البدن ولم يوجد غيره جعل مما يلي الرأس وجعل النقص مما يلي الرجلين.

(10/142)


1653- قوله: (ألبسوا) بفتح الباء. (من ثيابكم) من تبعيضية أو بيانية مقدمة. (البياض) أي ذات البياض. وفي رواية لأحمد: البيض بكسر الباء جمع الأبيض، فلا تجوز، وكذا وقع عند أبي داود والبيهقي. (فإنها) أي الثياب البيض. (من خير ثيابكم) لدلالتها غالبا على التواضع وعدم الكبر والعجب والخيلاء ولكونها أطهر وأطيب. (وكفنوا فيها موتاكم) عطف على ألبسوا أي ألبسوها في حياتكم وكفنوا فيها موتاكم. والحديث يدل على استحباب لبس البيض من الثياب وتكفين الموتى فيها. قال الشوكاني: الأمر في الحديث ليس للوجوب بل للندب، أما في اللباس فلما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من لبس غيره، وإلباس جماعة من الصحابة ثيابا غير بيض، وتقريره لجماعة منهم على غير لبس البياض. وأما في الكفن فلما ثبت عند أبي داود، قال الحافظ بإسناد حسن من حديث جابر مرفوعا: إذا توفى أحدكم فوجد شيئا فليكفن في ثوب حبرة. (ومن خير أكحالكم) بفتح الهمزة جمع الكحل. (الإثمد) بكسر الهمزة والميم بينهما مثلثة وساكنة، وحكي فيه ضم الهمزة، حجر معروف
فإنه ينبت الشعر ويجلو البصر)). رواه أبوداود، والترمذي، وروى ابن ماجه إلى موتاكم.
1654-(6) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تغالوا في الكفن

(10/143)


أسود يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز وأجوده يؤتي به من أصبهان. واختلف هل هو اسم الحجر الذي يتخذ منه الكحل أو هو نفس الكحل؟ ذكره ابن سيدة وأشار إليه الجوهري، كذا في الفتح. وقال التوربشتي: هو الحجر المعدني. وقيل: هو الكحل الأصفهاني ينشف الدمعة والقروح ويحفظ صحة العين، ويقوي غصنها لا سيما للشيوخ والصبيان. (فإنه ينبت) بضم الياء وكسر الباء. (الشعر) بفتح العين، ويجوز إسكانها أي شعر الهدب، وهو بالفارسية مزه، وهو الذي ينبت على أشفار العين. (ويجلو البصر) من الجلاء أي يحسن النظر ويزيد نور العين، وينظف الباصرة بدفعه المواد الرديئة النازلة إليها من الرأس. قال القاري: والأفضل عند النوم إتباعا له - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه أشد تأثيرا وأقوى سريانا حينئذ-انتهى. قلت: لفظ أحمد في رواية: خير أكحالكم الإثمد عند النوم ينبت الشعر ويجلو البصر. (رواه أبوداود) في اللباس أي بتمامه، وسكت عنه (والترمذي) في الجنائز إلى قوله: موتاكم، وصحه، ونقل المنذري تصحيحه وأقره. (وروى ابن ماجه) في الجنائز واللباس (إلى موتاكم) فيه أن الترمذي أيضا رواه إلى قوله: موتاكم، فلا وجه لتخصيص المصنف ابن ماجه بكونه رواه مختصرا، نعم روى الترمذي في اللباس من طريق آخر عن ابن عباس مرفوعا: اكتحلوا بالإثمد وأنه يجلو البصر وينبت الشعر. قال الترمذي: حديث حسن، وحديث الباب أخرجه أحمد مطولا (ج1ص247، 274، 328، 355، 363) ومقتصرا على ذكر الإثمد (ج1ص231) وأخرجه أيضا البيهقي مطولا (ج3ص245) والحاكم نحو رواية ابن ماجه (ص354) وصححه وأقره الذهبي، ونسبة الحافظ في التلخيص (ص138) للشافعي وابن حبان أيضا، والسيوطي في الجامع الصغير للطبراني. وقال الحافظ: صححه ابن القطان، وفي الباب عن سمرة عند الترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم، وسيأتي في اللباس، وعن عمران بن حصين عند الطبراني، وعن أنس عند أبي حاتم في العلل، والبزار في مسنده، وعن ابن

(10/144)


عمر عند ابن عدي في الكامل، وعن أبي الدرداء عند ابن ماجه يرفعه: أحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض.
1654- قوله: (لا تغالوا) بفتح التاء واللام أي لا تتغالوا، فحذفت إحدى التائين تخفيفا، وقد يروى بضم التاء واللام من المغالاة، وهو إكثار الثمن أي لا تبالغوا ولا تجاوزوا الحد. (في الكفن) أي في كثرة قيمته قال ابن الأثير الجزري: أصل الغلاء الارتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء غاليت الشيء وبالشيء وغلوت فيه أغلو إذا جاوزت فيه الحد-انتهى. ويقال: غالى في الأمر أي بالغ فيه، وغالى بالشيء أي اشتراه بثمن غال.
فإنه يسلب سلبا سريعا)) رواه أبوداود.
1655-(7) وعن أبي سعيد الخدري، أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد، فلبسها، ثم قال: سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها)).

(10/145)


وفي الحديث أن الحد الوسط في الكفن هو المستحب المستحسن. (فإنه) أي الكفن. (يسلب) على بناء المفعول أي يبلى. (سلبا سريعا) أي بليا سريعا، ففي مغالاة الكفن إضاعة المال. قال الطيبي: استعير السلب لبلى الثوب مبالغة في السرعة-انتهى. وقال المناوي: كأنه قال لا تشتروا الكفن بثمن غال فإنه يبلى بسرعة، ووقع في بعض النسخ من أبي داود: فإنه يسلبه بذكر ضمير المفعول، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج11ص415) وهو بصيغة المجهول، قيل نائب الفاعل ضمير الميت، والضمير المنصوب للكفن، وقيل الأول للكفن والثاني للميت أي أن الكفن يسلب عن الميت. (رواه أبوداود) من رواه الشعبي عن علي، وأخرجه أيضا البيهقي (ص403) من طريق أبي داود، وقد سكت عنه أبوداود، ونقل القاري عن ميرك: أنه قال حسنه النووي والمنذري، قاله ابن الملقن. وقال الحافظ في التلخيص: في إسناده عمرو بن هاشم أبومالك الجنبي مختلف فيه، وفيه انقطاع بين الشعبي وعلي؛ لأنه قال الدارقطني أنه لم يسمع منه سوى حديث واحد-انتهى. وقال المنذري: في إسناده عمرو بن هاشم، وفيه مقال، وذكر ابن أبي حاتم، وأبوأحمد الكرابيسي: أن الشعبي رأى علي بن أبي طالب، وذكر أبوعلي الخطيب أنه سمع منه، وروى عنه عدة أحاديث-انتهى.

(10/146)


1655- قوله: (جدد) بضمتين جمع جديد. (فلبسها) بكسر الباء. (ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها) قال في اللمعات: ظاهرة أن أبا سعيد إنما لبس ثيابا جددا امتثالا لظاهر هذا الحديث بأن المراد ظاهره، وهو أن البعث يكون في الثياب، واستشكل ذلك بأنه قد ورد في الحديث الصحيح: يحشر الناس حفاة عراة، فأجاب بعضهم بأن البعث غير الحشر، وكأنه أراد أن البعث هو إخراج الموتى من القبر، والحشر نشرهم في عرصات القيامة، فيحتمل أن يكون البعث في الثياب والحشر عراة، يعني يخرجون من القبور بثيابهم ثم تتناثر وتتساقط في المحشر، وهذا الكلام بعيد في غاية البعد. وقال المحققون من أهل الحديث: أن الثياب في قوله - صلى الله عليه وسلم -: الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها، كناية عن الأعمال التي يموت عليها، وقد ورد: يبعث العبد على ما مات عليه من عمل صالح أو سيء، والعرب يكنى بالثياب عن الأعمال لملابسة الرجل بها ملابسة الثياب، وقيل في قوله تعالى: ?وثيابك فطهر? [المدثر:4] أي أعمالك فأصلح-انتهى. وقال الهروي: ليس قول من ذهب به إلى الأكفان بشيء؛ لأن الإنسان إنما يكفن بعد موته. وقال الحافظ في التلخيص:
رواه أبوداود.
1656-(8) وعن عبادة بن الصامت، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير الكفن الحلة، وخير الأضحية الكبش الأقرن)). رواه أبوداود،

(10/147)


والقصة التي في حديث أبي سعيد ترد ذلك. (أي تأويل الثياب بالأعمال) وهو أعلم بالمراد ممن بعده، وحكى الخطابي في الجمع بينهما. (أي بين ظاهر حديث أبي سعيد وحديث يحشر الناس حفاة عراة) أنه يبعث في ثيابه ثم يحشر عريانا، والله أعلم-انتهى. وقال ابن الديبع الشيباني: هذا أي حديث أبي سعيد مختص بالشهيد، كما قاله القرطبي، وبه يجمع بينه وبين حديث: تحشرون حفاة عراة غرلا-الحديث.. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا الحاكم (ج1ص340) والبيهقي (ج3ص384) وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن حبان بدون القصة.

(10/148)


1656- قوله: (خير الكفن الحلة) إزار ورداء بضم الحاء المهملة وتشديد اللام واحدة الحلل، برود اليمن، ولا يطلق إلا على ثوبين من جنس واحد، والمقصود والله أعلم أنه لا ينبغي الاقتصار على الثوب الواحد، والثوبان خير منه، وإن أريد السنة والكمال فثلاث على ما عليه الجمهور. قال السندي: لعل المراد أنها من خير الكفن، والمطلوب بيان وفائها في التكفين-انتهى. والحاصل أن الحلة وهي ثوبان خير من ثوب واحد، والثلاثة أفضل وأكمل. وقيل: يحتمل أن يكون المراد أنه ينبغي أن يكون الكفن من برود اليمن، وفيها خطوط خضر أو حمر. قال المظهر: اختار بعض الأئمة أن يكون الكفن من برود اليمن لهذا الحديث، والأصح أن البيض أفضل لحديث عائشة، وحديث ابن عباس المتقدمين. وقال ابن الملك: الأكثرون على اختيار البيض، وإنما قال ذلك في الحلة؛ لأنها كانت يومئذ أيسر عليهم-انتهى. (وخير الأضحية الكبش الأقرن) ماله قرنان حسنان معتدلان، والمراد تفضيل الذكر على الأنثى، أو المراد أن التضحية بالكبش الأقرن أفضل من الاشتراك في بدنة أو بقرة، لا أنه أفضل من البدنة أو من البقرة كما أخذ به مالك. قال الطيبي: ولعل فضيلة الكبش الأقرن على غيره لعظم جثته وسمنه في الغالب-انتهى. (رواه أبوداود) في الجنائز، وأخرجه أيضا الحاكم (ج4ص228) والبيهقي (ج3ص403) وأخرجه ابن ماجه مقتصرا منه على ذكر الكفن، والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري، والحافظ في التلخيص، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وفي سنده عندهم حاتم بن أبي نصر القنسريني، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن القطان الفاسي: لم يرو عنه غير هشام بن سعد، فهو مجهول، كذا في تهذيب التهذيب، وقال في التقريب: إنه مجهول، وفي سنده أيضا نسي الكندي، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال في التقريب
ورواه الترمذي، وابن ماجه، عن أبي أمامة.

(10/149)


1657-(9) وعن ابن عباس، قال: ((أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم)). رواه أبوداود، وابن ماجه.
والخلاصة: مجهول. (ورواه الترمذي وابن ماجه) في الأضحية. (عن أبي أمامة) قال الحافظ: في إسناده عفير بن معدان، وهو ضعيف، وقال الترمذي: هذا حديث غريب وعفير بن معدان يضعف في الحديث.
1657- قوله: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلى أحد) بضمتين، وقتلى جمع قتيل، والباء بمعنى في، أي أمر أصحابه في حقهم. (أن ينزع) بصيغة المجهول. (عنهم الحديد) أي السلاح والدروع. (والجلود) مثل الفرو والكساء الغير المطلخ بالدم. (وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم) أي المتلطخة بالدم، قاله القاري. وهذا ظاهر في أنهم لم يغسلوا، وفي ترك غسل الشهيد أحاديث ذكرها ابن تيمية في المنتقى، والشوكاني في النيل، والحديث يدل على مشروعية دفن الشهيد بما قتل فيه من الثياب، ونزع الحديد والجلود عنه وكل ما هو آلة للحرب، ويدل عليه أيضا ما روى أحمد عن عبدالله بن ثعلبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أحد: زملوهم في ثيابهم، وما روى أبوداود من حديث جابر رضي الله عنه قال: رمى رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات، فأدرج في ثيابه كما هو ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإسناده على شرط مسلم. قال الشوكاني: قد روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي أنه قال: ينزع من الشهيد الفرو والخف والقلنسوة والعمامة والمنطقة والسراويل، إلا أن يكون أصاب السراويل دم، وفي إسناده أبوخالد الواسطي، والكلام فيه معروف، وقد روى ذلك أحمد بن عيسى في أماليه من طريق الحسين بن علوان عن أبي خالد المذكور عن زيد بن علي، والحسين بن علوان متكلم فيه أيضا، والظاهر أن الأمر بدفن الشهيد بما قتل فيه من الثياب للوجوب-انتهى. قلت: أبوخالد الواسطي اسمه عمرو بن خالد القرشي مولى بني هاشم متروك الحديث،

(10/150)


كذبه أحمد وابن معين، وأبوداود ووكيع وغيرهم. قال أحمد: كذاب يروي عن زيد بن علي عن آبائه أحاديث موضوعة يكذب. وقال الحاكم: يروي عن زيد بن علي الموضوعات، ونسبه إلى الوضع إسحاق بن راهويه وأبوزرعة أيضا، والحسين بن علوان الكلبي ضعيف جدا. قال أبوحاتم والنسائي والدارقطني: متروك الحديث. وكذبه يحيى والنسائي، وقال صالح جزرة وابن حبان: كان يضع الحديث، وقد ظهر بهذا أن أثر علي هذا لا يصلح لاستدلال من استدل به من الحنفية كصاحب البدائع وغيره على نزع الخف والمنطقة والقلنسوة عن الشهيد. (رواه أبوداود وابن ماجه) في الجنائز، وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص247) كلهم من رواية علي بن عاصم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن
?الفصل الثالث?
1658-(10) عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، أن عبدالرحمن بن عوف أتى بطعام وكان صائما، فقال: قتل مصعب بن عمير
ابن عباس. قال الحافظ في التلخيص (ص159): في إسناده ضعف؛ لأنه من رواية عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، وهو مما حدث به عطاء بعد الاختلاط-انتهى. قلت: قال أحمد من سمع من عطاء بن السائب قديما فسماعه صحيح، ومن سمع منه حديثا لم يكن بشيء، سمع منه قديما سفيان وشعبة، وسمع منه حديثا جرير وخالد وإسماعيل وعلي بن عاصم، كذا في تهذيب التهذيب (ج7ص204). وفي الباب أحاديث وقد تقدم بعضها، فينجبر بها ضعف هذا الحديث.

(10/151)


1658- قوله: (عن سعد بن إبراهيم) أي ابن عبدالرحمن بن عوف الزهري القرشي، ولي قضاء المدينة، وكان ثقة فاضلا عابدا من صغار التابعين. رأى ابن عمر وسمع أباه وغيره، مات سنة (125)، وقيل بعدها وهو ابن. (72) سنة. (عن أبيه) أي إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف الزهري. قال المصنف: ادخل على عمر رضي الله عنه وهو صغير، سمع أباه وسعد بن أبي وقاص، روى عنه ابنه والزهري. وقال الحافظ في التقريب: قيل له رؤية وسماعه من عمر أثبته يعقوب بن شيبة، مات سنة (95) وقيل: (96). قال في التهذيب: قال العجلي تابعي ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة، يعد في الطبقة الأولى من التابعين، ولا نعلم أحدا من ولد عبدالرحمن روى عن عمر سماعا غيره، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. (أن عبدالرحمن بن عوف) الزهري القرشي أحد العشرة المبشرة أسلم قديما ومناقبه شهيرة. (أتى) بضم الهمزة مبنيا للمفعول أي جيء (بطعام) أي للإفطار وكان خبزا ولحما كما في الشمائل للترمذي. (وكان) أي عبدالرحمن يومئذ (صائما) ذكر ابن عبدالبر أن ذلك كان في مرض موته. (قتل) بضم القاف مبنيا للمفعول. (مصعب بن عمير) بضم الميم وسكون الصاد وفتح العين المهملتين نائب عن الفاعل، وعمير بضم العين مصغرا القرشي العبدري. قال ابن عبدالبر: كان مصعب بن عمير من أجلة الصحابة وفضلائهم، أسلم قديما والنبي- صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه، فعلمه عثمان بن طلحة فأعلم أهله، فأوثقوه فلم يزل محبوسا إلى أن هرب مع من هاجر إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة فهاجر إلى المدينة، وشهد بدرا، ثم شهد أحدا، ومعه اللواء، فاستشهد، قتله عمرو بن قمئة الليثي، وهو ابن أربعين سنة وأزيد شيئا، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قد بعث مصعبا إلى المدينة قبل الهجرة بعد العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وكان يدعى القاري والمقري، وهو أول من جمع الجمعة بالمدينة

(10/152)


قبل الهجرة، وكان في الجاهلية من أنعم الناس عيشا وألينهم لباسا وأحسنهم جمالا،
وهو خير مني، كفن في بردة، إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، ولقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي، حتى ترك الطعام)).
وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، وكان أعطر أهل مكة يلبس الحضرمي من النعال، فلما أسلم وزهد في الدنيا وتقشف فتشف جلده تخشف الحية. ويقال إن فيه نزلت وفي أصحابه: ?رجال صدقوا ما عاهدوا الله? الآية [الأحزاب: 23]. (وهو خير مني) قاله تواضعا وهضما لنفسه، وإلا فقد صرح العلماء بأن العشرة المبشرة أفضل من غيرهم. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون ما استقر عليه الأمر من تفضيل العشرة على غيرهم بالنظر إلى من لم يقتل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (كفن في بردة) وفي رواية للبخاري: فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا برده، بالضمير العائد على مصعب، وفي رواية: إلا بردة، بلفظ واحدة البرود، وفي حديث خباب عند البخاري: قتل مصعب بن عمير ولم يترك إلا نمرة. (إن غطي) بضم الغين أي ستر. (رأسه) بالرفع أي بالبردة. (بدت) أي ظهرت رجلاه. (وإن غطي رجلاه بدا رأسه) أي ظهر، وسيأتي في جامع المناقب أنه غطي بها رأسه وجعل على رجليه الإذخر. (وأراه) بضم الهمزة أي أظنه. (قال) أي عبدالرحمن. (وقتل حمزة) هو حمزة بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف القرشي الهاشمي أبوعمارة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، ولد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنتين، وقيل بأربع، أسلم قديما في السنة الثانية من البعثة، ولازم نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهاجر معه، وقد ذكر ابن إسحاق قصة إسلامه مطولة، وقيل: كان إسلامه بعد دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار

(10/153)


الأرقم في السنة السادسة، فاعتز الإسلام بإسلامه، وشهد بدرا وأبلى فيها بلاء حسنا مشهورا، واستشهد يوم أحد، قتله وحشي بن حرب الحبشي، وقد مثل به وبأصحابه يومئذ، وكان ذلك في النصف من شوال سنة (3) من الهجرة، فعاش دون الستين، ولقبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أسد الله، وسماه سيد الشهداء، روى عنه علي والعباس وزيد بن حارثة. (وهو خير مني) وروى الحاكم في مستدركه من حديث أنس أن حمزة كفن أيضا كذلك. (ثم بسط) بضم الباء أي وسع وكثر. (لنا) أراد نفسه وبقية مياسير الصحابة. (من الدنيا ما بسط) أشار إلى ما فتح لهم من الفتوح والغنائم وحصل من الأموال، وكان لعبدالرحمن بن عوف من ذلك الحظ الوافر. (ولقد خشينا أن تكون حسناتنا) وفي رواية: طيباتنا. (عجلت لنا) أي أعطيت عاجلا لنا أي في حياتنا الدنيا. (ثم جعل) عبدالرحمن (يبكي) قال العيني: كان خوفه وبكاؤه وإن كان أحد العشرة المشهود لهم بالجنة مما كان عليه الصحابة من الإشفاق والخوف من التأخر عن اللحاق بالدرجات العلى. (حتى ترك الطعام) أي في
رواه البخاري.
1659-(11) وعن جابر، قال: ((أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن أبي بعد ما أدخل حفرته،

(10/154)


وقت الإفطار، وفي الحديث دليل على أن الكفن من جميع المال أي من رأسه لا من الثلث، وهو قول جمهور العلماء؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كفن مصعبا في نمرته، وكذا حمزة في بردته، ولم يلتفت إلى غريم ولا إلى وصية ولا إلى وارث، وبدأ بالتكفين على ذلك كله، فعلم أن التكفين مقدم وأنه من رأس المال؛ لأن جميع مالهما كان لكل منهما بردة، وفيه فضل الزهد، وأن الفاضل في الدين ينبغي له أن يمتنع من التوسع في الدنيا لئلا تنقص حسناته، وإلى ذلك أشار عبدالرحمن بقوله: خشينا أن تكون حسناتنا عجلت، وفيه أنه ينبغي ذكر سير الصالحين وتقللهم في الدنيا لتقل رغبته فيها، والبكاء خوفا من تأخر اللحاق بالأخيار والإشفاق من ذلك، وفيه إيثار الفقر على الغنى، وإيثار التخلي للعبادة على تعاطي الاكتساب، فلذلك امتنع عبدالرحمن من تناول ذلك الطعام مع أنه كان صائما. (رواه البخاري) في الجنائز والمغازي، وأخرجه البيهقي (ج3ص401) أيضا ويظهر من كلام الحافظ في الفتح أن الحديث عند أحمد أيضا حيث قال: في رواية أحمد عن غندر عن شعبة وأحسبه لم يأكله-انتهى. ولم أجده في مسند عبدالرحمن بن عوف.

(10/155)


1659- قوله: (عبدالله) بالنصب مفعول أتى، أي جاء قبره. (بن أبي) بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف ابن سلول: (هي علم لأم عبدالله فيكتب الابن بالألف؛ لأنه صفة لعبدالله لا صفة أبي) وعبدالله بن أبي هذا كان رأس المنافقين، وكان سيد الخزرج في الجاهلية، وهو الذي تولى كبر الإفك في قصة الصديقة، وهو الذي قال: ?ليخرجن الأعز منها الأذل?، وقال: ?لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا? [المنافقون: 7]. ورجع يوم أحد بثلث العسكر إلى المدينة بعد أن خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الواقدي: مرض عبدالله بن أبي في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة سنة تسع منصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك، وكان مرضه عشرين ليلة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده فيها. (إلى آخر ما قال) وجاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناء على وصيته أو باستدعاء ولده المؤمن عبدالله بن عبدالله بن أبي، وكان اسم ابنه الحباب، فسماه رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بعبد الله كاسم أبيه، وهو من فضلاء الصحابة وخيارهم، شهد المشاهد واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر، وكان أشد الناس على أبيه، ولو أذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه لضرب عنقه. (بعد ما أدخل حفرته) بضم الحاء المهملة أي قبره. وفي رواية النسائي: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر عبدالله بن أبي واقد وضع في حفرته
فأمر به، فأخرج ، فوضعه على ركبتيه، فنفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه، قال: وكان كسا عباسا قميصا)).

(10/156)


فوقف عليه. (فأخرج) أي من قبره. (فنفث فيه) أي في جلده كما في تفسير الثعلبي. (وألبسه قميصه) إنجازا لوعده في تكفينه في قميصه، والحديث صريح في أن إعطاء القميص وإلباسه إياه كان بعد ما أدخل ووضع في القبر، وهذا معارض لما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر لما مات عبدالله بن أبي جاء ابنه فقال: يا رسول الله، أعطني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه قميصه وقال: آذاني أصلي عليه فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر- الحديث. وقد جمع بينهما بأن المراد من قوله في حديث ابن عمر "فأعطاه" أي أنعم له بذلك، فأطلق على الوعد اسم العطية مجازا لتحقق وقوعها، وكان أهل عبدالله بن أبي خشوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - المشقة في حضوره، فبادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما وصل وجدهم قد دلوه في حفرته فأمر بإخراجه إنجازا لوعده في تكفينه في القميص والصلاة عليه. وقيل: المراد من حديث جابر أن الواقع بعد إخراجه من حفرته، هو النفث، وأما القميص فقد كان ألبس، والجمع بينهما في الذكر لا يدل على وقوعهما معا؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب ولا المعية، فلعله أراد أن يذكر ما وقع في الجملة من إكرامه - صلى الله عليه وسلم - له من غير إرادة الترتيب. وقيل: أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد قميصيه أولا، ولما دفن أعطاه الثاني بسؤال ولده عبدالله. وفي الإكليل للحاكم ما يؤيد ذلك، كذا في الفتح وغيره، ولا يخفى أن هذه التوجيهات لا يندفع بها الإيراد بالكلية، فإن حديث ابن عمر صريح في أنه حضر الصلاة عليه وأعطاه القميص، ورواية ابن عباس عن عمر عند الترمذي في تفسير سورة التوبة، وقد صححا أشد صراحة في ذلك، ففيها دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عليه فقام إليه. (إلى أن قال:) ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه، فإنه صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مع الجنازة إلى أن أتي به القبر،

(10/157)


وحديث جابر يفيد أنه جاء بعد ذلك وألبسه القميص بعد، نبه على ذلك السندي في حاشية النسائي. وقال الولي العراقي في شرح التقريب: ويحتمل الجمع بين الحديثين بصرف حديث ابن عمر عن ظاهره، إما بأن يكون ولده إنما طلب القميص بعد تكفينه وإدخاله حفرته، أو طلبه من أول موته لكن تأخر إعطاءه له حتى أدخل قبره، والفاء التي في قوله "فأعطاه قميصه" لا تنافي هذا؛ لأن زمن تجهيزه زمن يسير لا ينافي التعقيب. وفي الحديث جواز إخراج الميت من قبره لحاجة أو لمصلحة، وأن التكفين في القميص ليس ممتنعا سواء كان مكفوف أو غير مكفوف، خلافا لمن قال: إن القميص لا يسوغ إلا إذا كانت أطرافه غير مكفوفة أو كان غير مزرر ليشبه الرداء، وفي الخلافيات للبيهقي من طريق ابن عون قال: كان محمد بن سيرين يستحب أن يكون قميص الميت كقميص الحي مكففا مزررا. (قال) أي جابر. (وكان) أي عبدالله بن أبي (كسا عباسا) عمه - صلى الله عليه وسلم - حين أسر ببدر (قميصا) وفي
متفق عليه.
(5) باب المشي بالجنازة والصلاة عليها

(10/158)


الجهاد عند البخاري عن جابر أيضا قال: لما كان يوم بدر أتى بأسارى، وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - له قميصا، فوجدوا قميص عبدالله بن أبي يقدر عليه. (إنما كان كذلك لأن العباس كان بين الطوال وكذلك كان عبدالله بن أبي) فكساه النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه فلذلك نزع النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه الذي ألبسه. قال ابن عيينة: كانت له عند النبي - صلى الله عليه وسلم - يد فأحب أن يكافئه. (كي لا يكون لمنافق عليه يد لم يكافئه عليها). وقيل: أعطاه قميصه إكراما لولده وكان مسلما بريئا من النفاق. وقيل: تأليفا لغيره من قومه رجاء أن يسلموا لما يرونه يتبرك بقميصه صلى الله عليه وسلم. وقيل: لأنه سأله ذلك وكان لا يرد سائلا. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز والجهاد واللباس، ومسلم في التوبة، وأخرجه أيضا النسائي والبيهقي. فائدة المشروع في كفن المرأة أن يكون خمسة أثواب: إزارا، ودرعا، وخمارا، ولفافتين؛ لما روى أحمد وأبوداود من حديث ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وفاتها، وكان أول ما أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحقا، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله- صلى الله عليه وسلم - عند الباب معه كفنها يناولنا ثوبا ثوبا. وروى الخوارزمي من طريق إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن هشام بن حسان عن حفصة عن أم عطية أنها قالت: وكفناها في خمسة أثواب وخمرناها كما نخمر الحي. قال الحافظ: وهذه الزيادة صحيحة الإسناد. قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب كالشعبي والنخعي والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. قال الشافعي: تكفن في خمسة: ثلاث لفائف، وإزار وخمار، وفي القديم قميص، ولفافتان. وهو الأصح واختاره المزني.

(10/159)


وقال أحمد: تكفن في قميص، وميزر، ولفافة، ومقنعة. (خمار) وخرقة خامسة تشهد بها فخذاها تحت الإزار. قال ابن قدامة: والذي عليه أكثر أصحابنا وغيرهم أن الأثواب الخمسة: إزار، ودرع، وخمار، ولفافتان، وهو الصحيح لحديث ليلى بنت قانف، ولما روت أم عطية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ناولها إزارا، ودرعا، وخمارا، وثوبين-انتهى. والمندوب لها عند المالكية سبع: إزار، وقميص، وخمار، وأربع، لفائف.
(باب المشي) أي آدابه (بالجنازة) أي بالسرير الذي عليه الميت. (والصلاة) عطف على المشي. (عليها) أي على الجنازة أي الميت.
?الفصل الأول?
1660-(1) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه وسلم: (( أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك

(10/160)


1660- قوله: (أسرعوا) أمر من الإسراع، نقل ابن قدامة: أن الأمر بالإسراع للندب بلا خلاف بين العلماء، وشذ ابن حزم فقال بوجوبه، والمراد بالإسراع الإسراع المتوسط بين الخبب أي شدة السعي وبين المشي المعتاد، بدليل قوله في حديث أبي بكرة عند أحمد والنسائي: وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا، ومقاربة الرمل ليس بالسعي الشديد، قاله العراقي. وأما ما وقع في أبي داود بلفظ: ونحن نرمل رملا، فقال العيني: مراده الإسراع المتوسط، ويدل عليه ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث عبدالله بن عمرو: إن أباه أوصاه قال: إذا أنت حملتني على السرير فامش مشيا بين المشيين-الحديث. قال البيهقي في المعرفة: قال الشافعي الإسراع بالجنازة هو فوق سجية المشي المعتاد، ويكره الإسراع الشديد. قال الحافظ: وهو قول الجمهور، والحاصل أنه يستحب الإسراع بها لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو مشقة على الحامل أو المشيع. وأما ما روى أحمد (ج4ص406) من حديث أبي موسى أنه قال: مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة تمخض مخض الزق فقال: عليكم بالقصد، فالظاهر أنه كان يفرط في الإسراع بها، ولعله خشي انفجارها أو خروج شيء منها. (بالجنازة) أي بحملها إلى قبرها. قال السندي: ظاهره الأمر للحملة بالإسراع في المشي، ويحتمل الأمر بالإسراع في التجهيز وتعجيل الدفن بعد تيقن موته. وقال النووي: والأول هو المتعين لقوله: فشر تضعونه عن رقابكم، ولا يخفى أنه يمكن تصحيحه على المعنى الثاني بأن يجعل الوضع عن الرقاب كناية عن التبعيد عنه وترك التلبس به-انتهى. قيل: ويؤيده أن الكل لا يحملونه. قلت: ويؤيده أيضا ما روى الطبراني. قال الحافظ: بإسناد حسن من حديث ابن عمر مرفوعا: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره، وما تقدم من حديث حصين بن وحوح مرفوعا: لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله. (فإن تك) أصله فإن تكن حذفت النون للتخفيف،

(10/161)


والضمير فيه للجنازة التي هي عبارة عن الميت. (صالحة) نصب على الخبرية. (فخير) خبر مبتدأ محذوف أي فهي خير أي الجنازة بمعنى الميت لمقابلته بقوله: فشر، فحينئذ لا بد من اعتبار الاستخدام في ضمير إليه الراجع إلى الخير أو هو مبتدأ خبره محذوف، والتقدير فلها خير، أو فهناك خير لكن لا تساعده المقابلة، قاله السندي. وقال القاري: فخير أي فحالها خير أو فعلها خير. (تقدمونها) بالتشديد. (إليه) قال القاري: أي فإن كان حال ذلك الميت حسنا طيبا فأسرعوا به حتى يصل إلى تلك الحالة الطيبة عن قريب. (وإن تك) أي الجنازة (سوى ذلك) أي غير صالحة.
فشر تضعونه عن رقابكم)). متفق عليه.
1661-(2) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضعت الجنازة، فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها
(فشر) أي فهو شر (تضعونه عن رقابكم) فلا مصلحة لكم في مصاحبتها؛ لأنها بعيدة من الرحمة، ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين. وفي الحديث دليل على ندب المبادرة بتجهيز الميت ودفنه لكن بعد تحقق موته، فإن من المرضى من يخفى موته ولا يظهر إلا بعد مضي زمان كالمسبوت ونحوه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد ومالك، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.

(10/162)


1661- قوله: (إذا وضعت الجنازة) يحتمل أن المراد بالجنازة الميت، أي إذا وضع الميت على السرير، ويحتمل أن المراد بها السرير أي إذا وضع السرير على الكتف، والأول أولى؛ لقوله بعد ذلك: فإن تك صالحة قالت، فإن المراد هناك الميت، ويؤيده حديث أبي هريرة عند النسائي وأبي داود الطيالسي بلفظ: إذا وضع الرجل الصالح على سريره، كذا قيل. قال السندي: بل هو المتعين، إذ على الثاني يكون قوله: فاحتملها الرجال على أعناقهم تكرارا، ولا يمكن جعله تأكيدا إذ لا يناسبها الفاء فليتأمل، نعم ضمير احتملها بالسرير أنسب إذ هو المحمول أصالة والميت تبعا، لكن يكفي في صحة إرادة الميت كونه محمولا تبعا، ويحتمل أن يكون المراد بالضمير السرير بالاستخدام-انتهى. قلت: وقع في رواية للبخاري واحتملها الرجال بالواو بدل الفاء فلا يبعد أن يكون تأكيدا، نعم التأسيس أولى من التأكيد. وقال القاري: إذا وضعت الجنازة أي بين يدي الرجال وهيئت ليحملوها. (قالت) حقيقة بلسان القال بحروف وأصوات يخلقها الله تعالى فيها. قال ابن بزيرة: قوله في آخر الحديث "يسمع صوتها كل شيء" دال على أنه قول بلسان القال لا بلسان الحال، قيل: يحتمل أن القائل الروح أو الجسد بواسطة رد الروح إليه، وقيل: دعوى إعادة الروح إلى الجسد قبل الدفن يحتاج إلى دليل، والله عزوجل قادر على أن يحدث نطقا في الميت إذا شاء. (قدموني) أي لثواب العمل الصالح الذي عملته. قال السندي: كأنه يعتقد أنهم يسمعون قوله، فيقول لهم ذلك، أو أنه تعالى يجري على لسانه ذلك ليخبر عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - للناس، فتحصل الفائدة بواسطة ذلك الإخبار، والله تعالى اعلم. (قالت لأهلها) قال الطيبي: أي لأجل أهلها إظهارا لوقوعها في الهلكة، وكل من وقع في الهلكة دعا بالويل. (يا ويلها) أي ويل الجنازة أي يا هلاكي احضر فهذا أوانك، وكان القياس أن يقول يا ويلي، فعدل إلى إضافة الويل إلى ضمير الغائب حملا على

(10/163)


المعنى، كراهة أن يضيف الويل إلى نفسه، أو كأنه لما أبصر نفسه غير صالحة نفر عنها وجعلها كأنها
أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق)) رواه البخاري.
1662-(3) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا،
غيره، ويؤيد الأول أن في رواية أبي هريرة عند النسائي: يا ويلتى أين تذهبون بي، فدل على أن ذلك من تصرف الرواة. (أين تذهبون بها) قالته لأنها تعلم أنها لم تقدم خيرا، وأنها تقدم على ما يسوءها فتكره القدوم عليه. (يسمع صوتها) المنكر بذلك الويل (كل شيء) أي حتى الجماد، وقيل أي من الحيوان. (إلا الإنسان) بالنصب على الاستثناء. (ولو سمع الإنسان) أي صوتها بالويل المزعج (لصعق) أي لغشي عليه أو مات من شدة هول ذلك، وهذا في غير الصالح؛ لأن الصالح من شأنه اللطف والرفق في كلامه، فلا يناسب الصعق من سماع كلامه، وقيل: يحتمل حصول الصعق من سماع كلام الصالح أيضا لكونه غير مألوف. قال السندي: وهذا مبني على أن المراد لو سمعه أحيانا وإلا فلو سمعه على الدوام لما بقي غير مألوف، والله أعلم-انتهى. وفيه بيان حكمة عدم سماع الإنسان من أنه يختل نظام العالم ويكون الإيمان شهوديا لا غيبيا، واستدل البخاري بقوله: فاحتملها الرجال على منع النساء من حمل الجنازة وإن كان الميت امرأة، فقد بوب على هذا الحديث "باب حمل الرجال الجنازة دون النساء"، وقد استشكل ذلك لكونه إخبارا فلا يكون حجة في منع النساء؛ لأنه ليس فيه أن لا يكون الواقع إلا ذلك، وأجيب بأن كلام الشارع مهما أمكن حمله على التشريع لا يحمل على مجرد الإخبار عن الواقع. وقد روى أبويعلى من حديث أنس قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فرأى نسوة فقال: أتحملنه؟ قلن: لا، أتدفنه؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات. ونقل النووي في شرح المهذب: أنه لا خلاف في هذه المسألة بين العلماء، والسبب

(10/164)


فيه أن في الحمل على الأعناق والأمر بالإسراع مظنة الانكشاف غالبا، وهو مباين للمطلوب منهن من التستر، مع ضعف نفوسهن عن مشاهدة الموتى غالبا فكيف بالحمل، مع ما يتوقع من صراخهن عند حمله ووضعه، وأيضا لا بد أن يشيع الجنازة الرجال، فلو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال، فيفضي إلى الفتنة، نعم إن لم يوجد غيرهن تعين عليهن. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا النسائي.
1662- قوله: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا) فيه مشروعية القيام للجنازة إذا مرت بالمكلف القاعد وإن لم يقصد تشييعها، وظاهره عموم جنازة من مؤمن وغيره، ويؤيده قيامه - صلى الله عليه وسلم - لجنازة يهودي مرت به، وقد علل ذلك بأن الموت فزع. وفي رواية: أليست نفسا، وسيأتي الكلام على ذلك. واختلف العلماء في حكم القيام للجنازة لمن مرت به، فذهب جماعة من السلف والخلف، كما قال ابن عبدالبر في التمهيد إلى وجوبه. وقال مالك والشافعي وأبوحنيفة وصاحباه: أنه منسوخ. وذهب أحمد ومن وافقه إلى أنه مستحب. قال
فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع)).

(10/165)


الشوكاني: ذهب أحمد وإسحاق بن راهويه وابن حبيب وابن الماجشون من المالكية: إلى أن القيام للجنازة لم ينسخ والقعود منه - صلى الله عليه وسلم -، كما في حديث الآتي إنما هو لبيان الجواز فمن جلس فهو في سعة ومن قام فله أجر، وكذا قال ابن حزم: أن قعوده - صلى الله عليه وسلم - بعد أمره بالقيام يدل على أن الأمر للندب، ولا يجوز أن يكون نسخا. قال النووي: والمختار أنه مستحب، وبه قال المتولي، وصاحب المهذب من الشافعية، وممن ذهب إلى استحباب القيام ابن عمر وأبومسعود وقيس بن سعد وسهل بن حنيف، كما يدل على ذلك الروايات المذكورة في الباب. (أي باب ما جاء في القيام للجنازة إذا مرت من كتاب المنتقى). وقال أبوحنيفة ومالك والشافعي: أن القيام منسوخ بحديث علي الآتي، قال الشافعي: إما أن يكون القيام منسوخا أو يكون لعلة، وأيهما كان فقد ثبت أنه تركه بعد فعله، والحجة في الآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم --انتهى. وقد دل كلام الشوكاني على أن الإمام أحمد ذهب إلى استحباب القيام للجنازة. وقال عياض: ذهب أحمد إلى التوسعة والتخيير، ويؤيده ما حكاه الترمذي عن أحمد أنه قال: إن شاء قام وإن شاء قعد. وقال ابن قدامة: إذا مرت به جنازة لم يستحب له القيام لها لقول علي: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قعد. قال أحمد: إن قام لم أعبه وإن قعد فلا بأس، وذكر ابن أبي موسى والقاضي: أن القيام مستحب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالقيام. قال ابن قدامة: وقد ذكرنا أن آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك القيام بها، والأخذ بالآخر من أمره أولى-انتهى. وسيأتي بيان ما هو الراجح في ذلك في شرح حديث علي الآتي. (فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع) يحتمل أن المراد حتى توضع على الأرض أو توضع في اللحد، وقد روي عن أبي هريرة باللفظين إلا أنه أشار البخاري إلى ترجيح رواية حتى توضع بالأرض بقوله: باب من تبع جنازة فلا يقعد

(10/166)


حتى توضع عن مناكب الرجال. وصرح أبوداود بترجيحها حيث قال بعد رواية حديث أبي سعيد من طريق سهيل بن أبي صالح بلفظ: إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع، وروى الثوري هذا الحديث عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال فيه: حتى توضع بالأرض، ورواه أبومعاوية عن سهيل قال: حتى توضع في اللحد، وسفيان أحفظ من أبي معاوية-انتهى. وكذا قال الأثرم. قال الحافظ: ورواه جرير عن سهيل أي عن أبي صالح عن أبي سعيد فقال: حتى توضع حسب، وزاد قال سهيل ورأيت أبا صالح لا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال. أخرجه أبونعيم في المستخرج بهذه الزيادة والبيهقي (ج4ص26) وهو في مسلم بدونها. قال الحافظ: ورجح رواية: حتى توضع بالأرض عند البخاري بفعل أبي صالح لأنه راوي الخبر، وهو أعرف بالمراد منه، ورواية أبي معاوية مرجوحة، كما قال أبوداود-انتهى. قلت: المختار عند القائلين باستحباب قيام التابع قبل الوضع هو أن المراد بالوضع وضعها بالأرض. وفي المحيط للحنفية: الأفضل أن لا يجلسوا حتى يسووا عليه التراب، وحجته رواية أبي معاوية. وفي البدائع والخانية والعناية وغيرها خلافه، حيث صرحوا بأنه لا بأس بالجلوس بعد الوضع بالأرض. والحديث

(10/167)


يفيد النهي عن جلوس المشيع أي الماشي مع الجنازة قبل أن توضع على الأرض. واختلف العلماء في ذلك، فذهب بعض السلف إلى أنه يجب القيام حتى توضع، واحتج له برواية سعيد عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: ما رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد جنازة قط فجلس حتى توضع. أخرجه النسائي. قال الشوكاني: ولا يخفى أن مجرد الفعل لا ينتهض دليلا للوجوب، فالأولى الاستدلال له بحديث أبي سعيد فإن فيه النهي عن القعود قبل وضعها، وهو حقيقة للتحريم وترك الحرام واجب، ومثل ذلك حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا: من صلى على جنازة ولم يمش معها فليقم حتى تغيب عنه، فإن مشى معها فلا يقعد حتى توضع-انتهى. وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسين: يستحب له أن لا يجلس حتى توضع عن أعناق الرجال، حكى عنهم ذلك النووي، والحافظ في الفتح، ونقله ابن المنذر عن أكثر الصحابة والتابعين، وحكى في الفتح عن الشعبي والنخعي: أنه يكره القعود قبل أن توضع، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، كما في كتب فروعهم. واختلف الشافعية في ذلك فقال بعضهم: قيام المشيع قبل وضع الجنازة بالأرض منسوخ كالقيام لمن مرت به، وهو الذي حكاه ابن قدامة عن الشافعي، وقال بعضهم كقول الجمهور: أنه يستحب له أن لا يقعد حتى توضع، واستدل للنسخ بما سيأتي من حديث عبادة بن الصامت. (عند الترمذي وأبي داود وابن ماجه والبيهقي) (ج4ص28) والبزار والحازمي (ص130) قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اتبع الجنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حبر فقال: هكذا نصنع يا محمد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: اجلسوا وخالفوهم. وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف كما ستعرف، فلا يسوغ الاستدلال به على نسخ السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة. قال الحافظ في الفتح: لو لم يكن إسناده ضعيفا لكان حجة في النسخ. وقال الحازمي بعد روايته: هذا حديث غريب. ولو صح لكان صريحا في النسخ، غير أن حديث أبي

(10/168)


سعيد أصح وأثبت فلا يقاومه هذا الإسناد-انتهى. على أن هذا الحديث إنما يدل على نسخ القيام قبل الوضع في اللحد لا على نسخ القيام قبل الوضع بالأرض، والمطلوب إثبات هذا لا ذاك. قال القاري في شرح قوله "خالفوهم" فبقي القول بأن التابع لم يقعد حتى توضع عن أعناق الرجال هو الصحيح، مع أن قوله: حتى توضع في اللحد يرده ما في حديث البراء الطويل المتقدم كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس فجلسنا حوله. واستدل للنسخ أيضا بما سيأتي من حديث علي قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس، أخرجه أحمد (ج1ص82) وابن حبان والحازمي (ص121) وأخرجه البيهقي (ج4ص27) بلفظ: ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود. وأجاب عنه الشوكاني بأن هذا الحديث إن صح صلح للنسخ لقوله فيه: وأمرنا بالجلوس، ولكنه لم يخرج هذه الزيادة مسلم ولا الترمذي ولا أبوداود (ولا ابن ماجه ولا أحمد في أكثر رواياته)، بل اقتصروا على قوله: ثم قعد.
متفق عليه.

(10/169)


(ومجرد الفعل لا يدل على نسخ القول؛ لاحتمال أن قعوده كان لبيان الجواز) قال: واقتصار جمهور المخرجين لحديث علي وحفاظهم على مجرد القعود بدون ذكر زيادة الأمر بالجلوس مما يوجب عدم الاطمينان إليها، والتمسك بها في النسخ لما هو من الصحة في الغاية. وأجاب عنه ابن حزم (ج5 ص154) بأن الأمر فيه للإباحة والتخفيف، قال: كنا نقطع بالنسخ بهذا الخبر، لولا ما روينا من طريق النسائي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا جميعا: ما رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد جنازة قط فجلس حتى توضع، قال: فهذا عمله عليه السلام المداوم، وأبوهريرة وأبوسعيد ما فارقاه عليه السلام حتى مات، فصح أن أمره بالجلوس إباحة وتخفيف، وأمره بالقيام وقيامه ندب – انتهى. قلت: والظاهر أن المراد بالقيام المذكور في حديث علي هو القيام للجنازة إذا مرت به، لا قيام التابع والمشيع. وأما رواية الحازمي (ص130) بلفظ: قال علي: قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أول ما قدمنا، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجلس حتى توضع الجنازة، ثم جلسب بعد وجلسنا معه، فكان يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ففي كونها صالحة للاستدلال نظر، قال الحازمي: هذا الحديث بهذه الألفاظ غريب أيضا. قلت: وكذا رواية البيهقي (ج4 ص27) بلفظ: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الجنائز حتى توضع وقام الناس معه، ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود، غريب أيضا. نعم يشكل رواية الترمذي والنسائي والبيهقي (ج4 ص27) بلفظ: عن علي بن أبي طالب أنه ذكر القيام على الجنازة حتى توضع، فقال علي بن أبي طالب: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قعد، ورواية البيهقي (ج4 ص28) بلفظ: رأى علي الناس قياما ينتظرون الجنازة أن توضع، فأشار إليهم بدرة معه أو سوط أن اجلسوا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جلس بعد ما كان يقوم؛ لأن هاتين

(10/170)


الروايتين تدلان على أن المراد القيام مطلقا، وأن الذي فهمه علي رضي الله عنه هو الترك مطلقا، ولهذا أمر بالقعود من رأى قائما ينتظر الجنازة أن توضع. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن الذي استند إليه علي في الأمر بقعود المنتظرين إنما هو فعله - صلى الله عليه وسلم -، ومن المعلوم أن مجرد الفعل لا يدل على النسخ؛ لأنه يحتمل أن قعوده كان لبيان الجواز، وأن النهي في حديث أبي سعيد للتنزيه لا للتحريم، فتأمل. والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه الجمهور من أنه يستحب أن لا يجلس التابع والمشيع للجنازة حتى توضع بالأرض. وأن النهي في قوله: فلا يقعد، محمول على التنزيه. والله تعالى أعلم. ويدل على استحباب القيام إلى أن توضع ما رواه البيهقي (ج4 ص27) من طريق أبي حازم قال: مشيت مع أبي هريرة وابن عمر وابن الزبير والحسن بن علي أمام الجنازة حتى انتهينا إلى المقبرة، فقاموا حتى وضعت ثم جلسوا، فقلت لبعضهم، فقال: إن القائم مثل الحامل يعني في الأجر. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج4ص26).
1663-(4) وعن جابر، قال: (( مرت جنازة، فقام لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله! إنها يهودية، فقال: إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا)). متفق عليه.

(10/171)


1663- قوله: (إنها) أي الميتة (يهودية) أو الجنازة جنازة يهودية، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: إنها جنازة يهودي. (إن الموت فزع) بفتحتين. قال القرطبي: معناه أن الموت يفزع منه إشارة إلى استعظامه. ومقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت لما يشعر ذلك من التساهل بأمر الموت، فمن ثم استوى فيه كون الميت مسلما أو غير مسلم. وقال غيره: جعل نفس الموت فزعا مبالغة، كما يقال رجل عدل. قال البيضاوي: هو مصدر جرى مجرى الوصف للمبالغة، أو فيه تقدير الموت ذو فزع-انتهى. ويؤيد الثاني رواية النسائي بلفظ: إن للموت فزعا. وعن أبي هريرة عند ابن ماجه وعن ابن عباس عند البزار مثله. قال البزار: وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب، ولا يظهر منه عدم الاحتفال والمبالاة. (فإذا رأيتم الجنازة فقوموا) أي تعظيما لهول الموت وفزعه لا تعظيما للميت، فلا يختص القيام بميت دون ميت. واعلم أنه اختلف الأحاديث في تعليل القيام بجنازة اليهودي أو اليهودية، ففي هذا الحديث التعليل بقوله: إن الموت فزع، وفي حديث سهل بن حنيف وقيس الآتي التعليل بكونها نفسا، وفي حديث أنس عند النسائي والحاكم: إنما قمنا للملائكة، ونحوه لأحمد من حديث أبي موسى، وسيأتي هذان الحديثان في الفصل الثالث، وفي حديث عبدالله بن عمرو عند أحمد والحاكم والبيهقي: إنما تقومون للذي يقبض النفوس، وأخرجه ابن حبان بلفظ: إعظاما لله الذي يقبض الأرواح. ولا معارضة في هذه التعليلات، إذ يجوز تعدد الأغراض والعلل، فيكون القيام مطلوبا تعظيما لأمر الموت والملائكة جميعا وغير ذلك. قال الحافظ: لا منافاة فيها لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة. وأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأذيا بريح اليهودي. زاد الطبراني من حديث عبدالله بن عياش:

(10/172)


فآذاه ريح بخورها. وللنسائي والطبري من وجه آخر عن الحسن: كره أن تعلو رأسه جنازة يهودي، فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة. أما أولا فلأن أسانيدها لا تقاوم تلك في الصحة، وأما ثانيا فلأن التعليل بذلك راجع إلى ما فهمه الراوي، والتعليل الماضي صريح من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأن الراوي لم يسمع بالتعليل منه فعلل باجتهاده، كذا في الفتح. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. ولفظ البخاري: مر بنا جنازة فقام لها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقمنا، فقلنا يا رسول الله! إنها جنازة يهودي، قال:
1664-(5) وعن علي، قال: (( رأينا رسول الله صلى الله - صلى الله عليه وسلم - قام فقمنا، وقعد فقعدنا،
إذا رأيتم الجنازة فقوموا. قال ميرك: في قوله: متفق عليه، نظر من وجهين أحدهما أن جملة إن الموت فرع من أفراد مسلم عن البخاري، والثاني أن لفظ البخاري: إنها جنازة يهودي-انتهى. والحديث أخرجه أبوداود والنسائي والبيهقي أيضا.

(10/173)


1664- قوله: (رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام) أي لرؤية الجنازة. (فقمنا) أي تبعا له. (وقعد فقعدنا) وفي رواية لمسلم: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قعد. قال البيضاوي: يحتمل قول علي: ثم قعد، أي بعد أن جاوزته وبعدت عنه. ويحتمل أن يريد كان يقوم في وقت ثم ترك القيام أصلا، وعلى هذا يكون فعله الأخير قرينة في أن المراد بالأمر الوارد في ذلك الندب. ويحتمل أن يكون نسخا للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر. والأول أرجح؛ لأن احتمال المجاز يعني في الأمر أولى من دعوى النسخ-انتهى. وقال الترمذي: معنى قول علي: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنازة ثم قعد، يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم إذا رأى الجنازة ثم ترك ذلك بعد، فكان لا يقوم إذا رأى الجنازة، قال: وهذا الحديث ناسخ للحديث الأول: إذا رأيتم الجنازة فقوموا-انتهى. وكذا استدل به على النسخ كل من ذهب إلى نسخ القيام للجنازة لمن مرت به. وتعقبه النووي بأن حديث علي هذا ليس صريحا في النسخ لاحتمال أن القعود فيه لبيان الجواز، فلا يصح دعوى النسخ؛ لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث، ولم يتعذر بل هو ممكن، كما تقدم. وقال ابن حزم في المحلى (ج5ص154): قعوده - صلى الله عليه وسلم - بعد بأمره بالقيام يدل على أن الأمر للندب. ولا يجوز أن يكون نسخا؛ لأن النسخ لا يكون إلا بنهي أو بترك معه نهي-انتهى. وأما حديث علي الآتي بلفظ: أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس، فقد تقدم جوابه عن الشوكاني وابن حزم في شرح حديث أبي سعيد. وأما ما رواه أحمد (ج1ص142) والحازمي (ص121) من طريق أبي معمر وهو عبدالله بن سخبرة قال: كنا مع علي فمر به جنازة فقام لها ناس، فقال علي: من أفتاكم هذا؟ فقالوا أبوموسى. قال إنما فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة، فكان يتشبه بأهل الكتاب، فلما نهي انتهى، لفظ أحمد، ولفظ الحازمي:

(10/174)


فلما نسخ ذلك ونهي عنه انتهى. ففيه أنه لا يصلح النسخ ما ثبت بالأحاديث المخرجة في الصحيحين وغيرهما؛ لأن مداره على ليث بن أبي سليم وهو صدوق يهم، قاله البخاري. وقال الحافظ: صدوق اختلط أخيرا، ولم يتميز حديثه فترك-انتهى. ولا يغتر برواية الثوري هذا الحديث عن ليث، فإن رواية الثقات عن الضعفاء الواهمين لا يدل على كون الرواية صالحة للاحتجاج، كما لا يخفى. وقد روى هذا الحديث أحمد بأطول من هذا من طريق ليث في مسند أبي موسى الأشعري (ج4ص413) وفيه فإذا نهي انتهى، فما عاد لها بعد، ورواه النسائي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر قال: كنا عند علي فمرت به جنازة فقاموا
يعني في الجنازة)). رواه مسلم، وفي رواية مالك، وأبي داود: ((قام في الجنازة، ثم قعد بعد)).
1665-(6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتى يصلي عليها

(10/175)


لها، فقال علي: ما هذا؟ قالوا أمر أبي موسى، فقال: إنما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجنازة يهودية ولم يعد بعد ذلك-انتهى. وهذا كما ترى، ليس فيه ذكر النسخ والنهي، وهو موافق لرواية مسلم والترمذي وأبي داود وأكثر روايات أحمد، فهو مقدم على رواية ليث، ولأن ابن نجيح اتفق الأئمة على توثيقه. ولعلك عرفت بما ذكرنا أنه لا يصلح شيء مما يذكره الجمهور لنسخ القيام للجنازة. والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد أنه مخير، إن قام فلا عيب عليه، وإن قعد فلا بأس به، والله تعالى اعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أحمد (ج1ص83، 131، 138) والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4ص27). (وفي رواية مالك وأبي داود قام في الجنازة) أي لها. (ثم قعد بعد) هذا لفظ أبي داود. وسياق الموطأ: كان يقوم في الجنائز ثم جلس بعد. قال ميرك: وكأنه اعتراض على صاحب المصابيح، حيث أورد الحديث في الصحاح بلفظ مالك وأبي داود دون مسلم. والجواب من قبل صاحب المصابيح أنه يحتمل أنه اختار لفظ أبي داود؛ لأنه أصرح في النسخ. (على زعمه) من عبارة مسلم كما لا يخفى، وإنما أورده لبيان أن الأمر بالقيام للجنازة المفهوم من الحديث السابق منسوخ، لا لأنه المقصود من الباب، تأمل-انتهى.

(10/176)


1665- قوله: (من اتبع) بتشديد التاء المثناة الفوقية من الإتباع. قال القاري: وفي نسخة صحيحة: من تبع أي بدون الألف. وكسر الباء. قلت: وقع في أكثر روايات البخاري: اتبع بالتشديد. وفي رواية الأصيلي وابن عساكر: تبع بغير ألف وكسر الموحدة (جنازة مسلم) يقال: تبع القوم بالكسر يتبعهم بالفتح تبعا وتباعة إذا مشي خلفهم أو مروا به فمضى معهم، واتبع القوم مثل تبعهم. (إيمانا) أي بالله ورسوله. وقيل أي تصديقا بأنه حق. وقيل: تصديقا بما وعد عليه من الأجر. (واحتسابا) أي طلبا للثواب لا مكافاة ومخافة، ونصبهما على العلة أو على أنهما حالان أي مؤمنا ومحتسبا. (وكان معه) أي استمر مع جنازته. (حتى يصلي عليها) بصيغة المعلوم. وضمير الفاعل يرجع إلى من. ويروي بفتح اللام على صيغة المجهول، وقوله: عليها، مفعول ناب عن الفاعل، فعلى الرواية الأولى لا يحصل الموعود به إلا لمن توجد منه الصلاة، وعلى الثانية قد يقال يحصل له ذلك ولو لم يصل. والصواب أنه لا يحصل له القيراطان بالدفن من غير صلاة؛ لأن المراد أن يصلي هو أيضا جمعا بين الروايتين وحملا للمطلق على المقيد. قال الحافظ: رواية فتح اللام محمولة على رواية الكسر، فإن حصول القيراط
ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن، فإنه يرجع بقيراط))

(10/177)


متوقف على وجود الصلاة من الذي يحصل له-انتهى.وقال ابن المنير: إن القيراط لا يحصل إلا لمن اتبع وصلى أو اتبع وشيع وحضر الدفن، لا لمن اتبع مثلا وشيع ثم انصرف بغير صلاة، وذلك لأن الإتباع إنما هو وسيلة لأحد مقصودين إما الصلاة وإما الدفن، فإذا تجردت الوسيلة عن المقصد لم يحصل المترتب على المقصود وإن كان يترجى أن يحصل لذلك، فضل ما يحتسب. (ويفرغ من دفنها) بالبناء للفاعل، ويروى بالبناء للمفعول، والجار والمجرور نائب الفاعل، والفعلان منصوبان بأن مضمرة بعد حتى. (من الأجر) حال من قوله: بقيراطين. قال الطيبي: أي كائنا من الثواب، فمن بيانية تقدمت على المبين. (بقيراطين) مثنى قيراط أي بقسطين ونصيبين عظيمين، والباء تتعلق بيرجع. والقيراط بكسر القاف أصله قراط بتشديد الراء بدليل جمعه على قراريط فأبدل من أحد الرائين ياء، كما في الدينار أصله دنار بدليل جمعه على دنانير. قال الجوهري القيراط نصف دانق والدانق سدس الدرهم، فعلى هذا يكون القيراط جزءا من اثني عشر جزءا من الدرهم. وقال صاحب النهاية، القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في أكثر البلاد. وأهل الشام يجعلونه جزءا من أربعة وعشرين، وقد يطلق ويراد به بعض الشيء، وذكر القيراط تقريبا للفهم لما كان الإنسان يعرف القيراط ويعمل العمل في مقابلته، فضرب له المثل بما يعلم، ثم لما كان مقدار القيراط المتعارف حقيرا نبه على عظم القيراط الحاصل لمن فعل ذلك فقال: (كل قيراط مثل أحد) بضمتين، قال الحافظ: ذهب الأكثر إلى أن المراد بالقيراط ههنا جزء من أجزاء معلومة عند الله تعالى، وقد قربها النبي - صلى الله عليه وسلم - للفهم بتمثيله القيراط بأحد. قال الطيبي: قوله: مثل أحد، تفسير للمقصود من الكلام لا للفظ القيراط. والمراد منه على الحقيقة أنه يرجع بنصيب كبير من الأجر، وذلك لأن لفظ القيراط مبهم من وجهين ، فبين الموزون بقوله: من الأجر، وبين المقدار منه بقوله:

(10/178)


مثل أحد. والحاصل أنه تمثيل واستعارة. والقيراط عبارة عن ثواب معلوم عند الله تعالى عبر عنه ببعض أسماء المقادير، وفسر بجبل عظيم تعظيما له وهو أحد. وخص التمثيل بأحد لأنه كان قريبا من المخاطبين يشترك أكثرهم في معرفته كما ينبغي، ولأنه كان أكثر الجبال إلى النفوس المؤمنة حبا؛ لأنه الذي قال في حقه: إنه جبل يحبنا ونحبه. ويجوز أن يكون على حقيقته بأن يجعل الله ذلك العمل يوم القيامة جسما قدر جبل أحد ويوزن. وفي حديث واثلة عند ابن عدي: كتب له قيراطان أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحد، فأفادت هذه الرواية بيان وجه التمثيل بجبل أحد، وأن المراد به زنة الثواب المرتب على ذلك العمل. ووقع في رواية للنسائي: كل واحد منهما أعظم من أحد. وعند مسلم: أصغرهما مثل أحد. ولا مخالفة فيها؛ لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال المتبعين. (ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن) أي الجنازة. (فإنه يرجع بقيراط) أي من الأجر. قال النووي: اعلم أن
متفق عليه.
1666- (7) وعنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى للناس النجاشي

(10/179)


الصلاة يحصل بها قيراط إذا انفردت، فإن انضم إليها الإتباع حتى الفراغ من الدفن حصل له قيراط ثان، فلمن صلى وحضر الدفن القيراطان، ولمن اقتصر على الصلاة قيراط واحد. ولا يقال: يحصل بالصلاة مع الدفن ثلاثة قراريط كما يتوهمه بعضهم من ظاهر بعض الأحاديث؛ لأن هذا النوع صريحا، والحديث المطلق والمحتمل محمول عليه. وأما رواية من صلى على جنازة فله قيراط. ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان. فمعناه فله تمام قيراطين بالمجموع، قال وفي الحديث تنبيه على مسألة أخرى، وهي أن القيراط الثاني مقيد بمن اتبعها وكان معها في جميع الطريق حتى تدفن، فلو صلى وذهب إلى القبر وحده ومكث حتى جاءت الجنازة وحضر الدفن لم يحصل له القيراط الثاني-انتهى. وفي الحديث الحث على الصلاة على الميت واتباع جنازته وحضور دفنه. وفيه الحض على الاجتماع لذلك، والتنبيه على عظيم فضل الله، وتكريمه للمسلم في تكثير الثواب لمن يتولى أمره بعد موته. وفيه تقدير الأعمال بنسبة الأوزان إما تقريبا للأفهام، وإما على حقيقته بأن يجعلها أعيانا. قال الحافظ: قد تمسك بقوله: من أتبع من زعم أن المشي خلف الجنازة أفضل ولا حجة فيه؛ لأنه يقال تبعه إذا مشى خلفه وإذا مر به فمشى معه، وكذلك أتبعه بالتشديد وهو افتعل منه فإذا هو مقول بالاشتراك وبين المراد الحديث الآخر المصحح عند ابن حبان وغيره من حديث ابن عمر بالمشي أمامها. وأما أتبعه بالإسكان فهو بمعنى لحقه إذا كان سبقه ولم تأت به الرواية ههنا-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في كتاب الإيمان والحديث أخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي أيضا. وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكرهم الحافظ في الفتح.

(10/180)


1666- قوله: (نعى للناس النجاشي) أي أخبرهم بموته. في القاموس. نعاه له نعوا ونعيا أخبره بموته. والنجاشي بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة ثم ياء ثقيلة كياء النسب. وقيل بالتخفيف ورجحه الصنعاني. وهو لقب لكل من ملك الحبشة. وحكى المطرزي تشديد الجيم عن بعضهم وخطأه، كذا في الفتح. وقال العيني: النجاشي بفتح النون وكسرها، كلمة للحبش تسمى بها ملوكها، والمتأخرون يلقبونه الأبحري. قال ابن قتيبة: هو بالنبطية، ذكره ابن سيدة، وكان اسمه أصحمة، كما في رواية للشيخين، وهو بفتح الهمزة وسكون الصاد وبفتح الحاء المهملتين على وزن أربعة، ووقع في مصنف ابن أبي شيبة صحمة بفتح الصاد وسكون الحاء، ووقع في بعض الروايات أصخمة بخاء معجمة وإثبات الألف. قال الإسماعيلي: وهو غلط. وحكى الكرماني أن في بعض النسخ صحبة بالموحدة بدل الميم. ومعنى أصحمة بالعربية عطية، قاله ابن قتيبة وغيره.

(10/181)


والنجاشي هذا هو الذي هاجر المسلمون إليه، وكتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عمرو بن أمية الضمرى سنة ست أو سبع من الهجرة في المحرم. فأخذ كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعه على عينيه، ونزل عن سريره فجلس على الأرض تواضعا، ثم أسلم على يدي جعفر بن أبي طالب وكتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وتوفي في رجب سنة تسع من الهجرة منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك، ونعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم توفي، هكذا قال جماعة من أهل السير والتاريخ، منهم الواقدي وابن سعد وابن جرير وآخرون. قال في الخميس نقلا عن المواهب: وأما النجاشي الذي ولى بعده وكتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الإسلام فكان كافرا لم يعرف إسلامه ولا اسمه، وقد خلط بعضهم ولم يميز بينهما-انتهى. وقال ابن القيم: ليس الأمر كما قال الواقدي وغيره، فإن أصحمة النجاشي الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس هو الذي كتب إليه. (مع عمرو بن أمية) وهو الثاني، ولا يعرف إسلامه بخلاف الأول، فإنه مات مسلما، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث قتادة عن أنس قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حزم: إن هذا النجاشي الذي بعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمرى لم يسلم. قال ابن القيم: والظاهر قول ابن حزم-انتهى. وأجاب أهل السير عن حديث أنس بأنه وهم من بعض الرواة، أو أنه عبر ببعض ملوك الحبشة عن الملك الكبير، أو يحمل على أنه لما توفي قام مقامه آخر فكتب إليه أي في سنة تسع، وهذا هو الراجح. وحاصله أنه - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى النجاشي الذي صلى عليه وإلى النجاشي الذي تولى بعده على يد عمرو بن أمية أو غيره، فيكون هذه الكتابة متأخرة عن الكتابة لأصحمة الرجل الصالح الذي آمن

(10/182)


به - صلى الله عليه وسلم -، وأكرم أصحابه، وصلى هو عليه، فلا مخالفة بين رواية أهل السير ورواية مسلم، فتأمل. وفي الحديث دليل على جواز النعي أي الإعلام بالموت، وقد بوب عليه البخاري "باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه". قال الحافظ: فائدة هذه الترجمة الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعا كله، وإنما نهي عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق، ثم ذكر عن ابن سيرين أنه قال: لا أعلم بأسا أن يؤذن الرجل صديقه وحميمه، قال: وحاصله أن محض الإعلام بذلك لا يكره، فإن زاد على ذلك فلا، وقد كان بعض السلف يشدد في ذلك، حتى كان حذيفة إذا مات له الميت يقول: لا تؤذنوا أحدا، إني أخاف أن يكون نعيا، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذني هاتين ينهى عن النعي، أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن. قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: الأولى إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح، فهذا سنة، الثانية دعوة الحفل للمفاخرة، فهذه تكره، الثالثة الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك. فهذا يحرم.
اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى،

(10/183)


(اليوم) ظرف نعي أي في اليوم. (الذي مات فيه) وهو في رجب سنة تسع من الهجرة منصرفه من تبوك كما تقدم وذلك معجزة عظيمة منه - صلى الله عليه وسلم - حيث أعلمهم بموته في اليوم الذي توفي فيه مع بعد عظيم ما بين المدينة والحبشة. (وخرج بهم إلى المصلى) وفي رواية ابن ماجه: فخرج وأصحابه إلى البقيع. قال الحافظ: والمراد بالبقيع بقيع بطحان، أو يكون المراد بالمصلي موضعا معدا للجنائز ببقيع الغرقد غير مصلى العيدين، والأول أظهر، وقال في شرح حديث ابن عمر في رجم اليهوديين بلفظ "فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد". حكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - من ناحية جهة المشرق-انتهى. فإن ثبت ما قال، وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلي المتخذ للعيدين والاستسقاء؛ لأنه لم يكن عند المسجد النبوي مكان يتهيأ فيه الرجم، وسيأتي في قصة ماعز "فرجمناه بالمصلي"-انتهى. وقد تمسك بهذا الحديث من قال بكراهة صلاة الجنازة في المسجد، سواء كان القوم والميت في المسجد، أو كان الميت خارج المسجد، والقوم كلهم أو بعضهم في المسجد، وهذا لأنه - صلى الله عليه وسلم - خرج بأصحابه إلى المصلي فصف بهم وصلى عليه، ولو ساغ أن يصلي عليه في المسجد لما خرج بهم، والقول بالكراهة للحنفية والمالكية. واستدل لهم أيضا ما رواه أبوداود وابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعا: من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له. وأجيب بأنه ليس فيه نهي عن الصلاة في المسجد. ويحتمل أن يكون خرج بهم إلى المصلي لغير المعنى الذي ذكروه، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد، فكيف يترك هذا الصريح لأمر محتمل، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلي لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولتعظيم شأنه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدر بكونه أسلم،

(10/184)


كما روى ابن أبي حاتم في التفسير، والدارقطني في الأفراد، والبزار من حديث أنس. وأما حديث أبي هريرة فأجيب عنه بوجوه، منها أنه ضعيف ضعفه أحمد بن حنبل وابن حبان وابن عدي والبيهقي والخطابي وابن المنذر والنووي وغيرهم. قلت: في سنده صالح بن نبهان مولى التوأمة، وقد تفرد به وهو صدوق، اختلط بآخره، ورواه عنه ابن أبي ذئب، واختلفوا في أنه سمع هذا الحديث من صالح قبل الاختلاط أو بعده. قال ابن معين: سمع منه ابن أبي ذئب قبل أن يخرف. وقال ابن المديني: سماع ابن أبي ذئب منه قبل الخرف. وقال الجوزجاني: تغير أخيرا، فحديث ابن أبي ذئب عنه مقبول لسنه وسماعه القديم. وقال ابن عدي: لا بأس به إذا روى عنه القدماء مثل ابن أبي ذئب وابن جريج. ويعارض هذا كله ما روى الترمذي عن البخاري عن أحمد بن حنبل قال: سمع ابن أبي ذئب من صالح أخيرا، وروى عنه منكرا، حكاه ابن القطان عن الترمذي. وما نقل الزيلعي عن ابن عدي أنه عد هذا

(10/185)


الحديث من منكرات صالح، والظاهر أن ابن أبي ذئب سمع منه قبل الاختلاط وبعده، ولم يدر أنه أخذ هذا الحديث منه قبل الاختلاط أو بعده. قال ابن حبان: اختلط حديثه الأخير بحديثه القديم ولم يتميز فاستحق الترك-انتهى. وعلى هذا لا يكون هذا الحديث صالحا للاحتجاج، ومنها ما قال النووي: إن الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من سنن أبي داود "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه" فلا حجة لهم حينئذ. ومنها ما قاله النووي أيضا: إنه لو ثبت الحديث بلفظ "فلا شيء له" لوجب تأويله بأن له بمعنى عليه ليجمع بين الروايتين، ولئلا يخالف قوله فعله في الصلاة على ابني بيضاء في المسجد، ومنها أن معنى قوله: فلا شيء له، أي فلا أجر له، كما في رواية، والروايات يفسر بعضها بعضا، والمراد فلا أجر له كاملا. قال القاري: الأظهر أن يحمل على نفي الكمال كما في نظائره، والدليل عليه ما في مسلم عن عائشة: والله لقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه. وقال الخطابي: ثبت أن أبا بكر وعمر صلى عليهما في المسجد، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، وفي تركهم الإنكار دليل الجواز-انتهى. قلت: وكذا يحمل على نفي الكمال رواية ابن ماجه: فليس له شيء. قال السندي: ظاهره أن المعنى فليس له أجر، كما في رواية، وسلب الأجر من الفعل الموضوع للأجر يقتضي عدم الصحة، ولذا جاء في رواية ابن أبي شيبة في مصنفه: فلا صلاة له، لكن يشكل بأن الصلاة صحيحة إجماعا، فيحمل على أنه ليس له أجر كامل، ويمكن أن يقال: معنى فلا شيء فلا أجر له لأجل كونه صلى في المسجد، فالحديث لبيان أن صلاة الجنازة في المسجد ليس لها أجر لأجل كونها في المسجد كما في المكتوبات، فأجر أصل الصلاة باق، وإنما الحديث لإفادة سلب الأجر بواسطة ما يتوهم من أنها في المسجد، فيكون الحديث مفيدا لإباحة الصلاة في المسجد من غير أن يكون لها بذلك فضيلة

(10/186)


زائدة على كونها خارجها، وينبغي أن يتعين هذا الاحتمال دفعا للتعارض وتوفيقا بين الأدلة بحسب الإمكان، وعلى هذا فالقول بكراهة الصلاة في لمسجد مشكل، نعم ينبغي أن يكون الأفضل خارج المسجد بناء على الغالب أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي خارج المسجد، وفعله في المسجد كان مرة أو مرتين-انتهى كلام السندي. وأما ما قال بعض الحنفية: إن العمل استقر على ترك الصلاة عليها في المسجد؛ لأن الناس قد أنكروا وعابوا على عائشة وغيرها من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاتهن على جنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد النبوي، وكان هؤلاء المنكرون من الصحابة فمردود بأن عائشة لما أنكرت ذلك الإنكار سلموا لها، فدل على أنها حفظت ما نسوه، وقد روى أبوبكر بن أبي شيبة وغيره أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيبا صلى على عمر في المسجد، زاد في رواية ووضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر. قال الحافظ: وهذا يقتضى الإجماع على جواز ذلك-انتهى.
فصف بهم، وكبر أربع تكبيرات.

(10/187)


وقال ابن قدامة: كان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا-انتهى. وأما دعوى الطحاوي والعيني ومن تبعهما أن الجواز كان أولا ثم بحديث أبي هريرة، أو أنه كان لعذر وضرورة مثل المطر أو الاعتكاف فمردودة، وكل ما ذكروه لإثبات النسخ فمما لا طائل تحته. قال البيهقي: لو كان عند أبي هريرة نسخ حديث عائشة لذكره يوم صلى على أبي بكر الصديق في المسجد ويوم صلى على عمر بن الخطاب في المسجد، ولذكره من أنكر على عائشة أمرها بإدخاله المسجد، أو ذكره أبوهريرة حين روت فيه الخبر، وإنما أنكره من لم يكن له معرفة بالجواز، فلما روت فيه الخبر سكتوا ولم ينكروه ولا عارضوه بغيره-انتهى. والحق أنه يجوز الصلاة على الجنائز في المسجد من غير كراهة، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد؛ لأن أكثر صلاته - صلى الله عليه وسلم - على الجنائز كان في المصلى. ولبعض أفاضل بلدة بنارس من أهل الحديث رسالتان لطيفتان في هذه المسألة، قد بسط في الثانية القول في الجواب عن حديث أبي هريرة بما لا مزيد عليه. (فصف بهم) لازم، والباء بمعنى مع، أي صف معهم، أو متعد والباء زائدة للتوكيد أي صفهم، قاله الزرقاني. وفيه دليل على أن من سنة هذه الصلاة الصف كسائر الصلوات، ويتقدمهم إمامهم، ففي رواية من حديث جابر: فصفوا خلفه. وفي أخرى: فصفنا وراءه. وفي أخرى: فقمنا فصفنا صفين. وفي أخرى: قال جابر كنت في الصف الثاني. وفي كل هذا رد على من استحب أن يكون المصلون على الجنازة سطرا واحدا، نقله ابن العربي عن مالك. (وكبر أربع تكبيرات) فيه دليل على أن المشروع في تكبير الجنازة أربع، وسيأتي الكلام في ذلك. وفي هذه القصة دليل على مشروعية الصلاة على الميت الغائب في بلد آخر، وفيه أقوال: الأول تشرع مطلقا، سواء كان الميت في جهة القبلة أو لم تكن، وسواء كان بين البلدين مسافة القصر أو لم تكن، وسواء كان بأرض لم يصل عليه فيها أو كان بأرض صلى عليه فيها، وبه قال الشافعي وأحمد

(10/188)


وجمهور السلف حتى قال ابن حزم لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. والثاني منعه مطلقا وهو للحنفية والمالكية. والثالث يجوز في اليوم الذي مات فيه الميت أو ما قرب منه لا إذا طالت المدة، حكاه ابن عبدالبر، والرابع يجوز ذلك إذا كان الميت في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم يجز، قال به ابن حبان، وحجته حجة الذي قبله الجمود على قصة النجاشي. والخامس أنه يصلي على الغائب إذا كان بأرض لا يصلي عليه فيها كالنجاشي، فإنه مات بأرض لم يسلم أهلها واختاره ابن تيمية، ونقله الحافظ في الفتح عن الخطابي وإنه استحسنه الروياني من الشافعية . قال الحافظ: وهو محتمل إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار أنه لم يصل عليه في بلده أحد. وتعقبه الزرقاني بأن هذا مشترك الإلزام، فلم يرد في شيء من الأخبار

(10/189)


أنه صلى عليه أحد في بلده كما جزم به أبوداود، ومحله في اتساع الحفظ معلوم-انتهى. قال في عون المعبود: نعم ما ورد فيه شيء نفيا ولا إثباتا، لكن من المعلوم أن النجاشي أسلم شاع إسلامه ووصل إليه جماعة من المسلمين مرة بعد مرة وكرة بعد كرة، فيبعد كل البعد أنه ما صلى عليه أحد في بلده. وقال ابن قدامة في المغني (ج2ص513) إن هذا بعيد؛ لأن النجاشي ملك الحبشة وقد أسلم وأظهر إسلامه، فيبعد أن يكون لم يوافقه أحد يصلي عليه-انتهى. واستدل بعضهم لما قال الخطابي وغيره بما روى الطيالسي وأحمد وابن ماجه والطبراني والضياء من حديث حذيفة بن أسيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج بهم، فقال: صلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم، قالوا: من هو؟ قال النجاشي، ولا حجة فيه لهم، بل فيه حجة عليهم، فإنه ليس فيه أنه لم يصل عليه أحد في بلده. والمراد بأرضكم أرض المدينة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن النجاشي إن مات في أرضكم المدينة لصليتم عليه كما تصلون على من تشهدون جنازته. لكنه مات في غير أرضكم، فصلوا عليه صلاة الغائب، فهذا تشريع منه وسنة للأمة الصلاة على كل غائب. واعتذر من منع من صلاة الجنازة على الغائب مطلقا عن هذه القصة بأن ذلك خاص بالنجاشي؛ لأنه كشف له - صلى الله عليه وسلم - ورفع الحجب عنه، حتى رآه كما كشف له عن بيت المقدس حين سألته قريش عن صفته، فصلى عليه وهو يرأه صلاته على الحاضر المشاهد وإن كان على مسافة من البعد، فتكون صلاته كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون، ولا خلاف في جوازها، واستندوا لذلك إلى ما ذكر الواقدي في أسبابه عن ابن عباس قال: كشف للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه، ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه، ولأبي عوانة: فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا، قالوا ويدل على الخصوصية أيضا أن النبي -

(10/190)


صلى الله عليه وسلم - لم يصل على غائب غيره، وقد مات من الصحابة خلق كثير وهم غايبون عنه وسمع بهم، فلم يصل عليهم إلا غائبا واحدا، ورد أنه طويت له الأرض حتى حضره أو رفع له الحجاب حتى رآه، وهو معاوية بن معاوية المزني كما روى الطبراني وابن مندة والبيهقي وابن سعد وغيرهم من حديث أنس، والطبراني وأبوأحمد والحاكم من حديث أبي أمامة. وأجيب عن ذلك بأن الأصل عدم الخصوصية، ولو فتح باب هذا الخصوص؛ لأنسد كثير من أحكام الشرع. قال الخطابي: زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصا بهذا الفعل فاسد؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل شيئا من أفعال الشريعة كان علينا إتباعه والإيتساء به، والتخصيص لا يعلم إلا بدليل، ومما يبين ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج بالناس إلى الصلاة فصف بهم وصلوا معه، فعلم أن هذا التأويل فاسد. وقال ابن قدامة: نقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يثبت ما يقتضي اختصاصه، ولأن الميت مع البعد لا تجوز الصلاة عليه
متفق عليه.
1667-(8) وعن عبدالرحمن بن أبي ليلي، قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا وإنه
كبر على جنازة، خمسا، فسألناه فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبرها.

(10/191)


وإن رئي. ثم لو رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - لاختصت الصلاة به. وقد صف النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بهم-انتهى. وأما الاستناد للتخصيص إلى ما ذكروه من حديث ابن عباس وحديث عمران بن حصين فليس بشيء، فإن حديث ابن عباس ذكره الواقدي في أسبابه بغير إسناد، كما قال الحافظ في الفتح فلا يلتفت إليه. وأما حديث عمران بن حصين المذكور بلفظ: وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه، وبلفظ: لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا فلأن المراد به أنهم صلوا عليه كما يصلون على الميت الحاضر من غير فرق. ويدل عليه حديث عمران نفسه عند الترمذي وغيره بلفظ: فقمنا فصففنا كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلي على الميت. ويؤيده أيضا حديث مجمع عند الطبراني بلفظ: فصففنا خلفه صفين وما نرى شيئا-انتهى. قال ابن العربي المالكي: قال المالكية ليس ذلك إلا لمحمد، قلنا: وما عمل به محمد تعمل به أمته يعني؛ لأن الأصل عدم الخصوصية، قالوا: طويت له الأرض وأحضرت الجنازة بين يديه، قلنا إن ربنا عليه لقادر، وإن نبينا لأهل ذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم، ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف، فإنها سبيل تلاف إلى ما ليس له تلاف. وأما ما قالوا لإثبات الخصوصية من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على غائب غيره إلا غائبا واحدا، وهو معاوية بن معاوية المزني. ففيه أنه يكفي لثبوت مشروعية أمر واستحبابه ورود حديث صحيح قولي أو فعلي أو تقريري، ولا يلزم لذلك كون ذلك الأمر مرويا عن جماعة من الصحابة في وقائع متعددة، وإلا لارتفع كثير من الأحكام الشرعية التي معمول بها عند جماعة من الأئمة، كيف وقد صرح الحنفية بمشروعية صلاة الاستسقاء وجوازها جماعة مع زعمهم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل للاستسقاء إلا مرة واحدة، هذا وقد بسط الكلام في هذه المسألة في عون المعبود، فعليك أن تراجعه. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد

(10/192)


ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي.
1667- قوله: (كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يكبرها) أي الخمس أحيانا. وقد استدل به من قال: إن تكبيرات الجنازة خمس، واختلف السلف في ذلك، فحكي الخمس عن حذيفة كما سيأتي، وزيد بن أرقم كما في حديث الباب، وابن مسعود كما في الفتح والمحلى، وعيسى مولى حذيفة كما عند سعيد بن منصور، وأصحاب معاذ بن جبل كما في المحلى والمغني، وأهل الشام من الصحابة والتابعين كما في المحلى، وأبي يوسف من أصحاب أبي حنيفة،

(10/193)


كما في المبسوط، وهو مذهب الظاهرية. واستدل لهذا القول أيضا بما روى ابن ماجه من طريق كثير بن عبدالله عن أبيه عن جده أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -كبر خمسا، وكثير فيه كلام كثير إلا أن الترمذي صحح له غير حديث، والراوي عنه إبراهيم بن علي الرافعي ضعفه البخاري وابن حبان ورماه بعضهم بالكذب، وبما روى أحمد والطحاوي من طريق يحيى بن عبدالله الجابر عن عيسى مولى حذيفة عن حذيفة أنه صلى على جنازة فكبر خمسا، وفيه أنه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحكي عن بعض السلف ما يدل على أن الزيادة على الأربع تخصيص بأهل الفضل، فروى سعيد بن منصور وغيره عن علي أنه كبر على سهل بن حنيف ستا، وقال: إنه بدري. وروى الطحاوي وابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن عبد خير قال: كان علي يكبر على أهل بدر ستا وعلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسا وعلى سائر المسلمين أربعا. وروى البيهقي عن علي أنه صلى على أبي قتادة فكبر عليه سبعا، وقال: إنه كان بدريا، وحكى عن بعضهم التخيير والإقتداء بالإمام في عدد التكبير، فروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال: التكبير تسع وسبع وخمس وأربع، وكبر ما كبر الإمام، وروى ابن حزم عنه أنه قال: كبروا عليها ما كبر أئمتكم لا وقت ولا عدد، وحكى عن بعضهم أن التكبيرات ثلاث، روى ذلك عن ابن عباس وأنس كما في الفتح والمحلى، وعن محمد بن سيرين وجابر بن يزيد أبي الشعثاء كما في المحلى أيضا. وذهب الجمهور من السلف والخلف منهم الأئمة الثلاثة إلى أنها أربع لا أقل ولا أكثر. قال ابن قدامة في المغني (ج2ص516): أكثر أهل العلم يرون التكبير أربعا، منهم عمر وابنه وزيد بن ثابت وجابر وابن أبي أوفى والحسن بن علي والبراء بن عازب وأبوهريرة وعقبة بن عامر ومحمد بن الحنفية وعطاء والأوزاعي، وهو قول مالك وأبي حنيفة والثوري والشافعي-انتهى. واستدل الجمهور لما ذهبوا إليه بما روي عن جماعة من الصحابة

(10/194)


تكبيره - صلى الله عليه وسلم - أربعا، فمنهم أبوهريرة وجابر أخرج حديثهما الشيخان في قصة الصلاة على النجاشي، ومنهم عثمان بن عفان أخرج حديثه ابن ماجه، وفيه خالد بن إلياس واتفقوا على تضعيفه، ومنهم ابن عباس عند الشيخين، وابن أبي أوفى عند أحمد وابن ماجه والطحاوي والبيهقي، ويزيد بن ثابت عند أحمد وابن ماجه والبيهقي أيضا، وسهل بن حنيف عند الطحاوي والبيهقي، وأبوسعيد عند البزار والطبراني، وفيه عبدالرحمن بن مالك بن مغول وهو متروك، وأنس عند أبي يعلى، وفيه محمد بن عبيدالله العزرمي وهو متروك، وأبي بن كعب عند الطبراني والبيهقي، وجابر عند أحمد والطبراني والبيهقي، وعامر بن ربيعة عند الطبراني، وفيه القاسم بن عبدالله العمري وهو متروك، وأبوقتادة عند الطحاوي. قال الجمهور: إن ما فوق الأربع من التكبيرات منسوخ بحديث أبي هريرة في قصة النجاشي؛ لأن إسلام أبي هريرة متأخر، وموت النجاشي كان بعد إسلام أبي هريرة بمدة. وفيه ما قال ابن الهمام: إن هذا

(10/195)


مسلم لو علم التاريخ في أحاديث من أثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر خمسا أو غير ذلك. واستدلوا للنسخ أيضا بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر أربعا في آخر صلاة صلاها، روي ذلك من حديث ابن عباس عند البيهقي والدارقطني والطبراني وأبي نعيم وابن حبان في الضعفاء، ومن حديث عمر عند الدارقطني والحازمي، ومن حديث ابن عمر عند الحارث بن أبي أسامة، ومن حديث أنس عند الحازمي. وأجيب عن ذلك بأن طرق هذه الأحاديث ضعيفة واهية كما بسطها الزيلعي. وقال الحازمي: قد روي آخر صلاته كبر أربعا من عدة روايات كلها ضعيفة. وقال البيهقي بعد رواية حديث ابن عباس من طريق النضر بن عبدالرحمن: قد روي هذا من وجوه أخر كلها ضعيفة-انتهى. وروى ابن عبدالبر في الاستذكار بسنده عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وستا وسبعا فثمانيا، حتى جاءه موت النجاشي فخرج إلى المصلى فصف الناس وراءه وكبر عليه أربعا، ثم ثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - على أربع حتى توفاه الله عزوجل، ذكره الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في التلخيص والدراية، ولم يتكلما عليه، فإن ثبت وصح هذا كان حجة على أن آخر الأمر كان أربعا، لكن لا يكون رافعا للنزع؛ لأن اقتصاره على الأربع لا ينفي مشروعية الخمس بعد ثبوتها عنه، وغاية ما فيه جواز الأمرين، قاله الشوكاني. ورجح الجمهور ما ذهبوا إليه بمرجحات: الأول أن الأربع ثبتت من طريق جماعة من الصحابة أكثر عددا ممن روى عنهم الخمس كما تقدم، الثاني أنها في الصحيحين، الثالث أنه أجمع على العمل بها الصحابة، فروى البيهقي من طريق علي بن الجعد ثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن عمر قال: كل ذلك قد كان أربعا وخمسا، فاجتمعنا على أربع، ورواه ابن المنذر من وجه آخر عن شعبة، وروى البيهقي أيضا عن أبي وائل قال: كانوا يكبرون على عهد

(10/196)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعا وخمسا وستا وسبعا، فجمع عمر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأخبر كل رجل منهم بما رأى، فجمعهم عمر على أربع تكبيرات، ومن طريق إبراهيم النخعي اجتمع أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في بيت أبي مسعود، فأجمعوا على أن التكبير على الجنازة أربع. واستدل بعضهم بإجماع الصحابة على الأربع على نسخ ما فوق الأربع. قال الطحاوي بعد رواية أثر إبراهيم النخعي بسنده: فهذا عمر قد رد الأمر في ذلك إلى أربع تكبيرات بمشورة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وهم حضروا من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رواه حذيفة وزيد بن أرقم، فكأن ما فعلو من ذلك عندهم هو أولى مما قد كانوا علموا، فذلك نسخ لما قد كانوا علموا؛ لأنهم مأمونون على ما قد فعلوا كما كانوا مأمونين على ما رووا-انتهى. وقال البيهقي بعد رواية حديث ابن عباس في كون الأربع آخر أمره: قد روي هذا اللفظ من وجوه أخرى كلها ضعيفة، إلا أن اجتماع أكثر الصحابة على الأربع كالدليل على ذلك. وأجيب عن الأول من هذه المرجحات والثاني بأنه إنما يرجح بهما عند التعارض. ولا تعارض
رواه مسلم.
1668-(9) وعن طلحة بن عبدالله بن عوف، قال: ((صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب، فقال:

(10/197)


بين الأربع والخمس، لأن الخمس مشتملة على زيادة غير معارضة، وعن الثالث بأن في ثبوت إجماع الصحابة على الأربع نظرا، حيث ثبت أن زيد بن أرقم كبر بعد عمر خمسا، وكذا ثبت الزيادة على الأربع عن علي وعن الصحابة بالشام، وثبت النقص عن الأربع عن أنس وابن عباس، وثبت التوسعة وعدم التوقيت عن ابن مسعود كما تقدم، اللهم إلا أن يقال: إن هؤلاء الصحابة ما علموا بالنسخ، فكانوا يعملون بما عليه الأمر أولا. وذهب أحمد إلى مشروعية الأربع، وقال: إذا كبر الإمام خمسا تابعه المأموم ولا يتابعه في زيادة عليها. قال ابن قدامة (ج2ص514): لا يختلف المذهب أنه لا يجوز الزيادة على سبع تكبيرات ولا أنقص من أربع، والأولى أربع لا يزاد عليها، واختلفت الرواية فيما بين ذلك. فظاهر كلام الخرقي أن الإمام إذا كبر خمسا تابعه المأموم ولا يتابعه في زيادة عليها، ورواه الأثرم عن أحمد. وروى حرب عن أحمد إذا كبر خمسا لا يكبر معه ولا يسلم إلا مع الإمام، قال الخلال: وكل من روى عن أبي عبدالله يخالفه، وممن لم ير متابعة الإمام في زيادة على أربع الثوري ومالك وأبوحنيفة والشافعي، واختارها ابن عقيل. قال ابن قدامة: ولنا ما روي عن زيد بن أرقم، فذكر حديث الباب وحديث حذيفة وأثر علي وغيره، ثم قال: ومعلوم أن المصلين مع زيد بن أرقم كانوا يتابعونه-انتهى. وفي المسألة أقوال أخرى. والراجح عندي أنه لا ينبغي أن يزاد على أربع؛ لأن فيه خروجا من الخلاف، ولأن ذلك هو الغالب من فعله - صلى الله عليه وسلم -، لكن الإمام إذا كبر خمسا تابعه المأموم؛ لأن ثبوت الخمس لا مرد له من حيث الرواية والعمل، وثبوت نسخ الزيادة على الأربع أو إجماع الصحابة على الأربع منظور فيه كما تقدم. ولا يجوز النقصان من الأربع؛ لأنه لم يرو شيء في النقص من أربع مرفوعا، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص367، 372) والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي والحازمي.

(10/198)


1668- قوله: (وعن طلحة بن عبدالله بن عوف) الزهري المدني القاضي ابن أخي عبدالرحمن بن عوف، يلقب طلحة الندى، ثقة مكثر فقيه من أوساط التابعين، روى عن عمه عبدالرحمن بن عوف وابن عباس وعثمان بن عفان وغيرهم، وعنه الزهري وسعد بن إبراهيم وغيرهما، مات سنة (97) وهو ابن (72) سنة. (صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب فقال) أي إنما قرأت الفاتحة أو رفعت بها صوتي كما في رواية.
لتعلموا أنها سنة)).
(لتعلموا أنها) أي قرأة الفاتحة على الجنازة. (سنة) وفي رواية للنسائي: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته، فقال: سنة وحق. وللحاكم من طريق ابن عجلان: أنه سمع سعيد بن أبي سعيد يقول: صلى ابن عباس على جنازة فجهر بالحمد لله، ثم قال إنما جهرت لتعلمون أنها سنة. والمراد بالسنة: الطريقة المألوفة عنه - صلى الله عليه وسلم - لا ما يقابل الفريضة، فإنه اصطلاح عرفي حادث. قال الأشرف: الضمير المؤنث لقراءة الفاتحة، وليس المراد بالسنة أنها ليست بواجبة بل ما يقابل البدعة، أي أنها طريقة مروية. وقال القسطلاني: إنها أي قراءة الفاتحة في الجنازة سنة. أي طريقة للشارع، فلا ينافي كونها واجبة. وقد علم أن قول الصحابي: من السنة كذا، حديث مرفوع عند الأكثر. قال الشافعي في الأم: وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقولون: السنة إلا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله تعالى-انتهى. وليس في حديث الباب بيان محل القراءة، وقد وقع التصريح به في حديث جابر بلفظ: وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى، أخرجه الشافعي في الأم، ومن طريقه الحاكم (ج1ص358)، ومن طريق الحاكم البيهقي في سننه (ج4ص39) وسنده ضعيف، وفي حديث أبي أمامة عند النسائي بإسناد على شرط الشيخين بلفظ: قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة. وفي رواية عزاها الحافظ في الفتح لعبدالرزاق

(10/199)


والنسائي من حديث أي أمامة قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر، ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يخلص الدعاء للميت، ولا يقرأ إلا في الأولى. قال الحافظ: إسناده صحيح. والحديث دليل على مشروعية قراءة فاتحة الكتاب في صلاة الجنازة. وقد حكى ابن المنذر ذلك عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير والمسور بن مخرمة، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، ونقل ابن المنذر أيضا عن أبي هريرة وابن عمر أنه ليس فيها قراءة، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه وسائر الكوفيين، كذا في النيل. قلت: وممن كان يقرأ أيضا من الصحابة أبوهريرة وأبوالدرداء وأنس بن مالك وعبدالله بن عمرو بن العاص، ومن التابعين سعيد بن المسيب والحسن البصري ومجاهد والزهري، كما في المحلى. قال ابن التركماني: ومذهب الحنفية أن القراءة في صلاة الجنازة لا تجب ولا تكره، ذكره القدورى في التجريد-انتهى. ويكره القراءة عند المالكية إلا أن يقصد الخروج من الخلاف. قال الدسوقي: إن قصد بقراءة الفاتحة الخروج من خلاف الشافعي فلا كراهة، لكن لا بد من الدعاء قبلها أو بعدها-انتهى. واستدل مالك بعمل أهل المدينة، إذ قال: قراءة فاتحة الكتاب فيها ليست بمعمول بها في بلدنا بحال. وفيه أن عمل أهل المدينة ليس بحجة شرعية، وإنما الحجة هو قول الله وقول رسوله، على أنه قد روي عن أبي أمامة وسعيد وابن المسيب وغيرهم من علماء المدينة القراءة في الصلاة على الجنازة، وبما روى هو

(10/200)


عن نافع أن عبدالله بن عمر كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة. وفيه أنه معارض بعمل غيره من الصحابة. ويمكن أن يكون المراد لا يقرأ أي شيئا من القرآن إلا فاتحة الكتاب، وأيضا هو نفي يقدم عليه الإثبات، وأيضا قول الصحابي لا يكون حجة بالاتفاق إذا نفاه السنة، وبأن صلاة الجنازة مشابهة للطواف في أنها لا ركوع فيها ولا سجود فلا تفتقر للقراءة. وفيه أنه قياس في مقابلة النص، على أنه قد أطلق عليها لفظ الصلاة فيكون لها حكم الصلاة في القراءة وغيرها إلا ما خص، وأيضا اتفقوا على أنها تفتقر إلى التكبير والقيام والنية والتسليم واستقبال القبلة والطهارة، فشبهها بالصلاة أبين وأقوى منه بالطواف. واستدل الحنفية كما في البدائع وغيره بما روى أحمد عن ابن مسعود قال: لم يوقت لنا في الصلاة على الميت قراءة ولا قول. وفيه أنه إنما قال: لم يوقت أي لم يقدر، ولا يدل هذا على نفي أصل القراءة، وقد روي عنه أنه قرأ على جنازة بفاتحة الكتاب، ثم إنه لا يعارض ما روي من الأحاديث المرفوعة في القراءة؛ لأنه نفي فيقدم عليه الإثبات، وبأنها لما لم تقرأ بعد التكبيرة الثانية دل على أنها لا تقرأ فيما قبلها؛ لأن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، ولما لم يتشهد في آخرها دل على أنه لا قراءة فيهما، ذكره الطحاوي. وفيه أن هذا الاستدلال ليس بشيء؛ لأنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه، وبأنها شرعت للدعاء، ومقدمة الدعاء الحمد والثناء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لا القراءة. وفيه ما تقدم آنفا أنه تعليل في مقابلة النص فهو مردود، على أن فاتحة الكتاب مشتملة على الحمد والثناء، فينبغي أن يكون افتتاح صلاة الجنازة بالفاتحة أولى وأحسن، فلا وجه لإنكارها والمنع عنها. وقوله لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب يتناول بإطلاقه صلاة الجنازة، فيكون لها في القراءة حكم الصلوات الأخر إلا ما خص منها. وأجاب الحنفية عن حديث ابن عباس وما في معناه بأن قراءة الفاتحة

(10/201)


في الصلاة على الميت كانت بنية الدعاء والثناء لا بنية القراءة والتلاوة. قال الطحاوي: من قرأها من الصحابة يحتمل أن يكون على وجه الدعاء لا التلاوة. وفيه أن هذا ادعاء محض لا دليل عليه، واحتمال ناشيء من غير دليل، فلا يلتفت إليه. والحق والصواب أن قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة واجبة، كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم؛ لأنهم أجمعوا على أنها صلاة، وقد ثبت حديث لا صلاة، إلا بفاتحة الكتاب، فهي داخلة تحت العموم، وإخراجها منه يحتاج إلى دليل، ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجبت فيها القراءة كسائر الصلوات، ولأنه ورد الأمر بقراءتها صريحا، فقد روى ابن ماجه بإسناد فيه ضعف يسير عن أم شريك قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، وروى الطبراني في الكبير من حديث أم عفيف قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ على ميتنا بفاتحة الكتاب. قال الهيثمي: وفيه عبدالمنعم أبوسعيد وهو ضعيف-انتهى. والأمر من أدلة الوجوب. وروى الطبراني في

(10/202)


الكبير أيضا من حديث أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صليتم على الجنازة فاقرؤا بفاتحة الكتاب. قال الهيثمي: وفيه معلى بن حمران ولم أجد من ذكره، وبقية رجاله موثقون وفي بعضهم كلام، هذا وقد صنف حسن الشرنبلالي من متأخري الحنفية في هذه المسألة رسالة سماها "النظم المستطاب لحكم القراءة في صلاة الجنازة بأم الكتاب"، وحقق فيها أن القراءة أولى من ترك القراءة، ولا دليل على الكراهة، وهو الذي اختاره الشيخ عبدالحي اللكنوي في تصانيفه كعمدة الرعاية والتعليق الممجد وإمام الكلام، ثم إنه استدل بحديث ابن عباس على الجهر بالقراءة في الصلاة على الجنازة؛ لأنه يدل على أنه جهر بها حتى سمع ذلك من صلى معه. وأصرح من ذلك ما ذكرنا من رواية النسائي بلفظ: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته، فقال: سنة وحق. وفي رواية أخرى له أيضا: صليت خلف ابن عباس على جنازة فسمعته يقرأ فاتحة الكتاب الخ. ويدل على الجهر بالدعاء حديث عوف بن مالك الآتي، فإن الظاهر أنه حفظ الدعاء المذكور لما جهر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على الجنازة. وأصرح منه حديث واثلة في الفصل الثاني. واختلف العلماء في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه يستحب الجهر بالقراءة والدعاء فيها. واستدلوا بالروايات التي ذكرناها آنفا. وذهب الجمهور إلى أنه لا يندب الجهر بل يندب الإسرار. قال ابن قدامة: ويسر القراءة والدعاء في صلاة الجنازة، لا نعلم بين أهل العلم فيه خلافا-انتهى. واستدلوا لذلك بما ذكرنا من حديث أبي أمامة قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة. الحديث أخرجه النسائي، ومن طريقه ابن حزم في المحلى (ج5ص129). قال النووي في شرح المهذب: رواه النسائي بإسناد على شرط الصحيحين، وقال: أبوأمامة هذا صحابي-انتهى. وبما روى الشافعي في الأم

(10/203)


(ج1ص239)، والبيهقي (ج4ص39 من طريقه) عن مطرف بن مازن عن معمر عن الزهري قال: أخبرني أبوأمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه-الحديث. وضعفت هذه الرواية بمطرف، لكن قواها البيهقي بما رواه في المعرفة والسنن من طريق عبيدالله بن أبي زياد الرصافي عن الزهري بمعنى رواية مطرف، وبما روى الحاكم (ج1ص359)، والبيهقي من طريقه (ج4ص42) عن شرحبيل بن سعد قال: حضرت عبدالله بن عباس صلى على جنازة بالأبواء فكبر ثم قرأ بأم القرآن رافعا صوته بها، صلى على النبي- صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: اللهم عبدك وابن عبدك-الحديث. وفي آخره ثم انصرف, فقال: يا أيها الناس إني لم أقرأ علنا (أي جهرا) إلا لتعلموا أنها سنة. قال الحافظ في الفتح: وشرحبيل مختلف في توثيقه-انتهى. وأخرج ابن الجارود في المنتقى من طريق زيد بن طلحة التيمي قال: سمعت ابن عباس قرأ على جنازة فاتحة الكتاب وسورة وجهر بالقراءة، وقال: إنما جهرت
رواه البخاري.
1669-(10) وعن عوف بن مالك، قال: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه، واعف عنه،

(10/204)


لأعلمكم أنها سنة. وذهب بعضهم إلى أنه يخير بين الجهر والإسرار. وقال بعضهم أصحاب الشافعي: إنه يجهر بالليل كالليلية ويسر بالنهار. قال شيخنا في شرح الترمذي قول ابن عباس: إنما جهرت لتعلموا أنها سنة، يدل على أن جهره كان للتعليم أي لا لبيان أن الجهر بالقراءة سنة، قال: وأما قول بعض أصحاب الشافعي: يجهر بالليل كالليلية فلم أقف على رواية تدل على هذا-انتهى. وهذا يدل على أن الشيخ مال إلى قول الجمهور أن الإسرار بالقراءة مندوب، هذا ورواية ابن عباس عند النسائي بلفظ: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، تدل على مشروعية قراءة سورة مع الفاتحة في الجنازة. قال الشوكاني: لا محيص عن المصير إلى ذلك؛ لأنها زيادة خارجة من مخرج صحيح. قلت: ويدل عليه أيضا ما ذكره ابن حزم في المحلى (ج5ص129) معلقا عن محمد بن عمرو بن عطاء أن المسور بن مخرمة صلى على الجنازة، فقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة رفع بهما صوته فلما فرغ قال: لا أجهل أن تكون هذه الصلاة عجماء ولكن أردت أن أعلمكم أن فيها قراءة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي والشافعي وابن حبان والحاكم والبيهقي وابن الجارود.

(10/205)


1669- قوله: (فحفظت من دعائه وهو يقول) وفي رواية لمسلم: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى على جنازة يقول. وفي رواية النسائي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على ميت فسمعت في دعائه وهو يقول. قال الشوكاني: جميع ذلك يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر بالدعاء، وهو خلاف ما صرح به جماعة من استحباب الإسرار بالدعاء وقد قيل إن جهره - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء لقصد تعليمهم، قال: والظاهر أن الجهر والإسرار بالدعاء جائزان-انتهى. وتأول النووي قوله حفظت من دعائه أي علمنيه بعد الصلاة فحفظته-انتهى. ويرد هذا التأويل قوله في رواية أخرى: سمعته صلى على جنازة يقول. قال الشوكاني: ليس في هذا الحديث تعيين الموضع الذي يقال فيه هذا الدعاء وغيره من الأدعية المأثورة فيقوله المصلي على الجنازة بعد أي تكبيرة أراد-انتهى. وإلى مشروعية الدعاء بعد كل تكبيرة ذهب المالكية وعند الحنابلة والشافعية والحنفية الدعاء بعد التكبيرة الثالثة. (اللهم اغفر له) بمحو السيئات. (وارحمه) بقبول الطاعات. وقال ابن حجر: تأكيد أو أعم. (وعافه) أمر من المعافاة، والهاء ضمير. وقيل: للسكت، والمعنى خلصه من المكروهات. وقال الطيبي: أي سلمه من العذاب والبلايا. (واعف عنه) أي عما وقع منه من التقصيرات. وقال ابن حجر: عافه أي سلمه من كل موذ واعف عنه تأكيدا وأخص أي سلمه من خطر
وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه،

(10/206)


الذنوب. (وأكرم نزله) بضمتين وقد يسكن الزاي أي أحسن نصيبه من الجنة، وهو في الأصل قرى الضيف يعني ما يعد ويقدم للضيف من طعام وشراب، والمراد هنا الأجر والثواب والرحمة والمغفرة. (ووسع) بكسر السين المشددة. (مدخله) بفتح الميم أي موضع دخوله الذي يدخل فيه، وهو قبره. قال ميرك: بفتح الميم، كذا في المسموع من أفواه المشائخ، والمضبوط في أصل سماعنا، وضبط الشيخ الجزري في مفتاح الحصن: بضم الميم، وكلاهما صحيح بحسب المعنى-انتهى؛ لأن معناه مكان الدخول أو الإدخال، وإنما اختار الشيخ الضم؛ لأن الجمهور من القراء قرؤا بالضم في قوله تعالى: ?وندخلكم مدخلا كريما? [النساء: 31] وانفرد الإمام نافع بالفتح، والضم أيضا بحسب المعنى أنسب؛ لأن دخوله ليس بنفسه بل بإدخال غيره. (واغسله) بهمزة وصل أي اغسل ذنوبه. (بالماء والثلج والبرد) بفتحتين وهو حب الغمام، أي طهره من الذنوب والمعاصي أنواع الرحمة، كما أن هذه الأشياء أنواع المطهرات من الوسخ والدنس، فالغرض منه تعميم أنواع الرحمة والمغفرة في مقابلة أصناف المعصية والغفلة. (ونقه) بتشديد القاف المكسورة أمر من التقنية بمعنى التطهير، والهاء ضمير للميت أو للسكت. (من الخطايا كما نقيت) وفي رواية لمسلم: ينقى. (الثوب الأبيض من الدنس) بفتحتين، الوسخ تشبيه للمعقول بالمحسوس، وهو تأكيد لما قبله أراد به المبالغة في التطهير من الخطايا والذنوب. (وأبدله) أمر من الإبدال أي عوضه. (دارا) أي من القصور أو من سعة القبور. (خيرا من داره) أي في الدنيا الفانية. (وأهلا خيرا من أهله) يشمل الزوجة والخدم. (وزوجا خيرا من زوجه) هذا من عطف الخاص على العام. وقيل المراد بالأهل الخدم خاصة. قال القاري: (زوجا) أي زوجة من الحور العين، أو من نساء الدنيا في الجنة. (خيرا من زوجة) أي من الحور العين، ونساء الدنيا أيضا، فلا يشكل أن نساء الدنيا يكن في الجنة أفضل من الحور لصلاتهن وصيامهن، كما ورد في

(10/207)


الحديث. وأما قول ابن حجر: "وخيرا" ليست على بابها من كونها أفعل تفضيل، إذ لا خيرية في الدنيا بالنسبة للآخرة، فليس على بابه إذ الكلام في النسبة الحقيقية لا في النسبة الإضافية. قال تعالى: ?والآخرة خير وأبقى? [الأعلى:17] وقال: ?والآخرة خير لمن اتقى? [النساء:77]-انتهى. قال السيوطي: قال طائفة من الفقهاء هذا خاص بالرجل، ولا يقال في الصلاة على المرأة: أبدلها زوجا خيرا من زوجها، لجواز أن تكون لزوجها في الجنة، فإن المرأة لا يمكن الاشتراك فيها والرجل يقبل ذلك، كذا ذكر السندي في حاشية النسائي. وقال الشامي: المراد بالإبدال في الأهل والزوجة إبدال الأوصاف لا الذوات لقوله: ?ألحقنا بهم ذريتهم? [الطور:21]
وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار)). وفي رواية: (( وقه فتنة القبر وعذاب النار، قال: حتى تمنيت أنا أكون ذلك الميت)). رواه مسلم.
1670-(11) وعن أبي سلمة بن عبدالرحمن، (( أن عائشة لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه،

(10/208)


ولخبر الطبراني وغيره: أن نساء الجنة من نساء الدنيا أفضل من الحور العين، وفيمن لا زوجة له على تقديرها له أن لو كانت، ولأنه صح الخبر بأن المرأة لآخر أزواجها أي إذا مات، وهي في عصمته. وفي حديث رواه جمع، لكنه ضعيف: المرأة منا ربما يكون لها زوجان في الدنيا فتموت ويموتان ويدخلان الجنة، لأيهما هي؟ قال: لأحسنهما خلقا كان عندها في الدنيا، وتمامه في تحفة ابن حجر المكي-انتهى. (وأدخله الجنة) أي ابتداء. (وأعذه) أمر من الإعاذة أي أجره وخلصه. (وفي رواية وقه) بهاء الضمير أو السكت أمر من وقى يقي أي أحفظه. (فتنة القبر) أي التحير في جواب الملكين المؤدي إلى عذاب القبر. (قال) أي عوف. (أنا) تأكيد للضمير المتصل. (ذلك الميت) بالنصب على الخبرية أي لدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الميت. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا النسائي، وابن ماجه والبيهقي، وابن أبي شيبة، وأخرجه الترمذي مختصرا، ونقل عن البخاري أنه قال: أصح شيء في هذا الباب هذا الحديث.

(10/209)


1670- قوله: (لما توفي سعد بن أبي وقاص) أي في قصره بالعقبق على عشرة أميال من المدينة سنة (55) على المشهور، وحمل إلى المدينة على أعناق الرجال ليدفن بالبقيع، وذلك في خلافة معاوية وعلى المدينة مروان. (ادخلوا به المسجد) قال الباجي: إنما أمرت بذلك لامتناعها هي وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخروج مع الناس إلى جنازته لكراهية خروجهن إلى الجنائز. (حتى أصلي عليه) فيه دليل على جواز صلاة النساء على الجنائز. قال الباجي: وهذا الذي يقتضيه مذهب مالك. وقال الشافعي: لا يصلي النساء على الجنائز، والدليل على صحة ذلك أن هذه صلاة يصح أن يفعلها الرجال، فصح أن يفعلها النساء كصلاة الجمعة. وهل يجوز أن يفعلها النساء دون الرجال؟ قال ابن القاسم وأشهب: يجوز ذلك وإن اختلفا في صفتهما-انتهى. وقال ابن قدامة: يصلي النساء جماعة إمامتهن في وسطهن. نص عليه أحمد، وبه قال أبوحنيفة. وقال الشافعي: يصلين مفردات لا يسبق بعضهن بعضا وإن صلين جماعة جاز، ولنا أنهن من أهل الجماعة فيصلين جماعة كالرجال، وما ذكروه من كونهن منفردات لا يسبق بعضهن بعضا تحكم لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع، وقد صلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن أبي وقاص-انتهى. قلت: ويدل على صلاة النساء مع الرجال جماعة ما رواه الحاكم: أن أبا طلحة دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمير
فأنكر ذلك عليها، فقالت: والله لقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد: سهيل وأخيه)).

(10/210)


ابن أبي طلحة حين توفي فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى عليه في منزلهم فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبوطلحة وراءه وأم سليم وراء أبي طلحة ولم يكن معهم غيرهم. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، وسنة غريبة في إباحة صلاة النساء على الجنائز، ووافقه الذهبي. (فأنكر ذلك) أي إدخاله في المسجد. (عليها) أي على عائشة. وفي رواية لمسلم: لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه ففعلوا، فوقف به على حجرهن يصلين عليه. ثم أخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد، فبلغ ذلك عائشة فقالت: ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد الخ. (والله لقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء) لقب للأم، واسمها دعد بفتح الدال وسكون العين المهملتين بنت الجحدم الفهرية. (في المسجد) وفي رواية لمسلم: في جوف المسجد. (سهيل) بالتصغير. (وأخيه) سهل. وقيل: صفوان: واعلم أن المعروفين ببني البيضاء ثلاثة إخوة: سهل وسهيل وصفوان. وأمهم البيضاء اسمها دعد، والبيضاء وصف، وأبوهم وهب بن ربيعة القرشي الفهري. كان سهل ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم. قال أبوحاتم: كان ممن أظهر إسلامه بمكة. وقال ابن عبدالبر: أسلم سهل بمكة، وأخفى إسلامه فأخرجته قريش معهم إلى بدر، فأسر يومئذ مع المشركين، فشهد له عبدالله بن مسعود أنه رآه بمكة يصلي فخلى عنه، ومات بالمدينة، وبها مات أخوه سهيل، وصلى عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فيما رواه ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة قالت: والله ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء إلا في المسجد سهل وسهيل. وزعم

(10/211)


الواقدي أن سهل بن بيضاء مات بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما سهيل فكان قديم الإسلام هاجر إلى الحبشة قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فأقام معه حتى هاجر وهاجر سهيل، فجمع الهجرتين جميعا، ثم شهد بدرا والمشاهد كلها، ومات بالمدينة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه من تبوك سنة تسع، ولا عقب له. وأما صفوان فقد شهد بدرا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقتل يومئذ ببدر شهيدا، قتله طعيمة بن عدي فيما قاله ابن إسحاق وموسى بن عقبة وابن سعد وأبوحاتم، وجزم ابن حبان بأنه مات سنة (30)، وقيل: في شهر رمضان سنة (38) وبه جزم الحاكم أبوأحمد تبعا للواقدي. واختلف في المراد بالأخ المذكور في الحديث، فقيل: سهل جزم به ابن عبدالبر، وقيل: صفوان. قال أبونعيم: اسم أخي سهيل صفوان، ووهم من سماه سهلا، ولم يزد مالك في روايته على سهيل. والحديث يدل على جواز إدخال الميت في المسجد والصلاة عليه
رواه مسلم.
1671-(12) وعن سمرة بن جندب، قال: ((صليت وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها)).

(10/212)


فيه، وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق، والجمهور خلافا لمالك في المشهور عنه وأبي حنيفة. وأجاب بعض من كره ذلك عن الحديث بأن الأمر استقر على ترك ذلك؛ لأن الذين أنكروا على عائشة كانوا من الصحابة، ورد بأن عائشة لما أنكرت ذلك الإنكار سلموا لها. فدل على أنها حفظت ما نسوه وأن الأمر استقر على الجواز، ويدل على ذلك الصلاة على أبي بكر وعمر في المسجد، كما تقدم، قاله الشوكاني. وقال السندي في حاشية النسائي: الحديث ظاهر في الجواز في المسجد، نعم كانت عادته - صلى الله عليه وسلم - خارج المسجد، فالأقرب أن يقال: الأولى أن تكون خارج المسجد مع الجواز فيه، والله تعالى أعلم-انتهى. وقد تقدم بسط الكلام فيه شرح حديث قصة النجاشي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد، ومالك، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، والطحاوي.

(10/213)


1671- قوله: (صليت وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة) هي أم كعب الأنصارية، كما في مسلم. (ماتت في نفاسها) بكسر النون أي حين ولادتها. وقال القسطلاني: "في" هنا للتعليل، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن امرأة دخلت النار في هرة، أي ماتت بسبب نفاسها. (فقام) أي وقف للصلاة. (وسطها) أي حذاء وسطها، وهو بسكون السين وفتحها بمعنى فلذا جوز الوجهان، وقد فرق بعضهم بينهما، قاله السندي. وقال الطيبي: الوسط بالسكون يقال فيما كان متفرق الأجزاء كالناس والدواب وغير ذلك، وما كان متصل الأجزاء والرأس فهو بالفتح. وقيل: كل منهما يقع موقع الآخر، وكأنه أشبه. وقال صاحب المغرب: الوسط بالفتح كالمركز للدائرة، وبالسكون داخل الدائرة، وقيل: كل ما يصلح فيه بين فبالفتح وما لا فبالسكون-انتهى. وقال القسطلاني: من سكن السين جعله ظرفا، ومن فتح جعله اسما، والمراد على الوجهين عجيزتها، وكون هذه المرأة في نفاسها وصف غير معتبر، وإنما هو حكاية أمر واقع، وأما كونها امرأة فالظاهر أنه معتبر، كما يدل عليه حديث أنس الآتي في آخر الفصل الثاني، والحديث فيه دليل على أن السنة أن يقوم الإمام، وكذا المنفرد في صلاة الجنازة حذاء وسط المرأة، أي عند عجيزتها. قال الأمير اليماني: وهذا مندوب، وأما الواجب فإنما هو استقبال جزء من الميت رجلا أو امرأة. واختلف العلماء في حكم الاستقبال في حق الرجل والمرأة، فقال أبوحنيفة في المشهور عنه: إنهما سواء، فيقوم الإمام بحذاء صدرها. وقال مالك: يقوم حذاء الرأس منهما، ونقل عنه أن يقوم من الرجل عند وسطه
متفق عليه.
1672-(13) وعن ابن عباس (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبر دفن ليلا،

(10/214)


ومن المرأة عند منكبيها. وقال أحمد كما في المغني والخطابي: يقوم من المرأة حذاء وسطها ومن الرجل حذاء صدره. وحكى الترمذي عن أحمد: أنه ذهب إلى أنه يقوم من المرأة عند وسطها ومن الرجل عند رأسه، كما هو مقتضى حديث أنس آخر حديث الفصل الثاني، وهو مذهب الشافعي وإسحاق وأبي يوسف، وهو الحق لما يدل عليه حديث سمرة وحديث أنس الآتي، وهو رواية عن أبي حنيفة. قال في الهداية: وعن أبي حنيفة أنه يقوم من الرجل بحذاء رأسه ومن المرأة بحذاء وسطها؛ لأن أنسا فعل ذلك وقال: هو السنة-انتهى. ورجح الطحاوي قول أبي حنيفة هذا على قوله المشهور حيث قال في شرح الآثار: قال أبوجعفر: القول الأول أحب إلينا لما قد شده الآثار التي روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم --انتهى. وقال بعضهم: يقوم حذاء رأس الرجل وثدي المرأة، واستدل بفعل علي، وقال بعضهم: يستقبل صدر المرأة وبينه وبين السرة من الرجل. قال الشوكاني بعد ذكر هذه الأقوال: وقد عرفت أن الأدلة دلت على ما ذهب إليه الشافعي، وأن ما عداه لا مستند له من المرفوع إلا مجرد الخطأ في الاستدلال، أو التعويل على محض الرأي، أو ترجيح ما فعله الصحابي على ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. نعم لا ينتهض مجرد الفعل دليلا للوجوب، ولكن النزاع فيما هو الأولى والأحسن، ولا أحسن من الكيفية التي فعلها المصطفى - صلى الله عليه وسلم --انتهى كلام الشوكاني. قلت: وأجاب الحنفية عن حديث أنس وسمرة: بأنه لا ينافي كون الصدر وسطا، بل الصدر وسط البدن باعتبار توسط الأعضاء، إذ فوقه يداه ورأسه وتحته بطنه وفخذاه، أو يأول فيقال: يحتمل أنه وقف بحذاء صدر كل واحد منهما إلا أنه مال في أحد الموضعين إلى الرأس وفي الآخر إلى العجز أي العورة، فظن الراوي أنه فرق بين الأمرين لتقارب المحلين، كذا قال ابن الهمام في شرح الهداية، والكاساني في البدائع: ولا أدري أي شيء ألجأهم إلى هذا

(10/215)


التأويل، وتكلف الجواب والتمحل، مع أنه لم يرد حديث مرفوع صحيح أو ضعيف يوافق مذهبهم بأن يدل على عدم الفرق بين الرجل والمرأة والقيام بحذاء صدرهما، بل ورد ما يخالفهم، ولذلك قال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر كلام ابن الهمام: هذا مما لا يلتفت إليه بعد ما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم حذاء رأس الرجل وحذاء عجيزة-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي.
1672- قوله: (مر بقبر دفن) بضم الدال وكسر الفاء. (ليلا) نصب على الظرفية أي دفن صاحبه فيه ليلا، فهو من قبيل ذكر المحل وإرادة الحال. قيل: اسم صاحب القبر طلحة بن البراء بن عمير البلوى، حليف الأنصار،
فقال: متى دفن هذا؟ قالوا: البارحة، قال: أفلا آذنتموني؟ قالوا: دفناه في ظلمة الليل فكرهنا أن نوقظك، فقام فصففنا خلفه، فصلى عليه)).

(10/216)


روى قصته أبوداود والبيهقي مختصرا من حديث حصين بن وحوح، وقد تقدم. (متى دفن) بصيغة المجهول. (هذا) الميت. (البارحة) أي دفن الليلة الماضية. (أفلا آذنتموني) بمد الهمزة أي أدفنتموه فلا أعلمتموني بموته حين مات. (فكرهنا أن نوقظك) أي ننبهك من النوم. (فصففنا) بفائين. (فصلى عليه) أي على قبره صبيحة دفنه، وفيه جواز الدفن بالليل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك ولم ينكره، بل أنكر عليهم عدم إعلامهم بأمره. ويدل عليه أيضا حديث ابن عباس عند الترمذي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج فأخذه من قبل القبلة-الحديث. وحديث جابر عند أبي داود والحاكم قال: رأى ناس نارا في المقبرة فأتوها، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر، وإذا هو يقول: ناولوني صاحبكم-الحديث. وحديث أبي ذر عند ابن أبي شيبة قال: كان رجل يطوف بالبيت يقول: أوه أوه، قال أبوذر: فخرجت ذات ليلة فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المقابر يدفن ذلك الرجل ومعه مصباح، ذكره العيني. وحديث أبي أمامة بن سهل عند مالك والبيهقي وابن عبدالبر في دفن المسكينة ليلا. وحديث أبي سعيد عند ابن ماجه وغير ذلك من الأحاديث: وقد دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلا، كما رواه أحمد عن عائشة. ودفن أبوبكر وعمر ليلا، ودفن علي فاطمة ليلا، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد في الأصح المشهور عنه، وأبوحنيفة وإسحاق والجمهور، وكرهه قتادة والحسن البصري وسعيد بن المسيب وأحمد في رواية. وقال ابن حزم: لا يجوز أن يدفن أحد ليلا إلا عن ضرورة، وكل من دفن ليلا منه - صلى الله عليه وسلم - ومن أزواجه وأصحابه فإنما ذلك لضرورة أوجبت ذلك من خوف زحام أو خوف الحر على من حضر، وحر المدينة شديدا، وخوف تغير أو غير ذلك مما يبيح الدفن ليلا، لا يحل لأحد أن يظن بهم خلاف ذلك. واستدل هؤلاء بحديث جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود: إن النبي - صلى

(10/217)


الله عليه وسلم - خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل وقبر ليلا فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل ليلا حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه، وأجاب الجمهور عنه بأن النهي ليس لأجل كراهة الدفن ليلا، بل لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءة الكفن وإساءته، كما يدل عليه أول الحديث وآخره. وقال الطحاوي: أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن الدفن ليلا أن يصلي على جميع المسلمين؛ لما يكون لهم في ذلك من الفضل، يعني فيحتسب تأخير دفنه إلى الصباح إن رجي بتأخيره صلاة من ترجي بركته. وقيل: يحتمل أن يكون نهى عن ذلك أولا ثم رخص. وقيل: المنهي عنه الدفن قبل الصلاة، وتعقب بأن الدفن قبل الصلاة منهي عنه مطلقا سواء كان بالليل أو بالنهار. والظاهر أن النهي

(10/218)


عن الدفن بالليل ولو بعد الصلاة، ففي رواية ابن ماجه من حديث جابر مرفوعا: لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا. وفي الحديث أيضا دليل على صحة الصلاة على القبر بعد دفن الميت سواء صلى عليه قبل الدفن أم لا. وبه قال أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، روي ذلك عن أبي موسى وابن عمر وعائشة وعلى وابن مسعود وأنس وسعيد بن المسيب وقتادة، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وابن وهب وداود وسائر أصحاب الحديث، ويدل لهم أيضا أحاديث من بين صحاح وحسان وردت في الباب عن جماعة من الصحابة، أشار إليها الحافظ في التلخيص (ص162)، وساق أكثرها بأسانيدها ابن عبدالبر في التمهيد. وقال النخعي والثوري ومالك وأبوحنيفة:لا تعاد الصلاة على الميت إلا للولي إذا كان غائبا، ولا يصلى على القبر إلا كذلك، وعنهم إن دفن قبل أن يصلى عليه شرع الصلاة عليه وإلا فلا، وأحاديث الباب ترد عليهم مطلقا، وقد اعتذر عنها مالك بأنه ليس عمل أهل المدينة عليها، ولا يخفى ما فيه، وأجاب غيره بأن ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، واحتجوا لهذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة عند مسلم: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وأن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم. قالوا: صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت لتنوير القبر، وذا لا يوجد في صلاة غيره، فلا يكون الصلاة على القبر مشروعا. وأجاب ابن حبان عن ذلك بأن في ترك إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه. وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينتهض دليلا للأصالة. ومن جملة ما أجاب به الجمهور عن قوله: إن هذه القبور مملوءة ظلمة الخ أنه مدرج، كما سيأتي. قلت: واستدل بعضهم للخصوصية بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يزيد بن ثابت عند أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي: إن صلاتي له رحمة. قال السندي: قد

(10/219)


أخذ منه الخصوص من ادعى ذلك، وهذه دلالة غير قوية. وقال الشوكاني: إن الاختصاص لا يثبت إلا بدليل، ومجرد كون الله ينور القبور بصلاته - صلى الله عليه وسلم - على أهلها لا ينفي مشروعية الصلاة على القبر لغيره، لا سيما بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا كما رأيتموني أصلي. وقال ابن حزم: ليس في الكلام المذكور دليل على أنه خصوص له، وإنما في هذا الكلام بركة صلاته - صلى الله عليه وسلم - وفضيلتها على صلاة غيره فقط، وليس فيه نهي غيره عن الصلاة على القبر أصلا، بل قد قال الله تعالى: ?لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة? [الأحزاب: 21] انتهى. قال الشوكاني: وهذا باعتبار من كان قد صلى عليه قبل الدفن، وأما من لم يصل عليه ففرض الصلاة عليه الثابت بالأدلة وإجماع الأمة باق، وجعل الدفن مسقطا لهذا الفرض محتاج إلى دليل-انتهى. هذا واختلف في المدة التي تشرع فيها الصلاة على القبر، فقال أحمد وإسحاق وأصحاب الشافعي: إلى شهر. قال أحمد: أكثر ما سمعنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر. وقيل: يصلي عليه ما لم يبل
متفق عليه
1673-(14) وعن أبي هريرة: ((أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، أو شاب، ففقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها، أو عنه، فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني ؟ قال: فكأنهم صغروا أمرها، أو أمره،

(10/220)


جسده. وقال أبوحنيفة: يصلي عليه الولي إلى ثلاث ولا يصلي عليه غيره بحال. وقيل: يصلي عليه أبدا، واختاره ابن عقيل من الحنابلة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين، ولأن المراد من الصلاة عليه الدعاء، وهو جائز في كل وقت. قال الأمير اليماني: وهو الحق إذ لا دليل على التحديد بمدة-انتهى. ومال شيخنا إلى ترجيح قول أحمد، ومن وافقه، فقال: الظاهر الاقتصار على المدة التي تثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما القياس على مطلق الدعاء وتجويزه في كل وقت ففيه نظر، كما لا يخفى-انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري بألفاظ هذا أحدها، أورده في باب صفوف الصبيان مع الرجال على الجنائز، وأخرجه أيضا ابن ماجه، وأخرجه مسلم، والترمذي، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي مختصرا.

(10/221)


1673- قوله: (أن امرأة سوداء) سماها البيهقي في روايته من حديث ابن بريدة عن أبيه: أم محجن. (كانت تقم المسجد) بضم القاف وتشديد الميم أي تكنسه وتطهره من القمامة أي الكناسة. وفي بعض الطرق: كانت تلقط الخرق والعيدان من المسجد. (أو شاب) أي كان يقم ورفعه على أنه عطف على محل اسم أن. وفي صحيح مسلم: أو شابا أي بالنصب منونا عطفا على امرأة، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7ص154). وقد رواه ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة. فقال: امرأة سوداء من غير شك، وبه جزم أبوالشيخ في كتاب الصلاة، له بسند مرسل. قال القسطلاني: فالشك هنا من ثابت على الراجح، وسماها في رواية البيهقي: أم محجن. (ففقدها) أو ففقده أي لم يرها حاضرة في المسجد. (فسأل) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس. (عنها أو عنه) على الشك. (فقالوا) أي بعضهم، وفي حديث بريدة المتقدم: أن الذي باشر جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم هو أبوبكر الصديق رضي الله عنه. (مات) أو ماتت. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (أفلا كنتم آذنتموني) أي أخبرتموني بموته أو بموتها لأصلي عليه أو عليها. (قال) أي أبوهريرة حكاية عما وقع منهم في جواب قوله: أفلا الخ. (فكأنهم) أي المخاطبين (صغروا) أي حقروا. (أمرها أو أمره) أي وعظموا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتكليفه للصلاة عليه، ولابن خزيمة: قالوا مات من الليل فكرهنا أن نوقظك، وكذا في
فقال: دلوني على قبره، فدلوه فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم)). متفق عليه. ولفظه مسلم.
1674-(15) وعن كريب مولى ابن عباس، عن عبدالله بن عباس: ((أنه مات له ابن بقديد أو بعسفان، فقال: يا كريب! انظر ما اجتمع له من الناس،

(10/222)


حديث بريدة، ووقع في رواية للبخاري: فحقروا شأنه. قال القسطلاني: لا ينافي ما سبق من التعليل بأنهم كرهوا أن يوقظوه عليه الصلاة والسلام في الظلمة خوف المشقة، إذ لا تنافي بين التعليلين. (فقال) النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دلوني) بضم الدال أمر من الدلالة. (على قبره) أو قبرها. (فدلوه) بفتح الدال وضم اللام المشددة. (فصلى عليها) أو عليه، يعني على قبرها. فيه رد على الحنفية والمالكية حيث منعوا الصلاة على القبر. (إن هذه القبور) قال ابن الملك المشار إليها القبور التي يمكن أن يصلي عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ظلمة) بالنصب على التمييز. (على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) قال الطيبي: وهو كأسلوب الحكيم، أي ليس النظر في الصلاة على الميت إلى حقارته ورفعة شأنه، بل هي بمنزلة الشفاعة، يعني فلا تختص بميت دون ميت. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أبوداود وابن ماجه والبيهقي كلهم من رواية حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة. (ولفظه لمسلم) أخرجه من طريق أبي كامل الجحدري عن حماد بن زيد. اعلم أن جملة "إن هذه القبور" إلى آخر الحديث من أفراد مسلم وليس للبخاري. قال الحافظ: إنما لم يخرج البخاري هذه الزيادة؛ لأنها مدرجة في هذا الإسناد، وهي من مراسيل ثابت، بين ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن زيد، وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتاب بيان المدرج. قال البيهقي: الذي يغلب على القلب أن تكون هذه الزيادة في غير رواية أبي رافع عن أبي هريرة، فإما أن تكون عن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلة، كما رواه أحمد بن عبدة ومن تابعه، أو عن ثابت عن أنس، كما رواه خالد بن خداش، وقد رواه غير حماد عن ثابت عن أبي رافع فلم يذكرها-انتهى. قال الحافظ: ووقع في مسند أبي داود الطيالسي عن حماد بن زيد وأبي عامر الخزاز كلاهما عن ثابت بهذه الزيادة، وفي الحديث فضل تنظيف المسجد، والسؤال عن الخادم والصديق إذا غاب،

(10/223)


وفيه المكافأة بالدعاء والترغيب في شهود جنائز أهل الخير وندب الصلاة على الميت الحضر عند قبره لمن يصل عليه والإعلام بالموت.
1674- قوله: (وعن كريب) بالتصغير) بالتصغير. (أنه مات له) أي لعبدالله. (بقديد) بالتصغير موضع قريب بعسفان. (أو بعسفان) بضم العين شك من الراوي. (ما اجتمع له) ما موصولة بينها. (من الناس) ويمكن أن يكون
قال: فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له، فأخبرته، فقال: تقول هم أربعون؟ قال: نعم، قال: أخرجوه، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه)). رواه مسلم
1675-(16) وعن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه)).
ما بمعنى من. (فأخبرته) أي بهم أو باجتماعهم. (فقال) أي ابن عباس. (تقول) بالخطاب أي تظن. وفي رواية أحمد قال: يقول أي قال كريب يقول لي ابن عباس. (هم أربعون قال) أي كريب. (نعم) وظاهر الكلام أن يقول "قلت" ففيه تجريد، وذكره الجزري في جامع الأصول (ج7ص161) بلفظ: قال: قلت: نعم. وفي رواية ابن ماجه فقال: ويحك كم تراهم أربعين؟ قلت: لا بل هم أكثر. (قال) أي ابن عباس. (أخرجوه) أي الميت. (فيقوم) أي للصلاة. (على جنازته أربعون رجلا) أي فيصلون عليه ويدعون له. (لا يشركون بالله شيئا) وفي رواية ابن ماجه: ما من أربعين مؤمن يشفعون لمؤمن (إلا شفعهم الله) بتشديد الفاء أي قبل شفاعتهم. (فيه) أي في حق ذلك الميت. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص277) وابن ماجه، وأخرج أبوداود والبيهقي من طريقه المسند منه فقط.

(10/224)


1675- قوله: (ما من ميت) أي مسلم. (تصلي عليه أمة) أي جماعة. (من المسلمين) وفي رواية الترمذي والنسائي: لا يموت أحد من المسلمين فيصلي عليه أمة من المسلمين. (يبلغون) أي في العدد. (مائة كلهم يشفعون له) بسكون الشين وفتح الفاء أي يدعون له. (إلا شفعوا) بتشديد الفاء على بناء المفعول، أي قبلت شفاعتهم. (فيه) أي في حقه، وفي الحديث استحباب تكثير جماعة الجنازة، ويطلب بلوغهم إلى هذا العدد الذي يكون من موجبات الفوز. وقد قيد ذلك بأمرين: الأول: أن يكونوا شافعين فيه، أي مخلصين له الدعاء سائلين له المغفرة. الثاني: أن يكونوا مسلمين ليس فيهم من يشرك بالله شيئا، كما في حديث ابن عباس المتقدم، ويأتي حديث مالك بن هبيرة بلفظ: من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب. ولا اختلاف في هذه الأحاديث الثلاثة. قال القاضي: قيل: هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين، سألوا عن ذلك، فأجاب كل واحد عن سؤاله. قال النووي: ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به، ثم بقبول شفاعة أربعين، ثم ثلاثة صفوف وإن قل عددهم فأخبر به، قال: ويحتمل أيضا أن يقال هذا مفهوم عدد، ولا يحتج به جماهير الأصوليين، فلا يلزم من
رواه مسلم
1676-(17) وعن أنس، قال: ((مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وجبت ، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا،

(10/225)


الإخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول ما دون ذلك. وكذا في الأربعين مع ثلاثة صفوف، وحينئذ كل الأحاديث معمول بها، وتحصل الشفاعة بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين-انتهى كلام النووي. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: لا تضاد بين حديث عائشة وحديث ابن عباس؛ لأن السبيل في أمثال هذا الحديث إن الأقل من العددين متأخر؛ لأن الله تعالى إذا وعد المغفرة لمعنى واحد لم يكن من سنته أن ينقص من الفضل الموعود بعد ذلك، بل يزيد عليه فضلا وتكرما على عباده. فجعلنا حديث ابن عباس في أربعين متأخرا عن حديث عائشة في المائة للمعنى الذي ذكرنا-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي والبيهقي، وروى ابن ماجه بمعناه عن أبي هريرة، ومسلم عن أنس، والطبراني في الكبير عن ابن عمر، وفيه مبشر بن أبي المليح، قال الهيثمي: لم أجد من ذكره.

(10/226)


1676- قوله: (مروا) أي الصحابة، وفي رواية مر بضم الميم على البناء للمفعول. (فأثنوا عليها) أي ذكروها بأوصاف حميدة. فقوله: خيرا تأكيد أو دفع لما يتوهم من على (خيرا) صفة لمصدر محذوف فأقيمت مقامه فنصبت أي ثناء حسنا، أو هو منصوب بنزع الخافض أي أثنوا عليها بخير. وفي رواية الحاكم: فقالوا كان يحب الله ورسوله ويعمل بطاعة الله ويسعى فيها. وقال التي أثنوا عليها شرا فقالوا: كان يبغض الله ورسوله ويعمل بمعصية الله ويسعى فيها، ففيه تفسير ما أبهم من الخير والشر في رواية الشيخين. (وجبت) أي ثبتت له الجنة. (ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا) قال الطيبي: استعمال الثناء في الشر مشاكلة أو تهكم-انتهى. قال القاري: ويمكن أن يكون أثنوا في الموضعين بمعنى وصفوا، فيحتاج حينئذ إلى القيد، ففي القاموس الثناء وصف بمدح أو ضم أو خاص بالمدح-انتهى. وإنما مكنوا من الثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري في النهي عن سب الأموات؛ لأن النهي عن سبهم إنما هو في حق غير المنافقين والكفار وغير المتظاهر بالفسق أو البدعة، فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بالشر للتحذير من طريقتهم ومن الإقتداء بآثارهم والتخلق بأخلاقهم، وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شرا كان مشهورا بنفاق أو نحوه، قاله النووي. قال الحافظ: يرشد إلى ذلك ما رواه أحمد من حديث أبي قتادة بإسناد صحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على الذي أثنوا عليه شرا وصلى على الآخر-انتهى. وقيل النهي عن سب الأموات محمول على ما بعد الدفن، والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه من فساق الأحياء، وقيل: يحتمل أن
فقال: وجبت، فقال عمر: ما وجبت؟ فقال: هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض).

(10/227)


يكون حديث أنس وما في معناه قبل ورود النهي العام. وقيل: إن هذا كان على معنى الشهادة، والمنهي عنه هو على معنى السب، وما كان على جهة الشهادة وقصد التحذير لا يسمى سبا في اللغة. (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبت) أي حقت له النار. (فقال عمر ما وجبت) أي ما المراد بقولك وجبت في الموضعين، أراد التصريح بما يعلم من قيام القرينة. (هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا) أي الآخر. (أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار) قال الحافظ: المراد بالوجوب الثبوت، إذ هو في صحة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء بل الثواب فضله والعقاب عدله، لا يسئل عما يفعل. وفي رواية مسلم: من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، وهو أبين في العموم من رواية البخاري، وفيه رد على من زعم أن ذلك خاص بالميتين المذكورين لغيب اطلع الله نبيه عليه، وإنما هو خبر عن حكم أعلمه الله به. (أنتم شهداء الله في الأرض) قيل: الخطاب مخصوص بالصحابة؛ لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم. وقيل: بل المراد هم ومن كانوا على صفتهم من الإيمان. وقيل: الصواب أن ذلك يختص بالثقات والمتقين. ونقل الطيبي عن بعض شراح المصابيح: أنه قال ليس معنى قوله "أنتم شهداء الله" أن ما يقول الصحابة والمؤمنون في حق شخص يكون كذلك؛ لأن من يستحق الجنة لا يصير من أهل النار بقولهم "ولا من يستحق النار" يصير من أهل الجنة بقولهم، بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيرا رأوا منه الصلاح والخيرات في حياته، والخيرات والصلاح علامة كون الرجل من أهل الجنة، والذي أثنوا عليه شرا رأوا منه الشر والفساد، والشر والفساد من علامة النار، فترجى الجنة لمن شهد له بالخير، ويخاف النار لمن شهد له بالشر وتعقبه. الطيبي بأن قوله "وجبت" بعد ثناء الصحابة حكم عقب وصفا مناسبا، وهو يشعر بالعلية، وكذا الوصف بقوله "أنتم شهداء الله في الأرض"؛ لأن الإضافة للتشريف، وأنهم بمكان ومنزلة

(10/228)


عالية عند الله، وهو أيضا كالتزكية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته وإظهار عدالتهم بعد أداء شهادتهم لصاحب الجنازة، فينبغي أن يكون لها أثر ونفع في حقه، وأن الله تعالى يقبل شهادتهم ويصدق ظنونهم في حق المثنى عليه، كرامة لهم وتفضيلا عليهم كالدعاء والشفاعة، فيوجب لهم الجنة والنار على سبيل الوعد والوعيد؛ لأن وعده حق لا بد من وقوعه، فهو كالواجب إذ لا أثر للعمل ولا الشهادة في الوجوب. وإلى معنى الحديث يرمز قوله تعالى: ?وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا? [البقرة: 143] أي جعلناكم عدولا خيار الشهود لتشهدوا على غيركم، ويكون الرسول رقيبا عليكم ومزكيا لكم ويبين عدالتكم. وقال النووي: قيل:
متفق عليه. وفي رواية: ((المؤمنون شهداء الله في الأرض)).
1677-(18) وعن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، قلنا: وثلاثة؟ قلنا: واثنان؟ قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد) رواه البخاري.

(10/229)


هذا مخصوص بمن أثنى عليه أهل الفضل وكان ثناءه لهم مطابقا لأفعاله فهو من أهل الجنة فإن كان غير مطابق فلا وكذا عكسه قال: والصحيح أنه على عمومه وإطلاقه، وإن كل مسلم مات فألهم الله الناس أو معظمهم الثناء عليه كان ذلك دليلا على أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا إذ العقوبة غير واجبة بل هو في خطر المشيئة، فإذا ألهم الله الناس الثناء عليه استدللنا بذلك على أنه تعالى قد شاء المغفرة له، وبهذا تظهر فائدة الثناء، وإلا فإذا كانت أفعاله مقتضية للجنة لم يكن للثناء فائدة. وقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - له فائدة-انتهى. قال الحافظ: وهذا في جانب الخير واضح، ويؤيده ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعا: ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيرا قال الله تعالى: قد قبلت قولكم وغفرت له مالا تعلمون. وأما جانب الشر فظاهر الأحاديث أنه كذلك، لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره، وقد وقع في رواية النضر بن أنس عن أبيه عند الحاكم في آخر الحديث: إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في الجنائز، وأخرجه أيضا أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي. وأخرجه أحمد، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة بنحوه. (وفي رواية) أي للبخاري في الشهادات: (المؤمنون) اللام للجنس. (شهداء الله في الأرض) الإضافة تشريفية، ومشعرة بأنهم عند الله بمنزلة في قبول شهادتهم.

(10/230)


1677- قوله: (أيما مسلم شهد له أربعة) من المسلمين وظاهره العموم، كما اختاره النووي. (بخير) أي أثنوا عليه بحميل. (أدخله الله الجنة) بفضله، تصديقا لظن المؤمنين في حقه. (قلنا) أي عمر وغيره: (وثلاثة) أي وما حكم ثلاثة. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وثلاثة) أي وكذلك ثلاثة، وقيل: هو وما قبله عطف تلقين. (ثم لم نسأله عن الواحد) قيل: الحكمة في الاقتصار على الاثنين؛ لأنهما نصاب الشهادة غالبا. وقال الزين بن المنير: إنما لم يسأل عمر عن الواحد استبعادا منه أن يكتفي في مثل هذا المقام العظيم بأقل من النصاب. (رواه البخاري) في الجنائز والشهادات من طريق عبدالله بن بريدة عن أبي الأسود الديلي التابعي الكبير المشهور
1678-(19) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)) رواه البخاري.
1679-(20) وعن جابر، (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد،
عن عمر. قال الحافظ: لم أره من رواية عبدالله بن بريدة عن أبي الأسود إلا معنعنا، وقد حكى الدارقطني في كتاب التتبع عن علي بن المديني أن ابن بريدة إنما يروي عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود، ولم يقل في هذا الحديث: سمعت أبا الأسود. قال الحافظ: وابن بريدة ولد في عهد عمر، فقد أدرك أبا الأسود بلا ريب، لكن البخاري لا يكتفي بالمعاصرة، فلعله أخرجه شاهدا، واكتفى للأصل بحديث أنس الذي قبله والله أعلم-انتهى. والحديث أخرجه أيضا أحمد، والترمذي، والنسائي، والبيهقي.

(10/231)


1678- قوله: (لا تسبوا الأموات) ظاهره النهي عن سب الأموات على العموم، وقد خصص هذا العموم بما تقدم في حديث أنس أنه قال - صلى الله عليه وسلم - عند ثنائهم بالخير والشر: وجبت، أنتم شهداء الله في الأرض، ولم ينكر عليهم ولم ينههم عن الثناء بالشر، بل أقرهم على ذلك. وقيل: إن اللام في الأموات عهدية، والمراد بهم المسلمون. وقد ذكرنا توجيهات أخرى في شرح حديث أنس. قال الشوكاني: والوجه تبقية الحديث على عمومه إلا ما خصه دليل كالثناء على الميت بالشر. (على جهة الشهادة) وجرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتا لإجماع العلماء على جواز ذلك، وذكر مساوي الكفار والفساق للتحذير منهم والتنفير عنهم. (فإنهم قد أفضوا) بفتح الهمزة والضاد أي وصلوا. (إلى ما قدموا) من التقديم أي لأنفسهم من الأعمال، والمراد جزاءها أي فلا ينفع سبهم فيهم، كما ينفع سب الحي في النهي والزجر حتى لا يقع في الهلاك، نعم قد يتضمن سبهم مصلحة الحي، كما إذا كان لتحذيره عن طريقهم مثلا فيجوز كما تقدم. (رواه البخاري) في الجنائز، وفي الرقاق، وأخرجه أيضا أحمد، والنسائي، والبيهقي.
1679- قوله: (كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد) جمل قتيل أي شهداء غزوة أحد. (في ثوب واحد) أي من الكفن للضرورة، ولا يلزم منه تلاقي بشرتهما إذ يمكن حيلولتهما بنحو إذخر، ويحتمل أن الثوب كان طويلا فقطعه بينهما نصفين وكفن كل واحد على حياله، ويؤيد الأول بل يعينه قول جابر في تمام الحديث عند البخاري: فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة. وقال المظهر في شرح المصابيح قوله : في ثوب واحد، أي في قبر واحد، إذ يجوز تجريدهما في ثوب واحد بحيث تتلاقى بشرتاهما. قال السندي: نقله عنه غير واحد وأقروه عليه،
ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم،

(10/232)


لكن النظر في الحديث يرده، بقي أنه ما معنى ذلك، والشهيد يدفن بثيابه التي كانت عليه، فكان هذا فيمن قطع ثوبه ولم يبق على بدنه أو بقي منه قليل لكثرة الجروح، وعلى تقدير بقاء شيء من الثوب السابق فلا إشكال، لكونه فاصلا عن ملاقاة البشرة، وأيضا قد اعتذر بعضهم عنه بالضرورة. وقال بعضهم: جمعهما في ثوب واحد هو أن يقطع الثوب الواحد بينهما-انتهى. (أيهم أكثر أخذا للقرآن) بالنصب على التمييز في أخذا. وفي رواية الترمذي: حفظا للقرآن. ( فإذا أشير له) أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - (إلى أحدهما قدمه) أي ذلك الأحد. (في اللحد) بفتح اللام وسكون الحاء، أي الشق في عرض القبر جانب القبلة، سمى لحدا لأنه شق يعمل في ناحية القبر، مائلا عن وسطه، قدر ما يوضع الميت في جهة القبلة، والإلحاد لغة الميل، وفيه دليل على جواز تكفين الرجل في ثوب واحد لأجل الضرورة، وفيه جمع الرجلين فصاعدا في لحد لأجل الضرورة، ففي رواية عبدالرزاق: كان يدفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد. وروى أصحاب السنن عن هشام بن عامر الأنصاري قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد، فقال: احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في قبر. صححه الترمذي، ومثله المرأتان والثلاث. وفيه أنه يقدم الأكثر أخذا للقرآن على غيره لفضيلة القرآن، كنظيره في الإمامة في الحياة، ويقاس عليه سائر جهات الفضل إذا جمعوا في اللحد. (وقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنا شهيد على هؤلاء) كلمة على في مثله تحمل على معنى اللام، أي أنا شفيع لهؤلاء وأشهد لهم بأنهم بذلوا أرواحهم وتركوا حياتهم لله تعالى، وفيه تشريف لهم وتعظيم وإلا فالأمر معلوم عنده تعالى. (ولم يصل عليهم) قال الحافظ في الفتح: هو مضبوط في روايتنا بفتح اللام، وهو اللائق بقوله بعد ذلك "ولم يغسلوا" وسيأتي من وجه آخر بلفظ: ولم يصل عليهم ولم يغسلهم، وهذه بكسر اللام،

(10/233)


والمعنى ولم يفعل ذلك بنفسه ولا بأمره- انتهى. وفيه دليل على أنه لا يصلى على الشهيد المقتول في معركة الكفار، ويدل عليه أيضا ما روى أحمد والترمذي وحسنه، وأبوداود والدارقطني والحاكم عن أنس: إن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم-انتهى. وفي ذلك خلاف بين العلماء معروف، فقال مالك والشافعي وإسحاق وأحمد في المشهور عنه: بمنع الصلاة عليه عملا بحديثي جابر وأنس. وقال الثوري وأبوحنيفة: يجب الصلاة عليه كسائر الأموات عملا بعموم أدلة الصلاة على الميت، وبأحاديث رويت في الصلاة على قتلى أحد حمزة وغيره من الشهداء، وقد سردها الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في التلخيص، وبعضها حسن، وبما روى البخاري وغيره عن عقبة بن عامر: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على قتلى أحد، وبما روى أبوداود،

(10/234)


وسكت عنه هو والمنذري عن أبي سلام عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: طلب رجل من المسلمين رجلا من جهينة فضربه فأخطأه وأصاب نفسه بالسيف، فابتدره أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدوه قد مات، فلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثيابه ودمائه وصلى عليه -انتهى مختصرا. وبما روى النسائي والطحاوي والحاكم والبيهقي عن شداد بن الهاد الليثي الصحابي: أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه... الحديث، وفيه أنه استشهد فصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذهب أحمد في رواية إلى أن الصلاة عليه مستحبة، قال ابن قدامة: صرح بذلك أي بالاستحباب في رواية المروذي فقال: الصلاة عليه أجود وإن لم يصلوا عليه أجزأ- انتهى. وقال ابن حزم: إن صلى على الشهيد فحسن وإن لم يصل عليه فحسن، واستدل بحديثي جابر وعقبة، وقال: ليس يجوز أن يترك أحد الأثرين المذكورين للآخر، بل كلاهما حق مباح، وليس هذا مكان نسخ؛ لأن استعمالهما معا ممكن في أحوال مختلفة، وأجاب الحنفية عن حديثي جابر وأنس: بأن النفي محمول على نفي الصلاة منفردا، ولكنه كان يصلي على تسعة تسعة أو عشرة عشرة، وحمزة معهم، كما تدل عليه الروايات، أو المعنى أنه لم يصل على أحد كصلاته على حمزة حيث صلى عليه مرارا لمزيد الرحمة والرأفة والبركة، وصلى على غيره مرة، ثم أعاد الصلاة عليهم بأن صلى عليهم بعد ثمان سنين صلاته على الميت وكان توديعا لهم. وقال بعضهم: إنه لم يصل عليهم يوم أحد أي حال الوقعة، وعليه يحمل رواية جابر وأنس: ثم صلى عليهم قبيل وفاته، استدراكا لما فاته كما يشهد له حديث عقبة بن عامر عند البخاري وغيره: أنه صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات، قالوا: ترك الصلاة عليهم يوم أحد لاشتغاله عنهم قلة فراغه لذلك، وكان يوما صعبا على المسلمين، فعذروا بترك الصلاة عليهم يومئذ، قالوا: وتجوز

(10/235)


الصلاة على القبر ما لم يتفسخ الميت، والشهداء لا يتفسخون ولا يحصل لهم تغير، فالصلاة عليهم لا تمتنع أي وقت كان. وأجابوا أيضا بأن أحاديث الصلاة مثبتة والإثبات مقدم على النفي. وأجاب الشافعية عن حديث عقبة بن عامر بأن المراد بالصلاة فيه الدعاء والاستغفار كقوله: ?وصل عليهم? لا الصلاة على الميت المعهودة. قال النووي: المراد بالصلاة هنا الدعاء، وأما كونه مثل الذي على الميت، فمعناه أنه دعا لهم بمثل الدعاء الذي كانت عادته أن يدعو به للموتى، والتشبيه لا يقتضي التسوية من كل وجه، فقوله "صلاته على الميت" لا يمنع من حمل الصلاة على الدعاء والاستغفار. قال الأمير اليماني: ويؤيد كونه دعا لهم عدم الجمعية بأصحابه، إذ لو كانت صلاة الجنازة المعهودة لأشعر أصحابه وصلاها جماعة، كما فعل في صلاته على النجاشي، فإن الجماعة أفضل قطعا، وأهل أحد أولى الناس بالأفضل، ولأنه لم يرو عنه أنه صلى على قبر فرادى. وقال في فيض الباري (ج2 ص478) بعد ذكر التأويل النووي

(10/236)


المذكور، ورد عليه العيني فقال: إنه ليس بتأويل بل تحريف، فإن المفعول المطلق للتشبيه، فقوله "صلاته على الميت" صريح في أنه صلى عليهم، كما يصلى على الجنائز. أقول والصواب، كما قاله النووي. فإني تتبعت الروايات فتبين أن صلاته كانت في السنة التي مات فيها، وكانت في المسجد النبوي، وإليه يشير لفظ البخاري: ثم انصرف إلى المنبر، وأين كان المنبر في أحد؟ فخروجه - صلى الله عليه وسلم - في تلك الواقعة إنما هو في المسجد لا إلى أحد، وإنما أراد بذلك أن يدعوا لهم قبيل خروجه من الدنيا أيضا لمزيد فضلهم، قال: وسها من زعم أن خروجه كان إلى أحد فإنه بثلاثة أميال عن المدينة-انتهى. وأجابوا عن أحاديث الصلاة على قتلى أحد مع حمزة بأن كلها مدخولة لا يخلو واحد منها عن كلام. قال المجد بن تيمية في المنتقى: وقد رويت الصلاة عليهم بأسانيد لا تثبت-انتهى. وقد أعل الشافعي بعض روايات الصلاة على قتلى أحد، وعلى حمزة بأنه متدافع، قال في كتاب الأم (ج1ص337): كيف يستقيم أنه عليه السلام صلى على حمزة سبعين صلاة إذا كان يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم، وشهداء أحد إنما كانوا اثنين وسبعين شهيدا، فإذا صلى عليهم عشرة عشرة فالصلاة إنما تكون سبع صلوات أو ثمانيا، فمن أين جاءت سبعون صلاة؟ وأجيب عنه بأن المراد صلى على سبعين نفسا وحمزة معهم كلهم، فكأنه صلى عليه سبعين صلاة. وأجاب الزيلعي وابن التركماني عنه بوجه آخر. ثم قال الشافعي: وإن كان عني سبعين تكبيرة فنحن وهم نزعم أن التكبير على الجنائز أربع، فهي إذا كانت تسع صلوات تكون ستا وثلاثين تكبيرة، فمن أين جاءت أربع وثلاثون؟ وأجاب بعض الحنفية عنه بأنه إن كان مراد الإمام الشافعي أن الأمر استقر على أربع تكبيرات في الجنائز فمسلم، وهذا لا يرد التأويل؛ لأنه ثبت أنه عليه السلام كبر على الجنائز ثلاثا وأربعا وخمسا وأكثر من ذلك، وفي جنازة حمزة كبر تسعا. كما رواه الطحاوي (ص290) من حديث عبدالله

(10/237)


بن الزبير والطبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن عباس. قال الهيثمي: وإسناده حسن وإن أراد أنه عليه السلام لم يكبر على جنازة أكثر من أربع تكبيرات قط، وإنه وإننا متفقان على هذا فهذا ليس بصحيح-انتهى. وأجاب البيهقي عن حديث شداد بن الهاد بأنه يحتمل أن يكون الأعرابي بقي حيا حتى انقضت الحرب ثم مات، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذين لم يصل عليهم بأحد ماتوا قبل انقضاء الحرب-انتهى. ولا يخفى ما فيه فإنه احتمال غير ناشىء عن دليل فلا يلتفت إليه. وأجاب بعضهم بأنه مرسل؛ لأن شداد بن الهاد تابعي. وفيه أن شدادا هذا صحابي معروف شهد الخندق وما بعدها، فالحديث موصول. وأما حديث أبي سلام الذي استدل به للصلاة على الشهيد، فقال الشوكاني: لم أقف للمانعين من الصلاة على جواب عليه، وهو من أدلة المثبتين؛ لأنه قتل في المعركة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسماه شهيدا وصلى عليه-انتهى. والقول الراجح عندي ما حكي عن أحمد: أن الصلاة على الشهيد مستحبة غير واجبة، وإن صلى عليه كان
ولم يغسلوا)). رواه البخاري.
1680-(21) وعن جابر بن سمرة، قال: ((أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرس معرور، فركبه حين انصرف من جنازة ابن الدحداح،

(10/238)


حسنا، وإن لم يصل أجزأ. وقد أطال الشوكاني الكلام في هذه المسألة واختار الصلاة على الشهيد. (ولم يغسلوا) إبقاء لأثر الشهادة عليهم. وفي حديث أحمد عن جابر أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في قتلى أحد: لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كلم أو دم يفوح مسكا يوم القيامة، ولم يصل عليهم، فبين الحكمة في ذلك. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي. فائدة: قال الشوكاني: قد اختلف في الشهيد الذي وقع الخلاف في غسله والصلاة عليه هل هو مختص بمن قتل في المعركة أو أعم من ذلك؟ فعند الشافعي أن المراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار، وخرج بقوله: في المعركة، من جرح في المعركة وعاش بعد ذلك حياة مستقرة، وخرج: بحرب الكفار، من مات في قتال المسلمين كأهل البغي، وخرج بجميع ذلك من يسمى شهيدا بسبب غير السبب المذكور، ولا خلاف أن من جمع هذه القيود شهيد، وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: أن من جرح في المعركة إن مات قبل الارتثاث فشهيد، والارتثاث أن يحمل ويأكل أو يشرب أو يوصي أو يبقى في المعركة يوما وليلة حيا، وذهبت الهادوية إلى أن من جرح في المعركة يقال له شهيد وإن مات بعد الارتثاث، وأما من قتل مدافعا عن نفس أو مال أو في المصر ظلما، فقال أبوحنيفة وأبويوسف والهادوية: إنه شهيد. وقال الإمام يحيى والشافعي: إنه وإن قيل شهيد فليس من الشهداء الذين لا يغسلون، وذهبت العترة والحنفية والشافعي في قول له: إن قتيل البغاة شهيد، قالوا: إذ لم يغسل على أصحابه وهو توقيف-انتهى كلام الشوكاني. ومن أحب البسط والتفصيل رجع إلى المغني (ج2ص528، 536).

(10/239)


1680- قوله: (أتي) بصيغة المجهول. (بفرس معرور) كذا في النسخ الموجودة بكسر الراء الثانية منونا، أي عار من السرج ونحوه، وهكذا في جامع الأصول (ج11ص421)، وفي المصابيح، وكذا وقع عند أحمد (ج5ص90). قال في مجمع البحار: في الحديث أتي بفرس معرور، أي لا سرج عليه ولا غيره، وأعرورى فرسه إذا ركبه عريانا، فهو لازم ومتعد، أو يكون أتى بفرس معرورى على المفعول-انتهى. وقال الطيبي أعرورى الفرس أي ركبه عريانا، فالفارس معرور والفرس معرورى هذا هو القياس، لكن الرواية صحت بالكسر-انتهى. والذي في نسخ صحيح مسلم الموجودة عندنا: معرورى. قال النووي: معناه بفرس عرى وهو بضم الميم وفتح الرائين منونا. قال أهل اللغة: أعروريت الفرس إذا ركبته عريا فهو معرورى. قالوا: ولم يأت افعوعل معدى إلا قولهم أعروريت الفرس واحلوليت الشيء. (فركبه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (حين انصرف من جنازة ابن الدحداح)
ونحن نمشي حوله)). رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1681-(22) عن المغيرة بن شعبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( الراكب يسير خلف الجنازة،

(10/240)


بفتح مهملتين وسكون حاء مهملة أولى. قال الحافظ في الإصابة (ج1ص191): هو ثابت بن الدحداح بن نعيم ابن غم بن أياس حليف الأنصار، ويقال: ثابت بن الدحداحة، ويكنى أبا الدحداح، وأبا الدحداحة. روى الطبراني من طريق ابن إسحاق حدثني موسى بن يسار عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة ثابت بن الدحداح- الحديث. وهو في صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة، لكن لم يسمه قال: صلينا على ابن الدحداح. وفي رواية علي أبي الدحداح. قال الواقدي في غزوة أحد حدثني عبدالله بن عمار الخطمي قال: أقبل ثابت بن الدحداحة يوم أحد فقال: يا معشر الأنصار إن كان محمد قتل فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، فحمل بمن معه من المسلمين، فطعنه خالد فأنفذه فوقع ميتا. قال الواقدي وبعض أصحابنا يقول: إنه جرح ثم برأ من جراحاته تلك ومات على فراشه من جرح كان أصابه ثم انتقض به مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية. قال الحافظ: وهو الراجح. (ونحن نمشي حوله) قال النووي: فيه مشي الجماعة مع كبيرهم الراكب وأنه لا كراهة فيه في حقه ولا في حقهم إذا لم يكن فيه مفسدة، وإنما يكره ذلك إذا حصل فيه انتهاك للتابعيين، أو خيف إعجاب أو نحو ذلك من المفاسد-انتهى. والحديث يدل على جواز الركوب عند الانصراف من الجنازة، ويدل عليه أيضا ما روي عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بدابة وهو مع جنازة فأبى أن يركبها، فلما انصرف أتي بدابة فركب، فقيل له فقال: إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت. أخرجه أبوداود، وسكت عنه هو والمنذري. وقال الشوكاني: رجال إسناده رجال الصحيح. قال العلماء: لا يكره الركوب في الرجوع من الجنازة اتفاقا؛ لانقضاء العبادة. (رواه مسلم) وفي رواية له صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابن الدحداح ثم أتى بفرس عرى فعقله رجل فركبه، فجعل يتوقص به ونحن

(10/241)


نتبع به نسعى خلفه-انتهى. والحديث أخرجه أحمد والترمذي والنسائي والبيهقي أيضا.
1681- قوله: (الراكب يسير خلف الجنازة) أي الأفضل في حقه ذلك. وفيه دليل على جواز الركوب في الذهاب مع الجنازة. ويعارضه ما سيأتي من حديث ثوبان قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فرآى ناسا ركبانا، فقال: ألا تستحيون أن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب! قال شيخنا في شرح الترمذي: والجمع بين هذين الحديثين بوجوه: منها أن حديث المغيرة في حق المعذور بمرض أو شلل أو عرج ونحو ذلك.
والماشي يمشي خلفها وأمامها، وعن يمينها، وعن يسارها قريبا منها، والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة)) رواه أبوداود. وفي رواية أحمد، والترمذي، والنسائي وابن ماجه

(10/242)


وحديث ثوبان في حق غير المعذور، ومنها أن حديث ثوبان محمول على أنهم كانوا قدام الجنازة أو طرفها، فلا ينافي حديث المغيرة، ومنها أن حديث المغيرة لا يدل على عدم الكراهة، وإنما يدل على الجواز، فيكون الركوب جائزا مع الكراهة-انتهى. (والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبا منها) أي كلما يكون أقرب منها في الجوانب الأربعة فهو أفضل للمساعدة في الحمل عند الحاجة. وفيه دليل على جواز المشي أمام الجنازة وخلفها وعن يمينها وعن شمالها، وأن جميع الجهات في حق الماشي سواء. وفيه خلاف بين العلماء، كما ستعرف. (والسقط) قال في القاموس: السقط مثلثة الولد لغير تمام-انتهى. (يصلى عليه) إذا استهل أو تيقنت حياته، ثم مات عند الجمهور، ومطلقا عند أحمد إذا ولد بعد نفخ الروح فيه وتمام أربعة أشهر وعشر. (ويدعى لوالديه) إن كانا مسلمين. (بالمغفرة) وفي رواية لأحمد والحاكم: بالعافية. (والرحمة) أي في الصلاة عليه. وظاهره أنه لا يجب الدعاء له بخصوصه، ونقل ميرك عن الأزهار أنه ليس المراد به الاقتصار على ذلك، بل يجب له ويستحب لهما بقوله: اللهم اجعله شفيعا لأبويه وسلفا وذخرا وعظة واعتبارا، وثقل به موازينهما، وافرغ الصبر على قلوبهما، ولا تفتنهما بعده، واغفرلهما وله-انتهى. وسيأتي شيء من الكلام على الدعاء للطفل في آخر الفصل الثالث. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص248-249) والحاكم (ج1:ص363) لكن لم يذكر في الماشي خلفها وأمامها، وأخرجه البيهقي من طريق أبي داود والحاكم، وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري. (وفي رواية أحمد) (ج4:ص247-252). (والترمذي والنسائي وابن ماجه) وأخرجها أيضا الحاكم (ج1:ص355-363) وقال: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. قلت: مدار الحديث بلفظيه عند من خرجه على زياد بن جبير،

(10/243)


وقد اختلف عليه أصحابه، فرواه عن يونس بن عبيد موقوفا أوشك في رفعه، كما وقع عند أبي داود والحاكم (ج1:ص363) وأحمد (ج4:ص249) وأبي داود الطيالسي وابن أبي شيبة، ورواه عنه سعيد بن عبيدالله فرفعه، كما وقع عند أحمد (ج4:ص252) والنسائي وابن ماجه والترمذي والحاكم (ج1:ص355-363) وابن أبي شيبة وابن عبدالبر في التمهيد، وكذا رواه مرفوعا المغيرة بن عبيدالله عند النسائي والمبارك عند أحمد (ج2:ص248)، والجزم مقدم على الشك فالراجع رفعه. والمحفوظ أنه رواه زياد بن جبير عن أبيه عن المغيرة بن شعبة، كما وقع عند جميع المخرجين. وأما ما وقع
قال: ((الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه)). وفي المصابيح عن المغيرة بن زياد.
1828- (23) وعن الزهري، عن سالم عن أبيه، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبابكر وعمر يمشون أمام الجنازة))
عند ابن ماجه في باب شهود الجنائز "زياد بن جبير سمع المغيرة بن شعبة"، فهو شاذ أو رواه زياد عن أبيه عن المغيرة، ثم سمعه عن المغيرة مباشرة أو بالعكس، والله أعلم. (الراكب خلف الجنازة) قال السندي: أي اللائق بحالة أن يكون خلف الجنازة. (والماشي حيث شاء منها) أي يمشي حيث أراد من الجنازة أمامها وخلفها وعن يمينها وعن يسارها. فإن حاجة الحمل تدعو إلى جميع ذلك. (والطفل يصلى عليه) هذا بعمومه يشمل من استهل ومن لا، وبه أخذ أحمد وغيره. ولكن الجمهور أخذوا بحديث جابر الآتي في آخر الفصل الثالث بلفظ: الطفل لا يصلى عليه حتى يستهل، ترجيحا للنهي على الحل عند التعارض، وحملا للمطلق على المقيد. ويأتي الكلام هناك مفصلا. (وفي المصابيح عن المغيرة بن زياد) الظاهر أنه من خطأ الناسخ، إذ ليس في عدد الصحابة والتابعين أحد بهذا الاسم والنسب.

(10/244)


1682- قوله: (وعن الزهري عن سالم عن أبيه) أي عبدالله بن عمر. (قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبابكر وعمر) زاد في رواية عند أحمد وابن حبان والنسائي والبيهقي ذكر عثمان. (يمشون أمام الجنازة) فيه دليل على أن المشي أمام الجنازة أفضل؛ لأنه حكاية عادة، وكانت عادتهم اختيار الأفضل، واختلف العلماء بعد الاتفاق على جواز المشي أمام الجنازة وخلفها ويمينها ويسارها اختلافا في الأولوية على أقوال: الأول: أن المشي أمامها أولى وأفضل. قال ابن قدامة: وإليه ذهب أكثر أهل العلم، روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن عمرو وأبي هريرة والحسن بن علي وابن الزبير وأبي قتادة وأبي أسيد وعبيد بن عمير وشريح والقاسم بن محمد والزهري ومالك والشافعي. وروى البيهقي بسنده عن زياد بن قيس الأشعري قال: أتيت المدينة، فرأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار يمشون أمام الجنازة، وروى مثله عن أبي صالح أيضا، كما في المغني والمحلى. الثاني: أن المشي خلفها أفضل، وبه قال أبوحنيفة وأصحابه وأهل الظاهر، ويروى ذلك عن علي وابن مسعود وأبي الدرداء وعمرو بن العاص، وبه قال إبراهيم النخعي والأوزاعي، واستدل لذلك بحديث ابن مسعود الذي بعده، وهو حديث ضعيف لا يصلح للاستدلال، كما ستعرف، وبحديث أبي هريرة المتقدم في أول الجنائز في ذكر حقوق المسلم بلفظ: إتباع الجنائز، وبلفظ:: إذا مات فاتبعه، وبحديث أبي هريرة أيضا في الفصل
رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: وأهل الحديث كأنهم يرونه مرسلا.

(10/245)


الأول من هذا الباب بلفظ: من اتبع جنازة مسلم الخ. قالوا: والإتباع لا يكون إلا إذا مشى خلفها. وقد أسلفنا جوابه في أول الجنائز نقلا عن الفتح فتذكر. واستدلوا أيضا بأحاديث سردها الزيلعي في نصب الراية (ج2: ص290-293) لا يخلوا واحد منها عن كلام، ورجحوا تلك الأحاديث بالمعنى؛ لأن المشي خلفها أقرب إلى الاتعاظ والاعتبار والانتباه؛ لأنه يعاين الجنازة، ولأنه يكون الماشي خلفها مستعدا للمساعدة والمعاونة في حمل الجنازة عند الحاجة. قالوا: والمروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيان الجواز أو لتسهيل الأمر على الناس عند الازدحام، وهو تأويل فعل أبي بكر وعمر لما روى عبدالرزاق وابن أبي شيبة (ج4:ص100-101) عن ابن ابزى. الثالث: التخيير والتوسعة، وأن الكل سواء. قيل: هو قول الثوري، وإليه ميل البخاري، ورواه عبدالرزاق وابن أبي شيبة (ج4:ص100) عن أنس. الرابع: التفصيل يعني أن أمام الجنازة أفضل في حق الماشي وخلفها أفضل في حق الراكب، وإليه ذهب أحمد، كما يظهر من المغني، وكما صرح به الزيلعي. الخامس: أن الماشي يمشي حيث شاء والراكب خلفها لحديث المغيرة المتقدم، نسب هذا القول الأمير اليماني إلى الثوري. السادس: إن كان مع الجنازة مشى أمامها، وإلا فخلفها، حكاه الحافظ في الفتح عن النخعي. والظاهر عندي هو القول الثاني، والله تعالى أعلم. (رواه أحمد) (ج2:ص8). (وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان والبيهقي وابن أبي شيبة كلهم من طريق ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه، ورواه أيضا موصولا عن الزهري ابن أخيه محمد بن عبدالله عند أحمد (ج2:ص122) ومنصور وبكر بن وائل عند الترمذي والنسائي، وزياد بن سعد عند الترمذي والنسائي. قال ابن عبدالبر: وصله عن الزهري عن سالم عن أبيه جماعة ثقات من أصحاب الزهري، منهم ابن عيينة ومعمر ويحيى بن سعيد وموسى بن عقبة وابن أخي ابن شهاب وزياد بن سعد وعباس بن

(10/246)


الحسن الحراني على اختلاف على بعضهم، ثم أسند رواياتهم، ذكره السيوطي في شرح الموطأ. (وقال الترمذي: وأهل الحديث كأنهم يرونه مرسلا) عبارة الترمذي في جامعه: وروى معمر ويونس بن يزيد ومالك وغيرهم من الحفاظ عن الزهري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمشي أمام الجنازة، وأهل الحديث كلهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح، ثم روى الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: حديث الزهري في هذا مرسلا أصح من حديث ابن عيينة، وقال النسائي: وصله خطأ، وهم فيه ابن عيينة، وخالفه مالك. فرواه عن الزهري مرسلا، وهو الصواب، قال: وإنما أتي عليه فيه من جهة أن الزهري رواه عن سالم عن أبيه أنه
1683- (24) وعن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الجنازة متبوعة ولا تتبع، ليس معها من تقدمها))

(10/247)


كان يمشي أمام الجنازة قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر يمشون أمام الجنازة. فقوله: "وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -" إلى آخره من كلام الزهري لا من كلام ابن عمر-انتهى. وبهذا اللفظ الذي أشار إليه النسائي رواه أحمد في (ج2:ص37) عن عبدالرزاق وابن بكر قالا: أخبرنا ابن جريج قال: قال ابن شهاب الخ. وفي (ج2:ص140) عن حجاج ثنا ليث ثنى عقيل بن خالد عن ابن شهاب الخ. وعن حجاج قال: قرأت على ابن جريج حدثني زياد بن سعد أن ابن شهاب قال: حدثني سالم عن عبدالله بن عمر أنه كان يمشي بين يدي الجنازة، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر وعثمان يمشون أمامها. قال في التلخيص: قال عبدالله: قال أبي ما معناه: القائل "وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" إلى آخره هو الزهري، والحديث عن الزهري مرسل، وحديث سالم فعل ابن عمر، وحديث ابن عيينة وهم. وقد ذكر الدارقطني في العلل اختلافا كثيرا فيه على الزهري. قال: والصحيح قول من قال عن الزهري عن سالم عن أبيه أنه كان يمشي، قال: وقد مشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر، واختار البيهقي ترجيح الموصول؛ لأنه من رواية ابن عيينة وهو ثقة حافظ. وعن علي بن المديني قال: قلت لابن عيينة: يا أبا محمد! خالفك الناس في هذا الحديث، فقال: استيقن الزهري حدثني مرارا لست أحصيه يعيده ويبديه، سمعته من فيه عن سالم عن أبيه. قلت: (القائل هو الحافظ): وهذا لا ينفى عنه الوهم، فإنه ضابط؛ لأنه سمعه منه عن سالم عن أبيه، والأمر كذلك إلا أن فيه إدراجا، لعل الزهري أدمجه، إذ حدث به ابن عيينة وفصله لغيره. وقد أوضحته في المدرج بأتم من هذا، وجزم أيضا بصحته ابن المنذر وابن حزم، وقد روى يونس عن الزهري عن أنس مثله، أخرجه الترمذي، وقال: سألت عنه البخاري فقال: هذا خطأ، أخطأ فيه محمد بن بكر-انتهى كلام الحافظ.

(10/248)


1683- قوله: (الجنازة متبوعة) أي يسن لمن شيع جنازة أن يمشي خلفها. (ولا تتبع) وفي رواية لأحمد: وليست يتابعه، وكذا عند ابن ماجه. قال "لا تتبع" بفتح التاء والباء ويرفع العين على النفي، وبسكونها على النهي، أي لا تتبع هي الناس فلا تكون عقيبهم، وهو تصريح بما علم ضمنا. (ليس معها من تقدمها) أي لا يعد مشيعا لها. قال الطيبي: قوله "لا تتبع" صفة مؤكدة أي متبوعة غير تابعة، وقوله "ليس معها من تقدمها" تقرير بعد تقرير يعني من تقدم الجنازة ليس ممن يتبعها فلا يثبت له الأجر-انتهى. وبه أخذ أبوحنيفة ومن وافقه. والحديث ضعيف غير صالح للاحتجاج، كما ستعرف وقوله "ليس معها" كذا هو في أبي داود وابن ماجه، وكذا في البيهقي وابن أبي شيبة، وكذا ذكره الزيلعي في نصب الراية، والجزري في جامع الأصول (ج1:ص419) نقلا
رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، قال الترمذي: وأبوماجد الراوي رجل مجهول.
1684- (25) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من تبع جنازة وحملها ثلاث مرار، فقد قضى ما عليه من حقها)) رواه الترمذي.

(10/249)


عن الترمذي وأبي داود. والذي في الترمذي "ليس منها"، وكذا وقع عند أحمد (ج1:419)، وكذا ذكر الحافظ في التلخيص، ووقع عند أحمد (ج1:ص394، 415) "ليس منا". والحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير ونسبه لابن ماجه. قال المناوي: "ليس منا" كذا رأيته بخط المؤلف يعني السيوطي. وفي نسخ أي للجامع الصغير "منها" وهو أوضح-انتهى. (رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وأبويعلى والطحاوي، كلهم من حديث يحيى الجابر عن أبي ماجد الحنفي عن عبدالله بن مسعود. وقد ضعف هذا الحديث البخاري والترمذي والنسائي وابن عدي والبيهقي وغيرهم؛ لأن أبا ماجد الحنفي مجهول، قاله الدارقطني وأحمد بن حنبل والترمذي والساجي وابن عدي والبيهقي. ( قال الترمذي: وأبوماجد) ويقال: أبوماجدة الحنفي العجلي الكوفي، اسمه عائذ بن نضلة، قاله أبوحاتم. (رجل مجهول) وقال الدارقطني: مجهول متروك. وقال ابن عدي: لا يعرف. وقال الساجي: مجهول منكر الحديث: وقال ابن المديني: لم يرو عنه غير يحيى الجابر، وله غير حديث منكر. وقال الترمذي في علله الكبرى: قال البخاري: أبوماجد منكر الحديث، وكذا قال النسائي في الضعفاء (ص33)، وقال البخاري في الكنى (ص687): قال الحميدي: قال ابن عيينة: قلت ليحيى: من أبوماجد؟ قال طائر طرأ علينا، فحدثنا وهو منكر الحديث، وقال نحو هذا في الضعفاء (ص38) والصغير (ص112).

(10/250)


1684- قوله: (من تبع جنازة) لإنسان مسلم، سواء كان بجنبها أو أمامها أو خلفها، خلافا لمن خص التبعية بالخلف، فالمراد تبيعيتها من أي جهة. (وحملها ثلاث مرار) والذي في الترمذي "مرات" وكذا في جامع الأصول (ج11:ص418). قال المناوي: يحتمل أن المراد أن يحمل حتى يتعب فيستريح، ثم يفعل كذلك ثانيا وثالثا. وقال ابن الملك: يعني يعاون الحاملين في الطريق ثم يتركها ليستريح ثم يحملها في بعض الطريق، يفعل كذلك ثلاث مرات. (فقد قضى ما عليه من حقها) أي من حق الجنازة بيان لما قال ميرك أي من جهة المعاونة لا من دين وغيبة ونحوهما-انتهى. وقد عد - صلى الله عليه وسلم - فيما مر أول كتاب الجنائز أن من جملة الحقوق التي للمؤمن على المؤمن أن يشيع جنازته من غير أن يقيده بحملها ثلاث مرات. (رواه الترمذي) من طريق عباد بن منصور عن أبي المهزم عن أبي هريرة، وأخرجه ابن أبي شيبة (ج4:ص103) موقوفا من هذا الطريق.
وقال: هذا حديث غريب.
1685- (26) وقد روى في شرح السنة: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين)).
(وقال: في هذا حديث غريب) وقال أيضا: ورواه بعضهم بهذا الإسناد ولم يرفعه. وأبو مهزم اسمه يزيد بن سفيان وضعفه شعبة-انتهى. وقال البخاري: تركه شعبة. وقال مسلم بن إبراهيم عن شعبة: رأيت أبا المهزم ولو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثا. قال الحافظ: وفي رواية عنه: لوضع، ذكرها الحاكم، وزاد روى المناكير. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن معين: ضعيف، وقال مرة لا شيء. وقال الدارقطني: ضعيف يترك، كذا في تهذيب التهذيب للحافظ: فحديث أبي هريرة هذا ضعيف. قال شيخنا: لم يحكم الترمذي عليه بالضعف، وهو ضعيف؛ لأن في سنده أبا المهزم، وهو متروك –انتهى.

(10/251)


1685- قوله: (وقد روى) أي البغوي. قال القاري: وفي نسخة بصيغة المجهول. (في شرح السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين) بفتح العين أي قائمتي السرير، ورواه ابن سعد في الطبقات عن الواقدي عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن شيوخ من بني عبدالأشهل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمل جنازة سعد بن معاذ من بيته بين العمودين حتى خرج به من الدار. قال الواقدي: والدار تكون ثلاثين ذراعا-انتهى. قلت: الواقدي مكشوف الحال، وابن أبي حبيبة ضعيف، وشيوخه مجاهيل. وقال النووي في الخلاصة، ورواه الشافعي بسند ضعيف، وقال في شرح المهذب (ج5:ص269) ذكره البيهقي في كتاب المعرفة، وأشار إلى تضعيفه. وقال الحافظ في التلخيص: رواه الشافعي من بعض أصحابه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين، ورواه ابن سعد عن الواقدي عن ابن أبي حبيبة عن شيوخ بني عبدالأشهل-انتهى. والحديث فيه دليل على مشروعية الحمل للميت، وأنه ليس دناءة في حمل الجنازة، وأنه من حملها وضع السرير على كاهله بين العمودين المقدمين، وبه قال الشافعي، لكن الحديث ضعيف. نعم ثبتت الآثار في الباب عن الصحابة وغيرهم. واختلف العلماء في ذلك. قال ميرك نقلا عن الأزهار: هذا أي حمل الجنازة على الكاهل بين العمودين مذهب الشافعي، بأن يحملها ثلاثة يقف أحدهم قدامها بين العمودين واثنان خلفها كل واحد منهما يضع عمودا على عاتقه، هذا عند حمل الجنازة من الأرض، ثم لا بأس أن يعاونهم من شاء كيف شاء، والأفضل عند أبي حنيفة التربيع، بأن يحملها أربعة يأخذ كل واحد عمودا على عاتقه-انتهى. وذهبت الحنابلة إلى أن التربيع سنة، وأنه أفضل من الحمل بين العمودين، وإن حمل بين العمودين كان حسنا ولم يكره. وذهب مالك

(10/252)


إلى أنه يحمل كما شاء الحامل، إن شاء من أحد قوائمه، وإن شاء بين العمودين. قال ابن قدامة: التربيع سنة في حمل الجنازة لقول ابن مسعود: إذا تبع أحدكم جنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربع، ثم ليتطوع بعد أو ليذر فإنه من السنة، رواه سعيد بن منصور في سننه. وهذا يقتضي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم --انتهى. قلت: وأخرجه أيضا ابن ماجه وابن أبي شيبة والبيهقي وأبوداود الطيالسي وعبدالرزاق والطبراني، ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا. وفي الباب آثار عن أبي الدرداء عند ابن أبي شيبة، وفيه عامر بن جشيب وثقه الدارقطني، وقال: إنه لم يسمع من أبي الدرداء، وعن ابن عباس عند ابن أبي شيبة أيضا، وفيه مندل العنزى، وهو ضعيف، وعن ابن عمر عند عبدالرزاق وابن أبي شيبة أيضا، وعن أبي هريرة عند عبدالرزاق، وفيه أبوالمهزم وهو ضعيف. قال ابن قدامة: وصفة التربيع المسنون أن يبدأ فيضع قائمة السرير اليسرى على كتفه اليمنى من عند رأس الميت، ثم يضع القائمة اليسرى من عند الرجل على الكتف اليمنى، ثم يعود أيضا إلى القائمة اليمنى من عند رأس الميت فيضعها على كتفه اليسرى، ثم ينتقل إلى اليمنى من عند رجليه، وبهذا قال أبوحنيفة والشافعي. وعن أحمد أنه يدور عليها فيأخذ بعد ياسرة المؤخرة يامنة المؤخرة ثم المقدمة، وهو مذهب إسحاق، وروي عن ابن مسعود وابن عمر وسعيد بن جبير وأيوب، ولأنه أخف، ووجه الأول أنه أحد الجانبين فينبغي أن يبدأ فيه بمقدمه كالأول. فأما الحمل بين العمودين فقال ابن المنذر: روينا عن عثمان وسعد بن مالك وابن عمر وأبي هريرة وابن الزبير أنهم حملوا بين عمودي السرير، وقال به الشافعي وأحمد وأبوثور وابن المنذر، وكرهه النخعي والحسن وأبوحنيفة وإسحاق، والصحيح الأول؛ لأن الصحابة قد فعلوه، وفيهم أسوة حسنة. وقال مالك: ليس في حمل الميت توقيت يحمل من حيث شاء، ونحوه قال الأوزاعي، واتباع الصحابة رضي

(10/253)


الله عنهم فيما فعلوه وقالوه أحسن وأولى-انتهى كلام ابن قدامة. قلت: الآثار المروية عن الصحابة في الحمل بين العمودين، روى بعضها ابن سعد في الطبقات (ج8ص60) وسعيد بن منصور في سننه، كما في المحلى (ج5ص168- 169) والطبراني في معجمه، وروى أكثرها الشافعي في كتاب الأم (ج1ص231) ورواها البيهقي من طريق الشافعي في المعرفة وفي السنن (ج4ص20) وقد ذكرها الزيلعي في نصب الراية (ج2ص288) والحافظ في التلخيص (ص156). قال النووي في شرح المهذب (ج5ص269): والآثار المذكورة عن الصحابة رواها الشافعي والبيهقي بأسانيد ضعيفة إلا أثر سعد بن أبي وقاص فصحيح، والله أعلم-انتهى. قلت: وقد صح عن ابن عمر أيضا الحمل بين العمودين، رواه سعيد بن منصور في سننه كما في المحلى (ج5ص168). والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد أن التربيع سنة، وهو أفضل من الحمل بين العمودين، وإن حمل بين العمودين كان حسنا ولم يكره، والله تعالى أعلم.
1686-(27) وعن ثوبان، قال: (( خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فرأى ناسا ركبانا، فقال: ألا تستحيون؟! إن ملائكة الله على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب)). رواه الترمذي وابن ماجه، وروى أبوداود نحوه، قال الترمذي: وقد روى عن ثوبان موقوفا.
1687-(28) وعن ابن عباس: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب)).

(10/254)


1686- قوله: (ألا تستحيون إن ملائكة الله) إن هذه بكسر الهمزة. (وأنتم على ظهور الدواب) وفي رواية ابن ماجه: إن ملائكة الله يمشون على أقدامهم وأنتم ركبان، أي تمشون ركبانا. والحديث يدل على كراهة الركوب لمن كان متبعا للجنازة، ويعارضه حديث المغيرة المتقدم من إذنه للراكب أن يمشي خلف الجنازة، وتقدم وجه الجمع بينهما. وقال السندي في شرح حديث ثوبان: إنه يدل على أنه لا ينبغي الركوب في جنائز الصلحاء الذين يرجى حضور الملائكة في جنائزهم، وأنه ترك الأولى، وإلا فالركوب قد جاء ما يدل على جوازه-انتهى. (رواه الترمذي وابن ماجه) واللفظ للترمذي، أخرجه من طريق عيسى بن يونس عن أبي بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد عن ثوبان، وأخرجه ابن ماجه من طريق بقية بن الوليد عن أبي بكر بن أبي مريم. (وروى أبوداود نحوه) أي بمعناه، وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بدابة وهو مع الجنازة فأبي أن يركب، فلما انصرف أتي بدابة فركب فقيل له، فقال: إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت-انتهى. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح. (قال الترمذي: وقد روي) أي الحديث المذكور (عن ثوبان موقوفا) أخرجه البيهقي من طريق بقية ثنا أبوبكر بن أبي مريم حدثني راشد بن سعد عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه خرج في جنازة فرأى ناسا خروجا على دوابهم ركبانا فقال لهم ثوبان: ألا تستحيون ملائكة الله على أقدامهم وأنتم ركبان. قال البيهقي: هذا هو المحفوظ بهذا الإسناد موقوف، ثم رواه البيهقي من طريق عيسى بن يونس مرفوعا، ثم قال ورواه ثور بن يزيد عن راشد بن سعد موقوفا عن ثوبان. وفي ذلك دلالة على أن الموقوف أصح، وكذا قاله البخاري-انتهى. لكن هذا الموقوف في حكم المرفوع؛ لأن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي، ولم يتكلم الترمذي على حديث ثوبان المرفوع بحسن ولا ضعف، وفي إسناده أبوبكر بن

(10/255)


أبي مريم، كما تقدم، وهو ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط، قاله الحافظ في التقريب. والحديث أخرجه أيضا الحاكم (ج1ص356) مرفوعا من طريق أبي بكر بن أبي مريم، وسكت عنه هو والذهبي.
1687- قوله: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على الجنازة) أي في الصلاة على الجنازة. (بفاتحة الكتاب)
رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.
1688-(29) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)) رواه أبوداود، وبن ماجه.
1689-(30) وعنه، قال: (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى على الجنازة، قال: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا،
بعد التكبيرة الأولى كما تقدم. (رواه الترمذي) من طريق إبراهيم بن عثمان عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس. ومن هذا الوجه أخرجه ابن ماجه، قال الترمذي: ليس إسناده بذاك القوي. إبراهيم بن عثمان هو أبوشيبة الواسطي منكر الحديث. والصحيح عن ابن عباس قوله: من السنة القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب، ثم أسنده الترمذي من طريق طلحة بن عبدالله بن عوف، قال الحافظ بعد ذكر قول الترمذي هذا ما لفظه: هذا مصير منه يعني من الترمذي إلى الفرق بين الصيغتين. (أي بين قوله "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب" وبين قوله "من السنة القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب") ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال-انتهى. (وأبوداود) ولفظه: عن طلحة بن عبدالله بن عوف قال: صليت مع ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقال: إنها من السنة-انتهى. فنسبة الحديث مرفوعا صريحا إلى أبي داود غير صحيح.

(10/256)


1688- قوله: (فأخلصوا له الدعاء) أي أدعوا له بالإخلاص التام؛ لأن القصد بهذه الصلاة إنما هو الشفاعة للميت، وإنما يرجى قبولها عند توفر الإخلاص والابتهال. وقيل: معناه خصوه بالدعاء، ولا يخفى ما فيه. قال الشوكاني: فيه دليل على أنه يتعين دعاء مخصوص من الأدعية الواردة، وأنه ينبغي للمصلي على الميت أن يخلص الدعاء له، سواء كان محسنا أو مسيئا، فلأن ملابس المعاصي أحوج الناس إلى دعاء إخوانه المسلمين وأفقرهم إلى شفاعتهم، ولذلك قدموه بين أيديهم وجاءوا به إليهم. (رواه أبوداود) وسكت عنه (وابن ماجه) وأخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي، وفيه ابن إسحاق وقد عنعن، لكن أخرجه ابن حبان من طريق أخرى عنه مصرحا بالسماع، كذا في التلخيص (ص161).
1689- قوله: (وشاهدنا) أي حاضرنا. (وصغيرنا وكبيرنا) ههنا إشكال وهو أن المغفرة مسبوقة بالذنوب، فكيف تتعلق بالصغير ولا ذنب له، وذكروا في دفعه وجوها، فقال السندي: المقصود في مثله التعميم. وقال ابن حجر: الدعاء بالمغفرة في حق الصغير لرفع الدرجات. وقال القاري: يمكن أن يكون المراد بالصغير والكبير الشاب والشيخ. وقال التوربشتي: سئل أبوجعفر الطحاوي عن معنى الاستغفار للصبيان مع أنه لا ذنب لهم، فقال
وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده)). رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي، وابن ماجه.

(10/257)


معناه السؤال من الله أن يغفر لهم ما كتب في اللوح المحفوظ أن يفعلوه بعد البلوغ من الذنوب حتى إذا كانوا فعلوه كان مغفورا، وإلا فالصغير غير مكلف لا حاجة له إلى الاستغفار-انتهى. وسيأتي زيادة تحقيق لهذا المبحث في أواخر الفصل الثالث. (وذكرنا وأنثانا) قال الطيبي: المقصود من القرائن الأربع الشمول والاستيعاب، فلا يحمل على التخصيص نظرا إلى مفردات التركيب، كأنه قيل: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات كلهم أجمعين. (فأحيه على الإسلام) أي الاستسلام والإنقياد للأوامر والنواهي. (فتوفه على الإيمان) أي التصديق القلبي، إذ لا نافع حينئذ غيره. قيل: خص الوفاة بالإيمان لأن الإسلام أكثر ما يطلق على الأعمال الظاهرة وليس هذا وقتها. (لا تحرمنا أجره) بفتح التاء وكسر الراء من باب ضرب، أو بضم أوله من باب أفعل. قال السيوطي: بفتح التاء وضمها لغتان فصيحتان، والفتح أفصح، يقال: حرمه وأحرمه أي منعه، والمراد أجر موته، فإن المؤمن أخو المؤمن، فموته مصيبة عليه يطلب فيها الأجر، نقله في عون المعبود عن فتح الودود. (ولا تفتنا) بتشديد النون من باب ضرب. (بعده) أي لا تجعلنا مفتونين بعد الميت بل اجعلنا معتبرين بموته عن موتنا ومستعدين لرحلتنا. وقال ابن الملك أي لا تلق علينا الفتنة بعد الإيمان، والمراد بها ههنا خلاف مقتضى الإيمان. (رواه أحمد وأبوداود) وفي رواية أبي داود: فأحيه على الإيمان، وتوفه على الإسلام وفي آخره: لا تضلنا بعده. (والترمذي) وانتهت روايته عند قوله "فتوفه على الإيمان". (وابن ماجه) وفي روايته: لا تضلنا بعده، كما في رواية أبي داود: والحديث أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة، وقد سكت عليه أبوداود. وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي، قال الحاكم: وله شاهد صحيح على شرط مسلم، فرواه من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة

(10/258)


عن عائشة نحوه، وأخرجه البيهقي من طريق الحاكم. وأعله الترمذي بعكرمة بن عمار، وقال: إنه يهم في حديثه، واختلف في حديث أبي هريرة، فرواه هشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وعلي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا. ورواه أيوب بن عتبة وهقل بن زياد وشعيب بن إسحاق عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موصولا. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فقال: الحفاظ لا يذكرون أبا هريرة، إنما يقولون أبوسلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا، ولا يوصله بذكر أبي هريرة إلا غير متقن، والصحيح أنه مرسل-انتهى. ورواه همام بن يحيى عن يحيى بن أبي كثير عن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه أحمد (ج4ص170) والبيهقي.
1690-(31) ورواه النسائي عن أبي إبراهيم الأشهلى، عن أبيه، وانتهت روايته عند قوله: ((وأنثانا)). وفي رواية أبي داود: ((فأحيه على الإيمان، وتوفه على الإسلام)). وفي آخره: ((ولا تضلنا بعده)).
1691-(32) وعن واثلة بن الأسقع، قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل من المسلمين، فسمعته يقول: اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك

(10/259)


1690- قوله: (ورواه النسائي) وكذا أحمد (ج4ص170) والترمذي والبيهقي كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير. (عن أبي إبراهيم الأشهلى) المدني الأنصاري. قال الحافظ في التقريب: مقبول من الثالثة، وهي الطبقة الوسطى من التابعين. قال الترمذي: سألت البخاري عن اسم أبي إبراهيم الأشهلى فلم يعرفه، وقد توهم بعض الناس أنه عبدالله بن أبي قتادة وهو غلط، أبوإبراهيم من بني عبدالأشهل وأبوقتادة من بني سلمة. (عن أبيه) أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في الصلاة على الميت: اللهم اغفرلنا الخ، قال الترمذي: حديث والد أبي إبراهيم حديث حسن صحيح، قال: سمعت محمدا يعني البخاري يقول: أصح هذه الروايات حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم الأشهلى عن أبيه، ولوالده صحبة، وحديث أبي سلمة عن أبي هريرة وعائشة وأبي قتادة غير محفوظ، وأصح حديث في هذا الباب حديث عوف بن مالك. (وانتهت روايته) أي رواية النسائي. (عند قوله وأنثانا) وكذا رواية أحمد والترمذي والبيهقي. (وفي رواية أبي داود: فأحيه على الإيمان وتوفه على الإسلام)، قال في فتح الودود: المشهور الموجود في رواية الترمذي وغيره: فأحيه على الإسلام وتوفه على الإيمان، وهو الظاهر المناسب لأن الإسلام هو التمسك بالأركان الظاهرية، وهذا لا يتأتى إلا في حالة الحياة. وأما الإيمان فهو التصديق الباطني وهو الذي المطلوب عليه الوفاة، فتخصيص الأول بالإحياء والثاني بالإماتة هو الوجه-انتهى. وقال القاري: الرواية المشهورة هي العمدة، ورواية أبي داود إما من تصرفات الرواة نسيانا، أو بناء على زعم أنه لا فرق بين التقديم والتأخير وجواز النقل بالمعنى، أو يقال: فأحيه على الإيمان أي وتوابعه من الأركان، وتوفه على الإسلام أي على الانقياد والتسليم؛ لأن الموت مقدمة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم-انتهى. وقال الشوكاني: لفظ فأحيه على الإسلام هو الثابت عند الأكثر. (ولا تضلنا بعده) من

(10/260)


الإضلال، أي لا توقعنا في الضلال بعد موته.
1691- قوله: (إن فلان بن فلان) فيه دليل مشروعية تسمية الميت باسمه واسم أبيه، وهذا إن كان معروفا، وإلا جعل مكان ذلك إن عبدك هذا أو نحوه. (في ذمتك) أي في أمانك وعهدك وحفظك. قال ابن الأثير في جامع الأصول (ج7ص535): الذمة والذمام الضمان، تقول: فلان في ذمتي أي في ضماني. وقيل:
وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له، وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم)). رواه أبوداود، وابن ماجه.
1692-(33) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم))

(10/261)


الذمة والذمام الأمان والعهد. (وحبل جوارك) بكسر الجيم. قيل: عطف تفسيري. وقيل: الحبل العهد أي في كنف حفظك وعهد طاعتك. وقيل: أي في سبيل قربك، وهو الإيمان. والأظهر أن المعنى أنه متمسك ومتعلق بالقرآن، كما قال تعالى: ?واعتصموا بحبل الله? [آل عمران: 103] وفسره جمهور المفسرين بكتاب الله، والمراد بالجوار: الأمان، والإضافة بيانية يعني الحبل الذي يورث الاعتصام به الأمن والأمان والإسلام والإيمان، قاله القاري. وقال ابن الأثير في جامع الأصول: الحبل العهد والأمان، ومنه قوله تعالى: ?واعتصموا بحبل الله جميعا? أي بعهده، وكان من عادة العرب أن يخيف بعضهم بعضا، فكان الرجل إذا أراد سفرا أخذ عهدا من سيد قبيلة، فيأمن بذلك مادام في حدوده. (أي مجاورا أرضه) حتى (ينتهي) إلى آخر فيأخذ مثل ذلك، فهذا حبل الجوار أي العهد والأمان مادام مجاورا أرضه. وقال الطيبي: الحبل العهد والأمان "وحبل جوارك" بيان لقوله "في ذمتك"، نحو أعجبني زيد وكرمه، والأصل أن فلانا في عهدك، فنسب إلى الجوار ما كان منسوبا إلى الله تعالى، فجعل للجوار عهدا مبالغة في كمال حمايته، فالحبل مستعار للعهد لما فيه من التوثقة وعقد القول بالأيمان المؤكدة. (فقه) صيغة أمر من الوقاية بالضمير أو بهاء السكت. (من فتنة القبر) أي امتحان السؤال فيه أو من أنواع عذابه من الضغطة والظلعة وغيرهما. (وأنت أهل الوفاء) أي بالوعد، فإنك لا تخلف الميعاد. (والحق) أي أنت أهل الحق، فالمضاف مقدر. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري.

(10/262)


1692- قوله: (اذكروا محاسن موتاكم) جمع حسن على غير قياس، والأمر للندب. (وكفوا) بضم الكاف أمر للوجوب أي امتنعوا. (عن مساويهم) جمع سوء على غير قياس أيضا، أي لا تذكروهم إلا بخير، ويستثنى منه الثناء على الميت بالشر عند رؤية الجنازة قبل الدفن لما تقدم من حديث أنس، وجرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتا لإجماع العلماء على جواز ذلك، وذكر مساوئ الكفار والفساق للتحذير منهم والتنفير عنهم. والمراد بالفاسق من ارتكب بدعة يفسق بها ويموت عليها، وأما الفاسق بغير ذلك فإن علمنا أنه مات وهو مصر على فسقه والمصلحة في ذكره جاز ذكر مساوية وإلا فلا. قال حجة الإسلام: غيبة الميت أشد من غيبة الحي، وذلك لأن عفو الحي واستحلاله ممكن ومتوقع في الدنيا بخلاف الميت. وفي الأزهار قال العلماء: وإذا رأى الغاسل من
رواه أبوداود، والترمذي.
1693-(34) وعن نافع أبي غالب، قال: ((صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل، فقام حيال رأسه، ثم جاؤا بجنازة امرأة من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة! صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد:
الميت ما يعجبه كاستنارة وجهه وطيب ريحه وسرعة انقلابه على المغتسل استحب أن يتحدث به، وإن رأى ما يكره كنتنه وسواد وجهه أو بدنه أو انقلاب صورته حرم أن يتحدث به. (رواه أبوداود والترمذي) وأخرجه أيضا الحاكم والبيهقي من طريقه كلهم من رواية عمران بن أنس المكي عن عطاء عن ابن عمر، وسكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: حديث غريب سمعت محمدا يعني البخاري يقول: عمران بن أنس المكي منكر الحديث، وروى بعضهم عن عطاء عن عائشة-انتهى. ويؤيده ما تقدم من حديث عائشة: لا تسبوا الأموات، ويؤيده أيضا ما رواه النسائي عن عائشة قالت: ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - هالك بسوء، فقال: لا تذكروا هلكاكم إلا بخير.

(10/263)


1693- قوله: (وعن نافع) ويقال: رافع أبوغالب الباهلي مولاهم الخياط البصري، ثقة من صغار التابعين، وثقة ابن معين وأبوحاتم وموسى بن هارون الحمال وابن حبان. (أبي غالب) عطف بيان. قال الطيبي:كأن الكنية كانت أعرف وأشهر فجيء بها بيانا لنافع. (صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل) أي عبدالله بن عمير، كما في رواية أبي داود، وكذا نقله ابن الأثير في جامع الأصول (ج7:ص148)، وكذا وقع في رواية البيهقي، ولم أجد ترجمته في شيء من الكتب، ووقع في بعض النسخ من سنن أبي داود: عبدالله بن عمر مكبرا، وليس هو عبدالله بن عمر بن الخطاب، فإن الظاهر أن هذه القصة وقعت بالبصرة لما أن أنس بن مالك قطن البصرة، وهو آخر من مات بها من الصحابة، وعبدالله بن عمر بن الخطاب مات بمكة، ودفن بذي طوى، وصلى عليه الحجاج. قيل: المحفوظ في رواية أبي داود: عبدالله بن عمير بالتصغير، وعبدالله بن عمر تصحيف، والله أعلم. (حيال رأسه) بكسر الحاء أي حذاءه ومقابله. وفي أبي داود: عند رأسه. (بجنازة امرأة من قريش) وفي رواية أبي داود: المرأة الأنصارية. قال القاري: فالقضية إما متعددة وإما متحدة، فتكون المرأة قرشية أنصارية-انتهى. (فقالوا) أي أولياؤها: (يا أبا حمزة) كنية أنس. (حيال وسط السرير) بسكون السين وفتحها بمعنى، فلذا جوز الوجهان، وقد فرق بعضهم بينهما. (العلاء بن زياد) هو العلاء بن زياد بن مطر بن شريح العدوي أبونصر
هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الجنازة مقامك منها؟ ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم)) رواه الترمذي، وابن ماجه، وفي رواية أبي داود نحوه مع زيادة، وفيه: (( فقام عند عجيزة المرأة)).
?الفصل الثالث?
1694- (35) عن عبدالرحمن بن أبي ليلة، قال: ((كان سهل بن حنيف، وقيس بن سعد

(10/264)


البصري أحد العباد من ثقات التابعين، مات في ولاية الحجاج سنة (94). (هكذا) بحذف الاستفهام. (قام على الجنازة) أي من المرأة. (قال) أي أنس. (نعم) فيه دليل على أن المصلي على المرأة يقف حذاء وسطها، وعلى الرجل حذاء رأسه، وقد تقدم بسط الكلام عليه في شرح حديث سمرة. (رواه الترمذي) وحسنه. (وابن ماجه) واللفظ للترمذي، وأخرجه أيضا أحمد (ج3:ص118-204) والبيهقي (ج4:ص33) وابن حزم في المحلى (ج5:ص124). (وفي رواية أبي داود نحوه مع زيادة) أخرجه أبوداود مطولا، وسكت عنه، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. (وفيه) أي في كتاب أبي داود. (فقام) أي أنس. (عند عجيزة المرأة) بفتح مهملة وكسر جيم، قال الجزري: العجيزة العجز وهي للمرأة خاصة والعجز مؤخر الشيء-انتهى. قال في اللمعات: هو بيان حال وسط السرير. وقال الشوكاني: لا منافاة بين رواية أبي داود، وبين قوله في حديث سمرة "فقام وسطها"؛ لأن العجيزة يقال لها وسط-انتهى. وأجاب الحنفية عن حديث أنس هذا بأن ذلك كان قبل اتخاذ النعش للنساء، ورد بأنه قد صرح في رواية أبي داود بأن أنسا قد صلى كذلك والمرأة كان عليها نعش أخضر.

(10/265)


1694-قوله. (كان سهل بن حنيف) بضم الحاء وفتح النون الأنصاري الأوسي المدني، صحابي من أهل بدر. قال ابن عبدالبر: شهد بدرا والمشاهد كلها، وثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وكان بايعه على الموت، ثم صحب عليا من حين بويع، فاستخلفه على البصرة، ثم شهد معه صفين، وولاه فارس، مات سنة (38) وصلى عليه علي وكبر ستا. وقال ابن سعد: آخي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين علي، ولما توفي كبر عليه علي خمسا ثم التفت إليهم فقال: إنه بدري. (وقيس بن سعد) بسكون العين ابن عبادة بضم العين الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وكان ضخما حسنا جسيما طويلا إذا ركب الحمار خطت رجلاه، وكان من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير. قال ابن عبدالبر: كان أحد الفضلاء الجلة وأحد دهاة العرب، وأهل الرأي والمكيدة في الحروب مع النجدة والبسالة والسخاء والكرم، وكان شريف قومه غير مدافع، وكان أبوه وجده كذلك. شهد قيس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد، وأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم فتح مكة. إذ نزعها من أبيه لشكوى قريش من
قاعدين بالقادسية، فمر عليهما بجنازة، فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي من أهل الذمة، فقالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفسا؟)) متفق عليه.
1695-(36) وعن عبادة بن الصامت، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حبر من اليهود، فقال له:إنا هكذا نصنع يا محمد! قال: فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

(10/266)


سعد يومئذ، وصحب قيس عليا وشهد معه مشاهده، وكان قد أمره علي مصر فاحتال عليه معاوية فلم ينخدع له، فاحتال على أصحاب علي حتى حسنوا له تولية محمد بن أبي بكر فولاه مصر، ففسدت عليه مصر، وارتحل قيس فشهد مع علي صفين، ثم كان مع الحسن بن علي حتى صالح معاوية، فرجع قيس إلى المدينة فأقام بها ومات في آخر خلافة معاوية سنة (60) وقيل بعد ذلك، وكان رجلا سناطا، ليس في وجهه شعرة ولا شيء من لحية وكان مع ذلك جميلا. قال ابن عبدالبر: وكذلك كان شريح وعبدالله بن الزبير لم يكن في وجوههم شعر، قال: وخبره في السراويل عند معاوية كذب وزور مختلق ليس له إسناد، ولا يشبه أخلاق قيس ولا مذهبه في معاوية ولا سيرته في نفسه-انتهى. وحكاياته في سخاء وجوده كثيرة مشهورة، ذكرها ابن عبدالبر وغيره. (قاعدين) بالتثنية والنصب خبر كان. (بالقادسية) بالقاف وكسر الدال والسين المهملتين وتشديد التحتية، مدينة صغيرة ذات نخل ومياه، بينها وبين الكوفة مرحلتان أو خمسة عشر فرسخا. (فمر) بضم الميم على بناء المجهول. وفي رواية: فمروا بصيغة الجمع المعلوم. (إنها) أي الجنازة. (أي من أهل المدينة) تفسير لأهل الأرض أي من أهل الجزية المقرين بأرضهم؛ لأن المسلمين لما فتحوا البلاد أقروهم على عمل الأرض وحمل الخراج. (أليست نفسا) ماتت فالقيام لها لأجل صعوبة الموت وتذكره لا لذات الميت. ومقتضى هذا التعليل أن القيام يستحب لكل جنازة، وقد تقدم بسط الكلام في مسألة القيام للجنازة إذا مرت به، وأجاب القائلون بالنسخ عن هذا الحديث بأنه منسوخ، وأن سهل بن حنيف وقيس بن سعد لم يعلما بالنسخ، ومن علم حجة على من لم يعلم. وتعقب بأنه لم يثبت النسخ بحديث صحيح صريح، فلا يتمشى ذلك. (متفق عليه) وأخرجه أحمد (ج6:ص6) والنسائي والبيهقي (ج4:ص27).

(10/267)


1695- قوله: (فعرض) أي ظهر (حبر) بفتح الحاء المهملة وتكسر أي عالم. (فقال) أي الحبر. (له) - صلى الله عليه وسلم -: (إنا) أي معشر اليهود. (هكذا نضع) أي إذا تبعنا جنازة نقوم، ولا نجلس حتى توضع في اللحد. (فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مخالفة لليهود. وهذا لا يدل على نسخ القيام لها إذا مرت ولا على قيام التابع والمشيع.
وقال: خالفوهم)) رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وبشر بن رافع الراوي ليس بالقوي.
1696- (37) وعن علي، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس) رواه أحمد.

(10/268)


(وقال خالفوهم) وفي رواية أبي داود: وقال اجلسوا خالفوهم. قال القاري: فبقى القول بأن التابع لم يقعد حتى توضع عن أعناق الرجال. (على الأرض) هو الصحيح-انتهى. وقد استدل بعضهم بهذا الحديث على نسخ القيام للجنازة، ولا يخفى ما فيه، فإنه ليس فيه ذكر القيام للجنازة أصلا. واحتج به بعضهم على نسخ القيام للتابع، وهو أيضا متعقب، فإن غاية ما فيه أنه يدل على الأمر بالجلوس قبل الوضع في اللحد، وهذا لا يستلزم بل ولا يقتضي نسخ القيام قبل الوضع بالأرض، فافهم، على أن الحديث ضعيف لا يقاوم حديث أبي سعيد وغيره. هذا وسبق الكلام عليه مفصلا في شرح حديث أبي سعيد في الفصل الأول. (رواه الترمذي وأبوداود) وسكت عنه. (وابن ماجه) وأخرجه أيضا البزار والبيهقي والحازمي. (وبشر) بكسر أوله وسكون ثانيه (بن رافع) أبوالأسباط الحارثي النجراني. (الراوي) بسكون الياء أي أحد رواة هذا الحديث. (ليس بالقوي) في الحديث. وقال أحمد: ليس بشيء ضعيف في الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: منكر الحديث. وقال أبوحاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث لا نرى له حديثا قائما. وقال البزار: لين الحديث وقد احتمل حديثه. وقال ابن عبدالبر في الكنى: هو ضعيف عندهم منكر الحديث، وقال في كتاب الإنصاف: اتفقوا على إنكار حديثه وطرح ما رواه، وترك الاحتجاج به، لا يختلف علماء الحديث في ذلك. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، كذا في تهذيب التهذيب. وفي سنده أيضا عبدالله بن سليمان بن جنادة بن أمية عن أبيه. وعبدالله هذا قال البخاري: فيه نظر لا يتابع على حديثه. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: ضعيف، وأبوه سليمان بن جنادة قال أبوحاتم: منكر الحديث. وقال البخاري: هو حديث منكر، ولم يتابع في هذا. وقال ابن عدي: لم ينكر عليه البخاري غير هذا الحديث.

(10/269)


1696- قوله: (أمرنا بالقيام) أمر ندب. (في الجنازة) أي في حال رؤيتها إذا مرت بنا. وقيل: قبل وضعها على الأرض. (ثم جلس بعد ذلك) لبيان الجواز. (وأمرنا بالجلوس) أي أمر إباحة وتخفيف، فلا دلالة فيه على نسخ القيام للجنازة ولا على نسخ قيام التابع، وقد تقدم الكلام عليه في شرح حديثي أبي سعيد وعلي في الفصل الأول من هذا الباب. (رواه أحمد) (ج1:ص82) ورجاله ثقات وأخرجه أيضا ابن حبان كما في التلخيص، والبيهقي (ج4:ص27) والحازمي (ص121).
1697- (38) وعن محمد بن سيرين، قال: ((إن جنازة مرت بالحسن بن علي وابن عباس، فقام الحسن ولم يقم ابن عباس، فقال الحسن: أليس قد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجنازة يهودي؟ قال: نعم، ثم جلس)) رواه النسائي.
1698- (39) وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، ((أن الحسن بن علي كان جالسا فمر عليه بجنازة، فقام الناس حتى جاوزت الجنازة، فقال الحسن: إنما مر بجنازة يهودي، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريقها جالسا، وكره أن تعلو رأسه جنازة يهودي، فقام)). رواه النسائي.

(10/270)


1697- قوله: (إن جنازة مرت بالحسن بن علي) أي ابن أبي طالب. (قال) أي ابن عباس في جواب الحسن. (نعم) أي قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوائل الأمر. (ثم جلس) بعده، أي فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلا من الأمرين، لكن جلوسه كان متأخرا، فيكون كما سبق من حديث علي رضي الله عليه في الفصل الأول، وهذا هو الظاهر بل المتعين لأن يكون مرادا. وقد استدل به على نسخ القيام للجنازة إذا مرت به. وأجيب بأن مجرد الفعل لا يدل على النسخ لاحتمال أن القعود كان لبيان الجواز، والأمر بالقعود إن ثبت كان للإباحة والتخفيف. (رواه النسائي) ورجال إسناده ثقات، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص200-201) وأخرجه البيهقي والنسائي أيضا من طريق أبي مجلز: أن جنازة مرت بابن عباس والحسن بن علي، فقام أحدهما ولم يقم الآخر، فقال أحدهما: ألم يقم النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال الآخر: بلى، ثم قعد.

(10/271)


1698- قوله: (عن جعفر بن محمد) المعروف بالصادق. (عن أبيه) هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبوجعفر الباقر. (وكره أن تعلو رأسه جنازة يهودي) إيماء إلى أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. (فقام) أي عن الطريق لهذا، فهذا إنكار منه رضي الله عنه على قيام الناس للجنازة، عكس ما سبق منه من الإنكار على ابن عباس على عدم القيام. قيل: كان هذا بعد ما علم الحسن بنسخ القيام، فأشار إلى ذلك مع ذكر العلة التي قام لأجلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: كان إنكاره على ابن عباس؛ لأنه كان على الطريق، وإنكاره على الناس؛ لأنهم لم يكونوا على الطريق، قاله القاري: قلت: إسناد هذا الحديث ضعيف لانقطاعه، فلا يقاوم الحديث السابق، فلا حاجة إلى تكلف الجواب، والتاريخ غير معلوم، فلا يصح دعوى تأخر هذا الحديث. وأما الاختلاف في التعليل الواقع بينه وبين غيره من الأحاديث، فقد تقدم الكلام عليه في شرح حديث جابر في الفصل الأول. (رواه النسائي) وإسناده منقطع، فإن محمد بن علي أبا جعفر الباقر تابعي ثقة ولكن لم يدرك الحسن بن علي عم
1699-(40) وعن أبي موسى، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مرت بكم جنازة يهودي أو نصراني أو مسلم، فقوموا لها، فلستم لها تقومون، إنما تقومون لمن معها من الملائكة)) رواه أحمد.
1700-(41) وعن أنس، ((أن جنازة مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام، فقيل: إنها جنازة يهودي، فقال: إنما قمت للملائكة)) رواه النسائي.
1701- (42) وعن مالك بن هبيرة، قال. (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين، إلا أوجب
أبيه؛ لأنه ولد سنة (56) والحسن مات سنة (50)، قاله الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد.

(10/272)


1699- قوله: (إذا مرت بكم) كذا في بعض النسخ "بكم"، وهكذا في مسند الإمام أحمد (ج4:ص394-413)، وكذا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج3:ص27). ووقع في أكثر نسخ المشكاة "بك" بضمير الإفراد، والظاهر أنه خطأ من الناسخ (جنازة يهودي أو نصراني أو مسلم) أو للتنويع. (فقوموا لها) أمر ندب. (فلستم لها تقومون) أي في الحقيقة. (إنما تقومون لمن معها من الملائكة) أي ملائكة الرحمة إن كانت الجنازة لمسلم، أو ملائكة العذاب إن كانت لكافر. قد يقال هذا مشكل؛ لأنه أثبت القيام لها، ثم نفاه عنها. وقد يجاب بأنه أثبته لها باعتبار الصورة. ونفاه عنها باعتبار باطن الأمر والحقيقة، وإنكار البليغ على رعاية الاعتبارات والحيثيات سائغ شائع، كذا في المرقاة. (رواه أحمد) (ج4:ص391-413) وفيه ليث بن أبي سليم وهو صدوق، لكنه اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه فترك. قاله الحافظ في التقريب. وقال الهيثمي: هو ثقة. ولكنه مدلس-انتهى. ويؤيده حديث أنس الذي يليه.
1700- قوله: (إنما قمت) كذا في جميع النسخ، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ص426)، وكذا وقع في المستدرك للحاكم. وفي النسخ الموجودة عندنا للنسائي: إنما قمنا. (للملائكة) لا لذات الميت فيستوي فيه المسلم وغير المسلم. (رواه النسائي) وأخرجه أيضا الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
1701- قوله: (وعن مالك بن هبيرة) بضم الهاء مصغرا، ابن خالد بن مسلم السكوني أو الكندي، يكنى أباسعيد، صحابي نزل حمص ومصر. ولي حمص لمعاوية، وروى عنه من أهلها جماعة. وذكره محمد بن الربيع الجيزي فيمن شهد فتح مصر من الصحابة، مات في أيام مروان بن الحكم. (إلا أوجب) وذكره الحافظ في الإصابة بلفظ "إلا وجبت له الجنة"، وفي رواية أحمد "إلا غفر له"، وكذا في رواية للحاكم والبيهقي. فمعنى قوله "أوجب"

(10/273)


فكان مالك إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة صفوف لهذا الحديث)) رواه أبوداود. وفي رواية الترمذي، قال: كان مالك بن هبيرة إذا صلى على جنازة فتقال الناس عليها جزأهم ثلاثة أجزاء، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى عليه ثلاثة صفوف أوجب)) وروى ابن ماجه نحوه.
1702- (43) وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على الجنازة: ((اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها إلى الإسلام، وأنت قبضت روحها،

(10/274)


أي ذلك الفعل على الله الجنة أو المغفرة لذلك الميت وعدا منه وفضلا، أو أوجب الله تعالى المغفرة أو الجنة له. (فكان مالك) أي ابن هبيرة. (إذا استقل أهل الجنازة) أي عدهم قليلا (جزأهم) بتشديد الزاي وفي آخره همزة من التجزئة، أي فرقهم وجعل القوم الذين يمكن أن يكونوا صفا واحدا. (ثلاثة صفوف لهذا الحديث) أي ثم صلى عليها. (رواه أبوداود) وسكت عنه. (وفي رواية الترمذي) بالإضافة. (إذا صلى) أي أراد الصلاة. (فتقال الناس عليها) بتشديد اللام تفاعل من القلة أي رآهم قليلين، استقل الشيء وتقاله عده ورآه قليلا. (جزأهم ثلاثة أجزاء) أي فرقهم وجعلهم ثلاثة صفوف وفي رواية أحمد: فكان مالك يتحرى إذا قل أهل جنازة أن يجعلهم ثلاثة صفوف. (ثم قال) أي استدلالا لفعله: (من صلى عليه ثلاثة صفوف) وأقل الصف أن يكون اثنين على الأصح. (أوجب) أي الله تعالى الجنة أو المغفرة لذلك الميت. (وروى ابن ماجه نحوه) أي معناه، وهو كان إذا أتي بجنازة فتقال من تبعها جزأهم ثلاثة صفوف ثم صلى عليها. وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما صف صفوف ثلاثة من المسلمين على ميت إلا أوجب-انتهى. والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج4:ص79) والحاكم (ج1:ص362) والبيهقي (ج4:ص30) كلهم من طريق ابن إسحاق عن يزيد ابن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبدالله اليزنى عن مالك بن هبيرة، وقد سكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وفيه محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن. وقال الحافظ في الإصابة في ترجمة مالك بن هبيرة: قد اختلف على ابن إسحاق فيه، أدخل بعضهم عنه بين أبي الخير وبين مالك بن هبيرة الحارث بن مالك، كذا وقع في المعرفة لابن مندة، وذكره الترمذي، وقال: تفرد به إبراهيم بن سعد، ورواية الجماعة أصح عندنا-انتهى.

(10/275)


1702- قوله: (أنت ربها) أي سيدها ومالكها. (وأنت خلقتها) أي ابتداء. (وأنت هديتها إلى الإسلام) المشتمل على الإيمان انتهاء. وفي بعض النسخ من سنن أبي داود: للإسلام. (وأنت قبضت روحها)
وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر له)) رواه أبوداود.
1703- (44) وعن سعيد بن المسبب، قال: ((صليت وراء أبي هريرة على صبي لم يعمل خطيئة قط، فسمعته يقول: اللهم أعذه من عذاب القبر))
أي أمرت بقبض روحها. (وأنت أعلم بسرها وعلانيتها) بتخفيف الياء أي باطنها وظاهرها. (جئنا) أي حضرنا. (شفاء) له بين يديك. (فاغفر له) وفي بعض النسخ من سنن أبي داود "لها" كما في رواية النسائي، وتأنيث الضمير باعتبار النفس أو الروح التي هي الأصل، والتذكير باعتبار الشخص أو الميت. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة، والبيهقي (ج4:ص42).

(10/276)


1703- قوله: (وعن سعيد بن المسيب) بفتح التحتية المشددة وتكسر، ابن حزن بن أبي وهب القرشي المخزومي المدني، يكنى أبا محمد، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب، كان سيد كبار التابعين، جمع بين الفقه والحديث والزهد والعباد والورع، وهو المشار إليه المنصوص عليه، وكان أعلم الناس بحديث أبي هريرة، وقضايا عمر، لقي جماعة كثيرة من الصحابة، وروى عنهم، وعنه الزهري وكثير من التابعين وغيرهم. قال مكحول إمام أهل الشام: طفت الأرض كلها في طلب العلم فما لقيت أعلم من ابن المسيب، اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل. وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علما منه. وقال ابن المسيب: حججت أربعين حجة مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين. (صليت وراء أبي هريرة على) جنازة (صبي) قال الباجي: الصلاة على الصبي قربة له ورغبة في إلحاقه بصالح السلف، ولا خلاف في وجوب الصلاة عليه. (لم يعمل خطيئة قط) أي أبدا لموته قبل البلوغ، وقد رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، قال ابن حجر قوله: لم يعمل خطيئة، صفة كاشفة، إذ لا يتصور في غير بالغ عمل ذنب-انتهى. قال القاري : ويمكن أن يحمل على المبالغة في نفي الخطيئة عنه ولو صورة. وقال الدسوقي يؤخذ من هذا أن الأطفال يسئلون، وقيل: لا يسئلون، وقيل: بالوقف، وهو الحق؛ لأنه لم يرو نص بشيء. (فسمعته) أي أبا هريرة. (يقول) في دعائه بعد قراءة الفاتحة والصلاة على النبي. (اللهم أعذه) أمر من الإعاذة أي أجره. (من عذاب القبر) قال القاضي: يحتمل أن يكون أبوهريرة اعتقد شيئا سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أن عذاب القبر عام في الصغير والكبير، وأن الفتنة فيه لا تسقط عن الصغير بعدم التكليف في الدنيا، أي لأن الله تعالى يفعل ما يشاء، وقال ابن عبدالبر: عذاب القبر غير فتنة القبر، ولو عذب الله عباده أجمعين كان غير ظالم لهم؛ لأنه لا يسئل عما يفعل، وقال بعضهم: ليس المراد بعذاب القبر هنا عقوبة بل

(10/277)


مجرد الألم بالغم
رواه مالك.
1704- (45) وعن البخاري تعليقا، قال: يقرأ الحسن على الطفل فاتحة الكتاب، ويقول: اللهم
اجعله لنا سلفا وفرطا وذخرا وأجرا.
والحسرة والوحشة والضغطة، وذلك يعم الأطفال وغيرهم. وقال أبوعبدالملك: يحتمل أنه قال ذلك على العادة في الصلاة على الكبير، أو ظن أنه كبير أو دعا له على معنى الزيادة أي في الدرجات، كما كانت الأنبياء عليهم السلام تدعوا الله أن يرحمها وتستغفره، كذا في شرح الموطأ للزرقاني، ولا يستغفر للصبي عند الحنفية، ولا يأتي بشيء من دعاء البالغين في الصلاة عليه، بل يقتصر على قوله: اللهم اجعله لنا فرطا الخ. (رواه مالك) عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: صلت وراء أبي هريرة الخ.

(10/278)


1704- قوله: (وعن البخاري تعليقا) التعليق أن يحذف من مبدأ إسناده واحد فأكثر على التوالي ويعزى الحديث إلى من فوق المحذوف من رواته، واستعمله بعضهم في حذف كل الإسناد، كما هنا، مثاله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، قال ابن عباس كذا، قال سعيد بن المسيب كذا، عن أبي هريرة كذا. قالوا: تعليقات البخاري في حكم المسانيد. وقال النووي: فما كان منه بصيغة الجزم، كقال وفعل وأمر وروى وذكر معروفا فهو حكم بصحته عن المضاف إليه، وما ليس فيه جزم، كروي ويذكر ويحكى، ويقال وحكي عن فلان وروي وذكر مجهولا فليس فيه حكم بصحته عن المضاف إليه، ومع ذلك فإيراده في كتاب الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارا يؤنس به ويركن إليه، وعلى المدقق إذا رام الاستدلال به أن ينظر في رجاله وحال سنده ليرى صلاحيته للحجة وعدمها. (قال) أي البخاري نقلا عن الحسن: (يقرأ الحسن) أي كان يقرأ الحسن وهو البصري، وما وقع في جامع الأصول (ج7:ص147) أنه الحسن بن علي بن أبي طالب فهو وهم من ابن الأثير. (على الطفل) أي على جنازته. (فاتحة الكتاب) أي بعد التكبيرة الأولى. (ويقول) أي بعد القراءة والصلاة على النبي. (اللهم اجعله) أي الطفل (سلفا) بفتحتين أي متقدما إلى الجنة لأجلنا. قال في النهاية: قيل هو من سلف المال كأنه قد أسلفه وجعله ثمنا للأجر والثواب الذي يجازى على الصبر عليه، وقيل: سلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوى قرابته، ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح. (وفرطا) بالتحريك هو الذي يتقدم القوم الواردة فيهيء لهم أسباب المنزل كالأرسان والدلاء ونحوها ويرد الحياض ويستقي لهم. (وذخرا) بضم الذال وسكون الخاء أي ذخيرة. (وأجرا) أي ثوابا جزيلا. قال ميرك: عبارة البخاري هكذا وقال الحسن: يقرأ (أي المصلى) على الطفل بفاتحة الكتاب، ويقول: اللهم اجعله لنا فرطا وسلفا وأجرا. فعلى

(10/279)


1705-(46) وعن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( الطفل لا يصلى عليه، ولا يرث، ولا يورث، حتى يستهل)).
المصنف أن يقول وعن الحسن أنه قال:.. الخ، ثم يقول في آخره: رواه البخاري عنه تعليقا، فإن البخاري من جملة المخرجين، لا من جملة الرواة الذين التزم المصنف ذكرهم، وأيضا يفهم من رواية البخاري أن الحسن كان يأمر بذلك، ومن إيراد المصنف يفهم أنه كان يفعله، وبين العبارتين فرق ظاهر، وأيضا فإن لفظه "ذخرا" ليست في رواية البخاري، كما ترى مع أن في عبارة المصنف تقديما وتأخيرا أيضا، تأمل، ولعل في نسخة المصنف من البخاري: وكان الحسن يقرأ على الطفل، وصحف قال بكان، فوقع فيما وقع، كذا في المرقاة. قال الحافظ في الفتح: وصل هذا الأثر عبدالوهاب بن عطاء الخفاف في كتاب الجنائز له عن سعيد بن أبي عروبة أنه سئل عن الصلاة على الصبي فأخبرهم عن قتادة عن الحسن أنه كان يكبر ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثم يقول: اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وأجرا-انتهى. وهذا يؤيد ما وقع في المشكاة من أن الحسن كان يفعله، وذكر ابن الأثير هذا الأثر في جامع الأصول (ج7ص147) عزوا إلى البخاري بلفظ: قال. (أي الحسن) يقرأ على الطفل فاتحة الكتاب ويقول: اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وذخرا وأجرا. قال الحافظ في التلخيص (ص161): روى البيهقي من حديث أبي هريرة أنه كان يصلي على النفوس: اللهم اجعله لنا فرطا وسلفا وأجرا. وفي جامع سفيان عن الحسن في الصلاة على الصبي: اللهم اجعله لنا سلفا واجعله لنا فرطا واجعله لنا أجرا.

(10/280)


1705- قوله: (الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل) أي يصيح عند ولادته، وحمله الجمهور على أن المراد منه إمارة الحياة، أي يوجد منه إمارة الحياة، وعبر بالاستهلال لأنه المعتاد وهو الذي يعرف به الحياة عادة. قال في المجمع: استهلال الصبي تصويته عند ولادته، أراد العلم بحياته بصياح أو اختلاج أو نفس أو حركة أو عطاس-انتهى. وقال ابن الهمام: الاستهلال أن يكون منه ما يدل على الحياة من حركة عضو أو رفع صوت-انتهى. وأخرج البزار عن ابن عمر مرفوعا: استهلال الصبي العطاس. قال الحافظ: وإسناده ضعيف-انتهى. والحديث يدل على أنه لا يصلى على المولود إلا إذا استهل، وفيه اختلاف. قال الخطابي في المعالم: اختلف الناس في الصلاة على السقط، فروي عن ابن عمر أنه قال: يصلى عليه وإن لم يستهل، وبه قال ابن سيرين وابن المسيب. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية: كلما نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر وعشر صلي عليه. وقال إسحاق: إنما الميراث بالاستهلال، فأما الصلاة فإنه يصلى عليه؛ لأنه نسمة تامة قد كتب عليها الشقاوة والسعادة، فلأي شيء تترك الصلاة عليه؟ وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا استهل ورث وصلى عليه،
رواه الترمذي، وابن ماجه إلا أنه لم يذكر: ولا يورث.

(10/281)


وعن جابر إذا استهل صلي عليه، وإن لم يستهل لم يصل عليه، وبه قال أصحاب الرأي، وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي-انتهى كلام الخطابي. وقد رجح المجد بن تيمية في المنتقى قول أحمد حيث قال: وإنما يصلى عليه إذا نفخت فيه الروح، وهو أن يستكمل أربعة أشهر، فأما إن سقط لدونها فلا؛ لأنه ليس بميت إذ لم ينفخ فيه روح، وأصل ذلك حديث ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح. متفق عليه-انتهى. قال الشوكاني بعد ذكر كلام ابن تيمية هذا: ومحل الخلاف فيمن سقط بعد أربعة أشهر ولم يستهل، وظاهر حديث الاستهلال أنه لا يصلى عليه وهو الحق؛ لأن الاستهلال يدل على وجود الحياة قبل خروج السقط كما يدل على وجودها بعده، فاعتبار الاستهلال من الشارع دليل على أن الحياة بعد الخروج من البطن معتبرة في مشروعية الصلاة على الطفل، وأنه لا يكتفى بمجرد العلم بحياته في البطن فقط-انتهى كلام الشوكاني.. (رواه الترمذي) في الجنائز بهذا اللفظ من طريق إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف الحديث، عن أبي الزبير وهو مدلس، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (وابن ماجه) في الجنائز، وفي الفرائض من طريق الربيع بن بدر عن أبي الزبير، والربيع بن بدر ضعفوه. (إلا أنه) أي ابن ماجه. (لم يذكر: ولا يورث) لفظ ابن ماجه: هكذا إذا استهل الصبي صلى عليه وورث. وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والبيهقي والحاكم، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في التلخيص (ص157) بعد ذكر هذا الحديث: أخرجه الترمذي والنسائي (في الكبرى) وابن ماجه والبيهقي، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي عن أبي الزبير وهو ضعيف. قال الترمذي: رواه أشعث وغير واحد عن أبي الزبير

(10/282)


عن جابر موقوفا، وكأن الموقوف أصح، وبه جزم النسائي، وقال الدارقطني في العلل: لا يصح رفعه، وقد روي عن شريك عن أبي الزبير مرفوعا ولا يصح، ورواه ابن ماجه من طريق الربيع بن بدر عن أبي الزبير مرفوعا، والربيع ضعيف، ورواه ابن أبي شيبة من طريق أشعث بن سوار عن أبي الزبير موقوفا، ورواه النسائي أيضا وابن حبان في صحيحه والحاكم من طريق إسحاق الأزرق عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووهم لأن أبا الزبير ليس من شرط البخاري، وقد عنعن، فهو علة هذا الخبر إن كان محفوظا عن سفيان الثوري، ورواه الحاكم أيضا من طريق المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير مرفوعا، وقال: لا أعلم أحدا رفعه عن أبي الزبير غير المغيرة، وقد وقفه ابن جريج وغيره، ورواه أيضا من طريق بقية عن الأوزاعي عن أبي الزبير مرفوعا-انتهى كلام الحافظ في التلخيص. وفي الباب عن علي وابن عباس أخرجهما ابن عدي في الكامل.
1706-(47) وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه، يعني أسفل منه)). رواه الدارقطني في المجتبى في كتاب الجنائز.
(6) باب دفن الميت
?الفصل الأول?
1707-(1) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن سعد بن أبي وقاص قال في مرضه الذي هلك فيه: ((ألحدوا لي لحدا، وانصبوا علي اللبن نصبا، كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -))

(10/283)


1706- قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم) أي من أن يقف. (الإمام) أي وحده في صلاة الجنازة والمكتوبة وغيرها مما تشرع فيه الجماعة. (فوق شيء والناس خلفه) أي خلف ذلك الشيء. (يعني أسفل منه) ويعلم النهي من العكس بالطريق الأولى، والحديث يدل على كراهة ارتفاع الإمام عن المؤتمين، وقد سبق الكلام عليه في باب الموقف. (رواه الدارقطني في المجتبى) اسم كتاب له، قاله القاري. والظاهر أن المراد به كتاب السنن للدارقطني المشهور. (في كتاب الجنائز) فيه إيماء إلى وجه مناسبة، ذكره في هذا الباب مع أن الأنسب ذكره في باب الموقف من هذا الكتاب. والحديث أخرجه الحاكم والبيهقي، وسكت عنه الحاكم والذهبي، وأخرجه أبوداود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي أيضا عن همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبومسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، قد ذكرت حين مددتني.
(باب دفن الميت)
1707- قوله: (هلك) أي مات. (ألحدوا) بوصل الهمزة من لحد، كمنع، أو بقطع الهمزة من الحد. (لي) أي لأجلي. (لحدا) بفتح اللام مفعول مطلق من بابه، أو من غيره، أو مفعول به على تجريد في الفعل، أي اجعلوا لي لحدا، واللحد الشق الذي يعمل في جانب القبر القبلي لوضع الميت. (وانصبوا) بكسر الصاد من ضرب أي أقيموا. (علي) أي فوقى. (اللبن) بكسر الباء، في القاموس: اللبن ككتف المضروب من الطين مربعا للبناء. (كما صنع برسول الله) أي بقبره. قال النووي: فيه استحباب اللحد ونصب اللبن؛ لأنه فعل ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -
رواه مسلم.
1708-(2) وعن ابن عباس، قال: ((جعل في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء)).

(10/284)


باتفاق الصحابة، وقد نقلوا أن عدد لبناته - صلى الله عليه وسلم - تسع-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص169، 173، 184)، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي. وفي الباب عن جابر عند ابن حبان والبيهقي، وعن ابن عمر عند أحمد، وعن عائشة عند ابن حبان، وعن علي عند الحاكم، وعن بريدة عند ابن عدي في الكامل، والطبراني في الأوسط.
1708- قوله: (جعل في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء) هي كساء له خمل، وهو الهداب، وهداب الثوب الخيوط التي تبقى في طرفيه من عرضيه دون حاشيتيه، وجعل بضم الجيم مبني للمفعول، والجاعل لذلك هو شقران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فروى الترمذي من حديثه قال: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر، وقال: حسن غريب. وروى ابن إسحاق في المغازي، والحاكم في الإكليل من طريقه، والبيهقي (ج3ص408) عنه من طريق ابن عباس قال: كان شقران حين وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حفرته أخذ قطيفة كان يلبسها ويفترشها فدفنها معه في القبر وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك فدفنت معه. وروى الواقدي عن علي بن حسين: أنهم أخرجوها. وبذلك جزم ابن عبدالبر حيث قال في الاستيعاب: وطرح في قبره سمل قطيفة كان يلبسها، فلما فرغوا من وضع اللبن أخرجوها وهالوا التراب على لحده-انتهى. وقال الحافظ العراقي في ألفيته في السيرة: وفرشت في قبره قطيفة. وقيل: أخرجت، وهذا أثبت. والحديث يدل على جواز افتراش الثوب في القبر تحت الميت، وإليه ذهب البغوي وابن حزم، وذهب الجمهور إلى كراهته، وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران فرشها من غير علم الصحابة بذلك. قال النووي: قال العلماء وإنما جعلها شقران برأيه، ولم يوافقه أحد من الصحابة، ولا علموا بفعله. وفي رواية للترمذي إشارة إلى هذا، ذكره الزيلعي. وقيل: هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: دفنت معه ثم استخرجت قبل أن يهال

(10/285)


التراب. قال النووي في شرح مسلم: هذه القطيفة ألقاها شقران، وقال: كرهت أن يلبسها أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نص الشافعي وجميع أصحابنا وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة أو نحو ذلك تحت الميت في القبر، وشذ عنهم البغوي من أصحابنا فقال في كتابه التهذيب: لا بأس بذلك لهذا الحديث، والصواب كراهته، كما قاله الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران انفرد بفعل ذلك ولم يوافقه غيره من الصحابة ولا علموا ذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهة أن يلبسها أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبسها ويفترشها، فلم تطب نفس شقران أن يتبذلها أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخالفه غيره، فروى البيهقي عن ابن عباس أنه كره
رواه مسلم.
1709-(3) وعن سفيان التمار: ((أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنما)).
أن يجعل تحت الميت ثوب في قبره-انتهى كلام النووي. (رواه مسلم) وأخرجه النسائي وابن حبان أيضا، قال الحافظ في التلخيص: وروى ابن أبي شيبة، وأبوداود في المراسيل عن الحسن نحوه، وزاد: لأن المدينة أرض سبخة-انتهى.

(10/286)


1709- قوله: (وعن سفيان التمار) بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الميم، هو سفيان بن دينار التمار أبوسعيد العصفري الكوفي، ثقة من كبار أتباع التابعين، وقد لحق عصر الصحابة، ولم تعرف له رواية عن صحابي، ووقع في جامع الأصول (ج11ص394) عبدالله بن عباس مكان سفيان التمار، وهو خطأ واضح وغلط بين. (أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنما) بتشديد النون المفتوحة، ورواه ابن أبي شيبة وزاد: وقبر أبي بكر وقبر عمر كذلك، وكذلك رواه أبونعيم وذكر هذه الزيادة التي ذكرها ابن أبي شيبة. قال الطيبي: تسنيم القبر هو أن يجعل كهيئة السنام، وهو خلاف تسطيحة. وقال السيد جمال الدين: المسنم المحدب كهيئة السنام خلاف المسطح. وقال في القاموس: التسنيم ضد التسطيح وقال: سطحه كمنعه بسطه. واستدل بهذا على أن المستحب تسنيم القبور. وقد اختلف العلماء في الأفضل من التسنيم والتسطيح أي التربيع بعد الاتفاق على جواز الكل، فذهب مالك وأحمد وأبوحنيفة وكثير من الشافعية منهم المزني إلى أن تسنيم القبر أفضل من تسطيحه، وذهب الشافعي وأكثر الشافعية إلى أن التسطيح أفضل، وتمسك الأولون بقول سفيان التمار المذكور، وبما في مصنف ابن أبي شيبة: ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي حصين عن الشعبي: رأيت قبور شهداء أحد جثى مسنمة، وبما قال الطبري: ثنا ابن بشار ثنا عبدالرحمن ثنا خالد بن أبي عثمان قال: رأيت قبر ابن عمر مسنما، وبما قال إبراهيم النخعي: أخبرني من رأى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه مسنمة ناشزة من الأرض عليها مرمر أبيض ذكره العيني، وبما قال الطبري: إن هيئة القبور سنة متبعة، ولم يزل المسلمون يسنمون قبورهم، وبما قال المزني: إن المسطح يشبه ما يصنع للجلوس بخلاف المسنم فإنه ليس موضع الجلوس، وقد نهى عن الجلوس على القبور، وبما قال ابن قدامة إن التسطيح يشبه أبنية أهل الدنيا، وهو أشبه بشعار أهل البدع يعني الرافضة. واستدل القائلون

(10/287)


بأفضلية التسطيح، بما قال الشافعي: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سطح قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه الحصباء ورش عليه الماء. قال القسطلاني: وفعله - صلى الله عليه وسلم - حجة لا فعل غيره، وفيه أن هذا البلاغ مرسل أو معضل فلا يكون حجة، وبحديث أبي الهياج الأسدي الآتي. قال الشوكاني في السيل الجرار: حديث أبي الهياج يدل على أن التربيع
رواه البخاري.
1710-(4) وعن أبي الهياج الأسدي،
أفضل؛ لأن في التسنيم بعض أشراف. وأجيب عنه بأنه محمول على ما كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء الحسن العالي، قاله ابن الجوزي. وقال ابن الهمام: هذا الحديث محمول على ما كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء العالي، وليس مرادنا ذلك بتسنيم القبر بل بقدر ما يبدو من الأرض ويتميز عنها. وقال الطبري: تسوية القبور ليست بتسطيح، وبما في حديث القاسم بن محمد في آخر الفصل الثاني من هذا الباب فكشفت (عائشة) لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. قال ابن الملك: أي مسوأة مبسوطة على الأرض. قال ابن حجر: هو صريح في أن القبور الثلاثة مسطحة لا مسنمة-انتهى. قيل: ولا حجة في قول سفيان التمار، كما قال البيهقي، والنووي، والبغوي، لاحتمال أن قبره - صلى الله عليه وسلم - وقبري صاحبيه لم تكن مسنمة في الأزمنة الماضية بل كانت مسطحة، ثم لما بنى جدار القبر في إمارة عمر بن عبدالعزيز على المدينة من قبل الوليد بن عبدالملك غيروها وصيروها مسنمة. قال البيهقي: حديث القاسم يدل على التسطيح، وهو أصح وأولى أن يكون محفوظا. وفيه أن هذا خلاف اصطلاح أهل هذا الشأن بل حديث التمار أصح؛ لأنه مخرج في صحيح البخاري، وحديث القاسم لم يخرج في شيء من الصحيح. قال ابن قدامة: حديث التمار أثبت من حديث القائلين بالتسطيح وأصح فكان العمل به أولى-انتهى. على أن في إسناده عمرو بن عثمان بن هانيء، وهو مستور، كما في التقريب، فلا يكون حديثه هذا

(10/288)


صحيحا فضلا عن أن يكون أصح من حديث التمار وإن سكت عنه أبوداود والمنذري والزيلعي والحافظ، ولو سلم صحته فليس فيه دليل على التسطيح فإن المعنى. (لا مشرفة) أي مرتفعة غاية الارتفاع، وقيل: أي عالية أكثر من شبر. (ولا لاطئة) أي مستوية على وجه الأرض. (مبطوحة بالبطحاء العرصة) أي ملقاة فيها البطحاء. قال الطحاوي بعد ذكر حديث القاسم: ليس في هذا دليل على تربيع ولا تسنيم؛ لأنه يجوز أن تكون مبطوحة بالبطحاء، وهي مسنمة، وفي التجريد للقدوري: يحتمل أن تكون مبطوحة والتسنيم في وسطها فهذا الخبر محتمل، وحديث التمار صريح في التسنيم، فليس بينهما مخالفة حتى يحتاج إلى الجمع والتوفيق هذا، وقد رجح الشوكاني التسطيح، والأفضل عندي هو التسنيم، والله تعالى أعلم. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (ص134) والبيهقي (ج4ص3).
1710- قوله: (وعن أبي الهياج) بفتح الهاء وتشديد الياء المثناة من تحت وآخره جيم. (الأسدي) بفتح السين وبسكن اسمه حيان بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية وآخره نون، ابن حصين الكوفي من ثقات التابعين،
قال: قال لي علي: (( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته)). رواه مسلم.
1711-(5) وعن جابر، قال: (( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن يجصص القبر،

(10/289)


وليس له في مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي إلا هذا الحديث الواحد. (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ألا أرسلك للأمر الذي أرسلني له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما ذكر تعديته بحرف "على" لما في البعث من معنى الاستعلاء والتأمير، أي أجعلك أميرا على ذلك، كما أمرني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (أن لا تدع) "أن" مصدرية و "لا" نافية خبر مبتدأ محذوف، أي هو أن لا تدع. وقيل: "أن" تفسيرية و "لا" ناهية أي لا تترك. (تمثالا) أي صورة، والمراد صورة ذي روح. (إلا طمسته) أي محوته وأبطلته بقطع رأسه وتغيير وجهه ونحو ذلك. (ولا قبرا مشرفا) بكسر الراء من أشرف إذا ارتفع، والمراد هو الذي بني عليه حتى ارتفع دون الذي أعلم عليه بالرمل والحصا والحجر ليعرف فلا يوطأ، ولا فائدة في البناء عليه فلذلك نهي عنه. (إلا سويته) قال في المجمع: الجمهور على أن الارتفاع المأمور إزالته ليس هو التسنيم، ولا ما يعرف به القبر كي يحترم، وإنما هو ارتفاع كثير تفعله الجاهلية، فإن التسنيم صفة قبره - صلى الله عليه وسلم --انتهى. وتقدم كلام ابن الهمام بنحو هذا، وفي الأزهار قال العلماء: يستحب أن يرفع القبر قدر شبر، ويكره فوق ذلك، ويستحب الهدم، ففي قدره خلاف، قيل: إلى الأرض تغليظا، وهذا أقرب إلى اللفظ أي لفظ الحديث من التسوية. وقال الشوكاني في النيل: قوله "ولا قبرا مشرفا إلا سويته" فيه أن السنة أن لا يرفع القبر رفعا كثيرا من غير فرق بين من كان فاضلا ومن كان غير فاضل، والظاهر أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرم، وقد صرح بذلك أصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ومالك، ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولا أوليا القبب والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعل ذلك. وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور

(10/290)


وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص96و 111و 129و 145) والترمذي، وأبوداود، والنسائي، والبيهقي، والحاكم.
1711- قوله: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر) أي عن تجصيص القبر أي بناءه
وأن يبني عليه، وأن يقعد عليه)).

(10/291)


بالقصة. وفي رواية لمسلم: نهى عن تقصيص القبور بالقاف والصاد المهملتين، وهو التجصيص. والقصة بفتح القاف وتشديد الصاد هي الجص. قال في الأزهار: النهى عن تجصيص القبور للكراهة، وهو يتناول البناء بذلك. وتجصيص وجهه. قلت: الحديث دليل على تحريم تجصيص القبر؛ لأن الأصل في النهي التحريم، ولا يعرف صارف عن هذا الأصل. قال العراقي: ذكر بعضهم أن الحكمة في النهي عن تجصيص القبور كون الجص أحرق بالنار، وحينئذ فلا بأس بالتطيين، كما نص عليه الشافعي، وقال ابن قدامة بعد ذكر هذا الحديث: فيه دليل على الرخصة في تطيين القبر لتخصيصه التجصيص بالنهي، نهى عمر بن عبدالعزيز أن يبنى على القبر بآجر فأوصى بذلك، وأوصى الأسود بن يزيد أن لا تجعلوا على قبري آجرا، وقال إبراهيم: كانوا يكرهون الآجر في قبورهم. وقال ابن قدامة: سئل أحمد عن تطيين القبور فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، ورخص في ذلك الحسن والشافعي، وروى أحمد بإسناده عن نافع عن ابن عمر: أنه كان يتعاهد قبر عاصم بن عمر، قال نافع: وتوفي ابن له، وهو غائب، فقدم فسألنا عنه فدللناه عليه فكان يتعاهد القبر ويأمر بإصلاحه، وروي عن الحسن عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يزال الميت يسمع الأذان ما لم يطين قبره. أو قال ما لم يطو قبره-انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص165): ذكر صاحب مسند الفردوس عن الحاكم: أنه روى من طريق ابن مسعود مرفوعا: لا يزال الميت يسمع الأذان ما لم يطين قبره. وإسناده باطل، فإنه من رواية محمد بن القاسم الطالقاني، وقد رموه بالوضع، قال: وقد روى أبوبكر النجاد من طريق جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع قبره من الأرض شبرا وطين بطين أحمر من العرصة-انتهى. واختلفت الحنفية في ذلك فكرهه الكرخي. وقال في الفتاوى المنصورية والمضمرات والخانية: لا بأس به. (وأن يبنى عليه) يحتمل أن المراد البناء على نفس القبر ليرتفع عن أن

(10/292)


ينال بالوطأ، أو المراد البناء حول القبر مثل أن يتخذ حوله متربة أو مسجد ونحو ذلك. قال العراقي: وعليه حمله النووي في شرح المهذب، وقال التوربشتي: يحتمل وجهين: أحدهما البناء على القبر بالحجارة وما يجرى مجراها، والآخر أن يضرب عليه خباء ونحوه، وكلاهما منهى عنه؛ لأنه من صنيع أهل الجاهلية، ولأنه اضاعة المال. وقال الشوكاني: فيه دليل على تحريم البناء على القبر، وفصل الشافعي وأصحابه فقالوا: إن كان البناء في ملك المباني فمكروه، وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام، ولا دليل على هذا التفصيل. وقد قال الشافعي: رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى، ويدل على الهدم حديث علي المتقدم-انتهى. قلت: الأمر كما قال الشوكاني. (وأن يقعد عليه) بالبناء للمفعول كالفعلين السابقين. قال الطيبي: المراد من القعود هو الجلوس، كما هو الظاهر، وقد نهى عنه لما فيه من الاستخفاف بحق أخيه المسلم، وحمله جماعة على قضاء الحاجة، والأول هو الصحيح، لما أخرجه الطبراني والحاكم عن عمارة بن حزم قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا على قبر فقال: يا صاحب القبر انزل من على القبر، لا تؤذي صاحب القبر

(10/293)


ولا يؤذيك. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود: أنه سئل عن الوطء على القبر، قال: كما أكره أذى المؤمن في حياته فإني أكره أذاه بعد موته، كذا في المرقاة. وحديث عمارة هذا عزاه الهيثمي للطبراني في الكبير، وقال: وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام، وقد وثق. وذكر أثر ابن مسعود بلفظ: لأن أطأ على جمرة أحب إلى من أن أطأ على قبر مسلم، وعزاه للطبراني أيضا قال: وفيه عطاء بن سائب وفيه كلام، وقد اختلف العلماء في الجلوس على القبر لغير قضاء الحاجة. فقال الحسن البصري وابن سيرين وسعيد بن جبير ومكحول وأحمد وإسحاق وأبوسليمان داود، وكثير من الشافعية منهم النووي بتحريم الجلوس مطلقا. قال العيني: ويروى ذلك أي كراهة الجلوس على القبر مطلقا أيضا عن عبدالله وأبي بكرة وعقبة بن عامر وأبي هريرة وجابر، وإليه ذهبت الظاهرية. وقال ابن حزم في المحلى لا يحل لأحد أن يجلس على قبر، وهو قول أبي هريرة، وجماعة من السلف، واستدل لذلك بحديث جابر، وما في معناه من الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة، وهي كثيرة. وذهب أبوحنيفة وصاحباه، وجماعة من الشافعية إلى أن القعود على القبر لغير قضاء الحاجة مكروه فقط، أي يكره تنزيها لا تحريما، وكذا وطؤه والاتكاء إليه. قال في الأزهار: نقلا عن بعض العلماء: الأولى أن يحمل من هذه الأحاديث ما فيه التغليظ على الجلوس للحدث، فإنه يحرم، وما لا تغليظ فيه على الجلوس المطلق فإنه مكروه، والاتكاء والاستناد كالجلوس المطلق، نقله السيد جمال الدين. وقال مالك والطحاوي: لا يكره الجلوس على القبر، وحمل مالك أحاديث النهي على الجلوس لقضاء الحاجة. قال النووي: هو تأويل ضعيف أو باطل. وقال أحمد: ليس هذا بشيء، ولم يعجبه رأي مالك، واحتج الطحاوي لذلك القول بما روي عن ابن عمر أنه كان يجلس على القبور. وأخرج عن علي نحوه، وعن زيد بن ثابت: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجلوس على القبر لحدث غائط أو بول، ورجال إسناده

(10/294)


ثقات. قال السندي: ويؤيد الحمل على ظاهره ما جاء من النهي عن وطئه. وقال الحافظ: ويؤيد قول الجمهور ما أخرجه أحمد (والنسائي) عن عمرو بن حزم الأنصاري مرفوعا: لا تقعدوا على القبور. وفي رواية له، أي لأحمد عنه: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا متكئ على قبر، فقال: لا تؤذ صاحب القبر، إسناده صحيح، وهو دال على أن المراد بالجلوس القعود على حقيقته. ورد ابن حزم التأويل المتقدم بأن لفظ حديث أبي هريرة عند مسلم: لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، قال: وما عهدنا أحدا يقعد على ثيابه للغائط، فدل على أن المراد القعود على حقيقته. وقال ابن بطال: التأويل المذكور بعيد؛ لأن الحدث على القبر أقبح من أن يكره الجلوس المتعارف-انتهى. والراجح عندي هو قول الجمهور أنه يحرم الجلوس على القبر مطلقا، والله تعالى أعلم.
رواه مسلم.
1712- (6) وعن أبي مرثد الغنوي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)) رواه مسلم.
1713- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن يجلس أحدكم على جمرة
(رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وسيأتي لفظه وابن حبان والحاكم والبيهقي.

(10/295)


1712- قوله: (وعن أبي مرثد) بفتح الميم وسكون الراء بعدها مثلثة. (الغنوي) بمعجمة ونون مفتوحتين، نسبة إلى غني بن يعصر، اسمه كناز بفتح الكاف وتشديد النون وآخره زاي. ابن الحصين بن يربوع صحابي بدري، مشهور بكنيته، حليف حمزة بن عبدالمطلب، وكان تربه. قال ابن عبدالبر: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عبادة بن الصامت، شهد سائر المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومات سنة (12) من الهجرة في خلافة أبي بكر وهو ابن (66) سنة، وكان فيما قيل رجلا طويلا كثير الشعر، ويعد في الشاميين، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث الباب، وروى عنه واثلة بن الأسقع. (لا تجلسوا على القبور) هذا دليل واضح على تحريم الجلوس على القبر مطلقا، وإليه ذهب الجمهور، وهو الصحيح. قال ابن الهمام: وكره الجلوس على القبر ووطؤه، وحينئذ فما يصنعه الناس ممن دفنت أقاربه ثم دفنت حواليه خلق من وطأ تلك القبور إلى أن يصل إلى قبر قريبه مكروه، ويكره النوم عند القبر، وقضاء الحاجة بل أولى، ويكره كل ما لم يعهد من السنة، والمعهود منها ليس إلا زيارتها. والدعاء عندها قائما كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل في الخروج إلى البقيع-انتهى. (ولا تصلوا إليها) أي مستقبلين إليها لما فيه من التعظيم البالغ. قال القاري: ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر أو لصاحبه لكفر المعظم، فالتشبه به مكروه، وينبغي أن تكون كراهة تحريم. قلت: الحديث يدل على تحريم الصلاة إلى القبر مطلقا، ويدل عليه أيضا ما روي عن ابن عباس مرفوعا: لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر. رواه الطبراني في الكبير. قال الهيثمي: وفيه عبدالله بن كيسان المروزي، ضعفه أبوحاتم، ووثقه ابن حبان. وما روى عن واثلة بن الأسقع قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي إلى القبور أو نجلس عليها. أخرجه الطبراني أيضا، وفيه الحجاج بن أرطاة. وما روي عن أنس: أن

(10/296)


النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بين القبور. أخرجه البزار. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص135) وأبوداود والترمذي والبيهقي، وعزاه المنذري في مختصر السنن، والنابلسي في ذخائر المواريث للنسائي أيضا.
1713- قوله: (لأن يجلس) بفتح اللام مبتدأ خبره خير من أن يجلس على قبر. (على جمرة) أي من النار.
فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر)) رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1714- (8) عن عروة بن الزبير، قال: ((كان بالمدينة رجلان: أحدهما يلحد، والآخر لا يلحد، فقالوا: أيهما جاء أولا عمل عمله، فجاء الذي يلحد،
(فتحرق) بضم التاء وكسر الراء من الإحراق، وضميره للجمرة. (ثيابه) بالنصب. (فنخلص) بضم اللام أي تصل. (إلى جلده) بكسر الجيم. قال الطيبي: جعل الجلوس على القبر وسراية مضرته إلى قلبه، وهو لا يشعر بمنزلة سراية النار من الثوب إلى الجلد. (خير له) أي أحسن له وأهون (من أن يجلس على قبر) قال صاحب البذل: ظاهر الحديث يدل على النهي عن القعود مطلقا سواء كان للتغوط أو لغيره-انتهى. قلت: لا ريب أن الحديث ظاهر في أنه لا يجوز الجلوس على القبر مطلقا، وقد تقدم النهي عن ذلك صريحا، وأن الجمهور ذهبوا إلى التحريم، وأن المراد القعود على حقيقته لا للحدث. وأما ما روى الطحاوي من طريق محمد بن كعب عن أبي هريرة مرفوعا: من جلس على قبر يبول عليه أو يغوط فكأنما جلس على جمرة، فإسناده ضعيف، وما روي عن ابن عمر أنه كان يجلس على القبر، يحمل على أنه لم يبلغه النهي، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه والبيهقي.

(10/297)


1714- قوله: (كان بالمدينة رجلان) أي حفاران للقبور. (أحدهما) وهو أبوطلحة زيد بن سهل الأنصاري. (يلحد) بفتح الياء والحاء من لحد كمنع، وبضم الياء وكسر الحاء من الحد أن يحفر اللحد. (والآخر) وهو أبوعبيدة بن الجراح أحد العشرة المبشرة. ( لا يلحد) بل يشق ويضرح أي يفعل الضريح، وهو الشق في وسط القبر. قال الباجي: يقتضي أن الأمرين جائزان ولو كان أحدهما محظورا لما استدام عمله، ومثل هذا لا يخفى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمله؛ لأنه من الأمور الظاهرة، لا سيما والذي كان لا يلحد من أفضل الصحابة وأكثرهم اختصاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم --انتهى. (فقالوا) أي الصحابة يعني اتفقوا بعدما اختلفوا في الشق واللحد على أن (أيهما جاء أولا) بالتنوين منصوبا. قال القاري: وفي نسخة "أول" بالفتح والضم. قيل: الرواية في أول بالضم؛ لأنه مبني كقبل، ويجوز الفتح والنصب-انتهى. والحديث أخرجه مالك في موطئه، واختلفت النسخ المطبوعة من الموطأ في هذه اللفظة، فوقع في الهندية أولا وفي المصرية أول. قال الزرقاني: أو بمنع الصرف للوصف ووزن الفعل، وروي أولا بالصرف. (عمل عمله) من اللحد أو الشق في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. (فجاء الذي يلحد) أي قبل الآخر كما سبق في علم الله تعالى من اختياره لمختاره - صلى الله عليه وسلم -. (فلحد)
فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم)) رواه في شرح السنة.
1715- (9) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( اللحد لنا، والشق لغيرنا)).

(10/298)


بفتح الحاء. (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي حفر له اللحد. (رواه) أي البغوي. (في شرح السنة) وأخرجه أيضا هكذا مرسلا مالك في الموطأ، قال الزرقاني: وصله ابن سعد من طريق حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه عن عائشة-انتهى. قلت: ووصله أيضا أبوحاتم من هذا الطريق. قال الحافظ في التلخيص: رواه أبوحاتم في العلل عن أبي الوليد عن حماد عن هشام عن أبيه عن عائشة وقال: إنه خطأ، والصواب المحفوظ مرسل، وكذا رجح الدارقطني المرسل-انتهى. وله طريق أخرى عن عبيد بن طفيل المقري عن عبدالرحمن بن أبي مليكة القرشي عن ابن أبي مليكة عن عائشة، رواه ابن ماجه عن عمر بن شبة عن عبيد بن الطفيل. قال الحافظ في التلخيص: وإسناده ضعيف-انتهى. قلت: عبيد بن الطفيل مجهول، وعبدالرحمن بن أبي مليكة ضعيف، ورواه أحمد وابن ماجه من حديث أنس، قال الحافظ: وإسناده حسن، ورواه أحمد (ج1:ص260-292) وابن ماجه أيضا وابن سعد (ج3:ص47) وابن هشام في السيرة (ج2:ص375) والبيهقي (ج3:ص48) من حديث ابن عباس وبين أن الذي كان يضرح هو أبوعبيدة، وأن الذي كان يلحد هو أبوطلحة. قال الحافظ في التلخيص والدراية: وفي إسناده ضعف، يعني لضعف حسين بن عبدالله بن عباس عبيدالله بن الهاشمي، تركه أحمد وابن المديني والنسائي. وقال البخاري: يقال: إنه كان يتهم بالزندقة، وقواه ابن عدي.

(10/299)


1715- قوله: (اللحد لنا والشق لغيرنا) معنى اللحد أنه إذا بلغ أرض القبر حفر فيه مما يلي القبلة مكانا يوضع الميت فيه وينصب عليه اللبن. ومعنى الشق: أن يحفر في وسط أرض القبر شقا يضع الميت فيه ويسقفه عليه بشيء. قال في اللمعات: إن كان المراد بضمير الجمع في "لنا" المسلمون، "ولغيرنا" اليهود والنصارى مثلا، فلا شك أنه يدل على أفضلية اللحد بل على كراهة غيره، وإن كان المراد بغيرنا الأمم السابقة، ففيه إشعار بالأفضلية، وعلى كل تقدير ليس اللحد واجبا والشق منهيا، وإلا لما كان يفعله أبوعبيدة، وهو لا يكون إلا بأمر من الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو تقريره، ولم يتفقوا على أن أيهما جاء أولا عمل عمله-انتهى. وقال زين العرب: تبعا للتوربشتي أي اللحد آثرو أولى لنا والشق آثر وأولى لغيرنا، أي هو اختيار من قبلنا من أهل الإيمان، وفي ذلك بيان فضيلة اللحد، وليس فيه نهي عن الشق؛ لأن أبا عبيدة مع جلالة قدره في الدين والأمانة كان يصنعه، ولأنه لو كان منهيا لما قالت الصحابة: أيهما جاء أولا عمل عمله، ولأنه قد يضطر إليه لرخاوة الأرض-انتهى. وقال الطيبي: ويمكن أنه عليه الصلاة والسلام عني بضمير الجمع نفسه، أي أوثر لي اللحد، وهو إخبار عن الكائن فيكون معجزة-انتهى. وقيل: معناه اللحد لنا معاشر الأنبياء والشق جائز لغيرنا. قلت: ويؤيد ما قاله التوربشتي حديث جرير بن عبدالله عند أحمد (ج4:ص362-363)
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
1716- (10) ورواه أحمد عن جرير بن عبدالله.
1717- (11) وعن هشام بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أحد:

(10/300)


بلفظ: اللحد لنا والشق لأهل الكتاب. وفي سنده أبواليقظان عثمان بن عمير البجلي، وهو ضعيف. وفي رواية له (ج4:ص359): الحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا، وفي سنده أبوجناب الكلبي، رواه عن زاذان عن جرير، واسمه يحيى بن أبي حية، وقد ضعفوه لكثرة تدليسه. (رواه الترمذي) وقال: حديث غريب. (وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضا ابن سعد، والبيهقي كلهم عن ابن عباس. قال الحافظ: وفي إسناده عبدالأعلى بن عامر الثعلبي، وهو ضعيف، وصححه ابن السكن. وقال الشوكاني: وحسنه الترمذي كما وجدنا ذلك في بعض النسخ الصحيحة من جامعه.
1716- قوله: (ورواه أحمد عن جرير بن عبدالله) رواه أحمد في (ج4:ص357) من طريق حجاج عن عمرو بن مرة عن زاذان عن جرير وفي (ج4:ص359) من طريق أبي جناب عن زاذان، وفي (ج4:ص362-363) من طريق أبي اليقظان عثمان بن عمير عن زاذان، وهذا معلول بأبي اليقظان، والثاني بأبي جناب الكلبي، وحديث جرير أخرجه أيضا ابن ماجه والطيالسي (ص92) وابن أبي شيبة (ج3:ص127) والبيهقي (ج3:ص408) والطبراني والبزار وأبونعيم في الحلية كلهم من طريق أبي اليقظان، وفي الباب عن جابر عند ابن شاهين. قال الحافظ في الدراية: وسنده ضعيف. وأحاديث الباب تدل على استحباب اللحد، وأنه أولى من الضرح، وإلى ذلك ذهب الأكثر، كما قال النووي، وحكى في شرح مسلم إجماع العلماء على جواز اللحد والشق. قال الشوكاني: ولا يقدح في صححه حديث ابن عباس وما في معناه تحير الصحابة عند موته - صلى الله عليه وسلم - هل يلحدون له أو يضرحون؟ بأن يقال: لو كان عندهم علم بذلك لم يتحيروا؛ لأنه يمكن أن يكون من سمع منه - صلى الله عليه وسلم - ذلك لم يحضر عند موته-انتهى.

(10/301)


1717- قوله: (وعن هشام بن عامر) بن أمية بن الحسحاس بمهملات النجاري الأنصاري صحابي ابن صحابي، يقال كان اسمه شهابا، فغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سكن البصرة، ومات بها، وقد عاش إلى زمن زياد، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنه ابنه سعد وحميد بن هلال وأبوالدحلة قرفة بن بهيس العدوى وغيرهم، وذكر أبوحاتم أن رواية حميد بن هلال عنه مرسلة. (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال) أي حينما جاءته الأنصار وقالوا: أصابنا قرح وجهد والحفر علينا لكل إنسان شديد. (يوم أحد) أي وقت انتهاء غزوته عند إرادة
((احفروا وأوسعوا وأعمقوا وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وقدموا أكثرهم قرآنا)) رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وروى ابن ماجه إلى قوله: وأحسنوا.

(10/302)


دفن الشهداء. (احفروا) أي القبور بهمزة وصل من باب ضرب. (وأوسعوا) بقطع الهمزة. (وأعمقوا) كذلك. قال في القاموس: أعمق البئر جعلها عميقة، وفيه دليل على مشروعية إعماق القبر. وقد اختلف في حد الإعماق، فقال الشافعي: قامة. وقال عمر بن عبدالعزيز: إلى السرة. وقال مالك: لا حد لإعماقه. وقيل: إلى الثدي، وأقله ما يواري الميت ويمنع السبع. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال: أعمقوا القبر إلى قدر قامة وبسطة، ذكره في النيل، وفي المغني (ج2ص497) قال أحمد: يعمق إلى الصدر، الرجل والمرأة في ذلك سواء، كان الحسن وابن سيرين يستحبان أن يعمق القبر إلى الصدر. وروى سعيد أن عمر بن عبدالعزيز لما مات ابنه أمرهم أن يحفروا قبره إلى السرة ولا يعمقوا. وذكر أبوالخطاب أنه يستحب أن يعمق قدر قامة وبسطة، وهو قول الشافعي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (احفروا وأوسعوا وأعمقوا) رواه أبوداود، ولأن ابن عمر أوصى بذلك في قبره، ولأنه أحرى أن لا تناله السباع وأبعد على من ينبشه، والمنصوص عن أحمد أن المستحب تعميقه إلى الصدر؛ لأن التعميق قدر قامة وبسطة يشق ويخرج عن العادة، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أعمقوا ليس فيه بيان لقدر التعميق، ولم يصح أنه أوصى بذلك في قبره، ولو صح عند أبي عبدالله يعني الإمام أحمد لم يعده إلى غيره-انتهى. وقالت الحنفية: يعمق إلى الصدر وإلا فالسرة. (وأحسنوا) أي إلى الميت في الدفن، قاله في الأزهار. وقال زين العرب تبعا للمظهر: أي اجعلوا القبر حسنا بتسوية قعره ارتفاعا وانخفاضا وتنقيته من التراب والقذاة وغيرهما. (وأدفنوا الاثنين والثلاثة) بالنصب أي من الأموات. (في قبر واحد) فيه جواز الجمع بين جماعة في قبر واحد، ولكن إذا دعت إلى ذلك حاجة، كما في مثل هذه الواقعة وإلا كان مكروها، كما ذهب إليه أبوحنيفة والشافعي وأحمد. (وقدموا أكثرهم قرآنا) أي إلى جدار اللحد ليكون أقرب إلى

(10/303)


الكعبة، وفيه إرشاد إلى تعظيم المعظم علما وعملا حيا وميتا. (رواه أحمد) (ج4ص19- 20). (والترمذي) في الجهاد وصححه. (وأبوداود) في الجنائز، وسكت عنه، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (والنسائي) في الجنائز، وأخرجه أيضا البيهقي (ج3ص413وج4ص34). (وروى ابن ماجه) في الجنائز. (إلى قوله: أحسنوا) قال الحافظ في التلخيص بعد عزو حديث هشام هذا إلى أحمد وأصحاب السنن الأربعة ما لفظه: واختلف فيه على حميد بن هلال راويه عن هشام، فمنهم من أدخل بينه وبينه ابنه سعد بن هشام، ومنهم من أدخل بينهما أبا الدهماء ومنهم من لم يذكر بينهما أحدا، ورواه أحمد (ج5ص408) وأبوداود والبيهقي (ج3ص414) من حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن
1718-(12) وعن جابر، قال: (( لما كان يوم أحد جاءت عمتي بأبي لتدفنه في مقابرنا، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ردوا القتلى إلى مضاجعهم)).
رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على القبر يوصي الحافر: أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه. إسناده صحيح-انتهى.

(10/304)


1718- قوله: (جاءت عمتي) اسمها فاطمة بنت عمرو بن حرام الأنصارية. قال الحافظ في الإصابة: ثبت ذكرها في الحديث الصحيح من رواية شعبة عن ابن المنكدر عن جابر قال: لما قتل أبي جعلت أكشف التراب عن وجهه، والقوم ينهوني، فجعلت عمتي فاطمة بنت عمرو تبكيه-الحديث. وهذا لفظ رواية الطيالسي عن شعبة. (بأبي) الباء للتعدية. (لتدفنه في مقابرنا) أي في المدينة ليقرب على أقاربه زيارة قبره والدعاء له أو لفضل اعتقدته في الدفن بالبقيع. (ردوا) بضم الراء. (القتلى) جمع القتيل وهو المقتول أي الشهداء. (إلى مضاجعهم) كذا في جميع النسخ، وكذا وقع في جامع الأصول (ج11ص429). والذي في جامع الترمذي: إلى مضاجعها، أي إلى محالهم التي قتلوا فيها، والمعنى لا تنقلوا الشهداء من مقتلهم بل أدفنوهم حيث قتلوا، وهو يحتمل أن المراد منع النقل إلى أرض أخرى أو الدفن في خصوص البقعة التي قتلوا فيها، والله تعالى أعلم، وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم، وكانوا قد نقلوا إلى المدينة، ورواه البيهقي بلفظ: لما كان يوم أحد حمل القتلى ليدفنوا بالبقيع، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم، بعد ما حملت أمي أبي وخالي عديلين لتدفنهم في البقيع فردوا-انتهى. قال في الأزهار: الأمر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ردوا القتلى للوجوب، وذلك أن نقل الميت من موضع إلى موضع يغلب فيه التغير حرام، وكان ذلك زجرا عن القيام بذلك والإقدام عليه، وهذا أظهر دليل وأقوى حجة في تحريم النقل وهو الصحيح، نقله السيد. قال القاري. والظاهر أن نهي النقل مختص بالشهداء؛ لأنه نقل ابن أبي وقاص من قصره إلى المدينة بحضور جماعة من الصحابة ولم ينكروا كما تقدم، والأظهر أن يحمل النهي على نقلهم بعد دفنهم لغير عذر، ويؤيده لفظ مضاجعهم، لعل وجه تخصيص الشهداء قوله

(10/305)


تعالى: ?قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم? [آل عمران: 154] وفيه حكمة أخرى، وهو اجتماعهم في مكان واحد حياة وموتا وبعثا وحشرا، ويتبرك الناس بالزيارة إلى مشاهدهم-انتهى كلام القاري. وقيل المنع من النقل كان في الابتداء أي ابتداء أحد، وأما بعده فلا، لما روي أن جابرا جاء بأبيه عبدالله الذي قتل بأحد بعد ستة أشهر إلى البقيع ودفنه بها. وقال الطيبي: لعل الظاهر أنه إذا دعت ضرورة إلى النقل نقل وإلا فلا. قال القاري: وهذا القول هو القول؛ لأنه لا يظن بجابر أنه ينقل بعد النهي عن أن ينقل-انتهى.
رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، والدارمي، ولفظه للترمذي.
1719-(13) وعن ابن عباس، قال: ((سل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل رأسه)).

(10/306)


قال الحافظ في الفتح: اختلف في جواز نقل الميت من بلد إلى بلد، فقيل: يكره لما فيه من تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته، وقيل: يستحب، والأولى تنزيل ذلك على حالتين، فالمنع حيث لم يكن هناك غرض راجح كالدفن في البقاع الفاضلة. وتختلف الكراهة في ذلك فقد تبلغ التحريم، والاستحباب حيث يكون ذلك بقرب مكان فاضل، كما نص الشافعي على استحباب نقل الميت إلى الأرض الفاضلة كمكة وغيرها والله اعلم-انتهى. وقال ابن قدامة: يستحب دفن الشهيد حيث قتل. قال أحمد: أما القتلى فعلى حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ادفنوا القتلى في مصارعهم، فأما غيرهم فلا ينقل الميت من بلده إلى بلد آخر إلا لغرض صحيح، وهذا مذهب الأوزاعي وابن المنذر. قال عبدالله بن أبي مليكة: توفي عبدالرحمن بن أبي بكر بالحبشة. (وفي رواية البيهقي) (ج4ص57) بالحبشي على رأس أميال من مكة، فحمل إلى مكة فدفن، فلما قدمت عائشة أتت قبره ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك، ولأن ذلك أخف لمؤنته وأسلم له من التغيير، فأما إن كان فيه غرض صحيح جاز. وقال أحمد: ما أعلم بنقل الرجل يموت في بلده إلى بلد آخر بأسا. وسئل الزهري عن ذلك فقال: قد حمل سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد من العقيق إلى المدينة-انتهى. وعند الحنفية لا بأس بنقله قبل الدفن أو تسوية اللبن، قيل: مطلقا، وقيل: إلى ما دون مدة السفر، وقيده محمد بقدر ميل أو ميلين؛ لأن مقابر البلد ربما بلغت هذه المسافة فيكره فيما زاد، وأما نقله بعد دفنه فلا يجوز مطلقا إلا لعذر. قال في التجنيس: والعذر أن يظهر أن الأرض مغصوبة أو يأخذها شفيع. (رواه أحمد) (ج3ص297، 308). (والترمذي) في الجهاد وصححه وأقر المنذري تصحيحه. (وأبوداود) في الجنائز وسكت عنه. (والنسائي) فيه. (والدارمي) وأخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي (ج4ص57). (ولفظه) أي لفظ الحديث، والمراد هذا اللفظ. (للترمذي) قد تقدم أن في

(10/307)


الترمذي: مضاجعها بدل قوله مضاجعهم. وفي الباب عن أبي سعيد أخرجه البزار، قال الهيثمي (ج3ص43): إسناده حسن.
1719- قوله: (سل) بتشديد اللام على صيغة المجهول، في النهاية: هو إخراج الشيء بتأن ورفق وتدريج، أي جر بلطف. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في القبر. (من قبل رأسه) بكسر القاف وفتح الباء أي من جهة رأسه وجانبه. قال السندي في حاشية ابن ماجه: السل بتشديد اللام الإخراج بتأن وتدريج، وهو بأن يوضع السرير في مؤخر القبر ويحمل الميت منه فيوضع في اللحد، وهذا هو المعمول به اليوم وهو الأسهل، وعن أصحابنا الحنفية: أنه يدخل

(10/308)


الميت القبر من قبل القبلة، فيوضع في اللحد فيكون الآخذ له مستقبل القبلة حال الأخذ، والخلاف في الأفضل-انتهى. قلت: الأفضل عند الشافعي وأحمد والأكثرين هو إدخال الميت في القبر من قبل الرأس، بأن يوضع رأس الجنازة على مؤخر القبر ثم يدخل الميت القبر ويسل كذلك. واستدل لذلك بحديث ابن عباس هذا، وسيأتي الكلام فيه. وبما روى أبوبكر النجاد عن ابن عمر مثله، وبما روى أحمد كما في المغني وأبوداود والبيهقي من طريقه وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة عن أبي إسحاق أن الحارث (الأعور) أوصى أن يصلي عليه عبدالله بن يزيد، فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري والحافظ في التلخيص. وقال الشوكاني: رجال إسناده رجال الصحيح. وقال ابن الهمام: إسناده صحيح. وقال البيهقي إسناده صحيح، وهو كالمسند لقوله من السنة، وذكر الزيلعي كلام البيهقي هذا وأقره، وبما سيأتي من حديث أبي رافع قال: سل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعدا ورش على قبره ماء، وإسناده ضعيف كما ستعرف، وبما روى ابن شاهين في الجنائز عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يدخل الميت من قبل رجليه ويسل سلا. قال الحافظ في الدراية: إسناده ضعيف، ورواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح لكنه موقوف على أنس-انتهى. وعزا الهيثمي أثر أنس إلى أحمد وقال: رجاله ثقات، وبما روى ابن أبي شيبة أيضا عن وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر عن ابن عمر أنه أدخل ميتا من قبل رجليه، وبما روى الطبراني في الكبير عن صفوان بن عمرو السكسكي قال: خرجنا في جنازة فإذا أهلها يدخلونها القبر من قبل القبلة فقال كرب اليحصى: قال النعمان بن بشير: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أن لكل بيت بابا، وباب القبر من تلقاء رجليه. قال الهيثمي: وفيه جماعة لم يعرفوا-انتهى. واختار أبوحنيفة أخذ الميت من قبل القبلة؛ لأن جانب القبلة معظم فيستحب الإدخال

(10/309)


منه. واستدل له بحديث ابن عباس الذي يأتي بعد هذا، وهو حديث ضعيف وإن حسنه الترمذي؛ لأن مداره على الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس ولم يذكر سماعا، وبما روي عن ابن عباس أيضا قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر يدخلون الميت من قبل القبلة. رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبدالله بن خراش، ذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ وضعفه غيره: البخاري وأبوزرعة وأبوحاتم والدارقطني والنسائي وابن عدي الساجي، ورماه ابن عمار بالكذب. وبما روى ابن أبي شيبة أن عليا أدخل ابن المكفف من قبل القبلة، وأن ابن الحنفية أدخل ابن عباس من قبل القبلة، وبما روى ابن ماجه عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ من قبل القبلة واستل استلالا، وفيه عطية العوفي، وهو ضعيف مدلس وقد عنعن. وبما روى ابن عدي في الكامل ومن طريقه البيهقي عن بريدة قال: أدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل القبلة-الحديث. وفيه أبوبردة عمرو بن يزيد التميمي الكوفي، وهو ضعيف في الحديث، وبما روى أبوداود في المراسيل وابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخل من قبل القبلة ولم يسل سلا. قال البيهقي: والذي ذكره الشافعي من أنه أدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل رجلي القبر أشهر في أرض
رواه الشافعي.
1720-(14) وعنه ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل قبرا ليلا فأسرج له بسراج، فأخذ من قبل القبلة، وقال: رحمك الله، إن كنت لأواها

(10/310)


الحجاز، يأخذه الخلف عن السلف فهو أولى بالإتباع والله اعلم. وقال الشافعي: ولا يتصور إدخاله من جهة القبلة لأن القبر في أصل الحائط، ذكره الزيلعي وسكت عنه. وأجاب عنه ابن الهمام بما لا يلتفت إليه، ثم قال ابن الهمام: ولو ترجح ما أسنده الشافعي فإنما كان للضرورة، وغاية فعل غيره أنه فعل صحابي ظن السنة ذلك وقد وجدنا التشريع المنقول عنه - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المرفوع خلافه. قلت: أراد به حديث ابن عباس الآتي، وهو ضعيف كما عرفت، على أنه فعل عارضه حديث عبدالله بن يزيد وهو حديث صحيح مسند على القول الصحيح وحديث أبي رافع، وحديث أنس، وحديث النعمان بن بشير، وهذه الأحاديث بعضها فعل وبعضها قول، فهي مقدمة على حديث ابن عباس، وأثر علي قد عارضه أثر أنس وأثر ابن عمر. (رواه الشافعي) في الأم (ج1ص242): أخبرنا الثقة عن عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس. قال الحافظ في التلخيص: قيل: إن الثقة هنا هو مسلم بن خالد الزنجي، قال الشافعي: وعن ابن جريج عن عمران بن موسى مرسلا مثله، وعن بعض أصحابه عن أبي الزناد وربيعة وأبي النضر كذلك قال لا يختلفون في ذلك، وكذا أبوبكر وعمر من طريق الشافعي رواها البيهقي (ج4ص54) وقال: هذا هو المشهور فيما بين أهل الحجاز. وقال الشافعي في الأم: هو من الأمور العامة التي يستغنى فيها عن الحديث-انتهى.

(10/311)


1720- قوله: (دخل قبرا) أي قبر ميت ليدفنه. (ليلا) فيه دليل على أن دفن الميت ليلا لا يكره، وقد تقدم الكلام عليه. (فأسرج) ماض مجهول. (له) أي للميت أو للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (بسراج) أقيم مقام الفاعل والباء زائدة. (فأخذ) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا، وفي الترمذي فأخذه، وكذا نقله الجزري أي أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الميت، قيل: هو عبدالله بن عبد نهم المزني ذو البجادين، دليل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مات في غزوة تبوك فدفنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلا. (من قبل القبلة) قال في الأزهار: احتج أبوحنيفة بهذا الحديث على أن الميت يوضع في عرض القبر في جانب القبلة بحيث يكون مؤخر الجنازة إلى مؤخر القبر، ورأسه إلى رأسه ثم يدخل الميت القبر. وقال الشافعي: والأكثرون يسل من قبل الرأس، بأن يوضع رأس الجنازة على مؤخر القبر ثم يدخل الميت القبر-انتهى. (إن كنت) إن مخففة من المثقلة أي أنك كنت. (لأواها) بتشديد الواو أي كثير التأوه من خشية الله. قال في النهاية: الأواه المتأوه المتضرع. وقيل: هو
تلاء للقرآن)) رواه الترمذي، وقال في شرح السنة: إسناده ضعيف.
1721-(15) وعن ابن عمر، (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أدخل الميت القبر قال: باسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله )) وفي رواية: (( وعلى سنة رسول الله )). رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وروى أبوداود الثانية.

(10/312)


الكثير البكاء أو الكثير الدعاء. (تلاء) بتشديد اللام أي كثير التلاوة. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة والبيهقي كلهم من حديث المنهال بن خليفة عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس. قال الترمذي: حديث حسن. قال الزيلعي: وأنكر عليه (أي على الترمذي)؛ لأن مداره على الحجاج بن أرطاة وهو مدلس ولم يذكر سماعا. قال ابن القطان: ومنهال بن خليفة ضعفه ابن معين. وقال البخاري: فيه نظر-انتهى. (وقال) أي البغوي (في شرح السنة: إسناده ضعيف) يشير إلى كون الحجاج بن أرطاة والمنهال بن خليفة في سنده، والحجاج كثير الخطأ والتدليس، والمنهال ضعفه ابن معين والنسائي وابن حبان وغيرهم.

(10/313)


1721- قوله: (كان إذا أدخل) روى مجهولا ومعلوما. (الميت) بالرفع أو النصب. (القبر) مفعول ثان. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (بسم الله) أي وضعته أو وضع أو أدخله. (وبالله) أي بأمره وحكمه أو بعونه وقدرته. (وعلى ملة رسول الله) أي على طريقته ودينه. (وفي رواية وعلى سنة رسول الله) أي على طريقته وشريعته، والمراد بملة رسول الله وسنته واحد. قال الطيبي: قوله "أدخل" روى معلوما ومجهولا، والثاني أغلب، فعلى المجهول لفظ كان بمعنى الدوام، وعلى المعلوم بخلافه، لما روى أبوداود عن جابر قال: رأى نأس نارا في المقبرة فأتوها، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر وهو يقول: ناولوني صاحبكم فإذا هو بالرجل الذي يرفع صوته بالذكر. قال السندي: وفيه نظر؛ لأنه إذا فرض أنه يداوم عليه إذا أدخله شخص أي شخص كان فلأن يداوم عليه إذا أدخله هو بنفسه أوفى، بل أدخل بناء المفعول يشمل إدخاله أيضا، فكيف يستقيم الدوام فيه إذا فرض عدم الدوام عند إدخاله بنفسه، وهذا ظاهر فليتأمل-انتهى. وقال ميرك: فيه أي في كلام الطيبي نظر؛ لأنه على تقدير المعلوم يحتمل الدوام أيضا، وعلى تقدير المجهول يحتمل عدمه أيضا كما لا يخفى. قال القاري: وفيه أن إدخاله عليه الصلاة والسلام الميت بنفسه الأشرف لم يكن دائما بل كان نادرا لكن قوله: بسم الله يمكن أن يكون دائما مع إدخاله وإدخال غيره تأمل-انتهى. (رواه أحمد) (ج2ص27، 41، 59، 69، 128). (والترمذي) وحسنه. (وابن ماجه) أي كلهم الروايتين. (وروى أبوداود الثانية) أي الرواية الثانية وصنيع المصنف يدل على أن الحديث عند الأربعة كلهم فعلى، وفيه نظر فإن الإمام أحمد رواه فجعله حديثا قوليا لا فعليا، وكذا هو عند ابن حبان والحاكم والبيهقي وابن
1722-(16) وعن جعفر بن محمد، عن أبيه مرسلا ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حثى على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعا،

(10/314)


الجارود وابن أبي شيبة والطبراني. والحديث قد اختلف في رفعه ووقفه، ورجح الدارقطني والنسائي الوقف، ورجح غيرهما الرفع، وهو الصواب عندي، وارجع إلى نصب الراية (ج2ص301- 302) والتلخيص (ص164) وشرح المسند (ج7ص28) للشيخ أحمد شاكر. وفي الباب عن أبي أمامة قال: لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر قال رسول الله عليه وسلم: ?منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى?، بسم الله وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله -الحديث. أخرجه أحمد (ج5ص254) والحاكم (ج2ص348) والبيهقي. قال الحافظ في التلخيص (ص164) والهيثمي (ج3ص42) سنده ضعيف. وقال الذهبي: لم يتكلم عليه الحاكم وهو خبر واه؛ لأن علي بن يزيد متروك، وعن واثلة عند الطبراني في الكبير، وفيه بسطام بن عبدالوهاب وهو مجهول، وعن عبدالرحمن بن اللجلاج عن أبيه عند الطبراني والبيهقي. قال الهيثمي (ج3ص44): رجاله موثقون، وعن أبي حازم مولى الغفاريين عن البياضي عند الحاكم.

(10/315)


1722- قوله: (وعن جعفر) أي الصادق (بن محمد عن أبيه) أي محمد الباقر. (مرسلا)؛ لأنه لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذف الصحابي، وغالب روايته عن جابر. (حثى) كرمى أي قبض التراب ورماه. (على الميت) المراد به الجنس. (ثلاث حثيات) أي حفنات. قال القاري: وروى أحمد بإسناد ضعيف أنه يقول مع الأولى: منها خلقناكم، ومع الثانية: وفيها نعيدكم، ومع الثالثة: ومنها نخرجكم تارة أخرى-انتهى. وقال الشوكاني: ويستحب أن يقول عند ذلك أي عند الحثى على الميت: ?منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى?، ذكره أصحاب الشافعي-انتهى. والحديث الذي أشار إليه القاري لم أقف على مخرجه ولا على أنه من أين أخذ هذا الحديث، ولم أجد أحدا ذكره ولا يطمئن القلب بنقل القاري، فإنه ليس من أهل هذا الشأن. (بيديه جميعا) قال ابن الملك: فالسنة لمن حضر الميت على رأس القبر أن يحثي التراب ويرميه في القبر بعد نصب اللبن، وروى البيهقي عن أبي أمامة قال: توفى رجل، فلم تصب له حسنة إلا ثلاث حثيات حثاها في قبر فغفرت له ذنوبه، وروى أبوالشيخ في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة مرفوعا: من حثى على مسلم احتسابا كتب الله له بكل ثراة حسنة. قال الحافظ إسناده ضعيف، وفي الباب عن عامر بن ربيعة عند البيهقي والبزار والدارقطني قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دفن عثمان بن مظعون صلى عليه وكبر عليه أربعا وحثي على قبره بيده ثلاث حثيات من التراب وهو قائم عند رأسه، وزاد البزار فأمر فرش عليه الماء، وعزاه الهيثمي إلى البزار، وقال: رجاله موثقون إلا أن شيخ البزار
وأنه رش على قبر ابنه إبراهيم، ووضع عليه حصباء)) رواه في شرح السنة، وروى الشافعي من قوله: رش.
1723-(17) وعن جابر، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبور، وأن يكتب عليها،

(10/316)


ومحمد بن عبدالله لم أعرفه-انتهى. وعن أبي المنذر عند أبي داود في المراسيل، وعن أبي هريرة عند ابن ماجه، ويأتي في الفصل الثالث، وعن علي وابن عباس عند البيهقي من فعلهما. (وأنه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (رش) أي الماء. (على قبر ابنه إبراهيم) قال ابن الملك: ويسن حيث لا مطر رش القبر بماء بارد وطاهر طهور تفاؤلا بأن الله يبرد مضجعه. وقال ابن قدامة: يستحب أن يرش على القبر ماء ليلتزق ترابه، ثم ذكر حديثي جابر وأبي رافع في رش القبر بماء، وقد ذكرهما المصنف وسيأتي الكلام فيهما. (ووضع عليها حصباء) بالمد الحصى الصغار، ففي القاموس: الحصباء الحصى، والحصى صغار الحجارة. وفي النهاية: الحصباء الحصى الصغار. قال ابن الملك: وهو يدل على أن وضع الحصا على القبر سنة. قال الشافعي فيما نقله البيهقي عنه: والحصباء لا تثبت إلا على قبر مسطح. قال ابن التركماني في الجوهر: قد يكون بأعلى القبر تسطيع يسير يوضع فيه الحصباء ولا يخرجه ذلك عن كونه مسنما باعتبار الغالب-انتهى. (رواه) أي صاحب المصابيح. (في شرح السنة وروى الشافعي من قوله: رش) أخرج الشافعي في الأم عن إبراهيم بن محمد الأسلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا في حديثين أحدهما إلى جميعا والآخر أنه رش على قبر ابنه الخ. وقدم حديث الرش على حديث حثي فجميع الحديث عند الشافعي، وهو خلاف ما قاله المصنف، وحديث الرش رواه البيهقي (ج3ص411) من طريق الشافعي. قال النيموي في آثار السنن (ج2ص125) بعد عزوه إلى الشافعي: إسناده مرسل جيد. وقال الحافظ في التلخيص (ص165) وروى أبوداود في المراسيل والبيهقي (ج3ص411) من طريق الدراوردي عن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه نحوه، وزاد: وأنه أول قبر رش عليه وقال بعد فراغه: سلام عليكم، ولا أعلمه إلا قال: حثا عليه بيديه، رجاله ثقات مع إرساله-انتهى. وروى الطبراني في الأوسط عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رش على قبر ابنه

(10/317)


إبراهيم. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني.
1723- قوله: (أن يجصص القبور) بالتذكير في جمع النسخ، وفي الترمذي: تجصص بالتأنيث، وفي جامع الأصول (ج11ص434) أن يجصص القبر أي بالتذكير وبإفراد القبر. (وأن يكتب عليها) قال السندي نقلا عن العراقي: يحتمل النهي عن الكتابة مطلقا ككتابة اسم صاحب القبر وتاريخ وفاته أو كتابة شيء
وأن توطأ)) رواه الترمذي.
1724- (18) وعنه، قال: (( رش قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان الذي رش الماء على قبره بلال بن رباح بقربة،

(10/318)


من القرآن وأسماء الله تعالى ونحو ذلك للتبرك؛ لاحتمال أن يوطأ أو يسقط على الأرض فيصير تحت الأرجل. وقال الحاكم في المستدرك (ج1:ص370) بعد تخرج هذا الحديث: هذه الأسانيد صحيحة، وليس العمل عليها فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف. وتعقبه الذهبي في مختصره بأنه لا نعلم صحابيا فعل ذلك، وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين ولم يبلغهم النهي-انتهى. وقال ابن حجر: وأخذ أئمتنا أنه يكره الكتابة على القبر سواء اسم صاحبه أو غيره في لوح عند رأسه أو غيره. وقال الشوكاني: فيه تحريم الكتابة على القبور، وظاهره عدم الفرق بين كتابة اسم الميت على القبر وغيرها، وقد استثنت الهادوية رسم الاسم فجوزه لا على وجه الزخرفة، قياسا على وضعه - صلى الله عليه وسلم - الحجر على قبر عثمان وهو من التخصيص بالقياس، وقد قال به الجمهور، لا أنه قياس في مقابلة النص، كما قال في ضوء النهار. ولكن الشأن في صحة هذا القياس-انتهى. (وأن توطأ) أي بالأرجل والنعال لما فيه من الاستخفاف، قال في الأزهار: والوطء لحاجة كزيارة ودفن ميت لا يكره. قال القاري: في وطء للزيارة محل بحث-انتهى. قال الشوكاني: فيه دليل على تحريم وطء القبر. (رواه الترمذي): وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي. قال الحافظ: وصرح بعضهم بسماع أبي الزبير عن جابر، وهو في مسلم بدون الكتابة. وقال الحاكم: الكتابة على شرط مسلم، وهي صحيحة غريبة. وفي رواية لأبي داود والنسائي "أو يزاد عليه"، وبوب عليه البيهقي (ج3:ص410): لا يزاد في القبر أكثر من ترابه لئلا يرتفع جدا. قال السندي: قوله: أو "يزاد عليه" بأن يزاد التراب على التراب الذي خرج منه، أو بأن يزاد طولا وعرضا عن قدر جسد الميت-انتهى.

(10/319)


1724- قوله: (رش) بصيغة المجهول. (قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال الطيبي: لعل ذلك إشارة إلى استنزال الرحمة الإلهية والعواطف الربانية على القبر، كما ورد في الدعاء: اللهم اغسل خطاياه بالماء والثلج والبرد، أو إلى الدعاء بالطراوة وعدم الدروس. قال ميرك: ولعل الحكمة فيه أن القبر إذا رش بالماء كان أكثر بقاء وأبعد عن التناثر والاندراس-انتهى. وقال في اللمعات: وذلك لمصلحة رآها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والعلة في رش قبر غيره - صلى الله عليه وسلم - التفاؤل باستنزال الرحمة وغسل الخطايا وتطهير الذنوب، وعلل أيضا بأن يمسك تراب القبر عن الانتشار ويمنع من الدروس. (بلال بن رباح) بالرفع وقيل بالنصب. (بقربة) بكسر القاف. (بدأ) أي ابتدأ
بدأ من قبل رأسه حتى انتهى إلى رجليه)). رواه البيهقي في دلائل النبوة.
1725- (19) وعن المطلب أبي بن وداعة، قال: ((لما مات عثمان بن مظعون، أخرج بجنازته فدفن،
في الرش. (من قبل رأسه) من شقه الأيمن لشرفه واستمر. (حتى انتهى إلى رجليه) ظاهره أنه مرة، ويحتمل مرارا. وفيه دليل على مشروعية الرش على القبر، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وأبوحنيفة وغيرهم. (رواه البيهقي في دلائل النبوة) وأخرجه أيضا في السنن الكبرى (ج3:ص411) من طريق الواقدي عن عبدالله بن جعفر عن ابن أبي عون عن أبي عتيق عن جابر بن عبدالله، والكلام في الواقدي معروف. وفي الباب عن عامر بن ربيعة وعائشة، وقد تقدما في شرح حديث جعفر بن محمد عن أبيه. وروى سعيد بن منصور والبيهقي (ج3:ص411) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا: أن الرش على القبر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

(10/320)


1725- قوله: (وعن المطلب) بتشديد الطاء. (بن أبي وداعة) بفتح الواو القرشي السهمي، واسم أبي وداعة الحارث بن صبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، وأم المطلب بن أبي وداعة أروى بنت الحارث بن عبدالمطلب بنت عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، صحابي أسلم يوم فتح مكة، ثم نزل الكوفة، ثم نزل بعد ذلك المدينة، وله بها دار، وبقي دهرا ومات بها، روى عنه أهل المدينة، اعلم أن هذا الحديث رواه أبوداود. (ومن طريقه البيهقي ج3:ص412) ولم ينسب المطلب راويه، وكذا في المصابيح وقع غير منسوب. وذكره الجزري في جامع الأصول (ج11:ص435) منسوبا إلى عبدالله، والمصنف جعله منسوبا إلى أبي وداعة، وأخطأ في ذلك، فإن الحديث من رواية المطلب بن عبدالله بن المطلب بن حنطب بن الحارث المخزومي المدني وهو تابعي صدوق، وليس من رواية المطلب بن أبي وداعة الصحابي. قال ميرك: قال الشيخ الجزري في تصحيح المصابيح، والسلمي في تخريجه: رواه أبوداود من حديث المطلب بن عبدالله المدني، وهو المطلب بن عبدالله بن حنطب المخزومي، وهو تابعي يروي عن أبي هريرة وعائشة وابن عمر وابن عباس، ففي الحديث إرسال، وهو الظاهر من السياق حيث قال المطلب: قال الذي يخبرني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخره، والدليل على خطأ ما وقع في المشكاة ما رواه ابن سعد في الطبقات قال: حدثنا محمد بن عمر حدثنا كثير بن زيد عن المطلب بن عبدالله بن حنطب قال: لما مات عثمان بن مظعون دفن بالبقيع، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء فوضع عند رأسه، وقال: هذا علامة قبره يدفن إليه يعني من مات بعده-انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص166): رواه أبوداود من حديث المطلب بن عبدالله بن حنطب وليس صحابيا، ولكنه قد بين أن مخبرا أخبره به ولم يسمه، ولا يضر إبهام الصحابي-انتهى. فالحديث موصول، وليس بمرسل، كما توهم ميرك. (عثمان) تقدم ترجمته. (بن مظعون) بالظاء المعجمة. (أخرج بجنازته) كأنه من باب

(10/321)


حذف
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حملها، فقام إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسر عن ذراعيه، قال المطلب: قال الذي يخبرني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حسر عنهما، ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: أعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي)). رواه أبوداود.
العاطف، أي وأخرج جنازته وقوله: (أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -) جواب "لما" كذا قيل: والأظهر أن جواب "لما" هو "أخرج" لوقوعه في محله "وأمر" حذف عاطفه، ويدل عليه ما في بعض نسخ السنن لأبي داود فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا ذكره الحافظ في التلخيص، والجزري في جامع الأصول (ج11ص435). (بحجر) أي كبير لوضع العلامة. وفي حديث أنس: أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر عثمان بن مظعون بصخرة. (فلم يستطع) أي ذلك الرجل وحده. (حملها) قال ابن الملك: تأنيث الضمير على تأويل الصخرة. وفي بعض نسخ أبي داود "حمله" بتذكير الضمير، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول، والحافظ في التلخيص. (فقام إليها) أي الصخرة. (وحسر) أي كشف الثوب. (عن ذراعيه) بكسر الذال أي ساعديه. (ثم حملها) أي الصخرة وحده. (فوضعها عند رأسه) أي رأس قبر عثمان. (أعلم) مضارع متكلم من الإعلام. (بها) أي أعلم الناس بهذه الصخرة. وفي جامع الأصول: أتعلم أي من العلم. (قبر أخي) سماه أخا لأخوة الإسلام تعظيما له أو لقرابة، فإنه كان قرشيا، أو لأنه أخوه من الرضاعة، وهو الأصح، قاله القاري. (وأدفن إليه) أي إلى قربه. وقال الطيبي: أي أضم إليه في الدفن. (من مات من أهلي) قيل: أول من ضم إليه إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي الحديث أن وضع العلامة على القبر، كنصب حجر أو نحوه ليعرفه الناس سنة، وكذلك دفن بعض الأقارب بقرب بعض. (رواه أبوداود) وأخرجه البيهقي من طريقه. قال المنذري:

(10/322)


في إسناده كثير بن زيد مولى الأسلميين، وقد تكلم فيه غير واحد. وقال الحافظ في التلخيص: إسناده حسن ليس فيه إلا كثير بن زيد راويه عن المطلب وهو صدوق، وقد بين المطلب أن مخبرا أخبره به ولم يسمه، ولا يضر إبهام الصحابي، ورواه ابن ماجه وابن عدي مختصرا من طريق كثير بن زيد أيضا عن زينب بنت نبيط عن أنس. قال أبوزرعة: هذا خطأ، وأشار إلى أن الصواب رواية من رواه عن كثير عن المطلب، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس بإسناد آخر فيه ضعف، ورواه الحاكم في المستدرك (ج3ص190) في ترجمة عثمان بن مظعون بإسناد آخر فيه الواقدي من حديث أبي رافع فذكر معناه-انتهى.
1726-(20) وعن القاسم بن محمد، قال: ((دخلت على عائشة، فقلت: يا أماه! اكشفي لي عن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء)). رواه أبوداود.
1727-(21) وعن البراء بن عازب، قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد بعد، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة،

(10/323)


1726- قوله: (وعن القاسم بن محمد) أي ابن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. (يا أماه) بسكون الهاء وهي عمته، لكن قال: يا أماه لأنها بمنزلة أمه، أو لكونها أم المؤمنين. ووقع في جامع الأصول (ج11ص 394) يا أمه، أي بحذف الألف وسكون الهاء. (اكشفي لي) أي أظهري وارفعي الستارة. (وصاحبيه) أي ضجيعية، وهما أبوبكر الصديق وعمر رضي الله عنهما. (لا مشرفة) أي مرتفعة غاية الارتفاع، وقيل: أي عالية أكثر من شبر. (ولا لاطئة) بالهمزة والياء أي لازقة ولاصقة بالأرض. وقال القاري: أي مستوية على وجه الأرض، يقال: لطأ بالأرض أي لصق بها. (مبطوحة) صفة لقبور أي مفروشة. (ببطحاء العرصة) أي برمل العرصة وحصاها وهي موضع. وقال الطيبي: العرصة جمعها عرصات. وهي كل موضع واسع لا بناء فيه. والبطحاء مسيل واسع فيه دقاق الحصى، والمراد بها هنا الحصى لإضافتها إلى العرصة. (الحمراء) صفة للبطحاء أو العرصة. والحديث قد استدل به للشافعي ومن وافقه على أن تسطيح القبر أفضل من تسنيمه، وقد سبق بسط الكلام وتحقيقه في شرح حديث سفيان التمار. (رواه أبوداود) وأخرجه الحاكم (ج1ص369) والبيهقي (ج4ص3) وزاد: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدما، وأبابكر رأسه بين كتفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمر رأسه عند رجلي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي صفة القبور الثلاثة اختلاف كثير بسطها السمهودى في الفصل الحادي والعشرين من الباب الرابع من كتابه "وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى" (ص550- 556)، فعليك أن تراجعه. وحديث القاسم هذا سكت عنه أبوداود والمنذري، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(10/324)


1727- قوله: (في جنازة رجل من الأنصار) لم أقف على تسميته. (فانتهينا) أي فوصلنا. (ولما يلحد) بصيغة المجهول. وفي النسائي: ولم يلحد، وكذا في بعض نسخ أبي داود، وليست هذه الجملة عند ابن ماجه. (بعد) أي لم يفرغ من حفر اللحد بعد مجيئنا. (فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة) فيه دليل على استحباب استقبال القبلة في
وجلسنا معه) رواه أبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وزاد في آخره: كأن على رؤسنا الطير.
1728-(22) وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( كسر عظم الميت ككسره حيا)) رواه مالك، وأبوداود، وابن ماجه.
الجلوس لمن كان منتظرا دفن الجنازة. (وجلسنا معه) هذا لفظ أبي داود، وللنسائي: وجلسنا حوله. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي وابن ماجه) قال الشوكاني: رجال إسناد هذا الحديث رجال الصحيح على كلام في المنهال بن عمرو وشيخه زاذان. قلت: تقدم هذا الحديث مطولا في "باب ما يقال عند من حضره الموت" في الفصل الثالث منه، وسبق الكلام فيه هناك مفصلا. (وزاد) أي ابن ماجه، وفي بعض النسخ "وزادا" بلفظ التثنية، وهو الراجح، فإن الزيادة المذكورة عند النسائي أيضا. (كأن على رؤسنا الطير) تقدم معناه.

(10/325)


1728- قوله: (كسر عظم الميت) قال السيوطي في حاشية أبي داود في بيان سبب الحديث: عن جابر قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - على شفير القبر وجلسنا معه، فأخرج الحفار عظما ساقا أو عضدا، فذهب ليكسره فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تكسرها، فإن كسرك إياها ميتا ككسرك إياها حيا، ولكن دسه في جانب القبر. (ككسره) أي العظم. (حيا) يعني في الإثم، كما في رواية القضاعي، وكذا في حديث أم سلمة عند ابن ماجه. قال الطيبي: إشارة إلى أنه لا يهان ميتا كما لا يهان حيا. وقال الباجي: يريد أن له من الحرمة في حال موته مثل ما له منها حال حياته، وأن كسر عظامه في حال موته يحرم كما يحرم كسرها حال حياته، قال: ولا يتساويان في القصاص وغيره، وإنما يتساويان في الإثم. قال الزرقاني: الاتفاق على حرمة فعل ذلك به في الحياة والموت لا في القصاص والدية، فمرفوعان عن كاسر عظم الميت إجماعا-انتهى. وكذا قال الطحاوي في مشكله. وحاصله أن عظم الميت له حرمة مثل ما لعظم الحي من الحرمة، فكان كاسره في انتهاك الحرمة ككاسر عظم الحي لكن لا حياة فيه، فينتفى القصاص والأرش لأنعدام المعنى الذي يوجبه وهو الحياة-انتهى. ويحتمل أن الميت يتألم كما يتألم الحي. ويؤيده ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته. قال ابن عبدالبر: يستفاد منه أن الميت يتألم بجميع ما يتألم به الحي، ومن لازمه أن يستلذ بما يستلذ به الحي. (رواه مالك وأبوداود وابن ماجه) الحديث أخرجه مالك موقوفا من قول عائشة أنه بلغه أنها كانت تقول: كسر عظم الميت ميتا ككسره وهو حي. قال ابن عبدالبر: كذا الأكثر الرواة، ولبعضهم مالك عن أبي الرجال عن عائشة موقوفا، ولا أعلم أحدا رفعه عن مالك-انتهى. وأخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي مرفوعا، وسكت عنه أبوداود والمنذري، وحسنه ابن

(10/326)


القطان. وقال ابن دقيق العيد والحافظ في بلوغ المرام: إنه على شرط مسلم،
?الفصل الثالث?
1729-(23) عن أنس، قال: ((شهدنا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدفن، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: هل فيكم من أحد لم يقارف
ورواه القضاعي من وجه آخر عنها، وزاد: في الإثم، وأخرجه ابن ماجه من حديث أم سلمة، وفيه هذه الزيادة، وفي سنده عبدالله بن زياد، وهو مجهول.
1729- قوله: (شهدنا) أي حضرنا. (بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي جنازتها، وهي أم كلثوم زوج عثمان بن عفان رضي الله عنه، بينه الواقدي في روايته عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن أنس، أخرجه ابن سعد في الطبقات في ترجمة أم كلثوم، وكذا الدولابي في الذرية الطاهرة، وكذلك رواه الطبري والطحاوي، وكانت وفاتها سنة تسع، ورواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس فسماها رقية، أخرجه البخاري في تاريخه الأوسط، والحاكم في المستدرك، وقد رده البخاري حيث قال: ما أدري ما هذا، فإن رقية ماتت والنبي - صلى الله عليه وسلم - ببدر لم يشهدها. قال الحافظ: وهم حماد في تسميتها فقط، ويؤيد الأول ما رواه ابن سعد أيضا في ترجمة أم كلثوم من طريق عمرة بنت عبدالرحمن قالت: نزل في حفرتها أبوطلحة. (تدفن) أي في حال دفنها. (ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس) جملة حالية. (على القبر) أي على جانب القبر وشفيره وهو الظاهر. (تدمعان) بفتح الميم أي تسيلان دمعا. وفيه جواز البكاء على الميت بعد موته حيث لا صياح ولا غيره مما ينكر شرعا، وأما قوله "فإذا وجبت فلا تبكين باكية" فهو محمول على الصياح ورفع الصوت، أو على الأولوية، أو أنه مخصوص بالنساء؛ لأنه قد يفضي بكاءهن إلى ما يحذر من النياحة لقلة صبرهن، فيكون من باب سد الذريعة. (هل فيكم من أحد) من زائدة. (لم يقارف) من المقارفة بالقاف والفاء. قال في النهاية: قارف الذنب إذا أتاه ولاصقه، وقارف

(10/327)


امرأته إذا جامعها. وفي جامع الأصول: لم يقارف أي لم يذنب ذنبا. ويجوز أن يراد الجماع فكنى عنه، ذكره الطيبي. وبالثاني جزم ابن حزم قال: ومعاذ الله أن يتزكى أبوطلحة بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لم يقارف ذنبا تلك الليلة-انتهى. ويقويه أن في رواية ثابت عن أنس عند البخاري في التاريخ الأوسط: لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة، فتنحى عثمان. وحكى عن الطحاوي أنه قال "لم يقارف" تصحيف، والصواب لم يقاول أي لم ينازع غيره الكلام؛ لأنهم كانوا يكرهون الحديث بعد العشاء. وتعقب بأنه تغليظ للثقة لغير مستند. قيل: سبب قوله - صلى الله عليه وسلم - إن عثمان كان قد جامع بعض جواريه في تلك الليلة. فتلطف - صلى الله عليه وسلم -
الليلة؟ فقال أبوطلحة: أنا. قال: فانزل في قبرها، فنزل في قبرها)) رواه البخاري.
1730-(24) وعن عمرو بن العاص قال لابنه وهو في سياق الموت: (( إذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا،

(10/328)


في منعه من النزول في قبر زوجته بغير تصريح. واستبعد أن يكون عثمان جامع في تلك الليلة التي حدث فيها موت زوجته لحرصه على مراعاة الخاطر الشريف. وأجيب عنه باحتمال أن يكون مرض المرأة طال واحتاج عثمان إلى الوقاع، ولم يكن يظن موتها تلك الليلة، وليس في الخبر ما يقتضي أنه واقع بعد موتها، بل ولا حين احتضارها. (الليلة) أي البارحة بقرينة السؤال. (فقال أبوطلحة) زيد بن سهل الأنصاري. (أنا) لم أقارف الليلة. (قال) عليه الصلاة والسلام: (فانزل في قبرها) فيه دليل على أنه لا ينزل في قبر الميت إلا الرجال متى وجدوا وإن كان الميت امرأة بخلاف النساء لضعفهن عن ذلك غالبا، ولأنه معلوم أنه كان لبنت النبي - صلى الله عليه وسلم - محارم من النساء كفاطمة وغيرها. وفيه أنه يقدم الرجال الأجانب الذين بعد عهدهم بالملاذ في مواراة الميت على الأقارب الذين قرب عهدهم بذلك كالأب والزوج. وعلل بعضهم من لم يقارف بأنه حينئذ يأمن من أن يذكره الشيطان بما كان منه تلك الليلة. قال النووي لا يشكل هذا الحديث على قولهم: إن المحارم والزوج أولى من صالح الأجانب لاحتمال أنه عليه الصلاة والسلام وعثمان كان لهما عذر منعهما نزول القبر، نعم يؤخذ من الخبر أنه لو كان ثمة صلحاء، وأحدهم بعيد العهد بالجماع قدم. (فنزل) أي أبوطلحة. (في قبرها) زاد في بعض الروايات: فقبرها أي لحدها. (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي والترمذي في الشمائل.

(10/329)


1730- قوله: (قال لابنه) أي عبدالله. (وهو) أي عمرو. (في سياق الموت) في مسلم: سياقة الموت. قال النووي: بكسر السين أي حال حضور الموت-انتهى. يقال: ساق المريض نفسه وسيق إذا شرع في نزع الروح. (إذا أنا مت) بضم الميم وكسرها. (فلا تصحبني) بفتح الحاء من باب سمع أي لا تترك أن يكون مع جنازتي. (نائحة) أي صائحة بالبكاء ونادبة بالنداء. (ولا نار) كان من عادة الجاهلية إرسال النار مع الميت، وقد هدم النبي - صلى الله عليه وسلم - شعار الجاهلية وأبطله. وقيل: لأنه سبب للتفاؤل القبيح. وقيل: المراد به البخور الذي يوضع في المجمر. (فإذا دفنتموني) أي أردتم دفني. (فشنوا) بضم الشين، أمر من شن الماء إذا صبه متفرقا. (علي) بتشديد الياء. (التراب شنا) قال النووي: سنوا علي التراب سنا، ضبطناه بالسين المهملة وبالمعجمة، وكذا قال القاضي: إنه بالمعجمة والمهملة قال: وهو الصب. وقيل: بالمهملة الصب في سهولة ورفق، وبالمعجمة التفريق.
ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي)) رواه مسلم.
1731-(25) وعن عبدالله بن عمر، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه فاتحة البقرة، وعند رجليه بخاتمة البقرة))

(10/330)


(أقيموا حول قبري) للدعاء بالتثبيت. (قدر ما ينحر جزور) بفتح الجيم وهي من الإبل، قاله النووي. وقال القاري: أي بعير وهو مؤنث اللفظ وإن أريد به المذكر، فيجوز تذكير "ينحر" وتأنيثه. (حتى أستأنس بكم) أي بدعائكم واستغفاركم وسؤالكم التثبيت. (وأعلم) أي من غير وحشة. (ماذا أراجع) أي أجاوب به. (رسل ربي) أي سؤال الملكين. وفي الحديث فوائد: منها إثبات فتنة القبر وسؤال الملكين، وهو مذهب أهل الحق، ومنها استحباب المكث عند القبر بعد دفن لحظة نحو ما ذكر لما ذكر. (رواه مسلم) في كتاب الإيمان في حديث طويل، وأخرجه أيضا البيهقي (ج5ص56).

(10/331)


1731- قوله: (فلا تحبسوه) أي لا تؤخروا دفنه من غير عذر. قال ابن الهمام: يستحب الإسراع بتجهيزه كله من حين يموت. (وأسرعوا به إلى قبره) هو تأكيد وإشارة إلى سنة الإسراع في الجنازة، وقد سبق الكلام فيه. (وليقرأ) بالتذكير وبسكون اللام ويكسر. (عند رأسه) أي بعد الدفن. (فاتحة البقرة) أي إلى المفلحون. (وعند رجليه بخاتمة) وفي بعض النسخ: خاتمة (البقرة) أي من ?آمن الرسول? الخ قال الطيبي: لعل تخصيص فاتحتها لاشتمالها على مدح كتاب الله، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بالخلال الحميدة من الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وخاتمتها لاحتوائها على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. وإظهار الاستكانة وطلبت الغفران والرحمة، والتولي إلى كنف الله تعالى وحمايته-انتهى. وفيه دليل على جواز قراءة أول البقرة وخاتمتها عند القبر بعد الدفن. ويدل عليه أيضا ما روى البيهقي (ج4ص56) عن عبدالرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه قال لبنيه: إذا أدخلتموني قبري فضعوني في اللحد، وقولوا: بسم الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنوا علي التراب سنا، واقرؤوا عند رأسي أول البقرة وخاتمتها، فإني رأيت ابن عمر يستحب ذلك، وهذا موقوف على ابن عمر، كما ترى، وليس بمرفوع، وكذا الحديث الذي نحن في شرحه، كما سيأتي، ونقل الزيلعي حديث عبدالرحمن بن العلاء عن الطبراني بلفظ: عن عبدالرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال: قال لي أبي اللجلاج أبوخالد: يا بني إذا أنا مت فالحد لي، فإذا وضعتني في اللحد فقل: باسم الله وعلى ملة رسول الله ثم شن التراب على شنا، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(10/332)


يقول ذلك، وهذا كما ترى مرفوع، وقد سكت عنه الزيلعي. وقال الهيثمي: رجاله موثقون. وقد استدل بالحديثين على إهداء ثواب قراءة القرآن للميت. وفيه نظر، فإنه ليس فيهما ذكر للإهداء وجعل ثواب القراءة للميت. والظاهر أن قراءة أول البقرة وخاتمتها عند القبر كانت ليأنس بها الميت فيختص ذلك بأن يكون عند القبر عقب الدفن لا مطلقا. واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن وغيرها من العبادات البدنية للميت كالصلاة والصوم والذكر، بعد ما اتفقوا على أنه ينتفع الميت بما تسبب إليه في حياته، وبدعاء المسلمين، واستغفارهم له، والصدقة والحج. فذهب أحمد وأبوحنيفة إلى وصول ثواب القراءة وغيرها من العبادات البدنية. واستدل لهما بأحاديث ذكرها القاري في المرقاة نقلا عن شرح الصدور للسيوطي، وقد نقلها شيخنا في شرح الترمذي (ج2 ص26) وفي كتاب الجنائز له (ص103-104)، وهي ضعيفة كلها لا تصلح للاستدلال والاحتجاج، وبالقياس على الدعاء والصدقة والحج. وذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك لا يصل. واستدل لهما بدلائل ذكرها ابن القيم في كتاب الروح (ص196- 197) ثم بسط في الجواب عنها، ولبعض شيوخنا رسالة لطيفة في الأردوية في هذه المسألة رتبها على مقدمة ومقصد وخاتمة، وسماها "إهداء ثواب" وبسط الكلام في تحقيق المقام فأجاد، فعليك أن تطالعها، وقد اختار هو القول بعدم وصول ثواب قراءة القرآن إلى الميت، وإليه يميل قلبي، فإنه لم يقم على إهداء ثواب القراءة دليل شرعي لا من قرآن ولا من سنة صريحة صحيحة ولا من إجماع، ولا يكفي في مثل هذه المسألة حديث ضعيف أو أثر صحابي فضلا عن القياس أو أثر التابعي ومن دونه. وقد صرح ابن القيم الذي هو قائل بوصول ثواب القراءة إلى الميت بأنه لم يصح عن السلف شيء في ذلك، واعتذر عن هذا بأنهم كانوا يخفون أعمال البر، واعترض عليه بأنه لو كان معروفا لكان عن اعتقاد مشروعيته، وحينئذ يبلغونه ولا يكتمونه، بل لتوفرت الدواعي على نقله

(10/333)


عنهم بالتواتر؛ لأنه من رغائب جميع الناس. هذا، وقد رد صاحب تفسير المنار (ج8 ص257- 258) على ابن القيم ردا حسنا فيما طول له الكلام من إثبات إهداء الثواب إلى الأموات، فارجع إليه إن شئت. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ?وأن ليس للإنسان إلا ما سعى? [النجم: 39] ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقسية والآراء. فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما- انتهى. وفي الاختيارات لشيخ الإسلام تقى الدين بن تيمية: ولم يكن من
رواه البيهقي في شعب الإيمان وقال: والصحيح أنه موقوف عليه.
1732- (26) وعن ابن أبي مليكة، قال: ((لما توفي عبدارحمن بن أبي بكر بالحبشى، وهو موضع، فحمل إلى مكة فدفن بها، فلما قدمت عائشة أتت قبر عبدالرحمن بن أبي بكر فقالت:
……وكنا كندماني جذيمة حقبة … من الدهر، حتى قيل: لن يتصدعا

(10/334)


عادة السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا أو حجوا تطوعا أو قرؤوا القرآن، يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف، فإنه أفضل وأكمل- انتهى. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) ونقله الهيثمي عن الطبراني في الكبير، وقال: وفيه يحيى بن عبدالله البابلتي. وهو ضعيف- انتهى. قلت: هو يحيى بن عبدالله بن الضحاك البابلتى أبوسعيد الحراني ضعفه أبوزرعة وغيره. وقال أبوحاتم لا يعتد به. وقال ابن عدى: له أحاديث صالحة تفرد ببعضها، وأثر الضعف على حديثه بين. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف. وقال الخليلي: شيخ مشهور أكثر عن الأوزاعي، وطعنوا في سماعه عنه. قال ابن معين: لم يسمع والله من الأوزاعي شيئا. (وقال) البيهقي. (والصحيح أنه موقوف عليه) أي على ابن عمر.

(10/335)


1732- قوله: (وعن ابن أبي مليكة) هو عبدالله بن عبيدالله بن أبي ملكية بالتصغير تقدم ترجمته. (عبدالرحمن بن أبي بكر) أي الصديق أمه أم رومان والدة عائشة فهو شقيق عائشة، كان أسن ولد أبي بكر، أسلم قبيل الفتح، وكان اسمه في الجاهلية عبدالكعبة أو عبدالعزى، فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماه عبدالرحمن، وكان امرأ صالحا لم يجرب عليه كذبه قط، وكان أشجع رجال قريش وأرماهم بسهم، وحضر اليمامة مع خالد بن الوليد فقتل سبعة من كبارهم، وشهد الفتوح الأخرى وشهد الجمل مع أخته عائشة، وكان أخوه محمد يومئذ مع علي رضي الله عنهم أجمعين، وأبى عبدالرحمن على معاوية البيعة ليزيد، وبعث إليه معاوية بعد ذلك بمائة ألف درهم فردها عليه وأبى أن يأخذها، وقال: لا أبيع ديني بدنياي، فخرج إلى مكة فمات بها قبل أن تتم البيعة ليزيد. وقيل: مات بطريق مكة فجأة سنة (53) وقيل بعد ذلك، وتوفيت عائشة بعد ذلك بيسير سنة (59). (بالحبشى) بضم الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة وتشديد الياء آخر الحروف، موضع قريب بمكة على اثني عشر ميلا من مكة. وقيل: على نحو عشرة أميال منها. وقال الجوهري: جبل بأسفل مكة. (وهو موضع) تفسير من الراوي. (فحمل) أي نقل من الحبشى. (فلما قدمت عائشة) أي إلى مكة حاجة. (فقالت) أي منشدة مشيرة إلى أن طول الاجتماع في الدنيا بعد زواله يكون كأقصر زمن وأسرعه، كما هو شأن الفاني جميعه. (وكنا كندماني جذيمة) قال الشمني في شرح المغني: هذا البيت لتميم بن نويرة يرثي أخاه مالكا الذي قتله خالد بن الوليد في خلافة
فلما تفرقنا، كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك)).

(10/336)


أبي بكر الصديق. وجذيمة بفتح الجيم وكسر الذال. قال الطيبي: جذيمة هذا كان ملكا بالعراق والجزيرة وضم إليه العرب وهو صاحب الزباء- انتهى. وفي القاموس: الزباء ملكة الجزيرة وتعد من ملوك الطوائف، أي كنا كندمانى جذيمة وجليسيه، وهما مالك وعقيل كانا منادميه وجليسيه وأنيسيه مدة أربعين سنة. (حقبة) بالكسر أي المدة طويلة. (حتى قيل لن يتصدعا) أي إلى أن قال الناس لن يتفرقا. (فلما تفرقنا) أي بالموت. (كأني ومالكا) هو أخو الشاعر الميت. (لطول اجتماع) قيل اللام بمعنى مع أو بعد كما في قوله تعالى: ?أقم الصلاة لدلوك الشمس?[الإسراء:78] ومنه: صوموا لرويته، أي بعد رؤيته. (لم نبت ليلة معا) أي مجتمعين. (ثم قالت) أي عائشة: (لو حضرتك) أي وقت الدفن. (ما دفنت) بصيغة المجهول. (إلا حيث مت) أي منعتك أن تنقل من مكان إلى مكان، بل دفنت حيث مت، وقد سبق الكلام في نقل الميت فيما تقدم، وكأنها ذهبت إلى منع النقل مطلقا. (ولو شهدتك) أي حضرت وفاتك. (ما زرتك) قال الطيبي: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور-انتهى. ويرد عليه أن عائشة كيف زارت مع النهي وإن كانت لم تشهد وقت موته ودفنه، ويمكن أن يجاب عنه بأن النهي محمول على تكثير الزيارة؛ لأنه صيغة مبالغة، ولذا قالت: لو شهدتك ما زرتك؛ لأن التكرار ينبىء عن الإكثار. وفيه أنه ورد اللعن على مطلق الزيارة في بعض الروايات أي بغير صيغة المبالغة. فقد روى أحمد وأبوداود وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا: لعن الله زائرات القبور. وقد تقدم في باب المساجد مع الكلام عليه. وقيل: النهي محمول على زيارتهن لمحرم كالنوح وغيره مما اعتدنه. واختلف العلماء في زيارة القبر للنساء، فذهب الأكثر إلى الجواز. ومحله ما إذا أمنت الفتنة، ويؤيد الجواز حديث أنس الآتي في باب البكاء قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبرها، فقال: اتقي الله واصبري الخ. فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم

(10/337)


ينكر على المرأة قعودها عند القبر وتقريره حجة. قال البيهقي: ليس في خبر أنس أنه نهاها إلى الخروج إلى المقبرة، ويؤيد الجواز أيضا ما رواه مسلم من حديث عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله تعني إذا زرت القبور، قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين-الحديث. سيأتي في باب زيارة القبور، وممن حمل الإذن في زيارة القبور على عمومه للرجال والنساء عائشة، كما يدل عليه حديث الباب وأصرح منه ما روى الحاكم (ج1:ص376) والبيهقي (ج4:ص78) والأثرم في سننه كلهم من طريق ابن أبي مليكة أنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبدالرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها، وسيأتي مزيد الكلام عليه في باب
رواه الترمذي.
1733- (27) وعن أبي رافع، قال: ((سل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعدا ورش على قبره ماء)). رواه ابن ماجه.
1734- (28) وعن أبي هريرة: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة، ثم أتى القبر فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا)). رواه ابن ماجه.
زيارة القبور. (رواه الترمذي) ولم يحكم عليه بشيء من الصحة والضعف. قال شيخنا: ورجاله ثقات إلا أن ابن جريح مدلس، ورواه عن عبدالله بن أبي مليكة بالعنعنة.

(10/338)


1733- قوله: (سل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعدا) أي ابن معاذ بأن وضع السرير في مؤخر القبر ثم حمل سعدا من قبل رأسه وأدخله في القبر، وهو الأفضل عند الشافعي وأحمد، وقد سبق الكلام فيه مفصلا. (ورش على قبره ماء) فيه مشروعية رش القبر بالماء ولا خلاف فيها. (رواه ابن ماجه) بإسناد ضعيف. قال في الزوائد في إسناده مندل بن علي ضعيف، ومحمد بن عبيدالله بن أبي رافع متفق على ضعفه-انتهى. قلت: محمد بن عبيدالله هذا. قال البخاري فيه: منكر الحديث. وقال أبوحاتم : ضعيف الحديث منكر الحديث جدا وذاهب. وقال الدارقطني: متروك، وله معضلات. وقال ابن معين: ليس بشيء، وذكره ابن حبان في الثقات، كذا في تهذيب الحافظ. وقال الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص300) بعد ذكر الحديث: ومندل بن علي ضعيف-انتهى. فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج بإنفراده، لكن قد تقدم في الرش والسل أحاديث أخرى، وهي تؤيد حديث أبي رافع هذا.

(10/339)


1734- قوله: (فحثى عليه) أي رمى على قبره بالتراب. (ثلاثا) أي ثلاث حثيات. (رواه ابن ماجه) قال الحافظ في التلخيص (ص165) بعد نقل هذا الحديث عن ابن ماجه: وقال أبوحاتم في العلل: هذا حديث باطل قلت: (قائله الحافظ) إسناده ظاهره الصحة. قال ابن ماجه: حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي ثنا يحيى بن صالح ثنا سلمة بن كلثوم ثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة الخ، ليس لسلمة بن كلثوم في سنن ابن ماجه وغيرها إلا هذا الحديث الواحد، ورجاله ثقات، وقد رواه ابن أبي داود في كتاب "التفرد" له من هذا الوجه، وزاد في المتن أنه كبر عليه أربعا، وقال بعده: ليس يروى في حديث صحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر على جنازة أربعا إلا هذا، فهذا حكم منه بالصحة على هذا الحديث، لكن أبوحاتم إمام لم يحكم عليه بالبطلان إلا بعد أن تبين له، وأظن العلة فيه عنعنة الأوزاعي وعنعنة شيخه، وهذا كله
1735- (29) وعن عمرو بن حزم، قال: ((رآني النبي - صلى الله عليه وسلم - متكئا على قبر، فقال: لا تؤذ صاحب هذا القبر، أو لا تؤذه)). رواه أحمد.
(7) باب البكاء على الميت
?الفصل الأول?
1736- (1) عن أنس، قال: ((دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سيف
إن كان يحيى بن صالح هو الوحاظي شيخ البخاري-انتهى كلام الحافظ. وقد نقل الشوكاني كلام الحافظ هذا في النيل وسكت عليه.

(10/340)


1735- قوله: (وعن عمرو بن حزم) بفتح الحاء وسكون الزاي. ( تؤذ صاحب القبر) أي لا تهنه فإن روح الميت لا يرضى بالإتكاء على قبره لتضمنه الإهانة. (أو لا تؤذه) أي بالضمير موضع لفظ صاحب القبر وهو شك من الراوي، ورواه النسائي بلفظ: لا تقعدوا على القبور، وكذا وقع في رواية لأحمد، كما قال الحافظ في الفتح. وفي الحديث دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن المراد بالجلوس القعود على حقيقته لا الحدث، وفيه بيان علة المنع من الجلوس وهو التأذى. (رواه أحمد) وأخرجه أيضا النسائي. قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح، وفي الباب عن عمارة بن حزم أخي عمرو بن حزم قال رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا على قبر فقال: أنزل من القبر لا تؤذ صاحب القبر. أخرجه أحمد من طريق نعيم بن زياد الحضرمي عن عمارة، ذكره الحافظ في الإصابة. (ج2:ص514) وعزاه الهيثمي للطبراني، وقال: وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام، وقد وثق.
(باب البكاء) بالمد على الأفصح أي جوازه. (على الميت) أي بدون نياحة.
1736- قوله: (على أبي سيف) بفتح السين، قال عياض: اسمه البراء بن أوس الأنصاري، وأم سيف زوجته هي أم بردة واسمها خولة بنت المنذر الأنصارية. قال الحافظ في الفتح: جمع بذلك بين ما وقع في هذا الحديث الصحيح وبين قول الواقدي فيما رواه ابن سعد في الطبقات عنه عن يعقوب بن أبي صعصعة عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي صعصعة قال: لما ولد إبراهيم تنافست فيه نساء الأنصار أيتهن ترضعه، فدفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد من بني عدي بن النجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد من بني عدي بن النجار، فكانت ترضعه وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيه في بني النجار-انتهى. وما جمع به غير مستبعد، إلا أنه لم يأت عن أحد من الأئمة التصريح بأن البراء بن أوس يكنى أبا سيف، ولا أن أبا سيف يسمى البراء

(10/341)


القين، وكان ظئرا لإبراهيم، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان. فقال له عبدالرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟!
ابن أوس، وقال في الإصابة في ترجمة أبي سيف بعد ذكر رواية الواقدي ما لفظه: فإن كان ثابتا احتمل أن تكون أم بردة أرضعته ثم تحول إلى أم سيف وإلا فالذي في الصحيح هو المعتمد-انتهى. وقال في ترجمة أم بردة: اسمها خولة، قاله ابن سعد، وهي التي أرضعت إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم -، دفعه إليها لما وضعته مارية، فلم تزل ترضعه حتى مات عنها. وقال أبوموسى: المشهور أن التي أرضعته أم سيف، ولعلهما جميعا أرضعتاه-انتهى. (القين) بفتح القاف وسكون الياء آخره نون صفة لأبي سيف أي الحداد، ويطلق على كل صانع، يقال: قان الشيء إذا أصلحه. (وكان) أي أبوسيف. (ظئرا) بكسر الظاء المعجمة وسكون الهمزة أي مرضعا، وأطلق عليه ذلك؛ لأنه كان زوج المرضعة، وأصل الظئر من ظأرت الناقة إذا عطفت على غير ولدها، فقيل ذلك للتي ترضع ولد غيرها، وأطلق ذلك على زوجها؛ لأنه يشاركها في تربيته غالبا. قال ابن الجوزي: الظئر المرضعة ولما كان زوجها تكفله سمي ظئرا، وأصله عطف الناقة على غير ولدها ترضعه، وفي المحكم: الظئر العاطفة على ولد غيرها المرضعة من الناس والإبل الذكر والأنثى في ذلك سواء. (لإبراهيم) أي ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية لمسلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين بالمدينة يقال له أبوسيف، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعته، فانتهى إلى أبي سيف، وهو ينفخ بكيره وقد امتلأ البيت دخانا، فأسرعت المشى بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا أباسيف! امسك جاء رسول الله - صلى الله عليه

(10/342)


وسلم -. (فقبله وشمه) أي وضع أنفه ووجهه على وجهه كمن يشم رائحة. فيه أي محبة الأطفال والترحم بهم سنة. (ثم دخلنا عليه) أي على أبي سيف. (بعد ذلك) أي بأيام. (وإبراهيم يجود بنفسه) أي يخرجها ويدفعها، كما يدفع الإنسان ماله يجود به. (تذرفان) بالذال المعجمة وكسر الراء وبالفاء أي يجري دمعها. في النهاية: ذرفت العين إذا جرى دمعها. (وأنت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيه معنى التعجب، والواو تستدعى معطوفا عليه، أي الناس لا يصبرون على المصائب ويتفجعون ويبكون، وأنت تفعل كفعلهم، أي لا ينبغي لك أن تنفجع، كأنه استغرب ذلك منه؛ لأنه يدل على ضعف النفس والعجز عن مقاومه المصيبة بالصبر، ويخالف ما عهده منه من الحث على الصبر والنهي عن الجزع، فأجاب بقوله: إنها رحمة، أي الحالة التي تشاهدها مني يا ابن عوف هي رقة ورحمة وشفقة على المقبوض، أي الولد، لا ما توهمت من الجزع وقلة الصبر، ووقع في حديث جابر عند الترمذي والبيهقي، وفي حديث عبدالرحمن نفسه عند ابن سعد والطبراني: فقلت: يا رسول الله! تبكي، أو لم تنه عن البكاء؟ وزاد
فقال يا ابن عوف! إنها رحمة، ثم اتبعها بأخرى، فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) متفق عليه.
1737- (2) وعن أسامة بن زيد، قال: (( أرسلت ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه: أن ابنا لي قبض

(10/343)


فيه: إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، قال: إنما هذا رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم. وفي رواية محمود بن لبيد عند ابن سعد فقال: إنما أنا بشر. وعند عبدالرزاق من مرسل مكحول: إنما أنهى الناس عن النياحة، أن يندب الرجل بما ليس فيه. (إنها) أي هذه الدمعة التي تراها في العين أو الحالة التي تشاهدها. (رحمة) أي أثر رحمة جعلها الله في قلوب عباده. (ثم اتبعها بأخرى) أي اتبع الدمعة الأولى بدمعة أخرى، وقيل: اتبع الكلمة الأولى المجملة، وهي قوله: "إنها رحمة" بكلمة أخرى مفصلة، وهي قوله: إن العين تدمع، والقلب يحزن. فكان هذه الكلمة الأخرى صارت مفسرة للكلمة الأولى. قال الحافظ: ويؤيد هذا التأويل ما تقدم من طريق عبدالرحمن ومرسل مكحول. (والقلب) بالنصب ويرفع. (يحزن) بفتح الزاي. (ولا نقول) أي مع ذلك. (إلا ما يرضى ربنا) قال القاري: وفي نسخة بضم الياء وكسر الضاد ونصب ربنا. (وإنا بفراقك) أي بسبب مفارقتك إيانا. (لمحزونون) وفي حديث عبدالرحمن ومحمود بن لبيد: ولا نقول ما يسخط الرب، وزاد في حديث عبدالرحمن في آخره: لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وسبيل تأتيه، وأن آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا، ونحوه في حديث أسماء بنت يزيد عند ابن ماجه ومرسل مكحول، وفي آخر حديث محمود بن لبيد وقال: إن له مرضعا في الجنة. ومات وهو ابن ثمانية عشر شهرا. قال ابن بطال وغيره: هذا الحديث يفسر البكاء المباح والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى. وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمه. ومشروعية الرضاع، وعيادة الصغير، والحضور عند المحتضر، ورحمة العيال، وجواز الأخبار عن الحزن وإن كان الكتمان أولى. وفيه وقوع الخطاب للغير، وإرادة غير بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -

(10/344)


ولده مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب لوجهين: أحدهما صغره. والثاني نزعه، وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين، إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق. وفيه جواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله ليظهر الفرق ذكره الحافظ في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أبوداود والبيهقي من وجه آخر بنحوه، وكذا مسلم، وقد ذكرنا أوله.
1737- قوله: (أرسلت ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم -) هي زينب كما عند ابن أبي شيبة وابن بشكوال. (أن ابنا لي قبض) أي قرب قبضه وموته. وقال القسطلاني: أي في حال القبض ومعالجة الروح، فأطلق القبض مجازا باعتبار أنه في
فأرسل يقرئ السلام، ويقول: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه

(10/345)


حالة كحالة النزع. وفي النهاية: قبض المريض إذا توفي وإذا أشرف على الموت. قيل: الابن المذكور هو علي بن أبي العاص بن الربيع. واستشكل بأنه عاش حتى ناهز الحلم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أردفه على راحلته يوم الفتح فلا يقال فيه صبي عرفا وإن جاز من حيث اللغة. وقيل: هو عبدالله بن عثمان بن عفان من رقية بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لما روى البلاذري في الأنساب أنه لما توفي وضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرة وقال: إنما يرحم الله من عباده الرحماء. وقيل: هو محسن؛ لما روى البزار في مسنده عن أبي هريرة قال: ثقل ابن لفاطمة فبعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر نحو حديث الباب ولا ريب أنه مات صغيرا. وقيل: هي أمامة بنت زينب لأبي العاص بن الربيع، كما ثبت في مسند أحمد. وصوبه الحافظ، وأجاب عما استشكل من قوله "قبض" مع كون أمامة عاشت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تزوجها علي بن أبي طالب وقتل عنها، بأن الظاهر أن الله أكرم نبيه عليه الصلاة والسلام لما سلم الأمر ربه وصبر ابنته، ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة والشفقة، بأن عافى الله ابنة ابنته في ذلك الوقت، فخلصت من تلك الشدة، وعاشت تلك المدة. وقال العيني: الصواب قول من قال ابني أي بالتذكير لا ابنتي بالتأنيث، كما نص عليه في حديث الباب، وجمع البرماوي بين ذلك باحتمال تعدد الواقعة في بنت واحد أو بنتين، أرسلت زينب في علي أو أمامة، أو رقية في عبدالله بن عثمان، أو فاطمة في ابنها محسن بن علي، كذا ذكر القسطلاني. (فأرسل) - صلى الله عليه وسلم -. (يقرئ) بضم الياء أي عليها. (السلام ويقول) أي تسلية لها. (إن لله ما أخذ وله ما أعطى) أي فلا حيلة إلا الصبر، قدم ذكر الأخذ على الإعطاء وإن كان متأخرا في الواقع لما يقتضيه المقام، والمعنى أن الذي أراد الله أن يأخذه هو الذي كان أعطاه، فإن أخذه أخذ ما هو له، فلا ينبغي الجزع؛ لأن مستودع الأمانة

(10/346)


لا ينبغي له أن يجزع إذا استعيدت منه، وكلمة "ما" في الموضعين موصولة، ومفعول أخذ وأعطى محذوف؛ لأن الموصول لا بد له من صلة وعائد، ونكتة حذف المفعول فيهما الدلالة على العموم، فيدخل فيه أخذ الولد وإعطاءه وغيرهما، ويجوز أن تكون "ما" في الموضعين مصدرية، والتقدير إن لله الأخذ والإعطاء، وهو أيضا أعم من إعطاء الولد وأخذه. (وكل) أي وكل واحد من الأخذ والإعطاء. (عند الله) أي في علمه. (بأجل مسمى) أي مقدر بأجل معلوم. (ولتحتسب) أي تنوى بصبرها طلب الثواب من ربها ليحسب لها ذلك من عملها الصالح. (فأرسلت) أي ابنته. (إليه) - صلى الله عليه وسلم -. (تقسم) بضم التاء من الإقسام، وهي جملة حالية، ووقع في حديث عبدالرحمن بن عوف عند الطبراني أنها راجعته مرتين، وأنه إنما قام في ثالث مرة. أما ترك أجابته
ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال فرفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبي ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله! ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، فإنما يرحم الله من عباده الرحماء)).

(10/347)


- صلى الله عليه وسلم - أولا فيحتمل أنه كان في شغل في ذلك الوقت، أو كان امتناعه مبالغة في إظهار التسليم لربه. أو كان لبيان الجواز في أن من دعي لمثل ذلك لم تجب عليه الإجابة، بخلاف الوليمة مثلا، وأما إجابته - صلى الله عليه وسلم - بعد إلحاحها عليه فكانت دفعا لما يظنه بعض الجهلة أنها ناقصة المكان عنده، أو أنه لما رآها عزمت عليه بالقسم حن عليها بإجابته. (ليأتينها) بالنون المؤكدة. (فقام ومعه) بإثبات واو الحال. (ورجال) أي آخرون ذكر منهم في غير هذه الرواية عبادة بن الصامت وأسامة راوي الحديث وعبدالرحمن بن عوف. (فرفع) بضم الراء من الرفع، يعني فمشوا إلى أن وصلوا إلى بيتها فاستأذنوا فأذن لهم فرفع (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبي) أو الصبية، أي وضع في حجرة عليه الصلاة والسلام. (ونفسه) أي روحه (تتقعقع) أي تضطرب وتتحرك ولا تثبت على حالة واحدة، كذا في النهاية، والجملة اسمية حالية. (ففاضت) أي سالت. (عيناه) أي عينا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبكاء. (فقال سعد) هو ابن عبادة المذكور. (ما هذا؟) أي البكاء منك. (فقال: هذه) أي الدمعة التي تراها. (رحمة) أي أثر رحمة أي أن الذي يفيض من الدمع من حزن القلب بغير تعمد من صاحبه ولا استدعاء، لا مؤاخذة عليه، وإنما المنهي عنه الجزع وعدم الصبر. قال النووي: ظن سعد أن جميع أنواع البكاء حرام، وأنه عليه الصلاة والسلام نسي فاعلمه عليه الصلاة والسلام أن مجرد البكاء ودمع العين ليس بحرام ولا مكروه، بل هو رحمة وفضيلة، وإنما المحرم النوح والندب والبكاء المقرون بهما أو بأحدهما. (فإنما) وفي بعض النسخ وإنما أي بالواو. (يرحم الله من عباده الرحماء) جمع رحيم بمعنى الراحم، أي وإنما يرحم الله من عباده من اتصف بأخلاقه ويرحم عباده، و "من" في عباده بيانية حال من المفعول وهو الرحماء، وقيل: الأظهر أن "من" تبعيضية أي إنما يرحم من جملة عباده الرحماء، فمن لا يرحم لا

(10/348)


يرحم، وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز استحضار ذوى الفضل للمحتضر لرجاء بركتهم ودعائهم، وجواز القسم عليهم لذلك. وفيه استحباب إبرار المقسم، وأمر صاحب المصيبة بالصبر قبل وقوع الموت ليقع وهو مستشعر بالرضى مقاوما للحزن بالصبر. وفيه تقديم السلام على الكلام، وعيادة المريض ولو كان مفضولا أو صبيا صغيرا، وفيه أن أهل الفضل لا ينبغي أن يقطعوا الناس عن فضلهم ولو ردوا أول مرة، واستفهام التابع عما يشكل عليه مما يتعارض ظاهره، وفيه الترغيب في الشفقة على خلق الله تعالى والرحمة لهم، والترهيب من قساوة القلب وجمود العين، وجواز
متفق عليه.
1738- (3) وعن عبدالله بن عمر، قال: ((اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غاشية، فقال: قد قضى؟ قالوا: لا، يا رسول الله! فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بكوا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه
البكاء من غير نوح ونحوه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز والطب والنذور والتوحيد، ومسلم في الجنائز. وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي.

(10/349)


1738- قوله: (اشتكى) أي مرض. (شكوى) بغير تنوين، مصدر أو مفعول به أي مرضا. (له) أي حاصلا له. (يعوده) حملة حالية أي يقصد عيادته. (في غاشية) بمعجمتين. قال الخطابي: هذا يحتمل وجهين أن يراد به القوم الحضور عنده الذين هم غاشيته، أي يغشونه للخدمة، وأن يراد ما يتغشاه من كرب الوجع الذي به. ويؤيده ما وقع في رواية مسلم: في غشية، وورد في بعض روايات البخاري: في غاشية أهله، وهذا يأبى المعنى الثاني، ولا يتأتى ذلك إلا على رواية العامة بإسقاط أهله. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: الغاشية الداهية من شر أو مرض أو مكروه، والمراد به ههنا ما كان يتغشاه من كرب الوجع الذي فيه لا حال الموت؛ لأنه بريء من ذلك المرض وعاش بعده زمانا. (فقال) - صلى الله عليه وسلم -. (قد قضي) على بناء المفعول بحذف همزة الاستفهام، أي أقد خرج من الدنيا، ظن أنه قد مات فسأل عن ذلك. (فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي رحمة عليه. (فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم -) في نسبة البكاء إلى الروية إشارة إلى أنه لم يكن إلا الدمعة. (بكوا) في هذا إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن عبدالرحمن بن عوف كان معهم في هذه، ولم يعترضه بمثل ما اعترض به هناك، فدل على أنه تقرر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر. (ألا تسمعون، إن الله) بكسر الهمزة استئنافا؛ لأن قوله "تسمعون" لا يقتضي مفعولا؛ لأنه جعل كاللازم، فلا يقتضى مفعولا، أي ألا توجدون السماع، كذا قرره البرماوي والحافظ، كالكرماني، وقد تعقبه العيني، فقال: ما المانع أن يكون بالفتح في محل المفعول لتسمعون، وهو الملائم لمعنى الكلام-انتهى. قال القسطلاني: لكن الذي في روايتنا بالكسر. قال الحافظ: وفيه إشارة إلى أنه فهم من بعضهم الإنكار، فبين لهم الفرق بين الحالتين. (ولكن يعذب بهذا) أي إن قال

(10/350)


أو يرحم، وإن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)). متفق عليه.
1739- (4) وعن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)).
سواء من الجزع والنوح. (أو يرحم) أي بهذا إن قال خيرا واستسلم لقضاء الله. ويحتمل أن يكون معنى قوله "أو يرحم" أي إن لم ينفذ الوعيد. (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) يأتي الكلام فيه في الفصل الثالث من هذا الباب. وفي هذا الحديث من الفوائد: استحباب عيادة المريض، وعيادة الفاضل للمفضول، والإمام لأتباعه مع أصحابه، وفيه النهي عن المنكر، وبيان الوعيد عليه، وجواز البكاء عند المريض، وجواز إتباع القوم للباكي. (متفق عليه) إلا أن قوله: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" في هذا الحديث من زيادات البخاري، والحديث أخرجه البيهقي أيضا.

(10/351)


1739- قوله: (ليس منا) أي من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، إذ المعاصي لا يكفر بها عند أهل السنة، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاتبته لست منك ولست مني، أي ما أنت على طريقتي. وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل، أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله. قال الحافظ في الفتح: ويظهر لي أن هذا النفي يفسره التبرئ المذكور في حديث أبي موسى الآتي حيث قال: أنا بريء ممن حلق الخ. وأصل البراءة الانفصال من الشيء، وكأنه توعده بأن لا يدخله في شفاعته، وهذا يدل على تحريم ما ذكر من شق الجيب وغيره، وكان السبب في ذلك ما تضمنه ذلك من عدم الرضا بالقضاء، فإن وقع التصريح باستحلاله مع العلم بتحريم السخط مثلا بما وقع فلا مانع من حمل النفي على الإخراج من الدين. قال: وحكي عن سفيان الثوري: أنه كان يكره الخوض في تأويله ويقول: ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر-انتهى. (من ضرب الخدود) خص الخد بذلك لكونه الغالب في ذلك وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك، وإنما جمع وإن كان ليس للإنسان إلا خدان فقط باعتبار إرادة الجمع، فإن من مفرد اللفظ مجموع المعنى فيكون من مقابلة الجمع بالجمع. وأما على قوله تعالى: ?وأطراف النهار?[طه:130]. وقول العرب: شابت مفارقه، وليس إلا مفرق واحد. (وشق الجيوب) بضم الجيم جمع جيب بفتح الجيم، وهو الخرق الذي يخرج الإنسان منه رأسه في القميص ونحوه، من جابه أي قطعه. (ودعا بدعوى الجاهلية) في رواية مسلم بدعوى أهل الجاهلية وهي زمان الفترة قبل الإسلام، أي دعا بدعائهم بأن قال عند البكاء ما لا يجوز شرعا مما يقول به أهل الجاهلية، كالدعاء بالويل والثبور وكواكهفاه واجبلاه. وعمومه يشمل الذكر والأنثى،
متفق عليه.

(10/352)


1740-(5) وعن أبي بردة، قال: ((أغمي على أبي موسى، فأقبلت امرأته أم عبدالله تصيح برنة، ثم أفاق، فقال: ألم تعلمي! وكان يحدثها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق)). متفق عليه.
وتخصيص الإناث في بعض الأحاديث خرج مخرج العادة، فإن هذه الأفعال إنما هي عادتهن لا عادة الذكور، والواو فيهما بمعنى أو، فالحكم في كل واحد لا المجموع؛ لأن كلا منهما دال على عدم الرضاء والتسليم للقضاء. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز، وفي مناقب قريش، ومسلم في الإيمان. وأخرجه أيضا أحمد. (ج1:ص386،432،442،456،465) والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي.

(10/353)


1740- قوله: (أغمي على أبي موسى) الأشعري. وفي رواية: وجع أبو موسى وجعا فغشي عليه. (فأقبلت) أي شرعت وجعلت وصارت. (امرأته أم عبدالله) أي بنت أبي دومة، كما في رواية النسائي، ويستفاد من تاريخ البصرة لعمر بن شبة أن اسمها صفية بنت دمون، وأنها والدة أبي بردة بن أبي موسى، وأن ذلك وقع حيث كان أبوموسى أميرا على البصرة من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي صحابية هاجرت مع أبي موسى، ذكرها الحافظ وابن عبدالبر في الكنى من الصحابيات. (تصيح برنة) بفتح الراء وتشديد النون، صوت مع البكاء فيه ترجيع. (ثم أفاق) أي أبوموسى. (ألم تعلمي) أي ما حدثتك. (وكان يحدثها) قال الطيبي: وكان يحدثها حال، والعامل قال، ومفعول "ألم تعلمي" مقول القول، أي ألم تعلمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنا بريء، فتنازعا فيه. (أنا بريء) قال عياض: أي من فعلهن أو مما يستوجبن من العقوبة أو من عهدة ما لزمني بيانه، وأصل البراءة الانفصال، وليس المراد التبري من الدين والخروج منه. قال النووي: ويحتمل أن يراد به ظاهره وهو البراءة من فاعل هذه الأمور. (ممن حلق) أي شعره عند المصيبة لأجلها كما هو عادة الهنادك في الهند. (وصلق) بالصاد المهملة والقاف، وفي المصابيح بالسين بدل الصاد وهو لغة، ومنه قوله تعالى: ?سلقوكم بألسنة حداد? [الأحزاب:19]. أي رفع صوته بالبكاء عند المصيبة. وقيل: هو أن تصك المرأة وجهها وتخدشه. (وخرق) بالتخفيف أي شق ثوبه عند المصيبة، والحديث يدل على تحريم هذه الأفعال؛ لأنها مشعرة بعدم الرضا بالقضا، وكان الجميع من صنيع الجاهلية، وكان ذلك في أبلغ الأحوال من صنيع النساء. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز معلقا. وقيل موصولا، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أحمد أيضا. (ج4:ص396-404-405-411-416)
ولفظه لمسلم.

(10/354)


1741-(6) وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها،
وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن حبان. (ولفظه لمسلم) ولفظ البخاري: قال (أي أبوبردة) وجع أبوموسى وجعا فغشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئا، فلما أفاق قال: أنا بريء ممن بريء منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة.

(10/355)


1741- قوله: (أربع) أي أربع خصال كائنه. (في أمتي) حال كونهن. (من أمر الجاهلية) أي من أمورهم وخصالهم المعتادة. (لا يتركونهن) يعني أن هذه الخصال تدوم في الأمة لا يتركونهن بأسرهم تركهم لغيرها من سنن الجاهلية، فإنهن إن تتركهن طائفة جاءهن وتمسك بهن آخرون. (الفخر) أي الافتخار وهو المباهاة والتمدح بالخصال والمناقب والمكارم. إما فيه أو في أهله، قال في الفائق: الفخر تعداد الرجل من مآثره ومآثر آبائه. (في الأحساب) أي في شأنها وسببها، والحسب ما يعده الرجل من الخصال التي تكون فيه، كالشجاعة والفصاحة وغير ذلك، وقيل: الحسب ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه، ومعنى الفخر في الأحساب هو التكبر والتعظم بعد مناقبه ومآثر آبائه، وهذا يستلزم تفضيل الرجل نفسه على غيره ليحقره، وهو لا يجوز، وفي الحديث كرم الرجل دينه وحسبه وخلقه، وفي ذلك نفي ما كان عليه أهل الجاهلية، وفيه تنبيه على أن الحسب الذي يحمد به الإنسان ما تحلى به من خصال الخير في نفسه لا ما يعده من مفاخره ومآثر آبائه. (والطعن في الأنساب) أي إدخال العيب في أنساب الناس، وذلك يستلزم تحقير الرجل آباء غيره، وتفضيل آبائه على آباء غيره، وهو ممنوع. قال التوربشتي: الظاهر أن المراد منه الطعن فيمن ينتسب إليه حجيج الطاعن، فينسب آباءه وذويه عند المساجلة والمساماة إلى الخمول والخساسة والغموض والانحطاط؛ لأنه ذكر في مقابلة الفخر بالأحساب. (والاستسقاء) أي طلب السقيا. (بالنجوم) أي بسببها يعني توقع الأمطار عن وقوع النجوم في الأنواع، كما كانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا، قال الطيبي: وقيل: المعنى سؤال المطر من الأنواء، فإن كان ذلك على جهة اعتقاد أنها المؤثرة في نزول المطر حقيقة فهو كفر. (والنياحة) بالرفع وهو الرابعة، وهو البكاء على الميت بصياح وعويل وجزع. والندبة عد شمائل الميت ومحاسنه مثل وا شجاعاه وا أسداه وا جبلاه. (والنائحة إذا لم تتب قبل موتها) أي قبل حضور موتها.

(10/356)


قال التوربشتي:
تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)). رواه مسلم.
1742-(7) وعن أنس، قال: (( مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله
وإنما قيد به ليعلم أن من شرط التوبة أن يتوب التائب وهو يؤمل البقاء، ويمكن أن يتأتى منه العمل الذي يتوب منه، ومصداق ذلك في كتاب الله: ?وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن?[النساء:18]. (تقام) مجهول من الإقامة وهي الإيقاف. (يوم القيامة) بين أهل الموقف للفضيحة. قال الطيبي: تقام أي تحشر، ويحتمل أنها تقام على تلك الحالة بين أهل النار وأهل الموقف جزاء على قيامها في المناحة، وهو أمثل وأشبه. (وعليها سربال) بكسر السين أي قميص. (من قطران) بفتح القاف وكسر الطاء. قال ابن عياض: هو النحاس المذاب. وقيل: ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل، فيطبخ فيطلى به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحدته وحرارته الجلد، وقد تبلغ حرارته الجوف. (ودرع) عطف على سربال والدرع بكسر الدال قميص النساء، والسربال القميص مطلقا. (من جرب) أي من أجل جرب كائن بها. قال الطيبي: أي يسلط على أعضائها الجرب والحكة بحيث يغطي جلدها تغطية الدرع ويلتزق بها التزاقه، فتطلى مواقعه بالقطران لتداوي، فيكون الدواء أدوى من الداء لاشتماله على لذع القطران وحدته وحرارته، وإسراع النار في الجلود واشتغالها ونتن الرائحة وسواد اللون الذي تشمئز عنه النفوس. قال التوربشتي: خصت بدرع من جرب؛ لأنها كانت تجرح بكلماتها المحرقة قلوب ذوات المصيبات وتحك بها بواطنهن، فعوقبت في ذلك المعنى بما يماثله في الصورة، وخصت أيضا بسرابيل من قطران؛ لأنها كانت تلبس الثياب السود في المأتم، فألبسها الله قميصا من قطران لتذوق وبال أمرها-انتهى. فإن قلت ذكر الخلال الأربع في الحديث، ولم يرتب عليها الوعيد سوى النياحة فما الحكمة فيه؟ قلت: النياحة مختصة بالنساء وهن لا ينزجرن

(10/357)


انزجار الرجال فاحتجن إلى مزيد الوعيد، كذا في المرقاة.. (رواه مسلم) في الجنائز وأخرجه أيضا أحمد (ج5:ص342-343-344) والحاكم (ج1:ص383) والبيهقي (ج4:ص63) وابن ماجه، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: النياحة على الميت من أمر الجاهلية، وأن النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثيابا من قطران ودرعا من لهب النار.
1742- قوله: (مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر) لم يوقف على اسم المرأة ولا اسم صاحب القبر، لكن في رواية مسلم ما يشعر بأنه ولدها، ولفظه: تبكي على صبي لها، وصرح به في مرسل يحيى بن أبي كثير عند عبدالرزاق، ولفظه قد أصيبت بولدها. (فقال: اتقي الله) قال القرطبي: الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى. قلت: ويؤيده أن في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور: فسمع منها ما يكره فوقف
واصبري. قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى)).

(10/358)


عليها. وقال الطيبي: قوله: اتقي الله، توطئه لقوله: (واصبري) كأنه قيل لها خافي غضب الله إن لم تصبري، ولا تجزعي ليحصل لك الثواب. (قالت) أي جاهلة بمن يخاطبها وظانة أنه من آحاد الناس. (إليك عني) اسم فعل أي أبعد وتنح. (لم تصب) على بناء المجهول. (بمصيبتي، ولم تعرفه) الواو فيه للحال أي خاطبته بذلك، والحال أنها لم تعرف أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ لو عرفته لم تخاطبه بهذا الخطاب. (فقيل لها) أي للمرأة بعد ما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (أنه النبي - صلى الله عليه وسلم -) وفي رواية للبخاري: فمر بها رجل فقال لها: إنه رسول الله، فقالت: ما عرفته. وفي رواية أبي يعلى من حديث أبي هريرة قال: فهل تعرفينه؟ قالت: لا. وللطبراني في الأوسط من طريق عطية عن أنس: أن الذي سألها هو الفضل بن عباس. وزاد مسلم في رواية له: فأخذها مثل الموت، أي من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خجلا منه ومهابة. وإنما اشتبه عليها - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه من تواضعه لم يكن يستتبع الناس وراءه إذا مشى، كعادة الملوك والكبراء، مع ما كانت فيه من شاغل الوجد والبكاء. (فلم تجد عنده) أي عند بابه. (بوابين) يمنعون الناس من الدخول عليه. وفي رواية للبخاري: بوابا بالإفراد. قال الطيبي: فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - استشعرت خوفا وهيبة في نفسها، فتصورت أنه مثل الملوك، له حاجب أو بواب يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته. (فقالت) معتذرة إليه مما سبق منها حيث قالت إليك عني. (لم أعرفك) فاعذرني من تلك الردة وخشونتها. (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) وفي رواية للبخاري: عند أول صدمة، وهي مرة من الصدم، وهو ضرب الشيء الصلب بمثله، ثم استعمل في كل مكروه حصل بغتة. والمعنى الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ويصاب عليه فاعله بجزيل الأجر ما كان منه عند

(10/359)


مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه على مدى الأيام يسلو أو ينسى. وقال الحافظ: المعنى إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع، فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر، وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله، فاستعير للمصيبة الواردة على القلب. قال الطيبي: صدر هذا الجواب منه - صلى الله عليه وسلم - من قولها "لم أعرفك" على أسلوب الحكيم، كأنه قال لها: دعي الاعتذار، فإن من شيمتي أن لا أغضب إلا لله، وانظري إلى تفويتك من نفسك الجزيل من الثواب بالجزع وعدم الصبر أول فجأة المصيبة، فاغتفر لها عليه السلام تلك الجفوة لصدورها منها في حال مصيبتها وعدم معرفتها به، وبين لها أن حق هذا الصبر أن يكون في أول الحال، فهو الذي يترتب عليه الثواب، بخلاف ما بعد ذلك، فإنه
متفق عليه.
1743-(8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد
على طول الأيام يسلو، كما يقع لكثير من أهل المصائب. وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز زيارة القبور للنساء؛ لأنه لم ينه المرأة المذكورة عن زيارة قبر ميتها، وإنما أمرها بالصبر والتقوى لما رأى من جزعها، فدل على جوازها. وفيه ما كان فيه عليه الصلاة والسلام من التواضع والرفق بالجاهل ومسامحة المصاب وقبول اعتذاره، وملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفيه أن القاضي لا ينبغي له أن يتخذ من يحجبه عن حوائج الناس. وأن من أمر بمعروف ينبغي له أن يقبل ولو لم يعرف الآمر. وفيه أن الجزع من المنهيات لأمره لها بالتقوى مقرونا بالصبر، وفيه الترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة ونشر الموعظة. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي.

(10/360)


1743- قوله: (لا يموت لمسلم) رجل أو امرأة، ففي هذه اللفظة عموم تشمل الذكر والأنثى، بخلاف الرواية الآتية فإنها مقيدة بالنساء، وليس لها مفهوم لما في بقية الروايات من التعميم، وقيد الإسلام شرط؛ لأنه لا نجاة للكافر بموت أولاده، فقيده به ليخرج الكافر فهو مخصوص بالمسلم، وهل يدخل في ذلك من مات له ولد فأكثر في حالة الكفر ثم أسلم بعد ذلك أو لا بد أن يكون موتهم في حالة إسلامه، قد يدل للأول حديث: أسلمت على ما أسلفت من خير، لكن جاءت أحاديث فيها تقييد ذلك بكونه في الإسلام، فالرجوع إليها أولى، فمنها حديث أبي ثعلبة الأشجعي المروي في مسند أحمد والمعجم الكبير للطبراني، قلت: يا رسول الله، مات لي ولدان في الإسلام، فقال: من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة، وحديث عمرو بن عبسة عند أحمد وغيره مرفوعا: من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخل الله الجنة بفضل رحمته إياهم. (ثلاثة) وهل هو حكم ما سوى الثلاثة، سيأتي في شرح الحديث الآتي. (من الولد) بفتحتين يشمل الذكر والأنثى، والظاهر أن المراد من ولد الرجل حقيقة، أي الأولاد الصلبية، يدل عليه حديث أنس عند النسائي رفعه: من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة، وكذا حديث عقبة بن عامر عند أحمد والطبراني رفعه: من أثكل ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله-الحديث، وحديث عمرو بن عبسة عند الطبراني وحديث عثمان بن أبي العاص عند أبي يعلى والبزار والطبراني أيضا، وفيه عبدالرحمن ابن إسحاق أبوشيبة وهو ضعيف. وأما أولاد الأولاد ففي دخولهم بحث. قال الحافظ: والذي يظهر أن أولاد الأولاد الصلب يدخلون ولا سيما عند فقد الوسائط بينهم وبين الأب، والتقييد بكونهم من الصلب يدل على إخراج
فيلج النار إلا تحلة القسم)).

(10/361)


أولاد البنات، وزاد في الرواية الآتية: لم يبلغوا الحنث، وسيأتي الكلام فيه. (فيلج النار) أي فيدخلها من الولوج وهو الدخول، وهو منصوب بأن المقدرة، تقديره فإن يلج النار؛ لأن الفعل المضارع ينصب بعد النفي بأن المقدرة بعد الفاء، لكن حكى الطيبي منعه عن بعضهم معللا بأن شرط ذلك أن يكون ما قبل الفاء سببا لما بعدها، ولا سببية هنا؛ لأنه ليس موت الأولاد، ولا عدمه سببا لولوج أبيهم النار بل سببا للنجاة منها وعدم الدخول فيها، وبيان ذلك أنك تعمد إلى الفعل الذي هو غير موجب فتجعله موجبا، وتدخل عليه إن الشرطية وتجعل الفاء وما بعدها من الفعل جوابا، كما تقول في قوله تعالى: ?ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي? [طه:81] أن تطغوا فيه، فحلول الغضب حاصل، وفي قوله: "ما تأتينا فتحدثنا أن تأتنا"، فالحديث واقع وهنا إذا قلت: إن يمت لمسلم ثلاثة من الولد فولوج النار حاصل لم يستقم. قال الطيبي: فالفاء هنا بمعنى الواو التي للجمع، وهي تنصب المضارع بعد النفي كالفاء، والمعنى لا يجتمع لمسلم موت ثلاثة من أولاده وولوجه النار إلا تحلة القسم لا محيد عن ذلك إن كانت الرواية بالنصب، وإن كانت الرواية بالرفع على أن الفاء عاطفة للتعقيب فمعناه: لا يوجد ولوج النار عقب موت الأولاد إلا تحلة القسم أي مقدارا يسيرا، ومعنى فاء التعقيب كمعنى الماضي في قوله تعالى: ?ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار? [الأعراف: 44] في أن ما سيكون بمنزلة الكائن وأن ما أخبر به الصادق عن المستقبل كالواقع. وقال الحافظ: أن السببية. (أي في صورة النصب) حاصلة بالنظر إلى الاستثناء؛ لأن الاستثناء بعد النفي إثبات، فكان المعنى أن تخفيف الولوج مسبب عن موت الأولاد وهو ظاهر؛ لأن الولوج عام تخفيفه يقع بأمور منها موت الأولاد بشرطه-انتهى. وتعقبه السندي في حاشية البخاري بما فيه تأمل. وأجاب ابن الحاجب والدماميني عن الإشكال المذكور بوجه آخر، ذكره القسطلاني. (إلا تحلة القسم)

(10/362)


بفتح المثناة الفوقية وكسر المهملة وتشديد اللام، والقسم بفتح القاف والسين أي ما تنحل به اليمين، وهو مصدر حلل اليمين أي كفرها. قال أهل اللغة: يقال فعلته تحلة القسم، أي لم أفعله إلا بقدر ما حللت به يميني ولم أبالغ. وقال الخطابي: حللت القسم تحلة أي أبررتها. وقال الجزري في النهاية: تقول العرب ضربه تحليلا ضربه تعزيرا إذا لم يبالغ في ضربه، وهذا مثل في القليل المفرط في القلة، وهو أن يباشر من الفعل الذي يقسم عليه المقدار الذي يبر به قسمه، مثل أن يحلف على النزول بمكان، فلو وقع به وقعة خفيفة أجزأته، فتلك تحلة قسمه، فالمعنى لا بدخل النار إلا دخولا يسيرا مثل تحلة قسم الحالف، ويريد بتحلته الورود على النار والاجتياز بها، والتاء في التحلة زائدة-انتهى. قال القرطبي: اختلف في المراد بهذا القسم، فقيل هو معين، وقيل غير معين، فالجمهور على الأول، والمراد قسم الله تعالى على ورود جميع الخلق النار، فيردها بقدر ما يبر الله تعالى قسمه ثم ينجو، وقيل: لم يعن به قسم بعينه، وإنما معناه التقليل لأمر ورودها، وهذا
متفق عليه.
1744-(9) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنسوة من الأنصار:

(10/363)


اللفظ يستعمل في هذا، تقول: لا ينام هذا إلا لتحليل الإلية، وتقول: ما ضربته إلا تحليلا، إذا لم تبالغ في الضرب، أي قدرا يصيبه منه مكروه، وقيل: الاستثناء بمعنى الواو، أي لا تمسه النار قليلا ولا كثيرا ولا تحلة القسم، وقد جوز الفراء والأخفش مجيء إلا بمعنى الواو، والأول قول الجمهور، وبه جزم أبوعبيد وغيره قالوا: المراد به قوله تعالى: ?وإن منكم إلا واردها? [مريم:71] قال الخطابي: معناه لا يدخل النار ليعاقب بها، ولكنه يدخلها مجتازا، ولا يكون ذلك الجواز إلا قدر ما يحلل به الرجل يمينه، ويدل ذلك ما وقع عند عبدالرزاق في آخر هذا الحديث: إلا تحلة القسم يعني الورود، وذكر الحافظ في الفتح روايات أخرى تدل على هذا، أي على كون المراد بالقسم قول الله تعالى المذكور، وبالورود الجواز والعبور، فعليك أن ترجع إلى الفتح. واختلف في موضع القسم من الآية، فقيل: هو مقدر أي والله إن منكم، وقيل: معطوف على القسم الماضي في قوله: ?فوربك لنحشرنهم? [مريم:68]، أي وربك إن منكم، وقيل: هو مستفاد من قوله تعالى: ?حتما مقتضيا? أي قسما واجبا. وقال الطيبي: يحتمل أن يكون المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق، فإن قوله: ?كان على ربك? تذييل وتقرير لقوله: ?وإن منكم?، فهذا بمنزلة القسم بل أبلغ لمجيء الاستثناء بالنفي والإثبات. واختلف في المراد بالورود في الآية، فقيل: هو الدخول، رواه عبدالرزاق عن ابن عباس، وروى أحمد والنسائي والحاكم من حديث جابر مرفوعا: الورود الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما، وقيل: المراد بالورود الممر عليها. رواه الطبري عن أبي هريرة وابن مسعود. وهذان القولان أصح ما ورد في ذلك، ولا تنافي بينهما؛ لأن من عبر بالدخول تجوز به عن المرور، ووجهه أن المار عليها فوق الصراط في معنى من دخلها، لكن تختلف أحوال المارة باختلاف أعمالهم، ويؤيد صحة هذا التأويل ما رواه مسلم

(10/364)


من طريق أم مبشر أن حفصة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال: "لا يدخل أحد شهد الحديبية النار": أليس الله يقول: ?وإن منكم إلا واردها?؟ فقال: أليس الله تعالى يقول: ?ثم ننجي الذين اتقو? الآية [مريم:72]. وفي هذا بيان ضعف من قال: إن الورود مختص بالكفار، ومن قال: الورود الدنو منها، ومن قال: معناه الإشراف عليها، ومن قال: معنى ورودها ما يصيب المؤمن في الدنيا من الحمى. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: أن أولاد المسلمين في الجنة؛ لأنه يبعد أن الله تعالى يغفر الآباء بفضل رحمته للأبناء ولا يرحم الأبناء، وكونهم في الجنة مذهب الجمهور، ووقف طائفة قليلة، وتقدم البحث في ذلك. (متفق عليه)، وأخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي.
1744- قوله: (قال لنسوة) اسم جمع. (من الأنصار) أي من نسائهم. قال القاري: وفائدة ذكره كمال
((لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه، إلا دخلت الجنة. فقالت امرأة منهن: أو اثنان يا رسول الله! قال: أو اثنان)).

(10/365)


استحضار القضية لا أن هناك خصوصية. (من الولد) بفتحتين وهو يشمل الذكر والأنثى والمفرد والجمع. (فتحتسبه) وفي رواية البيهقي: فتحتسبهم. قال القاري: بالرفع لا غير، أي تطلب بموته ثوابا عند الله بالصبر عليه. قال الطيبي: أي فتصبر راجية لرحمة الله وغفرانه. وليس هذه الفاء كما في "فيلج" بل هي للتسبب بالموت، وحرف النفي منصب على السبب والمسبب معا-انتهى. قال الباجي: بيان لصفة من يؤجر بمصابه في ولده، وهو أن تحتسبهم، وأما من لم يحتسبهم ولم يرض بأمر الله فيه فإنه غير داخل في هذا الوجه-انتهى. والاحتساب عند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر، وتحصيله بالتسليم والصبر، وذكر المصنف هذا الحديث لقوله: فتحتسبه، فجعله تفسيرا للحديث قبله. وقد ورد التقييد بذلك في أحاديث أخرى، ذكرها الحافظ في الفتح، ثم قال: وقد عرف من القواعد الشرعية أن الثواب لا يترتب إلا على النية، فلابد من قيد الاحتساب، والأحاديث المطلقة محمولة على المقيدة-انتهى. (إلا دخلت الجنة) أي دخولا أوليا، وهو لا ينافي الولوج تحلة القسم، والاستثناء من أعم الأحوال. (فقالت امرأة منهن) الظاهر أنها أم سليم الأنصارية والدة أنس بن مالك، كما رواه الطبراني بإسناد جيد عنها أو أم مبشر الأنصارية. رواه الطبراني أيضا من حديث جابر، ويحتمل أن يكون كل منهما سأل عن ذلك في ذلك المجلس، ويحتمل التعدد، والله تعالى أعلم. وجاءت روايات أخرى نسب فيها السؤال إلى غيرهما كأم أيمن وعائشة وأم هاني وجابر وعمر رضي الله عنهم. (أو اثنان) عطف تلقين، أي هل يمكن أن تقول أو اثنان. وفي رواية: واثنان. قال العيني عطف على ثلاثة، ومثله يسمى بالعطف التلقيني، أي قل يا رسول الله: واثنان، ونظيره قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: ?ومن ذريتي?[البقرة:124]. وقال الحافظ: أي وإذا مات اثنان ما الحكم؟ فقال: واثنان، أي وإذا مات اثنان فالحكم كذلك. (قال: أو اثنان) قال العيني: أي أو إن وجد اثنان

(10/366)


فكالثلاثة، وفيه التسوية بين حكم الثلاثة والاثنين. قال ابن بطال: وكأنه أوحي إليه بذلك في الحال، ولا يبعد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين، ويحتمل أن يكون كان العلم عنده حاصلا لكنه أشفق عليهم أن يتكلوا؛ لأن موت الاثنين غالبا أكثر من موت الثلاثة، ثم لما سئل عن ذلك لم يكن بد من الجواب، وهل يدخل في الحكم المذكور الولد الواحد؟ فالظاهر أنه نعم؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث الصريحة كحديث ابن عباس في الفصل الثاني من هذا الباب، وحديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعا: صغارهم دعاميص الجنة، يلقى أحدهم أباه فيأخذ بناحية ثوبه فلا يفارقه حتى يدخله الجنة، وحديث قرة المزني عند أحمد، وحديث علي عند ابن ماجه، وحديث معاذ بن جبل عند أحمد، وحديث ابن مسعود عند الترمذي، وابن ماجه وستأتي هذه الأحاديث في الفصل الثالث، وكحديث جابر بن سمرة عند الطبراني، وفيه ناصح بن عبدالله وهو ضعيف جدا، قاله الحافظ في
رواه مسلم. وفي رواية لهما: ((ثلاثة لم يبلغوا الحنث)).
1745- (10) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله: ما لعبدي المؤمن عند جزاء إذا قضبت صفيه من أهل الدنيا

(10/367)


الفتح. وقال الهيثمي: هو متروك، وقد سرد العيني في باب فضل من مات له ولد فاحتسب أحاديث أخرى، وكذا الهيثمي في مجمع الزوائد في باب من مات له واحد، ويدل على ذلك أيضا حديث أبي هريرة الذي بعد هذا، فإن قوله "صفية" يدخل فيه الواحد فما فوقه، وهو أصح ما ورد في ذلك. (رواه مسلم) في البر والصلة وأخرجه أيضا البيهقي. (وفي رواية لهما) أي للشيخين (ثلاثة لم يبلغوا الحنث) يعني في اللفظ المتقدمة ثلاثة مطلق، وفي رواية لهما ثلاثة مقيدة بهذا الوصف، والحنث بكسر المهملة وسكون النون آخره مثلثة: الإثم والذنب، قال تعالى: ?وكانوا يصرون على الحنث العظيم?[الواقعة:46]، يعني لم يبلغوا سن التكليف الذي يكتب فيه الإثم والذنب، وقيل: المعنى لم يبلغوا مبلغ الرجال حتى يجري عليهم القلم فيكتب عليهم الحنث والإثم. قال الخليل: بلغ الغلام الحنث إذا جرى عليه القلم والحنث الإثم، وقيل: المراد بلغ إلى زمان يؤخذ بيمينه إذا حنث. وقال الراغب: عبر بالحنث عن البلوغ لما كان الإنسان يؤخذ بما ارتكبه فيه بخلاف ما قبله، وخص الإثم بالذكر لأنه الذي يحصل بالبلوغ؛ لأن الصبي قد يثاب، وخص الصغير بذلك لأن الشفقة عليه أعظم والحب له أشد والرحمة له أوفر، وعلى هذا فمن بلغ الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا الثواب، وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة، وبهذا صرح كثير من العلماء وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصور منه العقوق المقتضي لعدم الرحمة، بخلاف الصغير فإنه لا يتصور منه ذلك إذ ليس بمخاطب، لكن قال الزين بن المنير والعراقي في شرح تقريب الأسانيد: بل يدخل البالغون في ذلك بطريق الفحوى؛ لأنه إذا ثبت ذلك في الطفل الذي هو كل على أبويه فكيف لا يثبت في الكبير الذي بلغ معه السعي! ولا ريب أن التفجع على فقد الكبير أشد والمصيبة أعظم، لا سيما إذا كان نجيبا يقوم عن أبيه بأموره ويساعده في معيشته، وهذا معلوم مشاهد. قال الحافظ ويقوي الأول قوله في آخر

(10/368)


حديث أنس: بفضل رحمته إياهم؛ لأن الرحمة للصغار أكثر لعدم حصول الإثم منهم-انتهى.
1745- قوله: (ما لعبدي) أي ليس لعبدي (جزاء) أي ثواب. (إذا قبضت صفيه) بفتح الصاد المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتانية، وهو الحبيب المصافي، كالولد والأخ، وكل من يحبه الإنسان. قال في النهاية: صفي الرجل الذي يصافيه الود ويخلصه له، فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، والمراد بالقبض قبض روحه وهو الموت. (من أهل الدنيا) قال الطيبي: إنما قيده بذلك ليؤذن بأن الصفي إذا كان من أهل الآخرة كان جزاؤه وراء الجنة وهو رضوان
ثم احتسبه إلا الجنة)). رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
1746- (11) عن أبي سعيد الخدري قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النائحة والمستمعة)) رواه أبوداود.

(10/369)


الله تعالى ورضوان من الله أكبر-انتهى. قال القاري: وتعقبه ابن حجر بما لا طائل تحته، وجعله بيانا للواقع. (ثم احتسبه)، أي صبر على فقد صفيه وقبض روحه راجيا الأجر من الله تعالى على ذلك، وأصل الحسبة بالكسر الأجر، والاحتساب طلب الأجر من الله تعالى خالصا. (إلا الجنة) متعلق بقوله "ما لعبدي المؤمن". قال القاري: بالنصب والرفع أي ماله جزاء إلا الجنة، ويؤخذ من هذا الحديث أن الثواب المترتب على الثلاثة والاثنين مرتب على الواحد، كما في رواية أخرى-انتهى. قال الحافظ: استدل به ابن بطال على أن من مات له ولد واحد يلتحق بمن مات له ثلاثة، وكذا اثنان، وأن قول الصحابي في بعض الروايات: ولم نسأله عن الواحد، لا يمنع من حصول الفضل لمن مات له واحد، فلعله - صلى الله عليه وسلم - سئل بعد ذلك عن الواحد فأخبر بذلك، أو أعلم بأن حكم الواحد حكم ما زاد عليه. قال الحافظ: وجه الدلالة من الحديث أن الصفي أعم من أن يكون ولدا أم غيره. وقد أفرد ورتب الثواب بالجنة لمن مات له فاحتسبه، ويدخل في هذا ما أخرجه أحمد والنسائي من حديث قرة بن إياس: أن رجلا كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ابن له، فقال: أتحبه؟ قال: نعم، ففقده، فقال: ما فعل فلان؟ قالوا: يا رسول الله! مات ابنه، فقال: ألا تحب أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله! أله خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم، وسنده على شرط الصحيح، وقد صححه ابن حبان والحاكم-انتهى. وسيأتي هذا الحديث في الفصل الثالث. (رواه البخاري) في باب العمل الذي يبتغى به وجه الله تعالى من أوائل الرقاق، والحديث من إفراده.

(10/370)


1746- قوله: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النائحة) النوح هو رفع الصوت بتعديد شمائل الميت ومحاسن أفعاله، والحديث دليل على تحريم ذلك، وهو مجمع عليه. قال القاري: يقال: ناحت المرأة على الميت إذا ندبته، أي بكت عليه وعددت محاسنه. وقيل: النوح بكاء مع الصوت. والمراد بها التي تنوح على الميت أو على ما فاتها من متاع الدنيا، فإنه ممنوع منه في الحديث. وأما التي تنوح على معصيتها فذلك نوع من العبادة. وخص النائحة لأن النوح يكون من النساء غالبا. (والمستمعة) أي التي تقعد السماع ويعجبها، كما أن المستمع والمغتاب شريكان في الوزر، والمستمع والقاري مشتركان في الأجر. (رواه أبوداود) وأخرجه أحمد والبيهقي (ج4:ص63) قال
1747- (12) وعن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( عجب للمؤمن: إن أصابه خير حمد الله وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر، والمؤمن يؤجر في كل أمره حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته)).
المنذري: في إسناده محمد بن الحسن بن عطية العوفي عن أبيه عن جده، وثلاثتهم ضعفاء-انتهى. وقال الحافظ في التلخيص بعد عزوه لأحمد ما لفظه: واستنكره أبوحاتم في العلل، ورواه الطبراني والبيهقي من حديث عطاء عن ابن عمر، ورواه ابن عدي من حديث الحسن عن أبي هريرة، وكلها ضعيفة.

(10/371)


1747- قوله: (عجب) أي أمر غريب وشأن عجيب. (للمؤمن) أي الكامل، وقال الطيبي: أصله أعجب عجبا. فعدل من النصب إلى الرفع للثبات، كقولك: سلام عليك. قيل: ومن ثم كان سلام إبراهيم في قوله: ?قالوا سلاما قال سلام?[هود:69] أبلغ من سلام الملائكة، كذا في المرقاة. وذكر السيوطي هذا الحديث في الجامع الصغير بلفظ: عجبت للمسلم، وعزاه للطيالسي والبيهقي في الشعب. ثم بين وجه العجب بقوله: (إن أصابه خير) كصحة وسلامة، ومال وولد وجاه. (حمد الله وشكر) على نعمة الخير ودفع الشر. (وإن أصابته مصيبة) أي بلية ومحنة. (حمد الله وصبر) على حكم ربه واحتسب. قال القاري: وفيه إشارة إلى أن الإيمان نصفه صبر، ونصفه شكر، قال تعالى: ?إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور?[إبراهيم:5]. وقال ابن الملك: قوله "إن أصابته مصيبة حمد الله" أي حمده عندها لعلمه بما يثاب عليه من الثواب العظيم، والثواب نعمة، فحمد الله لذلك يدل على أن الحمد محمود عند النعمة وعند المصيبة-انتهى. وقد يقال: معناه حمده على سائر نعمه، ولذلك ذكره في الحالين لقوله تعالى: ?وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها?[إبراهيم:34]. أو حمده على أن المصيبة ليست في دينه، أو على أنه ما دفع أكبر أو أكثر منها. قال المظهر: وتحقق الحمد عند المصيبة؛ لأنه يحصل بسببها ثواب عظيم، وهو نعمة تستوعب الشكر عليها. قال الطيبي: وتوضيحه قول القائل:
فإن مس بالنعماء عم سرورها وإن مس بالضراء أعقبه الأجر

(10/372)


ويحتمل أن يراد بالحمد الثناء على الله بقوله: ?إن لله وإنا إليه راجعون?[البقرة:156] انتهى. (والمؤمن يؤجر) بالهمزة ويبدل فيهما، أي المؤمن الكامل يثاب. (في كل أمره) أي شأنه من الصبر والشكر وغيرهما حتى في أمور المباح. قيل: المراد بالأمر هنا الخير، فالمباح ينقلب خيرا بالنية والقصد. (حتى اللقمة يرفعها إلى في امرأته) أي فمها. في الحديث دليل على أن المباحات وإن كان يرى كل واحد منها في الظاهر من قبيل حظ النفس، لكنها باشتمالها على نية التقريب إلى الله تصير عبادات، ويؤجر فاعلها على حسب نيته ببركة إيمانه. قال الطيبي: الفاء جزاء شرط مقدر، يعني إذا أصابته نعمة فحمد أجر،
رواه البيهقي في شعب الإيمان.
1748- (13) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مؤمن إلا وله بابان: باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه،

(10/373)


وإذا أصابته مصيبة فصبر أجر، فهو مأجور في كل أموره حتى في الشهوانية ببركة إيمانه، وإذا قصد بالنوم زوال التعب للقيام إلى العبادة عن نشاط كان النوم طاعة، وعلى هذا الأكل وجميع المباحات. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه النسائي في اليوم والليلة، وفيه عمر بن سعد بن أبي وقاص وهو صدوق، لكنه مقته الناس، لكونه كان أميرا على الجيش الذي قتلوا الحسين بن علي. قال القاري: قد يقال: إنه لم يباشر قتله، ولعل حضوره مع العسكر كان بإكراه، أو ربما حسن حاله وطاب مآله. والحديث ظاهر صحته مبنى ومعنى، ولا يتعلق به حكم من الأحكام دينا ودنيا. قلت: وللحديث شواهد: منها ما رواه أحمد ومسلم من حديث صهيب الرومي مرفوعا: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له، ومنها ما رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري عن أبي الدرداء مرفوعا: إن الله عزوجل قال: ياعيسى! إني باعث من بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا الله، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، فقال: يا رب! كيف يكون هذا؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي.

(10/374)


1748- قوله: (وله) أي مختص به. (بابان) أي من السماء. (يصعد) بفتح الياء وتضم أي يطلع ويرفع. (عمله) أي الصالح إلى مستقر الأعمال. وهو محل كتابتها في السماء بعد كتابتها في الأرض. وفي إطلاقه العمل إشعار بأن عمله كله صالح. (ينزل) بصيغة الفاعل أو المفعول. (رزقه) أي الحسي أو المعنوي إلى مستقر الأرزاق من الأرض. (بكيا) أي البابان. (عليه) أي على فراقه؛ لأنه انقطع خيره منهما، بخلاف الكافر، فإنهما يتأذيان بشره فلا يبكيان عليه، قاله ابن الملك. وهو ظاهر موافق لمذهب أهل السنة على ما نقله البغوي أن للأشياء كلها علما بالله، ولها تسبيح ولها خشية وغيرها. وقيل: أي بكى عليه أهلهما من الملائكة والناس، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقال الطيبي: الكشاف هذا تمثيل وتخييل مبالغة في فقدان من درج وانقطع خيره، وكذلك ما روي عن ابن عباس من بكاء مصلى المؤمن وآثاره في الأرض ومصاعد عمله ومهابط رزقه في السماء تمثيل، ونفي ذلك في قوله تعالى: ?فما بكت عليهم السماء والأرض?[الدخان:29] تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض-انتهى. وهو مخالف لظاهر الآية والحديث، ولا وجه للعدول لمجرد
فذلك قوله تعالى: ?فما بكت عليهم السماء والأرض?). رواه الترمذي.
1749- (14) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان له فرطان من أمتي أدخله الله بهما الجنة، فقالت عائشة: فمن كان له فرط من أمتك؟ قال: ومن كان له فرط يا موفقة! فقالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك؟ قال: فأنا فرط أمتي، لن يصابوا بمثلي)). رواه الترمذي.

(10/375)


مخالفته لظاهر العقول، كذا في المرقاة. (فذلك) أي مفهوم الحديث أو مصداقه (قوله تعالى) في سورة الدخان: ?فما بكت عليهم السماء والأرض? بقية الآية ?وما كانوا منظرين?[الدخان:29]. قال ابن كثير: أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم. (رواه الترمذي) في تفسير سورة الدخان، وقال: حديث غريب، وأخرجه أبويعلى وابن أبي حاتم وغيرهما، وفي سنده عندهم موسى بن عبيدة الربذي ويزيد بن إبان الرقاشي، قال الترمذي: يضعفان في الحديث-انتهى. وفي الباب عن شريح بن عبيد الحضرمي مرسلا مرفوعا عند ابن جرير، وعن علي عند ابن أبي حاتم، وعن ابن عباس عند ابن جرير موقوفا من قولهما، ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره.

(10/376)


1749- قوله: (من كان له فرطان) بفتحتين أي ولدان لم يبلغا أوان الحلم بل ماتا قبله، يقال: فرط إذا تقدم وسبق فهو فارط. والفرط هنا الولد الذي مات قبله، فإنه يتقدم يهنئ لوالديه نزلا ومنزلا في الجنة، كما يتقدم فراط القافلة إلى المنازل، فيعدون لهم ما يحتاجون إليه من الماء والمرعى وغيرهما. قال الطيبي: الفرط بالتحريك من يتقدم القافلة، فيطلب الماء والمرعى، ويهيئ لهم ما يحتاجون إليه في المنزل، فعل بمعنى فاعل يستوي فيه الواحد والجميع مثل تبع وتابع. المعنى الطفل المتوفى يتقدم والديه، فيهئ لهما في الجنة منزلا ونزلا، كما يتقدم فراط القافلة، فيعدون لهم ما يفتقرون إليه من الأسباب، ويهيئون لهم المنازل. (من أمتي) بيان لمن. (فمن كان له فرط من أمتك) أي فما حكمه أو فهل له هذا الثواب؟ (قال: ومن كان له فرط) أي فكذلك. (يا موفقة) أي في الخيرات وللأسئلة الواقعة موقعها شفقة على الأمة. وقيل: أي الحريصة على تعلم الشرائع. وقال الطيبي: يعني وفقك الله تعالى للسؤال، حتى تفضل على العباد، وسهل عليهم حصول ذلك المعنى من ولد واحد، حتى يفضل من لا ولد له بفرط مثلي، ونعم الفارط أنا. (فمن لم يكن له فرط من أمتك) أي فما حاله. (فأنا فرط أمتي) أي سابقهم وإلى الجنة بالشفاعة سائقهم، بل أنا أعظم من كل فرط، فإن الأجر على قدر المشقة. (لن يصابوا) أي أمتي. (بمثلي) أي بمثل مصيبتي لهم، فإن مصيبتي أشد عليهم من سائر المصائب، فأكون أنا فرطهم. (رواه الترمذي)
وقال هذا حديث غريب.
1750- (15) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مات ولد العبد، قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ما قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله. ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسموه بيت الحمد)) رواه أحمد، والترمذي.

(10/377)


وأخرجه أحمد (ج1:ص3340335) والبيهقي. (وقال: هذا حديث غريب) في نسخ الترمذي الموجودة عندنا: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد ربه بن بارق، وقد روى عنه غير واحد من الأئمة-انتهى. قلت: عبد ربه هذا قال في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال أحمد: ما به بأس، وأثنى عليه عمرو بن علي الفلاس خيرا، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال في التقريب: إنه صدوق يخطئ، فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن، والله تعالى أعلم.

(10/378)


1750- قوله: (إذا مات ولد العبد) أي المؤمن. (قال الله تعالى لملائكته) أي ملك الموت وأعوانه. (قبضتم) بتقدير الاستفهام. (ولد عبدي) أي روحه، فيقول (قبضتم ثمرة فؤاده) أي يقول ثانيا إظهارا لكمال الرحمة كما أن الوالد العطوف يسأل الفصاد، هل فصدت ولدي، مع أنه بأمره ورضاه. قيل: سمي الولد ثمرة فؤاده؛ لأنه نتيجة الأب كالثمرة للشجرة. (واسترجع) أي قال: إنا لله وإن إليه راجعون. (وسموه بيت الحمد) قال القاري: أضاف البيت إلى الحمد الذي قاله عند المصيبة؛ لأنه جزاء ذلك الحمد. قال الطيبي: مرجع السؤال إلى تنبيه الملائكة على ما أراد الله تعالى من التفضيل على عبده الحاضر لأجل تصبره على المصائب، أو عدم تشكيه، بل إعداده إياها من جملة النعماء التي تستوجب الشكر عليها، ثم استرجاعه وأن نفسه ملك لله، وإليه المصير في العاقبة. قال أولا: ولد عبدي أي فرع شجرته، ثم ترقى إلى ثمرة فؤاده أي نقاوة خلاصته، فإن خلاصة الإنسان الفؤاد، والفؤاد إنما يعتد به لما هو مكان اللطيفة التي خلق لها وبها شرفه وكرامته، فتحقيق لمن فقد مثل تلك النعمة الخطيرة وتلقاها بمثل ذلك الحمد، أن تكون محمودا حتى المكان الذي يسكن فيه، ولذلك سمي بيت الحمد، والله أعلم-انتهى. (رواه أحمد) (ج4:ص415). (والترمذي) واللفظ له. ولفظ أحمد: قال الله تعالى: يا ملك الموت قبضت ولدي، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم، قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع. قال: ابنوا له بيتا في الجنة، وسموه بيت الحمد. والحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، والبيهقي وحسنه الترمذي.
1751- (16) وعن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عزى مصابا، فله مثل أجره)). رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث علي بن عاصم الراوي، وقال: رواه بعضهم عن محمد بن سوقة بهذا الإسناد موقوفا.

(10/379)


1751- قوله: (من عزى) من التعزية أي سلى. (مصابا) أي بأي شيء كان أعم من فقد الولد وغيره. قال القاري: من عزى مصابا أي ولو بغير موت بالمأتي لديه أو بالكتابة إليه بما يهون المصيبة عليه، ويحمله على الصبر بوعد الأجر أو بالدعاء له بنحو: أعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقك الشكر. (فله) أي للمعزي. (مثل أجره) أي نحو المصاب على صبره؛ لأن الدال على الخير كفاعله. وقيل: إن من حمله على العزاء بالمد وهو الصبر فله لأجل هذه التعزية ثواب مثل ثواب المصاب لأجل صبره في المصيبة. (رواه الترمذي وابن ماجه) وأخرجه البيهقي في السنن (ج4:ص59) كلهم من طريق علي بن عاصم عن محمد بن سوقة عن إبراهيم عن الأسود عن عبدالله، وأخرجه أيضا الحاكم والخطيب وغيرهما من طرق عن ابن سوقة. (وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث علي بن عاصم). وقال البيهقي: تفرد به علي بن عاصم، وهو أحد ما أنكر عليه واعترض عليه بأنه قد تابعه عن ابن سوقة عبدالحكيم بن منصور وشعبة وإسرائيل ومحمد بن الفضل بن عطية وعبدالرحمن بن مالك بن مغول والحارث بن عمران وغيرهم، لكن قال الخطيب: ليس شيء منها ثابتا، ولذلك قال الزركشي في تخريج أحاديث الرافعي: وهذه المتابعات لا ترد على البيهقي لضعف أسانيدها. (الراوي) بسكون الياء. وعلي بن عاصم هذا هو علي بن عاصم بن صهيب الواسطي، أبوالحسن التيمي مولاهم، صدوق يخطئ ويصر، مات سنة (201) وقد جاوز التسعين، كذا في التقريب، وسيأتي ذكر شيء من الكلام عليه في شرح كلام الترمذي الآتي. (وقال) أي الترمذي: (رواه بعضهم عن محمد بن سوقة) بضم المهملة، الغنوي الكوفي، ثقة مرضي عابد. (بهذا الإسناد موقوفا) أي على ابن مسعود. وتمام كلام الترمذي: ويقال: أكثر ما ابتلي به علي بن عاصم، بهذا الحديث نقموا عليه. وقال الخطيب: هذا الحديث مما أنكر الناس على علي بن عاصم، وكان أكثر كلامهم فيه بسببه، وقال يعقوب بن شيبة: هذا حديث

(10/380)


كوفي منكر، يرون أنه لا أصل له، لا نعلم أحدا أسنده، ولا أوقفه غير علي بن عاصم، وقد رواه أبوبكر النهشلي، وهو صدوق ضعيف الحديث عن محمد بن سوقة فلم يجاوز به محمدا، وقال: يرفع الحديث، قال يعقوب: وهذا الحديث من أعظم ما أنكره الناس على علي بن عاصم، وتكلموا فيه مع ما أنكر عليه سواه-انتهى. ويحكى عن أبي داود قال: عاتب يحيى بن سعيد القطان علي بن عاصم في وصل هذا
الحديث. وإنما هو عدهم منقطع. وقال: إن أصحابك الذين سمعوه معك لا يسندونه، فأبى أن يرجع. والحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقال: تفرد به علي بن عاصم عن محمد بن سوقة، وقد كذبه شعبة ويحيى بن معين ويزيد بن هارون. قال السيوطي في تعقباته (ص24-25): أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريقه. وقال الترمذي: أكثر ما ابتلي به علي بن عاصم، بهذا الحديث نقموا عليه. وقال الذهبي: أبلغ ما شنع به عليه هذا الحديث، وهو مع ضعفه صدوق في نفسه، وله صورة كبيرة في زمانه، وقد تابعه على هذا الحديث ضعفاء، وقد وثقه جماعة، فقال يعقوب بن شيبة: كان من أهل الدين والصلاح والخير البارع، وكان شديد التوقي، أنكر عليه كثرة الغلط مع تماديه على ذلك. وقال وكيع: ما زلنا نعرفه بالخير، فخذوا الصحاح من حديثه، ودعوا الغلط. وقال أحمد بن حنبل: أما أنا فأحدث عنه، كان فيه لجاج ولم يكن متهما. وقال الفلاس: صدوق. وقد أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب من طريق معمر بن عن ابن سوقة، وأخرجه البيهقي أيضا من طريق عبدالحكيم بن منصور الخزاعي عن ابن سوقة، وعبدالحكيم من رجال الترمذي، وهو ضعيف أيضا. وأخرجه ابن أبي الدنيا في العزاء من طريق عبدالرحمن بن مالك بن مغول عن ابن سوقة، وعبدالرحمن متروك. وقال الخطيب: تابع علي بن عاصم على هذا الحديث جماعة، منهم الحارث بن عمران الجعفري. وقال الحافظ في تخريج أحاديث الرافعي: كل المتابعين له أضعف منه بكثير، وليس فيها رواية يمكن التعلق بها إلا طريق إسرائيل، فقد

(10/381)


ذكره صاحب الكمال من طريق وكيع عنه. ولم أقف على إسنادها بعد-انتهى. وقال الصلاح العلائي: علي بن عاصم أحد الحفاظ المكثرين، ولكن له أوهام كثيرة تكلموا فيه بسببها، ومن جملتها هذا الحديث، وقد تابعه عليه عن ابن سوقة: عبدالحكيم بن منصور، لكنه ليس بشيء. قال فيه ابن معين والنسائي: متروك. وقد رواه إبراهيم بن مسلم الخوارزمي عن وكيع عن قيس بن الربيع عن محمد بن سوقة، وإبراهيم بن مسلم هذا ذكره ابن حبان في الثقات، ولم يتكلم فيه أحد، وقيس بن الربيع صدوق متكلم فيه، لكن حديثه يؤيد رواية علي بن عاصم، ويخرج به عن يكون ضعيفا واهيا فضلا عن أن يكون موضوعا-انتهى. وقال الزركشي في تخريج أحاديث الرافعي بعد ذكر المتابعات المذكورة: وهذا كله يرد على ابن الجوزي حيث ذكر الحديث في الموضوعات-انتهى. وللحديث شواهد: منها حديث جابر بهذا اللفظ، وهو أضعف منه، رواه ابن عدي وابن أبي الدنيا من طريق محمد بن عبيدالله العزرمي عن أبي الزبير عن جابر، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وأعله بالعزرمي، ومنها حديث عمرو بن حزم مرفوعا: ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة، أخرجه ابن ماجه، وحسنه النووي. ومنها حديث أبي برزة الآتي: هذا. وقد بسط السيوطي الكلام على حديث ابن
1752- (17) وعن أبي برزة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
1753- (18) وعن عبدالله بن جعفر، قال: ((لما جاء نعي جعفر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد أتاهم ما يشغلهم))
مسعود في اللآلئ المصنوعة (ج2:ص225-226) من أحب الاطلاع عليه رجع إليه.

(10/382)


1752- قوله: (من عزى ثكلى) بفتح المثلثة مقصورا أي المرأة التي فقدت ولدها. (كسي) بصيغة المجهول. (بردا) بضم الباء أي ثوبا عظيما مكافأة له على تعزيتها. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: لا يعزى المرأة الشابة إلا زوجها أو محرمها. (رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب) وليس إسناده بالقوي؛ لأن فيه مسنية ابنة عبيد بن أبي برزة، وهي مجهولة، قال الحافظ في التقريب: لا يعرف حالها.
1753- قوله: (وعن عبدالله بن جعفر) أي ابن أبي طالب. (لما جاء نعي جعفر) بفتح النون وسكون العين، أي خبر موته بموتة، وهي موضع عند تبوك، سنة ثمان. (اصنعوا لآل جعفر طعاما) فيه أنه ينبغي للأقرباء أن يرسلوا إلى أهل الميت طعاما لاشتغالهم عن أنفسهم يما دهمهم من المصيبة. قال الترمذي. وقد كان بعض أهل العلم يستحب أن يوجه إلى أهل الميت بشيء لشغلهم بالمصيبة، وهو قول الشافعي. (ما يشغلهم) بفتح الياء والغين. وقيل: بضم الأول وكسر الثالث. قال في القاموس: شغله كمنعه شغلا ويضم، وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة. والمعنى جاءهم ما يمنعهم من الحزن تهيئة الطعام لأنفسهم، فيحصل لهم الضرر وهم لا يشعرون. قال الطيبي: دل على أنه يستحب للأقارب والجيران تهيئة طعام لأهل الميت-انتهى. قال ابن العربي في شرح الترمذي: والحديث أصل في المشاركات عند الحاجة، وصححه الترمذي. والسنة فيه أن يصنع في اليوم الذي مات فيه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقد جاءهم ما يشغلهم عن حالهم، فحزن موت وليهم اقتضى أن يتكلف لهم عيشهم"، وقد كانت للعرب مشاركات ومواصلات في باب الأطعمة باختلاف أسباب وفي حالات جماعها-انتهى. قال القاري: والمراد طعام يشبعهم يومهم وليلتهم، فإن الغالب أن الحزن الشاغل عن تناول الطعام لا يستمر أكثر من يوم، ثم إذا صنع لهم ما ذكر سن أن يلح عليهم في الأكل لئلا يضعفوا بتركه استحياء أو لفرط جزع-انتهى. وقال ابن المهام: ويستحب لجيران أهل الميت والأقرباء

(10/383)


الأباعد تهيئة طعام يشبعهم يومهم وليلتهم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا لآل جعفر طعاما"، وقال: يكره اتخاذ الضيافة من أهل الميت؛ لأنه شرع في السرور لا في الشرور، وهي بدعة مستقبحة-انتهى. وقال القاري: واصطناع أهل الميت الطعام لأجل اجتماع الناس عليه بدعة مكروه، بل صح عن جرير
رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.
رضي الله عنه، كنا نعده من النياحة، وهو ظاهر في التحريم-انتهى. قلت: حديث جرير بن عبدالله البجلي هذا أخرجه أحمد وابن ماجه بلفظ: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. قال السندي: قوله "كنا نعد" الخ. هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة أو تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الثاني فحكمه الرفع على التقديرين فهو حجة، ثم نقل عن البوصيري أنه قال في الزوائد: إسناده صحيح-انتهى. فإن قيل: حديث جرير هذا مخالف لما سيأتي في آخر باب المعجزات من حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة. فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على القبر يوصي الحافر أوسع من قبل رجليه، أوسع من قبل رأسه، فلما رجع استقبله داعي امرأته فأجاب، ونحن معه، فجيء بالطعام فوضع يده، ثم وضع القوم، فأكلوا-الحديث. رواه أبوداود والبيهقي في دلائل النبوة. فقوله: "فلما رجع استقبله داعي امرأته" الخ صريح في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاب دعوة أهل بيت الميت، واجتمع هو وأصحابه بعد دفنه، وأكلوا مما صنعه أهل الميت له ولأصحابه، فإن الضمير المجرور في امرأته راجع إلى ذلك الميت الذي خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازته، فما وجه التوفيق بين هذين الحديثين؟ قلت: منشأ المخالفة بين الحديثين هو قوله: "داعى امرأته" أي بإضافة لفظ امرأة إلى الضمير المجرور، وهو غلط. والصواب داعي امرأة منونا أي بغير الإضافة وإسقاط الضمير المجرور.

(10/384)


والدليل عليه أنه وقع في سنن أبي داود "داعي امرأة" بغير الإضافة، أي بإسقاط الضمير، وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج12:ص65) نقلا عن سنن أبي داود، وروى هذا الحديث أحمد في مسنده (ج5:ص293)، وقد وقع فيه أيضا "داعي امرأة" بغير الإضافة" بل زاد فيه بعد "داعي امرأة" لفظ "من قريش"، وهكذا وقع في السنن للدارقطني (ص545) ولفظه: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فلما انصرف تلقاه داعي امرأة من قريش. وفي رواية له عن عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من مزينة قال: صنعت امرأة من المسلمين من قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما فدعته وأصحابه الخ. ورواه البيهقي في السنن الكبرى (ج6:ص97) بلفظ: صنعت امرأة من قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعامه، فدعته وأصحابه. ورواه الطحاوي في شرح الآثار (ج2:ص320) بلفظ: إن رجلا من الأنصار كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فلقيه رسول امرأة من قريش يدعوه إلى الطعام، وهذا كله يدل على أن الصحيح في حديث عاصم بن كليب هذا لفظ "داعي امرأة" منونا، أي بغير إضافة امرأة إلى الضمير المجرور، بل بإسقاط الضمير، وعلى هذا فلا مخالفة بين الحديثين، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى التفكر والتأمل. (رواه الترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عنه، ونقل المنذري عن الترمذي أنه قال: هذا حديث حسن صحيح، وأقر تصحيحه. (وابن ماجه) وأخرجه
?الفصل الثالث?
1754- (19) عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من نيح عليه، فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة)).
أيضا الشافعي وأحمد (ج1:ص205) والدارقطني (ص194) والحاكم (ج1:ص372) وصححه ابن السكن والحاكم وأقره الذهبي، وأخرجه أحمد (ج6:ص370) والطبراني وابن ماجه من حديث أسماء بنت عميس، وهي والدة عبدالله بن جعفر، وفي سنده امرأتان مجهولتان.

(10/385)


1754- قوله: (من نيح عليه) بكسر النون وسكون التحتية وفتح الحاء مبنيا للمفعول من الماضي. (بما نيح عليه) الباء سببية و"ما" مصدرية أي بسبب النياحة عليه، ويؤيده رواية الطبراني بلفظ: إذا نيح على الميت عذب بالنياحة عليه، ورواه أحمد (ج4:ص245) عن علي بن ربيعة الأسدي. قال: مات رجل من الأنصار يقال له قرظة بن كعب فنيح عليه. (وهو أول من نيح عليه بالكوفة)، فخرج المغيرة بن شعبة فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال النوح في الإسلام، ثم قال: ألا إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، ألا ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ألا وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من ينح عليه يعذب بما يناح به عليه. وفي الحديث دليل على أن المراد من البكاء في حديث ابن عمر هو النوح والندب لا مطلق البكاء. وفيه دليل على تحريم النياحة. قيل: ويحتمل أن يكون الجار والمجرور حالا، "وما" موصولة أي يعذب متلبسا بما يندب عليه من الألفاظ كياجبلاه وياكهفاه ونحوهما على سبيل التهكم، كما في حديث النعمان الآتي. ويحتمل أن الباء للآلة، و"ما" موصولة، وتلك الألفاظ تجعل آلة للعذاب حيث تذكر له توبيخا وتقريعا عليه. (يوم القيامة) فيه رد على من ذهب إلى التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فحمل قوله تعالى: ?ولا تزر وازرة وزر أخرى?[الإسراء:15] على يوم القيامة. وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ خاصة. وظاهر حديث المغيرة وحديث عمر وابنه المذكور بعده أن الميت يعذب بسبب النياحة عليه. واختلف العلماء في ذلك على مذاهب: أحدها: أنه على ظاهره مطلقا، ذهب إليه جماعة من السلف، منهم عمر، وهو بين من قصته مع صهيب، كما سيأتي في حديث عبدالله بن أبي مليكة، ومنهم عبدالله بن عمر، كما رواه عبدالرزاق. الثاني: لا مطلقا، فرد أهل هذا القول حديث المغيرة وما أشبهه، وعارضوه بقوله

(10/386)


تعالى: ?ولا تزر وازرة وزر أخرى? وممن روي عنه الإنكار مطلقا أبوهريرة، كما رواه أبويعلى من طريق بكر بن عبدالله المزني قال: قال أبوهريرة: والله! لئن انطلق مجاهد في سبيل الله فاستشهد، فعمدت إمرأته سفها وجهلا فبكت عليه ليعذب هذا الشهيد بذنب
هذه السفيهة. الثالث: أن الباء للحال، أي إنه يعذب حال بكائهم عليه، والتعذيب عليه من ذنبه لا بسب البكاء، يعني أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه، وذلك أن شدة بكائهم غالبا إنما تقع عند دفنه، وفي تلك الحالة يسأل ويبتدأ به عذاب القبر، فكان معنى الحديث: أن الميت يعذب حالة بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاءهم سببا لتعذيبه. قال العيني: حكى الخطابي عن بعض أهل العلم أنه ذهب إلى أنه مخصوص ببعض الأموات الذين وجب عليه العذاب بذنوب اقترفوها، وجرى من قضاء الله سبحانه فيهم أن يكون عذابه وقت البكاء عليهم. ومعنى قوله: "يعذب ببكاء أهله" أي عند بكائهم عليه لاستحقاقه ذلك بذنبه، ويكون ذلك حالا لا سببا. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه من التكلف، ولعل قائله إنما أخذه من قول عائشة: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه، وإنه ليبكون عليه الآن، أخرجه مسلم، وعلى هذا يكون خاصا ببعض الموتى. الرابع: أنه خاص بالكافر، وأن المؤمن لا يعذب بذنب غيره أصلا، وهو بين من رواية ابن عباس عن عائشة حيث قالت: يرحم الله عمر، والله! ما حدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، ولكن إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه. الخامس: أن المراد بالميت ميت معهود معين. قال الحافظ: ومنهم من أوله على أن الراوي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه، وأن اللام في الميت لمعهود معين، كما جزم به القاضي أبوبكر الباقلاني وغيره. وحجتهم ما سيأتي في رواية عمرة عن عائشة. قال الحافظ بعد ذكر هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة ما لفظه: وهذه

(10/387)


التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيه إشعار بأنها لم ترد حديث أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه بحديث آخر، بل بما استشعرته من معارضة القرآن. قال الداودي: رواية ابن عباس عن عائشة بلفظ: إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه، بينت ما نفته عمرة وعروة عنها إلا أنها خصته بالكافر؛ لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذابا ببكاء أهله، فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء. وقال القرطبي: إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضا ولم يسمع بعضا بعيد؛ لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح، وقد جمع كثير من أهل العلم بين حديثي عمر وعائشة بضروب من الجمع، كما ستعرف. السادس: أنه خاص بمن كان النوح من سنته وطريقته، وهذا أحد وجوه الجمع، وعليه البخاري حيث قال في صحيحه: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، لقول الله تعالى: ?قو أنفسكم وأهليكم نارا?[التحريم:6]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة: ?ولا تزر وازرة وزرا أخرى? الخ. السابع أنه فيمن أوصى به أهله وهو أخص من الذي قبله، وهذا قول
الجمهور، كما قال النووي.، قالوا كان ذلك معروفا من العرب، فإنهم كانوا يوصون أهليهم بالبكاء والنوح عليهم، وهو موجود في أشعارهم، كقول طرفة بن العبد:
إذا مت فابكيني بما أنا أهله …وشق علي الجيب يا ابنة معبد

(10/388)


ومثل هذا كثير في أشعارهم، وإذا كان كذلك فالميت إنما تلزمه العقوبة بما تقدم في ذلك من أمره إياهم بذلك وقت حياته، واعترض بأن ذنب الميت الأمر بذلك، فلا يختلف عذابه بامتثالهم وعدمه وأجيب بأن الذنب على السبب يعظم بوجود المسبب. شاهده حديث: من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها. الثامن: أنه فيمن لم يوص بتركه، فتكون الوصية بذلك واجبة إذا علم أن من شأن أهله أن يفعلو ذلك، وهو قول داود وطائفة. قال ابن المرابط: إذا علم المرء ما جاء في النهي عن النوح، وعرف أن أهله من شأنهم أن يفعلوا ذلك، ولم يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه لا بفعل غيره بمجرده. التاسع: أن المراد بالتعذيب توبيخ الملائكة بما يندبه أهله به، كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعا: الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: وا عضداه، وا ناصراه، وا كاسياه، جبذ الميت. وقيل له: أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها. ورواه ابن ماجه بلفظ: يتعتع به، ويقال: أنت كذلك. ورواه الترمذي بلفظ آخر كما سيأتي. وشاهده حديث النعمان بن بشير، وسيأتي أيضا. العاشر: معنى التعذيب تألم الميت مما يقع من أهله من النياحة وغيرها، وهذا اختيار أبي جعفر الطبري وابن المرابط وعياض ومن تبعه، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين، واستدلوا لذلك بما أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة، والطبراني وغيرهم من حديث قبلة، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليبكي فيسعتبر إليه صويحبه، فيا عباد الله! لا تعذبوا موتاكم. قال الحافظ: هو حسن الإسناد. قال الطبراني: ويؤيده ما قال أبوهريرة: إن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم ثم ساقه بإسناد صحيح إليه، وشاهده حديث النعمان بن بشير مرفوعا، أخرجه البخاري في تاريخه، وصححه الحاكم. قال ابن المرابط: حديث قيلة نص في المسألة فلا يعدل عنه واعترضه ابن رشيد بأنه

(10/389)


ليس نصا، وإنما هو محتمل، فإن قوله "فيستعير إليه صويحبه" ليس نصا في أن المراد به الميت، بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي، وأن الميت يعذب حينئذ ببكاء الجماعة عليه. الحادي عشر: أن المراد التعذيب بالصفات التي يبكون بها عليه، وهي مذمومة شرعا، كما كان أهل الجاهلية يقولون: يأمر مل النسوان، يا ميتم الأولاد، يا مخرب الدور. قال الحافظ: ومن وجوه الجمع أن معنى قوله: يعذب ببكاء أهله عليه أن بنظير ما يبكيه أهله به، وذلك أن الأفعال التي يعدون بها عليه غالبا تكون من الأمور المنهية، فهم يمدحونه بها، وهو يعذب بصنيعه ذلك، وهو عين ما يمدحونه، وهذا إختيار ابن حزم وطائفة. واستدل له بحديث ابن عمر يعني الذي
متفق عليه.

(10/390)


تقدم في الفصل الأول من هذا الباب في قصة شكوى سعد بن عبادة، وفيه "ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه". قال ابن حزم: فصح أن البكاء الذي يعذب به الإنسان ما كان منه باللسان. إذ يندبونه برياسته التي جاء فيها، وشجاعته التي صرفها في غير طاعة الله، وجوده الذي لم يضعه في الحق، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخرة، وهو يعذب بذلك. وقال الإسماعيلي: كثر كلام العلماء في هذه المسألة، وقال: كل مجتهد على حسب ما قدر له، ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغيرون ويسبون ويقتلون، وكان أحدهم إذا مات بكته باكية بتلك الأفعال المحرمة. فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكى عليه أهله به؛ لأن الميت يندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر، وهي زيادة ذنب في ذنوبه يستحق العذاب عليها. قال الحافظ بعد ذكر هذه الوجوه الستة الأخيرة للجمع بين الحديثين ما لفظه: ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات، فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال: مثلا من كانت طريقته النوح، فمشى أهله على طريقته، أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه، ومن كان ظالما فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به. ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها. فإن كان راضيا بذلك إلتحق بالأول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية، ثم خالفوه وفعلوا ذلك. كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربهم، والله تعالى أعلم بالصواب. الثاني عشر: التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فيحمل قوله تعالى: ?ولا تزر وازرة وزر أخرى?[الإسراء:15] على يوم القيامة، وحديث التعذيب بالبكاء على البرزخ، ذكره الكرماني وحسنه، قال: ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع في الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى: ?واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة?[الأنفال:25] فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على

(10/391)


الإنسان بما ليس له فيه تسبب، فكذلك يمكن أن يكون الحال في البرزخ بخلاف يوم القيامة –انتهى. وفي هذا الجمع نظر، فإنه ينافيه لفظ يوم القيامة في حديث المغيرة بن شعبة فتفكر، وأرجع الأقوال وأحسن المذاهب في ذلك عندي هو قول من قال: إن الحديث المذكور في حق من له في بكاء غيره تسبب، بأن يكون البكاء من طريقته، أو أوصى به في حياته، أو عرف أن أهله يفعلون ذلك وأهمل النهي عن ذلك، وترك الزجر عنه. وأما إذا لم يكن له فيه تسبب أصلا، فهو كما قالت عائشة: ?لا تزر وازرة وزر أخرى? والله تعالى أعلم. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وأخرجه أحمد (ج4:ص245) والترمذي والطبراني والبيهقي (ج :ص72) وفي الباب عن عمر وابن عمر، وسيأتيان، وعن أبي موسى الأشعري عند أحمد، وقد ذكرنا لفظه وعن عمران بن حصين عند ابن عبدالبر، وعن سمرة عند أحمد والبزار.
1755- (20) وعن عمرة بنت عبدالرحمن، أنها قالت: سمعت عائشة، وذكر لها أن عبدالله بن عمر يقول: ((إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه، تقول: يغفر الله لأبي عبدالرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية يبكى عليها، فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها)).

(10/392)


1755- قوله: (وعن عمرة) بفتح العين المهملة وسكون الميم. (بنت عبدالرحمن) بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، ثقة من أوساط التابعين، كانت في حجر عائشة، أكثرت عنها. قال ابن المديني: عمرة أحد الثقات العلماء بعائشة، الأثبات فيها. وقال ابن حبان: كانت من أعلم الناس بحديث عائشة. وقال سفيان: أثبت حديث عائشة حديث عمرة والقاسم وعروة، ماتت قبل المائة، وقيل بعدها. (وذكر) بصيغة المجهول. (لها) أي لعائشة. (إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه) أي سواء كان الباكي من أهل الميت أم لا، فليس الحكم مختصا بأهله، وقوله "ببكاء أهله عليه" في الرواية الآتية خرج مخرج الغالب؛ لأن المعروف أنه إنما يبكي على الميت أهله. ووقع في بعض طرق حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة "من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه"، فرواية الباب عامة في البكاء، وهذه الرواية خاصة في النياحة، فيحمل المطلق على المقيد، وتكون الرواية التي فيها مطلق البكاء محمولة على البكاء بنوح. ويؤيد ذلك إجماع العلماء على حمل ذلك على البكاء بنوح. ومما يدل على أنه ليس المراد عموم البكاء قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمر: إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه. فقيد ببعض البكاء، فحمل على ما فيه نياحة جمعا بين الأحاديث. قال الشوكاني: حكى النووي إجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم أن المراد بالبكاء الذي يعذب الميت عليه هو البكاء بصوت ونياحة لا بمجرد دمع العين. (تقول) حال من عائشة. وقيل: مفعول ثان لـ"سمعت" وما بينهما جملة معترضة. (يغفر الله لأبي عبدالرحمن) كنية عبدالله بن عمر، قدمته تمهيدا أو دفعا لمن يوحش من نسبته إلى النسيان والخطأ، قال الله تعالى: ?عفا الله عنك لم أذنت لهم?[التوبة:43]، فمن استغرب من غيره شيئا ينبغي أن يوطئ ويمهد له بالدعاء إقامة لعذره فيما وقع منه، وإنه لم يتعمد، ومن ثم زادت على ذلك بيانا واعتذارا بقولها: (أما) بالتخفيف للتنبيه أو للافتتاح،

(10/393)


يؤتي بها لمجرد التأكيد. (أنه) أي ابن عمر. (ولكنه نسي) أي مورده الخاص. (أو أخطأ) أي في إرادته العام. (يبكى عليها) بصيغة المجهول وفي رواية: يبكي عليها أهلها. (إنهم) أي اليهود. (وإنها) أي اليهودية. (لتعذب في قبرها) أي لكفرها في حال بكاء أهلها عليها لا بسبب البكاء. قال القاري: ولا يخفى أن هذا الاعتراض وارد لو لم يسمع
متفق عليه.
1756- (21) وعن عبدالله بن أبي مليكة، قال: ((توفيت بنت لعثمان بن عفان بمكة، فجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عباس، فإني لجالس بينهما، فقال عبدالله بن عمر لعمرو بن عثمان وهو مواجهه: ألا تنهى عن البكاء؟
الحديث إلا في هذا المورد، وقد ثبت بألفاظ مختلفة وبروايات متعددة عنه وعن غيره غير مقيدة بل مطلقة، دخل هذا الخصوص تحت ذلك العموم، فلا منافاة ولا معارضة، فيكون اعتراضها بحسب اجتهادها-انتهى. وتقدم قول القرطبي: إن إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان، أو على أنه سمع بعضا ولم يسمع بعضا بعيد؛ لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح-انتهى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه مالك والترمذي والنسائي وأبوعوانة والبيهقي.

(10/394)


1756- قوله: (وعن عبدالله بن أبي مليكة) بالصغير. (بنت لعثمان بن عفان) هي أم أبان، كما صرح به في مسند أحمد وصحيح مسلم والنسائي. (لنشهدها) أي لنحضر صلاتها ودفنها. (وحضرها ابن عمر) بن الخطاب. (وابن عباس) أي وقد حضراها أيضا، وفي رواية لمسلم: فحضرها ابن عمر وابن عباس. (فإني لجالس بينهما) أي بين ابن عمر وابن عباس. قال الطيبي: الظاهر أن يقال "وإني لجالس" ليكون حالا، والعامل حضر، والفاء تستدعي الاتصال بقوله: "فجئنا لنشهدها" نقله السيد جمال الدين. قلت: قوله: "فإني لجالس" كذا في جميع النسخ الموجودة الحاضرة عندنا، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج11:ص399). ووقع في الصحيحين "وإني لجالس" بالواو. وقال ابن حجر: قوله "فإني لجالس" عطف على "فجئنا". وقال القاري: الأظهر أن الفاء دخلت على مقدر، تقديره فبعد حضورها إني لجالس بينهما إشعارا بكمال الاطلاع على ما نقل عنهما. (لعمرو بن عثمان) أخيها، وهو عمرو بن عثمان بن عفان الأموي يكنى أبا عثمان، مدني ثقة من كبار التابعين. قال الزبير بن بكار: كان أكبر ولد عثمان الذي أعقبوا، وإن معاوية زوجه لما ولي الخلافة ابنته رملة. (وهو) أي ابن عمر. (مواجهه) أي مقابل ابن عثمان. (ألا تنهى) النساء. (عن البكاء) أي بالصياح والنياح. وفي رواية لمسلم وأحمد عن ابن مليكة قال: كنت جالسا إلى جنب ابن عمر، ونحن ننتظر جنازة أم أبان بنت عثمان، وعنده عمرو بن عثمان، فجاء ابن عباس يقوده قائد، فأراه أخبره بمكان ابن عمر، فجاء حتى جلس إلى جنبي فكنت بينهما، فإذا صوت من الدار. وفي رواية النسائي والحميدي: فبكى النساء، فظهر السبب في قول ابن عمر لعمرو بن عثمان ما قال. والظاهر أن المكان الذي جلس فيه ابن عباس كان أوفق له من الجلوس يجنب ابن عمر، أو اختار أن لا يقيم ابن أبي مليكة من

(10/395)


فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، فقال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك، ثم حدث، فقال: صدرت مع عمر من مكة حتى إذا كنا بالبيداء، فإذا هو يركب تحت ظل سمرة، فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ فنظرت، فإذا هو صهيب، قال: فأخبرته، فقال: ادعه، فرجعت إلى صهيب، فقلت: ارتحل فالحق أمير المؤمنين، فلما أن أصيب عمر دخل صهيب يبكي، يقول: وا أخاه، وا صاحباه،
مكانه ويجلس فيه للنهى عن ذلك. (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) زاد في رواية لمسلم وأحمد وقال: فأرسلها عبدالله مرسلة. قال النووي: معناه أن ابن عمر أطلق في روايته تعذيب الميت ببكاء الحي، ولم يقيده بيهودي كما قيدته عائشة، ولا بوصية كما قيده آخرون، ولا قال ببعض بكاء أهله كما رواه أبوعمر. (فقال ابن عباس) أي معترضا على ابن عمر بأن عائشة خالفته كأبيه. (قد كان عمر يقول بعض ذلك) أي للعموم، وهو أن يكون بصوت أو ندبة أو يروى أي بعض ذلك الكلام؛ لأن في روايته: ببعض بكاء أهله كما سيأتي. (ثم حدث) أي روى ابن عباس ما سمعه من عمر (صدرت) أي رجعت. (مع عمر من مكة) قافلا من حجه. (بالبيداء) بفتح الموحدة وسكون التحتية، مفازة بين مكة والمدينة، قاله العيني. وقال القاري: موضع قريب من ذي الحليفة. (فإذا هو) أي عمر "وإذا" للمفاجأة. (بركب) بفتح فسكون أي جماعة راكبين. (تحت ظل سمرة) بفتح السين المهملة وضم الميم، شجرة عظيمة من شجر الغضاة. (فقال) أي عمر. (اذهب فانظر) أي تحقق (صهيب) أي ومن معه بضم الصاد ابن سنان بن قاسط، وكان من السابقين الأولين المعذبين في الله. (قال) أي ابن عباس. (فأخبرته) أي أخبرت عمر بذلك. (ادعه) بضم الهاء أي اطلب صهيبا لي. (فقلت) أي لصهيب. (ارتحل) أي من مكانك. (فالحق) بفتح الحاء، أمر من اللحوق. (أمير المؤمنين) هذا توطئة للمصاحبة والخصوصية الخالصة والمؤاخاة السالفة بين عمر وصهيب. (فلما أن) زائدة. (أصيب عمر) أي

(10/396)


بالجراحة التي مات بها، وكان ذلك عقب حجه المذكور، ففي رواية مسلم المذكورة: فلما قدمنا المدينة لم يلبث عمر أن أصيب. وفي رواية الحميدي: لم يلبث أن طعن. (يبكي) حال. (يقول) بدل اشتمال من يبكي، قاله القاري. وقال العيني "يبكي" جملة وقعت حالا من صهيب، وكذلك يقول "حال"، ويجوز أن يكون من الأحوال المترادفة، وأن يكون من المتداخلة. (وا أخاه وا صاحباه) كلمة "وا" للندبة. والألف في آخره ليس مما يلحق الأسماء الستة لبيان الإعراب، بل هو مما يزاد في آخر المندوب لتطويل مد الصوت، والهاء ليست بضمير، بل هو هاء السكت، وشرط المندوب أن يكون معروفا، فلا بد من القول بأن
فقال عمر: يا صهيب! أتبكي علي! وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه، فقال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت: يرحم الله عمر، لا والله ما حدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، ولكن إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه،

(10/397)


الأخوة والصاحبية له كانا معلومين معروفين حتى يصح وقوعهما للندبة. (أتبكي) بهمزة الاستفهام الإنكاري. (علي) أي بالصوت والندبة، وفي رواية النسائي. فقال عمر: يا صهيب: لا تبك. قال السندي: خاف أن يفضي بكاءه إلى البكاء بعد الموت، وإلا فالحديث في البكاء بعد الموت. (ببعض بكاء أهله عليه) قيده ببعض البكاء، فحمل على ما فيه نوح وندبة جمعا بين الأحاديث. وقيل: المراد بالبعض ما يكون من وصيته. (فقالت: يرحم الله عمر) قال الطيبي: هذا من الآداب الحسنة على منوال قوله تعالى: ?عفا الله عنك لم أذنت لهم?[التوبة:43]، فاستعربت من عمر ذلك القول فجعلت قولها "يرحم الله" تمهيدا ودفعا لما يوحش من نسبته إلى الخطأ. (لا) أي ليس كذلك. (إن الميت) بكسر الهمزة وتفتح. (ليعذب ببكاء أهله عليه) في البخاري: إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه. وفي مسلم: إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد، وفي أخرى له: ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط، إن الميت يعذب ببكاء أحد، قال القاري. أي مطلقا ولا مقيدا، وهذا النفي المؤكد بالقسم منها بناء على ظنها وزعمها، أو مقيد بسماعها، وإلا فمن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمثبت مقدم على النافي. وكيف والحديث روي من طرق صحيحة بألفاظ صريحة، مع أنه بعمومه لا ينافي ما قالت بخصوصه. (ولكن) بإسكان النون أي الذي حدث به جملة إن الله الخ. قال القاري: وفي نسخة "ولكن" قال: وفي البخاري "ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال"، وفي رواية لمسلم "ولكنه قال". (إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه) فحملت الميت على الكافر وأنكرت الإطلاق، وقد جاء فيه الزيادة كقوله تعالى: ?زدناهم عذابا فوق العذاب?[النحل:88] وقوله: ?فلن نزيدكم إلا عذابا?[النبأ:30] لكن قد يقال: زيادة العذاب بعمل الغير أيضا مشكلة معارضة بقوله تعالى: ?ولا تزر? الخ، فينبغي أن تحمل الباء في قوله "ببعض بكاء أهله" على المصاحبة لا

(10/398)


السببية، وتخصيص الكافر حينئذ لأنه محل الزيادة، قاله السندي في حاشية النسائي، وقال في حاشية البخاري: كأنها فهمت أن معنى هذا الحديث هو أن الله يزيد الكافر عذابا جزاء لكفره، كما قال تعالى: ?فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا?[النبأ:30] إلا أن الله أجرى عادته بإظهار الزيادة عند البكاء، فصار كأن البكاء سبب للزيادة؛ لأن الزيادة جزاء للبكاء، ولا يتصور مثل ذلك في تعذيب المؤمن بسبب البكاء، فصار هذا الحديث بفهمها غير مخالف لقوله تعالى:?ولا تزر? بل هو موافق
وقالت عائشة: حسبكم القرآن: ?ولا تزر وازرة أخرى?، قال ابن عباس عند ذلك: والله أضحك وأبكي،

(10/399)


لقوله تعالى: ?فلن نزيدكم إلا عذابا? بخلاف حديث تعذيب المؤمن، فلا يرد أن هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالى:?ولا تزر? الخ. فما بالها تثبته وتبطل الحديث الآخر بالمخالفة فافهم-انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف. وقال القاري: فيه أن النفي منها رضي الله عنها هنا مناقض لما قالت سابقا من أن الحديث ورد في يهودية كانوا يبكون عليها، وهي تعذب في قبرها-انتهى. وقال الحافظ: هذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيها إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر، بل بما استشعرته من معارضة القرآن. قال الداودي: رواية ابن عباس عن عائشة بينت ما نفته عمرة وعروة عنها، إلا أنها خصته بالكافر؛ لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذابا ببكاء أهله، فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء. (وقالت عائشة) أي تأكيدا لقولها أولا: (حسبكم القرآن) بسكون السين المهملة، أي كافيكم أيها المؤمنون القرآن، أي في تأييد ما ذهبت إليه من رد الخبر: ?ولا تزر وازرة ورز أخرى? الجملة بدل كل أو بعض من القرآن أو خبر مبتدأ محذوف هو هو. قال الطيبي: الوزر والوقر أخوان، وزر الشيء إذا حمله، والوازرة صفة النفس. والمعنى أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته. لا تؤخذ نفس بذنب نفس، كما تأخذ جبارة الدنيا الولي بالولي والجار بالجار-انتهى. (قال ابن عباس عند ذلك) أي عند انتهاء حديثه عن عائشة مؤيدا لها ومصداقا لكلامها: (والله) بالرفع مع الواو، وهو حاصل معنى الآية في سورة النجم بلفظ: إنه هو ?أضحك وأبكى? قال ميرك: أي إن العبرة لا يملكها ابن آدم ولا تسبب له فيها، فكيف يعاقب عليها فضلا عن الميت-انتهى. وحاصله جواز عموم البكاء، وهو خلاف الإجماع. وقال الداودي: معناه أن الله تعالى أذن في الجميل من البكاء فلا يعذب على ما أذن فيه-انتهى. وهو خارج عن البحث كما لا يخفى. وقال الطيبي: غرضه تقرير قول عائشة أي أن بكاء الإنسان وضحكه وحزنه وسروره من الله

(10/400)


يظهرها فيه فلا أثر له في ذلك-انتهى. وفيه أن الكل من عند الله خلقا ومن العبد كسبا كما هو مقرر، والشرع قد اعتبر ما يترتب عليه من الأثر كسائر أفعال البشر، ألا ترى أن التبسم والضحك في وجه المؤمن من الحسنات، وعلى المؤمن على وجه السخرية من السيئات، وكذا الحزن والسرور تارة يكونان من الأحوال السيئة، يثاب الشخص بهما، وتارة من الأفعال الدنية، يعاقب عليهما، كما هو مقرر في محله. ثم قال الطيبي: فإن قلت: كيف لم يؤثر ذلك في حق المؤمن وقد أثر في حق الكافر؟ قلت: لأن المؤمن الكامل لا يرضى بالمعصية مطلقا، سواء صدرت منه أو من غيره بخلاف الكافر، ومن ثم قالت الصديقة رضي الله عنها: حسبكم القرآن أي كافيكم، أيها المؤمنون! من
قال ابن أبي مليكة: فما قال ابن عمر شيئا)). متفق عليه.
1757- (22) وعن عائشة، قالت: ((لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ابن حارثة وجعفر

(10/401)


القرآن هذه الآية ?ولا تزر? الخ إنها في شأنكم، وما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه في شأن الكفار-انتهى. قال القاري: لا دلالة لقولها على هذه المدعى مع أن العبرة بعموم ألفاظ الآيات والأحاديث في المعنى لا لخصوص الأسباب في المبنى-انتهى. وقال الكرماني: لعل غرض ابن عباس من هذا الكلام في هذا المقام أن الكل بخلق الله وإرادته، فالأولى فيه أن يقال بظاهر الحديث، وأن له أن يعذبه بلا ذنب، ويكون البكاء عليه علامة لذلك أو يعذبه بذنب غيره، سيما وهو السبب في وقوع الغير فيه، ولا يسئل عما يفعل، وتخصص آية الوزر بيوم القيامة. (فما قال ابن عمر شيئا) أي من القول أو شيئا آخر. قال الطيبي: أي فعند ذلك سكت ابن عمر وأذعن. وقال الزين بن المنير: لا يدل سكوته على الإذعان، فلعله كره المجادلة في ذلك المقام. وقال القرطبي: ليس سكوته لشك طرأ له بعد ما صرح برفع الحديث، ولكن احتمل عنده أن يكون الحديث قابلا للتأويل، ولم يتعين له محمل يحمله عليه إذ ذاك، أو كان المجلس لا يقبل المماراة، ولم يتعين الحاجة إلى ذلك حينئذ. وقال الخطابي: الرواية إذا ثبتت لم يكن في دفعها سبيل بالظن، وقد رواه عمر وابنه، ليس فيما حكت عائشة ما يرفع روايتهما الجواز أن يكون الخبران صحيحين معا، ولا منافاة بينهما، فالميت إنما تلزم العقوبة بما تقدم من وصيته إليهم به وقت حياته، وكان ذلك مشهورا من مذاهبهم، وهو موجود في أشعارهم. (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص41-42) والنسائي والبيهقي (ج4:ص73).

(10/402)


1757- قوله: (لما جاء النبي) بالنصب على المفعولية والفاعل. (قتل ابن حارثة) أي زيد وقد تقدم ترجمته. (وجعفر) هو ابن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم الطيار، ذو الجناحين ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحد السابقين إلى الإسلام وأخو علي شقيقه، وكان أكبر من علي بعشر سنين، هاجر إلى الحبشة فأسلم النجاشي ومن تبعه على يديه، وأقام جعفر عنده، ثم هاجر إلى المدينة فقدم والنبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فقيل بين عينيه وقال: ما أدري أنا بقدوم جعفر أسر أو بفتح خيبر؟ وكان أشبه الناس خلقا وخلقا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبوهريرة يقول: خير الناس للمساكين جعفر، ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى أن كان ليخرج إلينا العكة ليس فيها شيء فيشقها. وفي رواية : كان يحب المساكين ويجلس إليهم ويخدمهم ويخدمونه، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكنيه أبا المساكين. وقال أبوهريرة: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جعفر بن أبي طالب، استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غزوة موتة،
وابن رواحة، جلس يعرف فيه الحزن، وأنا أنظر من صائر الباب – تعني شق الباب- فأتاه رجل فقال: إن نساء جعفر، وذكر بكاءهن،

(10/403)


واستشهد بها سنة ثمان من الهجرة، قاتل فيها حتى قطعت يداه جميعا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء، فمن هناك قيل: له جعفر الطيار وجعفر ذوالجناحين، وهو أول من عرقب فرسا في سبيل الله، نزل يوم مؤتة إذ رأى الغلبة، فعرقب فرسه. وقاتل حتى قتل، قال ابن عمر: كنت معهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفرا فوجدنا فيما أقبل من جسمه بضعا وتسعين بين طعنة ورمية، وكان سنه يوم قتل (41) سنة. (وابن رواحة) هو عبدالله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس الخزرجي الأنصاري الشاعر، أحد السابقين الأولين من الأنصار، وأحد النقباء ليلة العقبة، وثالث الأمراء بغزوة مؤتة، شهد بدرا وما بعدها إلى أن استشهد بمؤتة. قال ابن سعد : كان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي جاء ببشارة بدر إلى المدينة. قال ابن عبدالبر: هو أحد الشعراء المحسنين الذين كانوا يردون الأذى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه وفي صاحبه حسان، وكعب بن مالك نزلت: ?إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا?الآية [الشعراء:237]، ومناقبة كثيرة، وقصة غزوة مؤتة في الصحيحين. (جلس) هو جواب "لما" أي لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر شهادتهم على لسان جبريل جلس أي في المسجد، كما في رواية أبي داود. وفيه دليل على جواز الجلوس للعزاء في المسجد. (يعرف) بصيغة المجهول. (فيه) أي في وجهه. (الحزن) أي أثره وهو بضم الحاء وسكون الزاي، والجملة حال أي جلس حزينا، وعدل إلى قوله: يعرف، ليدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كظم الحزن كظما، وكان ذلك القدر الذي ظهر فيه من جبلة البشرية. (وأنا أنظر) جملة حالية أيضا. وقائلها عائشة رضي الله عنها. (من صائر الباب) بالصاد المهملة المفتوحة والهمزة بعد الألف أي الشق الذي كان بالباب. قال المازري: كذا وقع في الصحيحين "صائر الباب"، والصواب صير الباب بكسر

(10/404)


الصاد وسكون التحتية، وهو الشق. قال القسطلاني: وهو المحفوظ كما في المجمل والصحاح والقاموس، وقال ابن الجوزي صائر وصير بمعنى واحد. وفي كلام الخطابي نحوه. (تعني) أي تريد عائشة بصائر الباب. (شق الباب) بفتح الشين المعجمة أي الموضع الذي ينظر منه، وهذا لفظ البخاري في المغازي. قال العيني: وهذا التفسير إنما وقع في رواية القابسي، فيكون من الراوي. وفي رواية لهما "وأنا أنظر من صائر الباب شق الباب" أي بدون لفظ تعني. (فأتاه رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، وكأنه أبهم عمدا لما وقع في حقه من غض عائشة منه. (إن نساء جعفر) أي امرأته وهي أسماء بنت عميس الخثعمية ومن حضر عندها من النساء من أقاربها وأقارب جعفر ومن في معناها، ولم يذكر أهل العلم بالأخبار لجعفر امرأة غير أسماء. (وذكر) أي الرجل. (بكاءهن) الجملة في محل النصب على الحالية سادة مسد الخبر. قال الطيبي: هو حال عن المستتر في قوله "فقال"
فأمره أن ينههن، ثم أتاه الثانية لم يطعنه، فقال: إنههن، فأتاه الثالثة، قال: والله غلبننا يا رسول الله! فزعمت أنه قال: فأحث في أفواههن التراب،

(10/405)


وحذفت رضي الله عنها خبر "إن" من القول المحكي عن نساء جعفر لدلالة الحال عليه، يعني أن ذلك الرجل قال: إن نساء جعفر فعلن كذا وكذا مما حظره الشرع من البكاء المشتمل على رفع الصوت والنياحة-انتهى. وقد وقع عند النسائي "يبكين"، وعند أبي عوانة "قد كثر بكاؤهن"، وعند ابن حبان "قد أكثرن بكاءهن". (فأمره) عليه الصلاة والسلام. (أن ينهاهن) عن فعلهن. (فذهب) أي فنهاهن فلم يطعنه. (ثم أتاه) أي أتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - (الثانية) أي المرة الثانية فقال: إنهن (لم يطعنه) أي في ترك البكاء. قال الطيبي: قوله لم يطعنه حكاية لمعنى قول الرجل، أي فذهب ونهاهن ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: نهيتهن فلم يطعنني، يدل عليه قوله في المرة الثالثة: والله غلبننا، ووقع في رواية أبي عوانة: فذكر أنهن لم يطعنه . (انههن) بهمزة وصل مكسورة وفتح الهاء أمر من النهي. (فأتاه الثالثة) أي فذهب إليهن ونهاهن ولم يطعنه أيضا، فأتاه المرة الثالثة. (غلبننا) بلفظ جمع المؤنث الغائبة، أي في عدم الامتثال لقوله؛ لكونه لم يصرح لهن بنهي الشارع، أو حملن الأمر على التنزيه، أو لشدة الحزن لم يستطعن ترك ذلك، وليس النهي عن البكاء فقط، بل الظاهر أنه على نحو النوح. (فزعمت) بالغيبة أي عائشة وهو مقول عمرة، والزعم قد يطلق على القول المحقق، وهو المراد هنا، قاله الحافظ. أي قالت عمرة: فزعمت أي قالت عائشة. (أنه) - صلى الله عليه وسلم - (قال) للرجل لما لم ينتهين: (وأحث) بضم المثلثة أمر من حثا يحثو وبكسرها أيضا من حثي يحثى أي ارم. (في أفواههن التراب) بالنصب أي ليسد محل النوح فلا يتمكن منه، أو المراد به المبالغة في الزجر. قال القرطبي: هذا يدل على أنهن رفعن أصواتهن بالبكاء، فلما لم ينتهين أمره أن يسد أفواههن بذلك، وخص الأفواه بذلك لأنها محل النوح بخلاف الأعين مثلا. وقيل: لم يرد بالأمر حقيقته. قال عياض: هو بمعنى التعجيز أي أنهن لا

(10/406)


يسكتن إلا بسد أفواههن، ولا يسدها إلا أن تملأ بالتراب، فإن أمكنك فافعل. وقال القرطبي: يحتمل أنهن لم يطعن الناهي لكونه لم يصرح لهن بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهن، فحملن ذلك على أنه مرشد للمصلحة من قبل نفسه، أو علمن ذلك لكن غلب عليهن شدة الحزن لحرارة المصيبة، ثم الظاهر أنه كان في بكائهن زيادة على القدر المباح، فيكون النهي للتحريم، بدليل أنه كرره وبالغ فيه وأمر بعقوبتهن إن لم يسكتن، ويحتمل أن يكون بكاء مجردا، والنهي للتنزيه، ولو كان للتحريم لأرسل غير الرجل المذكور لمنعهن؛ لأنه لم يقر على باطل، ويبعد تمادى الصحابيات بعد تكرار النهي على فعل الأمر المحرم. وفائدة نهيهن عن الأمر المباح خشية أن يسترسلن فيه، فيفضى بهن إلى الأمر لضعف صبرهن، فيستفاد منه جواز النهي عن المباح عند
فقلت: أرغم الله أنفك، لم تفعل ما أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العناء)). متفق عليه.
1758- (23) وعن أم سلمة، قالت: ((لما مات أبوسلمة قلت: غريب، وفي أرض غربة، لأبكينه بكاء

(10/407)


خشية إفضائه إلى ما يحرم، كذا في الفتح. (فقلت) للرجل. (أرغم الله أنفك) بالراء والغين المعجمة، أي ألصق الله أنفك بالرغام بفتح الراء وهو التراب إهانة وإذلالا. قال الحافظ: دعت عليه من جنس ما أمر أن يفعله بالنسوة لفهمها من قرائن الحال أنه أحرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثرة تردده إليه في ذلك. وقال الطيبي: أي أذلك الله فإنك آذيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كففتهن عن البكاء، وهذا معنى قولها رضي الله عنها: (لم تفعل ما أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي على درجة الكمال في الزجر، وإلا فقد قام بالأمر حيث نهاهن عن الضجر، قاله القاري. وقال الكرماني: أي لم تبلغ النهي، ونفته وإن كان قد نهاهن لأنه لم يترتب على نهيه الامتثال، فكأنه لم يفعله، ويحتمل أن تكون أرادت لم تفعل أي الحثو بالتراب. (ولم تترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العناء) بفتح العين المهملة والنون والمد أي المشقة والتعب، ومراد عائشة أن الرجل لا يقدر على ذلك، فإذا كان لا يقدر فقد أتعب نفسه ومن يخاطبه في شيء لا يقدر على إزالته، ولعل الرجل لم يفهم من الأمر المحتم. وقال النووي: معناه أنك قاصر لا تقوم بما أمرت به من الإنكار لنقصك وتقصيرك، ولا تخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصورك عن ذلك حتى يرسل غيرك ويستريح من العناء. وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا: جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار، وجواز نظر النساء المحتجبات إلى الرجال الأجانب، وتأديب من نهي عما لا ينبغي له فعله إذا لم ينته، قاله الحافظ: وقد ترجم البخاري في صحيحه على هذا الحديث. باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن، قال الزين بن المنير ما ملخصه: موقع هذه الترجمة من الفقة أن الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم، فمن أصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم والشق والنوح وغيرها، ولا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف

(10/408)


بقدر المصاب، فيقتدي به - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحالة بأن يجلس المصاب جلسة خفيفة بوقار وسكينة تظهر عليه مخائل الحزن، ويؤذن بأن المصيبة عظيمة، كذا في الفتح. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز وفي المغازي، ومسلم في الجنائز، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وأبوعوانة وابن حبان والبيهقي (ج4:ص59).
1758- قوله: (وعن أم سلمة) أم المؤمنين. (لما مات أبوسلمة) أي زوجها الأول. (غريب وفي أرض غربة) بالإضافة أي أنه من أهل مكة ومات بالمدينة. (لأبكينه) بتشديد النون، أي والله لأبكين عليه. (بكاء) أي
يتحدث عنه، فكنت قد تهيأت للبكاء عليه، إذ أقبلت امرأة تريد أن تسعدني، فاستقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتا أخرجه الله منه؟ مرتين، وكففت عن البكاء فلم أبك)). رواه مسلم.
1759- (24) وعن النعمان بن بشير، قال: ((أغمى على عبدالله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي:

(10/409)


شديدا. (يتحدث عنه) بصيغة المجهول، أي يتحدث الناس به ويتعجبون منه لكمال شدته، والظاهر أن هذا منها كان قبل علمها بتحريم النياحة. (فكنت قد تهيأت للبكاء عليه) أي بالقصد والعزيمة، وتهيئة أسباب الحزن من الثياب السود وغيرها. قال الطيبي: الفاء متصلة بقولها: قلت أي قلت عقيب ما تهيأت للبكاء، ولا يجوز أن يتصل بالقول إلا مع الواو ليكون حالا-انتهى. وقال ابن حجر: هو عطف على قلت، أي عقب قولي ذلك وقع مني تمام التهيؤ. (إذ أقبلت امرأة) ظرف لتهيأت، وقيل: ظرف لقلت. وفي رواية للبيهقي: فلما تهيأت للبكاء عليه إذا امرأة تريد أن تأتيني، وفي أخرى له: فبينا أنا كذلك قد تهيأت للبكاء عليه إذ أتت امرأة. (تريد أن تسعدني) من الإسعاد وهو الإعانة، أي تساعدني في البكاء والنوح. (فاستقبلها) أي تلك المرأة. (فقال) أي بعد علمه بما هي قاصدة له. (أتريدين) أيتها المرأة بإعانتك على المعصية. (أن تدخلي الشيطان) أي أن تكوني سببا لدخول الشيطان. (بيتا أخرجه الله) أي الشيطان. (منه) أي من ذلك البيت وأبعده من إغواء أهله. (مرتين) الظاهر أنه متعلق بـ"قال" أي أعاد هذا الكلام لكمال الاهتمام مرتين. (وكففت) عطف على مقدر، أي فأنزجرت ومنعت نفسي. (عن البكاء فلم أبك) أي البكاء المذموم. قال البيهقي: هذا في بكاء يكون معه ندب أو نياحة –انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه البيهقي أيضا (ج4:ص63).

(10/410)


1759- قوله: (عن النعمان) بضم النون. (أغمي على عبدالله) بصيغة المجهول يعني مرض، وحصل له الإغماء في مرضه، فلما رأت أخته عمرة هذه الحالة بكت وندبت. (أخته عمرة) بنت رواحة الأنصارية زوجة بشير بن سعد الأنصاري، ووالدة النعمان بن بشير، راوي هذا الحديث، وهي التي سألت بشيرا أن يخص ابنها منه بعطية دون إخوته، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، والحديث في الصحيحين. قال ابن عبدالبر: لما ولدت النعمان بن بشير حملته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا بتمرة، فمضغها ثم ألقاها في فيه فحنكه بها، فقالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدع الله أن يكثر ماله وولده، فقال: أما ترضين أن يعيش كما عاش خاله حميدا، وقتل شهيدا، ودخل الجنية. (تبكي)
وا جبلاه! وا كذاه! تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا قيل لي: أنت كذلك))؟ زاد في رواية: ((فلما مات لم تبك عليه)) رواه البخاري.
1760- (25) وعن أبي موسى، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: وا جبلاه! وا سيداه! ونحو ذلك، إلا وكل الله به ملكين يلهزانه، ويقولان: أهكذا

(10/411)


عليه وتقول. (وا جبلاه) بالجيم والموحدة واللام، والواو فيه للندبة وهو حرف نداء، ولكنه يختص بالندبة. والهاء فيه للسكت. قال الطيبي: حال والقول محذوف أي قائلة وا جبلاه، أي أنه كان لها كالجبل تأوي إليه عند طروق الحوادث فتعتصم به، ومستندا تستند إليه في أمورها. (وا كذا وا كذا) مرتين كنايتان عن نحو سيداه وسنداه. (تعدد عليه) بضم التاء من التعديد، وهو ذكر أوصاف الميت ومحاسنه في أثناء البكاء، يعني تذكر محاسنه، وذلك غير جائز، وعند أبي نعيم في المستخرج وا عضداه، وفي مرسل الحسن عند ابن سعد وا جبلاه وا عزاه، وفي مرسل أبي عمران الجوني عنده وا ظهراه، وزاد فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عاده، فأغمي عليه فقال: اللهم إن كان أجله حضر فيسر عليه وإلا فاشفه، قال: فوجد خفة، فقال: كان ملك قد رفع مرزبة من حديد يقول: أنت كذا، فلو قلت نعم لقمعنى بها. (فقال) عبدالله. (حين أفاق) من الإغماء لأخته عمرة. (ما قلت شيئا) مما سبق. (إلا قيل لي) استثناء مفرغ. (أنت كذلك) استفهام على سبيل الإنكار، أي قيل لي أنت لها جبل؟ أي كهف تلجيء إليك على سبيل الإيذاء والإهانة والتهكم والوعيد الشديد، وزاد أبونعيم في آخرها فنهاها عن البكاء عليه. قال الطيبي: هذا الحديث ينصر مذهب عمر رضي الله عنه في حديث ابن أبي مليكة. وقال ابن حجر: فإن قلت: ما وجه توبيخه بهذا مع أنه لم يرض به ولا أمر؟ قلت: إخباره بذلك حتى ينزجر الناس عن فعل شيء من ذلك. (فلما مات) عبدالله بن رواحة في غزوة مؤتة وبلغها خبره. (لم تبك عليه) أي أخته لنهيه إياها عن ذلك في مرضه الذي أغمي عليه فيه ولم يمت منه، وقيل: لم تبك عليه مخافة أن يقال له بعد الموت أيضا، كما قيل في حالة الإغماء. (رواه البخاري) في المغازي وأخرجه ابن سعد والبيهقي أيضا (ج4:ص64).

(10/412)


1760- قوله: (ما من ميت) أي حقيقي أو مشرف على الموت. (يموت) قال الطيبي هو كقول ابن عباس يمرض المريض وتضل الضالة فسمي المشارف للموت والمرض والضلال ميتا ومريضا وضالة، وهذه الحالة هي الحالة التي ظهرت على عبدالله بن رواحة. (فيقوم) أي فيشرع. (يلهزانه) بفتح الهاء أي يضربانه ويدفعانه. وفي النهاية: اللهز الضرب بجمع اليد في الصدر، يقال: لهزه بالرمح أي طعنه في الصدر. (أهكذا كنت) أي توبيخا وتقريعا وتهكما به،
كنت؟ )). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب حسن.
1761- (26) وعن أبي هريرة، قال: ((مات ميت من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر ينهاهن ويطردهن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعهن يا عمر فإن العين دامعة، والقلب مصاب، والعهد قريب)) رواه أحمد، والنسائي.

(10/413)


كما في قوله: ?ذق إنك أنت العزيز الكريم?. وفيه حديث النعمان دليل على تحريم الندية والنياحة على الميت الحقيقي وعلى المشرف على الموت. (رواه الترمذي) وأخرجه أحمد (ج4ص414) بلفظ: الميت يعذب ببكاء الحي عليه، إذا قالت النائحة: وا عضداه وا ناصراه وا كاسياه، جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسيها؟ وأخرجه ابن ماجه بلفظ: يتعتع به ويقال: أنت كذلك. وقوله: يتعتع على بناء المفعول من تعتعت الرجل إذا عنفه وأقلقته، كذا في الصحاح. والعنف هو الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر. وأخرجه الحاكم بنحوه وقال: صحيح الإسناد. قال الحافظ في الفتح والتلخيص بعد ذكر حديث أبي موسى من رواية أحمد والترمذي والحاكم: وشاهده ما روى البخاري في المغازي من صحيحه من حديث النعمان بن بشير، فذكر لفظه، وفي الباب عن عبدالله بن عمر أخرجه الطبراني في الكبير، وعن معاذ بن جبل أخرجه الطبراني في الكبير، وعن معاذ بن جبل أخرجه الطبراني أيضا، ذكرهما الهيثمي في الزوائد (ج3ص14- 15)، والمنذري في الترغيب وقالا: في الأول الأعمش لم يدرك ابن عمر، وفي الثاني الحسن لم يدرك معاذا.

(10/414)


1761- قوله: (مات ميت من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) هي زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي في الحديث الآتي. (يبكين عليه) أي على الميت من غير نياحة. (دعهن) أي اتركهن. (فإن العين دامعة) أي بالطبع والجبلة البشرية. قال السندي: فيه أن بكاءهن كان بدمع العين لا بالصياح، فلذلك رخص في ذلك، وبه يحصل التوفيق بين أحاديث الباب. (والقلب) بالنصب والرفع. (مصاب) أي أصابه المصيبة فلا بد له من أن يحزن، فهو السبب في بكاء العين. (والعهد) أي زمان المصيبة. (قريب) أي منهن فالصبر صعب عليهن. قال الطيبي: كان من الظاهر أن يعكس الترتيب؛ لأن قرب العهد مؤثر في القلب بالحزن، والحزن مؤثر في البكاء، ولكن قدم ما يشاهد، ويستدل به على الحزن الصادر من قرب، وفيه أنهن لم يكن يزدن على البكاء النياحة والجزع-انتهى. وقال القاري الظاهر أن بكاءهن كان بصوت لكن لا برفعه، فنهاهن عمر سدا لباب الذريعة حتى لا ينجر إلى النياحة المذمومة، فأمره عليه الصلاة والسلام بتركهن، وأظهر عذرا لهن في أفعالهن-انتهى. والظاهر عندي هو ما قاله الطيبي والسندي. (رواه أحمد والنسائي) وأخرجه ابن ماجه وابن حبان والبيهقي (ج4ص70) أيضا، ولفظ ابن ماجه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في جنازة فرأى عمر امرأة. (أي باكية) فصاح بها. (لتنتهي عنه) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
1762-(27) وعن ابن عباس، قال: ((ماتت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، وقال: مهلا يا عمر! ثم قال: إياكن ونعيق الشيطان، ثم قال: إنه مهما كان من العين ومن القلب، فمن الله عزوجل
دعها يا عمر، فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب، ذكره الحافظ في التلخيص، وسكت عنه، ونقل السندي في حاشيته ابن ماجه عن الحافظ أنه قال في الفتح: رجاله ثقات.

(10/415)


1762- قوله: (ماتت زينب بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -) وقع في رواية عند أحمد والبيهقي وابن سعد: رقية بنت رسول الله بدل زينب، وهو خطأ، والصواب زينب، وهي أكبر بناته - صلى الله عليه وسلم -، وأول من تزوج منهن، ولدت قبل البعثه بمدة. قيل: إنها عشر سنين، وتزوجها ابن خالتها أبوالعاص بن الربيع العبشمي، وأمه هالة بنت خويلد، أسلمت زينب وهاجرت حين أبى زوجها أبوالعاص أن يسلم، وولدت من أبي العاص غلاما اسمه علي مات وقد ناهز الاحتلام ومات في حياته، وجارية اسمها أمامة عاشت حتى تزوجها علي بعد فاطمة، وتوفيت زينب في أول سنة ثمان من الهجرة، وكان سبب موتها أنها لما خرجت من مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدلها هبار بن الأسود ورجل آخر، فدفعها أحدهما فيما ذكروا، فسقطت على صخرة، فأسقطت واهراقت الدماء، فلم يزل بها مرضها حتى ماتت سنة (8) من الهجرة، وكان زوجها محبا فيها، وكانت وفاته بعدها بقليل. (فأخره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده). في المسند (ج1ص238): فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده. (مهلا) بسكون الهاء، أي أمهلهن مهلا أو أعطهن مهلا. قال السيد: "مهلا" مصدر عامله محذوف، وقيل المهل والمهل الرفق التؤدة والتباطؤ، ويقال مهلا وعلى مهل أي امهل، وهو مصدر نائب مناب فعله يستوي فيه المذكر والمؤنث مفردا ومثنى وجمعا. (يا عمر) والمعنى لا تبادر حتى يتبين لهن الحكم. وفي رواية لأحمد (ج1ص335): دعهن يبكين. (ونعيق الشيطان) أي صياحه بالنياحة، وأضيف إليه لحمله عليه، من نعق الراعي بغنمة دعاها لتعود إليه، ومنه قوله تعالى: ?كمثل الذي ينعق? [البقرة: 171]. (ثم قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - مبينا له أتم البيان. (إنه) أي الشأن. (مهما كان) في القاموس: مهما بسيط لا مركب من "مه وما" ولا من "ماما" خلافا لزاعميها-انتهى. واختلف في أنها اسم شرط أو حرف شرط، وهو في هذا المقام ظرف

(10/416)


لفعل الشرط، أي مهما كان البكاء. (من العين) أي من الدمع. (ومن القلب) أي من الحزن. (فمن الله عز وجل) أي محمود ومرضي من جهة وصادر من خلقته. وقال الطيبي: "مهما" حرف الشرط تقول مهما تفعل افعل. قيل: إن أصلها "ماما" فقلبت الألف الأولى هاء،
ومن الرحمة، وما كان من اليد ومن اللسان، فمن الشيطان)). رواه أحمد.
1763-(28) وعن البخاري تعليقا، قال: ((لما مات الحسن بن الحسن بن علي ضربت امرأته القبة على قبره سنة
ومحله رفع بمعنى أيما شيء كان من العين فمن الله. (ومن الرحمة) أي وناشئ من رحمة صاحبه. (وما كان) "ما" شرطية أيضا. (من اليد) كالضرب على الخد وقطع الثوب ونتف الشعر. (ومن اللسان) أي بطريق الصياح وعلى وجه النياح، أو يقول مما لا يرضى به الرب. (فمن الشيطان) أي من إغوائه أو برضاه. قال الطيبي: وجه اختصاص البكاء بالله أن الغالب في البكاء أن يكون محمودا، فالأدب أن يسند إلى الله تعالى، بخلاف قول الخنا والضرب باليد عند المصيبات فإن ذلك مذموم. وقال ميرك: ولعل إسناد البكاء إلى الله تعالى لأجل أن الله تعالى راض به ولا يؤاخذ به، بخلاف ما صدر من اللسان واليد عند المصيبة فإن الشيطان راض بهما والرحمن يؤاخذ بهما. وقال القاري: بعضها مباح أو محمود فينسب إلى الله لإباحته أو لرضاه فيترتب عليه الثواب، وبعضها معصية فينسب إلى الشيطان حيث تسبب بالإغواء وحصل له به الرضا، فيستوجب عليه العذاب. (رواه أحمد) (ج1ص237- 238و 335)، وأخرجه البيهقي (ج4ص70) وابن سعد أيضا، والحديث في إسناده علي بن زيد، وفيه كلام وهو موثق، وأشار إليه الحافظ في التلخيص وسكت عنه.

(10/417)


1763- قوله: (وعن البخاري تعليقا) أي بلا إسناد. قال القاري: كان من حق المصنف أن يذكر من يرويه البخاري عنه أولا، وينسب الحديث إليه معنعنا، ثم يقول بعد تمام الحديث: رواه البخاري تعليقا-انتهى. قلت: أورد البخاري هذا الأثر معلقا بحذف كل السند، يعني ذكره غير معزو إلى من رواه حيث قال "باب ما يكره من اتخاذ المسجد على القبور"، ولما مات الحسن بن الحسن بن علي الخ. ثم روى بسنده عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي مات فيه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وعلى هذا فلا وجه للاعتراض على المصنف، وقد وصل هذا الأثر الحسين بن إسماعيل بن عبدالله المحاملي في أماليه من طريق جرير عن المغيرة بن مقسم، ووصله أيضا ابن أبي الدنيا في كتاب القبور من طريق المغيرة. (لما مات الحسن بن الحسن بن علي) بن أبي طالب الهاشمي بفتح الحاء والسين في الاسمين، وهو ممن وافق اسمه اسم أبيه، وكانت وفاته سنة سبع وتسعين وله بضع وخمسون سنة، وهو من ثقات التابعين، وله ولد يسمى الحسن أيضا فهم ثلاثة في نسق واحد. (ضربت امرأته) فاطمة بنت الحسين بن علي أبي طالب الهاشمية، وهي ابنة عمه تقدم ترجمتها. (القبة) بضم القاف، وتشديد الموحدة أي الخيمة، كما جاء في رواية المحاملي وابن أبي الدنيا بلفظ الفسطاط. (على قبره سنة)
ثم رفعت، فسمعت صائحا يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا)).
1764- 1765- (29- 30) وعن عمران بن حصين، وأبي برزة، قالا: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فرأى قوما قد طرحوا أرديتهم يمشون في قمص، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبفعل الجاهلية تأخذون؟ أو بصنيع الجاهلية

(10/418)


قال ابن المنير: إنما ضربت الخيمة هناك للاستمتاع بالميت بالقرب منه تعليلا للنفس وتخييلا باستصحاب المألوف من الأنس ومكابرة للحس، كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية ومخاطبة المنازل الخالية فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتفين بتقبيح ما صنعوا. (ثم رفعت) بالبناء للفاعل أي أمرت المرأة برفعها أو للمفعول أي رفعت الخيمة. (فسمعت) أي المرأة، ويروى: فسمعوا أي المرأة ومن معها. (صائحا) أي هاتفا من مؤمني الجن أو الملائكة. (ألا) بالتخفيف للتنبيه. (ما فقدوا) بفتح القاف، ويروى: ما طلبوا. (فأجابه آخر) أي صائح آخر. (بل يئسوا فانقلبوا) أي رجعوا، وفي هذا الأثر دليل على كراهة ضرب القبة على القبر، وإليه ذهب أحمد وهو الحق. قال ابن قدامة: كره أحمد أن يضرب على القبر فسطاط، وأوصى أبوهريرة حين حضرته الوفاة أن لا يضربوا عليه فسطاطا-انتهى. وذكر البخاري ذلك الأثر في الباب المذكور؛ لأنه يدل على كراهة ضرب القبة على القبر. قال القسطلاني: مطابقته للترجمة ومناسبته لحديث الباب من جهة أن المقيم في الفسطاط لا يخلوا من الصلاة فيه، فيستلزم اتخاذ المسجد عند القبر، وقد يكون القبر في جهة القبلة فتزداد الكراهة، وإذا أنكر الصائح بناء زائلا فالبناء الثابت أجدر، لكن لا يؤخذ من كلام الصائح حكم؛ لأن مسلك الأحكام الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولا وحي بعده عليه الصلاة والسلام، وإنما هذا وأمثاله تنبيه على انتزاع الأدلة من مواضعها واستنباطها من مظانها-انتهى. وقال الحافظ: إنما ذكره البخاري لموافقته للأدلة الشرعية لا لأنه دليل برأسه.

(10/419)


1764-1765- قوله: (فرأى قوما) أي من متبعي الجنازة. (قد طرحوا أرديتهم ) قال السندي: أي غيروا لباسهم للحزن على الميت، وهذا من صنيع الجاهلية، لكن أهل الجاهلية يبالغون فيه فلذلك سمى هذا تشبيها بهم-انتهى. (يمشون) حال من فاعل طرحوا، أو صفة بعد صفة لقوما. (في قمص) بضمتين جمع قميص. قال القاري: يؤخذ منه أن الشعار المعروف في ذلك الزمن هو الرداء فوق القميص. قال الطيبي: حال متداخلة؛ لأن يمشون حال من الواو في طرحوا، أو هو من الواو في يمشون. (أبفعل الجاهلية) أي من تغير الزي المألوف عند
تشبهون؟ لقد هممت أن أدعو عليكم دعوة ترجعون في غير صوركم. قال: فأخذوا أرديتهم، ولم يعودوا لذلك)). رواه ابن ماجه.
1766-(31) وعن ابن عمر، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتبع جنازة معها رانة)) رواه أحمد، وابن ماجه.

(10/420)


الموت. (تأخذون) الهمزة للإنكار، ومحله الفعل، وقدم الجار لبيان محط الإنكار. (أو بصنيع الجاهلية) أو للتنويع أو للشك. (تشبهون) أي تتشبهون فحذف إحدى التائين. (لقد هممت) أي قصدت. (دعوة) مفعول مطلق. (ترجعون) على بناء للفاعل أو للمفعول، أي تصيرون أو تردون بتلك الدعوة. (في غير صوركم) أي بالمسخ. قال الطيبي: هو محمول على تضمين الرجوع معنى صار، كما في قوله تعالى: ?أو لتعودن في ملتنا? [الأعراف: 88]، أو تحمل الصورة على الصفة والحالة، أي ترجعون إلى غير الفطرة كما كنتم عليه-انتهى. قال ميرك: ويحتمل أن يكون المراد ترجعون إلى بيوتكم في غير صوركم، وفي غير صوركم حال فلا حاجة إلى الوجهين-انتهى. (قال) أي الراوي، وفيه إبهام فإن الراوي اثنان، فيحتمل أن يكون المراد قال كل منهما، ويحتمل قال الراوي الشامل لهما أو لأحدهما. (ولم يعودوا) أي لم يرجعوا بعد ذلك. (لذلك) أي إلى ذلك الفعل أو لم يرجعوا في ذلك الفعل لأجل ذلك القول الصادر منه - صلى الله عليه وسلم -. قال الطيبي: فإذا ورد في مثل أدنى تغيير من وضع الرداء عن المنكب هذا الوعيد البليغ فكيف ما يشاهد من الأمور الشنيعة. (رواه ابن ماجه) بإسناد ضعيف، فيه نفيع بن الحارث أبوداود الأعمى تركه غير واحد، ونسبه ابن معين وغيره للوضع، وفيه أيضا علي بن الحزور كذلك متروك الحديث، وقال البخاري: منكر الحديث عنده عجائب، وقال مرة: فيه نظر.

(10/421)


1766- قوله: (أن تتبع) بالتخفيف وتشدد على بناء المجهول، أي تشيع (جنازة معها رانة) بالراء المهملة وبعد الألف نون مشددة بصيغة اسم الفاعل، أي نائحة صائحة. في القاموس: رن يرن رنينا صاح، وفي رواية أحمد: رنة، وهي الصوت يريد به نواح النساء خلف الجنازة. وفيه دليل على تحريم اتباع الجنازة التي معها النائحة. قال القاري: وفي معناها إذا كان معها أمر آخر من المنكرات. وهذا أصل أصيل في عدم الحضور عند مجلس فيه المحظور. (رواه أحمد) (ج2ص92). (وابن ماجه) في سنده عند ابن ماجه أبويحي القتات رواه عنه إسرائيل. قال أحمد: روى عنه إسرائيل أحاديث كثيرة مناكير جدا. وقال ابن معين: في حديثه ضعف. وقال يعقوب بن سفيان والبزار: لا بأس به. وقال الحافظ: لين الحديث. قلت: قد تابعه على روايته هذا الحديث عن مجاهد ليث بن أبي سليم عند أحمد، فصار الحديث حسنا بل صحيحا لاعتضاده بالأحاديث التي تدل على تحريم النياحة.
1767-(32) وعن أبي هريرة، أن رجلا قال له: ((مات ابن لي فوجدت عليه، هل سمعت من خليلك صلوات الله عليه شيئا يطيب بأنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم، سمعته - صلى الله عليه وسلم - قال: صغارهم دعاميص الجنة، يلقى أحدهم أباه فيأخذ بناحية ثوبه، فلا يفارقه حتى يدخله الجنة)) رواه مسلم، وأحمد واللفظ له.
1768-(33) وعن أبي سعيد، قال: ((جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله!

(10/422)


1767- قوله: (أن رجلا) هو أبوحسان القيسي، ففي مسلم عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة أنه قد مات لي ابنان الخ. واسم أبي حسان هذا خالد بن غلاق القيسي. (مات ابن لي) أي صغير. (فوجدت عليه) أي حزنت عليه حزنا شديدا. (يطيب بأنفسنا) بالتخفيف مع فتح أوله فالباء للتعدية، وبالتشديد فالباء للتأكيد، كما في قوله تعالى: ?ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة? [البقرة: 195]، ?وهزي إليك بجزع النخلة? [مريم: 25]. وهذه الزيادة أعني زيادة الباء أمر مطرد عند أرباب العربية على ما ذكره المغني، قاله القاري. أي يسليها. وفي مسلم: فما أنت محدثي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديث تطيب به أنفسنا. (عن موتانا) أي من الصغار. (صغارهم) أي صغار المسلمين. (دعاميص الجنة) بالدال والعين والصاد المهملات جمع دعموص بضم الدال أي صغار أهلها، وأصل الدعموص دويبة تكون في الماء لا تفارقه، أي أن هذا الصغير في الجنة لا يفارقها. وفي النهاية: جمع دعموص وهي دويبة تغوص في الماء، وتكون في مستنقع الماء، والدعموص أيضا الدخال في الأمور، أي أنهم سياحون في الجنة دخالون في منازلها لا يمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول على الحرم، ولا يحتجب منهم، قاله الطيبي: (يلقي أحدهم) أي أحد الصغار. (أباه) أي فكيف بأمه. وفي صحيح مسلم: يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه. (بناحية ثوبه) أي بطرفه. (فلا يفارقه حتى يدخله الجنة) ولفظ مسلم: فيأخذ بثوبه أو قال بيده كما آخذ أنا بضفة ثوبك هذا، فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة. وفيه دليل أن أطفال المؤمنين في الجنة، وكذا آباء هؤلاء الأطفال وأمهاتهم في الجنة إذا احتسبوهم. (رواه مسلم) في الأدب والبر والصلة. (وأحمد) وأخرجه أيضا البيهقي (ج4ص67). (واللفظ له) أي لأحمد. ولعل المصنف لهذا ذكر أحمد؛ لأنه ملتزم أنه لا يذكر بعد الشيخين أحدا من المخرجين؛ لظهور صحة الحديث إذا كان في الصحيحين أو في

(10/423)


أحدهما.
1768- قوله: (جاءت امرأة) قال الحافظ: لم أقف على اسمها. ويحتمل أن تكون هي أسماء بنت يزيد
ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا. فاجتمعن، فأتاهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلمهن مما علمه الله، ثم قال: ما منكن امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة، إلا كان لها حجابا من النار، فقالت امرأة منهن: يا رسول الله! أو اثنين؟ فأعادتها مرتين. ثم قال: واثنين واثنين واثنين)) رواه البخاري.

(10/424)


ابن السكن. (ذهب الرجال بحديثك) قال الطيبي: أي أخذوا نصيبا وافرا من مواعظك. وقال القاري: أي فازوا وظفروا به. ونحن محرومات من اغتنامه واكتسابه-انتهى. وفي رواية: غلبنا عليك الرجال أي بملازمتهم لك كل الأيام يتعلمون الدين، ونحن نساء ضعفة لا نقدر على مزاحمتهم. (فاجعل) أي انظر لنا فعين (لنا من نفسك) أي من اختيارك لا من اختيارنا. (يوما) من الأيام فـ"من" ابتدائية تتعلق بـ"اجعل"، و"يوما" مفعول به، يعني هذا الجعل منشؤه اختيارك لا اختيارنا. قال الكرماني: ويحتمل أن يكون المراد من أوقات نفسك بإضمار الوقت والظرف صفة لـ"يوما"، وهو ظرف مستقر على هذا الاحتمال-انتهى. يعني اجعل لنا وقتا ما من الأوقات المختصة بذاتك الأشرف. (اجتمعن) بكسر الميم. (في يوم كذا) أي في نهار كذا (وكذا) أي في وقت كذا. (في مكان كذا) أي من المسجد أو البيت. (وكذا) أي من وصفه بمقدمه أو مؤخره. (فاجتمعن) بفتح الميم. (ما منكن امرأة تقدم) من التقديم. (بين يديها) أي إلى يوم القيامة. (إلا كان) أي التقديم أو تقدمهم وموتهم. (حجابا) أي سترا. (فقالت امرأة منهن) هي أم سليم أو أم مبشر أو أم أيمن. (أو اثنين) عطف على "ثلاثة"، ويقال لمثل هذا: عطف تلقين، كأنه يلقن المخاطب المتكلم بأن يعطفه على ما قبله. وفي رواية: واثنين، أي وما حكم اثنين أو ومن قدم اثنين. (فأعادتها) أي المرأة كلمة أو اثنين. (مرتين) وفي رواية مسلم: فقالت امرأة: واثنين واثنين واثنين. (ثم قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (واثنين واثنين واثنين) ثلاث مرات للتوكيد، والواو بمعنى أو. وفي الحديث ما كان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعلم أمور الدين. وفيه أن أطفال المسلمين في الجنة: وأن من مات له ولدان حجباه من النار، ولا اختصاص لذلك بالنساء كما تقدم. (رواه البخاري) في العلم وفي الجنائز وفي الاعتصام، وأخرجه أيضا مسلم في الأدب والبر والصلة، واللفظ للبخاري في الاعتصام،

(10/425)


فكان من حق المصنف أن يقول: متفق عليه، واللفظ للبخاري، وأخرجه أحمد (ج3ص34، 72) والبيهقي أيضا.
1769-(34) وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلمين يتوفى لهما ثلاثة، إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهما، فقالوا: يا رسول الله! أو اثنان؟ قال: أو اثنان. قالوا: أو واحد؟ قال: أو واحد. ثم قال: والذي نفسي بيده إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتبسته)). رواه أحمد، وروى ابن ماجه من قوله: ((والذي نفسي بيده)).

(10/426)


1769- قوله: (ما من مسلمين) على صيغة التثنية أي من الوالدين. (ثلاثة) أي من الولد من البنين والبنات. (إلا أدخلهما) أي الوالدين المسلمين. (بفضل رحمته إياهما) أي بفضل رحمة الله تعالى للوالدين. وهذا صريح في أن المراد بقوله "إياهما" الأبوان لا الأولاد. وورد بعض الأحاديث بما يدل على أن المراد بفضل رحمة الله للأولاد، ففي حديث أنس عند ابن ماجه: ما من مسلمين يتوفى لهما ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله. (أي الأبوين والأولاد) بفضل رحمة الله إياهم. ورواه أحمد (ج6ص376) والطبراني في الكبير من حديث أم سليم، والنسائي من حديث أبي ذر، وفي حديث أبي ثعلبة الأشجعي عند أحمد (ج6ص396) والطبراني في الكبير برجال ثقات: من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهما. وفي حديث عمرو بن عبسة عند أحمد (ج4ص386): من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث. أدخله الله الجنة برحمته إياهم. وللطبراني. إلا أدخله الله برحمته هو وإياهم. (أو اثنان) عطف على ثلاثة عطف التماس. (قال: أو واحد) هذا صريح في أن للواحد حكم الاثنين والثلاثة. (ثم قال) أي تتميما ومبالغة في ثواب الولد. (إن السقط) بكسر السين أكثر وأشهر من الضم والفتح، وهو ولد يسقط من بطن أمه قبل تمامه. (ليجر أمه) بضم الجيم ليسحبها. (بسرره) بفتحتين وتكسر السين، هو ما تقطعه القابلة، وهو السر بالضم أيضا. وأما السرة فهي ما يبقى بعد القطع. وقال الجزري في النهاية: السرر ما يبقى بعد القطع مما تقطعه القابلة. (إلى الجنة) قال الطيبي: هذا تتميم ومبالغة للكلام السابق، ومن ثم صدره - صلى الله عليه وسلم - بالقسم، أي إذا كان السقط الذي لا يؤبه به يجر الأم بما قد قطع من العلاقة بينهما، فكيف الولد المألوف الذي هو فلذة الكبد. (إذا احتبسته) أي صبرت عليه طلبا للأجر من الله تعالى. (رواه أحمد) أي من أول الحديث (ج5ص241)، وأخرجه أيضا

(10/427)


الطبراني في الكبير. (وروى ابن ماجه من قوله: والذي نفسي بيده) أي إلى آخر الحديث، وفي سنده عندهم يحيى بن عبيدالله التيمي. قال الهيثمي: لم أجد من وثقه ولا جرحه-انتهى. ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد: في إسناده يحيى بن عبيدالله بن موهب، وقد اتفقوا على ضعفه، والله اعلم-انتهى. قلت يحيى بن عبيدالله بن موهب التيمي قال فيه يعقوب بن سفيان: لا بأس به إذا روى عن ثقة. وقال الساجي: فيجوز في الزهد وفي الرقائق،
1770-(35) وعن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث،

(10/428)


وليس هو بحجة في الأحكام. وقال الجوزجاني: أحاديثه متقاربة من حديث أهل الصدق، وضعفه غيرهم. وقال الحافظ في التقريب: إنه متروك-انتهى. وفي كونه هو المراد في سند هذا الحديث عندي نظر. والظاهر أن الراوي فيه رجل آخر لا يعرف، أو هو يحيى بن عبدالله الجابر، وهو لين الحديث. ذكر الحافظ في تهذيب التهذيب ترجمة يحيى بن عبيدالله بن عبدالله بن موهب التيمي برقم الترمذي وابن ماجه: ثم قال تحت رقم ابن ماجه: يحيى بن عبيدالله عن عبيدالله بن مسلم الحضرمي، وعنه عبيدة بن حميد. وقيل: عن عبيدة عن يحيى بن عبدالله الجابر عن عبيدالله بن مسلم، وهو الصواب-انتهى. وقال الذهبي في الميزان: يحيى بن عبيدالله ق عن عبيدالله بن مسلم عن معاذ لا يعرف، روى عنه عبيدة بن حميد، وكأنه يحيى بن عبدالله الجابر-انتهى. وذكر الذهبي. أيضا هذا الحديث في ترجمة يحيى الجابر، فقال: عبيدة بن حميد حدثنا يحيى الجابر عن عبدالله بن مسلم الحضرمي عن معاذ بن جبل مرفوعا: ما من امرأين مسلمين يموت لهما ثلاثة-الحديث. وفيه: أن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبت-انتهى. وقال الحافظ في اللسان: يحيى بن عبيدالله عن عبيدالله بن مسلم وعنه عبيدة بن حميد، وقال إسرائيل وخالد الطحان: عن يحيى بن عبدالله الجابري-انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن حديث معاذ بن جبل هذا ضعيف لا يصلح للاحتجاج. وفي ثواب السقط أحاديث لا يصلح واحد منها للاستدلال، منها: حديث علي الآتي، ومنها حديث أبي هريرة عند ابن ماجه أيضا قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه خلفي. قال في الزوائد: قال المزي في التهذيب والأطراف: يزيد بن رومان لم يدرك أبا هريرة، ويزيد بن عبدالملك النوفلي وإن وثقه ابن سعد فقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما، ومنها حديث سهل بن حنيف مرفوعا: تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، وإن السقط ليرى محبنطئا بباب الجنة يقال له: ادخل، يقول:

(10/429)


حتى أدخل أبوي، رواه الطبراني في الأوسط، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد (ج3:ص11). ومنها حديث معاوية بن حيدة عند ابن حبان في الضعفاء بنحو حديث سهل بن حنيف، ذكره العيني.
1770- قوله: (من قدم ثلاثة من الولد) أي من قدمهم بالصبر على موتهم. قال القاري: معناه من قدم صبر ثلاثة من الولد عند فقدهم واحتسب ثوابهم عند ربهم، أو المراد بالتقديم لازمه وهو التأخر، أي من تأخر أي موته عن موت ثلاثة من أولاده المقدمين عليه. (لم يبلغوا الحنث) أي الذنب. والمراد أنهم لم يحتلموا. قال القاري: والظاهر أن هذا قيد للكمال؛ لأن الغالب أن يكون القلب عليهم أرق، والصبر عنهم أشق وشفاعتهم أرجى وأسبق. وقال السندي: يأبى عنه أي عن التعميم قوله. (في حديث عتبة بن عبد السلمي عند ابن ماجه) "إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل"، إذ لا يلزم في الكبير الإسلام ودخول الجنة فضلا عن تلقيه إياه من الأبواب
كانوا له حصنا حصينا من النار، فقال أبوذر: قدمت اثنين. قال: واثنين. قال أبي بن كعب أبوالمنذر سيد القراء: قدمت واحدا. قال: وواحدا)). رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
1771- (36) وعن قرة المزني: ((أن رجلا كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ابن له. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه. ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما فعل ابن فلان؟ قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! مات. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما تحب أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته

(10/430)


الثمانية، وكذا ما يأتي عنه في قوله: بفضل الله إياهم، أي بفضل رحمة الله تعالى للأولاد، إذ لا يلزم في الكبير أن يكون مرحوما فضلا عن أن يرحم أبوه بفضل رحمته، نعم قد جاء دخول الجنة بسبب الصبر مطلقا كما في بعض الأحاديث-انتهى. (حصنا حصينا) أي سترا قويا. وقال القاري: أي حصارا محكما وحاجزا ومانعا. (قدمت اثنين) أي فما حكمه؟ (قال: واثنين) أي وكذا من قدم اثنين. وقال الطيبي: فقال أبوذر: زد يا رسول الله! في البشارة، فإني قدمت اثنين، قال: واثنين، أي ومن قدم اثنين. (أبوالمنذر) عطف بيان. (سيد القراء) إنما قيل له سيد القراء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: أقرأكم أبي. (قال: وواحد) زاد الترمذي: ولكن إنما ذلك عند الصدمة الأولى. (رواه الترمذي وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص375،429،451) وابن أبي شيبة، وإسناده ضعيف لانقطاعه؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه عبدالله بن مسعود، وفيه أيضا اختلاف على راويه العوام بن حوشب، ذكره الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد (ج5:ص188). ( وقال الترمذي: هذا حديث غريب)، وقال أيضا: أبوعبيدة لم يسمع من أبيه.
1771- قوله: (وعن قرة) بضم القاف وتشديد المهملة ابن إياس. (المزني) بضم الميم وفتح الزاي. (أتحبه) أي حبا بالغا حيث يصحبك دائما. (أحبك الله كما أحبه) دعاء له بزيادة محبة الله له - صلى الله عليه وسلم -، يريد أنه يحب ولده حبا شديدا، يطلب لك مثله من الله تعالى. (ففقده) أي الابن أو الأب، وهو الأليق بما وقع في رواية للنسائي من قوله: فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مالي لا أرى فلانا؟ الحديث. وقيل: فقده أي ابنه معه. (ما فعل) بصيغة الفاعل. (ابن فلان) أي ما جرى له من الفعل. (مات) أي ابنه. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي فقال له حين لقيه في الطريق. (إلا وجدته)

(10/431)


ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله! له خاصة، أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم)). رواه أحمد.
1772- (37) وعن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن السقط ليراغم ربه إذا أدخل أبويه النار، فيقال: أيها السقط المراغم ربه! أدخل أبويك الجنة، فيجرهما بسرره حتى يدخلهما الجنة)). رواه ابن ماجه.
1773- (38) وعن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله تبارك وتعالى: ابن آدم! إن صبرت واحتسبت عند الصدمة الأولى لم أرض لك ثوابا دون الجنة)) رواه ابن ماجه.
1774- (39) وعن الحسين بن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها،
أي ابنك. (ينتظرك) ليشفعك وليدخلها معك. وقال الطيبي: ينتظرك أي مفتحا لك مهيئا لدخولك، كما قال تعالى: ?جنات عدن مفتحة لهم الأبواب? [ص:50] فاستعير للفتح الانتظار مبالغة-انتهى. وفي رواية للنسائي: إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك، وفي أخرى له: إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك. (له خاصة) أي هذا الحكم. (أم لكلنا) أي أم هو عامة لجميعنا معشر المسلمين. (بل لكلكم) أي كافة. (رواه أحمد (ج3:ص436) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وأخرجه أيضا النسائي. قال الحافظ: بإسناد صحيح، والحاكم (ج1:ص384) وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي (ج4:ص60،59) وابن أبي شيبة (ج4: ص145).

(10/432)


1772- قوله: (وعن علي) أي ابن أبي طالب. (ليراغم ربه) أي يحاجه ويخاصمه ويعارضه. والمراد أنه يبالغ في شفاعته ويجتهد حتى تقبل شفاعته. (إذا أدخل أبويه) أي إذا أراد أن يدخلهما. (رواه ابن ماجه) من طريق مندل بن علي العنزي عن الحسن بن الحكم النخعي عن أسماء بنت عابس بن ربيعة عن أبيها عن علي، ومندل ضعيف، وأسماء بنت عابس مجهولة لا يعرف حالها. قال في الزوائد: إسناده ضعيف لاتفاقهم على ضعف مندل بن علي-انتهى. والحديث نسبه العيني في شرح البخاري إلى ابن أبي شيبة، وقال: ورواه أبويعلى أيضا.
1773- قوله: (ابن آدم) منادى بتقدير حرف النداء. (إن صبرت) أي على البلاء. (واحتسبت) أي طلبت به الأجر والثواب من الله تعالى. (دون الجنة) أي دخولها ابتداء، وإلا فأصل الدخول يكفي فيه الإيمان، قاله السندي. (رواه ابن ماجه) قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.
1774- قوله: (وعن الحسين) بضم الحاء مصغرا. (بن علي) بن أبي طالب. (وإن طال عهدها) أي بعد
فيحدث لذلك استرجاعا، إلا جدد الله تبارك وتعالى له عند ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها)) رواه أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان.
1775- (40) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا انقطع شسع أحدكم فليسترجع، فإنه من المصائب)).

(10/433)


زمانها و"إن" وصلية. (فيحدث) أي يحدد. (لذلك) أي عند تذكر تلك المصيبة، فاللام للتوقيت. (استرجاعا) بالقول أي يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون قولا جديدا وقت التذكر. (إلا جدد الله تبارك وتعالى له عند ذلك) أي أثبت الله له عند الاسترجاع ثوابا جديدا، بينه قوله: ?فأعطاه مثل أجرها? أي مثل ثواب تلك المصيبة. (يوم أصيب بها) أي وقت ابتلائه بتلك المصيبة ابتداء وصبره وتسليمه بقضائه تعالى. وفيه دليل على أن استرجاع المصاب عند ذكر المصيبة يكون سببا لاستحقاقه لمثل الأجر الذي كتبه الله له في الوقت الذي أصيب فيه بتلك المصيبة، وإن تقادم عهدها ومضت عليها أيام طويلة، وهذا فضل من الله تعالى ورحمة. (رواه أحمد) (ج1:ص201). (والبيهقي) وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط وابن ماجه ولفظه: من أصيب بمصيبة، فذكر مصيبته، فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها، كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب. والحديث إسناده ضعيف جدا فيه هشام بن زياد وهو هشام بن أبي هشام أبوالمقدام البصري، متروك. رواه عن أمه، ولا يعرف من هي. ونقل السندي عن الزوائد قال: "قد اختلف الشيخ هل هو (أي هشام) روى عن أبيه أو أمه"، وذكره ابن كثير في التفسير، وأشار إلى رواية ابن ماجه، ثم قال: "وقد رواه إسماعيل بن علية ويزيد بن هارون عن هشام بن زياد عن أبيه".

(10/434)


1775- قوله: (إذا انقطع شسع أحدكم) أي شسع نعله بكسر الشين المعجمة وسكون المهملة، زمام للنعل بين الإصبع الوسطى والتي تليها. وقال في النهاية : الشسع أحد سيور النعل، وهو ما يدخل بين الإصبعين. (الوسطى والتي تليها) ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام، والزمام السير الذي يعقد فيه الشسع. (فليسترجع) أي يقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهو أمر ندب. (فإنه) أي انقطاع الشسع. وفي مجمع الزوائد والجامع الصغير نقلا عن البزار "فإنها" أي بضمير المؤنث، وكذا وقع في الميزان. قال المناوي: أي هذه الحادثة التي هي انقطاع شسع النعل. (من المصائب) أي من جملتها. قال القاري: وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - استرجع حين انطفأ سراج له: ولعل المراد من انقطاع الشسع أقل أفراد المصيبة. وقال ابن حجر: نبه بالشسع على ما فوقه بالأولى، وعلى ما دونه بطريق التساوي، فيسن ذكر الاسترجاع في الجميع.
1776- (41) وعن أم الدرداء، قالت: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله تبارك وتعالى قال: يا عيسى! إني باعث من بعدك أمة إذا أصابهم ما يحبون حمدوا الله، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا عقل. فقال: يا رب! كيف يكون هذا لهم ولا حلم ولا عقل؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي)) رواهما البيهقي في شعب الإيمان.

(10/435)


1776- قوله: (وعن أم الدرداء) هي أم الدرداء الصغرى، هجيمة الأوصابية الدمشقية الفقيهة التابعية، لا أم الدرداء الكبرى الصحابية. (إني باعث) أي خالق ومظهر. (أمة) أي جماعة عظيمة. والمراد بهم صلحاء أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. (حمدوا الله) أي على إصابتهم ما يحبون. (احتسبوا) أي طلبوا الثواب من الله. (ولا حلم) أي الحال أنهم لا حلم لهم. (ولا عقل) أي كسبيان أو كاملان قبل ذلك يحملهم على ما سبق منهم، قاله القاري. وفي مسند الإمام أحمد (ج6:ص450) والمستدرك (ج1:ص348) "ولا علم" بدل "ولا عقل" في الموضعين، وكذا في مجمع الزوائد والترغيب. (فقال) أي عيسى: (كيف يكون هذا) أي ما ذكر من الحمد حال السراء والصبر حال الضراء. (ولا حلم ولا عقل)؛ لأن الحلم هي الصفة المعتدلة تمنع الإنسان عن العجلة وتبعثه على التأمل في القضايا والأحكام حتى يقوم بمقتضى المقام، فيشكر عند الإنعام ولا يبطر، ويصبر على المحنة، ولا يجزع عند المصيبة. والعقل يمنعه ويعقله عما لا ينبغي، فيكون مانعا له من الكفران وحاملا وباعثا له على حمد الله تعالى، وبه يعلم الإنسان أن الأمر كله بيد الله، والخير فيما اختاره الله، فيصبر على ما قدر وقضاه. وأما إذا لم يكن لهم حلم ولا عقل فأمرهم غريب وحالهم عجيب. (أعطيهم من حلمي وعلمي) أي اللدنيين عند المنحة والمحنة ليشكروا حال السراء ويصبروا حال الضراء على وجه الكمال، قاله القاري. وقال الطيبي: قوله "لا حلم ولا عقل" قيل: هو مؤكد لمفهوم احتسبوا وصبروا؛ لأن الاحتساب أن يحمله على العمل والإخلاص وابتغاء مرضاة الله لا الحلم والعقل، وحينئذ يتوجه السؤال أي كيف يصبر ويحتسب من لا حلم ولا عقل له؟ فأجاب بأنه إن فنى حلمه وعقله يتحلم ويتعقل بحلم الله وعلمه. وفي وضع علمي موضع العقل إشارة إلى عدم جواز نسبة العقل إليه، تعالى عن صفات المخلوقين علوا كبيرا، وهو القوة المتهيئة لقبول العلم-انتهى. والحديث يدل على

(10/436)


الترغيب في الصبر سيما لمن ابتلى في نفسه وماله، وعلى فضل الأمة المحمدية. (رواهما) أي هذا الحديث والذي قبله. (البيهقي) الحديث الأول أخرجه البزار وابن عدي أيضا، كما في الجامع الصغير، ونسبه الهيثمي (ج2:ص331) للبزار. وقال: فيه بكر بن خنيس، وهو ضعيف، وروى البزار أيضا عن شداد بن أوس مثله، وفيه خارجة بن مصعب، وهو متروك. وفي الباب أيضا عن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير، وفيه العلاء بن كثير، وهو متروك، وله حديث آخر عند
(8) باب زيارة القبور
?الفصل الأول?
1777- (1) عن بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها،
الطبراني أيضا، وسنده ضعيف. والحديث الثاني أخرجه أيضا أحمد (ص450) والحاكم (ج1:ص348) والبزار والطبراني في الكبير والأوسط. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي (ج10:ص68) بعد عزوه لأحمد والبزار والطبراني: ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحسن بن سوار وأبي حلبس يزيد بن مسيرة، وهما ثقتان-انتهى.
(باب زيارة القبور) أي جوازها وفضلها وآدابها.

(10/437)


1777- قوله: (وعن بريدة) بضم الباء أي ابن الحصيب الأسلمي. (نهيتكم) أي قبل هذا، وفي صحيح مسلم: كنت نهيتكم، وكذا وقع في حديث أبي سعيد عند أحمد والبزار والحاكم، وفي حديث ثوبان عند الطبراني، وفي حديث ابن مسعود عند ابن ماجه، وسيأتي. (عن زيارة القبور فزوروها) قال القاري: الأمر للرخصة أو للاستحباب، وعليه الجمهور، بل ادعى بعضهم الإجماع، بل حكى ابن عبدالبر عن بعضهم وجوبها-انتهى. وقال الحافظ في الفتح: في الحديث تصريح بجواز زيارة القبور. وفيه نسخ النهي عن ذلك. قال النووي تبعا للعبدري والحازمي وغيرهما: اتفقوا على أن زيارة القبور للرجال جائزة، كذا أطلقوا، وفيه نظر؛ لأن ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي والشعبي الكراهة مطلقا، حتى قال الشعبي: لو لا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - لزرت قبر ابنتي، فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقر عليه الأمر بعد هؤلاء، وكان هؤلاء لم يبلغهم النسخ، والله أعلم. ومقابل هذا قول ابن حزم: إن زيارة القبور واجبة ولو مرة واحدة في العمر لورود الأمر به. قال الشوكاني: وهذا يتنزل على الخلاف في الأمر بعد النهي هل يفيد الوجوب أو مجرد الإباحة فقط. والكلام في ذلك مستوفى في الأصول-انتهى. واختلف في النساء، فقيل: دخلن في عموم الإذن. وقيل: هو مخصوص بالرجال، كما هو الظاهر من الخطاب، لكن عموم علة التذكير الواردة في الأحاديث قد تؤيد عموم الحكم، إلا أن يمنع كونه تذكرة في حق النساء لتمكن غفلتهن، وسيأتي تفصيل الكلام عليه في الفصل الثالث. قيل: سبب النهي عن زيارة القبور في أول الأمر كانوا حديث عهد بالجاهلية وقريب عهد بعبادة الأوثان ودعاء الأصنام، فنهوا عن زيارة القبور خشية أن يقولوا أو يفعلوا عندها ما كانوا يعتادونه في الجاهلية، وخوفا من أن يكون ذلك ذريعة لعبادة أهل القبور

(10/438)


ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا ما بدالكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا)). رواه مسلم
ودعائهم لكشف الشدائد وقضاء الحوائج، ولما استحكموا في التوحيد أذن لهم في ذلك. قال العيني في شرح البخاري (ج8:ص70): معنى النهي عن زيارة القبور إنما كان في أول الإسلام عندهم قربهم بعبادة الأوثان واتخاذ القبور مساجد، فلما استحكم الإسلام وقوي في قلوب الناس وأمنت عبادة القبور والصلاة إليها، نسخ النهي عنها؛ لأنها تذكر الآخرة وتزهد في الدنيا-انتهى. وقال الطيبي: الفاء في قوله "فزوروها" متعلق بمحذوف، أي كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فإن المباهاة بتكثير الأموات فعل الجاهلية. وأما الآن فقد دار رحى الإسلام وهدم قواعد الشرك فزوروها، فإنها تورث رقة القلب وتذكر الموت والبلى وغير ذلك من الفوائد-انتهى. ويؤيده ما في رواية الترمذي من زيادة "فإنها تذكر الآخرة"، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد وحديث أم سلمة عند الطبراني "فإن فيها عبرة"، وفي حديث ابن مسعود الآتي "فإنها تزهد في الدنيا"، وفي حديث أبي هريرة الآتي "فإنها تذكر الموت"، وفي حديث أنس عند الحاكم "ترق القلب وتدمع العين فلا تقولوا هجرا" أي كلاما فاحشا أو ما ينبغي من الكلام، وهو بضم الهاء وسكون الجيم. (ونهيتكم عن لحوم الأضاحي) بتشديد الياء أي عن ادخارها وإمساكها، وكان النهي لأجل الفقراء المحتاجين من أهل البادية الذين دخلوا المدينة. (فوق ثلاث) أي ليال. وفي رواية للنسائي: فوق ثلاثة أيام. (فأمسكوا) أي لحومها مطلقا، فالأمر للرخصة، وهو الظاهر من إطلاق الحديث. (ما بدا) بالألف أي ظهر. (لكم) أي مدة بدو الإمساك. قال الطيبي: نهاهم أن يأكلوا ما بقي من لحوم أضاحيهم فوق ثلاث ليال، وأوجب عليهم التصدق به، فرخص لهم الإمساك ما شاء-انتهى. وفي رواية للنسائي: فكلوا وأطعموا وادخروا ما بدالكم. (ونهيتكم عن النبيذ) أي عن إلقاء التمر

(10/439)


والزبيب ونحوهما في الماء. (إلا في سقاء) بكسر السين أي قربة، وذلك أن السقاء يبرد الماء فلا يشتد ما يقع فيه اشتداد ما في الظروف والأواني، فيصير خمرا، قاله الطيبي. وقال القاري: فإن السقاء جلد رقيق لا يجعل الماء حارا، فلا يصير مسكرا عن قريب، بخلاف سائر الظروف، فإنها تجعل الماء حارا، فيصير النبيذ مسكرا، فرخص لهم في شرب النبيذ من كل ظرف ما لم يصر مسكرا، فقال: (فاشربوا في الأسقية) أي الظروف والأواني وإلا لا يصح المقابلة، وفيه تغليب لما عرف من تعريف السقاء. (ولا تشربوا مسكرا) قال الطيبي: حاصله أن المنهي هو المسكر لا الظروف بعينها، كما قال: نهاهم عن أربع الحنتم والدباء والنقير والمزفت-انتهى. وسيأتي بسط الكلام في ذلك في الأشربة إن شاءالله تعالى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي وغيرهم.
1778- (2) وعن أبي هريرة، قال: ((زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي،

(10/440)


1778- قوله: (زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه) أي بالأبواء بين مكة والمدينة، وذلك كان عام الفتح. قال القاضي عياض: سبب زيارته - صلى الله عليه وسلم - قبرها أنه قصد قوة الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها. ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث: فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت. وقيل: زيارته - صلى الله عليه وسلم - قبرها مع أنها كافرة تعليم منه للأمة حقوق الوالدين والأقارب، فإنه لم يترك قضاء حقها مع كفرها. (فبكى) قال القاضي: بكاؤه - صلى الله عليه وسلم - على ما فاتها من إدراكه والإيمان به. وقيل: على عذابها، وفيه دليل على جواز البكاء عند حضور المقابر. (فلم يؤذن لي) قال ابن الملك: لأنها كافرة، والاستغفار للكافرين لا يجوز؛ لأن الله لا يغفر لهم أبدا. وقال الشوكاني: فيه دليل على عدم جواز الاستغفار لمن مات على غير ملة الإسلام. وقال النووي: فيه النهي عن الاستغفار للكفار. (فأذن لي) بصيغة المجهول مراعاة لقوله: "فلم يؤذن لي"، ويجوز أن يكون بصيغة الفاعل. قال النووي: فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة؛ لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة، ففي الحياة أولى، وقد قال الله تعالى: ?وصاحبهما في الدنيا معروفا? [لقمان:15] انتهى. قلت: الحديث بظاهره يدل على أن أمه - صلى الله عليه وسلم - ماتت على غير الإسلام، وهو مذهب جمهور العلماء في شأن أبويه - صلى الله عليه وسلم -، وقد ترجم النسائي وابن ماجه لهذا الحديث "باب زيارة قبر المشرك". قال السندي في حاشية النسائي: كأنه أخذ ما ذكر في الترجمة من المنع عن الاستغفار، أو من مجرد أنه الظاهر على مقتضى وجودها في وقت الجاهلية، لا من قوله : بكى وأبكى، إذ لا يلزم من البكاء عند الحضور في ذلك المحل العذاب أو الكفر، بل يمكن تحققه مع النجاة والإسلام أيضا، لكن من يقول بنجاة الوالدين لهم ثلاث مسالك في ذلك: مسلك أنهما ما بلغتهما الدعوة، ولا عذاب

(10/441)


على من لم تبلغه الدعوة؛ لقوله تعالى: ?وما كنا معذبين? [الإسراء:15] الخ، فلعل من سلك هذا المسلك يقول في تأويل الحديث: إن الاستغفار فرع تصور الذنب لهم، وذلك في أوان التكليف، ولا يعقل ذلك فيمن لم تبلغه الدعوة، فلا حاجة إلى الاستغفار لهم، فيمكن أنه ما شرع الاستغفار إلا لأهل الدعوة لا لغيرهم، وإن كانوا ناجين. وأما من يقول بأنهما أحييا له - صلى الله عليه وسلم - فآمنا به، فيحمل هذا الحديث على أنه كأنه قبل الإحياء. وأما من يقول بأنه تعالى يوفقهما للخير عند الامتحان يوم القيامة، فهو يقول بمنع الاستغفار لهما قطعا، فلا حاجة له إلى تأويل، فاتضح وجه الحديث على جميع المسالك-انتهى كلام السندي. ولا يخفى ما في الوجوه الثلاثة من الضعف؛ لأن حديث إحياء أبويه - صلى الله عليه وسلم - ضعيف جدا، حتى حكم عليه بعض الأئمة بالوضع كالدارقطني والجوزقاني وابن الجوزي وابن دحية، وصرح بضعفه فقط غير واحد كابن شاهين والخطيب وابن عساكر والسهلي والمحب الطبري وابن سيد الناس، وقد اعترف
فزوروا القبور فإنها تذكر الموت)). رواه مسلم.

(10/442)


بضعفه السيوطي أيضا حيث قال: وروى ابن شاهين حديثا مسندا في ذلك لكن الحديث مضعف. وأما الآية الكريمة ?وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا? فهي مكية، وزيارته - صلى الله عليه وسلم - لقبر أمه كانت عام الفتح. وقيل: عام الحديبية سنة ست من الهجرة. وقيل: الآية في حق الأمم السالفة السابقة خاصة. وقيل: المنفي فيها عذاب الاستئصال في الدنيا لا عذاب الآخرة. وقيل: المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع من أنواع العبادات والحدود. وأما القول بأنه تعالى يوفقهما للخير عند الامتحان في يوم القيامة فهي دعوى مجردة من غير برهان. فلا يلتفت إليه. قال النووي في شرح حديث أنس "إن رجلا قال يا رسول الله! أين أبي؟ قال: في النار، قال: فلما قفى دعاه. فقال: إن أبي وأباك في النار، فيه أن من مات على الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة. فإن هؤلاء قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم-انتهى. وهذا يدل على أن النووي يكتفي في وجوب الإيمان على كل أحد ببلوغه دعوة من قبله من الرسل، وإن لم يكن مرسلا إليه، وإلى ذلك ذهب الحليمي، كما صرح به في منهاجه. وقال القاري: الجمهور على أن والديه - صلى الله عليه وسلم - ماتا كافرين، وهذا الحديث أصح ما ورد في حقهما. وأما قول ابن حجر: وحديث إحيائهما حتى آمنا به ثم توفيا حديث صحيح، وممن صححه الإمام القرطبي والحافظ ابن ناصر الدين، فعلى تقدير صحته لا يصلح أن يكون معارضا لحديث مسلم، مع أن الحفاظ طعنوا فيه ومنعوا جوازه أيضا بأن إيمان اليأس غير مقبول إجماعا، كما يدل عليه الكتاب والسنة، وبأن الإيمان المطلوب من المكلف إنما هو الإيمان الغيبي. وقد قال تعالى: ?ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه? [الأنعام:28]. وهذا الحديث الصحيح صريح أيضا في رد ما تثبت به بعضهم

(10/443)


بأنهما كانا من أهل الفترة ولا عذاب عليهم مع اختلاف في المسألة. واعلم أن هذه المسألة كثير النزاع والخلاف بين العلماء، فمنهم من نص على عدم نجاة الوالدين كما رأيت في كلام القاري والنووي، وقد بسط الكلام في ذلك القاري في شرح الفقه الأكبر، وفي رسالة مستقلة له، ومنهم من شهد لهما بالنجاة كالسيوطي، وقد ألف في هذه المسألة سبع رسائل بسط الكلام فيها وذكر الأدلة من الجانبين. من شاء رجع إليها. والأسلم والأحوط عندي هو التوقف والسكوت. (فزوروا القبور فإنها) أي القبور أو زيارتها. (تذكر الموت) في مسلم: تذكركم الموت يعني وذكر الموت يزهد في الدنيا ويرغب في العقبى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والحاكم (ج1:ص375) والبيهقي (ج4:ص76) وعزاه المجد ابن تيمية في المنتقى إلى الجماعة بدون استثناء، وهو وهم منه، فإن هذا الحديث من أفراد مسلم، ولم أجده في الترمذي أيضا، ولا عزاه إليهما غيره كالجزري في جامع الأصول (ج11:ص439)
1779- (3) وعن بريدة، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر: السلام عليكم أهل الديار
والمنذري في مختصر السنن، والنابلسي في الذخائر (ج4:ص91) والنووي في شرح مسلم. قال ميرك: حديث أبي هريرة في زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه ذكره الحافظ الكبير أبوالحجاج المزي في الأطراف، وهو لم يوجد في نسخ رواياتنا بالصحيح المشرقية. قال النووي في شرحه: هذا الحديث وجد في رواية أبي العلاء ابن ماهان لأهل المغرب، ولا يوجد في نسخة بلادنا من طريق عبدالغافر بن محمد الفارسي-انتهى. وقد رواه محي السنة من طريق عبدالغافر من صحيح مسلم، فلعله يوجد في بعض النسخ، ولولا ذلك لم يذكره المزي في الأطراف-انتهى.

(10/444)


1779- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم) أي الصحابة. (إذا خرجوا إلى المقابر) أي للزيارة أن يقولوا عند وصولهم إليها: (السلام عليكم) قال الطيبي: في محل النصب على أنه مفعول ثان لـ"يعلم"، أي يعلمهم كيفية التسليم على أهل المقابر، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يؤخرون السلام. قال الحماسي:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ……ورحمته ما شاء أن يترحما
فخالفهم وقدم السلام. قال الخطابي: فيه أن السلام على الموتى كما هو على الأحياء في تقديم الدعاء على الاسم أي في ابتداء السلام، ولا يقدم الاسم على الدعاء كما يفعله العامة، وكذلك في كل دعاء بخير. قال الله تعالى: ?رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت?[هود:73] وقال سبحانه وتعالى ?سلام على إلياسين?[صافات:130]. ولا يعارض هذا حديث جابر بن سليم عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: عليك السلام، فقال: لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت؛ لأن فيه إشارة إلى ما جرت به العادة منهم في تحية الأموات وإخبارا عن الواقع لا المشروع، أي أن الشعراء وغيرهم يحيون الموتى بهذه اللفظة، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحيا بتحية الأموات، والسنة لا تختلف في تحية الأحياء والأموات. وسيأتي بسط الكلام عليه في شرح حديث جابر بن سليم في باب فضل الصدقة. والذي في مسلم: كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: السلام عليكم... الخ. وفي ابن ماجه: كان قائلهم يقول، أي بغير الفاء. قال السندي: قوله "كان قائلهم يقول" بدل من قوله "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم" للتنبيه على أنهم كانوا يعلمون بما يعلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمراد أنه كان يعلمهم هذا الذكر، وكانوا يأتون به-انتهى. وذكره الجزري (ج11:ص442) نقلا عن مسلم والنسائي بلفظ: كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم. (أهل

(10/445)


الديار) بالنصب بتقدير حرف النداء. ويؤيده ما في الرواية الآتية بياء النداء. وقيل: نصبه على الاختصاص أفصح، وبالجر على البدل من الضمير. قال الطيبي: سمى - صلى الله عليه وسلم - موضع القبور دارا تشبيها له بدار الأحياء
من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)). رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1780- (4) عن ابن عباس، قال: ((مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور بالمدينة، فأقبل عليهم بوجهه، فقال: السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا

(10/446)


لاجتماع الموتى فيها. (من المؤمنين) بيان لأهل الديار. (والمسلمين) قال النووي: فيه أن المسلم والمؤمن قد يكونان بمعنى واحد، وعطف أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظ، وهو بمعنى قوله تعالى: ?فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين. فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين?[الذاريات:35] ولا يجوز أن يكون المراد بالمسلم في هذا الحديث غير المؤمن؛ لأن المؤمن إن كان منافقا لا يجوز السلام عليه والترحم-انتهى. (وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) التقييد بالمشيئة على سبيل التبرك والتفويض وامتثال قوله تعالى: ?ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله?[الكهف:23] وقيل: المشيئة عائدة إلى الكون معهم في تلك التربة بعينها، يعني أن التعليق باعتبار اللحوق بخصوص أهل المقبرة. وقيل: أتى به لأن الموت على الإيمان والإسلام مشكوك فيه، فعلى هذا يكون خاصا بالأمة، وأتى به - صلى الله عليه وسلم - تعليما لهم، أو "إن" فيه بمعنى "إذ" كما في ?وخافوني إن كنتم مؤمنين? [آل عمران:175]. (نسأل الله لنا ولكم العافية) أي الخلاص من المكاره. في الحديث دليل على استحباب التسليم على أهل القبر والدعاء لهم بالعافية. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص79) وزاد في رواية النسائي "أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع"، وفي حديث عائشة عند ابن ماجه "اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم".

(10/447)


1780- قوله: (فأقبل عليهم بوجهه) أي على أهل القبور. قال القاري: فيه دلالة على أن المستحب في حال السلام على الميت أن يكون وجهه لوجه الميت، وأن يستمر كذلك في الدعاء أيضا، وعليه عمل عامة المسلمين، خلافا لما قاله ابن حجر من أن السنة عندنا أنه حالة الدعاء يستقبل القبلة، كما علم من أحاديث في مطلق الدعاء-انتهى. وفيه أن كثيرا من مواضع الدعاء ما وقع استقباله عليه الصلاة والسلام للقبلة. منها ما نحن فيه، ومنها حالة الطواف والسعي، ودخول المسجد وخروجه، وحال الأكل والشرب، وعيادة المريض وأمثال ذلك، فيتعين أن يقتصر الاستقبال وعدمه على المورد إن وجد، وإلا فخير المجالس ما استقبل كما ورد به الخبر-انتهى كلام القاري. (أنتم سلفنا) بفتحتين في النهاية هو من سلف المال، كأنه أسلفه وجعله ثمنا للأجر على الصبر عليه.
ونحن بالأثر)) رواه الترمذي، قال: هذا حديث حسن غريب.
?الفصل الثالث?
1781-(5) عن عائشة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين! وأتاكم ما توعدون، غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون،
وقيل: سلف الإنسان من تقدمه بالموت من الآباء وذوي القرابة، ولذا سمي صدر الأول من التابعين بالسلف الصالح-انتهى. (ونحن بالأثر) بفتحتين يعني تابعون لكم من وراءكم، لاحقون بكم. (رواه الترمذي) لم أجد من رواه غيره، ونسبه العيني في شرح البخاري (ج8ص69) إلى أحمد. (وقال) أي الترمذي. (هذا حديث حسن غريب) في سنده قابوس بن أبي ظبيان، وهو مختلف فيه.

(10/448)


1781- قوله: (كلما كان ليلتها) أي في آخر عمره بعد حجة الوداع، قاله السندي. (من رسول الله- صلى الله عليه وسلم -) "من" متعلق بالليلة بمعنى النصيب، أو المحذوف أي التي تخصها منه. قال الطيبي: "كلما" ظرف فيه معنى الشرط والعموم وجوابه. (يخرج) وهو العامل فيه. وهذا حكاية معنى قولها لا لفظها، أي كان من عادته أنه إذا بات عندها أن يخرج. (من آخر الليل) أي في آخره. (إلى البقيع) أي بقيع الغرقد، وهو موضع بظاهر المدينة فيه قبور أهلها. في النهاية: هو المكان المتسع، ولا يسمى بقيعا إلا وفيه شجر أو أصولها، والغرقد شجر، والآن بقيت الإضافة دون الشجرة. وقال النووي: البقيع مدفن أهل المدينة، سمي بقيع لغرقد كان فيه، وهو ما عظم من العوسج. وفي الحديث فضيلة الدعاء آخر الليل وفضيلة زيارة قبور البقيع. (دار قوم) دار منصوب على النداء. والتقدير: يا أهل دار قوم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وقيل الدار مقحم. (وأتاكم) بالقصر أي جاءكم. قال ابن الملك: وإنما قال أتاكم؛ لأن ما هو آت كالحاضر-انتهى. أو لتحققه كأنه وقع. (ما توعدون) أي ما كنتم توعدون به من الثواب أو أعم منه ومن العذاب. (غدا) هو متعلق بما قبله، ويحتمل تعلقه بما بعده وهو قوله: (مؤجلون) أي أنتم مؤخرون وممهلون إلى غد باعتبار أجوركم استيفاء واستقصاء، فالجملة مستأنفة مبينة أن ما جاءهم من الموعود أمور إجمالية لا أجور تفصيلية. قال الطيبي: إعرابه مشكل إن حمل على الحال المؤكدة من واو توعدون على حذف الواو والمبتدأ كان فيه شذوذان. قال ابن حجر: وهو سائغ إذا دل عليه السياق، كما هنا. قال الطيبي: ويجوز حمله على الإبدال من "ما توعدون" أي أتاكم ما تؤجلونه أنتم، والأجل الوقت
اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)) رواه مسلم.

(10/449)


1782-(6) وعنها، قالت: ((كيف أقول يا رسول الله؟ تعني في زيارة القبور، قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون)) رواه مسلم.
1783-(7) وعن محمد بن النعمان، يرفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة، غفر له وكتب برا))
المضروب والمحدود في المستقبل؛ لأن ما هو آت بمنزلة الحاضر-انتهى. قال القاري: وهو كما قال ابن حجر بعيد تكلف جدا، بل السياق ينبو عنه-انتهى. ورواه النسائي بلفظ: وإنا وإياكم متواعدون غدا ومتواكلون. قال السندي: متواعدون أي كان كل منا ومنكم وعد صاحبه حضور غد، أي يوم القيامة، ومتواكلون أي متكل بعضهم على بعض في الشفاعة والشهادة، والله تعالى أعلم. (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) أي مقبرة المدينة، وفيه الدعوة الإجمالية على وجه العموم كافية. (رواه مسلم) وأخرجه النسائي والبيهقي أيضا.
1782- قوله: (تعني) أي تريد عائشة رضي الله عنها بالسؤال كيفية المقال، وهذا تفسير من المصنف. (من المؤمنين والمسلمين) فيه تغليب الرجال على النساء. (المستقدمين) أي الذين تقدموا علينا بالموت. (منا) أي معشر المؤمنين. (والمستأخرين) أي المتأخرين في الموت، والسين فيها لمجرد التأكيد لا للطلب، أي الأموات منا والإحياء، وفي الحديث دليل لمن جوز للنساء زيارة القبور عند وجود الشروط المعتبرة في حقهن. (رواه مسلم) وأخرجه النسائي والبيهقي أيضا.

(10/450)


1783- قوله: (وعن محمد بن النعمان) الظاهر أنه محمد بن النعمان بن بشير الأنصاري أبوسعيد، ثقة من كبار التابعين. (يرفع الحديث إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -) أي بإسقاط الصحابي أو من دونه. (أو أحدهما) عطف على أبويه أي أو قبر أحدهما. (في كل جمعة) أي في كل يوم جمعة أو في كل أسبوع، ويؤيد الأول رواية ابن عدي من حديث أبي بكر بلفظ: من زار قبر والديه أو أحدهما يوم الجمعة. (غفر له) ذنوبه الصغائر. (وكتب برا) بفتح الباء أي كان بارا بهما غير عاق بتضييع حقهما، فعدل منه إلى قوله "كتب" لمزيد الإثبات، وأنه من الراسخين ثبت في ديوان الأبرار، ومنه قوله تعالى: ?فاكتبنا مع الشاهدين? [آل عمران: 53]. وفيه استحباب زيارة قبر الوالدين في
رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلا.
1784-(8) وعن ابن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة)) رواه ابن ماجه.
1785-(9) وعن أبي هريرة: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور)).
يوم الجمعة لكن الحديث مرسل، وكل ما يروي في ذلك ضعيف. (رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلا) تقدم معنى المرسل، ولم أقف على إسناد هذا الحديث، فلا أدري كيف حاله. وفي الباب عن أبي بكر عند ابن عدي بإسناد ضعيف، وعن أبي هريرة عند الحكيم الترمذي وإسناده أيضا ضعيف، قاله العزيزي في شرح الجامع الصغير. وحديث أبي هريرة عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج4ص59) إلى الطبراني في الأوسط والصغير وقال: وفيه عبدالكريم أبوأمية وهو ضعيف-انتهى. وروى الحاكم (ج1ص377) والبيهقي (ج3ص78) من حديث الحسين، أن فاطمة كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة. قال الحاكم: رواته ثقات، وتعقبه الذهبي فقال: هذا منكر جدا، وسليمان بن داود ضعيف.

(10/451)


1784- قوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور) خوفا عليكم من فعل الجاهلية من الجزع والنوح وذكر ما لا ينبغي في ابتداء إسلامكم، والآن استحكم فيكم الإسلام وصرتم أهل التقوى. (فزوروها) ندبا، ففيه جمع بين الناسخ والمنسوخ. (فإنها) أي زيارة القبور أو القبور أي رؤيتها. (تزهد في الدنيا) أي ترغب عنها وتحمل على التقليل منها. (وتذكر الآخرة) وتعين على الاستعداد لها. (رواه ابن ماجه) قال المنذري في الترغيب: بإسناد صحيح، وقال الحافظ في التلخيص: في إسناده أيوب بن هانىء، وهو مختلف فيه، وقال في الزوائد: إسناده حسن، وأيوب بن هانىء قال ابن معين: ضعيف، وقال أبوحاتم: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات-انتهى. وأخرجه الحاكم (ج1ص375) والبيهقي (ج4ص77) وسكت عنه الحاكم، وقال الذهبي: أيوب ضعفه ابن معين-انتهى. والظاهر أن الحديث حسن الإسناد، كما قال البوصيري.
1785- قوله: (زورات القبور) قال القاري: لعل المراد كثيرات الزيارة، وقال القرطبي: حمل بعضهم حديث الترمذي في اللعن على من يكثر الزيارة منهن؛ لأن زوارات للمبالغة، ويمكن أن يقال أن النساء إنما يمنعن من إكثار الزيارة لما يؤدي إليه الإكثار من تضييع حقوق الزوج والتبرج والشهرة، والتشبه بمن يلازم القبور لتعظيمها، ولما يخاف عليها من الصراخ وغير ذلك من المفاسد، وعلى هذا يفرق بين الزائرات والزوارات، ذكره العيني.
رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال: قد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن برخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء.

(10/452)


وقال السيوطي: زوارات جمع زوارة بمعنى زائرة. قلت: ويؤيده حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود والنسائي بلفظ "زائرات القبور"، فإنه يدل على أنه لا فرق بين الزائرات والزوارات، وأن الزوارات بمعنى الزائرات، وعلى هذا يمكن أن يقال: إن اللعن محمول على زيارتهم بما لا يجوز كالتبرج والجزع والصياح وغير ذلك مما لا ينبغي، وأما إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لهن؛ لأن الزيارة عللت بتذكير الموت، ويحتاج إليه الرجال والنساء جميعا. قال القاري بعد ذكر الأحاديث التي وردت في الرخصة في زيارة القبور: وقد عللت الزيارة فيها بأنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة والموت، وبأن فيها عبرة ما لفظه هذه الأحاديث بتعليلاتها تدل على أن النساء كالرجال في حكم الزيارة إذا زرن بالشروط المعتبرة في حقهن، وأما خبر: لعن الله زوارات القبور، فمحمول على زيارتهن لمحرم كالنوح وغيره مما اعتدنه-انتهى. وقال القرطبي: وقد يقال: إذا أمن جميع ذلك (أي تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك) فلا مانع من الإذن لهن؛ لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء-انتهى. قال الشوكاني: وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر-انتهى. (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه) وأخرجه ابن حبان والبيهقي (ج4ص78) أيضا. وفي الباب عن ابن عباس، وقد تقدم في باب المساجد. وعن حسان بن ثابت، أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي. (وقال) أي الترمذي. (قد رأى) أي اعتقد. (بعض أهل العلم أن هذا) أي اللعن. (كان قبل أن يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء)، قال الحافظ في الفتح: وهو قول الأكثر، ومحله ما إذا أمنت الفتنة، وممن حملهن الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة عنه كما تقدم في آخر باب دفن الميت. قال الشوكاني: استدل القائلون بالجواز بأدلة منها: دخولهن تحت الإذن

(10/453)


العام بالزيارة، ويجاب عنه بأن الإذن العام مخصص بهذا النهي الخاص المستفاد من اللعن، إما على مذهب الجمهور فمن غير فرق بين تقدم العام وتأخره ومقارنته وهو الحق، وإما على مذهب البعض القائلين بأن العام المتأخر ناسخ فلا يتم الاستدلال به إلا بعد معرفة تأخره منها-انتهى. وقال شيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2ص138): النهي ورد خاصا بالنساء، والإباحة لفظها عام، والعام لا ينسخ الخاص، بل الخاص حاكم عليه ومقيد له. قال الشوكاني: ومنها ما رواه مسلم عن عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله إذا زرت القبور؟ قال: قولي السلام على
وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن. تم كلامه.
1786- (10) وعن عائشة، قالت: ((كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني واضع ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر معهم، فوالله ما دخلته إلا أنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر)).

(10/454)


أهل الديار الخ. (وهو ثاني أحاديث الفصل الثالث من هذا الباب)، ومنها ما أخرجه البخاري: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني-الحديث. (وقد تقدم في باب البكاء)، ومنها ما رواه الحاكم أن فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة الخ. قلت: هذا حديث ضعيف منكر كما تقدم عن الذهبي. (وقال بعضهم: إنما كره) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروي بصيغة المجهول، قاله القاري. (زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن) يعني بقيت النساء تحت النهي لقلة صبرهن وكثرة جزعن، قال السندي: وهو الأقرب إلى تخصيصهن بالذكر في أحاديث اللعن. وأجاب القائلون بالجواز عن هذه الأحاديث بأنها محمولة على زيارتهن لمحرم كالنوح وغيره، كما تقدم عن القرطبي والشوكاني والقاري. وبهذا تجمع الأحاديث المتخالفة في الظاهر، وهو الراجح عندي. والله تعالى أعلم. (تم كلامه) أي قال المصنف: تم كلام الترمذي.

(10/455)


1786- قوله: (بيتي الذي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي قبره أو دفن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي مسند الإمام أحمد (ج6ص202): بيتي الذي دفن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي. (وإني واضع) بالتنوين، والظاهر واضعة، فكأنه نزل منزلة الحائض، أو التذكير باعتبار الشخص، ويجوز إضافته إلى قولها: (ثوبي) أي بعض ثيابي، ولذا أفرد هنا وجمع فيما سيأتي، وفي المسند: فأضع ثوبي، بلفظ المتكلم من المضارع. (وأقول) وفي المسند: فأقول، أي في نفسي لبيان عذر الوضع. وقال الطيبي: القول بمعنى الاعتقاد، وهو كالتعليل لوضع الثوب. (إنما هو) أي الكائن هنا. (زوجي وأبي) أي إنما هو زوجي والآخر أبي، والضمير للشأن، أي إنما الشأن زوجي وأبي مدفونان فيه، أو الضمير للبيت، أي إنما هو مدفن زوجي وأبي على تقدير مضاف. (فلما دفن عمر معهم) فيه اختيار أن أقل الجمع اثنان. (فوالله ما دخلته إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر) فيه أنه ينبغي احترام الميت عند زيارة قبره كاحترامه حيا. قال الطيبي: في الحديث دليل بين على أنه يجب احترام أهل القبور، وتنزيل كل منزلته ما هو عليه في حياته من مراعاة الأدب معهم على قدر مراتبهم، والله أعلم- انتهى. وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن سليم بن غفر أنه مر على مقبرة وهو حاقن قد غلبه البول، فقيل له: لو نزلت فبلت، قال: سبحان الله، والله إني لأستحي
رواه أحمد.
من الأموات كما أستحي من الأحياء، ذكره القاري. (رواه أحمد) (ج6ص202) قال: ثنا حماد بن أسامة قال: أنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: كنت أدخل الخ. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج8ص26): رجاله رجال الصحيح.

(10/456)


هذا آخر كتاب الجنائز، وقد بقيت أحكام ومسائل كثيرة تتعلق بالميت والمحتضر محل ذكرها وبسطها كتب الفقه والفتاوى، من شاء الوقوف عليها رجع إلى المغني لابن قدامة وغيره من الكتب المؤلفة في الجنائز والمحتضر خاصة، ولشيخنا الأجل المباركفوري تأليف متوسط في هذا الموضوع في الأردوية سماه كتاب الجنائز، وقد رتبه على مقدمة وعشرة أبواب، قد استوعب فيها أحكام الجنائز ومسائلها، وهو مفيد جدا، لم يصنف مثله في اللغة الأردوية، وقد طبع مرتين.
بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الخامس من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح،
ويليه الجزء السادس إن شاء الله تعالى، وأوله "كتاب الزكاة".

(10/457)


بسم الله الرحمن الرحيم
(6) كتاب الزكاة
(كتاب الزكاة) قال الحافظ: هي الركن الثالث من الأركان التي بني الإسلام عليها، كما تقدم في كتاب الإيمان، وهو أمر مقطوع به في الشرع، يستغنى عن تكلف الاحتجاج له، وإنما وقع الاختلاف في بعض فروعها. وأما أصل فرضية الزكاة فمن جحدها كفر- انتهى. وهي في اللغة: النماء أي الزيادة والتطهير. والزكاة موجبة لنماء المال وطيبه وطهارته، ونماء أجر صاحبه وطهارته من الذنوب. وتطلق على المال المؤدي، وعلى أدائه على الوجه المخصوص المعتبر في الشرع. والأصل في شرعية الزكاة والصدقة: مرعاة الفقراء ومواساتهم. قال ابن دقيق العيد: الزكاة في اللغة لمعنيين: أحدهما النماء، والثاني الطهارة، فمن الأول قولهم: زكى الزرع، ومن الثاني قوله تعالى: ?وتزكيهم بها? [التوبة:103] وسمي هذا الحق زكاة بالاعتبارين: أما الأول فبمعنى أن يكون إخراجها سببا للنماء في المال كما صح ما نقص مال من صدقة وجه الدليل منه أن النقصان محسوس بإخراج القدر الواجب، فلا يكون غير ناقص إلا بزيادة تبلغه إلى ما كان عليه على المعنيين جميعا أعنى المعنوي والحسي في الزيادة أو بمعنى أن متعلقها الأموال ذات النماء (كالتجارة والزراعة) أو بمعنى تضعيف أجورها، كما جاء أن الله يربي الصدقة حتى تكون كالجبل وأما بالمعنى الثاني فلأنها طهرة للنفس من رذيلة البخل، أو لأنها تطهر من الذنوب، وهذا الحق أثبته الشارع لمصلحة الدافع والآخذ معا. أما في حق الدافع فتطهيره وتضعيف أجوره. وأما في حق الآخذ فلسد خلته- انتهى. وقال الشامي: ولها معان آخر: البركة. يقال: زكت البقعة إذا بورك فيها، والمدح يقال: زكى نفسه إذا مدحها، والثناء الجميل يقال: زكى الشاهد إذا أثنى عليه، وكلها توجد في المعنى الشرعي، لأنها تطهر مؤديها من الذنوب ومن صفة البخل، والمال بإنفاق بعضه، ولذا كان المدفوع مستقذرا فحرم على آل البيت خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها

(11/1)


وتنميه بالخلف، وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه ويربي الصدقات، وبها تحصل البركة، لا ينقص مال من صدقة، ويمدح بها الدافع ويثنى عليه بالجميل والذين هم للزكاة فاعلون، قد أفلح من تزكى وهي شرعا على مذهب الحنفية. تمليك جزء مال عينه الشارع من مسلم فقير غير هاشمي ولا مولاه مع قطع المنفعة عن المملك من كل وجه لله تعالى، كذا في الدر المختار. وقال ابن العربي: تطلق الزكاة على الصدقة (الواجبة والمندوبة) وعلى الحق والنفقة والعفو عند اللغويين، وهي شرعا إيتاء جزء من النصاب الحولي

(11/2)


إلى فقير ونحوه غير هاشمي. ثم لها ركن وسبب وشرط، وحكم حكمة، فركنها جعلها الله تعالى بالإخلاص وسببها المال. وشرطها نوعان: شرط السبب، وشرط من تجب عليه، فالأول ملك النصاب الحولي، والثاني العقل والبلوغ والحرية. وحكمها سقوط الواجب في الدنيا، وحصول الثواب في الآخرة. وحكمتها كثيرة: منها التطهير من أدناس الذنوب والبخل، ومنها ارتفاع الدرجة والقربة، ومنها الإحسان إلى المحتاجين، ومنها استرقاق الأحرار، فإن الإنسان عبيد الإحسان- انتهى. قال الحافظ: هو جيد، لكن في شرط من تجب عليه الاختلاف- انتهى. وإن شئت الوقوف على مصالح فرضية الزكاة والحكم المرعية في وجوبها في الأصناف الأربعة دون غيرها من المال، واختلاف مقاديرها وتعيين النصاب في أنواع المال، فعليك أن ترجع إلى كتب أسرار الشريعة مثل حجة الله البالغة (ج2:ص30،29) للشاه ولي الله الدهلوي، والهدى (ج1:ص152،151) والإعلام (ج1:ص182، 183) للإمام ابن القيم. وأسرار الشريعة الإسلامية للشيخ إبراهيم أفندي. وأعلم أنه اختلف في أول وقت فرض الزكاة، فذهب الأكثر إلى أنه وقع بعد الهجرة، وقال ابن خزيمة في صحيحة: إن فرضها كان قبل الهجرة. واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها أن جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي في جملة ما أخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم: ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قال الحافظ: في استدلاله بذلك نظر، لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشي، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها ما ذكر من قصة الصلاة والصيام وبلغ ذلك جعفرا، فقال: يأمرنا بمعنى يأمر به أمته، وهو بعيد جدا. وأولى ما حمل عليه حديث أم سلمة هذا إن سلم من قدح في إسناده: أن المراد بقوله يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام أي في الجملة ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة والصلوات الخمس، ولا

(11/3)


بالصيام صيام رمضان، ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول-انتهى. واختلف الأولون فقيل: كان فرضها في السنة الثانية قبل فرض رمضان، أشار إليه النووي في الروضة، وجزم ابن الأثير في التاريخ بأن ذلك كان في التاسعة. قال الحافظ: وفيه نظر، لأنها ذكرت في حديث ضمام بن ثعلبة، وفي حديث وفد عبدالقيس، وفي عدة أحاديث، وكذا في مخاطبة أبي سفيان مع هرقل، وكانت في أول السابعة. وقال فيها يأمرنا بالزكاة، ووقع في تاريخ الإسلام في السنة الأولى فرضت الزكاة. قلت: قال الحافظ ابن كثير في تفسير المزمل تحت قوله تعالى: ?وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة? [المزمل:20] وهذا يدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة- والله أعلم. وقال القاري: المعتمد أن الزكاة فرضت بمكة إجمالا، وبينت بالمدينة تفصيلا، جمعا بين الآيات التي تدل على
?الفصل الأول?
1787- (1) عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن،

(11/4)


فرضيتها بمكة وغيرها من الآيات والأدلة- انتهى. قلت: وهذا هو الراجح، بل هو المتعين عندي، والله تعالى أعلم: قال الشيخ محمد الخضري في تاريخ الأمم الإسلامية: مما فرض بمكة الزكاة، فأنا قلما نجد من الأوامر المكية ذكر الصلاة إلا وبجانبه إيتاء الزكاة وطلبت زكاة ما يخرج من الأرض في سورة الأنعام ?وآتوا حقه يوم حصاده? [الأنعام:141] إلا أن هذه الحقوق الواجبة لم تفصل بمكة، فقد كان ذلك موكولا لما في النفوس من الجود وبحسب حاجة الناس. وقال صاحب تفسير المنار فرضت الزكاة المطلقة بمكة في أول الإسلام، وترك أمر مقدارها ودفعها إلى الشعور المؤمنين وأريحتهم ثم فرض مقدارها من كل أنواع الأموال في السنة الثانية من الهجرة على المشهور. وقيل: في الأولى، ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام، وكانت تصرف للفقراء، كما قال تعالى في سورة البقرة ?إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم?: [271] وقد نزلت في السنة الثانية، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: تؤخذ من أغنياءهم فترد على فقراءهم، ثم نزلت هذه المصارف السبع أو الثمان في سنة تسع، فتوهم بعض العلماء أن فرض الزكاة كانت في هذه السنة، قال: والحكمة فيما ذكر: أن تعيين المقادير، وقيام أولى الأمر بتحصيلها وتوزيعها على من فرضت لهم، وتعدد أصنافهم: كل ذلك إنما وجد بوجود حكومة إسلامية تناطيها مصالح الأمة في دينها ودنياها في دار تسمى دار الإسلام، لأن أحكامها تنفيذ فيها بسلطانه، وكانت أول دار الإسلام دار الهجرة، إذا كانت مكة دار كفر وحرب لا ينفذ فيها للإسلام حكم، بل لم يكن لأحد من أهله فيها حرية الجهر بالصلاة إلا بحماية قريب أو جار من المشركين- انتهى.

(11/5)


1787-قوله: (بعث معاذا) بضم الميم (إلى اليمن) كان بعثه إليها سنة عشر قبل حجة الوداع، كما ذكره البخاري في أواخر المغازي. وقيل: كان ذلك في أواخر سنة تسع عند إنصرافه صلى الله عليه وسلم من تبوك، رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه، ثم حكي ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر. وقيل: بعثه عام الفتح سنة ثمان. واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر، ثم توجه إلى الشام فمات بها. واختلف هل كان معاذ واليا أو قاضيا؟ فجزم الغساني بالأول، وابن عبدالبر بالثاني. قال في الاستيعاب: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضيا إلى الجند باليمن يعلم الناس القرآن وشعائر الإسلام ويقضي بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قسم اليمن على خمسة رجال، خالد بن سعيد على صنعاء، والمهاجر بن أبي أمية على كندة، وزياد بن لبيد على حضر موت،
فقال: ((إنك تأتي قوم أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإن هم أطاعوا لذلك،

(11/6)


ومعاذ بن جبل على الجند، وأبي موسى الأشعري على زبيد وزمعة وعدن والساحل- انتهى. قال الحافظ: ولمعاذ بالجند مسجد مشهور إلى اليوم (إنك تأتي قوما أهل كتاب) بنصب "أهل" بدلا من "قوما" لا صفة، وروى أحمد (ج5:ص235) عن معاذ قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، خرج معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوصيه ومعاذ راكب الخ. فقوله إنك تأتي قوما أهل كتاب كالتوطئة والتمهيد للوصية لتستجمع وتقوى همته في الدعاء لهم لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان، وليس فيه أن جميع من يقدم عليهم من أهل الكتاب، بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم، وإنما خصهم بالذكر تفضيلا لهم أو تغليا على غيرهم (فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) وقعت البداءة في المطالبة بالشهادتين، لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شئ من فروعه إلا بهما، فمن كان منهم غير موحد على التحقيق، فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحدا فالمطالبة له بالجمع بين ما أقر به من التوحيد وبين الإقرار بالرسالة وإن كانوا يعتقدون ما يقتضي الإشراك أو يستلزمه كمن يقول بنبوة عزيز أو يعتقد التشبيه، فتكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم، واستدل بذلك على أنه لا يكفي في الإسلام الإقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله حتى يضيف الشهادة لمحمد بالرسالة وهو قول الجمهور (فإن هم أطاعوا) أي انقادوا (لذلك) أي للإتيان بالشهادتين. ولابن خزيمة: فإن هم أجابوا لذلك. واستدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع. حيث أمر بالدعاء أولا إلى الإيمان فقط، وجعل الدعاء إلى الفروع بعد إجابتهم إلى الإيمان. وتعقب بأن الترتيب في الدعاء لا يلزم منه الترتيب في الوجوب. ألا ترى أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب وقد قدمت الصلاة على الزكاة في هذا الحديث، وأخر

(11/7)


الإخبار بوجوب الزكاة عن الطاعة بالصلاة مع أنهما مستويتان في الخطاب للوجوب. وقال السندي: قوله: فادعهم إلى شهادة الخ. أي فأدعهم بالتدريج إلى ديننا شيئا فشيئا ولا تدعهم إلى كله دفعة لئلا يمنعهم من دخولهم فيه ما يجدون فيه من كثرة مخالفة لدينهم فإن مثله قد يمنع من الدخول ويورث التنفر لمن أخذ قبل على دين آخر بخلاف من لم يأخذ على آخر، فلا دلالة في الحديث على أن الكافر غير مكلف بالفروع، كيف! ولو كان ذاك مطلوبا للزم أن التكليف بالزكاة بعد الصلاة، وهذا باطل بالإتفاق- انتهى. قال النووي: أعلم أن المختار أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهى عنه، هذا قول المحققين والأكثرين. وقيل: ليسوا مخاطبين. وقيل: مخاطبون بالمنهى دون المأمور. وقال العيني
فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك،

(11/8)


قال شمس الأئمة في كتابه في فصل بيان موجب الأمر في حق الكفار: لا خلاف أنهم مخاطبون بالإيمان، ولا خلاف أنهم مخاطبون بالمشروع من العقوبات، ولا خلاف أن الخطاب بالمعاملات يتناولهم أيضا، ولا خلاف أن الخطاب بالشرائع يتناولهم في حكم المؤاخذة في الآخرة. فأما في وجوب الأداء في أحكام الدنيا، فمذهب العراقيين من أصحابنا: أن الخطاب يتناولهم أيضا، والأداء واجب عليهم، ومشائخ ديارنا يقولون أنه لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط من العبادات- انتهى. وقال ابن عابدين في رد المختار في بحث الجزية نقلا عن شرح المنار لصاحب البحر إن الكفار مخاطبون بالإيمان وبالعقوبات سوى حد الشرب والمعاملات. وأما العبادات فقال السمرقنديون: إنهم غير مخاطبين أداء واعتقادا. وقال البخاريون: إنهم غير مخاطبين بهما أداء فقط. وقال العراقيون: إنهم مخاطبون بهما فيعاقبون عليهما، وهو المعتمد- انتهى. قال صاحب فتح الملهم بعد ذكر هذا كله: ويؤيد هذا الأخير قوله تعالى: ?وويل المشركين الذي لا يؤتون الزكاة?: [حم السجدة:6] و?قالوا لم نكن من المصلين?: [المدثر: 43] الآيتين، فتحصل من هذا كله أن الكفار يعاقبون على ترك اعتقاد الصلاة مثلا وترك أداءها كليهما عند من قال بتعلق الخطاب بهم في الدنيا اعتقادا وأداءا، وإن لم يجب عليهم قضاء الصلوات بعد الإسلام عند أحد ويعاقبون على ترك الاعتقاد فقط عند من قال بتعلق الخطاب اعتقادا لا أداءا، ولا يعاقبون على ترك واحد منهما عند الشرذمة القائلة بعدم تعلق الخطاب بهم أصلا إلا بسبب ترك الإيمان بالتوحيد والرسالة، فالنزاع تحققه بحسب تعلق الخطاب في الدنيا وتبينه وظهور آثاره في الآخرة- انتهى. (فأعلمهم) بفتح الهمزة من الإعلام بمعنى الأخبار (أن الله) بفتح الهمزة لأنها في محل نصب، مفعول ثان للإعلام، والضمير مفعول أول (خمس صلوات) قال السندي، هذا يدل على عدم وجوب الوتر، كما عليه الجمهور والصاحبان من علمائنا

(11/9)


الحنفية. قلت: وهذا ظاهر، لأن بعث معاذ إلى اليمن كان قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بقليل. والقول بأنه يحتمل أنه ثبت وجوب الوتر بعد ذلك مما لا يلتفت إليه، لأنه احتمال ناشي من غير دليل (فإن هم أطاعوا لذلك) بأن أقروا بوجوب الخمس عليهم أو فعلوها. قال ابن دقيق العيد: طاعتهم في الصلاة يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المراد إقرارهم بوجوبها عليهم وإلتزامهم لها. والثاني أن يكون المراد الطاعة بالفعل وأداء الصلاة. وقد يرجح الأول بأن المذكور في لفظ الحديث هو الإخبار بالفرضية، فتعود الإشارة إليها. ويترجح الثاني بأنهم لو أخبروا بالوجوب فبادروا إلى الإمتثال بالفعل لكفى، ولم يشترط التلفظ بالإقرار بخلاف الشهادتين، فالشرط عدم الإنكار، والإذعان للوجوب - انتهى. قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد القدر المشترك بين الأمرين، فمن امتثل بالإقرار أو بالفعل كفاه أو بهما فأولى وقد وقع في رواية الفضل بن العلاء بعد ذكر الصلاة فإذا صلوا، وبعد ذكر الزكاة، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم
فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنياءهم فترد على فقراءهم

(11/10)


(فأعلمهم) أي فأخبرهم (أن الله قد فرض عليهم صدقة) أي زكاة في أموالهم. قيل: الحكمة في ترتيب الزكاة على الصلاة: أنهم إذا أجابوا إلى الشهادتين ودخلوا بذلك في الإسلام، ولم يطيعوا لوجوب الصلاة بل جحدوها، كان ذلك كفرا وردة عن الإسلام بعد دخولهم فيه، فصار ما لهم فيئا، فلا يؤمرون بالزكاة، بل يقتلون. وقال الخطابي: أخر ذكر الصدقة عن ذكر الصلاة، لأنها إنما تجب على قوم دون قوم، وإنما لا تكرر تكرر الصلاة. قال الحافظ: هذا حسن. وتمامه أن يقال: بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب، لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النفرة (تؤخذ من أغنياءهم) قال الحافظ: استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه وإما بنائبه، فمن امتنع منها أخذت منه قهرا. وقال ابن دقيق العيد: قد يستدل به على وجوب إعطاء الزكاة للإمام، لأنه وصف الزكاة بكونها مأخوذة من الأغنياء، فكل ما أقتضى خلاف هذه الصفة فالحديث ينفيه- انتهى. وقيل، حديث معاذ في صدقة السوائم وفي العشر ونحوهما. وأما الذهب والورق فإن أدى زكاتهما خفية يجزئه. قال الحافظ: قد أطبق الفقهاء بعد ذلك على أن لأرباب الأموال الباطنة مباشرة الإخراج. وشذ من قال بوجوب الدفع إلى الإمام - انتهى. قلت: يحتاج إلى الفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة في ذلك إلى دليل قوى يعتمد عليه. والظاهر عندي أن ولاية أخذ الزكاة إلى الإمام ظاهرة وباطنة، فإن لم يكن إمام فرقها المالك في مصارفها. وقد حقق ذلك الشوكاني في السيل الجرار بما لا مزيد عليه فليرجع إليه (فترد على فقراءهم) خصم بالذكر، وإن كان مستحق الزكاة أصنافا أخر لمقابلة الأغنياء ولاحتمال أن يكون الفقراءهم الأغلب. واستدل به من لا يرى جواز نقل الزكاة عن بلد المال، لأن الضمير في فقراءهم يعود على أهل اليمن فيدل على وجوب صرف الزكاة إلى فقراء من أخذت منهم، وعدم جواز إخراجها إلى غيرهم إلا لضرورة كعدم فقير

(11/11)


فيهم. قال الإسماعيلي: ظاهر الحديث أن الصدقة ترد على فقراء من أخذت من أغنياءهم-انتهى. وقد ترجم البخاري لهذا الحديث "باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا " قال ابن المنير: اختار البخاري جواز نقل الزكاة من بلد المال لعموم قوله: فترد في فقراءهم، لأن الضمير يعود للمسلمين، فأي فقير منهم ردت فيه الصدقة، في أي جهة كان، فقد وافق عموم الحديث - انتهى. قال الحافظ: والذي يتبادر إلى الذهن من هذا الحديث عدم النقل، وأن الضمير يعود على المخاطبين، فيختص بذلك فقراءهم. لكن رجح ابن دقيق العيد الأول، وقال: وإنه وإن لم يكن الأظهر إلا أنه يقويه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر في الزكاة، كما لا تعتبر في الصلاة، فلا يختص بهم الحكم وإن اختص بهم خطاب المواجهة -انتهى.
فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).

(11/12)


وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فأجاز النقل الليث وأبوحنيفة وأصحابهما، ونقله ابن المنذر عن الشافعي وأختاره والأصح عند الشافعية والمالكية والجمهور: ترك النقل، فلو خالف ونقل أجزاء عند المالكية على الأصح، ولم يجزئ عند الشافعية على الأصح، إلا إذا فقد يستحقون لها ولا يبعد أنه اختيار البخاري، لأن قوله "حيث كانوا" يشعر بأنه لا ينقلها عن بلد، وفيه ممن هو متصف بصفة الاستحقاق -انتهى كلام الحافظ. وقال شيخنا في شرح الترمذي: والظاهر عندي عدم النقل إلا إذا فقد المستحقون لها أو تكون في النقل مصلحة أنفع وأهم من عدمه، والله تعالى أعلم. قال الحافظ: وفي الحديث إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون الغنيين لعموم قوله من أغنياءهم، قاله عياض، وفيه بحث، وأن الزكاة لا تدفع إلى الكافر لعود الضمير في فقراءهم إلى المسلمين سواء قلنا بخصوص البلد أو العموم، وأن من ملك نصابا لا يعطي من الزكاة، وهو مذهب الحنفية من حيث أنه جعل المأخوذ منه غنيا، وقابله بالفقير، ومن ملك النصاب فالزكاة مأخوذة منه، فهو غني، والغنى مانع من إعطاء الزكاة إلا من استثنى في الحديث. قال ابن دقيق العيد: وليس هذا البحث بالشديد القوة (فإن هم أطاعوا لذلك) أي للإنفاق (فإياك وكرائم أموالهم) بنصب كرائم بفعل مضمر لا يجوز إظهاره للقرينة الدالة عليه. قال ابن قتيبة: ولا يجوز حذف واو "وكرائم"-انتهى. وعلل بأنها حرف عطف، فيختل الكلام بالحذف. وكرائم جمع كريمة، وهي خيار المال وأفضله. قال الجزري في النهاية: كرائم أموالهم أي نفائسها التي تتعلق بها نفس مالكها ويختصها لها حيث هي جامعة للكمال الممكن في حقها. وقال في جامع الأصول: هي خيارها ونفائسها وما يكرم على أصحابها ويعز عليهم. والمراد اجتنبها فلا تأخذها في الصدقة، وخذ الوسط لا العالي ولا النازل الردي، ففيه ترك أخذ خيار المال وهي الأكولة والربى وفحل الغم والماخض وحزرات المال. والحكمة فيه: أن الزكاة

(11/13)


وجبت مواساة للفقراء من مال الأغنياء. ولا يناسب ذلك الاحجاف بأرباب الأموال، فسامح الشرع بأرباب الأموال بما يضنون به، ونهى المصدقين عن أخذه إلا إن رضوا بذلك كما سيأتي (واتق دعوة المظلوم) أي تجنب الظلم لئلا يدعوا عليك المظلوم. وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، وإنما ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم للإشارة إلى أن أخذها ظلم. قال السندي: فيه أنه وإن كان قد يغلب حب الدنيا حتى ينسى الآخرة، فلا يترك الظلم لكونه حراما مضرا في الآخرة فليترك لحب الدنيا خوفا من دعوة المظلوم، وإلا فالظلم يجب تركه، لكونه حراما، وإن لم يخف دعوة صاحبه (فإنه) أي الشأن (ليس بينها وبين الله) أي بين وصولها إلى محل الاستجابة والقبول (حجاب) أي مانع بل هي معروضة عليه يعني ليس لها ما يصرفها ولو كان المظلوم فيه ما يقتضي أنه لا يستجاب لمثله من كون مطعمه حرام
متفق عليه.
1788- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها،

(11/14)


أو نحو ذلك، حتى ورد في بعض طرقه وإن كان كافرا، رواه أحمد من حديث أنس، قاله العيني.وقال الحافظ: والمراد أنها مقبولة، وإن كان عاصيا، كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا: دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه. وإسناده حسن. وليس المراد أن الله تعالى حجابا يحجبه عن الناس. وقال الطيبي: قوله "اتق دعوة المظلوم" تذييل لاشتماله على الظلم الخاص من أخذ الكرائم وعلى غيره، وقوله "فأنه ليس بينها وبين الله حجاب" تعليل للاتقاء وتمثيل للدعاء، كمن يقصد دار السطان متظلما، فلا يحجب عنه -انتهى. قال ابن العربي: هذا الحديث، وإن كان مطلقا فهو مقيد بالحديث الآخر إن الداعي على ثلاث مراتب، إما أن يجعل لهما ما طلب وإما أن يدخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله، وهذا كما قيد مطلق قوله تعالى: ?أمن يجيب المضطر إذا دعاه?[النمل: 62] بقوله تعالى: ?فيكشف ما تدعون إليه إن شاء?[ الأنعام: 41] تنبيه لم يقع في هذا الحديث ذكر الصوم والحج مع أن بعث معاذ كما تقدم كان في آخر الأمر. وأجاب الكرماني بأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر، ولهذا كررا في القرآن، وبأنهما إذا وجبا على المكلف لايسقطان عنه أصلا بخلاف الصوم فإنه قد يسقط بالفدية والحج، فإن الغير قد يقوم مقامه فيه كما في المعضوب، وقال السندي: هذا الحديث ليس مسوقا لتفاصيل الشرائع بل لكيفية الدعوة إلى الشرائع إجمالا. وأما تفاصيلها فذاك أمر مفوض إلى معرفة معاذ، فترك ذكر الصوم والحج لا يضر، كما لا يضر، ترك تفاصيل الصلاة والزكاة -انتهى. وأجاب البلقيني بنحوه وبسط فيه ذكره الحافظ في الفتح، والسيوطي في حاشية النسائي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة وفي المظالم والمغازي والتوحيد، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضا الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي كلهم في الزكاة، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص233).

(11/15)


1788- قوله: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها) قال التوربشتي في شرح المصابيح: ذكر جنسين من المال: ثم قال لا يؤدي منها حقها، ذهابا إلى أن الضمير إلى معنى الذهب والفضة دون لفظهما لأن كل واحد منهما جملة وافية ودنانير ودراهم. ويحتمل أن يراد بها الأموال ويحتمل أنه أراد بها الفضة واكتفى يذكر أحدهما كقول القائل:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله……فإني وقيا ربها لغريب
إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما ردت أعيدت له

(11/16)


وبمثله ورد التنزيل قال الله تعالى: ?والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله?[التوبة:34] (صفحت) بضم الصاد وتشديد الفاء المكسورة أي جعلت الفضة ونحوها (له) أي لصاحبها (صفائح) أي كأمثال الألواح جمع صفيحة، وهي ما طبع عريضا. وقرئت مرفوعا على أنه مفعول ما لم يسم فاعله لقوله: "صفحت" ومنصوبا على أنه مفعول ثان، وفي الفعل ضمير الذهب والفضة، وأنث إما بالتأويل السابق، وإما على التطبيق بينه وبين المفعول الثاني الذي هو هو (من نار) أي يجعل الذهب والفضة صفائح من نار أي يجعل صفائح كأنها نار أو كأنها مأخوذة من نار يعني كأن صفائح الذهب والفضة لفرط احمائها وشدة حرارتها صفائح النار، فتكوى بها (فأحمي عليها) بصيغة المجهول، والجار والمجرور نائب الفاعل أي أوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد من قوله: نار حامية، ففيه مبالغة ليست في فأحميت في نار، قاله الطيبي: والضمير في "عليها" إلى الفضة، فالفاء تفسيرية. وقيل: الضمير إلى الصفائح النارية أي تحمى مرة ثانية (في نار جهنم) ليشتد حرها، فالفاء تعقيبية (فيكوى بها) أي بتلك الفضة أو بتلك الصفائح (جنبه وجبينه وظهره) قيل: خص هذه الأعضاء بالذكر من بين سائر الأعضاء، لأنها مجوفة فتسرع الحرارة إليها أو لأن الكي في الوجه أبشع وأشهر، وفي الظهر والجنب أوجع وآلم. وقيل: لأن جمعهم وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغني والتنعيم بالمطاعم الشهية والملابس البهية. وقيل: لأن السائل متى تعرض للطلب من البخيل أول ما يبدو منه من آثار الكراهة والمنع أنه يقطب في وجهه، ويتكلح ويجمع أساريره، فيتجعد جبينه، ثم إن كرر الطلب ناء بجانبه عنه ومال عن جبهته وتركه جانبا، فإن استمر الطلب ولاه ظهره واستقبل جهة أخرى وهي النهاية في الرد والغاية في المنع الدال على كراهيته للعطاء والبذل، وهذا دأب مانعي البر والإحسان، وعادة البخلاء بالرفد والعطاء، فلذلك خص هذه الأعضاء بالكي، قاله الجزري

(11/17)


في جامع الأصول (ج5 ص465) (كلما ردت) أي عن بدنه إلى النار (أعيدت) أي أشد ما كانت كما ترد الحديدة المحماة إلى الكور. ويخرج منه ساعة فساعة، قال الطيبي: أي كلما بردت ردت إلى نار جهنم ليحمى عليها، والمراد منه الاستمرار-انتهى. قلت: وقع في بعض نسخ مسلم: كلما بردت أعيدت. قال النووي: هكذا هو في بعض النسخ، بردت بالباء وفي بعضها ردت بحذف الباء وبضم الراء، وذكر القاضي الروايتين، وقال: الأولى هي الصواب، قال: والثانية رواية الجمهور- انتهى. وقال ابن الملك: يعني إذا وصل كي هذه الأعضاء من أولها إلى آخرها أعيد الكي إلى أولها حتى وصل إلى آخرها (له) أي لمانع الزكاة
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله! فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها،

(11/18)


(في يوم) وهو يوم القيامة (كان مقداره خمسين ألف سنة) أي على الكافرين، ويطول على بقية العاصين بقدر ذنوبهم. وأما المؤمنون الكاملون فهو على بعضهم كركعتي الفجر، وأشار إليه بقوله عزوجل: ?يوم عسير على الكافرين غير يسير?[المدثر: 9] (حتى يقضي) على بناء المفعول أي يحكم (فيرى سبيله) بصيغة المجهول من الرؤية والإراءة. وقوله "سبيله" مرفوع على الأول، ومنصوب على أنه مفعول ثان على الثاني. وروى أيضا "فيرى" بصيغة المعلوم من الرؤية أي هو سبيله. قال النووي: ضبطناه بضم ياء يرى وفتحها وبرفع لام "سبيله" ونصبها (إما إلى الجنة) إن لم يكن له ذنب سواه، وكان العذاب تكفيرا له (وإما إلى النار) إن كان على خلاف ذلك. قال القاري: وفيه رد على من يقول: إن الآية ?والذين يكنزون الذهب? الخ. مختصة بأهل الكتاب. ويؤيده القاعدة الأصولية: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع أنه لا دلالة في الحديث على خلوده في النار. وبهذا يعلم ضعف قول ابن حجر أيضا إما إلى الجنة إن كان مؤمنا بأن لم يستحل ترك الزكاة، وإما إلى النار إن كان كافرا بأن استحل تركها (قيل يا رسول الله فالإبل) أي هذا حكم النقود، فالإبل ما حكمها؟ أو عرفنا حكم النقدين فما حكم الإبل؟ فالفاء متصل بمحذوف (ولا صاحب إبل) بالرفع أي يوجد ويكون. وقيل: بالجر عطفا على قوله "من صاحب ذهب" والحاصل أنه ليس جوابا للسؤال لفظا لوجود الواو بل جواب له معنى (لا يؤدي) صفة أي لا يعطي صاحب الإبل (منها حقها) أي الواجب عليه فيها (ومن حقها) أي المندوب و"من" تبعيضية (حلبها) قال النووي: بفتح اللام على اللغة المشهورة وحكى إسكانها، وهو غريب ضعيف، وإن كان هو القياس (يوم وردها) بكسر الواو. وقيل: الورد الإتيان إلى الماء، ونوبة الإتيان إلى الماء، فإن الإبل تأتي الماء في كل ثلاثة أو أربعة، وربما تأتي في ثمانية. قال الجزري في جامع الأصول "يوم وردها" أي يوم ترد الماء فيسقى من لبنها من حضره

(11/19)


من المحتاجين إليه، وهذا على سبيل الندب والفضل لا الوجوب - انتهى. وإنما خص حالة وردها، لأنه حالة كثرة لبنها، ولأن الفقراء يحضرون هناك طلبا لذلك. وقال الطيبي: معناه أن يسقي ألبانها المارة ومن ينتاب المياه من أبناء السبيل. وقيل: أمر أن يحلبها صاحبها عند الماء ليصيب ذو والحاجة منه، وهذا مثل نهية عليه الصلاة والسلام عن الجذاذ بالليل، أراد أن يصوم بالنهار ليحضرها الفقراء- انتهى. قال ابن بطال: يريد حق الكرم والمواساة وشريف الأخلاق لا أن ذلك فرض، قال: وكانت

(11/20)


عادة العرب التصدق باللبن على الماء، فكان الضعفاء يرصدون ذلك منهم، قال: والحق حقان فرض عين وغيره، فالحلب من الحقوق التي هي من مكارم الأخلاق. وقال الإسماعيل القاضي: الحق المفترض هو الموصوف المحدود، وقد تحدث أمور لا تحد، فتجب المواساة للضرورة التي تنزل من ضعيف مضطر أو جائع أو عار أو ميت ليس له من يواريه فيجب حينئذ على من يمكنه المواساة التي تزول بها هذه الضرورات، قال ابن التين: وقيل: كان هذا قبل فرض الزكاة - انتهى. قال القاري: واعلم أن ذكره وقع استطرادا وبيانا لما ينبغي أن يعتني به من له مروأة لا لكون التعذيب، يترتب عليه أيضا لما هو مقرر من أن العذاب لا يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم، اللهم إلا أن يحمل على وقت القحط أو حالة الاضطرار أو على وجوب ضيافة المال، وهذا معنى ما قيل: إن حقها الأول أعم من الثاني. وقيل: أن التعذيب عليهما معا تغليظ - انتهى. كلام القاري. قلت: الحديث بظاهره دليل لمن يرى في المال حقوقا واجبة غير الزكاة خلافا للجمهور. وأجابوا عن ذلك بوجوه كما رأيت في كلام ابن بطال وابن التين والجزري والقاري. وقال الحافظ العراقي الظاهر أن قوله: "ومن حقها حلبها يوم وردها" مدرج من قول أبي هريرة، قال: وكأن أباداود أشار إلى ذلك في سننه من غير تصريح، فإنه لما ذكر هذه الزيادة روى بعدها من حديث أبي عمر الغداني عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو هذه القصة، فقال له يعني لأبي هريرة: فما حق الإبل؟ قال: تعطي الكريمة وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر وتطرق الفحل وتسقي اللبن. قال العراقي ففي هذه الرواية أن هذا من قول أبي هريرة، فإن قلت: ففي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها- الحديث. وفيه قلنا يا رسول الله! وما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنحتها، وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل لله, وذكر الحديث. وهذا

(11/21)


صريح في رفع هذا الكلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صراحة لا يحتمل معها الإدراج. قلت: قال العراقي: الظاهر أن هذه الزيادة ليست متصلة، وقد بين ذلك أبوالزبير في بعض طرق مسلم، فذكر الحديث دون الزيادة، ثم قال أبوالزبير: سمعت عبيد بم عمير يقول هذا القول، ثم سألنا جابر بن عبدالله، فقال مثل قول عبيد بن عمير: قال أبوالزبير، وسمعت عبيد بن عمير يقول قال رجل: يا رسول الله ما حق الإبل؟ قال: حلبها على الماء وإعارة دلوها، وإعارة فحلها ومنحتها وحمل عليها في سبيل الله. قال العراقي فقد تبين بهذه الطريق إن هذه الزيادة إنما سمعها أبوالزبير من عبيد بن عمير مرسلة، لا ذكر لجابر فيها- انتهى. قال ولد العراقي في شرح التقريب بعد ذكر ذلك: وبتقدير إن تصح هذه الزيادة مرفوعة فجواب الجمهور عنها من وجهين أحدهما أن ذلك منسوخ بآية الزكاة. وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر لما سأل عن هذه الآية إنما كان هذا
إنما إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا، تطؤه بأخفافها، وتعضده بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها

(11/22)


قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها طهورا للأمور الخ، ثانيهما أن هذا من الحق الزائد على الواجب ولا عقاب بتركه، وإنما ذكر استطرادا لما ذكر حقها بين الكمال فيه، وإن كان له أقل يزول الذم بفعله، وهو الزكاة. ويحتمل أن يكون ذلك من الحق الواجب إذا كان هناك مضطر إلى شرب لبنها. فيحمل الحديث على هذه الصورة - انتهى. (إلا إذا كان يوم القيامة) استثناء مفرغ من أعم الأحوال (بطح) على بناء المفعول أي طرح وألقى صاحب الإبل على وجهه (لها) أي لأجل تلك الإبل. قال النووي: قوله "بطح" قال جماعة: معناه ألقي على وجهه. قال القاضي: قد جاء في رواية للبخاري (في ترك الحيل) تخبط وجهه بأخفافها، قال: وهذا يقتضي أنه ليس من شرط البطح كونه على الوجه، وإنما هو في اللغة بمعنى البسط والمد، فقد يكون على وجهه، وقد يكون على ظهره، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها (بقاع) أي في أرض واسعة مستوية (قرقر) بقاف وراء مكررتين بفتح القافين وإسكان الراء الأولى أي أملس. وقيل: أي مستو واسع، فيكون صفة مؤكدة. قال الجزري: القاع المكان المستوي من الأرض الواسع، والقرقر الأملس. وقال النووي: القرقر المستوي من الأرض الواسع فهو بمعنى القاع فذكره بعده تأكيدا (أوفر ما كانت) أي أكثر عددا وأعظم سمنا وأقوى قوة، لأنها تكون عنده على حالات مختلفة، فتأتي على أكملها ليكون ذلك أنكى له لشدة ثقلها. في شرح السنة يريد كمال حال الإبل التي وطئت صاحبها في القوة والسمن ليكون أثقل لوطئها. قال الطيبي "أوفر" مضاف إلى " ما" المصدرية، والوقت مقدر وهو منصوب على الحال من المجرور في "لها" والعامل "بطح" وقوله (لا يفقد) أي الصاحب (منها) أي من الإبل (فصيلا) أي ولدا (واحدا) تأكيد، والجملة مؤكدة لقوله "أوفر" (تطؤه) حال أو استئناف بيان أي تدوسه الإبل (بأخفافها) جمع خف البعير أي بأرجلها، والخف من الإبل بمنزلة الظلف للغنم، والقدم للآدمي، والحافر للحمار والبغل والفرس.

(11/23)


والظلف بكسر الظاء للبقر والغنم والظباء. وكل حافر منشق فهو ظلف، وقد استعير الظلف للفرس (وتعضه) بفتح العين) (بأفواهها) أي بأسنانها (كلما مر عليه أولاها) أي أولى الإبل (رد عليه أخراها) كذا في جميع الأصول من صحيح مسلم من رواية زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة. كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها. قال عياض: قالوا هو تغيير وتصحيف، وصوله ما في الرواية التي بعده من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه "كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها)" وبهذا ينتظم الكلام، وكذا وقع في مسلم من حديث أبي ذر أيضا وأقره النووي على هذا، وحكاه القرطبي، وأوضع وجه الرد بأنه إنما يرد الأول الذي قد مر قبل، وأما الآخر فلم يمر بعد، فلا يقال: فيه، رد ثم أجاب بأنه يحتمل أن
أن في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله: إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله! فالبقرة والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئا، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله: إما إلى الجنة أو إلى النار.

(11/24)


المعنى أن أول الماشية إذا وصلت إلى آخرها تمشي عليه تلاحقت بها أخراها، ثم إذا أرادت الأولى الرجوع بدأت الأخرى بالرجوع فجاءت الأخرى أول حتى تنتهي إلى آخر الأولى، وكذا وجهه الطيبي، فقال: إن المعنى أولاها إذا مرت عليه التتابع إلى أن تنتهي إلى الأخرى، ثم ردت الأخرى من هذه الغاية، وتبعها ما كان يليها فما يليها إلى أن تنتهي أيضا إلى الأولى، حصل الغرض من التتابع والاستمرار - انتهى. فيكون الابتداء في المرة الأولى من الإبل الأولى، وفي الثانية من الأخرى. والحاصل أنه يحصل هذا مرة بعد أخرى (خمسين ألف سنة) أي على هذا المعذب. وإلا فقد جاء أنه يخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة، قاله السندي. وقيل: معناه لو حاسب فيه غير الله سبحانه (فالبقر والغنم) أي كيف حال صاحبها (لا يفقد منها) أي من ذواتها وصفاتها شيئا. وقال الطيبي: أي قرونها سليمة (ليس فيها عقصاء) بفتح العين المهملة وسكون القاف بعدها صاد مهملة ثم ألف ممدودة أي ملتوية القرنين، وإنما ذكرها، لأن العقصاء لا تؤلم بنطحها كما يؤلم غير العقصاء (ولا جلحاء) بجيم مفتوحة ثم لام ساكنة ثم حاء مهملة التي لا قرن لها (ولا عضباء) بفتح العين المهملة وسكون الضاد المعجمة المكسورة القرن، وقال النووي: التي انكسر قرنها الداخل، ونفي الثلاثة عبارة عن سلامة قرونها ليكون أجرح للمنطوح. وظاهر الحديث أن هذه الصفات فيها معدومة في العقبى، وإن كانت موجودة لها في الدنيا. وظاهر البعث أن يعيد الله تعالى الأشياء على ما كانت هي عليه في الدنيا، كما هو مفهوم من الكتاب والسنة، ولعله يخلقها كما كانت، ثم يعطيها القرون، ليكون سببا لعذاب من منع زكاتها على وجه الشدة (تنطحه) بكسر الطاء. ويجوز فتحها، والأول أفصح وهو المشهور في الرواية، كما قال العراقي أي تضربه وتطعنه بقرونها وفي القاموس نطحه كمنعه وضربه أصابه بقرنه فقوله (بقرونها) إما تأكيد وإما تجريد (بأظلافها) جمع

(11/25)


ظلف بكسر الظاء وهو للبقر والغنم والظباء، وهو المنشق من القوائم. وفي الحديث أن الله يحيي البهائم ليعاقب بها مانع الزكاة، وفي ذلك معاملة له بنقيض قصده، لأنه قصد منع حق الله منها، وهو الارتفاق والانتفاع بما يمنعه منها فكان ما قصد الانتفاع به أضر الأشياء عليه. والحكمة في كونها تعاد كلها مع أن حق الله فيها إنما هو في بعضها
قيل: يا رسول الله! فالخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما التي هي له وزر، فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأما التي هي له ستر: فرجل ربطها في سبيل الله،

(11/26)


لأن الحق في جميع المال غير متميز، ولأن المال لما لم تخرج زكاته غير؟ مطهر. وفيه دليل على وجوب الزكاة في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم. قال النووي: ولا خلاف في ذلك، وهذا الحديث أصح الأحاديث الواردة في زكاة البقر (قيل يا رسول الله فالخيل) أي ما حكمه (قال فالخيل الخ) قال الطيبي: جواب على أسلوب الحكيم وله توجيهان، فعلى مذهب الشافعي معناه: دع السؤال عن الوجوب، إذ ليس فيه حق واجب، ولكن أسأل عما يرجع من اقتناءها على صاحبها من المضرة والمنفعة، وعلى مذهب أبي حنيفة معناه: لا تسأل عما وجب فيه من الحقوق وحده، بل أسأل عنه وعما يتصل بها من المنفعة والمضرة إلى صاحبها. فإن قيل كيف يستدل بهذا الحديث على الوجوب؟ قلت: بعطف الرقاب على الظهور، لأن المراد بالرقاب الذوات إذ ليس في الرقاب منفعة للغير كما في الظهور، وبمفهوم الجواب الآتي في قوله عليه السلام: ما أنزل علي في الحمر شيء. وأجاب القاضي عنه بأن معنى قوله: ثم لم ينس حق الله في رقابها، أداء زكاة تجارتها- انتهى. وقيل: المراد بالحق في رقابها الإحسان إليها، والقيام بعلفها وسائر مؤنها. والمراد بظهورها إطراق فحلحا إذا طلب منه إعارته. وهذا على سبيل الندب. وقال ابن حجر أي فالخيل ما حكمها أيجب فيها زكاة فيعاقب تاركها لذلك أولا؟ فلا قال: فالخيل أحكامها ثلاثة أخرى أي غير ما مر، فلا زكاة فيها حتى يعاقب تاركها (ثلاثة) أي ربطها على ثلاثة أنحاء، قاله القاري (هي) أي الخيل (وزر) أي إثم وثقل (وهي لرجل ستر) بكسر السين أي لحاله في معيشيته لحفظة عن الاحتجاج إلى الخلق وصيانته عن السؤال (وهي لرجل أجر) أي ثواب عظيم. قال الطيبي: في قوله "فالخيل ثلاثة" فيه جمع وتفريق وتقسيم. أما الجمع فقوله ثلاثة، وأما التفريق فقوله (فأما التي هي له وزر فرجل) الظاهر. أن يقال: فخيل ربطها أو يقال وأما الذي له وزر فرجل. قلت: قال النووي: قوله فأما التي هي له وزر، هكذا هو في أكثر

(11/27)


نسخ صحيح مسلم، ووقع في بعضها "الذي" وهو أوضح وأظهر. وعلى النسخة المشهورة فالأظهر أن يكون التقدير فخيل رجل (ربطها رياء) أي ليرى الناس عظمته في ركوبه وحشمته (وفخرا) أي يفتخر باللسان على من دونه من أفراد الإنسان (ونواء) بكسر النون والمد أي معاداة؟، يقال: ناوأت الرجل مناوأة أي عاديته، والواو بمعنى أو، فإن هذه الأشياء قد تفترق في الأشخاص، وكل واحد منها مذموم على حدته (فهي) أي تلك الخيل (له وزر) أي على ذلك القصد، فهي جملة مؤكدة مشعرة باهتمام الشارع به، والتحذير عنه (وأما التي هي له ستر فرجل ربطها في سبيل الله) قال الطيبي: لم يرد به الجهاد، بل النية الصالحة، إذ يلزم التكرار، قال:
ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر، وأما التي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات،

(11/28)


ويعضده رواية غيره و"رجل ربطها تغنيا وتعففا) أي استغناء بها وتعففا عن السؤال، أو هو أن يطلب بنتاجها والغني أو يتردد عليها متاجرة ومزارعة، فتكون سترا له يحجبه عن الفاقة (ثم لم ينس حق الله في ظهورها) أي بالعارية للركوب أو الفعل (ولا رقابها) قال الطيبي: إما تأكيد وتتمة للظهور، وإما دليل على وجوب الزكاة فيها- انتهى. وقال الجزري في جامع الأصول (ج5 ص466- 467) أما حق ظهورها فهو أن يحمل عليها منقطعا، ويشهد له قوله في موضع آخر "وأن يفقر ظهرها" وأما حق رقابها فقيل أراد به الإحسان إليها (والقيام بعلفها وسائر مؤنها) وقيل: أراد به الحمل عليها فعبر بالرقبة عن الذات - انتهى. وأوله السندي بأن المراد لم ينس شكر الله لأجل إباحة ظهورها وتمليك رقابها، وذلك الشكر يتأدى بالعارية (فهي له ستر) أي حجاب يمنعه عن الحاجة للناس (ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام) فيه إشارة إلى أن المراد به الجهاد فإن نفعه متعد إلى أهل الإسلام (في مرج) بفتح الميم وسكون الراء آخره جيم أي مرعى. في النهاية هو الأرض الواسعة ذات نبات كثير يمرج فيها الدواب أي تسرح، والجار متعلق بـ"ربط" (وروضة) عطف تفسير أو الروضة أخص من المرعى وفي نسخة المصابيح بلفظ: أو، وكذا في مسلم. قال ابن الملك: شك من الراوي ذكره في المرقاة. وقال الولي العراقي: المرج الموضع الواسع الذي فيه نبات ترعاه الدوآب، سمي بذلك، لأنها تمرج فيه، أي تروح وتجيء وتذهب كيف شاءت. والروضة الموضع الذي يكثر فيه الماء، فيكون فيه صنوف النبات من رياحين البادية وغيرها، فالفرق بين المرج والروضة أن الأول معد لرعي الدواب، ولذلك يكون واسعا ليتأتى لها فيه ذلك، والروضة ليست معدة لرعي الدوآب، وإنما هي للتنزه بها لما فيها من أصناف النبات. هذا هو الذي يتحرر من كلام أهل اللغة، فصح عطف الروضة على المرج، وكذا وقع في صحيح مسلم عطف الروضة أولا بالواو وثانية بأو؟ والظاهر أن الواو أولا

(11/29)


بمعنى أو انتهى (فما أكلت) أي الخيل (من ذلك المرج) بيان مقدم (من شيء) أن من العلف أو الأزهار قل أو كثر (إلا كتب له عدد ما أكلت) أي الذي أكلته من العشب والذرع (حسنات) بالرفع نائب الفاعل ونصب عدد على نزع الخافض أي بعدد مأكولاتها. وقال الولي الراقي: برفع "عدد" لنيابته عن الفاعل، ونصب "حسنات" بالكسرة على التمييز. ويحتمل رفع قوله "حسنات" على أنه بدل من عدد أو عطف بيان. ويحتمل أن يكون هو النائب عن الفاعل، ويكون قوله "عدد"
وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، ولا تقطع طولها فاستنت شرفا أو شرفين إلا كتب الله له عدد آثارها وأرواثها حسنات، ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه، ولا يريد أن يسقيها، إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات. قيل: يا رسول الله! فالحمر؟ قال ما أنزل علي في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة ?فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره?.

(11/30)


ومنصوبا نصب المصدر العددي (وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات) لأن بها بقاء حياتها مع أن أصلها قبل الاستحالة غالبا من مال مالكها (ولا تقطع) أي الخيل (طولها) بكسر الطاء وفتح الواو. ويقال: طيلها بالياء، وكذا جاء في الموطأ. والطول والطيل حبلها الطويل الذي شد أحد طرفيه في يد الفرس والآخر في وتد أو غيره لتدور فيه وترعى من جوانبها، ولا تذهب لوجهها (فاستنت) بتشديد النون أي جرت بقوة من الاستنان، وهو الجري. قال القاري: أي عدت ومرجت ونشطت لمراحها (شرفا) بفتح الشين المعجمة والراء، هو العالي من الأرض. وقيل: المراد هنا طلقا أو طلقين، قاله النووي. وقال الجزري: الشرف الشوط والمدى (عدد آثارها) أي بعدد خطاها (أوراثها) أي في تلك الحالة، ولعله أراد بالروث هنا ما يشمل البول أو أسقطه للعلم به منه (على نهر) بفتح الهاء وسكونها (فشربت) أي الخيل (ولا يريد) أي والحال أن صاحبها لا ينوي (أن يسقيها) بفتح الياء وضمها (إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات) قال الطيبي: فيه مبالغة في اعتداد الثواب، لأنه إذا اعتبر ما تستقذرة النفوس وتنفر عنه الطباع فكيف بغيرها، وكذا إذا احتسب مالا نية له فيه، وقد ورد وإنما لكل امريء ما نوى، فما بال ما إذا قصد الاحتساب فيه، قال ابن الملك، فالحاصل أنه يجعل لمالكها بجميع حركاتها وسكناتها وفضلاتها حسنات. قال الحافظ: وفيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أصلها، وإن لم يقصد تلك التفاصيل (فالحمر) بضمتين جمع حمار أي ما حكمها (إلا هذه الآية) بالرفع (الفاذة) بالذال المعجمة المشددة أي المنفردة في معناها. وقيل: القليلة النظير. وقيل: النادرة الواحدة (الجامعة) أي العامة المتبناولة لكل خير ومعروف. قال ابن الملك: يعني ليس في القرآن آية مثلها في قلة الألفاظ وجمع معاني الخير والشر. قال الطيبي: سميت جامعة لاشتمال اسم الخير على جميع أنواع الطاعات فرائضها نوافلها،

(11/31)


واسم الشر على ما يقابلها من الكفر والمعاصي صغيرها وكبيرها: قال النووي وفيه إشارة إلى التمسك بالعموم. ومعنى ذلك أنه لم ينزل علي فيها نص بعينها، ولكن نزلت هذه الآية العامة (فمن يعمل مثقال ذرة) أي مقدار نملة أو ذرة من الهباء الطائر في الهواء (خيرا يره) أي يرى ثوابه وجزاءه (ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) فلو أعان أحدا على بر بركوبها يثاب، ولو استعان بركوبها على فعل معصية يعاقب
رواه مسلم.
1789-(3) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة،
(رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد في مواضع من مسنده مطولا ومختصرا، وأبوداود الطيالسي والبيهقي، ورواه البخاري وأبوداود والنسائي مختصرا. والحديث نسبه الجزري في جامع الأصول (ج5 ص296) للبخاري ومسلم والموطأ وأبي داود والنسائي، ونسبه المنذري في الترغيب للبخاري ومسلم. والظاهر أنهما أرادا بهذه النسبة أصل الحديث لا تفصيله وتمامه، فإنه لم يروه كاملا أحد من أصحاب الكتب الستة إلا مسلم. من أحب الوقوف على اختلاف الروايات وألفاظها رجع إلى جامع الأصول (ج5 ص296، 303).

(11/32)


1789- قوله: (من آتاه الله) بمد الهمزة أي أعطاه (مالا) قال الحافظ: المراد بالمال الناض (مثل) بضم الميم وتشديد المثلثة على صيغة المجهول أي صور وجعل (له ماله) أي الذي لم يؤد زكاته (شجاعا) بضم الشين ويكسر، منصوب على أنه مفعول ثان. وقال الطيبي: شجاعا نصب يجري مجرى المفعول، أي صور ماله شجاعا أو ضمن مثل معنى التصيير أي صير ماله على صورة شجاع. وقال البدر الدماميني: شجاعا منصوب على الحال، وهو الحية الذكر. وقيل: هو الحية مطلقا، وقيل: الذي يقوم على ذنبه ويواثب الفارس والراجل؟ وربما بلغ رأس الفارس، ويكون في الصحاري (أقرع) قال في جامع الأصول: الأقرع صفة الحية بطول العمر. وذلك أنه بطول عمره قد أمرق شعر رأسه فهو أخبث له وأشد شرا - انتهى، وقال في النهاية: هو الذي لا شعر له على رأسه يريد حية قد تمعط وذهب جلد رأسه لكثرة سمه وطول عمره، قال الأزهري في تهذيبه: سمي أقرع، لأنه يقري السم ويجمعه في رأسه حتى تتمعط فروة رأسه قال ذو الرمة:
قرى السم حتى أنمار فروة رأسه عن العظم صل قاتل اللسع ما رده
وقيل: هو الأبيض الرأس من كثرة السم، وكلما كثر سمه أبيض رأسه: وقيلي نوع من الحيات أقبح منظرا (له زبيبتان) ثنية زبيبة بزاي معجمة مفتوحة فموحدتين بينهما تحتية ساكنة، وهما الزبدتان اللتان في الشدقين، يقال: تكلم فلان حتى زبب شدقاه أي خرج الزبد عليهما. وقيل: هما النكتتان السوداء وإن فوق عينيه، وهو أو حش ما يكون من الحيات وأخبثه. وقيل: هما نقطتان يكتنفان فاه. وقيل: هما في حلقة بمنزلة زنمتعي العنز: وقيل: لحمتان على رأسه مثل القرنين. وقيل: نابان يخرجان من فيه (يطوقه) بفتح الواو المشددة, والضمير الذي"فيه" مفعوله الأول والضمير البارز مفعوله الثاني، وهو يرجع إلى من في قوله "من آتاه الله مالا" والضمير المستتر يرجع إلى

(11/33)


ثم يأخذ بلهزمتيه، يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا ?ولا يحسبن الذين يبخلون? الآية)).
الشجاع أي يجعل الشجاع طوقا في عنقه. وقيل: المعنى يطوق ذلك الرجل شجاعا قال القاري: وهو الموافق لقوله تعالى: ?سيطوقون ما بخلوا به?[آل عمران:180] (ثم يأخذ) أي الشجاع ذلك البخيل. قال الحافظ: فاعل يأخذ الشجاع والمأخوذ يد صاحب المال، كما وقع مبينا في رواية همام عن أبي هريرة الآتية في ترك الحيل (عند البخاري) بلفظ: لا يزال يطلبه حتى يبسط يده، فيلقمها فاه (بلهزمتيه) بكسر اللام وسكون الهاء بعدها زاى مكسورة ثم ميم بعدها فوقية، تنثية لهزمة، وفسرهما بقوله (يعني شدقية) بكسر الشين المعجمة وسكون الدال المهملة أي بطرفي فمه. قيل: ضمير "لهزمتيه" للشجاع، ويمكن أن يكون لصاحب المال. قال الطيبي اللهزمة اللحي وما يتصل به من الحنك، وفسر بالشدق وهو قريب منه -انتهى. وقال في الصحاح: هما العظمان الناتئان في اللحيين تحت الأذنين وفي الجامع: هما لحم الخدين الذي يتحرك إذا أكل الإنسان. وقيل: مضيغتان في أصل الحنك (ثم يقول) أي الشجاع المصور من المال (أنا مالك أنا كنزك) فائدة هذا القول: الحسرة والزيادة في التعذيب حيث لا ينفعه الندم. وفيه نوع من التهكم لمزيد غصته وهمه، لأنه شر أتاه من حيث كان يرجو خيرا، وزاد في رواية البخاري: يفر منه صاحبه ويطلبه. وفي حديث ثوبان عند ابن حبان: يتبعه فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيمضغها، ثم يتبعه سائر جسده. ولمسلم في حديث جابر: يتبع صاحبه ذهب وهو يفر منه، فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل. وللطبراني في حديث ابن مسعود: ينقر رأسه (ثم تلا) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي حديث ابن مسعود عند الشافعي والحميدي: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الآية ?ولا يحسبن الذين يبخلون? بالغيب في "يحسبن" أسنده إلى

(11/34)


الذين، وقدر مفعولا دل عليه "يبخلون" أي لا يحسبن الباخلون بخلهم خيرا لهم، وفي رواية: ولا تحسبن بالخطاب، وهي قراءة حمزة، أسند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقدر مضافا أي لا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم، فبخل وخير مفعولان. وفي حديث ابن مسعود عند الترمذي: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقه: سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة. قال الحافظ: في هذين الحديثين تقوية لقول من قال المراد بالتطويق في الآية الحقيقة، خلافا لمن قال إن معناه سيطوقون الإثم. وفي تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية عقب ذلك دلالة على أن الآية نزلت في مانعي الزكاة، وهو قول أكثر أهل العلم بالتفسير، وقيل: إنها نزلت في اليهود الذين كتموا صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: نزلت فيمن له قرابة لا يصلهم، قاله مسروق -انتهى (الآية) أي بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة. قال السندي: ظاهر قوله: " ما بخلوا به" أنه يجعل قدر الزكاة طوقا له، لأنه الذي بخل به.
رواه البخاري
1790- (4) وعن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما من رجل يكون له إبل أو بقر
أو غنم لا يؤدي حقها، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه، تطأه بأخفافها،

(11/35)


وظاهر الحديث أنه الكل. ويمكن أن يقال المراد في القرآن ما بخلوا بزكاته وهو كل المال، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ثم لا تنافي بين هذا وبين قوله تعالى: ?والذين يكنزون الذهب والفضة?[ الآية التوبة:34] إذ يمكن أن يجعل بعض أنواع المال طوقا، وبعضها يحمى عليه في نار جهنم، أو يعذب حينا بهذه الصفة وحينا بتلك الصفة، والله أعلم - انتهى. وقال الحافظ: المراد بالمال (أي في الحديث) الناض. ولا تنافي بين روايتي أبي هريرة يعني هذه الرواية التي نحن في شرحها، والرواية السابقة بلفظ: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه الخ. لإحتمال إجتماع الأمرين معا، فهذه الرواية توافق الآية التي ذكرها، وهي سيطوقون، والرواية السابقة توافق قوله تعالى: ?يوم يحمى عليها في نار جهنم?[ الآية- التوبة:35] وقال العيني: في الحديث ما يدل على قلب الأعيان، وذلك في قدرة الله تعالى بين لا ينكر. وفيه أن لفظ ما لا بعمومه يتناول الذهب والفضة وغيرهما من الأموال الزكوية (رواه البخاري) في الزكاة والتفسير وترك الحيل، وأخرجه أيضا مالك والنسائي وابن حبان والبيهقي (ج4:ص81) ولكن وقفه مالك على أبي هريرة ولم يرفعه. وهذا الحديث جعله أبوالعباس الطرقي والذي قبله حديثا واحدا ولا يخفى ما فيه. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب، ثم قال رواه البخاري والنسائي ومسلم، وقد وهم في نسبته لصحيح مسلم فإنه لم يروه بذلك، وقد نقله ابن كثير في التفسير عن البخاري، وقال تفرد به البخاري دون مسلم. وفي الباب عن ابن مسعود عند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وسيأتي، وعن جابر عند أحمد ومسلم والنسائي، وعن ابن عمر عند أحمد والنسائي، وعن ثوبان عند البزار والطبراني وابن خزيمة وابن حبان.

(11/36)


1790- قوله: (ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم) أو للتقسيم (لا يؤدي حقها) هذا لفظ البخاري. وفي رواية مسلم: لا يؤدي زكاتها (إلا أتى بها) بضم الهمزة على صيغة المجهول (أعظم ما تكون) بالتأنيث. "وأعظم" بالنصب على الحال "وما" مصدرية (وأسمنه) عطف على المنصوب السابق، والضمير راجع إلى لفظ ما (تطأه بأخفافها) أي تدوسه ذوات الأخفاف بأرجلها، وهذا راجع للإبل، لأن الخف مخصوص بها، كما أن الظلف مخصوص بالبقر والغنم والظباء والحافر يختص بالفرس والبغل والحمار، والقدم للآدمي
وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها ردت عليه أولها، حتى يقضي بين الناس)). متفق عليه.
1791- (5) وعن جرير بن عبدالله، قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم المصدق، فليصدر عنكم وهو عنكم راض)).
(تنطحه) بكسر الطاء وتفتح أي تضربه ذوات القرون (بقرونها) فالضمير في كل قسم عائد على بعض الجملة لا على الكل، والخف للإبل، والقرون للبقر والغنم، كما أن الظلف لهما، وقيل: قوله "تنطحه بقرونها" راجع للبقر (كلما جازت) بالجيم والزاي أي مرت (ردت) بضم الراء مبنيا للمفعول أي أعيدت (عليه) أي على الرجل يعني فهو معاقب بذلك (حتى يقضي بين الناس) أي إلى أن يفرغ الحساب (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص97) وغيرهم.

(11/37)


1791- قوله: (إذا أتاكم المصدق) بكسر الدال المشددة مع تخفيف الصاد أي آخذ الصدقة، وهو الساعي العامل وأما المصدق بتشديد الصاد فهو دافع الصدقة أي معطيها، وهو رب المال (فليصدر عنكم) بضم الدال أي يرجع (وهو عنكم راض) الجملة حال. وفي رواية الترمذي والبيهقي: فلا يفارقنكم إلا عن رضى. وفي رواية ابن ماجه: لا يرجع المصدق إلا عن رضا، قال الطيبي: ذكر المسبب وأراد السبب، لأنه أمر للعامل، وفي الحقيقة أمر للمزكي. والمعنى تلقوه بالترحيب وأداء زكاة أموالكم تامة ليرجع عنكم راضيا، وإنما عدل إلى هذه الصفة مبالغة في استرضاء المصدق وإن ظلم كما سيجيئ - انتهى. وقال البيهقي في سننه (ج4:ص137): قال الشافعي، يعني والله أعلم أن يوفوه طائعين ولا يلووه لا أن يعطوه لا أن يعطوه من أموالهم ما ليس عليهم فبهذا يأمرهم ويأمر المصدق. قال البيهقي: وهذا الذي قاله الشافعي محتمل، لولا ما في رواية أبي داود من الزيادة، وهي قالوا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و إن ظلمونا، قال: أرضوا مصدقيكم وإن ظلمتم، ففي هذا كالدلالة على أنه رأى الصبر على تعديهم - انتهى. قال عياض: فيه الحض على طاعة الأمراء وترك مخالفتهم، وكل ذلك حض على الألفة وإجتماع الكلمة التي جعلها الله سبحانه وتعالى أصلا لصلاح الكافة وعمارة ونظام أمر الدنيا والآخرة. وقال النووي: مقصود الحديث الوصاة بالسعادة وطاعة ولاة الأمور وملاطفتهم وجمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات البين، وهذا كله مالم يطلب جورا، فإذا طلب جورا فلا موافقة له ولا طاعة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس في صحيح البخاري: فمن سألها على وجهها فليعطها ومن سئل فوقها فلا يعط -انتهى. وقال السندي: أي لا يرجع عامل الصدقة إلا عن رضى بأن تلقوه بالترحيب وتودوا إليه الزكاة طائعين، ولم يرد أن تعطوه الزائد على الواجب لحديث: من سأل فوقها فلا يعطي أي فوق الواجب. وقيل: لا يعطي أصلا لأنه الغزل

(11/38)


بالجور-انتهى. وسيأتي رواية
رواه مسلم.
1792- (6) وعن عبدالله بن أبي أوفى، قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: ((اللهم صلى على آل فلان. فأتاه أبى بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى)).
أبي داود التي أشار إليها البيهقي من حديث جرير في الفصل الثاني من هذا الباب، ورواية البخاري من حديث أنس الذي ذكره النووي والسندي في الفصل الأول من "باب ما يجب فيه الزكاة" ويأتي هناك وجه الجمع بين الروايتين (رواه مسلم) في آخر الزكاة وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص360-364) والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص136).

(11/39)


1792- قوله: (وعن عبدالله بن أبي أوفى) بفتح الهمزة وسكون الواو وفتح الفاء مقصورا، قد تقدم ترجمة عبدالله، وأما والده أبوأوفى فهو علقمة بن خالد بن الحرث الأسلمي، مشهور بكنيته، شهد هو وابنه عبدالله بيعة الرضوان تحت الشجرة، وعمر عبدالله إلى أن كان آخر من مات من الصحابة بالكوفة، وذلك سنة سبع وثمانين (إذا أتاه قوم بصدقتهم) أي بزكاة أموالهم (اللهم صلى على آل فلان) أي اغفر له وارحمه. قال العيني: كذا في رواية الأكثريين. وفي رواية أبي ذر: صل على فلان -انتهى. والمعنى واحد. لأن الآل يطلق على ذات الشئ. وقيل: لفظ الآل مقحم يدل عليه الرواية الآتية (فأتاه أبى) أبوأوفى (على آل أبى أوفى) يريد أباأوفى نفسه، لأن الآل يطلق على ذات الشيء كقوله في قصة أبي موسى: لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود، يريد داود نفسه. وقيل: لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر. وقال القاري: الظاهر أن الآل مقحم يدل عليه الرواية الآتية: اللهم صلى عليه، أو المراد هو وأهل بيته فيعم الدعاء، لأنه إذا دعى لآله لأجله، فهو يستحق الدعاء بطريق الأولى -انتهى. وهذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم امتثال لقوله تعالى: ?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلى عليهم إن صلاتك سكن لهم?[ التوبة:103] فإنه أمره الله بالصلاة عليهم ففعلها بلفظها حيث قال: اللهم صل على آل أبى أوفى. ولفظ الصلاة: بحتم، بل غيره من الدعاء ينزل منزلته، مثل أن يقول آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، أو يقول اللهم أغفرله وتقبل منه ونحو ذلك. والدليل عليه ما رواه النسائي والبيهقي من حديث وائل بن حجر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة: اللهم بارك فيه وفي إبله. وفي الحديث دليل على أنه يستحب الدعاء عند أخذ الصدقة لمعطيها. وقال بعض أهل الظاهر: بوجوب ذلك على الإمام، وحكاه أبوعبدالله الحناطي بالحاء المهملة وجها لبعض الشافعية. وكأنهم

(11/40)


أخذوه من الأمر في الآية. وأجيب بأنه لو كان واجبا لعلمه النبي صلى الله عليه وسلم السعى ولم ينقل. وفيه أن وجوب الدعاء كان معلوما لهم من الآية الكريمة،
فلم يكن حاجة إلى تعليم الدعاء والأمر به وأجاب الجمهور أيضا بأن سائر ما يأخذه الإمام من الكفارات والديون وغيرهما لا يجب عليه فيها الدعاء، فكذلك الزكاة، وبأن ذلك لا يجب على الفقير المدفوع إليه، فالنائب أولى. وأما الآية فيحتمل أن يكون الوجوب خاصا به لكون صلاته سكنا لهم بخلاف غيره. واستدل بالحديث على جواز الصلاة على غير الأنبياء استقلالا، وأنه يدعو آخذ الصدقة للمتصدق بهذا الدعاء، وهو قول أحمد، قالوا والصلاة ههنا بمعنى الدعاء والتبريك لا بمعنى التعظيم والتكريم. وكره مالك والشافعي وأبوحنيفة، قالوا لا يصلي على غير الأنبياء استقلالا، ولكن يصلي عليهم تبعا. وأجابوا عن هذا الحديث بأن هذا حقه عليه الصلاة والسلام له أن يعطه لمن شاء، وليس لغيره ذلك. وقال في اللمعات: هذه الصلاة غير ما يصلي به على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو بمعنى الترحم والتعطف والترحيب لا على وجه التعظيم والتكريم أخذا من قوله تعالى: ?وصل عليهم? [التوبة:103] وقيل: لا يجوز الدعاء بلفظ الصلاة على أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم ولمن سواه من الأئمة أن يدعوا عند أخذ الصدقة بمضمونه وبمعناه لا بلفظ الصلاة – انتهى. قلت: ومال البخاري إلى الجواز مطلقا حيث بوب في جامعه الصحيح. باب هل يصلي على غير النبي صلى الله عليه وسلم، وصدر بالآية وهي قوله تعالى: ?وصل عليهم? ثم أورد الحديث الدال على الجواز مطلقا، وهو حديث عبدالله بن أبي أوفى، وعقبه بالحديث الدال على الجواز تبعا.قال الحافظ: قوله له يصلي على غير النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ أي استقلالا أو تبعا، ويدخل في الغير الأنبياء والملائكة والمؤمنون. فأما مسألة الأنبياء فورد فيها أحاديث: أحدها حديث علي في الدعاء بحفظ

(11/41)


القرآن، ففيه وصل علي وعلى سائر النبيين، أخرجه الترمذي والحاكم، وحديث بريدة رفعه: لا تتركن في التشهد الصلاة علي وعلى أنبياء الله، الحديث أخرجه البيهقي بسند واه، وحديث أبي هريرة رفعه: صلوا على أنبياء الله، الحديث أخرجه إسماعيل القاضي بسند ضعيف، وحديث ابن عباس رفعه: إذا صليتم علي فصلوا على أنبياء الله، فإن الله بعثهم كما بعثني، أخرجه الطبراني، وسنده ضعيف أيضا. وقد ثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه، قال: ما أعلم الصلاة تنبغي علي أحد إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا سند صحيح: وحكي القول به عن مالك، وقال ما تعبدنا به، وجاء نحوه عن عمر بن عبدالعزيز، وعن مالك يكره. وقال عياض: عامة أهل العلم على الجواز. وقال سفيان: يكره أن يصلي إلا على نبي. ووجدت بحظ بعض شيوخي مذهب مالك لا يجوز أن يصلي إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال أكره الصلاة على غير الأنبياء، وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به، وخالفه يحيى بن يحيى فقال لا بأس به، واحتج بأن الصلاة دعا بالرحمة فلا يمنع إلا بالنص أو إجماع. قال عياض: والذي أميل إليه قول مالك وسفيان وهو قول المحققين من المتكلمين والفقهاء، قالوا يذكر غير الأنبياء بالرضاء والغفران، والصلاة على غير الأنبياء يعني

(11/42)


استقلالا لم تكن من الأمر المعروف، وإنما أحدثت في دولة بني هاشم وأما الملائكة فلا أعرف فيه حديثا نصا، وإنما يؤخذ ذلك من الذي قبله إن ثبت، لأن الله تعالى سماهم رسلا. وأما المؤمنون فاختلف فيه، فقيل لا تجوز إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وحكي عن مالك كما تقدم. وقالت طائفة. لا تجوز مطلقا استقلالا، وتجوز تبعا فيما ورد به النص. أو الحق به لقوله تعالى: ?لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا? [ الفرقان:63] ولأنه لما علمهم السلام. قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ولما علمهم الصلاة قصر ذلك عليه و على أهل بيته، وهذا القول اختاره القرطبي في المفهم وأبوالمعالى من الحنابلة، وهو اختيار ابن تيمية من المتأخرين. وقالت: طائفة تجوز تبعا مطلقا، ولا تجوز استقلالا، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة. وقالت طائفة: تكره استقلالا لا تبعا، وهي رواية عن أحمد. وقال النووي: هو خلاف الأولى. وقالت طائفة: تجوز مطلقا، وهو مقتضي صنيع للبخاري (كما تقدم تقريره) ووقع مثل حديث ابن أبي أوفى عن قيس بن سعد بن عبادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه وهو يقول: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة، أخرجه أبوداود والنسائي، وسنده جيد، وفي حديث جابر أن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : صل علي وعلى زوجي. ففعل، أخرجه أحمد مطولا ومختصرا، وصححه ابن حبان. وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد، ونص عليه أحمد في رواية أبي داود، وبه قال إسحاق وأبوثور وداود والطبري، واحتجوا بقوله تعالى: ?هو الذي يصلي عليكم وملائكته? [الأحزاب:43] وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: إن الملائكة تقول لروح المؤمن صلى الله عليك وعلى جسدك. وأجاب المانعون عن ذلك كله بأن ذلك صدر من الله ورسوله، ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا، وليس ذلك لأحد غيرهما. قال الحافظ: والحجة فيه أنه صار شعار للنبي - صلى الله

(11/43)


عليه وسلم -، فلا يشاركه غيره فيه فلا يقال قال أبوبكر - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان معناه صحيحا. ويقال: صلى الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى خليفته. و نحو ذلك وقريب من هذا أنه لا يقال محمد عزوجل، وإن كان معناه صحيحا، لأن هذا الثناء صار شعارا لله سبحانه، فلا يشاركه غيره فيه. ولا حجة لمن أجاز ذلك منفرد محتجا بقوله تعالى: ?وصل عليهم? [التوبة:103] وبقوله: - صلى الله عليه وسلم - " اللهم صلى على آل أبى أوفى" وبقول امرأة جابر: "صل علي وعلى زوجي" فقال: صل عليهما، فإن ذلك كله صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء لمن شاء، وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه، ولم يثبت عنه إذن في ذلك. ويقوي المنع بأن الصلاة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - صار شعارا لأهل الاهواء، يصلون على من يعظمونه من أهل البيت وغيرهم، وهل المنع في ذلك حرام أو مكروه أو خلاف الأولى؟ حكي الأوجه الثلاثة النووي في الأذكار، وصحح الثاني. وقد روى إسماعيل بن إسحاق في أحكام القرآن بإسناد حسن عن عمر بن عبدالعزيز أنه كتب: أما بعد وإن ناسا من القصاص أحدثوا في الصلاة على خلفاءهم وأمراءهم عدل الصلاة على النبي. فإذا جاءك
متفق عليه. وفي رواية إذا أتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته، قال: اللهم صلى عليه.
1793- (7) وعن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة،

(11/44)


كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين ودعاءهم للمسلمين ويدعوا ما سوى ذلك، ثم أخرج عن ابن عباس بإسناد صحيح، قال: لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن للمسلمين والمسلمات الاستغفار- انتهى. وقال البيهقي: يحمل قول ابن عباس بالمنع إذا كان على وجه التعظيم لا ما إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة. وقال ابن القيم: المختار أن يصلي على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله وذريته وأهل الطاعة على سبيل الإجمال، وتكره في غير الأنبياء لشخص مفرد بحيث يصير شعارا ولاسيما إذا ترك في حق مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة، فلو اتفق وقوع ذلك مفردا في بعض الأحايين من غير أن يتخذ شعارا لم يكن به بأس- انتهى. تنبيه: اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي، فقيل: يشرع مطلقا. وقيل: بل تبعا ولا يفرد لواحد لكونه صار شعارا للرافضة، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني، كذا في الفتح (متفق عليه) أخرجه البخاري في الزكاة والمغازي والدعوات، ومسلم في الزكاة، وأخرجه أيضا أحمد (ج4:ص353-354-355) وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4:ص157) (وفي رواية) هذه الرواية من أفراد البخاري أوردها في باب هل يصلي على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الدعوات (اللهم صل عليه) تمامه: وأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى.

(11/45)


1793- قوله: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر) أي أرسله ساعيا وعاملا (على الصدقة) أي الواجبة يعني الزكاة المفروضة، لأنها المعهودة بانصراف الألف واللام إليها، ولأن البعث إنما يكون على الصدقات المفروضة. وقال ابن القصار المالكي: الأليق أنها صدقة التطوع، لأنه لا يظن بهؤلاء الصحابة أنهم منعوا الفرض، وعلى هذا فعذر خالد واضح، لأنه أخرج ماله في سبيل الله، فما بقي له مال يحتمل المواساة بصدقة التطوع، ويكون ابن جميل شح بصدقة التطوع فعتب عليه. وقال في العباس: هي على ومثلها معها أي أنه لا يمتنع إذا طلبت منه. وتعقب بأنهم ما منعوه كلهم جحدا ولا عنادا. أما ابن جميل فقد قيل: إنه كان منافقا ثم تاب بعد ذلك، كما حكاه المهلب. قيل: وفيه نزلت: ?وما نقموا? – [البروج: 8] الآية إلى قوله: ?فإن يتوبوا يك خيرا لهم?-[التوبة: 74] فقال: استتاب نبي الله فتاب وصلح حاله، والمشهور نزولها في غيره. وأما خالد فكان متنأولا بأجزاء ما حبسه عن الزكاة، وكذلك العباس لاعتقاده ما سيأتي التصريح به، ولهذا عذر النبي - صلى الله عليه وسلم - خالدا والعباس، ولم يعذر ابن جميل. قال القسطلاني أخذا عن ابن دقيق العيد: فالظاهر أنها الصدقة الواجبة لتعريف الصدقة باللام
فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله ورسوله،?

(11/46)


العهدية. وقال النووي: إنه الصحيح المشهور. ويؤيده قوله: "بعث عمر على الصدقة" فهو مشعر بأنها صدقة الفرض، لأن صدقة التطوع لا تبعث عليها السعاة - انتهى. (فقيل) القائل هو عمر رضي الله عنه، لأنه هو المرسل. ويؤيده رواية الدارقطني من حديث ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عمر ساعيا، فأتى العباس فأغلط له، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله- الحديث. (منع ابن جميل) بفتح الجيم وكسر الميم، قال ابن مندة: لم يعرف اسمه، ومنهم من سماه حميدا. وقيل: اسمه عبدالله، وذكره الذهبي في تجريده (ج2 ص225) فيمن عرف بأبيه ولم يسم. وقال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه في كتب الحديث (وخالد بن الوليد) بالرفع عطف على ابن جميل، وهو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم القرشي، أبو سليمان سيف الله، وأمه لبابة الصغرى أخت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وكان إليه أعنة الخيل في الجاهلية، وشهد مع كفار قريش الحروب إلى عمرة الحديبية والفتح، وشهد مؤته، ويومئذ سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيف الله، وشهد الفتح وحنينا. واختلف في شهوده خيبر، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنه ابن خالته ابن عباس وجابر بن عبدالله والمقدام بن معديكرب وغيرهم. استعمله أبوبكر على قتال أهل الردة ومسليمة، ثم وجهه إلى العراق ثم إلى الشام، وهو أحد أمراء الأجناد الذين ولوا فتح دمشق. قال الزبير بن بكار: كان ميمون النقيبة، ولما هاجر لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوليه الخيل، ويكون في مقدمته. وقال ابن سعد: كان يشبه عمر في خلقته وصفته. ولما نزل الحيرة قيل له: أحذر السم لا تسقيكه الأعاجم، فقال: ائتوني به فأخذه بيده. وقال:بسم الله وشربه، فلم يضره شيئا. قال ابن سعد وابن نمير: مات بحمص سنة (21)، وقال دحيم. وغيره. مات

(11/47)


بالمدينة. وقيل: مات سنة (22) ويروى أنه لما حضرته الوفاة بكى. وقال: لقيت كذا وكذا زحفا. وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء. (والعباس) بالرفع عطفا على وخالد. ووقع في رواية أبي عبيد (ص592) منع ابن جميل وخالد والعباس أن يتصدقوا، وهو مقدر ههنا لأن منع يستدعى مفعولا أي منع هؤلاء التصدق يعني إعطاء الزكاة (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بيان لوجه امتناع هؤلاء من الإعطاء، فلذلك ذكره بالفاء (ما ينتقم ابن جميل) بكسر القاف من باب ضرب ما ينكر الزكاة (إلا أنه) أي لأجل أنه (أنه كان فقيرا فأغناه الله ورسوله) فجعل نعمة الله، وهو كونه أغناه الله بعد فقره سببا لكفرها، مع أنه لا يصلح أن يكون علة لكفران النعمة، بل هو موجب للشكر، فعكس
وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، قد احتبس أدراعه وأعتده
وجعلها موجبة للكفران، فاستحق كل الذم. وفي هذا قول الشاعر:
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إذا غضبوا

(11/48)


أو ما ينقم أي ما يكره شيئا إلا أغناء الله، وهذا مما لا يكره أو ما ينكر شيئا إلا كون الله أغناه بعد فقره، وهذا ليس بمنكر، فكأنه لم ينكر منكرا أصلا. يقال: نقمت منه كذا أنقم بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل إذا عتبه وأنكرته عليه وكرهته، وكذلك نقمت بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل. وقيل: ينقم بكسر قاف أفصح من فتحها قال في النهاية: ويقال: نقم من فلان الإحسان إذا جعل إحسانه مما يؤيديه إلى كفر النعمة أي أواه غناه إلى أن كفر نعمة الله، فما ينقم شيئا في منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة. قال التوربشتي: وهذا الذي قاله صحيح، لأنه قول القائل لمن أساء إليه بعد أن أحسن هو إليه ما عبت علي إلا الإحسان إليك، تعريض بكفران النعمة، وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان، وإنما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه عند المنة عليه، لأنه كان سبا لدخوله في الإسلام، فأصبح غنيا بعد فقره بما أفاءه الله على رسوله، وبما أباح لأمته من الغنائم ببركته- انتهى. وقال الكرماني: الاستثناء مفرغ. ومحل أن وصلتها نصب على المفعول به أو على أنه مفعول لأجله، والمفعول به حينئذ محذوف أي ليس ثمة شيء ينقم له ابن جميل يوجب منع الزكاة إلا أغناه الله، وليس بموجب للمنع، فلا موجب له أصلا، وهذا مما تقصد العرب في مثله تأكيد النفي والمبالغة فيه بإثبات شيء، وذلك الشيء لا يقتضي إثباته، فهو منتف أبدا، ويسمى مثل ذلك عند البيانين تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس، فمن الأول قول الشاعر:
ولأعيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

(11/49)


لأنه إذا لم يكن فيهم عيب إلا هذا. وهذا ليس بعيب فلا عيب فيهم. ومن الثاني هذا الحديث وشبهه أي ما ينقم ابن جميل شيئا إلا كون الله أغناه بعد فقره، وهذا مما لا ينقم فليس ثمة شيء ينقم أو فلم ينكر منكرا أصلا، فينبغي له أن يعطي مما أعطاه الله ولا يكفر بالنعمة (وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا) عبر بالظاهر دون أن يقول تظلمونه بالضمير على الأصل تفخيما لشأنه وتعظيما لأمره، نحو ?وما أدراك ما الحاقة?- [الحاقة: 3] والمعنى تظلمونه بطلبكم منه زكاة ما عنده، فإنه (قد احتبس) أي وقف (أدراعه) بمهملات جمع درع بكسر الدال، وهي الزردية (وأعتده) بضم المثناة جمع عتد بفتحتين. وفي مسلم: أعتاده بزيادة الألف بعد التاء، وهو أيضا جمعه. وقال النووي: واحده عتاد بفتح العين. وقال الجزري: الأعتد والأعتاد جمع عتاد وهو ما أعده الرجل من السلاح والدواب وآلات الحرب. ويجمع على أعتده (بكسر التاء) أيضا. وقيل: هو الخيل خاصة، يقال: فرس عتيد أي صلب أو معد
في سبيل الله فهي على ومثلها معها،

(11/50)


للركوب أو سريع الوثوب (في سبيل الله) قصة خالد تؤول على وجوه: أحدها أنهم طالبوا خالدا بالزكاة عن أثمان الأعتاد والأدراع بظن أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاة فيها علي، فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن خالدا منع الزكاة، فقال: إنكم تظلمونه، لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله قبل الحول، فلا زكاة فيها، فيكون فيه حجة لمن أسقط الزكاة عن الأموال المحبسة ولمن أوجبها في عروض التجارة، ولمن جوز احتباس آلات الحروب من الدروع والسيوف والجحف، وقد يدخل فيها الخيل والإبل، لأنها كلها عتاد للجهاد، وعلى قياس ذلك الثياب والبسط والفرش ونحوها من الأشياء التي ينتفع بها مع بقاء أعيانها، ولمن جوز صحة الوقف والحبس من غير إخراج من يد الواقف، وذلك أن الشيء لو لم يكن في يده لم يكن لمطالبته بالزكاة عنه معنى، وثانيها، أنه قد اعتذر لخالد ودافع عنه. وأراد أن يمنع الزكاة إن وجبت عليه، لأنه قد جعل أدراعه وأعتاده في سبيل الله تبررا وتبرعا وتقربا إليه تعالى، وذلك غير واجب عليه، فكيف يجوز عليه منع الصدقة الواجبة، فإذا أخبر بعدم الوجوب أو منع فيصدق في قوله ويعتمد على فعله. وقيل: المعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل قول من أخبره بمنع خالد حملا على أنه لم يصرح بالمنع، وإنما نقلوه بناء على ما فهموه، ويكون قوله: "تظلمونه" أي بنسبتكم إياه إلى المنع، وهو لم يمنع، وكيف يمنع الفرض، وقد تطوع بتحبيس سلاحه وخيله، وثالثها، أنه أجاز لخالد أن يحتسب ما حبسه في سبيل الله فيما يجب عليه من الزكاة التي أمر بقبضها منه، وذلك لأن أحد الأصناف الثمانية سبيل الله، وهم المجاهدون، فصرفها في الحال كصرفها في المآل فيكون فيه حجة لمن جوز صرف الزكاة إلى صنف واحد من الثمانية، وهو قول كافة العلماء، خلافا للشافعي، ولمن قال بجواز إخراج القيم في الزكاة كالحنفية، وقد أدخل البخاري هذا الحديث في باب أخذ العروض في

(11/51)


الزكاة، فيدل على أنه ذهب إلى هذا التأويل. وتعقب ابن دقيق العيد جميع ما يتفرع على التأويل الأول والثالث بأن القصة واقعة عين محتملة لما ذكر ولغيره، فلا ينهض الاستدلال بها على شئ مما ذكر، قال: ويحتمل أن يكون تحبيس خالد لأدراعه وأعتاده في سبيل الله إرصاده إياها لذلك وعدم تصرفه بها في غير ذلك، وهذا النوع حبس وإن لم يكن تحبيسا أي وقفا. ولا يبعد أن يراد مثل ذلك بهذا اللفظ، فلا يتعين الاستدلال بذلك لما ذكر، فإنه استدلال بأمر محتمل غير متعين لما ادعى (فهي) أي صدقة العباس (علي) أي أنا ضامن مكتفل عنه، وإلا فالصدقة عليه حرام (ومثلها معها) أي مثل تلك الصدقة في كونها فريضة عام آخر لا في الأسان والمقادير، فإن ذلك يتغير بزيادة المال ونقصانه، ولا يعرف ذلك إلا بعد دخول عام آخر. قيل: معناه أنه أخر عنه زكاة عامين لحاجة بالعباس وتكفل بها عنه. قال الجزري في جامع الأصول (ج5:ص470) معناه أنه أوجبها عليه وضمنه إياها ولم يقبضها، وكانت دينا على العباس، لأنه رأى به حاجة

(11/52)


إلى ذلك. وقال أبوعبيد: أرى – والله أعلم – أنه كان أخر عنه الصدقة عامين من أجل حاجة العباس، فإنه يجوز للإمام أن يؤخرها إذا كان ذلك على وجه النظر ثم يأخذها بعد كالذي فعله عمر في عام الرمادة، فلما أحيى الناس في العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين. قال التوربشتي: ويخرج معنى قوله "فهي على ومثلها معها" على هذا التأويل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا القول على صيغة التكفل بما يتوجه عليه من صدقة عامين، وهو تأويل حسن – انتهى. وقال في اللمعات: استمهل العباس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك عامين لحاجة كانت له فأمهله، ويجوز للإمام أن يؤخرها إذا كان لوجه النظر ثم يأخذها وقيل: معناه أنه - صلى الله عليه وسلم - التزم بإخراج ذلك عنه، ويرجحه قوله: إن عم الرجل صنو أبيه أي مثله، ففي هذا اللفظة إشعار بذلك، فإن كونه صنوا لاب يناسب أني حمل عنه أي هي علي إحسانا إليه وبرآ به وتفضيلا له وتشريفا. قال الخطابي: وقد يحتمل معنى الحديث أن يكون قد تحمل بالصدقة وضمن أداءها عنه لسنتين، ولذلك قال: إن عم الرجل صنو أبيه يريد أنه حقه في الوجوب كحق أبيه عليه، إذ هما شقيقان خرجا من أصل واحد، فأنا أنزهه عن منع الصدقة والمطل بها وأوديها عنه. وقيل: معنى علي عندي أي هي عندي قرض، لأنه - صلى الله عليه وسلم - استقرض منه زكاة عامين لاحتياجه لصرفها في مصارفها أو في المصارف الأخرى التي على بيت مال المسلمين، وقد ورد ذلك صريحا فيما أخرجه الترمذي وغيره من حديث علي. وفي إسناده مقال. وفي الدارقطني من طريق موسى ابن طلحة. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنا كنا احتجنا فتعجلنا من العباس صدقة ماله سنتين، وهذا مرسل وروى الدارقطني أيضا موصولا بذكر طلحة، وإسناد المرسل أصح. وقيل: إن العباس عجل إليه - صلى الله عليه وسلم - صدقة عامين هذا العام الذي طلب العامل منه، والعام الذي بعده، وهو المراد بقوله: "ومثلها معها"

(11/53)


ومعنى على عندي، أي قد وصل إلى زكاة العباس لعامين، فهي عندي. قال أبوعبيدة بعد ذكر ما يدل على أنه أخر زكاته عنه وما يدل على أنه تعجلها منه: ولعل الأمرين جميعا قد كانا أي في وقتين. قال وكلا الوجهين: جائز إذا كان على وجه الإجتهاد، وحسن النظر من الإمام وقيل: يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أستسلف منه مالا ينفقه في سبيل الله، ثم يتحسب له من الصدقة عند حلولها. قال الحافظ، وقيل المعنى استسلف منه قدر صدقة عامين، فأمر أن يقاص به من ذلك، واستبعد ذلك بأنه لو كان وقع لكان - صلى الله عليه وسلم - أعلم عمر بأنه لا يطالب العباس، وليس ببعيد- انتهى. وأعلم أنه وقع اختلاف في هذا اللفظ، ففي رواية وقع كما في الكتاب، وهو لفظ مسلم. وفي رواية فهي علي صدقة ومثلها معها، وهو لفظ البخاري، وفي رواية هي "عليه ومثلها معها" أي من غير ذكر الصدقة، ذكر هذا اللفظ البخاري، ووصله الدارقطني من طريق محمد بن إسحاق. وفي رواية "فهي له ومثلها معها" وهو لفظ ابن خزيمة، أخرجه من طريق موسى بن عقبة. أما معنى اللفظ الذي في المشكاة فقد تقدم الكلام عليه آنفا. وأما معنى فهي عليه صدقة ومثلها معها
ثم قال: يا عمر! أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه)). متفق عليه.

(11/54)


فقيل: إنه - صلى الله عليه وسلم - ألزم العباس بتضعيف صدقته ليكون أرفع لقدره وأنبه لذكره وأنفى للذم عنه، فضمير "عليه" للعباس. والمعنى هي، أي الصدقة المطلوبة من العباس، عليه صدقة أي واجبة ثابتة عليه لازمة له، سيتصدق بها ومثلها معها أي ويضيف إليها مثلها كرما منه، وليس معناه أنه يقبضها لأن الصدقة عليه حرام لكونه من بني هاشم، أي وظاهر هذا الحديث أنها صدقة عليه ومثلها معها. فكأنه أخذها منه وأعطاها له. وقيل: هو محمول على ظاهره، وكان ذلك قبل تحريم الصدقة على بني هاشم. وقيل: المعنى أن أمواله كالصدقة عليه، لأنه استدان في مفاداة نفسه وعقيل، فصار من جملة الغارمين الذين لا تلزمهم الزكاة، فساغ له أخذ الزكاة بهذا الاعتبار. وقيل: يحتمل أن ضمير "عليه" لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو المرافق لما قبل: إنه صلى الله عليه وسلم استسلف منه صدقة عامين أي فصدقة العباس على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون موافقا لقوله في رواية مسلم: فهي علي. وأما معنى، فهي عليه ومثلها معها، فهو أنه أخرها عنه ذلك العام إلى عام قابل، فيكون عليه صدقة عامين، وقد تقدم هذا في كلام أبي عبيدة واضحا. وقيل: المراد بقوله: فهي عليه أي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليكون موافقا لرواية مسلم بلفظ: فهي على قال البيهقي ورواية الحديث بلفظ: فهي علي أولى بالصحة، لموافقتها للروايات الصريحة بالاستسلاف والتعجيل-انتهى. وقال الحفاظ بعد ذكر حديث ابن مسعود: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجل من العباس صدقة سنتين: في اسناده محمد بن ذكوان وهو ضعيف، ولو ثبت لكان رافعا للإشكال، ولرجح به سياق رواية مسلم على بقية الروايات. وأما معنى فهي له ومثلها معها أي فهي عليه. قال البيهقي: له بمعنى عليه، وهذه الرواية محمولة على سائر الروايات أي اللام هنا بمعنى على لتتفق الروايات. قال الحافظ: وهذا أولى، لأن المخرج واحد، وإليه مآل ابن

(11/55)


حبان (أما شعرت) بفتح العين، و"الهمزة" استفهامية، و "ما" نافية أي ما علمت (أن عم الرجل صنو أبيه) بكسر الصاد وسكون النون أي مثله ونظيره، إذ يقال لنخلتين: نبتا من أصل واحد: صنوان، ولأحدهما صنو والمعنى أما تنبهت أنه عمى وأبى، فكيف تتهمه بما ينافي حاله، لعل له عذر أو أنت تلومه، قاله القاري: وقال المظهر: يعني عم الرجل وأبوه كلاهما من أصل واحد، يعني إذا علمت أنه وإني من أصل واحد فلا تقل له ما يتأذى منه محافظة لجانبي. وقال التوربشتي: أراد بأن أباه والعباس من أرومة واحدة وأنه منه بمثابة الأب، ويقال للمثل: الصنو أي مثل أبيه، فمن الأدب بل من الواجب أن لا يسمعه فيه ما يعود منه نقيصه عليه. وقال الجزري: المراد بهذا القول، إن حق العباس في الوجوب كحق أبيه صلى الله عليه وسلم، فأنا أنزهه عن منع الصداقة والمطل بها (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وأبوعبيد وابن خزيمة والبيهقي.
1794- (8) وعن أبي حميد الساعدي، قال: ((استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد، يقال له ابن التبية، على الصدقة، فلما قدم، قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني أستعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدهم

(11/56)


1794- بقوله: (استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا) أي جعله عاملا وساعيا (من الأزد) بفتح الهمزة وسكون الزاي، آخره دال مهملة، أبوحي اليمن.وفي رواية: من الأسد بالسين المهملة بدل الزاي. وفي رواية: من بني الأسد. قال النووي: الأسد بإسكان السين، ويقال له (أي للرجل المذكور) الأزدي من أزدشنوة، ويقال لهم الأزد والأسد. وقال التيمي: الأسد والأزد يتعاقبان. وقال الرشاطي: هو الأزد بن الغوث ابن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان، ثم قال: يقال له: الأزد بالزاي والأسد بالسين (يقال له ابن اللتبية) بضم اللام وسكون المثناة الفوقية وكسر الموحدة ثم ياء النسب. وفي بعض الأصول بفتح المثناة. وقيل بفتح اللام والمثناة، والمشهور الأول. قيل: وهو الصواب، نسبة إلى بني لنب حي من الأزد، واسم ابن التبية عبدالله فيما ذكر ابن سعد وغيره. قال في الإصابة: عبدالله بن التبية بن ثعلبة الأزدي مذكور في حديث أبي حميد الساعدي في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على الصدقات يدعى ابن اللتبية- الحديث. وإنما يأتي في أكثر الروايات غير مسمى، وسماه ابن سعد والبغوي وابن أبي حاتم والطبراني وابن حبان والباوردي وغير واحد عبدالله- انتهى. قيل: واللتبية كانت أمه فعرف بها. قال الحافظ: ولم أقف على إسمها، ووقع في رواية ابن الاتبية بضم الهمزة بعدها مثناة فوقية ساكنة وتفتح فموحدة مكسورة فتحتية مشددة (على الصدقة) وفي رواية: على صدقات بني سليم بضم السين وفتح اللام. قال الحافظ: أفاد العسكري بأنه بعث على صدقات بني ذبيان، فلعله كان على القبيلتين. وفي رواية: بعث مصدقا إلى اليمن (فلما قدم) أي المدينة بعد رجوعه من عمله وأمر عليه السلام من يحاسبه ويقبض منه (قال هذا لكم وهذا أهدي لي) بصيغة الماضي المجهول من الإهداء، أي قال لبعض ما معه من المال: هذا مال الزكاة، وقال: لبعضه الآخر هذا أعطانيه القوم هدية. وفي رواية أبي نعيم: فجعل يقول:

(11/57)


هذا لكم وهذا لي حتى ميزه قال: يقولون من أين هذا لك؟ قال أهدي لي، فجاؤا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أعطاهم (فخطب النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي الناس ليعلمهم وليحذرهم من فعله، زاد في رواية قبل ذلك ألا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك عن كنت صادقا،ثم قام فخطب. وفي رواية: فصعد المنبر وهو مغضب (استعمل رجالا) أي اجعلهم عمالا (مما ولاني الله) أي جعلني حاكما فيه (فيأتي أحدهم) أي من العمال وروعي فيه الإجمال ولم يبين
فيقول: هذا لكم، وهذه هدية أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر أيهدى له، أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء أو بقرا له خوار،

(11/58)


عينه سترا وتكرما عليه (وهذه) أنث لتأنيث الخبر، وهي (هدية أهديت لي) أعطيت لي أو أرسلت إلى هدية (فهلا) وفي رواية "ألا" بفتح الهمزة وتشديد اللام وهما بمعنى (جلس) أي لم لم يجلس (في بيت أبيه أو بيت أمه) قال القاري: أو للتنويع أو للشك، وهذا تحقير لشأنه في حد ذاته، يعني إنما عرض له التعظيم من حيث عمله- انتهى. وفي رواية للشيخين: في بيت أبيه وأمه. وفي رواية للبخاري: في بيت أبيه وبيت أمه أي بالواو بدل أو (فينظر) بالنصب جواب قوله"فهلا جلس" أي فيرى أو فينتظر، قاله القاري. وقال القسطلاني: الظاهر أن النظر ههنا من طريق العلم، وتوقف فيه ابن هشام في مغنية، وقال به أخرى، حكاه في المصابيح (أيهدي له) أي شيء في بيته الأصلي (أم لا) وفي رواية للبخاري: حتى تأتيه هديته إن كان صادقا. والمعنى لولا الإمارة والحكومة لم يهد له شيء، فهذا الذي أهدى له إنما هو لإمارته وعمله، وهو الرشوة، فلا يحل له. قال النووي: في الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول، لأنه خان في ولايته وأمانته، ولهذا ذكر في الحديث في عقوبته وحمله ما أهدى إليه يوم القيامة، كما ذكر مثله في الغال، وقد بين صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه وأنها بسبب الولاية بخلاف الهدية لغير العامل، فإنها مستحبة، وحكم ما يقبضه العامل ونحوه باسم الهدية أنه يرده إلى مهديه، فإن تعذر فإلي بيت المال. وقال الخطابي: في الحديث بيان أن هدايا العمال سحت، وأنه ليس سبيلها سبيل سائرا الهدايا المباحة، وإنما يهدي إليه للمحاياة وليخفف عن المهدي ويسوغ له بعض الواجب عليه، وهو خيانة منه وبخس للحق الواجب عليه استيفاءه لأهله (لا يأخذ أحد منه) أي مال الصدقة (شيئا) وفي رواية: لا ينال أحد منكم منهما (أي من الصدقة التي يقبضها) شيئا. وفي أخرى: لا يأخذ أحد منكم منها شيئا بغير حقه. وعند أبي عوانة: لا يغل منه شيئا (يحمله) حال أو استئناف بيان (على

(11/59)


رقبته) أي تشهيرا وافتضاحا. وفي رواية: على عنقه (إن كان) أي المأخوذ (بعيرا) أي يحمله على رقبته بحذف جواب الشرط لدلالة المذكور عليه (له رغاء) بضم الراء وبالغين المعجمة ممدودا، يقال: رغا البعير إذا صوت أي إن كان المأخوذ بقرا يحمله على رقبته حال كونه له رغاء. وقال الطيبي: أي فله رغاء فحذف الفاء من الجملة الاسمية. وهو سائغ، لكنه غير شائع- انتهى. وعند أبي داود: إلا جاء يوم القيامة إن كان بعيرا فله رغاء، أو بقر فلها خوار (أو) كان المأخوذ (بقرا) يحله على رقبته حال كونه (له خوار) بضم الخاء المعجمة وفتح الواو المخففة بعدها ألف فراء، وهو صوت
أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطية، ثم قال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت ؟)).

(11/60)


البقر (أو) كان المأخوذ (شاة) يحملها على رقبته حال كونها (تيعر) بفتح الفوقية وسكون التحتية وفتح العين المهملة بعدها راء، ويجوز كسر العين أي تصيح وتصوت، واليعار صوت الشاة الشديد. قال في المفاتيح: يعني من سرق شيئا في الدنيا من مال الزكاة أو غيرها يجيء يوم القيامة، وهو حامل لما سرق إن كان حيوانا له صوت رفيع ليعلم أهل العرصات حاله، فيكون فضيحته أشهر، كما قال تعالى: ?ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة?[آل عمران: 161] وقال التوربشتي: لما كان الرغاء والخوار من الأصوات التي يسمعها البعيد كما يسمعها القريب قال له رغاء وله خوار، فلما انتهى إلى الشاة جعل الصياح صفة لازمة لها ليدل على أنها لا تزال تيعر بين أهل الموقف ليكون ذلك أنكل في العقوبة وأبلغ في الفضيحة- انتهى. (ثم رفع يديه) أي وبالغ في رفعهما (حتى رأينا عفرة إبطيه) بضم العين المهملة وسكون الفاء وفتح الراء آخرة هاء تأنيث أي بياضهما المشرب بالسمرة والعفرة بياض ليس بخالص (اللهم هل بلغت) بالتشديد أي قد بلغت أو استفهام تقريري، والمراد بلغت حكم الله إليكم امتثالا لقوله تعالى له: ?بلغ? [المائدة: 67] وإشارة إلى ما يقع في القيامة من سؤال الأمم هل بلغهم أنبياءهم ما أرسلوا به إليهم (اللهم هل بلغت) وفي رواية لمسلم: قال اللهم هل بلغت مرتين ومثله لأبي داود ولم يقل مرتين. وفي رواية للبخاري: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت ثلاثا. وفي أخرى له: ألا هل بلغت ثلاثا أي أعادها ثلاث مرات وكرر هذا لتقرير وعظه على الناس ليكون أكثر وقعا وتعظيما وحفظا في خواطرهم يعني الله تعالى شاهدي على تبليغ حال السرقة حتى لا ينكروا تبليغي يوم القيامة. وفي الحديث من الفوائد محاسبة العامل والمؤتمن، وأن المحاسبة تصحح أمانته، وهو أصل فعل عمر في محاسبة العمال. وفيه أن هدايا العمال تجعل في بيت المال، وأن العامل لا يملكها إلا أن يطيبها له الإمام كما في قصة معاذ، أنه عليه

(11/61)


السلام طيب له الهداية، فأنفذها له أبوبكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ في الفتح: في الحديث منع العمال من قبول الهدية ممن له عليه حكم، ومحل ذلك إذا لم يأذن له الإمام في ذلك، لما أخرجه الترمذي من رواية قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال: لا تصيبن شيئا بغير أدنى، فإنه غلول. وقال المهلب: فيه أنها إذا أخذت تجعل في بيت المال، ولا يختص العامل منها إلا بما أذن له فيه الإمام، وهو مبني على أن ابن اللتبية أخذ منه ما ذكر أنه أهدى له وهو ظاهر السياق، ولكن لم أر صريحا. ونحوه قول ابن قدامة في المغني (ج9 ص78) لما ذكر الرشوة والهدية التي ليس للحاكم قبولها فعليه ردها إلى أربابها، لأنه أخذها بغير حق، فأشبه المأخوذ بعقد فاسد. ويحتمل أن يجعلها في بيت المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية برد الهدية التي أهديت له على من أهداها. وقال ابن بطال: يلحق بهدية العامل الهدية لمن له دين ممن عليه الدين، ولكن له أن يحاسب بذلك من دينه
متفق عليه.قال الخطابي: وفي قوله: هلا جلس في بيت أمه أو أبيه، فينظر أيهدي إليه أم لا؟ دليل على أمر يتذرع به إلى محظور، فهو محظور وكل دخل في العقود فينظر هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا؟ ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.كتاب المزهر في معرفة اللغة للسيوطي الجزء الثالث والاخير{من النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي الي الخاتمة}

  النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي  أول ما يلزمه الإخلاص وتصحيح النية لقوله ﷺ: « الأعمال بالنيات » ثم التحري في الأخذ عن الثقات لق...