الخميس، 1 سبتمبر 2022

ج11.وج12.مرعاة المفاتيح

 

11. : مرعاة المفاتيح

وأهل العلم بالحديث يرويها مرسلة. ومنها أن يصلى ركعتين ويسلم ثم ركعتين ويسلم هكذا حتى ينجلي الكسوف، روي هذا من حديث النعمان بن بشير عند أحمد (ج4 ص269)، وفيه: وكان يصلي ركعتين ثم يسأل ثم يصلي ركعتين ثم يسأل حتى انجلت الشمس...الخ. وأخرجه البيهقي (ج3 ص333) بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ويسلم حتى انجلت الشمس، قال في هامشه: كذا في المصرية. وفي المدراسية: ويصي ركعتين ويسلم ويصلي ركعتين ويسلم مرتين – انتهى. وهو عند الطحاوي بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ويسلم ويسأل حتى انجلت. وأخرجه أبوداود بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها حتى انجلت، ورواه النسائي من حديث قبيصة الهلالي بلفظ: فصلى ركعتين ركعتين حتى انجلت. واختار هذا إبراهيم النخعي والحسن كما في المحلى، وروى الحسن عن أبي حنيفة: إن شاءوا صلوا ركعتين وإن شاءوا صلوا أربعا وإن شاءوا صلوا أكثر من ذلك، ذكره في المحيط والبدائع.
...............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/238)


واستدلت الحنفية بحديث النعمان وقبيصة على ما ذهبوا إليه من أن صلاة ا لكسوف ركعتان كسائر النوافل بلا تكرار الركوع، وسيأتي الجواب عنه. ومنها كأحدث صلاة، روي هذا من حديث النعمان بن بشير عند النسائي وابن حزم (ج5 ص97) والبيهقي (ج3 ص332) بلفظ: ((إذا رأيتم ذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة))، وروي أيضا من حديث قبيصة الهلالي عند أحمد (ج5 ص60) وأبي داود والنسائي والبيهقي والحاكم والطحاوي والبغوي، وقوله ((كأحدث صلاة)) يعني كأقرب صلاة. قال ابن حزم محتجا بهذا الحديث: يصلي لكسوف الشمس خاصة إن كسفت من طلوعها إلى أن يصلي الظهر ركعتين، وإن كسفت من بعد صلاة الظهر إلى أخذها في الغروب صلى أربع ركعات كصلاة الظهر ولاعصر، وفي كسوف القمر خاصة إن كسفت بعد صلاة المغرب إلى أن يصلي العشاء الآخرة صلى ثلاث ركعات كصلاة المغرب، وإن كسفت بعد صلاة العتمة إلى الصبح صلى أربعا كصلاة العتمة – انتهى. وعليه حمله السندي حيث قال في حاشية النسائي: قوله ((كأحدث صلاة)) فيه أنه ينبغي أن يلاحظ وقت الكسوف فيصلي لأجله صلاة هي مثل ما صلاها من المكتوبة قبيلها، ويلزم منه أن يكون عدد الركعة على حسب تلك الصلاة، وأن يكون الركوع واحدا – انتهى. وحمله الحنفية على صلاة الصبح خاصة، قالوا: المراد أنه يصلي ركعتين كصلاة الصبح بركوعين وأربع سجدات. وقيل: التشبيه فيه محمول على بعض الصفات لا على جميعها، يعني أن التشبيه ههنا في عدد الركعات والقراءة فقط لا من كل الجهات، فيصلي ركعتين ويجهر بالقراءة كصلاة الصبح، لكن كل ركعة بركوعين، وهذا لئلا يعارض القول ما رواه الشيخان من فعله بتثنية الركوع في كل ركعة. وقيل: معناه إذا وقع الكسوف عقب صلاة جهرية يصلي ويجهر فيها بالقراءة، وإن وقع عقب صلاة سرية يصلي ويخافت فيها بالقراءة. ومنها: ركعتان في كل ركعة ركوع. روي هذا من حديث عبدالله بن عمر، وعند أحمد (ج2 ص198) وأبي داود والنسائي والترمذي في

(9/239)


الشمائل، والطحاوي والحاكم (ج1 ص329) وأبي حنيفة في مسنده، كلهم من طريق عطاء بن السائب عن أبيه عن عبدالله بن عمر. وقال الحاكم: صحيح، ولم يخرجاه من أجل عطاء بن السائب، وقال تقي الدين في الإمام: كل من روى عن عطاء بن السائب روى عنه في الاختلاط إلا شعبة وسفيان – انتهى. قلت: أخرجه أبوداود عن حماد بن سلمة عن عطاء، والترمذي عن جرير عن عطاء، والحاكم عن الثوري عن عطاء، والطحاوي عن حماد بن سلمة والثوري وغيرهما عن عطاء، وأخرج النسائي في رواية عن شعبة عن عطاء به، لكن ليس متنه بصريح في الركعتين، وحكى العراقي في التقييد والإيضاح (ص392) عن ابن معين أنه قال: حديث سفيان وشعبة وحماد بن سلمة عن عطاء بن السائب مستقيم – انتهى. وروي ذلك أيضا من حديث سمرة بن جندب عند أحمد (ج5 ص16) وأبي داود
................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/240)


والنسائي والحاكم (ج1 ص330) والبيهقي (ج3 ص339) وصححه الحاكم، وروي أيضا من حديث محمود بن لبيد عند أحمد (ج5 ص428)، قال الهيثمي (ج2 ص207): رجاله رجال الصحيح – انتهى. واختار هذه الصفة الحنفية، واستدلوا بهذه الأحاديث الثلاثة، وبما ورد من قوله "صلى ركعتين" في بيان صلاته - صلى الله عليه وسلم - لكسوف الشمس في حديث أبي بكرة عند البخاري والنسائي وعبدالرحمن بن سمرة عند مسلم وأبي داود والنسائي والحاكم، وابن مسعود عند ابن خزيمة، والنعمان بن بشير عند الحاكم، وقبيصة عند أبي داود والنسائي وغيرهما على عدم تعدد الركوع في الركعة. قال الزيلعي: ظاهر قوله "صلى ركعتين" إن الركعتين بركوع واحد. وأجيب بأن ذكر ركوع في ركعة لا يدل على نفي الزائد، فكان ذكر الركوع الثاني حذف فيها كما حذفت السجدة الثانية في ذكر السجدة، وبأن أحاديث تثنية الركوع أصح وأرجح وأكثر وأشهر، فتقدم على هذه الأحاديث، وبأن فيها زيادة فهي أولى بالقبول؛ لأنها أثبتت ما لم يثبت حديث عبدالله بن عمرو وسمرة ومحمود بن لبيد وغيرهم، وبأنها مثبتة فتقدم على غيرها مما يدل على عدم تعدد الركوع، وبأن معنى قوله "صلى ركعتين" أي ركوعين في ركعة فصار أربع ركوعات في ركعتين، قال القرطبي: يحتمل أنه إنما أخبر عن حكم ركعة واحدة، وسكت عن الأخرى، وبأن قوله "صلى ركعتين" مطلق، وفي أحاديث تثنية الركوع زيادة، فيحمل هذا المطلق على الروايات المقيدة، والمعنى: صلاها ركعتين بزيادة ركوع في كل ركعة. وقد ظهر بما ذكرنا أن جملة ما ورد في صفة صلاة الكسوف سبع صفات: ركوع في كل ركعة، وركوعان في كل ركعة، وثلاثة في كل ركعة، وأربعة في كل ركعة، وخمسة في كل ركعة، وكأحدث صلاة، وأن يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعتين ويسلم هكذا حتى تنجلي الشمس، وكثير من الأحاديث الواردة فيها صحيح، وأصحها أحاديث تثنية الركوع، فإن هذه هي الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة، ثم دونها في الصحة مع كونه

(9/241)


صحيحا أحاديث تثليث الركوع، وكذا أحاديث تربيع الركوع فإن ذلك قد انفرد به مسلم، ثم دون هذا حديث تخميس الركوع، وكذا أحاديث وحدة الركوع، وللعلماء فيها مسلكان؛ أحدهما مسلك الجمع: بحملها على تعدد الكسوف وتعدد صلاته في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذهب إليه إسحاق بن راهويه وابن خزيمة والخطابي، واستحسنه ابن المنذر، وقواه النووي، ورجحه ابن رشد في البداية وابن حزم في المحلى وابن جرير الطبري وغيرهم. وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة في الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء في أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعا، وحين زاد في الإبطاء زاد ثالثا، وهكذا إلى غاية ما ورد في ذلك، وتعقب
..............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/242)


بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم في أول الحال ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه منوى من أول الحال. والمسلك الثاني: الترجيح فرجح القائلون بكونها ركعتين في كل ركعة ركوعان أحاديث تثنية الركوع لكونها أكثر وأصح. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر من روى من الصحابة تثنية الركوع في كل ركعة ما لفظه: وفي رواياتهم زيدة رواها الحفاظ الثقات، فالأخذ بها أولى من إلغائها. وبذلك قال جمهور أهل العلم من أهل الفتيا، وقد وردت الزيادة في ذلك من طرق...، فذكر من روي عنه أحاديث تثليث الركوع وتربيعه وتخميسه ثم قال: ولا يخلو إسناد منها عن علة، وقد أوضح ذلك البيهقي وابن عبدالبر، ونقل صاحب الهدي عن الشافعي وأحمد والبخاري أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين غلطا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم – عليه السلام -، وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح، والراجح قطعا هو حديث عائشة وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمرو وأسماء بنت أبي بكر وجابر وغيرهم الذي فيه ركوعان في كل ركعة. وقال الشوكاني في السيل الجرار: إذا تقرر لك أن القصة واحدة عرفت أنه لا يصح ههنا أن يقال كما قيل في صلاة الخوف أنه يأخذ بأي الصفات شاء، بل الذي ينبغي ههنا أن يأخذ بأصح ما ورد وهو ركوعان في كل ركعة لما في الجمع بين هذه الروايات من التكلف البالغ. وقال ابن تيمية في التوسل والوسيلة (ص69-70): لا يبلغ تصحيح مسلم تصحيح البخاري، بل كتاب البخاري أجل ما صنف في هذا الباب، والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، قال: ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحا على قول من نازعه بخلاف مسلم فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه، كما روى في حديث الكسوف أن النبي - صلى

(9/243)


الله عليه وسلم - صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات كما روى أنه صلى بركوعين، والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم، وقد بين ذلك الشافعي، وهو قول البخاري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم، ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان له إبراهيمان، ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب – انتهى. وقال في منهاج السنة: حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر في مسلم من المواضع المنتقدة بلا ريب، وإلى ترجيح روايات تثنية الركوع ذهب أيضا صاحب فيض الباري من الحنفية حيث قال: لم تنكسف الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة، والروايات في تعدد الركوع بلغت إلى ست ركوعات في ركعتين، والأرجح عندي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعين في ركعة، والباقي أوهام كانت فتاوى الصحابة فاختلطت بالمرفوع، وإذن لا أتمسك من روايات ورد فيها ركوع
..............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/244)


واحد، بل أحملها على الاختصار – انتهى. قلت: وفي تاريخ الخميس وأوائل الثقات لابن حبان: أن الشمس كسفت في عهده - صلى الله عليه وسلم - مرتين: الأولى في السنة السادسة، والثانية في السنة العاشرة يوم توفي إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما القمر ففي شرح الإحياء ذكر صاحب جمع العدة: أن خسوف القمر وقع في السنة الرابعة في جمادى الآخرة ولم يشتهر أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع له الناس، وذكر في الهدي وفي تاريخ الخميس (ج1 ص469) عن السيرة لابن حبان أنه وقع في السنة الخامسة في جمادى الآخرة، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، وكانت أول صلاة كسوف في الإسلام، وقد جزم به مغلطائي في سيرته. والظاهر عندي ما ذهب إليه ابن تيمية وغيره من جمهور أهل العلم أنه لم يصلي صلاة كسوف الشمس في عهده - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة إلا مرة. قال الشيخ أحمد شاكر في حاشية المحلى (ج5 ص104، 105): لقد حاولت كثيرا أن أجد من العلماء بالفلك من يظهر لنا بالحساب الدقيق عدد الكسوفات التي حصلت في مدة إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وتكون ؤيتها بها ممكنة، وطلبت ذلك من بعضهم مرارا، فلم أوفق إلى ذلك، إلا أني وجدت للمرحوم محمود باشا الفلكي جزءا صغيرا سماه نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام، وقد حقق فيه بالحساب الدقيق يوم الكسوف الذي حصل فيه السنة العاشرة، وهو اليوم الذي مات فيه إبراهيم – عليه السلام -، ومنه اتضح أن الشمس كسفت في المدينة في يوم الاثنين 29 شوال سنة (10)، الموافق ليوم 27 يناير سنة 632 ميلادية في الساعة 8 والدقيقة 30 صباحا، وهو يرد أكثر الأقوال التي نقلت في تحديد يوم موت إبراهيم، وعسى أن يكون هذا البحث والتحقيق حافزا لبعض النبهاء من العالمين بالفلك إلى حساب الكسوفات الي حصلت بالمدينة في السنين العشر الأولى من الهجرة النبوية، أي إلى وقت وفاته - صلى الله عليه وسلم - في

(9/245)


يوم الأحد 12 ربيع الأول سنة 11 أو الاثنين 13 منه الموافقان ليومي 7 يونية سنة 632 و8 منه، فإذا عرف بالحساب عدد الكسوفات في هذه المدة أمكن التحقيق من صحة أحد المسلكين. إما حمل الروايات على تعدد الوقائع، وإما ترجيح الرواية التي فيها ركوعان في كل ركعة، وأنا أميل جدا إلى الظن بأن صلاة الكسوف ما صليت إلا مرة واحدة، فقد علمنا من رسالة محمود باشا الفلكي أنه حصل خسوف للقمر في المدينة في يوم الأربعاء 14 جمادى الثانية من السنة الرابعة للهجرة الموافق 20 نوفمبر سنة 625، ولم يرد ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع الناس فيه لصلاة الخسوف، ويؤيد هذا أن الأحاديث الواردة في صلاة الكسوف دالة بسياقها على أن هذه الصلاة كانت لأول مرة، وأن الصحابة لم يكونوا يعلمون ماذا يصنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقتها، وأنهم ظنوا أنها كسفت لموت إبراهيم، وأن المدة بين موت إبراهيم – عليه السلام – وبين موت أبيه - صلى الله عليه وسلم - لم تزد على أربعة أشهر ونصف، فلو كان الكسوف حصل مرة أخرى وقاموا للصلاة لظهر ذلك واضحا في النقل لتوفر الدواعي إلى نقله، كما نقلوا ما قبله بأسانيد كثيرة، والله أعلم بالصواب – انتهى كلام الشيخ أحمد. هذا وقد تقدم أن الحنفية اختاروا وحدة الركوع في كل ركعة كسائر
........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/246)


الصلوات ثم اختلفوا. فقال بعضهم: الأرجح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعين في كل ركعة والباقي أوهام وروايات وحدة الركوع محمولة على الاختصار، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن ركع ركوعين لكنه لم يعلمنا إلا أن نأتي بها كأحدث صلاة صلاها وفيها ركوع واحد، فتعدد الركوع مخصوص به - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بقوله: ((صلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة)) أن لا تصلوا أنتم، كما رأيتم من تعدد الركوع، ولكن صلوا كصلاة الصبح – انتهى مختصرا محصلا. وأجيب عنه بأن كل ما صح وثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم - يكون سنة لنا ما لم يقم دليل على اختصاصه به ولا دليل على كون تعدد الركوع في صلاة الكسوف مختصا به - صلى الله عليه وسلم -، فدعوى الاختصاص مردودة، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كأحدث صلاة...)) الخ فليس بصريح ولا بظاهر فيما قالوا به فإنه يحتمل معاني أخرى كما تقدم عن السندي وابن حزم وغيرهما مفصلا وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال والتشبيه لا يجب أن يكون من جميع الجهات فلا يترك به الأحاديث الصريحة التي هي أصح منه لكونها مروية في الصحيحين وغيرهما. وقال بعضهم أحاديث الفعل متعارضة فيطرح الكل ويؤخذ بالأصل، والأصل في الركوع الاتحاد دون التعدد وقد جاء في بعض الروايات كذلك. وفيه إن من شرط التعارض التساوي في الثبوت والقوة وهو منتف ههنا، فإن أحاديث الفعل ليست بمتساوية بل روايات تثنية الركوع أصح وأرجح وأقوى وأشهر لاتفاق الشيخين على تخريجها، فيجب تقديمها وترجيحها ويتعين الأخذ بها ولا يجوز طرحها. وقال بعضهم: أحاديث وحدة الركوع مرجحة بوجوه: منها أن روايات تعدد الركوع متعارضة، وهي مع ذلك تخالف قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كأحدث صلاة...)) الخ والعبرة للقول إذا خالف الفعل. وفيه أنه لا تعارض بين روايات التعدد لكون أحاديث تثنية الركوع أصح وأرجح

(9/247)


وأقوى فتقدم على غيرها ولا تخالف بينها وبين القول المذكور فإن المقصود منه التشبيه في بعض الصفات وهي عدد الركعات والجهر بالقراءة لا في جميعها وإلا فينبغي للحنفية أن يقولوا باستنان الجهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس وأن لا يقولوا باستحباب تطويل القراءة والركوع والسجود بل يكرهوا الإطالة، لكنهم قد صرحوا بأن صلاة الكسوف مستثناة من كراهة التطويل وقالوا: يطيل فيها الركوع والسجود والقراءة، واستدلوا لذلك بروايات الفعل، ولو فرضنا التعارض بين روايات الفعل والقول فالقول إنما يقدم ويرجح على الفعل إذا لم يمكن الجمع بينهما وكان القول مساويا للفعل في القوة والثبوت، والأمر ههنا ليس كذلك. ومنها أن روايات وحدة الركوع موافقة للقياس أي موافقة للأصول المعهودة فزيادة ركن في الصلاة لم تعهد. قال الحافظ: أشار الطحاوي إلى أن قول أصحابه أجري على القياس في صلاة النوافل لكن اعترض بأن القياس مع وجود النص يضمحل، وبأن صلاة الكسوف أشبه بصلاة العيد وبنحوها مما يجمع فيه من طلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيدين بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال
................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/248)


الكثيرة واستدبار القبلة، فلذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالأخذ به جامع بين العمل بالنص والقياس بخلاف من لم يعمل به – انتهى. وقد رد على هذا الوجه ابن حزم أيضا فأجاد، فعليك أن ترجع إلى المحلى (ج5 ص101). ومنها أن روايات التعدد متعارضة مضطربة. قال ابن الهمام: أحاديث تعدد الركوع مضطربة، والاضطراب موجب للضعف فوجب تركها. وفيه أن الاختلاف الواقع في روايات الفعل ليس اضطرابا قادحا مورثا للضعف فإن الاختلاف في الحديث من جهة الإسناد أو المتن إنما يورث الاضطراب الموجب للضعف إذا استوت وجوه الاختلاف وتساوت الروايات المختلفة، وأما إذا ترجحت إحداها بوجه من وجوه الترجيح قدمت ولا يعل الراجح بالمرجوح، يعني يكون العبرة للراجح، وههنا روايات تثنية الركوع أصح وأرجح وأقوى فيكون لها الاعتبار لا لروايات الزيادة على الركوعين ولا لروايات وحدة الركوع. هذا وتأول بعضهم أحاديث تعدد الركوع بتأويلات كلها أضاحيك نذكرها عبرة للناظرين وفي ذكرها غنى عن الرد. فمنها ما ذكره الفخر الزيلعي في شرح الكنز: أنه – عليه الصلاة والسلام – كان يرفع رأسه ليختبر حال الشمس هل انجلت أم لا فظنه بعضهم ركوعا فأطلق عليه اسمه فلا يعارض ما روينا يعني من أحاديث وحدة الركوع – انتهى. قال الحافظ في الفتح: أجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع بحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس هل انجلت أم لا، فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوعه ففعل ذلك مرة أو مرارا فظن بعض من رآه يفعل ذلك ركوعا زائدا. وتعقب بالأحاديث الصحيحة الصريحة في أنه أطال القيام بين الركوعين، ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يحتج إلى تطويل ولا سيما الأخبار الصريحة بأنه ذكر ذلك الاعتدال ثم شرع في القراءة، فكل ذلك يرد هذا الحمل، ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج لفعل الرسول عن العبادة المشروعة، أو لزم منه إثبات هيئة في الصلاة لا عهد بها وهو ما فر منه – انتهى كلام الحافظ.

(9/249)


ومنها ما ذكره صاحب المحيط البرهاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ركع ركوعين على وجه الصورة لا على وجه الحقيقة؛ لأنه قربت إليه الجنة والنار، وإنما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من الركوع فزعا حين قربت منه النار، وكان ذلك رفعا على وجه الصورة لا الحقيقة. ورد بما وقع من التصريح في الأحاديث الصحيحة بتطويل القيام الثاني وتطويل الركوع الذي بعده، وكذا تطويل الاعتدال الذي يليه السجود، وهذا كالصريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعين ركوعا حقيقة لا صوريا، وأن رفع الرأس لم يكن فزعا على وجه الصورة، بل كان قياما حقيقيا قرأ فيه قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى، ولو كان الرفع أي القيام فزعا والركوع لأنه قربت إليه الجنة لم يقع التطويل فيهما كما لم يقع في تقدمه وتأخره، ويرد ذلك أيضا أن الذي وقع منه - صلى الله عليه وسلم - حين قربت إليه الجنة والنار
.................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/250)


إنما هو التقدم والتأخر كما صرح به في رواية مسلم وغيره لا الركوع ورفع الرأس منه. ومنها ما ذكره صاحب العرف الشذى: أن الركوع الثاني لم يكن ركوعا صلويا بل كان ركوع آية وتخشع وتضرع يعني كان بدل السجود للآيات مما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنة والنار ممثلتين في جدار القبلة، فتعدد الركوع كتعدد السجود في الصلاة عند تلاوة آية السجدة، فكما تتعدد السجدة لداعية كذلك يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعين؛ لأنه شاهد فيما ما لم يكن يشاهد في عامة الصلوات والسجود عند ظهور آية معروف. قال أبوعبدالله البلخي: إن الزيادة ثبتت في صلاة الكسوف لا للكسوف بل لأحوال اعترضت حتى روي أنه - صلى الله عليه وسلم - تقدم في الركوع حتى كان كمن يأخذ شيئا ثم تأخر كمن ينفر عن شيء، فيجوز أن تكون الزيادة منه باعتراض تلك الأحوال، كذا في البدائع، وحاصل هذا كله أنه تعدد الركوع مختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا نحو ما تقدم من المحيط البرهاني، وقد تقدم جوابه، ويزاد عليه أنه لا فرق بين الركوعين في الصورة، فكما أن الركوع الأول كان ركوع صلاة لا ركوع آية وتخشع كذلك كان الركوع الثاني ركوع صلاة لا ركوع آية، ومن يدعي الفرق بينهما فليأت بدليل صريح قوي على ذلك، ولا يكفي في مثل هذا الإمكان والاحتمال والتجويز، ويدل على بطلان هذا القول ودعوى الاختصاص عمل الصحابة بتعدد الركوع بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويبطله أيضا أن التقدم والتأخر إنما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال قيامه الثاني من الركعة الثانية كما رواه سعيد بن منصور في سننه لا في الركوع كما قال البلخي. ومنها ما قال الفخر الزيلعي في شرح الكنز: أنه - صلى الله عليه وسلم - طول الركوع فيها فمل بعض القوم فرفعوا رؤوسهم أو ظنوا أنه – عليه الصلاة والسلام – رفع رأسه فرفعوا رؤوسهم أو رفعوا رؤوسهم على عادة الركوع المعتاد، فوجدوا النبي

(9/251)


- صلى الله عليه وسلم - راكعا فركعوا ثم فعلوا ثانيا وثالثا كذلك ففعل من خلفهم كذلك ظنا منهم أن ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم روى كل واحد منهم على ما وقع في ظنه، ومثل هذا الاشتباه قد يقع لمن كان في آخر الصفوف، فعائشة في صفوف النساء، وابن عباس في صفوف الصبيان، وحكى الطحطاوي على المراقي هذا التأويل عن الإمام محمد، وقال فروى كل واحد على حسب ما عنده من الاشتباه، قال بعض من كتب على الموطأ من أهل عصرنا: هذا أوجه؛ لأنه تجمع به الروايات كلها – انتهى. قلت: بل هو أسخف من جميع ما تأولوا به روايات تعدد الركوع فضلا عن أن يكون وجيها أو أوجه، لا يخفى ركاكته وسخافته على من له أدنى فهم، ولله در صاحب فيض الباري حيث اعترف بركاكته فقال: وما قالوا – أي في تأويل أحاديث تعدد الركوع – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ركع فيه ركوعا طويلا وكان الصحابة يرفعون رؤوسهم يرون أنه هل قام منه أم لا فتوهم المتأخرون منهم تعدد الركوع فإنه ركيك عندي وإن كان أصله من المبسوط للسرخسي – انتهى. قلت: ويبطل هذا التأويل أن عائشة وأسماء – وهما ممن روى تثنية الركوع – لم تكونا في صفوف النساء، بل صلتا في حجرة
متفق عليه.
1495- (2) وعنها قالت: جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف بقراءته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/252)


عائشة قريبا من القبلة، وابن عباس لم يكن في صفوف الصبيان، بل صلى بجنب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما رواه الطبراني والبيهقي في المعرفة، علاوة أن الزيادة في الركوع قد رويت من حديث جابر بن عبدالله وعبدالله بن عمرو وأبي هريرة وأبي بن كعب وابن عمر وحذيفة وعلي وغيرهم، وهؤلاء كانوا رجالا لا صبيانا ولا نساء، ولا دليل على أنهم قاموا في آخر الصفوف، أو كانوا خلف الصف الأول أو الثاني، فنسبة اشتباه الأمر إلى جميع هؤلاء غلط بلا شك. ومنها ما ذكر بعض من كتب على الموطأ من أهل عصرنا أنه يحتمل أن الركوع كان بدل سجود التلاوة، لما ورد في الروايات من قراءة سورة الحج، وفيها سجدتان عندهم، والركوع بدل السجود كاف. قلت: هذا تأويل فاسد باحتمال غير ناشيء عن دليل فهو مردود، وأما الرواية التي أشار إليها هذا البعض فأخرجها البيهقي في السنن (ج3 ص330) عن علي موقوفا عليه من فعله، وفيه حنش بن ربيعة، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة كما تقدم في باب الأضحية في ترجمة حنش، وفيه أيضا أن عليا قرأ سورة الحج ويس في الركعة الأولى ثم ركع أربع ركعات ثم سجد – أي بعد الركوع الرابع -، ثم قام فقرأ سورة الحج ويس ثم صنع كما صنع في الركعة الأولى، ثمان ركعات وأربع سجدات، فلو كانت الركوعات الزائدة بدل السجدتين في سورة الحج لم يزد عددها على ست ركوعات مع ضم ركوعي الصلاة، وههنا قد صرح بأنه ركع ثمان ركعات، وهذا يبطل الاحتمال الذي اخترعها هذا البعض، وقد رواه ابن أبي شيبة وأحمد (ج1 ص143) وابن خزيمة والطحاوي وابن جرير وأبوالقاسم بن منده في كتاب الخشوع والبيهقي أيضا (ج3 ص330، 331) عن علي مرفوعا من طريق حنش، وليس فيه ذكر سورة الحج، بل في رواية أحمد: فقرأ يس أو نحوها، وفي لفظ عند غير أحمد: بالحجر أو يس، وفي لفظ: يس والروم، وفي لفظ: سورة من المئين أو نحوها، وأما ما ذكر في كفاية الركوع عن سجدة التلاوة فهو دعوى بلا برهان فلا يلتفت

(9/253)


إليها، وقد تقدم الكلام عليه في باب سجدة التلاوة. (متفق عليه) وأخرجه أيضا النسائي والبيهقي (ج4 ص320) وأخرجه أبوداود مختصرا، وأخرجه البخاري ومسلم أيضا من حديث عبدالله بن عمرو.
1495- قوله (جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف) أي خسوف الشمس، كما صرح في رواية الإسماعيلي، وإسحاق بن راهويه وابن حبان، وفي رواية لأحمد (ج6 ص76) وفيه رد على من فسر لفظ الصحيحين بخسوف القمر (بقراءته) هذا نص في أن قراءته - صلى الله عليه وسلم - في صلاة كسوف الشمس كانت جهرا لا سرا، وهو يدل على أن السنة في صلاة الكسوف هي الجهر بالقراءة لا الإسرار، ويدل لذلك أيضا حديث أسماء عند البخاري، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص232)، والحافظ في الدراية (ص137)، وابن الهمام في فتح
.............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/254)


القدير، والعيني في البناية: وللبخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف – انتهى. ويدل له أيضا ما روى ابن خزيمة والطحاوي عن علي مرفوعا وموقوفا من الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، قال الطحاوي بعد رواية الحديث عن علي موقوفا: ولو لم يجهر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين صلى علي معه لما جهر علي أيضا؛ لأنه علم أنه السنة فلم يترك الجهر، والله أعلم، ذكره العيني. وقد اختلفت الأئمة في ذلك، فقال بالجهر أبويوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وابن العربي من المالكية، وقال الطبري: يخير بن الجهر والإسرار، وقال الأئمة الثلاثة: يسر في الشمس ويجهر في القمر، كذا في الفتح، قلت: وحكى الترمذي عن مالك الجهر، وقال القاضي عياض والقرطبي: إن معن بن عيسى والواقدي رويا عن مالك الجهر، قيل: هي رواية شاذة، والمشهور عنه هو الإسرار، وقال ابن العربي في العارضة: اختلف قول مالك، فروى المصريون أنه يسر، وروى المدنيون أنه يجهر، والجهر عندي أولى – انتهى. واحتج للشافعي ومن وافقه بقول ابن عباس: قرأ نحوا من سورة البقرة، أخرجه الشيخان. قال الشافعي: لو جهر بالقراءة لم يحتج إلى تقديره. وذكر البيهقي عنه أنه قال: فيه دليل على أنه لم يسمع ما قرأ؛ لأنه لو سمعه لم يقدر بغيره، وقال القرطبي: هذا دليل لمن قال يخفي القراءة؛ لأنه لو جهر لعلم ما قرأ، وقال المنذري: هذا الحديث يدل على الإسرار. وتعقب باحتمال أن يكون بعيدا منه في صفوف الصبيان، لكن ذكر الشافعي تعليقا عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف فلم يسمع منه حرفا، ورواه الطبراني في معجمه موصولا قال: ثنا علي بن المبارك، ثنا زيد بن المبارك، ثنا موسى بن عبدالعزيز، ثنا الحكيم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه البيهقي أيضا في المعرفة من طريق الحكم

(9/255)


بن أبان، وقال: يدفع حمله على البعد رواية الحكم بن أبان: صليت إلى جنبه – انتهى. قلت: موسى بن عبدالعزيز صدوق سيء الحفظ، والحكم بن أبان صدوق له أوهام، قاله الحافظ في التقريب. فرواية الطبراني لا تقاوم روايات الجهر الصحيحة الصريحة. واحتج له أيضا بقول عائشة عند أبي داود: فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة. قال الخطابي: هذا يدل على أنه لم يجهر بالقراءة فيها، ولو جهر لم تحتج فيها إلى الحزر والتخمين، وبحديث ابن عباس قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الكسوف فلم أسمع منه فيها حرفا، أخرجه أحمد (ج1 ص293، 350) وأبويعلى وأبونعيم في الحلية، والطحاوي (ج1 ص197)، والبيهقي (ج3 ص335)، وفيه ابن لهيعة، وبحديث سمرة الآتي في الفصل الثاني، وبأنها صلاة نهار فلا يجهر فيها كصلاة الظهر، وأجيب عن هذا كله بأن روايات الجهر نصوص صريحة صحيحة، والأحاديث المذكورة ليست بنص في السر ونفي الجهر، فكيف تعارض روايات الجهر
متفق عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/256)


بمثل هذا ! قال ابن قدامة: هذا نفي محتمل لأمور كثيرة، فكيف يترك من أجله الحديث الصحيح الصريح ! وقياسهم منتقض بالجمعة والعيدين والاستسقاء، وقياس هذه الصلاة على هذه الصلوات أولى من قياسها على الظهر لبعدها منها وشبهها بهذه – انتهى. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: حديث عائشة صحيح صريح في الجهر، وأحاديث هذا الباب – يعني أحاديث عائشة وابن عباس وسمرة – فيها دلالة على الإسرار، فكان المصير إلى ذلك الحديث أولى – انتهى. وقال العيني: روايات الجهر أصح. وقال ابن حزم: ليس لهم فيه – أي في حديث سمرة – حجة؛ لأنه ليس فيه أنه – عليه السلام – لم يجهر، وإنما فيه لا نسمع له صوتا، وصدق سمرة في أنه لم يسمعه، ولو كان بحيث يسمعه لسمعه كما سمعت عائشة – رضي الله عنها – التي كانت قريبا من القبلة في حجرتها، وكلاهما صادق، ثم لو كان فيه لم يجهر لكان خبر عائشة زائدا على ما في خبر سمرة، والزائد أولى – انتهى. وقال الزيلعي (ج2 ص234): واعلم أن الحديث يعني حديث ابن عباس بلفظ: نحوا من سورة البقرة، وما في معناه غير صريح في الإخفاء، وإن كان العلماء كلهم يحملوه عليه، ولكن قد ينسى الإنسان الشيء المقروء بعينه، وهو مع ذلك ذاكر لقدره، فيقول: قرأ فلان نحو سورة البقرة وهو قد سمع ما قرأ ثم نسيه، والله أعلم – انتهى. وقال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة – انتهى. وقال الحافظ: حديث عائشة مثبت للجهر ومعه قدر زائد، فالأخذ به أولى، وحديث سمرة إن ثبت لا يدل على نفي الجهر. قال ابن العربي: الجهري عندي أولى؛ لأنها صلاة جامعة ينادى لها ويخطب ـ فأشبهت العيد والاستسقاء، والله أعلم. وقال الشوكاني في النيل: إن كانت صلاة الكسوف لم يقع منه - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة واحدة، كما نص على ذلك جماعة من الحفاظ، فالمصير إلى الترجيح متعين، وحديث عائشة أرجح لكونه في الصحيحين، ولكونه متضمنا للزيادة، ولكونه مثبتا، ولكونه

(9/257)


معتضدا بما أخرجه ابن خزيمة وغيره عن علي مرفوعا من إثبات الجهر. وقال في السيل الجرار: رواية الجهر أصح وأكثر، وراوي الجهر مثبت وهو مقدم على النافي – انتهى. وسيأتي شيء من الكلام فيه في شرح حديث سمرة. وتأول بعض الحنفية حديث عائشة بأنه - صلى الله عليه وسلم - جهر بآية أو آيتين. قال في البدائع: نحمل ذلك على أنه جهر ببعضها اتفاقا، كما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسمع الآية والآيتين في صلاة الظهر أحيانا – انتهى. وهذا تأويل باطل؛ لأن عائشة كانت تصلي في حجرتها قريبا من القبلة، وكذا أختها أسماء، ومن كان كذلك لا يخفى عليه قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت قراءته في صلاة الكسوف سرا وكان يجهر بآية وآيتين أحيانا، كما فعل كذلك في صلاة الظهر، لما عبرت عن ذلك بأنه كان يجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، كما لم يقل أحد ممن روى قراءته في صلاة الظهر أنه جهر فيها بالقراءة (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد والترمذي
1496- (3) وعن عبدالله بن عباس قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه، فقام قياما طويلا نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأبوداود وابن حبان والحاكم (ج1 ص334) وأبوداود الطيالسي والطحاوي والبيهقي (ج3 ص336) والدارقطني.

(9/258)


1496- قوله (انخسفت الشمس) بنون بعد ألف الوصل ثم خاء، كذا في البخاري في باب صلاة الكسوف جماعة، وفي مسلم: انكسفت، وفي الموطأ: خسفت، وكذا عند البخاري في باب كفران العشير من كتاب النكاح. (فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه) أي صلى صلاة الكسوف بالجماعة (فقام قياما طويلا) صفة لقياما أو لزمانا مقدر (نحوا) أي تقريبا، وبيانه قوله (من قراءة سورة البقرة) أي من مقدار قراءتها، وفي مسلم: قدر نحو سورة البقرة، وفي النسائي: قرأ نحوا من سورة البقرة، وفي رواية لعائشة: خسفت الشمس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه فكبر فاقترأ قراءة طويلة، وفي رواية: فقرأ بسورة طويلة، وفيه دليل على مشروعية تطويل القيام بقراءة سورة طويلة في صلاة الكسوف، وهو مستحب عند الجميع، وحكى الزبيدي في شرح الإحياء عن الشافعية استحباب الإطالة وإن لم يرض بها الناس، وعن ابن الهمام أنها مستثناة من كراهة التطويل. (ثم ركع ركوعا طويلا) وهو الركوع الأول، قال الحافظ: لم أر في شيء من الطرق بيان ما قال فيه، إلا أن العلماء اتفقوا على أنه لا قراءة فيه، وإما فيه الذكر من تسبيح وتكبير ونحوهما – انتهى. قال ابن دقيق العيد: لم يجد فيه حدا، وقد ذكر أصحاب الشافعي فيه أنه نحو من مائة آية، واختار غيرهم عدم التحديد إلا بما يضر بم خلفه، وقال القسطلاني: يسبح قدر مائة آية من البقرة، وقال ابن قدامة: يسبح قدر مائة. وقال المالكية: يركع كالقيام الذي قبله، ويؤيده ما في حديث جابر عند مسلم: ثم ركع نحوا مما قام. (ثم رفع) أي رأسه من الركوع (فقام قياما طويلا) وهو الاعتدال الأول (وهو دون القيام الأول) وفي رواية لعائشة: ثم كبر فركع ركوعا طويلا، ثم قال: سمع الله لمن حمده فقام ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى. وقدرها الشافعية والحنابلة بنحو سورة آل عمران، لكن في رواية لعائشة عند

(9/259)


أبي داود: أنها حزرت قراءته بآل عمران بعد القيام من السجدتين أي في قيام الركعة الثانية. وزاد في رواية لعائشة عند البخاري: ربنا ولك الحمد بعد قوله: سمع الله لمن حمده، قال الحافظ: استدل به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال في أول القيام الثاني من الركعة الأولى. واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال بدليل اتفاق العلماء ممن
ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الأول،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/260)


قال بزيادة الركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن كان محمد بن مسلمة المالكي خالف فيه، والجواب أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله فيها كان مشروعا؛ لأنها أصل برأسه، وبهذا المعنى رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة حتى منع من زيادة الركوع فيها – انتهى. وقال العيني: وأجاب عن ذلك شيخنا العراقي بقوله: في استشكاله نظر لصحة الحديث فيه، بل لو زاد الشارع عليه ذكرا آخر لما كان مستشكلا – انتهى. (ثم ركع ركوعا طويلا) وهو الركوع الثاني (وهو دون الركوع الأول) قال القسطلاني: وقدروه بثمانين آية، وقال ابن قدامة: يركع بقدر ثلثي ركوعه الأول – انتهى. واختلف في أن أي الركوعين من الركعتين فرض، وبإدراك أي الركوعين يكون مدركا للركعة؟ فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الأصل والفرض هو الركوع الأول وقيامه، وأما الركوع الثاني وقيامه فتابع وزائد وسنة كتكبيرات العيد، فمن أدرك الإمام في الركوع الأول من الركعة الأولى أو الثانية أدرك الركعة، كما في سائر الصلوات، ومن أدركه في الركوع الثاني من أي ركعة فلا يدرك شيئا، وعكسه المالكية فقالوا: الزائد والتابع والسنة في كل من الركعتين القيام الأول والركوع الأول، والفرض إنما هو الركوع الثاني والقيام الثاني في كل ركعة، فمن أدرك الإمام في الركوع الثاني من الركعة الأولى أدرك الركعة ولم يقض شيئا، وإن أدرك الركوع الثاني من الركعة الثانية يقضي الأولى بقيامها فقط ولا يقضي القيام الثالث. وقال ابن قدامة في المغني: إذا أدرك الإمام في الركوع الثاني احتمل أنه تفوته الركعة، قال القاضي: لأنه قد فاته من الركعة ركوع أشبه ما لو فاته الركوع من غير هذه الصلاة، ويحتمل أن تصح صلاته؛ لأنه يجوز أن يصلي هذه الصلاة بركوع واحد، فاجتزئ به في حق المسبوق – انتهى. واعلم أنه لم يرد تعيين ما قرأ به - صلى الله عليه

(9/261)


وسلم - إلا في حديث لعائشة عند الدارقطني (ص188) أنه قرأ في الركعة الأولى بالعنكبوت أو الروم، وفي الثانية بـ"يس"، وأخرجه البيهقي (ج3 ص236) وفيه أنه قرأ في الركعة الأولى بـ"العنكبوت"، وفي الثانية بـ"لقمان" أو "الروم"، وفي حديث علي عند البيهقي (ج3 ص330) أنه قرأ بـ"يس" ونحوها، وفي آخره ثم حدثهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل، وفي رواية عنده: أنه قرأ في الركعة الأولى سورة الحج ويس ثم ركع أربع ركعات ثم سجد في الرابعة ثم قام فقرأ بسورة الحج ويس وهو موقوف من فعله، ويأتي حديث أبي بن كعب أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ بسورة من الطوال، وتقدم الإشارة إلى حديث عائشة عند أبي داود والبيهقي (ج3 ص335) أنها قالت: حزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة ثم سجد سجدتين ثم قام فأطال القراءة، فحزرت فرأيت أنه قرأ سورة آل عمران، وهذا كله يدل على أنه لا تعيين في القراءة في صلاة الكسوف، فيختير
ثم رفع، ثم سجد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/262)


المصلي من القرآن ما شاء، وإن التطويل أولى، والله تعالى أعلم. قال الشوكاني: لا بد من القراءة بالفاتحة في كل ركعة لما تقدم من الأدلة الدالة على أنها لا تصح ركعة بدون الفاتحة. قال النووي: واتفق العلماء على أنه يقرأ الفاتحة في القيام الأول من كل ركعة، واختلفوا في القيام الثاني، فمذهبنا ومذهب مالك وجمهور أصحابه أنها لا تصح الصلاة إلا بقراءتها فيه، وقال محمد بن مسلمة من المالكية: لا تتعين الفاتحة في القيام الثاني – انتهى. قال الباجي: يستفتح القراءة في الركعة الأولى والثالثة بأم القرآن، وأما الثانية والرابعة فإنه يقرأ فيهما بالسورة، وهل يقرأ الفاتحة أم لا؟ قال مالك: نعم، وقال محمد بن مسملة: لا، وجه الأول أنها ركعة بقراءة، فوجب الفاتحة كالأولى، ووجه الثاني: أن الركعتين في حكم الركعة الواحدة، بدليل أن المأموم يجزيه إدراك أحدهما، فالقراءتان في حكم القراءة الواحدة، فوجب أن لا يتكرر الفاتحة – انتهى. وقال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج2 ص139): كأنه رآها ركعة واحدة زيد فيها ركوع، والركعة الواحدة لا تثنى الفاتحة فيها، وهذا يمكن أن يؤخذ من الحديث، كما سننبه عليه في موضعه – انتهى. وقال في شرح حديث عائشة بلفظ: فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات (ج2 ص142). أطلق الركعات على عدد الركوع، وجاء في موضع آخر في ركعتين، وهذا هو الذي أشرنا إلى أنه متمسك من قال من أصحاب مالك إنه لا يقرأ الفاتحة في الركوع الثاني من حيث أنه أطلق على الصلاة ركعتين، والله أعلم. (ثم رفع) أي رأسه من الركوع الثاني (ثم سجد) أي سجدتين، لم يذكر فيه تطويل الاعتدال الذي يتعقبه السجود، ووقع في حديث جابر عند مسلم تطويل هذا الاعتدال، ولفظه: ثم رفع فأطال ثم سجد. قال النووي: هي رواية شاذة مخالفة لرواية الأكثرين، فلا يعمل بها، أو المراد زيادة الطمأنينة في الاعتدال لا إطالته نحو الركوع. وتعقب بما رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث

(9/263)


عبدالله بن عمرو أيضا ففيه: ثم ركع فأطال حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع فأطال حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد فأطال حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد. لفظ ابن خزيمة من طريق الثوري عن عطاء بن السائب عن أبيه عنه. قال الحافظ: والثوري سمع من عطاء قبل الاختلاط، فالحديث صحيح – انتهى. قلت: قد صرح الشافعية والحنابلة في فروعهم بعدم تطويل الاعتدال الذي يلي السجود، وهو مقتضى مذهب الحنفية والمالكية، وكأنهم اتفقوا على عدم مشروعية هذا الاعتدال، وهذا ليس بشيء بعد ما ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة، وعدم ذكره في باقي الروايات أي السكوت عنه لا يدل على شذوذه، ولم يذكر في حديث ابن عباس تطويل السجود، ولكنه مذكور في حديث عائشة وغيرها، وقد تقدم الكلام في هذا، قال الحافظ: ولم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في حديث عبدالله بن عمرو، وقد
ثم قام فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياما طويلا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/264)


نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته، فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام وإلا فهو محجوج بهذه الرواية – انتهى. وقال النووي في الأذكار: قال أصحابنا: لا يطول الجلوس بين السجدتين، بل يأتي به على العادة في غيرها، وهذا الذي قالوه فيه نظر، فقد ثبت في حديث صحيح إطالته، وقد ذكرت ذلك واضحا في شرح المهذب، فالاختيار استحباب إطالته – انتهى. قال صاحب الأوجز: وهكذا ينبغي للحنفية أن يصرحوا باستحباب تطويله؛ لأن الرواية التي استدلوا بها في الكسوف صريحة في تطويله، وفي مسند أبي حنيفة من حديث ابن عمر: فكان جلوسه بين السجدتين قدر سجوده...الحديث. (ثم قام) أي إلى الركعة الثانية (فقام قياما طويلا) كذا في البخاري في باب كفران العشير من كتاب النكاح، وفي مسلم: ثم قام قياما طويلا، أي من غير تكرار قام، وكذا في البخاري في باب صلاة الكسوف جماعة. (وهو دون القيام الأول) يحتمل أن يراد منه القيام الأول من الركعة الأولى أو القيام الذي يليه. قال ابن عبدالبر: أي ذلك كان فلا حرج إن شاء الله تعالى. وفي المدونة قال مالك: إنما يعني دون القيام الذي يليه، وكذلك قال في الركوع إنما يعني دون الركوع الذي يليه، وقال ابن بطال: لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعيها تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعيها، وقال النووي: اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أقصر من القيام الأول وركوعه فيهما، واختلفوا في القيام الأول من الثانية وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني من الأولى وركوعه أو يكونان سواء؟ قيل: وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله:وهو دون القيام الأول، هل المراد به الأول من الثانية أو يرجع إلى الجميع؟ فيكون كل قيام دون الذي قبله، ورواية الإسماعيل لحديث عائشة بلفظ: الأولى فالأولى أطويل، تعين هذا الثاني ويرجحه أيضا أنه لو كان المراد من قوله: القيام الأول، أول قيام من الأولى فقط لكان القيام الثاني والثالث مسكوتا عن

(9/265)


مقدارهما فالأول أكثر فائدة، كذا في الفتح. قلت: وقدر الشافعية هذه القيام الثالث بنحو سورة النساء، والرابع بنحو المائدة، وأشكل بأن الراجح المختار أن القيام الثالث أقصر من الثاني، والنساء أطول من آل عمران، وأجاب الزرقاني بأنه إذا أسرع بقراءتها ورتل آل عمران كانت أطول، وقال السبكي في شرح المنهاج: قد ثبت بالأخبار تقدير القيام الأول بنحو البقرة وتطويله على الثاني والثالث، ثم الثالث على الرابع. وأما نقص الثالث عن الثاني أو زيادته عليه فلم يرد فيه شيء فيما أعلم فلأجله لا بعد في ذكر سورة النساء فيه وآل عمران في الثاني، نعم إذا قلنا بزيادة ركوع ثالث فيكون أقصر من الثاني. ذكره القسطلاني. (ثم ركع ركوعا) ثالثا طويلا (وهو دون الركوع الأول) قدروه بنحو سبعين آية (ثم رفع) رأسه من الركوع الثالث (فقام قياما) رابعا (طويلا) وقدروه بنحو المائدة
وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/266)


(وهو دون القيام الأول) أي الثالث (ثم ركع ركوعا) رابعا (طويلا) وقدروه بنحو خمسين آية تقريبا (وهو دون الركوع الأول) أي الثالث (ثم رفع) رأسه للقومة (ثم سجد) أي سجدتين كذلك (ثم انصرف) من الصلاة (وقد تجلت الشمس) بفوقية وشد لام أي انكشفت، وفي حديث جابر عند مسلم: فانصرف وقد آضت الشمس، وعند أبي داود: فقضى الصلاة وقد طلعت الشمس، وفي حديث قبيصة عند النسائي: فوافق انصرافه انجلاء الشمس، وفي حديث عبدالله بن عمرو عند أبي داود ففرغ من صلاته وقد امحصت الشمس، والمراد أنه انصرف من الصلاة بالسلام بعد التشهد، والحال أن الشمس انجلت بين جلوسه للتشهد والسلام، كما في حديث عبدالله بن عمر، وعند البخاري: ثم جلس ثم جلى عن الشمس، وفي حديث سمرة عند أبي داود والنسائي: فوافق تجلي الشمس جلوسه في الركعة الثانية ثم سلم، وفي حديث عبدالله بن عمرو عند النسائي: ثم رفع رأسه – أي من السجدة – وانجلت الشمس، وفي حديث أبي بن كعب الآتي: ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها، فهذه الروايات كلها تدل على أن الانجلاء كان في الجلوس آخر الصلاة، وحديث عبدالرحمن بن سمرة عند مسلم يدل بظاهره أن انجلاء الشمس وقع قبل الشروع في الصلاة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ صلاة الكسوف بعد الانجلاء، وهو خلاف جميع الروايات وخلاف ما ذهب إليه العلماء، وسيأتي توجيهه. (فقال) بإلفاء، وللأصيلي: وقال. ذكره القسطلاني يعني أنه خطب فقال في خطبته بعد الحمد والثناء على الله. (إن الشمس والقمر) فيه إيماء إلى أن حكم صلاة كسوف الشمس وخسوف القمر واحد. (آيتان) أي علامتان (من آيات الله) أي الدالة على وحدانيته وقدرته وعظمته أو على تخويف عباده من بأسه وسطوته، ويؤيده قوله تعالى: ?وما نرسل بالآيات إلا تخويفا? [الإسراء: 59]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي بكرة وأبي موسى عند البخاري: يخوف الله بهما عباده)) أو أنهما مسخران لقدرة

(9/267)


الله وتحت حكمه ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. (لا يخسفان) بفتح فسكون فكسر على أنه لازم، ويجوز ضم أوله على متعد أي لا يذهب الله نورهما، وأتى بالتذكير تغليبا للقمر طبق القمرين. (لموت أحد) من العظماء كما توهمه بعض الناس تبعا لما كان يعتقده أهل الجاهلية أن كسوف الشمس والقمر لا يكون إلا لموت عظيم، وقد وقع في رواية للبخاري من حديث أبي بكرة بيان سبب هذا القول، ولفظها: وذلك أن ابنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له إبراهيم مات، فقال الناس في ذلك، وعند ابن حبان: فقال الناس: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم، وفي حديث النعمان بن بشير الآتي: ثم
ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله، قالوا: يا رسول الله ! رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا، ثم رأيناك تعكعكت، فقال: إني رأيت الجنة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/268)


قال: إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلا لموت عظيم...الخ، وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض، وهو نحو قوله في الحديث المشهور: ((يقولون مطرنا بنوء كذا...))، قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. (ولا لحياته) أي لولادته، وهي تتمة للتقسيم وإلا فلم يدع أحد أن الكسوف لحياة أحد أو ذكر لدفع توهم من يقول: لا يلزم من نفي كونه سببا للفقدان لا يكون سببا للإيجاد، فعمم الشارع النفي لدفع هذا التوهم. (فإذا رأيتم ذلك) أي الكسوف في أحد منهما لاستحالة كسوفهما معا في وقت واحد عادة، واستدل به على مشروعية صلاة خسوف القمر (فاذكروا الله) بالصلاة والتسبيح والتكبير والدعاء والتهليل والاستغفار وسائر الأذكار (تناولت شيئا) أي قصدت تناول شيء وأخذه كذا للأكثر: تناولت، بصيغة الماضي، وفي رواية الكشمهيني: تناول، بحذف إحدى التائين تخفيفا وضم اللام بالخطاب من المضارع، ويروى تتناول على الأصل بإثباتها (في مقامك هذا) أي في الموضع الذي صليت فيه (تكعكعت) بتاء مثناة فوقية في أوله وكافين مفتوحتين ومهملتين ساكنتين بعد كل منهما، أي تأخرت أو تقهقرت، وفي رواية: كعكعت، بحذف التاء أوله، وهو يقتضي مفعولا أي رأيناك كعكعت نفسك، قال أبوعبيد: كعكته فتكعكع، وهو يدل على أن كعكع متعد وتكعكع لازم، واختلف في أنه ثلاثي مزيد أو رباعي مجرد، وقول الجوهري وغيره يدل على أنه ثلاثي مزيد فيه؛ لأنه نقل عن يونس كع يكع بالضم. وقال سيبويه: بالكسر أجود كمد وفر إذا نكص على عقيبه، وفي رواية مسلم: رأيناك كففت أي نفسك بفائين خفيفتين من الكف وهو المنع (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -

(9/269)


(إني رأيت الجنة) أي رؤية عين بأن الحجب كسفت له دونها فرآها على حقيقتها وطويت المسافة بينهما حتى أمكنه أن يتناول منها كبيت المقدس حيث وصفه لقريش، وهذا أشبه بظاهر هذا الحديث، ويؤيده ما روى البخاري من حديث أسماء في أوائل صفة الصلاة بلفظ: ((دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها)). ومنهم من حمله على أنه مثلت له في الحائط كما تنطبع الصورة في المرآة فرأى جميع ما فيها، ويؤيده حديث أنس عند البخاري في كتاب التوحيد: ((لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي))، وفي رواية: ((لقد مثلت))، ولمسلم (لقد صورت))، ولا يقال: إن الانطباع إنما هو في الأجسام
فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/270)


الصقيلة؛ لأن ذلك شرط عادي فيجوز أن تنخرق العادة خصوصا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر، ولا مانع أن يرى الجنة والنار مرتين بل مرارا على صور مختلفة، وأبعد من قال: إن المراد بالرؤية رؤية العلم، قال القرطبي: لا إحالة في بقاء هذه الأمور على ظواهرها، ولاسيما على مذهب أهل السنة أن الجنة والنار قد خلقتا، وهما موجودتان الآن، فيرجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه إدراكا خاصا به أدرك الجنة والنار على حقيقتهما (فتناولت) بين سعيد بن منصور في سننه من وجه آخر أن التناول كان حين قيامه الثاني من الركعة الثانية، ذكره الحافظ. (منها) أي من الجنة (عنقودا) بضم العين، وهو من العنب ونحوه ما تراكم من حبه، وقيل: المراد قطعة من العنب (ولو أخذته) وفي رواية أخرى للبخاري: ((ولو أصبته))، واستشكل هذا مع قوله: ((فتناولت))، وأجيب بأنه يحمل التناول على تكلف الأخذ لا حقيقة الأخذ. وقيل: المراد تناولت لنفسي، ولو أخذته لكم وأعطيتكم، حكامه الكرماني وليس بجيد. وقيل: المراد بقوله: تناولت، وضعت يدي عليه بحيث كنت قادرا على تحويله، لكن لم يقدر لي قطفه ولو أخذته أي لو تمكنت من قطفه، يدل عليه قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة: أهوى بيده ليتناول شيئا، وفي حديث أسماء المذكور: حتى لو اجترأت عليها، وكأنه لم يؤذن له في ذلك فلم يجترئ عليه. وقيل: الإرادة مقدرة، أي أردت أن أتناول ثم لم أفعل، ويؤيده حديث جابر عند مسلم: ((ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل))، ومثله للبخاري من حديث عائشة في آخر الصلاة بلفظ: ((حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني جعلت أتقدم))، ولعبدالرزاق من طريق مرسلة: ((أردت أن آخذ منها قطفا لأريكموه فلم يقدر))، ولأحمد من حديث جابر ((فحيل بيني وبينه))، كذا في الفتح (لأكلتم منه) أي من العنقود (ما بقيت الدنيا)

(9/271)


وجه ذلك أنه يخلق الله تعالى مكان كل حبة تقتطف حبة أخرى كما هو المروي في خواص ثمر الجنة، والخطاب عام في كل جماعة يتأتى منهم السماع والأكل إلى يوم القيامة لقوله ((ما بقيت الدنيا))، وسبب تركه - صلى الله عليه وسلم - تناول العنقود، قال ابن بطال: لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفني والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. وقيل: لأنه لو تناوله ورآه الناس لكان إيمانهم بالشهادة لا بالغيب فيخشى أن يقع رفع التوبة والتكليف فلا ينفع نفسا إيمانها. وقيل: لأن الجنة جزاء الأعمال والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة. (ورأيت النار) كانت رؤيته - صلى الله عليه وسلم - النار قبل رؤيته للجنة لما وقع في رواية عبدالرزاق المذكورة ((عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - النار فتأخر عن مصلاه حتى أن الناس ليركب بعضهم بعضا، وإذا رجع عرضت عليه الجنة فذهب يمشي حتى وقف في مصلاه))، ولمسلم من حديث جابر: ((لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها))، وفيه: ((ثم جيء بالجنة
فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/272)


وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي))، وزاد فيه ((ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاته هذه))، واللام في النار للعهد أي رأيت نار جهنم (فلم أر كاليوم) أي مثل اليوم، والمراد من اليوم الوقت الذي هو في (منظرا) منصوب بلم أر (قط) بتشديد الطاء ظرف للماضي أي أبدا، قال القاري: أي لم أر منظرا مثل منظر اليوم، فقوله كاليوم صفة منظرا فلما قدم نصب على الحال (أفظع) أي أقبح وأبشع وأشنع وأسوأ، كذا وقع في جميع النسخ الموجودة للمشكاة، وكذا في النسخ الموجودة للموطأ من طبعات الهند، ولفظ المصابيح فلم أر كاليوم منظرا أفظع قط منها، ولفظ البخاري في النكاح من طريق عبدالله بن يوسف عن مالك عن زيد بن أسلم والنسائي من طريق ابن القاسم عن مالك ومسلم من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم بلفظ: فلم أر كاليوم منظرا قط أي بدون لفظ أفظع، وكذا وقع في نسخ الموطأ من طبعات مصر، ورواه البيهقي من طريق القعنبي بلفظ: فلم أر كاليوم منظرا أفظع منها، قال البيهقي: ورواه الشافعي أي عن مالك ولم يذكر قوله أفظع منها والباقي سواء – انتهى. ورواه البخاري في صلاة الكسوف من طريق القعنبي بلفظ: فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص116) قال الحافظ: أي لم أر منظرا مثل منظر رأيته اليوم فحذف المرئي وأدخل التشبيه على اليوم لبشاعة ما رأى فيه وبعده عن النظر المألوف، وقيل: الكاف اسم، والتقدير: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرا، وقال القسطلاني: منظرا نصب بأر وأفظع صفة للمنصوب وكاليوم قط اعتراض بين الصفة والموصوف، وأدخل كاف التشبيه عليه لبشاعة ما رأى فيه، وجوز الخطابي في أفظع وجهين: أن يكون بمعنى فظيع كأكبر بمعنى كبير، وأن يكون أفعل تفضيل على بابه على تقدير منه فصفة فعل التفضيل محذوفة. قال ابن السيد: العرب تقول: ما رأيت كاليوم رجلا، وما رأيت كاليوم منظرا، والرجل والمنظر لا يصح أن يشبها باليوم،

(9/273)


والنحاة تقول معناه ما رأيت كرجل أراه اليوم رجلا وما رأيت كمنظر رأيته اليوم منظرا، وتلخيصه: ما رأيت كرجل اليوم رجلا وكمنظر اليوم منظرا، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وجازت إضافة الرجل والمنظر إلى اليوم لتعلقهما به وملابستهما له باعتبار رؤيتهما فيه، وقال غيره: الكاف هنا اسم، وتقديره: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرا، ومنظرا تمييز، ومراده باليوم الوقت الذي هو فيه، ذكره الدماميني والبرماوي، لكن تعقب الدماميني الأخير وهو قوله وقال غيره...الخ بأن اعتباره في الحديث يلزم منه تقديم على عامله، والصحيح منعه. فالظاهر في إعرابه أن منظرا مفعول أر وكاليوم ظرف مستقر صفة له، وهو بتقدير مضاف محذوف، كما تقدم أي كمنظر اليوم، وقط ظرف لأر وأفظع حال من اليوم على
ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن، قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/274)


ذلك التقدير، والمفضل عليه، وجار ومجرور محذوفان، أي كمنظر اليوم حال كونه أفظع من غيره – انتهى. (ورأيت أكثر أهلها النساء) استشكل مع حديث أبي هريرة أن أدنى أهل الجنة منزلة من له زوجتان من الدنيا، ومقتضاه أن النساء ثلثا أهل الجنة، وأجيب بحمل حديث أبي هريرة على ما بعد خروجهن من النار، وما قيل: إنه خرج مخرج التغليظ والتخويف فهو لغو؛ لأنه إخبار عن الرؤية الحاصلة، وفي حديث جابر: ((وأكثر من رأيت فيها النساء اللاتي إن اؤتمن أفشين، وإن سئلن بخلن، وإن سألن إلحفن، وإن أعطين لم يشكرن)) فدل على أن المرئى في النار منهم من اتصف بصفات ذميمة، قال الحافظ: حديث ابن عباس يفسر وقت الرؤية في قوله - صلى الله عليه وسلم - لهن في خطبة العيد: ((تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار))، قال النووي: فيه دليل على أن بعض الناس اليوم معذب في جهنم. (قالوا) أي الصحابة (بم) كذا في البخاي في صلاة الكسوف بالباء أصله بما بالألف وحذفت تخفيفا، أي بسبب أي شيء من الأعمال، وللبخاري في النكاح ((لم)) باللام، وكذا في مسلم والنسائي (قيل: يكفرن) بحذف همزة الاستفهام، والقائل أسماء بنت يزيد بن السكن التي تعرف بخطيبة النساء كما يدل عليه رواية البيهقي والطبراني من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد (قال يكفرن العشير) قال الحافظ: كذا للجمهور عن مالك بلا واو، وكذا عند مسلم من رواية حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم، ووقع في موطأ يحيى بن يحيى قال: ويكفرن العشير بزيادة واو، وقال ابن عبدالبر: هكذا ليحيى وحده بالواو، ولم يزدها غيره، والمحفوظ عن مالك من رواية سائر الرواة بلا واو، قال الحافظ: ورواية يحيى وإن كانت شاذة، لكن معناها صحيح؛ لأن الجواب طابق السوال وزاد، وذلك أنه أطلق لفظ النساء فعم المؤمنة والكافرة، فلما قيل: أيكفرن بالله؟ فأجاب ويكفرن العشير...الخ، وكأنه قال: نعم، يقع منهن الكفر بالله وغيره؛ لأن منهن من يكفر بالله، ومنهن من يكفر

(9/275)


الإحسان، وقال ابن عبدالبر: وجه رواية يحيى أن يكون الجواب لم يقع على وفق سؤال السائل لإحاطة العلم بأن من النساء من يكفر بالله فلم يحتج إلى جوابه؛ لأن المقصود في الحديث خلافه – انتهى. والعشير الزوج وحمله بعضهم على العموم، وقال: أراد به كل من يعاشرها من زوج أو غيره، والألف واللام على الأول للعهد، وعلى الثاني للجنس، قيل: لم يعد كفر العشير بالباء كما عدى الكفر بالله؛ لأن كفر العشير لا يتضمن معنى الاعتراف بخلاف الكفر مبينة للجملة الأولى على طريق أعجبني زيد وكرمه، وكفر الإحسان تغطيته وعدم الاعتراف به أو جحده وإنكاره، كما يدل عليه قوله (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر) بالنصب على الظرفية، زاد في رواية البخاري في صلاة
ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط)) متفق عليه.
1497- (4) وعن عائشة نحو حديث ابن عباس، وقالت: ثم سجد فأطال السجود، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكسوف كله أي تمام عمر الرجل أو الزمان جميعه لقصد المبالغة والخطاب في أحسنت لكل من يصلح لذلك من الرجال فهو خطاب خاص لفظا عام معنى (شيئا) أي ولو حقيرا لا يوافق هواها من أي نوع كان، وقيل: التنوين فيه للتقليل أي شيئا قليلا لا يوافق غرضها (خيرا) قليلا (قط) أي في جميع ما مضى من العمر، وفي الحديث المبادرة إلى الطاعة عند رؤية ما يحذر منه واستدفاع البلاء بذكر الله وأنواع طاعته وتحريم كفران الحقوق ووجوب شكر المنعم وغير ذلك من الفوائد الكثيرة التي ذكرت في شرحي البخاري للحافظ والعيني وشرح مسلم للنووي (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص298، 358) ومالك وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص321).

(9/276)


1497- قوله (وعن عائشة نحو حديث ابن عباس) برفع نحو أي مثل حديثه في المعنى (ثم سجد فأطال السجود) كالركوع (ثم انصرف) عن الصلاة بالسلام بعد التشهد (وقد انجلت الشمس) بنون بعد ألف الوصل أي صفت وانكشفت (فخطب الناس) هذا ظاهر في الدلالة على أن لصلاة الكسوف خطبة، قال العيني: حديث الباب صريح في الخطبة، وبها قال الشافعي وإسحاق وابن جرير وفقهاء أصحاب الحديث، وقال أبوحنيفة ومالك وأحمد: لا خطبة فيها. قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالصلاة والتكبير والصدقة ولم يأمرهم بالخطبة، ولو كانت سنة لأمرهم بها، وإنما خطب - صلى الله عليه وسلم - بعد الصلاة ليعلمهم حكمها فكأنه مختص به. وقيل: خطب بعدها لا لها بخصوصها بل ليردهم عن قولهم: إن الشمس كسفت لموت إبراهيم وليخبرهم بما رأى في الصلاة من الجنة والنار وغيرهما من الآيات، كما في الحديث، ولذا خطب بعد الانجلاء، ولو كانت سنة لخطب قبله كالصلاة والدعاء. وأجيب عن الأول بأن المشروعية والسنية لا تتوقف على البيان بالقول بل تثبت بفعله - صلى الله عليه وسلم - أيضا، وههنا قد ورد ذكر الخطبة بعد صلاة الكسوف في أحاديث كثيرة صحيحة فلا شك في مشروعيتها واستحبابها، وعن الثاني بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف والإخبار بما رأى من الجنة والنار وغيرهما من الآيات، كما لا يخفى على من تأمل في حديث أسماء وحديث عائشة متفق عليهما، وحديث جابر عند مسلم وحديث سمرة عند أحمد والحاكم، والأصل مشروعية الاتباع والخصائص لا تثبت إلا بدليل، وقال ابن دقيق العيد: العذر المذكور
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/277)


ضعيف؛ لأن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معين بعد الإتيان بما هو المطلوب منها من الحمد والثناء والموعظة، وقد يكون بعض هذه الأمور داخلا في مقاصدها مثل ذكر الجنة والنار وكونهما من آيات الله، بل هو كذلك جزما – انتهى. قال الحافظ: وجميع ما ذكر من سبب الكسوف وغيره هو من مقاصد خطبة الكسوف فينبغي التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيذكر الإمام ذلك في خطبة الكسوف – انتهى. وذكر الزيلعي كلام ابن دقيق العيد بتمامه ولم يتعقبه بشيء. قال صاحب الهداية من الحنفية: ليس في الكسوف خطبة؛ لأنه لم ينقل. وتعقب بأن الأحاديث قد ثبتت فيه، وهي ذات كثرة، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص236) بعد ذكر كلام صاحب الهداية المذكور: هذا غلط، ثم ذكر أحاديث أسماء وابن عباس وعائشة متفق عليها، وحديث جابر عند مسلم، وحديث سمرة عند أحمد وحديث عمرو بن العاص عند ابن حبان، وكلها مشتمل على ذكر الخطبة، وما قال فيها، وقال الحافظ في الدراية (ص138) بعد ذكر كلام صاحب الهداية: وهذا النفي مردود بما في الصحيحين عن أسماء: ثم انصرف بعد أن تجلت الشمس فقام فخطب الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه....الحديث، وفي المتفق أيضا عن ابن عباس وعائشة، ولمسلم عن جابر ولأحمد والحاكم عن سمرة ولابن حبان عن عمرو بن العاص – انتهى. قال بعض الحنفية: لعل مراد صاحب الهداية بقوله: "لم ينقل" أي الأمر بها كما نقل الأمر بالصلاة والذكر والدعاء وغير ذلك. قلت: صاحب الهداية قد نفى نقل الخطبة مطلقا، وهو الذي فهمه الزيلعي والحافظ، ولذلك اتفقا على تغليطه والرد عليه، والاحتمال الذي ذكره هذا البعض خلاف الظاهر فهو مردود. واحتج بعض أصحاب مالك على ترك الخطبة بأنه لم ينقل في الحديث أنه صعد المنبر. وقد زيفه ابن المنير بأن المنبر ليس شرطا، ثم لا يلزم من أنه لم يذكر أنه لم يقع، قلت: ورد ذكر صعود المنبر صريحا في حديث عائشة عند النسائي وحديث أسماء عند أحمد (ج6 ص354)،

(9/278)


قال الحافظ: صرح أحمد والنسائي وابن حبان في روايتهم بأنه صعد المنبر، وكذا قال الزيلعي في نصب الراية (فحمد الله وأثنى عليه) زاد النسائي والبيهقي والحاكم في حديث سمرة وشهد أنه عبدالله ورسوله. (فإذا رأيتم ذلك) أي الكسوف في أحدهما (فادعوا الله) قال القسطلاني: وللحموي والمستملي: ((فاذكروا الله))، بدل رواية الكشمهيني ((فادعوا الله)) انتهى. قال ابن الملك: إنما أمر بالدعاء لأن النفوس عند مشاهدة ما هو خارق للعادة تكون معرضة عن الدنيا ومتوجهة إلى الحضرة العلياء فتكون أقرب إلى الإجابة (وكبروا) أي عظموا الرب أو قولوا: الله أكبر (وصلوا) أي صلاة الكسوف والخسوف كما صليتم الآن، وروى البخاري عن أبي مسعود قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد ! والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/279)


إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد من الناس ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموها (أي الآية) فقوموا فصلوا، قال الحافظ: استدل به على أنه لا وقت لصلاة الكسوف معين؛ لأن الصلاة علقت برؤية الكسوف، وهي ممكنة في كل وقت من النهار، وبهذا قال الشافعي ومن تبعه، واستثنى الحنفية أوقات الكراهة، وهو مشهور مذهب أحمد، وعن المالكية وقتها من حل النافلة إلى الزوال، وفي رواية إلى صلاة العصر. ورجح الأول بأن المقصود إيقاع هذه العبادة قبل الانجلاء، وقد اتفقوا على أنها لا تقضى بعد الانجلاء، فلو انحصرت في وقت لأمكن الانجلاء قبله فيفوت المقصود، ولم أقف في شيء من الطرق مع كثرتها على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها الأضحى لكن ذلك وقع اتفاقا، ولا يدل على منع ما عداه، واتفقت الطرق على أنه بادر إليها – انتهى. (وتصدقوا) لأن الصدقة تطفئ غضب الرب، وفي الحديث المبادرة بالصلاة وسائر ما ذكر من الدعاء والتكبير والصدقة عند الكسوف، قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله: الأصل فيها إن الآيات إذا ظهرت انقادت لها النفوس والتجأت إلى الله تعالى وانفكت عن الدنيا نوع انفكاك، فتلك الحالة غنيمة للمؤمن ينبغي أن يبتهل في الدعاء والصلاة وسائر أعمال البر، وأيضا فإنها وقت قضاء الله الحوادث في عالم المثال، ولذلك يستشعر فيها العارفون الفزع وفزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها لأجل ذلك، وهي أوقات سريان الروحانية في الأرض، فالمناسب للمحسن أن يتقرب إلى الله في تلك الأوقات، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث النعمان: ((فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له))، وأيضا فالكفار يسجدون للشمس والقمر فكان من حق المؤمن إذا رأى آية عدم استحقاقهما العبادة أن يتضرع إلى الله ويسجد له، وهو قوله تعالى: ?لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن? [فصلت: 37] ليكون شعارا للدين وجوابا مسكتا لمنكريه – انتهى. (يا أمة محمد)

(9/280)


فيه ذكر الباعث لهم على الامتثال وهو نسبتهم إليه - صلى الله عليه وسلم -، قاله القاري، وقيل: خاطبهم بذلك إظهارا لمعنى الشفقة، كما يقول أحد: يا بني، وعدل عن يا أمتي لأن المقام مقام تخويف وتحذير، وفي قوله: ((أمتي)) إشعار بالتكريم (والله) أتى باليمين لإرادة التأكيد لخبره، وإن كان لا يرتاب في صدقه (ما من أحد أغير) أي أشد غيرة (من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) أي على زنا عبده أو أمته، قال القسطلاني: برفع أغير صفة لأحد باعتبار المحل، والخبر محذوف منصوب أي موجودا على أن ما حجازية – وهي تعمل عمل ليس -، أو يكون أحد مبتدأ وأغير خبره على أن ما تميمية، ويجوز نصب أغير على أنه خبر ما الحجازية، و"من" زائدة للتأكيد وأن يكون مجرورا بالفتحة على الصفحة للمجرور باعتبار اللفظ والخبر المحذوف مرفوع على أن ما تميمية، وقوله ((أن يزني)) متعلق بأغير
يا أمة محمد ! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/281)


وحذف الجار من أن قياس مستمر. قال الحافظ: أغير أفعل تفضيل من الغيرة بفتح الغين المعجمة، وهي في اللغة تغير يحصل من الحمية والأنفة، وأصلها في الزوجين والأهلين وكل ذلك محال على الله تعالى؛ لأنه منزه عن كل تغير ونقص فيتعين حمله على المجاز، فقيل: لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعم وزجر من يقصد إليهم أطلق عليه ذلك لكونه منع من فعل ذلك وزجر فاعله وتوعده فهو من باب تسمية الشيء بما يترتب عليه. وقال ابن فورك: المعنى ما أحد أكثر زجرا عن الفواحش من الله تعالى. وقال غيره: غيرة الله ما يغير من حال العاصي بانتقامه منه في الدنيا والآخرة أو في أحدهما، ومنه قوله تعالى: ?إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم? [الرعد: 11]، وقال ابن دقيق العيد: أهل التنزيه في مثل هذا على قولين إما ساكت وإما مؤول، على أن المراد بالغيرة شدة المنع والحماية، فهو من مجاز الملازمة، وقال الطيبي: وجه اتصال هذا المعنى بما قبله من قوله: ((فادعوا الله وكبروا...)) الخ، من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالدعاء والذكر والتكبير والصلاة والتصدق ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء وخص منها الزنا؛ لأنه أعظمها في ذلك. وقيل: لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرا في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب الغيرة وخالقها سبحانه وتعالى. ولعل تخصيص العبد والأمة بالذكر رعاية لحسن الأدب مع الله تعالى لتنزيهه عن الزوجة والأهل ممن يتعلق بهم الغيرة غالبا – انتهى كلام الحافظ، وقيل: الغيرة من صفات الكمال، فتثبت لله تعالى كما هو مدلول اللغة، ولا دليل على صرفه عن ظاهر معناه، وما ذكروه من حقيقته فهو بالنسبة إلينا، والله جل وعلا منزه عن مماثلة المخلوقات، فكما إن ذاته ليست كذواتنا فصفاته ليست كصفاتنا ولله المثل الأعلى. (لو تعلمون ما أعلم) قال الباجي: يريد أنه – عليه الصلاة

(9/282)


والسلام – خصه الله تعالى بعلم لا يعلمه غيره، ولعله ما أراه في مقامه من النار وشناعة منظرها. وقال النووي: لو تعلمون من عظم انتقام الله تعالى من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال القيامة وما بعدها ما علمت، وترون النار كما رأيت في مقامي هذا وفي غيره لبكيتم كثيرا ولقل ضحككم لفكركم فيما علمتموه – انتهى. ولا يخفى أنهم علموا بواسطة خبره إجمالا، فالمراد التفصيل كعلمه - صلى الله عليه وسلم -، فالمعنى لو تعلمون ما أعلم كما أعلم، وقيل: المعنى لو دام علمكم كما دام علمي، فإن علمه - صلى الله عليه وسلم - متواصل بخلاف علم غيره. (لضحكتم قليلا) أي زمانا قليلا أو مفعول مطلق، وقيل: القلة ههنا بمعنى العدم كما في قوله: قليل التشكي أي عديمه، والتقدير لتركتم الضحك ولم يقع منكم إلا نادرا لغلبة الخوف واستيلاء الحزن. (ولبكيتم كثيرا) خوفا من الله تعالى أو لتفكركم فيما علمتموه، وقيل: المعنى لو علمتم من سعة
متفق عليه.
1498- (5) وعن أبي موسى قال: خسفت الشمس، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعا يخشى أن تكون الساعة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/283)


رحمة الله وحلمه وغير ذلك ما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك، وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم الزجر عن كثرة الضحك والحث على كثرة البكاء والاعتبار بآيات الله، وفيه الرد على من زعم أن للكواكب تأثيرا في الأرض لانتفاء ذلك عن الشمس والقمر فكيف بما دونهما. ومن حكمة وقوع الكسوف، تبيين أنموذج ما سيقع في القيامة، وصورة عقاب من لم يذنب فكيف بمن له ذنب، والتنبيه على سلوك طريق الخوف مع الرجاء لوقع الكسوف بالكوكب ثم كشف ذلك عنه؛ ليكون المؤمن من ربه على خوف ورجاء، والإشارة إلى تقبيح من يعبد الشمس أو القمر (متفق عليه) وأخرجه أيضا أحمد (ج6 ص164) ومالك والنسائي والبيهقي، وأخرجه أبوداود مختصرا على قوله: ((الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد – إلى قوله – وتصدقوا)).

(9/284)


1498- قوله (خسفت الشمس) بفتح الخاء والسين (فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعا) بكسر الزاي صفة مشبهة أو بفتحها مصدر بمعنى الصفة أو مفعول مطلق لفعل مقدر (يخشى) بالبناء للفاعل في محل النصب على الحال (أن تكون) في موضع النصب مفعول يخشى (الساعة) بالرفع على أن تكون تامة أو على أنها ناقصة، والخبر محذوف أن أن تكون الساعة قد حضرت أو نصب على أنها ناقصة واسمها محذوف أي تكون هذه الآية الساعة أي علامة حضورها. قال ابن دقيق العيد: فيه إشارة إلى دوام المراقبة لفعل الله وتجريد الأسباب العادية عن تأثيرها لمسبباتها، وفيه جواز الإخبار بما يوجبه الظن من شاهد الحال؛ لأن سبب الفزع يخفى عن المشاهدة لصورة الفزع فيحتمل أن يكون الفزع لغير ما ذكر، فعلى هذا فيشكل هذا الحديث من حيث أن للساعة مقدمات كثيرة لم تكن وقعت كفتح البلاد واستخلاف الخلفاء وخروج الخوارج ثم الأشراط كطلوع الشمس من مغربها والدابة والدجال والدخان وغير ذلك. ويجاب عن هذا بأجوبة: منها أن غلبة الخشية والدهشة وفجاءة الأمور العظام تذهل الإنسان عما يعلم. ومنها احتمال أن يكون الأمور المعلومة وقوعها بينه وبين الساعة كانت مقيدة بشرط يعني أن حالة استحضار إمكان القدرة غلبت على استحضار ما تقدم من الشروط؛ لاحتمال أن تكون تلك الأشراط كانت مشروطة بشرط لم يتقدم ذكره، فيقع المخوف بغير أشراط لفقد الشرط، ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر وقوع الممكن لو لا ما أعمله الله تعالى بأنه لا يقع قبل الأشراط، وجعل ما سيقع كالواقع إظهارا لتعظيم شأن الكسوف
فأتى المسجد، فصلى بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته قط يفعله، وقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/285)


وتنبيها لأمته أنه إذا وقع بعده يخشون أمر ذلك، لاسيما إذا وقع لهم ذلك بعد حصول الأشراط أو أكثر ويفزعون إلى ذكر الله والصلاة والصدقة ليدفع عنهم البلايا. ومنها أن راويه ظن أنه - صلى الله عليه وسلم - خشي أن تكون الساعة، وليس يلزم من ظنه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - خشي ذلك حقيقة، بل خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مستعجلا مهتما بالصلاة وغيرها من أمر الكسوف مبادرا إلى ذلك، وربما خاف أن يكون نوع عقوبة تحدث كما كان يخاف عند هبوب الريح، فظن الراوي خلاف ذلك ولا اعتبار بظنه. وفيه أن تحسين الظن بالصحابي يقتضي أنه لا يجزم ذلك إلا بتوقيف. ومنها لعله خشي أن يكون ذلك بعض المقدمات يعني خشي أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلل بين الخسوف والطلوع المذكور أشياء مما ذكر، وتقع متتالية بعضها أثر بعض مع استحضار قوله تعالى: ?وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب? [النحل: 77]، ومنها أن هذا تخييل من الراوي وتمثيل منه كأنه قال فزع فزعا كفزع من يخشى أن تكون الساعة، وإلا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بأن الساعة لا تقوم وهو فيهم، وقد وعده الله مواعد لم تتم ولم تقع بعد، وإنما كان فزعه عند ظهور الآيات كالخسوف والزلازل والريح الصواعق شفقا على أهل الأرض أن يأتيهم عذاب الله كما أتى من قبلهم من الأمم لا عن قيام الساعة (فأتى المسجد) أي مسجد المدينة، قال ابن دقيق العيد: في الحديث دليل على أن سنة صلاة الكسوف في المسجد وهو المشهور عن العلماء، وخير بعض أصحاب مالك بين المسجد والصحراء، والصواب: المشهور الأول، فإن هذه الصلاة تنتهي بالانجلاء، وذلك مقتض لأن يعتني بمعرفته ويراقب حال الشمس، فلو لا أن المسجد أرجح لكانت الصحراء أولى؛ لأنها أقرب إلى إدراك حال الشمس في الانجلاء وعدمه، وأيضا فإنه يخاف من تأخيرها فوات إقامتها بأن يشرع الانجلاء قبل اجتماع

(9/286)


الناس وبروزهم – انتهى. (ما رأيته قط يفعله) أي ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل مثله، كذا في جميع النسخ الموجودة للمشكاة بذكر كلمة ما قبل رأيته، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص118) وفي نسخ البخاري من طبعات الهند ومصر الحاضرة عندنا رأيته قط يفعله أي بدون حرف النفي قبل رأيته، لكن قال العيني في كثير من النسخ أي للبخاري وقعت على الأصل وهو ما رأيته قط يفعله – انتهى. ولفظ مسلم والنسائي والبيهقي: ما رأيته يفعله في صلاة قط، قال العيني: كلمة "قط" لا تقع إلا بعد الماضي المنفي، ووجه النسخة التي هي بغير لفظ ما أن يقدر حرف النفي كما في قوله تعالى: ?تالله تفتؤ تذكر يوسف? [يوسف 85]، أي لا تفتؤ ولا تزال تذكره تفجعا، فحذف لا أو أن لفظ أطول فيه معنى عدم المساواة أي بما لم يساو قط قياما رأيته يفعله، أو قط بمعنى حسب أي صلى في تلك اليوم فحسب بأطول قيام رأيته يفعله أو تكون بمعنى أبدا لكن إذا كانت بمعنى حسب تكون القاف مفتوحة والطاء ساكنة (وقال) أي في خطبته بعد فراغه من
هذه الآيات التي يرسل الله، لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله بها عباده،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/287)


صلاة الكسوف (هذه الآيات) أي كسوف النيرين والزلزلة وهبوب الريح الشديدة (ولكن يخوف الله بها) أي بالآيات (عباده) قال الله تعالى: ?وما نرسل بالآيات إلا تخويفا? قال القسطلاني: فالكسوف من آياته تعالى المخوفة، إما أنه آية من آيات الله فلأن الخلق عاجزون عن ذلك، وإما أنه من الآيات المخوفة فلأن تبديل الطاعا بعد الإيمان الصلاة. وفيه رد على أهل الهيئة حيث قالوا: إن الكسوف أمر عادي لا تأخير فيه ولا تقديم؛ لأنه لو كان كما زعموا لم يكن فيه تخويف ولا فزع، ولم يكن للأمر بالصلاة والصدقة معنى. ولئن سلمنا ذلك فالتخويف باعتبار أنه يذكر القيامة لكونه أنموذجا قال الله تعالى: ?فإذا برق البصر. وخسف القمر?الآية [القيامة: 7]، ومن ثم قام – عليه السلام – فزعا فخشي أن تكون الساعة، وكان – عليه السلام – إذا اشتد هبوب الرياح تغير ودخل وخرج خشية أن تكون الريح كريح عاد، وإن كان هبوب الرياح أمرا عاديا، وقد كان أرباب الخشية والمراقبة يفزعون من أقل من ذلك، إذ كل ما في العالم علويه وسفليه دليل على نفوذ قدرة الله تعالى وتمام قهره. وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعمه أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة والحاكم بلفظ: ((إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، وإن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له))، وقد استشكل الغزالي هذه الزيادة، وقال: إنها غير صحيحة نقلا، فيجب تكذيب ناقلها، وبنى ذلك على أن قول الفلاسفة في باب الكسوف والخسوف حق لما قام عليه من البراهين القطعية، وهو أن خسوف القمر عبارة عن انمحاء ضوئه بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث أنه يقتبس نوره من الشمس والأرض كرة، والسماء محيطة بها من الجوانب، فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس، وأن كسوف الشمس معناه وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس، وذلك عند

(9/288)


اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة. قال ابن القيم: إسناد هذه الرواية لا مطعن فيه ورواته ثقات حفاظ، ولكن لعل هذه اللفظة مدرجة في الحديث من كلام بعض الرواة، ولهذا لا توجد في سائر أحاديث الكسوف، فقد روى حديث الكسوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر صحابيا فلم يذكر أحد منهم في حديثه هذه اللفظة، فمن ههنا نشأ احتمال الإدراج، وقال السبكي: قول الفلاسفة صحيح كما قال الغزالي، لكن إنكار الغزالي هذه الزيادة غير جيد، فإنه مروي في النسائي وغيره، وتأويله ظاهر فأي بعد في أن العالم بالجزئيات ومقدر الكائنات سبحانه يقدر في أزل الأزل خسوفهما بتوسط الأرض بين الشمس والقمر، ووقوف جرم القمر بين الناظر والشمس
فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره)) متفق عليه.
1499- (6) وعن جابر قال: انكسفت الشمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/289)


ويكون ذلك وقت تجليه سبحانه وتعالى عليهما، فالتجلي سبب لكسوفهما، قضت العادة بأنه يقارن توسط الأرض ووقوف جرم القمر، لا مانع من ذلك ولا ينبغي منازعة الفلاسفة فيما قالوا إذا دلت عليه براهين قطعية – انتهى. قال السندي: ويحتمل أن المراد إذا بدا – هذا لفظ أحمد والنسائي – أي بدو الفاعل للمفعول أي إذا تصرف في شيء من خلقه بما يشاء خشع له أي قبل ذلك ولم يأب عنه – انتهى. وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: ((يخوف الله بهما عباده)) وليس بشيء؛ لأن لله أفعالا على حسب الأسباب العادية، وأفعالا خارجة عن تلك الأسباب، وقدرته حاكمة على كل سبب ومسبب، فيقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فأصحاب المراقبة لله ولأفعاله الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانيته وعموم قدرته على خرق العادة واقتطاع المسببات عن أسبابها وأنه يفعل ما يشاء، إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة اعتقادهم المذكور، وذلك لا يمنع أن يكون ثمة أسباب تجرى عليها العادة إلى يشاء الله تعالى خرقها، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند اشتداد هبوب الريح يتغير ويدخل ويخرج خشية أن تكون كريح عاد، وإن كان هبوب الريح موجودا في العادة، وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفا لعباد الله تعالى، وذكر ابن القيم في كتاب مفتاح السعادة توجيها آخر لذلك، وقد نقله السيوطي في حاشية النسائي فارجع إليها. (فإذا رأيتم شيئا من ذلك) أي مما ذكر من الآيات (فافزعوا) بفتح الزاي أي التجأوا من عذابه أو توجهوا (إلى ذكره) ومنه الصلاة (ودعاء واستغفاره) يقال: فزعت إلى الشيء أي لجأت إليه، ويقال: فزعت إلى فلان فأفزعني أي لجأت إليه فألجأني واستعنت به فأعانني، في الحديث إشارة إلى المبادرة إلى ما أمر به، وتنبيه على الالتجاء إلى الله تعالى عند المخاوف بالدعاء

(9/290)


والاستغفار، وإشارة إلى أن الذنوب سبب البلايا والعقوبات العاجلة أيضا، وأن الاستغفار والتوبة سببان للمحو يرجى بهما زوال المخاوف. قال الحافظ: استدل بالحديث على أن الأمر لمبادرة إلى الذكر والدعاء والاستغفار وغير ذلك لا يختص بالكسوفين؛ لأن الآيات أعم من ذلك، ولم يقع في هذه الرواية ذكر الصلاة، فلا حجة فيه لمن استحبها عند كل آية، وقال العيني: قوله ((فافزعوا إلى ذكر الله)) حجة لمن قال ذلك؛ لأن الصلاة يطلق عليها ذكر الله؛ لأن فيها أنواعا من ذكر الله تعالى. (متفق عليه) وأخرجه أيضا النسائي والبيهقي (ج3 ص340).
1499- قوله (انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وأمه
فصلى بالناس ست ركعات بأربع سجدات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/291)


مارية قبطية سرية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد أهداها إليه المقوقس صاحب الاسكندرية ومصر، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي وهو ابن ستة عشر شهرا، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وهو أصح، ودفن بالبقيع، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن له مرضعا يتم رضاعه في الجنة))، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات بالمدينة في السنة العاشرة من الهجرة، ثم اختلفوا، فقيل: في ربيع الأول، وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي الحجة، قيل: في عاشر الشهر، وعليه الأكثر، وقيل: في رابعه، وقيل: في رابع عشرة، ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذ ذاك بمكة في الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف، نعم قيل: إنه مات سنة تسع، فإن ثبت يصح، وذكر الواقدي أنه مات يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر، وتقدم قول ابن تيمية: أنه من نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب، وتقدم أيضا الإشارة إلى تحقيق المرحوم محمود باشا الفلكي ليوم الكسوف الذي حصل في السنة العاشرة يوم مات فيه إبراهيم – عليه السلام -. وحاصله أن الشمس كسفت بالمدينة في الساعة 8 والدقيقة 30 صباحا يوم الاثنين 29 شوال سنة 10 الموافق ليوم 27 يناير سنة 632 ميلادية، وعلى هذا يكون ولادته في جمادى الأولى سنة 9، وعمره ثمانية عشر شهرا أو سبعة عشر أو ستة عشر على اختلاف في الروايات بإدخال شهري الميلاد والوفاة على الأول وإخراجهما على الثالث وإدخال أحدهما على الثاني (فصلى بالناس ست ركعات) أي ركوعات إطلاقا للكل وإرادة الجزء (بأربع سجدات) أي في ركعتين فيكون في كل ركعة ثلاث ركوعات وسجدتان، قال الطيبي: أي صلى ركعتين كل ركعة بثلاث ركوعات – انتهى. والحديث قد اختلف فيه على جابر، فروى عنه عطاء كما ترى فصلى بالناس ست ركعات، وروى عنه أبوالزبير أنه صلى ركعتين بأربع ركوعات، أخرجه مسلم وأحمد والنسائي،

(9/292)


ورواية عطاء مع كونها في صحيح مسلم قد أعلها البيهقي، إذ قال (ج 3 ص326) بعد رواية حديث جابر من طريق عطاء مطولا ما لفظه: من نظر في هذه القصة وفي القصة التي رواها أبوالزبير عن جابر علم أنه قصة واحدة، وأن الصلاة التي أخبر عنها إنما فعلها يوم توفي إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اتفقت رواية عروة بن الزبير وعمرة بنت عبدالرحمن عن عبدالله بن عمر، ورواية عطاء بن يسار وكثيرة بن عباس عن ابن عباس، ورواية أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عبدالله بن عمر، ورواية أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلاها ركعتين في كل ركعة ركوعين، وفي حكاية أكثرهم قوله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله...))الخ دلالة على أنه صلاها يوم توفي ابنه فخطب، وقال هذه المقالة ردا لقولهم: إنما كسفت لموته، وفي اتفاق هؤلاء العدد مع فضل حفظهم دلالة على أنه لم يزد في كل ركعة على ركوعين، كما ذهب إليه الشافعي ومحمد بن إسماعيل البخاري – رحمهما الله تعالى – انتهى. وحاصله أن رواية أبي الزبير عن جابر أرجح لاتفاق الشيخين على
رواه مسلم.
1500- (7) وعن ابن عباس قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كسفت الشمس ثمان ركعات في أربع سجدات. وعن علي مثل ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تخريجها، ورواية عطاء مرجوحة لانفراد مسلم بها، وقد تقدم منا أن رواية تثليث الركوع وتربيعه في كل ركعة صحيحة، لكن رواية الركوعين في كل ركعة أصح وأكثر وأشهر فيجب ترجيحها وتتعين هي للعمل؛ لأنه إنما يؤخذ بالأصح، فالأصح من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3 ص326).

(9/293)


1500- قوله (ثمان ركعات) أي ركوعات (في أربع سجدات) يعني ركع ثمان مرات كل أربع في ركعة وسجد في كل ركعة سجدتين، وقد رواه مسلم من طريق آخر بلفظ: أنه صلى في كسوف قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ركع ثم قرأ ثم ركع ثم سجد، قال: والأخرى مثلها، والحديث يدل على أنه من جملة صفات صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة أربع ركوعات، وهو مع كونه في صحيح مسلم قد أعله البيهقي فقال (ج3 ص327) بعد روايته: وأما محمد بن إسماعيل البخاري فإنه أعرض عن هذه الروايات التي فيها خلاف رواية الجماعة، وقد روينا عن عطاء بن يسار وكثير بن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلاها ركعتين في كل ركعة ركوعان، وحبيب بن أبي ثابت وإن كان من الثقات فقد كان يدلس – وصفه بذلك ابن خزيمة والدارقطني وابن حبان وغيرهم -، ولم أجده ذكر سماعه في هذا الحديث عن طاوس، قال: وقد روى سليمان عن طاوس عن ابن عباس من فعله أنه صلاها ست ركعات في أربع سجدات، فخالفه في الرفع والعدد جميعا – انتهى. وفيه أن إخراج مسلم لحديث حبيب بن أبي ثابت في صحيحه دليل على أنه ثبت عنده أنه متصل وأنه لم يدلس فيه. قال النووي: ما في الصحيحين عن المدلس بعن ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى، فالحديث صحيح، وأما رواية سليمان الموقوفة فلا تعلل بها الرواية المرفوعة الصحيحة؛ لأن العبرة لما روى الراوي لا لما رأى كذا قيل، وقد تقدم كلام ابن تيمية أن الصواب مع من أنكر على مسلم ونازعه في إخراجه حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأربع ركوعات، وأن هذا من المواضع المنتقدة بلا ريب، وبالجملة هذا الحديث وإن كان مخرجا في صحيح مسلم لكن العمل على روايات الركوعين لكونها أكثر وأصح وأشهر وأرجح، والله تعالى أعلم. (وعن علي مثل ذلك) أي وروي عنه مثل رواي ابن عباس، كذا أحاله على حديث ابن عباس ولم يذكر لفظه. وقد أسلفنا أن حديث علي في تربيع الركوع أخرجه أحمد والبيهقي عنه مرفوعا من طريق

(9/294)


رواه مسلم.
1501- (8) وعن عبدالرحمن بن سمرة قال: كنت أرتمي بأسهم لي بالمدينة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ كسفت الشمس، فنبذتها، فقلت: والله لأنظرن إلى ما حدث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس؟ قال: فأتيته وهو قائم في الصلاة، رافع يديه، فجعل يسبح ويهلل ويكبر ويحمد ويدعو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحسن بن حر عن الحكم عن حنش عن علي، وقيل: المراد من قوله: وعن علي مثل ذلك، أي من فعله؛ لأنه لو كان من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لجعله حديثا على حدة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص327).

(9/295)


1501- قوله (وعن عبدالرحمن بن سمرة) - بفتح السين المهملة وضم الميم وسكونها - ابن حبيب بن عبد شمس العبشمي يكنى أباسعيد، أسلم يوم فتح مكة، وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقال: كان اسمه عبد كلال، وقيل غير ذلك، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدالرحمن، وشهد غزوة تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم شهد فتوح العراق، وهو الذي افتتح سجستان وكابل وغيرهما في خلافة عثمان، ثم نزل البصرة ومات بها سنة (50) أو بعدها. (كنت أرتمي) افتعال من الرمي، أي أرمي كما وقع في رواية أخرى لمسلم: كنت أرمي أي باب ضرب، وفي أخرى له: بينما أترمى أي من باب التفعل، وفي بعض النسخ: أترامي، أي من باب التفاعل، قال في المجمع (ج2 ص40): خرجت أرتمي بأسهمي، وروي أترامى رميت بالسهم، وارتميت وتراميت وراميت إذا رميت به عن القسي، وقيل:خرجت أرتمي إذا رميت القنص، وأترمى إذا خرجت ترمي في الأهداف ونحوها – انتهى. وقال النووي: قوله: كنت أرتمي بأسهم، أي أرمي، كما قاله في الرواية الأولى، يقال: أرمي وأرتمي وأترامي وأترمى كما قاله في الرواية الأخيرة (بأسهم) جمع سهم (في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي امتثالا لقوله تعالى: ?وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة? [الأنفال: 40]، فإنه صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسرها بالرمي، وقال: ((من تعلم الرمي فتركه فليس منا))، (فنبذتها) أي وضعت السهام وألقيتها (فقلت) أي في نفسي (لأنظرن) أي لأبصرن (إلى ما حدث) أي تجدد من السنة (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس) زعم عبدالرحمن أنه لابد أن يقرر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف شيئا من السنن، فأراد أن ينظره (وهو قائم في الصلاة رافع يديه) قال النووي: فيه دليل لأصحابنا في رفع اليدين في القنوت، ورد على من يقول لا ترفع الأيدي في دعوات الصلاة

(9/296)


حتى حسر عنها، فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين، رواه مسلم في صحيحه عن عبدالرحمن بن سمرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(حتى حسر عنها) على بناء المفعول أي أزيل الكسوف عن الشمس، ويحتمل أن لا يكون في "حسر" ضمير، ويكون مسندا إلى الجار والمجرور، أي أزيل وكشف ما بها (فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين) هذا صريح في أنه شرع في الصلاة بعد الانجلاء، وهو خلاف لسائر الروايات، فقال بعضهم: إن هذه الصلاة كانت تطوعا مستقلا بعد انجلاء الكسوف، لا أنها صلاة الكسوف، وهذا مخالف لظاهر قوله: فأتيته وهو قائم في الصلاة...الخ، وقال في اللمعات: صلى ركعتين، أي أتم صلاته التي كان شرع فيها وحسر عنها في أثنائها، وقال الطيبي: يعني دخل في الصلاة ووقف في القيام الأول وطول التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد حتى ذهب الخسوف، ثم قرأ القرآن وركع ثم سجد، ثم قام في الركعة الثانية وقرأ فيها القرآن وركع وسجد وتشهد وسلم – انتهى. وقال النووي بعد ذكر رواية مسلم بلفظ: فانتهيت إليه وهو رافع يديه يدعو ويكبر ويحمد ويهلل حتى جلي عن الشمس، فقرأ سورتين وركع ركعتين ما لفظه: هذا مما يستشكل ويظن أن ظاهره أنه ابتدأ صلاة الكسوف بعد انجلاء الشمس، وليس كذلك، فإنه لا يجوز ابتداء صلاتها بعد انجلائها، وقوله: فانتهيت إليه وهو رافع يديه، محمول على أنه وجده في الصلاة، كما في الرواية الأخرى: فأتيته وهو قائم في الصلاة، ثم جمع الراوي جميع ما جرى في الصلاة من دعاء وتكبير وتهليل وتحميد وتسبيح وقراءة سورتين في القيامين الأخيرين للركعة الثانية، وكانت السورتان بعد الانجلاء تتميما للصلاة فتمت جملة الصلاة ركعتين، أولها في حال الكسوف، وآخرها بعد الانجلاء، وهذا الذي ذكرته من تقديره لابد منه جمعا بين الروايتين؛ لأنه مطابق للرواية الثانية ولقواعد الفقه ولروايات باقي الصحابة – انتهى. لكن هذا الجواب لا يوافق رواية النسائي

(9/297)


لحديث عبدالرحمن بن سمرة بلفظ: فأتيته مما يلي ظهره وهو في المسجد، فجعل يسبح ويكبر ويدعو حتى حسر عنها، قال: ثم قام فصلى ركعتين وأربع سجدات – انتهى. وعلى هذا فالترجيح لسائر الروايات التي تدل على أن انجلاء كان في جلوس التشهد بعد الركعة الثانية وقبل السلام، وظاهر هذا الحديث أنه صلى ركعتين كل ركعة بركوع، وهو أيضا مستبعد بالنظر إلى سائر الروايات، وتأوله المازري على أنها كانت صلاة تطوع بعد الانجلاء لا صلاة كسوف فإنه إنما صلى بعد الانجلاء وابتداءها بعد الانجلاء لا يجوز، وضعفه النووي بمخالفة لقوله: فأتيته وهو قائم في الصلاة...الخ، فتأوله هو على أن قوله: صلى ركعتين يعني في كل ركعة قيامان وركوعان – انتهى. وقال القرطبي: يحتمل أنه إنما أخبر عن حكم ركعة واحدة وسكت عن الركعة الأخرى – انتهى. وهذا يرده لفظ النسائي: فصلى ركعتين أو أربع سجدات، فالصواب أن يقال: إن الترجيح لروايات الركوعين في كل ركعة لكونها صريحة، ولكونها أصح وأشهر وأكثر، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم في صحيحه عن عبدالرحمن بن سمرة) وأخرجه أيضا أحمد
وكذا في شرح السنة عنه، وفي نسخ المصابيح عن جابر بن سمرة.
1502- (9) وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعتاقة في كسوف الشمس، رواه البخاري.
?الفصل الثاني?
1503- (10) عن سمرة بن جندب قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوف لا نسمع له صوتا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/298)


(ج5 ص61-62) وأبوداود والنسائي والحاكم (ج1ص129)، والبيهقي (ج3 ص332)، (وكذا في شرح السنة) للبغوي صاحب المصابيح (عنه) أي عن عبدالرحمن بن سمرة (وفي نسخ المصابيح عن جابر بن سمرة) أي بدل عبدالرحمن بن سمرة، فالظاهر أن ما في المصابيح من خطأ الناسخ وسهوه، ويؤيد ذلك رواية صاحب المصابيح هذا الحديث في شرح السنة عن عبدالرحمن بن سمرة، قال المؤلف: وجدت حديث عبدالرحمن بن سمرة في صحيح مسلم وكتاب الحميدي والجامع وفي شرح السنة بروايته، ولم أجد لفظ المصابيح في الكتب المذكورة برواية جابر بن سمرة، ذكره الطيبي، كذا في المرقاة.
1502- قوله (لقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعتاقة) بفتح العين المهملة أي الإعتاق يعني فك الرقاب من العبودية (في كسوف الشمس) فيه مشروعية الإعتاق عند الكسوف، والأمر محمول على الاستحباب دون الوجوب بالإجماع، والإعتاق وسائر الخيرات مأمور بها في خسوف الشمس والقمر؛ لأن الخيرات تدفع العذاب (رواه البخاري) وأخرجه أيضا أحمد ((ج6 ص345) وأبوداود والحاكم (ج1 ص332) والبيهقي (ج3 ص340).
1503- قوله (في كسوف) أي للشمس كما في رواية أبي داود والنسائي وغيرهما (لا نسمع له صوتا) قال القاري وغيره: هذا يدل على أن الإمام لا يجهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس – انتهى. وقال السندي: يمكن أنه حكاية لحال من كان مع سمرة في الصفوف البعيدة، ولا يلزم من عدم سماعهم نفي الجهر – انتهى. وكذا قال المجد بن تيمية في المنتقى، وابن حبان في صحيحه، لكن في رواية سمرة المطولة عند أبي داود والنسائي والبيهقي وغيرهم ما يدفع هذا الاحتمال كما لا يخفى على المتأمل، والصواب أن يقال: إن أحاديث الجهر – حديث عائشة المتقدم في أول الباب وحديث أسماء عند البخاري على ما ذكره الزيلعي في نصب الراية، وابن الهمام في فتح القدير، وحديث علي عند ابن خزيمة والطحاوي – نصوص صريحة في الجهر، وحديث سمرة وما في معناه إن ثبت

(9/299)


رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
1504- (11) وعن عكرمة قال: قيل لابن عباس: ماتت فلانة – بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - - فخر ساجدا، فقيل له: تسجد في هذه الساعة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس بنص في السر ونفي الجهر ولا يوازي أحاديث الجهر في الصحة، فيتعين تقديم أحاديث الجهر لكونها أصح، ولكونها متضمنة للزيادة ولكونها مثبتة (رواه الترمذي) وصححه (وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري (والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص16) وابن حبان والبيهقي (ج3 ص339) والطحاوي والحاكم (ج1 ص331، 334) وصححه، وقال ابن حزم في المحلى (ج5 ص102): هذا لا يصح؛ لأنه لم يروه – عن سمرة – إلا ثعلبة بن عباد وهو مجهول – انتهى. وقال الحافظ في التهذيب (ج2 ص24) في ترجمة ثعلبة: هذا ذكره ابن المديني في المجاهيل الذين يروي عنهم الأسود بن قيس، وأما الترمذي فصحح حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حزم: مجهول، وتبعه ابن القطان، وكذا نقل ابن المواق عن العجلي – انتهى. وقال في التلخيص: وأعله ابن حزم بجهالة ثعلبة بن عباد راويه عن سمرة، وقد قال ابن المديني: إنه مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، مع أنه لا راوي له إلا الأسود بن قيس – انتهى. والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه مختصرا، وأبوداود وابن حبان مطولا وأحمد والنسائي والحاكم والبيهقي مطولا ومختصرا.

(9/300)


1504- قوله ( وعن عكرمة) مولى ابن عباس (ماتت فلانة) هي صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي رواية للبيهقي (ج3 ص343) قال عكرمة: سمعنا صوتا بالمدينة، فقال لي ابن عباس يا عكرمة ! انظر ما هذا الصوت؟ قال: فذهبت فوجدت صفية بنت حيي امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توفيت....الحديث، وفي تهذيب الكمال للحافظ المزي عن عكرمة قال: توفيت بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال إسحاق بن راهويه: أظنه سماها صفية بنت حيي بالمدينة، فأتيت ابن عباس فأخبرته...الخ، كذا في حاشية تهذيب التهذيب (ج4 ص128). (بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -) الظاهر أن الراوي نسي اسمها فكنى عنها بلفظ فلانة، ثم بين أن المراد بقوله فلانة بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بالرفع بدل أو بيان أو خبر مبتدأ محذوف والنصب بتقدير يعني (فخر) أي سقط ووقع (ساجدا) أي آتيا بالسجود (فقيل له تسجد) بحذف الاستفهام (في هذه الساعة) وفي الترمذي وأبي داود والبيهقي: تسجد هذه الساعة، أي بحذف حرف الجر قبل هذه الساعة، وكان الوقت وقت كراهة الصلاة،فقاسوا عليها كراهة السجدة، ففي رواية البيهقي المذكورة: قال عكرمة: فجئت إلى ابن عباس فوجدته ساجدا ولما تطلع الشمس، فقلت: سبحان الله تسجد ولم تطلع الشمس
فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم آية فاسجدوا))، وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -؟، رواه أبوداود، والترمذي.
?الفصل الثالث?
1505- (12) عن أبي بن كعب قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بهم، فقرأ بسورة من الطول،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/301)


بعد...الخ، وفي رواية تهذيب الكمال: فأتيت ابن عباس فأخبرته فسجد، فقلت له: أتسجد ولما تطلع الشمس...الخ، (إذا رأيتم آية) أي علامة مخوفة، قال الطيبي: قالوا: المراد بها العلامات المنذرة بنزول البلايا والمحن التي يخوف الله بها عباده، ووفاة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من تلك الآيات؛ لأنهن ضممن إلى شرف الزوجية شرف الصحبة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أمنة أصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة أهل الأرض...)) الحديث، فهن أحق بهذا المعنى من غيرهن، فكانت وفاتهن سالبة للأمن، وزوال الأمنة موجب الخوف (فاسجدوا) قال الطيبي: هذا مطلق، فإن أريد بالآية خسوف الشمس والقمر فالمراد بالسجود الصلاة، وإن كانت غيرها كمجيء الريح الشديدة والزلزلة وغيرهما، فالسجود هو المتعارف، ويجوز الحمل على الصلاة أيضا لما ورد: ((كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)) – انتهى. قلت: قد ثبت عن ابن عباس أنه صلى في زلزلة بالبصرة، كما روى البيهقي (ج3 ص343). (وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -)؛ لأن لهن فضل الصحبة مع فضل خاص ثابت للزوجية ليس لأحد من الأصحاب، وأيضا بذهابهن يذهب ما تفردن من العلم بأحواله - صلى الله عليه وسلم -، قال القاري: لأنهن ذوات البركة فبحياتهن يدفع العذاب عن الناس ويخاف العذاب بذهابهن، فينبغي الالتجاء إلى ذكر الله والسجود عند انقطاع بركتهن ليندفع العذاب ببركة الذكر والصلاة – انتهى. ولفظ البيهقي في الرواية التي ذكرنا أولها فقال - أي ابن عباس -: يا لا أم لك، أليس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم آية فاسجدوا))، فأي آية أعظم من أن يخرجن أمهات المؤمنين من بين أظهرنا ونحن أحياء؟ (رواه أبوداود) وسكت عنه (والترمذي) وقال: هذا حديث غريب، وأخرجه أيضا البيهقي. قال المنذري: في إسناده سلم بن جعفر – البكراوي، أبوجعفر الأعمى -، قال يحيى بن كثير العنبري:

(9/302)


صاحبه كان ثقة، وقال الموصلي: يعني أباالفتح الأزدي: متروك الحديث لا يحتج به، وذكر هذا الحديث – انتهى. قلت: وثقه أيضا ابن المديني، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال في التقريب: صدوق تكلم فيه الأزدي بغير حجة.
1505- قوله (فصلى بهم) أي صلاة الكسوف (فقرأ بسورة من الطول) بضم الطاء وتكسر وبفتح
وركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم قام الثانية فقرأ بسورة من الطول، ثم ركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها. رواه أبوداود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/303)


الواو. قال الطيبي: جمع الطولي كالكبرى والكبر (وركع خمس ركعات) أي ركوعات (ثم قام الثانية) بالنصب على نزع الخافض، كذا وقع في جميع النسخ الحاضرة، وهكذا في جامع الأصول (ج7 ص125) قال القاري: وفي نسخة أي من المشكاة: إلى الثانية – انتهى. وعند البيهقي: ثم قام في الثانية (ثم جلس كما هو) أي كائنا على الهيئة التي هو عليها (مستقبل القبلة) بالنصب أي جلس بعد الصلاة كجلوسه فيها يعني مستقبل القبلة (حتى انجلى كسوفها) أي انكشف وارتفع، والحديث دليل على أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة خمس ركوعات، لكنه معلول كما ستعرف، فلا يعارض أحاديث الركوعين (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا عبدالله بن أحمد في زيادات المسند (ج5 ص143)، والحاكم (ج1 ص333) والبيهقي (ج3 ص329)، وقد سكت عنه أبوداود، وقال المنذري: في إسناده أبوجعفر واسمه عيسى بن عبدالله بن ماهان الرازي، وفيه مقال، واختلف فيه قول ابن معين وابن المديني – انتهى. وقال الزيلعي: أبوجعفر الرازي فيه مقال، قال النووي في الخلاصة: لم يضعفه أبوداود، وهو حديث في إسناده ضعف – انتهى. وقال البيهقي: هذا إسناد لم يحتج بمثله صاحبا الصحيح، وهذا توهين منه للحديث بأن سنده مما لا يصلح للاحتجاج به، وقال الحاكم: الشيخان قد هجرا أباجعفر الرازي ولم يخرجا عنه، وحاله عند سائر الأئمة أحسن الحال، وهذا الحديث فيه ألفاظ ورواته صادقون – انتهى. وتعقبه الذهبي فقال: خبر منكر، وعبدالله بن أبي جعفر – الراوي عن أبي جعفر عند أبي داود والحاكم – ليس بشيء، وأبوه فيه لين – انتهى. وقال النيموي: في إسناده لين، وقال الشوكاني: وروي عن ابن السكن تصحيح هذا الحديث – انتهى. قلت: في تصحيحه نظر قوي، فإن أباجعفر الرازي قد تفرد بهذا الحديث عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب، وأبوجعفر مختلف فيه وثقه ابن معين في رواية إسحاق بن منصور والدوري، ووثقه أيضا ابن المديني في رواية وابن عمار الموصلي

(9/304)


وأبوحاتم وابن سعد والحاكم وابن عبدالبر، وقال أحمد - في رواية – والنسائي والعجلي: ليس بالقوي، وقال عمرو بن علي الفلاس وابن خراش: هو من أهل الصدق سيء الحفظ، وقال أبوزرعة: شيخ يهم كثيرا، وقال ابن حبان: كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير لا يعجبني الاحتجاج بحديثه إلا فيما وافق الثقات، وقال الحافظ في التقريب: صدوق سيء الحفظ – انتهى. والربيع بن أنس ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه؛ لأن في أحاديثه عنه اضطرابا كثيرا – انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن من وثق أباجعفر الرازي فإنما وثقه لكونه من أهل الصدق والستر والصلاح، ومن تكلم فيه إنما تكلم لسوء حفظه، ومن المعلوم أن الراوي إذا كان سيء الحفظ لا يحتج بحديثه إذا تفرد به، والله أعلم.
1506- (13) وعن النعمان بن بشير قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها، حتى انجلت الشمس،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/305)


1506- قوله (فجعل يصلي ركعتين ركعتين) أي ركوعين ركوعين في كل ركعة (ويسأل عنها) أي يسأل الله بالدعاء أن يكشف عنها أو يسأل الناس عن انجلائها، أي كلما صلى ركوعين يسأل بالإشارة هل انجلت؟ قال الحافظ: إن كان هذا الحديث محفوظا احتمل أن يكون معنى قوله: ركعتين أي ركوعين، وقد وقع التعبير عن الركوع بالركعة في حديث الحسن البصري: خسف القمر وابن عباس بالبصرة فصلى ركعتين في كل ركعة ركعتان... الحديث، أخرجه الشافعي، وأن يكون السؤال وقع بالإشارة، فلا يلزم التكرار، وقد أخرج عبدالرزاق بإسناد صحيح عن أبي قلابة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان كلما ركع ركعة أرسل رجلا ينظر هل انجلت؟ فتعين الاحتمال المذكور، وإن ثبت تعدد القصة زال الإشكال – انتهى. وقال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي الحنفي في معنى هذا الحديث: قوله: "فجعل يصلي ركعتين ركعتين" كلمة جعل توهم أن المعنى أخذ في صلاة ركعتين ثم ركعتين، وهو ينافي سائر ما نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف، إذ لم يرو أحد منهم زيادة على ركعتين، فالصحيح أن ركعتين بمعنى ركوعين تأكيد للأولى منهما، وعلى هذا فالمعنى ظاهر، وبذلك يظهر إيراد أبي داود هذا الحديث في باب من قال يركع ركعتين، وإنما افتقر إلى تأكيد في أمر الركوعين لمزيد الاختلاف قوله ويسأل عنها أي يدعو الله في شأنها وشأن أنفسهم أن ينجي كلامنا عما يؤخذ فيه – انتهى. قال صاحب البذل: يؤيد ذلك رواية الطحاوي بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ويسلم ويسأل حتى انجلت، فإنه ليس فيها لفظ عنها بل فيها ويسأل، وكذلك يؤيده حديث أحمد في مسنده (ج4 ص267، 269)، فإنه ليس فيه لفظ عنها، وكذلك يؤيده ما أخرجه الحاكم من طريق معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير: إن الشمس انكسفت، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، فإنه ليس فيه تكرار ركعتين ولا ذكر السؤال، قال: لكن يخالف ما قال الشيخ حديث أحمد، فإن فيه: كان

(9/306)


يصلي ركعتين ثم يسأل ثم يصلي ركعتين ثم يسأل حتى انجلت، فإنه صريح في أنه يصلي ركعتين ثم ركعتين – انتهى. قلت: في كون حديث النعمان بن بشير محفوظا نظر، فإنه مخالف لجميع الروايات الصحيحة في حكاية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكسوف الشمس، فإنها صريحة في الاقتصار على ركعتين وصريحة في الزيادة على الركوع، ولذا أعل البيهقي وغيره حديث النعمان وإن صححه ابن حزم وغيره فيتعين تقديم الأحاديث التي فيها أنه صلى ركعتين في كل ركعة ركوعان، قال ابن قدامة في المغني (ج3 ص424): فأما أحاديث الحنفية فمتروكة غير معمول بها باتفاقنا، فإنهم قالوا: يصلي ركعتين، وحديث النعمان أنه يصلي ركعتين ثم ركعتين حتى انجلت الشمس، وحديث قبيصة فيه أنه يصلي كأحدث صلاة صليتموها، وأحد الحديثين يخالف الآخر ثم حديث قبيصة
رواه أبوداود، وفي رواية النسائي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى حين انكسفت الشمس مثل صلاتنا يركع ويسجد، وله في أخرى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوما مستعجلا إلى المسجد، وقد انكسفت الشمس،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/307)


مرسل، ثم يحتمل أنه صلى ركعتين في كل ركعة ركوعين، ولو قدر التعارض لكان الأخذ بأحاديثنا أولى لصحتها وشهرتها واتفاق الأئمة على صحتها، والأخذ بها واشتمالها على الزيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، ثم هي نافلة عن العادة، وقد روي عن عروة أنه قيل له: إن أخاك صلى ركعتين، فقال: إنه أخطأ السنة – انتهى. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وأخرجه أيضا وأحمد والطحاوي (ص195) والبيهقي (ج3 ص332)، وهو عند أحمد (ج4 ص269) وأبي داود والطحاوي من طريق أبي قلابة عن النعمان بن بشير، وعند البيهقي من طريق أبي قلابة عن رجل عن النعمان بن بشير، وكذا عند أحمد في رواية أخرى (ج4 ص267) وأخرجه النسائي عن أبي قلابة عن قبيصة الهلالي، وأخرجه البيهقي عن أبي قلابة عن هلال بن عامر عن قبيصة الهلالي، قال الزيلعي: تكلموا في سماع أبي قلابة من النعمان، قال ابن أبي حاتم في علله: قال أبي: قال يحيى بن معين: قد أدرك أبوقلابة النعمان بن بشير ولا أعلم أسمع منه أو لا؟ وقد رواه عفان – عند أحمد – عن عبدالوارث عن أيوب عن أبي قلابة عن النعمان، وروي عنه عن قبيصة بن مخارق الهلالي، وروي عنه عن هلال بن عامر عن قبيصة – انتهى. وقال النووي في الخلاصة بعد ذكر رواية أبي داود: إسناده صحيح، إلا أنه بزيادة رجل بين أبي قلابة والنعمان، ثم اختلف في ذلك الرجل – انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج5 ص98): أبوقلابة قد أدرك النعمان، فروى هذا الخبر عنه، ورواه أيضا عن آخر فحدث بكلنا روايتيه، ولا وجه للتعلل بمثل هذا أصلا ولا معنى له – انتهى. وصححه ابن عبدالبر في التمهيد، وقال البيهقي بعد بسط الاختلاف في إسناده ومتنه ما لفظه: فألفاظ هذه الأحاديث تدل على أنها راجعة إلى الإخبار عن صلاته يوم توفي ابنه – عليهما السلام -، وقد أثبت جماعة من أصحاب الحفاظ عدد ركوعه في كل ركعة، فهو أولى بالقبول من رواية من لم يثبته – انتهى. (وفي رواية النسائي) من حديث أبي قلابة عن النعمان،

(9/308)


وأخرجه أيضا أحمد (ج4 ص271، 277). (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -) وفي النسائي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (صلى حين انكسفت الشمس مثل صلاتنا) أي المعهودة فيفيد اتحاد الركوع، أو مثل ما نصلي في الكسوف فيلزم توقفه على معرفة تلك الصلاة، قاله السندي، قلت: الحديث بظاهره يؤيد الحنفية لكونه يفيد اتحاد الركوع، لكن أحاديث الركوعين في كل ركعة أصح وأشهر (وله) أي للنسائي (في أخرى) أي في رواية أخرى يعني من طريق الحسن عن النعمان عن النعمان بن بشير (خرج يوما مستعجلا) يجر رداءه
فصلى حتى انجلت، ثم قال: ((إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلا لموت عظيم من عظماء أهل الأرض، وإن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما خليقتان من خلقه، يحدث الله في خلقه ما شاء، فأيهما انخسف فصلوا حتى ينجلي، أو يحدث الله أمرا)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/309)


كما رواية البيهقي (فصلى) زاد في رواية الحاكم وعند ابن ماجه والبيهقي (ج3 ص233) والنسائي في رواية: فلم يزل يصلي (إلا لموت عظيم من عظماء أهل الأرض وإن الشمس) وفي رواية البيهقي وابن ماجه والنسائي المذكورة وليس كذلك، إن الشمس (ولكنهما خليقتان من خلقه) قال الطيبي: أي مخلوقتان ناشئتان من خلق الله تعالى المتناول لكل مخلوق على التساوي، ففيه تنبيه على أنه لا أثر لشيء منهما في الوجود، قال في نهاية: الخلق الناس، والخليقة البهائم، وقيل: هما بمعنى واحد، يعني المعنى الأعظم. قال الطيبي: والمعنى الأول أنسب في هذا المقام؛ لأنه رد لزعم من يرى أثرهما في هذا العالم بالكون والفساد أي ليس كما يزعمون، بل هما مسخران كالبهائم، دائبان مقهوران تحت قدرة الله تعالى، وفي هذا تحقير لشأنهما مناسب لهذا المقام (يحدث الله في خلقه ما شاء) وفي النسائي، وكذا البيهقي ((ما يشاء)) من من الكسوف والنور والظلمة، قال الطيبي: ((ما شاء)) مفعول المصدر المضاف إلى الفاعل، و"من" ابتدائية على ما تقدم بيانه – انتهى. يعني في قوله من خلقه (فأيهما انخسف فصلوا) وفي رواية البيهقي والنسائي المذكورة: ((إن الله عزوجل إذا بدأ لشيء من خلقه خشع له، فإذا رأيتم ذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة))، قال البيهقي: هذا مرسل أبوقلابة لم يسمعه من النعمان، إنما رواه عن رجل عن النعمان، وليس فيه هذه اللفظة الأخيرة – انتهى. (حتى ينجلي أو يحدث الله أمرا) تفوت به الصلاة كقيام الساعة أو وقوع فتنة مانعة من الصلاة، قال الطيبي: غاية لمقدر أي صلوا من ابتداء الانخساف منتهين إما إلى الإنجلاء أو إلى إحداث الله تعالى أمرا، وهذا القدر يربط الشيء بالجزاء لما فيه من العائد إلى الشرط – انتهى. ورواية النسائي هذه أخرجها أيضا البيهقي من طريق الحسن عن النعمان (ج3 ص333-334)، قال البيهقي: هذا أشبه أن يكون محفوظا، وأخرجها الحاكم من طريق أبي قلابة عن النعمان

(9/310)


وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، وأقره الذهبي، وهذا يدل على أنهما وافقا من قال بسماع أبي قلابة من النعمان بن بشير. فائدة: إن فرغ من الصلاة قبل انجلاء الشمس أي تمت الصلاة والكسوف قائم لا تعاد الصلاة ولا تكرر، بل يشتغل بالذكر والدعاء حتى تنجلي؛ لأن السنة في صلاة
(51) باب في سجود الشكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكسوف قد فرغوا عنها، ولم يزد النبي - صلى الله عليه وسلم - على ركعتين، وهو مذهب المالكية والحنابلة، وكذلك في ظاهر الرواية عند الحنفية، وإن انجلت الشمس كلها في أثناء الصلاة بعد تمام ركعة بركوعيها وسجدتيها أو قبل تمام الركعة الأولى بسجدتيها أتمها على سنتها وخففها ولا ينقص أحد الركوعين اللذين نواهما، وإليه ذهبت الحنابلة والشافعية، وإذا اجتمع صلاتان كالكسوف مع غيره من الجمعة أو صلاة مكتوبة أو الوتر أو التراويح، قال ابن قدامة: الصحيح عندي أن الصلوات الواجبة التي تصلى في الجماعة مقدمة على الكسوف بكل حال؛ لأن تقديم الكسوف عليها يفضي إلى المشقة لإلزام الحاضرين بفعلها مع كونها ليست واجبة عليهم وانتظارهم للصلاة الواجبة، مع أن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتخفيف الصلاة الواجبة كيلا يشق على المأمومين، فإلحاق المشقة بهذه الصلاة الطويلة الشاقة مع أنها غير واجبة أولى، وكذلك الحكم إذا اجتمعت مع التراويح قدمت التراويح لذلك، وإن اجتمعت مع الوتر في أول وقت الوتر قدمت؛ لأن الوتر لا يفوت، وإن خيف فوات الوتر قدم؛ لأنه يسير يمكن فعله وإدارك وقت الكسوف وإن لم يبق إلا قدر الوتر فلا حاجة بالتلبس بصلاة الكسوف؛ لأنها إنما تقع في وقت النهي، وإن اجتمع الكسوف وصلاة الجنازة قدمت الجنازة وجها؛ لأن الميت يخاف عليه – انتهى.

(9/311)


(باب في سجود الشكر) قال في اللمعات: السجدة المنفردة خارج الصلاة على عدة أقسام: منها سجدة الشكر على حصول نعمة واندفاع بلية، وفيها اختلاف: فعند الشافعي وأحمد سنة، وهو قول محمد، والأحاديث والآثار كثيرة في ذلك، وعند أبي حنيفة ومالك ليس بسنة، بل هي مكروهة، وهم يقولون: إن المراد بالسجدة الواقعة في تلك الأحاديث والآثار الصلاة، عبر عنها بالسجدة، وهو كثير إطلاقا للجزء على الكل، أو منسوخ، وقالوا: نعم الله لا تعد ولا تحصى، والعبد عاجز عن أداء شكرها، فالتكليف بها يؤدي إلى التكليف بما لا يطاق هذا، ولكن العاملين بها يريدون النعم العظيمة – انتهى. وقال القاري: سجدة الشكر عند حدوث ما يسر به من نعمة عظيمة وعند اندفاع بلية جسيمة سنة عند الشافعي، وليست بسنة عند أبي حنيفة خلافا لصاحبيه – انتهى. وقال السندي: ظاهر الأحاديث أن سجود الشكر مشروع، كما قال محمد من علمائنا وغيره، وكونه - صلى الله عليه وسلم - صلى شكرا ركعتين يوم بشر بقطع رأس أبي جهل في بدر لا ينافي شرع السجود شكرا كما جاء، وقال الشوكاني في النيل بعد ذكر أحاديث سجود الشكر ما لفظه: وهذه الأحاديث تدل على مشروعية سجود الشكر، وإلى ذلك ذهب أحمد والشافعي، وقال مالك، وهو مروي عن أبي حنيفة: إنه يكره، إذ لم يؤثر عنه - صلى الله عليه وسلم - مع تواتر النعم عليه - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية عن أبي حنيفة: أنه مباح؛ لأنه لم يؤثر، وإنكار ورود سجود الشكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من
وهذا الباب خال من الفصل الأول والثالث
?الفصل الثاني?
1507- (1) عن أبي بكرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه أمر سرورا – أو يسر به -
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/312)


مثل هذين الإمامين مع وروده عنه - صلى الله عليه وسلم - من هذه الطرق التي ذكرها المصنف وذكرناها من الغرائب، ومما يؤيد ثبوت سجود الشكر قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سجدة ص: ((هي لنا شكر، ولداود توبة)) انتهى.
(وهذا الباب خال عن الفصل الأول) اعتذار عن صاحب المصابيح (والثالث) اعتذار عن نفسه، قال الشيخ الجزري: لم يذكر – أي صاحب المصابيح – من الصحاح حديثا فيه، أي في هذا الباب، وكل ما أورده فيه من الحسان، وقد وجدت منه في الصحاح عن كعب بن مالك أنه سجد لله شكرا لما بشر بتوبة الله عليه، وقصته مشهورة متفق عليها، كذا في المرقاة.

(9/313)


(1507) – قوله (عن أبي بكرة) صحابي، اسمه نفيع بن الحارث (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء أمر) بالتنوين للتعظيم، ولفظ ابن ماجه: ((كان إذا أتاه أمر))، قال السندي: أي عظيم جليل القدر رفيع المنزلة من هجوم نعمة منتظرة أو غير منتظرة مما يندر وقوعها لا ما يستمر وقوعها، إذ لا يقال في المستمر: إذا أتاه، فلا يرد قول من قال: لو ألزم العبد السجود عند كل نعمة متجددة عظيمة الموقع عند صاحبها لكان عليه أن لا يغفل عن السجود طرفة عين؛ لأنه لا يخلو عنها أدنى ساعة، فإن من أعظم نعمه على العباد نعمة الحياة، وذلك يتجدد عليه بتجدد الأنفاس عليه، على أنه لم يقل أحد بوجوب السجود ولا دليل عليه، وإنما غاية الأمر أن يكون السجود مندوبا، ولا مانع منه، فليتأمل. والله تعالى أعلم. (سرورا) نصب على تقدير يوجب أو حال بمعنى سارا، وقال القاري: بالنصب على نزع الخافض، أي لأجل حصوله أو على التمييز من النسبة أو بتقدير أعني يعني أمر سرور، وفي نسخة: أمر سرور على الوصفية للمبالغة أو على أن المصدر بمعنى الفاعل أو المفعول به أو على المضاف المقدر أي أمر ذو سرور، وفي نسخة: أمر سرور على الإضافة. قلت: وكذا وقع في أبي داود، قال في العون: أمر سرور بالإضافة – انتهى. وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص367)، قال القاري: وقال ابن حجر: قوله ((إذا جاءه أمر سرور)) أي إذا جاءه أمر عظيم حال كونه سرورا – انتهى. وهو لا يتم إلا بتقدير مضاف، أو يكون المصدر بمعنى الفاعل أو المفعول، أو على طريق المبالغة كرجل عدل (أو يسر به) بصيغة المضارع المجهول من السرور شك من الراوي، وفي بعض نسخ أبي داود: ((أو بشر به)) على بناء الماضي المجهول من التبشير، ولفظ ابن ماجه: ((إذا أتاه أمر يسره
خر ساجدا شاكرا لله تعالى)) رواه أبوداود، والترمذي، وقال: "هذا حديث حسن غريب".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/314)


أو يسر به)) (خر ساجدا شاكرا) وفي بعض النسخ: شاكرا بالنصب للعلة، وكذا نقله الجزري، والحديث صريح في مشروعية سجود الشكر، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، رأوا سجدة الشكر – انتهى. وحمل هذا الحديث وأمثاله على الصلاة بعيد غاية البعد، بل هو باطل جدا؛ لأنه لا دليل عليه. واعلم أنه قد اختلف هل يشترط لسجدة الشكر الطهارة أم لا؟ فقيل: يشترط قياسا على الصلاة، وقيل: لا يشترط، قال الأمير اليماني: وهو الأقرب، أي لأن الأصل أنه لا يشترط الطهارة إلا بدليل، وأدلة وجوب الطهارة ودرت للصلاة، والسجدة الفردة لا تسمى صلاة، فلا دليل على من شرط ذلك، وليس في أحاديث الباب ما يدل على اشتراطها، وليس فيها أيضا ما يدل على التكبير. (رواه أبوداود) في الجهاد (والترمذي) في أبواب السير، وأخرجه أيضا ابن ماجه والدارقطني (ص157) والحاكم (ص276) والبيهقي (ج2 ص370)، وأخرجه أحمد (ج5 ص45) بلفظ: أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه بشير يبشره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حجر عائشة – رضي الله عنها -، فقام فخر ساجدا...الحديث، والحديث سكت عنه أبوداود وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وقال المنذري: في إسناده بكار بن عبدالعزيز بن أبي بكرة، وفيه مقال، قلت: ذكره العقيلي في الضعفاء، وقال يعقوب بن سفيان في باب من يرغب عن الرواية عنهم: ضعيف، وقال ابن معين في رواية الدوري: ليس بشيء، وفي رواية إسحاق بن منصور: صالح، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، وقال البزار: ليس به بأس، وقال مرة: ضعيف، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ في التقريب: صدوق يهم، وقال الحاكم: صدوق عند الأئمة، ولهذا الحديث شواهد يكثر ذكرها، ثم ذكر أربعة منها، قلت: في الباب أحاديث كثيرة، منها حديث عبدالرحمن بن عوف عند أحمد والحاكم والبزار والبيهقي وغيرهم، قال الهيثمي: رجاله ثقات، ومنها

(9/315)


حديث أنس عند ابن ماجه بنحو حديث أبي بكرة، وفي سنده ضعف واضطراب، ومنها حديث البراء بن عازب، أخرجه البيهقي بإسناد صحيح في المعرفة، وفي السنن الكبرى (ج3 ص369)، ومنها حديث كعب بن مالك متفق عليه، ومنها حديث سعد بن أبي وقاص الآتي، ومنها حديث حذيفة عند أحمد، وفيه ابن لهيعة، ومنها حديث ابن عمر عند الطبراني في الأوسط والصغير، ومنها حديث أبي قتادة عند الطبراني أيضا، ومنها حديث ابن عمر عند الطبراني في الأوسط بسند ضعيف، ومنها حديث أبي موسى عند الطبراني في الكبير، وفيه ضعف، ومنها حديث جابر عند ابن حبان في الضعفاء، ومنها حديث جرير بن عبدالله عند الطبراني في الكبير، وفي الحسن بن عمارة ضعفه جماعة كثيرة، ومنها حديث أبي جحيفة أشار إليه البيهقي، ومنها حديث عرفجة عند البيهقي والطبراني في الأوسط، ومنها حديث أبي
1508- (2) وعن أبي جعفر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا من النغاشين فخر ساجدا، رواه الدارقطني مرسلا، وفي شرح السنة: لفظ المصابيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جعفر الباقر الآتي، وفي الباب آثار عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعلي، ذكرها البيهقي، من أحب الاطلاع على ألفاظ هذه الأحاديث رجع إلى مجمع الزوائد (ج2 ص287، 289)، والسنن الكبرى للبيهقي (ج2 ص369، 371).

(9/316)


1508- قوله (وعن أبي جعفر) أي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بالباقر (رأى رجلا من النغاشين) بضم النون والغين والشين معجمتان، واحده نغاش، هو والنغاشي القصير جدا أقصر ما يكون من الرجال، وزاد في ا لنهاية: الضعيف الحركة الناقص الخلق، كذا في اللمعات، وقال القاري: النغاشين بضم النون وتخفيف الياء، وفي نسخة بتشديدها، قال ميرك النغاشي بتشديد الياء، والنغاش بحذفها: هو القصير جدا الضعيف الحركة الناقص الخلقة – انتهى. وفي المصابيح رأى رجلا نغاشيا فسجد شكرا لله. قال القاري: قال بعض الشراح: وروي نغاشيا بتشديد الياء (فخر ساجدا) فيه دليل على شرعية سجدة الشكر على العافية إذا رأى مبتلى بمرض سيء أو زمانة، قال المظهر: السنة إذا رأى مبتلى أن يسجد شكرا لله على أن عافاه الله تعالى من ذلك البلاء وليكتم والسجود، وإذا رأى فاسقا فليظهر السجود لينتبه ويتوب – انتهى. (رواه الدارقطني) (ص157) (مرسلا)؛ لأن أباجعفر لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي إسناده جابر الجعفي، وفيه كلام مشهور، وأخرجه أيضا البيهقي (ج3 ص371) وقال: هذا منقطع، ورواية جابر الجعفي، ولكن له شاهد من وجه آخر، يعني ما رواه عن عرفجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلا به زمانة فسجد، قال: ويقال: هذا عرفجة السلمي، ولا يرون له صحبة، فيكون مرسلا شاهدا لما تقدم – انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص115): حديث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا نغاشيا فخر ساجدا ثم قال أسأل الله العافية، هذا الحديث ذكره الشافعي في المختصر بلفظ: فسجد شكرا لله، ولم يذكر إسناده، وكذا صنع الحاكم في المستدرك واستشهد به على حديث أبي بكرة وأسنده الدارقطني والبيهقي من حديث جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي مرسلا، وزاد أن اسم الرجل زنيم، وكذا هو في مصنف ابن أبي شيبة من هذا الوجه، ووصله ابن حبان في الضعفاء في ترجمة يوسف بن

(9/317)


محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر – انتهى. ولعل الحافظ يريد بحديثه ما ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص289) بلفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى رجلا متغيرا الخلق سجد، وعزاه للطبراني وقال: فيه يوسف بن محمد بن المنكدر، وثقه أبوزرعة، وضعفه جماعة. (وفي شرح السنة لفظ المصابيح) وفي بعض النسخ بلفظ المصابيح يعني نغاشيا بدل من النغاشين، وكذا عند البيهقي: رأى رجلا نغاشيا.
1509- (3) وعن سعد بن أبي وقاص قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريبا من عزوزاء، نزل ثم رفع يديه، فدعا الله ساعة، ثم خر ساجدا، فمكث طويلا، ثم قام فرفع يديه ساعة، ثم خر ساجدا، فمكث طويلا، ثم قام فرفع يديه ساعة، ثم خر ساجدا، قال: ((إني سألت ربي، وشفعت لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجدا لربي شكرا، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجدا لربي شكرا، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي لأمتي، فأعطاني الثلث الآخر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/318)


1059- قوله (نريد) بصيغة المتكلم مع الغير (فلما كنا قريبا) أي في موضع قريب أو قريبين أو ذوي قرب (من عزوزاء) هكذا في جميع النسخ الحاضرة للمشكاة، بفتح العين المهملة والزائين المعجمتين بينهما واو مفتوحة وبعد الزاي الثانية ألف ممدودة، والأشهر حذف الألف، هكذا صحح هذه اللفظة شراح المصابيح، وقالوا: هي موضع بين مكة والمدينة، والعزازة – بفتح العين – الأرض الصلبة، وقال صاحب المغرب والشيخ الجزري في تصحيح المصابيح: عزوراء – بفتح العين المهملة وزاي ساكنة ثم واو وراء مهملة مفتوحتين وألف، وضبط بعضهم بحذف الألف، وهي ثنية عند الجحفة خارج مكة، قال الشيخ الجزري: ولا ينبغي أن يلتفت إلى ما ضبطه شراح المصابيح مما يخالف ذلك، فقد اضطربوا في تقييدها، ولم أر أحدا منهم ضبطها على الصواب – انتهى. كذا في المرقاة، قلت: وفي أبي داود عزوراء، قال في العون: بفتح العين المهملة وسكون الزاي وفتح الواو وفتح الراء المهملة بالقصر، ويقال فيها: عزور – أي بحذف الألف مثل قسور، وكذا وقع في البيهقي -، ثنية بالجحفة عليها الطريق من المدينة إلى مكة، كذا في النهاية، وفي المراصد: عزور بفتح أوله وسكون ثانيه وفتح الواو وآخره راء مهملة موضع أو ماء قريب من مكة، وقيل: ثنية المدينتين إلى بطحاء مكة، وقيل: هي ثنية الجحفة عليها الطريق بين مكة والمدينة – انتهى. (نزل) نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع لم يكن لخاصية البقعة، بل لوحي أوحي إليه في النهي والأمر، قاله الطيبي. (فمكث) بفتح الكاف وضمها (طويلا) أي مكثا طويلا أو زمانا كثيرا (إني سألت ربي) أي دعوته أو طلبت رحمته (وشفعت لأمتي) هو بيان للمسؤول أو بعضه (فخررت) بفتح الراء (ساجدا لربي شكرا) أي لهذه النعمة وطلبا للزيادة، قال تعالى: ?لئن شكرتم لأزيدنكم...? [إبراهيم: 7]. (فأعطاني الثلث الآخر) بكسر الخاء، وقيل: بفتحها، قال التوربشتي: أي فأعطانيهم فلا يجب عليهم

(9/319)


الخلود، وتنالهم شفاعتي فلا يكونون كالأمم السالفة، فإن من عذب منهم وجب عليه الخلود، وكثير منهم لعنوا لعصيانهم الأنبياء، فلم تنلهم الشفاعة، والعصاة من هذه الأمة من عوقب منهم نقي وهذب، ومن مات منهم على الشهادتين يخرج من النار وإن عذببها، وتناله الشفاعة
فخررت ساجدا لربي شكرا))، رواه أحمد، وأبوداود.
(52) باب الاستسقاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإن اجترح الكبائر ويتجاوز عنهم ما وسوست به صدورهم ما لم يعلموا أو يتكلموا إلى غير ذلك من الخصائص التي خص الله تعالى هذه الأمة كرامة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - - انتهى. وقال المظهر: ليس معنى الحديث أن يكون جميع أمته مغفورين بحث لا تصيبهم النار؛ لأنه يناقض كثيرا من الآيات والأحاديث الواردة في تهديد آكل مال اليتيم والربا ولزاني وشارب الخمر وقاتل النفس بغير حق وغير ذلك، بل معناه أنه سال أن يخص أمته من سائر الأمم بأن لا يمسخ صورهم بسبب الذنوب، وأن لا يخلدهم في النار بسبب الكبائر، بل يخرج من النار من مات في الإسلام بعد تطهيره من الذنوب وغير ذلك من الخواص التي خص الله تعالى أمته – عليه السلام – من بين سائر الأمم. قال الطيبي: يفهم من كلام المظهر: إن الشفاعة مؤثرة في الصغائر وفي عدم الخلود في حق أهل الكبائر بعد تمحيصهم بالنار، ولا تأثير للشفاعة في حق أهل الكبائر قبل الدخول في النار، وقد روينا عن الترمذي وأبي داود عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي))، وعند الترمذي عن جابر: ((من لم يكن من أهل الكبائر فما له للشفاعة))، والأحاديث فيها كثيرة، نعم يتعلق ذلك بالمشيئة والإذن، فإذا تعلقت المشيئة بأن تنال بعض أصحاب الكبائر قبل دخول النار وإذن فيها فذاك وإلا كانت بعد الدخول، والله أعلم بحقيقة الحال – انتهى. والحديث يدل على مشروعية سجود الشكر ورفع اليدين في الدعاء. (رواه أحمد وأبوداود) كذا

(9/320)


في جميع النسخ، لكن لم أجده في مسند الإمام أحمد في مسند سعد بن أبي وقاص، والحديث ذكره المجد بن تيمية في المنتقى، وعزاه لأبي داود فقط، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (ج2 ص370) من طريق أبي داود، وقد سكت عليه أبوداود، وقال المنذري: في إسناده موسى بن يعقوب الزمعي، وفيه مقال – انتهى. قلت: وثقه ابن معين وابن القطان، وقال أبوداود: هو صالح، وقال ابن عدي: لا بأس به عندي ولا برواياته، وذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه ابن المديني، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أحمد: لا يعجبني حديثه، كذا في التهذيب، وقال في التقريب: صدوق سيء الحفظ.
(باب الاستسقاء) أي هذا باب في بيان أحكام الاستسقاء، قال القاري: وفي نسخة صحيحة: باب صلاة الاستسقاء، وهو لغة: طلب سقي الماء من الغير للنفس أو للغير، وشرعا: طلبه من الله عند حصول الجدب على الوجه المبين في الأحاديث، قال الجزري في النهاية: هو استفعال من طلب السقيا، أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم، والاسم: السقيا – بالضم -، واستسقيت فلانا، إذا طلبت منه أن يسقيك – انتهى. قال القسطلاني: الاستسقاء ثلاثة أنواع: أحدها – وهو أدناها – أن يكون بالدعاء مطلقا – أي من غير صلاة – فرادى
?الفصل الأول?
1510- (1) عن عبدالله بن زيد قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس إلى المصلى يستسقي، فصلى بهم ركعتين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/321)


ومجتمعين. وثانيها – وهو أفضل من الأول – أن يكون بالدعاء، خلف الصلوات ولو نافلة كما في البيان وغيره عن الأصحاب، خلافا لما وقع للنووي في شرح مسلم من تقييده بالفرائض، وفي خطبة الجمعة. وثالثها – وهو أفضلها وأكملها – أن يكون بصلاة ركعتين والخطبتين. قال النووي: يتأهب قبله بصدقة وصيام وتوبة وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة الله تعالى. قال الشاه ولي الله الدهلوي: قد استسقى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته مرات على أنحاء كثيرة، لكن الوجه الذي سنه لأمته أن خرج بالناس إلى المصلى متبذلا متواضعا متضرعا، فصلى بهم ركعتين، جهر فيهما بالقراءة، ثم خطب واستقبل فيها القبلة يدعو ويرفع يديه، وحول رداءه، وذلك لأن لاجتماع المسلمين في مكان واحد راغبين في شيء واحد بأقصى هممهم واستغفارهم وفعلهم الخيرات أثرا عظيما في استجابة الدعاء، والصلاة أقرب أحوال العبد من الله، ورفع اليدين حكاية من التضرع التام، والابتهال العظيم تنبه النفس على التخشع، وتحويل ردائه حكاية عن تقلب أحوالهم كما يفعل المستغيث بحضرة الملوك – انتهى.

(9/322)


1510- قوله (عن عبدالله بن زيد) بن عاصم المازني، لا عبدالله بن زيد بن عبد ربه الذي أري الأذان كما زعم ابن عيينة (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس) في شهر رمضان سنة ست من الهجرة، أفاده ابن حبان، قاله الحافظ. وهذا يدل على أن بدأ مشروعية صلاة الاستسقاء كان في رمضان سنة (6) من الهجرة. (إلى المصلى) أي في المدينة، وفيه دليل على أن سنة الاستسقاء البروز إلى المصلى، وقد حكى ابن عبدالبر الإجماع على استحباب الخروج إلى الاستسقاء، والبروز إلى ظاهر المصر. (يستسقي) حال أي حال كونه يريد الاستسقاء، أو استئناف فيه معنى التعليل (فصلى بهم ركعتين) فيه دليل على أن الصلاة في الاستسقاء في جماعة في حالة البروز سنة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وهو قول أبي يوسف ومحمد، قال محمد في موطأه: أما أبوحنيفة فكان لا يرى في الاستسقاء صلاة، وأما في قولنا: فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه – انتهى. كذا ذكر شيخنا في شرح الترمذي. قلت: اختلفوا في حكم صلاة الاستسقاء جدا، فقال أبويوسف ومحمد: هي سنة، وقالت المالكية والشافعية والحنابلة: إنها سنة مؤكدة، واضطربت الحنفية في بيان مذهب إمامهم، فقال بعضهم: إنه إنما أنكر سنية صلاة الاستسقاء في جماعة ولم ينكر مشروعيتها وجوازها، قال صاحب الهداية: قال أبوحنيفة: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، وإن صلى الناس وحدانا جاز، وإنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار، قال: فعله مرة وتركه أخرى، فلم يكن سنة، قال ابن الهمام: وإنما يكون سنة ما واظب عليه، وقال بعضهم: أنكر أبوحنيفة مشروعية صلاة
......................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/323)


الاستسقاء بجماعة، قال صاحب البدائع: وأما صلاة الاستسقاء فظاهر الرواية عن أبي حنيفة أنه قال: لا صلاة في الاستسقاء، وإنما هو الدعاء، وأراد بقوله: لا صلاة في الاستسقاء: الصلاة بجماعة، أي لا صلاة فيه بجماعة، بدليل ما روي عن أبي يوسف أنه قال: سألت أباحنيفة عن الاستسقاء هل فيه صلاة أو دعاء مؤقت أو خطبة؟ فقال: أما صلاة بجماعة فلا، ولكن الدعاء والاستغفار، وإن صلوا وحدانا فلا بأس به، والدليل له قوله: ?واستغفروا ربكم إنه كان غفارا? [نوح: 10]، والمراد منه الاستغفار في الاستسقاء، فمن زاد عليه الصلاة فلا بد له من دليل، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الروايات المشهورة أنه صلى في الاستسقاء... إلى آخر ما قال. وقال بعضهم: لم ينكر أبوحنيفة استنان صلاة الاستسقاء بجماعة واستحبابها، وإنما أنكر كونها سنة مؤكدة، قال بعض من كتب على المشكاة من أهل عصرنا ما لفظه: صلاة الاستسقاء سنة عند أبي حنيفة، لكنها غير مؤكدة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها مرة وتركها مرة، واقتصر على الاستغفار فقط، قال: فقد استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة، كما في حديث أنس في الصحيحين ولم يصل له، وثبت أن عمر بن الخطاب استسقى ولم يصل ولو كانت سنة – أي مؤكدة – لما تركها؛ لأنه كان أشد الناس اتباعا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتأويل ما رواه أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله مرة وتركه أخرى، والسنة لا تثبت بمثله بل بالمواظبة، كذا في التبيين – انتهى. وقال صاحب العرف الشذي: قال في الهداية: لأنه – عليه السلام – صلى مرة لا أخرى، فلا تكون سنة...الخ. أقول: لا تكون سنة مؤكدة، وإلا فمطلق السنة والاستحباب لا يمكن إنكاره لما قال صاحب الهداية أنه – عليه السلام – صلى مرة. وقال المحقق ابن أمير الحاج: نسب البعض إلينا أن الصلاة عندنا منفية، وهذا غلط، والصحيح أن الصلاة عندنا مستحبة...الخ – انتهى

(9/324)


كلام صاحب العرف. ولعلك قد عرفت بما ذكرنا وجه تخبط الحنفية في بيان مذهب إمامهم، وهو أنه قد نفى الصلاة في الاستسقاء مطلقا كما هو مصرح في كلام أبي يوسف ومحمد في بيان مذهب أبي حنيفة، ولا شك أن قوله هذا مخالف ومنابذ للسنة الصحيحة الثابتة الصريحة، فاضطربت الحنفية لذلك وتخبطوا في تشريح مذهبه وتعليله حتى اضطر بعضهم إلى الاعتراف بأن الصلاة في الاستسقاء بجماعة سنة، وقال: لم ينكر أبوحنيفة سنيتها واستحبابها، وإنما أنكر كونها سنة مؤكدة، وهذا كما ترى من باب توجيه الكلام بما لا يرضى به قائله؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لم يكن بينه وبين صاحبيه خلاف، مع أنه قد صرح جميع الشراح وغيرهم ممن كتب في اختلاف الأئمة بالخلاف بينه وبين الجمهور في هذه المسألة. قال شيخنا في شرح الترمذي: قول الجمهور هو الصواب والحق؛ لأنه قد ثبت صلاته - صلى الله عليه وسلم - ركعتين في الاستسقاء من أحاديث كثيرة صحيحة. منها: حديث عبدالله بن زيد – الذي نحن بصدد شرحه -، وهو حديث متفق عليه. ومنها: حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد وابن ماجه وأبوعوانة والطحاوي والبيهقي في السنن
...........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/325)


(ج3 ص347) وقال تفرد به النعمان بن راشد. وقال في الخلافيات: رواته ثقات. ومنها حديث ابن عباس أخرجه أحمد وأصحاب السنن وأبوعوانة وابن حبان والحاكم والبيهقي والدارقطني، وصححه الترمذي وأبوعوانة وابن حبان. ومنها: حديث عائشة أخرجه أبوداود وقال: إسناده جيد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وأبوعوانة والبيهقي، وصححه الحاكم وابن السكن، وسيأتي في الفصل الثالث. قال الشيخ: فهذه الأحاديث حجة بينه لقول الجمهور، وهي حجة على الإمام أبي حنيفة – انتهى. ويدل لقول الجمهور أيضا ما روى البخاري ومسلم والبيهقي عن أبي إسحاق قال: خرج عبدالله بن يزيد الأنصاري – وقد كان رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - وكان خروجه إلى الصحراء بأمر عبدالله بن الزبير حين كان أميرا على الكوفة من جهته -، وخرج معه البراء بن عازب وزيد بن أرقم فاستسقى فقام لهم على رجليه على غير منبر فاستسقى ثم صلى ركعتين يجهر بالقراءة ولم يؤذن ولم يقم. قال الشيخ عبدالحي اللكنوي في تعليقه (ص155) على موطأ الإمام محمد بعد ذكر الأحاديث الأربعة المرفوعة ما نصه: وبه ظهر ضعف قول صاحب الهداية في تعليل مذهب أبي حنيفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى، ولم ترو عنه الصلاة – انتهى. فإنه إن أراد أنه لم يرو بالكلية، فهذه الأخبار تكذبه، وإن أراد أنه لم يرو في بعض الروايات – أو في كثير من الروايات – فغير قادح – انتهى. قال العيني في شرح البخاري (ج7 ص35-36) قال أبوحنيفة: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، فإن صلى الناس وحدانا جاز، إنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار لقوله تعالى: ?استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا? [نوح: 10-11]، علق نزول الغيث بالاستغفار لا بالصلاة، فكان الأصل فيه الدعاء دون الصلاة، ويشهد لذلك أحاديث، ثم ذكر أحاديث الاستسقاء وآثاره التي ليس فيها ذكر الصلاة، ثم قال: فهذه الأحاديث والآثار كلها تشهد لأبي حنيفة أن

(9/326)


الاستسقاء دعاء واستغفار – انتهى. وأجيب عن الآية بأنها لا تنافي سنية الصلاة في الاستسقاء، إذ ليس فيها نفيها، وكذا ليس فيها حصر ا لاستسقاء في الدعاء والاستغفار، بل هي ساكتة عن ذكر الصلاة نفيا وإثباتا، وقد ثبت بأحاديث صحيحة أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى مع الناس في الاستسقاء فالاستدلال لأبي حنيفة بالآية ليس بصحيح، ولذلك خالفه صاحباه الإمام أبويوسف ومحمد وغيرهما، وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي: الفتوى على قول صاحبيه. وأما الأحاديث التي ذكرها العيني ونقلها عنه صاحب الأوجز فليس فيها أنه - صلى الله عليه وسلم - استسقى ولم يصل بل غاية ما فيها ذكر الاستسقاء بدون ذكر الصلاة ولا يلزم من عدم ذكر الشيء عدم وقوعه فالاستشهاد بها لأبي حنيفة على عدم كون الصلاة في الاستسقاء سنة غير صحيح. قال النووي: أما الأحاديث التي ليس فيها ذكر الصلاة فبعضها محمول على نسيان الراوي، وبعضها كان في الخطبة للجمعة، ويتعقبه الصلاة للجمعة
............................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/327)


فاكتفى بها ولو يصل أصلا كان بيانا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة ولا خلاف في جوازه وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة؛ لأنها زيادة علم، ولا معارضة بينهما، ثم ذكر النووي أنواع الاستسقاء التي ذكرنا في أول الباب، وقال ابن رشد بعد ذكر بعض الأحاديث والآثار التي ليس فيها ذكر الصلاة ما لفظه: والحجة للجمهور أنه من لم يذكر شيئا فليس هو بحجة على من ذكره، والذي يدل عليه اختلاف الآثار في ذلك ليس عندي فيه شيء أكثر من أن الصلاة ليست من شرط صحة الاستسقاء، إذ قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قد استسقى على المنبر لا أنها ليست من سنته كما ذهب إليه أبوحنيفة – انتهى. وأجاب العيني عن الأحاديث التي فيها الصلاة بأنه - صلى الله عليه وسلم - فعلها مرة – أي واحدة – وتركها أخرى – أي في مرات أخرى – وذا لا يدل على السنية، وإنما يدل على الجواز – انتهى. وفيه أنه لم يرو في حديث صحيح أو ضعيف نفي الصلاة وعدم نقل الصلاة لا يستلزم عدم الوقوع، فدعوى أنه لم يصل إلا مرة واحدة وتركها أخرى مردودة، ولو سلم فصلاته في المصلى في الاستسقاء ولو مرة تدل على أنها سنة في حق أمته من غير شك، كما قال صاحب العرف الشذي: إن مطلق السنة والاستحباب لا يمكن إنكاره لما قال صاحب الهداية: أنه – عليه السلام – صلى مرة، وكما قال الشاه ولي الله الدهلوي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى لأمته مرات على أنحاء كثيرة، لكن الوجه الذي سنه لأمته أن خرج بالناس إلى المصلى متبذلا متواضعا متضرعا فصلى بهم ركعتين... إلى آخر ما تقدم من كلامه. وقال الشيخ عبدالحي اللكنوي في التعليق الممجد: وأما ما ذكروا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة فليس بشيء، فإنه لا ينكر ثبوت كليهما – أي على زعمه – مرة هذا ومرة هذا لكن يعلم من تتبع الطرق أنه لما خرج إلى الصحراء صلى فتكون الصلاة مسنونة في هذه الحالة بلا ريب ودعائه المجرد

(9/328)


كان في غير هذه الصورة – انتهى. قال القسطلاني في شرح البخاري، وابن حجر المكي في شرح المشكاة، والشيخ عبدالحي في عمدة الرعاية حاشية شرح الوقاية: لعله لم تبلغ أباحنيفة تلك الأحاديث، وإلا لم ينكر استنان الجماعة، قال شيخنا: هذا هو الظن به والله تعالى أعلم. قال الكاساني في البدائع: ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بجماعة حديث شاذ، ورد في محل الشهرة لأن الاستسقاء يكون بملأ من الناس، ومثل هذا الحديث يرجح كذبه على صدقه أو وهمه على ضبطه، فلا يكون مقبولا مع أن هذا مما تعم به البلوى في ديارهم، وما تعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته لا يقبل فيه الشاذ – انتهى. وكذا تفوه السرخسي، وقال في المحيط البرهاني والكافي: إنه لم يبلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك صلاة إلا حديث واحد شاذ لا يؤخذ به، قال ابن الهمام: ووجه الشذوذ أن فعله – عليه الصلاة والسلام – لو كان ثابتا لاشتهر نقله اشتهارا واسعا ولفعله عمر حين استسقى ولأنكروا عليه إذا لم يفعل؛ لأنها كانت بحضرة جميع الصحابة لتوفر
جهر فيهما بالقراءة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/329)


الكل في الخروج معه – عليه الصلاة والسلام – للاستسقاء، فلما لم يفعل ولم ينكروا ولم تشتهر روايتها في الصدر الأول، بل هو عن ابن عباس وعبدالله بن زيد على اضطراب في كيفيتها عن ابن عباس وأنس كان ذلك شذوذا فيما حضره الخاص والعام والصغير والكبير. واعلم أن الشذوذ يراد باعتبار الطرق إليهم، إذ لو تيقنا عن الصحابة المذكورين رفعه لم يبق إشكال – انتهى. كذا في المرقاة. قلت: قد روى صلاته- صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء أربعة نفر من كبراء الصحابة: عبدالله بن زيد، وأبوهريرة، وابن عباس، وعائشة، والطرق إليهم صحيحة ثابتة قطعا، لا يمكن إنكاره، وليس فيها اضطراب قادح أصلا، كما لا يخفى على من تأمل في طرق هذه الأحاديث ومتونها، فالارتياب في كونها مرفوعة والتوهم بكونها كذبا أو وهما ليس منشأه إلا التقليد الأجوف والعصبية العمياء وغمط الحق والنفور عن السنة، والخبر المذكور مشهور، قد عمل به الصحابة وغيرهم كابن الزبير وعبدالله بن يزيد والبراء بن عازب وزيد بن أرقم، وكذا عمل به من بعدهم، كما قال ابن قدامة في المغني (ج2 ص329، 339) فتبين أن الحديث قد اشتهر بينهم واستفاض في الصدر الأول حديث عمل به الصحابة وغيرهم، وتلقوه بالقبول، فادعاء شذوذه باطل مردودة على من تفوه به، ولا يلزم من اقتصار عمر على الاستغفار عدم ثبوت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز تكذيب الرواة العدول الثقات لفعل عمر، والظاهر أن عمر إنما لم يزد على الاستغفار ليبين للناس أن الصلاة ليست من شرط صحة الاستسقاء، كما قال ابن رشد، وأيضا فقد أنكروا على عمر اقتصاره على الاستغفار، إذ قالوا: ما رأيناك استسقيت، أي على الوجه الذي استسقى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة الخروج إلى الصحراء من الصلاة والدعاء والخطبة وتحويل الرداء، ولا يضر هذه الأحاديث كونها مما تعم به البلوى، فإن خبر الواحد مقبول في ذلك في قول الجمهور لعمل الصحابة

(9/330)


والتابعين بأخبار الآحاد في عموم البلوى، فقد قبلوا خبر عائشة في الغسل من الجماع بغير الإنزال، وخبر رافع بن خديج في المخابرة، وقد أثبتت الحنفية تثنية الإقامة وانتقاض الوضوء بخروج النجاسة من غير السبيل، ورفع اليدين مع تكبيرات العيدين بأخبار الآحاد مع كون ذلك مما تعم به البلوى. (جهر فيهما بالقراءة) قال النووي في شرح مسلم: أجمعوا على استحباب الجهر بالقراءة، وكذا نقل الإجماع على استحبابه ابن بطال، كما في الفتح، قال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق حديث عبدالله بن زيد صفة الصلاة المذكورة، ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدارقطني – والحاكم والبيهقي – من حديث ابن عباس أنه قال: سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين – الحديث، وفيه: وصلى ركعتين كبر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، وقرأ في الثانية: ?هل أتاك حديث الغاشية?، وكبر فيها خمس تكبيرات، وفي إسناده مقال، فإن في سنده محمد بن عبدالعزيز وقال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وضعفه أيضا أبوحاتم
واستقبل القبلة يدعو، ورفع يديه، وحول رداءه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/331)


وابن حبان وابن القطان، وأصله في السنن بلفظ: فصلى ركعتين، كما يصلي في العيد، فأخذ بظاهره الشافعي فقال: يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو رواية عن أحمد، وذهب الجمهور مالك والأوزاعي وإسحاق وأبويوسف ومحمد وأحمد – في رواية – إلى أنه يكبر فيهما كسائر الصلوات تكبيرة واحدة للافتتاح؛ لأنه لم يذكر عبدالله بن زيد وأبوهريرة وعائشة تكبيرات الزوائد في رواياتهم، ولا ابن عباس فيما صح من روايته، وظاهرها أنه لم يكبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والزيادة تحتاج إلى دليل صحيح يؤيدها، وتأويل الجمهور قول ابن عباس: صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد، على أن المراد كصلاة العيد في العدد والجهر بالقراءة، وكونهما قبل الخطبة، قال الزرقاني: لم يأخذ به مالك لضعف الرواية المصرحة بالتكبير، ولما يطرق الثانية من احتمال نقص التشبيه – انتهى. وقال ابن قدامة: كيفما فعل كان جائزا حسنا – انتهى. (واستقبل القبلة) أي بعد الصلاة، واختلفوا في استقبال القبلة متى يكون؟ فقال محمد: يخطب خطبتين بعد الصلاة، ويتوجه إلى القبلة بعد الفراغ من الخطبة، ويشتغل بالدعاء رافعا يديه. وقالت الشافعية: إذا مضى الثلث من الخطبة الثانية يتوجه إلى القبلة ويدعو، وبعد الدعاء يستقبل الناس ويكمل الخطبة، وقالت المالكية: يتوجه إلى القبلة بعد الفراغ من الخطبة الثانية ويدعو مستقبلا للقبلة. قال الباجي: اختلف قول مالك في استقبال القبلة متى يكون، فروى عنه ابن القاسم أنه يفعل ذلك إذا فرغ من الخطبة، وقال عنه علي بن زياد: يفعل ذلك في أثناء خطبته يستقبل القبلة ويدعو ما شاء ثم ينصرف فيستقبل الناس ويتم خطبته، وجه الأول أنه خطبة مشروعة فلا يسن قطعها بذكر كخطبتي العيد، وجه الثاني: أن السنة فيها خطبتان لا زيادة عليهما، فإذا أتى بالدعاء مفردا كان ذلك كالخطبة الثالثة – انتهى. وقالت

(9/332)


الحنابلة: يخطب بعد الصلاة خطبة واحدة ويدعو رافعا يديه، ويجهر ببعض دعائه ليسمع الناس فيؤمنون على دعائه، ثم يستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويدعو حال استقباله، والراجح عندنا: أنه يخطب خطبة واحدة ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويدعو مستقبلا للقبلة؛ لأن ظاهر الحديث يدل على هذا. (يدعو) حال (ورفع يديه) أي للدعاء، وكذا يرفع الناس أيديهم مع الإمام يدعون، وقد بوب البخاري في صحيحه: باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، وأورد فيه حديث أنس في استسقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة عند شكوى الأعرابي، وفيه: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه يدعو ورفع الناس أيديهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعون. (وحول رداءه) بحيث صار الأيمن إلى الجانب الأيسر وطرفه الأيسر إلى الجانب الأيمن، وصار باطنه ظاهرا وظاهره باطنا، وطريقة هذا القلب والتحويل أن يأخذ بيده اليمنى الطرف الأسفل من جانب يساه وبيه اليسرى الطرف الأسفل من جانب يمينه، ويقلب يديه خلف ظهره حتى يكون الطرف المقبوض بيده اليمنى على كتفه
حين استقبل القبلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/333)


الأعلى من جانب اليمين والطرف المقبوض بيده اليسرى على كتفه الأعلى من جانب اليسار، فإذا فعل ذلك فقد انقلب اليمين يسارا واليسار يمينا والأعلى أسفل وبالعكس، ذكر الواقدي أن طول ردائه - صلى الله عليه وسلم - كان في ستة أذرع في ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين في ذراعين وشبر كان يلبسهما في الجمعة والعيد – انتهى. وفيه دليل على استحباب تحويل الرداء في هذه العبادة، وخالف أبوحنيفة في ذلك فأنكر استنانه واستحبابه، وقال: كان ذلك تفاؤلا بتغيير الحال كما جاء مصرحا عند الدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر بلفظ: وحول رداءه ليتحول القحط. قال الحافظ: رجاله ثقات، ورجح الدارقطني إرساله، وفي الطوالات للطبراني من حديث أنس بلفظ: وقلب رداءه لكي ينقلب القحط إلى الخصب. قلت: كون التحويل للتفاؤل لا ينافي استحبابه عند الدعاء في الاستسقاء في الصحراء، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع. قال ابن دقيق العيد: وقال من احتج لأبي حنيفة: إنما قلب رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع اليدين في الدعاء أو عرف من طريق الوحي تغيير الحال عند تغيير ردائه. قلنا: القلب من جهة أخرى أو من ظهر إلى بطن لا يقتضي الثبوت على العاتق، بل أي حالة اقتضت الثبوت أو عدمه في إحدى الجهتين فهو موجود في الأخرى، وإن كان قد قرب من السقوط تلك الحال فيمكن تثبيته من غير قلب، والأصل عدم ما ذكر من نزول الوحي بتغير الحال عند تغيير الرداء، والاتباع لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص مع ما عرف من الشرع من صحة التفاؤل – انتهى. ويستحب أن يحول الناس بتحويل الإمام، وهو قول الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، لما روى أحمد من حديث عبدالله بن زيد بلفظ: وحول الناس معه، وقال الليث وأبويوسف ومحمد وابن المسيب وعروة والثوري: يحول الإمام وحده، والحق ما ذهب إليه

(9/334)


الجمهور؛ لأن الظاهر أن تحويلهم كان عن علمه - صلى الله عليه وسلم -، فتقريره إياهم إذ حولوا على كونه سنة في حقهم أيضا، واستثنى الشافعية والمالكية النساء، فقالوا: لا يستحب في حقهن، وظاهر قوله: وحول الناس معه أنه يستحب ذلك للنساء أيضا. (حين استقبل القبلة) وفي رواية لمسلم: لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه، وفي أخرى له: فجعل إلى الناس ظهره يدعو الله واستقبل القبلة وحول رداءه، وأفادت هذه الروايات أن التحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء حال استقبال القبلة، وفي رواية للبخاري: فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه، قال الحافظ: ظاهره أن الاستقبال وقع سابقا لتحويل الرداء، وهو ظاهر كلام الشافعي، ووقع في كلام كثير من الشافعية أنه يحوله حال الاستقبال – انتهى. وقيل: يحمل "ثم" في رواية البخاري على معنى "الواو" لتوافق الروايات الأخرى. واعلم أنه لم يرد في حديث عبدالله بن زيد في الصحيحين التصريح بالخطبة، وإنما ذكر تحويل الظهر إلى
.........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/335)


الناس واستقبال القبلة والدعاء وتحويل الرداء فاحتج به لأبي حنيفة على أنه لا خطبة في الاستسقاء، وإنما يدعو ويتضرع، وهي رواية عن أحمد، وهو الحق والصواب لما وقع من التصريح بالخطبة في حديث عبدالله بن زيد عند أحمد (ج4 ص41) وفي حديث أبي هريرة عند ابن ماجه والبيهقي (ج3 ص374) والطحاوي (ص192)، وفي حديث عائشة عند أبي داود والحاكم (ج1 ص328) والبيهقي (ج3 ص349) واحتج أيضا لمن لم يقل بالخطبة بقول ابن عباس: لم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير. أخرجه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم (ج1 ص327) والبيهقي (ج3 ص347-348) والطحاوي (ج1 ص191)، وأجيب عنه بأن ابن عباس إنما نفى وقوع خطبة منه - صلى الله عليه وسلم - مشابهة لخطبة المخاطبين ولم ينف وقوع مطلق الخطبة منه - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخنا: النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد كما يدل على ذلك الأحاديث المصرحة بالخطبة. وفي رواية أبي داود: فرقى المنبر ولم يخطب خطبتكم هذه، فقوله: فرقى المنبر أيضا يدل على أن النفي متوجه إلى القيد، قال الزيلعي (ج2 ص242): مفهوم قول ابن عباس أنه خطب لكنه لم يخطب خطبتين كما يفعل في الجمعة، ولكنه خطب خطبة واحدة، فلذلك نفى النوع ولم ينف الجنس، ولم يرو أنه خطب خطبتين، فلذلك قال أبويوسف: يخطب خطبة واحدة، ومحمد يقول: يخطب خطبتين، ولم أجد له شاهدا – انتهى. وقال ابن قدامة: قول ابن عباس نفي للصفة لا لأصل الخطبة أي لم يخطب كخطبتكم هذه إنما كان جل خطبته الدعاء والتضرع والتكبير – انتهى. قال بعض من كتب على سنن أبي داود من أهل عصرنا: ظاهر قوله: فلم يخطب خطبتكم هذه أن النفي راجع إلى القيد والمقيد جميعا ولم يخطب - صلى الله عليه وسلم - في هذه المرة قال: وقوله ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير كالصريح في أنه لم يخطب مطلقا فإن الخطبة كانت مستقبل الناس مستدير الكعبة والدعاء بالعكس، قال: وأما

(9/336)


قوله: فرقى المنبر فهو مختلف فيه، ذكره عثمان بن أبي شيبة عند أبي داود ومحمد بن عبيد بن محمد عند النسائي، وعثمان له مع كونه ثقة أوهام، ومحمد بن عبيد قال فيه النسائي ومسلمة: لا بأس به، ولم يذكر هذا اللفظ غيرهما. قلت: وقع عند أحمد والبيهقي من رواية وكيع عن سفيان عن هشام بن إسحاق عن أبيه عن ابن عباس: لم يخطب كخطبتكم هذه، وهذا صريح في أن ابن عباس إنما نفى الخطبة المشابهة لخطبتهم ولم ينف وقوع مطلق الخطبة، ولا يفهم منه غير ذلك، فهو ظاهر في أن النفي راجع إلى القيد فقط، وأما قوله: لكن لم يزل في الدعاء... الخ فلا ينافي الخطبة؛ لأن معناه أن جل خطبته وأكثرها كان الدعاء والتضرع والتكبير، كما قال ابن قدامة، وأيضا الدعاء يكون بعد فراغ الموعظة في آخر الخطبة وبعد الدعاء يستقبل الإمام الناس ويتم خطبته، وقوله: فرقى المنبر صريح في وقوع الخطبة في هذه المرة أيضا؛
..........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/337)


لأن الظاهر أنه لا يرقاه إلا للخطبة، ولم يتفرد به عثمان ومحمد بن عبيد، بل قد تابعهما أبوثابت المدني محمد بن عبيدالله بن محمد عند البيهقي، وهو أيضا ثقة، فهي زيادة صحيحة، رواها جماعة من الثقات ولا يضرها سكوت من سكت عنها، ولا دليل على كونها وهما فلابد من قبولها. ثم إنه اختلفت الأحاديث في وقت الخطبة للاستسقاء، ففي حديث عبدالله بن زيد عند أحمد (ج4 ص41) وحديث أبي هريرة أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وفي حديث عائشة عند أبي داود وغيره أنه بدأ بالخطبة قبل الصلاة، وكذا في حديث ابن عباس عند أبي داود ففيه خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى فرقى المنبر فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين، وقد استدل بها على أن الخطبة قبل الصلاة لكن ليس فيها التصريح بأنه خطب، واختلفوا في دفع هذا الاختلاف، فقال الزيلعي في نصب الراية (ج3 ص242) بعد ذكر الروايات المذكورة: ولعلهما واقعتان، وقال ابن قدامة: يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل الأمرين، ورجح البيهقي رواية تقديم الصلاة على الخطبة من حديث عبدالله بن زيد، كما يظهر من كلامه في باب ذكر الأخبار التي تدل على أنه دعا أو خطب قبل الصلاة (ج3 ص348-349)، قال القرطبي: ويعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة بمشابهتها للعيد، وكذا ما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة، ورجح بعضهم تقديم الخطبة. قال ابن رشد في الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالدعاء ثم صلى ركعتين ثم خطب فاقتصر بعض الرواة على شيء، وبعضهم على شيء، وعبر بعضهم عن الدعاء بالخطبة، فلذلك وقع الاختلاف – انتهى. واختلف أيضا مذاهب العلماء في محل الخطبة، واختلافهم إنما هو في الاستحباب لا في الجواز، فالمرجح عند مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد: الشروع بالصلاة، وهو المشهور عن أحمد. قال ابن عبدالبر:

(9/338)


وعليه جماعة الفقهاء. وقال النووي: وبه قال الجماهير، وذهب ابن حزم والليث وابن المنذر إلى أن الخطبة قبل الصلاة، وروي ذلك عن عمر – رضي الله عنه – وابن الزبير وأبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، كما في سنن الأثرم، وعن أحمد رواية كذلك، قال النووي: وكان مالك يقول به ثم رجع إلى قول الجماهير. قال أصحابنا: ولو قدم الخطبة على الصلاة صحتا، ولكن الأفضل تقديم الصلاة كصلاة العيد وخطبتها، وجاء في الأحاديث ما يقتضي جواز التقديم والتأخير، واختلفت الرواية في ذلك عن الصحابة – انتهى. وعن أحمد رواية ثالثة أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها. قال ابن قدامة: لورود الأخبار بكلا الأمرين ودلالتها على كلتا الصفتين، فيحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل الأمرين – انتهى. وقال الشوكاني بعد ذكر القولين الأولين ما لفظه:
متفق عليه.
1511- (2) وعن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شيء من دعاء إلا في الاستسقاء، فإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/339)


وجواز التقديم والتأخير بلا أولوية هو الحق – انتهى. وتقدم أنه روي عن أحمد نفي الخطبة أيضا، قال ابن قدامة بعد ذكر الروايات الأربعة عنه: وأيا ما فعل من ذلك فهو جائز؛ لأن الخطبة غير واجبة على الروايات كلها، فإن شاء فعلها وإن شاء تركها، والأولى أن يخطب بعد الصلاة خطبة واحدة لتكون كالعيد، وليكونوا قد فرغوا من الصلاة أن أجيب دعاءهم فأغيثوا فلا يحتاجون إلى الصلاة في المطر – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الاستسقاء في مواضع، وأخرجه أيضا في الدعوات، وأخرجه مسلم في الاستسقاء كلاهما بألفاظ مختلفة، ولفظ المشكاة بهذا السياق والنسق ليس لهما ولا لأحدهما، بل ولا لغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم، والجهر بالقراءة لم يذكره في رواية مسلم قد انفرد به البخاري، وليس في رواية الصحيحين من حديث عبدالله بن زيد ذكر رفع اليدين أصلا، نعم رواه الترمذي وأبوداود والنسائي، ولا أدري من أين نقل البغوي والمصنف هذا السياق؟ والظاهر أن هذا من تصرف البغوي، والعجب من المصنف إنه لم ينتبه لذلك، والحديث أخرجه أيضا أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

(9/340)


1511- قوله (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه) أي رفعا بليغا، يعني لا يبالغ في الرفع، وإلا فأصل الرفع ثابت في مطلق الدعاء، وآخر الحديث يشعر بهذا المعنى (في شي من دعاء إلا في الاستسقاء) أي في دعائه (فإنه يرفع) أي كان يرفع يديه (حتى يرى) بصيغة المجهول (بياض إبطيه) بكسر الهمزة وسكون الباء الموحدة وقد تكسر باطن المنكب يذكر ويؤنث، قال الحافظ: قوله: إلا في الاستسقاء، ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة في الرفع في غير الاستسقاء وهي كثيرة، فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره، ورواية المثبت مقدمة على النافي، وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع، بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة، إما على الرفع البليغ، ويدل عليه قوله: حتى يرى بياض إبطيه، ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء، إنما المراد به مد اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه، وحينئذ يرى بياض إبطيه، وإما على صفة اليدين في ذلك كما في رواية مسلم التي تليه، ولأبي داود من حديث أنس أيضا: كان يستسقي هكذا، ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه.
متفق عليه.
1512- (3) وعنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء. رواه مسلم.
1513- (4) وعن عائشة قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى المطر قال: ((اللهم صيبا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/341)


(متفق عليه)، وأخرجه أيضا أبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص357)، والحاكم (ص327)، وذكر المنذري والقسطلاني والعيني: ابن ماجه أيضا فيمن خرجه في الاستسقاء، ولم أجده، ونسبه الجزري في جامع الأصول (ج7 ص139) للبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي فقط، نعم روى ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى حتى رأيت أو رؤي بياض إبطيه، أخرجه أيضا أحمد (ج2 ص236) والبزار.
1512- قوله (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء) على عكس ما هو المتعارف في الدعاء، قيل: الحكمة في الإشارة بظهر الكفين في الاستسقاء دون غيره التفاؤل بتقليب الحال، كما قيل في تحويل الرداء، قال التوربشتي: معنى الحديث أنه كان يجعل بطن كفيه إلى الأرض وظهرهما إلى السماء، يشير بذلك إلى قلب الحال ظهر البطن وذلك مثل صنيعه في تحويل الرداء، ويحتمل وجها آخر، وهو أنه جعل بطن كفيه إلى الأرض إشارة إلى مسألته من الله تعالى بأن يجعل بطن السحاب إلى الأرض لينصب ما فيه من المطر كما أن الكف إذا جعل وجهها أي بطنها إلى الأرض أنصب ما فيها من الماء – انتهى. وقال النووي: قال العلماء: السنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلا ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء – انتهى. وقد أخرج أحمد من حديث السائب بن خلاد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سأل جعل باطن كفيه إليه، وإذا استعاذ جعل ظاهرهما إليه، وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال مشهور. (رواه مسلم) وأخرجه أيضا أبوداود، وتقدم لفظه، وأخرجه البيهقي بكلا اللفظين (ج3 ص357).

(9/342)


1513- قوله (كان إذا رأى المطر) يحتمل أن يكون المراد إذا رأى المطر بعد الاستسقاء، والمطر بفتح الطاء: ماء السحاب (صيبا) بفتح الصاد وتشديد الياء المكسورة أي منهمرا متدافعا، أصله واو لأنه من صاب يصوب صوبا إذا نزل فأصاب الأرض وبناءه صيوب كفعيل، فأبدلت الواو ياء وأدغمت كسيد، قال ابن عباس في قوله تعالى: ?أو كصيب من السماء? [البقرة: 19]: الصيب المطر، وبه قال الجمهور. قال الواحدي: هو المطر الكثير، وقيل: المطر الذي يجري ماؤه، وقال بعضهم: الصيب السحاب، ولعله أطلق ذلك مجازا؛ لأنه من صاب المطر يصوب إذا نزل فأصاب الأرض، ويؤيد معنى المطر الكثير ما في الكشاف: الصيب المطر الذي يصوب، أي
نافعا)) رواه البخاري.
1514- (5) وعن أنس قال: أصابنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطر، قال: فحسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله ! لم صنعت هذا؟ قال: ((لأنه حديث عهد بربه)) رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/343)


ينزل ويقع، وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء والتكثير، فدل على أنه نوع من المطر شديد هائل، ولذا تممه بقوله: ((نافعا)) صيانة عن الأضرار والفساد، وهو منصوب بفعل مقدر أي اجعله، كما في رواية النسائي وابن ماجه والبيهقي أو أسقنا أو أسألك. وقيل: على الحال، أي أنزله علينا حال كونه صيبا أي مطرا (نافعا) صفة للصيب؛ ليخرج بذلك الصيب الضار أو ما لا يترتب عليه نفع أعم من أن يترتب عليه ضرر أم لا، قال في المصابيح: وهذا أي قوله ((صيبا نافعا)) كالخبر الموطئ في قولك: زيد رجل فاضل، إذ الصفة هي المقصودة بالإخبار بها، ولو لا هي لم تحصل الفائدة، هذا إن بنينا على قول ابن عباس: إن الصيب هو المطر، وإن بنينا على أنه المطر الكثير كما نقله الواحدي فكل من صيبا ونافعا مقصود، والاقتصار عليه محصل للفائدة – انتهى. وفي الحديث دليل على استحباب الدعاء المذكور عند نزول المطر للازدياد من الخير والبركة، وفي رواية ابن ماجه والبيهقي والنسائي في عمل اليوم والليلة: هنيئا، بدل نافعا، وفي رواية ابن أبي شيبة، وكذا في رواية لابن ماجه: سيبا نافعا – بفتح السين المهملة وإسكان الياء – مصدر بمعنى الفاعل صفة لمحذوف، أي اجعله مطرا جاريا، من ساب المطر يسيب سيبا إذا جرى، وذهب كل مذهب، وقيل: السيب العطاء (رواه البخاري) في الاستسقاء، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي في السنن، وفي عمل اليوم والليلة وابن ماجه في الدعاء والبيهقي (ج3 ص361) وابن أبي شيبة.

(9/344)


1514- قوله (فحسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبه) أي كشف بعض ثوبه عن بدنه (لم صنعت هذا) أي ما الحكمة فيه (قال: لأنه) أي المطر الجديد (حديث عهد بربه) أي جديد النزول بأمر ربه أو بإيجاد ربه وتكوينه إياه، يعني أن المطر رحمة، وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها، وفيه دليل على أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف بدنه ليناله المطر لذلك. وقال التوربشتي: أراد أنه قريب عهد بالفطرة، وأنه هو الماء المبارك الذي أنزله الله من المزن ساعتئذ فلم تمسه الأيدي الخاطئة ولم تكدره ملاقاة أرض عبد عليها غير الله. قال المظهر: فيه تعليم لأمته أن يتقربوا ويرغبوا فيما فيه خير وبركة – انتهى. ويسن الدعاء وطلب الإجابة عند نزول المطر، كما في حديث سهل بن سعد وحديث أبي أمامة رواهما البيهقي (ج3 ص360) (رواه مسلم) في الاستسقاء، وأخرجه أيضا أحمد وأبوداود في الدعاء والبيهقي (ج3 ص359).
?الفصل الثاني?
1515- (6) عن عبدالله بن زيد قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى، فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة، فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله، رواه أبوداود.
1516- (7) وعنه أنه قال: استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه خميصة له سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها، فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها على عاتقيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/345)


1515- قوله (فجعل عطافه) بكسر العين المهملة، أي طرف ردائه (الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن) قال في المجمع: العطاف والعطف الرداء، سمي عطافا لوقوعه على عطفي الرجل، وهما ناحيتا عنقه، إنما أضاف العطاف إلى الرداء لأنه أراد أحد شقي العطاف، فالهاء ضمير الرداء، ويجوز أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويريد بالعطاف جانب الرداء وطرفه (ثم دعا الله) أي لرفع القحط ونزول الغيث، وفي الحديث بيان المراد من تحويل الرداء، وهو أن يجعل الأيمن منه أيسر والأيسر منه أيمن، وليس فيه ذكر الصلاة، وهو محمول على نسيان الراوي أو أنه اختصره. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وأخرجه أيضا البيهقي (ج3 ص350) من طريق أبي داود.
1516- قوله (وعليه خميصة) أي كساء أسود مربع له علمان في طرفيه من صوف وغيره، فإن لم يكن معلما فليس بخميصة (له) أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - (سوداء) صفة لخميصة، وفيه تجريد، وقال الجزري في النهاية: الخميصة ثوب خز أو صوف معلم. وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وكانت من لباس الناس قديما، وجمعها الخمائص – انتهى. (فلما ثقلت) أي الخميصة يعني عسر عليه جعل أسفلها أعلاها (قلبها) أي الخميصة بتخفيف اللام. وقيل: بتشديدها (على عاتقيه) بأن جعل جانبها الأيمن على عاتقه الأيسر، والجانب الأيسر على عاتقه الأيمن. قال الطحاوي بعد رواية الأحاديث التي فيها ذكر صفة قلب الرداء ما لفظه: ففي هذه الآثار قلبه لردائه وصفة قلب الرداء كيف كان وإنه إنما جعل ما على يمينه منه على يساره، وما على يساره على يمينه لما ثقل عليه أن يجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، فكذلك نقول ما أمكن أن يجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، فقلبه كذلك هو وما لا يمكن ذلك فيه حوله فجعل الأيمن منه أيسر والأيسر منه أيمن – انتهى. قلت: اختلفوا في حكم التنكيس – وهو أن يجعل
رواه أحمد وأبوداود.

(9/346)


1517- (8) وعن عمير مولى آبي اللحم، أنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسفله أعلاه -، فقال الجمهور: مالك وأحمد باستحباب التحويل فقط، وروي ذلك عن أبان بن عثمان وعمر بن عبدالعزيز وهشام بن إسماعيل وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان يقول به الشافعي ثم رجع فاستحب فعل ما هم به - صلى الله عليه وسلم - من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف، وتقدم مذهب الحنفية في كلام الطحاوي، وزعم القرطبي كغيره إن الشافعي اختار في الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذي في كتاب الأم أنه اختار التنكيس مع التحويل. قال الحافظ في الفتح: ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط – انتهى. وذلك لأنه اختار الجمع بين التحويل والتنكيس كما تقدم، وإذا كان مذهبه ما ذكره عنه القرطبي فليس بأحوط، واستدل الجمهور بحديث العطاف. قال ابن قدامة: وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك والزيادة التي نقلوها – يعني في التنكيس – إن ثبتت فيه ظن الراوي لا يترك لها فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نقل تحويل الرداء جماعة لم ينقل أحد منهم أنه جعل أعلاه أسفله، ويبعد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك ذلك في جميع الأوقات لثقل الرداء – انتهى. قلت: الزيادة المذكورة لا تنحط عن درجة الحسن، بل هي صحيحة، وهي إخبار عن مشاهدة، وفيها الجمع بين الروايات، فالأحوط عندنا هو ما ذكره الشافعي في الأم من استحباب التنكيس مع التحويل، والله تعالى أعلم. (رواه أحمد) (ج4 ص41-42)، (وأبوداود) وأخرجه الحاكم (ج1 ص327) والبيهقي (ج3 ص351) وأبوعوانة وابن حبان، وأخرجه النسائي مختصرا، أي إلى قوله: وعليه خميصة سوداء، والحديث قد سكت عنه أبوداود والمنذري، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال في الإلمام: إسناده على شرط الشيخين.

(9/347)


1517- قوله (وعن عمير) بالتصغير مولى آبي اللحم الغفاري، صحابي شهد خيبر مع مولاه، وعاش إلى نحو السبعين. (مولى آبى اللحم) بألف ممدودة اسم فاعل من أبى بمعنى امتنع. قال الحافظ: آبى اللحم – بالمد – بلفظ اسم الفاعل من الإباء، صحابي مشهور غفاري، يقال: إن اسمه خلف، وقيل غير ذلك، شهد حنينا، ومعه مولاه عمير، وإنما لقب بآبي اللحم لأنه كان يأبى أن يأكل اللحم مطلقا، وقيل: لأنه كان لا يأكل ما ذبح للأصنام في الجاهلية، قال ابن عبدالبر: هو من قدماء الصحابة وكبارهم، ولا خلاف أنه شهد حنينا وقتل بها، قيل: هو الذي يروي هذا الحديث ولا يعرف له حديث سواه، قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة آبي اللحم: له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد في الاستسقاء، روى عنه عمير مولاه (أنه) الضمير لعمير.
رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي عند أحجار الزيت، قريبا من الزوراء قائما يدعو يستسقي، رافعا يديه قبل وجهه لا يجاوزه بهما رأسه، رواه أبوداود، وروى الترمذي، والنسائي نحوه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/348)


(رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - يستسقي عند أحجار الزيت) قال ياقوت الحموي: موضع بالمدينة، قريب من الزوراء، وهو موضع صلاة الاستسقاء، وقال العمراني: أحجار الزيت موضع بالمدينة داخلها، وقال القاري: موضع بالمدينة من الحرة، سمي بذلك لسواد أحجاره كأنها طليت بالزيت – انتهى. (قريبا) أي حال كونه قريبا أو في مكان قريب (من الزوراء) بفتح الزاء المعجمة وسكون الواو موضع عند سوق المدينة مرتفع كالمنارة قرب المسجد (قائما) أي يستسقي قائما (يدعو يستسقي) حالان أي داعيا مستسقيا (رافعا يديه) وفي رواية لأحمد: رافعا كفيه (قبل وجهه) بكسر القاف وفتح الموحدة أي قبالته (لا يجاوز بهما) أي بيديه حين رفعهما (رأسه) قال القاري: لا ينافي ما مر عن أنس أنه كان يبالغ في الرفع للاستسقاء لاحتمال أن ذلك كان أكثر أحواله، وهذا في نادر منها أو بالعكس – انتهى. وزاد أحمد في روايته: مقبل بباطن كفيه إلى وجهه ، وهذا لا يخالف ما مر من حديثه أيضا أنه كان يشير بظهر كفيه إلى السماء في الاستسقاء، أي يجعل بطون يديه مما يلي الأرض؛ لأنه يحتمل أنه كان يفعل تارة كذا وتارة كذا، والله تعالى أعلم. والحديث استدل به لأبي حنيفة على عدم استنان الصلاة في الاستسقاء؛ لأنه ليس فيه ذكر الصلاة، وقد تقدم الجواب عنه. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضا أحمد (ج5 ص223) وسكت عنه أبوداود. (وروى الترمذي والنسائي نحوه) أي معناه كلاهما عن قتيبة عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن يزيد بن عبدالله عن عمير مولى آبي اللحم عن آبي اللحم أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أحجار الزيت يستسقي، وهو مقنع بكفيه يدعو، قال الترمذي: كذا قال قتيبة في هذا الحديث "عن آبي اللحم" ولا نعرف له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث الواحد، وعمير مولى آبي اللحم قد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وله صحبة – انتهى. قال الشيخ أحمد

(9/349)


شاكر في تعليقه على الترمذي: هكذا روى الترمذي والنسائي عن قتيبة أنه زاد في الإسناد "عن آبي اللحم"، ولكن رواه أحمد عن قتيبة نفسه من حديث عمير مولى آبي اللحم ولم يذكر عن آبي اللحم، وذكر الحديث في مسند عمير، فلعل قتيبة لم يحفظ هذا الحديث جيدا، فكان يرويه مرة هكذا ومرة هكذا، وقد أخطأ في إسناده خطأ آخر إذ جعل الرواية عن يزيد بن عبدالله بن الهاد عن عمير مباشرة، والصواب أن يزيد رواه عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عمير كما في رواية أحمد وأبي داود من طريق حيوة وعمر بن مالك عن ابن الهاد – انتهى. قلت: ورواه الحاكم (ج1 ص327) من طريق يحيى بن بكير عن الليث، فجعله من حديث عمير مولى آبي اللحم، ولم يذكر "عن آبي اللحم" وقال: صحيح الإسناد، وعمير مولى آبي اللحم له صحبة – انتهى. وهذا يؤيد أن الحديث
1518- (9) وعن ابن عباس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - يعني في الاستسقاء متبذلا، متواضعا، متخشعا، متضرعا، رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مسند عمير لا من مسند مولاه آبي اللحم، وأن قتيبة لم يحفظ جيدا، ووافق الذهبي الحاكم في تصحيح الحديث، لكن زاد في السند لفظ "عن آبي اللحم" وروى أحمد (ج4 ص36) وأبوداود من طريق شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن محمد بن إبراهيم قال: أخبرني من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو عند أحجار الزيت باسطا كفيه، اللفظ لأبي داود، قال الحافظ في مبهمات التقريب، وتهذيب التهذيب: محمد بن إبراهيم التيمي أخبرني من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أحجار الزيت، هو عمير مولى آبي اللحم – انتهى. وهو أيضا يرجح كون الحديث من مسند عمير لا من مسند مولاه آبي اللحم.

(9/350)


1518- قوله (يعني في الاستسقاء) أي يريد ابن عباس أنه – عليه الصلاة والسلام – خرج إلى المصلى في الاستسقاء، وهو من كلام البغوي، وأول الحديث قال إسحاق بن عبدالله بن الحارث بن كنانة: أرسلني الوليد بن عتبة - وكان أمير المدينة – إلى ابن عباس أسأله عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء فأتيته فقال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (متبذلا) بمثناة فوقية ثم موحدة ثم ذال معجمة، أي لابسا ثياب البذلة، تاركا لثياب الزينة، تواضعا لله تعالى وإظهارا للحاجة. قال في النهاية: التبذل ترك التزين والتهيء بالهيئة الحسنة الجميلة على جهة التواضع (متواضعا) في الظاهر (متخشعا) في الباطن، وقال الشوكاني: قوله: متخشعا، أي مظهرا للخشوع ليكون ذلك وسيلة إلى نيل ما عند الله عز وجل، زاد في رواية ابن ماجه والحاكم، وكذا في رواية لأحمد (ج1 ص230) والبيهقي (ج3 ص344): مترسلا، أي متأنيا غير مستعجل في مشيه، يقال: ترسل الرجل في كلامه ومشيه: إذا لم يعجل (متضرعا) أي مظهرا للضراعة، وهي التذلل عند طلب الحاجة والمبالغة في السؤال والرغبة، ووقع عند أبي داود فيما روى عن عثمان بن أبي شيبة: حتى أتى المصلى فرقى على المنبر، وكذا وقع ذكر الجلوس على المنبر عند النسائي من رواية أبي جعفر محمد بن عبيد بن محمد النحاس الكوفي المحاربي، وعند البيهقي من رواية أبي ثابت محمد بن عبيدالله بن محمد المدني، ووقع عند الثلاثة، وكذا عند الترمذي وغيره: فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيدين، ولفظ أبي داود: ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد، وقد تقدم الكلام على معناه (رواه الترمذي)...الخ، وأخرجه أيضا أحمد (ج1 ص230، 269، 355)، وأبوعوانة وابن حبان والحاكم (ج1 ص326)، والدارقطني والبيهقي (ج3 ص344)، وصححه الترمذي وأبوعوانة وابن حبان.

(9/351)


1519- (10) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استسقى قال: ((اللهم اسق عبادك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت)) رواه مالك وأبوداود.
1520- (11) وعن جابر قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواكيء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1519- قوله (عن أبيه) شعيب (عن جده) عبدالله بن عمرو بن العاص (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استسقى) أي طلب الغيث عند الحاجة (قال) أي في دعائه (اللهم اسق) بهمزة الوصل والقطع (عبادك) من الرجال والنساء والعبيد والإماء والصغير والكبير، وفي الإضافة إليه تعالى مزيد الاستعطاف (وبهيمتك) أي بهائمك من جميع دواب الأرض وحشراتها، قال في القاموس: البهيمة كل ذات أربع قوائم، ولو في الماء، أو كل حي لا يميز – انتهى. وهذا لفظ مالك في الموطأ، وعند أبي داود: وبهائمك، بلفظ الجمع (وانشر) بضم الشين، أي ابسط وعمم (رحمتك) أي المطر ومنافعه وبركاته، قال تعالى: ?وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته? [الشورى: 28]، (وأحي) أمر من الإحياء (بلدك الميت) بتشديد الياء أن بإنبات الأرض بعد موتها أي جدبها ويبسها كأنه تلميح إلى قوله تعالى: ?فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها? [الروم: 50] وإلى قوله: ?والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها? [فاطر: 9]، وإلى قوله: ?وأحيينا به بلدة ميتا? [ق: 11]، قال الطيبي: يريد به بعض البلاد المبعدين عن مظان الماء الذي لا ينبت فيها عشب للجدب فسماه ميتا على الاستعارة ثم فرع عليه الإحياء، والحديث دليل على استحباب الدعاء بما اشتمل عليه عند الاستسقاء (رواه مالك وأبوداود) ظاهر هذا أنهما روياه موصولا، وليس كذلك، فإن حديث مالك مرسل، قال الزرقاني: رواه مالك وجماعة عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه أن رسول الله - صلى الله

(9/352)


عليه وسلم - مرسلا، ورواه آخرون عن يحيى عن عمرو عن أبيه عن جده مسندا، منهم الثوري عند أبي داود – انتهى. قلت: وأخرجه البيهقي (ج3 ص356) من طريق عبدالرحيم بن سليمان الأشل عن الثوري موصولا، قال الحافظ في التلخيص (ص151): ورجح أبوحاتم إرساله – انتهى.
1520- قوله (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواكئ) بضم الياء المثناة تحت وآخره همزة بصيغة المضارع من المواكأة، هكذا وقع في جميع النسخ من المصابيح والمشكاة، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص140)، وهكذا ذكره الخطابي في معالم السنن (ج1 ص254)، ثم فسره فقال: معناه يتحامل على يديه إذا رفعهما ومدهما في الدعاء، ومن هذا التوكؤ على العصا وهو التحامل عليها – انتهى. قال القاري: المواكأة والتوكؤ والاتكاء: الاعتماد، والتحامل على الشيء في النهاية، أي يتحامل على يديه أي يرفعهما ويمدهما في الدعاء، ومنه
فقال: ((اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مريئا، مريعا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/353)


التوكؤ على العصا، وهو التحامل عليها، هكذا قال الخطابي في معالم السنن، والذي جاء في سنن أبي داود: "بواكئ" بالباء الموحدة، هكذا جاء في الكتاب فيما قرأناه، وبحثت عنه في نسخ أخرى فوجدته كذلك – انتهى. قلت: وهكذا وقع بالباء الموحدة المفتوحة عند الحاكم في المستدرك، أي جاءت عند النبي- صلى الله عليه وسلم - نفوس باكية أو نساء باكيات لانقطاع المطر عنهم، ملتجئة إليه، قال في فتح الودود: هذه هي الرواية المعتمدة في سنن أبي داود، وقد صحف كثير منهم نسخ السنن بوجوه متعددة لا يظهر لبعضها معنى صحيح – انتهى. وقال المنذري: هكذا وقع في روايتنا وفي غيرها مما شاهدناه "بواكئ" بالباء الموحدة المفتوحة، وذكر الخطابي قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يواكئ – بضم الياء باثنتين من تحتها – انتهى. قال الحافظ في التلخيص: وقد تعقبه النووي في الخلاصة وقال: وهذا الذي ادعاه الخطابي لم تأت به الرواية ولا انحصر الصواب فيه، بل ليس هو واضح المعنى، وصحح بعضهم ما قال الخطابي. قال الحافظ: وقد رواه البزار بلفظ يزيل الإشكال، وهو عن جابر أن بواكي أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أعله الدارقطني في العلل بالإرسال، وقال: رواية من قال عن زيد الفقير من غير ذكر جابر أشبه بالصواب، وكذا قال أحمد بن حنبل كما في البيهقي (ج3 ص355)، وجرى النووي في الأذكار على ظاهره فقال: صحيح على مسلم – انتهى. قلت: وفي رواية للبيهقي: أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - هوازن بدل بواكي. (اللهم أسقنا) بالوصل والقطع (غيثا) أي مطرا يغيثنا من الجدب، فقوله (مغيثا) بضم الميم تأكيدا وتجريدا، وأريد به المنقذ من الشدة على ما في النهاية. قال الطيبي: عقب الغيث وهو المطر الذي يغيث الخلق من القحط على الإسناد المجازي وإلا فالمغيث في الحقيقة هو الله سبحانه – انتهى. وقال القاري: مغيثا بضم أوله أي معينا من الإغاثة بمعنى الإعانة، وقيل: أي مشبعا

(9/354)


(مريئا) بفتح الميم وبالمد وبالهمزة أي هنيئا محمود العاقبة لا ضرر فيه من الغرق والهدم، في النهاية: مرأني الطعام وامرأني: إذا لم يثقل على المعدة وانحدر عنها طيبا، وقيل: بفتح الميم وتشديد الياء بغير همز، أبدلت الهمزة ياء ثم أدغمت، وقيل: هو ناقص، ومعناه: كثيرا غزيرا، المري والمرية: الناقة العزيرة الدر، من المري وهو الحلب، قال التوربشتي: في شرح المصابيح: مريئا أي صالحا كالطعام الذي يمرأ، ومعناه الخلو عن كل ما ينقصه كالهدم والغرق، ويحتمل أن يكون بغير همزة، ومعناه مدرارا، من قولهم: ناقة مري، أي كثير اللبن ولا أحققه رواية – انتهى. (مريعا) بفتح الميم وسكون التحتية – أي ذا مراعة، وهي الخصب، فعيل من مرع الأرض – بالضم – مراعة، أي صارت كثيرة الماء والنبات، وقيل: بضم الميم وسكون التحتية أي أسقنا غيثا كثير النماء ذا ريع، من أراعت الإبل إذا كثرت أولادها، ويقال: راع الطعام وأراع إذا صارت له زيادة في العجين والخبز، وروي مربعا – بضم الميم وكسر الباء الموحدة – أي منبتا للربيع، وهو النبات الذي يرعاه الشاء في الربيع من أربع الغيث إذا أنبت الربيع، وقيل: معناه مقيما للناس مغنيا لهم عن
نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل))، قال: فأطبقت عليهم السماء. رواه أبوداود.
?الفصل الثالث?
1521- (12) عن عائشة قالت: شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر، فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9/355)


الارتياد والنجعة أي طلب الكلأ، فالناس يربعون حيث شاءوا أي يقيمون ولا يحتاجون إلى الانتقال في طلب الكلأ لعمومه جميع البلاد، من أربع بالمكان إذا أقام به، وروي مرتعا – بفتح الميم وبالباء المثناة من فوق – أي منبتا ما ترتع فيه المواشي وترعاه، من الرتع وهو الاتساع في الخصب، فكل خصب مرتع، ومنه: ?يرتع ويلعب?. (نافعا) إجمال بعد تفصيل (غير ضار) تأكيد (عاجلا) في الحال (غير آجل) مبالغة (قال) أي جابر (فأطبقت) على بناء الفاعل، وقيل بالمفعول (عليهم السماء)، يقال: أطبق إذا جعل الطبق على رأس شيء وغطاه به، أي جعلت عليهم السحاب كطبق، قيل: أي ظهر السحاب في ذلك الوقت وغطاهم كطبق فوق رؤسهم بحيث لا يرون السماء من تراكم السحاب وعمومه الجوانب، وقيل: أطبقت بالمطر الدائم، يقال: أطبقت عليه الحمى أي دامت، وفي شرح السنة: أي ملأت، والغيث المطبق هو العام الواسع (رواه أبوداود) وأخرجه الحاكم (ج1 ص327) والبيهقي (ج3 ص355) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال النووي: صحيح على شرط مسلم، وتقدم أن الدارقطني أعله في العلل بإرسال، وقد رويت بعض هذه الألفاظ وبعض معانيها عن جماعة من الصحابة مرفوعة، ذكرها الشوكاني في النيل.

(9/356)


1521- قوله (قحوط المطر) بضم القاف أي حبس المطر وفقده، قال الطيبي: القحوط مصدر كالقحط أو هو جمعه، وأضافه إلى المطر ليشير إلى عمومه في بلدان شتى، وقال المجد في القاموس: القحط احتباس المطر، قحط العام كمنع وفرح وعني قحطا وقحط الناس كسمع وقحطوا وأقحطوا بضمهما لغتان (فأمر) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بمنبر فوضع له في المصلى) فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بإخراج المنبر في الاستسقاء إلى المصلى، وخالفه الحنفية فقالوا: لا يخرج (ووعد الناس يوما) أي عينه لهم (يخرجون فيه) أي في ذلك اليوم، وفيه ما يدل على أنه يحسن تقديم تبيين اليوم للناس ليتأهبوا ويتخلصوا من المظالم ونحوها ويقدموا التوبة، وهذه الأمور واجبة مطلقا إلا أنه مع حصول الشدة وطلب تفريجها من الله تعالى يتضيق ذلك، وقد ورد في الإسرائيليات: إن الله حرم قوما من بني إسرائيل السقيا؛ لأنه كان فيهم فيهم عاص واحد، وقال الله تعالى: ?ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون?
قالت عائشة: ((فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدأ حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر، وحمد الله،

(9/357)


[الأعراف: 96] ولفظ الناس يعم المسلمين وغيرهم، قيل: فيشرع إخراج أهل الذمة ويعتزلون المصلى. وقال ابن قدامة: لا يستحب إخراج أهل الذمة وإن خرجوا لم يمنعوا ويؤمروا بالانفراد عن المسلمين (حين بدا) بالألف لا بالهمز أي ظهر (حاجب الشمس) أي أولها أو ناحيتها. قال ميرك: الظاهر أن المراد بالحاجب ما طلع أولا من جرم الشمس مستدقا مشبها بالحاجب. وقال في المغرب: حاجب الشمس أول ما يبدو من الشمس، مستعار من حاجب الوجه. وقال في القاموس: حاجب الشمس ضوءها أو ناحيتها- انتهى. وإنما سمي الضوء حاجبا لأنه يحجب جرمها عن الإدراك، وفيه استحباب الخروج لصلاة الاستسقاء عند طلوع الشمس. قال القسطلاني بعد ذكر حديث عائشة هذا ما لفظه. وبهذا أخذ الحنفية والمالكية والحنابلة فقالوا: إن وقتها وقت صلاة العيد، والراجح عند الشافعية أنه لا وقت لها معين وإن كان أكثر أحكامها كالعيد بل جميع الليل والنهار وقت لها لأنها ذات سبب فدارت مع سببها كصلاة الكسوف لكن وقتها المختار وقت صلاة العيد كما صرح الماوردي وابن الصلاح لهذا الحديث- انتهى. قلت: ظاهر كلام العيني في شرح الهداية أن مذهب الحنفية التعميم فإنه قال: ثم الاستسقاء لا يختص بوقت صلاة العيد ولا بغيره ولا بيوم، وقيل يختص بوقت صلاة العيد والصحيح أنه لا يختص، وفي المدونة يصلي ركعتين ضحوة فقط. وقال ابن قدامة: ليس لصلاة الاستسقاء وقت معين إلا أنها لا تفعل في وقت النهي بغير خلاف قال والأولى فعلها في وقت العيد لحديث عائشة عند أبي داود؛ ولأنها تشبهها في الموضع والصفة فكذلك في الوقت؛ لأن وقتها لا يفوت بزوال الشمس؛ لأنها ليس لها يوم معين فلا يكون لها وقت معين- انتهى. وهذا الاختلاف إنما هو في الاستسقاء الذي يكون معهودا بالصلاة، وأما بمجرد الدعاء فلا وقت له بلا خلاف (فقعد على المنبر) فيه استحباب الصعود على المنبر لخطبة الاستسقاء، وإليه ذهب أحمد. قال ابن قدامة: قال أبوبكر اتفقوا عن

(9/358)


أبي عبدالله إن في صلاة الاستسقاء خطبة وصعودا على المنبر- انتهى. ومنعه الحنفية، قال في البدائع: لا يخرج المنبر في الاستسقاء ولا يصعده لو كان في موضع الدعاء منبر، لأنه خلاف السنة - انتهى. وحديث عائشة هذا نص في إخراج المنبر والصعود عليه، وهو حديث متصل جيد الإسناد كما قال أبوداود، وقد أقره المنذري، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وابن السكن، ويؤيده لفظ: فرقي المنبر في حديث ابن عباس عند أبي داود وغيره فالظاهر ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه من استحباب إخراج المنبر والصعود عليه لخطبة الاستسقاء وهذا بخلاف العيد فإن إخراج المنبر فيه أمر منكر فقد عاب الناس على مروان عند إخراجه المنبر في العيدين ونسبوه إلى خلاف السنة كما تقدم ولا يخالفه ما روى البخاري وغيره أن عبدالله بن يزيد
ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم واستيخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت الغني، ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين، ثم رفع يديه، فلم يترك الرفع حتى بدا

(9/359)


خرج ومعه البراء بن عازب وزيد بن أرقم فاستسقى فقام لهم على رجليه على غير منبر فاستسقى ثم صلى ركعتين- الحديث. لأن إخراج المنبر والصعود عليه لخطبة الاستسقاء ليس واجبا ولا سنة مؤكدة فلا يكون في تركه الأمر بإخراج المنبر وفي تركهم الإنكار عليه دليل على كونه خلاف السنة (إنكم شكوتم) إلى الله ورسوله (جدب دياركم) بفتح الجيم وسكون المهملة أي قحطها (وأستيخار المطر) أي تأخره. قال الطيبي: والسين للمبالغة يقال: استأخر الشيء إذا تأخر تأخرا بعيدا (عن إبان زمانه) بكسر الهمزة بعدها باء موحدة مشددة أي عن أول زمان المطر والإبان أول الشيء. قال في النهاية: قيل نونه أصلية فيكون فعالا، وقيل زائدة فيكون فعلان من آب الشيء يؤب إذا تهيأ للذهاب، وفي القاموس: إبان الشيء بالكسر حينه أو أوله (عنكم) متعلق باستيخار (وقد أمركم الله) في كتابه (أن تدعوه) أي دائما خصوصا عند الشدائد. قال تعالى: ?أدعوني أستجب لكم? [غافر:60] (ووعدكم أن يستجيب لكم) كما في الآية الأولى، وفي قوله: ?وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان? [البقرة: 186] (مالك يوم الدين) قال القاري: بالألف في جميع النسخ- انتهى. وكذا وقع في جامع الأصول (ج7:ص137) وفي سنن أبي داود: ملك يوم الدين بقصر الميم أي بلا ألف بعد الميم، وكذا عند البيهقي قال أبوداود بعد رواية الحديث أهل المدينة يقرؤون ملك يوم الدين (بغير ألف) وأن هذا الحديث حجة لهم – انتهى. (ونحن الفقراء) أي إلى إيجادك وإمدادك (الغيث) أي المطر الذي يغيثنا من الضرر (ما أنزلت) أي من الخير المنزل (قوة) أي سببا لقوتنا على الطاعة (وبلاغنا) أي زادا يبلغنا (إلى حين) أي إلى زمان طويل يعني مده لنا مدا طويلا ليكمل ويتم انتفاعنا به. قال الطيبي: البلاغ ما يتبلغ به إلى المطلوب. والمعنى اجعل الخير الذي أنزل علينا سببا لقوتنا ومددا لنا مددا طوالا، وفي بعض نسخ أبي داود "إلى خير" بدل "إلى

(9/360)


حين" (ثم رفع يديه) (أي للدعاء (فلم يترك الرفع) بل بالغ، فيه كذا في جميع النسخ فلم يترك، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7:ص137) وكذا وقع عند البيهقي. وفي أبي داود: فلم يزل في الرفع، وكذا وقع في المستدرك، وكذا نقله المجد في المنتقى والزيلعي في نصب الراية: والحافظ في بلوغ المرام (حتى بدا)
بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره وقلب أو حول رداءه، وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل، فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبدالله ورسوله)) رواه أبوداود.
1522- (13) وعن أنس، أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس

(9/361)


أي ظهر (بياض إبطيه) فيه استحباب المبالغة في رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، وقد تقدم بيانه (ثم حول إلى الناس ظهره) فاستقبل القبلة إشارة إلى الرجوع إلى الله والانقطاع عما سواه (وقلب) بالتشديد والتخفيف (أو حول) شك من الراوي (رداءه) فيه استحباب تحويل الرداء عند استقبال الخطيب القبلة (وهو رافع يديه) حال من قوله: حول إلى الناس ظهره، يعني هذه الحالة كانت موجودة في حال تحويل ظهره أيضا (ثم أقبل على الناس) أي توجه إليهم بعد تحويل ظهره عنهم (ونزل) من المنبر (فأنشأ الله) أي أوجد وأحدث (فرعدت وبرقت) بفتح الراء أي ظهر فيها الرعد والبرق فالنسبة مجازية (ثم أمطرت بإذن الله) بالألف من الأمطار، وفيه دليل للمذهب المختار الذي عليه الأكثرون، والمحققون من أهل اللغة، أن أمطرت ومطرت لغتان في المطر، خلافا لما قال بعض أهل اللغة أنه لا يقال أمطرت إلا في العذاب (فلم يأت) رسول الله صلى الله عليه وسلم من المحل الذي استسقى فيه من الصحراء (مسجده) النبوي (حتى سالت السيول) من جميع الجوانب (فلما رأى سرعتهم) أي سرعة مشيهم والتجاءهم (إلى الكن) بكسر الكاف وتشديد النون وهو ما يرد به الحر والبرد من المساكن. وقال في القاموس: الكن وقاء كل شيء وستره كالكنة والكنان بكسرهما والبيت والجمع أكنان وأكنة- انتهى. (ضحك حتى بدت نواجذه) النواجذ على ما ذكره صاحب القاموس أقصى الأضراس، وهي أربعة أو هي الأنياب أو التي تلي الأنياب أو هي الأضراس كلها جمع ناجذ، والنجذ شدة العض بها- انتهى. قال الطيبي: كان ضحكه تعجبا من طلبهم المطر اضطرارا ثم طلبهم الكن عنه فرارا ومن عظيم قدرة الله وإظهار قربة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وصدقه بإجابة دعاءه سريعا ولصدقه أتى بالشهادتين (رواه أبوداود) وقال: هذا حديث غريب إسناده جيد، وأخرجه أيضا أبوعوانة وابن حبان والحاكم (ج1:ص328) والبيهقي (ج3:ص349) وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وصححه أيضا أبوعلي بن

(9/362)


السكن، كما في التلخيص.
1522- قوله: (كان إذا قحطوا) بضم القاف وكسر الحاء المهملة أي أصابهم القحط (استسقى بالعباس)
ابن عبدالمطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك نبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا،فاسقنا فيسقون.
أي توسل عمر بدعائه وشفاعته في الاستسقاء. وقال القاري: أي تشفع به في الإستسقاء بعد استغفاره ودعائه (بن عبدالمطلب) للرحم التي بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد عمر أن يصلها بمراعاة حقه إلى من أمر بصلة الأرحام ليكون ذلك وسيلة إلى رحمة الله. قال الحافظ: وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناده أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس، وأخرج أيضا من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب فذكر الحديث وفيه فخطب الناس عمر فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا أيها الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله، وفيه: فما برحوا حتى سقاهم الله، وذكر ابن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة ثمان عشرة وكان ابتداءه مصدر الحاج منها ودام تسعة أشهر، والرمادة بفتح الراء وتخفيف الميم، سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب فأغبرت الأرض جدا من عدم المطر- انتهى. وعند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان فلما صعد عمر ومعه العباس المنبر قال عمر: اللهم توجهنا إليك بعم نبيك وصنو أبيه فاسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ثم قال: قل يا أباالفضل فقال العباس: اللهم لم ينزل بلاء إلا بذنب إلخ

(9/363)


(اللهم إنا كنا نتوسل إليك نبينا) أي بدعائه وشفاعته في حال حياته لا بذاته (فتسقينا) بفتح حرف المضارعة وضمها (وإنا) أي بعده (نتوسل إليك بعم نبينا) العباس أي بدعائه وشفاعته (فاسقنا) بالوجهين (فيسقون) في هذه القصة الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيها فضل العباس وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه، قاله الحافظ. وقد استدل القبوريون بهذا الحديث على التوسل المعهود فيما بينهم، وهو مردود، فإن التوسل المذكور في الحديث ليس هو التوسل بذات الحي أو الميت أو التوسل بذكر إسمه، بل إنما هو التوسل بدعاء الحي وشفاعته والذي فعله عمر، فعله مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين فتوسلوا بدعاء يزيد بن الأسود الجرشي، كما توسل عمر بالعباس، وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم أنه يتوسل في الإستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح قالوا: وإن كان من أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أفضل إقتداء بعمر ولم يقل أحد من أهل العلم يسأل الله تعالى في ذلك بمخلوق لا بنبي ولا بغير نبي. قال ابن قدامة (ج2:ص439) ويستحب أن يستسقى بمن ظهر صلاحه؛ لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء ثم ذكر قصة
رواه البخاري.
1523- (14) وعن أبي هريرة، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقى، فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء، فقال: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة)) رواه الدارقطني.

(9/364)


استسقاء عمر بدعاء العباس وقصة استسقاء معاوية والضحاك بدعاء يزيد بن الأسود الجرشي. وقال صاحب فيض الباري: ليس في الحديث التوسل المعهود الذي يكون بالغائب حتى قد لا يكون به شعور أصلا بل فيه توسل السلف، وهو أن يقدم رجلا ذا وجاهة عند الله تعالى ويأمره أن يدعو لهم ثم يحيل عليه في دعائه كما فعل بعباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان فيه توسل المتأخرين (أي من الحنفية ومنهم القبوريون) لما احتاجوا إلى إذهاب العباس معهم ولكفى لهم التوسل بنبيهم بعد وفاته أيضا أو بالعباس مع عدم شهوده معهم - انتهى. هذا وقد بسط الكلام في الرد على استدلال القبوريين بهذا الحديث الإمام تقي الدين بن تيمية في رسالته التوسل (ص50-51 و86-87 و110) والعلامة السهسواني في صيانة الإنسان (ص131-210) فعليك أن ترجع إليهما (رواه البخاري) وأخرجه أيضا البيهقي (ج3:ص352) وقد وقع في رواية الإسماعيلي رفع هذا الحديث ولفظه: قال أي أنس كانوا إذا قحطوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقوا به فيستسقى لهم فيسقون فلما كان في إمارة عمر- الحديث. وكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه، كما في الفتح.

(9/365)


1523- قوله: (خرج نبي من الأنبياء) هو سليمان عليه السلام (بالناس يستسقى) فيه دلالة على أن الإستسقاء شرع قديم والخروج له كذلك (فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال ارجعوا) إلخ. وفي لفظ لأحمد: خرج سليمان يستسقى فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم (من أجل هذه النملة) في السنن للدارقطني من أجل شأن هذه النملة، وفي الحديث إظهار عظمة الله تعالى وقدرته وغناه عما سواه، وفيه بيان رأفته ورحمته على كافة المخلوقات وإحاطة علمه بأحوال سائر الموجودات وأنه مسبب الأسباب وقاضي الحاجات وأن للبهائم إدراكا يتعلق بمعرفة الله ومعرفة بذكره فتطلب الحاجات منه (رواه الدارقطني) وأخرجه أيضا أحمد والحاكم (ج1:ص325) وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وأخرجه الطحاوي من طرق منها من حديث أبي الصديق الناجي قال: خرج سليمان عليه السلام فذكره، وفي آخره: ارجعوا فقد كفيتم بغيركم، وفي ابن ماجه
(53) باب في الرياح
?الفصل الأول?
1524- (1) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نصرت بالصبا،

(9/366)


من حديث ابن عمر في أثناء حديث ولولا البهائم لم يمطروا، وفي إسناده خالد بن يزيد بن عبدالرحمن بن أبي مالك، وهو ضعيف، وفي حديث أبي هريرة عند أبي يعلى والبزار والبيهقي، مهلا عن الله مهلا فاته لولا شباب خشع وبهائم رتع وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صبا، وفي إسناده إبراهيم بن خثيم بن عراك، وقد ضعفوه، وأخرجه أبونعيم والبيهقي وابن عدي من طريق مالك بن عبيدة بن مسافع عن أبيه عن جده ومالك بن عبيده قال: أبوحاتم وابن معين مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدي ليس له غير هذا الحديث، وله شاهد مرسل أخرجه أبونعيم أيضا. فائدة إذا تأخر المطلوب أي لم يسقوا بعد الخروج إلى الصحراء وصلاة الاستسقاء كرروا الخروج في اليوم الثاني والثالث لا أكثر، وهذا عند الحنفية والحنابلة، وأما عند الشافعية والمالكية فيكرروا الخروج ثانيا وثالثا وأكثر حتى يسقوا وإذا سقوا قبل الخروج وقد كانوا تأهبوا للخروج خرجوا وصلوا شكرا لله تعالى وحمدوه ودعوه وسألوه المزيد من فضله، وكذلك إذا خرجوا وسقوا قبل أن يصلوا فائدة أخرى إذا كثر المطر بحيث يضرهم، أو مياه الأنهار والعيون دعوا الله تعالى أن يخففه ويصرف عنهم مضرته ويجعله في أماكن تنفع ولا تضر كدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: باللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر، ولأن الضرر بزيادة المطر أحد الضررين فيستحب الدعاء لإزالته كإنقطاعه، وأما النداء بكلمات الأذان المشروعة للإعلام بأوقات الصلوات الخمس لرفع المطر أو تخفيفه عند الضرر بكثرته كما يفعله القبوريون فليس في شيء من السنة ولم يعرف في عهد السلف الصالح من الصحابة والتابعين ولم يؤثر من أتباعهم.

(9/367)


(باب في الرياح) وفي بعض النسخ: باب الرياح بالإضافة، وفي بعضها: باب من غير ترجمة، وهو بالسكون على الوقف أو بالرفع منونا على أنه خبر مبتدأ محذوف، وعلى النسختين الأوليين ما ذكر فيه من الرياح وقع بطريق التبع فلذا لم يتعرض له بالترجمة، ووجه ذكر ترجمة للرياح عقب باب الاستسقاء إن المطلوب بالاستسقاء نزول المطر والريح في الغالب تعقبه.
1254- قوله: (نصرت) بضم النون (بالصبا) بفتح المهملة وتخفيف الموحدة مقصورة هي الريح الشرقية
وأهلكت عاد بالدبور)).

(9/368)


(وأهلكت) بضم الهمزة وكسر اللام (عاد) قوم هود (بالدبور) بفتح الدال وتخفيف الموحدة المضمومة، هي الريح الغربية. قال الطيبي: الصبا الريح التي تجيئ من قبل ظهرك إذا استقبلت القبلة، ويقال لها: القبول بفتح القاف لأنها تقابل باب الكعبة إذ مهبها من مشرق الشمس ومطلعها، والدبور هي التي تجيئ من قبل وجهك إذا استقبلت القبلة أيضا فهي تأتي من دبرها ومهبها من مغرب الشمس قيل هذا في ديار خراسان وما وراء النهر وما في حكمهما من الأماكن التي قبلتها السمت الغربي دون الروم والعرب. وقال ابن الأعرابي: الصبا مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش، والدبور من مسقط النسر الطائر إلى سهيل، وفرق بين تفسير الطيبي وتفسير ابن الأعرابي: فإن الأول يشمل سعة المشرق والمغرب كلها، والثاني الناحية منها، قيل إن الصبا هي التي حملت ريح يوسف عليه السلام إلى يعقوب قبل البشير إليه فإليها يستريح كل مخزون، والدبور هي الريح العقيم ونصرته - صلى الله عليه وسلم - بالصبا كانت يوم الخندق الذي يقال له غزوة الأحزاب، وكانوا زهاء أثني عشر ألفا أو أكثر حين حاصروا المدينة فأرسل الله عليهم ريح الصبا باردة في ليالي شاتية شديدة البرد فسقت التراب والحصى في وجوههم وأطفأت نيرانهم وقطعت خيامهم فانهزموا من غير قتال ?إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها?- الآية. ومع ذلك فلم يهلك منهم أحد ولم يتأصلهم لما علم الله من رأفة نبيه عليه الصلاة والسلام بقومه رجاء أن يسلموا، وأما عاد فإنه ابن عوص بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام فتفرعت أولاده فكانوا ثلاث عشرة قبيلة ينزلون الأحقاف وبلادها وكانت ديارهم بالدهناء وعالج وبثرين ودبار وعمان إلى حضر موت وكانت أخصب البلاد وأكثرها جنانا، فلما سخط الله عليهم جعلها مفاوز فأرسل الله عليهم الدبور فأهلكتهم وكانت عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما أي متتابعة ابتدأت غدوة الأربعاء وسكنت في آخر الثامن

(9/369)


واعتزل هو ونبي الله عليه السلام ومن معه من المؤمنين، قيل :وكانوا أربعة آلاف في حظيرة لا يصيبهم منها إلا ما يلين الجلود وتلذ الأعين وكانت الريح تقلع الشجر وتهدم البيوت ومن لم يكن في بيته منهم أهلكته في البراري والجبال، وكان ترفع الظعينة بين السماء والأرض حتى ترى كأنها جرادة وترميهم بالحجارة فتدق أعناقهم، قيل: كان طول أحدهم أثني عشرة ذراعا، وقيل: كان أكثر من عشرة، وقيل: غير ذلك، وفي التفسير: أن الريح كانت تحمل الرجل فترفعه في الهواء ثم تلقيه فتشدخ رأسه فيبقى جثة بلا رأس فذلك قوله: ?كأنهم أعجاز نخل خاوية?[ الحاقة :6]، وروى ابن أبي حاتم من حديث ابن عمر والطبراني من حديث ابن عباس رفعاه ما فتح الله على عاد من الريح إلا موضع الخاتم فمرت بأهل البادية فحلمتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء والأرض فرأهم الحاضرة فقالوا: هذا عارض ممطرنا فألقتهم عليهم فهلكوا جميعا، والحديث قد استنبط منه ابن بطال تفضيل بعض المخلوقات على بعض يعني أن المقصود منه تفضيل الصبا على الدبور من جهة إضافة النصر للصبا والإهلاك للدبور وتعقب بأن كل واحدة منهما أهلكت أعداء الله ونصرت
متفق عليه.
1525- (2) وعن عائشة، قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يبتسم، فكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه))

(9/370)


أنبياءه وأولياءه، وقيل المقصود: بيان أن الأشياء والعناصر مسخرة تحت أمر الله تعالى وإرادته ردا على الطبيعيين والحكماء المتفلسفيين، فالريح مأمورة تجيئ تارة بأمره تعالى لنصرة قوم وتارة لإهلاك قوم، وفيه أيضا إخبار المرأ عن نفسه بما فضله الله تعالى به على سبيل تحديث النعمة لا على الفخر، ومن الرياح الجنوب وهي التي مهبها من جهة يمين القبلة والشمال وهي التي تهب من جهة شمالها، فهذه الأربع تهب من الجهات الأربع ولكل من الأربعة طبع فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة وهي ريح الجنة التي تهب عليهم كما في صحيح مسلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الاستسقاء وبدأ الخلق والأنبياء والمغازي ومسلم في الاستسقاء، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص222-228-324-341-355-373) والنسائي في التفسير من السنن الكبرى والبيهقي (ج3:ص364).

(9/371)


1525- قوله: (ضاحكا) حال أو مفعول ثان، وفي رواية للشيخين: مستجمعا ضاحكا. قال الحافظ في رواية الكشمهيني: مستجمعا ضحكا، أي مبالغا في الضحك لم يترك منه شيئا، يقال: استجمع السيل اجتمع من كل موضع واستجمعت للمرأ أموره اجتمع له ما يحبه، فعلى هذا قوله: ضاحكا منصوب على التمييز وإن كان مشتقا مثل لله دره فارسا، أي ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكا تاما مقبلا بكليته على الضحك (حتى أرى) أي أبصر (منه لهواته) بفتح اللام والهاء جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أعلى الحنك. قاله الأصمعي وقيل: هي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم وقيل: هي اللحمات في سقف أقصى الفم. وقيل: اللهاة قعر الفم قريب من أصل اللسان (إنما كان يتبسم) لا ينافي هذا الحديث ما جاء في الحديث الآخر: أنه ضحك حتى بدت نواجذه؛ لأن ظهور النواجذ وهي الأسنان التي في مقدم الفم أو الأنياب لا يستلزم ظهور اللهاة. قاله الحافظ: وقيل: كان التبسم على سبيل الأغلب وظهور النواجذ على سبيل الندرة (فكان) وفي الصحيحين قالت (أي عائشة) وكان (إذا رأى غيما) أي سحابا (عرف) بضم العين وكسر الراء مبنيا للمفعول أي التغيير (في وجهه) قال الطيبي: أي ظهر أثر الخوف في وجهه مخافة أن يحصل من ذلك السحاب أو الريح ما فيه ضرر الناس، دل نفي الضحك البليغ على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن فرحا لاهيا بطرا، ودل إثبات التبسم على طلاقة وجهه، ودل أثر خوفه من رؤية الغيم أو الريح على رأفته ورحمته على الخلق وهذا هو الخلق العظيم، كذا في المرقاة. وهذا
متفق عليه.

(9/372)


1526- (3) وعنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، وإذا تخيلت السماء، تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرى عنه، فعرفت ذلك عائشة، فسألته، فقال: لعله يا عائشة
القدر المذكور من حديث عائشة طرف من حديث طويل. أخرجه البخاري في تفسير سورة الأحقاف، ومسلم في الإستسقاء وبعده قالت يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية فقال يا عائشة: ما يؤمني أن يكون فيه عذاب عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا، وارجع لشرح هذا إلى الفتح من سورة الأحقاف (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير مطولا وفي الأدب مختصرا إلى قوله: إنما كان يبتسم. وأخرجه أيضا مطولا أبوداود في الأدب، والبيهقي في الاستسقاء (ج3:ص360).

(9/373)


1526- قوله: (إذا عصفت الريح) أي اشتد هبوبها (اللهم إني أسألك خيرها) أي خبر ذاتها (وخير ما فيها) أي من منافعها (وخير ما أرسلت به) أي بخصوصها في وقتها، وهو بصيغة المفعول، ويجوز أن يكون بصيغة الفاعل. قال الطيبي: يحتمل الفتح على الخطاب وشرما أرسلت على بناء المفعول ليكون من قبيل أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم، وقوله صلى الله عليه وسلم: الخير بيديك والشر ليس إليك (وإذا تخيلت السماء) أي تهيأت السحاب للمطر. قال الطيبي: السماء هنا بمعنى السحاب وتخيلت السماء إذا ظهر في السماء أثر المطر. وقال أبوعبيدة: تخيلت من المخيلة بفتح الميم وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة، وهي سحابة فيها رعد وبرق يخيل إليه أنها ماطرة يعني سحابة يخال فيها المطر وتكون مظنة للمطر. وقال الجزري: المخيلة السحابة التي يظن أن فيها مطرا وتخيلت السماء إذا تغيمت (تغير لونه) من خشية الله ومن رأفته على أمته وتعليما لهم في متابعته (وخروج) من البيت تارة (ودخل) أخرى (وأقبل وأدبر) فلا يستقر في حال من الخوف (فإذا مطرت) أي السحاب. وفي رواية البخاري: فإذا أمطرت السماء من الأمطار. قال الحافظ: فيه رد على من زعم أنه لا يقال أمطرت إلا في العذاب، وأما الرحمة فيقال مطرت- انتهى. ومطر السحاب وأمطرت بمعنى (سري عنه) بضم المهملة وتشديد الرأي بلفظ المجهول، أي كشف عنه الخوف والحزن وأزيل (فعرفت ذلك) أي التغيير (فسألته) أي عن سببه (لعله) أي لعل هذا
كما قال قوم عاد: ?فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا?)). وفي رواية : ويقول إذا رأى المطر رحمة - متفق عليه.

(9/374)


المطر. وقيل: لعل هذا السحاب (كما قال قوم عاد) الإضافة للبيان، أي مثل الذي قال في حقه قوم عاد هذا عارض ممطرنا قال تعالى: ?فلما رأوه? أي السحاب ?عارضا? أي سحابا عرض ?مستقبل أوديتهم? أي صحاريهم ومحال مزارعهم. قال الجزري: العارض السحاب الذي يعرض في السماء (قالوا) ظنا أنه سحاب ينزل منه المطر ?هذا عارض ممطرنا?، أي سحاب عرض ليمطر قال تعالى ردا عليهم: ?بل هو ما استعجلتم به? أي من العذاب ?ريح فيها عذاب أليم? ?تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين?[الأحقاف:25] فظهرت منه ريح فأهلكتهم فلا يجوز لأحد أن يأمن من عذاب الله تعالى. قال النووي: في الحديث الاستعداد بالمراقبة لله والالتجاء إليه عند إختلاف الأحوال وحدوث ما يخاف بسببه، وكان خوفه صلى الله عليه وسلم أن يعاقبوا بعصيان العضاة، وفيه تذكر ما يذهل المرأ عنه مما وقع للأمم الخالية والتحذير من السير في سبيلهم خشية من وقوع مثل ما أصابهم. وفيه شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم كما وصفه الله تعالى، فإن قيل كيف يخشى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب القوم وهو فيهم مع قوله تعالى: ?وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم?[الأنفال:33]، والجواب إن في الآية احتمال التخصيص بالمذكورين أو بوقت دون وقت أو مقام الخوف يقتضي غلبة عدم الأمن من مكر الله، (ويقول إذا رأى المطر رحمة) بالنصب أي اجعله رحمة لا عذابا وبالرفع أي هذا رحمة (متفق عليه) فيه نظر؛ لأن لفظ الرواية الأولى بالسياق المذكور من رواية ابن وهب عن ابن جريج عن عطاء عن عائشة من إفراد مسلم والرواية الثانية أيضا من إفراده أخرجها من طريق جعفر بن محمد عن عطاء عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقل وأدبر فإذا مطرت سربه، وذهب عنه ذلك قالت عائشة: فسألته فقال: إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي ويقول إذا

(9/375)


رأى المطر رحمة، وأما البخاري فأخرجه في أوائل بدء الخلق عن مكي بن إبراهيم عن ابن جريج عن عطاء عن عائشة مختصرا بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه فإذا مطرت سري عنه فعرفته عائشة ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما أدري لعله كما قال قوم ?فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم? الآية، فظهر بهذا أن قوله متفق عليه لا يخلو عن نظر اللهم إلا أن يقال إن المراد اتفاق الشيخين على أصل الحديث، ومعناه وقد أخرجه بسياق المشكاة البيهقي (ج3:ص360) وأخرجه الترمذي في الدعوات مختصرا إلى قوله وشر ما أرسلت به وأخرجه ابن ماجه في الدعاء بنحو رواية البخاري.
1527- (4) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مفاتيح الغيب خمس، ثم قرأ ?إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث? الآية))

(9/376)


1527- قوله: (مفاتيح الغيب) بوزن مصابيح جمع مفتاح، وهو الآلة التي يفتح بها (خمس) يعني العلوم التي يتوصل بها إلى الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، وروى مفاتح بوزن مساجد، وهو جمع مفتح بفتح الميم، وهو المخزن أي مخازن الغيب جعل للأمور الغيبية مخازن يخزن فيها على طريق الاستعارة أو جمع مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح جعل للأمور الغيبية مفاتيح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الاستعارة أيضا وقد عقد البخاري على هذا الحديث في تفسير سورة الأنعام باب قوله: ?وعند مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو?[ الأنعام: 59] وأراد بذلك أن يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر آية الأنعام بتلك الخمس المذكورة في سورة لقمان. قال الحافظ: المفاتح جمع مفتح بكسر الميم الآلة التي يفتح بها مثل منجل ومناجل، وهي لغة قليلة في الآلة، والمشهور مفتاح بإثبات الألف وجمعه مفاتيح بإثبات الياء، وقد قرئ بها في الشواذ قرأ ابن السميفع وعنده مفاتيح الغيب وقيل: بل هو جمع مفتح بفتح الميم وهو المكان، ويؤيده تفسير السدي فيما رواه الطبري مفاتح الغيب خزائنة-انتهى. قال القسطلاني: وعلى الأول قد جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة؛ لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالإغلاق فمن علم كيف يفتح بها ويتوصل إلى ما فيها فهو عالم، وكذلك ههنا لما كان الله تعالى عالما بجميع المعلومات ما غاب منها وما لم يغب عبر عنه بهذه العبارة إشارة إلى أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره وهذا هو الفائدة في التعبير بعند- انتهى. وقال في النهاية: المفاتيح والمفاتح جمع مفتاح ومفتح وهما في الأصل كل ما يتوصل به إلى استخراج المغلقات التي يتعذر الوصول إليها والمعنى لا يعلم كلياتها غير الله وقد يطلع بعض أصفيائه على جزئيات منهن، والغيب ما غاب عن الخلق وسواء كان محصلا في القلوب أو غير محصل ولا غيب عند الله عزوجل ذكره

(9/377)


العيني. وقال البيضاوي:الغيب هو الأمر الخفي الذي لا يدركه الحس ولا يقتضيه بداهة العقل، وهو قسمان: قسم لا دليل عليه وهو المعنى بقوله تعالى: ?وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو?[الأنعام:59]، وقسم نصب عليه دليل عقلي أو نقلي كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد في قوله: ?يؤمنون بالغيب?[البقرة:3] - انتهى. (ثم قرأ) أي بيانا لتلك الخمس (إن الله عنده) أي لا عند غيره (علم الساعة) أي علم وقت قيامها فلا يعلم ذلك نبي مرسل ولا ملك مقرب، لا يجليها لوقتها إلا هو (وينزل) بالتشديد (الغيث) أي يرسل المطر الذي يغيث البلاد والعباد في وقته المقدر له والمحل المعين له في علمه وبالكمية والكيفية المقررتين عنده لا يعلم ذلك إلا هو (الآية) بالنصب أي اقرأ، أو أذكر بقية الآية وبالجر أي إلى آخر الآية وهو ?ويعلم ما في الأرحام? مما يريد أن يخلقه من ذكر أو أنثى تام
رواه البخاري.
1528- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليست السنة

(9/378)


أو ناقص أبيض أو أسود طويل أو قصير سعيد أو شقي وغير ذلك مما لا يعلم تفصيله إلا هو. قال القاري: ولا يعلم مجملة بحسب خرق العادة إلا من قبله تعالى. وقال القسطلاني: لكن إذا أمر به علمته ملائكته المؤكلون به ?وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا? في الدنيا من الخير والشر والطاعة والمعصية، وفي الآخرة من الثواب والعقاب ?وما تدري نفس بأي أرض تموت? أي في بلدها أم في غيرها فليس أحد من الناس يدري أين مضجعة من الأرض أفي بر أو بحر سهل أو جبل (إن الله عليم) أي بما ذكر وغيره من الكليات والجزئيات إلا يعلم من خلق (خبير) أي مطلع على خفايا الأمور، فإن قيل الغيوب التي لا يعلمها إلا الله كثيرة ولا يعلم مبلغها إلا الله تعالى، وقال الله تعالى: ?وما يعلم جنود ربك إلا هو?[المدثر:31] فما وجه التخصيص بالخمس. قلت: أجيب عنه بوجوه: الأول: أن التخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائد، والثاني: أن ذكر هذا العدد في مقابلة ما كان القوم يعتقدون أنهم يعرفون من الغيب هذه الخمس، والثالث: أنهم كانوا يسألونه عن هذه الخمس، والرابع: أن أمهات الأمور هذه لأنها إما أن تتعلق بالآخرة، وهو علم الساعة وإما بالدنيا وذلك إما متعلق بالجماد أو بالحيوان،والثاني إما يحسب مبدأ وجوده أو بحسب معاده أو بحسب معاشه. قال القرطبي: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمس لهذا الحديث (يعني حديث أبي هريرة في سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام وفيه خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلى النبي صلى الله عليه وسلم ?إن الله عنده علم الساعة? الآية [لقمان:34] وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - قول الله تعالى: ?وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو?[الأنعام:59] بهذه الخمس، وهو في الصحيح قال فمن أدعى علم شئ منها غير مسنده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان كاذبا في دعواه قال: وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم، كذا في الفتح

(9/379)


(رواه البخاري) أي هكذا مختصرا في تفسير سورة الأنعام على رواية أبي ذر، وفي تفسير سورة لقمان وأخرجه أيضا في الاستسقاء وتفسير سورة الرعد والتوحيد بألفاظ، وقد بسط الشيخ أبومحمد بن جمرة في شرح هذا الحديث وأجاد ولخص كلامه الحافظ في الفتح في شرح باب قوله: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلخ. من كتاب التوحيد من أحب الوقوف عليه رجع إلى الفتح، والحديث أخرجه أيضا أحمد (ج2:ص24و58-85-122) والطبري (ج2:ص56) وأخرجه ابن حبان (ج1:ص228-229) وأحمد أيضا (ج2:ص52) بتفصيل الأنواع الخمسة بدل تلاوة الآية.
1528- قوله: (ليست السنة) بفتح السين الجدب والقحط، ومنه قوله تعالى: ?ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين? [الأعراف:130] قال في النهاية: السنة الجدب، وهي من الأسماء الغالبة، ويقال: أسنتوا إذا أجدبوا، قلبوا
بأن لا تمطروا،ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض شيئا)) رواه مسلم.
?الفصل الثاني?
1529- (6) عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب، فلا تسبوها، وسلوا الله من خيرها، وعوذوا به من شرها)).
لامها تاء (بأن لا تمطروا) أي لا ينزل عليكم المطر يعني عدم المطر فالباء زائدة (ولكن) بالتخفيف (السنة) أي قد تكون (أن تمطروا وتمطروا) التكرير للتأكيد والتكثير أي تمطروا المرة بعد الأخرى مطرا كثيرا (ولا تنبت الأرض شيئا) أي لإمساكه تعالى لها من الإنبات والمعنى لا تظنوا أن الرزق والبركة من المطر بل الرزق من الله تعالى فرب مطر لا ينبت منه شيء فالقحط الشديد ليس بأن لا يمطر بل بأن يمطر ولا ينبت لأن حصول الشدة بعد توقع الرخاء وظهور مخائله وأسبابه أفظع مما إذا كان اليأس حاصلا من أول الأمر (رواه مسلم) في الفتن وأشراط الساعة وأخرجه أيضا أحمد والشافعي والبيهقي (ج3:ص363).

(9/380)


1529- قوله: (الريح) أي الهواء المسخر بين السماء والأرض (من روح الله) قيل: الروح بفتح الراء النفس والفرج والرحمة أي من رحمته تعالى يريح بها عباده ومنه قوله تعالى ?فروح وريحان?[الواقعة:89] وقوله ?ولا تيأسوا من روح الله?[يوسف:87] فإن قيل: كيف يكون الريح من رحمته مع أنها تجيء بالعذاب؟ قلت: إذا كان عذابا للظلمة فيكون رحمة للمؤمنين حيث يتخلصون من الكفار الفجار، وأيضا الروح بمعنى الرائح أي الجائي من حضرة الله بأمره تارة للكرامة وأخرى للعذاب فلا يعيب فإنه تأديب والتأديب حسن (تأتي بالرحمة) من إنشاء سحاب ماطر مثلا لمن أراد الله تعالى أن يرحمه (وبالعذاب) لمن أراد أن يهلكه (فلا تسبوها) أي بلحوق ضرر منها فإنها مأمورة مقهورة مسخرة (وسلوا الله) وروى واسألوا (من خيرها) أي خير ما أرسلت به (وعوذوا به) بفتح العين وتشديد الواو من التعويذ يقال عوذ الرجل إذا دعا له بالحفظ، وقال له أعيذك بالله، ولفظ أبي داود استعيذوا، وابن ماجه تعوذوا يقال تعوذ واستعاذة بالله فأعاذه وعوذه أي حفظه (من شرها) أي من شر ما أرسلت به. قال المظهر: فإن قيل: كيف تكون الريح من روح الله أي رحمته مع أنها تجيء بالعذاب فجوابه من وجهين: الأول أنه عذاب لقوم ظالمين رحمة لقوم مؤمنين. قال الطيبي: يؤيده قوله تعالى: ?فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين?[الأنعام:45] الكشاف، فيه إيذان بوجوب الحمد عند إهلاك الظلمة، وهو من أجل النعم، الثاني بأن الروح مصدر بمعنى الفاعل أي الرائح. فالمعنى أن الريح من روائح الله تعالى أي من الأشياء التي تجيء من حضرته بأمره ليس لأحد مدخل في مجيئها فتارة تجيء بالرحمة وأخرى
رواه الشافعي، وأبوداود، وابن ماجه، والبيهقي في الدعوات الكبير.

(9/381)


1530- (7) وعن ابن عباس، أن رجلا لعن الريح عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((لا تلعنوا الريح، فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئا له بأهل رجعت اللعنة عليه)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
1531- (8) وعن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون
بالعذاب فلا يجوز سبها بل تجب التوبة عند التضرر بها وهو تأديب من الله تعالى وتأديبه رحمة للعباد- انتهى. (رواه الشافعي) في الأم (ج1:ص224) وفي المسند (ج6:ص114) (وأبوداود) في الأدب وسكت عليه هو والمنذري (وابن ماجه) في الدعاء وأخرجه أيضا أحمد (ج2:ص250-268) والبخاري في الأدب المفرد (ص132) والحاكم في المستدرك (ج4:ص285) وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وعزاه المنذري في تلخيص السنن للنسائي والشوكاني في تحفة الذاكرين لابن حبان أيضا، ولعل النسائي أخرجه في السنن الكبرى.

(9/382)


1530- قوله: (إن رجلا لعن الريح عند النبي - صلى الله عليه وسلم -) الحديث. رواه أبوداود أيضا ولفظه في رواية: إن رجلا نازعته الريح رداءه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلعنها (لا تلعنوا الريح) لفظ الترمذي وأبي داود: لا تلعن الريح (فإنها مأمورة ) إما بالرحمة أو بالنقمة، وقيل: أي بأمر منا والمنازعة من خاصيتها ولوازم وجودها عادة أو فإنها مأمورة حتى بهذه المنازعة أيضا ابتلاء لعباده (وإنه) أي الشأن (من لعن شيئا ليس) أي ذلك الشيء (له) أي اللعن (بأهل) أي بمستحق (رجعت اللعنة عليه) أي على اللاعن لأن اللعنة، وكذا الرحمة تعرف طريق صاحبها. قال الطيبي: ليس له صفة شيئا واسمه ضمير راجع إليه والضمير في "له" راجع إلى مصدر لعن، وفي عليه إلى من على تضمين رجعت معنى استقلت يعني استقلت اللعنة عليه راجعة لأن اللعن طرد عن رحمة الله فمن طرد ما هو أهل لرحمة الله عن رحمته جعل مطرودا (رواه الترمذي) في باب اللعنة من أبواب البر والصلة (وقال هذا حديث غريب) وفي بعض نسخ الترمذي: حديث حسن غريب وبعده لا نعلم أحدا أسنده غير بشر بن عمر- انتهى. والحديث أخرجه أبوداود في الأدب وسكت عنه، وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي المذكور ما لفظه وبشر بن عمر هذا هو الزهراني احتج به البخاري ومسلم- انتهى.
1531- قوله: (لا تسبوا الريح) فإن المأمور معذور (فإذا رأيتم ما تكرهون) أي ريحا تكرهونها
فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به)) رواه الترمذي.
1532- (9) وعن ابن عباس، قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي - صلى الله عليه وسلم - على ركبتيه، وقال: ((اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابا، اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا)). قال ابن عباس في كتاب الله تعالى:

(9/383)


لشدة حرارتها أو برودتها أو تأذيتم لشدة هبوبها (فقولوا) أي راجعين إلى خالقها وآمرها (اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح) أي باعتبار ذاتها (وخير ما فيها) أي باعتبار صفاتها (وخير ما أمرت به) على بناء المفعول أي من خالقها لطفا وجمالا (رواه الترمذي) في الفتن وصححه وأخرجه أيضا ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص98).
1532- قوله: (ما هبت ريح) أي ثارت وهاجت يعني اشتدت (إلا جثا) بالألف من الجثو بمعنى القعود على الركب فقوله (على ركبتيه) تأكيد أو تجريد وكان هذا منه صلى الله عليه وسلم تواضعا لله تعالى وخوفا على أمته وتعليما لهم في تبعيته. قال الأمير اليماني: أي برك على ركبتيه وهي قعدة المخافة لا يفعلها في الأغلب إلا الخائف، ورواه الطبراني بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا هاجت ريح استقبلها بوجهه وجثا على ركبتيه ومد يديه، وقال: اللهم إني أسألك من خير هذه الريح وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به اللهم اجعلها رحمة إلخ (اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا) وجه هذا إن العرب تقول لا تلقح الشجر إلا من الرياح المختلفة ولا تلقح من ريح واحدة فهو - صلى الله عليه وسلم - دعاء بأن يجعلها رياحا تلقح ولا يجعلها ريحا لا تلقح. قال الخطابي: إن الرياح إذا كثرت جلبت السحاب وكثرت الأمطار فزكت الزروع والأشجار وإذا لم تكثر وكانت ريحا واحدة فإنها تكون عقيمة والعرب تقول لا تلقح السحاب إلا من رياح. وقيل: إن الرياح هي المذكورة في آيات الرحمة والريح هي المذكورة في آيات العذاب كقوله عزوجل ?الريح العقيم? ?وريحا صرصرا? لكن قد عرف مما تقدم من حديث عائشة وأبي هريرة وأبي بن كعب، ومن رواية الطبراني لهذا الحديث إن الريح قد تأتي بالخير وقد تأتي بالشر، فلعل وجه قوله في هذا الحديث اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا أن الرياح لا تأتي إلا بالخير والريح تأتي تارة بهذا وتارة بهذا فسأل الله

(9/384)


أن يجعلها رياحا لأنها خير محض ولا يجعلها ريحا تحتمل الخير والشر وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (قال ابن عباس في كتاب الله تعالى) أورد المؤلف قول ابن عباس تائيدا لقوله عليه الصلاة
?إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا? و?أرسلنا عليهم الريح العقيم? و?أرسلنا الرياح لواقح? و?أن يرسل الرياح مبشرات?
والسلام رياحا وريحا فقوله في كتاب الله خبر مقدم وقوله: ?إنا أرسلنا عليهم? مبتدأ بتقدير هذه الآيات الدالة على أن الرياح للخير والريح بالأفراد للشر والجملة مقول القول ?ريحا صرصرا? أي شديدة البرد والهبوب والآية من سورة القمر ?وأرسلنا عليهم الريح العقيم? أي ما ليس فيه خير سميت عقيما؛ لأنها أهلكت قوم عاد وقطعت دابرهم والمرأة العقيم التي لا تلد ولا تلقح والآية من سورة الذاريات ?وأرسلنا الرياح لواقح? يعني تلقح الأشجار وتجعلها حاملة بالأثمار، قيل: أصله ملاقح جمع ملقحة فحذفت الميم تخفيفا وزيدت الواو بعد اللام وهو من النوادر، وهذا قول أبي عبيدة يقال القح الفحل الناقة احبلها والقحت الريح الشجر أو السحاب احملتها، وقيل: هي جمع لاقحة بمعنى حاملة. قال البغوي في تفسيره: لواقح أي حوامل؛ لأنها تحمل الماء إلى السحاب، وهي جمع اللاقحة - انتهى. وقال البيضاوي: أي حوامل شبه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه مالا يكون كذلك بالعقيم، وقيل: اللواقح بمعنى الملقحات للشجر أو السحاب، ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات- انتهى. وإطلاق اللواقح على الملقحات إما على الإسناد المجازي بأن يوصف الرياح بصفة ما هي أسباب له أو المجاز اللغوي بإعتبار السببية؛ لأن لقح الرياح سبب لالقاحها أو بإعتبار ما كان فإن الملقح كان أولا لاقحا أو من باب النسبة (أي ذات اللقاح) كلابن وتامر على حذف الزوائد نحو أثقل فهو ثاقل كذا قيل ذكره في اللمعات، وقيل اللواقح من الرياح التي تحمل اللقاح (ما تلقح به النخلة) إلى

(9/385)


الشجر والتي تحمل الندى ثم تمجه في السحاب فإذا اجتمع في السحاب صار مطرا والآية من سورة الحجر ?وأن يرسل الرياح مبشرات? بالمطر كقوله سبحانه وتعالى: ?بشرا بين يدي رحمته?[الأعراف: 57] والآية من سورة الروم. قال الأمير اليماني: قول ابن عباس بيان أنها جاءت مجموعة في الرحمة ومفردة في العذاب فاستشكل ما في الحديث من طلب أن تكون رحمة وأجيب بأن المراد لا تهلكنا بهذه الريح لأنهم لو هلكوا بهذه الريح لم تهب ريح أخرى فتكون ريحا لا رياحا- انتهى. قال الطيبي: معظم الشارحين على أن تأويل ابن عباس غير موافق للحديث نقل التوربشتي عن أبي جعفر الطحاوي أنه ضعف هذا الحديث جدا وأبى أن يكون له أصل في السنن وأنكر على أبي عبيدة تفسيره كما فسره ابن عباس، ثم استشهد أي الطحاوي بقوله تعالى: ?وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف? الآية [يونس: 22]. وبالأحاديث الواردة في هذا الباب فإن جل استعمال الريح المفردة في الباب في الخير والشر، ثم قال التوربشتي: والذي قاله أبوجعفر وإن كان قولا متينا فإنا نرى أن
رواه الشافعي، والبيهقي في الدعوات الكبير.

(9/386)


لا نتسارع إلى رد هذا الحديث، وقد تيسر لنا تأويله على وجه لا يكون مخالفا للنصوص المذكورة ثم ذكره بنحو ما تقدم عن الأمير اليماني من شاء الوقوف عليه رجع إلى شرح المصابيح للتوربشتي وشرح المشكاة للقاري. وقال الطيبي: معنى كلام ابن عباس في كتاب الله معناه إن هذا الحديث مطابق لما في كتاب الله تعالى فإن استعمال التنزيل دون أصحاب اللغة إذا حكم على الريح والرياح مطلقين كان إطلاق الريح غالبا في العذاب والرياح في الرحمة، فعلى هذا لا ترد تلك الآية على ابن عباس؛ لأنها مقيدة بالوصف ولا تلك الأحاديث؛ لأنها ليست من كتاب الله وإنما قيدت الآية بالوصف ووحدت؛ لأنها في حديث الفلك وجريانها في البحر فلو جمعت لأوهمت اختلاف الرياح وهو موجب للعطب أو الاحتباس ولو أفردت ولم تقيد بالوصف لآذنت بالعذاب والدمار؛ ولأنها أفردت وكررت ليناط به مرة طيبة وأخرى عاصف ولو جمعت لم يستقم التعلق- انتهى. وقال السيوطي في الإتقان (ج1ص192) ذكرت الريح مجموعة ومفردة فحيث ذكرت في سياق الرحمة جمعت أو في سياق العذاب أفردت أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن أبي بن كعب قال كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة وكل شيء فيه من الريح فهو عذاب، لهذا ورد في الحديث: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا، وذكر في حكمة ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والهيآت والمنافع وإذا هاجت منها ريح أثير لها من مقابلها ما يكسر سورتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات فكانت في الرحمة رياحا، وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد ولا معارض لها ولا دافع، وقد أخرج عن هذه القاعدة قوله تعالى في سورة يونس: ?وجرين بهم بريح طيبة? وذلك لوجهين: لفظي وهو المقابلة في قوله: ?جاءتها ريح عاصف?، ورب شيء يجوز في المقابلة، ولا يجوز استقلالا نحو ?ومكروا ومكر الله?. ومعنوي وهو أن تمام الرحمة هناك أنما يحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة

(9/387)


من وجه واحد فإذا اختلف عليها الرياح كانت سبب الهلاك فالمطلوب هناك ريح واحدة ولهذا أكد هذا المعنى بوصفها بالطيب وعلى ذلك أيضا جرى قوله: ?إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد?[الشورى: 33] وقال ابن المنير: إنه على القاعدة لأن سكون الريح عذاب وشدة على أصحاب السفن- انتهى. (رواه الشافعي) في الأم (ج1ص224) وفي المسند (ج6ص114) قال أخبرني من لا أتهم عن العلاء بن راشد عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه أبويعلى والطبراني في الدعاء وفي الكبير من طريق حسين ابن قيس الرحبي الواسطي عن عكرمة وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10ص135- 136) للطبراني فقط وقال: فيه حسين بن قيس الرحبي الملقب بحنش، وهو متروك، وقد وثقه حصين بن نمير وبقية رجاله رجال الصحيح- انتهى. وفي تهذيب التهذيب (ج2ص365) زعم أبومحصن حصين بن نمير أنه أي حصين بن قيس شيخ صدوق- انتهى. وقد ضعفه جميع من عداه.
1533- (10) وعن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أبصر ناشئا من السماء ـ تعني السحاب ـ ترك عمله واستقبله، وقال: ((اللهم إني أعوذ بك من شر ما فيه، فإن كشفه حمد الله، وإن مطرت، قال: اللهم سقيا نافعا)). رواه أبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والشافعي، واللفظ له.
1534- (11) وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد

(9/388)


1533- قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أبصر ناشئا) أي سحابا خارجا يعني حادثا مرتفعا ظاهرا (من السماء) قال التوربشتي: سمي السحاب ناشئا؛ لأنه ينشأ من الأفق يقال: نشأ أي خرج أو ينشأ في الهواء أي يظهر، أو لأنه ينشأ من الأبخرة المتصاعدة من البحار والأراضي النزه ونحو ذلك. وقال الجزري: الناشى من السحاب هو الذي لم يتكامل اجتماعه واصطحابه فهو في أول أمره (تعني) أي تريد عائشة بقولها ناشئا (السحاب) جملة معترضة لتفسير اللغة بين الشرط وجزاءه وهو قولها ترك. ولفظ أبي داود: كان إذا رأى ناشئا في أفق السماء. ولفظ النسائي وابن ماجه: كان إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق أي من ناحية من النواحي (ترك) أي النبي صلى الله عليه وسلم (عمله) المشتغل به من الأمور المباحة، قاله القاري. وفي رواية أبي داود: ترك العمل وإن كان في صلاة. ولفظ النسائي وابن ماجه ترك ما هو فيه وإن كان في صلاته (واستقبله) أي السحاب. وفي رواية النسائي وابن ماجه: حتى يستقبله. وليس عند أبي داود شيء منهما (من شر ما فيه) وعند النسائي وابن ماجه، من شر ما أرسل به وانتهت رواية النسائي إلى هذا (فإن كشفه) أي أذهب الله ذلك السحاب ولم يمطر (حمد الله) أي على النجاة مما كان يخاف من العذاب. وقيل: أي من حيث أن الخير فيما اختاره الله، ولعل الشر كان في ذلك السحاب فيجب الحمد على دفع الشر، كأنه صلى الله عليه وسلم تذكر قوله تعالى في قوم عاد: ?فلما رأوه عارضا? الآية [الأحقاف: 24]. وليست هذه الجملة عند أبي داود (وإن مطرت قال اللهم سقيا نافعا) قال القاري: بفتح السين وضمها أي اسقنا سقيا أو أسألك سقيا، فهو مفعول مطلق أو مفعول به. ولفظ ابن ماجه: إن أمطر قال: اللهم سيبا نافعا مرتين أو ثلاثة. وعند أبي داود: إن مطر قال: اللهم صيبا هنيئا ودعا بذلك خوفا من الضرر الذي قد يكون في المطر (رواه أبوداود) في الأدب وسكت عنه هو والمنذري

(9/389)


(والنسائي) في عمل اليوم والليلة (وابن ماجه) في الدعاء (والشافعي) في الأم (ج1ص224) والمسند (ج6ص114) (والفظ له) أي لفظ الحديث للشافعي وللباقين معناه.
1534- قوله: (كان إذا سمع صوت الرعد) بإضافة العام إلى الخاص للبيان، فإن الرعد هو الصوت
والصواعق،
الذي يسمع من السحاب، كذا قاله ابن الملك. والصحيح أن الرعد ملك مؤكل بالسحاب، فقد روى عن ابن عباس أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد، فقال: ملك من الملائكة مؤكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله، وسألوا عن الصوت الذي يسمع من السحاب، فقال زجرة بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر، أخرجه الترمذي وصححه. ونقل الشافعي عن الثقة عن مجاهد أن الرعد ملك والبرق أجنحته يسوق السحاب بها، ثم قال: وما أشبه ما قاله بظاهر القرآن. قال بعضهم: وعليه فيكون المسموع صوته أو صوت سوقه على اختلاف فيه. ونقل البغوي عن أكثر المفسرين أن الرعد ملك يسوق السحاب، والمسموع تسبيحه. وقيل: البرق لمعان سوط الرعد يزجر به السحاب. وأما قول الفلاسفة: إن الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، البرق ما يقدح من اصطكاكها فهو من حرزهم وتخمينهم فلا يعول عليه، كذا في المرقاة. وقال الآلوسي: للناس في الرعد والبرق أقوال: والذي عول عليه أن الأول صوت زجر الملك المؤكل بالسحاب، والثاني لمعان مخاريقه التي هي من نار، والذي اشتهر عند الحكماء أن الشمس إذا أشرقت على الأرض اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب منهما دخان ويختلط بالبخار، وهو الحادث بسبب الحرارة السماوية إذا أثرت في البلة، ويتصاعدان معا إلى الطبقة الباردة، وينعقد ثمة سحاب ويحتقن الدخان فيه، ويطلب الصعود إن بقي على طبعه الحار، والنزول إن ثقل وبرد وكيف كان يمزق السحاب بعنفه، فيحدث منه الرعد وقد تشتعل منه لشدة حركته ومحاكته نار لامعة، وهي البرق إن لطفت، والصاعقة إن غلظت. وربما كان البرق

(9/390)


سببا للرعد، فإن الدخان المشتعل ينطفيء في السحاب، فيسمع لإنطفاءه صوت، كما إذا أطفأنا النار بين أيدينا، والرعد والبرق يكونان معا إلا أن البرق يرى في الحال، لأن الأبصار لا يحتاج إلا إلى المحاذاة من غير حجاب، والرعد يسمع بعد، لأن السماع إنما يحصل بوصول تموج الهواء إلى القوة السامعة، وذلك يستدعى زمانا كذا قالوه، وربما يختلج في ذهنك قرب هذا، ولا تدري ماذا تصنع بما ورد عن حضرة من أسرى به ليلا بلا رعد ولا برق على ظهر البراق، وعرج إلى ذي المعارج فرجع، وهو أعلم خلق الله على الإطلاق، فأنا بحول الله تعالى أوفق لك بما يزيل الغين عن العين وسر جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الآلوسي توجيها لذلك يشبه طريق الصوفية من كان له ذوق بذلك فليرجع إلى روح المعاني (ج1ص171) (والصواعق) جمع صاعقة. والظاهر أنها في الأصل صفة من الصعق وهي الصراخ. وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة لمؤنث، أو للمبالغة إن لم تقدر كرواية، أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كحقيقة. وقيل: إنها مصدر كالعافية والعاقبة، وهي اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد. والمشهور أنها الرعد الشديد معه قطعة من نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه، وقد يكون معه جرم حجري أو حديدي، كذا قال الآلوسي. وفي الجلالين: الصاعقة شدة صوت الرعد
((قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك)). رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
?الفصل الثالث?
1535- (12) عن عبدالله بن الزبير،

(9/391)


فهي مأخوذة من الصعق، وهي شدة الصوت. وقيل: هي نار تخرج من السحاب فيقدر له فعل أي ورأى الصواعق، فهو من باب علفته تبنا وماءا باردا لمجاورة الصاعقة غالبا صوت الرعد مسموعا. ولعل إعتبار الجمع موافقة للآية المراد فيها التعدد المحيط بهم زيادة للنكال، قاله القاري في شرح الحصن. وقال في المرقاة: والصواعق بالنصب، فيكون التقدير وأحس الصواعق من باب علفتها تبنا وماءا باردا، أو أطلق السمع وأريد به الحس من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، وفي نسخة بالجر عطفا على الرعد، وهو إنما يصح على بعض الأقوال في تفسير الصاعقة. قال بعضهم: هي نار تسقط من السماء في رعد شديد، فعلى هذا لا يصح عطفه على شيء مما قبله. وقيل: الصاعقة صيحة العذاب أيضا وتطلق على صوت شديد غاية الشدة يسمع من الرعد، وعلى هذا يصح عطفه على صوت الرعد أي صوت السحاب، فالمراد بالرعد السحاب بقرينة إضافة الصوت إليه، أو الرعد صوت السحاب ففيه تجريد. وقال الطيبي هي قعقعة رعد ينقض معها قطعة من نار يقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق أي مات إما لشدة الصوت وإما بالإحراق- انتهى. (وعافنا) أي أمتنا بالعافية (قبل ذلك) أي قبل نزول عذابك (رواه أحمد) (ج2ص100) (والترمذي) في الدعوات، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد، والدولابي في الكي، وابن السني في عمل اليوم والليلة، والحاكم في المستدرك (ج4ص286) والبيهقي (ج3ص362) قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال ميرك نقلا عن التصحيح: إسناده جيد وله طرق. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين: ضعف النووي إسناد الترمذي- انتهى. قلت: حديث ابن عمر هذا قد تفرد به أبومطر عند الجميع. وقال الحافظ في التقريب: أبومطر شيخ الحجاج بن أرطاة مجهول، وقال في التهذيب في ترجمته: ذكره ابن حبان في الثقات.

(9/392)


1535- قوله: (عن عبدالله بن الزبير) كذا في جميع النسخ، وهو يدل على أن هذا الأثر موقوف على عبدالله بن الزبير. ورواية البيهقي نص في ذلك حيث رواه بسنده إلى مالك عن عامر بن عبدالله بن الزبير عن عبدالله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد إلخ وفي النسخ الهندية من الموطأ "مالك عن عامر بن عبدالله بن الزبير أنه كان" إلخ هكذا وقع في نسخة الزرقاني والتنوير للسيوطي والمنتقى للباجي، ولم يبين الزرقاني والسيوطي مرجع
أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: ((سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته)). رواه مالك.

(9/393)


ضمير قوله "أنه كان" وقال الباجي: قوله" إن ابن الزبير" يريد عبدالله كان إذا سمع الرعد ترك الحديث إلخ. وهذا يدل على أن الأثر عنده موقوف على عبدالله بن الزبير، وعليه يدل ما وقع في تفسير ابن كثير وتحفة الذاكرين وحاشية الحصن الحصين وهو الظاهر عندنا، وعامر بن عبدالله بن الزبير بن العوام الأسدي أبوالحارث المدني ثقة عابد تابعي مات سنة إحدى وعشرين ومائة. (كان إذا سمع الرعد) أي صوته (ترك الحديث) أي الكلام مع الأنام. قال الباجي: يريد- والله أعلم. ارتياعا منه وإقبالا على ذكر الله عزوجل والتسبيح والإخبار بأن الرعد يسبح بحمده عزوجل. ويحتمل أن يكون الرعد ملكا يزجر السحاب- انتهى. قلت: ويؤيد هذا ما تقدم من حديث ابن عباس مرفوعا: أن الرعد ملك مؤكل بالسحاب معه مخاريق من نار (يسبح الرعد) أي ينزهه حال كونه متلبسا (بحمده) له تعالى، وقد تقدم أن الرعد ملك، فنسبة التسبيح إلى حقيقة، وهو الصحيح. وقيل: إسناده مجازي، لأن الرعد بمعنى الصوت سبب؛ لأن يسبح الله السامع حامدا له خائفا راجيا (والملائكة من خيفته) أي من أجل خوف الله تعالى. وقيل: من خوف الرعد، فإنه رئيسهم. وبعده في الموطأ: ثم يقول (أي ابن الزبير): أن هذا الوعيد لأهل الأرض شديد. وروى ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا أنه كان إذا سمع الرعد قال: سبحان من يسبح الرعد بحمده. وروى عن علي أنه كان إذا سمع الرعد يقول: سبحان من سبحت له، وكذا روى عن ابن عباس وطاؤس والأسود بن يزيد أنهم كانوا يقولون كذلك، وكأنهم يذهبون إلى قوله تعالى: ?ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته?[الرعد: 13] وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله تعالى، فإنه لا يصيب ذاكرا، وفي إسناده يحيى بن أبي كثير أبوالنضر وهو ضعيف (رواه مالك) في الموطأ في باب القول إذا سمعت الرعد من كتاب الجامع عن عامر ابن عبدالله بن الزبير أنه كان

(9/394)


إلخ وقد صحح النووي إسناده، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي (ج3ص362).
(5) كتاب الجنائز
(1) باب عيادة المريض وثواب المرض
?الفصل الأول?
1536- (1) عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض،
(كتاب الجنائز) بفتح الجيم لا غير، جمع جنازة بالفتح والكسر، والكسر أفصح، اسم للميت في النعش أو بالفتح، اسم لذلك وبالكسر اسم للنعش وعليه الميت. وقيل: عكسه. وقيل: هما لغتان فيهما، فإن لم يكن عليه ميت فهو سرير ونعش، وهي من جنزه يجنزه من باب ضرب إذا ستره، ذكره ابن فارس وغيره. أورد كتاب الجنائز بعد الصلاة كأثر المصنفين من المحدثين والفقهاء، لأن الذي يفعل بالميت من غسل وتكفين وغير ذلك لهمه الصلاة عليه لما فيها من فائدة الدعاء له بالنجاة من العذاب لاسيما عذاب القبر الذي سيدفن فيه. وقيل: لأن للإنسان حالتين: حالة الحياة وحالة الممات. ويتعلق بكل منهما أحكام العبادات وأحكام المعاملات، وأهم العبادات الصلاة، فلما فرغوا من أحكامها المتعلقة بالأحياء ذكروا ما يتعلق بالموتى من الصلاة وغيرها. قيل: شرعت صلاة الجنازة بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة، فمن مات بمكة قبل الهجرة لم يصل عليه.
(باب عيادة المريض) أي وجوبا وثوابا. وأصل عيادة عوادة بالواو فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، يقال: عدت المريض أعوده عيادا وعيادة وعوادة إذا زرته وسألت عن حاله (وثواب المرض) الذي يصيب الإنسان إذا صبر عليه.

(9/395)


1536- قوله: (أطعموا الجائع) ندبا أو وجوبا إن كان مضطرا. قال في اللمعات: هو سنة إن لم يصل حد الاضطرار، وفرض إن وصل على الكفاية إن لم يتعين أحد، وعين إن يتعين (وعودوا) أمر من العيادة (المريض) وهي سنة إن كان له متعهد، وواجب إن لم يكن، وجزم البخاري بالوجوب لظاهر الأمر، فقد ترجم عليه في كتاب المرضى بلفظ "باب وجوب عيادة المريض" قال الحافظ: قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية كإطعام الجائع وفك الأسير، ويحتمل أن يكون للندب للحث على التواصل والألفة. وجزم الداودى بالأول فقال هي فرض يحمله بعض الناس عن بعض. وقال الجمهور: هي في الأصل للندب، وقد
وفكوا العاني)). رواه البخاري.
1537 - (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم خمس:

(9/396)


تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض. وعن الطبري تتأكد في حق من ترجى بركته، وتسن فيمن يراعي حاله، وتباح فيما عدا ذلك. وفي الكافر خلاف كما سيأتي في أول الفصل الثالث. ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب يعني على الأعيان. واستدل بعموم قوله عودوا المريض على مشروعية العيادة في كل مريض واستثنى بعضهم الأرمد لكون عائدة قد يرى ما لا يراه هو. وتعقب بأنه قد يتأتى مثله في بقية الأمراض كالمغمى عليه، وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم عند أبي داود وغيره، وقد ذكره المصنف في الفصل الثاني، وسيأتي الكلام عليه هناك مفصلا، ويؤخذ من إطلاقه أيضا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه وهو قول الجمهور، وجزم الغزالي في الأحياء بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث، واستند إلى حديث أنس الآتي في الفصل الثالث، وهو حديث ضعيف جدا وسيجيء الكلام عليه هناك، وفي إطلاق الحديث أيضا أن العيادة لا تتقيد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفي النهار، ونقل ابن الصلاح عن الفراوى: أن العيادة تستحب في الشتاء ليلا وفي الصيف نهارا وهو غريب ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض أو يشق على أهله، فإن اقتضت ذلك ضرورة فلا بأس ويلتحق بعيادة المريض تعهده وتفقد أحواله والتلطف به وربما كان ذل في العادة سببا لوجود نشاطه وانتعاش قوته (وفكوا) بضم الفاء وتشديد الكاف أي خلصوا (العاني) بالعين المهملة والنون المكسورة المخففة، وزن القاضي أي الأسير، وفكه تخليصه بالفداء أي أخلصوا الأسير المسلم في أيدي الكفار أو المحبوس ظلما بغير حق، قال ابن بطال: فكاك الأسير واجب على الكفاية، وبه قال الجمهور. وقال إسحاق بن راهوية: من مال ببيت المال. وقيل: المعنى أعتقوا الأسير أي الرقيق، وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنى (رواه البخاري) في الأطعمة والنكاح والأحكام والجهاد والمرضى، وأخرجه أيضا أحمد، وأبوداود والبيهقي (ج3ص379).

(9/397)


1537- قوله: (حق المسلم على المسلم خمس) أي خصال كلهن فروض على الكفاية. وقال القسطلاني: هذا يعم وجوب العين والكفاية والندب. وقال الشوكاني: المراد بحق المسلم أنه لا ينبغي تركه ويكون فعله إما واجبا أو مندوبا ندبا مؤكدا شبيها بالواجب الذي لا ينبغي تركه، ويكون استعماله في المعنيين من باب استعمال المشترك في معنييه، فإن الحق يستعمل في معنى الواجب، كذا ذكره ابن الأعرابي، وكذا يستعمل في معنى الثابت
رد السلام، وعيادة المريض، وإتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) متفق عليه.
1538 - (3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم ست. قيل: ما هن يا رسول الله؟

(9/398)


ومعنى اللازم ومعنى الصدق وغير ذلك- انتهى. قلت وفي رواية لمسلم، وكذا عند أبي داود: وخمس تجب للمسلم على أخيه. وقد تبين بهذه الرواية أن معنى الحق هنا الوجوب. قال الحافظ: والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية. ثم العدد قد جاء في الروايات مختلفا، فيدل على أنه لا عبرة لمفهوم العدد، ولا يقصد به الحصر. ويؤتي به أحيانا على حسب ما يليق بالمخاطب (رد السلام) أي جوابه. وهو فرض عين من الواحد، وفرض كفاية من جماعة يسلم عليهم. وأما السلام فسنة، فقد نقل ابن عبدالبر وغيره إجماع المسلمين على أن ابتداء السلام سنة، وأن رده فرض وصفة الرد أن يقول وعليكم السلام. ويأتي الكلام عليه في باب السلام من كتاب الآداب (واتباع الجنائز) أي المضي معها والمشي خلفها إلى حين دفنها بعد الصلاة عليها، وهو من الواجبات على الكفاية (وإجابة الدعوة) بفتح الدال فيه مشروعية إجابة الدعوة، وهذا إذا لم يكن هناك مانع شرعي أو عرفي، وهي أعم من الوليمة. ويأتي الكلام عليها في باب الوليمة من كتاب النكاح (وتشميت العاطس) أي جوابه بـ "يرحمك الله" إذا قال الحمد لله. قال في النهاية: التشميت بالشين المعجمة والسين المهملة الدعاء للعاطس بالخير والبركة، والمعجمة أعلاهما. واشتقاقه من الشوامت وهي القوائم، كأنه دعاء للعاطس بالثبات على طاعة الله. وقيل: الأصل فيه المهملة فقلبت معجمة. وقال صاحب المحكم: تشميت العاطس معناه الدعاء له بالهداية إلى السمت الحسن. وفيه دليل على مشروعية تشميت العاطس. ويأتي الكلام عليه في باب العطاس والتثاؤب من كتاب الآداب. قال في شرح السنة هذه الخصال كلها في حق الإسلام يستوي فيها جميع المسلمين برهم وفاجرهم غير أن يخص البر بالبشاشة والمسألة والمصافحة دون الفاجر المظهر لفجوره. قال المظهر: إذا دعا المسلم المسلم إلى الضيافة والمعاونة يجب عليه طاعته إذا لم يكن ثمة ما يتضرر به في دينه من الملاهي ومفارش الحرير ورد السلام

(9/399)


واتباع الجنائز فرض على الكفاية. وأما تشميت العاطس إذا حمد الله وعيادة المريض فسنة إذا كان له متعهد، وإلا فواجب. ويجوز أن يعطف السنة على الواجب إن دل عليه القرينة كما يقال: صم رمضان وستة من شوال، ذكره الطيبي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز ومسلم في كتاب الآداب، وأخرجه أيضا أبوداود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة، وأخرجه ابن ماجه في الجنائز بغير هذا السياق.
1538- قوله: (حق المسلم على المسلم ست) من الخصال. ومفهوم العدد لا يفيد الحصر، فللمسلم
قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)) رواه مسلم.
1539- (4) وعن البراء بن عازب، قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا: ((بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم،

(9/400)


حقوق آخر (إذا لقيته فسلم عليه) ندبا، ويلزمه رد السلام، واكتفى بذكره في الحديث الأول (وإذا دعاك) أي للإعانة أو الدعوة (فأجبه) وجوبا إن كانت للإعانة أو وليمة العرس، وندبا إن كانت لغيرها (وإذا استنصحك) أي طلب منك النصيحة (فانصح له) وجوبا، وكذا يجب النصح وإن لم يستنصحه. وقال في اللمعات: هي سنة، وعند الاستنصاح واجبة. والنصيحة إرادة الخير للمنصوح له. وقال الراغب: النصح تحري قول أو فعل فيه إصلاح صاحبه. وفي رواية الترمذي والنسائي: وينصح له إذا غاب أو شهد أي يريد له الخير في جميع أحواله، وهو المراد بقوله إذا غاب أو شهد، إذ الأحوال لا تخلوا عن غيبة وحضور. والمقصود أنه لا يقصر النصح على الحضور كحال من يراعي الوجه، بل ينصح لأجل الإيمان، فيسوى بين السر والإعلان (وإذا عطس) بفتح الطاء ويكسر (فحمد الله) فيه أنه لا يشرع تشميت العاطس إذا لم يحمد الله، فالمطلق في الحديث المتقدم محمول على هذا المقيد (فشمته) أي قل له يرحمك الله (وإذا مرض فعده) أمر من العيادة أي زره واسأل عن حاله (وإذا مات فاتبعه) حتى تصلى ويدفن. قال السيد: هذا الحديث لا يناقض الأول في العدد، فإن هذا زائد، والزيادة مقبولة، والظاهر أن الخمس مقدم في الصدور، قال والأمر للتسليم، والعيادة للندب والاستحباب، ولام فانصح له زائدة، ولو لم يحمد الله لم يستحب التشميت، ولذلك قال فحمد الله فشمته، كذا قاله في الأزهار (رواه مسلم) في الآداب، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد، وأخرجه الترمذي في الآداب، والنسائي في الجنائز بلفظ: للمؤمن على المؤمن ست خصال: يعوده إذا مرض، ويشهده إذا مات، ويجيبه إذا دعاه، ويسلم عليه إذا لقيه، ويشمته إذا عطس، وينصح له إذا غاب أو شهد. وفي الباب عن علي عند أحمد والترمذي وابن ماجه وأبي مسعود عند أحمد وابن ماجه.

(9/401)


1539- قوله: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع) بحذف مميز العدد في الموضعين أي خصال (ورد السلام) وفي رواية مسلم، وكذا في رواية البخاري: وإفشاء السلام، وهو يحتمل الإبتداء بالسلام ورده (وإبرار المقسم) بكسر همزة إبرار إفعال من البر خلاف الحنث، والمقسم بضم الميم وسكون القاف وكسر السين،
ونصر المظلوم، ونهانا: عن خاتم الذهب، وعن الحرير، والإستبرق، والديباج، والميثرة الحمراء،
اسم فاعل من الأقسام أي تصديق من أقسم عليه، وهو أن يفعل ما سأله الملتمس وأقسم عليه أن يفعله، يقال بر وأبر القسم إذا صدقه. وقال الطيبي: المراد من المقسم الحالف، وإبراره جعله باردا صادقا في يمينه أو جعل يمينه صادقه. والمعنى أنه لو حلف أحد على أمر مستقبل، وأنت تقدر على تصديق يمينه ولم يكن فيه معصية، كما لو أقسم أن لا يفارقك حتى تفعل كذا، وأنت تستطيع فعله، فافعل كيلا يحنث- انتهى. وفي رواية القسم بفتحات. قال السندي: إبرار القسم جعل الحالف بارا في حلفه إذا أمكن كما إذا حلف والله زيد يدخل الدار اليوم، فإذا علم به زيد وهو قادر عليه ولا مانع منه ينبغي له أن يدخل لئلا يحنث القائل- انتهى. قال القسطلاني: وهو خاص فيما يحمل من مكارم الأخلاق، فإن ترتب على تركه مصلحة فلا، ولذا قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر في قصة تعبير الرؤيا: لا تقسم حين قال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بالذي أصبت- انتهى. وقال النووي: إبرار القسم سنة مستحبة متأكدة، وإنما يندب إليه إذا لم يكن فيه مفسدة أو خوف وضرر أو نحو ذلك، فإن كان شيء من هذا لم يبر قسمه، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في قصة تعبير الرؤيا لا تقسم ولم يخبر. وفي رواية لمسلم: وإنشاد الضوال مكان قوله: وإبرار المقسم. والضوال جمع الضالة، وهي الضائعة وإنشادها تعريفها طريقها أو تعريف صاحبها بها (ونصر المظلوم) مسلما كان أو ذميا بالقول أو بالفعل. قال في

(9/402)


شرح السنة: هو واجب يدخل فيه المسلم والذمي، وقد يكون ذلك بالقول، وقد يكون بالفعل وبكف الظالم عن الظلم - انتهى. وقال النووي: نصر المظلوم من فروض الكفاية، وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يتوجه الأمر به على من قدر عليه ولم يخف ضررا (ونهانا عن خاتم الذهب) بفتح التاء ويكسر أي عن لبسة للرجال (وعن الحرير) أي لبس الثوب المنسوج من الأبريسم للرجال (والإستبرق) بهمزة قطع مكسورة، وهو الديباج الغليظ على الأشهر. وقيل: الرقيق، وهو تعريب استبرك (والديباج) بكسر الدال وتفتح، عجمي معرب الديبا، جمعه دبابيج ودباييج بالباء وبالياء، لأن أصله دباج. وقيل: جمعه ديابيج، وهو الثوب الذي سداه ولحمته حرير يعني الثوب المتخذ من الأبريسم. وذكر الإستبرق والديباج بعد الحرير مع تناوله لهما من باب ذكر الخاص بعد العام اهتماما بحكمهما أو دفعا لتوهم أن اختصاصها باسم يخرجهما عن حكم العام أو أن العرف فرق أسماءها لاختلاف مسمياتهما، فربما توهم متوهم أنهما غير الحرير. وقال القاري: الديباج هو الرقيق. وقيل: الحرير المركب من الأبريسم وغيره مع غلبة الأبريسم والمراد بها الأنواع والتفصيل لتأكيد التحريم (والميثرة الحمراء) بكسر الميم وسكون التحتية وفتح المثلثة بلا همز، فهي مفعلة من الوثار، يقال وثر يوثر بضم الثاء فيهما وثارة بفتح الواو فهو وثير أي وطيء لين وأصلها موثرة فقلبت الواو لكسرة الميم، جمعها مواثر ومياثر وهي من مراكب العجم تعمل من حرير أو ديباج وتتخذ كالفراش
والقسي، وآنية الفضة. ـ وفي رواية ـ وعن الشرب في الفضة. فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة))

(9/403)


الصغير، وتحشى بقطن أو صوف يجعلها الراكب تحته على الرحال والسروج، كذا في النهاية. وقيل: هي وطاء كانت النساء يصنعنه لأزواجهن على السروج، وكان من مراكب العجم، وتكون من الحرير، وتكون من الصوف وغير ذلك. وقيل: أغشية للسروج تتخذ من الحرير. وقيل: هي سروج من الديباج. قال الطيبي: وصفها بالحمراء، لأنها كانت الأغلب في مراكب الأعاجم يتخذونها رعونة- انتهى. والميثرة إن كانت من الحرير، كما هو الغالب فيما كان من عادتهم، فهي حرام، لأنه جلوس على الحرير واستعمال له وهو حرام على الرجال، سواء كان على رحل أو سرج أو غيرهما، وإن كانت ميثرة من غير الحرير فليست بحرام، ويكون النهي فيها للزجر عن التشبه بالأعاجم أو للسرف أو التزين لا للحمرة، لن الثوب الأحمر لا كراهة فيه وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس حلة حمراء، وبحسب ذلك تفصيل النهي بين التحريم والتنزيه (والقسي) بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة، فسرت في كتاب اللباس من صحيح البخاري بأنها ثياب يؤتي بها من الشام أو مصر مضلعة فيها حرير فيها أمثال الأترج. وقال الجزري: هو ثياب منسوجة من كتان مخلوط بحرير يؤتي بها من مصر، نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبا من تنيس يقال لها: القس بفتح القاف، وبعض أهل الحديث يكسرها. وقيل: أصل القسي القزى بالزاي منسوب إلى القز، وهو ضرب من الأبريسم. وقيل: هو ردى الحرير فأبدلت الزاي سينا. قال العيني: القس والتنيس وفرما كانت مدنا على ساحل بحر دمياط، غلب عليها البحر فاندثرت فكانت يخرج منها ثياب مفتخرة ويتاجر بها في البلاد- انتهى. وهذا القسي إن كان من حرير أو كان حريره أكثر من الكتان فالنهي عنه للتحريم وإلا فلكراهة التنزيه. قال ميرك: فإن قلت ما الفرق بين هذه الأربعة؟ قلت: الحرير اسم عام والديباج نوع منه والإستبرق نوع من الديباج والقسي ما يخالطه الحرير أو ردى الحرير، وفائدة ذكر الخاص بعد العام

(9/404)


بيان الاهتمام بحكمه ودفع توهم أن تخصيصه باسم مستقل ينافي دخوله تحت الحكم العام والإشعار بأن هذه الثلاثة غير الحرير نظرا إلى العرف وكونها ذوات أسماء مختلفة مقتضية لاختلاف مسمياتها (وآنية الفضة) والذهب أولى مع أنه صرح به في حديث آخر، وهي حرام على العموم للسرف والخيلاء. قال الخطابي: وهذه الخصال مختلفة المراتب في حكم العموم والخصوص والوجوب فتحريم خاتم الذهب وما ذكر معه من لبس الحرير والديباج خاص للرجال، وتحريم آنية الفضة عام للرجال والنساء لأنه من باب السرف والمخيلة (وفي رواية) أي لمسلم (وعن الشرب) بضم الشين وفي معناه الأكل (في الفضة) والذهب بالطريق الأولى (فإنه) أي الشأن (من شرب فيها في الدنيا) أي ثم مات ولم يتب (لم يشرب فيها في الآخرة) قال المظهر: أي من اعتقد حلها ومات عليه فإنه كافر، وحكم من لم يعتقد ذلك خلاف ذلك فإنه ذنب صغير غلظ وشدد للرد والارتداع- انتهى. قال الطيبي: قوله
متفق عليه.
1540 - (5) وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع)) رواه مسلم.

(9/405)


لم يشرب فيها كناية تلويحية عن كونه جهنميا فإن الشرب من أواني الفضة من دأب أهل الجنة لقوله تعالى: ?قوارير من فضة?[الدهر: 16] فمن لم يكن هذا دأبه لم يكن من أهل الجنة فيكون جهنميا فهو كقوله: إنما يجرجر في بطنه نار جهنم- انتهى. وقيل: الأولى أن يقال إنه لم يشرب فيها في الجنة وإن دخلها فيحرم من الشرب فيها في الجنة لشربه فيها في الدنيا، وظاهر الحديث تأييد التحريم فإن دخل الجنة شرب في جميع أوانيها إلا في آنية الفضة والذهب ومع ذلك لا يتألم لعدم الشرب فيها ولا يحسد من يشرب فيها ويكون حاله كحال أصحاب المنازل في الخفض والرفعة (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز والمظالم والنكاح والأشربة والمرضى واللباس والأدب والاستيذان والنذور، ومسلم في اللباس، واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا الترمذي في الاستيذان والأدب مطولا، وفي اللباس مختصرا، والنسائي في الجنائز والإيمان والنذور والزينة وابن ماجه في الكفارات واللباس مختصرا. ثم قوله: "متفق عليه" يشعر بأن قوله وعن الشرب في الفضة إلخ اتفق الشيخان على إخراجه والأمر ليس كذلك فإنه قد تفرد مسلم به ولم يخرجه البخاري.

(9/406)


1540- قوله:(إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم) أي زاره في مرضه (لم يزل في خرفة الجنة) بضم المعجمة وسكون الراء وفتح الفاء بعدها هاء هي الثمرة إذا نضجت، وقيل: ما يخترف ويجتنى من ثمار النخيل إذا أدركت أي لم يزل في التقاط فواكه الجنة واختراف مجتناها أو لم يزل في مواضع خرفتها أي في بساتينها شبه - صلى الله عليه وسلم - ما يحوزه ويحرزه عائد المريض من الثواب بما يحرزه المجتنى والمخترف من الثمر، وقيل: المراد بها هنا الطريق، والمعنى أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنة. قال الحافظ في الفتح: والتفسير الأول أولى، فقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد من هذا الوجه، وفيه قلت لأبي قلابة ما خرفة الجنة؟ قال جناها، وهو عند مسلم من جملة المرفوع- انتهى. وفي رواية لمسلم: عائد المريض في مخرفة الجنة حتى يرجع بفتح الميم والراء بينهما خاء معجمة ساكنة أي في بستانها. قال الشوكاني: بالخاء المعجمة على زنة مرحلة، وهي البستان، ويطلق على طريق اللاحب أي الواضح أي عائد المريض في بساتين الجنة وثمارها (حتى يرجع) أي الثواب حاصل للعائد من حين يذهب للعيادة حتى يرجع إلى محله ويعلم منه أن من كان طريقه أطول كان أكثر ثوابا وليس المراد المكث الكثير عند المريض لما علم أنه يطلب التخفيف في المكث عنده (رواه مسلم) في البر والصلة والأدب، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في الجنائز، والبخاري في الأدب المفرد والبيهقي (ج3ص380) وابن أبي شيبة.

(9/407)


1541- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني. قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني! قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما أنك لو سقيته وجدت

(9/408)


1541- قوله: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة) على لسان ملك أو بلا واسطة بلسان القال معاتبا لابن آدم بما قصر في حق أولياؤه (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني) بفتح المثناة الفوقية وضم العين وسكون الدال أي مرض عبدي الكامل الشديد القرب مني قرب مكانة إذ إسناد وصف العبد له تعالى دليل على ذلك، قاله الحفني وقال القاري: أراد مرض عبده وإنما أضاف إلى نفسه تشريفا لذلك العبد فنزله منزلة ذاته، والحاصل أن من عاد مريضا لله تعالى فكأنه زار الله- انتهى. وقال النووي: قال العلماء إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد تشريفا للعبد وتقريبا له (كيف أعودك) أي كيف تمرض حتى أعودك (وأنت رب العالمين) والرب المالك والسيد والمدبر والمربي والمنعم، وهذه الأوصاف تنافي المرض والنقصان والاحتياج والهلاك. قال القاري: حال مقررة لجهة الإشكال الذي يتضمنه كيف أي المرض إنما يكون للمريض العاجز وأنت القاهر القوي المالك، فإن قيل إن الظاهر أن يقال كيف تمرض مكان كيف أعودك؟ قلنا عدل عنه معتذرا إلى ما عوتب عليه وهو مستلزم لنفي المرض (أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده) أي لوجدت رضائي وثوابي وكرامتي. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى في تمام الحديث لو أطعمته لوجدت ذلك عندي أي ثوابه. قال الطيبي: في العبارة إشارة إلى أن العيادة أكثر ثوابا من الإطعام والإسقاء الآتيين حيث خص الأول بقوله لوجدتني عنده فإن فيه إيماء إلى أن الله تعالى أقرب إلى المنكسر المسكين- انتهى (استطعمتك) أي طلبت منك الطعام (كيف أطعمك وأنت رب العالمين) أي والحال أنك تطعم ولا تطعم (أما علمت أنه) أي الشأن (أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك) أي ثواب إطعامه (استسقيتك) أي طلبت منك الماء (فلم تسقني) بالفتح والضم في أوله (كيف أسقيك) بالوجهين (وأنت رب العالمين) أي مربيهم غير محتاج إلى شيء من الأشياء فضلا عن الطعام والماء (لو سقيته وجدت) بلا لام هنا إشارة على

(9/409)


جواز
ذلك عندي؟)) رواه مسلم.
1543 - (7) وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده، وكان إذا دخل على مريض يعوده قال: ((لا بأس، طهور إنشاءالله، فقال له: لا بأس، طهور إنشاءالله. قال: كلا، بل حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فنعم إذا))
حذفها لكن وقع في صحيح مسلم باللام كإخواته، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10:ص350) (ذلك عندي) فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وفي الحديث بيان أن الله تعالى عالم بالكائنات يستوي في علمه الجزئيات والكليات وأنه مبتل عباده بما شاء من أنواع الرياضات ليكون كفارة للذنوب ورفعا للدرجات العاليات (رواه مسلم) في البر والصلة والأدب.

(9/410)


1542- قوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي) بفتح الهمزة أي واحد من سكان البادية قيل: اسمه قيس بن أبي حازم، كما في ربيع الأبرار للزمخشري، فقال في باب الأمراض والعلل دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على قيس بن أبي حازم يعوده، فذكر القصة. قال الحافظ: إن كان هذا محفوظا فهو غير قيس بن أبي حازم أحد المخضرمين، لأن صاحب القصة مات في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في حال إسلامه فلا صحبة له ولكن أسلم في حياته ولأبيعه صحبة عاش بعده دهرا طويلا (يعوده) جملة حالية، قال ابن عباس (وكان) النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا دخل على مريض) حال كونه (يعوده قال) له (لا بأس) أي لا مشقة ولا تعب عليك من هذا المرض بالحقيقة. قال الحافظ: أي إن المرض يكفر الخطايا فإن حصلت العافية فقد حصلت الفائدتان وإلا حصل ربح التكفير (طهور) خبر مبتدأ محذوف أي هو طهور لك من ذنوبك أي مطهرة (إن شاء الله) يدل على أن قوله طهور دعاء لا خبر (فقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (له) أي للأعرابي (لا بأس) عليك هو (طهور) لك من ذنوبك أي مطهر لك (قال) أي الأعرابي مخاطبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أقلت طهور (كلا) أي ليس بطهور. وقال القاري: أي ليس الأمر كما قلت أو لا تقل هذا فإن قوله كلا محتمل للكفر وعدمه، ويؤيده كونه أعرابيا حلفا فلم يقصد حقيقة الرد والتكذيب ولا بلغ حد اليأس والقنوط (بل حمى) وفي البخاري: بل هي حمى، وهكذا نقله الجزري (ج7:ص403) (تفور) بالفاء أي يظهر حرها ووجهها وغليانها (على شيخ كبير) أي تغلى في بدنه كغلى القدور (تزبرة) بضم الفوقية وكسر الزاى من إزاره إذا حمله على الزيارة (القبور) نصب مفعول ثان، والهاء في أول والمعنى تبعثه إلى القبور (فنعم) بفتح العين (إذا) بالتنوين، وفي بعض النسخ: إذن كما في البخاري
رواه البخاري.

(9/411)


1543 - (8) وعن عائشة، قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى منا إنسان، مسحه بيمينه، ثم قال: ((اذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاءك،
في باب عيادة الأعراب. قال القسطلاني: الفاء مرتبة على محذوف وإذا جواب وجزاء. ونعم تقرير لما قال الأعرابي أي إذا أبيت فنعم أي كان كما ظننت. وقال الطيبي: يعني أرشدتك بقولي لا بأس عليك إلى أن الحمى تطهرك من ذنوبك فاصبر واشكر الله عليها فأبيت إلا اليأس والكفران فكان كما زعمت وما اكتفيت بذلك بل رددت نعمة الله وأنت مسجع به قاله غضبا عليه – انتهى. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون ذلك دعاء عليه، ويحتمل أن يكون خبرا عما يؤل إليه أمره. وقال غيره: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنه سيموت من ذلك المرض فدعا له بأن تكون الحمى له طهره لذنوبه فأصبح ميتا، ويحتمل أن يكون أعلم بذلك لما أجابه الأعرابي بما أجابه، وزاد الطبراني من حديث شرجيل والد عبدالرحمن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي إذا أبيت فهي كما تقول قضاء الله كائن فما أمسى من الغد إلا ميتا. وأخرجه الدولابي في الكنى وابن السكن في الصحابة، ولفظه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قضى الله فهو كائن فأصبح الأعرابي ميتا، وفائدة الحديث: أنه لا نقص على الإمام في عيادة مريض من رعيته ولو كان أعرابيا جافيا ولا على العالم في عيادة الجاهل ليعلمه ويذكره بما ينفعه ويأمره بالصبر لئلا يتسخط قدر الله فيسخط عليه ويسليه عن ألمه بل يغبطه بسقمه إلى غير ذلك من جبر خاطره وخاطر أهله. وفيه أنه ينبغي للمريض أن يتلقى موعظة العائدة بالقبول، ويحسن جواب من يذكره بذلك (رواه البخاري) في علامات النبوة والمرضى والتوحيد. وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة، والبيهقي (ج3:ص382-383).

(9/412)


1543- قوله: (إذا اشتكى) أي مرض (مسحه) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك المريض. وقيل: موضع الوجع تفاؤلا لزوال ذلك الوجع (بيمينه ثم قال) أي داعيا (اذهب البأس) أي أزل شدة المرض، والباس بغير همزة للمواخاة والازدواج فإن أصله الهمزة، وقيل: سهلت الهمزة بقلبها ألفا لانفتاح ما قبلها، وهي لغة لقريش (رب الناس) نصبا بحذف حرف النداء (واشف أنت الشافي) وفي رواية البخاري: واشفه وأنت الشافي. قال الحافظ: في رواية الكشمهيني بحذف الواو، والضمير في اشفه للعليل أو هي هاء السكت، ويؤخذ منه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن بشرطين:أحدهما أن لا يكون في ذلك ما يوهم نقصا، والثاني أن يكون له أصل في القرآن، وهذا من ذاك فإن في القرآن: ?وإذا مرضت فهو يشفين? (لا شفاء) بالمد مبنى على الفتح والخبر محذوف، والتقدير حاصل لنا أو للمريض ( إلا شفاءك) بالرفع على أنه بدل من موضع لا شفاء، وفي حديث أنس عند البخاري لا شافي إلا أنت، وفيه إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوى لا ينجع إن لم يصادف تقدير الله تعالى. وقال الطيبي: قوله لا شفاء خرج مخرج
شفاء لا يغادر سقما)) متفق عليه.
1544 - (9) وعنها، قالت كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة أو جرح، قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه: ((بسم الله، تربة أرضنا بريقة بعضنا،

(9/413)


الحصر تأكيدا لقوله: أنت الشافي، لأن خبر المبتدأ إذا كان معرفا باللام أفاد الحصر لأن تدبير الطبيب ونفع الدواء لا ينجع في المريض إذا لم يقدر الله الشفاء (شفاء) منصوب بقوله اشف على أنه مفعول مطلق ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني الشفاء المطلوب (لا يغادر) بالغين المعجمة أي لا يترك (سقما) بفتحتين ويجوز ضم ثم إسكان لغتان أي مرضا، والتنكير للتقليل، والجملة صفة لقوله "شفاء" وهو تكميل لقوله اشف، والجملتان معترضتان بين الفعل والمفعول المطلق، وفائدة قوله لا يغادر أنه قد يحصل الشفاء من ذلك المرض فيخلفه مرض آخر متولد منه فكان يدعو له بالشفاء المطلق لا بمطلق الشفاء. وفي الحديث: استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له. قال النووي: وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار، وهذا المذكور ههنا من أحسنها، وقد استشكل الدعاء للمريض بالشفاء مع ما في المرض من كفارة الذنوب والثواب كما تظافرت الأحاديث بذلك، والجواب أن الدعاء عبادة ولا ينافي الثواب والكفارة لأنهما يحصلان بأول مرض وبالصبر عليه والداعي بين حسنتين إما أن يحصل له مقصودة أو يعوض عنه بجلب نفع أو دفع ضرر وكل من فضل الله تعالى (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى في الطب،ومسلم في الطب، واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه في الطب.

(9/414)


1544- قوله: (وعنها قالت كان) إما زائدة أو فيها ضمير الشأن يفسره ما بعده (إذا اشتكى الإنسان الشيء) بالنصب على المفعولية أي شكا وجع العضو (منه) الضمير للإنسان أي من جسده (أو كانت به) أي بالإنسان (قرحة) بفتح القاف وضمها ما يخرج من الأعضاء مثل الدمل (أو جرح) بالضم كالجراحة بالسيف وغيره (قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بإصبعه) أي أشار بها قائلا، قاله القاري: قلت. وفي مسلم بعد قوله بإصبعه "هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها" والمعنى أنه كان يأخذ من ريقه على إصبعه شيئا ثم يضعها على التراب فيتعلق بها منه شيء فيمسح بها على الموضع الجريح، ويقول هذه الكلمات (بسم الله) أي أتبرك به (تربة أرضنا) أي هذه تربة أرضنا (بريقة بعضنا) أي ممزوجة بريقه. وهذا يدل على أنه كان يتفل عند الرقية، وفي رواية: وريقة بالواو بدل الموحدة. قال النووي: قال جمهور العلماء: المراد بأرضنا ههنا جملة الأرض، وقيل: أرض المدينة خاصة لبركتها والريقة أقل من الريق. قيل: وبعضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف
................................

(9/415)


ريقه فيكون ذلك مخصوصا، وفيه نظر، قال النووي: معنى الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا الكلام في حال المسح- انتهى. قلت: الظاهر أن هذا ليس مخصوصا بأرض المدينة ولا بريق النبي صلى الله عليه وسلم فالمراد بالأرض ههنا جملة الأرض وبالبعض كل من يرقى بذلك، فيجوز هذا بل يستحب فعله عند الرقية في كل مكان، وأما حكم نقل تراب الحرم المكي أو المدني ونقل حصاهما وأحجارهما للتبرك أو للدواء وحكم الاستشفاء بتراب المدينة فقد بسط القول فيه السمهودي في وفاء الوفاء (ص67-68-69-114-115-116-117) وفي بعض كلامه خدشات لا تخفى على متبع السنة. قال القرطبي: فيه دليل على جواز الرقى من كل الآلام وإن ذلك كان أمرا فاشيا معلوما بينهم، قال: ووضع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية ثم قال وزعم بعض العلماء أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرى الموضع الذي به الألم ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها قال وقال في الريق أنه يختص بالتحليل والانضاح وأبراء الجرح والألم لاسيما من الصائم الجائع، وتعقبه القرطبي: أن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يتعلق بها ما ليس له بال ولا أثر وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك أو لحكمة أخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة. وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضح وتبديل المزاج وتعديله ولتراب الوطن تأثير في حفظ المزاج الأصلي ودفع نكاية المضرات ولذا ذكر في تيسير المسافرين أنه ينبغي أن يستصحب المسافر تراب أرضه إن عجز

(9/416)


عن استصحاب ماءها حتى إذا ورد ماء غير ما اعتاده جعل شيئا منه في سقاءه وشرب الماء منها ليأمن من تغير مزاجه ثم أن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها- انتهى. وقال التوربشتي: الذي يسبق إلى الفهم من صنيعه ذلك، ومن قوله هذا: إن تربة أرضنا إشارة إلى فطرة آدم عليه السلام والريقة أشارة إلى النطفة التي خلق منها الإنسان، فكأنه يتضرع بلسان الحال ويعرض بفحوى المقال أنك اخترعت الأصل الأول من طين ثم أبدعت بنيه من ماء مهين فهين عليك أن تشفي من كان هذا شأنه وتمن بالعافية على من استوى في ملكك حياته ومماته- انتهى. وقد علم كل أناس مشربهم وكل إناء يرشح بما فيه. قال القاري، وقوله: بإصبعه في موضع الحال من فاعل قال وتربة أرضنا خبر مبتدأ محذوف أي هذه، والباء في بريقة متعلق بمحذوف، وهو خبر ثان أو حال والعامل معنى الإشارة أي قال النبي صلى الله عليه وسلم مشيرا بإصبعه: بسم الله هذه تربة أرضنا معجونة بريقة بعضنا، قلنا بهذا القول أو صنعنا هذا الصنيع
ليشفي سقيمنا، بإذن ربنا)) متفق عليه.
1545 - (10) وعنها، قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده،
(ليشفي) على بناء المفعول (سقيمنا) بالرفع نائب عن الفاعل. قال الطيبي: فعلى هذا بسم الله مقول القول صريحا ويجوز أن يكون بسم الله حالا أخرى متداخلة أو مترادفة على تقدير قال متبركا بسم الله، ويلزم منه أن يكون مقولا والمقول الصريح قوله تربة أرضنا- انتهى. وقال السندي: ليشفي علة للممزوج. قلت: وفي رواية يشفي بحذف اللام (بإذن ربنا) متعلق بيشفي أي بأمره على الحقيقة سواء كان بسبب دعاء أو دواء أو بغيره (متفق عليه) أخرجاه في الطب، اللفظ لمسلم، وأخرجه أيضا أبوداود وابن ماجه في الطب، والنسائي في اليوم والليلة.

(9/417)


1545- قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم) أي مرض وهو لازم وقد يأتي متعديا فيكون التقدير وجعا (نفث) بالمثلثة من باب ضرب ونصر أي أخرج الريح من فمه مع شيء من ريقه. وقيل: النفث نفخ لطيف بلا ريق (على نفسه بالمعوذات) بكسر الواو المشددة أي قرأها على نفسه ونفث الريق على بدنه، والمراد بالمعوذات سورة الفلق والناس والإخلاص فيكون من باب التغليب أو المراد المعوذتان (الفلق والناس) وكل ما ورد من التعويذ في القرآن كقوله تعالى ?وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم?[المؤمنون:97] وغير ذلك، أو المراد المعوذتان فقط، وجمع باعتبار أن أقل الجمع اثنان أو أطلق الجمع على التثنية مجازا أو الجمع باعتبار الآيات، وإنما اجتزا بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من المكروهات جملة وتفصيلا من السحر والحسد وشر الشيطان ووسوسته وغير ذلك وقيل المراد الكلمات المعوذات بالله من الشيطان والأمراض والآفات ونحوها (ومسح عنه) أي عليه وعلى أعضاءه (بيده) وقع عند البخاري في آخر الحديث بيان كيفية ذلك، ففيه قال معمر سألت ابن شهاب كيف كان ينفث قال ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعا ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده، فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك، وقال الطيبي: الضمير في عنه راجع إلى ذلك النفث والجار والمجرور حال أي نفث على بعض جسده ثم مسح بيده متجاوزا عن ذلك النفث إلى سائر أعضاءه. قال عياض: فائدة النفس التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشرة للرقية والذكر الحسن كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر، وقد يكون على سبيل التفاؤل بزوال

(9/418)


فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه.كنت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم)) .متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قالت: كان إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذات.
1546- (11) وعن عثمان بن أبي العاص، أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضع يدك
ذلك الألم عن المريض كانفصال ذلك عن الراقي- انتهى. (فلما أشتكى) أي النبي صلى الله عليه وسلم (وجعه) بالنصب أي مرضه (الذي توفي فيه) صلى الله عليه وسلم (كنت أنفث عليه) وفي البخاري في هذه الرواية: طفقت أنفث على نفسه، ولأبي ذر: أنفث عنه (بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي - صلى الله عليه وسلم -) لبركتها، وفي الحديث دلالة على أن الرقية والنفث بكلام الله سنة. قال النووي: فيه استحباب النفث في الرقية، وقد أجمعوا على جوازه، واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال الحافظ: قد أجمع العلماء على جواز الرقي عند إجتماع ثلاثة شروط أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسماءه وصفاته وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله. قلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين قال نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله- انتهى. وفي الموطأ: أن أبابكر قال لليهودية التي كانت ترقى عائشة أرقيها بكتاب الله. وروى ابن وهب عن مالك كراهية الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان وقال لم يكن ذلك من أمر الناس القديم (متفق عليه) أخرجه البخاري في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فضائل القرآن وفي الطب. وأخرجه مسلم في الطب، واللفظ البخاري في الوفاة النبوية، وأخرجه أيضا مالك في كتاب الجامع من الموطأ وأبوداود وابن ماجه في الطب

(9/419)


(وفي رواية لمسلم قالت كان إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذات) لم يذكر المسح فيحتمل أنه كان يفعله وتركت ذكره للعلم به من النفث، ويحتمل أنه كان يتركه أحيانا اكتفاء بالنفث والأظهر الأول والجمع أفضل.
1546- قوله: (أنه شكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعا يجده في جسده) أي في بدنه، ويؤخذ منه جواز شكاية ما بالإنسان لمن يتبرك به رجاء لبركة دعاءه (ضع) أمر من الوضع (يدك) وفي رواية مالك والترمذي وأبي داود: أمسحه بيمينك، وعند ابن ماجه: إجعل يدك اليمنى عليه وللطبراني والحاكم: ضع يمينك على المكان
على الذي يألم من جسدك، وقل: بسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شرما أجد وأحاذر، قال: ففعلت، فأذهب الله ما كان بي)) رواه مسلم.
1547- (12) وعن أبي سعيد الخدري، أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! اشتكيت؟ فقال: نعم، قال: ((بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد،

(9/420)


الذي تشتكي فامسح بها سبع مرات (على الذي يألم) أي على الموضع الذي يوجع (من جسدك) فيه استحباب وضع اليد اليمنى على موضع الألم مع الدعاء (وقل بسم الله ثلاث وقل سبع مرات) إلخ. قال الشوكاني في الأعداد: التي ترد في مثل هذا الحديث سر من أسرار النبوة، وليس لنا أن نطلب العلة، والسبب الذي يقتضيه كما في إعداد الركعات والانصباء والحدود (أعوذ بعزة الله) أي بعظمته وغلبته (من شر ما أجد) أي من الوضع (وأحاذر) أي أخاف وأحترز، وصيغة المفاعلة للمبالغة. قال الطيبي: تعوذ من وجع هو فيه ومما يتوقع حصوله في المستقبل من الحزن والخوف، فإن الحزن هو الاحتراز عن مخوف، وللترمذي في الدعوات وحسنه والحاكم وصححه عن محمد بن سالم قال: قال لي ثابت البناني: يا محمد! إذا اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي ثم قل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شرما أجد من وجعي ثم أرفع يدك ثم أعد ذلك وترا. قال فإن أنس بن مالك حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بذلك (قال) أي عثمان (ففعلت) أي ما قال لي (فاذهب الله ما كان بي) من الوجع والألم ببركة الامتثال، زاد في رواية مالك والترمذي وأبي داود بعده "فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم" (رواه مسلم) في الطب وأخرجه مالك في كتاب الجامع والترمذي وأبوداود وابن ماجه في الطب والنسائي في اليوم والليلة والحاكم في الجنائز (ج1:ص343) وابن أبي شيبة في مصنفه.

(9/421)


1547- قوله: (أشتكيت) ففتح الهمزة للإستفهام، وحذف همزة الوصل. وقيل: بالمد على إثبات همزة الوصل وأبدالها ألفا. وقيل: بحذف الاستفهام، قاله القاري (فقال نعم قال) أي جبرئيل (بسم الله أرقيك) بفتح الهمزة وكسر القاف مأخوذ من الرقية أي أعوذك (من كل شيء يؤذيك) بالهمزة ويبدل أي من أنواع المرض (من شر كل نفس) أي خبيثة (وعين) بالتنوين فيهما. وقيل: بالإضافة. وقيل: بالتنوين في الأول، وبالإضافة في الثاني (حاسد) وأو تحتمل الشك والأظهر أنها للتنويع. قال النووي: قيل يحتمل أن المراد بالنفس نفس الآدمي. وقيل: يحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق على العين، ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه، كما قال في الرواية الأخرى من شر كل ذي عين ويكون قوله أو عين حاسد من باب التوكيد بلفظ
الله يشفيك، بسم الله أرقيك)) رواه مسلم.
1548 - (13) وعن ابن عباس، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين: ((أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة،
مختلف أو شكا من الراوي في لفظه- انتهى. (ألله يشفيك) يجوز أن يكون بفتح حرف المضارعة، ويجوز أن يكون بضمة من أشفاءه (بسم الله أرقيك) كرره للمبالغة وبدأ به وختم به إشارة إلى أنه لا نافع إلا هو (رواه مسلم) في الطب، وأخرجه أيضا الترمذي في الجنائز، والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه في الطب، وروى مسلم من حديث عائشة أنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبرئيل عليه السلام قال: بسم الله يبريك ومن كل داء يشفيك من شر حاسد إذا حسد وشر كل ذي عين.

(9/422)


1548- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوذ) بتشديد الواو المكسورة بعدها ذال معجمة من التعويذ (الحسن والحسين) ابني فاطمة أي يرقيهما. وقيل: يدعو لهما بالحفظ، ويطلب لهما من الله عصمة (أعيذكما) أي يقول أعيذكما، وهو تفسير وبيان ليعوذ، وهذا لفظ أحمد والترمذي وأبي داود والنسائي، ولفظ البخاري: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، ويقول إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق أعوذ (بكلمات الله) قيل: المراد بها كلامه على الإطلاق أو المعوذتان أو القرآن. وقيل: أسماءه وصفاته (التامة) صفة لازمة أي الكاملة أو النافعة أو الشافية أو المباركة أو الوافية في دفع ما يتعوذ منه. وقال الجزري: إنما وصف كلامه بالتمام لأنه لا يجوز أن يكون في شيء من كلامه نقص أو عيب كما يكون في كلام الناس. وقيل: معنى التمام ههنا أنها تنفع المتعوذ بها وتحفظه من الآفات وتكفيه- انتهى. قال الخطابي في المعالم: كان أحمد بن حنبل يستدل بقوله بكلمات الله التامة على أن القرآن غير مخلوق وما من كلام مخلوق إلا وفيه نقص فالموصوف منه بالتمام هو غير مخلوق وهو كلام الله سبحانه ويحتج أيضا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستعيذ بمخلوق (من كل شيطان) أنسى وجنى (وهامة) بالتنوين وهي بتشديد الميم واحدة الهوام التي تدب على الأرض وتؤذي الناس. وقيل: هي ذوات السموم. قال الشوكاني: والظاهر أنها أعم من ذوات السموم لما ثبت في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: أيؤذيك هوام رأسك. وقال الجزري: الهامة كل ذات سم يقتل، والجمع الهوام، فأما ما يسم ولا يقتل فهو السامة كالعقرب والزنبور، وقد يقع الهوام على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات- انتهى. وقيل المراد كل نسمة تهم بسوء (ومن كل عين ) بالتنوين (لامه) بتشديد الميم أيضا أي ذات لمم، واللمم كل داء يلم من خبل أو جنون أو نحوهما أي من كل عين تصيب بسوء، ويجوز أن تكون على

(9/423)


ظاهرها بمعنى جامعة للشر على المعيون من لمه إذا
ويقول: إن أبا كما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق)) رواه البخاري. وفي أكثر نسخ المصابيح "بهما" على لفظ التثنية.
1549- (14) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيرا يصب منه))
جمعه. وقال في الصحاح: العين اللامه هي التي تصيب بسوء اللمم طرف من الجنون ولامه أي ذات لمم، وأصلها من الممت بالشيء إذا نزلت به. وقيل: لامه لازدواج هامة والأصل ملمة لأنها فاعل الممت - انتهى. وقال الجزري: اللمم طرف من الجنون يلم بالإنسان أي يقرب منه ويعتريه، ومنه حديث الدعاء أعوذ بكلمات الله التامة من شر كل سامة ومن كل عين لامه أي ذات لمم ولذلك لم يقل ملمة وأصلها من الممت بالشيء ليزاوج قوله من شر كل سامة أي لكونه أخف على اللسان (ويقول) لهما (أن أباكما) يريد إبراهيم عليه السلام وسماه أبا لكونه جدا أعلى (كان يعوذ بها) أي بهذه الكلمات (إسماعيل وإسحاق) ابنيه (رواه البخاري) في الأنبياء وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص235-269) والترمذي في الطب وأبوداود في باب القرآن من كتاب السنة والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه في الطب (وفي أكثر نسخ المصابيح بهما على لفظ التثنية) قال الطيبي: الظاهر أنه سهو من الناسخ - انتهى. قلت: قد وقع في بعض روايات البخاري بهما بالتثنية، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج5:ص132) قال القسطلاني: ولأبي الوقت وابن عساكر بهما بلفظ التثنية - انتهى. وكذا وقع بلفظ التثنية في بعض نسخ السنن لأبي داود كما في عون المعبود، وتأوله القاري بأن كلمات الله مجاز من معلومات الله ومما تكلم به سبحانه من الكتب المنزلة أو الأولى جملة المستعاذ به والثانية جملة المستعاذ منه، ولا يخفى ما في من التكلف.

(9/424)


1549- قوله: (من يرد الله به خيرا يصب) بضم التحتية وكسر الصاد المهملة، وعليه عامة المحدثين، والفاعل الله، أي ينل الله تعالى (منه) أي من ذلك الشخص المعبر عنه بمن، فالضمير المجرور لمن أي يبتليه الله تعالى بالمصائب ليثيبه عليها. وقيل: الفاعل الضمير الراجع لمن، وضمير منه راجع للخير أي يحصل له من ذلك الخير، فهذا علامة أرادة الله له الخير. وقيل: الفاعل الله وقوله منه بمعنى لأجله، وضميره عائد إلى الخير أي يجعله الله ذا مصيبة لأجل ذلك الخير، وروى بفتح الصاد. قال ابن الخشاب: وهو أحسن وأليق. وقال الطيبي: أنه أليق الأدب كما قال تعالى: ?وإذا مرضت فهو يشفين?[الشعراء:80] والمعنى يصير ذا مصيبة أي يوصل له المصائب عن الله، فضمير يصب حينئذ راجع لمن، وضمير منه راجع لله. وقال ميرك: يصب مجزوم
رواه البخاري.
1550 -1551- (15-16) وعنه، وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة
لأنه جواب الشرط أي من يرد الله به خيرا أوصل إليه مصيبة فمن للتعدية يقال أصاب زيد من عمرو أي أوصل إليه مصيبة ليطهره بها من الذنوب وليرفع درجته، قال الحافظ: ويشهد للكسر ما أخرجه أحمد من حديث محمود بن لبيد رفعه إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع، فله الجزع ورواته ثقات إلا أن محمود بن لبيد، اختلف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه وهو صغير، وله شاهد من حديث أنس عند الترمذي وحسنه (رواه البخاري) في المرضى وأخرجه أيضا مالك (ج2:237) وأحمد والنسائي في الكبرى.

(9/425)


1550-1551- قوله: (وعنه) أي عن أبي هريرة (وعن أبي سعيد) أي الخدري (ما يصيب المسلم) ما نافية ومن زائدة للاستغراق في قوله (من نصب ولا وصب) بفتحتين فيهما والأول التعب والألم الذي يصيب البدن من جراحة وغيرها والثاني الوجع اللازم والمرض الدائم، ومنه قوله تعالى ?ولهم عذاب واصب?[ الصافات:9] أي لازم ثابت (ولا هم) بفتح الهاء وتشديد الميم (ولا حزن) بضم الحاء وسكة الزاى بفتحهما. قال الحافظ: هما من أمراض الباطن ولذلك ساغ عطفهما على الوصب. وقيل: ألهم يختص بما هو آت والحزن بما مضى، وقيل: ألهم الحزن الذي يهم الرجل أي يذيبه من هممت الشحم إذا أذبته فانهم، ويقال: هم السقم جسمه أذابه وأذهب لحمه، والحزن هو الذي يظهر من في القلب حزونة أي خشونة وضيق يقال مكان حزن أي خشن وبهذا الاعتبار قيل خشنت صدره أي حزنته، وعلى هذا فالهم أخص وأبلغ في المعنى من الحزن (ولا أذى) هو أعم مما تقدم، وقيل: هو خاص بما يلحق الشخص من تعدي غيره عليه (ولا غم) بالغين المعجمة ولا لتأكيد النفي في كلها، وهو أيضا من أمراض الباطن، وهو ما يضيق على القلب. وقيل: هو الحزن الذي يغم الرجل أي يصيره بحيث يقرب أن يغمى عليه، والحزن أسهل منه. قال الحافظ: وقيل في هذه الأشياء الثلاثة، وهي الهم والغم والحزن أن الهم ينشأ عن الفكر فيما يتوقع حصوله مما يتأذى به، والغم كرب يحصل للقلب بسبب ما حصل، والحزن يحدث لفقد ما يشق على المرأ فقده. وقيل: الهم والغم بمعنى واحد. قال الترمذي: سمعت الجارود يقول سمعت وكيعا يقول إنه لم يسمع في الهم أنه كفارة إلا في هذا الحديث (حتى الشوكة) بالرفع فحتى ابتدائية، والجملة بعد الشوكة خبرها وبالجر فحتى عاطفة أو بمعنى إلى فما بعدها حال. وقال الزركشي
يشاكها، إلا كفر الله بها خطاياه)) متفق عليه.
1552 - (17) وعن عبدالله بن مسعود، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فمسسته بيدي،

(9/426)


بالنصب على أنه مفعول فعل مقدر أي حتى يجد الشوكة (يشاكها) بضم أوله أي يشوكه غيره بها، ففيه وصل الفعل لأن الأصل يشاك بها. قال في الكشاف: شكت الرجل شوكة أدخلت في جسده شوكة وشيك على ما لم يسم فاعله يشاك شوكا- انتهى. وقال السفاقسي: حقيقة قوله يشاكها أن يدخلها غيره في جسده يقال شكته أشوكه. قال الأصمعي: يقال شاكتني تشوكني إذا دخلت هي ولو كان المراد هذا لقيل تشوكه ولكن جعلها مفعولة، وهذا يرده ما في مسلم من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ولا يصيب المؤمن شوكة فأصاب الفعل إليها، وهو الحقيقة ولكنه لا يمنع إرادة المعنى الأعم، وهو أن تدخل هي بغير إدخال أحد أو بفعل أحد، قاله القسطلاني وقيل: فيه أي في يشاكها ضمير المسلم أقيم مقام فاعله و"ها" ضمير الشوكة أي حتى الشوكة يشاك المسلم تلك الشوكة أي تجرح أعضاءه بشوكة، والشوكة ههنا للمرة من شاكة ولو أراد واحدة النبات لقال يشاك بها والدليل على أنها المرة من المصدر جعلها غاية للمعاني، كذا قال القاري (إلا كفر الله من خطاياه) ظاهره تعميم جميع الذنوب، لكن الجمهور خصوا ذلك بالصغائر لحديث الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر فحملوا المطلقات الواردة في التفكير على هذا المقيد، كذا في الفتح ولابن حبان من حديث عائشة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة وهذا يقتضي حصول الأمرين معا حصول الثواب ورفع العقاب وشاهده عند الطبراني في الأوسط من وجه آخر عن عائشة بلفظ ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عنه خطيئة وكتب له حسنة ورفع له درجة وسنده جيد (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في الأدب، واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (ج4:ص70) والبيهقي (ج3:ص373) وأخرجه الترمذي في الجنائز عن أبي سعيد متفردا نحوه. وقال: قد روى بعضهم هذا الحديث عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم

(9/427)


- وصرح الجزري في جامع الأصول (ج10ص354) بإخراج البخاري، ومسلم والترمذي عنهما جميعا، ثم قال: وذكره الحميدي في مسند أبي هريرة.
1552- قوله: (دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك) الواو للحال ويوعك بفتح العين المهملة من وعكته الحمى أي اشتدت عليه وآذته، والوعك بفتح الواو وسكون العين المهملة وقد تفتح وهي الحمى. وقيل: ألمها وقيل: تعبها. وقيل: إرعادها الموعوك. وقيل: حرارتها (فمسسته بيدي) في الصحاح مسست الشيء بالكسر
فقلت: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكا شديدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قال: فقلت: ذلك لأن لك أجرين؟ فقال: أجل، ثم قال: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله تعالى به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها)) متفق عليه.

(9/428)


امسه هي اللغة الفصيحة، وحكى أبوعبيد مسست بالفتح امسه بالضم (إنك لتوعك وعكا شديدا) قال القاري: هو بيان للواقع (فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجل) أي نعم وزنا ومعنى إني (أوعك) على بناء المجهول أي يأخذني الوعك (كما يوعك) يعني أحم كما يحم (رجلان منكم) قال ابن مسعود (فقلت ذلك) أي تضاعف الحمى (لأن) وفي البخاري بأن، وكذا نقله الجزري (ج10:ص355) وفي مسلم: إن بغير الموحدة أو اللام (لك أجرين) قال القاري: يحتمل أن يكون المراد بالتثنية التكثير (فقال) النبي - صلى الله عليه وسلم - (أجل) أي نعم وفي البخاري بعد هذا "ذلك كذلك" وذلك إشارة إلى مضاعفة الأجر بشدة الحمى وتضاعفها (ما من مسلم يصيبه الأذى) أي ما يؤذيه ويتعبه (من مرض فما سواه) أي فما دونه أو غيره مما تتأذى به النفس. وفي رواية للبخاري: ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها. قال الحافظ: شوكة بالتنكير للتقليل ليصح ترتب قوله فما فوقها ودونها في العظم والحقارة عليه بالفاء، وهو يحتمل وجهين فوقها في العظم ودونها في الحقارة وعكس ذلك (إلا حط الله تعالى به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) بالنصب على المفعولية وتحط بفتح أوله وضم المهملة وتشديد الطاء المهملة أي تلقيه الشجرة منتشرا. قال الحافظ: والحاصل أنه أثبت أن المرض إذا اشتد ضاعف الأجر ثم زاد عليه بعد ذلك أن المضاعفة تنتهي إلى أن تحط السيئات كلها أو المعنى قال: نعم شدة المرض ترفع الدرجات وتحط الخطيئات أيضا حتى لا يبقى منها شيء ويشير إلى ذلك حديث سعد عند الدارمي والنسائي في الكبرى،و صححه الترمذي وابن حبان حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئه - انتهى. قال الطيبي: شبه حالة المريض وإصابة المرض جسده ثم محو السيئآت عنه سريعا بحالة الشجر وهبوب الرياح الخريفية وتناثر الأوراق منها وتجردها عنها فهو تشبيه تمثيل لانتزاع الأمور المتوهمة في المشبه من المشبه به فوجه التشبيه الإزالة الكلية على سبيل

(9/429)


السرعة لا الكمال والنقصان، لأن إزالة الذنوب عن الإنسان سبب كماله وإزالة الأوراق عن الشجر سبب نقصانها- انتهى كلام الطيبي. وفي الحديث بشارة عظيمة لأن كل مسلم لا يخلو عن كونه متأذيا (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في الأدب، واللفظ له، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص381-441-445) والبيهقي (ج3:ص372) وابن أبي شيبة (ج4:ص70).
1553- (18) عن عائشة، قالت: ((ما رأيت أحدا الوجع عليه أشد من رسول الله صلى الله عليه وسلم )) متفق عليه.
1554- (19) وعنها، قالت: ((مات النبي صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم))
1553- قوله: (ما رأيت أحدا الوجع) بالرفع، قال العلماء: الوجع ههنا المرض، والعرب تسمى كل مرض وجعا، ذكره النووي (عليه أشد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي من وجعه. قال الطيبي: الوجع مبتدأ وأشد خبره، والجملة بمنزلة المفعول الثاني لرأيت أي ما رأيت أحدا أشد وجعا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في الأدب، واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضا الترمذي في الزهد وابن ماجه في الجنائز.

(9/430)


1554- قوله: (مات النبي - صلى الله عليه وسلم - بين حاقنتي) بالحاء المهملة والقاف المكسورة والنون المفتوحة الوهدة المنخفضة بين الترقوتين. وقيل: النقرة بين الترقوة وحبل العاتق. وقيل: ما دون الترقوة من الصدر (وذاقنتي) بالذال المعجمة والقاف المكسورة الذقن. وقيل: طرق الحلقوم.و قيل: ما يناله الذقن من الصدر. وقال الجزري في جامع الأصول (ج11:ص482) الحاقنة ما سف من البطن والذاقنة طرق الحلقوم الناتئ. وقيل: الحاقنة المطمئن من الترقوة والحلق والذاقنة نقرة الذقن- انتهى. وفي رواية للبخاري: توفى في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحرى، والسحر بفتح المهملة وسكون الحاء المهملة هو الصدر، وفي الأصل الرئة والنحر بفتح النون وسكون المهملة، والمراد به موضع النحر، والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر والنحر، والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنها، وهذا لا يعارض حديثها أن رأسه كان على فخذها لاحتمال أنها رفعته عن فخذها إلى صدرها. وأما ما رواه الحاكم وابن سعد من طرق أنه - صلى الله عليه وسلم - مات ورأسه في حجر علي، ففي كل طريق من طرقه شيعي، فلا يحتج به، وقد بين حالها الحافظ في الفتح من أحب الاطلاع عليه رجع إليه (فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -) يعني ظننت شدة الموت تكثرة الذنوب وظننتها من علامة الشقاوة وسوء حال الرجل عند الله وهذا قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيت شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم علمت أن شدة الموت ليست بعلامة الشقاوة ولا بعلامة سوء حال الرجل ولا من المنذرات بسوء العاقبة، لأنه لو كان كذلك لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الموت بل شدة الموت لرفع الدرجة وتضعيف الأجر ولتطهير الرجل من الذنوب فإذا كان كذلك فلا أكره شدة الموت لأحد بعد ما علمت هذا
رواه البخاري.

(9/431)


1555 - (20) وعن كعب بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح، تصرعها مرة وتعدلها أخرى،
(رواه البخاري) في مواضع بألفاظ، واللفظ المذكور له في باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - في أواخر المغازي وأخرجه أيضا النسائي في الجنائز.
1555- قوله: (مثل المؤمن كمثل الخامة) وفي مسلم: مثل الخامة، وهي بالخاء المعجمة والميم المخففة الطاقة الغضة الطريقة اللينة (من الزرع) وألفها منقلبة عن الواو. قال الجزري في جامع الأصول (ج1:ص307) الخامة من النبات الغضة الرطبة اللينة – انتهى. وقيل: الخامة هي الزرع أول ما ينبت على ساق واحد، ووقع عند أحمد في حديث جابر: مثل المؤمن مثل السنبلة تستقيم مرة وتخر أخرى، وله في حديث لأبي بن كعب: مثل المؤمن مثل الخامة تحمر مرة وتصفر أخرى (تفيئها) بتشديد الياء المكسورة وهمزة بعدها، وقيل بكسر الفاء وسكون الياء أي تميلها وتحركها (الرياح) يعني تميلها كذا وكذا حتى ترجع من جانب إلى جانب. قال النووي: تميلها وتفيئها بمعنى واحد، ومعناه تقلبها الريح يمينا وشمالا- انتهى. قال التوربشتي: وذلك أن الريح إذا هبت شمالا أمالت الخامة إلى الجنوب فصار فيئها في الجانب الجنوبي، وإذا هبت جنوبا صار فيئها في الجانب الشمالي (تصرعها) بفتح الراء بيان لما قبله أي تسقطها. قال الجزري: أي ترميها وتلقيها من المصارعة. وقال النووي: أي تخفضها (وتعدلها) بفتح التاء وسكون المهملة وكسر الدال المخففة وبضم التاء أيضا وفتح المهملة وتشديد الدال المكسورة أي ترفعها وتقيمها وتسويها (أخرى) أي تارة أخرى، وعند مسلم في هذه الرواية مرة. قال الحافظ: وكان ذلك باختلاف الريح فإن كانت شديدة حركتها فمالت يمينا وشمالا حتى تقارب السقوط وإن كانت ساكنة أو إلى السكون أقر إقامتها، ووقع في رواية لمسلم حتى تهيج. قال الحافظ: أي حتى تستوي ويكمل نضجها. وقال النووي: أي

(9/432)


تيبس. وقال الجزري: هاج النبات يهيج هيجا إذا أخذ في الجفاف والاصفرار بعد الغضاضة والاخضرار. قال المهلب: ووجه التشبيه أن المؤمن من حيث أنه جاءه أمر الله أن طاع له ورضى به، فإن وقع له خير فرح به وشكر، وإن وقع له مكروه صبر ورجا فيه الخير والأجر، فإذا اندفع عنه اعتدل شاكرا. قال أبوالفرج ابن الجوزي: والناس في ذلك على أقسام: منهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء، ومنهم من يرى أن هذا من تصرف المالك في ملكه فيسلم ولا يعترض، ومنهم من تشغله المحبة عن طلب رفع البلاء وهذا أرفع من سابقه، ومنهم من يتلذذ به وهذا أرفع الأقسام، لأنه عن اختياره نشأ. وقال الزمخشري في الفائق: قوله من الزرع صفة للخامة؛ لأن التعريف في
حتى يأتي أجله، ومثل المنافق كمثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة)) متفق عليه.

(9/433)


الخامة للجنس، وتفيئها يجوز أن يكون صفة أخرى للخامة وأن يكون حالا من الضمير المتحول إلى الجار والمجرور. وهذا التشبيه يجوز أن يكون تمثيليا فيتوهم للمشبه ما للمشبه به وأن يكون معقولا بأن تؤخذ الزبدة من المجموع. وفيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي له أن يرى نفسه في الدنيا عارية معزولة عن استيفاء اللذات والشهوات معروضة للحوادث والمصيبات مخلوقة للآخرة؛ لأنها جنته ودار خلوده (حتى يأتي) وفي بعض النسخ: يأتيه كما في صحيح مسلم (أجله) أي يموت (ومثل المنافق) وفي رواية لمسلم:ومثل الكافر، وبهذا يظهر أن المراد بالمنافق في رواية الكتاب نفاق الكفر (كمثل الأرزة) بفتح الهمزة والزاى بينهما راء ساكنة هذا هو المشهور في ضبطها وهو المعروف في الروايات وكتب الغريب. وذكر الجوهري وصاحب نهاية الغريب: أنها تقال أيضا بفتح الراء قال في النهاية: وقال بعضهم يعني أباعبيدة أنما هو الآرزة بالمد وكسر الراء على وزن فاعلة ومعناها الثابتة في الأرض، ورده أبوعبيد بأن الرواة اتفقوا على عدم المد، وإنما اختلفوا في سكون الراء وتحريكها والأكثر على السكون، قيل: هي واحدة شجر الأرز وهو شجر معروف يقال له الأرزن يشبه شجر الصنوبر وليس به يكون بالشام وبلاد الأرمن وهو الشجر الذي يعمر طويلا ويكثر وجوده في جبال لبنان، وقيل: هو شجر الصنوبر والصنوبر ثمرته وهو شجر صلب شديد الثبات في الأرض. وقيل: هو شجر الصنوبر الذكر خاصة، وقيل: هو شجر العرعر (المجذية) بميم مضمومة ثم جيم ساكنة ثم ذال معجمة مكسورة ثم ياء تحتية أي الثابتة المنتصبة القائمة من جذا يجذوا وأجذى يجذى لغتان أي ثبت قائما والجذاة أصول الشجر العظام (التي لا يصيبها شيء) أي من الميلان باختلاف الرياح. وفي رواية لمسلم: المجذية على أصلها لا يفيئها شيء (حتى يكون انجعافها) بسكون النون وكسر الجيم بعدها عين ثم ألف ثم فاء أي انقطاعها وإنقلاعها. وقيل: انكسارها من وسطها أو أسفلها وهو

(9/434)


مطاوع جعف تقول: جعفته فانجعف مثل قلعته فانقلع (مرة واحدة) وجه التشبيه أن المنافق لا يتفقده الله باختياره بل يحصل له التيسير في الدنيا ليتعسر عليه الحال في المعاد حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمة فيكون موته أشد عذابا وعليه أكثر ألما في خروج نفسه. وقيل: المعنى أن المؤمن يتلقى الأعراض الواقعة عليه لضعف حظه من الدنيا فهو كأوائل الزرع شديد الميلان لضعف ساقه والمنافق بخلاف ذلك وهذا في الغالب من حال الاثنين (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في التوبة، واللفظ له، وأخرجه أيضا أحمد (ج6:ص386) والنسائي في الكبرى.
1556-(21) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، لا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تستحصد)) متفق عليه.
1557- (22) وعن جابر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم السائب

(9/435)


1556- قوله: (كمثل الزرع) وفي مسلم: مثل الزرع. وفي البخاري: كمثل الخامة من الزرع وفي رواية له: كمثل خامة الزرع. وفي الترمذي: كمثل الزرع (لا تزال الريح) اللام للجنس. وفي الترمذي: الرياح (تميله) بتشديد الياء وبتخفيفها (لا يزال المؤمن يصيبه البلاء) قال الطيبي: التشبيه إما تمثيلي، وإما مفرق، فيقدر للمشبه معان بإزاء ما للمشبه به، وفيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي له أن يرى نفسه عارية معزولة عن استعمال اللذات معروضة للحوادث والمصيبات مخلوقة للآخرة؛ لأنها دار خلود (لا تهتز) أي لا تتحرك (حتى تستحصد) على بناء المفعول. وقال ابن الملك: بصيغة الفاعل أي يدخل وقت حصادها فتقطع- انتهى. وقال النووي: بفتح أوله وكسر الصاد كذا ضبطنا، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين، وبعضهم بضم أوله وفتح الصاد على ما لم يسم فاعله، والأول أجود أي لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة كالزرع الذي انتهى يبسه. قال معنى الحديث: أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفر لسيئاته ورافع لدرجاته. وأما المنافق والكافر فقليلها وإن وقع به شيء لم يكفر شيئا من سيئاته بل يأتي بها يوم القيامة كاملة (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى وفي التوحيد ومسلم في التوبة واللفظ له وأخرجه أيضا أحمد (ج2ص234، 284، 285) والترمذي في الأمثال ولفظ البخاري في التوحيد: مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها فإذا سكنت اعتدلت وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء ومثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء.

(9/436)


1557- قوله: (دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أم السائب) وفي مسلم بعد ذلك "أو أم المسيب" وفي البيهقي: دخل على أم السائب أو أم المسيب، وهي ترفرف. قال ابن عبدالبر: أم السائب الأنصارية روى عنها أبوقلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحمى. وقال بعضهم: فيها أم المسيب- انتهى. قلت: أخرجه أبونعيم بلفظ: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من الأنصار يقال لها أم المسيب فذكر نحو حديث الباب، وأخرجه ابن مندة فقال: أم السائب جزما، وأسنده من طريق الثقفي عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أم السائب، فذكر الحديث نحوه. قال الحافظ: ولم أر في شيء من طرقه أنها أنصارية بل
فقال: مالك تزفزفين؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد)). رواه مسلم.
1558- (23) وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر، كتب له

(9/437)


ذكرها ابن كعب في قبائل العرب بين المهاجرين والأنصار (فقال مالك تزفزفين) وفي مسلم والبيهقي وابن سعد وأبي يعلى: مالك يا أم السائب أو يا أم المسيب إلخ. وتزفزفين بالزايين بصيغة المعلوم والمجهول فإنه لازم ومتعد. قال القاري في نسخة صحيحة: بالراءين المهملتين على بناء الفاعل. قال الطيبي: رفرف الطائر بجناحيه إذا بسطهما عند السقوط على شيء والمعنى مالك ترتعدين، ويروي بالزاء من الزفزفة وهي الارتعاد من البرد والمعنى ما سبب هذا الارتعاد الشديد. وقال النووي: تزفزفين بزائين معجمتين وفائين والتاء مضمومة هذا هو الصحيح المشهور في ضبط هذه اللفظة، وادعى القاضي أنها رواية جميع رواة مسلم. ووقع في بعض نسخ بلادنا بالراء والفاء ومعناه تتحركين حركة شديدة أي ترعدين- انتهى. وقال المنذري: روى برائين وبزائين ومعناهما متقارب وهو الزعدة التي تحصل للمحموم، ونقله الجزري في جامع الأصول (ج10ص355) تزفزفين بالزايين وقال أصل الزفيف الحركة السريعة ومنه زف الظليم إذا أسرع حتى يسمع لجناحه حركة فكأنه سمع ما عرض لها من رعدة الحمى هذا على من رواه بالزاي المعجمة ومن رواه بالراء المهملة فعنى به زفزفة جناح الطائر وهو تحريكه عند الطيران فشبه حركة رعدتها به والزاي أكثر رواية (الحمى لا بارك الله فيها) مبتدأ وخبره الجملة تتضمن الجواب أو تقديره تأخذني الحمى أو الحمى معي، والجملة بعده دعائية، قاله القاري. ولفظ أبي يعلى قالت من الحمى لا بارك الله فيها (فإنها تذهب) من الإذهاب أي تمحوا وتكفر وتزيل (خطايا بني آدم) أي مما يقبل التكفير (كما يذهب الكير) بكسر الكاف بعدها تحتية ثم راء مهملة (خبث الحديد) بفتحتين أي وسخه. قال الطيبي: كير الحداد وهو المبني من الطين. وقيل: الزق الذي ينفخ به النار والمبنى الكور (رواه مسلم) في الأدب، وأخرجه أيضا البيهقي (ج3ص377) وابن سعد وأبويعلى وأبونعيم وابن مندة وفضل الحمى والمرض روايات عن جماعة من

(9/438)


الصحابة ذكرها المنذري في الترغيب في كتاب الجنائز.
1558- قوله: (إذا مرض العبد) المؤمن وكان يعمل عملا قبل مرضه ومنعه منه المرض ونيته لولا المانع مداومته عليه (أو سافر) سفر طاعة ومنعه السفر مما كان يعمل من الطاعات ونيته المداومة، ففي رواية أبي داود: إذا كان العبد يعمل عملا صالحا فشغله عنه مرض أو سفر (كتب له) أي للعبد من الأجر كما في
بمثل ما كان يعمل مقيما صحيحا)) رواه البخاري.
1559 -(24) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون شهادة كل مسلم))

(9/439)


رواية أحمد (بمثل ما كان يعمل) حال كونه (مقيما) وحال كونه (صحيحا) فهما حالان مترادفان أو متداخلان، وفيه اللف والنشر الغير المرتب؛ لأن مقيما يقابل إذا سافر وصحيحا يقابل إذا مرض. قال القاري: والباء زائدة كهى في قوله تعالى: ?فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به?[البقرة: 137] انتهى. قلت: وفي البخاري كتب له مثل ما كان يعمل أي بغير الباء، وفي رواية أبي داود كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم. ووقع في حديث عبدالله بن عمرو ابن العاص مرفوعا عند عبدالرزاق وأحمد والحاكم وصححه، والبيهقي: إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به: أكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه أو أكفته إلى، ولأحمد من حديث أنس رفعه إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله: أكتب له صالح عمله الذي كان يعمله فإن شفاه غسله وطهره وإن قبضه غفر له ورحمه، وعند الطبراني من حديث أبي موسى: إن الله يكتب للمريض أفضل ما كان يعمل في صحته ما دام في وثاقه- الحديث. وفي حديث عائشة عند النسائي: ما من امريء تكون له صلاة من الليل يغلبه نوم أو وجع إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة، وحمل ابن بطال الحكم المذكور على النوافل لا للفرائض فلا تسقط بالسفر والمرض، وتعقبه ابن المنير بأنه حجر واسعا بل تدخل فيه الفرائض التي شأنه أن يعمل بها وهو صحيح إذا عجز عن جملتها أو بعضها بالمرض كتب له أجر ما عجز عنه فعلا؛ لأنه قام به عزما إن لو كان صحيحا حتى صلاة الجالس في الفرض لمرضه يكتب له عنها أجر صلاة القائم-انتهى. قال الحافظ: وليس اعتراض ابن المنير بجيد، لأنهما لم يتواردا على محل واحد، وفي الأحاديث المذكورة تعقب على من زعم من الشافعية أن الأعذار المرخصة لترك الجماعة تسقط الكراهة والإثم خاصة من غير أن تكون محصلة للفضيلة والثواب، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب: ومما يدل على بطلان قوله حديث أبي هريرة رفعه: من

(9/440)


توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلى وحضر لا ينقص ذلك من أجره شيئا. أخرجه أبوداود والنسائي والحاكم، وإسناده قوي (رواه البخاري) في كتاب الجهاد، وأخرجه أيضا أحمد (ج4ص410، 418) وأبوداود في الجنائز وابن أبي شيبة (ج4ص70) والبيهقي (ج3ص374).
1559- قوله: (الطاعون شهادة كل مسلم) أي حكما، كذا بالإضافة في نسخ المشكاة. وفي الصحيحين شهادة لكل مسلم، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج8ص364) أي سبب لكونه شهيدا يعني شهادة أخروية لكل مسلم مات به لمشاركته للشهيد فيما يكابده من الشدة، وهكذا جاء مطلقا في هذا الحديث، وسيأتي
................................

(9/441)


مقيدا بثلاثة قيود في حديث عائشة الذي يلي حديث أبي هريرة. قال المناوي: ظاهر حديث أنس يشمل الفاسق. وقال الحافظ بعد ذكر أحاديث: تدل على أن سبب الطاعون ظهور الفاحشة وفشوا الزنا ما لفظه: ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ ويحتمل أن يقال بل تحصل له درجة الشهادة لعموم الأخبار الواردة، ولاسيما حديث أنس الطاعون شهادة لكل مسلم، ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترح السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة، لأن درجات الشهداء متفاوتة كنظيره من العصاة إذا قتل مجاهدا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العلياء مقبلا غير مدبر- انتهى. والطاعون بوزن فاعول من الطعن، عدلوا به عن أصله ووضعوه دالا على الموت العام كالوباء. قال النووي في تهذيبه: هو بثر وورم مؤلم جدا يخرج مع لهب ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان وقيء، ويخرج غالبا في المراق والآباط، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد. وقال جماعة من الأطباء منهم ابن سينا: الطاعون مادة سمية تحدث ورما قتالا يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما تكون تحت الإبط أو خلف الأذن أو عند الأرنبة، قال وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد، ويستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فتحدث القيء والغثيان والغشى والخفقان، ولرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبيئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس، والوباء فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده- انتهى. وحاصل هذا أن حقيقة الطاعون ورم ينشأ عن هيجان الدم أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعونا بطريق المجاز لإشتراكهما في عموم المرض به أو كثرة الموت. وما قال الأطباء: أن الطاعون ينشأ عن

(9/442)


هيجان الدم أو انصبابه لا يعارض حديث الطاعون وخز أعداءكم من الجن، أخرجه أحمد وغيره من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعا، إذ يجوز أن ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة فتحدث منها المادة السمية ويهيج الدم بسببها أو ينصب، وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن، لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما يعرف من جهة الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم، لكن في وقوع الطاعون في أعدل الفصول وأصح البلاد هواء وأطيبها ماء دلالة على أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض، لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، والطاعون يذهب أحيانا ويجيء أحيانا على غير قياس ولا تجربة، وربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وأيضا لو كان من فساد الهواء لعم الناس والحيوان وربما يصيب الكثير من الناس، ولا يصيب من هو بجانبهم ممن هو في مثل مزاجهم، وربما يصيب بعض أهل البيت الواحد، ويسلم منه الآخرون منهم وقوله: وخز بفتح أوله وسكون المعجمة بعدها زاي، هو الطعن إذا كان غير نافذ، ووصف طعن الجن بأنه وخز، لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر فيؤثر بالباطن أولا ثم يؤثر في الظاهر وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف
متفق عليه.
1560 -(25) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله))
طعن الإنس، فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن فيؤثر في الظاهر أولا ثم يؤثر في الباطن وقد لا ينفذ. وأما ما يقع في الألسنة بلفظ: وخز إخوانكم من الجن. فقال الحافظ: إنه لم يجده في شيء طرق الحديث المسندة لا في الكتب المشهورة ولا الأجزاء المنثورة بعد التتبع الطويل البالغ، وعزاه في آكام المرجان لمسند أحمد والطبراني وكتاب الطواعين لابن أبي الدنيا، ولا وجود له في واحد منها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجهاد وفي الطب، ومسلم في الجهاد، وأخرجه أيضا أحمد.

(9/443)


1560- قوله: (الشهداء) جمع شهيد سمي به، لأن الملائكة يشهدون موته فكان مشهودا، وقيل مشهود له بالجنة، فعلى هذا الشهيد فعيل بمعنى مفعول. وقيل: سمي به، لأنه حي عند الله تعالى حاضر ويشهد حضرة القدس. وقيل: لأنه شهد ما أعد الله له من الكرامات. وقيل: لأنه يستشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على سائر الأمم المكذبين، فعلى على هذه المعاني يكون الشهيد بمعنى الشاهد، قاله العيني. وقال القاري: بمعنى فاعل، لأنه يشهد مقامه قبل موته أو بمعنى مفعول، لأن الملائكة تشهده أي تحضره مبشرة له. وذكر الحافظ في سبب تسميته بذلك أقوالا أخرى (خمسة) وفي حديث جابر بن عتيك الآتي: الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله. وفي حديث عمر عند أحمد والترمذي: الشهداء أربعة فاختلفت الأحاديث في عدد أسباب الشهادة. قال الحافظ: الذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بالأقل ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك- انتهى. (المطعون) أي الذي يموت بالطاعون (والمبطون) أي الذي يموت بمرض البطن مطلقا أو الاستسقاء أو الإسهال أو القولنج. قال القرطبي: اختلف هل المراد بالبطن الاستسقاء أو الإسهال على قولين للعلماء (والغريق) بالياء بعد الراء. وفي رواية: الغرق بغير ياء، وهو بفتح الغين المعجمة وكسر الراء بعدها قاف أي الذي يموت من الغرق في الماء. قال القاري: الظاهر انه مقيد بمن ركب البحر ركوبا غير محرم (وصاحب الهدم) أي الذي يموت تحت الهدم، وهو بفتح الهاء والدال ما يهدم به من البناء. قال في النهاية: الهدم بالتحريك البناء المهدوم، فعل بمعنى المفعول، وبالسكون الفعل نفسه. وقال الحفنى: قوله الهدم هو مجاز، لأنه يموت تحت المهدوم الذي سببه الهدم أي الفعل، فإن قريء بفتح الدال فهو ظاهر، لأنه اسم للمهدوم - انتهى. وحاصل جميع ذلك أن صاحب الهدم هو الذي يقع عليه بناء أو حائط فيموت تحته. قال القرطبي: هذا والغريق

(9/444)


إذا لم يغررا بأنفسهما ولم يهملا التحرز، فإن فرطا في التحرز حتى أصابهما ذلك فهما عاصيان (والشهيد) أي الذي يقتل (في سبيل الله)
متفق عليه.
1561 - (26) وعن عائشة، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرني: ((أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين،
يعني الذي حكمه أن لا يغسل ولا يصلي عليه بخلاف الأربعة السابقة، فالحقيقية الأخير والذي قبله مجاز، فهم شهداء في الثواب كثواب الشهيد واستشكل التعبير بالشهيد في سبيل الله مع قوله: الشهداء خمسة، فإنه يلزم منه حمل الشيء على نفسه، لأن قوله: خمسة خبر للمبتدأ، والمعدود بعده بيان له، فكأنه قال الشهيد هو الشهيد. وأجيب بأنه عبر عن المقتول بالشهيد، لأنه هو الشهيد الكامل فهو من باب أنا أبوالنجم، وشعري شعري أو معنى الشهيد القتيل، فكأنه قال والمقتول، فعبر عنه بالشهيد أو يقال: إن الشهيد مكرر في كل واحد منها، فيكون من التفصيل بعد الإجمال، والتقدير الشهداء خمسة، الشهيد كذا والشهيد كذا والشهيد القتيل في سبيل الله. قال ابن الملك: وإنما أخره، لأنه من باب الترقي من الشهيد الحكمي إلى الحقيقي. واعلم أن الشهداء الحكمية كثيرة وردت في أحاديث شهيرة، جمعها السيوطي في كراسته سماها أبواب السعادة في أبواب الشهادة. وقد سرد العيني والحافظ هذه الروايات، ولخصها القسطلاني والزرقاني، إن شئت الإطلاع عليها فارجع إلى العمدة والفتح. قال العيني: فإن قلت: كيف التوفيق بين الأحاديث التي فيها العدد المختلف صريحا والأحاديث الأخر أيضا؟ قلت: أما ذكر العدد المختلف فليس على معنى التحديد،بل كل واحد من ذلك بحسب الحال وبحسب السؤال وبحسب ما تجدد العلم في ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، على أن التنصيص على العدد المعين لا ينافي الزيادة- انتهى. قال العلماء: الشهداء على ثلاثة أنواع: شهيد الدنيا والآخرة وهو المقتول في سبيل الله، وشهيد الآخرة دون الدنيا وهم

(9/445)


الأربعة المذكورون في حديث أبي هريرة، وشهيد الدنيا دون الآخرة وهو من قتل مدبرا أو غل في الغنيمة أو قاتل لغرض دنياوي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأذان وفي الصلاة وفي الجهاد، ومسلم في الجهاد، وأخرجه أيضا مالك في الصلاة والترمذي في الجنائز.
1561- قوله: (فأخبرني) بالإفراد (أنه عذاب) من قبل الجن كما تقدم. وفي رواية: أنه كان عذابا (يبعثه الله على من يشاء) أي من كافر أو عاص كما في قصة آل فرعون وفي قصة أصحاب موسى مع بلعام (وأن الله جعله) بفتح الهمزة على العطف وبكسرها على الاستئناف. وفي رواية: فجعله الله (رحمة للمؤمنين) أي من هذه الأمة. وفي حديث أبي عسيب عند أحمد: فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم ورجس على الكافر، وهو صريح في أن كون الطاعون رحمة إنما هو خاص بالمسلمين، وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب عليهم يعجل لهم في الدنيا قبل الآخرة. وأما العاصي من هذه الأمة فهل يكون الطاعون له شهادة أو يختص بالمؤمن الكامل والمراد
ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد)).

(9/446)


بالعاصي مرتكب الكبيرة الذي يهجم عليه الطاعون وهو مصر، فإنه يحتمل أن لا يكرم بدرجة الشهادة لشؤم ما كان متلبسا به لقوله تعالى: ?أم حسب الذين اجترحوا السيئآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات?[الجاثيات:21] وفي حديث ابن عمر عند ابن ماجه والبيهقي ما يدل على أن الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة. ولفظه: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها الإفشاء فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك، وقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما، ووثقه أحمد بن صالح المصري وأبوزرعة الدمشقي. وقال ابن حبان: كان بخطئي كثيرا لكن له شاهد عن ابن عباس في الموطأ بلفظ: ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت- الحديث. قال في الفتح: فيه إنقطاع فدل هذا وغيره مما روى في معناه أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ نعم يحتمل أنه يحصل له درجة الشهادة لعموم الأحاديث في ذلك، ولا يلزم المساواة بين الناقص والكامل في المنزلة، لأن درجات الشهادة متفاوتة- انتهى ملخصا من الفتح (ليس) هذه الجملة بيان لقوله: جعله رحمة (من أحد) من زائدة أي ليس أحد يعني من المسلمين. وفي رواية: ليس من عبد أي مسلم (يقع الطاعون) صفة أحد، والراجع محذوف أي يقع في مكان هو فيه أو يقع في بلده (فيمكث) عطف على يقع (في بلده) وفي رواية أحمد في بيته، وفي رواية البخاري في القدر بلفظ: ما من عبد يكون في بلد يكون (أي الطاعون) فيه ويمكث فيه ولا يخرج من البلد أي التي وقع فيها الطاعون (صابرا) أي غير منزعج ولا قلق محتسبا أي طالبا للثواب على صبره، وهما حالان من فاعل يمكث أي يصبر وهو قادر على الخروج متوكلا على الله طالبا لثوابه لا غير كحفظ ماله أو غرض آخر. وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون، وهو أن يمكث بالمكان الذي يقع به فلا يخرج منه فرارا، كما ورد النهى عنه صريحا في الحديث الذي يليه

(9/447)


(يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له) أي من الحياة والممات. وهذا قيد آخر وهي جملة حالية تتعلق بالإقامة، فلو مكث وهو قلق أو متندم على عدم الخروج ظانا أنه لو خرج لما وقع به أصلا ورأسا وأنه بإقامته يقع به، فهذا لا يحصل له أجر الشهيد ولو مات بالطاعون. هذا الذي يقتضيه مفهوم هذا الحديث كما اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت بالطاعون، ويدخل تحته ثلاث صور من اتصف بذلك فوقع به الطاعون فمات به أو وقع به ولم يمت به أو لم يقع به أصلا ومات بغيره عاجلا أو آجلا، قاله الحافظ. (إلا كان له مثل أجر الشهيد) خبر ليس، والاستثناء مفرغ. ولعل السر في التعبير مع ثبوت التصريح بأن من مات بالطاعون كان شهيدا، أن من لم يمت من هؤلاء بالطاعون كان له مثل أجر الشهيد وإن لم يحصل له درجة الشهادة بعينها،
رواه البخاري.
1562- (27) وعن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم،
وذلك أن من اتصف بكونه شهيدا أعلى درجة ممن وعد بأنه يعطي مثل أجر الشهيد ويكون كمن خرج على نية الجهاد في سبيل الله ليتكون كلمة الله هي العليا فمات بسبب آخر غير القتل، وفضل الله واسع ونية المؤمن أبلغ من عمله (رواه البخاري) في ذكر بني إسرائيل وفي التفسير وفي الطب وفي القدر وأخرجه أيضا أحمد والبيهقي (ج3:ص376).

(9/448)


1562- قوله: (وعن أسامة بن زيد) أي ابن حارثة (الطاعون رجز) بكسر الراء أي عذاب (أرسل على طائفة من بني إسرائيل) قال الطيبي: هم الذين أمرهم الله تعالى أن يدخلوا الباب سجدا فخالفوا. قال تعالى: ?فأرسلنا عليهم رجزا من السماء?[ الأعراف:162] قال ابن الملك: فأرسل عليهم الطاعون فمات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا من شيوخهم وكبراءهم (أو على من كان قبلكم) قال الحافظ: كذا وقع بالشك، ووقع في رواية عند ابن خزيمة بالجزم بلفظ: فإنه رجز سلط على طائفة من بني إسرائيل، ووقع في رواية أخرى عنده بالجزم أيضا، لكن قال رجز أصيب به من كان قبلكم، قال: والتنصيص على بني إسرائيل أخص، فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام، فأخرج الطبري من طريق سليمان التيمي عن سيار أن رجلا كان يقال له بلعام كان مجاب الدعوة وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام فأتاه قومه، فقالوا: ادع الله عليهم قال حتى أو أمر ربي فمنع، فأتوه بهدية فقبلها، وسألوه ثانيا، فقال: حتى أو أمر ربي فلم يرجع إليه بشئ، فقالوا لو كره لنهاك، فدعا عليهم فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك، فقال: سأدلكم على ما فيه هلاكهم إلخ. وفيه فوقع في بني إسرائيل الطاعون (أي بسبب تمكين بنت الملك رأس بعض الأسباط من نفسها) فمات منهم سبعون ألفا في يوم، قال وهذا مرسل جيد وسيار شامي موثق. وذكر ابن إسحاق في المبتدأ: أن بني إسرائيل كثر عصيانهم فخيرهم بين ثلاث: إما أن أبتليهم بالقحط أو للعدو شهرين، أو الطاعون ثلاثة أيام فأخبرهم، فقالوا اختر لنا، فاختار الطاعون فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفا. وقيل: مائة ألف، فتضرع داود إلى الله فرفعه، قال: وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل فيحتمل أن يكون هو المراد بقوله: من كان قبلكم، فمن ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير

(9/449)


قال: أمر موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشا، ثم ليخضب كفه في دمه، ثم
فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه))
ليضرب به على بابه ففعلوا، فسألهم القبط عن ذلك، فقالوا: إن الله سيبعث عليكم عذابا، وإنما ينجو منه بهذا العلامة، فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفا، فقال فرعون عند ذلك لموسى: ?أدع لنا ربك بما عهد عندك، لئن كشفت عنا الرجز?[الآية]، فدعا فكشفه عنهم، وهذا مرسل جيد الإسناد، وأخرج عبدالرزاق في تفسيره والطبري من طريق الحسن في قوله تعالى: ?ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت?[البقرة:243] قال: فروا من الطاعون، فقال لهم الله: موتوا ثم أحياءهم ليكملوا بقية آجالهم، قال فأقدم من وقفنا عليه في المنقول ممن وقع الطاعون به من بني إسرائيل في قصة بلعام ومن غيرهم في قصة فرعون وتكرر بعد ذلك لغيرهم- انتهى مختصرا. (فإذا سمعتم به) أي بالطاعون (بأرض) قال الطيبي: الباء الأولى متعلقة بسمعتم على تضمين أخبرتم. وبأرض حال أي واقعا في أرض- انتهى. ويروي فإذا سمعتم أنه بأرض. قال ابن حجر الهيثمي في فتاواه: المراد بالأرض محل الإقامة وقع به الطاعون، سواء كان بلدا أم قرية أم محلة أم غيرها لا جميع الإقليم. وقال المناوي: قوله: إذا سمعتم بالطاعون بأرض أي إذا بلغكم وقوعه في بلدة أو محلة (فلا تقدموا) بسكون القاف وفتح الدال (عليه) أي لا تدخلوا عليه ليكون أسكن لأنفسكم وأقطع لوساوس الشيطان (وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا) أي لأجل الفرار (منه) أي من الطاعون، فإنه فرار من القدر ومعارضة له، والحديث يدل على حرمة الخروج من أرض وقع بها الطاعون فرارا منه، وكذا الدخول في أرض وقع بها الطاعون، لأن الأصل في النهى التحريم. ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة عند أحمد: الفار منها كالفار من الزحف. وفي الباب أحاديث أخرى

(9/450)


ذكر بعضها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص314-315) والحافظ في الفتح: وأشار إلى بعضها الترمذي بقوله: وفي الباب. وقد اختلف العلماء في ذلك. فذهب بعضهم إلى الجواز. قال الحافظ: نقل عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي يقع بها الطاعون (أي لمن قوى توكله وصح يقينه) عن جماعة من الصحابة منهم أبوموسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق. ومنهم من قال: النهى فيه للتنزيه فيكره ولا يحرم، وخالفهم جماعة، فقالوا: يحرم الخروج منها لظاهر النهى الثابت في الأحاديث الماضية. وهذا هو الراجح عند الشافعية وغيرهم، ويؤيده ثبوت الوعيد على ذلك، فأخرج أحمد وابن خزيمة من حديث عائشة مرفوعا بسند حسن. قلت: يارسول الله ! فما الطاعون؟ قال: غدة كغدة البعير، المقيم فيها كالشهيد والفار منها كالفار من الزحف. وله شاهد من حديث جابر مرفوعا عند أحمد أيضا وابن خزيمة وسنده صالح للمتابعات- انتهى. وفصل بعضهم في هذه المسألة تفصيلا جيدا فقال من خرج لقصد الفرار محضا فهذا يتناوله النهى لا محالة ومن خرج لحاجة متمحضة لا لقصد
.............................

(9/451)


الفرار أصلا ويتصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد كان بها إلى بلد إقامته مثلا. ولم يكن الطاعون وقع فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه فهذا لم يقصد الفرار أصلا فلا يدخل في النهى. والثالث: من عرضت له حاجة فأراد الخروج وانضم لذلك أنه قصدا الراحة من الإقامة بالبلد الذي به الطاعون فهذا محل النزاع. وقال النووي في شرح مسلم: وفي هذه الأحاديث منع القدوم على بلدة الطاعون ومنع الخروج فرارا من ذلك. أما الخروج لعارض فلا بأس. وهذا الذي ذكرنا هو مذهبنا ومذهب الجمهور. قال القاضي: هو قول الأكثريين حتى قالت عائشة: الفرار منه كالفرار من الزحف، قال ومنهم من جوز القدوم عليه. والخروج منه فرارا، ثم قال: والصحيح ما قدمناه من النهى عن القدوم عليه والفرار منه لظاهر الأحاديث الصحيحة- انتهى. وقال الزرقاني المالكي في شرح الموطأ: والجمهور على أنه للتحريم حتى قال ابن خزيمة: إنه من الكبائر التي يعاقب الله عليها إن لم يعف-انتهى. وقال في شرح المواهب اللدنية: وخالفهم الأكثر وقالوا إنه للتحريم، حتى قال ابن خزيمة: إنه من الكبائر التي يعاقب عليها إن لم يعف، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: الطاعون غدة كغدة البعير، المقيم بها كالشهيد، والفار منه كالفار من الزحف. رواه أحمد برجال ثقات. وروى الطبراني وأبونعيم بإسناد حسن مرفوعا الطاعون شهادة لأمتي، وخز أعداءكم من الجن، غدة كغدة الإبل تخرج في الآباط والمراق، من مات منه مات شهيدا ومن أقام به كان كالمرابط في سبيل الله، ومن فر منه كان كالفار من الزحف- انتهى. وقال الشيخ إسماعيل المهاجر الحنفي في تفسيره روح البيان: والفرار من الطاعون حرام إلى أن قال: وفي الحديث الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف، فهذا الخبر يدل على أن النهى عن الخروج للتحريم، وأنه من الكبائر- انتهى. وقال الشيخ عبدالحق الدهلوي الحنفي في أشعة اللمعات (ج2:ص682) ضابطه دور همين أست

(9/452)


كه در آنجا كه هست نبايد رفت، واز آنجا كه باشد نبايد كريخت، واكرجه كريختن در بعض مواضع مثل خانه كه دورى زلزله شده يا آتش كرفته يا نشستن در زير ديواريكه خم شده نزد غلبه ظن بهلاك آمده است أما در باب طاعون جز صبر نيامده وكريختن تجويز نيافته، وقياس اين برآن مواد فاسد است كه آنها از قبيل أسباب عادية أند، واين از أباب وهمى، وبرهر تقدير كريختن أز آنجا جائز نيست؛ وهيج جاوارد نشده وهركه بكريزد عاصي ومرتكب كبيره ومردود است، نسأل الله العافية- انتهى. قلت: وهذا هو الحق عندنا فالخروج من أرض وقع فيها الطاعون فرارا منه حرام، وكذا الدخول فيها لظاهر الأحاديث الصحيحة، وهو الذي حققه وصوبه شيخنا في شرح الترمذي . وقد ألف أيضا في هذه المسألة رسالة مستقلة في جزئيين متوسطين باللغة الأردية سماها "خير الماعون في منع الفرار من الطاعون" ذكر في الجزء الأول
متفق عليه.
1563- (28) وعن أنس، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله سبحانه وتعالى: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه،

(9/453)


الأحاديث والآثار التي تدل على عدم جواز الفرار من الموضع الذي وقع فيه وباء الطاعون، وأفرز الجزء الثاني بذكر الأجوبة عن دلائل القائلين بالفرار ودفع شبهاتهم وأعذارهم، وهي عديم النظير في بابها فعليك أن تطالعها. هذا وقد ذكر العلماء في النهى عن الخروج حكما بسطها الحافظ في الفتح (ج23:ص415) والغزالي في الأحياء، وغيرهما في غيرهما، لا يخلوا واحد منها عن نظر. والظاهر أن النهى للتعبد، والله تعالى اعلم. قال العلامة الآلوسي في روح المعاني (ج28:ص98) واختلفوا في علة النهى فقيل: هي أن الطاعون إذا وقع في بلد مثلا عم جميع من فيه بمداخلة سببه فلا يفيد الفرار منه، بل إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل، وإلا فلا وإن أقام فتعينت الإقامة لما في الخروج من العبث الذي لا يليق بالعقلاء. واعترض بمنع عمومه إذا وقع في بلد جميع من فيه بمداخلة سببه، ولو سلم فالوباء مثله في أن الشخص الذي في بلده إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل، وإلا فلا وإن أقام مع أنهم جوزوا الفرار منه. وقيل: هي أن الناس لو تواردوا على الخروج لضاعت المرضى العاجزون عن الخروج لفقد من يتعهدهم والموتى لفقد من يجهزهم، وأيضا في خروج الأقوياء كسر قلوب الضعفاء عن الخروج، وأيضا إن الخارج يقول: لو لم أخرج لمت، والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت، فيقعان في اللو المنهى عنه. واعترض كل ذلك بأنه موجود في الفرار عن الوباء أيضا وكذا الداء الحادث ظهوره المعروف بين الناس بأبي زوعة الذي أعيا الأطباء علاجه، ولم ينفع فيه التحفظ والعزلة على الوجه المعروف في الطاعون. وقيل: هي أن للميت به وكذا للصابر المحتسب المقيم في محله وإن لم يمت به، أجر شهيد، وفي الفرار إعراض عن الشهادة، وهو محل التشبيه في حديث عائشة عند بعض. واعترض بأنه قد صح أنه صلى الله عليه وسلم مر بحائط مائل فأسرع ولم يمنع أحد من ذلك، وكذا في الفرار من الحريق مع أن الميت بذلك شهيد أيضا. وذهب بعض

(9/454)


العلماء إلى أن النهى تعبدى، وكأنه لما رأى أنه لا تسلم علة له من الطعن قال ذلك، ولهم في ذلك رسائل عديدة فمن أراد استيفاء الكلام فيها فليرجع إليها- انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل وفي الطب وفي ترك الحيل، ومسلم في الطب، وأخرجه أيضا أحمد (ج5:ص201-202-206-207-208-209-210) والترمذي في الجنائز، والبيهقي (ج3:ص376).
1563- قوله: (إذا ابتليت عبدي) المؤمن (بحبيبتيه) بالتثنية أي محبوبيه يعني يفقد بصر عينيه، وقيل أي أنزلت البلاء بعينيه حتى يصير أنه لا يرى بهما. قال الحافظ: المراد بالحبيبتين المحبوبتان، لأنهما أحب أعضاء
ثم صبر، عوضته منهما الجنة يديد عينيه)) رواه البخاري.
(( الفصل الثاني))
1564- (29) عن علي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مسلم يعود مسلما غدوة

(9/455)


الإنسان إليه لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات روية ما يريد رؤيته من خير فيسر به أو شر فيجتنبه (ثم صبر) قال الطيبي: ثم ههنا لتراخي الرتبة. وفي البخاري: فصبر أي بالفاء يدل ثم، وزاد الترمذي وابن حبان في روايتهما عن أبي هريرة واحتسب، وكذا لابن حبان من حديث ابن عباس أيضا. قال الحافظ: والمراد أنه يصبر مستحضرا ما وعد الله به الصابر من الثواب لا أن يصبر مجردا عن ذلك، لأن الأعمال بالنيات، وابتلاء الله عبده في الدنيا ليس من سخطه عليه، بل إما لدفع مكروه أو لكفارة ذنوب أو لرفع منزلة فإذا تلقى ذلك بالرضاء تم له المراد، وإلا يصبر كما جاء في حديث سلمان: أن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتبا، وأن مرض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عقل ولم أرسل أخرجه البخاري في الأدب المفرد (وابن أبي شيبة) موقوفا (عوضته منهما) أي بدلهما أو من أجل فقدهما (الجنة) أي دخولها مع السابقين أو بغير عذاب أو منازل مخصوصة فيها، وقال الحافظ: هذا أعظم العوض، لأن الالتذاذ بالبصر يفنى بفناء الدنيا والالتذاذ بالجنة باق ببقاءها، وهو شامل لكل من وقع له ذلك بالشرط المذكور، ووقع في حديث أبي أمامة فيه قيد آخر أخرجه البخاري في الأدب المفرد بلفظ: إذا أخذت كريمتيك فصبرت عند الصدمة واحتسبت، فأشار إلى أن الصبر النافع هو ما يكون في وقوع البلاء فيفوض ويسلم، وإلا فمتى تضجر وتقلق في أول وهلة، ثم يئس فيصبر لا يكون حصل المقصود. وورد في حديث أنس (الآتي في باب البكاء على الميت) إنما الصبر عند الصدمة الأولى، وقد وقع في حديث العرباض بن سارية فيما صححه ابن حبان فيه بشرط آخر ولفظه: إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين لم أرض له ثوابا دون الجنة، إذا هو حمدني عليهما ولم أر هذه الزيادة في غير هذه الطريق، وإذا كان ثواب من وقع له ذلك الجنة فالذي له أعمال صالحة أخرى يراد في رفع الدرجات- انتهى. (يريد) أي النبي صلى

(9/456)


الله عليه وسلم بحبيبتيه (عينيه) قال القاري: والظاهر أن هذا التفسير من أنس. وقال الحافظ: قد فسرهما آخر الحديث بقوله: يريد عينيه، ولم يصرح بالذي فسرهما (رواه البخاري) في المرضى، وأخرجه أيضا أحمد والترمذي في الزهد، والبيهقي (ج3:ص375) وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكرها أحاديثهم المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد.
1564- قوله: ( غدوة) بضم الغين ما بين صلاة الغداوة وطلوع الشمس، كذا قاله ابن الملك. والظاهر
إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عادة عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة)) رواه الترمذي، وأبوداود.
1565- (30) وعن زيد بن أرقم، قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني.

(9/457)


أن المراد به أول النهار ما قبل الزوال ( إلا صلى عليه) أي دعا له بالمغفرة (حتى يمسى) بضم التحتية من الإمساء، أي يدخل في المساء. وقال القاري: أي يغرب بقرينة مقابلته (وإن عاده) إن نافية بدلالة إلا ولمقابلتها ما (عشية) أي ما بعد الزوال أو أول الليل (وكان له) أي للعائد (خريف) أي بستان. وهو في الأصل الثمر المجتنى أو مخروف من ثمر الجنة، فعيل بمعنى مفعول، قاله القاري. وقال الجزري: الخريف الثمر الذي يخترف أي يجنى ويقطف، فعيل بمعنى مفعول (رواه الترمذي وأبوداود) في الجنائز، واللفظ للترمذي. قال الترمذي: هذا حديث غريب حسن. وقد روى عن علي هذا الحديث من غير وجه ومنهم من وقفه ولم يرفعه- انتهى. قال المنذري في الترغيب. بعد إيراد الحديث ونقل كلام الترمذي. ما لفظه: ورواه أبوداود موقوفا على علي، ثم قال وأسند هذا عن علي من غير وجه صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رواه مسندا بمعناه. ولفظ الموقوف: ما من رجل يعود مريضا ممسيا إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة، ومن أتاه مصبحا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسى، وكان له خريف في الجنة، ورواه بنحو هذا أحمد وابن ماجه مرفوعا، وزادا في أوله إذا عاد المسلم أخاه مشى في خرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة- الحديث. وليس عندهما خريف في الجنة، ورواه ابن حبان في صحيحه مرفوعا أيضا. ولفظه: ما من مسلم يعود مسلما إلا يبعث إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه في أي ساعات النهار حتى يمسى وفي أي ساعات الليل حتى يصبح. ورواه الحاكم مرفوعا بنحو الترمذي وقال صحيح على شرطهما- انتهى. قلت: في سند الترمذي ثوير بن أبي فاختة وهو ضعيف روى البخاري في الكبير والصغير عن الثوري قال: كان ثوير من أركان الكذب. ولعل الترمذي حسنه لتعدد طرقه، فقد رواه أحمد بطرق أخرى (ج1:ص81-97-118-121) مرفوعا وموقوفا، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة

(9/458)


(ج4:ص73)، والبيهقي مرفوعا وموقوفا (ج3:ص380-381).
1565- قوله: (عادني النبي صلى الله عليه وسلم من وجع) أي من رمد، كما في رواية أحمد، وفي حديث أنس عند الحاكم (كان بعيني) بفتح النون وتشديد الياء. قال ابن الملك: هذا يدل على أن من به وجع يجلس لأجله في بيته ولم يقدر أن يخرج منه فعيادته سنة. وقال في الأزهار: فيه بيان استحباب العيادة وإن لم يكن المرض مخوفا
رواه أحمد، وأبوداود.
1566- (31) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ فأحسن الوضوء، وعاد أخاه المسلم محتسبا، بوعد من جهنم مسيرة ستين خريفا)) رواه أبوداود.

(9/459)


كالصداع ووجع الضرس، وأن ذلك عيادة حتى يحوز بذلك أجر العيادة. وروى عن بعض الحنفية أن العيادة في الرمد ووجع الضرس خلاف السنة. والحديث يرده ولا أعلم من أين تيسر لهم الجزم بأنه خلاف السنة مع أن السنة خلافه نعوذ بالله من شرور أنفسنا. وقد ترجم عليه أبوداود في سننه، فقال "باب العيادة من الرمد" ثم أسند الحديث والله الهادي، ذكره ميرك. وأما ما أخرجه البيهقي والطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعا: ثلاثة لا يعادون صاحب الرمد وصاحب الضرس وصاحب الدملة، ففيه مسلمة بن على الخشني البلاطي وهو ضعيف متروك. وقال الحافظ في الفتح: صحح البيهقي أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير، وقال في تهذيب التهذيب في ترجمة مسلمة المذكور. أخرج له العقيلي من رواية سعيد بن أبي مريم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي جعفر عن أبي هريرة رفعه: ثلاثة لا يعادون صاحب الرمد والضرس والدمل، قال ورواه بقية عن الأوزاعي عن ابن أبي كثير من قوله، وقال هذا أولى. قال أبوحاتم: هذا باطل منكر- انتهى. (رواه أحمد) (ج4 ص375) (وأبوداود) في الجنائز وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي (ج3 ص381) والحاكم (ج1 ص342) وقال صحيح على شرط الشيخين، قال: وله شاهد صحيح من حديث أنس بن مالك، فرواه بإسناده عن أنس قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم من رمد كان به، وقد وافقه الذهبي الحاكم على تصحيح الحديثين.

(9/460)


1566- قوله: (فأحسن الوضوء) أي أتى به كاملا (وعاد أخاه المسلم) قال الطيبي: فيه أن الوضوء سنة في العيادة، لأنه إذا دعا على الطهارة، كان أقرب إلى الإجابة. وقال زين العرب: ولعل الحكمة في الوضوء هنا أن العيادة عبادة، وأداء العبادة على وجه الأكمل أفضل (محتسبا) أي طالبا للأجر والثواب (بوعد) ماض مجهول من المباعدة والمفاعلة للمبالغة (خريفا) أي عاما سمي بذلك لاشتماله عليه إطلاقا للبعض على الكل. والخريف في الأصل فصل بين الصيف والشتاء (رواه أبوداود) في الجنائز من طريق الفضل بن دلهم الواسطي البصري، وقد تفرد هو بزيادة الوضوء للعيادة. قال أبوداود فيما رواه أبوالحسن بن العبد عنه حديثه منكر، وليس هو برضي، كذا في تهذيب التهذيب. وقال المنذري: في إسناده الفضل بن دلهم. قال يحيى بن معين: ضعيف الحديث، وقال مرة حديثه صالح. وقال أحمد: لا يحفظ وذكر أشياء مما أخطأ فيها، وقال مرة ليس به بأس. وقال ابن حبان:
1567- (32) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يعود مسلما فيقول سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا شفى، إلا أن يكون قد حضر أجله)) رواه أبوداود، والترمذي.
1568- (33) وعنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الحمى ومن الأوجاع كلها أن يقولوا:
كان ممن يخطئ فلم يفحش خطأه حتى يبطل الاحتجاج به ولا اقتضى أثر العدول فيسلك به سننهم فهو غير محتج به إذا انفرد- انتهى.

(9/461)


1567- قوله: (ما من مسلم) ما للنفي ومن زائدة (يعود مسلما) أي يزوره في مرضه.و لفظ الترمذي: ما من عبد مسلم يعود مريضا لم يحضر أجله، ولفظ أبي داود من عاد مريضا لم يحضر أجله (فيقول) أي العائد في دعاءه له (سبع مرات) هذا العدد من أسرار النبوة، فليس لأحد أن يطلب العلة لذلك أو يبحث عن السبب، وهكذا كل عدد يرد عن الشارع صلى الله عليه وسلم (أسأل الله العظيم) أي في ذاته وصفاته (أن يشفيك) بفتح أوله مفعول ثان (إلا شفى) على بناء المجهول أي ذلك المسلم المريض. والحصر غالبي أو مبني على شروط لابد من تحققه. ولفظ الترمذي: إلا عوفي. ولفظ أبي داود: إلا عافاه الله من ذلك المرض (إلا أن يكون قد حضر أجله) أي فلا ينفعه شيء كما قال الشاعر: وإذا المنية أنشبت أظفارها ألقيت كل تميمة لا تنفع. ويمكن أن يهون الله عليه الموت ببركة هذا الدعاء (رواه أبوداود) في الجنائز (والترمذي) في الطب واللفظ الذي ذكره المصنف ليس للترمذي ولا لأبي داود. وقد ذكره الجزري في جامع الأصول (ج8:ص355) بلفظ أبي داود وعزاه للترمذي وأبي داود والحديث أخرجه أيضا ابن السني في اليوم والليلة (ص174)، والحاكم (ج1:ص342) و(ج4:ص213) كلهم من طريق يزيد بن عبدالرحمن عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. والحديث قد حسنه الترمذي، وسكت عنه أبوداود، وصححه الحاكم على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وقال المنذري: في إسناده يزيد بن عبدالرحمن أبوخالد الدالاني وقد وثقه أبوحاتم الرازي وتكلم فيه غير واحد- انتهى. قلت: وأخرجه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم أيضا عن طريق عبد ربه بن سعيد عن المنهال به. قال الحاكم: هذا شاهد صحيح غريب ووافقه الذهبي. والحديث أخرجه ابن حبان أيضا كما في الترغيب.

(9/462)


1568- قوله: (كان يعلمهم) أي أصحابه (من الحمى) أي من أجلها (أن يقولوا) أي المرضى أو عوادهم، وهذا لفظ ابن ماجه، وعند الترمذي وابن السني في عمل اليوم والليلة، والحاكم (ج4:ص414):
بسم الله الكبير، أعوذ بالله العظيم، من شر كل عرق نعار، ومن شر حز النار)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، لا يعرف إلا من حديث إبراهيم بن إسماعيل وهو يضعف في الحديث.
1569- (34) وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من اشتكى منكم شيئا أو اشتكاه أخ له،

(9/463)


أن يقول أي المريض أو عائده (أعوذ بالله) كذا في الترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة ولفظ ابن السني والحاكم نعوذ بالله (من شر كل عرق) بكسر فسكون منونا (نعار) بفتح النون وتشديد العين المهملة وبالراء المهملة أي الممتلى من الدم أو فوار الدم يقال: نعر العرق ينعر بالفتح فيهما إذا فار منه الدم استعاذ، لأنه إذا غلب لم يمهل. وقال الطيبي: نعر العرق بالدم إذا ارتفع وعلا وجرح نعار ونعور إذا صوت دمه عند خروجه. وقال القاضي أبوبكر ابن العربي في شرح الترمذي: النعار هو الذي يرتفع دمه ويزيد فيحدث فيه الحر. وفي رواية لابن ماجه: من شر عرق يعار بفتح المثناة التحتية وتشديد العين المهملة أي صوات بخروج الدم. وأصل اليعار صوت الغنم يقال: يعرت العنز تيعر بالكسر يعارا بالضم أي صاحت (ومن شر حر النار) فمن قال ذلك ولازمه بنية صادقة نفعه من جميع الآلام والأسقام. وفي الحديث إشارة إلى أن الحمى تكون من فوران الدم في البدن، وأنها نوع من حر النار. وقد وردت أحاديث في أن الحمى من فيح النار، وأنها تبرد بالماء (رواه الترمذي) في الطب، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص299)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص181)، وابن ماجه في الطب، والحاكم (ج4:ص414)، وابن أبي شيبة والبيهقي في الدعوات الكبير، وابن أبي الدنيا (وقال) أي الترمذي (هذا حديث غريب لا يعرف) وفي الترمذي لا نعرفه (إلا من حديث إبراهيم بن إسماعيل) أي ابن أبي حبيبة الأنصاري الأشهلي (وهو يضعف في الحديث) ضعفه ابن معين والنسائي. وقال البخاري في التاريخ الكبير والضعفاء، وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال الدارقطني: متروك الحديث ووثقه أحمد والعجلي. وقال الحربي: شيخ مدني صالح له فضل ولا أحسبه حافظا. وقال ابن سعد: كان مصليا عابدا صام ستين سنة، وكان قليل الحديث. وقال العقيلي: له غير حديث لا يتابع على شيء منها، ثم ضرب المثل بهذا الحديث. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد

(9/464)


(ج4:ص257) بعد ذكر أقوال الجارحين: والظاهر عندي أن من تكلم فيه إنما تكلم في حفظه وفي خطئه في بعض ما يروي، ثم ذكر كلام الحربي وابن سعد والعقيلي المذكور، ثم قال: ومثل هذا لا يقل حديثه عن درجة الحسن- انتهى. قلت: وقال الحاكم بعد روايته: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.وقال الذهبي في تلخيصه: إبراهيم قد وثقه أحمد.
1569- قوله: (من اشتكى منكم شيئا) أي من الوجع في جسده (أو اشتكاه) قال القاري: الضمير عائد
فليقل: ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، أغفرلنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك، على هذا الوجع، فيبرأ)) رواه أبوداود.

(9/465)


إلى شيئا. وقيل: التقدير أي اشتكى إليه (ربنا الله) بالرفع فيهما على الابتداء والخبر (الذي في السماء) صفة وهو كقوله تعالى: ?وهو الله في السماوات وفي الأرض?[ الأنعام:3] وقوله: ?وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله? (تقدس إسمك) خبر بعد خبر أو استئناف. وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب أي تطهرت وتنزهت عما لا يليق بك. قال الطيبي: ربنا مبتدأ، الله خبره، الذي صفة مادحة عبارة عن مجرد العلو والرفعة، لأنه منزه عن المكان، ومن ثمة نزه اسمه عما لا يليق فيلزم منه تقديس المسمى بطريق الأولى (أمرك في السماء والأرض) أي نافذ وماض وجار (كما رحمتك) بالرفع على أن ما كافة مهيئة لدخول الكاف على الجملة (في السماء) أي لجميع من في السماء من الملائكة وأرواح الأنبياء والصلحاء. قال في الفائق: الأمر مشترك بين السماء والأرض، لكن الرحمة شأنها أن تخص بالسماء دون الأرض، لأنها مكان الطيبين المعصومين. قال ابن الملك: ولذلك أتى بالفاء الجزائية، فالتقدير إذا كان كذلك (فاجعل رحمتك في الأرض) أي لكل مؤمن من أهل الأرض، فالمراد الرحمة الخاصة المختصة بالمؤمنين، وإلا فالرحمة العامة شاملة للجميع. قال تعالى: ?ورحمتي وسعت كل شيء?[ الأعراف:156] (أغفر لنا حوبنا) بضم الحاء المهملة وفتحها أي ذنبنا وإثمنا. وقال الجزري: حوبنا بضم الحاء الإثم وبالفتح مثله. وقيل: إن الضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغة تميم- انتهى. والمراد الذنب الكبير. وفي رواية الحاكم ذنوبنا يدل حوبنا (وخطايانا) أي صغائرنا أو المراد بالحوب العمد، وبالخطأ ضده (أنت رب الطيبين) أي الطاهرين من المعاصي. والإضافة تشريفية. خصوا بالذكر لشرفهم وفضلهم، وإلا فهو رب كل شيء من الخبيث والطيب، ولا ينسب إلى الله إلا الطيب. قيل هذا بمنزلة العلة لطلب المغفرة أي أغفرلنا آثامنا لنكون طاهرين من الذنوب مستحقين لتربيتك ورحمتك الخاصة (أنزل) بفتح الهمزة. وفي رواية الحاكم: فأنزل، وكذا نقله

(9/466)


الجزري (ج7:ص351) عن أبي داود (رحمة) خاصة عظيمة (من رحمتك) الواسعة التي وسعت كل شيء. قال الطيبي: هذا إلى آخره تقرير للمعنى السابق (على هذا الوجع) بفتح الجيم أي المرض أو بكسر الجيم أي المريض (فيبرأ) بفتح الراء وضم الهمزة من البرء أي فهو يتعافى (رواه أبوداود) في الطب، وأخرجه أيضا الحاكم (ج1:ص344) والنسائي في الكبرى، كما في تلخيص المنذري وتهذيب التهذيب (ج3:ص392): وأول حديث الحاكم عن فضالة بن عبيد. أن رجلين أقبلا يلتمسان الشفاء من البول فانطلق بهما إلى أبي الدرداء، فذكرا وجع اثنيهما له.
1570- (35) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاء الرجل يعود مريضا فليقل: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدوا أو يمشى لك إلى جنازة) رواه أبوداود.
فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اشتكى إلخ. وذكره الجزري في جامع الأصول (ج8:ص351) بلفظ: أتاه (أي أباالدرداء) رجل يذكر أن أباه أصابه الأسر وهو احتباس البول فعلمه رقية سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من اشتكى منكم شيئا أو اشتكى أخ له فليقل إلخ. قال الجزري: ولم يذكر مجيء الرجل إليه وما قال له – انتهى. والحديث قد سكت عنه أبوداود، وفي سنده زيادة بن محمد الأنصاري. قال البخاري والنسائي وابن حبان وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال الحاكم في المستدرك: هو شيخ من أهل مصر قليل الحديث. قال الذهبي في التلخيص: قال البخاري وغيره منكر الحديث.

(9/467)


1570- قوله: (ينكأ) بفتح الياء في أوله وبالهمزة في آخره مجزوما على جواب الأمر. وروى بالرفع أي فهو ينكأ (لك) أي لمرضاتك (عدوا) أي يجرحهم ويقتلهم. والمعنى يغزو في سبيك، يقال: نكأ القرحة ينكأ من باب فتح نكأ قشرها قبل أن تبرأ فنديت ونكأ العدو في العدو قتل فيهم وجرح أثخن. وقال في النهاية: أو ينكى لك عدوا من نكيت في العدو وأنكى إذا أكثرت فيهم الجراح والقتل فوهنوا لذلك. وقد يهمز لغة، يقال نكأت القرحة أنكأها إذا قشرتها. وقال في جامع الأصول (ج7:ص574) (ينكأك عدوا) نكأت العدو في الغزو إذا أثرت فيه أثرا بينا من قتل أو نهب أو غير ذلك- انتهى. ولا يخفى أن قول الجزري في النهاية يدل على أن ينكأ من المعتل، وقد يهمز فيفيد الضبط بالهمزة والياء، والهمزة ضعيف بالنسبة إلى الناقص، لكن نسخ المشكاة وأبي داود والمستدرك على كتابة بالألف وضبطه بالهمز على خلاف في رفعه وجزمه فلو كان من الناقص اليائي كما ذكره صاحب النهاية لكان يكتب بالياء. ثم رأيت القاموس ذكر في الناقص اليائي نكى العدو وفيه نكاية قتل وجرح والقرحة نكأها، وقال في المهموز: نكأ القرحة كمنع قشرها قبل أن تبرأ فنديت والعدو نكأهم. وحاصل هذا أنهما لغتان، وأن الحديث من المهموز ورفعه أقوى لقوله: أو يمشي لك إلى جنازة. وقال الطيبي: ينكأ مجزوم على جواب الأمر، ويجوز الرفع أي فانه ينكأ (أو يمشي) بالرفع أي أو هو يمشي. قال ميرك: كذا ورد بالياء وهو على تقدير ينكأ بالرفع ظاهر، وعلى تقدير الجزم فهو وارد على قراءة من يتق ويصبر (لك) أي لأمرك وابتغاء وجهك أو لأجلك طلبا لرضاك وامتثالا لأمرك (إلى جنازة) أي إلى إتباعها للصلاة لما جاء في رواية ابن السني والحاكم: إلى صلاة، وهذا توسع شائع. قال الطيبي: ولعله جمع بين النكاية وتشييع الجنازة، لأن الأول كدح في إنزال العقاب على عدو الله، والثاني سعى في إيصال الرحمة إلى ولي الله- انتهى. (رواه أبوداود)

(9/468)


1571- (36) وعن علي بن زيد، عن أمية أنها سألت عائشة عن قول الله عزوجل: ?إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله?
في الجنائز، وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضا ابن السني في اليوم والليلة (ص175)، وابن حبان والحاكم (ج1:ص344) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي.
1571- قوله: (وعن علي بن زيد) هو علي بن زيد بن عبدالله بن زهير بن عبدالله بن جدعان التيمي البصري، أصله من مكة وهو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان بضم الجيم وإسكان الدال وفتح العين المهملتين، ينسب أبوه إلى جد جده. قال العجلي: لا بأس به. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صالح الحديث وإلى اللين ما هو. وقال الترمذي: صدوق إلا أنه ربما رفع الشيء الذي يوقفه غيره. وقال الساجي: كان من أهل الصدوق ويحتمل لرواية الجلة عنه، وليس يجرى مجرى من أجمع على ثبته، وضعفه آخرون، روى له مسلم مقرونا بغيره. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه (عن أمية) بالتصغير بنت عبدالله، ويقال أمينة وهي أم محمد إمرأة والد علي بن زيد بن جدعان وليست بأمه، ذكرها الذهبي في الميزان في فصل المجهولات. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: أمية بنت عبدالله عن عائشة وعنها ربيبها علي بن زيد بن جدعان وقيل: عن علي عن أم محمد وهي إمرأة أبيه واسمها أمينة. ووقع في بعض النسخ من الترمذي عن علي بن زيد بن جدعان عن أمه وهو غلط، فقد روى علي بن زيد عن إمرأة أبيه أم محمد عدة أحاديث- انتهى. (إن تبدوا) أي إن تظهروا (ما في أنفسكم) أي ما في قلوبكم من السوء بالقول أو الفعل (أو تخفوه) أي تضمروه مع الإصرار عليه، إذ لا عبرة بخطور الخواطر. وقال الآلوسي في تفسيره (ج3:ص64): (إن تبدوا) أي تظهروا للناس (ما في أنفسكم) أي ما حصل فيها حصولا أصليا بحيث يوجب اتصافها به كالملكات الرديئة والأخلاق الذميمة كالحسد والكبر والعجب والكفران وكتمان الشهادة (أو تخفوه) بأن لا تظهروه ?يحاسبكم به الله? أي يجازيكم به يوم

(9/469)


القيامة. وأما تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان. وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم أي إن الله تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية، وإنما يعاقب على عملها، فلا منافاة بين الحديث والآية، ولا يشكل على هذا أنهم قالوا إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى: ?ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم?[البقرة:225] لأنا نقول المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان، وهو أيضا من الكيفيات النفسية التي تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس- انتهى. ?يحاسبكم به الله? أي
وعن قوله: ?من يعمل سوء يجز به? فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة، حتى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها، فيفزع لها،حتى

(9/470)


يجازيكم بسركم وعلنكم أو يخبركم بما أسررتم وما أعلنتم (وعن قوله) تعالى ?من يعمل? ظاهرا وباطنا ?سوء? أي صغيرا أو كبيرا ?يجز به? أي في الدنيا والعقبى إلا ما شاء ممن شاء (فقالت) عائشة (ما سألني عنها) أي عن هذه المسألة (منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي عنها (فقال هذه) إشارة إلى مفهوم الآيتين المسؤل عنهما أي محاسبة العباد أو مجازاتهم بما يبدون وما يخفون من الأعمال (معاتبة الله العبد) أي مؤاخذة العبد بما اقترف من الذنب (بما يصيبه) أي في الدنيا، وهو صلة معاتبة ويصح كون الباء سببية (من الحمى) وغيرها مؤاخذة المعاتب، وإنما خصت الحمى بالذكر، لأنها من أشد الأمراض وأخطرها. قال في المفاتيح: العتاب أن يظهر أحد الخليلين من نفسه الغضب على خليله لسوء أدب ظهر منه مع أن في قلبه محبته، يعني ليس معنى الآية أن يعذب الله المؤمنين بجميع ذنوبهم يوم القيامة، بل معناها أنه يلحقهم بالجوع والعطش والمرض والحزن وغير ذلك من المكاره حتى إذا خرجوا من الدنيا صاروا مطهرين من الذنوب. قال الطيبي: كأنها فهمت أن هذه مؤاخذة عقاب أخروي فأجابها بأنها مؤاخذة عتاب في الدنيا صادرة عن مبدأ عناية ورحمة على ما هو معهود من ذي عاطفة وإشفاق على معطوف عليه يراقب أوقاته وأخواله وينبهه لطريق السعادة كلما ازور عن سواء الطريق يرده إليه لطفا وقهرا، فكأنه عليه الصلاة والسلام يقول لها: لا تظني أن هذه المحاسبة مؤاخذة سخط وغضب وأنها مخصوصة بالآخرة إنما هي مؤاخذة عتاب يجرى بين المتعاتبتين، ولهذا جاء بصلة المعاتبة توضيحا لها وتحقيقا لمعناها في قوله: بما يصيبه من الحمى- انتهى. (والنكبة) بفتح النون أي المحنة وما يصيب الإنسان من حوادث الدهر (حتى البضاعة) بالجر عطفا على ما قبلها وبالرفع على الابتداء، وهي بالكسر قطعة من المال تعين للتجارة والأصل فيها البضع وهو جملة من اللحم تبضع أي تقطع (يضعها في يد قميصه) أي كمه سمى باسم ما

(9/471)


يحمل فيه، ووقع في بعض النسخ من الترمذي: في كم قميصه (فيفقدها) أي يتفقدها ويطلبها فلم يجدها لسقوطها أو أخذ سارق لها منه يقال فقدت الشيء أفقده فقدا أي طلبته بعد ما غاب قال الله تعالى: ?ما ذا تفقدون? [يوسف:71] (فيفزع لها) أي يحزن لضياع البضاعة، فيكون كفارة، كذا قاله ابن الملك. وقال الطيبي: يعني إذا وضع بضاعة في كمه، ووهم أنها غابت فطلبها وفزع لذلك كفرت عنه ذنوبه، وفيه من المبالغة ما لا يخفى يقال فزع له أي تغير وتحول من حال إلى حال. قال في النهاية: يقال: فزعت لمجئ فلان إذا تأهبت له متحولا من حال إلى حال (حتى) أي لا يزال يكرر
إن العبد ليخرج من ذنوبه، كما يخرج التبر الأحمر من الكير)) رواه البخاري.
1572- (37) وعن أبي موسى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله تعالى عنه أكثر، وقرأ ?وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير?
عليه تلك الأحوال حتى (إن العبد) بكسر الهمزة. وفي بعض النسخ بالفتح: وأظهر العبد موضع ضميره إظهارا لكمال العبودية المقتضي للصبر والرضا بأحكام الربوبية. وقال الطيبي: كأنه قيل: يخرج عبدي ومن هو تحت عنايتي ولطفي (ليخرج من ذنوبه) بسبب الابتلاء (كما يخرج التبر) بالكسر أي الذهب والفضة قبل أن يضربا دراهم ودنانير فإذا ضربا كانا عينا. وفي رواية ابن أبي الدنيا: الذهب بدل التبر (من الكير) بكسر الكاف متعلق بيخرج (رواه الترمذي) في تفسير البقرة. وأخرجه أيضا ابن جرير وابن أبي حاتم. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة- انتهى. قال ابن كثير وشيخه علي بن زيد بن جدعان ضعيف يغرب في رواياته، وهو يروي هذا الحديث عن إمرأة أبيه أم محمد أمية بنت عبدالله عن عائشة وليس عنها في الكتب سواه - انتهى.

(9/472)


1572- قوله: (لا يصيب عبدا) التنوين للتنكير (نكبة) أي محنة وأذى والتنوين للتقليل لا للجنس ليصح ترتب ما بعدها عليها بالفاء وهو (فما فوقها) أي في العظم (أو دونها) أي في المقدار. وقال ابن حجر: فما فوقها في العظم أو دونها في الحقارة ويصح عكسه (إلا بذنب) أي يصدر من العبد (وما يعفو الله) "ما" موصولة أي الذي يغفره ويمحوه (أكثر) مما يجازيه (وقرأ) أي النبي صلى الله عليه وسلم ?وما أصابكم? خطاب للمؤمنين،و "ما" شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط ?من مصيبة? أي بليه وشدة ?فبما كسبت أيديكم? أي كسبتم من الذنوب وعبر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تزاول بها ?ويعفو عن كثير? أي من الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلا قيل وآجلا. قال ابن كثير: ?ويعفو عن كثير? أي من السيئآت فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها ?ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة?-انتهى. وهذا في المذنبين، وأما غيرهم فما يصيبهم في الدنيا يكون لرفع درجاتهم في الآخرة أو لحكم أخرى خفيت علينا. وأما الأطفال والمجانين فغير داخلين في الخطاب، لأنه للمكلفين، وبفرض دخولهم أخرجهم للتخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية.وقيل: في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر ثم أن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة، ويدل على ذلك ما رواه أحمد
رواه الترمذي.
1573- (38) وعن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا كان على طريقه حسنة من العبادة، ثم مرض، قيل للملك المؤكل به: أكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه، أو أكتفه إلى)).
1574- (39) وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ابتلى المسلم ببلاء في جسده، قيل للملك:

(9/473)


(ج1:ص85) وغيره من حديث علي قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ?وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيدكم ويعفو عن كثير?، وسأفسرها لك يا علي ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثنى عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى فمنه في الدنيا فالله سبحانه أكرم من أن يعود بعد عفوه، ولا استحالة في كون الدنيا دار تكليف ويقع فيها لبعض الأشخاص ما يكون جزاء له على ذنبه أي مكفرا له (رواه الترمذي) في تفسير سورة الشورى من طريق عبيدالله بن الوازع الكلابي عن شيخ من بني مرة عن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى به، وعبيدالله وشيخه مجهولان وبلال بن أبي بردة قاضي البصرة كان ظلوما، وذكره أبوالعرب الصقلي في الضعفاء، وابن حبان في الثقات، فالحديث ضعيف، وله شاهد من حديث علي عند أحمد وغيره، وتقدم لفظه وفيه: أزهر بن راشد الكاهلي وهو ضعيف، ويؤيده حديث معاوية عند أحمد (ج4:ص98) وابن أبي شيبة (ج4:ص71) وحديث أبي سعيد، وحديث ابن مسعود المتقدمان في الفصل الأول.

(9/474)


1573- قوله: (وعن عبدالله بن عمرو) بالواو (إن العبد إذا كان على طريقه حسنة) أي على جهة المتابعة الشرعية (من العبادة) أي نوع من أنواعها من النوافل بعد قيامه بالفرائض (ثم مرض) ولم يقدر على تلك العبادة (قيل) أي قال الله تعالى، كما في رواية، ودل عليه قوله: هنا حتى أطلقه (إذا كان طليقا) أي مطلقا من المرض الذي عرض له غير مقيد به من أطلقه إذا رفع عنه القيد أي إذا كان صحيحا لم يقيده المرض عن العمل، كذا ذكره ميرك (حتى أطلقه) بضم الهمزة أي أكتب إلى حين أرفع عنه قيد المرض (أو أكفته إلى) بفتح الهمزة وكسر الفاء بعدها تاء مثناة فوق أي أضمه إلى وأقبضه. قال في النهاية: أي أضمه إلى القبر، وكل ضممته إلى شيء فقد كفته، ومنه قيل للأرض كفأت.وقال المظهر: أي أميته. قيل: الكفت الضم والجمع وهنا مجاز عن الموت.
1574- قوله: (إذا ابتلى المسلم ببلاء في جسده قيل للملك) وذكره الحافظ في الفتح، والمنذري في
أكتب له صالح عمله الذي كان يعمل، فإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه)) رواهما في شرح السنة.
1575- (40) وعن جابر بن عتيك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهادة سبع، سوى القتل في سبيل الله، المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد،

(9/475)


الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد نقلا عن أحمد بلفظ: إذا ابتلى الله عزوجل العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله عزوجل للملك: أي صاحب يمينه، وهو كاتب الحسنات (أكتب له صالح عمله) أي مثله (الذي كان يعمل) قال القاري: الظاهر من الحديث أنه يكتب له نفس العمل، وقيل ثوابه، والأول أبلغ فانه يشمل التضاعف (فإن شفاه) الله عزوجل (غسله) بالتشديد ويخفف أي نظفه (وطهره) من الذنوب؛ لأن المرض كفرها، والواو تفسيرية أو تأكيدية (وإن قبضه) أي أمر بقبضه وأماته (غفر له) من السيئآت (ورحمه) بقبول الحسنات أو تفضل عليه بزيادة المثوبات (رواهما) أي روى صاحب المصابيح الحديثين السابقين (في شرح السنة) الحديث الأول أخرجه أيضا عبدالرزاق وأحمد (ج2:ص203-205) والبيهقي (ج3:ص374) قال المنذري: إسناده حسن.وقال الهيثمي (ج2:ص303) إسناده صحيح، وأخرج أيضا نحوه أحمد (ج2:ص159-194-198) والدارمي وابن أبي شيبة والبزار والطبراني والحاكم (ج1:ص348) وصححه. والحديث الثاني أخرجه أيضا أبويعلى وأحمد وابن أبي شيبة (ج4:ص72) قال المنذري، والهيثمي: رجاله ثقات، وذكره الحافظ في الفتح، وسكت عنه.

(9/476)


1575- قوله: (وعن جابر بن عتيك) بفتح العين المهملة وكسر التاء المثناة الفوقية. قال الحافظ في التقريب: جابر بن عتيك بن قيس الأنصاري صحابي جليل، اختلف في شهوده بدرا مات سنة (61) وهو ابن (91) سنة (الشهادة) أي الحكمية (سبع سوى القتل في سبيل الله) أي غير الشهادة الحقيقية، وقد تقدم أن العدد ليس للحصر (المطعون شهيد) قال الطيبي: هو إلى آخره بيان للسبع بحسب المعنى (والغريق) بالياء، وفي رواية: الغرق بفتح فكسر بلا ياء (وصاحب ذات الجنب) قال في النهاية: ذات الجنب الدبيلة والدمل الكبيرة التي تظهر في باطن الجنب وتنفجر إلى داخل وقلما يسلم صاحبها وذو الجنب الذي يشتكي جنبه بسبب الدبيلة إلا أن ذو للمذكر وذات للمؤنث وصارت ذات الجنب علما لها وإن كانت في الأصل صفة مضافة- انتهى. وقال في جامع الأصول (ج3:ص376): ذات الجنب دمل أو قرحة تعرض في جوف الإنسان تنفجر إلى داخل فيموت صاحبها وقد تنفجر إلى خارج. وقال القاري: هي قرحة أو قروح تصيب الإنسان داخل جنبه ثم تفتح ويسكن الوجع
وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد)) رواه مالك، وأبوداود والنسائي.
1576- (41) وعن سعد، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل،

(9/477)


وذلك وقت الهلاك ومن علاماتها الوجع تحت الأضلاع وضيق النفس مع ملازمة الحمى والسعال وهي في النساء أكثر. وقال الحافظ ابن القيم: ذات الجنب عند الأطباء نوعان: حقيقي وغير حقيقي، فالحقيقي ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع، وغير الحقيقي ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية تحتقن بين الصفاقات فتحدث وجعا قريبا من وجع ذات الجنب الحقيقي إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود وفي الحقيقي ناخس، قال: ويلزم ذات الجنب الحقيقي خمسة أعراض: وهي الحمى، والسعال، والوجع الناخس، وضيق النفس، والنبض المنشاري- انتهى (وصاحب الحريق) أي المحرق وهو الذي يموت بالحرق، وهذا لفظ أبي داود، وعند النسائي، وصاحب الحرق. قال السندي: بفتحتين النار وصاحب النار من قتله النار، وفي الموطأ: والحرق شهيد، وهو بفتح فكسر بمعنى من يموت حريفا في النار (والذي يموت تحت الهدم) بفتح الدال أي البناء المهدوم يعني الذي وقع عليه بناء أو حائط فمات تحته (والمرأة تموت بجمع) قال الجزري: قيل هي التي تموت وفي بطنها ولد، وقيل التي تموت بكرا، والجمع بالضم بمعنى المجموع كالذخير بمعنى المذخور، وكسر الكسائي الجيم، والمعنى أنها ماتت مع شيء مجموع فيها غير منفصل عنها من حمل أو بكارة- انتهى (رواه مالك وأبوداود) في الجنائز واللفظ له (والنسائي) في الجنائز وفي الجهاد وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص446) وابن ماجه في الجهاد، وابن حبان والحاكم (ج1ص352) وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال النووي في شرح مسلم: هذا الحديث صحيح بلا خلاف وإن لم يخرجه الشيخان.

(9/478)


1576- قوله: (وعن سعد) بن أبي وقاص (قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -) وفي رواية لأحمد، والبيهقي، والحاكم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية ابن ماجه: قال: قلت يا رسول الله (أي الناس أشد) أي أكثر أو أصعب (بلاء) أي محنة ومصيبة بدليل السياق وإن كان البلاء يطلق على المنحة للاختبار أيضا فيعطي بعض الناس الصحة والعلم والسعة ليختبر هل يقوم بشكر تلك النعمة (قال الأنبياء) أي هم أشد في الابتلاء، لأنهم يتلذذون بالبلاء كما يتلذذ غيرهم بالنعماء، ولأنهم لو لم يبتلوا لتوهم فيهم الألوهية وليتوهن على الأمة الصبر على البلية، ولأن من كان أشد بلاء كان أشد تضرعا والتجاء إلى الله تعالى (ثم الأمثل فالأمثل) أي الأفضل فالأفضل
يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاءه، وإن كان في دينه رقة هون عليه، فما زال كذلك حتى يمشي على الأرض ماله ذنب)). رواه الترمذي. وابن ماجه، والدارمي،

(9/479)


على ترتيبهم في الفضل، فكل من كان أفضل فبلاءه أشد. قال الحافظ: الأمثل أفعل من المثالة، والجمع أماثل وهم الفضلاء. وقال الخطابي: الأمثل يعبر به عن الأشبه بالفضل والأقرب إلى الخير، وأماثل القوم كناية عن خيارهم. وقال ابن الملك: أي الأشرف فالأشرف والأعلى فالأعلى رتبة ومنزلة يعني من هو أقرب إلى الله بلاءه أشد ليكون ثوابه أكثر. قال الطيبي: ثم فيه للتراخي في الرتبة، والفاء للتعاقب على سبيل التوالي تنزلا من الأعلى إلى الأسفل، واللام في الأنبياء للجنس. قال القاري: ويصح كونها للاستغراق إذ لا يخلو واحد منهم من عظيم محنة وجسيم بلية بالنسبة لأهل زمنه، ويدل عليه قوله (يبتلى) بالبناء للمفعول (الرجل) وفي رواية ابن ماجه، العبد (على حسب) بالتحريك (دينه) أي مقداره ضعفا وقوة ونقصا وكمالا يعني بقدر قوة إيمانه وضعفه. قال الطيبي: الجملة بيان للجملة الأولى، واللام في الرجل للاستغراق في الأجناس المتوالية (فإن كان) تفصيل للابتلاء وقدره (في دينه صلبا) بضم فسكون أي قويا شديدا، وهو خبر كان، واسمه ضمير راجع إلى الرجل، والجار متعلق بالخبر (اشتد بلاءه) أي كمية وكيفية (وإن كان) أي هو (في دينه رقة) أي ضعف ولين، والجملة خبر كان، ويحتمل أن يكون رقة اسم كان. قال الطيبي: جعل الصلابة صفة له والرقة صفة لدينه مبالغة وعلى الأصل. وقال القاري: وكان الأصل في الصلب أن يستعمل في الجثث، وفي الرقة أن تستعمل في المعاني، ويمكن أن يحمل على التفنن في العبارة- انتهى. (هون) على بناء المفعول أي سهل (عليه) أي البلاء، وفي رواية لأحمد: فإن كان في دينه صلابة زيد في بلاءه وإن كان في دينه رقة خفف عنه- انتهى. والسر في ذلك أن البلاء في مقابلة النعمة فمن كانت النعمة عليه أكثر فبلاءه أغزر (فما زال) أي الرجل المبتلى. قال الطيبي: الضمير راجع إلى اسم كان الأول (كذلك) أي أبدا يصيب الصالح البلاء ويغفر ذنبه بإصابته إياه (حتى يمشي على

(9/480)


الأرض ماله) أي عليه (ذنب) كناية عن خلاصة من الذنوب فكأنه كان محبوسا ثم أطلق وخلى سبيله يمشي ما عليه بأس، ولفظ الحديث من قوله: هون عليه إلى آخره ليس لواحد ممن نسب إليه الحديث. والظاهر أن البغوي ذكر معنى آخر الحديث اختصارا، ولفظ الترمذي: ابتلى على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة، وعند ابن ماجه: ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه من خطيئة، ونحوه في رواية لأحمد والحاكم والبيهقي، ولفظ الدارمي: فإن كان في دينه صلابة زيد صلابة وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ماله خطيئة، وفي رواية ابن حبان: فمن ثخن دينه اشتد بلاءه ومن ضعف دينه ضعف بلاءه إلخ (رواه الترمذي) في الزهد (وابن ماجه) في الفتن (والدارمي) في
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
1577-(42) وعن عائشة، قالت: ما أغبط أحدا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -. رواه الترمذي، والنسائي.
1578-(43) وعنها، قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بالموت،
الرقاق، وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص172، 174، 180، 185) والنسائي في الكبرى، وابن حبان والحاكم (ج1ص41) وابن أبي شيبة (ج4ص72) وابن أبي الدنيا، والبيهقي (ج1ص372) (وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح) وصححه أيضا الحاكم، والبغوي في المصابيح، وله شاهد من حديث أبي سعيد عند ابن ماجه، وابن أبي الدنيا، والحاكم (ج1ص40) والبيهقي (ج3ص372) بلفظ: قال الأنبياء قال ثم من قال العلماء قال ثم من قال الصالحون- الحديث. وليس فيه ما في آخر حديث سعد، وفي الباب أيضا عن فاطمة بنت اليمان أخت حذيفة عند أحمد (ج6ص369) والنسائي في الكبرى وقد صححه الحاكم (ج4ص404) وحسنه الهيثمي.

(9/481)


1577- قوله: (ما أغبط) بكسر الباء يقال غبطت الرجل أغبطه إذا اشتهيت أن يكون لك مثل ماله وأن يدوم عليه ما هو فيه أي ما أحسد (أحدا) ولا أتمنى ولا أفرح لأحد (بهون الموت) الهون بالفتح الرفق واللين أي بسهولة موت، والإضافة فيه إضافة الصفة إلى الموصوف، وفي جامع الأصول (ج11ص385) يهون عليه الموت (بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي لما رأيت شدة وفاته علمت أن ذلك ليس من المنذرات الدالة على سوء عاقبة المتوفى وأن هون الموت وسهولته ليس من المكرمات وإلا لكان - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس به فلا أكره شدة الموت لأحد ولا أغبط أحدا يموت من غير شدة (رواه الترمذي والنسائي) أي في الجنائز، واللفظ للترمذي أخرجه من طريق عبدالرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه عن ابن عمر عن عائشة به، وقال: إنما أعرفه من هذا الوجه-انتهى. قال شيخنا: لم يحكم (الترمذي) عليه بشيء من الصحة والضعف، والظاهر أنه حسن- انتهى. ولفظ النسائي، وقد أخرجه من غير طريق الترمذي: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لبين حاقنتني وذاقنتني ولا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد تقدم في الفصل الأول من رواية البخاري، وسياق الكتاب نسبه النابلسي في ذخائر المواريث (ج4ص202) للترمذي فقط.
1578- قوله: (وهو بالموت) أي مشغول أو ملتبس به، وفي رواية ابن ماجه: وهو يموت
وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه، ثم يقول: ((اللهم اعني على منكرات الموت أو سكرات الموت)). رواه الترمذي، وابن ماجه.
1579-(44) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله تعالى بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه يوم القيامة)).

(9/482)


(وعنده قدح) بفتحتين معروف (وهو يدخل) وعند ابن ماجه: فيدخل (ثم يمسح وجهه) أي بالماء كما في الترمذي وابن ماجه وسقط لفظ "بالماء" من نسخ المشكاة والمصابيح وكان - صلى الله عليه وسلم - يمسح تخفيفا للحرارة أعنى ما سأل دفع تلك المكروهات عنه بل سأل الإعانة على حملها، ففيه أن ذاك خير لرفع الدرجات، قاله السندي. وقيل: أو دفعا للغشيان وكربه (اللهم اعني على منكرات الموت أو سكرات الموت) قال القاري: قيل أو للشك، وبه جزم ابن حجر، ويحتمل أن تكون للتنويع، ويراد من منكرات الموت ما يقع من تقصير في تلك الحال من المريض أو وساوس الشيطان وخطراته وتزيين خطراته ومن سكرات الموت شدائده التي لا يطيقها المحتضر فيموت جزعا فزعا، والمطلوب أنه لا يموت إلا أنه مسلم ومسلم محسن للظن بربه، وفي هذا تعليم منه عليه الصلاة والسلام لأمته- انتهى. قلت: هكذا وقع في المصابيح والمشكاة على منكرات الموت أو سكرات الموت، والذي في الترمذي على غمرات الموت وسكرات الموت، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج11ص385) قال في مجمع البحار: غمرات الموت شدائده. وقال في القاموس: غمرة الشيء شدته ومزدحمة ج غمرات وغمار- انتهى. وسكرات جمع سكرة بفتح السين وسكون الكاف وهي شدة الموت. قال سراج أحمد في شرح الترمذي: هو عطف بيان لما قبله، والظاهر أن يراد بالأولى الشدة وبالأخرى ما يترتب عليها من الدهشة والحيرة الموجبة للغفلة، وقال القاضي في تفسير قوله تعالى: ?وجاءت سكرة الموت بالحق?[ق: 19] أن سكرته شدته الذاهبة بالعقل-انتهى. (رواه الترمذي وابن ماجه) في الجنائز، وأخرجه أيضا النسائي في اليوم والليلة، وفي سنده موسى بن سرجس، وهو مستور.

(9/483)


1579- قوله: (عجل) بالتشديد أي أسرع (له بالعقوبة) أي الابتلاء بالمكاره (في الدنيا) ليخرج منها وليس عليه ذنب ومن فعل ذلك معه فقد أعظم اللطف به والمنية عليه (أمسك) أي أخر (عنه) ما يستحقه من العقوبة (بذنبه) أي بسببه (حتى يوافيه) أي يجازيه جزاء وافيا (به) أي بذنبه (يوم القيامة) قال الطيبي الضمير المرفوع راجع إلى الله تعالى. والمنصوب إلى العبد، ويجوز أن يعكس- انتهى. قال القاري: ولعل الموافاة حينئذ بمعنى الملاقاة قال: والمعنى لا يجازيه بذنبه حتى يجيء في الآخرة متوافر الذنوب وافيها فيستوفي حقه من
1580- (45) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله عزوجل إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) رواه الترمذي، وابن ماجه.
1581- (46) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة
العقاب - انتهى. قلت: وفي الترمذي حتى يوافي به أي بدون الضمير المنصوب أي حتى يأتي العبد بذنبه يوم القيامة ونقله الجزري هكذا "حتى يوافي يوم القيامة" (رواه الترمذي) في الزهد، وهو حديث حسن، وأخرجه الحاكم في الجنائز (ج1ص349) والحدود (ج4ص377) من حديث عبدالله بن مغفل وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

(9/484)


1580- قوله: (إن عظم الجزاء) أي عظمة الأجر وكثرة الثواب (مع عظم البلاء) بكسر العين المهملة وفتح الظاء فيهما، ويجوز ضمها مع سكون الظاء فمن كان ابتلاءه أعظم فجزاءه أعظم (ابتلاهم) أي اختبرهم بالمحن والرزايا (فمن رضي) أي بما ابتلاه الله به (فله الرضا) منه تعالى وجزيل الثواب. قال السندي: قوله: فمن رضي فله الرضا أي رضا الله تعالى عنه جزاء لرضاه أو فله جزاء رضاه، وكذا قوله فله السخط، ثم الظاهر أنه تفصيل لمطلق المبتلين لا لمن أحبهم فابتلاهم إذا الظاهر أنه تعالى يوفقهم للرضا فلا يسخط منهم أحد- انتهى. (ومن سخط) بكسر الخاء أي كره بلاء الله وفزع ولم يرض بقضاءه (فله السخط) منه تعالى وأليم العذاب ?ومن يعمل سوء يجز به?، والمقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه لا الترغيب في طلبه للنهي عنه (رواه الترمذي) في الزهد بسند الحديث الذي قبله وقال: حديث حسن غريب (وابن ماجه) في الفتن، وفي الباب عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الرضا ومن جزع فله الجزع. أخرجه أحمد قال المنذري، والهيثمي: رواته ثقات، ومحمود بن لبيد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف في سماعه منه.
1581- قوله: (لا يزال) في الترمذي ما يزال، وكذا وقع في رواية الحاكم (ج4ص314) وهكذا نقله المنذري في الترغيب والجزري في جامع الأصول (ج11ص357) عن الترمذي نعم وقع في رواية أحمد والحاكم (ج1ص346) وابن أبي شيبة والبيهقي لا يزال (البلاء بالمؤمن) أي ينزل بالمؤمن الكامل (أو المؤمنة)
في نفسه وماله وولده، حتى يلقي الله تعالى وما عليه من خطيئة)) رواه الترمذي، وروى مالك نحوه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
1582- (47) وعن محمد بن خالد السلمي، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(9/485)


قال القاري: أو للتنويع، ووقع في أصل ابن حجر: بالواو فقال الواو بمعنى أو بدليل إفراد الضمير أي في نفسه وماله وولده، وهو مخالف للنسخ المصححة والأصول المعتمدة يعني من المشكاة. قلت: وفي نسخ الترمذي الموجودة عندنا وقع بالواو وكذا في الترغيب للمنذري وجامع الأصول للجزري، وهكذا رواه البيهقي وابن أبي شيبة ووقع عند أحمد بلفظة "أو" (وولده) بفتح الواو واللام وبضم فسكون أي أولاده (حتى يلقي الله) أي يموت (وما عليه من خطيئة) وفي الترمذي: وما عليه خطيئة أي بحذف من، وهكذا في الترغيب وجامع الأصول، وكذا في رواية الحاكم (ج4ص314) ووقع عند أحمد والحاكم (ج1ص346) والبيهقي وابن أبي شيبة من خطيئة. قال القاري: بالهمز والإدغام أي وليس عليه سيئة لأنها زالت بسبب البلاء. وقال الباجي: يحتمل أن يريد أنه يحط لذلك عنه خطاياه حتى لا يبقى له خطيئة، ويحتمل أن يريد أنه يحصل له على ذلك من الأجر ما يزن جميع ذنوبه فيلقي الله تعالى وليس له ذنب يزيد على حسناته فهو بمنزلة من لا ذنب له وإنما هذا لمن صبر واحتسب، وأما من سخط ولم يرض بقدر الله تعالى فإنه أقرب إلى أن يأثم لتسخطه فيكثر بذلك سائر آثامه (رواه الترمذي) في الزهد، وأخرجه أيضا أحمد وابن أبي شيبة (ج4ص71) والبزار والحاكم (ج1ص346ج4ص314، 315) والبيهقي (ج3ص374) (وروى مالك) في الجنائز (نحوه) أي بمعناه، ولفظه ما يزال المؤمن يصاب في ولده وحامته حتى يلقي الله وليست له خطيئة (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) وصححه أيضا البغوي في المصابيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

(9/486)


1582- قوله: (وعن محمد بن خالد السلمي) بضم السين وفتح اللام مجهول من طبقة كبار أتباع التابعين (عن أبيه) خالد وهو مجهول أيضا من أوساط التابعين. قال الهيثمي: محمد بن خالد وأبوه لم أعرفهما (عن جده) أي جد محمد بن خالد، زاد في روايات من خرج حديثه هذا وكانت له (أي لجد محمد بن خالد) صحبة، يقال اسمه اللجلاج بجيمين وفتح اللام الأولى. زيد، ويكنى أباخالد. قال الحافظ في الأسماء من الإصابة: اللجلاج بن حكيم السلمي أخو الجحاف، ذكره ابن مندة وقال له صحبة عداده في أهل الجزيرة، وقال في الكنى منه أبوخالد السلمي جد محمد بن خالد، أورده البغوي في الكنى، وأورد من طريق أبي المليح عن محمد بن خالد
((إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله)) رواه أحمد، وأبوداود.
1583- (48) وعن عبدالله بن شخير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل ابن آدم وإلى جنبه تسع

(9/487)


السلمي عن أبيه عن جده وكانت له صبحة، فذكر حديثا وسماه ابن مندة اللجلاج. وقال ابن الأثير: أبوخالد السلمي له صحبة سكن الجزيرة حديثه عند أولاده روى أبوالمليح عن محمد بن خالد عن أبيه عن جده وكانت له صحبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث. وقال أخرجه ابن مندة وأبونعيم (إن العبد إذا سبقت له) أي في علم الله أو في قضاءه وقدره (من الله منزلة) أي مرتبة عالية في الجنة (لم يبلغها بعمله) لعجزه عن العمل الموصل إليها. قال القاري: وفيه دليل على أن الطاعات سبب للدرجات، قيل ودخول الجنة بفضل الله تعالى وإيمان العبد والخلود بالنية. وقال الطيبي: فيه إشعار بأن للبلاء خاصية في نيل الثواب ليس للطاعة ولذا كان الأمثل فالأمثل أشد بلاء (ابتلاءه الله في جسده أو في ماله أو في ولده) أو في الموضعين للتنويع باعتبار الأوقات أو بإختلاف الأشخاص (ثم صبره) بالتشديد أي رزقه الصبر (حتى يبلغه) الله بالتشديد، وقيل: بالتخفيف. قال الطيبي: "حتى" هذه إما للغاية وإما بمعنى كي، والمعنى حتى يوصله الله تعالى (المنزلة) أي المرتبة العليا (التي سبقت له) أي إرادتها (من الله) تعالى شأنه (رواه أحمد) (وأبوداود) في الجنائز وسكت عنه، قال في عون المعبود: والحديث ليس من رواية اللؤلؤي، ولذا لم يذكره المنذري في مختصره. وقال المزي في الأطراف: هذا الحديث في رواية ابن العبد وابن داسة، ولم يذكره أبوالقاسم- انتهى. وأخرجه أيضا البيهقي (ج3ص374) من طريق أبي داود وأبويعلى والطبراني في الكبير والأوسط. قال المنذري في الترغيب: محمد بن خالد لم يرو عنه غير أبي المليح الرقي ولم يرو عن خالد إلا ابنه محمد- انتهى. وله شاهد جيد من حديث أبي هريرة بلفظ: إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمله فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغها، وفي رواية يكون له عند الله المنزلة الرفيعة. أخرجه أبويعلى. قال الهيثمي: ورجاله ثقات، وابن

(9/488)


حبان في صحيحه من طريقه وغيرهما.
1583- قوله: (مثل) بضم الميم وتشديد المثلثة أي صور وخلق (ابن آدم) بالرفع نائب الفاعل، وقيل: مثل ابن آدم بفتحتين وتخفيف المثلثة، ويريد به صفته وحاله العجيبة الشأن، وهو مبتدأ خبره الجملة التي بعده أي الظرف وتسعة وتسعون مرتفع به أي حال ابن آدم أن تسعة وتسعين منية متوجهة إلى نحوه منتهية إلى جانبه، وقيل: خبره محذوف والتقدير مثل ابن آدم مثل الذي يكون إلى جنبه تسعة وتسعون منية، ولعل الحذف من بعض الرواة (وإلى جنبه) الواو للحال أي بقربه (تسع) وفي المصابيح: تسعة، وكذا في جامع الترمذي
وتسعون منية، إن أخطأته المنايا وقع في الهرم حتى يموت)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
1584- (49) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطي أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض))

(9/489)


(وتسعون) أراد به الكثرة لا الحصر (منية) بفتح الميم أي بلية مهلكة. وقال بعضهم: أي سبب موت (إن أخطأته المنايا) قال الطيبي: المنايا جمع منية، وهي الموت لأنها مقدرة بوقت مخصوص من المنى، وهو التقدير سمي كل بلية من البلايا منية لأنها طلائعها ومقدماتها- انتهى. أي أسباب الموت كثيرة متعددة كالأمراض والجوع والغرق والحرق والهدم وغير ذلك، فإن جاوزه واحد وقع في الآخر فإن جاوزه فرضا الجميع مرة بعد أخرى (وقع في الهرم) قال في القاموس: الهرم محركة أقصى الكبر (حتى يموت) أي وقع في السبب الذي يفضى إلى الموت ولا محالة وهو الهرم. وقال بعضهم: يريد أن أصل خلقة الإنسان من شأنه أن لا تفارقه المصائب والبلايا والأمراض والأدواء كما قيل البرايا أهداف البلايا، وكما قال صاحب الحكم ابن عطاء: ما دمت في هذه الدار لا تستغرب وقوع إلا كدار فإن أخطأته تلك النوائب على سبيل الندرة أدركه من الأدواء الداء الذي لا دواء له وهو الهرم، وحاصله أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والمصائب كفارة لذنوبه، فينبغي للمؤمن أن يكون صابرا على حكم الله راضيا بما قدره الله تعالى وقضاه (رواه الترمذي) في أواخر القدر وقال: حديث حسن غريب، وأعاده في أواخر الزهد سندا ومتنا، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ولعله صححه ههنا لشواهد رويت في ذلك والله اعلم. والحديث أخرجه أيضا الضياء المقدسي في المختارة، كما في الجامع الصغير.

(9/490)


1584- قوله: (يود) أي يتمنى (أهل العافية) أي في الدنيا (يوم القيامة) ظرف يود (حين يعطي) بالبناء للمفعول (الثواب) مفعول ثان أي كثيرا وبلا حساب لقوله تعالى: ?إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب?[الزمر: 10] (قرضت) بالتخفيف، ويحتمل التشديد للمبالغة والتأكيد أي قطعت (في الدنيا) قطعة قطعة (بالمقاريض) جمع المقراض ليجدوا ثوابا كما وجد أهل البلاء. قال الطيبي: الود محبة الشيء وتمنى كونه له، ويستعمل في كل واحد من المعنيين من المحبة والتمني، وفي الحديث هو من المودة التي هي بمعنى التمني وقوله لو أن إلخ منزلة مفعول يود كأنه قيل يود أهل العافية ما يلازم لو أن جلودهم كانت مقرضة في الدنيا وهو الثواب المعطي. قال ميرك: ويحتمل أن مفعول يود الثواب على طريق التنازع وقوله لو أن جلودهم حال أي متمنين أن جلودهم إلخ أو قائلين لو أن جلودهم على طريقة الالتفات من التكلم إلى الغيبة- انتهى. قلت: ورواه
رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
1585 - (50) وعن عامر الرام، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسقام، فقال: ((إن المؤمن إذا أصابه السقم، ثم عافاه الله عزوجل منه، كان كفارة لما مضى من ذنوبه، وموعظة له فيما يستقبل، وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي، كان كالبعير عقله أهله

(9/491)


البيهقي بلفظ: يود أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلاء (رواه الترمذي) في الزهد، وأخرجه أيضا ابن أبي الدنيا والبيهقي (ج3ص375) كلهم من طريق عبدالرحمن بن مغراء عن الأعمش عن أبي الزبير عن جابر، وابن مغراء هذا صدوق تكلم في حديثه عن الأعمش. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي وابن أبي الدنيا من رواية عبدالرحمن بن مغراء، وبقية رجاله ثقات. وقال الترمذي: حديث غريب، ورواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود موقوفا عليه، وفيه رجل لم يسم. قال الهيثمي: وبقية رجاله ثقات، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه الطبراني في الكبير، وفيه مجاعة بن الزبير. قال الهيثمي (ج2ص305) وثقة أحمد وضعفه الدارقطني.

(9/492)


1585- قوله: (وعن عامر الرام) بحذف الياء تخفيفا كما في المتعال، ويقال الرامي لأنه كان ارمي العرب صحابي، روى له أبوداود وحده. قال الحافظ في تهذيبه: عامر الرام، وقيل: الرامي أخو الخضر بن محارب عداده في الصحابة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن إذا ابتلى ثم عافاه الله كان كفارة لذنوبه- الحديث. وقال في الإصابة: عامر الرامي أخو الخضر بضم الخاء وسكون الضاد المعجمتين المحاربي من ولد مالك بن مطرف ابن خلف بن محارب وكان يقال لولد مالك الخضر لأنه كان شديد الأدمة وكان عامر راميا حسن الرمي فلذلك قيل له الرامي (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسقام) جمع سقم أي الأمراض وثوابها (إذا أصابه السقم) بضم فسكون وبفتحتين أي المرض (ثم عافاه الله) من المعافاة وفي أبي داود أعفاه الله أي من الإعفاء، وكذا في الترغيب للمنذري وجامع الأصول للجزري (ج5ص277) يقال أعفا الله فلانا أي عافاه وأعفاه من الأمر برأه (منه) أي من ذلك السقم (كان) أي السقم (وموعظة له) أي تنبيها للمؤمن فيتوب ويتقي (فيما يستقبل) من الزمان. قال الطيبي: أي إذا مرض المؤمن ثم عوفي تنبه وعلم أن مرضه كان مسببا عن الذنوب الماضية فيندم ولا يقدم على ما مضى فيكون كفارة لها (وإن المنافق) وفي معناه الفاسق المصر (إذا مرض ثم أعفي) بمعنى عوفي كما تقدم، والاسم منه العافية (كان) أي المنافق في غفلته (كالبعير عقله أهله) أي شدوه وقيدوه، يقال: عقل البعير أي ثنى وظيفة مع ذراعه فشدهما معا بحبل هو العقال، وهو كناية عن المرض استئناف مبين
ثم أرسلوه، فلم يدر لم عقلوه ولم أرسلوه. فقال رجل: يا رسول الله! وما الأسقام؟ والله ما مرضت قط، فقال: قم عنا فلست منا)). رواه أبوداود.
1586-(51) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئا، ويطيب

(9/493)


لوجه الشبه (ثم أرسلوه) أي أطلقوه من عقاله، وهو كناية عن العافية (فلم يدر) أي لم يعلم (لم) أي لأي سبب (عقلوه ولم أرسلوه) يعني أن المنافق لا يتعظ بما حصل له ولا يستيقظ من غفلته ولا يتوب فلا يفيد مرضه لا فيما مضى ولا فيما يستقبل (وما الأسقام) قال الطيبي: عطف على مقدر أي عرفنا ما يترتب على الأسقام وما الأسقام (قم عنا) أي تنح وأبعد (فلست منا) أي لست من أهل طريقتنا حيث لم تبتل ببلية ومصيبة، وشأن المؤمن أن يبتلى بالبلايا حتى يطهر من الذنوب في الدنيا، وقيل: الظاهر أن هذا الرجل كان منافقا (رواه أبوداود) في أول الجنائز، وأخرجه أيضا أحمد وابن السكن وابن أبي شيبة وغيرهم كلهم من طريق ابن إسحاق عن أبي منظور عن عمه عن عامر الرامي، وأبومنظور وعمه مجهولان. قال الحافظ في التقريب في ترجمة عامر الرامي: صحابي له حديث يروي بإسناد مجهول.

(9/494)


1586- قوله: (إذا دخلتم على المريض) أي لعيادته (فنفسوا له في أجله) من التنفيس، وأصله التفريج يقال: نفس الله عنه كربته أي فرجها، وتعديته بفي لتضمين معنى التطمع أي طمعوه في طول عمره، واللام بمعنى عن وقال الطيبي: اللام للتأكيد وهذا التنفيس إما أن يكون بالدعاء بطول العمر أو بنحو يشفيك الله وإما الجزم فلا يمكن. وقال القاري: أي اذهبوا حزنه فيما يتعلق بأجله بأن تقولوا لا بأس طهورا ويطول الله عمرك ويشفيك ويعافيك أو وسعوا له في أجله فينفس عنه الكرب، والتنفيس التفريج. وقال الجزري: نفست عن المريض إذا منيته طول الأجل وسألت الله أن يطيل عمره. وقال في اللمعات: التنفيس التفريج أي فرجوا له واذهبوا كربه فيما يتعلق بأجله بأن تدعوا له بطول العمر وذهاب المرض، وأن تقولوا لا بأس طهور ولا تخف سيشفيك الله وليس مرضك صعبا وما أشبه ذلك فإنه وإن لم يرد شيئا من الموت المقدر ولا يطول عمره لكن يطيب نفسه ويفرحه ويصير ذلك سببا لانتعاش طبيعته وتقويتها فيضعف المرض- انتهى. (فإن ذلك) أي تنفيسكم له (لا يرد شيئا) أي من القدر والقضاء قيل: قوله فإن ذلك تعليل لما يفهم من المقام كأنه قيل: هل يزيد بذلك العمر أو ماذا فائدته، فقال: لا، فإن التنفيس لا يرد شيئا مما أريد بالمريض (ويطيب) من طاب يطيب والباء في قوله
بنفسه)) رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
1587 - (52) وعن سليمان بن صرد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتله بطنه لم يعذب في قبره)) رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب.

(9/495)


(بنفسه) للتعدية أو زائدة على الفاعل، كما قيل: ويحتمل أنه من طيب بالتشديد والباء زائدة. وفي الترمذي: ويطيب نفسه أي بدون الباء، وهكذا نقله الجزري (ج7:ص402) ولفظ ابن ماجه: وهو يطيب بنفس المريض. قال المناوي: يعني لا بأس عليكم بتنفيسكم له فإن ذلك التنفيس لا أثر له إلا في تطيب نفسه فلا يضركم ذلك ومن ثم عدوا من آداب العيادة تشجيع العليل بلطيف المقال وحسن الحال- انتهى. وارجع لمزيد الكلام إلى زاد المعاد (ج2:ص94) (رواه الترمذي) في الطب (وابن ماجه) في أول الجنائز وأخرجه أيضا ابن السني في اليوم والليلة وابن أبي شيبة (ج4:ص74) (وقال الترمذي هذا حديث غريب) لم يحكم الترمذي عليه بشيء من الصحة والضعف، وفي إسناده موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي المدني. قال البخاري: وأبوزرعة والنسائي وأبوحاتم وأبوأحمد الحاكم منكر الحديث، فالحديث ضعيف.

(9/496)


1587- قوله: (وعن سليمان بن صرد) بضم المهملة وفتح الراء ابن الجون الخزاعي أبومطرف الكوفي صحابي. قال ابن عبدالبر: كان خيرا فاضلا وكان اسمه في الجاهلية يسار فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سليمان سكن الكوفة وكان له سن عالية وشرف وقدر وكلمة في قومه وشهد مع علي صفين وهو الذي قتل حوشب ذا ظليم الألهاني بصفين مبارزة وكان فيمن كتب إلى الحسين يسأله القدوم إلى الكوفة فلما قدمها ترك القتال معه فلما قتل الحسين ندم هو والمسيب بن نجية الفزاري في آخرين إذ لم يقاتل معه ثم قالوا مالنا من توبة مما فعلنا إلا أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه فخرجوا فعسكروا بالنخيلة وولوا أمرهم سليمان بن صرد وسموه أمير التوابين ثم ساروا فالتقوا بمقدمة عبيدالله بن زياد في أربعة آلاف بموضع يقال له عين الوردة فقتل سليمان والمسيب في ربيع الآخر سنة (65) وقيل رماه يزيد بن الحصين بن نمير بسهم فقلته وحمل رأسه ورأس المسيب إلى مروان بن الحكم وكان سليمان يوم قتل ابن (93) سنة (من قتله بطنه) إسناده مجازي أي من مات من مرض بطنه، وهو يحتمل الإسهال والاستسقاء والنفاس (لم يعذب في قبره) وفي رواية لأحمد "فلن يعذب في قبره" لأنه لشدته كان كفارة لسيئته. قال المناوي: وإذا لم يعذب في قبره لم يعذب في غيره لأنه أول منازل الآخرة فإن كان سهلا فما بعده أسهل. وصح في مسلم وغيره أن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين أي إلا حقوق الآدميين (رواه أحمد) (ج4:ص262) (والترمذي) في الجنائز وأخرجه أيضا النسائي في الجنائز، وابن حبان (وقال هذا حديث غريب) وفي
?الفصل الثالث?
1588- (53) عن أنس، قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: ((أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار))

(9/497)


نسخ الترمذي الموجودة عندنا:هذا حديث حسن غريب في هذا الباب، وقد روى من غير هذا الوجه- انتهى. قلت: روى أحمد والنسائي من غير طريق الترمذي. والحديث لا ينحط عن درجة الحسن.
1588 – قوله: (كان غلام يهودي) لم يقف الحافظ على اسمه نعم نقل عن ابن بشكوال أن صاحب العتبية حكى عن زياد أن اسمه عبدالقدوس قال وهو غريب ما وجدته عند غيره (يخدم النبي صلى الله عليه وسلم) بكسر الدال وضمها (فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم) حال كونه (يعوده فقعد) النبي صلى الله عليه وسلم (عند رأسه) أي رأس الغلام وهو من مستحبات العيادة (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم (له) أي للغلام (أسلم) بكسر اللام فعل أمر من الإسلام، والظهر أن الغلام كان عاقلا (فنظر) أي الغلام (إلى أبيه وهو) أي أبوالغلام (عنده) وفي رواية أبي داود عند رأسه (فقال) له أبوه (أطع أبا القاسم) صلى الله عليه وسلم (فأسلم) بفتح اللام أي الغلام، وفي رواية النسائي: فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم (فخرج النبي صلى الله عليه وسلم) من عنده (وهو) أي النبي (يقول الحمد لله الذي أنقذه) بالذال المعجمة أي خلصة ونجاه (من النار) أي لو مات كافرا، في رواية أبي داود: أنقذه بي من النار أي أنقذه الله بسببي من النار. قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث جواز استخدام المشرك وعبادته إذا مرض، وفيه حسن العهد واستخدام الصغير وعرض الإسلام على الصبي ولو لا صحته منه ما عرضه عليه، وفي قوله: أنقذه بي من النار، دلالة على أنه صح إسلامه وعلى أن الصبي إذا عقل الكفر ومات عليه أنه يعذب- انتهى. قيل: هذا يحمل على أنه كان قبل أن يعلمه الله تعالى أن أطفال المشركين في الجنة، كما هو مذهب الأكثرين، وعلى تقدير تسليم أن هذا الحديث وقع بعد تقرر أن الأطفال في الجنة، فالمراد من قوله: من النار الكفر المسمى نارا لأنه سببها أو يؤول إليها. والله تعالى أعلم. قيل: إنما تشرع

(9/498)


عيادة غير المسلم ليدعى إلى الإسلام إذا رجى أن يجيب إلى الدخول في الإسلام ألا ترى أن اليهودي أسلم حين عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأما إذا لم يطمع في إسلام الكافر ولا يرجى إنابته فلا ينبغي
رواه البخاري.
1589 - (54) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضا نادى منادى من المساء: طبت وطاب ممشاك، وتبؤت من الجنة منزلا)). رواه ابن ماجه.
1590- (55) وعن ابن عباس، قال: ((إن عليا خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أباالحسن! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا))
عيادته. قال الحافظ: والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى. قال الماوردي: عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة- انتهى. (رواه البخاري) في الجنائز، وفي المرضى، وأخرجه أيضا أبوداود في الجنائز، والنسائي والبيهقي (ج3:ص383).

(9/499)


1589- قوله: (من عاد مريضا) أي محتسبا (نادى مناد) أي ملك (طبت) بكسر الطاء أي طاب حالك (وطاب ممشاك) مصدر أي كثر ثواب مشيك إلى هذه العبادة، وقيل: مكان أو زمان مبالغة (وتبوأت) أي تهيأت (من الجنة) أي من منازلها العالية (منزلا) أي منزلة عظيمة بما فعلت. وقيل: أي ثبت وتحقق دخولك الجنة بسبب هذه العبادة. وقال الطيبي: طبت دعاء له بأن يطيب عيشه في الدنيا، وطيب الممشى كناية عن سيره وسلوكه طريق الآخرة بالتعري عن رذائل الأخلاق والتحلي بمكارمها، وقوله: تبوأت دعاء له بطيب العيش في الآخرة، وإنما أخرجت الأدعية في صورة الإخبار إظهارا للحرص على وقوعها كأنها حاصلة وهو يخبر عنها كما تقول رحمك الله وعصمك الله من الآفات ( (رواه ابن ماجه) في الجنائز، وأخرجه أيضا الترمذي في باب زيارة الأخوان من أبواب البر والصلة بلفظ: ما عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد الخ. وأخرجه ابن حبان في صحيحه بلفظ: إذا عاد الرجل أخاه أو زاره قال الله تعالى طبت إلخ. ذكر المنذري في الترغيب: إن الترمذي حسنه، وفيه أنه ليس في نسخ الترمذي الموجودة عندنا لفظ: حسن، بل فيها حديث غريب، وفي سنده عندهم أبوسنان عيسى بن سنان القسملي، وهو لين الحديث.
1590- قوله: (في وجعه) أي في زمن مرضه (الذي توفي فيه) أي قبض روحه فيه (فقال الناس) أي لعلي (يا أباالحسن) كنية علي (أصبح بحمد الله) أي مقرونا بحمده أو متلبسا بموجب حمده وشكره (بارئا)
رواه البخاري.
1591 - (56) وعن عطاء بن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله، فقال: ((إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك.

(9/500)


بالهمزة إسم فاعل من برأ المريض إذا أفاق من المرض. قال القاري: خبر بعد خبر أو حال من ضمير أصبح، والمعنى قريبا من البرء بحسب ظنه أو للتفاؤل أو بارئا من كل ما يعترى المريض من القلق والغفلة. وفي الحديث استحباب السؤال عن حال المريض بلفظ: كيف أصبح، والجواب عنه بقوله أصبح بحمد الله بارئا (رواه البخاري) مطولا في باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته من أواخر المغازي، وفي باب المعانقة من الاستيذان، وأخرجه أيضا أحمد (ج1:ص263-325).

(10/1)


1591- قوله: (ألا) بتخفيف اللام قبلها همزة مفتوحة (أريك) بضم الهمزة وكسر الراء (هذه المرأة السوداء) إسمها سعيرة بالمهملات مصغرا الأسدية، كما في رواية جعفر المستغفري في كتاب الصحابة، وأخرجه أبوموسى في الذيل من طريقه، ووقع في رواية ابن مندة بقاف بدل العين، وفي أخرى للمستغفري بالكاف، وذكر ابن سعد وعبدالغني في المبهمات من طريق الزبير أن هذه المرأة هي ماشطة خديجة التي كانت تتعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بالزيادة (أتت النبي صلى الله عليه وسلم) استئناف بيان لكونها من أهل الجنة (إن أصرع) بصيغة المجهول، قيل: الصرع علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن انفعالها منعا غير تام، وسببه ريح غليظ يحتبس في منافذ الدماغ أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصبا بل يسقط ويقذف بالزيد لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصرع من الجن ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم إما لاستحسان بعض الصور الإنسية وإما لإيقاع الأذية به، وأنكر ذلك كثير من الأطباء، وقد رد عليهم ابن القيم في زاد المعاد ردا حسنا، فعليك أن تراجعه (وإني أتكشف) بفتح المثناة الفوقية والشين المعجمة المشددة من التكشف. قال الحافظ: وبالنون الساكنة بدل الفوقية وكسر المعجمة مخففا من الانكشاف، والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر (فادع الله) لي أي يشفيني من ذلك الصرع (فقال) صلى الله عليه وسلم مخبرا لها (إن شئت صبرت) على ذلك (ولك الجنة) فيه إيماء إلى جواز ترك الدواء بالصبر على البلاء والرضاء بالقضاء بل ظاهره أن إدامة
فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها)) متفق عليه.
1592- (57) وعن يحيى بن سعيد، قال: إن رجلا جاءه الموت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل، هنيئا له، مات ولم يبتل بمرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويحك!

(10/2)


الصبر مع المرض أفضل من العافية لكن بالنسبة إلى بعض الأفراد وأن ترك التداوى أفضل وإن كان يسن التداوى (فقالت أصبر) على الصرع. قال ابن القيم: من حدث له الصرع، وله خمس وعشرون سنة وخصوصا بسبب دماغي أيس من برءه، وكذلك إذا استمر به إلى هذا السن قال: فهذه المرأة التي جاء في الحديث أنها كانت تصرع وتنكشف، يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع فوعدها صلى الله عليه وسلم بصبرها على هذا المرض بالجنة ودعا لها أن تنكشف وخيرها بين الصبر والجنة وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان فاختارت الصبر والجنة - انتهى. قال الحافظ: وفي الحديث فضل من يصرع وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه دليل على جواز ترك التداوى، وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير وأن تأثير ذلك وإنفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما من جهة العليل، وهو صدق القصد والآخر من جهة المداوى، وهو قوة توجهه، وقوة قلبه بالتقوى والتوكل والله اعلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى ومسلم في الأدب وأخرجه أيضا أحمد (ج1ص346- 347) والنسائي في الكبرى في الطب.

(10/3)


1592- قوله: (وعن يحيى بن سعيد) هو يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني أبوسعيد القاضي ثقة ثبت من صغار التابعين سمع أنس بن مالك والسائب بن يزيد وخلقا سواهما روى عنه هشام بن عروة ومالك ابن أنس وشعبة والثوري وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم كان يتولى القضاء بالمدينة زمن بني أمية وأقدمه منصور العراق وولاه القضاء بالهاشمية مات سنة (143) وقيل (144) وقيل بعدها. قال المؤلف: كان إماما من أئمة الحديث والفقه عالما ورعا زاهدا صالحا مشهورا بالفقه والدين (إن رجلا جاءه الموت) أي فجأة من غير مرض (هنيئا له) مصدر لفعل محذوف (مات ولم يبتل بمرض) استئناف مبين لموجب التهنئة، والواو حالية (ويحك) كلمة ترحم وتوجع يقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها وهي منصوبة بإضمار فعل كأنه قيل ألزمك الله ويحا
ما يدريك لو أن الله ابتلاه بمرض فكفر عنه من سيئاته)). رواه مالك مرسلا.
1593- (58) وعن شداد بن أوس، والصنابحى،

(10/4)


يعني لا تمدح عدم المرض وإنما ترحم عليه لعذره في ظنه أن عدم المرض مكرمة (ما يدريك) أي أي شيء يعلمك أن عدم المرض خير ومكرمة (لو أن الله ابتلاه بمرض) قال الطيبي: لو للتمني لأن الامتناعية لا تجاب بالفاء أي لا تقل هنيئا له ليت أن الله ابتلاه بمرض، ويجوز أن يقدر لو ابتلاه الله لكان خيرا له فكفر. قال القاري: وعلى الأول ما يدريك معترضة وعلى الثاني متصلة بما بعدها (فكفر عنه من سيئاته) وفي نسخ الموطأ الموجودة عندنا: يكفر به عنه من سيئاته. قال في المحلى: لو أن الله إلخ. جملة شرطية والجزاء قوله يكفر أو هو صفة لمرض والجزاء محذوف أي لكان خيرا له، ويحتمل أن يكون لو للتمني بمعنى ليت وعلى هذا يتعين قوله: يكفر صفة- انتهى. وفي الحديث أن الابتلاء بالمصائب طب الهي يداوي به الإنسان من أمراض الذنوب فإن غير المعصوم لا يخلو غالبا من السيئات فالمرض مكفر لها أو رافع للدرجات وكاسر لشماخة النفس (رواه مالك) في كتاب الجامع من الموطأ عن يحيى بن سعيد (مرسلا) لأن يحيى بن سعيد تابعي. قال ابن المديني في العلل: لا أعلمه سمع من صحابي غير أنس، ذكره الحافظ في تهذيبه، وقد اعتضد هذا المرسل بما في الباب من الأحاديث المسندة الدالة على كون المرض كفارة للذنوب.

(10/5)


1593- قوله: (وعن شداد بن أوس) تقدم ترجمته (والصنابحى) عطف على شداد، وهذا يدل على أن الراوي، وهو أبوالأشعث الصنعاني، روى القصة عن شداد والصنابحى، وفيه نظر، فإن الرواية في مسند الإمام أحمد هكذا قال عبدالله حدثني أبي ثنا هيثم بن خارجة ثنا إسماعيل بن عياش عن راشد بن داود الصنعاني عن أبي الأشعث الصنعاني أنه راح إلى مسجد دمشق وهجر بالرواح فلقي شداد بن أوس والصنابحى معه فقلت أين تريد أن يرحمكما الله قالا نريد ههنا إلى أخ لنا مريض نعوده فانطلقت معهما حتى دخلا على ذلك الرجل فقالا له كيف أصبحت إلخ والظاهر أن هذا التقصير إنما وقع من اختصار المصنف وكان الأولى أن يذكر الرواية من قوله: عن أبي الأشعث الصنعاني أنه راح إلخ كما صنع الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص303) والمنذري في الترغيب (ج4ص90) والصنابحى هذا هو عبدالرحمن بن عسيلة بمهملة مصغرا المرادي أبوعبدالله الصنابحى بضم الصاد المهملة وتخفيف النون والباء الموحدة المكسورة والحاء المهملة نسبة إلى صنابح بن زاهر بطن من مراد ثقة من كبار التابعين قدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام، مات في خلافة عبدالملك بن مروان روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا وعن أبي بكر وعمر وعلي وبلال وسعد بن عبادة وعمرو بن عبسة وشداد بن أوس
أنهما دخلا على رجل مريض يعودانه، فقالا له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بنعمة، قال شداد: أبشر بكفارات السيئات، وحط الخطايا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عزوجل يقول: إذا أنا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا، فحمدني على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول رب تبارك وتعالى: أنا قيدت عبدي وابتليته، فأجروا له ما كنتم تجرون له وهو صحيح)). رواه أحمد.

(10/6)


1594- (59) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها من العمل، ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه))
وغيرهم، وروى عنه أسلم مولى عمر ومحمود بن لبيد الأنصاري وجماعة (أنهما دخلا على رجل مريض يعودانه فقالا له كيف أصبحت) استدل به على أن العيادة في أول النهار أفضل (أصبحت بنعمة) أي مصحوبا بنعمة عظيمة وهي نعمة الرضا والتسليم للقضاء (أبشر) أمر من الابشار، ويجوز أن يكون من باب ضرب وسمع (بكفارات السيئات) أي المعاصي (وحط الخطايا) أي وضع التقصيرات في الطاعات والعبادات (مؤمنا) نعت أو حال (فحمدني على ما ابتليته) أي به من مرض أو وجع (فإنه يقوم من مضجعه) أي مرقده (ذلك) أي الذي هو فيه، والمراد من مرضه سمي باسم ملازمه غالبا وهو متجرد باطنا عن ذنوبه (كيوم ولدته أمه) بفتح الميم، وفي نسخة بالجر أي كتجرده ظاهرا في وقت ولدته أمه من الخطايا (أنا قيدت عبدي) أي حبسته بالمرض (وابتليته) أي امتحنته ليظهر منه الشكر أو الكفر (فاجروا له) أمر من الإجراء (ما كنتم تجرون له) أي من كتابة الأعمال، وفي المسند كما كنتم تجرون له، وكذا نقله الهيثمي، والمنذري (وهو صحيح) حال (رواه أحمد) (ج4ص123) وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط كلاهما من رواية إسماعيل بن عياش عن راشد ابن داود الصنعاني، وهو ضعيف في غير الشاميين، وهذا الحديث قد رواه عن راشد الصنعاني صنعاء دمشق الشام فهو من أحاديثه المستقيمة. قال المنذري: وله شواهد كثيرة.
1594- قوله: (إذا كثرت ذنوب العبد) أي الإنسان المسلم (ما يكفرها من العمل) أي الصالح لفقده أو لقلته (ابتلاه الله بالحزن) أي بأسبابه وهو بضم فسكون وبفتحتين (ليكفرها) أي الذنوب (عنه) أي عن
رواه أحمد.
1595- (60) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضا لم يزل يخوض الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس اغتمس فيها)) رواه مالك، وأحمد.

(10/7)


1596- (61) وعن ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصاب أحدكم الحمى، فإن الحمى قطعة من النار، فليطفئها عنه بالماء، فليستنقع في نهر جار
العبد بسبب الحزن (رواه أحمد) قال الهيثمي: وفيه ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات. وقال المنذري: رواته ثقات إلا ليث بن أبي سليم.
1595 – قوله: (لم يزل يخوض الرحمة) أي يدخل فيها من حين يخرج من بيته بنية العيادة (حتى يجلس) أي عنده (اغتمس فيها) أي غاص فيها وغطس، وفي رواية البخاري في الأدب المفرد: استقر فيها. قال الطيبي: شبه الرحمة بالماء إما في الطهارة أو في الشيوع والشمول ثم نسب إليها ما هو منسوب إلى المشبه به من الخوض ثم عقب الاستعارة بالانغماس ترشيحا (رواه مالك) أي في كتاب الجامع من الموطأ بلاغا ففيه "مالك أنه بلغه عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا عاد الرجل المريض خاض في الرحمة حتى إذا قعد عنده قرت فيه أو نحو هذا" (وأحمد) أي مسندا. قال الزرقاني: برجال الصحيح، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد، وقاسم بن أصبغ والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1ص350) وصححه البيهقي (ج3ص380) قال الهيثمي والمنذري: رجال أحمد رجال الصحيح، وفي الباب عن أنس وأبي هريرة وكعب بن مالك وعمرو بن حزم وأبي أمامة وابن عباس وصفوان بن عسال وأبي الدرداء ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص297- 298) والمنذري في الترغيب.

(10/8)


1596- قوله: (إذا أصاب أحدكم الحمى) أي أخذته (فإن الحمى قطعة من النار) أي لشدة ما يلقي المريض فيها من الحرارة الظاهرة والباطنة، وفي حديث رافع بن خديج عند الشيخين: الحمى من فيح جهنم. وسيأتي الكلام عليه في الطب. وقال الطيبي: جواب إذا فليعلم أنها كذلك (فليطفئها عنه بالماء) أي البارد قال ويحتمل أن يكون الجواب فليطفئها وقوله. فإن الحمى معترضة قالوا هذا خاص ببعض أنواع الحمى الحادثة من الحرارة التي يعتادها أهل الحجاز ولما كان بيانه صلى الله عليه وسلم لعلاج الأمراض البدنية تبعا لم يستفض في تعميم أنواعها واقتصر على علاج ما هو أعم وأغلب وقوعها (فليستنقع في نهر جار) بيان للإطفاء. قال في القاموس:
- وليستقبل جريته، فيقول: بسم الله، اللهم أشف عبدك، وصدق رسولك ـ بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، وليغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ في ثلاث فخمس، فإن لم يبرأ في خمس فسبع، فإن لم يبرأ في سبع فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله عزوجل))

(10/9)


استنقع في الغدير نزل واغتسل ثبت فيه ليتبرد (وليستقبل جريته) بكسر الجيم. قال الطيبي: يقال: ما أشد جرية هذا الماء بالكسر، وهو مصدر بمعنى السيلان كالجري والجريان يقال نهر سريع الجرية (فيقول) أي حال الاستقبال (وصدق رسولك) أي اجعل قوله هذا صادقا بأن تشفيني، ذكره الطيبي (بعد صلاة الصبح) ظرف ليستنقع، وكذا قوله قبل طلوع الشمس (وليغمس) بفتح الياء وكسر الميم (فيه) أي في النهر أو في ماءه (ثلاث غمسات) بفتحتين (ثلاثة أيام) قال الطيبي: قوله وليغمس بيان لقوله فليستنقع جيء به لتعلق المرات (فإن لم يبرأ) بفتح الراء (في ثلاث) أي ثلاث غمسات أو في ثلاثة أيام (فخمس) بالرفع. قال الطيبي: أي فالأيام التي ينبغي أن ينغمس فيها أو فالمرات (فسبع) بالرفع كما تقدم آنفا (فتسع) كذلك (فإنها) أي الحمى (لا تكاد) أي تقرب (تجاوز تسعا) أي بعد هذا العمل (بإذن الله) أي بإرادته أو بأمره لها بالذهاب وعدم العود. قال ابن القيم في زاد المعاد في بحث علاج الحمى بالماء بعد ذكر حديث ابن عمر بلفظ: إنما الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء. ما لفظه خطابه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز وما والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا إلخ. وقال بعد تقسيم الحمى إلى عرضية ومرضية، فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية (وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك) فإنها تسكن على المكان بالانغماس في الماء البارد وسقي الماء البارد المثلوج ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر فإنها مجرد كيفية حادة متعلقة بالروح فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة تسكنها وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة أو انتظار نضج، ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات وقد اعترف جالينوس بأن الماء البارد ينفع فيها،

(10/10)


قال في كتاب حيلة البرء: ولو أن رجلا شابا حسن اللحم خصب البدن في وقت القيظ وفي وقت منتهى الحمى وليس في احشاءه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه لا تنفع بذلك قال ونحن نأمر بذلك بلا توقف. وقال الرازي في كتابة الكبير: إذا كانت القوي قوية والحمى حادة جدا والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق ينفع الماء البارد شربا وإن كان العليل خصب البدن والزمان حار وكان معتاد الاستعمال الماء البارد من خارج فليؤذن له فيه- انتهى.وقد نزل ابن القيم حديث ثوبان على هذه القيود فقال بعد ذكره: وهذه الصفة تنفع في فصل الصيف
رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.
1597 - (62) وعن أبي هريرة، قال: ذكرت الحمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبها رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبها فإنها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الحديد)). رواه ابن ماجه.
1598- (63) وعنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضا فقال: ((أبشر فإن الله تعالى يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن
في البلاد الحارة على الشرائط التي تقدمت (أي الحمى العرضية أو الغب الخالصة التي لا ورم معها ولا شيء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة) فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لعبده عن ملاقاة الشمس ووفور القوى في ذلك الوقت لكونه عقب النوم والسكون وبرد الهواء قال والأيام التي أشار إليها هي التي يقع فيها بحران الأمراض الحادة غالبا ولاسيما في البلاد الحارة- انتهى. ويأتي مزيد الكلام عليه في كتاب الطب إنشاء الله تعالى (رواه الترمذي) في الطب وأخرجه أيضا أحمد (ج5ص281) وابن السني (ص182) كلهم من رواية سعيد بن زرعة الشامي الحمصى، الجرار الخزاف عن ثوبان. قال الحافظ في التقريب في ترجمة سعيد أنه مستور، وقال في الفتح: وفي سنده سعيد بن زرعة، مختلف فيه. وقال في تهذيب التهذيب: قال أبوحاتم مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات.

(10/11)


1597- قوله: (ذكرت الحمى) على صيغة المجهول أي وصفت شدتها (لا تسبها) بفتح الباء (تنفي الذنوب) من النفي أي تزيل وهو أبلغ من تمحو (كما تنفي النار خبث الحديد) كناية عن المبالغة في تمحيصها من الذنوب وخبث الحديد بفتح الخاء المعجمة والباء الموحدة هو ما تلقيه النار من وسخه إذا أذيب، والمعنى أن الحمى من هذه الحيثية توجب الصبر والشكر لا السب (رواه ابن ماجه) في الطب. قال البوصيري في الزوائد: وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف- انتهى. ويؤيده ما تقدم من حدث جابر في الفصل الأول في نهيه - صلى الله عليه وسلم - أم السائب عن سب الحمى وقد جاء في معناه أحاديث أخرى.
1598- قوله: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضا) وبعده في ابن ماجه وغيره من وعك كان به ومعه أبوهريرة (هي) أي الحمى كما يفيده السباق والسياق (ناري أسلطها على عبدي المؤمن) قال الطيبي: في إضافة النار إشارة إلى أنها لطف ورحمة منه ولذلك صرح بقوله عبدي، ووصفه بالمؤمن وقوله أسلطها خبر بعد خبر أو
في الدنيا لتكون حظه من النار يوم القيامة)) رواه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان.
1599 - (64) وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرب سبحانه وتعالى يقول: وعزتي وجلالي لا أخرج أحدا من الدنيا أريد أغفر له، حتى استوفي كل خطيئة في عنقه بسقم في بدنه، وإقتار في رزقه)) رواه رزين.

(10/12)


استئناف (في الدنيا) متعلق بأسلطها (لتكون) أي الحمى (حظه) أي نصيبه بدلا (من النار) مما اقترف من الذنوب، ويحتمل أنها نصيب من الحتم المقضي في قوله تعالى: ?وإن منكم إلا واردها?[ مريم: 71] قال الطيبي: والأول هو الظاهر، وقيل: المعنى أن الحمى تسهل عليه الورود حتى لا يشعر به ولا يحس (يوم القيامة) وعند ابن ماجة وابن السني والحاكم "في الآخرة" (رواه أحمد) (وابن ماجه) في الطب (والبيهقي) وأخرجه أيضا ابن السني (ص173) والحاكم (ج1ص345) وصححه ووافقه الذهبي، وفي الباب عن أبي ريحانة عند ابن أبي الدنيا والطبراني وعن أبي أمامة عند أحمد بإسناد لا بأس به، وعن عائشة عند البزار بإسناد حسن، وعن أنس عند الطبراني في الأوسط ذكرهم المنذري في الترغيب (ج4ص94) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2ص306) والسيوطي في الجامع الصغير، وعلى المتقي في الكنز (ج2ص66).

(10/13)


1599- قوله: (وعزتي) أي غلبتي وقوتي (وجلالي) أي عظمتي وقدرتي (أريد أغفر له) قال القاري بالرفع. وفي نسخة بالنصب. قال الطيبي: أي أريد أن أغفر فحذف أن والجملة إما حال من فاعل أخرج أو صفة للمفعول، وفي جامع الأصول (ج10ص358) نقلا عن رزين أريد أن أغفر له (حتى استوفي) يقال استوفى حقه أي أخذه تاما وافيا (كل خطيئة) أي جزاء كل سيئة اقترفها وكنى عنه بقوله (في عنقه) بضمتين في ذمته حيث لم يتب عنها أي كل خطيئة باقية (بسقم) بفتحتين وضم وسكون متعلق باستوفي، والباء سببية فلا تحتاج إلى تضمين استبدل كما اختاره ابن حجر (في بدنه) إشارة على سلامة دينه (وإقتار) أي تضييق (في رزقه) أي نفقته. قال ميرك: الإقتار التضييق على الإنسان في الرزق يقال اقتر الله رزقه أي ضيقه وقلله وقد اقتر الرجل فهو مقتر وقتر فهو قتور، كذا في الطيبي، فعلى هذا الإقتار مستعمل في جزء معناه على سبيل التجريد (رواه رزين) أي ابن معاوية العبدري السرقسطي، والحديث أورده المنذري في الترغيب، وقال ذكره رزين (يعني في كتاب التجريد الذي جمع فيه ما في الصحاح الخمسة والموطأ) ولم أره. وقال ميرك: لم أره في الأصول - انتهى. فلا يعرف حال إسناده لكنه يؤيده ما في هذا الباب من الأحاديث في كون المصائب والبلايا كفارة للسيئات.
1600- (65) وعن شقيق، قال: مرض عبدالله بن مسعود، فعدناه، فجعل يبكي، فعوتب، فقال: إني لا أبكي لأجل المرض، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المرض كفارة، وإنما أبكي أنه أصابني على حال فترة، ولم يصبني في حال اجتهاد، لأنه يكتب للعبد من الأجر إذا مرض ما كان يكتب له قبل أن يمرض فمنعه منه المرض)). رواه رزين.
1601- (66) وعن أنس، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث))

(10/14)


1600- قوله: (وعن شقيق) أي ابن أبي سلمة الأسدي أبي وائل الكوفي تقدم ترجمته (فعوتب) أي في البكاء فإنه مشعر بالجزع من المرض، وهو ليس من أخلاق الأكابر (وإنما أبكي أنه) أي لأجل أنه (أصابني) أي المرض (على حال فترة) أي على حال فتور وضعف في الجسم من الكبر لا أقدر على عمل كثير. وقال القاري: على حال فترة أي ضعف في العبادة (ولم يصبني في حال اجتهاد) أي في الطاعة البدنية فلو وقعت الإصابة حال الاجتهاد في العبادة والقوة في الجسم لكانت سببا للزيادة (لأنه) أي الشأن (يكتب للعبد) المؤمن (من الأجر إذا مرض ما كان) أي مثل جميع ما كان من الأعمال (يكتب له قبل أن يمرض) بفتح الياء والراء (فمنعه منه المرض) أي لا مانع آخر من الشغل والكبر (رواه رزين) لم أقف على هذا الأثر في شيء من الأصول، ويؤيده ما تقدم من حديث شداد بن أوس عند أحمد، وحديث عبدالله بن عمرو وأنس عند البغوي في الفصل الثاني، وحديث أبي موسى عند البخاري في الفصل الأول.

(10/15)


1601- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث) قال الشوكاني: هذا يدل على أن عيادة المريض إنما تشرع بعد مضي ثلاثة أيام من ابتداء مرضه فتقيد به مطلقات الأحاديث الواردة في العيادة ولكنه غير صحيح أو حسن (كما ستعرف) فلا يصلح لذلك- انتهى. قلت: ذهب الجمهور إلى أن العيادة لا تتقيد بزمان يمضي من ابتداء مرضه بل هي سنة من أول المرض لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم عودوا المريض، وجزم الغزالي في الأحياء بأنه لا يعاد إلى بعد مضي ثلاث ليال، مستند الحديث أنس، وتعقب بأنه ضعيف جدا لأنه تفرد به مسلمة ابن علي الخشني، وهو متروك، وقد سئل عنه أبوحاتم فقال: هو حديث باطل وله شاهد من حديث أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط مرفوعا لا يعاد المريض إلا بعد ثلاث، وفيه نصر بن حماد، وهو متروك أيضا. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: لعل حديث أنس إن صح يحمل على أنه لتحقق مرضه أي يؤخر حتى يتحقق عنده أنه مرض. وقال القاري: يمكن حمل الحديث على أنه ما كان يسأل عن أحوال من يغيب عنه إلا بعد ثلاث فبعد العلم بها
رواه ابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان.
1602 - (67) وعن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلت على مريض فمره يدعوا لك، فإن دعاءه كدعاء الملائكة)) رواه ابن ماجه.
1603- (68) وعن ابن عباس، قال: من السنة تخفيف الجلوس

(10/16)


كان يعود. قلت: ويؤيد هذا ما رواه أبويعلى عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائبا دعا له وإن كان شاهدا زاره وإن كان مريضا عاده- الحديث. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: فيه عباد بن كثير وكان رجلا صالحا، ولكنه ضعيف الحديث متروك لغفلته- انتهى. (رواه ابن ماجه) في الجنائز (والبيهقي) وفي سنده عندهما مسلمة بن علي الخشني. قال البخاري وأبوحاتم وأبوزرعة: منكر الحديث. وقال النسائي والدارقطني والبرقاني: متروك الحديث. قال الحافظ: ومن منكراته عن ابن جريج عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يعود مريضا إلا بعد ثلاثة أيام- انتهى. وقال السخاوي في المقاصد: عيادة المريض بعد ثلاث، له طرق ضعاف يتقوى بعضها ببعض، ولهذا أخذ بمضمونها جماعة كالنعمان ابن أبي عياش الزرقي من فضلاء أبناء الصحابة فقال عيادة المريض بعد ثلاث، والأعمش ولفظه: كنا نقعد في المجالس فإذا فقدنا الرجل ثلاثة أيام سألنا عنه فإن كان مريضا عدناه، وهذا يشعر بعدم انفراده، كذا قال ولا يخفى ما فيه.

(10/17)


1602- قوله: (فمره يدعوا لك) أي التمس منه الدعاء. قال المناوي: قوله يدعو لك مفعول بإضمار "أن" أي مره بأن يدعو لك، قال الطيبي أي مره يدعو لك لأنه خرج عن الذنوب (فإن دعاءه كدعاء الملائكة) أي في قرب الاستجابة. وقال الطيبي: إنما يؤمر بالدعاء حينئذ، لأنه نقي من الذنوب كيوم ولدته أمه وصار معصوما كالملائكة ودعاء المعصوم مقبول. وقال العلقمي: في الحديث استحباب طلب الدعاء من المريض، لأنه مضطر ودعاءه أسرع إجابة من غيره، ففي السنة أقرب الدعاء إلى الله إجابة دعوة المضطر (رواه ابن ماجه) في الجنائز وأخرجه أيضا ابن السني في اليوم والليلة (178) قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات إلا أنه منقطع. قال العلائي في المراسيل والمزي في رواية ميمون بن مهران عن عمر ثلمة- انتهى. وقال النووي في الأذكار: ميمون لم يدرك عمر. وقال المنذري رواته ثقات مشهورون إلا أن ابن ميمون بن مهران لم يسمع من عمر- انتهى. وفي الباب عن أنس عند الطبراني في الأوسط، وفيه عبدالرحمن بن قيس الضبي، وهو متروك الحديث.
1603- قوله: (من السنة تخفيف الجلوس) هذا مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور، لأن مطلق
وقلة الصخب في العيادة عند المريض، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثر لغطهم واختلافهم: ((قوموا عني)). رواه رزين.

(10/18)


ذلك ينصرف بظاهره إلى من جب إتباع سنته وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيضا فالسنة في عرف الاستعمال صارت موضوعة لطريقته عليه السلام في الشريعة (وقله الصخب) بفتحتين ويسكن الثاني أي رفع الصوت (في العيادة عند المريض) قال الطيبي: اضطراب الأصوات للخصام منهي من أصله لاسيما عند المريض فالقلة بمعنى العدم، وفيه دليل على أن الأدب في العيادة أن لا يطيل العائد الجلوس عند المريض حتى يضجره وأن لا يتكلم عنده بما يزعجه (قال) أي ابن عباس. قال القاري: كذا في أصل العفيف، وفي أكثر النسخ ليس بموجود. قلت: هو موجود في جامع الأصول (ج7ص404) (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثر لغطهم) قال في النهاية: اللغط صوت وضجة لا يفهم معناه (واختلافهم قوموا عني) قال الطيبي: وكان ذلك عند وفاته روى ابن عباس أنه لما احتضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هلموا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده فقال ـ عمر وفي رواية فقال بعضهم ـ رسول الله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول غير ذلك فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا عني. متفق عليه. ويأتي هذا الحديث مطولا في باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حجر: وكأنه عليه الصلاة والسلام لما أراد الكتابة فوقع الخلاف ظهر له أن المصلحة في عدمها فتركها اختيارا منه كيف وهو عليه الصلاة والسلام لو صمم على شيء لم يكن لأحد عمر أو غيره أن ينطق ببنت شفة ولقد بقي حيا بعد هذه القضية نحو ثلاثة أيام ليس عنده عمر ولا غيره بل أهل البيت كعلي والعباس فلو رأى المصلحة في الكتابة بالخلافة أو غيرها لفعل على أنه اكتفى في الخلافة بما كاد أن يكون نصا جليا، وهو تقديم أبي بكر رضي

(10/19)


الله عنه للإمامة بالناس أيام مرضه ومن ثم قال علي رضي الله عنه لما خطب لمبايعة أبي بكر على رؤس الأشهاد رضية رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه أن صل بالناس وأنا جالس عنده ينظرني ويبصر مكاني، ونسبة علي رضي الله عنه فارس الإسلام على التقية جهل بعظم مكانته- انتهى. (رواه رزين) لم أره في الأصول والله اعلم بحال إسناده، ويؤيده ما روى عن علي بن عمر بن علي عن أبيه عن جده رفعه قال أعظم العيادة أجرا أخفها والتعزية مرة. رواه البزار، وقال: أحسب ابن أبي فديك لم يسمع من علي، كذا في مجمع الزوائد (ج2ص296).
1604- (69) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العيادة فواق ناقة))
1605- (70) وفي رواية سعيد بن المسيب، مرسلا، أفضل العيادة سرعة القيام. رواه البيهقي في شعب الإيمان.
1606- (71) وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلا، فقال له: ((ما تشتهي؟ قال أشتهي خبز بر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان عنده خبز بر فليبعث إلى أخيه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا اشتهى مريض أحدكم شيئا
1604- قوله: (العيادة فواق ناقة) بفتح الفاء وضمها وبالرفع. قال القاري: وفي نسخة بالنصب خبر المبتدأ أي أفضل زمان العيادة مقدار فواقها، وهو قدر ما بين الحلبتين من الوقت لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب يقال ما أقام عنده إلا فواقا، وقبل هو ما بين فتح يد الحالب وقبضها على الضرع، والذي ذكره الجوهري في الصحاح الأول أعني الزمن الذي بين حلبتي الناقة فإنها إذا حلبت وشح لبنها أطلق ولدها ليرضعها ليدر اللبن ثم تحلب ثانيا.

(10/20)


1605- قوله: (وفي رواية سعيد بن المسيب مرسلا) أي بحسب الصحابي، وإسناد الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (أفضل العيادة سرعة القيام) قال الطيبي أي أفضل ما يفعله العائد في العيادة أن يقوم سريعا. قال ميرك: والأظهر أن يقال أفضل العيادة عيادة فيها سرعة القيام هذا ويستثنى منه ما إذا ظن أن المريض يؤثر التطويل لنحو صداقة أو تبرك أو قيام بما يصلحه ونحو ذلك (رواه) أي ما ذكر من الحديثين الموصول والمرسل (البيهقي في شعب الإيمان) ولم أقف على سنده.
1606- قوله: (ما تشتهي) فيه أنه ينبغي سؤال المريض عن أحواله وعما يحتاج إليه (من كان عنده خبز بر فليبعث) أي به (إلى أخيه) فيه أنه ينبغي إيثار المريض والمحتاج على نفسه وعياله فيخص به ما جاء من حديث ابدأ بنفسك إلا أن يقال المراد من كان عنده خبز بر زائد على قوته وقوت عياله (إذا اشتهى مريض أحدكم شيئا) أي غير مخالف لمرضه، ويحتمل أن المراد ولو مخالفا وكثيرا ما يجعل الله شفاءه فيما يشتهى وإن كان مخالفا ظاهرا، قاله السندي. وقال في اللمعات: قوله إذا اشتهى مريض أحدكم أي اشتهاء صادقا، فإنه علامة الصحة وقد لا يضر لبعض المرضى الأكل مما يشتهي إذا كان قليلا ويقوي الطبيعة ويفضي إلى الصحة ولكن فيما لا يكون ضرره غالبا، وبالجملة ليس هذا الحكم كليا بل جزئيا. وقال الطيبي: مبني على التوكل وأنه هو الشافي
فليطعمه)). رواه ابن ماجه.
1607 - (72) وعن عبدالله بن عمرو، قال: توفي رجل بالمدينة ممن ولد بها، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا ليته مات بغير مولده، قالوا: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: إن الرجل إذا مات بغير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره

(10/21)


أو على اليأس من حياته لكونه قد شارف الموت. وقيل في الحديث حكمة لطيفة، وهي أن المريض إذا تناول ما يشتهيه وإن كان يضر قليلا كان أنفع أو أقل ضررا مما لا يشتهيه وإن كان نافعا لاسيما إن كان ما يشتهيه غداء بلاغا كالخبر والكعك فينبغي للطبيب الكيس أن يجعل شهوة المريض من جملة أدلته على الطبيعة وما يهتدي به إلى طريق علاجه (فليعمه) من الإطعام. قال المناوي: أي ما اشتهاه ندبا لأن المريض إذا تناول ما اشتهاه عن شهوة صادقة طبيعية وإن كان فيه ضرر ما فهو أنفع له مما لا يشتهيه وإن كان نافعا لكن لا يطعم إلا قليلا بحيث تنكسر حدة شهوته. قال بقراط: الإقلال من الضار خير من الإكثار من النافع ووجود الشهوة في المريض علامة جيدة عند الأطباء. قال ابن سينا: مريض يشتهي أحب إلى من صحيح لا يشتهي، وأرجع لمزيد الكلام إلى زاد المعاد (ج2:ص90-91) (رواه ابن ماجه) في الجنائز، وفي الطب، وفي إسناده صفوان بن هبيرة العيشى. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته: قال أبوحاتم شيخ، وروى له ابن ماجه حديثا واحدا في الطب. وقال العقيلي لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلا به، وذكر البوصيري في الزوائد أن ابن حبان ذكره في الثقات. وقال الحافظ في التقريب. أنه لين الحديث، وفي الباب عن أنس قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده فقال أتشتهي شيئا أتشتهي كعكا قال نعم فطلبوا له. أخرجه ابن ماجه وابن السني، وفي سنده يزيد بن أبان الرقاشي، قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاشي.

(10/22)


1607- قوله: (وعن عبدالله بن عمرو) بالواو (توفي رجل) أي مات (ممن ولد بها) أي بالمدينة (يا ليته مات بغير مولده) لعله صلى الله عليه وسلم لم يرو بذلك ياليته مات بغير المدينة بل أراد ياليته كان غريبا مهاجرا بالمدينة ومات بها فإن الموت في غير مولده فيمن مات بالمدينة كما يتصور بأن يولد في المدينة ويموت في غيرها كذلك يتصور بأن يولد في غير المدينة ويموت بها فليكن التمني راجعا إلى هذا الشق حتى لا يخالف الحديث حديث فضل الموت بالمدينة المنورة (أن الرجل) يعني الإنسان (إذا مات بغير مولده) أي بغير المحل الذي ولد فيه بأن مات غريبا سواء كان في سفر أو في إقامة بغير وطنه (قيس له) أي أمر الله الملائكة أن تقيس له أي تذرع له (من مولده إلى منقطع) بفتح الطاء (أثره) أي إلى موضع قطع أجله، فالمراد بالأثر الأجل، لأنه يتبع العمر
في الجنة)). رواه النسائي، وابن ماجه.
1608 - (73) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موت غربة شهادة)) رواه ابن ماجه.
قال زهير- والمرأ ما عاش ممدود له أجل- لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر. ذكره الطيبي. ويحتمل أن يكون المراد إلى موضع انقطع فيه سفره وانتهى إليه فمات فيه يعني إلى منتهي سفره ومشيه فالمراد أثر أقدامه (في الجنة) متعلق بقيس، وظاهره أنه يعطي له في الجنة هذا القدر لأجل موته غريبا يعني بفسح له في الجنة بقدر مسافة ما بين مولده ومنتهى سفره، وقيل هذا ليس بمراد فإن هذا القدر من المكان لا اعتبار له في جنب سعة الجنة إلا أن يقال المراد يعطي ثواب عمل عمله في مثل هذه المسافة. وقيل: منقطع أثره هو قبره، وفي الجنة متعلق بمحذوف، والمعنى يفسح له في قبره قدر ما بين مولده وبين قبره ويفتح له باب إلى الجنة ودلالة اللفظ على هذا المعنى خفية (رواه النسائي وابن ماجه) في الجنائز وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه.

(10/23)


1608- قوله: (موت غربة) بضم الغين مصدر غريب بفتح الراء يغرب بضمها أي نزح عن وطنه، فالمراد بالغربة غربة بالجسم (شهادة) أي في حكم الآخرة، وهذا إذا لم يكن الغريب عاصيا بغربته، وفي الحديث دليل على فضيلة موت الغربة (رواه ابن ماجه) في الجنائز من رواية الهذيل بن الحكم الأزدي عن عبدالعزيز بن أبي رواد عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه أيضا البيهقي في الشعب من هذا الطريق وقال أشار البخاري إلى تفرد الهذيل به، وهو منكر الحديث، قال وروينا من حديث إبراهيم بن بكر الكوفي عن عبدالعزيز بن أبي رواد وزعم ابن عدي أنه سرقه من الهذيل- انتهى كلام البيهقي. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: قال السيوطي أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات من وجه آخر عن عبدالعزيز ولم يصب في ذلك، وقد سقت له طرقا كثيرة في اللآلي المصنوعة. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: إسناد ابن ماجه ضعيف، لأن الهذيل منكر الحديث، وذكر الدارقطني في العلل الخلاف فيه على الهذيل وصحح قول من قال عن الهذيل عن عبدالعزيز عن نافع عن ابن عمر واغتر عبدالحق بهذا وادعى أن الدارقطني صححه من حديث ابن عمر وتعقبه ابن القطان فأجاد وفي الزوائد هذا إسناد فيه الهذيل بن الحكم قال فيه البخاري منكر الحديث. وقال ابن عدي: لا يقيم الحديث. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا. وقال ابن معين: هذا الحديث منكر ليس بشيء وقد كتبت عن الهذيل ولم يكن به بأس -انتهى. وقال المنذري في الترغيب: قد جاء في أن الموت الغريب شهادة جملة من الأحاديث لا يبلغ شيء منها درجة الحسن فيما أعلم - انتهى. وقد أطال الحافظ الكلام على طرق هذا الحديث في التلخيص (ص169) فعليك أن ترجع إليه.
1609- (74) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات مريضا مات شهيدا، أو وقى فتنة القبر، وغدى وريح عليه برزقه من الجنة )) رواه ابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان.

(10/24)


1609- قوله: (من مات مريضا) قال السندي: هذا إن صح يحمل على مرض مخصوص كمرض البطن مثلا-انتهى. وذكر ابن حجر أن القرطبي قال: هذا عام في جميع الأمراض لكن يقيد بالحديث الآخر من قتله بطنه لم يعذب في قبره. أخرجه النسائي وغيره، والمراد به الاستسقاء، وقيل: الإسهال، كذا في المرقاة. وقيل قوله مريضا مصحف مرابطا كما سيأتي (مات شهيدا أو وقى) أي حفظ، كذا في أكثر النسخ الموجودة عندنا وفي بعض النسخ مات شهيدا ووقى أي بالواو بدل أو، وكذا وقع في ابن ماجه (فتنة القبر) أي سؤال الملكين فيه فإنه اختبار وقيل أي عذابه (وغدى) بمعجمة ثم مهملة على بناء المفعول من الغدو (وريح) بلفظ المجهول من الرواح (عليه) حال (يرزقه) نائب الفاعل أي جئ له برزقه حال كونه نازلا عليه (من الجنة) يعني يؤتى عنده برزقه أول النهار وآخره كالشهيد والتعدية بعلى لتضمين معنى الدر والإفاضة والإنزال ونحوها، والمراد بالغدو والرواح الدوام كما قال تعالى ?أكلها دائم?[الرعد:35] أو كناية عن التعميم كقوله تعالى: ?ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا?[مريم:62] ويمكن أن يكون للوقتين المخصوصين رزق خاص لهم، ثم المراد بالرزق هنا حقيقته لعدم استحالته (رواه ابن ماجه) في الجنائز (والبيهقي) وفي إسناده إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي وكنى ابن جريج جده أباعطاء، والحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وتعقبه السيوطي فقال في تعقباته (ص22) حديث أبي هريرة من مات مريضا مات شهيدا- الحديث. قال ابن الجوزي: فيه إبراهيم بن محمد ابن أبي يحيى الأسلمي متروك. قلت (هو قول السيوطي) كان الشافعي يوثقه. والحديث أخرجه ابن ماجه، والحق فيه أنه ليس بموضوع وإنما وهم راويه في لفظه منه، فقد روى الدارقطني أن إبراهيم بن محمد أنكر على ابن جريج هذا الحديث عنه وقال إنما حدثته من مات مرابطا فروى عني من مات مريضا وما هكذا حدثته، وكذا قال أحمد بن حنبل إنما الحديث من مات مرابطا

(10/25)


فالحديث إذن من نوع المعلل أو المصحف- انتهى. ونقل السندي عن السيوطي: أنه قال أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات وأعله بإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي فإنه متروك قال وقال أحمد بن حنبل إنما هو من مات مرابطا. قال الدارقطني: بإسناده عن إبراهيم بن أبي يحيى حدثت ابن جريج هذا الحديث من مات مرابطا فروى عني من مات مريضا وما هكذا حدثته. وفي الزوائد. في إسناده إبراهيم بن محمد كذبه مالك ويحيى بن سعيد القطان وابن معين. وقال أحمد بن حنبل: قدري معتزلي
1610- (75) وعن العرباض بن سارية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا عزوجل في الذين يتوفون من الطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا، ويقول المتوفون: إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا، فيقول ربنا: أنظروا إلى جراحتهم فإن أشبهت جراحهم جراح المقتولين، فإنهم منهم ومعهم، فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم))
جهمي كل بلاء فيه. وقال البخاري: جهمي، تركه ابن المبارك والناس، فقد كذبه مالك وابن معين- انتهى. قلت: وقال الشافعي لأن يخر إبراهيم من بعد أحب إليه من أن يكذب، وكان ثقة في الحديث، كذا في التهذيب.

(10/26)


1610- قوله: (وعن العرباض) بكسر أوله وسكون الراء بعدها موحدة وآخره معجمة (ابن سارية) بسين مهملة وكسر راء وبمثناة تحت (يختصم الشهداء) أي الذين قتلوا في سبيل الله (والمتوفون) بتشديد الفاء المفتوحة (إلى ربنا) أي رافعين اختصامهم إلى الله، فهو حال من المعطوف والمعطوف عليه (في الذين) متعلق بيختصم (يتوفون) على بناء المفعول (من الطاعون) أي بسببه (فيقول للشهداء) بيان الاختصام (أخواننا) خبر لمبتدأ هو هم أي المطعونون أخواننا (قتلوا كما قتلنا) بيان المشابهة، ولا شك أن مقصود الشهداء بذلك إلحاق المطعون معهم ورفع درجته إلى درجاتهم. وأما الأموات على الفرش فلعله ليس مقصودهم أصالة أن لا ترفع درجة المطعون إلى درجات الشهداء، فإن ذلك حسد مذموم، وهو منزوع عن القلوب في ذلك الدار. وإنما مرادهم أن ينالوا درجات الشهداء كما نال المطعون مع موته على الفراش، فمعنى قولهم أخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا أي فإن نالوا مع ذلك درجات الشهداء ينبغي أن ننالها أيضا. وعلى هذا فينبغي أن يعتبر هذا الخصام خارج الجنة وإلا فقد جاء فيها ?ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم?، فينبغي أن ينال درجة الشهداء من يشتهيها في الجنة، والظاهر أن الله تعالى ينزع من قلب كل أحد في الجنة اشتهاه درجة من فوقه ويرضيه بدرجته والله تعالى أعلم، قاله ال