الأحد، 11 سبتمبر 2022

ج1.في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي


في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي 

 الحمد لله خالق الألسن واللغات واضع الألفاظ للمعاني بحسب ما اقتضته حكمه البالغات، الذي علم آدم الأسماء كلها وأظهر بذلك شرف اللغة وفضلها. والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفصح الخلق لسانا وأعربهم بيانا، وعلى آله وصحبه، أكرم بهم أنصارا وأعوانا.

 

هذا علم شريف ابتكرت ترتيبه واخترعت تنويعه وتبويبه، وذلك في علوم اللغة وأنواعها وشروط أدائها وسماعها، حاكيت به علوم الحديث في التقاسيم والأنواع، وأتيتُ فيه بعجائب وغرائب حسنة الإبداع. وقد كان كثير ممن تقدم يلم بأشياء من ذلك ويعتني في بيانها بتمهيد المسالك، غير أن هذا المجموع لم يسبقني إليه سابق ولا طرق سبيله طارق؛ وقد سميته بالمزهر في علوم اللغة.

 

وهذا فهرست أنواعه: النوع الأول معرفة الصحيح الثابت الثاني معرفة ما روي من اللغة ولم يصح ولم يثبت الثالث معرفة المتواتر والآحاد الرابع معرفة المرسل والمنقطع الخامس معرفة الأفراد السادس معرفة من تقبل روايته ومن ترد السابع معرفة طرق الأخذ والتحمل الثامن معرفة المصنوع وهو الموضوع ويذكر فيه المدرج والمسروق

 

وهذه الأنواع الثمانية راجعة إلى اللغة من حيث الإسناد. التاسع معرفة الفصيح العاشر معرفة الضعيف والمنكر والمتروك الحادي عشر معرفة الرديء المذموم الثاني عشر معرفة المطرد والشاذ الثالث عشر معرفة الحوشي والغرائب والشوارد والنوادر الرابع عشر معرفة المهمل والمستعمل الخامس عشر معرفة المفاريد السادس عشر معرفة مختلف اللغة السابع عشر معرفة تداخل اللغات الثامن عشر معرفة توافق اللغات التاسع عشر معرفة المعرب العشرون معرفة الألفاظ الإسلامية الحادي والعشرون معرفة المولد

 

وهذه الأنواع الثلاثة عشر راجعة إلى اللغة من حيث الألفاظ. الثاني والعشرون معرفة خصائص اللغة الثالث والعشرون معرفة الاشتقاق الرابع والعشرون معرفة الحقيقة والمجاز الخامس والعشرون معرفة المشترك السادس والعشرون معرفة الأضداد السابع والعشرون معرفة المترادف الثامن والعشرون معرفة الإتباع التاسع والعشرون معرفة الخاص والعام الثلاثون معرفة المطلق والمقيد الحادي والثلاثون معرفة المشجر الثاني والثلاثون معرفة الإبدال الثالث والثلاثون معرفة القلب الرابع والثلاثون معرفة النحت

 

وهذه الأنواع الثلاثة عشر راجعة إلى اللغة من حيث المعنى. الخامس والثلاثون معرفة الأمثال السادس والثلاثون معرفة الآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوة والأخوات والأذواء والذوات السابع والثلاثون معرفة ما ورد بوجهين بحيث يؤمن فيه التصحيف الثامن والثلاثون معرفة ما ورد بوجهين بحيث إذا قرأه الألثغ لا يعاب التاسع والثلاثون معرفة الملاحن والألغاز وفتيا فقيه العرب

 

وهذه الأنواع الخمسة راجعة إلى اللغة من حيث لطائفها وملحها. الأربعون معرفة الأشباه والنظائر

 

وهذا راجع إلى حفظ اللغة وضبط مفاريدها. الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي الثاني الأربعون معرفة كتابة اللغة الثالث والأربعون معرفة التصحيف والتحريف الرابع والأربعون معرفة الطبقات والحفاظ والثقات والضعفاء الخامس والأربعون معرفة الأسماء والكنى والألقاب والأنساب السادس والأربعون معرفة المؤتلف والمختلف السابع والأربعون معرفة المتفق والمفترق الثامن والأربعون معرفة المواليد والوفيات

 

وهذه الأنواع الثمانية راجعة إلى رجال اللغة ورواتها التاسع والأربعون معرفة الشعر والشعراء الخمسون معرفة أغلاط العرب

 

وقبل الشروع في الكتاب نصدر بمقالة ذكرها أبو الحسين أحمد بن فارس في أول كتابه فقه اللغة.

 

قال: اعلم أن لعلم العرب أصلا وفرعا؛ أما الفرع فمعرفة الأسماء والصفات، كقولنا: رجل، وفرس، وطويل، وقصير؛ وهذا هو الذي يبدأ به عند التعلم. وأما الأصل فالقول على موضوع اللغة وأوليتها ومنشئها، ثم على رسوم العرب في مخاطبتها، وما لها من الافتنان تحقيقا ومجازا.

 

والناس في ذلك رجلان: رجل شغل بالفرع فلا يعرف غيره، وآخر جمع الأمرين معا، وهذه هي الرتبة العليا، لأن بها يعلم خطاب القرآن والسنة، وعليها يعول أهل النظر والفتيا؛ وذلك أن طالب العلم اللغوي يكتفي من أسماء الطويل باسم الطويل، ولا يضيره أن لا يعرف الأشق والأمق، وإن كان في علم ذلك زيادة فضل. وإنما لم يضره خفاء ذلك عليه لأنه لا يكاد يجد منه في كتاب الله تعالى شيئا فيحوج إلى علمه، ويقل مثله أيضا في ألفاظ رسول الله ﷺ، إذ كانت ألفاظه ﷺ هي السهلة العذبة.

 

ولو أنه لم يعلم توسع العرب في مخاطباتها لعيَّ بكثير من علم محكم الكتاب والسنة. ألا تسمع قول الله جل ثناؤه: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة... } إلى آخر الآية. فَسِرُّ هذه الآية في نظمها لا يكون بمعرفة غريب اللغة والوحشي من الكلام، [ وإنما معرفته بغير ذلك مما لعل كتابنا هذا يأتي على أكثره بعون الله تعالى. ] [1]

 

والفرق بين معرفة الفروع ومعرفة الأصول أن متوسما بالأدب لو سئل عن الجزم والتسويد في علاج النوق، فتوقف أو عَيّ به أو لم يعرفه، لم ينقصه ذلك عند أهل المعرفة نقصا شائنا، لأن كلام العرب أكثر من أن يحصى.

 

ولو قيل له: هل تتكلم العرب في النفي بما لا تتكلم به في الإثبات، ثم لم يعلمه لنقصه ذلك [ في شريعة الأدب ] عند أهل الأدب، [ لا أن ذلك يرده عن دينه أو يجره لمأثم. ] كما أن متوسما للنحو لو سئل عن قول القائل:

 

لَهِنَّكِ من عَبسيةٍ لَوسيمةٌ ** على هَنَواتٍ كاذبٍ مَن يقولُها

 

فتوقف أو فكر أو استمهل لكان أمره في ذلك عند أهل الفضل هينا، لكن [2] لو قيل له مكان "لهنك" ما أصل القسم، وكم حروفه، [ وما الحروف الخمسة المشبهة بالأفعال التي يكون الاسم بعدها منصوبا وخبره مرفوعا ] فلم يجب لحكم عليه بأنه لم يشامَّ صناعة النحو قط.

 

فهذا الفصل بين الأمرين.

 

والذي جمعناه في مؤلفنا هذا مفرق في أصناف العلماء المتقدمين [ رضي الله عنهم وجزاهم عنا أفضل الجزاء. ] [3] وإنما لنا فيه اختصار مبسوط أو بسط مختصر أو شرح مشكل أو جمع متفرق. انتهى.

 

وبمثل قوله أقول في هذا الكتاب، وهذا حين الشروع بالمقصود بعون الله المعبود.

 

 

هامش

 

في بعض النسخ: وإنما معرفته بمعرفة فنون العرب في مخاطباتها. والزيادة من الصاحبي في فقه اللغة.

 

 

في النسخ: ولو سئل ما أصل...، والتصحيح من الأصل.

 

الزيادات الأربع من الأصل.

=====================

النوع الأول

معرفة الصحيح

 

 

 

 

ويقال له الثابت والمحفوظ.

 

وفيه مسائل:

الأولى في حد اللغة وتصريفها

 

قال أبو الفتح ابن جني في الخصائص: حدُّ اللغةِ أصواتٌ يعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم، ثم قال: وأما تَصْريفها فهي فُعْلة من لَغَوْت أي تكلَّمت وأصلها لغوة ككُرَة وقُلَة وثُبَة، كلّها لاماتها واوات. وقالوا فيها لُغاتٌ ولُغُون كثُبَات وثُبُون. وقيل منها لَغِيَ [1] يَلْغَى إذا هَذَى، قال:

 

وربّ أسراب حَجِيجٍ كُظَّمِ ** عن اللغا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ

 

وكذلك اللغو، قال تعالى: { وَإذَا مَرُّوا بِاللغو مَرُّوا كِرَامًا } أي بالباطل، وفي الحديث: من قال في الجمعة صَهْ فقد لَغَا. أي تكلَّم. انتهى كلامُ ابن جني.

 

وقال إمامُ الحرمين في البرهان: اللغةُ من لَغِي [2] يَلْغَى من باب رَضِي إذا لهِج بالكلام، وقيل من لَغَى يَلْغَى.

 

وقال الأسنوي في شرح منهاج الأصول: اللغاتُ عبارةٌ عن الألفاظ الموضوعةِ للمعانِي.

الثانية في بيان واضع اللغة أتوقيف هي ووحي أم اصطلاح وتواطؤ

 

قال أبو الحسين أحمد بن فارس في فقه اللغة: اعلم أن لغة العرب توقيف. ودليل ذلك قوله تعالى { وعلم أدم الأسماء كلها }، فكان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها وهي هذه التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وروى خصيف عن مجاهد قال: علمه اسم كل شيء. وقال غيرهما: إنما علمه أسماء الملائكة. وقال آخرون: علمه أسماء ذريته أجمعين.

 

قال ابن فارس: والذي نذهب إليه في ذلك ما ذكرناه عن ابن عباس. فإن قال قائل: لو كان ذلك كما تذهب إليه لقال: "ثم عرضهن أو عرضها". فلما قال "عرضهم" علم أن ذلك لأعيان بني آدم أو الملائكة، لأن موضوع الكناية في كلام العرب يقال لما يعقل "عرضهم" ولما لا يعقل "عرضها أو عرضهن"؛ قيل له: إنما قال ذلك - والله أعلم - لأنه جمع ما يَعْقِل وما لا يعقل، فغلَّب ما يعقل وهي سُنَّةٌ من سُنن العرب، وذلك كقوله تعالى: { والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبع } فقال: منهم تغليبًا لمن يَمْشي على رِجْلين وهم بنو آدم.

 

فإن قال: أفتقولون في قولنا سيف وحُسام وعضب إلى غير ذلك من أوصافه إنه توقيف حتى لا يكون شيء منه مُصْطَلَحًا عليه؟ قيل له: كذلك نقولُ، والدليلُ على صحته إجماعُ العلماءِ على الاحتجاج بلغةِ القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثم احتجاجهُم بأشعارهم. ولو كانت اللغة مُوَاضَعةً واصطلاحًا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأوْلَى منَّا فِي الاحتجاج [ بنا ] لو اصطلحنا على لغةِ اليوم؛ ولا فَرْق.

 

ولعل ظانًا يظنُّ أن اللغةَ التي دللنا على أنها توقيفٌ إنما جاءت جملةً واحدة وفي زمان واحد، وليس الأمر كذلك. بل وقّف الله عز وجل آدم عليه السلام على ما شاء أن يُعَلِّمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه، وانتشر من ذلك ما شاء الله. ثم عَلّم بعد آدم من الأنبياءِ - صلوات الله عليهم - نبيًّا نبيًّا ما شاء الله أن يُعَلِّمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد ﷺ، فآتاه الله من ذلك ما لم يُؤتِه أحدًا قبلَه تمامًا على ما أحسنه من اللغة المتقدمة. ثم قرّ الأمر قَراره فلا نعلمُ لغةً من بعده حدثَتْ. فإن تعمَّل اليوم لذلك متعمِّل وجدَ من نُقَّاد العلم من يَنْفيه ويَرُدّه. ولقد بلَغنا عن أبي الأسود الدؤلي أن امرءا كلَّمه ببعضِ ما أنكَره أبو الأسود فسأله أبو الأسود عنه فقال: هذه لغةٌ لم تَبْلُغْك فقال له: يا بن أخي إنه لا خيرَ لك فيما لم يَبْلُغْني. فعرَّفَه بلُطْف أن الذي تكلَّم به مُخْتَلَق.

 

وخَلَّة أخرى: إنه لم يبلغنا أن قومًا من العرب في زمانٍ يقاربُ زماننا أجمعوا على تسميةِ شيء من الأشياءِ مُصْطَلِحِين عليه، فكنا نستدلّ بذلك على اصطلاحٍ قد كان قبلَهم.

 

وقد كان في الصحابة رضي الله عنهم - وهم البُلَغاءُ والفصحاءُ - من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاءَ به، وما عَلِمناهم اصطلَحوا على اختراعِ لغة أو إحْدَاث لفظةٍ لم تتقدمهم. ومعلوم أن حوادثَ العالَم لا تنقضي إلا بانْقِضَائِه ولا تزولُ إلا بِزَواله، وفي كل ذلك دليلٌ على صحَّة ما ذهَبْنا إليه من هذا الباب. هذا كله كلام ابن فارس، وكان من أهل السنة.

 

وقال ابن جني في الخصائص - وكان هو وشيخه أبو عليّ الفارسي مُعْتَزِلِيَّيْن -: باب القول على أصل اللغة إلهام هي أم اصطلاح. هذا موضع مُحْوِج إلى فَضْل تأمُّل، غير أن أكثَر أهلِ النظر على أن أصلَ اللغةِ إنما هو تواضعٌ واصطلاح، لا وَحْيٌ ولا توقيفٌ، إلا أن أبا علي رحمه الله قال لي يومًا: هي من عند الله واحتج بقوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماءَ كُلَّها }، وهذا لا يتناول موضعَ الخلاف وذلك أنه قد يجوز أن يكونَ تأويلُه: أَقدَرَ آدَمَ على أَنْ واضَعَ عليها. وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا مَحالة؛ فإذا كان ذلك مُحْتَمَلًا غير مُسْتَنْكَر سقط الاسْتِدلال به. وقد كان أبو علي رحمه الله أيضا قال به في بعض كلامه وهذا أيضا رأي أبي الحسن على أنه لم يمنعْ قولَ مَنْ قال إنها تواضعٌ منه وعلى أنه قد فُسِّر هذا بأن قيل إنه تعالى علَّم آدمَ أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات: العربية والفارسية والسريانية والعِبرانية والرُّومية وغير ذلك من سائر اللغات، فكان آدمُ وولدُه يتكلمون بها ثم إن ولدَه تفرَّقوا في الدنيا وعَلِق كلُّ واحد منهم بلغة من تلك اللغات فغَلَبَتْ عليه واضمحلَّ عنه ما سواها لِبُعْدِ عَهْدهم بها. وإذا كان الخبرُ الصحيحُ قد ورد بهذا وجب تَلقِّيه باعتقاده والانطواء على القول به.

 

فإن قيل: فاللغةُ فيها أسماءٌ وأفعالٌ وحروف وليس يجوز أن يكون المُعلَّمُ من ذلك الأسماءَ [ وحدَها ] دونَ غيرها مما ليس بأسماء، فكيف خَصَّ الأسماءَ وحدَها؛ قيل: اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماءُ أقوى القُبُل الثلاثة، ولا بد لكل كلامٍ مفيدٍ [ منفرد ] من الاسم، وقد تستغني الجملةُ المستقلةُ عن كل واحد من الفعل والحرف؛ فلما كانت الأسماء من القوّة والأوليَّة في النفس على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها عما هو تال لها ومحمول في الحاجة إليه عليها.

 

قال: ثم لِنعد [ فَلْنقل ] في الاعتلال لمن قال بأنَّ اللغة لا تكون وحْيًا؛ وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصلَ اللغة لا بدَّ فيه من المُوَاضعة قالوا: وذلك بأن يَجْتَمِعَ حكيمان أو ثلاثةٌ فصاعدًا فيحتاجوا إلى الإبانةِ عن الأشياءِ المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سِمَةً ولفظًا إذا ذُكِرَ عُرِفَ به ما مُسَمَّاه ليمتاز عن غيره وليُغْني بذِكْره عن إحْضَاره إلى مرآة العين فيكون ذلك أقربَ وأخَفَّ وأسهلَ من تَكلُّف إحضاره لبلوغ الغرضِ في إبانة حاله، بل قد يُحْتاج في كثير من الأحوال إلى ذِكْر ما لا يمكن إحضارُه ولا إدْنَاؤُه كالفاني وحال اجتماع الضدَّين على المحلِّ الواحد وكيف يكون ذلك لو جاز وغيرُ هذا مما هو جارٍ في الاستحالة والتَّعَذُّر مَجْراه فكأنهم جاؤوا إلى واحد من بني آدم فأومؤوا إليه وقالوا: إنسان إنسان إنسان، فأيّ وقتٍ سُمِع هذا اللفظ عُلِم أن المراد به هذا الضرْب من المخلوق، وإن أرادوا سِمَةَ عَيْنه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا: يد، عين، رأس، قدَم أو نحو ذلك؛ فمتى سُمعت اللفظة من هذا عرف معْنِيُّهَا وهلمَّ جرًّا فيما سوى ذلك من الأسماء والأفعال والحروف.

 

ثم لك [ من بعد ذلك ] أن تنقلَ هذه المُواضعة إلى غيرها فتقول: الذي اسمهُ إنسان فليجعل مكانه مَرْد والذي اسمهُ رأس فليجعل مكانه سرّ، وعلى هذا بقيةُ الكلام.

 

وكذلك لو بُدِئت اللغةُ الفارسيَّة فوقعت المُوَاضعة عليها لجاز أن تُنْقَلَ ويُوَلَّد منها لغاتٌ كثيرة من الرومية والزِّنجية وغيرهما؛ وعلى هذا ما نشاهدُه الآن من اختراع الصُّنَّاع لآلاتِ صنائعهم من الأسماء كالنَّجار والصائغ والحائك والبنَّاء وكذلك الملّاح، قالوا: ولكن لا بد لأوَلها من أن يكون متواضعًا عليه بالمشاهدة والإيماء.

 

قالوا: والقديمُ [ سبحانه ] لا يجوزُ أن يُوصَف بأن يُوَاضِعَ أحدًا على شيء؛ إذ قد ثبتَ أن المُوَاضَعة لا بدَّ معها من إيماءٍ وإشارةٍ بالجارحةِ نحوُ المُومَأُ إليه والمشار نحوه. قالوا والقديمُ سبحانه لا جارحةَ له فيصحُّ الإيماء والإشارة منه بها، فبطل عندهم أن تَصِحَّ المُوَاضعة على اللغة منه تقدست أسماؤه. [3]

 

قالوا: ولكن يجوزُ أن يَنْقُلَ اللهُ تعالى اللغة التي قد وقَع التواضعُ بين عبادهِ عليها بأن يقولَ: الذي كنتم تعبِّرون عنه بكذا عَبِّروا عنه بكذا، والذي كنتم تسمُّونه كذا ينبغي أن تسمُّوه كذا. وجوازُ هذا منه سبحانه كجوازِه من عبادِه؛ ومن هذا الذي في الأصوات ما يتعاطاه الناسُ الآن من مخالفة الأشْكال في حروف المُعْجَم كالصورة التي توضع للمُعَمَّيات والتراجم؛ وعلى ذلك أيضا اختلفت أقلامُ ذوي اللغات كما اختلفت ألسنُ الأصوات المرتَّبة على مذاهبهم في المواضعات فهذا قولٌ من الظهور على ما تراه.

 

إلا أنني سألتُ يومًا بعضَ أهله فقلت: ما تنكر أن تصحّ المواضعة من الله سبحانه وإن لم يكن ذا جارحة بأن يُحدث في جسم من الأجسام - خشبةٍ أو غيرها - إقبالًا على شخص من الأشخاص وتحريكًا لها نحوَه ويُسْمع - في حال تحرك الخشبة نحوَ ذلك الشخص - صَوْتًا يضَعُه اسمًا له ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعاتٍ، مع أنه - عزَّ اسمُه - قادرٌ على أن يُقْنِعَ في تعريفه ذلك بالمرَّة الواحدة فتقومُ الخشبة في هذا الإيماء وهذه الإشارة مقامَ جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة، وكما أن الإنسان أيضا قد يجوزُ إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبةٍ نحو المرادِ المتواضَعِ عليه فيقيمها في ذلك مقامَ يده لو أراد الإيماء بها نحوَه.

 

فلم يُجب عن هذا بأكثرَ من الاعترافِ بوجوبه ولم يخرج من جهته شيء أصلًا فأحكيه عنه، وهو عندي [ و ] على ما تراه الآن لازمٌ لمن قال بامتناع كون مواضعة القديم تعالى لغةً مُرْتجلة غير ناقلة لسانًا إلى لسان، فاعرف ذلك.

 

وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدَويِّ الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشَحِيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونَزيب الظبْي ونحو ذلك ثم وُلِّدت اللغاتُ عن ذلك فيما بعد.

 

وهذا عندي وجهٌ صالح ومذهب مُتَقَبَّل.

 

واعلم فيما بعد أنني على تَقَادم الوقت دائمُ التَّنْقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدَّواعي والخوالج قويَة التَّجاذب لي مختلفةَ جهاتِ التَّغَول على فكري؛ وذلك أنني [ إذا ] تأملتُ حالَ هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدِّقَّة والإرهاف والرِّقَّة ما يملك عليَّ جانب الفكر حتى يكاد يطمحُ به أمامَ غَلْوَةِ السِّحْرِ فمن ذلك ما نَبَّه عليه أصحابنا ومنه ما حَذَوْتُه على أمثلتهم فعرفت بتَتَابُعه وانْقِياده وبُعْدِ مَرَاميه وآماده صحةَ ما وُفِّقُوا لتقديمه منه ولُطْفِ ما أُسْعِدوا به وفُرِق لهم عنه وانْضَاف إلى ذلك واردُ الأخبار المأثورة بأنها من عند الله تعالى، فَقَويَ في نفسي اعتقادُ كونها توقيفًا من الله سبحانه وأنها وحيٌ.

 

ثم أَقول في ضد هذا: [ إنه ] كما وقع لأصحابنا ولنا وتَنَبَّهوا وتنبهنا على تأمُّل هذه الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن يكونَ الله تعالى قد خَلق مِنْ قبلنا وإن بَعُدَ مَدَاهُ عَنّا مَنْ كان ألطفَ منا أذهانًا وأسْرَعَ خَوَاطِرَ وأجرأ جنانًا، فأقف بين [ تين ] الخلَّتين حسيرًا وأُكاثرهما فأَنْكَفئ مكثورًا. وإن خطر خاطرٌ فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به.

 

هذا كله كلامُ ابن جني.

 

وقال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول وتبعهُ تاج الدين الأرموي في الحاصل وسراج الدين الأرموي في التحصيل ما ملخَّصه: النظر الثاني في الواضع: الألفاظُ إما أن تدل على المعاني بذواتها أو بوَضْع الله إياها أو بوَضْع الناس أو بكَون البعْض بوَضْع الله والباقي بوضع الناس والأول مذهب عباد بن سليمان والثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فُورَك والثالث مذهب أبي هاشم وأما الرابع فإما أن يكونَ الابتداءُ من الناس والتَّتِمَّة من الله وهو مذهب قوم أو الابتداءُ من الله والتتمة من الناس وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني.

 

والمحققون متوقفون في الكل إلا في مذهب عباد ودليل فسادِه أن اللفظَ لو دلَّ بالذات لفَهِم كلُّ واحد منهم كلَّ اللغات لعدم اختلاف الدلالات الذاتية واللازمُ باطلٌ فالملزوم كذلك.

 

واحتجَّ عبّاد بأنه لولا الدلالةُ الذاتيَّةُ لكان وضعُ لفظٍ من بين الألفاظ بإزاء معنًى من بين المعاني ترجيحًا بلا مُرَجِّح وهو محال.

 

وجوابُهُ أن الواضعَ إن كان هو الله فتخصيصُه الألفاظَ بالمعاني كتخصيص العالَم بالإيجاد في وقتٍ من بين سائر الأوقات وإن كان هو الناس فلعلَّه لتعيّن الخَطَران بالبال ودليلُ إمكانِ التوقّف احتمالُ خَلْقِ الله تعالى الألفاظَ وَوَضْعِها بإزاء المعاني وخَلْقِ علومٍ ضروريةٍ في ناس بأن تلك الألفاظَ موضوعةٌ لتلك المعانِي ودليل إمكان الاصطلاح إمكان أن يتولّى واحدٌ أو جمعٌ وضَع الألفاظِ لمعانٍ ثم يُفْهِموها لغيرهم بالإشارة كحال الوالداتِ مع أطفالهن وهذان الدليلان هما.

 

واحتجّ القائلون بالتوقيف بوجوه:

 

أولها قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } فالأسماء كلها معلّمة من عند الله بالنَّص وكذا الأفعالُ والحروف لعَدم القائل بالفَصْل ولأن الأفعال والحروف أيضا أسماء لأن الاسم ما كان علامةً والتمييزُ من تَصَرُّفِ النحاة لا منَ اللغة ولأنَّ التكلمَ بالأسماء وحْدَها متعذّر

 

وثانيها أنه سبحانَه وتعالى ذَمَّ قومًا في إطلاِقهم أسماء غيرَ توقيفيّة في قوله تعالى: { إنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا } وذلك يقتضي كونَ البواقي توقيفية.

 

وثالثها قوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } والأَلْسنةُ اللُّحْمَانية غيرُ مُرادة لعدم اختلافها ولأن بدائعَ الصُّنْع في غيرها أكثرُ فالمراد هي اللغات.

 

ورابعها - وهو عقلي - لو كانت اللغاتُ اصطلاحية لاحْتِيج في التخاطب بوَضْعِها إلى اصطلاحٍ آخر من لغةٍ أو كتابةٍ ويعودُ إليه الكلامُ ويلزم إما الدَّور أو التسلسلُ في الأوضاع وهو محال فلا بد من الانتهاءِ إلى التوقيف.

 

واحتجَّ القائلون بالاصطلاح بوَجْهين:

 

أحدهما لو كانت اللغاتُ توقيفيةً لتقدَّمت واسطةُ البعثةِ على التوقيف والتقدّمُ باطلٌ وبيانُ الملازمة أنها إذا كانت توقيفيةً فلا بدَّ من واسطة بين الله والبشر وهو النبيُّ لاسْتِحالة خطابِ الله تعالى مع كلِّ أحد وبيانُ بُطْلان التَّقَدُّم قوله تعالى: { ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } وهذا يَقْتَضِي تقدُّمَ اللغة على البعثة.

 

والثاني لو كانت اللغاتُ توقيفيةً فذلك إما بأن يَخْلُق الله تعالى عِلمًا ضروريًّا في العاقل أنَّه وَضَع الألفاظ لكذا أو في غير العاقل أو بألا يخلقَ علمًا ضروريًا أصلًا والأولُ باطلٌ وإلا لكان العاقلُ عالمًا بالله بالضرورة لأنه إذا كان عالمًا بالضرورة بكَوْن اللهِ وضَع كذا لِكَذا كان علمُه بالله ضروريًّا ولو كان كذلك لبطَلَ التكليفُ والثاني باطلٌ لأن غيرَ العاقل لا يمكنُه إنهاءُ تمام هذه الألفاظ والثالثُ باطل لأن العلمَ بها إذا لم يكن ضروريًا احتيج إلى توقيفٍ آخر ولَزِم التسلسل.

 

والجواب عن الأولى من حُجَجِ أصحابِ التوقيف: لِمَ لا يَجُوزُ أن يكون المرادُ من تعليم الأسماء الإلهامَ إلى وضْعها ولا يقالُ: التعليمُ إيجادُ العلم فإنا لا نُسَلِّم ذلك بل التعليم فعلٌ يترتب عليه العلم ولأجله يُقال علَّمْتُه فلم يتعلَّم. سلمنا أن التعليمَ إيجاد العلم لكن قد تقرّر في الكلام أن أفعالَ العباد مخلوقةٌ لله تعالى فعلى هذا: العلمُ الحاصل بها مُوجَد للّه. سلَّمناه لكنَّ الأسماءَ هي سِماتُ الأشياء وعلاماتُها مثل أن يعلَّمَ آدَمُ صلاحَ الخيل لِلْعَدْو والجمال للحَمْل والثيران للحَرْث فَلِمَ قلتُم: إن المراد ليس ذلك وتخصيصُ الأَسماءِ بالألفاظ عرفٌ جديد سلمنا أن المرادَ هو الألفاظُ ولكن لِم لا يجوزُ أن تكون هذه الألفاظُ وضَعَها قومٌ آخرون قبل آدمَ وعلَّمها الله آدم

 

وعن الثانية أنه تعالى ذمَّهم لأنهم سمُّوا الأصنامَ آلهة واعتقدوها كذلك.

 

وعن الثالثة أن اللسانَ هو الجارحة المخصوصة وهي غيرُ مرادة بالاتفاق والمجازُ الذي ذكرتموه يعارِضُه مَجازاتٌ أخر نحو مخارج الحروف أو القدرة عليها فلم يثبت التَّرجيح.

 

وعن الرابعة أن الاصطلاح لا يَسْتَدعي تقدُّمَ اصطلاحٍ آخر بدليل تعليم الوالدين الطفلَ دون سابقةِ اصطلاحٍ ثمة.

 

والجوابُ عن الأولى من حُجَّتَي أصحابِ الاصطلاحِ: لا نُسَلِّمُ توقُّفَ التوقيف على البعثة لجوازِ أن يخلق الله فيهم العلمَ الضروري بأن الألفاظَ وُضِعَت لكذا وكذا.

 

وعن الثانية: لِمَ لا يجوز أن يخلق الله العلم الضروريَّ في العقلاء أن واضعًا وَضعَ تلك الألفاظ لتلكَ المعاني وعلى هذا لا يكونُ العلم بالله ضروريًا سلَّمناه لكن لِمَ لا يجوز أن يكون الإله معلومَ الوجود بالضرورة لبعض العقلاء قوله: لَبَطَلَ التكليف قُلْنا: بالمعرفة أمَّا بسائر التكاليف فلا. انتهى.

 

وقال أبو الفتح بن برهان: في كتاب الوصول إلى الأصول: اختلف العلماءُ في اللغة: هل تَثبُتُ توقيفًا أو اصطلاحًا فذهبت المعتزلةُ إلى أن اللغات بأسْرها تثبت اصطلاحًا وذهبت طائفةٌ إلى أنها تثبتُ توقيفًا.

 

وزعم الأستاذُ أبو إسحاق الإسفرائيني أن القَدْرَ الذي يدْعو به الإنسان غيرَه إلى التَّواضع يَثْبتُ توقيفًا وما عدا ذلك يجوز أن يثبت بكل واحدٍ من الطريقين.

 

وقال القاضي أبو بكر: يجوز أن يثبت توقيفًا ويجوز أن يثبت اصطلاحًا ويجوز أن يثبت بعضه توقيفًا وبعضه اصطلاحًا والكلّ ممكن.

 

وعمدة القاضي أن الممْكن هو الذي لو قُدِّر موجودًا لم يعرض لوجوده محال ويعلم أن هذه الوجوه لو قُدِّرَت لم يعرض من وجودها محال فوجب قَطْعُ القول بإمكانها.

 

وعمدةُ المعتزلة أن اللغات لا تدلُّ على مدلولاتها كالدلالة العقلية ولهذا المعنى يجوزُ اختلافُها ولو ثبتت توقيفًا من جهة الله تعالى لكان ينبغي أن يخلقَ الله العلم بالصِّيغَة ثم يخلق العلْمَ بالمدلول ثم يخلق لنا العلم بجَعْل الصيغة دليلًا على ذلك المدلول ولو خلقَ لنا العلمَ بصفاته لجاز أن يخْلُق لنا العلم بذاته ولو خلق لنا العلم بذاته بطل التكليف وبطلت المحنة.

 

قلْنا: هذا بناءٌ على أصل فاسد فإنا نقول: يجوز أن يخلق اللهُ لنا العلم بذاته ضرورة وهذه وعمدة الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني: أن القَدْر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع لو ثبتَ اصطلاحًا لافْتَقَرَ إلى اصطلاحٍ آخر يتقدَّمه وهكذا فيتسلسل إلى ما لا نهاية له.

 

قلنا: هذا باطل فإن الإنسان يمكنه أن يُفْهمَ غيرَه معانيَ الأسامي كالطفل ينشأُ غيرَ عالمٍ بمعاني الألفاظ ثم يتعلَّمها من الأبوين من غير تَقَدُّمِ اصطلاح.

 

وعمدةُ مَنْ قال: إنها تَثْبتُ توقيفًا قولُه تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } وهذا لا حجَّةَ فيه من جهة القَطْع فإنه عُمُوم والعمُوم ظاهرٌ في الاستغراق وليس بنصّ قال القاضي: أما الجوازُ فثابتٌ من جهة القطع بالدليل الذي قدَّمْتُه وأما كيفيةُ الوقوع فأنا متوقف فإن دلَّ دليل من السَّمْع على ذلك ثبت به.

 

وقال إمام الحرمين في البرهان: اختلفَ أربابُ الأصول في مأخَذ اللغات فذهب ذاهبون إلى أنها توقيفٌ من الله تعالى وصار صائرون إلى أنها تثبتُ اصطلاحًا وَتَوَاطُؤًا وذهب الأستاذ أبو إسحاق في طائفة من الأصحاب إلى أن القَدْر الذي يُفْهم منه قصدُ التواطؤ لا بدَّ أن يُفْرضَ فيه التوقيف.

 

والمختارُ عندنا أن العقلَ يجوِّزُ ذلك كلَّه فأما تجويزُ التوقيف فلا حاجةَ إلى تكلُّف دليلٍ فيه ومعناه أن يُثْبِتَ الله تعالى في الصدور علومًا بَدِيهيَّةً بِصَيغٍ مخصوصة بمعاني فتتبَيَّنُ العقلاءُ الصِّيَغَ ومعانيها ومعنى التوقيف فيها أن يلقوا وَضْع الصيغ على حكم الإرادة والاختيار وأما الدليلُ على تجويز وقوعها اصطلاحًا فهو أنه لا يبعدُ أن يحرك الله تعالى نفوسَ العقلاء لذلك ويُعْلِم بعضَهم مرادَ بعض ثم ينشئون على اختيارهم صِيغًا وتقترنُ بما يريدون أحوالٌ لهم وإشارات إلى مسمّيات وهذا غيرُ مُسْتَنْكَر وبهذا المسلك ينطلقُ الطفل على طَوَالِ ترديد المُسْمَع عليه ما يريد تلقينه وإفهامه فإذا ثبت الجوازُ في الوجهين لم يبق لِما تخيَّله الأستاذ وجهٌ والتعويل في التوقيف وفرض الاصطلاح على علوم تَثْبُت في النفوس فإذا لم يمنع ثبوتها لم يبقَ لِمَنْع التوقيف والاصطلاح بعدَها معنى ولا أحد يمنعُ جوازَ ثبوت العلومِ الضرورية على النحو المبَيَّن.

 

فإن قيل: قد أثْبَتُّمُ الجواز في الوجهين عمومًا فما الذي اتفق عندكم وقوعه قلنا: ليس هذا مما يُتَطَرَّقُ إليه بمسالك العقول فإن وقوعَ الجائز لا يُسْتَدْرك إلا بالسَّمْعِ الْمَحْضِ ولم يَثْبت عندنا سمعٌ قاطع فيما كان من ذلك وليس في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } دليل على أحد الجائزين فإنه لا يمتنعُ أن تكونَ اللغاتُ لم يكن يعلمها فعلَّمه الله تعالى إياها ولا يمتنع أن الله تعالى أثبتَها ابتداء وعلَّمه إياها.

 

وقال الغزالي في المنخول: قال قائلون: اللغاتُ كلُّها اصطلاحية إذ التَّوقيفُ يَثبت بقولِ الرسول عليه السلام ولا يُفْهم قولُه دون ثبوت اللغة وقال آخرون: هي توقيفية إذ الاصطلاحُ يعْرضُ بعد دعاءِ البعضِ البعضَ بالاصطلاح ولا بدَّ من عبارة يُفْهَم منها قصدُ الاصطلاح.

 

وقال آخرون ما يُفْهَمُ منه: قصدُ التَّوَاضُع توقيفيّ دون ما عَدَاه ونحنُ نجوّز كونَها اصطلاحية بأن يحرِّكَ اللهُ رأسَ واحدٍ فيفهم آخرُ أنه قصدَ الاصطلاح ويجوز كونُها توقيفية بأن يثبت الربّ تعالى مراسمَ وخطوطًا يفهمُ الناظر فيها العباراتِ ثم يتعلُم البعضُ عن البعضِ وكيف لا يجوزُ في العقل كلُّ واحدٍ منهما ونحن نرى الصبيَّ يتكلمُ بكلمة أبويه ويفهم ذلك من قرائن أحوالهما في حالة صِغَره فإذَنْ الكل جائزٌ.

 

وأما وقوعُ أحدِ الجائزين فلا يستدرك بالعقل ولا دليل في السمع وقوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } ظاهرٌ في كونه توقيفيًا وليس بقاطع ويُحْتَمل كونُها مصطلحًا عليها من خَلْق الله تعالى قبل آدم. انتهى.

 

وقال ابن الحاجب في مختصره: الظاهرُ من هذه الأقوال قول أبي الحسن الأشعري.

 

قال القاضي تاج الدين السبكي في شرح منهاج البيضاوي: مَعْنى قولِ ابن الحاجب القولُ بالوقْفِ عن القَطْع بواحدٍ من هذه الاحتمالات وترجيحُ مذهب الأشعري بغلَبَة الظن قال: وقد كان بعضُ الضُّعفاءِ يقول: إن هذا الذي قاله ابن الحاجب مذهبٌ لم يقلْ به أحدٌ لأن العلماءَ في المسألة بين متوقِّفٍ وقاطع بمقالتِه فالقولُ بالظهور لا قائل به قال: وهذا ضعيف فإن المتوقِّف لعدم قاطع قد يرجّح بالظنّ ثم إن كانت المسألةُ ظنِّية اكتُفي في العمل بها بذلك التَّرجيح وإلا توقف عن العمل بها ثم قال: والإنصافُ أن الأدلةَ ظاهرةٌ فيما قاله الأشعري فالمتوقّف إن توقَّفَ لعدم القَطْعِ فهو مصيب وإن ادَّعى عدمَ الظهور فغيرُ مصيب هذا هو الحقُّ الذي فاه به جماعةٌ من المتأخرين منهم الشيخ تقي الدين بن دَقِيق العِيد في شرح العنوان.

 

وقال فِي رفع الحاجب: اعلم أن للمسألة مقامَين: أحدُهما الجوازُ فمن قائل: لا يجوزُ أن تكون اللغةُ إلا توقيفًا ومن قائل: لا يجوزُ أن تكون إلا اصطلاحًا والثاني أنه ما الذي وقع على تقدير جوازِ كلٍّ من الأمرين والقول بِتجْويز كل من الأمرين هو رأيُ المحققين ولم أرَ مَن صَرّح عن الأشعري بخلافه والذي أراه أنه إنما تكلم في الوقوع وأنه يجوّز صدور اللغة اصطلاحًا ولو مَنع الجواز لنَقَله عنه القاضي وغيره من محقِّقي كلامِه ولم أرَهم نقلوه عنه بل لم يَذكره القاضي وإمام الحرَمَين وابن القُشَيري والأشعري في مسألة مبدأ اللغات البتَّة وذكر إمامُ الحرَمين الاختلافَ في الجواز ثم قال: إن الوقوعَ لم يَثْبُتْ، وتَبِعه القُشَيري وغيرُه.

تنبيهات

 

أحدها - إذا قلنا بقول الأشعري إن اللغات توقيفيَّة - ففي الطريق إلى علمها مذاهب حكاها ابن الحاجب وغيره: أحدُها بالوَحْي إلى بعض الأنبياء والثاني بخَلق الأصوات في بعض قال ابن السبكي في رفع الحاجب: والظاهرُ من هذه هو الأول لأنه المعتادُ في عِلْم الله تعالى.

 

الثاني - قول الإمام الرازي فيما تقدّم: لِمَ لا يجُوزُ أنْ تكونَ هذه الألفاظُ وضَعَها قومٌ آخرون قبلَ آدم قال في رَفْع الحاجب: لسنا ندَّعي أن قبل آدم الجِنّ والبن [4] فذلك لم يَثْبُت عندنا بل قال القاضي في التقريب: جاز تواضُع الملائكةِ المخلوقة قبله، قال ابن القشيري: وقد كانوا قبلَه يتخاطبون ويفهمون.

 

الثالث - قولُ أهل الاصطلاح: لو كانت اللغات توقيفيةً لتقدَّمت واسطةُ البعْثَة على التوقيف أحسنُ من جواب الإمام عن جواب ابن الحاجب حيث قال: إذا كان آدمُ عليه السلام هو الذي عُلِّمَها اندفع الدور قال في رفع الحاجب: لأنَّ لآدم حالتين: حالة النبوّة وهي الأولى وفيها الوحْيُ الذي من جملته تعليمُ اللغات وعلمها الخلق إذ ذاك ثم بُعِث بعد أن عَلَّمَها قومَه فلم يكن مبعوثًا لهم إلا بعد علمهم اللغات فبُعِث بلسانهم قال: وحاصلُه أن نبوَّته متقدمةٌ على رسالته والتعليمُ متوسّط فهذا وجهُ اندفاع الدَّوْر.

 

الرابع - قال في رفع الحاجب: الصحيحُ عندي أنه لا فائدة لهذه المسألة وهو ما صحَّحه ابن الأنباري وغيرُه ولذلك قيل: ذِكْرُها في الأصول فضولٌ وقيل: فائدتها النظرُ في جواز قَلْب اللغة فحُكِي عن بعض القائلين بالتَّوْقيف منعُ القَلْب مطلقًا فلا يجوزُ تسمية الثَّوْب فرسًا والفرس ثوبًا وعن القائلين بالاصطلاح تجويزُه وأما المتوقِّفون - قال المازَرِي - فاختلَفوا فذهب بعضُهم إلى التجويز كمذهبِ قائلِ الاصطلاح وأشار أبو القاسم عبد الجليل الصَّابوني إلى المَنْع وجوَّزَ كونَ التوقيف واردًا على أنه وجبَ ألا يقعَ النطقُ إلا بهذه الألفاظ.

 

قال ابن السبكي والحقُّ عندي - وإليه يشيرُ كلامُ المازَري - أنه لا تَعَلُّقَ لهذا بالأصل السابق فإن التوقيفَ لو تمَّ ليس فيه حجرٌ علينا حتى لا يُنْطَقُ بسِواه فإن فُرِض حجرٌ فهو أمرٌ خارجي والفرعُ حكمُه حكم الأشياءِ قبل وُرودِ الشرائع فإنا لا نعلمُ في الشَّرْع ما يدلُّ عليه وما ذكره الصابوني من الاحتمال مدفوعٌ.

 

قال المازَرِي: وقد عُلِم أن الفقهاءَ المحقّقين لا يحرِّمون الشيء بمجرد احتمالِ ورود الشرع بتحريمه وإنما يحرِّمونه عند انْتهاضِ دليلِ تحريمه قال: وإن اسْتُنِد في التحريم إلى الاحتياط فهو نظرٌ في المسألة من جهة أخرى وهذا كلّه فيما لا يؤَدِّي قلبهُ إلى فسادِ النظام وتغييرُه إلى اختلاطِ الأحكام فإن أدَّى إلى ذلك - قال المازَري: فلا نختلفُ في تحريم قَلبِه لا لأَجل نفسه بل لأجلِ ما يُؤدِّي إليه قال في شرح المنهاج: إن بناءَ المسألة على هذا الأصل غيرُ صحيح فإن هذا الأصل في أن هذه اللغاتِ الواقعة بين أظْهُرِنا هل هي بالاصطلاح أو التوقيف لا في شخْصٍ خاص اصطلح مع صاحبه على إطلاق لفظِ الثوب على الفرس مثلًا.

 

وقال الزركشي في البحر: حكى الأستاذ أبو منصور قولًا: إن التوقيف وقعَ في الابتداء على لُغَة واحدة وما سواها من اللغات وقعَ التوقيف عليها بعد الطوفان من الله تعالى في أولاد نوح حين تفرَّقوا في أقطار الأرض قال: وقد رُوي عن ابن عباس: أول من تكلم بالعربية المحضة إسماعيل وأَرادَ به عربيةَ قريش التي نزل بها القرآن وأما عربية قَحْطان وحِمْير فكانت قبلَ إسماعيل عليه السلام.

 

وقال في شرح الأسماء: قال الجمهور الأعظم من الصحابة والتابعين من المفسرين: إنها كلَّها توقيفٌ من الله تعالى وقال أهلُ التحقيق من أصحابنا: لا بدّ من التوقيف في أصل اللغةِ الواحدة لاسْتِحَالة وقوعِ الاصطلاح على أوَّل اللغات من غيرِ معرفةٍ من المصطلحين بعَينِ ما اصطلحوا عليه وإذا حصلَ التوقيفُ على لغةٍ واحدة جاز أن يكونَ ما بعدَها من اللغات اصطلاحًا وأن يكون تَوقيفًا ولا يُقْطَع بأحدهما إلا بدلالة قال: واختلفوا في لغة العرَب فمَن زعم أن اللغاتِ كلَّها اصطلاحٌ فكذا قوله في لغة العرب ومن قال بالتَّوقيف على اللغةِ الأولى وأجاز الاصطلاحَ فيما سواها من اللغات اختلفوا في لغة العرب فمنهم من قال: هي أول اللغات وكلُّ لغةٍ سواها حدثَتْ بعدها إما توقيفًا أو اصطلاحًا واستدلوا بأن القرآن كلامُ الله وهو عربي وهو دليلٌ على أن لغةَ العربِ أسبقُ اللغات وجودًا.

 

ومنهم من قال: لغة العرب نوعان: أحدهما - عربيةُ حِمْير وهي التي تكلّموا بها من عَهْد هود ومَنْ قَبله وبقي بعضُها إلى وقتنا. والثانية - العربيةُ المحْضَة التي نزل بها القرآن وأولُ من أُنْطقَ لسانُه بها إسماعيل فعلى هذا القول يكون توقيف إسماعيل على العربية المحْضة يَحْتَمِل أمرين: إما أن يكون اصطلاحًا بينه وبين جُرْهم النازلين عليه بمكة وإما أن يكون توقيفًا من الله تعالى وهو الصواب. انتهى.

ذكر الآثار الواردة في أن الله تعالى علم آدم عليه السلام اللغات

 

قال وكيع في تفسيره: حدثنا شَريك عن عاصم بن كليب الجرمي عن سعيد ابن معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علّمه كلَّ شيء، علَّمه القَصْعَةَ وَالْقُصَيْعَة والفَسوَة والفُسَيْوَةَ. أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم بلفظ: علَّمه اسمَ الصحْفَة والقدْر وكلَّ شيءٍ حتى الفسوة والفسيّة.

 

وأخرج وَكِيع عن سعيد بن جُبَير في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علَّمه اسمَ كلِّ شيء حتى البعير والبقرة والشاة.

 

وأخرج وَكيع وعبد بن حميد في تفسيرهما عن مجاهد في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علَّمه كلَّ شيء ولفظ عبد بن حميد: ما خلقَ اللهُ كله.

 

وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم في تفسيرهما من طريق السدّي عمن حدّثه عن ابن عباس في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: عرض عليه أسماءَ ولدِه إنسانًا إنسانًا والدَّوَاب، فقيل: هذا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس.

 

وأخرج ابن جزيّ في تفسيره من طريق الضَّحاك عن ابن عباس في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: هي هذه الأسماء التي يَتعارف بها الناسُ؛ إنسان ودابة وأرض وسهل وبَحْر وجَبَل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.

 

وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جُبَير في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: اسم الإنسان واسم الدابة واسم كلِّ شيء.

 

وأخرج عبد عن قَتَادة فِي قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علم آدم من أسماء خَلْقه ما لم يُعَلِّم الملائكة فسمَّى كلَّ شيء بِاسْمِه وأَلْجَأ كلَّ شيء إلى جنسه.

 

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علمه القصعة من القُصَيْعة والفسوة من الفسية.

 

وأخرج إسحاقُ بن بشر في كتاب المبتدأ وابن عساكر في تاريخ دمشق عن عطاء قال: { يا آدم أنْبئْهُم بأسمائهم } فقال آدم: هذه ناقةٌ جمل بقرة نعجة شاة وفرس وهو من خَلْق ربي فكلُّ شيء سَمَّى آدم فهو اسمُه إلى يوم القيامة وجعل يدعو كلَّ شيء باسمه وهو يمرُّ بين قلت: في هذا فضيلةٌ عظيمة ومَنْقَبَةٌ شريفة لِعلْمِ اللغة.

 

وأخرج الدَّيلمي في مسند الفردوس عن عطية بن بشر مرفوعًا في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علَّمه في تلك الأسماء ألْفَ حِرْفَة.

 

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: أسماء ذُرِّيته أجمعين.

 

وأخرج عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: أَسماء الملائكة.

 

وأخرج ابن أبي حاتم عن حميد الشامي قال: علَّم آدمَ أسماءَ النجوم.

 

وأخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان لغتُه في الجنّة العربيةَ فلما عَصَى سلَبه اللهُ العربية فتكلّم بالسريانية فلما تاب ردَّ الله عليه العربية.

 

قال عبد الملك بن حبيب: كان اللسانُ الأوّلُ الذي نزل به آدمُ من الجنة عربيًا إلى أن بَعُد العهدُ وطال حرّف وصار سُرْيانيًا وهو منسوب إلى أرض سُورَى أو سوريانة وهي أرضُ الجزيرة بها كان نوح عليه السلام وقومه قبل الغَرَق، قال: وكان يُشَاكِل اللسانَ العربي إلا أنه محرّف وهو كان لسانَ جميع مَنْ في سفينة نوح إلا رجلًا واحدًا يقال له جُرهم فكان لسانه لسانَ العربي الأول، فلما خرجُوا من السفينة تزوّج إرَم بن سام بعض بناته فمنهم صار اللسانُ العربي في ولده عَوْص أبي عاد وعَبيل وجاثر أبي ثمود وجديس، وسُمِّيَت عادٌ باسم جرهم لأنه كان جدَّهم من الأم، وبقي اللسان السرياني في ولد أرْفَخَشْذ بن سام إلى أن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذريته وكان باليمن، فنزل هناك بنو إسماعيل فتعلّم منهم بنو قحطان اللسانَ العربي.

 

وقال ابن دِحْيَة: العربُ أقسام:

 

الأول عاربة وعرباء وهم الخلَّص وهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح وهي: عاد وثمود وأُمَيم وعَبيل وطَسْم وجَدِيس وعِمْلِيق وجُرْهم وَوَبار ومنهم تعلَّم إسماعيل عليه السلام العربية.

 

الثاني المتعربة قال في الصحاح: وهم الذين ليسوا بخُلَّص وهم بنو قحطان.

 

والثالث المستعربة وهم الذين ليسوا بخلّص أيضا كما في الصحاح.

 

وقال ابن دريد في الجمهرة: العربُ العاربة سبع قبائل: عاد وثمود وعمليق وطَسْم وجَديس وأُمَيم وجاسم وقد انْقرض أكثرُهم إلا بقايا متفرّقين في القبائل قال: وسُمي يعرب بن قحطان لأنه أولُ من انعدلَ لسانُه من السُّريانية إلى العربية وهذا معنى قول الجوهري في الصحاح: أولُ من تكلَّم بالعربية يعربُ بن قحطان.

 

وأخرج ابن عساكر في التاريخ بسَنَدٍ رواه عن أنس بن مالك موقوفًا قال: لما حَشرَ الله الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحًا فاجتمعوا ينظرون لماذا حُشِروا له فنادى مُنَادٍ: مَنْ جعل المَغرِب عن يمينه والمشرق عن يساره واقْتَصَد البيتَ الحرام بوَجْهِه فله كلامُ أهلِ السماء فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يَعْرُبُ بن قحطان بن هود أنت هو فكان أولَ من تكلم بالعربية المَبينَة فلم يزل المنادي يُنَادي مَنْ فَعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانًا وانقطع الصوتُ وَتَبَلْبَلَتِ الألسُن فسُمِّيت بابل وكان اللسان يومئذ بابليًا.

 

وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن بُرَيدة رضي الله عنه في قوله تعالى: { بلِسَانٍ عربي مُبينٍ } قال: بلسان جُرْهم.

 

وقال محمد بن سلام الجمحي في كتاب طبقات الشعراء: قال يونس بن حبيب: أولُ من تكلم بالعربية إسماعيلُ بن إبراهيم عليهما السلام ثم قال محمد بن سلّام: أخبرني مِسْمَع بن عبد الملك أنه سمع محمد بن عليّ يقول - قال ابن سلّام: لا أدري رَفَعَه أم لا وأظنه قد رفعه - أولُ من تكلَّم بالعربية ونَسِي لسانَ أبيه إسماعيلُ عليه السلام.

 

وأخرج الحاكم في المستدرك وصحَّحه والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر: أن رسول الله صلى عليه وسلم تلا: { قرآنًا عربيًا لقومٍ يعلمون } ثم قال: أُلْهِمَ إسماعيلُ هذا اللسان العربي إلهامًا.

 

قال محمد بن سلّام وأخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء قال: العربُ كلُّها ولدُ إسماعيل إلا حِمْير وبقايا جُرْهم وكذلك يروى أن إسماعيل جاوَرهم وأصْهر إليهم ولكنَّ العربيةَ التي عنى محمد بن علي اللسان الذي نزل به القرآن وما تكلّمت به العربُ على عهد النبي، وتلك عربيةٌ أخرى غير كلامنا هذا.

 

وقال الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه: قيل إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل عليه السلام والصحيح المشهور أن العربَ العاربة قبلَ إسماعيل، وهم عاد وثمود وطسم وجَديس وأُمَيم وجُرْهم والعماليق وأمم آخرون لا يعلَمهم إلا الله كانوا قبل الخليل عليه السلام وفي زمانه أيضا، فأما العربُ المستعربة وهم عربُ الحجاز فمن ذرِّية إسماعيل عليه السلام، وأما عربُ اليمن وحِمْيرَ فالمشهورُ أنهم من قَحْطان واسمه مهزَّم؛ قاله ابن مَاكُولا. وذكروا أنهم كانوا أربعةَ إخوة: قحطان وقاحط ومقحط وفالَغ وقَحْطان بن هود، وقيل هود وقيل أخوه وقيل من ذريته، وقيل إن قحطان من سُلالة إسماعيل، حكاه ابن إسحاق وغيره. والجمهور على أن العربَ القحطانية من عرب اليمن وغيرُهم ليسوا من سلالة إسماعيل.

 

وقال الشيرازي في كتاب الألقاب: أخبرنا أحمد بن سعيد المعداني: أنبأنا محمد بن أحمد بن إسحاق الماسي حدثنا محمد بن جابر حدثنا أبو يوسف يعقوب بن السكِّيت قال: حدثني الأثرم عن أبي عبيدة حدثنا مسمع بن عبد الملك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه عن النبي ﷺ: أول مَن فُتق لسانُه بالعربية المتينة إسماعيلُ عليه السلام وهو ابن أربع عشرة سنة فقال له يونس: صدقت يا أبا سيار هكذا حدثني به أبو جزيّ. هذه طريقةٌ موصولة للحديث السابق من طريق الجُمَحِي.

ذكر إيحاء اللغة إلى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام

 

قال أبو أحمد الغِطْريف في جُزْئه: حدثنا أبو بكر بن محمد بن أبي شيبة ببغداد، أخبرنا أبو الفضل حاتم بن الليث الجوهري حدثنا حماد بن أبي حمزة اليشكري، حدثنا علي بن الحسين بن واقد، نبأنا أُبي عن عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه عن عمر بن الخطاب أنه قال: يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد دَرَست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظتها. أخرجه ابن عساكر في تاريخه.

 

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق يونس بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ في يوم دَجْن: كيف ترون بواسقها قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمها، قال: كيف ترون قواعدها قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها، قال: كيف ترون جَوْنَها قالوا: ما أحسنه وأشد سواده، قال: كيف ترون رَحَاها استدارت قالوا: نعم ما أحسنها وأشدّ استدارتها، قال: كيف ترون برقها أخفيًّا أم وميضًا أم يشق شقًّا قالوا: بل يشق شقا، فقال: الحياءُ فقال رجل: يا رسول الله ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك، قال: حقّ لي فإنما أُنْزِلَ القرآن عليّ بلسانٍ عربي مبين.

 

وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي رافع قال: قال رسول الله ﷺ: مُثِّلت لي أُمَّتي في الماء والطين وعُلِّمْت الأسماءَ كلَّها كما عُلّم آدمُ الأسماءَ كلها.

المسألة الثالثة: في بيان الحكمة الداعية إلى وضع اللغة

 

قال الكِيَا الهَرَّاسي في تعليقه في أُصول الفقه: وذلك أن الإنسانَ لمَّا لم يكن مكتفيًا بنفسه في معاشه ومُقِيمات معاشه لم يكن له بدٌّ من أن يسترفد المعاونة من غيره ولهذا اتَّخَذ الناسُ المدن ليجتمعوا ويتعاونوا.

 

وقيل: إن الإنسان هو المتمدّن بالطبع والتوحُّش دَأْبُ السباع ولهذا المعنى توزَّعَت الصنائع وانْقَسَمَت الحِرَف على الخَلْق فكلُّ واحدٍ قصَر وقتَه على حِرْفة يشتغل بها لأن كلَّ واحد من الخَلْق لا يمكنُه أن يقوم بجُمْلَة مَقَاصِده فحينئذ لا يخْلُو من أن يكونَ محلُّ حاجته حاضرةً عنده أو غائبةً بعيدةً عنه فإن كانت حاضرةً بين يديه أمكنه الإشارة إليها وإن كانت غائبةً فلا بدَّ له من أن يدلَّ على محل حاجاته وعلى مَقْصوده وغَرضه، فوضعوا الكلامَ دلالةً ووجدوا اللسانَ أسرعَ الأعضاءِ حركةً وقبولًا للترداد.

 

وهذا الكلام إنما هو حرفٌ وصوتٌ، فإن تركه سدًى غفلًا امتدَّ وطال، وإن قطعه تقطَّع. فقطَّعوه وجزّؤوه على حركات أعضاءِ الإنسان التي يخرج منها الصوت وهو من أقصى الرِّئة إلى منتهى الفم، فوجدوه تسعةً وعشرين حرفًا لا تزيد على ذلك. ثم قسَّموها على الحلْق والصَّدْر والشَّفَةِ واللثَّة. ثم رَأَوْا أن الكفاية لا تقعُ بهذه الحروف التي هي تسعةٌ وعشرون حرفًا ولا يحصل له المقصود بإفرادها فركّبوا منها الكلامَ ثُنائيًّا وثلاثيًّا ورباعيًّا وخماسيًّا؛ هذا هو الأصل في التركيب، وما زاد على ذلك يُستَثْقَل. فلم يضعوا كلمةً أصلية زائدة على خمسة أحرف إلا بطريق الإلْحاق والزيادة لحاجة. وكان الأصلُ أن يكون بإزاءِ كل معنى عبارةٌ تدلُ عليه غير أنه لا يمكنُ ذلك لأَن هذه الكلمات متناهيةٌ، وكيف لا تكون متناهية ومَوَارِدها ومَصَادرها متناهية، فدعت الحاجةُ إلى وضع الأسماء المشتَركة فجعلوا عبارةً واحدةً لمسَمَّيَاتٍ عِدَّة كالعين والجَوْن واللون؛ ثم وضعوا بإزاء هذا على نقيضه كلماتٍ لمعنًى واحد، لأن الحاجةَ تدعو إلى تأكيد المعْنى والتحريض والتقرير، فلو كُرّرَ اللفظ الواحد لسَمُجَ ومُجَّ ويقال: الشيء إذا تكرّر تكرَّج والطِّباعُ مجبولةٌ على مُعَاداة المُعَادات؛ فخالفوا بين الألفاظ والمعنى واحد.

 

ثم هذا ينقسم إلى ألفاظ متواردة وألفاظ مترادفة. فالمتواردة كما تسمَّى الخمرُ عَقارًا وصَهْباءَ وقهوة وسلسالًا، والسبعُ ليثًا وأسدًا وضِرْغامًا. والمترادفة هي التي يُقام لفظٌ مقام لفظٍ لمعانٍ مُتَقَاربة يجمعها معنًى واحد، كما يقال أَصْلَح الفاسِدَ ولمَّ الشَّعَث ورتقَ الفَتقَ وشعبَ الصَّدْع. وهذا أيضا مما يَحْتَاجُ إليه البليغ في بلاغته فيقال خطيبٌ مِصْقَع وشاعر مُفْلِق، فَبِحُسْنِ الألفاظ واختلافها على المعنى الواحد ترصع المعاني في القلوب وتَلْتَصِق بالصدور ويزيد حسنُه وحَلاوته وطَلاوته بضَرْب الأمثلة به والتشبيهات المجازية. وهذا ما يَسْتَعْمِلُه الشعراء والخطباء والمترسِّلون. ثم رأوا أنه يضيقُ نِطاقُ النُّطق عن استعمال الحقيقة في كل اسمٍ فعدَلوا إلى المجاز والاستعارات.

 

ثم هذه الألفاظ تنقسم إلى مشتركة وإلى عامَّة مطلقة - وتسمى مستغرقة - وإلى ما هو مفرد بإزاء مفرد، وسيأتي ذلك.

 

وقال الإمام فخر الدين وأتباعه: السببُ في وضع الألفاظ أن الإنسان الواحد وحدَه لا يستقلُّ بجميع حاجاته بل لا بدَّ من التعاون ولا تعاونَ إلا بالتَّعارف ولا تعارفَ إلا بأسباب كحركات أو إشاراتٍ أو نقوش أو ألفاظٍ توضع بإزاء المقاصد، وأَيْسَرُها وأفيدُها وأعمُّها الألفاظ. أمَّا أنها أيسر فِلأَنَّ الحروفَ كيفيَّاتٌ تَعْرِضُ لأصواتٍ عارضة للهواء الخارج بالتّنفس الضروري الممدود من قبل الطبيعة دون تكلف اختياري. وأما أنها أفيدُ فلأَنها موجودةٌ عند الحاجة معدومةٌ عند عَدَمها. وأما أنها أعمُّها فليس يمكن أن يكونَ لكل شيءٍ نَقْشٌ، كذات الله تعالى والعلوم، أو إليه إشارة كالغائبات، ويمكن أن يكونَ لكل شيءٍ لفظٌ. فلما كانت الألفاظُ أيسرَ وأفيدَ وأعمَّ صارت موضوعةً بإزاء المعاني.

المسألة الرابعة: في حد الوضع

 

قال التاج السبكي في شرح منهاج البيضاوي: الوضع عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أُطلق الأوَّلُ فُهِم منه الثاني. قال: وهذا تعريفٌ سديد، فإنك إذا أطلقت قولك: قام زيد فُهِمَ منه صُدُور القيام منه. قال: فإن قلتَ: مدلولُ قولنا قام زيد صدور قيامه، سواءٌ أطلقنا هذا اللفظ أم لم نُطْلِقه فما وجهُ قولكم بحيث إذا أطلق؟ قلت: الكلامُ قد يخرج عن كونه كلامًا وقد يتغيَّر معناه بالتّقييد، فإنك إذا قلتَ: قام الناس اقتضى إطلاق هذا اللفظ إخبارك بقيام جميعهم، فإذا قلتَ: إن قام الناس خرج عن كونه كلامًا بالكلية فإذا قلتَ: قام الناس إلا زيدا، لم يخرجْ عن كونه كلامًا ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدًا فعلم بهذا أن لإفادة قام الناس الإخبار بقيام جميعهم شرطين: أحدهما ألا تبتدئَه بما يخالِفُه والثاني ألا تختمَه بما يخالفه وله شرطٌ ثالث أيضا وهو أن يكونَ صادرًا عن قَصْد فلا اعتبارَ بكلام النائم والساهي فهذه ثلاثةُ شروط لا بدَّ منها وعلى السامع التنبه لها فوضحَ بهذا أنك لا تستفيدُ قيام الناس من قوله: قام الناس إلا بإطلاق هذا القول فلذلك اشترطنا ما ذكرناه.

 

فإن قلت: مِنْ أين لنا اشتراطُ ذلك واللفظُ وحدَه كافٍ في ذلك لأن الواضع وضَعَه لذلك قلت: وضْعُ الواضع له معناه أنه جعله مُهَيَّأً لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلّم على الوجه المخصوص والمفيدُ في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظُ كالآلة الموضوعة لذلك.

 

فإن قلتَ: لو سمعنا قام الناس ولم نَعْلَم مِنْ قائِله هل قصده أم لا وهل ابتدأه أو ختمه بما يغيِّره أو لا هل لنا أن نُخبِر عنه بأنه قال: قام الناس قلت: فيه نظر يحتمل أن يُقال بجوازه لأن الأصل عدمُ الابتداء والختم بما يُغيّره ويحتمل أن يقال: لا يجوز لأن العُمْدة ليس هو اللفظ ولكنَّ الكلام النفساني القائم بذات المتكلم وهو حكمه واللفظ دليل عليه مشروط بشُروط ولم تتحقَّق ويُحْتَمل أن يقال: إن العلم بالقصد لا بدّ منه لأنه شَرْطٌ والشكُّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط والعلم بعدم الابتداء والختم بما يخالفُه لا يُشْتَرَط لأنهما مانعان والشكُّ في المانع لا يقتضي الشك في الحكم لأن الأصلَ عدمه قال: واختار والدي - رحمه الله - أنه لا بدَّ من أن يعلم الثلاثة. انتهى.

المسألة الخامسة

 

اختلف هل وضَعَ الواضعُ المفرداتِ والمركَّبات الإسناديّة أو المفردات خاصة دون المركبات الإسنادية. فذهب الرازي وابن الحاجب وابن مالك وغيرُهم إلى الثاني وقالوا: ليس المركَّب بموضوع وإلا لتوقَّفَ استعمالُ الجُمل على النَّقْل عن العرب كالمفردات.

 

ورجَّح القرافي والتاج السبكي في جمع الجوامع وغيرهما من أهل الأصول أنه موضوع لأن العرب حَجَرت في التراكيب كما حَجَرت في المفردات.

 

وقال ابن إياز [5] في شرح الفصول في قول ابن عبد المعطي [6]: الكلامُ هو اللفظُ المركب المفيد بالوضع، كذا قال الجزولي، وكان شيخي سعد الدين يقول فيه بغير ذلك لأنَّ واضعَ اللغةِ لم يَضَع الجملَ كما وضعَ المفردات بل ترك الجُمل إلى اختيار المتكلِّم، يُبَيِّنُ ذلك لك أن حال الجُمل لو كانت حال المفردات لكان استعمالُ الجمل وفهمُ معانيها متوقفًا على نَقْلها عن العرب كما كانت المفرداتُ كذلك ولوجب على أهل اللغة أن يتتبعوا الجُمل ويودعوها كتبهم كما فعلوا ذلك

المسألة السادسة

 

قال الإمام فخر الدين الرَّازي وأتباعه: لا يجبُ أن يكون لكلِّ معنى لفظٌ لأنَّ المعانيَ التي يمكن أن تُعْقَل لا تَتَناهى والألفاظ متناهيةٌ لأنَّها مركبّة من الحروف والحروف متناهية والمركَّب من المُتناهي مُتَنَاهٍ والمتناهي لا يَضْبِطُ ما لا يَتَنَاهى وإلا لزم تَناهي المدلولات قالوا: فالمعاني منها ما تكثرُ الحاجةُ إليه فلا يَخْلُو عن الألفاظ لأن الداعيَ إلى وضْع الألفاظ لها حاصلٌ والمانعُ زائل فيجب الوضعُ والتي تَنْدُر الحاجة إليها يجوزُ أن يكون لها ألفاظ وألا يكون.

المسألة السابعة

 

قالوا أيضا: ليس الغرضُ من الوضع إفادةَ المعاني المفردة بل الغرضُ إفادةُ المركَّبَات والنسب بين المفردات كالفاعليَّة والمفعولية وغيرهما وإلا لَزِم الدَّور وذلك لأنّ إفادةَ الألفاظِ المفردة لمعانيها موقوفةٌ على العِلْم بكونها موضوعةً لتلك المسمّيات والعلم بذلك موقوفٌ على العلم بتلك المسمّيات فيكون العلمُ بالمعاني متقدمًا على العِلْم بالوضع فلو استَفَدْنا العلم بالمعاني من الوَضع لكان العلْمُ بها متأخرًا عن العلم بالوضع وهو دَوْرٌ.

 

فإنْ قِيلَ: هذا بَعْينِهِ قائمٌ فِي المركَّبَاتِ لأنَّ المركَّبَ لا يفيدُ مدلولَه إلا عند العلم بكونه موضوعًا لذلك المدلول والعلم به يَسْتدعي سبقَ العلم بذلك المدلول فلو استفدنا العلمَ بذلك المدلول من ذلك المركَّب لزِم الدَّوْر.

 

فالجواب أنَّا لا نُسَلِّم أن إفادةَ المركب لمدلوله تتوقَّفُ على العلم بكوْنه موضوعًا له بل على العلم بكون الألفاظ المفردة موضوعةً للمعاني المفردة حتى إذا تُلِيَت الألفاظ المفردةُ عُلِمَتْ مفردات المعاني منها والتناسبُ بينهما من حركاتِ تلك الألفاظ فظَهرَ الفرق.

المسألة الثامنة

 

اخْتُلِفَ: هل الألفاظ موضوعةٌ بإزاء الصُوَر الذهنية - أي الصورة التي تَصَوَّرها الواضع في ذِهْنِه عند إرادة الوضع - أو بإزاء الماهيات الخارجية فذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى الثاني وهو المختارُ وذهب الإمام فخر الدين وأتباعه إلى الأول واستدلّوا عليهِ بأن اللفظَ يتغيَّر بحسب تغيُّر الصورة في الذِّهن فإن مَنْ رأَى شَبحًا من بعيد وظَنَّه حَجرًا أطلق عليه لفظ الحجر فإذا دَنا منه وظنَّه شجرًا أطلق عليه لفظ الشجر فإذا دَنَا وظنَّه فرسًا أطلق عليه اسم الفرس فإذا تحقَّق أنه إنسان أطلق عليه لفظَ الإنسان فَبَانَ بهذا أن إطلاقَ اللفظ دائر مع المعاني الذهنيَّة دون الخارجية فدلّ على أن الوضْعَ للمعنى الذهنيّ لا الخارجيّ.

 

وأجاب صاحب التحصيل عن هذا بأنه إنما دار مع المعاني الذِّهنية لاعْتقاد أنها في الخارج كذلك لا لِمُجرَّد اختلافِها في الذهن.

 

قال الأسنوي في شرح منهاج الإمام البيضاوي: وهو جواب ظاهر قال: ويظهرُ أن يُقال: إن اللفظ موضوع بإزاءِ المعنى من حيث هو مع قَطْعِ النظر عن كونه ذهنيًّا أو خارجيًّا فإن حصولَ المعنى في الخارج والذّهن من الأوصاف الزائدة على المعنى واللفظُ إنما وُضِعَ للمعنى من غير تقييده بوَصْفٍ زائد ثم إن الموضوعَ له قد لا يُوجد إلا في الذهن فقط كالعلم ونحوه. انتهى.

 

وقال أبو حيّان في شرح التسهيل: العجبُ ممن يُجيز تركيبًا مَا في لغة من اللغات من غير أن يسمعَ من ذلك التركيب نظائرَ وهل التراكيب العربية إلا كالمفردات اللغوية فكما لا يجوز إحداثُ لفظٍ مفردٍ كذلك لا يجوز في التراكيب لأن جميعَ ذلك أمورٌ وضعية والأمورُ الوضعيةُ تحتاج إلى سماع من أهل ذلك اللسان والفرقُ بين علم النحو وبين علم اللغة أن علمَ النحو موضوعُه أمورٌ كليّة وموضوعُ علم اللغة أشياء جزئية وقد اشتركا معًا في الوضْع. انتهى.

 

وقال الزركشي في البحر المحيط: لا خِلافَ أن المفرداتِ موضوعةٌ، كوضع لفظ إنسان للحيوان الناطق وكوَضْعِ قام لحدوث القيام في زمن مخصوص وكَوَضْع لعلَّ للترجِّي ونحوها، واختلفوا في المركَّبَات نحو قام زيد وعمرو منطلق فقيل: ليست موضوعة؛ ولهذا لم يتكلم أهلُ اللغة في المركبات ولا في تأليفها وإنما تكلموا في وَضْع المفردات وما ذاك إلا لأن الأمر فيها مَوْكول إلى المتكلِّم بها؛ واختاره فخرُ الدين الرازي وهو ظاهرُ كلام ابن مالك حيث قال: إن دلالة الكلام عقليَّة لا وَضعيَّة، واحتجَّ له في كتاب الفيصل على المفصل بوجهين: أحدهما - أن من لا يَعْرف من الكلام العربي إلا لفظين مفردين صالحين لإسناد أحدهما إلى الآخر فإنه لا يَفْتَقر عند سماعهما مع الإسناد إلى مَعرّف بمعنى الإسناد بل يُدْرِكه ضرورة. وثانيهما - أن الدَّال بالوضع لا بدَّ من إحصائه ومنع الاستئناف فيه كما كان في المفردات والمركَّبات القائمة مقامها فلو كان الكلامُ دالًّا بالوضْع وجب ذلك فيه ولم يكن لنا أن نتكلم بكلام لم نُسْبَق إليه كما لم نَستعمل في المفردات إلا ما سَبَق اسْتِعماله وفي عدم ذلك برهانٌ على أنَّ الكلامَ ليس دالًّا بالوضع. انتهى.

 

وحكاه ابن إياز عن شيخه قال: ولو كان حال الجمل كحال المفردات في الوضع لكان استعمال الجُمَلِ وفهمُ معانيها متوقفًا على نَقْلِها عن العرب كما كانت المفرداتُ كذلك ولَوَجَبَ على أهل اللغة أن يَتَتَبَّعوا الجُمَل ويُودِعُوها كُتبَهم كما فعلوا ذلك بالمفردات ولأن المركّباتِ دلالتُها على معناها التركيبي بالعقل لا بالوضع فإنَّ مَنْ عرف مسمَّى زيد وعرف مسمَّى قائم وسمع زيد قائم بإعرابه المخصوص فَهِمَ بالضرورة معنى هذا الكلام وهو نِسْبَةُ القيام إلى زيد، نعم يصحّ أن يقالَ: إنها موضوعة باعتبار أنها متوقفة على معرفة مفرداتها التي لا تُستفاد إلا من جهة الوضع ولأَن لِلَّفْظ المركَّب أجزاء مادّية وجزءًا صوريًا وهو التأليفُ بينهما وكذلك لمعناه أجزاءٌ مادّية وجزءٌ صوريّ والأَجزاءُ المادّية من اللفظ تدلُّ على الأَجزاءِ المادية من المعنى والجزءُ الصوريّ منه يدل على الجزء الصوريّ من المعنى بالوضع.

 

والثاني - أنها موضوعة [7] فوضعت زيد قائم للإسناد دون التَّقوية في مفرداته ولا تَنَافي بين وَضْعها مفردةً للإسناد بدون التَّقوية وَوَضْعها مركَّبة للتَّقوية ولا تختلف باختلاف اللغات فالمضافُ مقدَّم على المضاف إليه في بعض اللغات ومؤخَّر عنه في بَعْض ولو كانت عقليّةً لفهم المعنى واحدًا سواءٌ تقدّم المضافُ على المضاف إليه أو تأخر. وهذا القولُ ظاهرُ كلام ابنِ الحاجب حيث قال: أقسامُها مفرد ومركب. قال القَرَافي: وهو الصحيح. وعزَاه غيرُه للجمهور بدليل أنها حَجَرت في التَّراكيب كما حَجَرت في المفردات فقالت: من قال: إن قائم زيدًا ليس من كلامنا ومن قال: إن زيدًا قائم فهو من كلامنا ومن قال: في الدار رجلٌ فهو من كلامنا ومن قال: رجل في الدار فليس من كلامنا إلى ما لا نهاية له في تراكيب الكلام وذلك يدلّ على تَعَرُّضِهَا بالوضعِ للمركبات.

 

قال الزَّرْكَشِيّ: والحقُّ أن العربَ إنما وَضَعَتْ أنواعَ المرَكَّبَاتِ أما جُزئيات الأنواع فلا فَوَضَعَتْ باب الفاعل لإسْناد كلِّ فعلٍ إلى مَنْ صَدَرَ منه أما الفاعلُ المخصوص فلا وكذلك باب إن وأخواتها أما اسمُها المخصوصُ فلا وكذلك سائر أنواعِ التراكيب وأحالت المعنى على اختيار المتكلم فإنْ أراد القائلِ بِوَضْع المركّبات هذا المعنى فصحيح وإلا فممنوع قال: ولم أر لهم كلامًا في المثنى والمجموع والظاهرُ أنهما موضوعان لأنهما مفردان وهو الذي يقتضيه حدُّهم للمفرد ولهذا عامَلُوا جُمُوعَ التكسير معاملةَ المفردِ في الأحكام لكنْ صَرَّح ابن مالك في كلامه على حدِّهما بأنهما غيرُ موضوعين ويبعدُ أن يقالَ: فرَّعه على رأيهِ في عدم وضْعِ المركّبات لأنه لا تركيب فيها لا سيما أن المركّب في الحقيقة إنما هو الإسنادُ وكذا القولُ في أسماء الجُموع والأجناس مما يدلُّ على متعدد والقول بعدم وضْعه عجيب لأن أكثره سماعيّ وقد صرَّح ابن مالك بأنَّ شَفْعًا ونحوه مما يدلّ على الاثنين موضوع.

 

وقال الجويني: الظاهرُ أن التثنية وُضِعَ لفظُها بعد الجمع لِمَسِيس الحاجة إلى الجمع كثيرا؛ ولهذا لم يُوجد في سائر اللغات تثنية، والجمع موجود في كل لغة، وَمِنْ ثمَّ قال بعضهم: أقلُّ الجمع اثنان كأَن الواضع قال: الشيءُ إما واحدٌ وإما كثير لا غيرُ، فجعل الاثنين في حدِّ الكثرة. انتهى.

المسألة التاسعة

 

قال الإمام عضد الدين الإيجي في رسالة له في الوضع: اللفظ قد يوضع لشخصٍ بعينه وقد يُوضع له باعتبار أمرٍ عام وذلك بأن يُعْقل أمرٌ مشتَرَك بين مشخصات ثم يُقال: هذا اللفظ موضوع لكلِّ واحدٍ من هذه المشخصات بخصوصه بحيث لا يُفاد ولا يُفْهم به إلا واحد بخصوصه دون القَدْر المشترك فتعقل ذلك المشترك آلة للوضع لا أنه الموضوع له فالوضع كلِّي والموضوعُ له مشخّص وذلك مثلُ اسم الإشارة فإنَّ هذا مثلًا موضوعُه ومسمّاه المشارُ إليه المشخّص بحيث لا يَقْبَلُ الشركة وما هو من هذا القبيل لا يُفيدُ التشخُّص إلا بقرينة تفيدُ تعيينه لاسْتواءِ نسبة الوضع إلى المسّميات.

 

قال: ثم اللفظُ مدلوله إما كلّي أو مشخّص والأول إما ذاتٌ وهو اسم الجنس أو حدَث وهو المصدر أو نسبة بينهما وذلك إما أن يكون يُعْتَبَر من طَرَفِ الذات وهو المشتقّ أو من طَرَف الحدَث وهو الفِعْل والثاني العلم فالوَضعُ إما كلي أو مشخّص والأول مدلولُه إما معنى في غيره يتعيَّنُ بانضمام غيره إليه وهو الحرف أولًا فالقرينةُ إن كانت في نحو الخطاب فالضميرُ وإن كانت في غيره فإما حسيَّة وهو اسمُ الإشارة أو عقليَّة وهو الموصول فالثلاثة مشتركة فإن مدلولَها ليس معاني في غيرها وإن كانت تتحصَّل بالغير فهي أسماء.

المسألة العاشرة

 

نقلَ أهلُ أُصول الفِقْه عن عبّاد بن سليمان الصيمري من المعتزلة أنه ذهبَ إلى أنَّ بين اللفظِ ومدلولهِ مناسبةً طبيعيةً حاملةً للواضع على أن يضعَ قال: وإلا لكانَ تخصيصُ الاسمِ المُعيّنِ بالمسمَّى المُعيَّن ترجيحًا من غير مُرَجِّح وكان بعضُ مَنْ يرَى رأْيَه يقول: إنه يعرفُ مناسبةَ الألفاظِ لمعانيها فَسُئِل ما مُسَمَّى اذغاغ وهو بالفارسية الحجر فقال: أجدُ فيه يُبْسًا شديدا، وأراه الحجر. وأنكَر الجمهور هذه المقالة وقال: لو ثبتَ ما قالَه لاهْتَدَى كلُّ إنسان إلى كل لغةٍ ولما صحَّ وضعُ اللفظِ للضدين كالقَرْءِ للحيض والطهر والجَوْن للأَبيض والأسود؛ وأجابوا عن دليله بأنَّ التخصيص بإرادة الواضع المختار خصوصًا إذا قلنا: الواضعُ هو الله تعالى فإن ذلك كتخصيصه وجود العالَم بوقت دون وقت وأما أهل اللغة والعربية فقد كادوا يُطْبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني لكن الفرقَ بين مذهبهم ومذهب عبّاد أن عبَّادًا يراها ذاتية موجبة بخلافهم وهذا كما تقول المعتزلة بمراعاة الأصْلح في أفعالِ الله تعالى وُجوبًا وأهل السنة لا يقولون بذلك مع قولهم إنه تعالى يفعل الأصْلَح لكن فضلًا منه ومَنًَّا لا وجوبًا ولو شاءَ لم يفعله.

 

وقد عقد ابن جني في الخصائص بابًا لمناسبة الألفاظ للمعاني وقال: هذا موضع شريف نبه عليه الخليل وسيبويه وَتَلَقَّتْه الجماعة بالقبول؛ قال الخليل: كأنهم تَوَهَّموا في صوت الجُنْدُب استطالةً فقالوا: صَرّ، وفي صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صرصر. وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفَعَلان: إنها تأتي للاضطراب والحرَكة، نحو النَّقَزَان والغَليان والغَثيان، فقابلوا بِتَوَالي حركاتِ الأمثالِ تواليَ حركات الأفعال.

 

قال ابن جني: وقد وجدتُ أشياء كثيرة من هذا النَّمَط، من ذلك المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقة والقرقرة، والفعَلى تأتي للسرعة نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقعة والقرقرة، والفَعلى إنما تأتي للسرعة نحو البَشَكى والجَمَزى والوَلقى.

 

ومن ذلك باب اسْتفعل جعلوه للطَّلب لما فيه من تَقَدُّم حروفٍ زائدة على الأصول كما يتقدَّم الطلبُ الفعل وجعلوا الأفعالَ الواقعة عن غير طلب إنما تفجأُ حروفها الأصول أو ما ضارع [ بالصيغة ] الأصول؛ [ فالأصولُ نحو قولهم: طعِم ووهَب ودخل وخرج وصعِد ونزل فهذا إخبار بأصولٍ فاجأت عن أفعال وَقعت ولم يكن معها دلالة تدلّ على طلبٍ لها ولا إعمال فيها وكذلك ما تقدَّمت الزيادةُ فيه على سَمْت الأصل نحو أحسن وأكرم وأعطى وأولى فهذا من طريق الصيغة بوزن الأصل في نحو دَحْرج وسَرْهف... ]

 

وكذلك جعلوا تكرير العين نحو فرَّح وبَشَّر فجعلوا قوّة اللفظِ لقوّة المعنى وخصُّوا بذلك العين لأنها أقْوَى من الفاء واللام إذ هي واسطة لهما ومكنوفةٌ بهما فصارا كأنهما سِيَاج لها ومَبْذولان للعَوارِض دونها ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها.

 

[ فأما مقابلةُ الألفاظ بما يُشاكل أصواتها من الأحداث فبابٌ عظيم واسع ونَهْج مُتْلَئِبّ عند عَارِفيه مَأمُوم وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سَمت الأحداث المعبّر بها عنها فَيَعدِلونها بها ويَحتذُونها عليها وذلك أكثرُ مما نقدّره وأضعافُ ما نستشعره من ذلك قولهم: خَضَم وقضِم ف ] الخَضْم لأكل الرَّطْب [ كالبِطّيخِ والقِثَّاء وما كان من نحوها من المأكول الرطب ] والقضْمُ لأكل اليابس [ نحو قَضَمَت الدَّابة شعيرها ونحو ذلك. وفي الخبر: قد يُدْرَكُ الخَضْم بالقَضْم أي قد يُدرك الرخاء بالشدة واللّين بالشَّظَف وعليه قول أبي الدَّرْداء: يَخْضَمون ونقضَم والموعد الله ] فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب والقاف لصلابتها لليابس [ حَذْوًا لمسموع الأصوات على مَحْسوس الأحْداث ] و [ من ذلك قولهم ] النَّضْح للماء ونحوه، والنَّضْخ أقوى منه قال اللهُ سُبْحَانه: { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضّاخَتَانِ } فجعلوا الحاء لرقتها للماءِ الخفيف والخاءَ لِغَلظها لما هو أقوى [ منه ]؛ ومن ذلك القدّ طولًا والقطّ عرضًا لأن الطاءَ أخفض للصوت وأسرعُ قطعًا له من الدَّال [ المستطيلة ]؛ فجعلوا [ الطاء للمناجزة ] لِقَطْع العَرض لِقُرْبِه وسرعته، والدال الماطلة لما طال من الأثر، وهو قَطْعُهُ طولًا.

 

قال: وهذا الباب واسعٌ جدًا لا يمكنُ اسْتِقْصَاؤُه.

 

قُلت: ومِنْ أَمْثِلة ذلك ما في الجمهرة: الخَنَنَ في الكلام أشدُّ من الغَنَن، والخُنّة أشدّ من الغُنَّة، والأنِيتُ أشدّ من الأنِين، والرَّنين أشدّ من الحِنين.

 

وفي الإبدال لابن السكيت: يقال القَبْصة أصغرُ من القَبْضة، قال في الجمهرة: القَبْصُ الأخذُ بأطراف الأنامل، والقَبْضُ الأخذ بالكفِّ كلّها.

 

وفي الغريب المصنف عن أبي عمرو: هذا صَوْغُ هذا إذا كان على قَدْره، وهذا سَوْغُ هذا إذا وُلِدَ بعد ذاك على أَثره، ويقال نَقَبَ على قومه ينقُب نِقابةً من النَّقيب وهو العَرِيف، ونكَب عليهم ينكب نكابة وهو المَنكِب وهو عون العريف.

 

وقال الكسائي: القَضْمُ للفرس والخَضْمُ للإنسان. وقال غيرُه: القَضْم بأطراف الأسنان والخَضْم بأقْصى الأَضراس.

 

وقال أبو عمرو: النَّضْح بالضاد المعجمة: الشرب دون الرِّيّ، والنَّصْح بالصاد المهملة الشُّرْب حتى يَرْوَى، والنَّشْح بالشين المعجمة دون النَّضْح بالضاد المعجمة.

 

وقال الأَصمعي: من أصوات الخيل الشخِيرُ والنَّخِيرُ والكَريرُ، فالأوَّل من الفم والثاني من المَنْخَرين والثالث من الصَّدر.

 

وقال الأصمعي: الهَتْل من المطر أصغرُ من الهَطْل.

 

وفي الجمهرة: العَطْعَطَةُ بإهمال العين تتابعُ الأصوات في الحرب وغيرها، والغَطْغَطة بالإعجام: صوتُ غَلَيَان القِدْر وما أشبهه، والجَمْجَمَة بالجيم: أن يُخْفِي الرجلُ في صدره شيئا ولا يُبْدِيه، والحَمْحَمَةُ بالحاء أن يردِّد الفرسُ صوتَه ولا يَصْهَلِ، والدَّحْدَاح بالدال الرجل القصير، والرَّحْرَاح بالراء الإناء القصير الواسع، والجَفْجَفَةُ بالجيم هَزِيز المَوْكِب وحَفِيفُه في السير، والحَفْحَفَةُ بالحاء حفيفُ جَنَاحي الطائر، ورجل دَحْدَح بفتح الدالين وإهمال الحاءين قصير، ورجل دُخْدُخ بضم الدَّالين وإعجام الخاءين قصيرٌ ضخْم، والجَرْجَرَة بالجيم صوتُ جَرْعِ الماء في جَوف الشَّارب، والخَرْخَرة بالخاء صوتُ تردُّد النَّفَس في الصدْر وصوت جَرْي الماء في مضيق، والدَّرْدَرَة صوت الماء في بطون الأودية وغيرها إذا تدافع فَسَمِعْتَ له صوتًا، والغَرْغَرَة صوتُ ترديد الماء في الحَلْق من غير مَجّ ولا إسَاغة، والقَرْقَرَة صوتُ الشراب في الحلق، والهَرْهَرَةُ صوت تَرْدِيد الأسد زئيرَه، والكَهْكَهَة صوتُ تردِيد البعير هَدِيره، والقَهْقَهَةُ حكاية استِغْرَاب الضحك، والوَعْوَعَةُ صوت نُبَاح الكلب إذا رَدَّده، والوَقْوَقَةُ اختلاطُ [ أصوات ] الطير، والوَكْوَكَةٌُ هديرُ الحمام، والزَّعْزَعَةُ بالزاي اضطرابُ الأشياء بالريح، والرَّعْرَعَةُ بالراء اضطرابُ الماء الصافي والشراب على وجه الأرض، والزَّغْزَغَةُ بالزاي وإعجام الغين اضطراب الإنسان في خِفّة ونَزَق، والكَرْكَرَة بالكاف الضحك، والقَرْقَرَة بالقاف حكاية الضحك إذا اسْتَغْرَب الرجلُ فيه، والرَّفْرَفَة بالراء صوت أَجنِحة الطائر إذا حَام ولم يَبْرح، والزَّفْزَفَة بالزاي صوتُ حفيف الريح الشديدة الهبوب وسَمِعْتُ زفزفةَ الموكِب إذا سمعت هَزيزِه، والسَّغْسَغَةُ بإهمال السين تحريك الشيء من موضعه لِيُقْلَعَ مثل الوَتَدِ وما أشبهه ومثل السن، والشَّغْشَغَةُ بالإعجام تحريك الشيء في موضعه ليتَمكَّن يقال شَغْشَغ السِّنان في الطَّعْنة إذا حرَّكه ليتمكّن، والوَسْوَسَةُ بالسين حركة الشيء كالحَلْي والوَشْوَشة بالإعجام حركة القوم وهَمْسُ بعضِهم إلى بعض.

 

فانظر إلى بديع مناسبةِ الألفاظ لمعانيها وكيف فَاوَتَت العربُ في هذه الألفاظ المُقْتَرنة المتقاربة في المعاني، فجعلت الحرفَ الأضْعف فيها والألْين والأخْفَى والأسْهل والأهْمس لِمَا هو أدْنى وأقلّ وأخفّ عملًا أو صوتًا، وجعلت الحرفَ الأقْوى والأشدّ والأظهر والأجهر لِمَا هو أقوى عملًا وأعظم حِسًّا، ومن ذلك المدّ والمطّ فإنَّ فعْلَ المطّ أقوى لأنه مدٌّ وزيادةُ جَذْب فناسَب الطاء التي هي أَعلى من الدال.

 

قال ابن دريد: المدُّ والمتُّ والمطُّ متقاربةٌ في المعنى. ومن ذلك الجُفّ بالجيم: وعاءُ الطَّلْعة إذا جَفت، والخُفُّ بالخاء: الملبوس وخفُّ البعير والنعامة، ولا شكّ أن الثلاثة أقوى وأجلَد من وعاءِ الطَّلعة فخُصَّت بالحاءِ التي هي أعلى من الجيم.

 

وفي ديوان الأدب للفارابي: الشازِب: الضَّامر من الإبل وغيرها. والشاصب: أشد ضُمْرًا من الشازب.

 

وفيه قال الأصمعي: ما كان من الرياح من نفخ فهو برد وما كان من لفح فهو حَرٌّ.

 

وفي فقه اللغة للثعالبي: إذا انْحَسَرَ الشَّعرُ عن مقَدَّم الرأسِ فهو أَجْلَحُ فإن بلغ الانحسارُ نصف رأسِه فهوَ أَجْلَى وأَجْلَه.

 

وفيه: النَّقْشُ في الحائط والرَّقْشُ في القِرْطاس والوَشْمُ في اليد والوَسْمُ في الجِلْدِ والرَّشْمُ على الحِنْطَة والشَّعير والوَشْيُ في الثوب.

 

وفيه: الدُّبُر يقال له الاسْت، والشّعرُ الذي حوله يقال له الاسْبُ.

 

وفيه: الحَوَص ضِيقُ العينين، والخَوَص غُؤُورُهُما مع الضِّيق. وفيه: اللَّسْب من العقرب واللسع من الحية. وفيه: وسَخُ الأُذنِ أُفّ ووسَخ الأظفار تُفٌّ. وفيه: اللِّثَامُ: النِّقاب على حَرْف الشَّفة، واللغامُ على طرف الأنف.

 

وفيه: الضَّرْب بالرَّاحة على مُقَدَّم الرأس صَقْعٌ، وعلى القَفَا صَفْعٌ، وعلى الخَدِّ بِبَسْطِ الكَفِّ لَطْمٌ، وبقَبْضِ الكَفِّ لَكْم، وبِكلْتَا اليَدَيْنِ لَدْمٌ، وعلى الجَنْبِ بالإصْبَعِ وَخْزٌ، وعلى الصدْر والجَنْبِ وَكْزٌ ولَكْزٌ، وعلى الحَنَكِ والذَّقَنِ وَهْزٌ ولهْزٌ.

 

وفيه يُقَالُ: خَذَفَه بالحَصى وحَذَفَه بالعصا وقَذَفَه بالحجر.

 

وفيه: إذا أخرجَ المكْروبُ أو المريضُ صوتًا رَقِيقًا فهو الرَّنين فإنْ أخْفَاهُ فهو الهَنِينُ فإنْ أَظْهَرَه فخرج خافيًا فهو الحَنِينُ فإن زاد فيه فهو الأنين فإن زاد في رَفعه فهو الخَنِين.

 

فانْظُرْ إلى هذه الفُروق وأشباهها باختلاف الحرف بحسب القوَّة والضَّعف. وذلك في اللغة كثيرٌ جدًا وفيما أوردناه كفاية.

المسألة الحادية عشرة

 

قال ابن جني: الصواب - وهو رأي أبي الحسن الأَخفش - سواءٌ قلنا بالتوقيف أم بالاصطلاح أن اللغة لم تُوضع كلّها في وقت واحد بل وقعت متلاحقةً متتابعة.

 

قال الأخفش: اختلافُ لغاتِ العرب إنما جاءَ من قِبَل أنَّ أول ما وُضِع منها وُضِعَ على خلاف وإن كان كله مسوقًا على صحة وقياس ثم أَحدثوا من بعدُ أشياء كثيرة للحاجة إليها غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل مختلفا.

 

قال: ويجوز أن يكونَ الموضوعُ الأولُ ضَرْبًا واحدًا ثم رأى مَنْ جاءَ [ من ] بعد أن خالف قياسَ الأولِ إلى قياسٍ ثانٍ جارٍ في الصحة مَجْرَى الأوَّل.

 

قالَ: وأما أي الأجناس الثلاثة - الاسم والفعل والحرف - وُضِع قبلُ فلا يُدْرى ذلك ويحتمل في كل من الثلاثة أنه وُضِع قبل، وبه صرح أبو علي.

 

قال: وكان الأخفش يذهب إلى أن ما غُيِّر لكثرة استعماله إنما تصوَّرَتهُ العربُ قبل وضْعِه وعَلِمَت أنه لا بدَّ من كثرة استعمالهما إياه فابتدؤوا بتغييره عِلْمًا [ منهم ] بأنه لا بدَّ من كثرة الداعية إلى تغييره.

 

قال: ويجوزُ أن تكون كانت قديمة معربة فلما كثرت غُيِّرت فيما بعدُ.

 

قال: والمقُول عندي هو الأول لأنه أدلّ على حِكمتها وأشهدُ لها بعِلْمِها بمصاير أمْرِها فتركوا بعضَ الكلام مبنيًّا غير معرب نحو أمسِ [ وهؤلاء ] وأينَ وكيفَ وكم وإذ وحيثُ، عِلْمًا بأنهم سيستكْثِرُون منها فيما بعد فيجبُ لذلك تغييرها.

المسألة الثانية عشرة

 

في الطريق إلى معرفة اللغة: قال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول وأتباعه: الطريقُ إلى معرفة اللغة إما النقلُ المحْضُ كأكثرِ اللغة، أو استنباطُ العقل من النَّقْل كما إذا نُقِلَ إلينا أنَّ الجمع المعرَّف يدخله الاستثناء ونقل إلينا أن الاستثناءَ إخراجُ ما يتناوله اللفظ، فحينئذ يستدلُّ بهذين النَّقْلين على أن صِيَغ الجمع للعموم. وأما العقل الصِّرف فلا مجالَ له في ذلك.

 

قال: والنقلُ المحضُ إما تواترٌ أو آحاد.

 

قلت: وسيأتي بَسْطُ الكلام فيهما في النوع الثالث.

 

ولم يذكر ابن الحاجب في مختصره ولا الآمدي في الأحكام سوى الطريق الأول وهو النقل المَحْضُ: إما تواترًا وهو ما لا يَقْبَل التشكيك كالسماء والأرض والحرِّ والبَرْدِ ونحوها وإما آحادًا كالقُرْءِ ونحوه من الألفاظ العربية.

 

قال الإمام فخر الدين والآمدي: وأكثرُ ألفاظ القرآن من الأول أي المتواتر.

 

وقال ابن فارس في فقه اللغة: باب القول في مأْخذ اللغة: تُؤخَذ اللغة اعتيادًا كالصبيِّ العربي يسمعُ أبويه أو غيرهما فهو يأخذ اللغةَ عنهم على ممرِّ الأوقات وتؤخذ تلقُّنًا من مُلَقِّن وتؤخذُ سماعًا من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة ويُتَّقَى المظنون.

 

وستأتي بقيةُ كلامه في نوعِ مَنْ تُقْبَل روايته ومن تُرَدُّ وكذا كلامُ ابن الأنباري في ذلك. ويؤْخذ من كلامهما أن ضابط الصحيح من اللغة ما اتَّصل سَنَدُه بنَقْل العَدْل الضابط عن مِثله إلى منتهاه، على حد الصحيح من الحديث.

 

وقال الزركشي في البحر المحيط: قال أبو الفضل بن عبدان في شرائط الأحكام وتبعه الجيلي في الإعجاز: لا تلزم اللغة إلا بخمس شرائط:

 

أحدها ثبوت ذلك عن العرب بسنَدٍ صحيح يُوجِبُ العملَ.

 

الثاني عدالةُ الناقلين كما تُعْتَبَرُ عدالتُهم في الشَّرعيات.

 

الثالث أن يكون النقلُ عَمّن قولُه حجة في أصل اللغة كالعرب العاربة مثل قحطان ومعدّ وعدنان؛ فأما إذا نقلوا عمَّن بعدهم بعد فَسَادِ لسانهم واختلاف المولّدين فلا.

 

قال الزركشي: ووقع في كلام الزمخشري وغيره الاستشهادُ بشِعْر أبي تمام، بل في الإيضاح للفارسي، ووجّه بأن الاستشهاد بتقرير النقَلة كلامَهم وأنه لم يخرج عن قوانين العرب. وقال ابن جنّي: يُسْتَشْهَدُ بشِعر المولَّدين في المعاني كما يُستَشْهد بشِعر العرب في الألفاظ.

 

والرابع أن يكون الناقل قد سمع منهم حِسًّا، وأمَّا بغيره فلا.

 

الخامس أن يسمع من الناقل حسًّا. انتهى.

 

وقال ابن جني في الخصائص: مَنْ قال إن اللغة لا تُعْرَف إلا نقلًا فقد أخطأ فإنها قد تُعَلمُ بالقرائن أيضا فإن الرجل إذا سمع قول الشاعر:

 

قومٌ إذا الشرُّ أَبْدَى نَاجِذيه لهم ** طارُوا إليه زَرَافات وَوُحْدَانا

 

يعلم أن الزرافات بمعنى الجماعات.

 

وقال عبد اللطيف البغدادي في شرح الخطب النباتية: اعلم أن اللغوي شَأنُه أن يَنْقُل ما نطقت به العربُ ولا يتعدّاه، وأما النحوي فشأنُه أن يتصرّف فيما ينْقُله اللغوي ويقيس عليه؛ ومِثَالُهما المحدِّث والفقيه فشأنُ المحدّث نقلُ الحديث برُمَّته ثم إن الفقيهَ يتلقَّاه ويتصرَّفُ فيه ويبسط فيه عِلَله ويقيسُ عليه الأمثال والأشباه. قال أبو علي فيما حكاه ابن جنّي: يجوزُ لنا أن نقيس منثورنا على منثورهم وشعرَنا على شعرهم.

المسألة الثالثة عشرة: في أن اللغة هل تثبت بالقياس

 

قال الكِيَا الهرَّاسي في تعليقه الذي استقرّ عليه آراء المحققين من الأصوليين: إن اللغة لا تَثْبت قياسا ولا يجري القياس فيها.

 

وقال كثيرٌ من الفقهاء: القياسُ يجري في اللغة وعُزِي هذا إلى الشافعيّ رضي الله عنه ولم يدُل عليه نصُّه إنما دلَّت عليه مسائلُه؛ فنُصدِّر المسألة بتصويرها فنقول: أما أسماء الأعلام الجامدة والألقاب المحضة فلا يجري القياسُ فيها لأنه لا يُفيد وصفًا للمُسَمَّى وإنما وُضِعَت لمجرَّد التعيين والتّعريف ولو قَلَبْتَ فَسَمَّيْت زيدًا بعمرو وعكسه لصحّ إذ كلُّ اسمٍ منها لم يختص بمن سُمِّي به لمعنًى حتى لا يجوزَ أن يُعْدَل به إلى غيره فليست هذه الصورةُ من محلّ الخلاف. ولا يجوزُ أيضا أن يكونَ محلّ الخلاف المصادر التي يُقال هي مشتَقةٌ من الأفعال نحو ضرب ضربًا فهو ضارب وقتل قَتْلًا فهو قاتل فهذا ليس بقياس بل هو معلومٌ ضرورة من لغتهم ونُطْقِهم به على هذا الوجه ولكنّ محلّ الخلاف الأسماءُ المشتقَّة من المعاني كما يُقال في الخمر إنه مشتقٌّ من المُخَامرة أو التَّخْمير فإذا سُمِّي خَمْرًا من هذا الاشتقاق كان ما وُجِد فيه ذلك خمرًا كالنبيذ وغيره.

 

قال: وهذا عندنا باطلٌ، والدليل عليه أن إجراءَ القياس في اللغة لا يخلُو إما أن يُعْلَمَ عقلًا أو نقلًا أما العقلُ فلا مجالَ له في ذلك لأنه يجوزُ أن يكونَ واضعُ اللغة قد قصدَ بهذا الاسم أن يختصّ بما سُمِّي به ويجوز أن يكُونَ لم يقصد الاختصاص بل يُسمّى به كلّ ما في معناه وإذا كان الأمران جائزين في العقل لم يرجَّح أحدُهما على الآخر من غير مرجّح. وإن كان بطريق النقل فالنقل إما تَوَاتُر أو آحاد. أما التواتر فلا مَطْمع فيه إذْ لو كان لَعَلِمْناه ولكان مُخَالِفُه مكابرًا وأما الآحادُ فظنٌّ وتخمين لا يستندُ إلى أصلٍ مَقطوع به.

 

فإن قيل: فالأقيسةُ الشرعيةُ كلُّها مظنونةٌ ويُعْمَل بها.

 

قلنا: تلك مستندة إلى سَمْعيّ مقطوعٍ به في وجوب العمل وهو إجماعُ الصحابة وليس في قياس اللغة شيءٌ من ذلك.

 

فإن قيل: فالمعنى الظاهرُ في موضع الاشتقاق أصلٌ يُقاس عليه فكلُّ محَلٍّ يوجدُ فيه ذلك المعنى ينبغي أن يَجْري عليه ذلك الاسم.

 

قلنا: قد بيَّنا أن ذلك ظنٌّ وتخمينٌ لا يَسْتَنِدُ العملُ به إلى أصلٍ مَقْطوع به فكيف يقاسُ عليه وقال أبو الفتح بن برهان في كتاب الوصول إلى الأُصول: لا يجوزُ إجراءُ القياس في الأسامي اللغوية المشتقّة خلافًا للقاضي وابن شُرَيح وطوائفَ من الفقهاء فإنهم أثبتوا الأسَامِي بالقياس وقالوا: النبيذُ يسمَّى خمرًا لأن فيه شدة مُطْرِبة فهو كعصير العنب. واللِّوَاط يسمى زنًا لأنه وَطْء في فرج مُشتهى طبعًا محرّمٍ قطعًا فكان زنًا كالوَطْءِ في القُبل.

 

وذَكَرَ الدليل على ردّه كما تقدم في كلام الكِيَا الهرّاسِي في تعليقه سواء.

 

ثم قال: وعمدةُ الخَصْم أن العرب وَضعت اسمَ الفرس للحيوان الذي كان في زمانهم موجودًا ثم انقَرضَ وحدَث حيوانٌ آخرُ فسمِّي بذلك بطريق الإلحاق والقياس. قلنا: هذا ليس بصحيح بل العرب وضعت هذا الاسم للجنس، والجنس لا ينقرض.

 

قالوا: إذا جاز إجراءُ القياسِ في الأحكام الشَّرعية عند فَهْم المعنى جاز إجراءُ القياس في الأسَامِي اللغوية عند فَهْم المعنى. قلنا: هذا باطلٌ فإن القياس الشَّرعي إنما جاز إثباتُ الأحكام به بالإجماع المتَّفَق عليه وليس فيما تنَازعْنَا فيه إجماع وليس المقصودُ من إثبات الاسم اللغوي إثباتَ الحكم فإن القياسَ يجري في الأسامي اللغوية قبل الشَّرع على رأي مُثْبتي القياس في اللغة ولأن المعنى في القياس الشَّرعي مطَّرِد وفي القياس اللغوي غيرُ مطَّرد فإن البَنْج لا يسمّى خمرًا وإن كان يخامِرُ العقل والدار لا تسَمَّى قارُورة وإن كانت الأشياء تستقرّ فيها والغرابُ لا يسمى أَبْلَق وإن اجتمع فيه السوادُ والبياض فليس القياسُ الشرعي كالقياس اللغوي في المعنى وإن تمسّكوا بأنَّ القياسَ يجري في المصادر نحو ضرب يضرِب ضربًا وأكل يأكل أكلًا فلسنا نسلّم أن [ اللغة ] تثبت بالقياس وإنما تثبتُ نقلًا عن العرب.

 

وقال إمامُ الحرَمين في البرهان: ذهب بعضُ أصحابنا في طوائف من الفِرَق إلى أن اللغةَ لا يمتنعُ إثباتها قياسًا وإنما قالوا ذلك في الأسماء المشتقّةِ كالخمر فإنها من التخمير أو المخامرة فقال هؤلاء: إن خَصّصَت العربُ في الوضع اسم الخمر بالخمر النيئة العتيقة يجوزُ تسميةُ النبيذ المشتدّ خمرًا لمشاركتِه الخمر النيئة فيما منه اشتقاقُ الاسم.

 

والذي نرتضيه أن ذلك باطلٌ لِعلْمنا أن العربَ لا تلتزم طردَ الاشتقاق وأقربُ مُمَالٍ إليه أن الخمرَ ليس في معناها الإطراب وإنما هي المخامرة أو التخمير فلو ساغ الاستمساكُ بالاشتقاق لكان كلُّ ما يَخْمِر العقل أو يُخامره ولا يُطْربُ خمرًا وليس الأمر كذلك والقولُ الضابطُ فيه أن الذي يدّعي ذلك إن كان يزعمُ أن العربَ أرادته ولم تَبُح به فهو متحكّم من غير تثبّت وتوقيف فإن اللغاتِ على خلاف ذلك ولم يصح فيها ادّعاءُ نَقْل وإن كان يزعمُ أن العربَ لم تَعْن ذلك فَيُلْحِق فإلحاق شيءٍ بلسانها - وهي لم تُرِده - محال. والقياسُ في حكم من يبتدئُ وضع صيغة.

 

فإن قيل: الأقيسة الحكمية يدور فيها هذا التقسيم. قلنا: أَجَل ولكنْ ثَبَتَ قاطعٌ سمعيّ على أنها متعلَّق الأحكام. فإن نقلتم قاطعًا من أهل اللسان اتَّبَعْنَاه. ثم السرُّ فيه أن الإجماع انعقَد على وجوب العمل عند قيام ظنون القائسين فلم تكن الظنونُ موجبةً علمًا ولا عملًا وليس في اللغات عَمل. وإن كنتم تظنون شيئا فلا نمنعكم من الظن ولكن لا يسوغُ الحكمُ بالظن المجرّد. فإن تعلّق هؤلاء بالأسماء المشتقَّة من الأفعال كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري على قضيَّةٍ واحدة فقد ثبت في هذه الفنون من طريق النقل اطّرادُ القياس فاتَّبعناه ولا يجري هذا في محلّ النزاع.

 

قال الغزالي في المنخول: اختلفوا في أن اللغات هل تثبتُ قياسًا ووجهُ تنقيح محلّ النزاع أن صوغَ التصاريف على القياس ثابتٌ في كل مصدر نُقِل بالاتّفاق وهو في حكم المنقول وتبديلُ العبارات ممتنعٌ بالاتّفاق كتسمية الفرس دارًا وتسميةِ الدار فرسًا ومحلُّ النزاع القياسُ على عبارة تشير إلى معنى وهو حائدٌ عن منهج القياس كقولهم للخمر خمرًا لأنه يُخامر العقل أو يَخْمِرُه فهل تسمَّى الأشربة المخامِرة للعقل خمرًا وكذا قولهم للبعير إذا استحقَّ الحمل فهو حِقّ.

 

وجوَّز الأستاذُ أبو إسحاق مثلَ هذا القياس. والمختار مَنْعه لنا؛ إن كان إثبات هذا القياس مظنونًا فلا يُقبل إذ ليس هذا في مَظِنّة وجوبِ عمل وإن كان معلومًا فأثْبتوا مستنده ولا نَقْل من أهل اللغة في جواز ذلك ولا من الشارع ومسلكُ العقل ضروريّة ونظريّة منحسم في الأسامي واللغات وإن قاسوا على القياس في الشرع فَتَحكُّم لأن مستند ذلك التأسّي بالصحابة فما مستندُ هذا القياس ثم أطبقوا على أن البَنْج لا يسمَّى خمرًا مع كونه مخَمِّرًا فإن سَمّوه فليسمُّوا الدار قارورة لمشاركتها القارورة في هذا المعنى وهذا محال.

المسألة الرابعة عشرة: في سعة اللغة

 

قال بعض الفقهاء: كلامُ العرب لا يحيطُ به إلا نبيٌّ.

 

قال ابن فارس: وهذا كلام حَرِيٌّ أن يكونَ صحيحًا وما بَلَغَنا أن أحدًا ممنْ مَضَى ادَّعى حفظَ اللغة كلِّها. فأما الكتابُ المنسوب إلى الخليل وما في خاتمته من قوله: هذا آخرُ كلام العرب فقد كان الخليلُ أورعَ وأتقى لله تعالى من أن يقول ذلك.

 

وقد سمعت علي بن محمد بن مِهْرُوَيه يقول: سمعت هارون بن هزاري يقول: سمعت سفيان بن عُيَيْنة يقول: مَن أحبَّ أن ينظرَ إلى رجلٍ خُلِقَ من الذَّهب والمِسك فليَنْظُر إلى الخليل بن أحمد.

 

وأخبرني أبو داود سليمان بن يزيد عن ذلَل المَصاحفي عن النَّضْر بن شُمَيل قال: كنا نُمَيِّل بين ابن عَوْنٍ والخليل بن أحمد أيهما نُقدّم في الزهد والعبادة فلا نَدْري أيهما نقدّم.

 

قال: وسمعتُ النضر بن شُمَيل يقول: ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بالسُّنَّة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد.

 

قال: وسمعتُ النضر يقول: أُكِلَت الدنيا بأدَب الخليل وكُتُبِه وهو في خُصّ لا يُشْعَر به.

 

قال ابن فارس: فهذا مكان الخليل من الدِّين، أَفَتُرَاه يُقْدِم على أن يقول: هذا آخرُ كلام العرب؟ ثم إن في الكتابِ المَوْسُوم به من الإخلال ما لا خفاءَ به على علماء اللغة، ومَنْ نظر في سائرِ الأصناف الصحيحة عَلِم صحَّةَ ما قُلْناه. انتهى كلام ابن فارس.

 

وهذا الذي نَقَله عن بعض الفقهاءِ نصَّ عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه فقال في أوائل الرسالة: لسانُ العرب أوسعُ الألسنة مذهبًا وأكثرُها ألفاظًا ولا نعلمُ أن يحيط بجميع عِلْمِه إنسان غير نبيّ ولكنه لا يذهبُ منه شيء على عامتها حتى لا يكونَ موجودًا فيها مَنْ يعرِفه والعلمُ به عند العرب كالعِلم بالسّنة عند أهلِ الفقه لا يعلمُ رجلٌ جميعَ السنن فلم يذهب منها عليه شيء وإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن. وإذا فرّق عِلْم كلِّ واحد منهم ذهب عليه الشيءُ منها ثم ما ذهب منها عليه موجودٌ عند غيره وهم في العلم طبقاتٌ منهم الجامعُ لأكْثَره وإن ذهب عليه بعضُه ومنهم الجامعُ لأقلَّ مما جمع غيرُه وليس قليلُ ما ذهب من السُّنن على مَنْ جمع أكثرَها دليلًا على أن يطلبَ عِلمه عند غير أهل طبقته من أهلِ العلم بل يَطلبُ عند نُظرائه ما ذهب عليه حتى يُؤتى على جميع سنن رسول الله ﷺ بأبي هو وأمي فتفرَّد جملة العلماء بجملتها وهم درجات فيما وعوا منها وهذا لسانُ العرب عند خاصتِها وعامتها لا يذهبُ منه شيءٌ عليها ولا يُطْلبُ عند غيرها ولا يعلمُه إلا من قبله منها ولا يَشْرَكها فيه إلا من اتَّبعها وقبِله منها فهو من أهل لسانها وعِلْمُ أكثر اللسان في أكثر العرب أعمُّ من عِلْم أكثر السنن في العلماءِ. هذا نص الشافعي بحُروفِه.

 

وقال ابن فارس في موضع آخر: باب القول على أن لغة العرب لم تنته إلينا بكلّيتها وأن الذي جاءنا عن العرب قليل من كثير وأن كثيرا من الكلام ذهب بِذهَاب أهله.

 

ذهب علماؤُنا أو أكثرُهم إلى أنَّ الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلُّ ولو جاءَنا جميعُ ما قالوه لجاءنا شعرٌ كثيرٌ وكلامٌ كثير، وأَحْرِ بهذا القول أن يكونَ صحيحًا لأنَّا نرى علماء اللغة يختلفون في كثيرٍ مما قالَتْه العربُ فلا يكادُ واحدٌ منهم يُخبرُ عن حقيقةِ ما خُولف فيه بل يسلك طريقَ الاحتمال والإمكان. ألا ترى أنَّا نسألهم عن حقيقةِ قَوْل العرب في الإغراء: كَذَبك كذا. وعما جاءَ في الحديث من قَوْله: كَذَب عليكم الحجُّ. وكَذَبك العسَلُ. وعن قول القائل:

 

[ كذَبْتُ عليكم أَوْعِدُوني وعَلّلوا ** بِيَ الأرضَ والأقوامَ قِرْدانَ مَوْظَبا.

 

وعن قول الآخر: ]

 

كَذَبَ العَتِيقُ وماءُ شَنٍّ بارِدٌ ** إن كُنتِ سائِلتي غَبُ وقًا فاذْهبي

 

ونحن نعلم أن قول كذب يَبْعُدُ ظاهره عن باب الإغراء. وكذلك قولهم: عَنْكَ في الأرض، وعَنْكَ شيئا. وقول الأفْوَه:

 

عنكُم في الأرض إنَّا مَذْحِجٌ ** ورُوَيدًا يَفْضَح الليلَ النهارُ

 

ومن ذلك قولهم: أَعْمَدُ من سيِّدٍ قَتَله قومُه. أي هل زاد على هذا. فهذا من مُشْكِلِ الكلام الذي لم يُفَسَّر بعدُ وقال ابن مَيّادة:

 

وأعْمَدُ من قومٍ كَفَاهم أخُوهُمُ ** صِدامَ الأَعادي حين فُلَّتْ نُيوبُها

 

قال الخليل وغيره: معناه هل زدنا على أن كفينا [ إخواننا ]ز

 

وقال أبو ذؤيب:

 

صَخِبُ الشَّوَارِبِ لا يزالُ كأنَّه ** عبدٌ لآلِ أبي رَبيعةَ مُسْبَعُ

 

فقوله مسبع ما فُسِّر حتى الآنَ تَفْسيرًا شافيًا.

 

ومن هذا الباب قولهم: يا عِيد ما لَك، ويا هَيْء ما لك، ويا شيءَ ما لك. ولم يُفَسِّروا قولهم: صَهْ، وَوَيْهَك، وإنيهْ، ولا قول القائل: بخاي بِكَ الحَقْ يَهْتِفون وحَيَّ هَلْ[8] ويقولون: خاءِ بكما وخاء بكم.

 

فأما الزَّجْرُ والدُّعاءُ الذي لا يُفهَمُ موضوعُه فكثيرٌ كقولهم: حيَّ وحيَّ هَلا وبعَيْنٍ ما أَرَيَنَّك، في مَوْضعِ اعْجل. وهَجْ وهَجَا ودَعْ وَدَعًا ولَعًا للعاثر، يدعون له.

 

ويُروى عن النبيّ ﷺ أنه قال: لا تَقولوا دَعْدَعْ ولا لَعْلَعْ ولكن قولوا اللهمَّ ارْفَع وَانْفَعْ. فلولا أن للكلمتين معنًى مفهومًا عند القومِ ما كَرِههما ﷺ.

 

وقولهم في الزَّجْرِ: أخِّرْ وَأَخِّرِي وهَأْهَأْ وهَلا وهَابْ وَأَرْحِبْ وَأرْحِبي وَعَدْعَدْ وعاجِ وياعاطِ وِيَعَاطِ وإجِدْ واجْدَمْ وجِدِحْ. لا نعلم أحدًا فسَّر هذا. وهو باب يكثرُ ويُصَحِّحُ ما قلناه.

 

ومن المشتَبَه الذي لا يقالُ فيه اليومَ إلا بالتّقريب والاحتمال وما هو بغريب اللفظ لكنَّ الوقوف على كُنهه مُعتَاصٌ قولنا: الحِين والزمانُ والدهرُ والأوَان وبضع سنين والغِنَى والفَقْر والشريف والكريم واللئيم والسّفِيه والسِّفْلة وما أشبه ذلك مما يطول ولا وجه فيه غير التقريب والاحتمال وإلا فإن تحديدَه حتى لا يجوزَ غيرُه بعيد.

 

وقد كان لذلك كلِّه ناس يعرفونه وكذلك يعلمون معنى ما نَسْتَغْرِبه اليوم نحن من قولنا عُبْسور في الناقة وعَيْسَجُور وامرأة ضِناك وفرس أشقُّ أمَقُّ خِبَقُّ، ذهب هذا كله بذهاب أهله ولم يبق عندنا إلا الرَّسمُ الذي نراه.

 

قال: وعلماء هذه الشريعة وإن كانوا اقتصروا من علم هذا على معرفة رَسْمِه دون عِلْم حقائقه فقد اعتاضوا عنه دَقيقَ الكلام في أصول الدِّين وفروعه من الفقه والفرائض ومن دقيق النحو وجليله ومن عِلْم العَرُوض الذي يُربأْ بحُسْنِه ودقَّته واستقامته على كل ما تبجَّح به الناسبون أنفسهم إلى الفلسفة. ولكلّ زمانٍ علم وأشرف العلوم علوم زماننا هذا ولله الحمد. هذا كلُّه كلام ابن فارس.

المسألة الخامسة عشرة: في عدة أبنية الكلام

 

قال ابن دريد في الجمهرة: إذا أردت أن تُؤَلِّف بناءً ثُنائيًّا أو ثلاثيًّا أو رُباعيًّا أو خُماسيًّا فخذْ من كل جنس من أجناس الحروف المتباعدة ثم أَدِرْ دَارَةً فوّقع ثلاثة أحرف حَواليها ثم فُكَّها من عند كل حرفٍ يمنة ويسرة حتى تُفَكّ الأحرفُ الثلاثة فيخرج من الثلاثي

 

ستة أبنية [ ثلاثية ] وتسعة أبنية ثنائية - وهذه هي الصورة: [9]

 

ب ∆ ج د

 

فإذا فعلت ذلك استقصيتَ من كلام العرب ما تكلَّموا به وما رغبوا عنه.

 

قال: وأنا مفسر لك ما يرتفع من الأبنية الثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية إن شاء الله تعالى بضَرْبٍ من الحِساب واضح.

 

فإذا أردت أن تستقصي من كلام العرب ما كان على حرفين مما تكلموا به أو رغبوا عنه مما يَأتَلف أو لا يأتلف مثل: كم وقد وعن وأخواتها فانظر إلى الحروف المعجمة وهي ثمانيةٌ وعشرون حرفًا فاضْرب بعضها في بعض تبلغ سبعمائة وأربعة وثمانين حَرْفًا ولا يكون الحرف الواحد كلمة. فإذا أزوجتهن [10] حرفين حرفين صِرْن ثلاثمائة واثنتين وتسعين بناءً مثل دم وما أشبهه، فإذا قَلَبْتَهُ عاد إلى سبعمائة وأربعة وثمانين بناء، منها ثمانية وعشرون [ بناء ] مشتَبهة الحرفين مثل هه - قلْبُه وغير قَلبه [ لفظٌ ] واحد - ومنها مائة وخمسون بناء ثنائية ممزوجة بهذه الأحرف الثلاثة [ المعتلة ] الياء والواو والهمزة، ويجمعها خمسة وسبعون بناءً ثنائيًا قبل القلب، ومنها ستة أبنية معتلّة يَجْمَعُها ثلاثة أبنية قبل القلْب، ومنها ثلاثة أبنية مضاعفة وخمسة وعشرون بناء ثنائيًا صحاحًا مضاعفة. فافهم فقد بيَّنت لك عِدّة ما يخرج من الثنائي مما تكلَّموا به ورغبوا عنه.

 

وإذا أردت أن تؤلّف الثلاثي فاضرب ثلاثة أحرف معتَلات في التسعة الثنائية المعتلة فتصير سبعة وعشرين بناء ثلاثية معتلات كلها. وتضرب الثلاثة المعتلات أيضا في مائة وخمسين بناء ثنائيًا حرف منها صحيح وحرف منها معتل فتصير أربعمائة وخمسين بناء ثلاثيًا حرفان منها معتلّان وحرف صحيح، وتضرب الثلاثة المعتلات في ستمائة بناء صحيحة الحرفين فتصير ألفًا وثمانمائة بناء ثلاثي حرفان منها صحيحان وحرف معتل. وتضرب خمسة وعشرين حرفًا صحيحًا في ستمائة بناء ثنائي صحاح الحروف فتصير خمسة عشر ألفًا وستمائة [ وخمسة ] وعشرين بناء ثلاثيًا. فهذا أكثرُ ما يخرج من البناء الثلاثي.

 

فإذا أردت أن تؤلِّف الرباعي فعلى القياس تضرب الثلاثة المعتلات في السبعة والعشرين بناء ثلاثيًا، ثم تضرب في أربعمائة وخمسين، ثم في الألف والثمانمائة، ثم تضرب الخمسة والعشرين الصحاح في الخمسة عشر ألف بناء ثلاثي صحاح الحروف [ مضاعفة ]؛ فما بَلَغ فهو عدد الأبنية الرباعية. وكذلك سبيل الخماسي الصحيح؛ فأما السداسي فلا يكون إلا بالزوائد. انتهى.

 

وذكر حمزة الأصبهاني في كتاب الموازنة فيما نقله عنه المؤرخون قال: ذَكَر الخليل في كتاب العين أن مبلغ عدد أبنية كلام العرب المُسْتَعمَل والمهمل على مراتبها الأربع من الثنائيّ والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرار اثنا عشر ألف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة آلاف وأربعمائة واثنا عشر: الثنائي سَبعِمائة وستة وخمسون، والثلاثي تسعة آلاف ألف وستمائة وخمسون، والرباعي أربعمائة مائة ألف وواحد وتسعون ألفًا وأربعمائة، والخماسي أحد عشر ألف ألف وسبعمائة ألف وثلاثة وتسعون ألفًا وسِتمائة. [11]

 

وقال أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي في مختصر كتاب العَين: عدّةُ مُسْتَعْمَلِ الكلام كلِّه ومُهمَلِه ستةُ آلاف ألف وسِتِّمائة ألف وتسعةٌ وخمسون ألفًا وأربعمائة، المستعملُ منها خمسةُ آلاف وسِتمائة وعشرون والمهملُ ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وتسعون ألفًا وسبعمائة وثمانون، عِدَّةُ الصحيح منه ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وخمسون ألفًا وأربعمائة والمعتلَّ ستة آلاف. المستعملُ من الصحيح ثلاثة آلاف وتسعمائة وأربعة وأربعون والمهملُ منه ستة آلاف ألف وتسعة وثمانون ألفًا وأربعمائة وستة وخمسون المستعمل من المعتل ألف وستمائة وستة وسبعون والمهملُ منه أربعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وعشرون. عدّة الثنائيّ سبعمائة وخمسون والمستعملُ منه أربعمائة وتسعة وثمانون والمهملُ مائتان وواحد وستون الصحيح منه ستّمائة والمعتل مائة وخمسون المستعمل من الصحيح أربعمائة وثلاثة والمهمل مائة وسبعة وتسعون والمستعمل من المعتل ستة وثمانون والمهملُ أربعة وستون. وعدّة الثلاثي تسعة عشر ألفًا وستمائة وخمسون المستعمل منه أربعة آلاف ومائتان وتسعة وستون والمهملُ خمسة عشر ألفًا وثلاثمائة وواحد وثمانون. الصحيح منه ثلاثة عشر ألفًا وثمانمائة والمعتلُّ سوى اللفيف خمسة آلاف وأربعمائة واللَّفيفُ أربعمائة وخمسون. المستعمل من الصحيح ألفان وستمائة وتسعة وسبعون والمهملُ أحد عشر ألفًا ومائة وواحد وعشرون. والمستعملُ من المعتل سوى اللفيف ألف وأربعمائة وأربعة وثلاثون والمهملُ ثلاثة آلاف وتسعمائة وستة وستون. والمستعملُ من اللفيف مائة وستة وخمسون والمهملُ مائتان وأربعة وتسعون. وعدّة الرباعيّ ثلاثمائة ألف وثلاثة آلاف وأربعمائة المستعمل ثمانمائة وعشرون والمهملُ ثلاثمائة ألف وألفان وخمسائة وثمانون. وعدَّة الخماسيّ ستة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفًا وستمائة المستعمل منه اثنان وأربعون والمهملُ ستة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفًا وخمسمائة وثمانية وخمسون.

 

قال الزبيدي وهذا العددُ من الرباعي والخماسي على الخمسة والعشرين حرفًا من حروف المعجم خاصة دون الهمزة وغيرها وعلى ألا يتكرر في الرباعي والخماسيّ حرف من نَفْس الكلمة.

 

قال: وعدة الثنائي الخفيف والضربين من المضاعف على نحو ما ألحقناه في الكتاب: ألفا حرف ومائتا حرف وخمسة وسبعون حرفًا المستعملُ من ذلك ألف حرف وثمانمائة وخمسة وعشرون والمعتل أربعمائة وخمسون المستعملُ من الصحيح تسعة وخمسون والمهمل ألف وسبعمائة وستة وستون والمستعملُ من المعتل ثلاثة وأربعون والمهمل أربعمائة وسبعة.

المسألة السادسة عشرة

 

أول من صنف في جمع اللغة الخليل بن أحمد: ألف في ذلك كتاب العَين المشهور. قال الإمام فخر الدين في المحصول: أصلُ الكُتب المصنفة في اللغة كتابُ العين، وقد أَطْبَق الجمهور من أهل اللغة على القَدْح فيه. وقال السِّيرافِي في طبقات النحاة في ترجمة الخليل: عملَ أوَّل كتاب العين المعروف المشهور الذي به يتهيّأ ضبطُ اللغة وهذه العبارةُ من السِّيرافي صريحةٌ في أن الخليلَ لم يُكَمِّلْ كتابَ العين وهو الظَّاهرُ لما سيأتي من نَقْل كلام الناس في الطَّعْن فيه بل أكثرُ الناس أنْكَرُوا كونَه من تصنيف الخليل.

 

قال بعضهم: ليس كتابُ العين للخليل وإنما هو لِلَّيث بن نَصْر بن سيّار الخُرَاساني.

 

وقال الأزهري: كان الليثُ رجلًا صالحًا عمِل كتاب العين ونسبَه إلى الخليل ليَنْفُق كتابُهُ باسمِه ويَرْغب فيه [ من حوله ].

 

وقال بعضهم: عَمِلَ الخليلُ من كتاب العين قطعةً من أوَّله إلى حرف الغين وكَمَّله الليث ولهذا لا يُشْبِهُ أولَه آخرُه.

 

وقال ابن المعتز: كان الخليلُ منقطعًا إلى اللَّيْث فلما صنَّف كتابه العين خصَّه به فحظِيَ عنده جدا ووقع منه مَوْقِعًا عظيمًا ووهَبَ له مائة ألف [ درهم ] وأقبل على حِفْظِه ومُلازَمَتِهِ فحفظ منه النصف [ وكانت تحته ابنة عمه ] واتفق أنه اشترى جارية نفيسةً فَغَارَت ابنةُ عمه وقالت: والله لأغيظنَّه وإن غِظْتُه في المال لا يُبَالي ولكني أراهُ مُكِبًّا ليلَه ونهارَه على هذا الكتاب والله لأفجَعَّنه به فأحْرَقتْهُ فلما عَلِمَ اشتدَّ أسفُه ولم يكن عند غيرِه منه نسخةٌ وكان الخليلُ قد مات فأمْلَى النِّصْفَ من حِفْظه وجمع علماءَ عصره وأمرهم أن يُكَمِّلُوه على نَمَطه وقال لهم: مَثِّلوا واجتهدوا فعملوا هذا التَّصْنيف الذي بأيْدِي الناس. أَوْرَدَ ذلك ياقوت الحموي في معجم الأدباء.

 

وقال أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي في كتاب مراتب النحويين: أبْدَعَ الخليلُ بَدائع لم يُسْبَق إليها، فمن ذلك تأليفُه كلامَ العرب على الحروف في كتابه المُسمَّى كتابَ العين فإنه هو الذي رتب أبوابه وتوفي من قبل أن يحشوه.

 

أخبرنا محمد بن يحيى قال: سمعت أحمد بن يحيى ثعْلَبَ يقول: إنما وقَع الغلطُ في كتاب العين لأَنَّ الخليلَ رسمَهُ ولم يَحْشه ولو كان هو حَشاه ما بقيَ فيه شيءٌ لأَن الخليل رجلٌ لم يُرَ مثلُه وقد حشا الكتاب أيضا قومٌ علماء إلا أنه لم يُؤخذ منهم روايةً وإنما وُجد بنقل الورَّاقين فاختلَّ الكتابُ لهذه الجهة.

 

وقال محمد بن عبد الواحد الزاهد: قال: حدثني فتًى قَدِمَ علينا من خُراسان وكان يقرأ عليَّ كتاب العين قال: أخبرني أبي عن إسحاق بن راهَويْه قال: كان الليثُ صاحبُ الخليل بن أحمد رجلًا صالحًا وكان الخليلُ عَمِل من كتاب العين باب العين وحدَه وأحبَّ الليثُ أن يَنْفُق سوقُ الخليل فصنَّف باقي الكتاب وسمَّى نفسه الخليل وقال لي مرّةً أخرى: فسمَّى لسانه الخليل من حبِّه للخليل بن أحمد. فهو إذا قالَ في الكتاب: قال الخليل بن أحمد: فهو الخليل. وإذا قال: وقال الخليلُ مطلقًا فهو يحكي عن نفسه فكلُّ ما في الكتاب من خَلل فإنه منه لا من الخليل. انتهى.

 

وقال النووي في تحرير التنبيه: كتابُ العين المنسوبُ إلى الخليل إنما هو من جَمْع الليثِ عن الخليل.

ذكر قدح الناس في كتاب العين

 

تقدَّمَ في كلام الإمام فخر الدين أنَّ الجمهورَ من أهل اللغة أَطْبَقُوا على القَدْح فيه وتقدَّم كلامُ ابن فارس في ذلك في المسألة الرابعة عشرة.

 

وقال ابن جني في الخصائص: أما كتابُ العين ففيه من التَّخْلِيط والخَلَل والفَساد ما لا يَجُوزُ أن يُحْمَل على أصْغَر أتباع الخليل فَضْلًا عن نفسه ولا محالة أن هذا التَّخْليط لَحِق هذا الكتابَ من قِبَل غيره فإن كان للخليل فيه عَمَلٌ فلعلَّه أوْمَأ إلى عمل هذا الكتاب إيماءً ولم يَلِه بنفسه ولا قرَّره ولا حرَّره ويدلُّ على أنه كان نحَا نحْوَه أنني أجدُ فيه معاني غامضة ونَزَوَات للفكر لطيفة وصيغةً في بعض الأحوال مستحكمة وذاكرتُ به يومًا أبا عليّ فرأيتُه مُنْكِرًا له فقلت له: إن تصنيفَه مُنْساق متوجّه وليس فيه التعسُّف الذي في كتاب الجمهرة فقال: الآن إذا صنَّف إنسان لغة بالتركية تصنيفًا جيدًا يؤخذ به في العربية أو كلامًا هذا نحوه. انتهى.

 

وقال أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي اللغوي مؤلّف مختصر العين في أول كتابه - اسْتِدْرَاكُ الغَلَطِ الواقع في كتاب العَين - وهو مجلَّد لطيف يخاطب بعضَ إخوانه: وصل إلينا أَيَّدَكَ الله كتابَك تذكُرُ فيه ما أُولع به قومٌ من ضَعَفَة أهل النَّظر من التحامل علينا والتسرّع بالقول فينا بما نسبُوه إلينا من الاعتراض على الخليل بن أحمد في كتابه والتَّخْطِئَة له في كثير من فُضُوله وقلت: إنهم قد استمالوا جماعةً من الحشوية إلى مذهبهم وعَدَلوا بهم إلى مقالتهم بما لبّسوا به وشنَّعوا القول فيه وسألتَ أن أَحْسم ما نَجَم من إفْكِهِم وأرد ما نَدَر من وقد كنتَ - أَيَّدَك الله في صحَّة تمييزك وعظيم النعمة عليك - في نظرك جديرًا ألا تُعرِّج على قوم هم بالحال التي ذَكرتَ وأن يقعَ لهم العذرُ لديك بوجوه جَمَّة منها: تخلّفهم في النظر وقلةُ مطالعتهم للكتب وجهلُهم بحُدُودِ الأدب مع أن العلَّة المُوجبة لمقالتهم والباعثةَ لتسرُّعِهم علةُ الحسد الذي لا يُدَاوى سَقَمه ولا يُؤْسَى جرحه فقد قال الحكيم: كلُّ العَداوات قد تُرجى إفاقتها إلا عداوةَ مَنْ عاداك من حَسدِ أوليسَ من العجب العجيب والنادِر الغريب أن يَتوهَّم علينا مَنْ به مُسْكَة من نظَرٍ أو رمَق من فَهْم تخطئةَ الخليل في شيءٍ من نظرِه والاعتراضَ عليه فيما دقَّ أو جلّ من مذهبه والخليلُ بنُ أحمد أَوْحَدُ العصر وقريعُ الدَّهر وجِهْبِذ الأُمة وأستاذُ أهل الفِطْنَة الذي لم يُرَ نظيرُه ولا عُرِف في الدنيا عديلُه وهو الذي بَسط النحوَ ومَدَّ أطنابَه وسبَّب عِلَلَه وفَتَقَ معانيه وأوضحَ الحِجاج فيه حتى بلغ أَقْصى حدودِه وانتهى إلى أبعدِ غاياته ثم لم يرضَ أن يؤلِّفَ فيه حرفًا أو يَرْسُمَ منه رَسْمًا نَزَاهَةً بنفسه وتَرَفُّعًا بقَدْرِه إذ كان قد تقدّم إلى القول عليه والتأليف فيه فَكَرِهَ أن يكونَ لمن تقدّمه تاليًا وعلى نظَرِ مَن سَبَقهُ مُحْتَذِيًا واكتفى في ذلك بما أَوْحَى إلى سيبويه من عِلْمِه ولقَّنه من دقائقِ نَظره ونتائج فِكره ولطائفَ حكمته فحَمل سيبويه ذلك عنه وتقلّده وألفَّ فيه الكتاب الذي أعجَزَ من تقدَّم قبلَه كما امتنع على من تأخَّرَ بعده.

 

ثم ألف على مذهب الاخْتراع وسبيل الإبداعِ كتابي الفرش والمثال في العَروض فحصرَ بذلك جميعَ أوزانِ الشعر وضمَّ كلَّ شيءٍ منه إلى حيِّزه وأَلْحَقَه بشَكْله وأقام ذلك عن دوائرَ أَعْجَزَتِ الأذهان وبَهَرَتِ الفِطَن وغمرتِ الألباب وكذلك ألَّف كتاب المُوسيقى فَزَمَّ فيه أصناف النَّغَم وحَصَر به أنواع اللحون وحدَّد ذلك كلّه ولخّصه وذكر مَبَالغ أقسامه ونهاياتِ أعداده فصار الكتابُ عِبرةً للمُعتبرين وآيةً للمتوسِّمين.

 

ولما صنعَ إسحاق بن إبراهيم كتابَه في النَّغم واللّحون عَرضه على إبراهيم بن المهدي فقال له: لقد أحسنتَ يا أبا محمد وكثيرا ما تُحْسِنُ فقال إسحاق: بل أحسنَ الخليلُ لأَنه جعلَ السبيلَ إلى الإحسان فقال إبراهيم: ما أحسن هذا الكلام فمِمَّنْ أخَذْتَهُ قال: من ابن مُقْبِل إذ سمع حمامةً فاهْتاج فقال: ولو قَبْلَ مَبْكاها بكيتُ صبابةً إذًا لشَفيت النفسَ قبل التندُّم ولكن بكَتْ قبلي فهاج ليَ البُكا بُكاها فقلت: الفضلُ للمتقدِّم ثم ذهب بعد - في حَصْر جمع الكلام - مذهبَهُ من الإحاطة التي لم يتعاطاها غيرُه ولا تعرّضها أحدٌ سواه فثقَّف الكلام وزمَّ جميعه وبيّن قيامَ الأبنية من حروف المُعْجم وتعاقب الحروف لها بنظَرٍ لم يُتَقَدَّم فيه وإبْداعٍ لم يُسْبَق إليه ورَسَمَ في ذلك رُسُومًا أكملَ قياسها وأعطى الفائدةَ بها فكان هذا قدرَه في العِلم ومبلغَه من النفاذ والفَهْم حتى قال بعضُ أهل العلم: إنه لا يجوزُ على الصِّراط بعد الأنبياءِ عليهم السلام أحدٌ أدقُّ ذِهْنًا من الخليل ولو أن الطاعنَ علينا يتصفّحُ صَدْر كتابُنا المختصر من كتاب العين لَعَلِمَ أنَّا نَزَّهْنا الخليل عن نِسْبَة المُحال إليه ونَفَيْنا عنه من القَوْل ما لا يليقُ به ولم نَعْدُ في ذلك ما كان عليه أهلُ العلم وحذَّاق أهل النظر.

 

وذلك أنَّا قلنا في صَدْر الكتاب: ونحن نَرْبأُ بالخليل عن نِسْبَة الخَلَل إليه أو التعرّض للمقاومة له بل نقول: إن الكتاب لا يصحّ له ولا يثبتُ عنه وأكثرُ الظن فيه أن الخليل سَبَّب أصله وثقَّف كلام العرب ثم هلَك قبل كَماله فتعاطى إتمامَه من لا يقومُ في ذلك مقامه فكان ذلك سببَ الخَللِ الواقع فيه والخطأِ الموجود فيه.

 

هذا لفظُنا نصًّا وقد وافقْنا بذلك مقالةَ أبي العباس أحمد بن يحيى ثَعْلب قبل أن نُطالِعَها أو نسمعَ بها حتى ألفيناها بخطّ الصولي في ذكر فضائل الخليل.

 

قال الصولي: سمعتُ أبا العباس ثعلبًا يقول: إنما وقع الغلطُ في كتاب العين لأنَّ الخليل رسَمهُ ولم يحشه ولو أن الخليل هو حشاه ما بقّى فيه شيئا لأن الخليلَ رجلٌ لم يُرَ مثلُه.

 

قال: وقد حَشَا الكتاب قومٌ علماء إلا أنه لم يُؤْخذ عنهم رواية إنما وُجد بنقل الورَّاقين فلذلك اختل الكتاب.

 

ومن الدليل على ما ذكره أبو العبّاس من زيادات الناس فيه اختلافُ نُسَخِه واضطرابُ رواياته، إلى ما وقع فيه من الحكايات عن المتأخِّرِين والاستشهاد بالمرذول من أشعار المُحْدَثين. فهذا كتابُ ابن مُنذر بن سعيد القاضي الذي كتبه بالقَيْروَان وقابلَه بمصر بكتابِ ابن وَلّاد وكتابُ ابن ثابت المُنتسَخ بمكة قد طالعناهما فألفينا في كثير من أبوابهما: أخبرنا المسعريّ عن أبي عُبيد، وفي بعضها: قال ابن الأعرابي وقال الأصمعي؛ هل يجوزُ أن يكون الخليل يروي عن الأصمعي وابن الأعرابي أو أبي عُبيد فضلًا عن المسعري؟ وكيف يروي الخليل عن أبي عبيد وقد توفي الخليل سنة سبعين ومائة وفي بعض الروايات سنة خمس وسبعين ومائة وأبو عبيد يومئذ ابن ست عشرة سنة، وعلى الرواية الأخرى ابن إحدى وعشرين سنة لأنَّ مَوْلد أبي عبيد سنة أربع وخمسين ومائة ووفاتَه سنة أربع وعشرين ومائتين. ولا يجوز أن يُسْمَع عن المسعري عِلُم أبي عُبيد إلا بعد مَوْتِه؛ وكذلك كان سماعُ الخُشَني منه سنة سبع وأربعين ومائتين، فكيف يُسْمَع الموتى في حالِ مَوْتهم أو يَنْقُلُون عمّن وُلِد مِن بعدهم؟

 

وحدثنا إسماعيل بن القاسم البغدادي - وهو أبو عليّ القالي - قال: لما وَرَدَ كتابُ العَين من بلد خُراسان في زمن أبي حاتم أنكره أبو حاتم وأصحابه أشدّ الإنكار ودفعَهُ بأبْلَغِ الدَّفع. وكيف لا ينكِرُهُ أبو حاتم على أن يكون بريئًا من الخَلَل سليمًا من الزَّلل. وقد غَبر أصحابُ الخليل بعدُ مدةً طويلة لا يعرفون هذا الكتابَ ولا يَسمعون به؛ منهم النَّضر بن شُميل ومُؤَرِّج ونصر بن علي وأبو الحسن الأخفش وأمثالهم، ولو أن الخليل ألَّف الكتاب لَحَمَله هؤلاءِ عنه وكانوا أَوْلَى بذلك من رجلٍ مجهول الحال غير مشهور في العلم انفرَدَ به وتوحَّدَ بالنقل له. ثم دَرَجَ أصحابُ الخليل فتوفي النضر بن شُمَيل سنة ثلاث ومائتين والأخفش سنة خمس عشرة ومائتين ومؤَرّج سنة خمس وتسعين [ ومائة ] ومضت بعدُ مدة طويلة ثم ظهر الكتابُ بأخَرَةٍ في زمان أبي حاتم وفي حال رياسته وذلك فيما قارب الخمسين والمائتين لأن أبا حاتم تُوُفِّي سنة خمس وخمسين ومائتين، فلم يلتفت أحدٌ من العلماءِ إليه يومئذ ولا استجازوا روايةَ حرفٍ منه، ولو صحَّ الكتابُ عن الخليل لبدر الأصمعي واليَزيدي وابن الأعرابي وأشباههم إلى تزيين كُتُبهم وتَحْلِيَة علمهم بالحكاية عن الخليل والنَّقْلِ لِعِلْمِه وكذلك مَنْ بعدهم كأبي حاتم وأبي عُبيد ويعقوب وغيرهم من المصنفين فما عَلِمنا أحدًا منهم نَقَلَ في كتابه عن الخليل من اللغة حَرْفًا.

 

ومن الدليل على صحّة ما ذكرناه أن جميعَ ما وَقَع فيه من معاني النحو إنما هو على مذهب الكوفيين وبخلاف مذهب البصريين فمن ذلك ما بُدِئَ الكتابُ به وبُني عليه من ذكر مَخارج الحروف في تقديمها وتأخيرها وهو على خلاف ما ذكره سيبيويه عن الخليل في كتابه وسيبويه حاملٌ علمَ الخليل وأوْثَقُ الناس في الحكاية عنه ولم يكن لِيَخْتَلِف قولُه ولا لِيتناقَض مذهبُه ولسنا نريدُ تقديم حرفِ العين خاصة للوَجْه الذي اعتلَّ به ولكن تقديمَ غير ذلك من الحروف وتأخيرها. وكذلك ما مضى عليه الكتابُ كلُّه من إدْخال الرُّباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف وهو مذهبُ الكوفيين خاصة. وعلى ذلك استمرَّ الكتابُ من أوّله إلى آخره إلى ما سنذكره من نحو هذا.

 

ولو أن الكتاب للخليل لما أَعْجَزَه ولا أشْكل عليه تثقيفُ الثنائيّ الخفيف من الصحيح والمعتل والثنائي المضاعف من المعتل والثلاثي المعتل بعِلّتين ولما جعل ذلك كله في باب سمَّاه: اللفيف فأدْخَلَ بعضَه في بعض وخَلَط فيه خَلْطًا لا ينفصلُ منه شيءٌ عما هو بخلافه ولوَضع الثُّلاثي المعتل على أقسامه الثلاثة لِيسْتَبينَ معتلُّ الياءِ من معتل الواو والهمزة ولما خلَط الرباعيّ والخماسي من أولهما إلى آخرهما.

 

ونحن على قَدْرنا قد هذَّبْنا جميعَ ذلك في كتابنا المختصَر منه وجَعَلْنا لكلِّ شيءٍ منه بابًا يحصُره وعددًا يجمعه. وكان الخليلُ أَوْلَى بذلك وأَجْدَر ولم نحْكِ فيه عن الخليل حَرْفًا ولا نَسَبْنا ما وقع في الكتاب عنه توخِّيًا للحق وقصْدًا إلى الصدق وأنا ذَاكِرٌ الآنَ من الخطأ الواقع في كتاب العين ما لا يذهب على َمنْ شَدَا شيئا من النَّحو أو طالَع بابًا من الاشتقاق والتّصريف ليقومَ لنا العُذْر فيما نَزَّهْنا الخليل عنه.

 

انتهى كلام الزبيدي في صَدْر كتاب الاستدراك.

 

قلت: وقد طالعته إلى آخره فرأيت وجهَ التَّخْطِئَة فيما خُطّئ فيه غالبُه من جهة التصريف والاشتقاق كَذِكْرِ حرفٍ مَزِيدٍ في مادّة أصلية أو مادةٍ ثلاثية في مادة رباعية ونحو ذلك وبعضُه ادّعى فيه التصحيف وأما أنه يُخَطأ في لفظة من حيث اللغة بأن يقال: هذه اللفظة كذبٌ أو لا تُعرف فمعاذَ الله لم يقع ذلك.

 

وحينئذ لا قَدْح في كتاب العين لأن الأولَ الإنكارُ فيه راجعٌ إلى الترتيب والوضْع في التأليف وهذا أمْرٌ هَيّن لأنَّ حاصله أن يقال: الأَوْلَى نقلُ هذه اللفظة من هذا الباب وإيرادُها في هذا الباب وهذا أمرٌ سَهلٌ وإن كان مقامُ الخليل يُنزَّه عن ارتكاب مثل ذلك إلا أنه لا يمنعُ الوثوقَ بالكتاب والاعتمادَ عليه في نقل اللغة. والثاني إن سُلِّم فيه ما ادّعى من التصحيف يقال فيه ما قالته الأئمة: ومَنْ ذا الذي سَلِمَ من التصحيف كما سيأتي في النوع الثالث والأربعين مع أنه قليل جدًا وحينئذ يزول الإشكال الذي يأتي نَقْله عن الإمام فخر الدين في النوع الثالث.

فائدة

 

ممن ألَّف أيضا الاستدراك على العين أبو طالب المُفَضَّل بن سَلَمَة بن عاصم الكُوفيّ من تلامذة ثعلب. قال أبو الطيب اللغوي: ردَّ أشياء من كتاب العين أكثرُها غيرُ مَردود. وأبو طالب هذا متقدِّم الوفاة على الزبيدي.

فائدة

 

قال أبو الحسن الشَّاري في فهرسته: كان شيخُنا أبو ذرّ يقول: المختصرات التي فُضِّلَت على الأمَّهات أربعة: مختصر العين للزَّبيدي ومختصر الزَّاهر للزَّجاجي ومختصر سيرة ابن إسحاق لابن هشام ومختصر الواضحة للفضل بن سلمة.

 

قال الشاري: وقد لهج الناسُ كثيرا بمختصر العين للزبيدي فاستعملوه وفضلوه على كتاب العين لكونه حذف ما أورده مؤلف كتاب العين من الشواهد المختلقة والحروف المصحّفة والأبنية المختلّة وفضَّلوه أيضا على سائر ما أُلِّف على حروف المعجم من كتب اللغة مثل جمهرة ابن دريد وكتب كُراع لأجل صِغَر حجمه وأَلْحَق به بعضهم ما زاده أبو علي البغدادي في البارع على كتاب العين فكَثُرَت الفائدة.

 

قال: ومذهبي ومذهب شيخي أبي ذرّ الخُشَني وأبي الحسن بن خَرُوف أن الزبيدي أخلَّ بكتاب العين كثيرا لحذفه شواهدَ القرآن والحديث وصحيح أشعار العرب منه.

 

ولما عَلِمَ ذلك من مُخْتَصَر العين الإمام أبو غالب تَمّام بن غالب المعروف بابن التَّيَّاني عمل كتابه العظيم الفائدة الذي سمَّاه بفَتْح العين وأتى فيه بما في العين من صحيح اللغة الذي لا اختِلاف فيه على وجهه دون إخْلالٍ بشيء من شواهد القرآن والحديث وصحيحِ أشعار العرب وطرَح ما فيه من الشواهد المختلقة والحروف المُصَحَّفة والأبنية المختلّة ثم زاد فيه ما زاده ابن دريد في الجمهرة فصار هذا الديوانُ محتويًا على الكتابين جميعًا وكانت الفائدةُ فيه فَصْلَ كتاب العين من الجمهرة وسِياقه بلفظه لِينْسب ما يحكى منه إلى الخليل إلا أن هذا الديوان قليلُ الوجود لم يعرّج الناسُ على نَسْخه بل مالوا إلى جمهرة ابن دريد ومُحكم ابن سيده وجامع ابن القَزَّاز وصِحَاح الجوهري ومُجْمَل ابن فارس وأفعال ابن القُوطيّة وابن طريف ولم يعرّجوا أيضا على بارع أبي عليّ البغدادي ومُوعَبُ أبي غالب بن التَّيَّاني المذكور وهما من أصحِّ ما أُلِّف في اللغة على حروف المعجم والكتُب التي مالوا إلى الاعتناءِ بها قد تكلَّم العلماءُ فيها إلا أن الجمْهرة لابنِ دريد أثنى عليه كثيرٌ من العلماءِ ويوجد منه النُّسَخُ الصحيحةُ المروِيَّة عن أكابر العلماء.

 

وقال بعضهم: إنه من أحسن الكتب المؤلَّفة على الحروف وأصحّها لغة وقد آخذه أبو علي الفارسي النحوي وأبو عليّ البَغدادي القَالِي وأبو سعيد السِّيرافي النحوي وغيرهم من الأئمة.

 

وأما كتاب العين المنسوب إلى الخليل فهو أصلٌ في معناه وهو الذي نهج طريقةَ تأليف اللغة على الحروف وقديمًا اعتَنى به العلماء وقبِلَه الجهَابذة فكان المبرد يَرْفع مِن قدره ورواه أبو محمد بن دَرَسْتويه وله كتاب في الردِّ على المفضَّل ابن سلمة فيما نسبَه من الخلَل إليه ويكادُ لا يوجدُ لأبي إسحاق الزجاجي حكايةٌ في اللغة إلا منه وقد تكلَّم الناس فيه بما هو مشهور. وأصح كتاب وضع في اللغة على الحروف بارع أبي علي البغدادي وموعب ابن التياني. انتهى.

فائدة

 

ترتيب كتاب العين ليس على التَّرتيب المعهود الآن في الحروف، وقد أكْثرَ الأدباءُ من نَظْم الأبيات في بيان ترتيبه؛ من ذلك قول أبي الفرج سلمة بن عبد الله [ بن دلان ] المعَافِري الجزيري:

 

يا سائلي عن حروف العين دونكَهَا ** في رتبة ضمَّها وزنٌ وإحْصاء

 

العين والحاء ثم الهاءُ والخاء ** والغين والقاف ثم الكاف أكْفاءُ

 

والجيم والشين ثم الضادُ يتبعها ** صاد وسين وزاي بَعْدها طاء

 

والدّال والتاء ثم الطاءُ متَّصِل ** بالظاءِ ذال وثاء بعدها راءُ

 

واللام والنون ثم الفاء والباء ** والميم والواو والمهموز والياء

 

قال أبو طالب المفضَّل بن سَلَمة الكوفي: ذكر صاحبُ العين أنه بدأ كتابَه بحرف العين لأنها أَقْصى الحروف مَخْرجًا. قال: والذي ذكره ِسيبَويْه أن الهمزةَ أَقْصى الحروف مخرجًا. قال: ولو قال بدأتُ بالعين لأنها أكثرُ في الكلام وأشدُّ اختلاطًا بالحروف لكان أولى.

 

وقال ابن كَيْسان: سمعتُ مَنْ يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبْدَأْ بالهمزة لأنها يلحقها النقصُ والتغييرُ والحذفُ ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداءِ كلمة ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مُبْدَلَةً ولا بالهاءِ لأنها مهموسة خفيَّة لا صوتَ لها فنزلتُ إلى الحيِّز الثاني وفيه العين والحاء فوجَدْت العين أنْصَعَ الحرفين فابتدأت به ليكون أحسنَ في التأليف وليس العلْمُ بتقدّم شيءٍ على شيء لأنه كلَّه مما يُحتاج إلى معرفته فبأيّ بدأت كان حَسنًا وأولاها بالتقديم أكثرُها تصرُّفًا. انتهى.

 

وقال أبو العباس أحمد بن ولّاد في كتاب المقصور والممدود: لعلَّ بعضَ مَنْ يقرأ كتابنا يُنْكِرُ ابتداءنا فيه بالألف على سائر حروف المعجم لأنها حرفٌ معتل ولأن الخليل تَرَك الابتداءَ به في كتاب العين لأنَّ كتاب العين لا يمكن طالب الحرفِ منه أن يَعلَمَ مَوْضعه من الكتاب من غير أن يقرأه إلا أن يكونَ قد نظر في التصريف وعرفَ الزائد والأصلي والمعتلَّ والصحيح والثلاثيّ والرباعيّ والخماسيّ ومراتبَ الحروف من الحَلْق واللّسان والشَّفَة وتصريفَ الكلمة على ما يمكنُ من وُجوهِ تصريفها في اللفظ على وجوه الحركات وإلحاقها ما تحتمل من الزائد ومواضع الزوائد بعد تصريفها بلا زيادةٍ. ويحتاجُ مع هذا إلى أن يعلمَ الطريقَ التي وصلَ الخليل منها إلى حَصْر كلام العرب فإذا عرفَ هذه الأشياءَ عرفَ مَوْضع ما يطلُبُ من كتاب العين. قال: وكتابُنا قَصَدْنا فيه التقريب على طالب الحَرْفَ وأن يستويَ في العلم منه بموضعه العالِم والمتعلّم. انتهى.

تذنيب

 

قال تاج الدين أحمد بن مكتوم في تذكرته: سُئل بعضُهم لِم سمي كتابُ الجيم - تصنيف أبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني - بهذا الاسم فقال: لأن أوله حرف الجيم كما سمي كتاب العين لأن أولَه حرفُ العين قال: فاستحسنَّا ذلك ثم وقفنا على نسخةٍ من كتاب الجيم فلم نجده مبدوءًا بالجيم.

فائدة

 

روى أبو علي الغساني كتاب العين عن الحافظ أبي عمر بن عبد البر عن عبد الوارث بن سفيان عن القاضي مُنذر بن سعيد عن أبي العبّاس أحمد بن محمد بن ولّاد النحوي عن أبيه عن أبي الحسن علي بن مهدي عن أبي معاذ عبد الجبار بن يزيد عن الليث بن المظفر بن نصر بن سيار عن الخليل.

فرع

 

ومن مشاهير كتب اللغة التي نَسَجَت على مِنْوَال العين كتاب الجمهرة لأبي بكر بن دريد.

 

قال في خطبته: قد ألَّف [ أبو عبد الرحمن ] الخليلُ بنُ أحمد [ الفَرْهُودِي رضوان الله عليه ] كتابَ العين فأَتْعَبَ مَنْ تَصَدَّى لغَايته وعَنَّى من سَما إلى نهايته فالمُنْصِفُ له بالغَلب مُعْترف والمُعَاند متكلِّف وكلُّ مَنْ بَعْدَه له تَبَع أقرَّ بذلك أم جَحَد ولكنَّه رحمه الله - ألَّف كتابَه مُشاكِلًا لِثُقُوب فَهْمِه وذَكَاءِ فِطْنَتِه وحِدَّةِ أذهان أهل دَهْرِه. وأمْلينا هذا الكتاب والنَّقْص في الناس فاشٍ والعَجْزُ لهم شامل إلا خصائص كَدَرَارِيِّ النُّجوم في أَطْرَافِ الأُفق فسهَّلنا وَعْرَه ووطَّأْنا شَأْزَه وأَجْرَيْنَاه على تأليف الحروف المُعْجمة إذ كانت بالقلوب أَعْلَق وفي الأَسْماع أَنْفَذ وكان عِلْمُ العامَّة بها كعلم الخاصة وسَمَّيْناه كتاب الجمهرة لأنا اخْتَرْنا له الجمهور من كلام العرب وأَرْجَأْنا الوَحْشِيّ المستنكر. انتهى.

 

وقال ابن جني في الخصائص: وأما كتابُ الجمهرة ففيه أيضا من اضطراب التَّصْنيف وفسادِ التَّصْريف مما أَعْذِرُ واضعَه فيه لبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر ولمَّا كتبتُه وقعتُ في مَتونه وحواشيه جميعًا من التنبيه على هذه المواضع ما اسْتَحْيَيْت من كَثْرَته ثم إنه لما طال عليّ أوْمَأْتُ إلى بعضه وضربتُ البَتَّةَ عن بعضه.

 

قلت: مقصودُه الفسادُ من حيث أبنية التصريف وذكرُ الموادّ في غير محالّها كما تقدم في العين ولهذا قال: أعذر واضعَه فيه لِبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر يعني أن ابنَ دريد قصيرُ الباع في التصريف وإن كان طويلَ الباعِ في اللغة. وكان ابن جني في التصريف إمامًا لا يشُقُّ غبارُه فلذا قال ذلك.

 

وقال الأزهري: ممن ألَّف الكتبَ في زماننا فَرُمِي بافتعالِ العربيةِ وتوليد الألفاظ أبو بكر بن دريد، وقد سألتُ عنه إبراهيمَ بن محمد عرفة - يعني - نِفْطَويه فلم يَعْبَأْ به ولم يُوَثِّقْه في روايته.

 

قلت: معاذَ الله! هو بَريءٌ مما رُمِي به، وَمَنْ طالَع الجمهرة رأى تحرِّيه في روايته. وسَأَذْكرُ منها في هذا الكتاب ما يُعْرَفُ منه ذلك. ولا يُقْبل فيه طعنُ نِفْطَويه لأنه كانَ بينهما مُنافرةٌ عظيمةٌ بحيث أن ابن دريد هجاه بقَوْله:

 

لَوْ أُنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى نِفْطَويْه ** لكان ذاك الوَحْيُ سُخْطًا عَلَيه

 

وشَاعِرٍ يُدْعَى بِنصْفِ اسْمِه ** مُسْتَأْهلٌ للصَّفْعِ في أَخْدَعَيْه

 

أَحْرَقَهُ اللهُ بنِصفِ اسْمِه ** وَصَيَّرَ الباقي صُرَاخًا عَلَيْه

 

وهجا هو ابنَ دريد بقوله:

 

ابن دريد بَقَرَه ** وفيه عِيّ وَشَرَه

 

وَيَدَّعِي مِنْ حُمْقِه ** وَضْعَ كِتَابِ الْجَمْهَرَه

 

وهو كتابُ العين إلا أَنَّهُ قدْ غَيَّرَه

 

وقد تقرر في علم الحديث أن كلامَ الأقران في بعضهم لا يقدح.

 

وقال بعضهم: أمْلَى ابن دريد الجمهرَة في فارس ثم أَمْلاها بالبصرة وببَغْداد مِنْ حِفْظه ولم يستَعِنْ عليها بالنظر في شيءٍ من الكُتُب إلا في الهَمزةِ واللفيف؛ فلذلك تختلف النسخ، والنُّسْخَة المعوَّل عليها هي الأخيرة وآخرُ ما صحَّ نسخة عبيد الله بن أحمد جَخْجَخْ لأنه كتبها من عِدَّةِ نسخ وقَرَأَها عليه.

 

قلت: ظَفِرْتُ بنسخة منها بخطِّ أبي النمر أحمد بن عبد الرحمن بن قابوس الطرابلسي اللغوي وقد قرأها على ابن خالويه بروايته لها عن ابن دريد وكتب عليها حواشي من استدراك ابن خالويه على مواضع منها ونبَّه على بعض أوهامٍ وتصحيفات.

 

وقال بعضهم: كان لأبي عليّ القالي نسخةٌ من الجمهرة بخطِّ مؤلفها وكان قد أُعْطِي بها ثلاثمائة مثقال فأبى فاشتدَّت به الحاجةُ فباعها بأربعين مثقالًا وكتبَ عليها هذه الأبيات:

 

أَنِسْتُ بها عشرين عامًا وبعتُها ** وقد طال وَجْدِي بعدَها وحَنيني

 

وما كان ظنِّي أنني سأبيعها ** ولو خَلَّدَتْني في السجون دُيوني

 

ولكن لِعَجْزٍ وافتقارٍ وصِبْيَة ** صغارٍ عليهم تستهلّ شؤوني

 

فقلت ولم أملك سوابقَ عَبْرتي ** مقالةَ مكوى الفؤاد حَزين

 

وقد تُخْرِجُ الحاجاتُ يا أم مالك ** كرائمَ من ربٍّ بِهِنَّ ضَنِين

 

قال: فأَرْسَلها الذي اشتراها وأرسل معها أربعين دينارًا أُخْرى رحمهم الله.

 

وجدت هذه الحكاية مكتوبةً بخطّ القاضي مجد الدين الفيروزابادي صاحبِالقاموس على ظَهْرِ نسخة من العُبَاب للصَّغاني، ونقلها من خَطِّه تلميذُه أبو حامد محمد بن الضياءِ الحنفي، ونقلتُها من خطِّه.

 

وقد اختصر الجمهرة الصاحب إسماعيل بن عباد في كتاب سماه الجوهرة، وفي آخره يقول:

 

لما فَرَغْنا من نِظَامِ الجَوْهره ** أعورت العين ومات الجَمْهَرَه

 

ووقف التَّصنيف عند القَنْطره

 

وألَّفَ أتباعُ الخليل وأتباعُ أتباعه وهلّم جَرًّا كُتُبًا شتى في اللغة ما بين مُطَوَّلٍ ومختَصر وعامٍّ في أنْواع اللغة وخاص بنوع منها كالأجناس للأصمعي والنوادر واللغات لأبي زيد والنوادر للكسائي والنوادر واللغات للفرَّاءِ واللغات لأبي عبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى والجيم والنوادر والغريب لأبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني والغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام والنوادر لابن الأعرابي والبَارِع للمفضّل بن سلمة واليواقيت لأبي عمر الزاهد غلام ثعلب. والمنضد لكُراع والتهذيب للأزهري والمُجْمَل لابنِ فارس وديوان الأدب للفارابي والمحيط للصاحب ابن عبَّاد والجامع للقزَّاز وغير ذلك مما لا يُحْصى حتى حُكِي عن الصاحب ابن عبّاد أن بعضَ الملوك أرسل إليه يسألهُ القدومَ عليه فقال له في الجواب: أحتاجُ إلى ستين جمَلًا أنقل عليها كتبَ اللغة التي عندي وقد ذهب جلُّ الكتب في الفِتَنِ الكائنة من التَّتار وغيرهم بحيث إن الكتبَ الموجودة الآن في اللغة من تصانيف المتقدّمين والمتأخرين لا تجيء حِمْل جملٍ واحدٍ وغالبُ هذه الكتب لم يَلتزم فيها مؤلّفوها الصحيحَ بل جمعُوا فيها ما صحَّ وغيرَه وينبِّهون على ما لم يثبت غالبًا.

 

وأولُ مِن التزمَ الصحيح مقتصرًا عليه الإمامُ أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري ولهذا سمَّى كتابه بالصحاح وقال في خطبته: قد أوْدَعْتُ هذا الكتاب ما صحَّ عندي من هذه اللغة التي شرَّف الله منزلتَها وجعل عِلْم الدِّين والدنيا مَنُوطًا بمعرفتها على ترتيبٍ لم أُسْبَق إليه وتهذيبٍ لم أُغلبْ عليه بعد تحصيلها بالعراق روايةً وإتقانها دِراية ومُشافهتي بها العربَ العاربة في ديارهم بالبادية ولم آل في ذلك نُصْحًا ولا ادَّخَرتُ وسعًا.

 

قال أبو زكريا الخطيب التبريزي اللغوي: يقال كتاب الصحاح بالكسر وهو المشهور وهو جمع صحيح كظريف وظراف، ويقال الصحاح بالفتح وهو مفرد نعت كصحيح. وقد جاءَ فَعال بفتح الفاءِ لغةً في فعيل كصحيح وصَحاح وشحيح وشَحاح وبريءٍ وبَراءٍ. قال: وكتاب الصحاح هذا كتاب حسن الترتيب سهل المطلبِ لِما يُراد منه وقد أتى بأشياءَ حسنة وتفاسير مشكلات من اللغة إلا أنه مع ذلك فيه تصحيفٌ لا يُشَكُّ في أنه من المصنف لا من الناسخ لأنَّ الكِتاب مبنيٌّ على الحروف قال: ولا تخلو هذه الكتبُ الكِبار من سهْوٍ يقعُ فيها أو غلطٍ. [ وقد رد على أبي عبيد في الغريب مواضع كثيرة منه ] غير أن القليل من الغلط الذي يقع في الكُتب إلى جنبِ الكثير الذي اجتهدوا فيه وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه معفو عنه. هذا كلام الخطيب أبي زكريا.

 

وقال أبو منصور عبد الملك بن أحمد بن إسماعيل الثعالبي اللغوي في كتابه يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر: كان الجوهري من أعاجيبِ الزمان وهو إمام في اللغة وله كتاب الصحاح وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوسٍ النيسابوري:

 

هذا كتابُ الصحاح سيّدُ ما ** صُنِّف قبل الصحاح في الأدبِ

 

تَشْمَلُ أبوابهُ وَتَجْمَعُ ما ** فُرِّق في غيره من الكُتُبِ

 

وقال ابن برِّي: الجوهري أنحَى اللغويين.

 

وقال ياقوت الحموي في معجم الأدباء: كتاب الصحاح هو الذي بأيْدي الناس اليوم وعليه اعتمادُهم أحْسنَ الجوهري تصنيفَه وجوَّدَ تأليفَه؛ هذا مع تصحيف فيه في عدّة مواضع تَتَبَّعَهَا عليه المحققون. وقيل: إن سببه أنه لما صنَّفَهُ سُمِع عليه إلى باب الضاد المعجمة وعَرَضَ له وسْوَسَة فألْقى نفسه من سَطْحٍ فمات وبقي سائر الكتاب مسوَّدة غيرَ مُنَقَّح ولا مبيَّض فبيَّضَه تلميذُه إبراهيم بن صالح الورَّاق فَغَلِطَ فيه في مواضع [ غلطًا فاحشًا ]؛ وكان وفاة الجوهري في حدود الأربعمائة.

 

وقد ألَّف الإمام أبو محمد عبد الله بن برِّي الحواشي على الصحاح وصَلَ فيها إلى أثناء حرف الشين فأكملها الشيخ عبد الله بن محمد البسطي.

 

وألَّف الإمام رضيّ الدين [ حسن بن محمد ] الصغاني التكملة على الصحاح ذَكَرَ فيها ما فاته من اللغة وهي أكبرُ حجمًا منه وكان في عَصْر صاحب الصحاح ابن فارس فالتزم أن يذكرَ في مُجْمَله الصحيح.

 

قال في أوله: قد ذَكرنا الواضحَ من كلام العرب والصحيحَ منه دون الوَحْشيّ المُسْتَنْكر ولم نألُ في اجتباءِ المشهور الدَّالِّ على غُرَر وتفسير حديث أو شعر والمقصودُ في كتابنا هذا من أوّله إلى آخره التقريبُ والإبانةُ عما ائْتَلف من حروف العربية فكان كلامًا وذِكْرُ ما صحَّ من ذلك سماعًا أو من كتابٍ لا يشكُّ في صحَّةِ نَسَبه لأنَّ مَنْ عَلِم أن الله تعالى عند مَقَالِ كلِّ قائل فهو حَرِيٌّ بالتَّحَرُّج من تطويل المؤلَّفات وتكثيرها بمُسْتَنْكَرِ الأقاويل وشنيع الحكايات وبُنَيَّات الطُّرُق فقد كان يُقال: مَنْ تتبَّع غرائبَ الأحاديث كَذَب ونحن نعوذ بالله من ذلك.

 

وقال في آخر المجمل: قد توخَّيْتُ فيه الاختصارَ وآثرتُ فيه الإيجازَ واقتصرتُ على ما صحَّ عندي سماعًا ومن كتابٍ صحيح النسب مشهورٍ ولولا توخِّي ما لم أشككّ فيه من كلام العرب لَوَجَدْتُ مقالًا.

 

وأعظمُ كتابٍ أُلِّفَ في اللغة بعد عَصْرِ الصحاح كتابُ المُحْكَم والمحيط الأعظم لأبي الحسن علي بن سِيدَه الأندلسي الضَّرير ثم كتابُ العُباب للرضي الصَّغاني ووصل فيه إلى فصل بكم حتى قال القائل:

 

إن الصغاني الذي ** حاز العلوم والحكم

 

كان قُصَارى أَمْرِه ** أن انتهى إلى بكم

 

ثم كتابُ القاموس للإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي شيخ شيوخنا. ولم يصل واحدٌ من هذه الثلاثة في كَثرَة التَّدَاول إلى ما وصل إليه الصحاح ولا نقصت رتبةُ الصحاح ولا شُهْرَته بوجود هذه وذلك لالتزامه ما صحَّ فهو في كُتب اللغة نظيرُ صحيح البخاري في كتب الحديث. وليس المَدَارُ في الاعتماد على كَثَرة الجمع بل على شرْط الصحة.

 

قال صاحبُ القاموس في خُطْبته: وكنتُ بُرْهَةً من الدَّهْر أَلتْمسُ كتابًا جامعًا [ صحيحًا ] بسيطًا ومُصَنَّفًا على الفُصُح والشوَارد مُحيطًا ولما أعياني الطلاب شرعتُ في كتابي الموسوم باللامع المُعْلَم العُجَاب الجامعِ بين المُحْكَم والعُبَاب فهما غُرَّتا الكُتب المصنفة في هذا الباب ونَيِّرَا بَرَاقِع الفضل والآداب وضَمَمْتُ إليهما زيادات امْتَلأَ بها الوطِاب واعْتَلَى منها الخِطَاب ففاقَ كلَّ مؤلف [ في هذا الفن ] هذا الكتابُ، غيرَ أني خَمَّنْتُه في ستين سِفْرًا يُعْجز تحصيلُه الطُّلاب وسُئِلْتُ تقديم كتاب وجيز على ذلك النظام وعَمَلٍ مُفَرَّغ في قالَبِ الإيجاز والإحكام مع التزام إتمام المعاني وإبرام المباني فصرفت صوبَ هذا القصد عِناني وألَّفتُ هذا الكتاب محذوفَ الشواهد مطروحَ الزوائد مُعْرِبًا عن الفُصُحِ والشَّوارد وجعلت [ بتوفيق الله ] زُفَرًَا في زِفْر ولَخَّصتُ كلَّ ثلاثين سِفرًا في سِفْر ثم قال: ولما رأيت إقْبالَ الناس على صحاح الجوهري وهو جدير بذلك غيرَ أنه فاتَه ثلثا اللغة أو أكثر إما بإهمال المادة أو بترك المعاني الغريبة النَّادّة أردتُ أن يظهر [ للناظر ] بادئَ بدءٍ فَضْلَ كتابي عليه ونَبَّهْت فيه على أشياء ركب الجوهري [ رحمه الله ] فيها خلاف الصواب غير طاعنٍ فيه ولا قاصد بذلك [ تنديدا له ] وإزراءً عليه [ وَغضًّا منه بل استيضاحًا للصواب واسْتِرْباحًا للثواب وتحرّزًا وحذارًا من أن ينمى إليّ التصحيف أو يُعْزَى إليّ الغلط والتحريف. ] واخْتَصَصْتُ كتابَ الجوهري من [ بين ] الكتب اللغوية مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة والأغلاط الفاضحة لِتَدَاوُله واشتهارِه بخصوصه واعتماد المدرسين على نُقُوله ونصوصه. انتهى.

 

وفي القاموس يقولُ بعضُ الأُدبَاء:

 

مذ مدَّ مجدُ الدين في أيامه ** من بعض بحر علومه القاموسا

 

ذهبت صحاح الجوهري كأنها ** سحر المدائن حين القى موسى

 

قلت: ومع كَثرةِ ما في القاموس من الجمع للنَّوادّ والشوارد فقد فاته أشياءُ ظفِرتُ بها في أثناء مطالعتي لكُتُب اللغة حتى هَمَمْتُ أن أجْمَعَها في جُزءِ مُذَيِّلًا عليه.

 

وهذا آخر الكلام في هذا النوع ونشرعُ بعده إن شاء الله تعالى في بقية الأنواع.

 

 

هامش

 

هكذا في الخصائص واللسان. لكن في المطبوعة: لغا.

 

 

في جميع النسخ: لغا، وفي القاموس: لغي به كرضي، لغا: لهج به. فالفعل من باب دعا وسعى ورضى.

 

 

في النسخ: سبحانه، والتصحيح من فقه اللغة.

 

 

في البداية والنهاية: قال كثير من علماء التفسير: خلقت الجن قبل آدم وكان قبلهم في الأرض الحِنّ والبن، فسلط الله الجن عليهم فقتلوهم...

 

 

ط: ابن إيار.

 

 

في النسخ: قول ابن معط.

 

 

مقابل قوله السابق "فقيل ليست موضوعة" بعد قوله فاختلفوا في المركبات...

 

 

هذه رواية اللسان، وفي النسخ: بخابك، وفي الصاحبي: بخائبك. وصدر البيت: إذا ما شحطن الحاديين سمعتهم

 

 

الصورة دائرة في الجمهرة

 

 

في الجمهرة: زوجتهن.

 

في كشف الظنون: الثنائي 956 والثلاثة 19650 وهو أقرب إلى مجموع العدد المذكور.

 

============

النوع الثاني

معرفة ما روي من اللغة ولم يصح ولم يثبت

 

 

 

 

هذا النوع يقابلُ النوعَ الأولَ الذي هو الصحيح الثابتُ. والسبب في عدم ثبوت هذا النوع عدمُ اتصال سَنَدِه لسقوطِ راوٍ منه أو جهالته أو عدم الوثوق بروايته لفَقْدِ شَرْطِ القَبول فيه كما سيأتي بيانُه في نوع مَنْ تُقْبَلُ روايته ومَنْ تُرَدُّ أو للشكِّ في سَمَاعه.

 

وأمثلة هذا النوع كثيرةٌ منها ما في الجمهرة لابن دريد: قال: زَعموا أن الشَّطْشاط: طائر وليس بثبت.

 

وفيها: في بعض اللغات: ثَبَطَت شفةُ الإنسان ثَبْطًَا إذا ورِمت وليس بثَبْت.

 

وفيها: استعمل ضَبَجَ ضبجًا إذا ألقى نفسه بالأرض من كلال أو ضرب وليس بثبت.

 

وفيها: الجَبْجَاب: الماء الكثير وكذلك ماءٌ جُبَاجب وليس بثبت.

 

وفيها: الرُفَف: الرقَّة في الثوب وغيره وليس بثبت.

 

وفيها: بتأ َيَبْتَأُ بَتأً: إذا أقام بالمكان وليس بثبت.

 

وفيها: هَتأَ الشيء يَهْتَوُه إذا كسره وَطْأً برجله زعموا وليس يثبت.

 

وفيها: الخَثْوَاء: المسترخيةُ أسفل البطن من النساء امرأة خثواء ورجل أخثى وليس بثبت.

 

وفيها: ناقة رَجَّاء ممدود زعموا إذا كانت مرتجة السنام ولا أدري ما صحّته.

 

وفيها: الدَّنْحَبَة: الخِيانة وليس بثبت.

 

وفيها: ذكر بعضُ أهل اللغة أن الكَسْحَبَة: مَشْيُ الخائف المُخْفِي نفسه وليس بثبت.

 

وفيها: الحَبْشَقة والحُبْشُوقة: دُويّبة وليس بثبت.

 

وفيها: كَنْحَب قالوا: نبت وليس بثبت.

 

وفيها: يقال: زَلْدَبْتُ اللُّقمة إذا ابتلعتُها وليس بثبت.

 

وفيها: يقال: رجل بُرْزُل: إذا كان ضخمًا وليس بثبت.

 

وفيها: القَهْبَسَة: الأتانُ الغليظةُ وليس بثبت.

 

وفيها: القُشْلُب والقِشْلِب قالوا: نبت وليس بثبت.

 

وفيها: العَضْبَل: الصُّلب وليس بثبت.

 

وفيها: الهَنْقب: القصير وليس بثبت.

 

وفيها حَثْرَفْتُ الشيء: زعزعته وليس بثبت.

 

الثُّخْروط: نبت زعموا وليس بثبت.

 

وفيها: العَنْطث زعموا: نبت وليس بثبت.

 

وفيها: القَنطَثَة زعموا العَدْوُ بفَزَع وليس بثبت.

 

وفيها: السَّحْجَلَةُ زعموا صَقْلُك الشيء وليس بثبت.

 

وفيها: سَبّود ذكر بعض أهل اللغة أنه الشَّعر وليس بثبت.

 

وفيها: جَزالاء بمعنى الجزل وليس بثبت قال: وجاء أيضا مِمّا لا يُعْرَف قِصَاصَاء بمعنى القِصاص وزعموا أن أعرابيًّا وقف على بعض الأمراءِ بالعراق فقال: القِصَاصاء أصلحك الله أي خُذْلِي بالقِصَاص.

 

وفيها: في بعض اللغات حُسُن الشيء وحَسَن وصَلَح وصُلح وليس بثبت وفيها: زعم قومٌ من أهل اللغة أن القِشْبَة: ولدُ القِرْد ولا أدري ما صِحَّته.

 

وفيها: العلب زعموا الذي لأُمه زوج ولا أعرف ما صحّة ذلك وفيها: الهَبَق نبت زعموا ولا أدري ما صحّته.

 

وفيها: اللَّقْعُ: الضربُ وليس بثبت.

 

وفيها: القَلْس: حبل من ليفٍ أو خُوص ولا أدري ما صحَّتُه.

 

وفيها: ما ذكر أبو مالك أنه سمع من العرب حِمْلاق وحُمْلاق وليس الضم بثبتَ وفيها: يقال تَفَكَّن القوم إذا تندّموا وتفكهنُوا وليس بثبت فأما تفكَّهوا تعجَّبوا فصحيح وكذلك فسِّر في التنزيل قوله تعالى: { فَظلْتُم تَفَكَّهُونَ } أي تَعْجَبون وتميم تقول: وتَفَكَّنُونَ: تندمون وفيها: يقال إن الكُلام بضم الكاف: أرضٌ غليظة وما أدري ما صحَّته.

 

وفيها: الهَرْوُ لا أصل له في العربية إلا أن أبا مالك جاء بحرفٍ أنْكَرَه أهلُ اللغة قال: هَرَوْتُ اللحم أنضجته وإنما هو هَرَأْتُه.

 

وفيها: خَذَعْرَب: اسمٌ جاء به أبو مالك ولا أدري ما صحَّته.

 

وفيها: عذَج الماء يعذِجه عذْجًا جرَعه ولا أَدري ما صِحَّتها.

 

وفيها: البَيْظُ: زعموا مستعمل وهو ماء الفَحْل ولا أدري ما صِحَّته.

 

وفيها: زعموا أن المِنْطَبَة: مِصْفَاة يصفَّى بها الخمر ولا أدري ما صحَّته.

 

وفيها: قال قوم: الوَقْواق: طائرٌ بَعيْنه وليس بثَبْت.

 

وفيها: كرى: نجم زَعموا من الأنواء وقالوا: هو النسر الواقع لغة يمانية وليس بثبت.

 

وفيها يقال: طِفْل بيِّن الطُّفولة وقال قوم: الطَّفَالة وليس بثبت وصارم بيِّن الصَّرامة وحازم بيِّن الحزَامة وقال قوم: الصُّرومة والحُزُومة وليس بثبت.

 

وفيها: الطائر الذي يسمى اللَّقْلق ما أدري ما صِحَّته.

 

وفيها: الغُنْبُول والغُنْبُول: طائر وليس بثبت.

 

وفيها: البَغْز أَصْلُ بنْيَة البَاغِز وهو المُقْدِم على الفجور زعموا ولا أُحقِّه.

 

وفيها: البَاغِز: موضع تُنْسَب إليه الأكسِية والثياب ولا أعرف صحَّته ما هو.

 

وفيها: قد اختُلف في المثل الذي يقال: الكِرابَ على البقر فقالوا: إنما هو الكلابُ على البقر ولا أدري ما صحَّته.

 

وفيها زعم قوم أنَّ بعض العرب يقولون في الأخِ والأُخت أخٌّْ وأخَة ذكره ابن الكلبي ولا أدري ما صحَّةُ ذلك.

 

وفيها: الخَلاة: الأرض الكثيرة الشجر بغير هَمْزٍ وليس بثبت.

 

وفيها: الخِضَاء: تفتُّت الشيء الرَّطْب وانْشِدَاخُه خاصة وليس بثبت.

 

وفيها: العَشْجَب: الرجل المُسْتَرخي وقالوا: الخبول من جُنون أو نحوه وليس بثبت.

 

وفيها: الفَظِيظُ: زعم قوم أنه ماء الفَحْل أو ماء المرأة وليس بثبت.

 

وفيها: الخُعْخُع: ضربٌ من النبت وليس بثبت.

 

وقال: زعم قومٌ من أهل اللغة أن الحرَّ - يعني خلاف البَرْد - يُجْمَعُ أَحَارِر ولا أعْرَف ما وقال: المُحَاح في بعض اللغات: الجوع ولا أدري ما صحته.

 

وقال: قال بعض أهل اللغة: العَلُّ مثل الزِّير: الذي يُحِبُّ حديث النساء ولا أدري ما صحته.

 

وقال: ذكر قوم أن الوَحْوح ضربٌ من الطير ولا أدري ما صحَّته.

 

وقال: الزُّغْزُغ: ضربٌ من الطير زعموا ولا أعرف ما صحَّته.

 

وقال ابن دريد: قال أبو حاتم: الأَتانُ: مَقَامُ المُسْتَقِي على فَمِ الرَّكِيَّة فسألت عبد الرحمن فقال: الإتان بكسر الألف، قال ابن دريد: والكفُّ عنها أحبُّ إليّ لاختلافهما.

 

وقال: سمعت عبد الرحمن بن أخي الأصمعي يقول: أرض جِلْحِظاء - الظاء معجمة والحاء غير معجمة - وهي الصُّلْبَة التي لا شَجَرَ بها وخالفه أصحابُنا فقالوا: الجِلْخِطَاء بالخاء معجمة فسألته فقال: هذا رأيتُه في كتاب عمِّي قال ابن دريد: وأنا أَوْجَل من هذا الحَرْف وأخافُ ألا يكون سَمِعه.

 

وقال سيبويه: جِلْخِطاء بالجيم والخاء والطاء فلا أدري ما أقولُ فيه.

 

وقال: زعم قومٌ من أهل اللغة أن الضُّؤْضُؤ هذا الطائر الذي يسمى الأَخْيَل ولا أدري ما صحَّته.

 

وقال: الجُمُّ زعموا: صَدف من صدَف البحر ولا أعرفُ حقيقته.

 

وقال: الحَوْبَجَة زعموا: وَرَمٌ يصيب الإنسان في جَسده لغة يمانية لا أدري ما صِحَّته.

 

وقال: يقال للقناة التي يجري فيها الماءُ في باطن الأرض إرْدبّ ولا أدري ما صحَّته.

 

وقال: البَيْقَرَان: نَبْتٌ ذكره أبو مالك ولا أدري ما صحَّته.

 

وقال ابن دريد قال بعض أهل اللغة: تُسمى الفَأْرة غُفَّة لأنها قُوتُ السنَّوْر وأنشد هذا البيت عن يونس لا أدري ما صحَّته: يديرُ النَّهَار بحَشْر له كما عَالَج الغُفَّة الخَيْطَل النهار: وَلَدُ الحُبَارى والخَيْطل: السِّنَّوْر والحَشْر: سهم صغير.

 

وقال أبو عبيد في الغريب المصنف: قال الأموي: المنيّ والمذيّ والوديّ ومشدَّادات الياء والصواب عندنا قول غيره أن المنيَّ وحده بالتشديد والآخران مخففان.

 

وفي الصحاح: البُصْع الجمع سمعتُه من بعض النَّحويين ولا أدري ما صحَّتُه.

 

والنحيجة: زبد رقيق ويقال: النَّجيحة بتقديم الجيم ولا أدري ما صحته.

 

وفي الصحاح يقول: في فلان تَيْسِيَّةٌ وناس يقولون تَيْسُوسِيَّة وكَيفُوفِيّة ولا أدري ما صحتهما.

 

وفي التهذيب للأزهري: قال الليث: أَسَد قَصْقَاص نعْتٌ له في صوته وحيَّة قَصْقاص نعتٌْ لها في خُبْثِها قال الأزهري: وهذا الذي في نَعْت الأسد والحيَّة لا أعرِفه وأنا بريء من عُهْدته.

 

وفي الصحاح: يقال: وَرضَت الدَّجاجة إذا كانت مرخمة على البيض ثم قامت فذرقت بمَرَّةٍ واحدة ذرقًا كثيرا قال الأزهري في التهذيب بعد أن حكَى هذه المقالة عن الليث وزاد وكذلك التَّوْريض في كلِّ شيء: هذا الحرفُ عندي مريب والذي يصحُّ فيه التَّوْريص بالصاد.

 

أخبرني المنذريّ عن ثعلب عن سلمة عن الفراء ورَّص الشيخ بالصاد إذا استرخى حِتَار خَوْرَانِه فأبدى.

 

وحُكي عن ابن الأعرابي نحوه قال: أَوْرَص ووَرَّص إذا رمى بغطائه قال الأزهريّ: فهذا هو الصحيح ولا أعرف الحرف بالضاد.

 

وفي الصحاح: الضِّفة بالكسر: جانب النهر ونقله الأزهري في التهذيب عن اللَّيث ثم قال: لم أَسْمع ضِفَّة لغير اللَّيث والمعروف الضَّفة والضِّيفُ الجانب النهر.

 

وفي الصحاح: زَبَق شعره يزِبقُهُ زبقًا: نتفه قال أبو زكريا التَّبريزي قال أبو سهل: هكذا رواه أبو عبيد في الغريب المصنف عن أبي زيد بالباء.

 

وأخبرنا أبو أُسامة عن أبي منصور الأزهري عن أبي بكر الإيادي عن ابن حمدويه قال: الصواب زَنقه بالنون يزنقه ومنه زنق ما تحت إبطِه من الشَّعر إذا نَتَفَه قال: وأما زَبقه بالباء فمعناه حبَسه.

 

والزابوقاء: الحبس.

 

وقال أبو أُسامة يصحِّح قولَ ابن حمدويه أن الأصمعي قال: زَلَقَ رأسه إذا حلقه باللام والنون تُبْدَلُ من اللام في مواضع كثيرة فكأن زنقه بالنون بمعنى زَلَقه باللام.

 

وفي العين: احْوَنْصَل الطائر إذا ثَنَى عُنقُه وأخرج حَوْصَلَته.

 

قال الزبيدي في كتاب الاستدراك: احْوَنْصَلَ مُنْكَرَةٌ ولا أعلم شيئا على مثال أفونعل من الأفعال.

 

وفي العَين: التُّحْفة مُبَدلة من الواو وفلان يتوحَّف.

 

قال الزبيدي: ليست التاء في التحفة مبدلة من الواو لوجودها في التصاريف.

 

وقوله: يتوحَّف منكَر عندي.

 

وقال ابن القوطية: في كتاب الأفعال: أَنْهَبْتُ الشيءَ: جعلته نهبًا يغار عليه ونَهَبْتُه لغة ذكرها قُطْرب وهو غير ثِقَة. انتهى.

 

وفي المجمل لابن فارس: الحَتْرُ: ذكر الثعالب وفيه نظر.

 

وقال: العِلَّوش: الذئب وفيه نظر لأن الشين لا تكون بعد اللام.

 

وقال: الوَلّاس: الذئب فيما يقال وفيه نظر.

 

وقال: يقولون: القَلْخ: الحمار والقلخ: الفَحْل إذا هاج وفيهما نظر.

 

وقال: يقال: نَأَتَ الرجل: إذا اجتهد وفيه نظر وقال: رجل أَنْبَس: كريه الوجهِ وفيهِ نظر وقال: يقال النَّسْك: المكان الذي تألفهُ وفيه نظر وقال: يقال شيء وافلٌ أي وافر وفيه نظر.

 

وقال يقال: المَعْفِس: المَفْصِل من المفاصل وفي هذه الكلمة نظر.

 

وقال: يقال إن غُنَجَة معرفة بلا ألف ولام: القُنفذ لا تنصرف وفيه نظر.

 

وقال: عَمَشْتُ الرجل بالعصا: ضربتُه وفيه نظر.

 

وقال: العتار قرحة لا تجفّ وفي ذلك نظر.

 

وقال يقال: إن العَاذِرَة المرأة المستحاضة.

 

وقال: حَكى بعض مَنْ في قوله نظَر أن الاعْتِذَال: الاعتزام على الشيء يقال: اعتذل على الأمر إذا اعتزم عليه.

 

وقال يقال: عَرَّز عني أَمْرَه: أي أخفاه واعْتَرَز: أي انقبص وفيه نظر.

 

وقال: قال ابن دريد: القَزَب: الصَّلابة والشدة قَزِبَ الشيء: صلب لغة يمانية.

 

قال: ولولا حُسْنُ الظنّ بأهل العلم لتُرك كثير مما حكاه ابن دريد.

 

==========

النوع الثالث

معرفة المتواتر والآحاد

 

 

 

 

قال الكمال أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري في كتابه لمع الأدلة في أصول النحو:

 

اعلم أن النقل ينقسم إلى قسمين: تواتر وآحاد. فأما التواترُ فلغةُ القرآن وما تواترَ من السنة وكلام العرب وهذا القسم دليل قطعيّ من أدلة النحو يفيدُ العلم واختلفَ العلماء في ذلك العلم فذهب الأَكْثرون إلى أنه ضروريّ واستدلّوا على ذلك بأن العلم الضروريَّ هو الذي بينه وبين مَدْلولِه ارتباطٌ معقول كالعلم الحاصل من الحواسِّ الخمسِ: السمع والبَصر والشمّ والذَّوْق واللَّمْس وهذا موجود في خَبر التواتر فكان ضروريًّا.

 

وذهب آخرون إلى أنه نظريّ واستدلُّوا على ذلك بأن بينَه وبين النَّظَر ارتباطًا لأنه يُشْتَرط في حصوله نقلُ جماعةٍ يستحيلُ عليهم الاتفاقُ على الكذب دونَ غيرهم فلما اتَّفَقوا عُلِمَ أنه صِدْق.

 

وزعمت طائفةٌ قليلة أنه لا يُفْضِي إلى عِلْمٍ البتَّة وتمسكت بشُبْهَة ضعيفةٍ وهي أن العلمَ لا يَحْصُلُ بنَقْلِ كلِّ واحد منهم فكذلك بنَقْلِ جماعتهم وهذه شُبْهَةٌ ظاهرةُ الفسادِ فإنه يَثْبُت للجماعة ما لا يثبُت للواحد فإن الواحدَ لو رَامَ حَمْل حِمْلٍ ثقيل لم يُمْكِنْه ذلك ولو اجتَمَع على حَمْله جماعةُ لأمكن ذلك فكذلك هاهنا.

 

وأما الآحاد فما تَفَرَّد بنَقْلِه بعضُ أهل اللغة ولم يُوجَدْ فيه شرطُ التواتر وهو دليلٌ مأخوذٌ به. واختَلفوا في إفادته: فذهب الأكثرون إلى أنه يفيدُ الظنَّ وزعم بعضُهم أنه يفيدُ العلم وليس بصحيح لتَطَرُّق الاحتمال فيه وزعم بعضُهم أنه إن اتصلت به القرائنُ أَفاد العلمَ ضرورةً كخبر التَّواتر لوجودِ القرائن.

 

ثم قال: واعلم أن أكثرَ العلماء ذهبوا إلى أن شرط التواتر أن يبلغَ عدد النقلة إلى حدٍّ لا يجوزُ على مثلهم الاتفاقُ على الكذب كَنَقلة لغةِ القرآن وما تواترَ من السنة وكلام العرب فإنهم انْتَهَوْا إلى حدٍّ يستحيل على مثلِهم الاتفاقُ على الكذب.

 

وذهب قومٌ إلى أن شَرْطَهُ أن يبلغوا سبعين. وذهب آخرون إلى أن شَرْطَه أن يبلغوا أربعين. وذهب آخرون إلى أن شَرْطه أن يبلغوا اثني عشر. وذهب آخرون إلى أن شَرْطه أن يبلغوا خمسة. والصحيح هو الأول. وأما تعيينُ تلك الأعداد فإنما اعتمدُوا فيها على قِصَص ليس بينها وبين حصول العلم بأخبار التواتر مُناسبةٌ وإنما اتَّفَق وجودها مع هذه الأعداد فلا يكون فيها حجةٌ. انتهى ما ذكره ابن الأنباري.

 

وقال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب المحصول: الطريقُ إلى معرفة اللغة النقلُ المحض وهو إما تواتر أو آحاد وعلى كل منهما إشكالات:

 

أما التواتر فالإشكال عليه من وجوه:

 

أحدُها - أنَّا نجدُ الناسَ مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثرُ الألفاظِ تداوُلًا ودَوَرَانًا على ألْسِنَة المسلمين اختلافًا شديدًا لا يمكنُ فيه القَطْعُ بما هو الحقُّ كلَفْظة الله فإن بعضَهم زعم أنها عِبْرية، وقال قوم سُرْيانية، والذين جعلوها عربية اختلفوا هل هي مشتقة أولا، والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافًا شديدًا؛ ومن تأمَّل أدلَّتهم في ذلك علم أنها مُتعَارِضة وأنَّ شيئا منها لا يُفيد الظنَّ الغالب فَضْلًا عن اليقين.

 

وكذلك اختلفوا في لفظ الإيمان والكفر والصلاة والزكاة؛ فإذا كان هذا الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إليها ماسة جدا، فما ظنك بسائر الألفاظ؟ وإذا كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذر.

 

وأُجيب عنه بأنه وإن لم يُمْكِن دَعْوى التواتر في معانيها على سبيل التَّفصيل فإنَّا نعلمُ معانَيها في الجملة فنعلم أنهم يطلقون لفظة الله على الإله المعبود بحقّ وإن كنا لا نعلمُ مُسَمَّى هذا اللفظ أَذَاته أم كونه معبودًا أم كونه قادرًا على الاختراع أم كونه مَلْجَأ للخَلْق أم كونه بحيث تتحيَّر العقول في إدْراكه إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ وكذا القولُ في سائر الألفاظ.

 

الإشكال الثاني - أن من شَرْط التواتر استواءَ الطَّرَفين والواسطة فهَبْ أنَّا علمنا حصولَ شَرْط التَّواتر في حُفَّاظ اللفة والنحو والتصريف في زماننا فكيف نعلمُ حصولها في سائر الأزمنة وإذا جهلنا شَرْط التواتر جهلنا التواتر ضرورة لأن الجهلَ بالشرط يوجب الجهلَ بالمشروط.

 

فإن قيل: الطريق إليه أَمْران:

 

أحدهما - أن الذين شاهَدْناهم أخبرونا أن الذين أخبرُوهم بهذه اللغات كانوا موصوفين بالصفاتِ المُعتَبَرَةِ في التواتر وأن الذين أخبروا مَنْ أَخْبَروهم كانوا كذلك إلى أن يتَّصل النَّقْل بزمان الرسول ﷺ.

 

والآخرُ - أن هذه لو لم تكن موضوعة لهذه اللغات ثم وضَعَها واضعٌ لهذه المعاني لاشتهَر ذلك وعُرِف فإن ذلك مما تَتَوَفَّر الدَّواعي على نَقْلِه.

 

قلنا: أما الأول فغيرُ صحيح لأنَّ كلَّ واحد منَّا حين سمع لغةً مخصوصة من إنسانٍ فإنه لم يسمع منه أنه سَمِعه من أهل التواتر وهكذا بل تحرير هذه الدعوى على هذا الوجه مما لا يَفْهمه كثيرٌ من الأدباء فكيف يُدَّعى عليهم أنهم علموه بالضرورة بل الغايةُ القصوى في راوي اللغة أن يسنده إلى كتاب صحيح أو إلى أُسْتاذٍ مُتْقن ومعلومٌ أن ذلك لا يفيدُ اليقين.

 

وأما الثاني فضعيفٌ أيضا لأن ذلك الاشتهارَ إنما يَجبُ في الأمور المهمَّة وتغييرُ اللفظةِ الواحدة ليس من المهمّات العظيمة حتى يُشْتهر ويُنْقل وأيضا فهو منقوض بالكلمات الفاسدة والإعرابات المعوجة الجارية في زماننا، مع أن تغيرها ومغيرها غير معلوم.

 

الثالث - إنه قد اشتهر بل بلغ مَبْلغَ التواتر أن هذه اللغاتِ إنما أُخِذَت عن جمع مخصوص كالخليل وأبي عمرو والأصمعي وأَقْرَانهم؛ ولا شكَّ أنَّ هؤلاء ما كانوا مَعْصومين ولا بالِغين حدَّ التواتر، وإذا كان كذلك لم يحصل القَطْع واليقينُ بقولهم.

 

أقصى ما في الباب أن يقال: نعلم قطعا أن هذه اللغات بأسرها غير منقولة على سبيل الكذب، ويقطع بأن فيها ما هو صدقٌ قطعًا؛ لكن كل لفظة عيناها فإنا لا يمكننا القطعُ بأنها من قبيل ما نُقل صدقًا وحينئذ لا يبقى القطع في لفظِ معين أصلا؛ وهذا هو الإشكال على مَن ادعى التواتر في نقل اللغات.

 

وأما الآحاد فالإشكالُ عليه من جهةِ أن الرواة له مَجْروحون ليسوا سالمين عن القَدْح بيانُه أن أصلَ الكتب المصنفة في النحو واللغة كتابُ سيبويه وكتابُ العين أما كتاب سيبويه فَقَدْحُ الكوفيين فيه وفي صاحبه أظهرُ من الشمس وأيضا فالمبرد كان من أجلِّ البصْريين وهو أَفْرَد كتابًا في القَدْح فيه وأما كتابُ العين فقد أطبَق الجمهور من أهل اللغة على القَدْح فيه وأيضا فإن ابنَ جني أورد بابًا في كتاب الخصائص في قَدْح أكابر الأدباءِ بعضهم في بعض وتكذيبِ بعضهم بعضًا وأورد بابًا آخر في أن لغة أهل الوَبر أصحُّ من لغة أهل المَدر وغرضُه من ذلك القَدْحُ في الكوفيين وأورد بابًا آخر في كلماتٍ من الغريب لا يُعلم أحدٌ أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي وروي عن رُؤْبة وأبيه أنهما كانا يَرْتجلان ألفاظًا لم يَسْمَعاها ولا سُبِقا إليها وعلى ذلك قال المازني: ما قِيس على كلام العرب فهو من كلامهم. وأيضا فالأصمعي كان منسوبًا إلى الخَلاعة ومشهورًا بأنه كان يَزِيد في اللغة ما لم يكن منها. والعَجَبُ من الأصوليين أنهم أقاموا الدلائل على خَبَر الواحد أنه حجّةٌ في الشرع ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة وكان هذا أَوْلى وكانوا من الواجب عليهم أن يَبْحَثوا عن أحوال اللغات والنّحو وأن يفحصوا عن جَرْحهم وتعديلهم كما فعلوا ذلك في رُواة الأخبار لكنهم تركوا ذلك بالكلية مع شدةِ الحاجةِ إليه فإن اللغة والنحو يجريان مَجْرَى الأصل للاستدلال بالنصوص.

 

ثم قال الإمام: والجواب عن الإشكلالات كلّها أن اللغةَ والنّحو والتصريف تنقسم إلى قسمين:

 

قسم منه متواتر والعلمُ الضروريّ حاصلٌ بأنه كان في الأزمنة الماضية موضوعًا لهذه المعاني؛ فإنا نجد أنفسنا جازمة بأن السماء والأرض كانتا مُسْتعَملَتين في زَمَنه ﷺ في معناهما المعروف وكذلك الماء والهواء والنار وأمثالها، وكذلك لم يَزَل الفاعلُ مرفوعًا والمفعولُ منصوبًا والمضافُ إليه مجرورًا.

 

وقسم منه مظنون وهو الألفاظ الغريبة، والطريق إلى معرفتها الآحاد.

 

وأكثرُ ألفاظِ القرآن ونحوه وتصريفِه من القسم الأول، والثاني فيه قليلٌ جدا فلا يُتَمَسَّك به في القَطْعيات ويُتَمَسَّك به في الظنيات.

 

هذا كله كلام الإمام فخر الدين، وقد تابعهُ عليه صاحبُ الحاصل فأوردَه برُمَّته ولم يتعقّب منهُ حرفًا.

 

وتعقَّب الأصبهاني في شرح المحصول بعضَه فقال: أما قوله: وأورد ابن جني بابا في كلمات من الغريب لم يأت بها إلا الباهلي. فاعلمْ أن هذا القدر وهو انفرادُ شخصٍ بنَقْل شيَء من اللغة العربية لا يقدَح في عدالته ولا يلزمُ من نَقْل الغريب أن يكون كاذبًا في نَقْله ولا قصدَ ابن جني ذلك.

 

وأما قول المازني: ما قِيس... إلى آخره، فإنه ليس بكذبٍ ولا تجويز لِلْكذِب لجوازِ أن يرى القياس في اللغات أو يحمل كلامه على هذه القاعدة وأمثالها، وهي أن الفاعل في كلام العرب مرفوع، فكل ما كان في معنى الفاعل فهو مرفوع.

 

وأما قوله: إن الأصوليين لم يقيموا... إلى آخره فضعيف جدًا؛ وذلك أن الدليلَ الدالَّ على أن خبرَ الواحد حجةٌ في الشرع يمكن التمسّك به في نَقْل اللغة آحادًا إذا وُجدت الشرائط المعتبرة في خبر الواحد فلعلهم أهملوا ذلك اكْتِفاءً منهم بالأدلة الدَّالة على أنه حجةٌ في الشرع.

 

وأما قوله: كان الواجب أن يبحثوا عن حال الرُّواة... إلى آخره فهذا حق فقد كان الواجب أن يُفْعَل ذلك ولا وجْه لإهماله مع احتمال كذب من لم تُعْلَم عدالتُه.

 

وقال القرافي في شرح المحصول في هذا الأخير: إنما أهملوا ذلك لأن الدواعي متوفرة على الكذب في الحديث لأسبابه المعروفة الحامل للواضعين على الوضع، وأما اللغة فالدواعي إلى الكذب عليها في غاية الضعف، وكذلك كتب الفقه لا تكاد تجد فروعا موضوعة على الشافعي أو مالك أو غيرهما، وكذلك جَمَع الناس من السنة موضوعات كثيرة وجدوها ولم يجدوا من اللغة وفروع الفقه مثل ذلك ولا قريبا منه. ولما كان الكذب والخطأ في اللغة وغيرها في غاية الندرة اكتفى العلماءُ فيها بالاعتماد على الكتب المشهورة المُتَدَاولَة فَإنَّ شُهْرَتها وتداولها يَمْنَعُ من ذلك مع ضعف الداعية له فهذا هو الفرق. انتهى.

 

وأقول: بل الجوابُ الحقُّ عن هذا أن أهلَ اللغة والأخبار لم يُهْمِلُوا البحثَ عن أحوال اللغات وَرُوَاتها جَرْحًا وتعديلًا؛ بل فحصوا عن ذلك وبينوه كما بيّنوا ذلك في رُواة الأخبار ومَنْ طالَعَ الكتبَ المؤلفة في طبقات اللغويين والنُّحاة وأخبارِهم وجدَ ذلك.

 

وقد ألَّف أبو الطيب اللغوي كتابَ مراتب النحويين بيَّن فيه ذلك وميز أهل الصدق من أهل الكذب والوضع، وسيمرُّ بك في هذا الكتاب كثيرٌ من ذلك في نَوْع الموضوع ونَوْع معرفة الطبقات والثِّقات والضعفاءِ وغيرها من الأنواع.

 

وأما قول الإمام في القَدْح في كتاب العين فقد قدمت الجوابَ عنه في أواخر النوع الأول.

 

وفي الملخص في أُصول الفقه للقاضي عبد الوهاب المالكي: في ثبوت اللغة بأخبار الآحاد طريقان لأصحابنا: أحدُهما - أن اللغة تَثْبُتُ به لأنَّ الدليل إذا دلَّ على وجوب العمل به في الشرع كان في ثبوت اللغة واجبًا لأن إثْبَاتهَا إنما يُراد للعمل في الشرع. والثاني - لا تثبت لغةٌ بإخبار الآحاد.

 

وهذه أمثلةٌ من المتواتر مما تواتَر على أَلْسِنَةِ الناس من زمن العرب إلى اليوم وليس هو في القرآن من ذلك: أسماء الأيام والشهور والربيع والخريف والقَمْح والشعير والأرز والحَِمِّص والسِّمْسِم والسُّمَّاق والقَرْع والبِطِّيخ والمِشْمِش والتّفاح والكُمَّثْرَى والعُنَّاب والنَّبقْ والخَوْخ والبَلَح والبُسْر والخِيار والخَسُّ والنَّعْنَع، قال ابن دريد: الظاهر أنه عربي. والكُرَّاث والخَشْخَاش، قال الخليل: هو عربي صحيح. والخِرْبِز قال فيِ القاموس: [ الخربز بالكسر البطيخ ] عربي صحيح، وقيل: أصلُه فارسي. والزبد والسمن والعَسَل والدِّبْس والخَلّ والخُبْز والجُبْن والدَّقيق والنُّخَالة والدَّجاج والإوَزّ والنَّعام والحَمام والقُمْرِيّ والعَنْدَليب والكَرَوان والوَرَشان والوَطْوَاط والخُطَّاف والعُصْفُور والحِدَأَة وابن عِرْس والفَأْرَة والهِرَّة والعَقْرَب والخُنْفَسَاءُ والوَزغ والسَّرَطَان والضّفْدع والضَّبُعْ والفَهدْ والنَّمِر والثَّعْلَب والأرْنب والغَزَال والظّبْي والدُّب، قال ابن دريد: عربي صحيح. والزَّرَافة والسِّدْر والحِنَّاء والفَاغِية والزَّعْفَرَان. قال ابن دريد: عربي معروف. قال: والعُصْفُر عربي معروف تكلَّمت به العرب قديمًا. والزَّهرة وعُطَارد. قال ابن دريد: عربي فصيح. والشَّمَع والعَرُوس والقَمِيص والكُمّ والعِمامة والفَرْوَة والكَتَّان والمِنديل وفَصّ الخاتم والإزَار والمِئْزر والنَّعْل والقَوْس والنُّشَّاب والرُّمح والسَّيف والدِّرع والبَيْضَة والكلاب والخَيْزُرَان وَالقِنَّب ورَزَّة الباب والمَكْسُ والوَخشُ بمعنى الرُّذَال والرَّديء والصُّدَاع والإسهال والرَّمد واليَرَقان والاستسقاء والحُمَّى والوَبَاء والطَّاعون والجُدَري والحَصْبَة والجَرَب والجَذَام والدرَّة والرَّصَاص. قال ابن دريد: عربي صحيح. والبَلاط والمِدْمَاك ورَفّ البيت والدَّرْب وَالبِرْدَعَة والفأس والدَّلْو والقِدْر والرَّحى والعُكَّة والكُرّ والإرْدَبُّ. قال الأَخطل:

 

وَالخُبْزُ كالعَنْبَرِ الهِنْدِيّ عِنْدَهُم ** والقَمْحُ سَبْعُونَ إرْدَبًّا بِدينَارِ

 

والزَّبَرْجَد، قال في الجمهرة: عربي معروف. فكلُّ هذه الألفاظ عربيةٌ صحيحة متواتِرةٌ على أَلْسنَةِ الخلق من زَمن العرب إلى وقتنا هذا.

 

وثَمَّ ألفاظ شائعة على الألْسنة لكنها أعجمية الأصل تأتي في نوع المُعَرَّب.

 

وقال الثعالبي في فقه اللغة: فصل في سياقِه أسماء فارسيَّتُها مَنْسِيَّة وعربيتها مَحْكِيَّة مُسْتعمَلة:

 

الكَفُّ السَّاق الفَرّاشُ البزَّازُ الوزَّان الكَيَّال المسَّاحُ البَيَّاع الدَّلّال الصَّرَّاف البَقَّال [ الجمَّال ] الحمَّال القَصَّاب الفَصَّاد البَيْطَار الرَّائِض الطَّرَّاز الخَرَّاطُ الخيَّاط القَزَّاز الأَمِير الخليفَةُ الوزيرُ الحاجِبُ القاضي صاحبُ البريد صاحبُ الخبَر الوَكيل السَّقَّاء السَّاقي الشَّرَاب الدَّخْل الخَرْج الحَلال الحَرَام البَرَكة [ البِرْكة ] العِدَّة الصَّوابُ الخَطَأُ الغَلَط الوَسْوَسَةُ الحَسَدُ الكَسَادُ العَارِيَّةُ النَّصِيحة [ الفَضِيحة ] الصُّورة الطَّبيعة [ الند ] العادة الَبَخور الغَالية الخَلوق الحِنَّاء اللَّخْلَخة الجُبَّةُ [ الجثَّة ] المِقنَعَة الدُّرَّاعة الإزَار المُضَرَّبةُ اللِّحاف المِخَدّة [ النَّعْل ] الفَاخِتة القُمْرِي [ اللَّقلق ] الخطُّ القَلَم المِدَاد الحِبْر الكِتاب الصُّندوق الحُقَّة الرَّبْعَة [ المُقَدّمة ] السَّفَطُ الخُرْجُ السُّفْرَةُ اللَّهْوُ القِمَار الجَفَاء الوَفَاء الكُرْسيُّ القَنَص المِشْجَبُ الدَّوَاةُ المِرْفع القِنِّينَة الفَتيلة الكَلْبَتَانِ القُفْل الحَلْقة المِنْقلَة المِجْمَرَة المِزْرَاق الحَرْبَة الدَّبُّوس [ المِنْجَنِيق العَرَادة ] الرِّكاب العَلَم الطَّبْلُ اللِّوَاءُ الغَاشِيَة [ النصْلُ القُطري ] الجُلُّ البُرْقُع الشِّكالُ العِنَان الجَنِيبَة الغِذَاء الحَلْوَاء القَطَائف القَلِيَّةُ الهَرِيسَةُ العَصِيدَةُ المُزَوَّرَةُ الفَتِيتُ [ النُّقْل ] النِّطع [ العِلْم الطِّرَاز ] الرِّدَاء الفَلك المَشْرِق المَغْرِب الطَّالِع الشَّمَالُ الجَنُوب الصَّبَا الدُّبُور الأَبْلَه الأحْمَقُ النَّبيل اللَّطيف الظَّرِيف الجَلّاد السَّيَّاف العَاشِق [ الجَلّاب ]. هذا كلُّه كلام الثعالبي.

 

قد توقَّف ابن دريد في النَّدِّ، فقال في الجمهرة: المستعمل من هذا الطِّيب لا أحسبه عربيًا صحيحًا، وتوقَّف صاحب الصحاح في الدَّبُّوس فقال: بعد أن أنشد قول لقيط بن زُرَارة "لو سمعوا وقع الدبابيس": واحدها دبوس أراه مُعَرّبًا.

 

=========

 

 

 

النوع الرابع

معرفة المرسل والمنقطع

 

 

 

 

قال الكمال بن الأنباري في لمع الأدلة: المرسل هو الذي انقطع سنَدُه نحو أن يَرْويَ ابن دريد عن أبي زيد وهو غيرُ مقبول لأن العَدالة شرطٌ في قبول النَّقْل وانقطاعُ سَنَد النَّقْل يوجب الجَهْل بالعَدَالة فإن من لم يُذْكَر لا يُعرف عدالته وذهب بعضُهم إلى قَبُول المُرَسل لإن الإرسال صدَر ممن لو أُسند لقُبِل ولم يُتّهم في إسناده فكذلك في إرساله لأن التهمة لو تطرَّقت إلى إرساله لتطَرَّقت إلى إسناده وإذا لم يتهم في إسناده فكذلك في إرساله. قلنا: هذا اعتبار فاسد لأن المسند قد صُرِّح فيه باسم الناقل فأمكن الوقوف على حقيقة حاله بخلاف المرسل فبانَ بهذا أنه لا يلزم من قبول المُسْند قبولُ المرسل انتهى ما ذكره ابن الأنباري.

 

ومن أمثلة ذلك ما في الجمهرة لابن دريد: يقال فَسَأْتُ الثوبَ أفسؤه فسْأً إذا مَدَدتُه حتى يتفزَّر. وأخبر الأصمعي عن يونس قال: رآني أعرابي محتبيًا بطيلسان فقال: علام تفسؤه - ابن دريد لم يُدْرِك الأصمعي.

 

وقال ابن دريد في أماليه: أخبرنا الأشْنانْدَاني عن التَّوزي عن أبي عُبيدة قال: اجتمع عند يزيد بن معاوية أبو زُبَيد الطائي وجَميل بن مَعْمر العُذْري والأخطل التَّغْلبي فقال [ لهم ]: أيكم يصفُ [ لي ] الأسدَ [ صفة ] في غير شِعْر فقال أبو زُبَيد: أنا يا أمير المؤمنين، لونه وَرْد وزئير رَعْد - وقال مرة أخرى: زَغْد - ووثْبُه شَدّ وأَخْذه جِدّ وهَوْلُه شَدِيد وشرُّه عَتِيد ونَابُه حَدِيد وأنفُه أَخْثَم وخدّه أَدْرم ومِشْفَرُه أَدْلَم وكفَّاه عُرَاضَتان ووجْنَتاه ناتِئتان وعيناه وقَّادَتان وكأنهما لَمْحٌ بارق أو نجمٌ طارق إذا استقبلتَه قلتَ أَفْدَع وإذا استعرضتَه قلت أَكْوَع وإذا استدبرتَه قلت أَصْمَع بَصِير إذا استغْضَى هَمُوس إذا مَشَى إذا قَفَّى كَمَشَ وإذا جَرى طَمَش بَرَاثِينُه شَثنَة ومَفَاصِله مُتْرَصَة مُصْعِقٌ لقَلْبِ الجَبَان مُرَوِّع لماضي الجَنَان إذا قاسَمَ ظَلَم وإن كابَر دَهَمَ وإن نازل غَشَم ثم أنشأ يقول:

 

خُبَعْثِنٌ أَشْوَسُ ذو تَهَكُّمِ ** مُشْتَبِك الأنياب ذو تَبَرْطُمِ

 

وذُو أَهَاويلَ وذو تَجَهُّم ** ساطٍ على اللَّيث الهِزَبْر الضَّيْغَم

 

وعينُه مثل الشهاب المضرم ** وهامسه كالحجر المُلَمْلَم [1]

 

فقال: حسبك يا أبا زُبيد. ثم قال: قُلْ يا جميل فقال: يا أميرَ المؤمنين، وجهُه فَدْغم وشَدْقُه شَدْقَم ولُغْدُه مُعْرَنْزِم مُقَدَّمَه كثيف ومُؤَخَّرُه لطيف ووثْبُه خفيف وأخْذه عنيف عَبْل الذراع شديد النُّخَاع مُرْدٍ للسباع مُصْعِق الزَّئير شديد المَرِير أَهْرَت الشِّدْقين مُتْرَص الحَصِيرين يركب الأهوال ويَهتِصر الأبطال ويمنع الأشبال ما إن يزال جاثمًا في خِيس أو رابضًا على فَرِيس أو ذَا وَلْغٍ ونَهِيس، ثم قال:

 

ليْثُ عَرِينٍ صَيْغَمٌ غَضَنْفَرُ ** مُداخَلٌ في خَلْقِه مُضَبَّر

 

يُخَافُ من أنْيابه ويُذْعَرُ ** ما إن يزالُ قائمًا يُزَمْجِر

 

له على كلِّ السباع مَفْخَرُ ** قُضاقِض شَنْن البَنَان قَسْوَر

 

فقال: حسبُك يا بن مَعْمر، ثم قال: قلْ يا أخطل فقال: ضَيْغَمٌ ضِرغام غَشَمْشَم هَمْهَام على الأهوَال مِقْدَام وللأقران هَضَّام رِئْبال عَنْبس جَريء دلَهْمَس ذو صَدْر مُفَرْدَس ظلوم أَهْوَس لَيْث كَرَوَّس، ثم قال:

 

شَرَنْبَتُ الكَفَّيْن حامي أشْبُل ** إذا لَقَاه بَطَلٌ لم يَنْكَل

 

قُضَاقِضٌ جَهْمٌ شديد المَفْصِلَ ** مُضَبَّر الساعد ذو تَعَثْكُلِ

 

مُلَمْلَم الهامة كَمْشُ الأرجل ** ذو لِبَدٍ يغتال في تمهّلِ

 

أنيابُه في فِيه مثلُ الأَنْصُل ** وَعَيْنُهُ مثل الشِّهابِ المُشْعَل

 

فقال له: حسبُك وأَمَرَ لهم بجوائز.

 

هذا منقطع، أبو عبيدة لم يدرك يزيد.

 

 

هامش

في النسخ: المثلم، وهذه رواية الأمالي.

 

==========

النوع الخامس

معرفة الأفراد

 

 

 

 

وهو ما انْفَرَدَ بروايته واحدٌ من أهل اللغة ولم ينقله أحدٌ غيره وحكْمُه القبول إن كان المنفرّد به من أهل الضبط والإتقان كأبي زيد والخليل والأصمعي وأبي حاتم وأبي عبيدة وأضرابهم. وشرْطُه ألا يخالفه فيه من هو أكثر عددًا منه. وهذه نبذةٌ من أمثلته:

 

فمن أفراد أبي زيد الأوسي الأنصاري - قال في الجمهرة: المَنْشَبة: المال هكذا قال أبو زيد ولم يقله غيرُه.

 

وفيها: رجل ثَطّ ولا يقال أَثَطّ قال أبو حاتم: قال أبو زيد مرةً أَثَطّ. فقلت له: أتقول: أثط فقال: سمعتها والثَّطَط: خفَّة اللِّحية من العارضين.

 

وفي الصحاح: البِدَاوة: الإقامةُ في البادية يُفْتَح ويكسر، قال ثعلب: لا أعرف البَداوة بالفتح إلا عن أبي زيد وحْدَه.

 

ومن أفراد الخليل - قال في الجمهرة: الرَّتُّ الجمع رُتُوت وهي الخنازير الذكور ولم يجئ به غيرُ الخليل وقال: الحُضَض والحُضُض: دواءٌ معروف وذكروا أنَّ الحليل كان يقول الحُضُظ بالضاد والظاءِ ولم يعْرِفه أصحابُنا. وقال: يوم بُعَاث سمعناه من علمائنا بالعين وضمّ الباء، وذُكِرَ عن الخليل بغَين معجمة ولم يُسْمَع من غيره.

 

ومن أفراد يونس بن حبيب الضبي - قال في الجمهرة: الصِّنْتِيت بمعنى الصِّنْدِيد هكذا يقول يونس ولم يقلْه غيره.

 

ومن أفراد أبي الحسن الكسائي - قال ثعلب في أماليه: قال الكسائي: سمعت لجَبَة ولَجَبَات وَلجِبَة ولَجبَات فجاءَ بها على القياس ولم يحكها غيره.

 

وقال القالي في كتاب المقصور والممدود: السَّبَأُ على وزن جبل مقصور مهموز: الحمْرُ عن الكسائي ولم يَرْوِ هذا غيرُه.

 

ومن أفراد أبي صاعد: قال ابن السكِّيت في إصلاح المنطق والخطيب التبريزي في تهذيبه: يقال: لم يعطهم بَازِلة أي لم يعطهم شيئا وعن ابن الأنباري وحده بَارِلة بالراء والصوابُ بالزاي وقال الأصمعي: لم يجئ ببارلة غير أبي صاعد الكلابي ولم يَدْر ما هي حتى قلت له: أهي من بُرَائل الديك فقال: أَخْلق بها.

 

ومن أفراد أبي الخطاب الأخفش الكبير في الجمهرة: الجُثّ: ما ارتَفع من الأرض حتى يكون له شخص، مثل الأكيمة الصغيرة ونحوها، قال الشاعر:

 

وأَوْفَى على جُثٍّ ولِلَّيْلِ طُرَّةٌ ** على الأُفْق لم يَهْتِكْ جوانبَها الفَجْرُ

 

قال: وأحسب أن جثة الإنسان من هذا اشتقاقها، وقال قوم من أهل اللغة: لا نُسمى جُثَّة إلا أن يكون قاعدًا أو نائمًا، فأما القائم فلا يقال جثته إنما يقال قِمته، وزعموا أن أبا الخطاب الأخفش كان يقول: لا أقول جثة الرجل إلا لشخصه على سَرْج أو رَحْل ويكون معتمًّا؛ ولم يُسْمَع من غيره.

 

وفيها: ذُكِر عن أبي الخطاب الأخفش أنه قال: الخَفْخُوف: طائر. وما أدري ما صحَّته ولم يذكره أحدٌ من أصحابنا غيره.

 

ومن أفراد جمال الدين أبي مالك في الجمهرة قال أبو مالك: الجَمْش: الصَّوْت لم يجئ به غيره.

 

وفيها: قال أبو مالك جارية لَعَّة: خفيفة مليحة لم يجئ بها غيره والمعروف أن لَعَّ أُمِيت وأُلحق بالرباعي.

 

وفيها: حكى أبو مالك: الحُضْحُض: ضَرْب من النبت ولم يجئ به غيره.

 

وفيها: حكى عن أبي مالك أنه قال: الرَّطْرَاط: الماءُ الذي أَسْأَرَتْه الإبل في الحياض ولم يعرفه أصحابنا.

 

وفيها: أحسب أن أبا مالك قال: واحد الجناجين جُنْجُون وهذا شيء لا يُعْرَف والمعروف جِنْجِن وهي عِظام الصدر.

 

وفيها: ذكر أبو مالك: أنه سمع طعام بَرِيك في معنى مبارك [ فيه ].

 

وفيها: قال أبو مالك: الشِّنْقَاب: طائر ولم يجئ به غيره فإن كان هذا صحيحًا فإن اشتقاقه من الشَّقْب وهو صَدْعٌ ضَيِّق في الجبل والألف والنون زائدتان.

 

وفيها: قال أبو مالك: البُصْم: للْفَوْت بين الخِنْصر والبِنْصر ولم يجئ به غيره.

 

ومن أفراد أبي عبيدة - قال ابن دريد: قال أبو عبيدة: الدَّأْدَاء: ما استوى من الأرض ولم يجئ به غيره وقال: يوم الأرْبِعاء بكسر الباء وزعم قوم أنهم سمعوا الأربَعَاء بفتح الباء وأخبرنا أبو عثمان الأشْنَانْدَاني عن التَّوّزيّ عن أبي عبيدة الأَربُعَاء بالضم وزعم أنهم فصيحة.

 

ومن أفراد أبي زكريا الفراء - قال أبو عبيد في الغريب المصنف: قال الفراء: الثَّأْدَاء والدَّأْثاء: الأَمَة والسَّحَنَاء: الهيئة على فَعلاء بفتح العين ولم أسمع أحدًا يقول ذلك غيرُه والمعروف عندنا بجزم العين.

 

وفي الصحاح المَوْضَع بفتح الضاد لغة في الموضِع سمعها الفراء.

 

وفي شرح المقصورة لابن خالويه: الجَهَام: السَّحاب الذي قد هَرَاق ماءه ومثله الهِفّ والجُِلْب والسَّيّق والصُّرَّاد والنَّجْو والنِّجَاء والجَفْل والزِّعْبَج ذكره الفراء قال أبو عبيد: وأنا أنكر أن يكون الزعبج من كلام العرب والفراء عندي ثقة. انتهى.

 

ومن أفراد الأصمعي - قال فِي الجمهرة قال الأصمعي: سمعتُ العرب تقول: هم يَحْلُبون ويَحلِبون ولم يقل هذا غيرُ الأصمعي وقال: أرض قِرْواح وقِرْياح وقِرْحِيَاء ممدودة: قفراء ملساء قِرْحِياء لم يجئ به غيره.

 

وفي كتاب "ليس" لابن خالويه: لم يقل أحد من أصحاب اللغة قرياح وقِرْحِياء إلا الأصمعي قال في الجمهرة: ويقال: هسَّ الشيء إذا فتَّه وكسره والهسيس مثل الفَتُوت كذا قال الأصمعي وحدَه.

 

وفي الصحاح - قال الأصمعي: ما سَمِعْنا العام قابّة: أي صوت رَعْد. قال ابن السكِّيت: ولم يَرْو هذا الحرفَ أحدٌ غيره والناسُ على خلافه إنما يُقال: ما أصابتنا العام قابّة أي قَطْرة.

 

ومن أفراد أبي حاتم - في الجمهرة: كان أبو حاتم يقول: سمعتُ بعضَ مَنْ أثقُ به يقول: الكَيْكَة: البَيْضَة ولم يسمع من غيره.

 

ومن أفراد أبي عثمان الأشْنانداني: ذبيت شُفَتُه كما يقال ذَبّت بمعنى ذبلت من العَطَش ولم أسمعها من غيره. فإن كان هذا صحيحه منه اشتقاق ذُبْيان.

 

وفيها: يقال مُدْعَنْكر إذا تدرّأ بالسُّوء والفُحْش قال الشاعر:

 

قد ادْعَنْكَرت بالسُّوء والفُحْشِ والأَذى ** أُسَيْمَاء كادْعِنْكار سَيْلٍ على عمرو

 

قال ابن دريد: هذا البيتُ لم يعرفْه البَصريون وزعم أبو عثمان أنه سمعه ببغداد ولا أدري ما صحَّته.

أفراد جماعة

 

قال أبو عليّ القالي في أماليه قال أبو المياس: الفِجْرِم: الجَوْز قال: ولم أجد هذه الكلمة في كتب اللغويين ولا سمعتُها من أحد من أشياخنا غيره.

 

قال: وقال أبو نصر: الكَتيفة: بيضة الحديد ولا أعرف هذه الكلمة عن غيره.

 

قال: قولُ ذي الرمة:

 

ما بالُ عَيْنِك منها الماءُ يَنْسَكِبُ ** كأنه مِن كُلَى مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ

 

قال الأُمَوي: السَّرَب الخُرَز، وهو شاذ لم يَقُلْه أحدٌ غيرُه.

 

وقال أبو بكر بن الأنباري: الطَّخاء: الغيم الكثيف، ولم أسمع ذلك إلا منه، والذي عليه عامة اللغويين أن الطخاء الغيم الذي ليس بكثيف.

 

وفي أمالي ثعلب: قال أبو الحسن الطوسي: إن المشايخ كانوا يقولون: كل ما رأيتَه بعينك فهو عَوَج بالفتح وما لم تر بعينك يقال فيه عِوَج بالكسر وحكى عن أبي عمرو أنه قال في مصدر عَوِج عَوجًا بالفتح ويقال في الدِّين عِوَج وفي العصا والحائط عَوَج إلا أن تقول عَوِج عَوجًا حينئذ نفتح ولم يقل هذا غيرُ أبي عمرو من علمائنا وهو الثِّقة.

 

وفيها: يقال: ثوب شَبَارِق ومُشَبْرَق أي خَلَق وحكى أبو صفوان ثوب شَمَارق بالميم ومُشَمْرق ولم يعرفه أصحابُنا.

 

وفي شرح المقامات لأبي جعفر النحاس: حكى الأَخفش سعيد بن مسعدة: ناقةٌ بِلِزٌ للضخمة ولم يَحْكِه غيره.

 

وفي تهذيب التبريزي يقال: ما أصابتنا العام قطرة وقَابَّة بمعنى واحدة.

 

وقال الأصمعي: ما سمعنا لها العام رعدة وقَابَّة يُذْهب به إلى القَبِيب أي الصوت ولم يَرْوِ أحدٌ هذا الحرفَ غيره والناسُ على خلافه.

 

وفي المحكم: حكى القشيري عن أبي زيد جَنَقُونا بالمَنْجَنيق أي رَمَوْنا به لم أرها لغيره.

 

وفي كتاب العين التَّاسوعاء: اليوم التاسع من المحرّم.

 

وقال أبو بكر الزبيدي في كتاب الاستدراك على العَين: لم أسمع بالتَّاسوعاء وأهلُ العلم مختلفون في عاشوراء فمنهم من قال: إنه اليوم العاشر من المحرّم ومنهم من قال: إنه اليوم التاسع.

 

وقال القالي في كتاب المقصور والممدود قال اللحياني: يقال قعد فلان الأُرْبُعاء والأُبُعَاوى أي مُتَرَبِّعًا وهو نادر لم يأت به أحدٌ غيره.

 

فائدة - قد يُتَابَع المنفرد على روايته فيقوَى قال في الجمهرة: فلان مُزَخْلِبٌ إذا كان يَهْزَأُ بالناس هذا عن أبي مالك وذكر أيضا عن مَكْوَزة الأعرابي.

 

وقال ابن فارس في المُجْمَل: مَقَوْتُ السيفَ جَلَوْته، وكذلك المرآة؛ جاء بهما يونس وأبو الخطاب.

 

--فائدة

 

قال الجوهري في الصحاح: سائرُ الناس جميعُهم.

 

قال ابن الصلاح في مشكلات الوسيط: قال الأزهري في تهذيبه: أهلُ اللغة اتَّفقوا على أن معنى سائر الباقي ولا الْتِفات إلى قول الجوهري فإنه ممَّن لا يُقْبَل ما يَنْفَرِد به. انتهى.

 

وقد انتصر للجوهري بأنه لم ينفرد به، فقد قال الجواليقي في شرح أدب الكتاب: إن سائر الناس بمعنى الجميع، وقال ابن دريد: سائر الناس يقع على مُعْظَمِه وجُلِّه.

 

وقال ابن بري: يدلُّ على صحة قول الجوهري قول مضرّس:

 

فما حسنٌ أن يعذرَ المرءُ نفسَه ** وليس له من سائرِ الناسِ عاذرُ

 

في شواهد أُخَر.

فائدة

 

قال الجوهريُّ أيضا: تقولُ كان ذلك عامَ كذا وهلمَّ جرًّا إلى اليوم ذكر مثلَه الصَّغاني في عُبَابه وكذر ابن الأنباري هلمَّ جرًّا في كتاب الزاهر وبَسط القولَ فيه. قال الشيخ جمال الدين بن هشام في تأليف له: عندي توقّف في كون هذا التركيب عربيًا محضًا لأنَّ أئمةَ اللغةِ المعتمَد عليهم لم يتعرَّضوا له حتى صاحب المُحْكم مع كَثرة استيعابه وتتبّعه وإنما ذكره صاحب الصحاح. وقال الشيخ تقي الدين بن الصلاح في شرح مشكلات الوسيط: إنه لا يقبل ما تفرَّد به وكان علَّة ذلك ما ذكره في أوّل كتابه من أنه يَنْقُل من العرب الذين سمع منهم فإنَّ زمانَه كانت اللغة فيه قد فسدت وأما صاحب العُباب فإنه قلَّد صاحب الصحاح فنسَخ كلامه وأما ابن الأنباريِّ فليس كتابُه موضوعًا لتفسير الألفاظ المسموعة من العرب بل وضْعه أن يتكلم على ما يجري في محاورات الناس ولم يصرّح بأنه عربي هو ولا غيره من النُّحاة. انتهى.

 

وفي المحكم في مصنف ابن أبي شيبة عن جابر بن سمرة أنه ﷺ في جِنَازة ابن الدَّحْدَاح ركب فرسًا وهو يَتَقَوْقَس به [ ونحن حوله]. فسَّرَه أصحابُ الحديث أنه ضَرْبٌ من عَدْوِ الخيل، وبه سمّي المُقَوْقِس صاحبُ مصر. قال: ولم يذكر أحدٌ من أهل اللغة هذه الكلمة فيما انتهى إلينا.

 

==========

النوع السادس

معرفة من تقبل روايته ومن ترد

 

 

 

 

فيه مسائل:

الأولى

 

قال ابن فارس في فقه اللغة: تؤخذ اللغة سَمَاعًا من الرُّوَاة الثقاتِ ذوي الصِّدق والأمانة ويُتَّقَى المظنون فحدثنا علي بن إبراهيم عن المَعْدَاني عن أبيه عن معروف بن حسان عن الليث عن الخليل قال: إن النَّحَارير ربما أَدْخَلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادةَ اللَّبْسِ والتَّعْنيت. قال ابن فارس: فَلْيَتَحَرَّ آخذُ اللغةِ أهل الأمانة والصِّدْق والثِّقة والعَدالة فقد بلغنا من أمر بعض مَشْيَخة بَغْداد ما بَلَغَنا.

 

وقال الكمال بن الأنباري: في لُمَع الأدلّة في أُصول النحو: يُشْتَرط أن يكونَ ناقلُ اللغةِ عَدْلًا رَجلًا كان أو امرأة حرًّا كان أو عبدًا كما يُشْترط في نقل الحديث لأن بها معرفةَ تفسيره وتأويله فاشْتُرِطَ في نقلها ما اشتُرِط في نقله وإن لم تكن في الفضيلة من شكله فإن كان ناقُل اللغة فاسقًا لم يقَبل نقله.

الثانية

 

قال ابن الأنباري: يُقْبل نقْل العَدْل الواحد ولا يُشْترط أن يُوافِقَه غيرُه في النَّقل لأن الموافقة لا يخلو إما أن تُشْترط لحصول العلم أو لغَلبة الظَّن: بطل أن يُقال لِحُصُول العلم لأنه لا يحصلُ العلمُ بنَقْل اثنين فوجب أن يكونَ لغَلَبة الظنّ، وإذا كان لغَلَبة الظنَّ فقد حصلَ غلبةُ الظنّ بخبَرِ الواحد من غير مُوافقة وزعم بعضُهم أنه لا بد من نَقْل اثنين كالشهادة وهذا ليس بصحيح لأن النَّقْل مَبْنَاه على المُسَاهلة بخلاف الشهادة ولهذا يُسْمع من النساءِ على الانفراد مطلقًا ومن العبيد ويُقبل فيه العَنْعَنَة ولا يشترط فيه الدعوى وكلُّ ذلك معدوم في الشهادة فلا يُقاسُ أحدُهما بالآخر. انتهى.

 

ومن أمثلة ما رُويَ في هذا الفنّ عن النساء والعبيد: قال أبو زيد في نوادره: قلت لأعرابية بالعيون ابنة مائة سنة: ما لك لا تأتين أهل الزققة فقالت: إني أَخْزى أن أمشي في الزقاق؛ أي أستحي.

 

وقال أبو زيد: زعموا أن امرأةً قالت لابنتها: احفظي بيتك ممن لا تنشرين؛ أي لا تَعْرِفين.

 

وفي الجهمرة: قال عبد الرحمن عن عمه قال: سمعتُ أعرابيّة تقول لابنتها: همِّمي أصابعك في رأسي؛ أي حرِّكي أصابعك فيه.

 

وفي الجمهرة: المنيئة: الدِّباغ يُدْبغ به الأديم، والنَّفْس: كفٌّ من الدباغ:، قال الأصمعي: جاءت جاريةٌ من العرب إلى قوم منهم فقالت: تقول لكم مولاتي: أعطوني نَفْسًا أو نَفْسَين أمْعَس به مَنيئتي فإني أَفِدَة، أي مُسْتَعجلة.

 

وفيها: قال أبو حاتم: قلتُ لأم الهيثم: ما الوغد فقالت: الضعيف، فقلت: إنك قلت مرة الوغد: العبد، فقالت: ومن أَوغد منه.

 

وفي الغريب المصنف: قال الأصمعي أخبرني أبو عمرو بن العَلاء قال: قال لي ذو الرمة: ما رأيت أفصح من أمَة بني فلان قلت لها: كيف كان مطركم فقالت: غِثْنا ما شِئْنا.

الثالثة

 

قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه: اعْتُمِد في العربية على أشعار العرب وهم كفار لبُعْدِ التَّدليس فيها كما اعتمد في الطب وهو في الأصل مأخوذ عن قوم كفار لذلك. انتهى.

 

ويُؤخذ من هذا أن العربي الذي يُحْتَجُّ بقوله لا يشترط فيه العَدَالة، بخلافِ رَاوي الأشعار واللغات. وكذلك لم يشترطوا في العربي الذي يُحتجّ بقوله البلوغ فأخذوا عن الصبيان.

 

وقال ابن دريد في أماليه: أخبرنا عبدُ الرحمن عن عمّه الأصمعي قال: سمعتُ صِبْية بحِمَى ضَرِيّة يتراجزون فوقفتُ وصدُّوني عن حاجتي وأقبلتُ أكتب ما أسمعُ إذ أقبل شيخٌ فقال: أتكتبُ كلامَ هؤلاء الأقزام الأدناع؟

 

وكذلك لم أرَهم توقوا أشعار المجانين من العرب بل رووها واحتجوا بها، وكتبُ أئمة اللغة مشحونة بالاستشهاد بأشعار قيس بن ذريح مجنون ليلى، لكن قال أبو محمد بن المعلى الأزدي في كتاب الترقيص: أخبرنا أبو حفص قال أخبرنا أبو بكر الثعلبي عن أبي حاتم قال: قال أبو العلاء العماني الحارثي: لرجل يرقّص ابنته:

 

محكوكة العينين معطاء القفا ** كأنما قدت على متن الصفا

 

تمشي على متن شِراك أعْجَفَا ** كأنما تَنشر فيه مُصحفا

 

فقلت لأبي العلاء: ما معنى قول هذا الرجل؟ قال: لا أدري، قلت: إن لنا علماء بالعربية لا يخفى عليهم ذلك، قال: فأْتهم، فأتيت أبا عبيدة فسألته عن ذلك فقال: ما أَطْلَعَني الله على عِلْم الغيب، فلقيتُ الأصمعي فسألتُه عن ذلك فقال: أنا أحسب أن شاعرها لو سئل عنه لم يَدْرِ ما هو، فلقيتُ أبا زيد فسألتهُ عنه فقال: هذا المرقص اسمه المجنون بن جندب وكان مجنونًا ولا يَعْرِف كلامَ المجانين إلا مجنون، أسألتَ عنه أحدا؟ قلت: نعم فلم يعرفه أحدٌ منهم.

الرابعة

 

قال ابن الأنباري: نقل أهل الأهواء مقبول في اللغة وغيرها، إلا أن يكونوا ممن يتدينون بالكذب كالخطابية من الرافضة، وذلك لأن المُبْتدع إذا لم تكن بدعتُه حاملةً له على الكذب فالظاهر صدقه.

الخامسة

 

قال الكمال بن الأنباري: المجهولُ الذي لم يُعْرف ناقله نحوُ أن يقول أبو بكر بن الأنباري: حدثني رجلٌ عن ابن الأعرابي غيرُ مقبول لأن الجهلَ بالناقل يُوجب الجهلَ بالعَدالة وذهب بعضُهم إلى قبوله وهو القائل بقبول المُرسَل قال: لأنه نَقْلٌ صدَر ممن لا يُتَّهم في نَقْله لأن التهمة لو تطرَّقت إلى نَقْله عن المجهول لتطرّقت إلى نَقْله عن المعروف. وهذا ليس بصحيح لأن النقل عن المجهول لم يصرَّح فيه باسم الناقل فلم يمكن الوقوفُ على حقيقة حَاله بخلاف ما إذا صُرّح باسم الناقل. فَبان بهذا أنه لا يلزم من قبول المعروف قبولُ المجهول هذا كلامُ ابن الأنباري في اللُّمع. وذكر في الإنصاف أنه لا يحتجّ بشعر لا يُعرَف قائلُه يعني خوفًا من أن يكون لمولّد فإنه أورد احتجاج الكوفيين على ذلك.

 

وذكر ابن هشام في تعليقه على الألفية مثله، فإنه أورد الشعر الذي استدل به الكوفيون على جواز مد المقصور للضرورة وهو قوله:

 

قد علمت أخت بني السِّعْلاء ** وعلمت ذاك مع الجزاء

 

أن نعم مأكول على الخَوَاءِ ** يا لَك من تَمْرٍ ومن شِيشَاءِ

 

يَنْشَبُ في المَسْعَل واللَّهَاءِ

 

وقال: الجواب عندنا أنه لا يُعلَم قائله فلا حجّة فيه؛ لكن ذكر في شرح الشواهد ما يُخَالفه فإنه قال: طعن عبد الواحد الطرّاح صاحب كتاب بغية الآمل في الاستشهاد بقوله: لا تكثرن إني عسِيتُ صائما وقال: هو بيتٌ مجهول لم يَنسبْه الشرَّاح إلى أحد فسقط الاحتجاج به.

 

قال ابن هشام: ولو صحَّ ما قاله لسقَطَ الاحتجاج بخمسين بيتًا من كتاب سيبويه فإن فيه ألف بيت قد عُرِف قائلوها، وخمسين مجهولة القائلين.

 

ومن أمثلة المجهولِ ناقله: قال أبو علي القالي في أماليه: أخبرَنا بعض أصحابنا عن أحمد بن يحيى أنه قال: حكي لنا عن الأصمعي أنه قيل له: إن أبا عبيدة يحكي وَقَع في رُوعي ووقع في جَخِيفي فقال: أما الرُّوع فنعم وأما الجَخيف فلا.

السادسة

 

التعديل على الإبهام: نحو أخبرني الثقةُ هل يُقبل فيه خلاف بين العلماء وقد استعمل ذلك سيبويه كثيرا في كتابه يَعني به الخليل وغيره وذكر المرْزُباني عن أبي زيد قال: كلُّ ما قال سيبويه في كتابه أخبرني الثقة فأنا أخبرته.

 

وذكر أبو الطيّب اللغوي في كتاب مراتب النحويين: قال أبو حاتم عن أبي زيد: كان سيبويه يأتي مَجْلسي وله ذُؤَابتان فإذا سمعته يقول: وحدثني مَن أثقُ بعربيته فإنما يريدُني.

 

وقال ثعلب في أماليه: كان يونس يقول: حدثني الثقة عن العرب، فقيل له: من الثقة؟ قال: أبو زيد، قيل له: فلم لا تسميه؟ قال: هو حي بعدُ فأنا لا أسميه.

السابعة

 

إذا قال: أخبرني فلان وفلان وهما عدلان احتج به؛ فإن جهل عدالة أحدهما أو قال فلان أو غيره لم يحتجّ.

 

مثال ذلك قال في الجمهرة: قال الأصمعي قال ابن دريد أحسبه يرويه عن يونس قال: سألتُ بعضَ العرب عن السَّبَخَة النَّشَّاشة فوصفَها لي ثم ظنَّ أني لم أفهم فقال: التي لا يجفّ ثراها ولا يَنْبُتُ مَرْعاها.

 

وقال في موضع آخرَ: أحسبه عن أبي مَهْدِيّة أو عن يونس وقال: أنشد الأصمعي عن أبي عمرو أو عن يونس:

 

عَدَانِي أن أزورَكِ أمَّ بَكْر ** دَيَاوِينٌ تَشَقَّقُ بالمِدَاد

 

يريد تشقيق الكلام، والدياوين جمع ديوان في لغة، وجمعوا على هذه اللغة ديباجًا على ديابيج.

 

وقال أبو علي القالي في أماليه: أنشدنا أبو بكر بن دريد قال أنشدنا أبو حاتم أو عبد الرحمن عن الأصمعي - الشك من أبي علي:

 

اقْرَأ على الوَشَل السَّلامَ وقُل له: ** كلُّ المَشَاربِ مُذْ هَجِرتَ ذَمِيمُ

 

سَقْيًا لِظلِّك بالعَشِيّ وبالضُّحَى ** ولِبَرْدِ مائكَ والمِيَاهُ حَمِيم

فرع

 

إذا سُئل العربي أو الشيخ عن معنى لفظٍ فأجاب بالفعل لا بالقول يكفي. قال في الجمهرة: ذكر الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: سألتُ ذا الرمة عن النَّضْنَاض فلم يزدني على أن حرّك لسانه في فيه. انتهى. قال ابن دريد يقال: نَضنَضَ الحيةُ [1] لسانه في فيه إذا حرَّكه وبه سمى الحية نَضْنَاضًا.

 

وقال الزجاجي في شرح أدب الكاتب: سُئل رُؤْبَة عن الشَّنَبِ فأراهم حبَّة رُمّان.

 

وقال القالي في أماليه: سُئل الأصمعي عن العارِضَين من اللحية، فوضَع يدَه على ما فوق العوارض من الأسنان.

 

 

هامش

الحية تذكر وتؤنث.

 

==========

النوع السابع

معرفة طرق الأخذ والتحمل

 

 

 

 

هي ستة:

 

أحدها - السماع من لفظ الشيخ أو العربي.

 

قال ابن فارس: تُؤْخَذ اللغة اعتيادًا كالصبيّ العربي يَسْمَعُ أبَوَيه وغيرَهما فهو يأخذُ اللغة عنهم على ممرِّ الأوقات، وتُؤْخَذ تَلَقُّنًا من مُلَقِّن، وتُؤْخذ سَماعًا من الرُّواة الثِّقَاتِ؛ وللمُتَحَمِّل بهذه الطرق عند الأداء والراوية صِيَغ: أَعْلاها أن يقولَ أَمْلَى عليّ فلانٌ أو أَمَلّ على فلان.

 

قال أبو علي القالي في أماليه: أَمْلى علينا أبو بكر بن دريد قال أنشدنا أبو حاتم عن أبي عبيدة لِخِرْنق بنت هَفَّان تَرْثي زوجَها عمرو بن مَرْثد وابنَها عَلْقَمَة بن عمرو وأخويه حَسَّانًا وشُرَحْبيل:

 

لا يَبْعَدَنْ قومي الذين همُ ** سمُّ العُداة وآفَةُ الجُزر

 

النازلون بكل مُعْتَرَك ** والطيِّبون مَعَاقِد الأُزر

 

قال: وأمْلى علينا أبو العهد صاحب الزجاج قال: أنشدنا أبو خليفة الفضل بن الحُباب الجُمَحي قال: أنشدنا أبو عثمان المازني للفرزدق:

 

لا خيرَ في حُبّ من تُرْجَى نَوَافِلُه ** فاسْتَمْطِرُوا من قريش كلَّ مُنْخَدِع

 

تَخَال فيه إذا ما جئته بَلَهًا ** في ماله وهْو وَافي العَقْلِ والوَرَع

 

قال القالي: أولُ كلمة سمعتها من أبي بكر بن دريد دخلتُ عليه وهو يُملي على الناس: العربُ تقول: هذا أَعْلَق من هذا أي أمرّ منه وأنشدنا:

 

نَهارُ شَراحيلَ بن طَوْدٍ يَرِيبني ** ولَيْلُ أبي لَيْلَى أَمَرُّ وأَعْلَقُ

 

أي أشدُّ مرارة.

 

ويلي ذلك سمعت: قال ثعلب في أماليه: حدثنا مَسلمة قال سمعت الفراء يحكي عن الكِسَائي أنه سمع اسْقِني شَرْبَة ما يا هذا يريد شربة ماء فقصر وأخْرجه على لفظ من التي للاستفهام وهذا إذا مضى فإذا وقف قال: شربة ماء.

 

وقال أبو حاتم سمع أبا زيد مائة مرة أو أكثر يقول: بَصَّصَ الجِر وبالياء إذا فتح عينيه، كذا في نوادر أبي زيد.

 

قال القالي: حدثني أبو بكر بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال سمعت أم الهيثم تقول: شِيرَة وأنشدَتْ:

 

إذا لم يكن فيكُنَّ ظِلٌّ ولا جَنًى ** فأبْعَدَكُنَّ الله من شِيرَاتِ

 

فقلتُ: يا أمَّ الهيثم صغِّريها. فقالت: شُيَيْرة.

 

وقال القالي حدثنا أبو بكر بن دريد حدثنا عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال: سمعتُ أعرابيًا يدعو لرجل فقال: جنَّبك الله الأمَرَّين وكفاك شرَّ الأجوفين وأذاقك البردين. قال القالي: الأمَرَّان: الفَقْر والعُري، والأجوفان: البَطْن والفرج، والبردان: برد الغنى وبرد العافية.

 

وقال القالي: حدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: سمعتُ أعرابيًّا من غَنِّيٍ يذكر مطرًا صاب بلادَهم في غِبِّ جَدْب فقال: تَدَارَكَ رَبُّكَ خَلْقَه وقد كَلِبت الأَمْحَال وَتَقَاصَرَت الآمال وَعَكَفَ اليَاس وكُظِمَت الأَنفاس وأصبحَ الماشي مُصْرِمًا والمُتْرب مُعْدِمًا وجُفِيت الحَلائِل وامْتُهنَت العقَائل فأَنْشَأَ سحابًا رُكامًا كَنْهورًا سَجَّامًا بُرُوقُه متألِّقَةٌ ورُعُوده مُتَقَعْقِعَة فَسَحَّ سَاجيًا راكِدًا ثلاثًا غير ذي فُواق ثم أمَرَ ربُّكَ الشَّمَالَ فَطَحَرَت رُكامه وفَرَّقَتْ جَهَامه فَانْقَشَع محمودًا وقد أَحْيَا وأَغْنى وجادَ فأَرْوى فالحمدُ لله الذي لا تُكَتُّ نِعَمه ولا نَنْفَدُ قِسَمُه ولا يَخِيبُ سَائِلُه ولا يَنْزُر نَائِله.

 

صاب: جاد. كَلِبت: اشتدَّت. كُظِمَتْ: رُدَّتْ إلى الأجواف. الماشي: صاحبُ الماشية. مُصْرمًا: مُقِلًّا. المُتْربُ: الغَنيُّ الذي له مالٌ مثل التراب. امْتُهِنَتْ: استُخْدِمت. العقَائل: الكرائم. الكَنَهْوَر: القِطَع كأنها الجبال واحدتها كَنَهْوَرة. سجَّام: صبَّاب. متألقة: لامِعَة. سحَّ: صبَّ. ساجيًا: ساكنًا. طَحَرَت: اذْهَبَتْ. الرُّكام: ما تَرَاكم منه. الجَهَام: السحاب الذي هَرَاق ماءه. تُكَتُّ: تُحصَى. يَنْزُزُ: بَقلُّ

 

ويلي ذلك أن يقول: حدثني فلان وحدثنا فلان ويستحسن حدثني إذا حدث وهو وحده، وحدثنا إذا حدث وهو مع غيره.

 

وقال ثعلب في أماليه: حدثنا ابن الأعرابي قال حدثني شيخٌ عن محمد بن سعيد الأمويّ عن عبد الملك بن عمير قال: كنتُ عند الحجّاج بن يوسف فقال لرجل من أهل الشأم: هل أصابك مطرٌ قال نعم أصابني مطر أسَال الآكام وأدْحض التلاع وخرق الرَّجْع فجئتك في مثل مَجَرِّ الضَّبع.

 

ثم سأل رجلًا من أهل الحجاز: هل أصابك مطر قال: نعم سقتني الأَسْمِية فغيبت الشِّفَار وأُطْفئت النار وتَشَكَّت النساء وتظالمت المِعْزى واحتلبت الدَّرَّة بالجرّة.

 

ثم سأل رجلًا من أهل فارس فقال: نعم ولا أحسِنُ كما قال هؤلاء، إلا أني لم أزل في ماءٍ وطين حتى وصلت إليك.

 

وقال حدثني أبو بكر الأنباري عن أبي العباس عن ابن الأعرابي قال: يقال: لَحَن الرجل يَلْحَن لَحْنًا فهو لاحِن: إذا أَخْطَأَ، ولَحِنَ يَلْحَن لَحَنًا فهو لَحِن: أصاب وفطن.

 

وقال ثعلب في أماليه: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب حدثنا أبو العالية قال: قلت للغنوي: ما كان لك بنَجْد قال: ساحات فِيح وعين هُزَاهِز واسعة مُرْتَكَض المحبر قلت: فما أَخْرَجَك عنها قال: إن بني عامر جعلوني على حِنْدِيرة أعينهم يريدون أن يحفظوا دَمِيَّةْ أي يقتلوني سرًا.

 

وقال: حدثنا عمر بن شيبة حدثنا إبراهيم حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت حدثنا محمد بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أول مَن قال: أما بعد كعب بن لؤي وهو أول مَن سمَّى يوم الجُمُعة الجمعة وكان يقال له العَرُوبة.

 

وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدثنا الحسن بن عُلَيل العَنزي قال حدثني مسعود بن بِشْر عن وهب بن جرير عن الوليد بن يسارٍ الخزاعي قال: قال عمرو بن معد يكرِب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين أأَبْرَامٌ بنو مَخْزُوم قال: وما ذاك قال: تضيَّفْتُ خالد بن الوليد فأتى بقَوْسِ وثَوْرٍ وكَعْبٍ. قال: إن في ذلك لَشَبْعَة. قلت: لِيَ أو لَكَ قال: لي ولك قال: حِلًّا يا أمير المؤمنين فيما تَقُول وإني لآكُلُ الجَذَع عن الإبل أَنْتَقِيه عَظْمًا عظمًا وأشرب التِّبْن من اللبن رثيئة وصَريفًا.

 

قال القالي: القَوْس: البقيَّة من التمر تبقى في الجُلَّة والثَّوْر: القطعة [ العظيمة ] من الأقِط والكَعْب: القطعة من السمن والعرب تقول: حلًّا في الأمر تَكْرَهُه بمعنى كَلّا والتِّبْن: أعظمُ الأقداح.

 

وقال القالي حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدثني أبي عن أحمد بن عبيد أنه قال: أحجم المرء عن الأمر، وأحجم إذا أقدم.

 

وقال القالي: حدثني أبو عمر الزاهد حدثنا أبو العباس ثعلب عن ابن الأعرابي: قال: العرب تقول ماء قَرَاح وخبَز قَفَار لا أدم معه وسويق جافّ وهو الذي لم يلَتّ بسمن ولا زيت وحنظل مُبَسَّل وهو أن يُؤكَل وحدَه.

 

وقال: حدثني غيرُ واحدٍ عن أصحاب أبي العباس ثعلب عنه أنه قال: كلُّ شيء يعزُّ حين ينزر إلا العلم فإنه يعزُّ حين يغزر.

 

وقال القالي: حدثنا أبو بكر بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن رواية كثير قال: كنت مع جرير وهو يريد الشأم [ فطرب ] فقال: أنشدني لأخي [ بني ] مُلَيح - يعني كثيرا - فأنشدتُه حتى انتهيت إلى قولهِ:

 

وأَدْنَيْتِني حتى إذا ما اسْتَبَيْتني ** بقولٍ يُحِلُّ العُصْمَ سَهْلَ الأَباطحِ

 

تولَّيْتِ عني حين لا لِيَ مَذْهَبٌ ** وغادرتِ ما غادَرْتِ بين الجوانِح

 

فقال: لولا أنه لا يَحْسن لشيخ مثلي النَّخِير لَنَخَرْتُ حتى يَسْمَع هشامٌ على سريره.

 

ويلي ذلك أخبرني فلان وأخبرنا فلان، ويُستحسن الإفراد حالَة الإفراد، والجمع حالة الجمع كما تقدم.

 

قال ثعلب في أماليه: أخبرنا أبو المنهال قال أخبرنا أبو زيد قال: السانح الذي يليك مَيَامِنه إذا مرَّ من طير أو ظبيٍ أو غيره والبَارِح الذي يليك مَيَاسِره إذا مرَّ بك وإن استقبلك فهو ناطِح وإن استدبرك استدبارًا فهو قَعِيد وإمرَّ مُعْتَرضًا قريبًا فهو الذابح وأنشد للخطيم:

 

بَرِيحًا وشرُّ الطيْر ما كان بارحًا ** بشَؤمِي يديه والشَّواحج بالفجر

 

يريد وشرها الشواحج بالفجر يريد الغِرْبان وقال في مصارد هذه الجواري وهي تمر به فيزجرها وكلها عندهم طائر في موضع الزجر وإن كان ظبيًا أو غيره: سَنَح يسْنَح سُنوحًا وسَنْحًا وبَرَح يبرُح بروحًا وبرحًا ونطح ينطح نَطْحًا وقَعِد الطائر مكسورة العين يقعد قعْدًا وذبح يذبح ذبحًا قال أبو زيد: وإنما قال الحظيم: بَرِيحًا على لَفْظِ سنيح وذبيح وقَعِيد.

 

ويلي ذلك أن يقول: قال لي فلان.

 

قال ثعلب في أماليه: قال لي يعقوب: قال لي ابن الكلبي: بيوتُ العرب ستةٌ: قُبَّة من أَدَمَ ومِظلَّة من شعر وخباءٌ من صوف وبجَادَ من وَبَر وخَيْمَة من شَجَر وأُقْنة من حجر.

 

ويلي ذلك أن يقول: قال فلان، بدون لي.

 

قال ثعلب في أماليه: قال أبو المنهال: قال أبو زيد: لستُ أقولُ: قالت العربُ إلا إذا سمعتُه من هؤلاء: بكر بن هوازن وبني كلاب وبني هلال أو من عالية السافلة أو سافلة العالية، وإلا لم أقل: قالت العرب.

 

قال: وعرضتُ قوله على الأخفش صاحب الخليل وسيبويه في النحو فجعل يقول: قال يونس: حدثني الثقة عن العرب، قلت له: من الثقة؟ قال: أبو زيد، فقلت له: فما لك لا تسميه قال: هو حي بعدُ فأنا لا أسميه.

 

وقال ثعلب: قال أبو نصر: قال الأصمعي: أشدُّ الناس الأعجف الضَّخم وأخبثُ الأفاعي أفاعي الجَدْب وأخبث الحيّات حيات الرِّمْت وأشد المواطئ الحصى على الصَّفا وأخبث الذئاب ذِئاب الغَضَى.

 

وقال القالي: حدثنا أبو محمد قال: قرأت على عليّ بن المهدي عن الزجاج عن الليث قال: قال الحليل: الجُعْسُوس: القبيح الئيم الخُلُق والخَلْق.

 

ونحو ذلك أو مثله أن يقول زعم فلان.

 

قال القالي في أماليه: قرأت على أبي عمر المطرّز حدثنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال: زعم الثقفي عثمان بن حفص أن خلفا الأحمر أخبره عن مروان بن أبي حفصة أن هذا الشعر لابن الدمينة الثقفي:

 

ما بَالُ من أَسْعَى لأجْبُرَ عَظْمَه ** حِفَاظًا ويَنْوي من سَفَاهَتِه كَسري

 

الأبيات...

 

وقال ثعلب في أماليه: حدثنا عمر بن شيبة حدثني محمد بن سلّام قال زعم يونس بن حبيب النحوي قال: صنع رجلٌ لأعرابي ثَرِيدة ثم قال له: لا تسقعها ولا تشرمها ولا تَقْعرها قال: فمن أين آكل لا أبالك قال ثعلب: تصقعها: تأكلُ من أعلاها وتَشْرمها: تخرقها وتَقْعرها تأكلُ من أسفلها قال ثعلب: وفي غير هذا الحديث: فمن أين آكل قال: كلْ من جَوانبها.

 

قال القالي: أخبرنا الغالبي عن أبي الحسن بن كيسان عن أبي العباس أحمد ابن يحيى قال: زعم الأصمعي أن الغَرْز لغة أهل البحرين وأن الغَرَز بالفتح اللغة العليا.

 

ويلي ذلك أن يقول عن فلان.

 

قال ثعلب في أماليه: قال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: قاتل الله أَمَّة بني فلان، سألتها عن المطر فقالت: غِثْنا ما شئنا.

 

وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر بن دريد حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: لقيتُ أعرابيًّا بمكة فقلت: مِمَّنْ أنت قال: أسدي. قلت: ومِن أيّهم قال نمري، قلت: من أيِّ البلاد قال: مِن عمان، قلت: فأنى لك هذه الفصاحة قال: إنَّا سكَنَّا أرضًا لا نَسْمَعُ فيها ناجخة التَّيار قلت: صِفْ لي أرضَك قال: سِيفٌ أفيح وفضاء ضَحْضَحْ وجَبل صَرْدَح ورمل أَصْبَح قلت: فما مالُك قال: النخل قلت: فأينَ أنتَ من الإبل قال: إن النَّخل حِمْلُها غذاء وسَعفها ضياء وجِذْعها بناء وكَرَبها صلاء وليفها رِشاء وخوصها وِعاء. قال القالي: الناجخة: الصوت والتيار: الموج والسِّيف: شاطئ البحر. وأفيح: واسع والفضاء الواسع من الأرض والضَّحْضَح: الصحراء والصَّرْدح: الصلب والأصبح: الذي يعلو بياضه حُمرة والرشاء: الحبل والقَرْو: وعاء من جذع النخل ينبذ فيه.

 

ومثل عن إن فلانا قال.

 

قال القالي في أماليه: حدثني أبو عمر الزاهد عن أبي العباس - يعني ثعلبًا - عن ابن الأعرابي أن غُلَيِّمًا من بني دُبَيْر أنشده:

 

يا بنَ الكِرام حَسَبًا ونَائلا ** حَقًّا ولا أقولُ ذاك باطلا

 

إليك أشكو الدَّهْرَ والزَّلازلا ** وكلَّ عامٍ نَقَّحَ الحَمَائلا

 

قال القالي: التنقيح: القَشر. قال: قشروا حمائلَ السيوف فباعوها لشدَّة زمانهم.

 

وقال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري رحمه الله أن أبا عثمان أنشدهم من التَّوَّزيَّ عن أبي عبيدة لأِعرابيٍّ طلَّق امرأته ثم ندم فقال:

 

نَدِمْتُ وما تُغْنِي الندامةُ بَعْدَما ** خرجنَ ثلاثٌ ما لهنَّ رُجُوع

 

ثلاث يُحَرِّمْنَ الحلال على الفتى ** ويَصْدَ عْنَ شَمْلَ الدار وهو جَمِيعُ

 

ومن غريب الرواية ما ذكره أبو العباس ثعلب في أماليه قال: الذي أحقه عن عبد الله بن شبيب أكثر وهمي، قال أخبرنا الزبير بن بكار عن يعقوب بن محمد عن إسحاق بن عبد الله قال: بينما امرأةٌ تَرْمي حَصَى الجِمار إذ جاءت حصاة فصكَّت يدها فَوَلْوَلَتْ وأَلْقَت الحصى، فقال لها عمر بن أبي ربيعة: تَعُودين صاغرة فتأخذين الحصى، فقالت: أنا والله يا عمر:

 

من اللاءِ لم يحججنَ يبْغِين حِسْبة ** ولكن لِيَقْتُلْنَ البريءَ المغَفَّلا

 

فقال: صانَ الله هذا الوجه عن النار.

 

ويقال في الشعر أنشدنا وأنشدني على ما تقدم.

 

قال القالي في أماليه: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري رحمه الله قال: أنشدنا أبو العباس بن مروان الخطيب لخالد الكاتب قال: وسمعت شعر خالد من خالد:

 

رَاعَى النجومَ فقد كادت تُكَلِّمُه ** وانْهَلَّ بَعْدَ دُموعٍ يَا لَهَا دَمُهُ

 

أَشْفَى عَلَى سَقَمٍ يُشْفَي الرَّقيبُ به لالو كان أَسْقَمَه مَنْ كان يَرْحَمُهُ

 

يَا مَنْ تَجَاهَلَ عَمَّا كَانَ يَعْلَمُهُ ** عَمْدًا وباحَ بِسِرٍّ كان يَكْتُمُهُ

 

هذا خَلِيلُك نِضْوًا لا حراكَ بهِ ** لم يَبْقَ من جسمه إلا تَوَهُّمُه

 

قال القالي: أنشدنا أبو بكر بن دريد قال أنشدني عبد الرحمن عن عمه [ الأصمعي ] قال أنشدتني عِشْرقَةُ المحاربية - وهي عجوز حَيْزَبون زَوْلَةٌ:

 

فما لَبسَ العُشَّاق من حُلَل الهَوَى ** ولا خَلَعُوا إلا الثِّيَابَ التي أُبْلي

 

ولا شربوا كأسا من الحب مُرّةً ** ولا حُلوةً إلا شرابُهم فَضلِي

 

جَرَيْتُ مع العُشَّاقِ في حَلْبَةِ الهَوَى ** فَفُقْتُهُمُ سَبْقًا وجئتُ على رِسْلِي

 

وقال القالي وأنشدني أبو عمرو [ الزاهد ] عن أبي العباس عن ابن الأعرابي:

 

لقد عَلِمَتْ سَمْراءُ أنَّ حديثَهَا ** نَجِيعٌ كما ماءُ السماءِ نَجِيعُ

 

إذا أمَرَتْني العَاذِلات بَصَرْمها ** أَبَتْ كَبِدٌ عما يَقُلْنَ صَدِيع

 

وكيف أُطِيعُ العاذِلاتِ وحُبُّها ** يُؤرِّقني والعاذِلاتُ هُجوع

 

قال القالي: أنشد ابن الأعرابي البيتين الأولين وأنشدنا أبو بكر بالإسناد الذي تقدم عن الأصمعي عن عشرقة البيت الثاني والثالث.

 

وقال ثعلب في أماليه: أنشدنا عبد الله بن شبيب قال: أنشدني ابن عائشة لأبي عبيد الله بن زياد الحارثي:

 

لا يَبْلُغُ المجدَ أقوامٌ وإن كَرُموا ** حتى يَذِلُّوا وإن عَزُّوا لأقوام

 

ويُشْتَمُوا فَترَى الألْوَانَ مُسْفِرَةً ** لا عَفْوَ ذلٍّ ولكن عَفْوَ أَحْلامَ

 

وقال الزجاجي في شرح أدب الكاتب: أنشدنا أبو بكر بن دريد: قال أنشدنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه، قال أنشدني أعرابي من بني تميم ثم من بني حنظلة لنفسه:

 

مَنْ تصدَّى لأخيه بالغِنى فهو أخُوه

 

يكرم المرء وإن أم لق أقْصَاه بَنُوه

 

لو رأى الناسُ نبيًا سائلًا ما وصَلُوه

 

وهم لو طمعوا في زَادِ كَلْب أكلوه

 

لا تراني آخرَ الدَّهْرِ بتسآل أفُوه

 

إن من يَسأل سوى الرحمن يكْثر حارمُوه

 

والذي قام بأرْزا قِ الورى طرًّا سلُوه

 

وعن الناس بفضل الله فاغنوا واحْمَدوه

 

تلْبَسوا أثوابَ عزّ فاسْمَعُوا قولي وَعُوه

 

أنتَ ما اسْتَغْنَيتَ عن صا حِبَك الدَّهْرَ أخوه

 

فإذا احتجتَ إليه ساعة مجَّك فُوه

 

اهْنأ المعروف ما لم تُبْتَذَلْ فيه الوُجُوه

 

إنما يَصْطَنِع المع روفَ في الناس ذَوُوه

 

وقد يستعمل في الشعر "حدثنا" و"سمعت" ونحوهما.

 

قال القالي: حدثنا أبو عبد الله [ إبراهيم بن محمد الأزدي المعروف بنفطويه ] قال: حدثنا أحمد بن يحيى: قال حدثنا عبد الله بن شبيب عن ابن مِقَمَّة عن أمه قالت: سمعتُ مَعْبدًا بالأخْشَبَيْن وهو يُغَنِّي:

 

ليس بين الحياةِ والموتِ إلا ** أن يَرُدُّوا جِمَالَهُمْ فَتُزَمّا

 

ولقد قلتُ مُخْفِيًا لِغَرِيضٍ: ** هل ترى ذلك الغَزالَ الأجَمَّا

 

هل تَرى فوقَه من الناس شخصا ** أحسنَ اليومَ صورةً وأتَمّا

 

إن تُنيلي أعِشْ بخيرٍ وإن لم ** تَبْدُ لِي الوُدَّ مُتُّ بالهمِّ غَمَّا

 

ثانيها - القراءة على الشيخ. ويقول عند الرواية: قرأت على فلان.

 

قال القالي في أماليه: قرأت على أبي بكر محمد بن أبي الأزهر قال: حدثني حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: حدثني أبي قال: قيل لعَقِيل بن عُلّفة وأراد سفرًا أين غَيْرتك على مَنْ تُخَلِّف مِنْ أهلك قال: أُخَلِّف معهم الحافِظِين: الجوعَ والعُرْيَ، أُجيعُهنَّ فلا يَمْرَحْن وأُعْرِيهن فلا يبْرَحن.

 

وقال: قرأت على أبي بكر محمد بن أبي الأزهر وقال حدثنا الشونيزي قال: حدثنا محمد بن الحسن المخزومي عن رجل من الأنصار نسي اسمَه قال: جاء حسان بن ثابت إلى النابغة فوجدَ الخنساءَ حين قامت من عنده فأنشد قوله:

 

أولاد جَفْنة حَولَ قبر أبيهم ** قبر ابن مارية الكريم المُفْضِل

 

يَسْقُونَ مَنْ ورَدَ البَريصَ عليهم ** بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ

 

يُغْشَوْن حتى لا تَهِرُّ كِلابهم ** لا يسألون عن السَّواد المُقْبلِ

 

الأبيات... فقال: إنك لشاعر وإن أُختَ بني سليم لَبَكَّاءَةٌ.

 

وقال القالي قرأت على أبي عمر الزاهد قال: حدثنا أبو العباس ثعلب عن ابن الأعرابي قال: الطاية والتاية والغاية والرَّاية والآية؛ فالطايةُ: السَّطْحُ الذي ينام عليه. والتَّاية: أن تَجْمَعَ بين رؤوس ثلاث شجرات أو شجرتين فَتُلْقى عليها ثوبًا فيستظلُّ به. والغاية: أقصى الشيء وتكون من الطير التي تُغَيي على رأسك أي ترفرف. والآية: العلامة.

 

وقال القالي: قرأت على أبي عمر الزاهد: قال حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال يقال: علَّ في المرض يَعِلُّ أي اعتلَّ وعلَّ في الشراب يَعِلُّ وَيعُلّ عَلًّا.

 

وقال القالي قرأت على أبي بكر بن دريد قال: قرأت على أبي حاتم والرياشي عن أبي زيد قال راجز من قيس:

 

بئس الغِدَاءُ للغلام الشاحبِ ** كَبْدَاء حُطَّتْ من صَفا الكَواكبِ

 

أدارها النَّقَّاش كلَّ جانبِ ** حتى اسْتَوَتْ مُشْرِقة المَناكب

 

يعني رحًى.

 

قال: وقرأت على أبي عمر عن أبي العباس عن ابن الأعرابي في صفة البعوض:

 

مِثْلُ السَّفاةِ دائمٌ طَنِينها ** رُكِّبَ في خُرْطُومها سِكِّينها

 

ويستعمل في ذلك أخبرنا.

 

رأيت القالي في أماليه يذكر في الرواية عن ابن دريد حدثنا، لأنه أخذ عنه إملاء، ويذكر عن أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش تارة أمْلى عليَّ فيما سمعه إملاءً عليه، وتارة أخبرنا فيما قرأه عليه وتارة قرئ عليه وأنا أسمع وقد يستعمل فيه حدثنا.

 

قال الترميسي في نكت الحماسة: حدثنا أبو العباس محمد بن العباس بن أحمد بن الفرات قراءة عليه: قال قرأت على أبي الخطاب العباس بن أحمد حدثنا أبو أحمد محمد بن موسى بن حماد اليزيدي: أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة أنبأنا عمر بن محمد بن عبد الرزاق بن الأقيصر قال: كان هريم بن مِرْداس أخو عباس بن مِرْداس يجاور إلى خراعة فذكر قصة وشعرًا.

فرع

 

ويجوز في القراءة والتَّحْديث تقديمُ المَتْن أو بعضِه على السَّند.

 

قال القالي في أماليه: قرأت على أبي عبد الله نِفْطَوَيه قال عثمان بن إبراهيم الخاطبي - فقال لي بعد أن قرأتُ قطعةً من الخبرَ فتبَيَّنه: حدثنا بها الخبر أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكَّار قال حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن عثمان بن إبراهيم الخاطبي قال: أتيت عمر بن أبي ربيعة فذَكر قِصَّةً طويلة وشعرًا وأشعارًا وقد كانت الأئمةُ قديمًا يتصدَّوْن لقراءة أشعار العربِ.

 

أخرج الخطيب البغدادي عن ابن عبد الحكم قال: كان أصحاب الأدَب يأتون الشافعي فيقرؤون عليه الشعرَ فيفسره وكان يحفظ عشرةَ آلاف بيت من شعرِ هُذَيل بإعرابها وغَرِيبها ومَعَانيها.

 

وقال السَّاجي: سمعتُ جعفر بن محمد الخوارزمي يحدِّث عن أبي عثمان المازني عن الأصمعي قال: قرأتُ شعرَ الشَّنفَرى عن الشافعي بمكة.

 

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال: قلت لعمِّي: عَلَى مَنْ قرأتَ شِعْرَ هُذَيل قال: على رَجُلٍ من آلِ المطلب يقال له ابن إدْريس.

 

وقال ابن دريد في أماليه: أخبرنا أبو حاتم قال: جئت أبا عُبَيدة يومًا ومعي شعرُ عُرْوة بن الوَرْد فقال لي: ما مَعَك فقلت: شعر عروة. فقال: فارغٌ حَملَ شِعْر فقير ليقرأه على فَقِير.

 

وقال القالي: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: جلس كاملٌ المَوْصِليّ في المسجد الجامع يُقْرِئ الشعر فصَعِد مَخْلَدٌ الموصلي المنارَة وصَاح:

 

تأهّبوا للحَدَثِ النَّازلِ ** قد قُرِئ الشِّعْرُ على كامِل.

 

... في أبيات أُخر.

 

ثالثها - السماع على الشيخ بقراءة غيره. ويقول عند الرواية: قُرئ على فلان وأنا أسمع.

 

قال القالي: قرأتُ على أبي بكر بن الأنباري في كتابه وقرئ عليه في المعاني الكبير ليعقوب بن السكّيت وأنا أسمع فذكر أبياتًا وقال أنشدني أبو بكر بنُ الأنباري قال: قُرِئ على أبي العباس [ أحمد بن يحيى ] لأبي حيّةَ النُّمَيْرِي وأنا أسْمع:

 

وخَبَّرَكِ الوَاشُون أن لَنْ أُحبَّكم ** بَلَى وسُتُورِ اللهِ ذَاتِ المَحَارمِ

 

الأبيات.

 

وقال القالي: قُرِئ على أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش وأنا أسمع وذكر أنه قرأ جميعَ ما جاء عن أبي مُحَلِّم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين فذكر أبو جعفر أنه سَمِع ذلك مع أبيه من أبي محلّم قال أنشدني أبو محلم لخِنَّوْص أحد بني سعد:

 

ألا عائذٌ بالله من سَرَفِ الغِنَى ** ومن رَغبْة يومًا إلى غير مَرْغَب.

 

الأبيات.

 

وبهذا الإسناد عن أبي محلّم قال: أنشدني مَكْوَزَة وأبو مَحْضَة وجماعة من ربيعة لسَيَّار بن هُبَيرة يُعَاتب خالدًا أو زيادًا أخويه ويمدح أخاه مُنَخِّلًا:

 

تَنَاس هَوى أسماء إما نَأيْتَها ** وكيف تَناسِيك الذي لَسْت نَاسِيا.

 

القصيدة بطولها.

 

ويستعمل في ذلك أيضا أخبرنا قراءة عليه وأنا أسمع وأخبرني فيما قرئ عليه وأنا أسمع، وقد يستعمل في ذلك حدثنا.

 

رأيت الترميسي في شرح نكت الحماسة يقول: حدثنا فلان فيما قُرئ عليه وأنا أسمع والترميسي هذا متقدمٌ أخذَ عن أبي سعيد السِّيرافي وأبي أحمد العسكري وطبقتهما.

 

رابعًا - الإجازة وذلك في رواية الكتب والأشعار المدونة.

 

قال ابن الأنباري: الصحيحُ جوازُها لأن النبيِّ ﷺ كتب كُتُبًا إلى الملوك وأخبرت بها رسله ونُزِّل ذلك مَنْزلة قوله وخِطابه، وكتب صحيفة الزكاة والديات ثم صار الناس يُخبرون بها عنه ولم يكن هذا إلا بطريق المناولة والإجازة، فدلَّ على جوازها وذهب قومٌ إلى أنها غيرُ جائزة لأنه يقول: أخبرني ولم يوجد ذلك. وهذا ليس بصحيح فإنه يجوزُ لمَنْ كتب إليه إنسان كتابًا وذكر له فيه أشياء أن يقول: أخبرني فلان في كتابه بكذا وكذا ولا يكون كاذبًا فكذلك المرء ههنا. انتهى.

 

وقال ثعلب في أماليه: قال زبير: ارْوِ عنِّي ما أخذته من حديثي فهذه إجازة.

 

وقال أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرنا الزبير بن بكار إجازة عن هارون بن عبد الله الزبيري عن شيخ من الخُضْر بالسُّغْد قال: جاءنا نُصَيب إلى مسجدنا فاستنشدناه فأنشدنا:

 

ألا يا عُقاب الوَكْرِ وَكْرِ ضَرِيَّةٍ ** سُقيت الغَوَادي من عُقابٍ ومن وَكْرِ

 

القصيدة بتمامها.

 

وقال ابن دريد في أماليه: أجاز لي عمي في سنة ستين ومائتين قال: حدثني أبي عن هشام بن محمد بن السائب قال حدثني ثابت بن الوليد الزهري عن أبيه عن ثابت بن عبد الله بن سباع قال: حدثني قيس بن مخرمة قال: أوصى قصيّ بن كلاب بنيه وهم يومئذ جماعة فقال: يا بني إنكم أصبحتم من قومكم موضع الخَرَزَةِ من القِلادة يا بني فأكرموا أنفسكم تُكْرمكم قومُكم ولا تَبْغُوا عليهم فتبوروا وإيَّاكم والغَدْر فإنه حُوَب عند الله عظيم وعارٌ في الدنيا لازمٌ مقيم وإياكم وشُرْبَ الخمر فإنها إن أصلَحَتْ بدَنًا أفسدَتْ ذِهْنًا وذكر الوصيّة بطولها.

 

قال ابن دريد وأجاز لي عمي عن أبيه عن ابن الكَلْبي قال: أخبرني الشرفي وأبو يزيد الأوديّ قالا: أوْصى الأفْوَه بن مالك الأوديّ فقال: يا معشر مَذْحج عليكم بتقْوَى الله وصلةِ أرحامكم وحُسْنِ التعزِّي عن الدنيا بالصّبْر تَعِزُّوا والنظر في ما حوْلكم تُفلحوا ثم قال:

 

إنا مَعَاشِرُ لم يَبْنُوا لقومِهمُ ** وإنْ بَني قومُهم ما أفْسدوا عادُوا

 

القصيدة بطولها. ومن جملتها:

 

لا يَصْلحُ الناسُ فَوْضًى لا سَرَاةَ لهم ** ولا سَرَاةً إذا جُهَّالُهمْ سادُوا

 

وقال ابن دريد: أجاز لي عمّي عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه قال: حدثني عبادة بن حصين الهمداني قال: كانت مُرَاد تعبدُ نَسْرًا يأتيها في كل عام فيضربون له خِباءً ويُقْرِعون بين فَتياتهم فأيتُهنّ أصابَتْها القرعةُ أخرجوها إلى النسر فأدخلوها الخِباء معه فيمزِّقُها ويأكلُها ويُؤْتَى بخمر فَيَشْرَبه ثم يخبرهم بما يصنعون في عامهم ويطير ثم يأتيهم في عام قابل فيصنعون به مثلَ ذلك وإن النسر أتاهم لعادته فأقْرعوا بين فَتياتهم فأصابت القُرعْة فتاة من مُراد وكانت فيهم امرأةٌ من همدان قد وَلَدت لرجل منهم جاريةً جميلة ومات المُرَاديّ وتيتَّمت الجارية فقال بعض المُرَاديّين لبعض: لو فَدَيتُم هذا الفتاة بابنةِ الهمدانية فأجْمَع رأيُهم على ذلك وعَلِمت الفتاةُ ما يُرَاد بها ووافَقَ ذلك قدومُ خالها عمرو بن خالد بن الحصين أو عمرو بن الحصين بن خالد فلما قدم على أخته رأى انكسارَ ابنتها فسألها عن ذلك فَكَتَمتْه ودخلت الفتاة بعضَ بيوت أهلِها فجعلتْ تبكي على نفسها بهذه الأبيات لكي يسمَع خالُها:

 

أتثني مراد عامها عن فتاتها وتُهْدي إلى نَسْرٍ كريمة حَاشِد

 

تُزَفُّ إليه كالعَرُوس وخالها فتى حيّ همدان عمير بن خالد

 

فإن تنم الخَوْدُ التي فُدِيت بنا فما ليلُ مَنْ تُهْدَى لَنسْر بَرَاقِد

 

مع أني قد أرجو من الله قتله ** بكف فتى حامي الحقيقة حارد

 

ففطن الهمذاني فقال لأُخته: ما بالُ ابنتك فقصَّت عليه القصَّة. فلما أمسى الهمداني أخذ قَوْسَه وهيَّأ أسْهُمَه فلما اسوَدَّ الليلُ دخل الخِباء فكَمن في ناحِية وقال لأخته: إذا جاؤوك فادْفَعي ابنتَك إليهم فأقبلتْ مُراد إلى الهمدانية فدفعت ابنَتها إليهم. فأقبلوا بالفتاة حتى أدخلوها الخِباء ثم انصرفوا. فحجَل النَّسْر نحوها فرماه الهمذاني فانتظَم قلبه ثم أخذ ابنةَ أخته وترك النَّسْر قتيلًا وأخذ أختَه وارْتَحل في ليلته وذلك بوادي حُراض ثم سرَى ليلته حتى قطَع بلادَ مُراد وأشرف على بلاد همذان فأغذَّت مراد السير فلم تُدركْه فعظُمت المصيبة عليها بقتل النسر فكان هذا أولَ ما هاج الحرب بين همذان ومُراد حتى حَجر الإسلامُ بينهم؛ فقال الهمذاني:

 

وما كان من نَسْرٍ هِجَفّ قتلته ب ** وادي حُراض ما تغذ مراد

 

أرَحْتُهم منه وأطفأت سُنَّة ** فإنْ باعَدُونا فالقلوب بعاد

 

له كلّ عام من نِساء مخاير ** فتاة أناس كالبنية زادُ

 

تُزَفّ إليه كالعروس ومالَهُ ** إليها سوى أكل الفتاة معاد

 

فلما شكته حُرَّة حاشِديَّة ** أبوها أبي والأم بَعْدَ سُهاد

 

سددت له قَوْسِي وفي الكفّ أسهم ** مَرَاعِيس حرّات النِّصال حِداد

 

فأرميه من تحت الدجي فاختللته ** ودوني عن وجه الصباح سواد

 

وأنشأت الفتاة تقول:

 

جزى الله خالي خير الجزا ** بمتركه النَّسر زهفًا صَرِيعا

 

زُفِفْتُ إليه زفاف العروس ** وكان بمثلي قديمًا بلوعا

 

فيرميه خالي عن رقبة ** بسهم فأنفذ منه الدَّسِيعا

 

وأضْحت مراد لها مأتم ** على النَّسْرِ تَذْرى عليه الدُّمُوعا

 

وقال الترميسي في نكت الحماسة: أجاز لي أبو المنيب محمد بن أحمد الطبريّ قال أنشدنا اليزيدي لابن مخزوم:

 

إنّا لَنُرْخِص يَوْم الرَّوْع أنفُسَنا ** ولو نُسَامُ بها في الأمن أغلينا

 

خامسها – المكاتبة.

 

قال ثعلب في أماليه: بعث بهذه الأبيات إليّ المازنيّ وقال أنشدنا الأصمعي:

 

وقائلة ما بالُ دَوْسَر بعدنا ** صحا قلبه عن آل لَيْلَى وعن هِنْد

 

الأبيات.

 

وقال الترميسي في نكت الحماسة: أخبرنا أبو أحمد الحسن بن سعيد العسكري فيما كتب به إليَّ وحدثنا المرزباني فيما قرئ عليه وأنا حاضر أسمع قالا: أخبرنا محمد بن يحيى قال حدثنا الغلابي قال: حدثنا إبراهيم بن عمر قال: سأل الرشيدُ أهلَ مجلسه عن صدر هذا البيت: "ومن يسألُ الصَّعْلوك أين مذاهبُه" فلم يعرفه أحد فقال إسحاق المَوْصلي: الأصمعي مريض وأنا أمضي إليه فأسألّه عنه فقال الرشيد: احملوا إليه ألفَ دينار لنفقته واكتبُوا في هذا إليه. قال: فجاء جواب الأصمعي: أنشدنا خلف لأبي النَّشْناش والنهشلي:

 

وسائلةٍ اينَ الرَّحيل وسائِل ** ومَن يسألُ الصعلوكَ أين مذاهبُه

 

ودَاوِيَّة تَيْهاء يُخْشى بها الرَّدى ** سَرت بأبي النَّشْناش فيها رَكائبُه ل

 

يُدرك ثارًا أو ليكسب مَغْنَمًا ** جزيلًا وهذا الدَّهرُ جَمٌّ عَجائبه

 

قال: وذكر القصيدة كلها.

 

سادسها – الوجادة.

 

قال القالي في أماليه قال أبو بكر بن أبي الأزهر: وجَدْت في كتاب أبي حدثنا الزبير بن عبّاد ولا أدري عمَّن هو قال: حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز عن المغيرة بن عبد الرحمن قال: خرجتُ في سفر فصَحِبني رجلٌ فلما أصبحْنا نزَلنا منزلًا فقال: ألا أنشدك أبياتًا قلت: أنشدني فأنشدني:

 

إن المؤمل هاجَه أحزانه ** لما تحمّل غدوة جيرانُه

 

بانوا فَمُلْتَمِسٌ سوى أوْطانه ** وطَنًا وآخرُ همُّه أوطانهُ

 

قد زادني كلَفًا إلي ما كان بي ** رِئْمٌ عصى فأذابني عِصْيانُه

 

إنْ كان شيءٌ كان منه ببابل ** فَلِسَانهُ قد كان أو إنسانه

 

[ قال ] قلت: إنك لأنتَ المُؤَمِّل [ قال: أنا المؤمل ] بن طالوت.

 

وقال أبو عبيدة في كتاب أيام العرب: وجدتُ في كتابٍ لبعِض ولد أبي عمرو بن العلاء: أخذ عن سليط بن سعد اليربوعي أن الحَوْفزان أغار على بني يَرْبوع فنَذِروا به؛ فذكر قصة.

 

وقال القالي في أماليه قال أبو بكر بن الأنباري: وجدتُ في كتاب أبيّ عن أحمد بن عبيد عن أبي نصر: كان الأصمعي يقول: الجَلَل: الصغير اليسير ولا يقول: الجلَل: العظيم.

 

وقال الترميسي في نكت الحماسة: وجدت بخط أبي رياش قال أخبرنا ابن مقسم عن ثَعْلب إجازة بقصيدة أبي كبِير الهُذَلي وهي من مَشْهُور الشِّعر ومذكوره: "أزهير هَلْ عن شيبة من معدل". قال: وقرأتها من طريق آخر على الشيخ أبي الحسن علي بن عيسى النحوي وكان يرويها عن ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي.

 

وقال ابن ولاد في المقصور والممدود: عُشُورا بضم العين والشين زعم سيبويه أنه لم يعلم في الكلام شيء على زونه، ولم يذكر تفسيره. وقرأت بخط أهل العلم أنه اسم موضع ولم أسمع تفسيره من أحد.

 

قلت: ذكر القالي في كتاب المقصور والممدود أن العشورا: العاشوراء. قال: وهي معروفة.

 

وفي الصحاح: أحْقَد القومُ: إذا طَلَبوا من المَعْدِن شيئا فلم يجدوا. هذا الحرف نقلته من كتاب ولم أسمعه.

 

وفيه: حكى السجستاني: ماءٌ رَمِدٌ إذا كان آجنا. نقلته من كتاب.

 

وفيه: لَجِذ الكلب الإناء بالكسر لَجْذا ولَجَذا أي لحسَه حكاه أبو حاتم. نقلته من كتاب الأبواب من غير سماع.

 

وفيه: الكُظْر في سِيَة القوس وهو الفَرْض الذي فيه الوتر. والكُظْر أيضا: ما بين الترقوتين. وهذا الحرفُ نقلته من كتابٍ من غير سماع.

 

وفيه: هَرْهَرْتُ الشيء لغة في فَرْفَرْته إذا حرّكته. وهذا الحرفُ نقلتُه من كتاب الاعتقاب لأبي تراب من غير سماع.

 

وقال أبو زيد في نوادره: سمِعتُ أعرابيًَّا من بني تميم يقول: فلان كِبْرَة ولد أبيه أي أكبرهم.

 

وقال أبو حاتم: وقع في كتابي إكْبِرَّة ولد أبيه أي أكبرهم فلا أدري أغلط هو أم صواب.

 

وفي الصحاح: تقول العرب: فلان ساقطُ بنُ ماقِط بن لاقطِ، تَتسابُّ بذلك. فالساقط: عبدُ الماقط والماقِط: عبدُ الَّلاقط واللاقط: عبدٌ مُعْتق. نقتله من كتابٍ من غير سماع.

 

وفيه: قول الراجز:

 

تُبْدِي نَقِيًّا زانَها خِمارُها ** وقُسْطَة ما شانَها غُفَارُها

 

يقال: القُسْطَة: هي السَّاق نقلته من كتاب.

 

وفيه: الطَّقْطَقَة: صوتُ حوافر الدواب مثل الدَّقْدَقَة وربما قالوا: حَبَطِقْطِقْ كأنهم حكَوا به صوت الجرى وأنشد المازني:

 

جَرت الخَيْلُ فَقالتْ ** حَبَطِقْطِقْ حَبَطِقْطِق

 

ولم أرَ هذا الحرف إلا في كتابه.

 

وفي المجمل لابن فارس: وجدت بخطّ سلمة: أُمَّات البهائم، وأُمَّهات الناس.

 

وفيه: ذكر بعضهم أن النَّشحة: القليل من اللبن يقال: ما بقى في الإناء نشحة. ولم أسمعها وفيها نظر.

 

وفيه: إذا ضَرب الفحلُ الناقة ولم يكن أعدَّ لها قيل لذلك الولد: الحلس. كذا وجدته ولم أسمعه سماعا.

 

=======

النوع الثامن

معرفة المصنوع

 

 

 

 

قال ابن فارس: حدثنا علي بن إبراهيم عن المعداني عن أبيه عن معروف بن حسان عن الليث عن الخليل قال: إن النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة اللبس والتعنيت.

 

وقال محمد بن سلّام الجمحي في أول طبقات الشعراء: في الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خيرَ فيه ولا حجةَ في عربيته ولا غريب يستفاد ولا مثل يُضرب ولا مدح رائع ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسيب مُسْتَطرف وقد تداولَه قوم من كتابٍ إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يَعْرِضوه على العلماء وليس لأحدٍ إذا أجمع أهلُ العلم والرّواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة ولا يَرْوي عن صحفي.

 

وقد اختلفت العلماء بعدُ في بعض الشعر كما اختلفت في سائر الأشياء؛ فأما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرجَ منه. وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات، منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان. من ذلك: اللؤلؤ والياقوت لا يُعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يُبصره، ومن ذلك الجهبذة فالدينار والدرهم لا يعرف جودتهما بلون ولا مس ولا طراق ولا جس ولا صفة ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف بَهرَجها وزائفها؛ ومنه البصر بغريب النخل والبصر بأنواع المتاع وضروبه واختلاف بلاده وتَشَابه لونه [ ومسه وذرعه ] حتى يضافَ كلُّ صنف منها إلى بلده الذي خرج منه وكذلك بصر الرقيق والدابة وحسن الصوت يعرفُ ذلك العلماء عند المعانية والاستماع له بلا صفة ينتهي إليها ولا علمٍ يُوقَف عليه وإنّ كثرة المداومة لتعين على العلم به فكذلك الشِّعْر يعرفُه أهلُ العلم به.

 

قال خلّاد بن يزيد الباهلي لخلف بن حيان أبي مُحرِز - وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله: بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تروى؟ قال له: هل تعلم أنت منها ما إنه مصنوع لا خيرَ فيه؟ قال: نعم. قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك قال: نعم. قال: فلا تُنكر أن يعلموا من ذلك ما لا تعلمه أنت.

 

وقال قائل لخلف: إذا سمعتُ أنا بالشعر واستحسنتُه فلا أبالي ما قلته أنت فيه وأصحابك. قال له: إذا أخذتَ أنت درهمًا فاستحسنته فقال لك الصَّرَّاف: إنه رديء هل ينفعُك استحسانك له؟

 

وكان ممن هَجّن الشعرَ وأفسده وحمل منه كل غُثاء محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مَخْرَمة بن المطّلب بن عبد مناف وكان من علماء الناس بالسِّير [ والمغازي ] قَبِل الناسُ عنه الأشعار وكان يتعذرُ منها ويقول: لا عِلْمَ لي بالشّعر إنما أُوتَى به فأحمله، ولم يكن له ذلك عذرًا فكتب في السيرة من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شِعرًا قط وأشعار النساء [ فضلًا عن أشعار الرجال ] ثم جاوز ذلك إلى عادٍ وثمود [ فكتب لهم اشعارًا كثيرة! وليس بشعر إنما هو كلامٌ مؤلف معقود بقوافي! ] أفلا يَرْجعُ إلى نفسه فيقول: مَن حَمَل هذا الشعر وَمن أدَّاه منذُ ألوف من السنين والله تعالى يقول: { فَقُطِع دَابِرُ القوْمِ الذين ظلموا } أي لا بقية لهم. وقال أيضا: { وأنه أهْلِكَ عادًا الأُولى وثمودَ فما أبْقى }. وقال في عاد: { فهلْ تَرَى لهم منْ باقية }. وقال: { وقُرُونًا بين ذلك كثيرا }.

 

وقال يونس بن حبيب: أولُ من تكلّم بالعربية إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام. وقال أبو عمرو بن العلاء: العربُ كلّها ولدُ إسماعيل إلا حِمْير وبقايا جُرهم ونحن لا نجد لأوَّليّة العرب المعروفين شعرًا فكيف بعادٍ وثمود ولم يروِ عربي قط ولا رَاويةٌ للشعر بيتا منها مع ضعْفِ أمره وقلَّةِ طلاوته. قال أبو عمرو بن العلاء: ما لسانُ حِمْير وأقاصي اليمن لساننا ولا عربيتهم عربيتنا فكيف بها على عَهْدِ عاد وثمود مع تَدَاعيه ووَهْنِه فلو كان الشعر مثلَ ما وُضع لابن إسحاق ومثل ما يَرْوى الصَّحَفِيون ما كانت إليه حاجة ولا كان فيه دليل على علم. هذا كله كلامُ ابن سلام.

 

ثم قال بعد ذلك: لما راجَعَت العربُ [ في الإسلام ] روايةَ الشعر بعد أن اشتغلت عنه بالجهاد والغَزْو واستقلّ بعضُ العشائر شعرَ شعرائهم وما ذهب من ذِكر وقائعهم وكان قومٌ قَلَّتْ وقائعهُم وأشعارُهم فأرادوا أن يلحقوا بمنْ له الوقائع والأشعار فقالوا على ألْسُن شعرائهم. ثم كانت الروايةُ بعدُ فزادُوا في الأشعار [ التي قيلت ] وليس يُشْكِل على أهل العلم زيادةُ ذلك ولا ما وضعوا ولا ما وضَع المولّدون، وإنما عَضَل بهم أن يقول الرجل [ من أهل بادية ] من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم فيُشكِل ذلك بعض الأشكال.

 

أخبرني أبو عبيدة أن ابن دؤاد بن متمم بن نويرة قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي من الجلب والميرة فأتيتُه أنا وابن نوح فسألناه عن شِعرِ أبيه متمم وقمنا له بحاجته فلما فقد شعرَ أبيه [1] جعل يزيد في الأشعار ويضعُها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم وإذا هو يحتذي على كلامه فيذكر المواضع التي ذكرها متمم والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله.

 

وقال أبو علي القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر محمد بن أبي الأزهر حدثنا الزبير [ بن بكار ] حدثنا محمد بن سلّام الجمحي قال: حدثني يحيى بن سعيد القطان قال: رُواةُ الشِّعْرِ أعقلُ من رُواة الحديث لأن رُواةَ الحديث يرْوُون مصنوعًا كثيرا ورُواة الشعر ساعةَ يُنْشِدون المصنوع ينتقدونه ويقولون: هذا مصنوع.

 

وقال محمد بن سلّام الجمحي: كان أول من جَمَع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الرواية وكان غير موثوق به وكان ينحل [2] شعر الرجل غيره ويزيد في الأشعار.

 

أخبرني أبو عبيدة عن يونس قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة فقال: ما أطرفتني شيئا فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة مديح أبي موسى فقال: ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعلمُ به وأنا أروي من شعر الحطيئة! ولكن دعها تذهب في الناس.

 

وأخبرني أبو عبيدة عن عمرو بن سعيد بن وهب الثقفي قال: كان حماد الراوية لي صديقًا مُلطِفًا فقلت له يومًا: أمْل عليّ قصيدةً لأخوالي بني سعد بن مالك فأملى علي لطرفة:

 

إن الخليط أجدّ منتقله ** ولذاك زمّت غدوة إبِله

 

عهدي بهم في العقب قد سَنَدوا ** تهدي صعاب مطيهم ذللُه

 

وهي لأعشى همدان.

 

وسمعت يونس يقول: العجبُ لمن يأخذ عن حماد وكان يَلحن ويكذِب ويكسر.

 

وفي طبقات النحويين لأبي بكر الزبيدي: قال أبو علي القالي: كان خلف الأحمر يقول القصائد الغرّ ويدخلها في دواوين الشعراء فيقال إن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى التي أولها:

 

أقيموا بَني أُمِّي صدورَ مَطِيِّكُم ** فإنّي إلى أهْل سِواكم لأمْيَلُ

 

هي له.

 

وقال أبو حاتم: كان خلف الأحمر شاعرًا وكان وضع على عبد القيس شِعرًا مصنوعًا عبثًا منه ثم تَقَرَّأ [3] فرجع عن ذلك وبيّنه.

 

وقال أبو حاتم: سمعتُ الأصمعي يقول: سمعتُ خلفا الأحمر يقول: أنا وضعتُ على النابغة هذه القصيدة التي فيها:

 

خيلٌ صِيامٌ وخيلٌ غير صائمة ** تحتَ العَجَاج وأُخْرى تَعْلِكُ اللُّجما

 

وقال أبو الطيب في مراتب النحويين: أخبرنا محمد بن يحيى أخبرنا محمد بن يزيد قال: كان خلف الأحمر يُضْرَب به المثلُ في عَمل الشعر وكان يعمل على ألسنة الناس فيشبه كلَّ شعر يقوله بشعر الذي يضَعُه عليه ثم نَسَك فكان يختم القرآن في كل يوم وليلة فلما نَسك خرج إلى أهل الكوفة فعرَّفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس فقالوا له: أنتَ كنتَ عندنا في ذلك الوقت أوثقَ منك الساعةَ فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم.

ذكر أمثلة من الأبيات المستشهد بها التي قيل إنها مصنوعة

 

في نوادر أبي زيد أوس الأنصاري: أنشدني الأخفش بيتًا مصنوعًا لطرفة:

 

اضْرِبَ عنك الهمومَ طارقَها ** ضَرْبَك بالسَّوْط قَوْنَس الفَرَس

 

وقال ابن برِّي أيضا: هذا البيتُ مصنوعٌ على طَرفة بن العبد.

 

وقال أبو علي القالي في أماليه: قرأتُ على أبي بكر [ محمد بن الحسن بن دريد ] قصيدة كعب الغَنَوي والمرثي بها يُكْنَى أبا المِغْوار واسمه هَرِم وبعضهم يقول: اسمه شَبِيب ويحتجُّ ببيت رُوِي فيها: "أقامَ وخَلَّى الظاعِنين شَبِيبُ"وهذا البيت مصنوع والأوَّل كأنه أصحّ لأنه رواه ثقة.

 

في أمالي ثَعْلب أنشد في وصف فرس:

 

ونَجا ابن خَضْراء العِجَانِ حُوَيْرِثٌ ** غَلَيانُ أُمِّ دِمَاغِه كالزِّبْرِجِ

 

وقال لنا أبو الحسن المعيدي: هذا البيت مصنوع وقد وقفتُ عليه وفتَّشْتُ شِعْرَه كله فلم أجدْه فيه.

 

وفي شرح التسهيل لأبي حيّان: أنشد خلف الأحمر:

 

قل لعمرو: يا بنَ هند ** لو رأيت القومَ شَنّا

 

لرأتْ عيناك منهم ** كلَّ ما كنتَ تَمَنّى

 

إذْ أتتنا فَيْلَقٌ شَهْـ ** ـباء من هَنَّا وهَنَّا

 

وأتت دَوْسَر المَـلْحاء سيرًا مُطَّمَئِنا

 

ومضى القوم إلى القو ** م أحاد واثنا

 

وثلاثًا ورباعًا ** وخماسًا فأطَعْنا

 

وسُداسًا وسُباعًا ** وثمانًا فاجْتَلَدْنا

 

وتُسَاعًا وعُشَارًا ** فأُصِبْنا وأصَبْنا

 

لا ترى إلا كَمِيًّا ** قاتِلًا مِنْهُم ومنّا

 

قال: وذكر غيره أن هذه الأبيات مصنوعة لا يقوم بها حجة.

 

وقال محمد بن سلّام: زاد الناس في قصيدة أبي طالب التي فيها: "وأبْيَض يُسْتَسْقى الغمامُ بوَجْهِه" وطُوِّلت، [ رأيت في كتاب كتبه يوسف بن سعد صاحبنا منذ أكثر من مائة سنة: وقد علمت أن قد زاد الناس فيها ] بحيث لا يدرى أين منتهاها. وقد سألني الأصمعي عنها فقلتُ: صحيحة. قال: أتَدْري أين منتهاها قلت: لا.

 

وقال المرزوقي في شرح الفصيح: حكى الأصمعي قال: سألت أبا عمرو عن قول الشاعر: "أُمَّهتي خِنْدِف والياس أبي" فقال: هذا مصنوع وليس بحجّة.

 

وأنشد أبو عبيدة في كتاب أيام العرب لهند ابنة النعمان:

 

ألا من مُبلغ بكرا رسولا ** فقد جدّ النفيرُ بمنقفير

 

فليتَ الجيشَ كلهم فِدَاكم ** ونفسي والسرير وذو السرير

 

فإن تكُ نعمةٌ وظهور قومي ** فيا نعم البَشارَة للبَشِير

 

ثم قال أبو عبيدة: وهي مصنوعةٌ لم يعرفها أبو بردة ولا أبو الزعراء ولا أبو فراس ولا أبو سريرة ولا الأغطش، وسألتهم عنها قبل مخرج إبراهيم بن عبد الله بسنتين فلم يعرفوا منها شيئا، وهي مع نقيضة لها أخذت عن حماد الراوية. أنشد أبو عبيدة أيضا لجرير:

 

وخُور مُجاشِع تَرَكوا لَقِيطًا ** وقالوا: حِنْوَ عَيْنِكَ والغُرابا

 

ثم قال: وهذا البيتُ مصنوع ليس لجرير.

 

وقال أبو العباس أحمد بن عبد الجليل التدميري في شرح شواهد الجمل: أخبرنا غيرُ واحدٍ من أصحابنا عن أبي محمد بن السيد البطليوسي عن أخيه أبي عبد الله الحجازي عن أبي عمرو الطلمنكي عن أبي بكر الأدفوي عن أبي جعفر النحاس عن علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد المبرد عن أبي عثمان المازني قال: سمعت اللاحقي يقول: سألني سيبويه: هل تحفظُ للعربِ شاهدًا على أعمال فَعِل قال: فوضعتُ له هذا البيت:

 

حَذِر أمورًا لا تضير وآمن ** ما لَيْسَ مُنْجيه من الأقْدَار

 

وقال المبرد في الكامل: كان عموم سعيد بن العاصي بن أمية يذكرون أنه كان إذا اعتمَّ لم يعتم قرشي إعظاما له، وينشدون:

 

أبُو أُحَيْحَة مَنْ يَعْتَمّ عِمَّتَهُ ** يُضْرَبْ وَإنْ كانَ ذَا مَالٍ وَذا عَدَدِ

 

قال: ويذكر الزُّبَيْرِيُّونَ أن هذا البيتَ باطلٌ موضوع.

 

وفي الجمهرة: يقال دَسَّى فلان فلانًا إذا أغْواه ومنه قوله تعالى: { وقَدْ خابَ مَن دَسَّاها }. وقد أنشدوا في هذا بيتًا زعم أبو حاتم أنه مصنوع:

 

أنت الذي دَسَّيْتَ عمرًا فأصبحتْ ** حَلائله عَنْه أرامِلَ ضيّعا

 

وفيها: الزِّنقِير: القطْعَة من قُلامة الظُّفْر. قال الشاعر:

 

فما جادتْ لَنا سَلْمَى ** بِزنْقِيرٍ ولا فُوفَهْ

 

قال أبو حاتم: أحسب هذا البيت مصنوعًا.

 

وأنشد المبرد في الكامل:

 

أقْبلَ سَيْلٌ جاء من أمْرِ الله ** يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ

 

وقال أبو إسحاق البطليوسي في شرحه يقال: إن هذا الرجز لحنظلة بن مطيح ويقال إنه مصنوع صنعه قُطْرُب بن المُسْتَنِير.

ذكر أمثلة من الألفاظ المصنوعة

 

قال ابن دريد في الجمهرة قال الخليل: أمّا ضَهِيد وهو الرجل الصُّلب فمصنوع لم يأت في الكلام الفصيح.

 

وفيها: عَفشَج: ثقيل وخم، زعموا، وذكر الخليل أنه مصنوع.

 

وفيها: زعم قوم أن اشتقاق شَراحيل من شرحل وليس بثبت وليس للشرحلة أصل.

 

وفيها: قد جاء في باب فيعلول كلمتان مصنوعتان في هذا الوزن قالوا: عَيْدَشُون: دويَّبة وليس بثبت. وصَيْخَدُون، قالوا: الصَّلابة ولا أعرفها.

 

وفيها: البُدُّ: الصَّنَم الذي لا يُعْبَد، ولا أصل له في اللغة.

 

وفيها: مادة " بَ شْ بَ شْ " أهملت إلا ما جاء من البَشْبشة، وليس له أصل في كلامهم.

 

وفيها: البتش ليس في كلام العرب الصحيح.

 

وفيها: خْطعٌ: اسم وأحسبه مصنوعًا.

 

وفي المجمل لابن فارس: الالط: نبت، أظنُّ أنه مصنوع.

فصل

 

قال محمد بن سلّام الجمحي في طبقات الشعراء: سألت يونس عن بيت روَوْه للزبرقان بن بَدْر وهو:

 

تَعْدو الذئاب على مَنْ لا كِلاب له ** وتَتَّقي مَرْبض المستثفر الحامي

 

فقال: هو للنابغة أظن الزبرقان استزاده في شعره كالمثل حين جاء موضعه لا مُجتْلِبًا له. وقد تفعل ذلك العرب لا يُريدون به السَّرقِة.

 

قال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي:

 

تلك المكارمُ لا قَعْبانٍ من لبن ** شِيبا بماءٍ فعادَا بعدُ أبوالا

 

وقال النابغة الجعدي في كلمةٍ فخر فيها [ ورد فيها على القشيري ]:

 

فإن يكن حاجِب ممن فخرت به ** فلم يَكُنْ حاجب عَمًّا ولا خالا

 

هلا َّفخرت بيومي رَحْرَحان وقد ** ظَنَّتْ هوازن أن العِزَّ قد زالا

 

تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لبن ** شيبا بماء فعادا بَعْدُ أبوالا

 

ترويه بنو عامر للنابغة. والرواة مُجمعون أن أبا الصلت قاله.

 

وقال غير واحد من الرجاز:

 

عند الصَّبَاح يحمد القوم السرى [4]

 

إذا جاء موضعه جعلوه مكملًا.

 

وقال امرؤ القيس:

 

وقوفًا بها صحبي عليَّ مَطِيهم ** يقولون: لا تهلك أسًى وتحَمّل

 

وقال طرفة بن العبد:

 

وَقُوفًا بها صَحْبي عليَّ مطيهم ** يقولون لا تَهْلِك أسًى وتَجَلَّد

 

 

هامش

 

=========

 

 

 

في طبقات الشعراء: فلما نفد شعر أبيه.

 

 

نحله القول: نسبه إليه.

 

 

تنسك

 

نسب البيت في الأمثال إلى خالد بن الوليد، وتكملته فيها: وتنجلي عنهم غيابات الكرى

 

=========

النوع التاسع

معرفة الفصيح

 

 

 

 

الكلام عليه في فصلين: أحدُهما بالنسبة إلى اللفظ والثاني بالنسبة إلى المتكلِّم به. والأول أخصُّ من الثاني لأن العربي الفصيح قد يتكلم بلفظةٍ لا تعدُّ فصيحة:

الفصل الأول في معرفة الفصيح من الألفاظ المفردة

 

قال الراغب في مفرداته: الفَصْحُ: خلوصُ الشيء مما يشوبهُ وأصله في اللَّبن، يقال: فَصَّح اللبنُ وأفْصَحَ فهو فِصِّيح ومُفْصِح إذا تعرَّى من الرَّغوة. قال الشاعر: "وتَحْتَ الرَّغْوَةِ اللَّبَنُ الفَصِيحُ". ومنه اسُتعير فصحُ الرجل: جادَتْ لغته، وأفْصح: تكلم بالعربية، وقيل بالعكس والأول أصح. انتهى.

 

وفي طبقات النحويين لأبي بكر الزبيدي: قال ابن نوفل: سمعتُ أبي يقول لأبي عمرو بن العلاء: أخبرني عما وضعت مما سميت عربية! أيدخلُ فيه كلامُ العرب كله؟ فقال: لا. فقلت: كيف تصنع فيما خالفتْك فيه العرب وهم حجة فقال: أحملُ على الأكثر وأُسَمِّي ما خَالَفني لغات.

 

والمفهومُ من كلام ثعلب أن مَدار الفصاحةِ في الكلمة على كَثْرَة استعمالِ العرب لها، فإنه قال في أول فصيحه: هذا كتابُ اخيتار الفصيح مما يجري في كلام الناس وكتبهم فمنه ما فيه لغةٌ واحدة والناس على خلافها فأخبرْنا بصواب ذلك ومنه ما فيه لغتان وثلاث وأكثر من ذلك فاخترنا أفصحهن ومنه ما فيه لغتان كثُرتا واستُعْمِلتا فلم تكن إحداهما أكثر من الأخرى فأخبرنا بهما. انتهى.

 

ولا شك في أن ذلك هو مدار الفصاحة.

 

ورأى المتأخرون من أرباب علوم البلاغة أن كل أحدٍ لا يمكُنه الاطلاع على ذلك لتَقَادُم العهد بزمان العرب فحرَّرُوا لذلك ضابطًا يعرف به ما أكثرت العرب من استعماله من غيره فقالوا: الفصاحةُ في المفرد خلوصه من تَنَافُرِ الحروف ومن الغَرَابة ومن مخالفة القياس اللغوي، فالتنافر منه ما تكونُ الكلمةُ بسببه مُتناهيةً في الثِّقَل على اللسان وعُسْر النُّطْق بها كما رُوي أن أعرابيًا سُئل عن ناقته فقال: تركتها تَرْعى الهُعْخُع، ومنه ما هو دون ذلك كلفظ مُسْتَشْزِر في قول امرئ القيس: "غَدَائرُه مُسْتَشْزِرَاتٌ إلى العُلا " وذلك لتوسُّط الشين وهي مَهْموسة رخوة بين التاء وهي مهموسة شديدة والزاي وهي مجهورة.

 

والغرابةُ أن تكون الكلمة وحْشِيَّة لا يظهر معناها فيحتاج في معرفتها إلى أن يُنَقّر عنها في كتب اللغة المبسوطة كما رُوي عن عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار فاجتمع عليه الناس فقال: ما لكم تَكَأْكَأْتُمْ عليَّ تَكَأْكُؤَكم على ذي جنَّة، اِفْرَنْقِعوا عَنِّي. أي اجْتَمَعْتم، تَنحَّوا.

 

أو يخرج لها وجه بعيد، كما في قول العجاج: "وفَاحِمًا ومَرْسِنَا مُسَرَّجا" فإنه لم يعرف ما أراد بقوله: مسرجا حتى اختلف في تخريجه فقيل: هو من قولهم للسُّيوف سُرَيْجِيَّة منسوبة إلى قَيْن يقال له سُرَيج يريد أنه في الاستواء والدِّقة كالسيف السُّرَيْجَي وقيل من السِّراج يريد أنه في البريق كالسِّراج.

 

ومخالفة القياس كما في قول الشاعر: "الحمدُ لله العَلِيّ الأَجْلَل" فإن القياس الأجَلّ بالإدغام.

 

وزاد بعضُهم في شروط الفصاحة: خلوصُه من الكراهة في السَّمْع بأن يمجَّ الكلمةَ وينبو عن سماعها كما ينبو عن سماع الأصوات المُنْكَرة، فإن اللفظ من قبيل الأصوات والأصوات منها ما تستلذ النفسُ بسماعه ومنها ما تكره سماعَه كلفظ الجِرِشَّي في قول أبي الطيب: "كريمُ الجِرِشَّي شريفُ النَّسَب" أي كريم النفس وهو مردود لأن الكراهَة لِكَوْنِ اللفظ حُوشِيًّا فهو داخلٌ في الغرابة. هذا كله كلام القَزْويني في الإيضاح.

 

ثم قال عَقِبه: ثم علامةُ كون الكلمة فصيحةً أن يكون استعمالُ العربِ الموثوقِ بعربيتهم لها كثيرا أو أكثرَ من استعمالهم ما بمَعْنَاها.

 

وهذا ما قدَّمتُ تقريره في أول الكلام؛ فالمرادُ بالفصيح ما كَثُر استعمالهُ في أَلْسِنَة العرب.

 

وقال الجاربردي في شرح الشَّافية: فإن قلتَ: ما يُقْصَدُ بالفصيح وبأيِّ شيءٍ يُعْلَم أنه غيرُ فصيح وغيره فصيح قلت أن يكونَ اللفظُ على أَلْسِنَة الفصحاءِ الموثوقِ بعربيتهم أدْور واستعمالهم لها أكْثر.

فوائد

 

بعضها تقرير لما سبق وبعضها تعقب له وبعضها زيادة عليه.

الأولى

 

قال الشيخ بهاءُ الدين السبكي في عروس الأفراح: ينبغي أن يُحمَل قوله: " والغرابة " على الغَرَابةِ بالنسبة إلى العرب العَرْباء لا بالنسبة إلى استعمال الناس، وإلا لكان جميعُ ما في كُتُب الغريب غيرَ فصيح، والقَطعُ بخلافه. قال: والذي يقتضيه كلامُ المفتاح وغيرِه أن الغَرَابة قِلَّةُ الاستعمال، والمرادُ قلّةُ استعمالها لذلك المعنى لا لِغَيره.

الثانية

 

قال الشيخ بهاءُ الدين: قد يَرِد على قوله: ومخالفة القياس ما خالَف القياسَ وكَثُر استعماله فورد في القرآن فإنه فصيح مثل اسْتَحْوذ وقال الخطيبي في شرح التلخيص: أما إذا كانت مخالفةُ القياس لِدَليل فلا يخرج عن كونه فصيحًا كما في سُرر فإن قياس سَرير أنْ يجمع على أَفْعلة وفُعْلان مثل أرغفة ورُغْفان.

 

وقال الشيخ بهاءُ الدين: إن عَنَى بالدليل ورودَ السَّماع فذلك شرطٌ لجواز الاستعمال اللغوي لا الفَصَاحة، وإن عَنَى دليلًا يصيِّره فصيحًا وإن كان مخالفًا للقياس فلا دليلَ في سُرر على الفَصَاحة إلا وروده في القرآن فينبغي حينئذ أن يُقال: إن مخالفَة القياس إنما تُخِلُّ بالفصاحة حيث لم يقع في القرآن الكريم.

 

قال: ولقائل أن يقول حينئذ: لا نُسَلِّم أن مخالفةَ القياس تُخِلُّ بالفصاحة ويُسْنَد هذا المنع بكَثْرةِ ما وَرَدَ منه في القرآن بل مخالفةُ القياس مع قلَّةِ الاستعمال مجموعُهما هو المخلّ.

 

قلت: والتَّحقيقُ أن المُخِلّ هو قلةُ الاستعمال وحدَها فرجعت الغَرَابةُ ومخالفةُ القياس إلى اعتبارِ قلّة الاستعمال والتنافر كذلك وهذا كلَّه تقريرٌ لكَوْن مدَار الفصاحة على كثرة الاستعمال وعدمها على قلَّته.

الثالثة

 

قال الشيخ بهاء الدين: مُقْتَضى ذلك أيضا أن كلَّ ضرورة ارتكبها شاعر فقط أخرجت الكلمةَ عن الفَصَاحة. وقد قال حازم القرطاجني في مِنْهاج البُلَغَاء: الضَرائر الشائعة منها المُسْتَقْبَحُ وغيره وهو ما لا تستوحش منه النَّفس كصَرْف ما لا ينصرف، وقد تستوحش منه في البعض كالأَسْماء المَعْدُولة، وأشدّ ما تَسْتَوْحِشُه تنوينُ أفعل منه؛ ومما لا يُسْتَقْبَح قصرُ الجمع الممدود ومَدّ الجمع المقصور، وأقبحُ الضرائر الزيادةُ المؤدّيةُ لما ليس أصلًا في كلامهم كقوله: أدْنو فأنظُور أي أنظر. والزيادة المؤدّيةُ لما يقلَّ في الكلام كقوله: فاطأت شيمالي، أي شمالي وكذلك النقص المُجْحِف كقوله: * دَرَسَ المَنَا بمُتَالِعٍ فأَبانا * أي المنازل. وكذلك العدول عن صيغة إلى أخرى كقوله: * جَدْلاءُ محْكَمةٍ من نَسْج سلّام * أي سليمان انتهى.

 

وأطلق الخفاجيّ في سرِّ الفصاحة أن صرفَ غير المنصرف وعكْسَه في الضرورة مخلٌّ بالفصاحة.

الرابعة

 

قال الشيخ بهاءُ الدين: عدَّ بعضُهم من شروط الفصاحة ألا تكونَ الكلمةُ مُبتَذلة، إما لتغيير العامَّة لها إلى غير أصلِ الوضع كالصُّرْم للقَطْع وجعلته العامة للمحلِّ المخصوص، وإما لسخافتها في أصل الوضع كاللَّقَالق. ولهذا عدَل في التنزيل إلى قوله: { فأَوْقِدْ لِي يا هَامانُ على الطِّين } لسخافة لفظ الطوب وما رَادَفه كما قال الطيبي. ولاستثقال جَمع الأرض لم تُجْمَع في القرآن وجُمِعت السماء حيثُ أُريدَ جمعها قال تعالى: { ومن الأرض مثْلهنّ } ولاسْتثقال اللُّب لم يقع في القرآن ووقع فيه جمعُه وهو الألباب لخِفَّتِه.

 

وقد قسَّم حازم في المنهاج الابتذالَ والغَرَابةَ فقال: الكلمة على أقسام:

 

- الأول: ما استعملَتْهُ العربُ دون المحدثين، وكان استعمال العربِ له كثيرا في الأشعار وغيرها؛ فهذا حسنٌ فصيح.

 

- الثاني: ما استعملَتْه العربُ قليلًا ولم يحسن تأليفُه ولا صيغتُه؛ فهذا لا يَحْسُن إيراده.

 

- الثالث: ما استعملَتْهُ العربُ وخاصة المحدثين دون عامتهم؛ فهذا حسنٌ جدا لأنه خلص من حُوشيَّة العربِ وابتذالِ العامّة.

 

- الرابع: ما كثُر في كلام العرب وخاصة المحدَثين وعامتهم ولم يكثر في أَلْسِنة العامة؛ فلا بأس به.

 

- الخامس: ما كان كذلك ولكنه كثُرَ في ألْسِنة العامة وكان لذلك المعنى اسمٌ استغنتْ به الخاصة عن هذا؛ فهذا يَقْبَحُ استعماله لابتذاله.

 

- السادس: أن يكون ذلك الاسم كثيرا عند الخاصة والعامة وليس له اسمٌ آخر وليست العامة أحوج إلى ذِكْره من الخاصِة ولم يكن من الأشياء التي هي أنسب بأهل المِهَن؛ فهذا لا يَقْبُح ولا يُعَدُّ مُبْتَذَلًا مثل لفظ الرأس والعين.

 

- السابع: أن يكون كما ذكرناه إلا أن حاجةَ العامة له أكثر فهو كثير الدَّوَرَان بينهم كالصنائع؛ فهذا مُبتذل.

 

- الثامن: أن تكون الكلمةُ كثيرةَ الاستعمال عند العرب والمحدَثين لمَعنًى وقد استعملها بعضُ العرب نادرا لمعنى آخر؛ فيجب أن يُجْتَنَبْ هذا أيضا.

 

- التاسع: أن تكون العرب والعامة استعملوها دون الخاصة وكان استعمالُ العامَّة لها من غير تغيير؛ فاستعمالها على ما نطقت به العرب ليس مبتذلا، وعلى التغيير قبيح مبتذل.

 

ثم اعلم أن الابتذالَ في الألفاظ وما تدل عليه ليس وصفًا ذاتيا ولا عَرَضًا لازمًا، بل لاحِقًا من اللواحق المتعلِّقةِ بالاستعمال في زمان دون زمان وصُقْع دون صُقع. انتهى.

الخامسة

 

قال ابن دريد في الجمهرة: اعلم أن الحروفَ إذا تقاربت مخارجُها كانت أثقَل على اللِّسان منها إذا تباعدت لأنك إذا استعملتَ اللسانَ في حروف الحَلْق دون حروف الفم ودون حروف الذَّلاقة كلَّفته جَرْسًا واحدًا وحركاتٍ مختلفة ألا ترى أنك لو أَلَّفْتَ بين الهمزة والهاء والحاء فأمكن لوجدتَ الهمزةَ تتحوَّل هاء في بعض اللغات لقُرْبها منها نحو قولهم في [ أُمْ والله ]: هُم والله، وكما قالوا في أراق: هَرَاق [ الماء ]، ولوجَدْتَ الحاء في بعض الألسنة تتحول هاء. وإذا تباعدتْ مخارجُ الحروف حَسُنَ [ وجه ] التأليف.

 

قال: واعلم أنه لا يكاد يجيء في الكلام ثلاثةُ أحرف من جنسٍ واحد في كلمةٍ واحدة لصعوبة ذلك على ألسنتهم وأَصْعَبُها حروف الحَلْق فأما حرفان فقد اجتمعا مثل أح [ بلا فاصلة واجتمعا في مثل ] أحد وأهل وعَهد ونَخْعٍ غيرَ أنَّ من شأنهم إذا أرادوا هذا أن يبدءوا بالأقوى من الحرفين ويُؤَخّروا الألْين كما قالوا: وَرَل ووَتِدِ فبدءوا بالتاء مع الدَّال وبالراء مع اللام فذُق التاد والدال فإنك تجد التَّاء تنقطع بجَرْسٍ قويّ [ وتجد الدال تنقطع بجرس لين وكذلك الراء تنقطع بجرس قوي ] وكذلك اللام تنقطع بِغُنَّة، ويدلّك على ذلك أيضا أن اعْتِياص اللام على الألسن أقل من اعتياض الراء وذلك للين اللام، فافهم.

 

قال الخليل: ولولا بُحَّة في الحاء لأَشْبَهَت العينَ، فلذلك لم يأتلفا في كلمة واحدة وكذلك الهاء؛ ولكنهما يجتمعان في كلمتين لكلِّ واحدة منهما معنًى على حِدَة نحو قولهم: حيَّهَل وقول الآخر: حيهاوه وحَيّهلًا فحيّ كلمة معناها: هَلُمَّ وهَلًا: حثيثًا وفي الحديث: [ فحيّ هَلا بعُمَر ] وقال الخليل: سمعنا كلمةً شَنْعَاء " الهعخع " فأنكَرْنا تأليفها وسُئل أعرابيّ عن نَاقَتَه فقال: تركتُها تَرْعَى الهُعْخع فسألنا الثِّقات من علمائهم فأنكروا ذلك وقالوا: نعرف الخُعْخُع فهذا أقرب إلى التأليف. انتهى كلام الجمهرة.

 

وقال الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح: قالوا: التنافر يكون إما لِتَبَاعُد الحروف جدا أو لتقاربها فإنها كالطَّفْرَة والمَشْي في القَيْد نقله الخفاجي في " سرّ الفصاحة " عن الخليل بن أحمد وتعقّبه بأن لنا ألفاظًا حروفُها متقاربة ولا تنافرَ فيها كلَفْظ الشَّجَر والجيش والفم وقد يوجد البُعْدُ ولا تنافر كلفظ العلم والبعد ثم رأى الخفاجي أنه لا تنافر البُعْدِ وإن أفرط بل زاد فجعل تَبَاعد مخارج الحروف شَرْطًا للفصاحة.

 

قال الشيخ بهاء الدين: ويُشبه استواءَ تقاربِ الحروف وتباعدها في تحصيل التنافر اسْتواءُ المِثْلَين اللَّذَين هما في غاية الوِفاق، والضِّدَّين اللذين هما في غاية الخلافِ في كَون كلٍّ من الضِّدَّين والمِثلين لا يجتمع مع الآخر، فلا يجتمع المثلان لشدَّة تقاربهما ولا الضِّدَّين لشدة تباعدهما، وحيث دار الحال بين الحروف المتباعدة والمتقاربة فالمتباعدة أخف.

 

وقال ابن جني في سر الصناعة: التأليفُ ثلاثة أضرب:

 

أحدُها: تأليفُ الحروفِ المتباعدة وهو أَحْسَنُه وهو أغلب في كلام العرب.

 

والثاني: الحروفُ المتقاربة لضَعْفِ الحرْفِ نفسه وهو يلي الأول في الحسْن.

 

والثالث: الحروفُ المتقاربة فإما رُفض وإما قَلَّ استعماله؛ وإنما كان أقلَّ من المتماثلين وإن كان فيهما ما في المتقاربين وزيادة لأن المتماثلَين يخفَّان بالإدغام ولذلك لما أرادت بنو تميم إسكان عَيْن " مَعْهم " كرهوا ذلك فأبدلوا الحرفين حائين وقالوا: " مححم " فرأوا ذلك أسهلَ من الحرفين المتقاربين.

السادسة

 

قال ابن دريد: اعلم أن أحسن الأبنيةِ أن يبنوا بامتِزَاج الحروف المتباعدة ألا ترى أنك لا تجدُ بناء رباعيًا مُصْمَت الحروف لا مِزاج له من حروف الذلاقة إلا بناءً يجيئُك بالسين وهو قليلٌ جدًا مثل عَسْجد وذلك أن السينَ ليّنةٌ وجَرْسها من جَوْهر الغُنَّة فلذلك جاءت في هذا البناء.

 

فأما الخماسي مثل فَرَزْدَق وسَفَرْجَل وشَمَرْدل فإنك لست واجدَه إلا بحرف أو حرفين من حروف الذَّلاقة من مَخْرج الشفتين أو أَسَلة اللسان فإذا جاءك بناءٌ يُخَالف ما رسمْتُه لك مثل: دعشق وضغنج وحضافَج وضقعهج أو مثل عَقْجَش [ وشعفج ] فإنه ليس من كلام العرب فارْدُدْه؛ فإن قومًا يَفْتَعلون هذه الأسماءَ بالحروف المُصْمتة ولا يمزجونها بحروف الذَّلاقة، فلا نقبلْ ذلك كما لا نقبل من الشِّعْر المستقيمِ الأَجْزاء إلا ما وافَق ما بَنَتْه العرب [ من العروض الذي أسس على شعر الجاهلية ]، فأما الثُّلاثي من الأسماء والثنائي فقد يَجوز بالحروف المُصْمَتة بلا مِزاج من حروف الذَّلاقة، مثل خُدَع، وهو حَسَن لفَصْلِ ما بين الخاء والعين بالدال؛ فإن قَلَبْتَ الحروف قَبح فعلى هذا القياس فألِّف ما جاءَك منه وتدبَّره فإنه أكثرُ من أن يُحْصَى.

 

قال: واعلم أن أكثر الحروف استعمالًا عند العرب الواوُ والياءُ والهمزة وأقلّ ما يستعملون على ألسنتهم لِثقلها الظاء ثم الذال ثم الثاء ثم الشين ثم القاف ثم الخاء ثم العين ثم النون ثم اللام ثم الراء ثم الباء ثم الميم فأخفُّ هذه الحروف كلِّها ما استعملته العرب في أصول أبنيتهم من الزوائد لاخْتلاف المعنى.

 

قال: ومما يَدلّك على أنهم لا يؤلفون الحروفَ المُتَقَاربةَ المَخَارج أنه ربما لَزِمَهم ذلك من كلمتين أو من حَرْفٍ زائد، فيحوِّلون أحدَ الحرفين حتى يصيِّروا الأقوى منهما مبتدأ على الكره منهم وربما فعلوا ذلك في البناء الأصلي فأما ما فعلوه من بناءين فمثلُ قوله تعالى: { بَلْ رَانَ } لا يُبيّنون اللام ويُبْدِلونها راء لأنه ليس في كلامهم " لر "، فلما كان كذلك أَبْدَلوا اللام فصارت مثل الراء. ومثله { الرَّحمن الرَّحيم } لا تَسْتَبِين اللامُ عند الراء، وكذلك فعلُهم فيما أُدْخل عليه حرفٌ زائد وأُبْدِل؛ فتاءُ الافتعال عند الطاء والظاء والضاد والزاي وأخواتها تحوَّلُ إلى الحرْفِ الذي يَليه حتى يبدؤوا بالأقوى فيصيرا في لَفْظٍ واحد وقُوَّة واحدة وأما ما فعلوه في بناءٍ واحد فمثلُ السين عند القاف والطاء يُبْدلونها صادًا لأن السين من وسط الفم مطمئنَّة على ظَهْر اللسان والقافَ والظاءَ شاخصتان إلى الغار الأعلى فاستثقلوا أن يَقَع اللِّسانُ عليها ثم يرتفع إلى الطاءِ والقاف فأبْدَلوا السين صادًا لأنها أقربُ الحروف إليها لقُرْب المخرج ووجدوا الصاد أشدَّ ارتفاعًا وأقربَ إلى القاف والطاء وكان استعمالُهم اللسانَ في الصاد مع القاف أيسرَ من استعماله مع السين فمِن ثَمَّ قالوا: صَقر والسين الأَصل وقالوا: قَصَطَ وإنما هو قَسَط وكذلك إذا دخَل بين السين والطاء والقاف حرفٌ حاجز أو حرفان لم يَكْتَرثوا وتوهموا المجاورةَ في اللفظ فأَبْدلوا ألا تراهم قالوا: صَبْط وقالوا في السَّبْق صَبْق وفي السَّويق صَويق وكذلك إذا جاورت الصادُ الدال والصادُ متقدمة فإذا سكنتِ الصادُ ضَعُفَت فيحوِّلونها في بعض اللغات زايًا فإذا تحرّكت ردّوها إلى لفظها مثل قولهم: فلان يَزْدُق في كلامه فإذا قالوا: صدَق قالوها بالصاد لتحركها وقد قُرِئ " حتى يَزْدُر الرِّعاء " بالزاي، فما جاءك من الحروف في البناءِ مُغَيرًا عن لَفظِه فلا يخلو من أن تكون عِلَّتُه داخلةً في بعض ما فسرتُ لك من عِلل تقارُب المَخْرج.

السابعة

 

قال في عروس الأفراح: رُتَبُ الفَصَاحة مُتَفَاوتة فإن الكلمةُ تخفُّ وتَثْقُل بحَسَب الانتقال من حرف إلى حرف لا يلائمه قربا أو بعدا، فإن كانت الكلمة ثلاثية فتراكيبها اثنا عشر:

 

الأول - الانحدارُ من المخرج الأعلى إلى الأوْسط إلى الأدنى نحو " ع د ب ".

 

الثاني - الانتقالُ من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوْسط نحو " ع ر د ".

 

الثالث - من الأعلى إلى الأدنى إلى الأعلى نحو " ع م ه ".

 

الرابع - من الأعلى إلى الأوْسط إلى الأعلى نحو " ع ل ن ".

 

الخامس - من الأدنى إلى الأوْسط إلى الأعلى نحو " ب د ع ".

 

السادس - من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط نحو " ب ع د ".

 

السابع - من الأدنى إلى الأعلى إلى الأدنى نحو " ف ع م ".

 

الثامن - من الأدنى إلى الأوسط إلى الأدنى نحو " ف د م ".

 

التاسع - من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى نحو " د ع م ".

 

العاشر - من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى نحو " د م ع ".

 

الحادي عشر - من الأوسط إلى الأعلى إلى الأوسط نحو " ن ع ل ".

 

الثاني عشر - من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط نحو " ن م ل ".

 

إذا تقرّر هذا فاعلم أن أحسنَ هذه التراكيب وأكثرَها استعمالًا ما انحدر فيه من الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى، ثم ما انتقل فيه من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى، ثم من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوسط. وأما ما انتقل فيه من الأدنى إلى الأوسط إلى الأعلى وما انْتُقل فيه من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى فهما سِيَّان في الاستعمال، وإن كان القياس يقتضي أن يكون أرجَحَهما ما انتُقل فيه من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى. وأقلُّ الجميع استعمالًا ما انتُقل فيه من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط. هذا إذا لم ترجع إلى ما انتقلتَ عنه؛ فإن رجعت فإن كان الانتقالُ من الحرف الأول إلى الثاني في انحدارٍ من غير طَفْرة - والطَّفْرة الانتقال من الأعلى إلى الأدنى أو عكسه - كان التركيبُ أخفَّ وأكثر وإن فُقِد بأن يكون النقلُ من الأول في ارتفاع مع طفرة كان أثقلَ وأقلَّ استعمالًا.

 

وأحسنُ التراكيب ما تقدمت فيه نُقْلَة الانحدار من غير طَفْرة بأن ينتقل من الأعلى إلى الأوسط إلى الأعلى أو من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط ودون هذين ما تقدمتْ فيه نقلةُ الارتفاع من غير طَفْرةٍ.

 

وأما الرباعي والخماسي فعلى نحو ما سبق في الثلاثي، ويخص ما فوق الثلاثي كثرةُ اشتماله على حروف الذلّاقة لتَجْبُر خفَّتُها ما فيه من الثِّقل وأكثرُ ما تقع الحروف الثقيلة فيما فوقَ الثلاثي مفصولًا بينها بحرفٍ خفيف وأكثرُ ما تقع أولًا وآخرًا وربما قُصِد بها تشنيع الكلمة لذمٍّ أو غيره. انتهى.

الثامنة

 

قال في عروس الأفراح: الحروف كلُّها ليس فيها تنافر حروف وكلُّها فصيحة.

التاسعة

 

قال ابن النفيس في كتاب الطريق إلى الفصاحة: قد تُنْقلُ الكلمةُ من صيغَةٍ لأُخرى أو من وزْنٍ إلى آخر أو من مُضِيّ إلى استقبال وبالعكس فَتَحْسُن بعد أن كانت قبيحةً وبالعكس فمِن ذلك خَوَّد بمعنى أَسْرع قبيحة فإذا جُعلَتْ اسمًا " خَوْدًا " وهي المرأةُ الناعمةُ قلَّ قُبْحُها وكذلك دَعْ تقبُح بصيغة الماضي لأنه لا يُسْتَعْمل وَدَع إلا قليلًا ويَحْسن فعلَ أمرٍ أو فعلًا مُضَارعًا ولفظُ اللُّب بمعنى العقل يقبح مُفردًا ولا يقبح مجموعًا كقوله تعالى: { لأُولي الألباب }.

 

قال: ولم يرد لفظُ اللب مفردًا إلا مُضافًا كقوله ﷺ: " ما رأيتُ من ناقِصاتِ عقلٍ ودين أذهبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازمِ من إحْداكُنَّ " أو مضافًا إليه كقول جرير: * يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حتى لا حَرَاكَ به * وكذلك الأرْجاء تحسن مجموعةً كقوله تعالى: { والمَلَكُ عَلَى أَرْجائها }، ولا تحسنُ مفردةً إلا مضافةً نحو رَجَا البئر، وكذلك الأصواف تحسن مجموعة كقوله تعالى: { ومِنْ أَصْوَافِها } ولا تحسن مفردةً كقول أبي تمام: * فكأنما لَبِسَ الزمانُ الصوفا *

 

ومما يحسن مفردًا ويقبح مجموعًا المصادرُ كلُّها وكذلك بُقْعَة وبقاع وإنما يحسن جمعها مضافًا مثل بِقَاع الأرض. انتهى.

العاشرة

 

قال في عروس الأفراح: الثلاثيُّ أحسنُ من الثُّنَائي والأحادي ومن الرباعي والخماسي فذكر حازم وغيرُه من شروطِ الفصاحة: أن تكونَ الكلمةُ متوسطةً بين قلَّةِ الحروف وكثرتها والمتوسطةُ ثلاثة أحرف فإن كانت الكلمةُ على حرف واحد مثل قِ فعل أمْر في الوصل قَبُحَتْ وإن كانت على حرفين لم تقبح إلا أن يليَها مثلُها وقال حازم أيضا: المُفْرِط في القِصَر ما كان على مقطع مقصور والذي لم يُفْرِط ما كان على سبب والمتوسط ما كان على وتد أو على سبب ومقطع مقصور أو على سببين والذي لم يُفْرط في الطول ما كان على وتد وسبب والمُفْرط في الطول ما كان على وتدين أو على وتد وسببين قال: ثم الطولُ تارة يكون بأصل الوضع وتارةً تكونُ الكلمةُ متوسطةً فتطيلها الصلة وغيرها كقول أبي الطَّيب:

 

خَلَت البلاد من الغَزَالةِ ليلَها ** فأعاضَهَاكُ اللهُ كي لا تحزنا

 

وقول أبي تمام: * ورفعت للمستنشدين لوائي *

 

قال في عروس الأفراح: فإن قلْتَ: زيادةُ الحروف لزيادة المعنى كما في اخْشَوْشَنَ ومقتدر وكَبْكَبُوا فكيفَ جعلتم كثرةَ الحروف مُخِلًّا بالفصاحةِ مع كثرةِ المعنى فيه قلت: لا مانع من أن تكون إحدى الكلمتين أقلَّ معنًى من الأخرى وهي أفصحُ منها إذ الأمور الثلاثة التي يشترط الخلوص عنها لا تعلق بالمعنى.

الحادية عشرة

 

قال في عروس الأفراح: ليس لكل معنى كلمتان: فصيحةٌ وغيرُها بل منه ما هو كذلك وربما لا يكون للمعنى إلا كلمةٌ واحدةٌ فصيحةٌ أو غير فصيحة فيضطرّ إلى استعمالها وحيثُ كان للمعنى الواحد كلمتان ثلاثية ورباعية ولا مُرَجِّح لإحداهما على الأخرى كان العدول إلى الرباعيّة عدولًا عن الأفصح ولم يوجد هذا في القرآن الكريم. انتهى.

الثانية عشرة

 

قال الإمام أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل المشهور بالراغب وهو من أئمة السنة والبلاغة في خطبة كتابه المفردات: فألفاظ القرآن هي لبُّ كلام العرب وزُبْدَتُه وواسطته وكرائمه وعليها اعتمادُ الفقهاءِ والحكماءِ في أحكامهم وحِكَمِهم وإليها مَفْزَعٌ حُذّاق الشعراء والبُلَغاء في نَظْمهم ونَثْرهم وما عداها وما عدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتَقاتِ منها هو بالإضافة إليها كالقشُور والنَّوَى بالإضافة إلى أطايب الثمرة وكالحُثالة والتِّبْن بالنسبة إلى لُبُوبِ الحِنْطة. انتهى.

الثالثة عشرة

 

ألَّف ثعلب كتابه الفصيح المشهور التزَم فيه الفصيحَ والأفصحَ مما يجري في كلام الناس وكُتُبهم وفيه يقول بعضهم:

 

كتاب الفصيح كتاب مفيد ** يقال لقاريه ما أَبْلَغَه

 

بنيّ عليك به إنه ** لُبابُ اللبيب وصِنْوُ اللغة

 

وقد عكفَ الناسُ عليه قديمًا وحديثًا واعْتَنَوْا به؛ فشرحه ابن دَرَسْتَويه وابن خالويه والمرزوقي وأبو بكر بن حيَّان وأبو محمد بن السيد البطليوسي وأبو عبد الله بن هشام اللخمي وأبو إسحاق إبراهيم بن علي الفهري وذيَّل عليه الموفق عبد اللطيف البغدادي بذيل يُقَاربُه في الحَجْم ونَظمه ومع ذلك ففيه مواضعُ تعقَّبها الحُذَّاق عليه.

 

قال أبو حفص الضرير: سمعت أبا الفتح ابن المراغي يقول: سمعتُ إبراهيم بن السَّرِيّ الزجاج يقول: دخلتُ على ثعلب في أيام المبرد وقد أملى شيئا من المُقْتَضَب فسلّمتُ عليه وعنده أبو موسى الحامِض وكان يَحْسُدني كثيرا ويُجَاهِرُني بالعدَاوة وكنتُ أَلِينُ له وأحْتَمِلُه لموضع الشَّيْخُوخَة فقال ثعلب: قد حَمل إليَّ بعضَ ما أَمْلاهُ هذا الخَلَدِيّ [ يعني المبرد ] فرأيتُه لا يَطُوعُ لسانُه بعبارة فقلت له: إنه لا يَشُكُّ في حُسْن عِبارته اثنان ولكنَّ سوءَ رأيك فيه يَعيبُه عندك فقال: ما رأيته إلا أَلْكَن متفلّقًا فقال أبو موسى: والله إن صاحبَكم ألكَنَُ يعني سيبويه فأحْفَظني ذلك ثم قال: بلغني عن الفراء أنه قال: دخلت البصرة فلقيتُ يونس وأصحابه [ فسمعتهم ] يذكرونه بالحِفْظِ والدّراية وحُسنِ الفِطْنة وأتيتُه فإذا هو [ أعجم ] لا يفْصِح، وسمعته يقول لجارية [ له ]: هاتي ذِيكِ الماءَ من ذلكِ الجرَّة، فخرجتُ عنه ولم أَعُد إليه؛ فقلت له: هذا لا يصحُّ عن الفراء وأنتَ غير مأمون عليه في هذه الحكاية ولا يعرفُ أصحاب سيبويه من هذا شيئا، وكيف يقول هذا مَنْ يقول في أول كتابه: هذا بابُ علم ما الكَلِم من العربية، وهذا يعجِز عن إدْراك فهمه كثيرٌ من الفُصَحاءِ فضلًا عن النُّطق به. فقال ثعلب: قد وجدتُ في كتابه نحو هذا. قلت: ما هو قال: يقول في كتابه في غير نُسْخَة: حاشا حرفٌ يخفِضُ ما بعدَه كما تَخْفِضُ حتّى وفيها مَعْنى الاستثناء، فقلتُ له: هذا هكذا وهو صحيح ذهب في التذكير إلى الحرْف وفي التأنيث إلى الكلمة قال: والأجود أن يُجْعلَ الكلام على وجْهٍ واحد قلت: كلٌّ جيد. قال الله تعالى: " وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لله ورسولهِ ويَعْمَل صالحًا " وقُرِئَ: { وتعمل صالحًا } وقال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ } ذهب إلى المعنى ثم قال: { ومِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ } ذهب إلى اللفظ، وليس لقائل أن يقول: لو حُمِل الكلامُ على وجْهٍ واحد في الآيتين كان أجوَدَ لأن كلًّا جيّد، وأما نحن فلا نذكرُ حدودَ الفراء لأن خَطَأَه فيها أكثرُ من صوابه ولكن هذا أنت عملتَ كتابَ الفصيح للمتعلم المبتدئ وهو عشرون ورقة أخطأتَ في عشرة مواضع منه فقال لي: اذكرها. قلت له: نعم قلتَ " وهو عِرق النَّسا " ولا يقال إلا النَّسا كما لا يقال: عِرْق الأكْحَل ولا عرق الأَبْهَر، قال امرؤ القَيْس:

 

فأَنْشَب أَظْفَاره في النَّسا ** فقلت: هُبِلْتَ ألا تنتصر

 

وقلتَ: حَلَمْتُ [ في النوم ] أحلُم حُلمًا، وحُلُم ليس بمَصْدَر إنما هو اسم، قال الله تعالى: { والَّذِين يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ } وإذا كان للشيء مصدر واسمٌ لم يوضع الاسمُ مَوضعَ المصدر، ألا ترى أنك تقول: حَسِبْتُ الشيءَ أحسِبه حَسْبًا وحُسْبَانًا والحَسْبُ المصدر والحِساب الاسم فلو قلت ما بلغَ الحَسْب إليّ أو رفعتُ الحَسْبَ إليك لم يَجُزْ وأنتَ تريد: ورفعَتَ الحَسْاب إليك. وقلتَ: رجلٌ عَزَب وامرأة عزبة وهذا خطأٌ وإنما يقال رجل عزب وامرأة عزب لأنه مصدر وُصِف به ولا يثنى ولا يجمع ولا يُؤنَّث كما تقول: رجل خَصْم ولا يقال امرأة خصمة، وقد أثبتَّ من هذا النوع في الكتاب وأفردتَ هذا منه قال الشاعر: * يا مَنْ يَدُلُّ عَزَبًا عَلَى عَزَبْ * وقلتُ: كِسْرى بكسر الكاف وهذا خطأٌ إنما هو كَسْرى بفتحها والدليل أنا وإياكم لا نختلفُ في أن النسَب إلى كسرى كَسْرَويّ بفتح الكاف وهذا ليس مما تُغَيِّرُه ياءُ الإضافة لبُعْدِه منها، ألا ترى أنك لو نسبتَ إلى مِعْزَى ودِرْهم لقلت مِعزي ودِرهمي ولم تقل مَعزي ولا دَرهمي. وقلت: وعدتُ الرجلَ خيرًا وشرًا فإذا لم تذكر الشرّ قلت: أوعدتُه بكذا وقولك كذا كنايةٌ عن الشر. والصوابُ أن يقال: وإذا لم تذكر الشر قلت أَوْعَدْته. وقلتَ: هم المُطَوَّعة وإنما هو المُطَّوِّعة بتشديد الطاء كما قال تعالى: { الذين يَلْمِزُون المُطَّوِّعين من المؤمنين } فقال: ما قلتُ إلا المُطَّوِّعة. فقلت له: هكذا قرأته عليك وقرأَه غيري وأنا حاضرٌ أسمعُ مِرارًا. وقلتَ: هو لِرشْدَةٍ وزِنْيَة كما قلتَ: هو لِغيّة، والبابُ فيهما واحد [ لأنه ] إنما يريدُ المرَّة الواحدة ومَصادِر الثلاثي إذا أردت المرّةَ الواحدة لم تختلفْ تقول: ضربتُه ضَربة وجلستُ جَلْسَة وركبتُ رَكْبة لا اخْتلاف [ في شيء ] من ذلك بين أحدٍ من النحويين وإنما كُسِر ما كان هيئةَ حال فتصفها بالحسن والقُبْح وغيرهما فتقول هو حَسنُ الجِلسة والسِّيرة والرِّكبة وليس هذا من ذاك. وقلتَ: هي أَسْنُمَة فِي البَلَد ورواه الأصمعي أسْنُمة بضم الهمزة فقال: ما رَوَى ابن الأعرابي وأصحابه إلا أَسْنُمَة بفَتْحِها فقلت له: قد علمتَ أن الأصمعي أضبط لما يحكيه وأوثَق فيما يُرويه. وقلت: إذا عزَّ أخوك فهُن، والكلام فهِن، وهو من هان يَهين [ إذا لان ]، ومنه قيل هَيِّنٌ لَيّنٌ لأن هُن من هانَ يَهون [ وهان يهون ] من الهوان؛ والعربُ لا تأمرُ بذلك ولا معنى هذا فصيح لو قلته؛ ومعنى عزَّ ليس من العِزَّة التي هي مَنَعَةٌ وقُدْرة وإنما هي من قولك عزَّ الشيءَ إذا اشتدَّ، ومعنى الكلام إذا صعب أخوك واشتدَّ فَذِلّ له من الذِّل ولا معنى للذُّلّ ههنا كما تقول: إذا صعُب أخوك فهِن له. قال أبو إسحاق: فما قُرِئ عليه كتابُ الفصيح بعد ذلك عِلْمِي، ثم سئم بعدُ فأنكر كتابه الفصيح. انتهى.

 

وذكر طائفة أن الفصيحَ ليس تأليف ثعلب وإنما هو تأليف الحسن بن داود الرقّي وقيل تأليف يعقوب بن السكيت.

الرابعة عشرة

 

قال ابن دَرَسْتَويه في شرح الفصيح: كلُّ ما كان ماضيه على فعَلت بفتح العين ولم يكن ثانيه ولا ثالثه من حُروف اللِّين ولا الحَلْق فإنه يجوزُ في مُستَقْبله يفعُل بضم العين ويفعِل بكسرها كضرب يضرِب وشكر يشكرُ وليس أحدُهما أولى به من الآخر ولا فيه عند العرب إلا الاستحسانُ والاستخفاف فمما جاء واسْتُعْمِلَ فيه الوجهان قولهم: نفر ينفِر وينفُر وشتم يشتِمُ ويشتُم فهذا يدلُّ على جواز الوجهين فيهما وأنهما شيء واحد لأنَّ الضمّة أختُ الكسرة في الثِّقل كما أن الواو نظيرةُ الياء في الثقل والإعلال ولأن هذا الحَرْفَ لا يتغيّرُ لفظه ولا خطُّه بتغيير حركته.

 

فأما اختيارُ مؤلِّف كتاب الفصيح في ينفِر ويشتِم فلا عِلَّة له ولا قياس بل هو نقضٌ لمذهب العرب والنحويين في هذا الباب فقد أخبرنا محمد بن يزيد عن المازني والزيادي والرباشي عن أبي زيد الأنصاري وأخبرنا به أيضا أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري عنهم وعن أبي حاتم وأخبرنا به الكسروي عن ابن مهدي عن أبي حاتم عن أبي زيد أنه قال: طُفْتُ في عُلْيا قيس وتميم مدةً طويلة أسألُ عن هذا الباب صغيرَهم وكبيرَهم لأعرف ما كان منه بالضم أوْلى وما كان بالكسر أولى فل أجدْ لذلك قياسًا وإنما يتكلّم به كلُّ امرئ منهم على ما يَسْتَحْسِن ويستخفُّ لا على غير ذلك ونظنُّ المختارُ لِلْكَسْرِ هُنَا وَجَدَ الكَسر أَكثرَ استعمالًا عند بعضهم فجعلَه أفصحَ مِنَ الذي قلَّ استعمالهُ عندهم وليست الفصاحة في كثرةِ الاستعمال ولا قِلَّته وإنما هاتان لغتان مُستَويتان في القياس والعلّة وإن كان ما كَثر استعماله أعرف وآنس لطول العادة له.

 

وقد يلتزمون أحدَ الوجهين للفَرْق بين المعاني في بعض ما يجوز فيه الوجهان كقولهم: ينفرُ بالضم من النِّفار والاشمئزاز وينفِر بالكسر من نَفْر الحُجاج من عرَفَات فهذا الضربُ من القياس يُبْطِل اختيارَ مؤلف الفصيح الكسر في ينفِر على كل حال.

 

ومعرفةُ مثل هذا أنْفع من حِفْظ الألفاظ المجرّدة وتقليدِ اللغة مَنْ لم يكن فقيهًا فيها وقد يلهج العربُ الفصحاء بالكلمة الشاذّة عن القياس البعيدة من الصواب حتى لا يتكلّموا بغيرها وَيَدَعوا المُنْقاس المطَّرِد المختار، ثم لا يَجِبُ لذلك أن يُقالَ: هذا أفصحُ من المتروك.

 

من ذلك قول عامة العرب: إيش صنعت. يريدون أي شيء، ولا بشانيك، يعنون لا أب لشانيك.

 

وقولهم: لا تبل، أي لا تبالي.

 

ومثل تركهم استعمال الماضي واسم الفاعل من: يَذَر ويَدَع واقتصارهم على: تَرَك وتارك، وليس ذلك لأن تَرك أفصحُ من وَدع ووذر وإنما الفصيح ما أَفْصَحَ عن المعنى واستقام لفظهُ على القياس لا ما كثُر استعمالهُ. انتهى.

 

ثم قال ابن دَرَسْتَويه: وليس كُلُّ ما ترك الفصحاءُ استعمالَه بخطأ فقد يتركون استعمالَ الفصيح لا ستغنائهم بفصيحٍ آخر أو لعلَّة غير ذلك. انتهى.

الفصل الثاني في معرفة الفصيح من العرب

 

أفصحُ الخلق على الإطلاق سيدُنا ومولانا رسول الله ﷺ حبيب رب العالمين جلَّ وعلا قال رسول الله ﷺ: أنا أفصحُ العرب. رواه أصحاب الغريب، ورووه أيضا بلفظ: أنا أفصَحُ من نَطق بالضاد بَيْدَ أني من قريش.

 

وتقدم حديث: أن عمر قال: يا رسول الله ما لَكَ أفْصحنا ولم تخرج من بين أظْهُرِنا، الحديث.

 

وروى البيهقي في شعب الإيمان عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: أن رجلًا قال: يا رسول الله ما أفْصَحَك فما رأينا الذي هو أعْرَبُ منك. قال: حقّ لي فإنما أُنزل القرآن عليّ بلسانٍ عربي مبين.

 

وقال الخطابي: اعلم أن الله لما وضعَ رسوله ﷺ موضع البلاغ من وَحْيه ونَصَبه مَنْصِب البيان لدينه اختار له من اللغات أعربَها ومن الألْسُن أفصحَها وأبينَها ثم أمدَّه بجوامع الكَلم.

 

قال: ومِنْ فصاحته أنه تكلّم بألفاظ اقْتَضَبَها لم تُسْمَع من العرب قبله ولم توجد في مُتقدّم كلامها كقوله: مات حَتْف أَنْفه، وحَمِيَ الوطيس، ولا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحرٍ مرَّتين. في ألفاظ عديدة تَجْري مَجْرى الأمثال. وقد يدخل في هذا إحْدَاثُه الأسماء الشرعية. انتهى.

 

وأفصح العرب قريش.

 

قال ابن فارس في فقه اللغة: باب القول في أفصح العرب، أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد مولى بني هاشم بقَزْوين قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن عباس الحشكي قال: حدثنا إسماعيل بن أبي عبيد الله قال: أَجْمَع علماؤنا بكلام العرب والرُّواة لأشعارهم والعلماءُ بلُغاتهم وأيامهم ومحالِّهم أن قُرَيْشًا أفصحُ العربِ أَلْسِنَةً وأَصْفَاهُمْ لَغةً؛ وذلك أن الله تعالى اختارَهم من جميع العرب واختارَ منهم محمدًا $، فجعلَ قريشًا قُطَّانَ حَرَمه ووُلاةَ بَيْته؛ فكانت وفودُ العرب من حجَّاجها وغيرهم يَفِدُونَ إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش [ في دارهم ]، وكانت قريشٌ مع فصاحتها وحسْن لُغاتها ورِقَّة أَلْسِنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخَيَّرُوا من كلامهم وأشعارهم أحسنَ لُغَاتهم وأصْفَى كلامهم، فاجتمعَ ما تخَيَّروا من تلك اللغات إلى سلائقِهم التي طُبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصحَ العرب. ألا ترى أنك لا تجدُ في كلامهم عَنْعَنة تميم ولا عَجْرفية قَيْس ولا كشْكَشَة أسد ولا كَسْكَسَة ربيعة ولا كسر أسد وقيس.

 

وروى أبو عبيد من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات منها خمسٌ بلغة العَجُز من هوازن وهم الذين يقال لهم عُلْيا هوازن، وهم خمس قبائل أو أربع منها سعد بن بكر وجُشَم بن بكر ونَصْر بن معاوية وثقيف. قال أبو عبيد: وأحسب أفصحَ هؤلاء بني سعد بن بكر، وذلك لقول رسول الله ﷺ: أنا أفصح العرب بَيْدَ أني من قريش وأني نشأْتُ في بني سعد بن بكر. وكان مُسْتَرْضعًا فيهم، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء: أفصحُ العرب عُلْيا هَوازن وسُفْلَى تميم.

 

وعن ابن مسعود: إنه كان يُسْتَحَبُّ أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مُضَر.

 

وقال عمر: لا يُمْلِيَنَّ في مصاحفنا إلا غِلْمان قريش وثقيف.

 

وقال عثمان: اجعلوا المُملِي من هُذَيل والكاتبَ من ثقيف.

 

قال أبو عبيدة: فهذا ما جاء في لغات مضر. وقد جاءت لغاتٌ لأهلِ اليمن في القرآن معروفةٌ. ويروى مرفوعًا: نزل القرآن على لغة الكَعْبَيْن، كعب بن لُؤَيّ وكعب بن عمرو وهو أبو خزاعة.

 

وقال ثعلب في أماليه: ارتفعت قريشٌ في الفصاحة عن عَنْعَنَةِ تميم وتَلْتَلةِ بَهْرَاء وكَسْكَسَة ربيعة وكَشْكَشَةِ هَوَازن وتضجع قريش وعجرفية ضبّة. وفسّر تَلْتَلَة بَهْرَاء بكسر أوائل الأفعال المُضَارعة.

 

وقال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمّى بالألفاظ والحروف: كانت قريشٌ أجودَ العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النُّطْق وأحسنها مسموعًا وأبينها إبانَة عما في النفس؛ والذين عنهم نُقِلت اللغة العربية وبهم اقْتُدِي وعنهم أُخِذَ اللسانُ العربي من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثرُ ما أُخِذ ومعظمه وعليهم اتُّكل في الغريب وفي الإعراب والتَّصْريف، ثم هذيل وبعض كِنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضَريٍّ قطّ ولا عن سكَّان البَرَاري ممن كان يسكنُ أطرافَ بلادِهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم فإنه لم يؤخذ لا مِنْ لَخْم ولا من جذَام لِمُجاوَرتهم أهل مصر والقِبْط ولا من قُضاعة وغَسَّان وإياد لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرؤون بالعبرانية ولا من تغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس ولا من عبد القيس وأَزْدعُمَان لأنهم كانوا بالبحرين مُخالطين للهِند والفُرس ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجّار اليمن المقيمين عندهم ولا من حاضرة الحجاز لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدؤوا ينقلون لغةَ العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت أَلسِنتهم والذي نقل اللغةَ واللسانَ العربي عن هؤلاء وأَثْبَتها في كتاب فصيَّرها عِلْمًا وصناعة هم أهلُ البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب. انتهى.

فرع

 

رَُتَبُ الفصيح متفاوتةٌ ففيها فصيحٌ وأفصح ونظيرُ ذلك في علوم الحديث تفاوت رُتَبِ الصحيح ففيها صحيحٌ وأَصَحّ.

 

ومن أمثلة ذلك: قال في الجمهرة: البُرُّ أفصحُ من قولهم القَمْح والحنْطة. وأنصَبَه المرضُ أعْلى من نَصَبَه. وغلب غَلَبًا أفصح من غَلْبًَا. واللغوب أفصحُ من اللغب.

 

وفي الغريب المصنف: قَرَرت بالمكان أجود من قَرِرت.

 

وفي ديوان الأدب: الحِبْر: العالم وهو بالكسر أفصح لأنه يجمع على أفْعال والفَعل يجمع على فُعُول ويقال: هذا مَلْك يميني وهو أفصحُ من الكسر.

 

وفي أمالي القالي: الأَنملة والأُنملة لغتان: طرف الأصبع وأَنملة أفصح.

 

وفي الصحاح: ضَرْبة لازب أفصحُ من لازم وبُهِت أفصحُ من بَهُتَ وبَهِت.

 

وقال ابن خالويه في شرح الفصيح: قد أجمع الناس جميعًا أن اللغة إذا وَرَدت في القرآن فهي أفصح مما في غير القرآن لا خلافَ في ذلك.

فائدة

 

قال ابن خالويه في شرح الدريدية: فإن سأل سائل فقال: أوفى بعهده، أفصحُ اللغات وأكثرها، فلِمَ زعمت ذلك؟ وإنما النحوي الذي ينقِّر عن كلام العربِ ويحتجّ عنها ويَبِين عمّا أَوْدَع الله تعالى من هذه اللغة الشريفة هذا القبيل من الناس وهم قريش، فقل: لمَّا كان وفَى بعهده يجذبه أصلان: مِنْ وفَى الشيء إذا كَثُرَ ووفَى بعَهْدِهِ اختاروا أَوْفَى إذا كان لا يشكل ولا يكونُ إلا للعَهْدِ.

 

 

 

 

 

 

 

=======

 

 

 

النوع العاشر

معرفة الضعيف والمنكر والمتروك من اللغات

 

 

 

 

الضعيف: ما انحطَّ عن دَرجة الفصيح والمُنْكَر أَضعفُ منه وأقلُّ استعمالًا بحيثُ أنكرَه بعضُ أَئمة اللغة ولم يَعْرِفه.

 

والمتروك: ما كان قديمًا من اللغات ثم تُرِك واسْتُعْمِل غيرُه وأمثلةُ ذلك كثيرة في كتب اللغة.

 

منها في ديوان الأدب للفارابي: اللَّهَجَة لغة في اللَّهْجة وهي ضعيفة وأَنْبَذ نبيذًا لغة ضعيفة في نَبَذَ. وانْتُقِعَ لونه لغة ضعيفة في امْتُقِع وتَمَنْدَلَ بالمنديل لغة ضعيفة في تَنَدَّلَ وواخاه في آخاه وهي ضعيفة. والامْتِحَاء لغة ضعيفة في الإمْحاء.

 

وفيه: الجَلَد أن يسلخ الحُوار فيُلْبَس جلده حُوارًا آخر.

 

وفيه الخَرِيع من النساء: التي تَتَثَنَّى من اللين والخَرِيع: الفاجِرَة وأنكرها الأصمعي.

 

وفي نوادر أبي زيد: كان الأصمعي ينكر هي زوجتي وقُرِئ عليه هذا الشعر لعبدة بن الطبيب فلم يُنْكِره: * فبكى بناتي شجوهنَّ وزوجتي *

 

وقال القالي: قال الأصمعي: لا تكادُ العربُ تقول زوجته.

 

وقال يعقوب: يقال زوجته وهي قليلة، قال الفرزدق: * وإنَّ الذي يَسْعَى ليُفْسِد زوجتي *

 

وفي نوادر أبي زيد: شَغِب عليه لغة في شَغَب وهي لغةٌ ضعيفة.

 

وفيها: يقال: رَعِف الرجل لغة في رَعَف وهي ضعيفة.

 

وفي أمالي القالي: لغة الحجاز ذَأَى البقْل يَذْأَى وأهل نجد يقولون: ذَوَى يَذْوي وحكى أهل الكوفة ذَوِي أيضا وليست بالفصيحة.

 

وفي الصحاح: المِرْزاب لغة من الميزاب وليست بالفَصيحة. ولغِب بالكسر يَلْغَب لغة ضعيفة في لَغَب يَلْغُب. والإعراس لغة قليلة في التَّعْريس وهو نزولُ القوم في السَّفر من آخر الليل.

 

وفي شرح الفصيح لابن درستويه: جمع الأمّ أُمّات لغة ضعيفة غيرُ فصيحة، والفصيحة أمَّهات.

 

وفي نوادر أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي: تقول العرب عامة: عَطَس يعطِس يكسرون الطاء من يعطِس إلا قليلًا منهم يقولون يَعْطُس.

 

ويقول أهل الحجاز: قتَر يَقْتِر ولغة فيها أخرى يقتُر بضم التاء وهي أقلَّ اللغات.

 

وقال البطليوسي في شرح الفصيح: المشهور في كلام العرب ماءٌ مِلْح ولكن قول العامة مَالِح لا يعدُّ خطأ وإنما هو لغة قليلة.

 

وقال ابن درستويه في شرح الفصيح: قول العامة حَرِصت بالكسر أَحرص لغة معروفة صحيحة إلا أنها في كلام العرب الفصحاء قليلة والفصحاء يقولون بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل.

 

وقال أيضا: العامة تقول: اعْنَ بحَاجتي على لغة من يقول عَنِيت بالحاجة وهي لغةٌ ضعيفة.

 

وفي الجمهرة الدُّجا مقصور: الظلمة في بعض اللغات يقال: ليلةٌ دجياء - زعموا.

 

وفيها: الخَوَى: الجوع مقصور قد مدَّه قوم وليس بالعلي.

 

وفيها: خُنْدَع يقال إنه الضفدع في بعض اللغات.

 

وفيها: الخُنْعَبَة: المتدَّلية في وسط الشفة العليا في بعض اللغات.

 

وفيها البُرْصوم: عِفَاص القارورة ونحوها في بعض اللغات.

 

وفيها: العُرَيْنَة في بعض اللغات: طَرَفُ الأنف.

 

وفيها: تَحَثْرف الشيء من يدي إذا بَدَّدْتُه في بعض اللغات.

 

وفيها: الحِثْرمة: الناتئة في وسط الشَّفة العليا في بعض اللغات.

 

وفيها: الطَّيْثَار: البعوض في بعض اللغات.

 

وفيها: الزُّلْقوم في بعض اللغات: الحلقوم.

 

وفيها: العين في بعض اللغات تسمى البصَّاصة.

 

وفيها: شَقَي في لغة طيئ في معنى شَقِي ومثله بَقَي في معنى بَقِي وبَلَى في معنى بَلِي ورَضَي في معني رَضِيَ.

 

وفيها: هَبَّت الريح هُبوبًا وقالوا: هَبًّا وليس في اللغة العالية.

 

وفيها: تَمَتَّى: في معنى تمطَّى في بعض اللغات.

 

وفيها: القُرَّة: الضِّفْدَع في بعض اللغات.

 

وفيها: الغُزَّان: الشدْقان في بعض اللغات الواحد غُزّ.

 

وفيها الكُشَّة: الناصية في بعض اللغات.

 

وفيها: اللِّصت في بعض اللغات: اللِّصُّ.

 

وفيها: الضفْدعة في بعض اللغات: النقَّاقة.

 

وفيها: المَنَا: الذي يُوزَن به ناقِص وذكروا أن قومًا من العرب يقولون: مَنّ وَمَنَّان وأَمْنَان وليس بالمأخوذ به.

 

وفيها: النَّملة الصغيرة في بعض اللغات تسمى النِّمَّة.

 

وفيها: الصُّفْصُف: العصفور في بعض اللغات.

 

وفيها: ذَأَى العود ليس باللغة العالية والفصيح ذَوَى.

 

وفيها: الصُّوَّة في بعض اللغات: الأرض ذات الحجارة.

 

وفيها: صَحَبْتُ المَذْبُوح: إذا سَلَخْته في بعض اللغات.

 

وفيها: الخَزَب: الخَزَف المعروف في بعض اللغات.

 

وفيها: البَخْو: الرِّخْو في بعض اللغات.

 

وفيها: ربما سُمِّي النهرُ الصغير رَبيعًا في بعض اللغات ومنها قيل الرَّبيع في معنى الرُّبع.

 

والثَّمين في معنى الثُّمن ولم تجاوز العربُ في هذا المعنى الثَّمين.

 

وقال بعضهم بل يقال: التسيع والعَشِير والأول أعلى.

 

وفيها: الهُبْر: مُشَاقَةُ الكَتَّان في بعض اللغات.

 

ومن أمثلة المنكر ما في الجمهرة: قال قومُ: بَلق الدابة وهذا لا يعرف في أصل اللغة.

 

وفيها: قال قوم: نَبْلة واحدة النَّبْل وليس بالمعروف.

 

وفي الصحاح: جَرَعْتُ الماءَ بالفتح لغة أنكرها الأصمعي والمعروف جَرِعت بالكسر.

 

وفي المقصور للقالي: يقال سقط على حَلاوى القَفَا وحَلاوَة القفا وحُلاوى القفا.

 

وقال أبو عبيدة: يجوز أيضا على حَلاوةِ القفا وليست بالمعروفة.

 

ومن أمثلة المتروك، قال في الجمهرة: كان أبو عمر بن العلاء يقول: مَضَّنِي كلام قديم قد تُرك قال ابن دريد: وكأنه أراد أن أمَضَّني هو المستعمل.

 

قال في الجمهرة: خوّان يومٌ من أيام الأسبوع من اللغة الأولى، وخَوَّان وخُوَّان شهر من شهور السنة العربية الأولى.

 

وفي الصحاح للجوهري: جَفَأْتُ القدر: كَفَأْتُها وصبَبْتُ ما فيها ولا تقل أَجْفَأْتها وأما الحديث الذي فيه فَأجفؤوا قُدُورهم بما فيها. فهي لغةٌ مجهولة فهذا يُحتمل أن يكون من أمثلة المتروك ويحتمل أن يكون من أمثلةِ المُنْكَر.

 

وفي شرح المعلقات لأبي جعفر النحاس: قال الكسائي: مَحْبوب مِن حَبَبْتُ، وكأنها لغةٌ قد ماتت كما قيل: دمت أدوم ومت أموت، وكان الأصل أن يقال: أمات وأدام في المستقبل إلا أنها قد تركت.

 

قال في الجمهرة: أسماء الأيام في الجاهلية: السبت: شِيَار والأحد: أَوّلُ والاثنين: أَهْونَ وأوْهَد والثلاثاء: جُبَار والأربعاء: دِبُار والخميس: مُؤْنِس والجمعة: عَرُوبة.

 

وأسماء الشهور في الجاهلية: المُؤْتَمِر وهو المحرّم. وصفر وهو ناجِر. وشهر ربيع الأول وهو خَوَّان وقالوا: خُوَّان وربيع الآخر وهو وَبْصَان. وجمادى الأولى: الحَنِين. وجمادى الآخرة: ربَّى. ورجب: الأَصَمّ. وشعبان: عادل. ورمضان: ناتِق. وشوَّالَ: وَعِلْ. وذُو القعدة: وَرْنَة. وذو الحجة: بُرَك.

 

وقال الفراء في كتاب الأيام والليالي: خُوَّانَ من العرب من يخفِّفه ومنهم مَنْ يَشدّده. التثنية خَوَانان والجمع أخونة ووبْصَان منهم مَنْ يقُول: بوصان على القَلْب ومنهم مَنْ يُسقط الواو ويقول: بُصَان مَضموم مخفّف. والحَنِينَ منهم مَنْ يفتح حاءه ومنهم مَنْ يَضمّه.

 

قال: وجمادى الآخرة يسمى وَرْنَةَ ساكن الراء ومنهم مَنْ يقول: رِنة كزِنة قال: وذو القعدة يسمى هُوَاعًا.

 

وقال ابن خالَويه: اختلف في جمادى الآخرة فقال قُطْرب وابن الأنباري وابن دريد: هو رُبَّى بالباء وقال أبو عمر الزاهد: هذا تصحيف إنما هو رُبَّى وقال أبو موسى الحامض: رِنَة.

 

وقال القالي: في المقصور والَممدود: قال ابن الكلبي: كانت عاد تسمِّي جمادى الأولى رُنَّى وجمادى الآخرة حَنِينًا.

 

وفي الصحاح: يقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سمَّوْها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق شهرُ رمضان أيامَ رَمَضَ الحرّ فسُمِّي بذلك.

تنبيه

 

الفرقُ بين هذا النوع وبين النوع الثاني أن ذاك فيما هو ضعيف من جهة النَّقل وعدم الثبوت وهذا فيما هو ضعيف من جهة عدم الفصاحة مع ثبوته في النقل فذاك راجعٌ إلى الإسناد وهذا راجعٌ إلى اللفظ.

 

========

النوع الحادي عشر

معرفة الرديء المذموم من اللغات

 

 

 

 

هو أقبحُ اللغات وأنزلُها درجة.

 

قال الفراء: كانت العربُ تحضر المَوسِم في كل عام وتحجُّ البيتَ في الجاهلية وقريشٌ يسمعون لغاتِ العرب فما اسْتحسنوه من لغاتهم تكلّموا به فصاروا أفصحَ العرب وخلَتْ لغتُهم من مُستبْشع اللغات ومُستقبَح الألفاظ؛

 

من ذلك: الكَشْكَشة وهي في ربيعة ومضر يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شِينًا فيقولون: رَأَيْتُكش وبكَش وعَليْكَش فمنهم من يُثبتُها حالةَ الوقف فقط وهو الأشْهر ومنهم من يُثبتها في الوصل أيضا ومنهم من يَجعلها مكانَ الكاف ويكسرها في الوصل ويُسكنِّها في الوقف فيقول: مِنْش وَعَليْش.

 

ومن ذلك: الكَسْكَسة وهي في ربيعة ومُضر يجعلون بعد الكافِ أو مكانها في المذكر سينًا على ما تقدم وقصدوا بذلك الفَرْقَ بينهما.

 

ومن ذلك: العَنْعَنة وهي في كثير من العرب في لغة قيس وتميم تجعل الهمزة المبدوء بها عينًا فيقولون في أنك عنّك وفي أسْلم عَسْلم وفي أذُن عُذُن.

 

ومن ذلك: الفَحفَحة في لغة هُذَيل يجعلون الحاء عَيْنًا.

 

ومن ذلك: الوكْم في لغة ربيعة وهم قوم من كَلْب يقولون: عليكِم وبكِم حيث كان قبل الكاف ياء أو كسرة.

 

ومن ذلك: الوهْم في لغة كلْب يقولون: منهِمْ وعنهِم وبينهِمْ وإن لم يكن قبل الهاء ياءٌ ولا كسرة.

 

ومن ذلك: العَجْعَجَة في لغة قضاعة يجعلون الياء المشدَّدة جيمًا يقولون في تميمي: تميمِجّ.

 

ومن ذلك: الاستنطاء في لغة سعد بن بكر وهذيل والأزد وقيس والأنصار تجعل العين الساكنة نونًا إذا جاورت الطاء كأنْطي في أعْطِي.

 

ومن ذلك: الوتم في لغة اليمن تجعل السين تاء كالنات في الناس.

 

ومن ذلك: الشَّنشنة في لغة اليمن تجعل الكاف شينًا مطلقًا كلبَّيْش اللهم لبَّيْش أي لبيك.

 

وقال ابن فارس في فقه اللغة: باب اللغات المذمومة - فذكر منها العَنْعَنَة والكشكشة والكَسكَسة والحرف الذي بين القاف والكاف في لغة تميم والذي بين الجيم والكاف في لغة اليمن وإبدال الياء جيمًا في الإضافة نحو غُلامج وفي النسب نحو بَصرجّ وكُوفِجّ.

 

ومن ذلك الخَرْم وهو زيادةُ حرف الكلام لا الذي في العروض كقوله: * ولا للما بهم أبدًا دواء * وقوله: * وصاليات كَكَما يُؤَثْفَيْنْ * قال: وهذا قبيحٌ لا يزيد الكلام قُوَّة بل يُقَبِّحه.

 

وذكر الثعالبي في فقه اللغة من ذلك: اللَّخْلَخَانيَّة تَعْرِض فِي لغة أعراب الشِّحْر وعُمان كقولهم: مَشَا الله [ كان ]، يريدون: ما شاء الله [ كان ].

 

والطُّمْطُمانيَّة تَعْرِض في لغة حِمْيَر كقولهم: طاب أمْهَوَاء: أي طاب الهواءُ.

 

وهذه أمثلة من الألفاظ المفردة:

 

في الجمهرة: الطَّعْسَفَة لغةٌ مرغوب عنها يقال: مرَّ يُطَعْسِفُ في الأرض إذا مرَّ يَخْبِطُهَا.

 

وفي الغريب المصنف: يقال حفرت البئر حتى أَمَهْتُ وأَمْوَهْت وإن شئتَ أَمْهَيْتُ وهي أبعد.

 

وفي الجمهرة: تَدَخْدَخ الرجل إذا انقبض لغةٌ مرغوب عنها ورضَبَت الشاة لغةٌ مرغوب عنها والفصيح رَبَضَتْ.

 

وفي أمالي القالي: يقال: بَغْداد وبَغْدَان ومغدان وبَغْدَاذ وهي أقلها وأردَؤها.

 

وفي أدب الكاتب لابن قُتَيبة: يقال في أسنانه حَفَر وهو فسادٌ في أصول الأسنان وحَفْر رديئة. ويقال: فلان أحْوَل من فلان من الحِيلة لأن أصل الياءِ فيها واو من الحَول ويقال: أحْيل وهي رديئة.

 

وفي ديوان الأدب للفارابي: الفِصّ بالكسر لغة في الفَصّ وهي أردأ اللغتين وأَشْغَلَه لغة في شَغله وهي رديئةٌ وانْدَخَل أي دخل وليس بجيّد. والدجاج بالكسر لغة في الدجاج وهي لغة رديئة. والوحْل بالسكون لغةٌ في الوحَل وهي أردأُ اللغتين. والوَتَد بفتح التاء لغة في الوَتِد وهي أردَأ اللغتين واليِسار بالكسر لغة في اليسار وهي أرْدؤُهما. ويقال: هو أَخْيَرُ منه في لغة رديئة والشائعُ خيرٌ منه بلا هَمْز.

 

وفي الصحاح قال الخليل: أفَلَطني لغةٌ تميمية قبيحة في أفلتني.

 

وفي نوادر اليزيدي يقال: أَلَقْتُ الدواة إلاقة ولُقْتُها ليقًا رديئة. وتقول: أَقَلْتَه البيع إقالة وقِلْتُهُ قيلًا رديئة. وأنتن اللحم فهو مُنْتِن وقد يقال له: مِنتِن بالكسر وهي رديئة خبيثة. وتقول في كل لغة: هذا مَلاك الأمر وفِكاك الرقاب وقد جاء عن بعض العرب أنه فتح هذين الحرفين وهي رديئة وتقول: رابني الرجل وأما أرابني فإنها لغة رديئة.

 

وفي شرح الفَصِيح للبَطْليوسي: الرُّنْزُ: لغة في الأرز وهي رديئة وقال ابن السكّيت في الإصلاح: يقال: في الإشارة: تَلك بفتح التاء لغةٌ رديئة.

 

قال ابن دَرَسْتَويه في شرح الفصيح: قول العامة نحويّ لغوي على وزن جهل يجهل خطأ أو لغة رديئة وقوله: دَمِعَتْ عيني بكسر الميم لغة رديئة.

 

وقال ابن خالويه في شرح الفصيح: قال أبو عمرو: أكثر العرب تقول: تلك وتيك لغةٌ لا خيرَ فيها. ويقال: حَدَر القراءة يحْدُرُها ويحْدِرها ولا خيرَ فيها وسُؤْت به ظنًّا وأسأت به ظنًّا ولا خيرَ فيها والطِّرياق لغة في التِّرياق ولا خير فيها. وحَوْصَلة الطائر مخفّفة ولا خير في التَّثْقيل وبعضُ العرب يسمِّ الصَّفا والعصا لغة سوء ويقال: تَطَالَلْت بمعنى تطاولت لغة سوء. وتميم تقول: الحمدِ لله بكسر الدال ولا خير فيها. انتهى.

 

وفي الصحاح: أَوقفت الدابّة لغة رديئة.

 

وفيه: أَعَقَّت الفرس أي حملت فهي عَقُوق ولا يقال مُعِق إلا في لغة رديئة وهو من النوادر.

 

وفيه غَلَقْتُ البابَ غَلْقًَا لغة رديئة متروكة.

 

وفيه: لا يقال ماء مالح إلا في لغة رديئة. ولا يقال: أشَرُّ الناس إلا في لغة رديئة.

 

وفي تهذيب التبريزي: الحُوار بالضم: ولد الناقة والحوار بالكسر لغة رديئة.

 

وفي المقصود والممدود للقالي: في نفساء ثلاث لغات: نُفَساء وهي الفصيحةُ الجيدة ونَفْساء ونَفَساء وهي أقلّها وأردؤها.

 

وفي المجمل: قال ابن دريد: الثَّحْج لغة مرغوب عنها لمهْرَة بن حَيْدَانَ يقولون: ثَحَجه برجْله إذا ضربه بها.

 

وفي الأفعال لابن القوطيّة: حَدَرت السفينة والقِراءة والرباعي لغة رديئة.

 

=========

النوع الثاني عشر

معرفة المطرد والشاذ

 

 

 

 

قال ابن جني في الخصائص: أصل مواضع (ط ر د) في كلامهم التتابع والاستمرار؛ من ذلك طَرَدت الطَّرِيدة إذا اتبعتَها واستمرت بين يديك ومنه مطارَدَة الفُرْسان بعضهم بعضًا، [ ألا ترى أن هناك كرًّا وفرًّا فكلٌّ يطرد صاحبه ]، ومنه المِطْرَد: رمحٌ قصيرٌ يطرد به الوحش. واطَّرد الجدول إذا تتابع ماؤُه بالريح. ومنه بيت الأنصاريّ: * أتعرف رسما كاطِّراد المذاهب * أي كتتابع المذاهب، [ وهي جمع مُذْهَب ].

 

وأما مواضع (ش ذ ذ) في كلامهم فهو التفرق والتفرد. من ذلك قوله: * يَتركْن شَذَّان الحَصَى جَوافِلا * أي ما تطاير وتهافتَ منه. وشذَّ الشيء يشُذّ ويشِذ شذُوذًَا وشذًّا وأشْذَذْتُهُ وشَذَذْتُهُ أيضا أَشُذّه بالضم لا غير. وأباها الأصمعي وقال: لا أعرف إلا شاذًا أي متفرقًا، وجمع شاذّ شُذَّاذ، قال: * كبعضِ من مَرَّ من الشُّذَّاذ *

 

هذا أصل هذين الأصلين في اللغة، ثم قيل ذلك في الكلام والأصوات على سَمْته وطريقه في غيرهما فجعل أهلُ عِلم العرب ما استمرّ من الكلام في الإعراب وغيره من مواضع الصناعة مُطَّردًا وجعلوا ما فارق عليه بِقيّةُ بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذًا حَمْلًا لهذين الموضعين على أحكام غيرهما.

 

قال: ثم اعلم أن الكلام في الاطّراد والشذوذُ على أربعة أضرب:

 

مُطَّرِد في القياس والاستعمال جميعًا وهذا هو الغاية المطلوبة وذلك نحو قام زيد وضربتُ عمرًا ومررت بسعيدٍ.

 

ومُطَّرِد في القياس شاذٌّ في الاستعمال وذلك نحو الماضي من يَذَر ويدَع، وكذلك قولهم: مكان مُبْقِل، هذا هو القياس، والأكثر في السَّماع باقل، والأول مسموع أيضا حكاه أبو زيد في كتاب حِيْلة وَمحَالة وأنشد: * أعَاشَني بَعْدَك وادٍ مُبْقِلُ * ومما يَقْوى في القياس ويضعُف في الاستعمال استعمال مفعول عسى اسمًا صريحًا نحو قولك: عسى زيد قائمًا أو قيامًا هذا هو القياس غير أن السماع ورَد بحَظْرِه والاقتصار على ترك استعمال الاسم هاهنا وذلك قولهم: عسى زيد أن يقوم و { عسى الله أن يأتي بالفتح } وقد جاء عنهم شيء من الأول أنشدنا أبو علي:

 

أكثرتَ في العذْلِ مُلحًّا دائما * لا تَعْذُلَنْ إني عَسِيتُ صائما

 

ومنه المثل السائر: عَسَى الغُوَيْرُ أَبْؤُسًا.

 

والثالث المُطَّرِد في الاستعمال الشَّاذ في القياس، نحو قولهم: أَخْوَصَ الرِّمْث واستصوبت الأمر. أخبرنا أبو بكر [ محمد بن الحسن عن ] أحمد بن يحيى قال: يقال: استصوبت الشيء ولا يقال استصبت. ومنه استَحْوذَ وأغْيلت المرأة واستنوق الجملُ واسْتَتْيَسَت الشاة واسْتَفْيَل الجمل. [ قال أبو النجم: * يدير عَيْنَيْ مُصْعَب مُسْتَفْيل * ]

 

والرابع - الشاذ في القياس والاستعمال جميعًا وهو كتتميم مفعول مما عينه واو [ أو ياء ] نحو ثوب مَصْوُون ومسك مَدْووف وحكى البغداديّون: فرس مَقْوُود ورجل معْوود من مَرَضه وكلُّ ذلك شاذٌّ في القياس والاستعمال فلا يسوغ القياس عليه ولا ردُّ غيره إليه.

 

قال: واعلم أن الشيء إذا اطَّرد في الاستعمال وشذّ عن القياس فلا بدَّ من اتِّباع السمع الوارد به فيه نفسه لكنه لا يُتَّخذ أصلًا يقاسُ عليه غيرُه ألا ترَى أنك إذا سمعت استحوذ واستصوب أدَّيتهما بحالهما ولم تتجاوز ما ورد به السمعُ فيهما إلى غيرهما فلا تقول في استقام [ الأمر مثلا ] استقوم [ ولا في استساغ استسوغ ] ولا في استباع استبْيَع ولا في أعاد أعوَد [ لو لم تسمع شيئا من ذلك ] قياسًا على قولهم: أَخْوَصَ الرِّمث؛ فإن كان الشيء شاذًّا في السماع مطردا في القياس تحاميتَ ما تحامت العربُ من ذلك وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله.

 

من ذلك امتناعك من وذر وودَع لأنهم لم يقولوهما ولا غَرو [ عليك ] أن تستعمل نظيرهما نحو وَزن ووعد لو لم تسمعهما.

 

ومن ذلك استعمال "أن" بعد كاد نحو قولك: كاد زيد أن يقوم وهو قليلٌ شاذّ في الاستعمال وإن لم يكن قبيحًا ولا مَأْبيًّا في القياس.

 

ومن ذلك قول العرب: أقائم أخواك أم قاعدان؛ هكذا كلامهم.

 

قال أبو عثمان: والقياس مُوجب أن تقول أقائم أخوَاك أم قاعدٌ هُما، إلا أن العربَ لا تقولهُ إلا قاعدان فتصل الضمير، والقياس يوجب فصله ليعادل الجملة الأولى.

ذكر نبذ من الأمثلة الشاذة في القياس المطردة في الاستعمال

 

قال الفارابي في ديوان الأدب: يقال أحْزَنه يَحْزُنُه قال تعالى: { ولا يَحْزُنْك } وهذا شاذٌّ وكان القياس يُحزِنه ولم يُسْمَع. ويقال: أحَمَّه الله من الحمَّى فهو محموم وهو من الشَّواذ والقياسُ مُحَمّ وأجنَّه الله من الجنون فهو مُجَنّ وهو من الشواذّ.

 

قال: ومن الشواذّ باب فَعِل يفعِل بكسر العين فيهما، كوَرِث وورِع ووبِق ووثِق ووفِق وومِقَ ووِرم وورِي الزَّند وَوَلي وِلاية وَيَبِس يَيَبس لغة في يبس يَيْبِس ويقال: أورس الشجر إذا اصفرَّ ورقه فهو وارس ولا يقال مُورس وهو من الشواذ.

 

ومن الشواذ أيضا قولهم: القَوْد والعَوَر والخَوَل والخور وقولهم: أحوجني الأمر وأرْوَح اللحم وأسْود الرجل من سواد لونِ الولد وأحوز الإبل أي سار بها. وأعور الفارس إذا بدا فيه موضعُ خَلل للضَّرب. وأَحْوشَ عليه الصيد إذا أنفره ليصيدَه وأخْوَصت النَّخلة من الخَوص. وأعْوص بالخَصْمِ إذا لوى عليه أمره. وأفوق بالسهم لغة في أفاق. وأشْوكت النخلة من الشَّوْك وأنْوكْت الرجل إذا وجدته أنوك. وأحَوْلَ الغلام إذا أتى عليه حَوْل وأطولت في معنى أطلت. وأعْول أي بكى ورفع صوته. وأقْوَلْتَني ما لم أقُل وأعْوَه القوم لغة في أعاه أي أصاب ماشيَتَهم عاهَة وأَخْيَلت السماء وأغْيَمَت لغة في أغامت وأغْيل فلان ولده لغة في أغال.

 

وفي أمالي ثعلب: قال أبو عثمان المازني قالت العرب: زُهي الرجل وما أزْهاه وشُغِل وما أشْغله وجُنَّ وما أَجَنَّه هذا الضَّرْب شاذ وإنما يُحْفظ حِفْظًا.

 

وفي الصحاح للجوهري: تقول جئت مجيئًا حسنًا وهو شاذ لأن المصدر من فَعَل بفِعل مَفعَل بفتح العين وقد شذّت منه حرُوفٌ فجاءت على مَفْعِل كالمجِيءِ والمحيض والمَكيل والمَصِير.

 

وفيه: شَنآن بالتحريك والتسكين وقُرِئ بهما وهما شاذّان فالتحريك شاذّ في المعنى لأن فَعَلان إنما هو من بناء ما كان معناه الحركة والاضطراب كالضرَبان والخَفَقان والتسكين شاذٌّ في اللفظ لأنه لم يجئ شيءٌ من المصادر عليه.

 

وقال ابن السراج في الأصول: اعلم أنه ربما شذَّ من بابه فينبغي أن تعلم أن القياس إذا اطَّرَد في جميع الباب لم يكن بالحرف الذي يشذّ منه. وهذا مستعمل في جميع العلوم ولو اعتُرض بالشاذّ على القياس المطّرد لبطل أكثرُ الصناعات والعلوم فمتى سمعت حَرْفًا مخالفًا لا شكَّ في خلافه لهذه الأصول فاعلم أنه شذّ فإن كان سُمع ممن تُرْضَى عربيته فلا بدّ من أن يكون قد حاول به مذهبًا أو نحا نحْوًا من الوجوه أو استهواه أمرٌ غلطه.

 

قال: وليس البيتُ الشاذّ والكلام المحفوظ بأدنى إسناد حجةً على الأصل المُجْمَع عليه في كلامٍ ولا نحو ولا فِقه وإنما يَرْكَن إلى هذا ضَعفة أهل النحو ومَنْ لا حجةَ معه وتأويل هذا وما أشبهه في الإعراب كتأويل ضعفة أصحاب الحديث وأتباع القصاص في الفقه.

 

وفيه: لا يقال هذا أبيض من هذا. وأجازه أهلُ الكوفة واحتجُّوا بقول الرَّاجز:

 

جارِية في دِرْعِها الفَضْفَاض ** أبيضُ من أُخت بَنِي أُبَاضِ

 

قال المبرد: البيتُ الشاذُّ ليس بحجة على الأصل المُجْمَع عليه.

فائدة

 

قال ابن خالويه في شرح الفصيح: قال أبو حاتم: كان الأصمعي يقولُ أفصحُ اللغات ويُلغي ما سواها وأبو زيد بجعلُ الشاذّ والفصيح واحدًا فيجيز كلَّ شيء قيل.

 

قال: ومثال ذلك أن الأصمعي يقول: حزَنني الأمر يحزُنني ولا يقول أحزنني.

 

قال أبو حاتم: وهما جائزان لأن القراء قرؤوا " لا يَحزُنهما الفَزَعُ الأَكْبَرُ "ولا يُحْزِنهم. جميعًا بفتح الياء وضمها.

 

===========

النوع الثالث عشر

معرفة الحوشي والغرائب والشواذ والنوادر

 

 

 

 

هذه الألفاظ مُتَقاربة وكلّها خلافُ الفصيح.

 

قال في الصحاح: حُوشيُّ الكلام وَحْشِيّه وغَرِيبه.

 

وقال ابن رشيق في العمدة: الوَحْشِيُّ من الكلام ما نَفر عن السمع.

 

ويقال له أيضا حُوشِي كأنّه منسوب إلى الحُوشِ وهي بقايا إبل وبار بأرض قد غَلَبَتْ عليها الجنّ فعمرتها ونفَتْ عنها الإنس لا يطؤها إنسي إلا خبلوه، قال رؤبة: * جرَت رجالًا من بِلاد الحُوشِ *

 

قال: وإذا كانت اللفظةُ حسنةً مُسْتَغربة لا يعلمُها إلا العالم المبرز والأعرابي القحّ فتلك وَحشيّة.

 

قال إبراهيم بن المهدي لكاتبه عبد الله بن صاعد: إياك وتتبع وحشي الكلام طمعًا في نيل البلاغة فإن ذلك هو العي الأكبر، وعليك بما سَهُل مع تجنبك ألفاظ السفل.

 

وقال أبو تمام يمدح الحَسنَ بن وَهْبَ بالبلاغة:

 

لم يتّبع شَنَع اللغات ولا مشى ** رَسْفَ المقيّد في طَرِيق المنطقِ

 

والغَرائب جمع غريبة وهي بمعنى الحوشيّ والشوارد جمع شاردة وهي أيضا بمعناها وقد قابل صاحب القاموس بها الفصيح حيث قال: مشتملًا على الفُصُح والشوارد. وأصلُ التشريد التَّفْريق فهو من أصل باب الشذوذ والنوادر جمع نادرة.

 

وقال في الصحاح: نَدَر الشيء يندر نُدُورًا: سقَط وشذَّ ومنه النوادر وقد أَلَّفَ الأقدمون كتبًا في النوادر كنوادر أبي زيد ونوادر ابن الأعرابي ونوادر أبي عمرو الشيباني وغيرهم وفي آخر الجمهرة أبوابٌ معقودةٌ للنوادر وفي الغريب المصنف لأبي عبيد بابٌ لنوادر الأسماء وبابٌ لنوادر الأفعال وألف الصغانيّ كتابًا لطيفًا في شوارد اللغة ومن عبارات العلماء المستعملة في ذلك النادرة وهي بمعنى الشوارد.

فائدتان

 

الأولى - قال ابن هشام: اعلم أنهم يستعملون غالبًا وكثيرا ونادرًا وقليلًا ومطَّردًا فالمطَّرد لا يتخلَّف والغالبُ أكثر الأشياء ولكنه يتخلَّف والكثير دونه والقليل دون الكثير والنادر أقل من القليل فالعشرون بالنسبة إلى ثلاثة وعشرين غالبُها والخمسة عشر بالنسبة إليها كثير لا غالب والثلاثة قليل والواحد نادر فعلم بهذا مراتبُ ما يُقالُ فيه ذلك.

 

الثانية - قال ابن فارس في فقه اللغة: باب مراتب الكلام في وُضوحه وأشكاله أما واضحُ الكلام فالذي يفهمه كلّ سامع عرَف ظاهرَ كلام العرب وأما المُشْكِل فالذي يأتيه الإشكالُ من وجوه: منها غرابة لفظه كقول القائل: يَمْلَخُ في الباطل مَلْخًَا. يَنْفضُ مِذْرَوَيْه. وكما جاء أنه قيل: أيُدَالِكَ الرجلُ امْرَأتَهُ قال: نعم إذا كان مُلْفَجًَا. ومنه في كتاب الله تعالى: { فلا تَعْضِلُوهُنَّ } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ } { سَيِّدًا وَحَصُورًا } { وتُبْرئُ الأَكْمَهَ }. وغيرُه مما صنَّف فيه عُلَمَاؤُنا كتبَ غريب القرآن.

 

ومنه في الحديث: على التِّيعَة شاةٌ [ والتِّيمَةُ لصاحبها ] وفي السُّيُوب الخُمْس لا خِلاط ولا وِراط ولا شِنَاق ولا شِغَار. ومَنْ أَجْبى فَقَد أرْبَى وهذا كتابهُ إلى الأقْيَال العَبَاهِلة.

 

ومنه في شعر العرب:

 

وقاتم الأعماق شأز بمن عَوّه

 

مَضْبُورَةٌ قَرْوَاءُ هِرْجاب فُنُقْ

 

وفي أمثال العرب: باقِعةٌ وشرّابٌ بأنْقُعٍ ومُخْرَنَبق لِيَنْبَاعَ.

ذكر أمثلة من النوادر

 

قال أبو عبيد في الغريب المصنف: نوادر الأسماء البرْت: الرجلُ الدليل. والحَرْش: الأثَر. والعَيْقَة: ساحلُ البحر. ويقال: شَيْن عَبَاقِيَة للذي له أثرٌ باق. (و ث ي ج) الوَثيجُ من كل شيء: الكثيف. واللَّويَّة: ما خَبَأَتْه من غيرك التَّلَهْوق مثل التَّمَلُّق. والوَبيل: الحُزْمة من الحطب. تزوّج فلان لُمَّته من النساء أي مثله. العَرين: اللحم. الصُّمَادح: الخالص من كل شيء. النسع: العرق. الشُّوَاية: الشيء الصغير من الكبير كالقطعة من الشاة. وشِوَاية الخبز: القرص، نلان في معنى الآن. أنشدنا الأحمر:

 

نَوِّلِي قَبْلَ نَأْيِ دَارِي جُمَانَا ** وصِليهِ كما زَعَمْتِ تَلانَا

 

الغُبَّة من الشيء: البُلْغَة [ من العيش ]. وهو على شصاصاء أمْرٍ أي على عجلةٍ وعلى حدِّ أمر. النَّاصاة: النَّاصيَة في لغة طيء.

 

ومن نوادر الفعل: مَتَعْتُ بالشيء: ذهبت. تَشَاوَل القوم: تناول بعضُهم بعضًا عند القتال [ بالرماح ]. خرج يَسْتَمِي الوَحْشَ: يَطْلُبُهَا. هَلْهَلْتَ أُدْركه: أي كِدْت. آزيت على صَنِيع بني فلان أي أضْعَفْت عليه. آض يئيض أيضا: صار وردت على القوْم التِقَاطًَا إذا لم تَشْعُرْ بهم حتى تَرِد عليهم وردت الماء نِقابًا مثل الالتقاط. أزْلَجتُ الباب إزلاجًا: أغلقته. جاء فلان توًّا إذا جاء قاصدًا لا يُعَرِّجُه شيء. فإن أقام ببعض الطريق فليس بتوّ اسْتادَ القومُ بني فلان استِيادًا إذا قتلوا سيّدهم أو خَطَبوا إليه. اسْتَأْتَنْتُ أتانًا: اتَّخَذت أتانًا. كَمَيْت الشهادة أكميها: كتمتُها. ذرَّحْت الزعفران وغيره في الماء إذا جعلت فيه منه شيئا يسيرًا. يَقِنْت الأمر يقَنًا من اليقين ما أبْرح هذا الأمر أي ما أعجبه.

 

ونوادرُ الأسماء والأفعال كثيرة لا يمكنُ اسْتِقْصَاؤُهَا.

 

قال في الجمهرة: ومن نوادر قولهم أن يقولوا: أفعلت أنا وفعلت بغيري.

 

فمن ذلك: أكببت على الشيء تَجَانأْتُ عليه وكببت الشيء أكبّه إذا قلبته.

 

وقال ابن خالويه في شرح الدريدية: يقال أكبّ لوجهه أي سقط وكبّه الله وهذا حرف نادر جاء خلاف العربية لأن الواجب أن يقول: فعل الشيء وأفعله غيره.

 

وفي الصحاح: حكى يونس لَبُبْتَ يا رجل بالضم: أي صرت ذا لُبّ وهو نادر ولا نظير له في وفي شرح الدريدية لابن خالويه: يقال طاف الخيال يطوف وأخبرنا ابن مجاهد عن السمري عن الفراء قال: سمعت شيخًا من النحويين - وكان ثقة - يقال له الأحمر يقال: طِفت بالكَسر وهو نادر.

 

وفي شرح الفصيح له: يقال ما أحسن شِبْره أي طُوله وما أحسنَ عماه مثله وهما حرفان نادران.

 

ومن الشوارد: الأجيار جمع جيران حكاه ابن الأعرابي: وأجبته جِيبى على وزن فعلى حكاه اللحياني.

 

ومن الغرائب: قال ياقوت في بعض نسخ الصحاح: الخازباز: السِّنَّوْر عن ابن الأعرابي قال: وهو من أغْرَب الأشياء والمشهور أنه اسمٌ للذباب ولِدَاء يأخذ الإبل في حُلُوقها ولِنَبْت.

 

وفي شرح المقامات لسلامة الأنباري: الوَطْبُ: وِعاء اللبن مشهور وكذا المِحْقَن وهو غريب.

 

وقال ابن خالويه في شرح الدريدية في قول الشاعر:

 

بِسَرْوِ حِمْيرَ أَبوالُ البِغَالِ بهِ ** أَنَّى تَسَدَّيتِ وَهْنًَا ذلكِ البِينَا

 

أبوال البغال في هذا البيت: السراب قال: وهذا حرف غريب حدثناه أبو عمر الزاهد.

 

وفي المجمل لابن فارس: الإبرة معروفة وأَبْرَتْه العقرب: ضربته بإبْرَتها وإبْرَة الذراع مستدقّها، والإبار تلقيح النخل، ونخلة مأبورة ومؤبرة، وتأبر النخل قَبِل الإبار، وذلك مشهور.

 

ومما يستغرب قليلًا: المآبر وهي النَّمائم الواحد مِئْبَرَة.

 

وفيه: الجُود: الجوع، سمعت القطان يقول: سمعت عليًا يقول: هذا أغربُ حَرْفٍ فيه، يريدُ في باب الجوع.

 

============

النوع الرابع عشر

معرفة المستعمل والمهمل

 

 

 

 

تقدم في النوع الأول عدَّة الأبنية المستعملة والمهمَلة وكان هذا محلّه.

 

قال ابن فارس: المهمل على ضربين: ضربٌ لا يجوز ائتلاف حروفه في كلام العرب البتّة وذلك كجيم تؤلّف مع كاف أو كاف تقدّم على جيم وكعين مع غين أو حاء مع هاء أو غين فهذا وما أشبَهه لا يأْتَلِف.

 

والضَّرْبُ الآخر: ما يجوزُ تألّف حروفه لكنَّ العرب لم تقل عليه وذلك كإرادة مُرِيد أن يقول عضخ فهذا يجوز تألّفه وليس بالنّافر ألا تراهم قد قالوا في الأحرف الثلاثة: خضع لكن العرب لم تقل عضخ فهذان ضربان للمهمل.

 

وله ضربٌ ثالث وهو أن يريد مريدٌ أن يتكلّم بكلمةٍ على خمسة أحرف ليس فيها من حروف الذُّلْق أو الإطباق حرف وأي هذه الثلاثة كان فإنه لا يجوز أن يسمّى كلامًا. وأهل اللغة لم يذكروا المهمل في أقسام الكلام، وإنما ذكروه في الأبنية المهملة التي لم تقل عليها العرب.

 

وقال ابن جني في الخصائص: أما إهمالُ ما أُهْمِل مما تحتمله قسمةُ التركيب في بعض الأصول المتصوّرة أو المستعملة فأكثرهُ متروكٌ للاستثقال وبقيتُه ملحقةٌ به ومقَفَّاة على إثْره.

 

فمن ذلك ما رُفِض استعماله لتَقَارُب حروفه نحو سص وصص وطت وتط وضش [ وشض؛ وهذا حديث واضح ] لنُفور الحسِّ عنه والمشقَّة على النفس لتكلّفه. وكذلك نحو قج وجق وكق وقك وكج وجك وكذلك حروف أعني حروف الحَلق هي من الائتلاف أبْعَدُ لتَقَارُب مَخارجها عن مُعظَم الحروف أعني حروف الفم وإن جُمع بين اثنين منها يقدَّم الأقوى على الأضعف نحو: أهل وأحَدٍ وأخٍ وعَهد وعَهْر وكذلك متى تقاربَ الحرفان لم يُجْمَع بينهما إلا بتقديم الأقوى منهما نحو أُرُل وَوَتِد وَوطْد يدل على أن الراء أقْوَى من اللام أن القَطع عليها أقوى من القَطع على اللام وكأنَّ ضَعْف اللام إنما أتاها لما تُشْرَبه من الغُنَّة عند الوقوف عليها ولذلك لا تكاد تَعْتاص اللام. وقد ترى إلى كثرة اللَّثْغَة في الكلام بالراء. وكذلك الطاء والتاء هما أقوى من الدال وذاك لأن جَرْس الصوت بالتاء والطاء عند الوقوف عليهما أقْوَى منه وأظهر عند الوقوف على الدال.

 

وأما ما رُفِض أن يُسْتَعْمل وليس فيه إلا ما استُعمِل من أصله فالجوابُ عنه تابعٌ لما قبله وكالمحمُول على حُكمه وذلك أن الأصولَ ثلاثة: ثلاثيّ ورباعيّ خماسيِ فأكثرُها استعمالًا وأَعْدَلُهَا تركيبًا الثلاثيّ وذلك لأنه حرفٌ يُبْتدأ به وحَرْفٌ يُحْشَى به وحرف يُوقَف عليه وليس اعتدالُ الثلاثيّ لقلَّةِ حروفه فحسب ولو كان كذلك لكان الثنائيّ أكثرَ منه اعتدالًا لأنه أقلُّ حروفًا وليس الأمر كذلك.

 

ألا ترى أن ما جاء من ذوات الحرفين جزءٌ لا قَدْر له فيما جاء من ذوات الثلاثة وأقلُّ منه ما جاء على حرفٍ واحد فتمكُّن الثلاثي إذن إنما هو لقلَّة حروفه ولشيء آخر وهو حَجْز الحَشْو الذي هو عينُه بين فائه ولامه وذلك لتباينهما وتعادي حاليهما ألا ترى أن المُبْتدأ به لا يكون إلا متحرِّكًا وأن الموقوف عليه لا يكون إلا ساكنًا فلما تنافرت حالاهما وسَّطوا العين حاجزًا بينهما لئلّا يفجؤوا الحسّ بضدِّ ما كان آخذًا فيه ومُنصبًّا إليه فقد وضح بذلك خفَّة الثلاثي.

 

وإذا كان كذلك فذوات الأربعة مستثقلةٌ غيرُ متمكنة تمكَّن الثلاثي لأنه إذا كان الثلاثي أخفّ وأمْكَنَ من الثنائي على قلَّة حروفه فلا محالة أنه أخفُّ وأمكن من الرباعي لكَثْرة حروفه ثم لا شكّ فيما بعد في ثِقَل الخماسيّ وقوة الكلْفة به فإذا كان كذلك ثقُل عليهم مع تناهيه وطوله أن يَسْتَعملوا في الأصل الواحد جميعَ ما تنقسم إليه به جهات تركيبه وذلك أن الثلاثي يتركّب منه ستة أصول نحو جَعْلَ جَلْع عِلْج لجْع لَعْج عِجْل والرّباعي يتركب منه أربعة وعشرون أصلًا وذلك أنك تضرب الأربعة في التراكيب التي خرجت عن الثلاثي وهي ستة فيكون ذلك أربعة وعشرين تركيبًا المستعملُ منها قليلٌ وهي: عَقْرب وبُرْقع وعَرْقَب وعَبْقَر ولو جاء منه غيرُ هذه الأحرف فعسى أن يكونَ ذلك والباقي مهملٌ كله وإذا كان الرباعي مع قُرْبه من الثلاثي إنما استُعْمل منه الأقل النَّزْر فما ظنّك بالخماسي على طوله وتقاصر الفِعل الذي هو مِئَنّة من التصرف والثقل عنه فلذلك قلَّ الخماسي أصلًا. ثم لا تجد أصلًا مما رُكِّب منه قد تُصُرّف فيه بتغيير نَظْمه ونَضَده كما تُصُرف في باب عَقْرب بَعَبْقر وعرقب وبُرْقع ألا ترى أنك لا تجد شيئا من نحو سَفَرْجل قالوا فيه: سَرَفجل ولا نحو ذلك مع أن تقليبه يبلغ مائة وعشرين أصلًا. ثم لم يُسْتعمل من ذلك إلا سفرجل وحده فأما قول بعضهم: زبردج فَقَلْبٌ لَحِق الكلمة ضرورة في بعض الشعر ولا يقاس فدلَّ ذلك على استكراههم ذوات الخمس لإفراط طولها فأوجبت الحالُ الإقلالَ منها وقَبْضَ اللسان عن النُّطْق بها إلا فيما قلَّ ونَزُر ولما كانت ذوات الأربعة تليها وتتجاوز أعدل الأصول - وهو الثلاثي - إليها مسَّها بقُرْبها منه قلةُ التصرف فيها غيرَ أنها في ذلك أحسنُ حالًا من ذواتِ الخمسة لأنها أدنى إلى الثلاثة منها وكان التصرُّفُ فيها دون تصرف الثلاثي وفوقَ تصرّف الخماسي ثم إنهم لما أمسُّوا الرباعي طرفًا صالحًا من إهمال أصوله وإعدام حال التمكّن في تصرفه تخطَّوا بذلك إلى إهمال بعض الثلاثي لا من أجل جفاء تراكيبه لتقارُبه نحو سص وصس لكن من قِبل أنهم حَذَوه على الرُّباعي كما حَذوا الرباعي على الخماسي ألا ترى أن لجع لم يُهْمل لثِقله فإن اللام أخت الراء والنون وقد قالوا: نجع فيه ورجع عنه واللام أخت الحرفين وقد أُهملت في باب اللجع فدلَّ على أن إهمالَ لجع ليس للاستثقال بل لإخلالهم ببعض أصول الثلاثي لئلا يخلو هذا الأصلُ من ضَرْبٍ من الإهمال مع شِياعه واطّراده في الأصلين اللذين فوقه كما أنهم لم يُخْلوا الخماسي من بعض تصرّف بالتحقير والتكسير والترخيم فعُرِف أن ما أُهْمِل من الثلاثي لغير قُبْحِ التأليف نحو: ضث وثض وثذ وذث إنما هو لأن محلّه من الرباعي محلُّ الرباعي من الخماسي فأتاه ذلك القَدْر من الجمود من حيث ذلك كما أتى الخماسيّ ما فيه من التصرّف في التكسير والتحقير والترخيم من حيث كان محلّه من الرباعي محلَّ الرباعي من الثلاثي وهذه عادةٌ للعرب مألوفة وسنّةٌ مسلوكة إذا أعطوا شيئا من شيء حُكْمًا ما قابلوا ذلك بأن يُعْطُوا المأخوذ منه حكمًا من أحكام صاحبه أمارة بينهما وتتميمًا للشَّبَه الجامع لهما، [ ألا تراهم لما شبّهوا الاسم بالفعل فلم يصرفوه كذلك شبهوا الفعل بالاسم فأعربوه ].

 

وإذ قد ثبت أن الثلاثي في الإهمال محمولٌ على حكم الرباعي فيه لقُربه من الخماسي [ بقي علينا أن نورد العلة ] التي لها استعمل بعض الأصول من الثلاثي والرباعي والخماسي دون بعض. وقد كانت الحالُ في الجميع متساوية.

 

فنقول: اعلم أن واضعَ اللغة لما أراد صَوْغَها وترتيبَ أحوالها هجَم بِفِكره على جميعها ورأى بعين تَصَوِّره وجوه جُمَلها وتفاصيلها فعلِم أنه لا بدّ من رفْض ما شَنُع تأليفه منها نحو: هع وقخ وكق فنَفَاه عن نفسه ولم يَمْزجه بشيء من لفظه وعَلِم أيضا أن ما طال وأملَّ بكثرة حروفه لا يمكنُ فيه من التصَرُّف ما أمكن في أعدَل الأصول وأخفّها وهو الثلاثي وذلك أن التصرّف في الأصل وإن دعا إليه قياسٌ - وهو الاتساع به في الأسماء والأفعال والحروف - فإن هناك من وجْهٍ آخر ناهيًا عنه ومُوحِشًا منه وهو أنَّ في نَقل الأصل إلى أصلٍ آخر - نحو صبر وبصر وضرب وربض - صورة الإعلال نحو قولهم: ما أطيبه وأيْطَبَه واضمحل وامضحلّ وقِسِيّ وأَينق وهذا كله إعلالٌ لهذه الكلِم وما جرى مجراها فلما كان انتقالهم من أصل إلى أصل نحو صبر وبصر مشابهًا للإعلال من حيث ذكرنا كان عذرًا لهم في الامتناع من استيفاء جميع ما تحتمِله قسمةُ التركيب في الأصول فلما كان الأمر كذلك واقتضت الضرورةُ رفْضَ البعض واستعمال البعض جرت موادُّ الكلم عندهم مَجْرى مالٍ مُلقًى بين يَدَيْ صاحبه وقد عزم على إنفاق بعضه دون بعض فميَّزَ رديئه وزائفه فنفاه البتة كما نَفَوّْا عنهم تركيب ما قَبُح تأليفه ثم ضرب بيده إلى ما لطُف له من جيّده فتناوله للحاجة إليه وترك البعض الآخر لأنه لم يُرِد استيعاب جميعَ ما بين يديه منه لما قدمنا ذِكْره وهو يرى أنه لو أخذ ما ترك مكان أخْذ ما أَخذ لأغْنى عن صاحبه وأدَّى في الحاجة إليه تأديته ألا ترَى أنهم لو استعملوا لجع مكان نجع لقام مقامه وأغنى مَغْناه ثم قد يكون في بعض ذلك أغراضٌ لهم لأجلها عدَلوا إليه على ما تقدَّمت الإشارةُ إليه في مناسبةِ الألفاظ للمعاني.

 

وكذلك امتناعُهم في الأصل الواحد من بعض مُثُله واستعمال بعضها كرَفْضِهم في الرباعي مثل فَعْلُل وفَعلِل وفُعْلَل لما ذكرناه فكما توقَّفوا عن استيفاء جميع تراكيب الأصول كذلك توقفوا عن استيفاء جميع أمثلة الأصل الواحد من حيثُ كان الانتقال في الأصل الواحد من مثالٍ إلى مثال في النقْص والاختلال كالانتقال في المادة الواحدة من تركيبٍ إلى تركيب لكنَّ الثلاثي جارٍ فيه لخِفَّته جميع ما تحتملُه القِسمةُ وهي الاثنا عشر مثالًا إلا مثالًا واحدًا وهو فِعُل فإنه رُفِض للاستثقال لما فيه من الخروج من كَسْرٍ إلَى ضم. انتهى كلام ابن جني.

 

==========

النوع الخامس عشر

معرفة المفاريد

 

 

 

 

قال ابن جني في الخصائص: المسموعُ الْفَرْد هل يقبل ويحتجُّ به؟ له أحوال:

 

أحدها - أن يكون فردًا بمعنى أنه لا نظير له في الألفاظ المسموعة مع إطباق العرب على النُّطق به فهذا يُقْبَل ويحتجُّ به ويُقاس عليه إجماعًا كما قِيس على قولهم في شَنُوءة شَنَئِيّ الحال.

 

الثاني - أن يكون فردًا بمعنى أن المتكلِّم به من العرب واحد ويخالف ما عليه الجمهور فينظر في حال هذا المنفرد به فإن كان فصيحًا في جميع ما عدا ذلك القَدْر الذي انفرد به وكان ما أورده مما يقبلُه القياسُ إلا أنه لم يَرِد به استعمالٌ إلا من جهة ذلك الإنسان فإنّ الأَوْلى في ذلك أن يحسن الظنّ به ولا يحمل على فساده.

 

فإن قيل: فمن أين ذلك وليس يجوز أن يَرْتجل لغةً لنفسه قيل: يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغةٍ قديمة طال عهدُها وعَفا رسمُها فقد أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الحبَاب قال: قال لي ابن عَوْن عن ابن سيرين قال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: كان الشعرُ علم قوم ولم يكن لهم علمٌ أصحَّ منه فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العربُ بالجهاد وغزْوِ فارسَ والروم ولَهَت عن الشعر ورِوايته فلما كَثُر الإسلام وجاءت الفتُوحُ واطمأنت العرب في الأمصار راجعُوا رِواية الشعر فلم يَؤُولوا إلى ديوان مُدَوَّن ولا كتاب مكتوب وألْفَوا ذلك وقد هلك من العرب مَنْ هَلَك بالموت والقتل فحفِظوا قُلّ ذلك وذهب عنهم كُثْره.

 

وقال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم ممّا قالت العربُ إلا قُلُّه ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علمٌ وشعر كثير.

 

وعن حماد الراوية قال: أمر النعمانُ بن المُنذر فنُسِخت له أشعارُ العرب في الطُّنُوج وهي الكراريس ثم دفَنها في قصره الأبيض فلما كان المختار بن أبي عُبيد الثقفي قيل له: إن تحت القَصْر كنزًا فاحتَفَره فأخرج تلك الأشعار فمن ثمَّ أهل الكوفة أعلمُ بالشعر من أهل البصرة.

 

قال ابن جني: فإذا كان كذلك لم نقطع على الفصيح يُسْمَع منه ما يخالِفُ الجمهور بالخطأ ما دام القياسُ يَعْضُده فإن لم يَعْضُده كرَفْع المفعول والمضاف إليه وجرِّ الفاعل أو نصبه فينبغي أن يردّ وذلك لأنه جاء مُخالفًا للقياس والسماع جميعًا وكذا إذا كان الرجلُ الذي سُمِعت منه تلك اللغة المخالفة مضعوفًا في قوله مألوفًا منه اللَّحن وفساد الكلام فإنه يردّ عليه ولا يُقبل منه وإن احتمُل أن يكون مصيبًا في ذلك لغةً قديمة فالصواب ردّه وعدمُ الاحتفال بهذا الاحتمال.

 

الحال الثالث - أن ينفرد به المتكلِّم ولا يُسْمع من غيره لا ما يوافقه ولا ما يخالفه.

 

قال ابن جني: والقولُ فيه أنه يجب قبولُه إذا ثبتت فصاحته لأنه إما أن يكون شيئا أخذه عمن نطق به بلغةٍ قديمة لم يشارك في سماع ذلك منه على حدِّ ما قلناه فيمن خالف الجماعة وهو فصيح أو شيئا ارتجله فإن الأعرابي إذا قويت فصاحته وسمَتْ طبيعته تصرّف وارتجل ما لم يُسْبق إليه فقد حكي عن رُؤْبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظًا لم يسمعاها ولا سُبِقا إليها.

 

أما لو جاء شيء من ذلك عن متَّهم أو من لم تَرْقَ به فصاحته ولا سبَقت إلى الأنفس ثِقته فإنه يردّ ولا يُقبل فإن ورد عن بعضهم شيءٌ يدفعه كلام العرب ويأباه القياسُ على كلامهما فإنه لا يُقنع في قبوله أن يُسْمَع من الواحد ولا من العدَّة القليلة إلا أن يكثر من ينطق به منهم فإن كَثُر قائلوه إلا أنه مع هذا ضعيف الوَجه في القياس فمجازُه وجهان: أحدهما أن يكون مَنْ نطق به لم يُحْكِم قياسه على لغة آبائهم والآخر أن تكون أنت قصَّرْت عن استدراك وجه صحته. ويحتمل أن يكون سمَعه من غيره ممن ليس فصيحًا وكثُرَ استماعه له فسرَى في كلامه إلا أن ذلك قلّما يقع فإن الأعرابي الفصيح إذا عُدِل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عافَها ولم يَعْبَأ بها فالأقوى أن يُقْبل ممن شهرت فصاحته ما يُورده ويُحْمَل أمرُه على ما عُرِف من حاله لا على ما عسى أن يحتمل. كما أن على القاضي قبولَ شهادة من ظهرت عدالته وإن كان يجوز كذِبه في الباطن إذ لو لم يُؤْخذ بها لأدّى إلى ترك الفصيح بالشك وسقوط كلّ اللغات.

تنبيه

 

الفرق بين هذا النوع وبين النوع الخامس أن ذاك فيما تفرَّد بنقله عن العرب واحدٌ من أئمة اللغة وهذا فيما تفرَّد بالنطق به واحدٌ من العرب فذاك في الناقل وهذا في القائل.

 

وهذه أمثلةٌْ من هذا النوع في الجمهرة: قال الأصمعي: لم تأت الخَيْطة في شِعْرٍ ولا نَثْرٍ غير بيت

 

تَدَلَّى عليها بَينَ سِبٍّ وَخَيْطَةٍ ** شديدُ الوَصَاة نَابلٌ وابن نابلِ

 

السِّب بلغة هذيل: الحَبْل.

 

وفي الغريب المصنف: الرُّحُم: الرَّحْمَة.

 

قال الأصمعي: كان أبو عمرو بن العلاء ينشد بيت زهير:

 

ومن ضَرِيبتُه التَّقْوَى وَيَعْصِمُهُ ** من سَيِّئ العَثَراتِ الله بالرُّحُمِ

 

قال ثم قال: لم أسْمَع هذا الحرفَ إلا في هذا البيت قال: وكان يقرأ وأقرب رُحمًا.

 

وفي الجمهرة يقال: هو ابن أَجْلَى في معنى ابنِ جَلا، قال العجاج:

 

لاقَوْا به الحجاج والإصْحارا ** به ابن أَجْلَى وافَقَ الإسْفارا

 

قال الأصمعي: ولم أسمع بابنِ أَجْلَى إلا في هذا البيت.

 

وفيها: أخبرنا أبو حاتم قال: سألت أمَّ الهيثم عن الحَبِّ الذي يسمى أسفيوش ما اسمه بالعربية فقالت: أرني منه حبَّات فأريتُها فأَفْكَرت ساعة ثم قالت: هذه البُحْدُق، ولم أسمَعْ ذلك من غيرها.

 

وفيها الحَوْصَلاء: الحَوْصَلة قال أبو النجم: * هاد لو جار لحوصلائه *

 

وفي أمالي القالي: الكِتَرْ: السَّنام قال عَلْقَمة بن عَبْدَة: * كِتْرٌ كَحَافةِ كِير القَيْنِ مَلْمُومُ * قال الأصمعي: ولم أسمع بالكَتْر إلا في هذا البيت.

 

وفي الصحاح: التَّوْأَبَانِيَّانِ: قَادمتا الضرع قال ابن مُقبل: * لها تَوْأَبَانِيَّان لم يَتَفَلْفَلا * أي لم تسوّد حلمتاهما. قال أبو عبيدة: سمّى ابن مُقْبل خِلْفَي الناقة تَوْأَبَانِيَّيْن ولم يأت به عربي.

 

وفيه: الشَّمَل لغة في الشمْل. أنشد أبو زيد في نوادره للْبُعَيث:

 

وقد يَنْعَشُ الله الفَتَى بعد عَثْرةٍ ** وقد يَجْمعُ الله الشَّتِيتَ من الشَّمَلْ

 

قال أبو عمرو الجَرْمي: ما سَمِعتُه بالتحريك إلا في هذا البيت.

 

وفي الغريب المصنف: قال الكسائي: نَمَى الشيء يَنْمِي بالياء لا غير قال: ولم أسمعه يَنْمو إلا من أخوين من بني سليم ثم سألتُ عنه بني سليم فلم يعرفوه بالواو.

 

وفي الكامل للمبرد: زعم الأصمعي أن الكِرَاض حَلَقُ الرَّحِم قال: ولم أسمعه إلا في هذا الشعر وهو قول الطرماح:

 

سوف تدنيك من لميس سبندا ** ة أمارت بالبول ماء الكراض

 

وفي شرح المعلقات للنحاس: الفَرَد لغة في الفَرْد، قال النابغة: * طاوي المَصير كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرَد * قال: وقال بعض أهل اللغة: لم يسمع بفرَد إلا في هذا البيت.

 

وفي كتاب "ليس" لابن خالويه: لم تأت الأجِنَّة لجمع الجنَّة بمعنى البُسْتان إلا في بيت واحد وهو:

 

وترى الحمام مُعانقًا شُرُفاته ** يَهْدِلْنَ بين أَجِنَّةٍ وحَصَاد

 

قالوا: ويجوز أن تكون الأجنَّة الفراخ فيكون جمع جَنين.

 

وقال أيضا: لم يأت فمّ بالتشديد إلا في قول جرير:

 

إن الأمامَ بعدهُ ابن أُمِّه ** ثم ابنه والي عَهْدِ عَمِّه

 

قَدْ رضِيَ الناسُ به فسَمه ** يا ليتَها قد خَرَجَتْ من فُمِّه

 

وقال ابن خالويه في شرح الدريدية: الرشاء بالمد: اسمُ موضع وهو حرف نادر ما قرأته إلا في قول عوف بن عطيّة:

 

يَقودُ الجِياد بأرسانها ** يضعن ببطن الرشاء المِهارا

 

وقال ابن السكّيت في إصْلاح المنطق: لم يجئ مالح في شيء من الشِّعر إلا في بيت لعُذَافِر:

 

بصرية تزوجت بصريا ** يطعمها المالح والطريا

 

وقال: يقال فلان ذو دَغَوَات ودَغَيات أي أخلاق رديئة ولم يُسْمع دَغَيات ولا دَغْيَة إلا في بيت لرُؤْبة فإنهم زعموا أنه قال: نحن نقول دَغْية وغيرنا يقول دَغْوَة، وأنشد: * ذَا دَغَيَاتٍ قُلَّبَ الأَخْلاقِ *

 

وقال القالي في المقصور والمدود: قال صاحب كتاب العين: قال أبو الدقيش: كلمة لم أسمعها من أحد: نُهاء النهار أي ارتفاعُه.

 

وذكر ابن دريد أنه قد جاء الفعالاء القُصاصاء في معنى القِصاص.

 

وقال: زعموا أن أعرابيًَّا وقف على بعض أُمراءِ العراق فقال: القُصَاصاء أَصْلَحَك اللَّه، أي خُذْ لي بالقصاص وهو نادر شاذ. وقد قال سيبويه: إنه ليس في كلامهم فُعالاء، والكلمة إذا حكاها أعرابيٌّ واحد لم يَجُزْ أن يُجْعَل أصلًا لأنه يجوز أن يكون كذِبًا ويجوزُ أن يكون غَلَطًا؛ ولذلك لم يودِع في أبواب الكتاب إلا المشهور الذي لا يُشَكّ في صحَّته.

 

وقال أيضا: ذكر أبو زيد أنه سمع أعرابيًّا يقول: نَسيماء بالمد، قال: والواحد إذا أتى بشاذ نادر لم يكن قوله حجة مع مخالفة الجميع.

 

============

النوع السادس عشر

معرفة مختلف اللغة

 

 

 

 

قال ابن فارس في فقه اللغة: اختلاف لغات العرب من وجوه:

 

أحدُها - الاختلافُ في الحركات نحو نَستعين ونِستعين بفتح النون وكسرها قال الفراء: هي مفتوحةٌ في لغة قريش وأسد وغيرهم يكسرها.

 

والوجه الآخر - الاختلافُ في الحركة والسكون نحو مَعَكم ومَعْكم.

 

ووجهٌ آخر - وهو الاختلاف في إبْدال الحروف نحو: أولئك وأُولالِك.

 

ومنها قولهم: أن زيدًا وعنّ زيدًا.

 

ومن ذلك: الاختلافُ في الهَمز والتَّلْيين نحو مُسْتهزئون ومُسْتهزُوْن.

 

ومنه: الاختلافُ في التقديم والتأخير نحو صاعِقة وصاقِعةٌ.

 

ومنها: الاختلاف في الحَذْفِ والإثبات نحو اسْتَحْيَيْتُ واستَحْيتُ وصَدَدْتُ وأصْدَدْتُ.

 

ومنها: الاختلاف في الحرف الصحيح يُبْدَلُ حَرْفًا مُعْتلًا نحو أمَّا زيد وأَيْما زيد.

 

ومنها: الاختلافُ في الإمَالَةِ والتفخيم مثل قَضَى ورمى فبعضهم يفخم وبعضهم يميل.

 

ومنها: الاختلافُ في الحَرْفِ الساكن يستقبله مثله فمنهم من يكسر الأول ومنهم من يضم نحو: اشْتَرَوا الضلالة.

 

ومنها: الاختلافُ في التذكير والتأنيث فإن من العرب من يقول: هذه البقَر وهذه النخل ومنهم من يقول: هذا البقر وهذا النخل.

 

ومنها: الاختلافُ في الإعراب نحو: ما زيدٌ قائمًا وما زيدٌ قائم، وإنّ هَذين وإنَّ هَذان.

 

ومنها: الاختلاف في صورة الجمع نحو: أسْرى وأُسارى.

 

ومنها: الاختلافُ في التحقيق والاختلاس نحو: يأمرُكم ويأمرْكم وعُفِيَ له وعُفْي له.

 

ومنها: الاختلاف في الوقف على هاء التأنيث مثل: هذه أُمَّهْ وهذه أمّتْ.

 

ومنها: الاختلافُ في الزيادة نحو: أَنْظُرُ وأنْظُورُ.

 

وكلُّ هذه اللغات مسماةٌ منسوبةٌ إلى أصحابها، وهي وإن كانت لقومٍ دون قومٍ فإنها لما انتشرت تَعَاوَرَها كلٌّ.

 

ومن الاختلاف اختلافُ التضاد، وذلك كقول حِميَر للقائم: ثب، أي اقْعُد. وفي الحديث: إن عامر بن الطفيل قدم على رسول الله ﷺ فوثَّبَه وسادة، أي أفرشه إياها. والوِثاب: الفراش بلغة حِمْير.

 

وروي أن زيد بن عبد الله بن دارم وفدَ على بعض ملوك حِمْير فألفاه في مُتَصَيَّدٍ له على جبل مُشْرف، فسلَّم عليه وانتسب له فقال له الملك: ثِبْ، أي اجلس، وظنَّ الرجلُ أنه أمرَ بالوُثوبِ من الجبل فقال: ستجدني أيها الملك مِطْوَاعًا ثم وثب من الجبل فهلك. فقال الملك: ما شأنه فخبروه بقصته وغلطه في الكلمة. فقال: أما أنه ليست عندنا عربيتْ، [1] من دخل ظَفَارِ حَمَّر، أي فليتعلم الحميرية.

فوائد

 

الأولى - قال ابن جني في الخصائص: اللغاتُ على اختلافها كلُّها حجة ألا ترى أن لغةَ الحجاز في إعمال ما ولغةَ تميم في تَرْكِه كلٌّ منهما يَقْبلهُ القياس فليس لك أن تردّ إحدى اللغتين بصاحبتها لأنها ليست أحقَّ بذلك من الأخرى لكن غايةُ مَا لَك في ذلك أن تتخيَّر إحداهما فتقوِّيها على أختها وتعتقد أن أقوى القياسين أقبلُ لها وأشدُّ نسبًا بها فأما ردّ إحداهما بالأخرى فلا. ألا ترى إلى قوله ﷺ نزل القرآنُ بسبع لغاتٍ كلُّها شافٍ كافٍ. هذا إذا كانت اللغتان في القياس سواء أو متقاربتين، فإن قلّت إحداهما جدا وكثرت الأخرى جدًا أخذتَ بأوسعها رواية وأقواهما قياسًا. ألا ترى أنك لا تقول: المال لِك ولا مررت بَك، قياسًا على قول قُضاعة: المال لِه ومررت بَه، ولا أكرَمْتُكِش قياسًا على قول من قال: مررت بكِش. فالواجبُ في مثل ذلك استعمالُ ما هو أقوى وأشيع ومع ذلك لو استعمله إنسان لم يكن مُخْطِئًا لكلام العرب فإن الناطق على قياس لغةٍ من لغات العرب مصيب غير مخطئ لكنه مخطئ لأجود اللغتين فإن احتاج لذلك في شعر أو سجع فإنه غير ملوم ولا منكَر عليه. انتهى.

 

وقال أبو حيان في شرح التسهيل: كلُّ ما كان لغةً لقبيلة قِيسَ عليه.

 

وقال أيضا: إنما يسوغ التأويل إذا كانت الجادّة على شيء ثم جاء شيء يخالف الجادّة فيتأوَّل أما إذا كان لغة طائفة من العرب لم يتكلَّم إلا بها فلا تأويل. ومن ثم رُدَّ تأويل أبي على قولهم: ليس الطيبُ إلا المسكُ على أن فيها ضمير الشأن لأن أبا عمرو نقل أنّ ذلك لغة بني تميم.

 

وقال ابن فارس: لغةُ العرب يُحْتَجَّ بها فيما اختُلِف فيه إذا كان التنازع في اسم أو صفة أو شيء مما تستعملُه العرب من سُنَنها في حقيقةٍ أو مجاز أو ما أشبه ذلك فأما الذي سبيلُه سبيلُ الاستنباط وما فيه لِدلائل العقل مَجال أو من التوحيد وأصول الفقه وفروعه فلا يحتجُّ فيه بشيءٍ من اللغة لأن موضوع ذلك على غير اللغات. فأما الذي يختلف فيه الفقهاء من قوله تعالى: { أوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } وقوله: { وَالمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بأنْفُسِهِنَّ ثَلاَثةَ قُرُوء } وقوله تعالى: { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعَمِ } وقوله تعالى: { ثمَّ يَعُودُونَ لمَا قَالُوا } فمنه ما يصلُح الاحتجاجُ فيه بلغة العرب ومنه ما يُوكَل إلى غير ذلك.

 

الفائدة الثانية - في العربي الفصيح ينتقل لسانه: قال ابن جنّي: العمل في ذلك أن تنظر حالَ ما انتقل إليه [ لسانه ]، فإن كان فصيحًا مثل لغته أُخِذَ بها كما يؤخذ بما انتقل منها أو فاسدًا فلا ويؤخد بالأولى.

 

فإن قيل: فما يُؤْمنك أن يكون كما وجدتَ في لغته فسادًا بعد أن لم يكن فيها [ فيما علمت ] أن يكون فيها فساد آخر [ فيما ] لم تعلمه؟ قيل: لو أخذ بهذا لأدى إلى ألا تطيب نفسٌ بلغة وأن تتوقَّف عن الأخذ عن كل أحدٍ مخافةَ أن يكون في لغته زَيْغ حادث لا نعلمه الآن ويجوز أن يعلم بعد زمان وفي هذا من الخَطَل ما لا يخفى فالصوابُ الأخذُ بما عُرف صحته ولم يظهر فساده ولا يلتفت إلى احتمال الخلَل فيه ما لم يبيّن.

 

الفائدة الثالثة - قال ابن فارس في فقه اللغة: باب انتهاءِ الخلاف في اللغات:

 

يقع في الكلمة الواحدة لغتان كقولهم: الصِّرَام والصَّرام والحِصاد والحَصاد.

 

ويقع في الكلمات ثلاثُ لغات نحو: الزجاج والزجاج والزجاج ووَشْكانَ ذَا ووُشْكانَ ذا ووِشْكانَ ذا.

 

ويقعُ في الكلمة أربعُ لغات نحو الصِّداق والصَّداق والصَّدَقة والصُّدُقة.

 

ويكون فيها خمسُ لغات نحو: الشَّمال والشَّمْل والشَّمْأل والشَّيمْلَ والشَّمَل.

 

ويكون فيها ستُّ لغات نحو: قُسْطاس وقِسْطاس وقِصْطَاس وقُسْتَاط وقِسَّاط وقُسَّاط ولا يكون أكثر من هذا.

 

والكلام بعد ذلك أربعة أبواب:

 

الباب الأول - المجمع عليه الذي لا علةَ فيه وهو الأكثر والأعمّ مثل: الحمد والشكر لا اختلاف فيه في بناء ولا حركة.

 

والباب الثاني - ما فيه لغتان وأكثرُ إلا أن إحدى اللغات أفصح. نحو بَغْذَاذ وبَغْدَاد وبَغْدان، هي كلها صحيحة إلا أن بعضها في كلام العرب أصح وأفصح.

 

والباب الثالث - ما فيه لغتان أو ثلاثٌ أو أكثر وهي متساوية كالحَصاد والحِصاد والصَّداق والصِّداق فأيًّا ما قال القائل فصحيح فصيح.

 

والباب الرابع - ما فيه لغة واحدة إلا أن المُولَّدين غيَّروا فصارتْ ألسنتهُم فيه بالخَطأ جاريةً نحو قولهم: أَصْرَف الله عنك كذا. وانْجَاص. وامرأة مُطاوعة وعِرق النِّسا بكسر النون. وما أشبه ذا.

 

وعلى هذه الأبواب الثلاثة بنى أبو العباس ثعلب كتابه المُسمَّى فصيح الكلام أخبرنا به أبو الحسن القطان عنه. انتهى كلامُ ابن فارس.

 

الرابعة - قال ابن هشام في شرح الشواهد: كانت العربُ ينشد بعضهم شعر بعض وكلٌّ يتكلم على مقتضى سجيته التي فُطِر عليها ومن هاهنا كثرت الرواياتُ في بعض الأبيات. انتهى.

 

 

هامش

 

 

في النسخ: عربية، ورواه بعضهم: ليس عندنا عربية كعربيتكم، قال ابن سيده: وهو الصواب.

 

===========

النوع السابع عشر

معرفة تداخل اللغات

 

 

 

 

قال ابن جني في الخصائص: إذا اجتمع في الكلام الفصيح لغتان فصاعدًا كقوله:

 

وأشرب الماء ما بي نحوه عطش ** إلا لأن عُيُونُهْ سال واديها

 

فقال: نحوه بالإشباع، وعيونه بالإسكا، ن فينبغي أن يُتَأَمَّل حال كلامه؛ فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال وكثرتهما واحدةٌ فأخْلَق الأمر به أن تكونَ قبيلتُه تواضعت في ذلك المعنى على ذينك اللفظين لأنّ العرب قد تفعلُ ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها وسَعة تصرّف أقوالها ويجوز أن تكون لغتُه في الأصل إحداهما ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلةٍ أخرى وطال بها عهدُه وكثر استعماله لها فلحقت - لطول المدّة واتساع الاستعمال - بلغته الأولى وإن كانت إحدى اللفظتين أكثرَ في كلامه من الأخرى فأخْلَق الأمر به أن تكون القليلةُ الاستعمال هي الطارئة عليه والكثيرةُ هي الأولى الأصلية. ويجوز أن تكونا مخالفتين له ولقبيلته وإِنما قلَّت إحداهما في استعماله لضعفها في نفسه وشذوذها عن قياسه.

 

وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظٌ مختلفة فسُمِعت في لغة إنسان واحد فعلى ما ذكرناه كما جاء عنهم في أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك وكما تنْحَرف الصيغةُ واللفظ واحد كقولهم: رَغْوة اللبن ورُغْوته ورِغاوته كذلك مثلثًا.

 

وكقولهم: جئت من عَلِ ومن عَلُ ومن عَلا ومن عُلْو ومن عِلْو ومن عَلْوُ ومن عالٍ ومن مُعالٍ فكلُ ذلك لغات لجماعات وقد تجتمع لإنسان واحد.

 

قال الأصمعي: اختلف رجلان في الصقر فقال أحدُهما: بالصاد وقال الآخر: بالسين فتراضَيا بأوَّل واردٍ عليهما فحكيا له ما هما فيه فقال: لا أقول كما قلتما إنما هو الزقْر وعلى هذا يتخرَّج جميعُ ما ورد من التَّدَاخل نحو قَلا يَقْلَى وسَلَى يَسْلَى وطهُر فهو طاهر وشَعُر فهو شاعر فكلُّ ذلك إنما هو لغاتٌ تداخلتْ فتركّبت بأن أُخِذ الماضي من لغةٍ والمضارعُ أو الوصفُ من أُخرى لا تَنْطقُ بالماضي كذلك فحصل التداخل والجمع بين اللغتين فإنّ من يقول قَلَى يقول في المضارع يَقْلِي والذي يقول يَقْلَى يقول في الماضي قَلَِي وكذا من يقول سَلا يقول في المضارع يَسْلو من يقول فيه يَسْلَى يقول في الماضي سَلِي فتلاقَى أصحابُ اللغتين فسَمِع هذا لغةَ هذا وهذا لغة هذا فأخذَ كلُّ واحد من صاحبه ماضيَه إلى لغته فتركَّبَت هناك لغةٌ ثالثة وكذا شاعر وطاهر إنما هو من شَعَر وطهَر بالفتح وأما بالضّم فوصفُه على فعيل فالجمعُ بينهما من التداخل. انتهى كلامُ ابن جنّي.

 

وقال ابن دريد في الجمهرة: البُكا يمد ويُقصر، فمن مده أخرجه مخرج الضُّغاء والرُّغاء ومن قَصره أخرجه مخرج الآفة وما أشبهها مثل الضَّنى ونحوه.

 

وقال قومٌ من أهل اللغة: بل هما لغتان صحيحتان وأنشدوا بيت حسان:

 

بكَتْ عيني وحقّ لها بُكاها ** وما يُغْني البكاءُ ولا العَويلُ

 

وكان بعضُ مَن يُوثق به يَدفع هذا ويقول: لا يجمع عربي لفظين أحدهما ليس من لغته في بيت واحد. وقد جاء هذا في الشعر الفصيح كثيرا. انتهى.

 

وقال ثعلب في أماليه: يقال: فَضَل يفْضُل وفَضِل يَفْضَل وربما قالوا فَضِل يَفْضُل.

 

قال الفراء وغيرُه من أهل العربية: فَعِل يفعُل لا يجيء في الكلام إلا في هذين الحرفين: مِتّ تَمُوت في المعتل ودِمتَ تَدُوم وفي السالم فَضِل يَفْضُل أخذوا مِتّ من لغةِ مَنْ قال يفضَل وأخذوا يموت مِن لغةِ مَنْ قال يفضُل ولا يُنكر أن يؤخذ بعض اللغات من بعض.

 

وقال ابن درستويه في شرح الفصيح: يقال: حَسِبَ يَحْسَب نظير علم يعلم لأنه من بابه وهو ضدّه فخرج على مِثاله وأما يحسِب بالكسر في المستقبل فلغةٌ مثل وَرِم يَرِم وَوَلِي يَلي.

 

وقال بعضهم: يقال حَسَب يَحْسِب على مثال ضرب يضرب مخالفة للغة الأخرى فمن كسر الماضي والمستقبل فإنما أخذ الماضي من تلك اللغة والمستقبل من هذه فانكسر الماضي والمستقبل لذلك.

 

وقال في موضع آخر شملهم الأمر يشملهم لغات فمن العرب قوم يقولون: شَمَل بفتح الميم من الماضي وضمها في المستقبل ومنهم من يقول شَمِل بالكسر يَشْمَل بالفتح ومنهم من يأخذ الماضي من هذا الباب والمستقبل من الأول فيقول: شَمِل بالكسر يشمُل بالضم وليس ذلك بقياس واللغتان الأوليان أجْوَد.

 

============

النوع الثامن عشر

معرفة توافق اللغات

 

 

 

 

قال الجمهور: ليس في كتاب الله سبحانه شيءٌ بغير لغةِ العرب لقوله تعالى: { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عربيًا } وقوله تعالى: { بِلِسَانٍ عربي مُبين }، وادَّعى ناسٌ أن في القرآن ما ليس بلغةِ العرب حتى ذكروا لغةَ الروم والقبط والنبط.

 

قال أبو عبيدة: ومن زعم ذلك فقد أكبر القول. قال: وقد يُوافق اللفظُ اللفظَ ويقاربه ومعناهما واحدٌ وأحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها. قال: فمن ذلك الإسْتَبْرَق وهو الغليظُ من الدِّيباج وهو استبره بالفارسية أو غيرها. قال: وأهلُ مكة يسمُّون المِسْح الذي يَجعَل فيه أصحاب الطعام البرّ البِلاس وهو بالفارسية بلاس فأمالوها وأعربوها فقاربت الفارسيةَ العربية في اللفْظ.

 

ثم ذكر أبو عبيدة البالِغاء وهي الأكارع وذكر القَمَنْجَر الذي يُصلح القسيّ وذكر الدَّسْت والدَّشْت والخِيم والسَّخت. ثم قال: وذلك كلُّه من لغات العرب وإن وافَقه في لفظه ومعناه شيء من غير لغاتهم.

 

قال ابن فارس في فقه اللغة: وهذا كما قاله أبو عبيدة.

 

وقال الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه: ما وقع في القرآن من نحو المِشْكاة والقِسْطاس والإستبرق والسجِّيل لا نُسَلِّم أنها غيرُ عربية بل غايتُه أن وَضْع العرب فيها وافق لغةً أخرى.

 

قلت: والفرق بين هذا النوع وبين المعَرَّب أن المعرَّب له اسم في لغة العرب غير اللفظ الأعجمي الذي استعملوه بخلاف هذا.

 

وفي الصحاح: الدَّشْتُ: الصحراء، قال الشاعر: * سُودِ نِعَاجٍ كَنِعَاجِ الدَّشْتِ * وهو فارسيٌ أو اتفاقٌ وقعَ بين اللغتين.

 

وقال ابن جني في الخصائص يقال: إن التنُّور لفظةٌ اشترَك فيها جميعُ اللغات من العرب وغيرهم وإن كان كذلك فهو ظريف وعلى كل حال فهو فَعوّل أو فعنول لأنه جنسٌ ولو كان أعجميًا لا غير جاز تمثيلُه لِكَوْنه جنسًا ولاحقًا بالمعرب فكيف وهو أيضا عربي لكونه في لغة العرب غير منقول إليها وإنما هو وِفاق وقع ولو كان منقولًا إلى اللغة العربية من غيرها لوَجب أن يكون أيضا وِفاقًا بين جميع اللغات غيرها ومعلومٌ سعة اللغات غير العربية فإن جاز أن يكون مشتركًا في جميع ما عدا العربية جاز أيضا أن يكون وِفاقًا فيها.

 

قال: ويَبْعُدُ في نفسي أن يكون الأصلُ للغة واحدة ثم نُقِل إلى جميع اللغات لأنَّا لا نعرفُ له في ذلك نظيرًا وقد يجوزُ أيضا أن يكون وِفاقًا وقع بين لغتين أو ثلاث أو نحو ذلك ثم انْتَشر بالنَّقل في جميعها.

 

قال: وما أقرب هذا في نفسي لأنا لا نعرفُ شيئا من الكلام وقَع الاتفاقُ عليه في كل لغةٍ وعند كل أمة هذا كلُّه إذا كان في جميع اللغات هكذا وإن لم يكن كذلك كان الخَطْبُ فيه أيسر. انتهى.

 

وقال الثعالبي في فقه اللغة: فصل في أسماء قائمة في لغتي العرب والفُرس على لفظٍ واحد: التنور الخمير الزمان الدين الكنز الدينار الدرهم.

 

==========

النوع التاسع عشر

معرفة المعرّب

 

 

 

 

هو ما استعملته العرب من الألفاظِ الموضوعةِ لمعانٍ في غير لغتها.

 

قال الجوهري في الصحاح: تعريبُ الاسم الأعجمي أن تتفوَّه به العرب على مِنْهاجها، تقول: عرَّبَتْه العرب وأَعَرَبته أيضا.

 

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: أما لغاتُ العَجَم في القرآن فإنَّ الناسَ اختلفوا فيها، فرُوي عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة وعطاء وغيرهم من أهل العلم أنهم قالوا في أحْرُفٍ كثيرة إنها بلغات العَجَم، منها قوله: طَه واليمّ والطور والرَّبانيُّون، فيقال إنها بالسُّرْيانية. والصِّراط والقِسْطاس والفِرْدَوْس، يقال: إنها بالرُّومية، ومِشْكاة وكِفْلَيْنِ يقال إنها بالحبشية، قال: وزعم أهلُ العربية أن القرآنَ ليس فيه من كلام العجم شيءٌ لقوله تعالى: { قُرْآنا ًعربيًا } وقوله: { بِلسَانٍ عربي مُبِين }.

 

قال أبو عبيدة: والصواب عندي مذهبٌ فيه تصديقُ القَوْلين جميعًا. وذلك أنَّ هذه الحروف أصولُها عجمية كما قال الفقهاء إلا أنها سقطت إلى العرب فأعْرَبتها بألْسِنتها وحوَّلتْها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب فمن قال إنها عربية فهو صادق ومن قال عجمية فهو صادق. انتهى.

 

وذكر الجواليقي في المعرب مثله، وقال فهي عجمية باعتبار الأصل عربية باعتبار الحال. ويطلق على المعرَّب دخيل وكثيرا ما يقعُ ذلك في كتاب العين والجمهرة وغيرهما.

فصل

 

قد ألَّف في هذا النوع الإمامُ أبو منصور الجواليقي كتابَه المعرب في مجلّد وهو حسنٌ ومفيد ورأيت عليه تعقبًا لبعضهم في عِدَّة كراريس.

 

وقال أبو حيَّان في الارتشاف: الأسماء الأعجمية على ثلاثة أقسام: قسمٌ غيَّرَتْه العربُ وألحَقْته بكلامها فحُكْمُ أبْنيَته في اعتبار الأصلي والزائد والوَزْن حُكْمُ أبنية الأسماء العربيةِ الوضع نحو درهم وبَهْرَج. وقسمٌ غَيَّرته ولم تُلْحِقْه بأبنيةِ كلامِها فلا يُعْتَبَر فيه ما يُعْتَبَر في القسم الذي قبلَه نحو آجر وسِفْسِير. وقسمٌ تركوه غيرَ مغيَّر فما لم يُلحِقوه بأبنية كلامهم لم يُعَدّ منها وما ألحقوه بها عُدّ منها مثال الأول: خُرَاسان لا يثبت به فُعالان ومثال الثاني: خُرَّم ألحق بسُلّم وكُركُم ألحق بقُمقُم.

فصل

 

قال أئمة العربية: تُعْرف عُجْمَة الاسم بوجوه:

 

أحدها - النَّقْل بأن ينقُل ذلك أحد أئمة العربية.

 

الثاني - خروجُه عن أوزان الأسماء العربية نحو إبْرَيْسَم فإن مثل هذا الوزن مفقود في أبنية الأسماء في اللسان العربي.

 

الثالث - أن يكون أوَّله نون ثم راء نحو نرْجس فإنّ ذلك لا يكون في كلمة عربية.

 

الرابع - أن يكونَ آخرُه زاي بعد دال نحو مهندز فإن ذلك لا يكونُ في كلمة عربية.

 

الخامس - أن يجتمع فيها الصاد والجيم نحو الصَّوْلجان والجصّ.

 

السادس - أن يجتمع فيه الجيم والقاف نحو المنجنيق.

 

السابع - أن يكون خُماسيًا ورُباعيًا عاريًا عن حروف الذلاقة وهي الباء والراء والفاء واللام والميم والنون فإنه متى كان عربيًا فلا بدَّ أن يكونَ فيه شيء منها نحو سَفَرْجَل وقُذَعْمِل وقِرْطَعْب وجَحْمَرش فهذا ما جمعه أبو حيّان في شرح التسهيل.

 

وقال الفارابي في ديوان الأدب: القافُ والجيم لا يجتمعان في كلمةٍ واحدة في كلام العرب والجيم والتاء لا تجتمعُ في كلمة من غير حرف ذَوْلَقِيّ ولهذا ليس الجِبْت من مَحْض العربية والجيم والصاد لا يَأْتلفان في كلام العرب ولهذا ليس الجصّ ولا الإجّاص ولا الصَّوْلجان بعربي والجيم والطاء لا يجتمعان في كلمةٍ واحدة ولهذا كان الطَّاجِن والطَّيْجَن مولّدين لأن ذلك لا يكون في كلامهم الأصلي. انتهى.

 

وفي الصحاح: المُهَنْدِز: الذي يقدّر مَجاري القُنيّ والأبنية معرّب وصيَّرُوا زايه سينًا فقالوا: مهندس لأنه ليس في كلام العرب زايٌ قبلها دال.

 

وقال أيضا: الجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب إلا أن تكون مُعَرّبة أو حكاية صَوْت نحو الجَرْدَقَة وهو الرغيف والجُرْموق: الذي يُلْبَس فوق الخُفِّ والجَرَامِقة: قومٌ بالموْصِل أصلُهم من العجَم. والجَوْسق: القَصْر. وجِلِّق: موضع بالشأم. والجُوالِقُ: وعاء. والجُلاهِق: البُندق: والمَنْجَنيق: التي يُرمَى بها الحجارةُ ومعناها ما أجْوَدَني. وجَلَنْبَلَقْ: حكاية صوت باب ضَخمٍ في حالةِ فَتْحِه وإصْفاقه جَلَنْ على حدة وَبَلَقْ على حِدَة أنشد المازني:

 

فَتَفْتَحُه طَوْرًا وطوْرًا تُجِيفُه ** فتسمَعُ في الحالَيْن منه جَلَنْبَلَقْ

 

وقال الأزهري في التهذيب متعقّبًا على مَنْ قال: الجيمُ والصادُ لا يجتمعان في كلمة من كلام العرب: الصادُ والجيم مُستعمَلان ومنه جَصَّص الجِرْو وإذا فَتَحَ عينيه وجصَّصَ فلانٌ إنَاءَه إذا ملأه. والصَّج ضرب الحديد بالحديد.

 

وقال البطليوسي في شرح الفصيح: لا يوجدُ في كلام العرب دالٌ بعدها ذال إلا قليل ولذلك أَبى البصريون أن يقولوا بغداذ بإهمال الدال الأولى وإعجام الثانية فأما الدَّاذي ففارسي لا حجة فيه.

 

وقال ابن دريد في الجمهرة: لم تَجْمع العربُ الجيم والقاف في كلمة إلا في خمس كلمات أو ست.

 

وقال ابن فارس في فقه اللغة: حدثني علي بن أحمد الصباحي قال: سمعتُ ابنَ دريد يقول: حروفٌ لا تتكلمُ العرب بها إلا ضرورة فإذا اضطرّوا إليها حوَّلوها عند التكلّم بها إلى أقرب الحروف من مخارجها وذلك كالحرف الذي بين الباء والفاء مثل بور إذا اضطروا قالوا: فُور.

 

قال ابن فارس: وهذا صحيحٌ لأن بور ليس من كلام العرب فلذلك يَحتاج العربي عند تعريبه إياه أن يصيِّره فاء.

 

قال ابن دريد في الجمهرة: قال أبو حاتم قال الأصمعي: العربُ تجعل الظاء طاء ألا تراهم سمّوا الناظر ناطورًا أي ينظر ويقولون البُرْطُلَة وإنما هو ابن الظُّلَّة.

 

وفي مختصر العين: الناظر والناطور: حافظُ الزَّرع وليست بعربية.

 

وقال سيبويه أبدلوا العَين في إسماعيل لأنها أشبهُ الحروف بالهمزة قالوا: فهذا يدلُّ على أن أصله في العجمية إشمائيل.

 

وفي شرح أدب الكاتب: التوت أعجمي معرب وأصلُه باللسان العجمي توث وتوذ فأبدَلت العرب من الثاء المثلثة والذال المعجمة تاء ثنوية لأن المثلثة والذال مهملان في كلامهم.

 

وقال أبو حنيفة: توث بالثاء المثلثة وقوم من النحويين يقولون: توت بتاء ثنوية ولم يُسْمع به في الشعر إلا بالمثلثة وذلك أيضا قليلٌ لأنه لا يكاد يجيءُ عن العرب إلا بِذكر الفرصاد وأنشد لبعض الأعراب:

 

لَرَوْضَةٌ من رياض الحَزْنِ أو طَرَفٌ ** من القُرَيَّة حَزْنٌ غيرُ مَحْرُوثِ

 

أَحْلَى وأشْهَى لِعَيْني إن مَرَرْتُ به ** من كَرْخِ بَغْدَاد ذي الرُّمَّان والتّوثِ

 

وقال ابن درستويه في شرح الفصيح: الجَص فارسيٌّ معرب كجّ أُبْدلت فيه الجيم من كاف أعجميّة لا تُشْبه كاف العرب والصاد من جيم أعجميّة وبعضُهم يقول: القَصّ بالفتح وهو أفصح وهو لغةُ أهل الحجاز.

 

وقال الجواليقي في المعرَّب: إن العرب كثيرا ما يجترئون على الأسماء الأعجمية فيغيِّرونها بالإبدال قالوا: إسماعيل وأصلُه إشْمائيل فأبدلوا لقُرْب المَخْرج.

 

قال: وقد يُبْدِلون مع البُعْد من المخرج وقد ينقلونها إلى أبنيتهم ويزيدون وينقصون.

 

وقال بعضهم: الحروف التي يكون فيها البَدل في المُعَرَّب عشرة: خمسةٌ يُطَّرِد إبدالها وهي: الكاف والجيم والقاف والباء والفاء وخمسةٌ لا يطَّرد إبدالُها وهي: السين والشين والعين واللام والزاي فالبدَلُ المطَّرِد: هو في كلِّ حرف ليس من حروفهم كقولهم: كُرْبَج الكاف فيه بدلٌ من حرف بَين الكاف والجيم فأبدلوا فيه الكاف أو القاف نحو قُرْبَق. أو الجيم نحو جَوْرب وكذلك فِرِند هو بين الباء والفاء فمرّة تُبْدَل منها الباء ومرة تُبْدل منها الفاء. وأما ما لا يطّرد فيه الإبدال فكلُّ حرف وافَق الحروف العربية كقولهم إسماعيل أبدلوا السين من الشين والعينَ من الهمزة وأصله إشمائيل. وكذلك قَفْشَلِيل أبْدَلُوا الشين من الجيم واللام من الزاي والأصل قفجليز. وأما القاف في أوله فتبدل من الحرف الذي بين الكاف والجيم.

 

وذكر أبو حاتم أن الحاء في الحُبّ بدل من الخاء وأصله في الفارسية خب قال: وهذا لم يذكره النحويون وليس بالممتنع.

 

وقال أبو عبيد في الغريب المصنف: العرب يعرِّبون الشين سينًا يقولون: نيسابور وهي نيشابور وكذلك الدَّشْت يقولون دَسْت فيُبدلونها سينًا.

 

وفي تذكرة الشيخ تاج الدين بن مكتوم بخطه: قال نصر بن محمد بن أبي الفنون النحوي في كتاب أوزان الثلاثي: سين العربية شين في العبرية فالسلام شلام واللسان لشان والاسم اشم.

 

وقال ابن سيده في المحكم: ليس في كلام العرب شين بعد لام في كلمة عربيةٍ مَحْضَة. الشينات كلها في كلام العرب قبل اللامات.

ذكر أمثلة من المعرب

 

قال الثعالبي في فقه اللغة: فصل في سياقة أسماء تَفَرّد بها الفُرْس دون العرب فاضطَّرت العرب إلى تعْرِيبها أو تركها كما هي. من ذلك: الكُوز الجَرَّة الإبريق الطَّشْتُ الخِوان الطَّبق القَصْعَة السُّكرُّجة. السَّمُّور السِّنْجَاب القَاقُم الفَنَك الدَّلَق الخَزُّ الدِّيباج التَّاخُتْج الرَّاخُتْجُ السُّنْدُس. الياقوت الفَيْرُوزج البَلُّور. الكَعْك الدَّرْمَك الجَرْدق السَّمِيذ. السِّكْبَاج الزيرباج الاسْفِيداج الطَّبَاهِج الفَالُوذَج اللَّوْزِينَج الجَوْزينَجُ النَّفْرِينَج. الجُلّاب السَّكَنْجُبِين الجَلَنْجُبِين. الدَّارَصِيني الفُلْفُل الْكَرَوِيَّا الزَّنْجَبِيل الخُولِنْجَان الْقِرْفة. النَّرْجِس الْبَنَفْسَج النِّسْرَين الخِيْرِيّ السَّوسَن المَرْزَنْجُوش الياسِمينُ الجُلَّنار. المِسْك العَنْبَر الكافور الصَّندَل القَرَنْفُل.

 

ومن اللغة الرومية: الفِرْدَوْس وهو البستان. القُسْطاس وهو الميزان. السَّجَنْجَل: المِرآة. البِطاقة: رُقْعَةٌ فيها رَقْمُ المتَاعِ. القَرَسْطُون: القَفَار. الاصطرلابُ مَعْروف. القُسْطناس: صَلابةُ الطِّيب. القَسْطَرِيّ والقُسْطار: الجِهْبِذ. القَسْطَل: الغُبار. القُبْرسُ: أَجْوَدُ النُّحَاس. القِنْطار: اثنا عشر ألف أوقيَّة. البِطْرِيقُ: القائد. [ القَرَامِيد: الآجر ]. التِّرْياق: دواء السُّموم. القَنْطَرَةُ معروفة. القيطون: البيتُ الشَّتوي. النِّقْرِس والقُولَنْج: مَرَضان. سأل عليٌّ رضي الله عنه شُرَيْحًا مسألة فأجابه [ بالصواب ] فقال له: قَالون: أي أصبتَ - بالرُّومية. انتهى ما أورده الثعالبي.

 

وقال ابن دريد في الجمهرة: الكِيمياء ليس من كلام العرب قال: ودمشق معرب.

 

وفي كتاب المقصور والممدود للأندلسي: الهَيُولَى في كلام المتكلمين: أصل الشيء فإن يكن من كلام العرب فهو صحيح في الاشتقاق ووزنه فيعولى.

 

وفيه: قَطُونا الذي يُضاف إليه بزر فيقال: بزْر قَطونا أعجميّ معرب قال: وكذلك الكمّثرى.

 

وفي المجمل لابن فارس: تأْريج الكتاب كلمة معربة.

 

وفيه: الخُِوان فيما يقال اسم أعجمي غير أني سمعت إبراهيم بن علي القطان يقول: سُئل ثعلب وأنا أسمعُ: أيجوزُ أن يُقال إن الخُِوان إنما سمّيَ بذلك لأنه يتخوَّن ما عليه أي يَتنَقّص؟ فقال: ما يبعد ذلك.

 

وقال ابن سِيده في المُحْكم: يقال للفقير بالسريانية فالِغًا وأعْرَبته العرب فقالت: فِلْجٌ.

 

قال: وقانون كلِّ شيء طريقه ومِقْياسه وأراها دخيلة.

 

وقال في الجمهرة: قيل ليونس بِمَ نَعْرفُ الشِّعْر الجيّد فقال: بالشَّشْقَلة. قال: الشَّشْقلة أن تَزِن الدينار بإزاء الدينار لتنظر أيهما أثقل، ولا أحسْبه عربيًا محضًا.

 

وفي شرح الفصيح للمرزوقي: الأتْرُجّ فارسيّ معرَّب قال: وقيل: إن الأرز كذلك.

 

وفي الاستدراك للزبيدي: النَّارَجِيل: جوز الهند أعجمي على غير أبنيةِ العرب وأحسبه من كلمتين.

 

وفيه: المَتْرس خشبةٌ توضع خَلْف الباب تسمى الشِّجار وهي أعجمية.

 

وفي مختصر العين له: الفَانِيذ فارسية.

 

وقال الجواليقي في المعرّب قال ابن دريد قال أبو حاتم: الزِّنْدِيق فارسيّ معرب كأنَّ أصله عنده زنده كرد.

 

زنده: الحياة وكرد: العمل أي يقول بدوام الدهر.

 

وقال: أخبرنا أبو زكريا عن علي بن عثمان بن صخر عن أبيه قال: السُّوذَانِق والسَّوْذَنَيق والشَّوذنيق والشَّوْذَق بالشين معجمة.

 

قال: ووجد بخط الأصمعي شُوذَانِق وقيل شَوْذَنُوق كله الشاهين، وهو فارسي معرب، وسَوْذَق أيضا عن ابن دريد.

 

وقال ابن دريد في الجمهرة: باب ما تكلَّمتْ به العرب من كلام العجم حتى صار كاللغز وفي نسخة حتى صار كاللغة:

 

فمما أخذوه من الفارسية: البُستان والبَهْرمان وهو لونٌ أحمر وكذلك الأُرْجُوان والقِرْمز وهو دود يُصْبَغ به. والدَّشت وهي الصحراء. والبُوصيّ: السفينة. والأرَنْدَج: الجلود التي تُدْبغ بالعَفْص. والرَّهْوَج: الهِمْلاج وأصله رهوار والقَيْرَوان: الجماعةُ وأصله كاروان والمُهْرَق وهي: خِرَق كانت تصقلُ ويكتبُ فيها وتفسيرها مُهر كَرْدأي صقلت بالخرز. والكرد وهي العُنُق. والبَهْرج وهو: الباطل. والبِلاس وهو المِسْحُ. والسَّرَقُ وهو ضَرْبٌ من الحرير. والسرَاويل والعِراق. قال الأصمعي: وأصلُها بالفارسية إِرانْ شَهْر أي البلد الخراب فعربوها فقالوا: العراق. والخَوَرْنقَ وأصلُه خرانكه أي موضع الشرب. والسَّدير وأصله سِدِلّي أي ثلاث قباب بعضُها في بعض. والطَّيْجَن والطَّاجن وأصله طابق. والباريّ وأصله: بورياء. والخَنْدَق وأصله كَنْدَه أي محفور. والجَوْسَق وأصله كوشك. والجَرْدق من الخبز وأصله كرْدَه. والطّسْت والتَّوْر والهاون والعرب تقول الهاوون إذا اضطرّوا إلى ذلك. والعسكر وأصله لشكر. والإسْتَبرَق غليظُ الحرير. وأصلُه اسْتَرْوَه. والتَّنّور والجَوْز واللَّوز والمَوْزَج: الخفّ وأصله موزه. والخَوْر وهو: الخليج من البَحر. ودَخاريص القميص. والبطّ للطائر المعروف. والأشْنان والتَّخْت. والإيوان والمرتك.

 

ومن الأسماء: قابوس وأصله كاؤوس وبسْطام وأصله أوستام.

 

وزاد في الصحاح: الدُّولاب والمِيزاب قال: وقد عُرِّب بالهَمْز. والبَخْتُ بمعنى الجَدِّ قال: والبُخْت من الإبل معرّب أيضا وبعضهم يقول: هو عربي. والتُّوتِياء ودُرُوز الثوب والدِّهَلِيز وهو ما بين الباب والدّار والطِّراز وإفرِيز الحائط والقزّ من الإبريْسم لكن قال في الجمهرة: إنه عربي معروف. والبَوْس بمعنى التَّقْبيل والزئبق والباشَق وجُلَّسَان وهو الورد معرب كُلَّشَان والجاموس والطَّيْلَسَان والمِغْنَطيس والكِرْباس والمارَسْتان والدَّوْرق: مِكْيال الشراب والصَّكّ: الكتاب وصَنْجَة الميزان والصَّنْج والصَّاروج وهي: النُّورة. والصَّوْلجان والكَوْسَج ونَوَافِج المِسْك والهِمْلاج من البَرَاذِين. والفَرْسَخ والبَند وهو: العلم الكَبير. والزُّمُرُّد والطَّبَرْزَذ والآجر والجوهر والسِّفْسِير وهو: السِّمْسَار والسُّكَّر والطُّنْبُور والكَبَر وزاد في المحكم: الزِّرْنيخ.

 

قال ابن دريد: ومما أَخَذُوه من الرومية: قَوْمس وهو: الأمير والإسْفَنْط وهو ضَرْب من الخمر وكذا الخَنْدَريس والنُّمِّيُّ: الفَلس والقُمْقُم والخَوْخ والدُّراقِن رومي أو سرياني.

 

ومن الأسماء: مارية ورُومانِس، وزاد الأندلسي في المقصور والممدود: المَصْطَكاء.

 

قال ابن دريد: ومما أخذوه من السُّرْيانية: التأْمُور وهو موضع السرّ والدَّرْبخة. الإصغاء إلى الشيء أحسبها سريانية. وزاد الأندلسي: البَرنْساء والبَرْناساء بمعنى الخَلْق وقال: تفسيره بالسريانية ابن الإنسان.

 

قال ابن دريد: ومن الأسماء: شُرَحْبيل وشَراحيل وعَادِياء.

 

قال: ومما أخذوه من النبطية المِرْعِزّى والمِرْعَزاء وأصله مريزي. والصِّيق: الغُبَارُ وأصله زيقا. والجُدَّاد: الخيوط المعقّدة وأصله كداد. انتهى.

 

ومما أخذوه من الحبشية: الهَرْج: وهو القتل.

 

ومما أخذوه من الهندية: الإهْلِيلَجُ.

فصل في المعرب الذي له اسم في لغة العرب

 

في الغريب المصنف: إن الإبريق في لغة العرب يسمى التَّأمورَة وفي الجمهرة: البطّ عند العرب صِغاره وكباره إوَز الواحدة إوَزة وإن الهاوُون يسمى المِنْحاز والمِهْراس وإن الطاجن يسمى بالعربية المِقْلَى.

 

وفي الصحاح: إن الأشْنان يسمّى الحُرُض والمِيزَاب يسمى المثْعب والسُّكُرُّجة تسمى الثُّقْوَة وإن العرب كانت تسمي المِسْك المَشْموم وإن الجاسوس يسمى النَّاطِس والتُّوث يسمى الفرصاد. الأُترُج يسمى المُتك. والكَوسَج يسمى الأثّط. وفي ديوان الأدب: إن الكَبَر فارسيّ ويسمّى بالعربية اللَّصَف.

 

وفي كتاب العين المنسوب للخليل: أن الياسَمين يسمى بالعربية السَّمْسَق والسِّجلّاط وإن اللُّوبْيا تسمى الدَّجر وإن السكّر يسمى المِبْرت بلُغة أهل اليمن.

 

وقال في الجمهرة: السَّذاب اسم البَقْلة المعروفة معرب.

 

قال: ولا أعلم للسَّذاب اسمًا بالعربية إلا أن أهلَ اليمن يسمونه الفَيْجَن.

 

وفي المجمل: أن الكُزْبَرة تسمى التَّقْدَة وأن البَاذَنْجان يسمى الحدجَ وأن النرْجس يسمى العَبْهَر.

 

وفي شرح التسهيل لأبي حيّان: أن الباذَنْجان يسمى الأَنَب.

 

وفي شرح الفصيح لابن درستويه: الرَّصاص اسم أعجمي معرَّب واسمه بالعربية الصَّرَفان وبالعجمية أرزرز فأبدلت الصاد من الزاي والألف من الراء الثانية وحذفت الهمزة من أوله وفتحت الراء من أوَّله فصار على وزن فعال.

 

وفي الصحاح: أن الخيار الذي هو نوع من القِثَّاء ليس بعربي وفي المحكم أن اسمَه بالعربية القَثَد.

 

وفي أمالي ثعلب: إن البَاذِنجان يسمى المَغْد.

فصل في ألفاظ مشهورة في الاستعمال لمعان وهي فيها معربة وهي عربية في معان أخر غير ما اشتهر على الألسنة

 

من ذلك: الياسمين للزهر المعروف فارسي وهو اسم عربي للنّمَط يُطْرَح على الهَوْدَج، والوَرْد للمشموم فارسي وهو اسم عربي للفَرَس، ومن أسماء الأسد.

ذكر ألفاظ شك في أنها عربية أو معربة

 

قال في الجمهرة: الآسُ هذا المشموم أحسبه دخيلًا على أن العرب قد تكلَّمت به وجاء في الشعر الفصيح. قال: وزعم قومٌ أن بعض العرب يسميه السَّمْسَق ولا أدري ما صحّته.

 

وفيها: التِّكَّة لا أحسبها إلا دخيلًا وإن كانوا قد تكلَّموا بها قديمًا.

 

وفيها: النِّد المستعمل من هذا الطيب لا أحسبه عربيًا صحيحًا.

 

وفيها: السَّلَّة التي تعرفها العامة لا أحسبها عربية.

 

وفيها: لا أحسب هذا الذي يسمى جَِصًّا عربيًا صحيحًا.

 

وفيها: أحسب أن هذا المِشْمِش عربي ولا أدري ما صحَّته إلا أنهم قد سمُّوا الرجل مِشْماشًا وهو مشتق من المَشْمَشَة وهي السُّرْعة والخفّة.

 

وفيها: تسميتهم النحاس مِسًّا لا أدري أعربي هو أم لا.

 

وفيها: القَصْف: اللهو واللعب ولا أحسبه عربيًا.

 

وفيها الفُرْن: خُبْزَة معروفة لا أحسبها عربية مَحْضة.

 

وفيها: القط: السِّنَّور ولا أحسبها عربية صحيحة.

 

وفيها: الطُّنُّ من القصب ولا أحسبه عربيًا صحيحًا وكذلك قول العامة: قام بِطُنّ نفسه أي كَفَى نفسَه.

 

وفي الصحاح: الرَّانج: الجَوْزُ الهنديّ وما أحسبه عربيًا. والرَّهْوَجَة: ضَرْبٌ من السير ويُشْبه أن يكون فارسيًا معربًا. والكُزْبُرَة من الأبازير وأظنه معرّبًا والباطِية: الإناء وأظنه معربًا وهو النَّاجود.

فائدة

 

سُئل بعض العلماء عمّا عربتْه العرب من اللغات واستعملتْه في كلامها: هل يُعْطَى حكم كلامها فَيُشَقّ وُيشْتَقُّ منه؟

 

فأجاب بما نصه: ما عرّبتهُ العربُ من اللغات من فارسي ورومي وحبشي وغيره وأدخلتْهُ في كلامها على ضربين:

 

أحدُهما - أسماء الأجناس كالفِرِند والإبْرَيسم واللّجام والمَوْزَج والمُهْرَق والرَّزْدق والآجّر والباذَق والفَيْرُوز والقِسْطَاس والإسْتَبرق.

 

والثاني - ما كان في تلك اللغات علمًا فأجَرَوه على علميته كما كان لكنّهم غيّروا لفظه وقرَّبُوه من ألفاظهم وربما ألحقوه بأمثلتهم وربما لم يُلْحقوه، ويشاركه الضَّرب الأول في هذا الحكم لا في العلمية إلا أن يُنْقل كما نُقل العربي وهذا الثاني هو المعتدّ بعُجْمته في منع الصرف بخلاف الأول وذلك كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وجميع أسماء الأنبياء إلا ما استُثني منها من العربي كهود وصالح ومحمد عليهم الصلاة والسلام وغير الأنبياء كبير وزوتكين ورستم وهزارمرد وكأسماءِ البُلْدَان التي هي غير عربية كإصطخر ومرو وبلخ وسمرقند وخراسان وكرمان وغير ذلك فما كان من الضَّرْب الأول فأشرفُ أحواله أن يجريَ عليه حكم العربي فلا يُتجاوز به حُكمه.

 

فقول السائل: يشتق جوابه المنع لأنه لا يخلو أن يشتق من لفظٍ عربي أو عجمي مثله ومحالٌ أن يشتق العجمي من العربي أو العربي منه لأن اللغات لا تشتق الواحدة منها من الأخرى مواضعةً كانت في الأصل أو إلهامًا وإنما يشتق في اللغة الواحدة بعضها من بعض لأن الاشتقاق نتاجٌ وتوليد ومحالٌ أن تنتج النوق إلا حُورانًا وتلد المرأة إلا إنسانًا.

 

وقد قال أبو بكر محمد بن السري في رسالته في الاشتقاق وهي أصح ما وُضع في هذا الفن من علوم اللسان: ومَن اشتقَّ الأعجمي المعرّب من العربي كان كمن ادَّعى أن الطَّير من الحوت.

 

وقول السائل: "ويشتق منه" فقد لعمري يجري على هذا الضَّرْب المجري مَجْرَى العربي كثير من الأحكام الجارية على العربي من تصرّف فيه واشتقاقٍ منه ألا تراهم قالوا في اللجام وهو معرب لغام وليس تبيينهم لأصله الذي نُقل عنه وعرّب منه باشتقاق له لأن هذا التبيين مغزى والاشتقاق مغزى آخر وكذا كلّ ما كان مثله قالوا في جمعه: لجم فهذا كقولك: كتاب وكتب. وقالوا: لُجِّيم في تصغيره كقولك كتيّب ويصغّرونه مرخَّمًا لُجَيْمًا فهذا على حذف زائده.

 

ومنه لُجَيْم أبو عجل في أحدِ وجوهه ويشتقُّ منه الفعل أمرًا وغيره فتقول: أَلْجمه وقد ألجمه ويُؤْتَى للفعل منه بمصدر وهو الإلجام والفرس مُلْجم والرجل ملجم قال: * وملجمنا ما إن ينال قذاله * ويستعمل الفعلُ منه على صيغةٍ أخرى ومنه ما جاء في الحديث من قوله للمرأة: استَثْفرِي وتَلَجَّمي. فهذا تَفَعّل من اللجام ويُتصرَّف فيه أيضا بالاستعارة ومنه الحديث: التقيّ مُلْجم. فهذا من إلجام الفرس شَبّه التقيّ به لتقييد لسانه وكفّه وتكاد هذه الكلمة - أعني لجامًا - لتمكّنها في الاستعمال وتصرّفها فيه تقضي بأنها موضوعة عربية لا معرّبة ولا منقولة لولا ما قَضَوا به من أنها معرّبة من لغام. ولا شُبْهة في أن ديوانًا معرب وقد جمعوه على دواوين وقضوا بأنه كان الأصل فيه دوَّانًا فأبدلوا إحدى واويه ياء بدليل ردّها في جمعه واوًا وكان هذا عندهم كدينار في أن الأصل دِنَّار فأبدلوا الياء من إحدى نونيه ولذا ردّوه في الجمع والتصغير إلى أصله فقالوا: دنانير ودنينير لأن الكسرة في أوله الجالبة للياء زالت في الجمع واشتقوا من ديوان الفعل فقالوا: دَوَّن ودُوّن.

 

وأهدي إلى علي رضي الله عنه في النَّوْروز الخَبِيص فقال: نَوْرزوا لنا كل يوم.

 

وقال العجاج: * كالحَبَشِيِّ الْتفّ أو تسبَّجا * فقوله: تسبَّجَ هو تفعَّل من السَّبيج أي الْتف به والسبيج معرّب قولهم شَبيّ أي ثوب أسود.

 

وقال الآخر: فكر نبواودَ وّْلبوا. أي قصدوا كرنبا ودولاب وهما مَدِينتان عجميَّتان.

 

وقال الأعشى: * حتى مات وهو مُحَرْزق * وهو معرّب هرزوقا أي مخنوق وأصله نبطيّ.

 

وقال الآخر: * مثل القسي عاجها المقمجر * وروي القَمَنْجر وهو معرب كمانْكَرْ ومُقَمْجر فيمن رواه مُفَعْلل منه.

 

وقال آخر: * هل يُنْجِينّي حَلِفٌ سِخْتِيتُ * فهذا فِعليل من السَّخْت كزِحْلِيل من الزَّحْل وشِمْليل من الشمّل.

 

وقالوا: بهرجه إذا أبطله قال العجاج: * وكان ما اهْتَضَّ الجحَافُ بَهْرَجا * وأصله من قولهم درهم بَهرج أي رديء وهو معرّب نَبْهَره فيما قالوه.

 

وأحسبهم قد قالوا: مُزَرْجَن فأخذوه من الزَّرَجُون: وهي الخمر وهي معربة عندهم.

 

فإن كان قد جاء فهو كالمُعَرْجن في أخذِه من العُرْجون، ومُحَلْقن في أَخْذِه من الحُلْقَان من الرطب، وهو عربي.

 

وقالوا: نَوْروز، واختلف أبو علي وأبو سعيد في تعريبه فقال أحدهما: نَوْرُوز والآخر نَيْروز، والأول أقربُ إلى اللفظ الفارسي الذي عرِّب منه وأصله نوروز أي اليوم الجديد، وإن كان خارجًا عن أمثلة العربية وليس يلزم في المعربات أن تأتي على أمثلتهم؛ ألا ترى إلى الآجر والإبْرَيسَم والإهْليلَج والإطْرِيفَل بل إنْ جاءت به فحسنٌ لِتكون مع إقحامها على العربية شبيهةً بأوْزانها ونيروز أدْخَل في كلامهم وأشبه به لأنه كقيصوم وعَيْثُوم. فأما اشتقاق الفعل منه فعلى لفظيهما له نظيرٌ في كلامهم فنَوْرَز كحَوْقَل وهَرْوَل ونيْرَز كبَيْطَر وبَيْقَر والفاعل من الأول مُنَوْرِز ومن الثاني مُنَيْرز وقد بنى أبو مهدية اسمَ الفاعل من لفظٍ أعجمي وذلك فيما أنشدوا له في حكاية ألفاظ أعجمية سمعها وهي:

 

يقولون لي شنبذ ولستُ مشنبذًا ** طوالَ الليالي ما أقام ثَبِير

 

ولا قائلًا زودا ليعجل صاحبي ** وبستان في قولي عليّ كبير

 

ولا تاركًا لحني لأتبع لحنهم ** ولو دار صرفُ الدهر حيث يدور

 

فبنى من شنبذ مشنبذًا. وهو من قولهم: شون بوذ أي كيف - يعنون الاستفهام وزود: عجل وبستان: خذ.

 

وأما قولُ رُؤْبة: إلادهٍ فلادَهٍ. فالصحيحُ في تفسيره أنها لفظه أعجمية حَكَى فيها قولَ ظِئره.

 

فهذه نبذة مُقْنِعة في بيان ما تصرف فيه من الألفاظ الأعجمية.

 

وأما الضربُ الآخر - وهي الأعلام - فبعيدةٌ من هذا كل البعد، بل لها أحكامٌ تختصّ بها من جَمْع وتصغير وغير ذلك قد بيّنَت في أماكنها - قال: وجملةُ الجوابِ أن الأعْجمية لا تُشْتَق أي لا يُحْكَم عليها بأنها مشتقة وإن اشتقَّ من بعضها فكما رأينا مما جاء من ذلك فإذا وافق لفظٌ أعجمي لفظًا عربيًا في حروفه فلا ترين أحدَهما مأخوذًا من الآخر فإسْحَاق اسمُ النبي ليس من لَفْظ أَسْحَقَه الله إسحاقًا أي أبعده في شيء ولا من باقي متصرّفات هذه الكلمة كالسَّحق وثوب سَحْق ونخلة سَحُوق وساحوق اسم موضع ومكان سَحِيق. وكذا يعقوب اسمُ النبي ليس من اليعقوب اسم الطائر في شيء وكذا سائر ما وقَعَ من الأعجَمي موافقًا لفظُه لفظَ العربي. انتهى.

فائدة

 

قال المرزوقي في شرح الفصيح المعرَّباتُ ما كان منها بناؤه موافقًا لأبنية كلام العرب يُحْمَل عليها وما خالفَ أبنيتهم منها يُرَاعى ما كان الفهم له أكثر فيُخْتار وربما اتّفق في الاسم الواحد عدةُ لغات كما روي في جبريل ونحوه وطريقُ الاختيار في مثلِه ما ذَكَرْت.

 

وقال سلامة الأنباري في شرح المقامات: كثيرا ما تغيِّر العربُ الأسماءَ الأعْجَمية إذا استعملتَها كقول الأعشى: * وكِسْرَى شَهَنْشَاهُ الذي سَارَ مُلْكُه * الأصل شاهان شاهْ فحذفوا منه الألف في كلامهم وأشعارهم.

 

قال التاج ابن مكتوم في تذكرته: وهذه الهاء التي من شهنشاه تتبع ما قبلها من رفْع ونَصْب وخفض.

 

وقال ثعلب في أماليه: الأسماء الأعجمية كإبراهيم لا تعرف العرب لها تثنية ولا جمعًا فأما التثنية فتجيء على القياس مثل إبراهيمان وإسماعيلان فإذا جمعوا حذفوا فردّوها إلى أصل كلامهم فقالوا: أباره وأسامع، وصغّروا الواحد على هذا: بُرَيْه وسُمَيْع، فردوها إلى أصل كلامهم.

فائدة

 

في فقه اللغة للثعالبي يقال: ثوب مُهَرَّى إذا كان مصبوغًا بلونِ الشمس وكانت السادة من العرب تلبس العمائم المهرَّاة وهي الصفرُ.

 

[ وأنشد الشاعر:

 

رأيتك هرّيت العِمَامَة بَعْدَمَا ** عمَرْت زمانًا حاسرًا لم تعمَّمِ ]

 

وزعم الأزهري أنها كانت تُحْمَل إلى بلاد العرب من هَرَاة فاشتقُّوا لها وصفًا من اسمها.

 

قال الثعالبي: وأحسبه اخترع هذا الاشتقاق تعصبًا لبلده هَرَاة، كما زعم حمزة الأصبهانيّ أنّ السَّامَ: الفِضَّة وهو معرب عن سِيم، وإنما تقوَّلَ هذا التعريب وأمثاله تكثيرا لسواد المعربات من لغات الفرس وتعصَّبًا لهم. [ وفي كتب اللغة أن السام عروق الذهب، وفي بعضها إن السامة سبيكة الذهب. ]

 

 

 

=============

النوع العشرون

معرفة الألفاظ الإسلامية

 

 

 

 

قال ابن فارس في فقه اللغة: باب الأسباب [1] الإسلامية:

 

كانت العربُ في جاهليّتِها على إرْث من إرْث آبائِهم في لُغاتهم وآدابهم ونَسَائِكهم وقَرَابِينهم فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوالٌ ونُسِخَتْ دِيانات وأُبْطِلَت أمورٌ ونُقِلَت من اللغة ألفاظٌ من مواضعَ إلى مواضع أُخَر بزيادات زِيدَت وشرائع شُرعت وشرائط شُرِطت فعفَّى الآخرُ الأولَ.

 

فكان مما جاء في الإسلام ذكرُ المؤمن والمسلم والكافر والمُنَافق، وإن العربَ إنما عرفتْ المؤمنَ من الأمان والإيمان وهو التصديقُ، ثم زادتَ الشريعةُ شرائطَ وأوصافًا بها سُمِّي المؤمنُ بالإطلاقِ مؤمنًا. وكذلك الإسلام والمُسْلم إنما عَرَفَتْ منه إسلامَ الشيء، ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء. وكذلك كانت لا تعرف من الكُفْر إلا الغطاء والسَّتْر. فأما المنافقُ فاسمٌ جاء به الإسلام لقوم أبْطَنوا غيرَ ما أظهروه وكان الأصل من نافِقاء اليَرْبوع، ولم يعرفوا في الفِسْق إلا قولهم: فَسَقَتِ الرُّطَبة إذا خرجت من قِشْرها وجاء الشرع بأن الفِسْق الإفحاشُ في الخروج عن طاعة الله تعالى.

 

ومما جاء في الشرع: الصلاة وأصلُه في لغتهم الدعاء وقد كانوا يعرفون الرُّكوع والسجودَ وإن لم يكن على هذه الهيئة. قال أبو عمرو: أَسْجَدَ الرجل: طَأٌْطَأ رأسَه وانْحَنى وأنشد: * فَقُلْنَ له: أَسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجَدا * يعني البعير إذا طأَطَأ رأسه لتَرْكَبه.

 

وكذلك الصيامُ أصلهُ عندهم الإمساك ثم زادت الشريعةُ النيّة وحظَرت الأكلَ والمباشرة وغيرهما من شرائع الصوم. وكذلك الحجّ لم يكن فيه عندهم غير القصد ثم زادت الشريعةُ ما زادَته من شرائط الحج وشعائره. وكذلك الزكاة لم تكن العربُ تعرفُها إلا من ناحيةِ النَّماءِ وزاد الشرعُ فيها ما زاده.

 

وعلى هذا سائر أبواب الفقه؛ فالوَجْه في هذا إذَا سُئل الإنسانُ عنه أن يقول فيه اسمان: لُغَوي وشَرْعي ويذكر ما كانت العربُ تَعرفُهُ ثم جاء الإسلام به. وكذلك سائر العلوم كالنحو والعروض والشعر كلُّ ذلك له اسمان: لغوي وصناعي. انتهى كلامُ ابنِ فارس.

 

وقال في باب آخر: قد كانت حدثت في صدر الإسلام أسماء وذلك قولهم لمن أدرك الإسلام من أهل الجاهلية مخضرم. فأخبرَنا أبو الحسين أحمد بن محمد مولى بني هاشم حدثنا محمد بن عباس الخُشْكي عن إسماعيل بن عبيد الله قال: المُخَضْرَمون من الشعراء مَنْ قال الشِّعْر في الجاهلية ثم أدرك الإسلام فمنهم حسان بن ثابت ولَبِيد بنُ رَبيعة ونابغة بني جعدة وأبو زيد وعمرو بن شأس والزِّبرقان بن بدر وعمرو بن معدي كرب وكعب بن زهير ومعن بن أوس.

 

وتأويل المُخَضْرَم من خَضْرَمْتُ الشيء أي قطعتُهُ وخَضْرَم فلان عطيته أي قَطَعَها، فسمي هؤلاء مُخضرمين كأنهم قُطعوا عن الكفر إلى الإسلام، وممكن أن يكونَ ذلك لأن رُتْبَتَهم في الشِّعْر نقَصَتْ لأن حالَ الشعر تطامَنت في الإسلام لما أنزلَ الله تعالى من الكتاب العربي العزيز، وهذا عندنا هو الوَجْه لأنه لو كان من القَطْع لكان كلُّ من قُطِع إلى الإسلام من الجاهلية مُخَضْرَمًا والأمر بخلاف هذا.

 

ومن الأسماء التي كانت فزالت بزوال معَانيها قولهم: المِرْباع والنَّشِيطة والفُضول ولم يذكر الصَّفِّي لأن رسول الله ﷺ قد اصطفى في بعض غزواته وخُصّ بذلك وزال اسم الصفي لما توفي ﷺ.

 

ومما تُرك أيضا: الإتاوة والمَكْس والحُلْوان، وكذلك قولهُم: أنْعم صباحًا وأنعم ظلامًا، وقولهم للملك: أَبَيْتَ اللعن.

 

وترك أيضا قول المملوك لمالكه ربي، وقد كانوا يخاطبون ملوكهم بالأرباب قال الشاعر:

 

وأسلمن فيها رب كندة وابنه ** ورب معد بين خبت وعرعر

 

وتُرِك أيضا تسمية مَن لم يحج صَرورَة لقوله ﷺ: لا صَرُورة في الإسلام. وقيل معناه: الذي يَدَعُ النكاح تَبتُّلًا أو الذي يحدث حَدثًا ويلجأ إلى الحرم.

 

وترك أيضا قولهم للإبل تُساق في الصَّداق: النَّوافج.

 

وممّا كُره في الإسلام من الألفاظ قول القائل: خَبُثَت نفسي للنَّهْي عن ذلك في الحديث. وكُرِه أيضا أن يقال: استَأْثَر الله بفلان.

 

ومما كانت العرب تستعمله ثم تُرِك قولهم: حِجْرًا مَحْجُورًا وكان هذا عندهم لمعنيين:

 

أحدهما - عند الحِرْمان إذا سئل الإنسانُ قال: حجْرًا مَحْجورًا فيعلمُ السامعُ أنه يريد أن يحرمه ومنه قوله:

 

حنت إلى النَّخْلَة القُصْوَى فقلتُ لها: ** حجْرٌ حرامٌ ألا تِلْكَ الدَّهاريس

 

والوجه الآخر: الاستعاذة كان الإنسانُ إذا سافر فرأى من يخافُه قال: حِجْرًا محجورًا أي حرام عليك التعرض لي، وعلى هذا فسر قوله تعالى: { يَوْمَ يَرَونَ الملائكةَ لا بُشْرَى يَومَئِذٍ لِلْمُجْرِمين ويقولون حِجْرًا مَحْجُورًا } يقول المجرمون ذلك كما كانوا يقولونه في الدنيا. انتهى ما ذكره ابن فارس.

 

وقال ابن برهان في كتابه في الأصول: اختلف العلماء في الأسامي هل نُقلت من اللغة إلى الشرع، فذهبت الفقهاء والمعتزلة إلى أن من الأسامي ما نُقِل كالصَّوْم والصلاة والزكاة والحج. وقال القاضي أبو بكر: الأسماء باقيةٌ على وَضْعها اللغوي غير منقولة.

 

قال ابن برهان: والأولُ هو الصحيح وهو أن رسولَ الله ﷺ نَقَلها من اللغة إلى الشرع ولا تخرجُ بهذا النقل عن أحد قسمي كلام العرب وهو المجازُ وكذلك كلُّ ما استَحدثه أهل العلوم والصناعات من الأسامي كأهل العَرُوض والنحو والفقه وتَسْميتهم النقضَ والمنعَ والكَسر والقلْب وغيرَ ذلك. والرفع والنصب والخفض والمديد والطويل.

 

قال: وصاحبُ الشرْع إذا أتى بهذه الغرائب التي اشتملت الشريعةُ عليها من علوم حار الأوّلون والآخرون في معرفتها مما لم يخطْر ببال العرب فلا بدَّ من أسامي تدل على تلك المعاني. انتهى.

 

وممن صَحَّح القول بالنقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأَلكْيا. قال الشيخ أبو إسحاق: وهذا في غير لفظ الإيمان فإنه مُبقى على موضوعه في اللغة.

 

قال: وليس من ضرورة النقل أن يكون في جميع الألفاظ وإنما يكون على حسب ما يقوم عليه الدليل.

 

وقال التاج السبكي: رأيت في كتاب الصلاة للإمام محمد بن نصر عن أبي عبيد: أنه استدلَّ على أن الشارعَ نَقَل الإيمان عن معناه اللغوي إلى الشرعي بأنه نقلَ الصلاة والحجّ وغيرهما إلى معانٍ أخر.

 

قال: فما بالُ الإيمان، قال السبكي: وهذا يدلُّ على تخصيص محلِّ الخِلاف بالإيمان.

 

وقال الإمام فخر الدين وأتباعه: وقع النقلُ من الشارع في الأسماء دون الأفعال والحروف فلم يوجد النقل فيهما بطريق الأصالة بالاسْتقْراء بل بطريقِ التَّبعيَّة فإن الصلاةَ تستلزِمُ صَلّى.

 

قال الإمامُ: ولم يوجد النقلُ في الأسماء المترادِفة لأنها على خلاف الأصْل فتقدَّر بقدر الحاجة.

 

وقال الصفي الهندي: بل وُجد فيها في الفَرْض والواجب والتزويج والإنكاح.

 

وقال التاج السبكي في شرح المنهاج: الألفاظُ المُسْتَعمَلة من الشارع وقع منها الاسمُ الموضوعُ بإزاء الماهيات الجعلية كالصلاة والمصدرُ في أنتِ طلاق واسمُ الفاعل في أنت طالق وأنا ضامن واسم المفعول في الطلاق والعتْق والوكالة والصفة المشبهة في أنت حرّ والفعل الماضي في الإنشاءات وذلك في العقود كلّها والطلاق والمضارع في لفظ أشهد في الشهادة وفي اللعان والأمر في الإيجاب والاستيجاب في العقود نحو بعْني واشْترِ مني.

 

وقال ابن دريد في الجمهرة: الجوائز: العَطَايا، الواحدة جائزة.

 

قال: وذكر بعضُ أهل اللغة: أنها كلمة إسلامية وأصلها أن أميرًا من أمَراء الجيوش واقَفَ العدوّ وبينه وبينهم نهر فقال: مَن جاز هذا النهرَ فله كذا وكذا فكان الرجلُ يعبرُ النهر فيأخذُ مالًا فيُقالُ: أخذ فلان جائزة فسمِّيت جوائز بذلك.

 

وقال فيها: لم يكن المحرَّم معروفًا في الجاهلية وإنما كان يقال له ولصَفر الصِّفَرَيْن وكان أول الصَّفَرَين من أشهر الحُرُم فكانت العربُ تارةً تحرِّمُه وتارةً تُقاتل فيه وتحرِّم صفر الثاني مكانه.

 

قلت: وهذه فائدةٌ لطيفة لم أرها إلا في الجمهرة فكانت العرب تسمي صفر الأول وصفرَ الثاني وربيعَ الأول وربيعَ الثاني وجمادى الأولى وجمادى الآخرة، فلما جاء الإسلام وأبطل ما كانوا يفعلونه من النَّسِيء سمَّاه النبي ﷺ شهرَ الله المحرم كما في الحديث: أفضلُ الصيام بعدَ رمضان شهرُ الله المحرم، وبذلك عُرفت النكتة في قوله: شهر الله. ولم يَرد مثلُ ذلك في بقية الأشهر ولا رمضان، وقد كنتُ سُئِلت من مدة عن النكْتة في ذلك ولم تحضرني فيها شيء حتى وقفتُ على كلام ابنِ دريد هذا فعَرفتُ به النكتة في ذلك.

 

وفي الصحاح قال ابن دريد: الصَّفَران: شهران في السنة سمي أحدهما في الإسلام المحرَّم.

 

وفي كتاب ليس لابن خالويه: إن لفظ الجاهلية اسمٌ حدَث في الإسلام للزَّمن الذي كان قبلَ البعثة. والمنافِق اسمٌ إسلاميٌّ لم يُعْرف في الجاهلية وهو مَنْ دَخل في الإسلام بلسانه دون قَلْبه سُمِّي منافقًا مأخوذٌ من نافِقاء اليَرْبوع.

 

وفي المجمل: قال ابن الأعرابي: لم يُسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق.

 

قال: وهذا عجيبٌ وهو كلامٌ عربي ولم يأت في شعرٍ جاهلي وفي الصحاح نحوُه.

 

وفي كتاب ليس: لم يعرف تفسير الضراح إلا من الحديث قال: هو بيت في السماء بإزاء الكعْبة.

 

وفي الصحاح: التَّفَث في المناسك: ما كان من نحو قَصِّ الأظفار والشارب وحَلْق الرأس والْعَانَة ورَمْي الجِمار ونَحْر البُدْن وأشباه ذلك.

 

قال أبو عبيدة: ولم يجئ فيه شعرٌ يحتجُّ به.

 

وفي فقه اللغة للثعالبي: إذا مات الإنسانُ عن غير قتل قيل: مات حَتْفَ أَنْفِه، وأولُ من تكلَّم بذلك النبي ﷺ.

 

وفيه: إذا كان الفرسُ لا ينقطع جَرْيه فهو بَحْر، شُبِّه بالبحر الذي لا ينقطعُ ماؤه وأولُ من تكلَّم بذلك رسول الله ﷺ في وَصْف فَرس رَكِبه.

 

وقال ابن دريد في المجتبى: باب ما سُمع من النبي ﷺ مما لم يُسْمع من غيره: أخبرنا عبد الأول بن مريد أحد بني أَنْف النَّاقة من بني سعد في إسناد قال: قال عليّ رضي الله عنه: ما سمعتُ كلمةً عربيةً من العرب إلا وقد سمعتُها من النبي ﷺ وسمعته يقول: مات حَتْفَ أَنْفِه وما سمعتها من عربي قبله. وقال ابن دريد: ومعنى حَتْف أنفه: أن رُوحه تخرج من أنْفه بتتابع نفَسه لأن الميتَ على فراشه من غير قَتْل يَتَنَفَّس حتى يَنْقَضِي رَمَقُه فخصَّ الأَنْفَ بذلك لأنَّه من جهته ينقضي الرَّمَق.

 

قال ابن دريد: ومن الألفاظ التي لم تُسْمع من عربي قبله قوله: لا يَنْتَطح فيها عَنْزَان. وقوله: الآن حَمي الوَطيس. وقوله: لا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ من جُحْرٍ مرتين. وقوله: الحربُ خَدْعَة. وقوله: إيّاكم وخَضْراء الدِّمَن؛ في ألفاظ كثيرة.

 

وفي الصحاح قال أبو عبيد: الصِّيرُ في الحديث أنه شَقُّ الباب ولم يُسْمع هذا الحرف.

 

قال: والزَّمَّارة في الحديث أنها الزانية.

 

قال أبو عبيد: ولم أسْمع هذا الحرفَ إلا في الحديث ولا أدري من أي شيء أُخذ.

 

وفيه: الجُلْهُمة بالضم الذي في حديث أبي سُفْيان: ما كِدْتَ تأَْذَنُ لِي حتَّى تأْذَنَ لحجارة الجُلْهُمَتين. قال أبو عبيدة: أراد جانبي الوادي وقال: لم أسمعْ بالجُلْهمة إلا في هذا الحديث وما جاءت إلا ولها أصل.

 

وفي تهذيب الإصلاح للتبريزي: يقال: اجْعَل هذا الشيء بَأْجًَا واحدًا مهموزة أي طريقًا واحدًا. ويقال: إن أول من تكلّم به عثمان بن عفّان.

 

وفي شرح الفصيح لابن خالويه: أخبرنا ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: أول ما سُمع مصدر فاضَ الميت من شريح قال هذا أوانُ فوضه.

 

وفي كتاب ليس: لم يُسْمع جمعُ الدَّجَّال من أحدٍ إلا من مالك بن أنس فقيهِ المدينة فإنه قال: هؤلاء الدَّجَاجِلة.

 

 

هامش

 

 

لعلها "الأسماء" كما في تعليق على الصاحبي.

 

============

 

 

 

النوع الحادي والعشرون

معرفة المولّد

 

 

 

 

وهو ما أحْدثه المولَّدون الذين لا يُحْتجّ بألفاظهم. والفرق بينه وبين المصنوع أن المصنوع يُورده صاحبه على أنه عربي فصيح وهذا بخلافه.

 

وفي مختصر العين للزبيدي: المولّد من الكلام المحدَث.

 

وفي ديوان الأدب للفارابي يقال: هذه عربية وهذه مولَّدة.

 

ومن أمثلته: قال في الجمهرة: الحُسْبان الذي ترمى به: هذه السهامُ الصغار مولّد. وقال: كان الأصمعي يقول: النحْريرُ ليس من كلام العرب وهي كلمة مولّدة.

 

وقال: الخُمُّ: القَوْصَرَّة يُجْعَلُ فيها التبن لتبيضَ فيها الدَّجاجة وهي مولدة.

 

وقال: أيام العَجُوزِ ليس من كلام العرب في الجاهلية إنما وُلِّد في الإسلام قال في الصحاح: وهي خمسة أيام - أول يوم منها يسمى صِنًّا وثاني يوم يسمى الصِّنَّبْر وثالث يوم يسمى وَبْرًا والرابع مُطْفِئ الجَمْر والخامس مُكْفِئُ الظعْنِ. وقال أبو يحيى بن كُناسة: هي في نوء الصرْفَة. وقال أبو الغيث: هي سبعةُ أيام وأنشدَ لابن أحمر:

 

كُسِع الشتاءُ بسَبْعَةٍ غُبْرِ ** أيام شَهْلَتِنا من الشَّهْرِ

 

فإذا انْقَضَتْ أيامُها ومَضَتْ ** صِنٌّ وصِنَّبْرٌ مع الوَبْرِ

 

وَبآمِرٍ وَأَخيه مُؤْتَمِرٍ ** ومُعَلِّلٍ وبمُطْفئِ الجَمْرِ

 

ذهبَ الشتاءُ مُولّيًا عَجِلًا ** وأتَتْكَ واقدةٌ من الحرِّ

 

وقال ابن دريد: تسميتهم الأنثى من القرود منة مولد.

 

وقال التبريزي في تهذيب الإصلاح: القاقُزَّة مولّدة وإنما هي القاقُوزة والقَازُوزة وهي إناءٌ من آنية الشراب.

 

وقال الجوهري في الصحاح: القَحْبَة كلمة مولّدة. وقال: الطَّنْز: السخرية طَنَزَ يَطْنِزُ فهو طَنَّاز وأظنه مُولَّدًا أو معرّبًا وقال: والبُرْجاس غَرَضٌ في الهواء يُرْمَى فيه وأظنه مولدًا. وجزم بذلك صاحب القاموس. وقال في الصحاح: الجَعْس: الرَّجِيع وهو مولد. وقال: زعم ابن دريد أن الأصمعي كان يدفع قول العامَّة: هذا مُجانِس لهذا ويقول: إنّه مولَّد وكذا في ذيل الفصيح للموفّق عبد اللطيف البغدادي: قال الأصمعي: قول الناس: المُجانسة والتجنيس مولّد وليس من كلام العرب، وردَّه صاحب القاموس بأن الأصمعي واضعُ كتاب الأجناس في اللغة وهو أول من جاء بهذا اللقب.

 

وقال ابن دريد في الجمهرة: قال الأصمعي: المَهْبُوت: طائر يُرْسَل على غير هداية وأحسبها مَولّدة.

 

وقال: أخُّ كلمةٌ تقال عند التأوّه وأحسبها مُحْدَثة.

 

وفي ذيل الفصيح للموفق البغدادي: يقال عند التألم: أَحّ بحاء مهملة وأما أخُّ فكلام العجم وقال ابن دريد: الكابوسُ الذي يقعُ على النائم أحسبه مولدًا.

 

وقال الجوهري في الصحاح: الطَّرَش أهونُ الصمم يقال هو مولّد والمَاشُ: حبٌّ وهو معرّب أو مولد. والعَفْصُ الذي يُتَّخَذ منه الحِبْر مولّد وليس في كلام أهل البادية.

 

قال والعُجّة هذا الطعام الذي يُتّخذ من البيض أظنّه مولدًا وجزم به صاحب القاموس.

 

وقال عبد اللطيف البغدادي في ذيل الفصيح: الفطْرَة لفظٌ مولد وكلام العرب صَدَقَةُ الفطْر مع أن القياس لا يدفعه كالفرقة والنّغْبَة لمقدار ما يُؤخذ من الشيء. وقال: أجمع أهل اللغة على أن التَّشْويش لا أصل له في العربية وأنه مولّد وخطَّؤوا الليث فيه. قال: وقولهم: سِتّي بمعنى سيدتي مولّد ولا يقال سِتّ إلا في العدد. وقال: فلانٌ قرابتي لم يسمع إنما سمع قريبي أو ذو قَرَابتي. وجزم بأنَّ أطْرُوشُ مولّد.

 

وفي شرح الفصيح للمرزوقي: قال الأصمعي: إن قولهم كَلْبة صارِف بمعنى مُشْتَهية للنكاح ليس في كلام العرب وإنما ولّده أهلُ الأمصار قال: وليس كما قال فقد حكى هذه اللفظة أبو زيد وابن الأعرابي والناس.

 

وفي الروضة للإمام النووي في باب الطلاق: أن القَحْبة لفظة مولدة ومعناها البغيّ.

 

وفي القاموس: القَحْبة: الفاجرة: وهي السعال لأنها تَسْعُل وتُنَحْنِحُ أي تَرْمُزُ به وهي مولّدة.

 

وفي تحرير التنبيه للنووي: التفرّج لفظة مولدة لعلها من انفراج الغم وهو انكشافه.

 

وفي القاموس: كَنْدَجَة البَاني في الحُدْرَان والطِّيقَان مولّدة.

 

وفي فقه اللغة للثعالبي: يقال للرجل الذي إذا أكل لا يُبقي من الطعام ولا يَذَر: قَحْطِي وهو من كلام الحاضرة دون البادية.

 

قال الأزهري: أظنُّه يُنْسَب إلى القَحْط لكَثْره أكله كأنه نجا من القَحْط وفيه: الغَضَارَة مولَّدة لأنها من خَزَف وقِصَاعُ العرب من خشَب.

 

وقال الزجاجي في أماليه: قال الأصمعي: يقال هو الفَالُوذ والسّرِطْرَاطُ والمُزَعْزَعُ واللَّوَاصُ واللَّمْصُ وأما الفالوذج فهو أعجمي والفالوذق مولّد.

 

وقال أبو عبيد في الغريب المصنف: الجَبَريّة خلاف القَدَرية وكذا في الصحاح وهو كلام وقال المبرد في الكامل: جمع الحاجة حاجٌ وتقديره فَعَلة وفعل كما تقول: هَامَةٌ وهَام وساعةٌ وسَاع فأما قولهم في جمع حاجةٍ حَوَائج فليس من كلام العرب على كثرته على أَلْسِنة المولَّدين ولا قياسَ له.

 

وفي الصحاح: كان الأصمعي يُنْكِرُ جمع حاجة على حوائج ويقول مولّد.

 

وفي شرح المقامات لسلامة الأنباري: قيل الطُّفَيْلي لغة مُحدَثَة لا توجد في العتيق من كلام العرب. كان رجل بالكوفة يقال له طُفَيل يأْتي الولائم من غير أن يُدْعَى إليها فَنُسِب إليه وفيه: قولهم للغَبيِّ والحَرِيف زَبُون كلمة مولّدة ليست من كلام أهل البادية.

 

وفي شرح المقامات للمطرزي: الزَّبُون: الغبي الذي يُزْبَن ويُغْبَن. وفي أمثال المولدين: الزَّبُون يفرح بلا شيء.

 

وقال المطرزي أيضا في الشرح المذكور: المخرقة افتعال الكذب وهي كلمة مولدة. وكذا في الصحاح.

 

وقال المطرزي أيضا: قول الأطباء بُحْرَان مولد.

 

وفي شرح الفصيح للبطليوسي: قد اشتقوا من بغداد فعلًا فقالوا: تَبَغْدَدَ فلان قال ابن سيده: هو مولّد وفيه أيضا: القَلَنْسُوَة تقول لها العامة الشاشية وتقول لصانعها الشواشي وذلك من توليد العامة.

 

وقال ابن خالويه في كتاب ليس: الحوَامِيم ليس من كلام العرب إنما هو من كلام الصِّبْيان تقول: تعلَّمْنا الحواميم وإنما يُقَال: آلُ حاميمَ كما قال الكميت: * وَجَدْنَا لَكُمْ في آل حاميمَ آية * ووافقه في الصحاح.

 

وقال الموفق البغدادي في ذيل الفصيح: يقال: قرأتُ آلَ حاميم وآل طاسين ولا تقل الحواميم.

 

وقال الموفق أيضا: قول العامة: هَمْ فَعلتُ مكان أيضا وبَسْ مكان حَسْب وله بخت مكان حظ كلّه مولّد ليس من كلام العرب.

 

وقال: السُّرْم بالسين كلمةٌ مولدة وقال محمد بن المعلى الأزدي في كتاب المشاكهة: في اللغة العامة تقول لحديث يستطال بَسْ والْبَسُّ: الخلط وعن أبي مالك: البس: القطع ولو قالوا لمحدثه بسا كان جيدًا بالغًا بمعى المصدر أي بس كلامك بسًا أي اقطعه قطعًا وأنشد:

 

يحدثنا عبيد ما لَقينا ** فبسك يا عبيد من الكلام

 

وفي كتاب العين: بَسْ بمعنى حَسْب. قال الزبيدي في استدراكه: بَسْ بمعنى حَسْب غير عربية.

 

وفي الصحاح: الفَسْرُ: نَظَرُ الطبيب إلى الماء وكذلك التَّفْسِرَة قال: وأظنه مولدًا.

 

قال: والطَّرْمَذَة ليس من كلام أهل البادية والمُطَرْمِذُ: الكذَّاب الذي له كلام وليس له فِعْل.

 

وقال: الأطباءُ يسمون التغير الذي يحدثُ للعليل دفعةً في الأمراض الحادّة بُحْرانًا، يقولون: هذا يوم بُحْرانٍ بالإضافة ويومٌ باحُوريٌّ على غير قياسٍ فكأنه منسوب إلى باحُور وباحُوراء وهو شدّة الحرِّ في تَمُّوزَ وجميع ذلك مولد.

 

وقال ابن دريد في الجمهرة: شُنْطَف كلمةٌ عامية ليست بعربية مَحْضَة.

 

قال: وخَمَّنْت الشيء: قلتُ فيه الحَدْس أحسبه مولدًا حكاه عنه في المحكم.

 

وفي كتاب المقصور والممدود للأندلسي: الكيمياء لفظة مولدة يُراد بها الحِذْق.

 

وقال السخاوي في سِفر السعادة: الرَّقيع من الرجال الواهن المغفل وهي كلمة مولّدة كأنهم سموه بذلك لأن الذي يُرْقَع من الثياب الواهي الخَلَق.

 

وفي القاموس: الكُسُّ للْحَرِ ليس هو من كلامهم إنما هو مولّد.

 

وقال سلامة الأنباري في شرح المقامات: الكُسّ والسُّرْم لغتان مولّدتان وليستا بعربيتين، وإنما يقال فرج ودبر.

 

قلت: في لفظة الكُس ثلاثة مذاهب لأهل العربية: أحدها هذا والثاني أنه عربي ورجَّحه أبو حيان في تذكرته ونقله عن الأسنوي في المهمات وكذا الصغاني في كتاب خلق الإنسان ونقله عنه الزركشي في مهمات المهمات والثالث أنه فارسي معرب وهو رأي الجمهور منهم المطرزي في شرح المقامات، وقد نقلت كلامهم في الكتاب الذي ألفته في مراسم النكاح.

 

وفي القاموس: الفُشَار الذي تستعمله العامة بمعنى الهذيان ليس من كلام العرب.

 

وفي المقصور والممدود للقالي: قال الأصمعي: يقال صلاة الظهر ولم أسمع الصلاة الأولى إنما هي مولّدة، قال: وقيل لأعرابي فصيح: الصلاة الأولى. فقال: ليس عندنا إلا صلاة الهاجرة.

 

وفي الصحاح: كُنْهُ الشيء: نِهايتُه ولا يشتقّ منه فعل وقولهم: لا يَكتَنِهه الوصفُ بمعنى لا يبلغ كُنْهَه، كلام مولّد.

فائدة

 

في أمالي ثعلب: سُئِل عن التغيير: فقال هو كلُّ شيء مولد. وهذا ضابط حسن يقتضي أن كلَّ لفظ كان عربي الأصل ثم غيّرته العامة بهَمْزِ أو تَرْكه أو تسكينٍ أو تحريك أو نحو ذلك مولد، وهذا يجتمع منه شيء كثير وقد مشى على ذلك الفارابي في ديوان الأدب فإنه قال في الشَّمْع والشمْعة بالسكون: إنه مولد وإن العربي بالفتح وكذا فعَل في كثير من الألفاظ.

 

قال ابن قتيبة في أدب الكاتب: من الأفعال التي تُهْمَز والعامة تَدَعَ همزها: طَأْطَأْت رأسي وأبطأت واستبطأت وتوضَّأْت للصلاة وهيّأْت وتهيّأْت وهنّأْتك بالمولود وتقرَّأْت وتوكّأْت عليك وتَرأّست على القوم وهنأَني الطعام ومَرَأنِي وطَرَأْت على القوم ووطئته بقدمي وخَبَأْته واختبأتُ منه وأطفأْت السِّراج ولجأت إليه وألجأته إلى كذا ونشأت في بني فلان وتواطأنا على الأمر وتَجَشَّأْت وهَزَأْت واستهزأت وقرأت الكتاب وأقرأْته منك السلام وفقَأْت عينه ومَلأْت الإناء وامتلأت وتَمَلأَّت شبعًا وحَنَّأْته بالحِنّاء واستمرأت الطعام ورَفأت الثوب وهَرَأت اللحم وأَهْرَأته: إذا أَنْضجته وكافأته على ما كان منه وما هَدَأت البارحة.

 

ومما يُهْمَز من الأسماء والأفعال والعامة تُبْدِل الهمز فيه أو تسقطه: آكلْت فلانًا إذا أكلت معه ولا تقل: واكلته. وكذا آزَيْتُه: حاذَيته وآخَذْته بذنبه وآمَرْته في أمري وآخَيْتُه وآسيتُه وآزرته أي أعنته وآتيته على ما يريد والعامة تجعل الهمز في هذا كله واوًا والمُلاءة والمرآة والفُجَاءَة والبَاءَة. وإملاك المرأة والإهْلِيلج والأُتْرُجّ والإوز والأوقية وأَصْحَت السماء وأشَلْتُ الشيء: رفعته. وأَرْمَيْت العِدْل عن البعير: أَلقيته وأعقدت الرُّبّ والعَسل وأزللت إليه زَلَّة وأجْبَرْتُه على الأمر وأَحْبَسْت الفرس في سبيل الله وأغلقت الباب وأقفلته وأَغْفيت أي نِمْت وأَعْتَقْت العبد وأعْيَيْت في المَشْي والعامّة تُسْقِط الهمْزَ من هذا كله.

 

ومما لا يُهْمَز والعامة تهمزه: رجل عَزَب والكُرة وخير الناس وشرّ الناس وأَعْسَر يَسَر ورَعَبْت الرجل ووَتَدْت الوَتد وشَغَلْته عنك وما نجَع فيه القول ورَعدت السماء وبرَقت وتَعِسه الله وكبَّه لَوجْهه وقلبت الشيء وصرفتُه عما أراد ووقَفْتُه على ذَنْبه وغِظْته ورَفَدْته وعِبْتُه وحَدَرت السفينة في الماء. هذا كلّه بلا ألف والعامة تزيد فيه ألفًا.

 

ومما يشدّد والعامة تخففه: الفُلُوّ والأتْرُجّ والأتْرُجّة والإجَّاص والإجَّانة والقُبَّرة والنعيّ والعارِّية والقوصرّة وفي خُلقه زَعَارّة وفُوّهة النهر والباريّ ومَرَاقُّ البطن.

 

ومما يخفف والعامة تشدده: الرباعية للسن التي بين التثنية والناب والكرَاهيَة والرفاهية والطَّوَاعِيَة ورجل يَمانٍ وامرأة يمَانيَة وشآم وشآميَة والطماعِيَة والدّخان وحُمَة العقرب والقَدُوم وغَلَفْتُ لحيته بالطيب ولِثَةُ الأسنان وأرضٌ دويَة ونديَة ورجل طَوِي البطن وقَذِي العين ورَدٍ أي هالك وصَدٍ أي عَطْشان وموضع دَفِيء والسُّمَانى والقُلاعة وقصَرْت الصَّلاة وكنَيْتُ الرجل وقَشَرت الشيء وأُرْتِجَ عليه وبَرَدْت فؤادي بشرْبةٍ من ماءٍ وبَرَدْتُ عيني بالبَرُود وطِنِ الكِتاب والحائط.

 

ومما جاء ساكنًا والعامّة تحرّكه: في أسنانه حَفْر وفي بطنه مَغْس ومَغْص وشَغْب الجند وجبل وَعْر ورجل سَمْح وحَمْش الساقين وبلد وَحْش وحلْقة الباب والقوم والدَّبر.

 

ومما جاء متحرِّكًا والعامة تسكّنه: تُحَفة وتُخَمة ولُقَطة ونُخَبَة وزُهَرة للنجم وهم في الأمر شَرَع واحد والصَّبِر للدَّواء وقَرَبوس السَّرْج وعجَمُ التَّمر والرّمان للنَّوَى والحبّ. والصَّلَعة والنَّزَعة والفَرَعة والقَطَعة موضع القطع من الأقطع والورَشان للطائر والوَحَل والأَقِط والنَّبِق والنَّمِر والكذب والحَلِف والحبِقُ والضَّرِط والطِّيرَة والخِيرَة والضِّلَع والسَّعَف والسَّحَنة والذُّبَحة وذهب دمه هدَرًا واعمل بحَسَبِ ذلك أي بقَدْرِه.

 

ومما تبدل فيه العامة حرفًا بحرف: يقولون: الزُّمُرُّد وهو بالذال المُعْجمة وفُسْكل للرَّذل وإنما هو فِسْكل ومِلْح دراني وإنما هو ذَرآني بفتح الراء وبالذال معجمة. ونعَق الغراب وإنما هو نَغَق بالغين معجمة. ودابة شموص وإنما هو شَمُوس بالسين والرّصغ وإنما هو الرُّسْغ بالسين وسنجة الميزان وهي صَنْجَة بالصاد. وسماخ الأُذن وهو صِمَاخ. والسندوق وهو الصُّنْدُوق.

 

ومما جاء مفتوحًا والعامةُ تكسره: الكَتّان والطَّيْلسان ونَيْفَق القميص وأَلْية الكَبْش والرجل وأَلْيَة اليد وفقار الظهر والعِقار والدّرهم والجَفْنة والثدي والجَدْي وبَضْعة اللحم واليَمين واليَسار والغَيْرة والرَّصاص وكسب فلان وجَفْن العين وفَصّ الخاتم والنَّسر ودمَشْق.

 

ومما جاء مكسورًا والعامة تفتحه: السِّرْداب والدِّهْليز والإنفَحة والدِّيوان والدِّيباج والمِطْرَقة والمِكْنسة والمِغْرفة المِقْدحة والمِرْوحة وقتَله شرّ قِتلة ومفرِق الطريق ومرفق اليد والحِبْر: العالم والزِّئبِق والجنازة والجِراب والبطّيخ وبصل حرِّيف والمِنْدِيل والقِنْديل ومليخ جدًا وسورتا المُعوِّذتين وفي دعاء القنوت: إن عذابك الجد بالكافرين مُلْحِق ومما جاء مفتوحًا والعامة تضمّه: على فلان قَبُول والمَصُوص وخَصُوصِيّة وكلب سَلُوقي والأَنْمَلة والسَّعُوط وتَخُوم الأرض وشَلَّت يدُه.

 

ومما جاء مضمومًا والعامة تفتحه: على وجهه طُلاوة وثياب جدُد بضم الدال الأولى وأما الجُدَد بالفتح فهي الطرائق وأعطيته الشيء دُفْعة والنُّقَاوة والنُّقَاية وجعلته نُصْب عيني ونُضْج اللحم.

 

ومما جاء مضمومًا والعامةُ تكسره: الفُلفل ولُعبة الشِّطْرَنج والنَّرد وغير ذلك والفُسطاط والمُصْران وجمعه مَصَارين والرُّقَاق بمعنى رقيق والظُّفر.

 

ومما جاء مكسورًا والعامةُ تضمّه: الخِوان وقِمَاص الدَّابة والسِّواك والعِلو والسِّفِل.

 

ومما عدّ من الخطأ: قولهم: ماءٌ مالح وإنما يقال مِلْح

 

وقولهم: أخوه بِلَبن أمّه وإنما يقال: بلِبَان أمه واللّبن ما يُشْرَب من ناقةٍ أو شاة أو غيرهما من البهائم.

 

وقولهم: دابةٌ لا تُرْدَف وإنما يقال لا تُرَادَف.

 

وقولهم: نثر دِرْعه وإنما يقال نثَلَ أي ألقاها عنه.

 

وقولهم: هو مطّلع بحِمْله وإنما يقال: مُضْطلع.

 

وقولهم: ما به من الطيبَة وإنما يقال من الطيب.

 

وقولهم: للنبت المعروف: اللِّبلاب وإنما هو الحِلْبِلاب.

 

وقولهم: مؤخرة الرحل والسرج وإنما يقال آخره.

 

وقولهم: هذا لا يسوى درهمًا وإنما يقال: لا يساوي.

 

وقولهم: هو منِّي مدّ البصر. وإنما يقال: مَدَى البصر أي غايته.

 

وقولهم: شَتَّان ما بينهما وإنما يقال: شَتَّان ما هما.

 

وقولُهم: هو مُسْتَأْهل لِكَذا إنما يقال: هو أهلٌ لكذا.

 

وقولهم: لم يكن ذاك في حسابي إنما يقال: في حِسْبَاني أي ظني.

 

وقولهم: فَبِها ونِعْمَه إنما يُقال: ونِعْمَت.

 

وقولهم: سألتُه القيلولة في البيع إنما يقال الإقالة.

 

وقولهم: رميتُ بالقوس وإنما يُقال: رميتُ عن القوس.

 

وقولهم: اشتريت زوج نِعال وإنما يُقال زَوْجي نعال.

 

وقولهم: مِقرَاض ومِقَص وتوأم وإنما يُقال: مِقْراضان ومِقَصَّان وتَوْأَمان.

 

وقال ابن السكّيت في الإصلاح والتبريزي في تهذيبه: يقال: غَلَت القدر ولا يقال غَليت. وأنشد لأبي الأسود:

 

ولا أقول لِقدْر القوم قد غليت ** ولا أقولُ لبابِ الدَّار مَغْلُوق

 

أخبر أنه فصيح لا يلحن، وقول العامة: غليت لحنٌ قبيح وكذلك قولهم: باب مغلوق والصواب مُغْلق.

 

وقال ابن السكّيت أيضا: تقول: لقيته لقَاءً ولُقْيَانًَا ولُقِيًَّا ولُقًى ولِقْيَانة واحدة ولُقْية ولِقَاءَة واحدة ولا تقل لَقاةً فإنها مولّدة ليست من كلام العرب.

 

وقال أيضا: يقالى افعلي ذاك زيادة ولا تقل زوادة. وحسي من كذا بَسّي.

 

قال: وقال الأصمعي: تقول: شتَّان ما هما وشتان ما عمرٌو وأخوه، ولا تقل: شتان ما بينهما. قال: وقول الشاعر:

 

لشتَّان ما بين اليَزيْدَين في الندى * يزيدِ سُلَيمٍ والأغرِّ بن حاتم

 

ليس بحجة إنما هو مولَّد، والحجة قول الأعشى:

 

شتَّانَ ما نومي على كُورِها ** ونوم حَيَّانَ أخي جابِر

 

قال ابن السكّيت: ومما تضعُه العامةُ في غير موضعه قولهم: خَرجْنا نَتَنَزَّه إذا خرجوا إلى البساتين وإنما التنزّه التباعُد عن المياه والأرياف ومنه قيل: فلان يتنزه عن الأقذار.

 

قال: وتقول: تعلمت العلم قبل أن يُقْطَع سُرّك وسَرَرك وهو ما يُقْطع من المولود مما يكون متعلقًا بالسُّرَّة ولا تقل: قبل أن تُقْطَع سرتك إنما السرة التي تبقى.

 

قال: وتقول: كانا مُتَهاجرين فأصبحا يتكالمان ولا تقل يتكلَّمان.

 

وتقول: هذه عَصَاي وزعم الفراء أن أول لحْن سُمِع بالعراق: هذه عَصَاتي.

 

وتقول: هذه أتان ولا تَقُلْ: أتانة. وهذا طائر وأنثاه، ولا تقُلْ: وأنثاته. وهذه عَجَوز ولا تَقُلْ: عجوزة.

 

وتقول: الحمد لله إذ كان كذا وكذا ولا يُقال: الحمد لله الذي كان كذا وكذا حتى تقول به أو منه أو بأمره.

 

وفي الصحاح: يقال للمرأة إنسان، ولا يقال إنسانة، والعامة تقوله.

 

وفي كتاب ليس لابْنِ خالويه: العامّةُ تقول: النُّقْل بالضم للَّذي يُتَنَقّلُ به على الشراب وإنما هو النَّقْل بالفتح ويقولون: سوسن وإنما هو سَوْسَن ويقولون: مُشمشة لهذه الثمرة وإنما هي مِشْمشة.

 

وقال الموفق البغدادي في ذَيْل الفصيح: اللَّحْنُ يتولد في النواحي والأمم بحسب العادات والسيرة فمّما تَضَعُه العامةُ في غير مَوْضعه قولهم: قدور بِرَام والبرَام هي القدور واحدها بُرْمة وقول المتكلمين: المحْسوسات والصواب المحسَّات من أحسَسْتُ الشيء أدركته وكذا قولهم: ذَاتِيَّ والصفات الذاتيَّة مخالفة للأوضاع العربية لأن النسبةَ إلى ذات ذوويّ. ويقال للسائل: شحاذ ولا يقال شحاث بالثاء وكُرَة ولا يقال أُكْرة. واجترَّ البعير ولا يجوز بالشين. وفي النسبة إلى الشافعي شافعي ولا يجوزُ شفعوي. وفي فلان ذَكا ولا يجوز ذكاوة. والخُبَّازَى والخُبَّازُ ولا يُقال: الخُبَّيْز. وأَرَاني يُرِيني ولا يجوز أوراني. والسَّلْجَم بالسين المهملة ولا يجوز بالمعجمة. وشِرْذِمة وطَبْرَزذ وذَحْل للحِقْد كلّه بالذال المعجمة وهَنُ المرأةِ وحَرُها بالتخفيف والعامَّةُ تشدِّدُهما.

 

==========

 

 

 

النوع الثاني والعشرون

معرفة خصائص اللغة

 

 

 

 

من ذلك: أنها أفضلُ اللغات وأوسعُها. قال ابن فارس في فقه اللغة: لغةُ العرب أفضلُ اللغات وأوسعُها قال تعالى: { وإنه لتنزيلُ ربِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتكُونَ مِنَ المُنْذِرين بِلِسَانٍ عربي مُبِينٍ } فوصفه سبحانه بأبلغ ما يُوصَف به الكلامُ وهو البيان. وقال تعالى: { خَلَق الإنسانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } فقدَّم سبحانه ذِكْرَ البيان على جميع ما توحَّد بخَلْقه وتفرَّد بإنشائه من شمسٍ وقمر ونجْم وشجر وغير ذلك من الخلائق المُحْكَمَة والنشايا المتقنة فلما خصَّ سبحانه اللسانَ العربي بالبيان عُلم أن سائرَ اللغات قاصرةٌ عنه وواقعة دونه.

 

فإن قال قائلٌْ: فقد يقع البيانُ بغير اللسان العربي لأن كلَّ من أفهمَ بكلامه على شرط لُغته فقد بيَّن.

 

قيل له: إن كنتَ تريد أنّ المتكلم بغير اللغة العربية قد يُعْرِب عن نفسه حتى يفهَم السامعُ مُراده فهذا أخسُّ مراتب البيان لأن الأبْكم قد يدلُّ بإشارات وحركات له على أكثر مراده ثم لا يُسمى متكلمًا فضلًا عن أن يُسمى بَيِّنًا أو بليغًا وإن أردت أنَّ سائرَ اللغات تُبِين إبانَةَ اللغة العربية فهذا غلط لأنا لو احتجنا إلى أن نُعَبِّر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد ونحن نذكر للسيف بالعربية صفاتٍ كثيرة وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء والمُسَمَّياتِ بالأسماء المترادفة. فأين هذا من ذاك وأين لسائر اللغات من السعة ما للغة العرب هذا ما لا خفاء به على ذي نُهْية.

 

وقد قال بعض علمائنا - حين ذكر ما للعرب من الاستعارة والتمثيل والقَلْب والتقديم والتأخير وغيرها من سنن العرب في القرآن فقال: وكذلك لا يقدرُ أحدٌ من التَّراجم على أن ينقلَه إلى شيء من الألْسِنة كما نُقِل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية وترجمت التوراة والزَّبور وسائر كتب الله عز وجل بالعربية لأنَّ غيرَ العرب لم تتسع في المجاز اتساعَ العرب. ألا ترى أنك لو أردتَ أن تنقلَ قوله تعالى: { وإما تَخَافَنَّ من قومٍ خيانةً فانبِذْ إليهم على سواءٍ } لم تستطع أن تأتي لهذه بألفاظ مؤدِّية عن المعنى الذي أودِعَتْه حتى تبسط مجموعها وتصلَ مقطوعها وتُظهرَ مَسْتُورها فتقول: إن كان بينك وبين قوم هُدْنة وعَهْد فخِفْت منهم خيانةً ونقضًا فأعْلمهم أنك قد نقضتَ ما شرطته لهم وآذنْهم بالحرب لتكونَ أنتَ وهم في العلم بالنَّقْض على الاستواء. وكذلك قوله تعالى: { فَضَرَبْنَا على آذانهم في الكَهْف }.

 

وقد تأتي الشعراء بالكلام الذي لو أراد مريد نَقْلَه لاعْتاصَ وما أمكن إلا بمبسوط من القول وكثير من اللفظ ولو أراد أن يُعبِّر عن قول امرئ القيس: * فدع عنك نَهْبًا صِيحَ في حَجَراته * بالعربية فَضْلًا عن غيرِها لطالَ عليه. وكذا قول القائل: والظنُّ على الكاذب. ونِجَارُها نارها. وعَيَّ بالأسْناف. وإنشأي يرم لك وهو باقِعَة. وقلبٌ لو رَفع. وعلى يدي فاخْضَم. وشأنك إلا تركه مُتفاقم. وهو كثير بمثله طالت لغةُ العرب دون اللغات ولو أراد معبِّرٌ بالأعجمية أن يعبر عن الغنيمة والإخْفاق واليقين والشك والظاهر والباطن والحق والباطل والمُبين والمُشْكل والاعتزاز والاستسلام لعيَّ به والله تعالى أعلم حيث يجعل الفضل.

 

ومما اختصَّت به العربُ بعد الذي تقدم ذكرُه: قَلْبُهم الحروفَ عن جهاتها ليكون الثاني أخفَّ من الأول نحو قولهم مِيعاد ولم يقولوا مِوْعاد وهما من الوعد إلا أن اللفظ الثاني أخف.

 

ومن ذلك: تركُهم الجمع بين الساكِنَيْن وقد يجتمعُ في لغة العجم ثلاثة سواكن

 

ومنه قولهم: يا حارِ ميلًا إلى التخفيف.

 

ومنه: اختلاسُهم الحركات في مثل: * فاليوم أشْرَبْ غير مُسْتَحْقِبٍ *

 

ومنه الإدغامُ وتخفيفُ الكلمة بالحذف نحو: لم يَكُ ولم أُبَلْ.

 

ومن ذلك إضمارُهم الأفعال نحو: امرأً اتَّقى الله، وأمْرَ مُبْكياتك لا أمْر مُضْحكاتك.

 

ومما لا يمكنُ نقلهُ البتَّة أوصافُ السيف والأسد والرُّمح وغير ذلك من الأسماء المُترادفة، ومعلوم أن العجمَ لا تعرفُ للأسد أسماء غيرَ واحد فأما نحن فنخرج له خمسين ومائة اسم. وحدثني أحمد بن محمد بن بندار قال: سمعتُ أبا عبد الله بن خالَويْه الهمذاني يقول: جمعت للأسد خمسمائة اسم وللحيَّة مائتين.

 

قلت: ونظيرُ ذلك ما في فقه اللغة للثعالبي: قد جمع حمزة بن حسن الأصبهاني من أسماء الدواهي ما يزيد على أربعمائة وذكر أن تكاثر أسماء الدواهي من الدواهي.

 

قال: ومن العجائب أن أمةً وسَمت معنى واحدًا بمئين من الألفاظ.

 

ثم قال ابن فارس: وأخبرني عليُّ بن أحمد بن الصبّاح قال: حدثنا أبو بكر بنُ دريد قال: حدثنا ابن أخي الأصمعي عن عمِّه أن الرشيد سألَه عن شعر لابن حزام العُكْلي ففسَّره فقال: يا أصمعي إن الغريب عندك لغيرُ غريب. قال: يا أمير المؤمنين ألا أكون كذلك وقد حفِظت للحَجَر سبعين اسمًا.

 

قال ابن فارس: فأين لسائر الأُمم ما للعرب ومن ذا يُمكنُه أن يُعبّر عن قولهم: ذَات الزُّمَين وكثرة ذات اليد ويد الدهر وتخَاوَصَت النجوم ومجَّت الشمسُ ريقَها ودَرَأ الفيء ومَفاصل القول وأتى بالأمر من فصّه وهو رَحْب العَطَن وغَمْرُ الرِّداء ويَخْلق ويَفْرِي وهو ضيّق المَجَم قَلِق الوضِين رابط الجأش وهو ألْوى بعيد المُسْتَمَرّ وهو شَرَّاب بأنقُع وهو جُذَيلُها المُحَكّك وعُذَيقُها المرَجَّب وما أشبه هذا من بارع كلامهم ومن الإيماء اللطيف والإشارة الدالة.

 

وما في كتاب الله تعالى من الخطاب العالي أكثر وأكثر كقوله تعالى: { ولكُمْ في القِصاص حياةٌ }. و { يحسبون كلَّ صَيحةٍ عليهم }. { وأُخْرَى لم تَقْدِرُوا عليها قد أحاطَ اللهُ بها } و { إن يتَّبعون إلا الظَّنَّ وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى من الحقّ شيئا }. { ولا يحيقُ المكرُ السَّيِّئُ إلا أإهله }. وهو أكثر من أن نأتي عليه.

 

وللعرب بعد ذلك كَلَِم تلوح في أثناء كلامهم كالمصابيح في الدُّجى كقولهم للجَمُوع للخير قَثوم. وهذا أمر قاتِم الأعماق أسودُ النَّواحي. واقْتَحَفَ الشرابَ كلَّه. وفي هذا الأمر مصاعب وقُحَم. وامرأة حَييَّة قَدِعة. وقد تقادعوا تقادُع الفراش في النار. وله قدمُ صِدق. وذا أمر أنت أدرته ودبَّرته. وتقاذَفَتْ بنا النَّوى. واشْتَفَّ الشراب. ولك قُرْعة هذا الأمر: خياره. وما دخلت لفلان قَرِيعة بيت. وهو يَبْهَرُ القرينة إذا جاذبته. وهم على قَرْو واحد: أي طريقة واحدة. وهؤلاء قرابين الملك. وهو قَشْع: إذا لم يثبت على أمرٍ. وقَشَبه بقبيح: لطخه. وصبي قصيع: لا يكاد يشبّ. وأقبلت مقاصر الظلام. وقطَّع الفرس الخيلَ تقطيعًا: إذا خلّفها. وليلٌ أقْعس: لا يكاد يبرح. وهو منزول قفز.

 

وهذه كلمات من قدحة واحدة فكيف إذا جال الطرْف في سائر الحروف مجاله ولو تقصَّينا ذلك لجاوزنا الغَرضَ ولما حوته أجْلاد وأجلاد هذا ما ذكره ابن فارس في هذا الباب.

 

وقال في موضع آخر: باب ذكر ما اختصت به العرب:

 

من العلوم الجليلة التي اختصتْ بها الأعرابُ الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يُعْرف الخبر الذي هو أصل الكلام ولولاه ما مُيِّزَ فاعلٌ من مفعول ولا مضافٌ من منعوت ولا تعجّب من استفهام ولا صَدْر من مصدر ولا نعتٌ من تأْكيد. وزعم ناسٌ يُتَوَقَّفُ عن قبول أخبارهم أن الفلاسفة قد كان لهم إعرابٌ ومؤلفاتُ نحو، وهو كلامٌ لا يُعَرَّج على مثله وإنما تشبَّه القوم آنفًا بأهل الإسلام فأخذوا من كتب علمائنا وغيَّروا بعضَ ألفاظها ونسبُوا ذلك إلى قومٍ ذوي أسماء مُنكرة بتراجم بَشِعة لا يكاد لسانُ ذي دينٍ ينطق بها وادَّعَوا مع ذلك أن للقوم شعرًا وقد قرأناه فوجدناه قليل المآثر والحلاوة غير مستقيم الوَزْن. بلى الشعرُ شعرُ العرب وديوانُهم وحافظُ مآثرهم ومقيِّد حسابهم.

 

ثم للعرب العَرُوض التي هي ميزان الشِّعْرِ وبها يُعْرَف صحيحُه من سقيمه ومَن عَرف دقائقه وأسرارَه وخفاياه علم أنه يُرْبي على جميع ما يحتجُّ به هؤلاء الذين ينتحلون معرفة حقائق الأشياء من الأعداد والخُطوط والنُّقَط التي لا أعرف لها فائدة غيرَ أنها مع قلَّة فائدتها تُرِقّ الدين وتنتجُ كلَّ ما نعوذُ بالله منه. هذا كلام ابن فارس.

 

ثم قال: وللعرب حفظُ الأنساب وما يُعْلمُ أحدٌ من الأمم عُنيَ بحفظ النسب عناية العرب. قال الله تعالى: { يا أيها الناسُ إنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ } في آية ما عمل بمضمونها غيرهم.

فصل

 

قال ابن فارس: انفردت العرب بالهمز في عرض الكلام مثل قرأ، ولا يكون في شيء من اللغات إلا ابتداء.

 

قال: ومما اختصت به لغة العرب الحاءُ والطاء وزعم قومٌ أن الضادَ مقصورةٌ على العرب دونَ سائرِ الأمم.

 

وقال أبو عبيد: قد انفردت العربُ بالألف واللام التي للتَّعريف كقولنا: الرجل والفرس، فليستا في شيء من لغات الأمم غير العرب. انتهى.

فصل

 

وقال ابن فارس في فقه اللغة في موضع آخر: باب الخطاب الذي يقعُ به الإفهامُ من القائل والفهمُ من السامع:

 

يقع ذلك من المُتَخاطبين من وجهين: أحدهما الإعرابُ والآخر التَّصْريف.

 

فأما الإعراب فَبِه تميَّزُ المعاني ويُوقَف على أغراض المتكلمين وذلك أنَّ قائلًا لو قال: ما أَحْسن زيد غيرَ مُعْرِبٍ لم يُوقف على مراده فإذا قال: ما أحسَنَ زيدًا أو ما أحسنُ زيدٍ أو ما أحْسَنَ زَيْدٌ أبانَ بالإعرابِ عن المعنى الذي أرادَه وللعرب في ذلك ما ليس لغيرِهم فهم يَفرقُون بالحركات وغيرِها بين المعاني يقولون: مِفْتَح للآلةِ التي يُفْتح بها ومَفْتح لموضع الفتحِ ومِقَص لآلة القص ومَقصّ للموضع الذي يكون فيه القص ومِحْلب للقدَح يُحْلَب فيه ومَحْلَب للمكان يُحْتَلب فيه ذَواتُ اللبن. ويقولون: امرأةٌ طاهرٌ من الحيض لأن الرجل لا يَشْرَكها في الحيض وطاهرةٌ من العيوب لأن الرجلَ يشْرَكُها في هذه الطهارة وكذلك قاعدٌ من الحَبَل وقاعِدةٌ من القعود. ويقولون: هذا غلامًا أحسنُ منه رجلًا يريدون الحالَ في شخص واحد. ويقولون: هذا غلامٌ أحسنُ منه رجلٌ فهما إذن شخصان ويقولون: كم رجلًا رأيت في الاسْتخبار. وكم رجلٍ رأيت في الخبر يراد به التكثير. وهُنَّ حَوَاجُّ بيتِ الله إذا كنَّ قد حَجَجْنَ. وحَوَاجّ بيتَ الله إذا أردنَ الحجّ. ويقولون: جاء الشتاء والحطبَ إذا لم يرد أنَّ الحطَب جاء إنما أريدَ الحاجةُ إليه. فإن أريد مجيئُهما قال: والحطبُ.

 

وأما التصريف فإن مَنْ فاته عِلْمُه فاتَه المُعْظَم لأنا نقول: وَجَد وهي كلمة مُبْهمة فإذا صرفت أَفْصَحْت فقلت في المال: وُجْدًا وفي الضَّالة: وِجْدانًا وفي الغضب: مَوْجِدَةً وفي الحُزْن: وَجْدًا. ويقال: القاسِط للجائر والمُقْسطُ للعادل فتحوَّلَ المعنى بالتصريف من الجَوْر إلى العَدْل. ويقولون للطريقة في الرَّمْل: خِبَّة وللأرض بين المخْصبَة والمجْدبة خُبَّة ونقول في الأرض السهلة الخوّارة: خارت تخور خَورًا وخُؤورًا وفي الإنسان إذا ضعُف: خَار خَوَرًا وفي الثور: خارَ خُوَارًا وللمرأة الضخمة: ضِنَاك وللزُّكْمَة: ضُنَاك. ويقولون للإبل التي ذهبتْ ألبانها: شَوْل وهي جمع شائلة وللتي شالَتْ أَذْنَابُها لِلَّقْح: شُوَّل وهي جمع شائل ولبَقيَّةِ الماء في الحوض: شَوْل. ويقولون للعاشق: عَمِيد وللبعير المتأكّل السَّنَام: عمِد إلى غير ذلك من الكلام الذي لا يُحْصَى.

فصل

 

وقال ابن فارس في موضع آخر: بابُ نظم للعرب لا يقولُه غيرهم: يقولون: عادَ فلانٌ شيخًا وهو لم يكن شيخًا قط. وعاد الماء آجنًا وهو لم يكن آجنًا فيعود.

 

قال تعالى: { حتى عادَ كالعُرْجُون القديم } فقال: عاد ولم يكن عُرْجونًا قبلُ. وقال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: { قَد افْتَرَينا على الله كَذِبًا إنْ عُدْنَا في مِلَّتِكُم } ولم يكن في ملّتهم قط.

 

ومثله: { يُرَدُّ إلى أرْذَل العُمر } وهو لم يكن في ذلك قطّ. { يُخْرِجونهم من النُّور إلى الظلمات } وهم لم يكونوا في نورٍ قطُّ. اهـ.

فصل

 

في جملة من سنن العرب التي لا توجد في غير لغتهم: قال ابن فارس: فمن سنن العرب مخالفةُ ظاهر اللفظ معناه كقولهم عند المدح: قاتله الله ما أشعره فهم يقولون هذا ولا يُريدون وقوعَه. وكذا هَوَت أُمُّه وهَبِلَتْه وثكِلَتْه. وهذا يكون عند التعجّب من إصابة الرَّجل في رَمْيه أو في فعل يفعله.

 

قال: ومن سنن العرب: الاستعارة وهي أن يَضَعوا الكلمة للشيء مُسْتعارةً من موضع آخر فيقولون: انشقَّتْ عَصَاهم إذا تفرَّقُوا وكشَفَتْ عن ساقها الحربُ. ويقولون للبليد: هو حِمَار.

 

قال: ومن سنن العرب الحذفُ والاختصار يقولون: والله أفعلُ ذاك تريدُ لا أفعل. وأتانا عند مَغِيب الشمس أو حين أرادت أو حين كادت تَغْرُب. قال ذو الرمة:

 

فلما لَبسْن الليل أو حين نصَّبتْ ** له من خَذَا آذانها وهو جانحُ

 

قال: ومن سنن العرب الزيادةُ إما للأسماء أو الأفعال أو الحروف نحو { ويبقى وجهُ ربّك } أي ربّك { ليس كَمِثِله شيء }. { وشَهِد شَاهِدٌ من بني إسرائيل على مثله }. أي عليه.

 

قال: ومن سنن العرب الزيادةُ في حروف الاسم، إما للمبالغة وإما للتسوئة والتقبيح نحو رَعْشَن للذي يرتعش وزُرْقُم للشديد الزَّرَق وشَدْقَم للواسع الشدق وصِلْدِم للناقة الصُّلبة والأصل صَلْد. ومنه كُبّار وطُوَّال وطِرِمَّاح للمفرط الطول وسِمْعَنَّةٌ نِظْرَنّة للكثيرة التسَمُّع والتَّنَظُّر.

 

ومن سننهم الزيادةُ في حروفِ الفعل مُبالغةً يقولون: حلا الشيء فإذا انتهى قالوا: احْلَوْلَى ويقولون: افْلَوْلَى واثْنَوْنَى.

 

قال: ومن سنن العرب: التكريرُ والإعادة إرادةَ الإبلاغ بحسب العناية بالأمر قال الحارث بن عبّاد:

 

قَرِّبا مَربط النَّعامةِ منِّي ** لَقَحَتْ حربُ وائلٍ عن حِيال

 

فكرر قوله: قرّبا مربط النعامة مني في رؤوس أبياتٍ كثيرة عنايةً بالأمر وإرادةَ الإبلاغ في التنبيه والتحذير.

 

قال: ومن سنن العرب إضافةُ الفعل إلى ما ليس فاعلًا في الحقيقة يقولون: أراد الحائطُ أن يقعَ: إذا مال وفلان يريد أن يموت: إذا كان مُحْتضرًا.

 

قال: ومن سنن العرب ذِكْرُ الواحد والمراد الجمع كقولهم للجماعة: ضَيْف وعَدُوّ قال تعالى: { هؤلاءِ ضَيْفِي } وقال: { ثم يُخْرجكُم طِفْلًا }؛ وذكرُ الجمع والمراد واحد أو اثنان قال تعالى: { إنْ نَعْف عن طائفة } والمراد واحد. { إنَّ الذين يُنادونك من وراء الحُجُرات } والمنادى واحد { بِمَ يَرْجِع المُرْسلون } وهو واحد بدليل ارجع إليهم { فقد صَغَتْ قلوبكما } وهما قلبان؛ وصفة الجمع بصفة الواحد نحو { وإن كنتُم جُنُبًا } { والملائكةُ بعد ذلك ظَهِير }؛ وصفة الواحد أو الاثنين بصفة الجمع نحو بُرْمَةٌ أعشارٌ، وثوبٌ أهْدام، وحَبْلٌ أحْذَاق، قال: * جاء الشتاء وقَمِيصِي أخلاقْ * وأرض سَبَاسِبٌ يسمُّون كلَّ بُقعة منها سَبْسَبًا لاتِّساعها.

 

قال: ومن الجمع الذي يُراد به الاثنان قولهم: امرأة ذات أوْراكٍ ومآكِم.

 

قال: ومن سنن العرب مخاطبةُ الواحد بلَفْظِ الجمع فيقال للرجل العظيم: انظُرُواْ في أمْري وكان بعضُ أصحابنا يقول: إنما يُقال هذا لأن الرجلَ العظيم يقول: نحنُ فَعَلْنا، فعلى هذا الابتداء خُوطبوا في الجواب، ومنه في القرآن: { قال ربِّ ارْجعون }.

 

قال: ومن سنن العرب أن تذكر جماعة وجماعة أو جماعة وواحدًا ثم تخبر عنهما بلفظِ الاثنين كقوله:

 

إنَّ المنيَّة والحتوفَ كلاهما ** يُوفِي المخارمَ يَرْقُبان سَوادي

 

وفي التنزيل: { أنَّ السَّمَوات والأرضَ كانتا رَتْقًَا ففَتَقْنَاهُما }.

 

قال: ومن سنن العرب أن تخاطب الشاهدَ ثم تحوِّل الخطاب إلى الغائب أو تخاطب الغائبَ ثم تحوِّله إلى الشاهد، وهو الالْتِفاتُ، وأن تخاطبَ المخاطب ثم يرجع الخطاب لغيره نحو: { فإن لم يَسْتَجيبوا لكم } الخطاب للنبي ﷺ ثم قال للكفار: { فاعْلَمُوا أنما أُنْزِل بعلم الله }، يدل على ذلك قوله: { فهل أنتم مُسلمون }. وأن يُبتدأ بشيءٍ ثم يُخبَر عن غيره نحو: { والّذين يُتَوَفَّوْنَ منكم ويَذَرون أزْواجًا يَتَرَبَّصْن } فخبَّر عن الأزواج وترك الذين.

 

قال: ومن سنن العرب أن تَنْسُِب الفعل إلى اثنين وهو لأحدهما نحو: { مَرَجَ الْبَحْرَين } إلى قوله { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان }، وإنما يخرجان من الملح لا العذب. وإلى الجماعة وهو لأحدهم نحو: { إذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فادّارَأْتُمْ فيها } والقاتل واحد. وإلى أحد اثنين وهو لهما نحو: { والله ورسولُه أحقُّ أن يُرْضُوه }.

 

قال: ومن سنن العرب أن تأمرَ الواحد بلفظ أمرِ الاثنين نحو: افعلا ذلك، ويكون المخاطبُ واحدًا. [ أنشد الفراء:

 

فقلتُ لصاحبي لا تَحْبِسَنَّا ** بنَزْع أُصوله واجْدَزَّ شِيحا

 

وقال:

 

فإن تزجراني يا بن عَفّان أنْزَجِر ** وإن تَدَعاني أحْمِ عِرْضًا ممنَّعا

 

وقال الله تعالى: { ألقِْيَا في جهنم } وهو خطاب لخزنة النار والزَّبانِية ].

 

قال: ونرى أن أصلَ ذلك أن الرُّفقَة أدنى ما تكون ثلاثة نفَر فجرى كلامُ الواحد على صاحبيْه. ألا ترى أن الشعراء أكثرُ الناس قولًا: يا صاحبيّ ويا خَلِيليّ.

 

قال: ومن سنن العرب أن تأتي بالفعل بلفْظِ الماضي وهو حاضر أو مستقبل أو بلفظ المستقبل وهو ماضٍ نحو قوله تعالى: { أتى أمرُ الله } أي يأتي. { كنتُم خيرَ أُمَّة } أي أنتم. { واتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ } أي ما تَلَت.

 

وأن تأتي بالمفعول بلفظِ الفاعل نحو: سرٌّ كاتم أي مكتوم، وماء دافق أي مَدفوق، وعيشة راضية أي مرْضيّ بها، وحرَمًا آمِنًا أي مأمونًا فيه؛ وبالفاعل بلفظ المفعول نحو عيش مغبون أي غابِن. ذكره ابن السِّكيت.

 

قال: ومن سنن العرب وصفُ الشيء بما يقعُ فيه نحو: يوم عاصِف وليل نائمٌ وليلٌ ساهر.

 

قال: ومن سنن العرب التوهم والإيهام وهو أن يتوهم أحدهم شيئا ثم يجعل ذلك كالحقِّ، منه قولهم: وقفتُ بالرَّبع أسأله. وهو أكملُ عقلًا من أن يسأل رَسْمًا يعلمُ أنه لا يسمعُ ولا يَعْقِلُ لكنه تفجَّع لما رأى السكن رَحلوا وتوهَّم أنه يسأل الرَّبع أين انْتَأوا وذلك كثيرٌ في أشعارهم.

 

قال: ومن سنن العرب الفرقُ بين ضدّين بحرف أو حركة كقولهم: يَدْوَى من الداء ويُدَاوي من الدواء ويُخْفِر إذا نَقض من أخفر ويخفِر إذا أجار مِنْ خَفَر ولُعَنَة إذا أكثر اللَّعن ولُعْنَة إذا كان يَُلْعَن وهُزَأَة وهُزْأة وسُخَرة وسُخْرة.

 

قال: ومن سنن العرب البسطُ بالزيادة في عدد حروف الاسمِ والفعل ولعل أكثر ذلك لإقامة وزْن الشعر وتَسْوية قوافيه كقوله:

 

وليلةٍ خامِدةٍ خُمُودا ** طخْياءِ تُعْشِي الجَدْي والفُرْقودا

 

[ إذا عُمَيرٌ همَّ أن يرقودا ]

 

فزاد في الفرقد الواو وضم الفاء، لأنه ليس في كلامم فعاول. وكذلك زاد الواو في قوله: * لو أنَّ عمرا همّ أن يَرْقُودا ] أي يَرْقد.

 

قال: ومن سنن العرب القَبْضُ محاذاةً للبسْطِ وهو النُّقْصانُ من عدد الحروف كقوله: * غَرْثَى الوِشاحَيْن صَموتُ الخَلْخَل * أي الخَلْخال.

 

ويقولون: دَرَس المَنا يريدون المنازل ونار الحُباحب.

 

ومنه بابُ الترْخيم في النداء وغيره ومنه قولهم: لاه ابن عمك، أي لله ابن عمك.

 

قال: ومن سنن العرب الإضمار إما للأسماء نحو ألا يا اسلَمي أي يا هذه، أو للأفعال نحو: أثعلبًا وتفرّ: أي أترى ثعلبًا. ومنه إضمار القول كثيرا أو للحروف نحو: * ألا أيّهذا الزَّاجري أشهدَ الوَغى * أي أن أشْهد.

 

قال: ومن سنن العرب التعويضُ وهو إقامةُ الكلمة مقامَ الكلمة كإقامة المصدر مقامَ الأمر، نحو { فَضَرْبَ الرِّقاب } والفاعل مقامَ المصدر نحو { ليس لوَقْعتها كاذبة } أي تكذيب. والمفعول مقامَ المصدر نحو { بِأيِّكُمُ المَفْتُون } أي الفتنة. والمفعول مقام الفاعل نحو: { حجابًا مَسْتورًا } أي ساترا.

 

قال: ومن سنن العرب تقديمُ الكلام وهو في المعنى مؤخّر وتأخيرهُ وهو في المعنى مقدّم كقوله: * ما بالُ عينيك منها الماءُ يَنْسَكِب * أراد ما بالُ عينك ينسكبُ منها الماء وقوله تعالى: { ولولا كلمةٌ سَبقَتْ من رَبّك لكان لِزامًا وأجَلٌ مسمّى } [ فأجل معطوفة على كلمة والتأويل: ولولا كلمةٌ سبقت من ربِّك وأجل مسمّى لكان العذابُ لازِمًا لهم ].

 

قال: ومن سنن العربِ أن يَعْترضِ بين الكلام وتمامِه كلام نحو: اعملْ - والله ناصِري - ما شئت.

 

قال: ومن سنن العرب أن تُشيرَ إلى المعنى إشارةً وتومئُ إيماءً دون التصريح، نحو طويلُ النِّجاد يريدون طولَ الرَّجل وغَمْر الرِّداء: يُومِئون إلى الجُود، وطَرِب العِنان: يُومِئون إلى الخفَّةِ والرَّشاقة.

 

قال: ومن سنن العرب الكفُّ وهو أن تكفَّ عن ذكر الخبر اكتفاءً بما يدلُّ عليه الكلامُ، كقوله:

 

إذا قلتُ سيروا نحو ليلى لعلَّها ** جرى دونَ ليلى مائلُ القَرْن أعْضَبُ

 

ترك خَبَر لعلها.

 

قال: ومن سنن العرب أن تعير الشيء ما ليس له، فتقول: مر بين سمع الأرض وبصرها.

 

قال: ومن سنن العرب أن تُجْري المواتَ وما لا يَعْقل في بعض الكلام مَجْرى بني آدم كقوله في جمعِ أرض أرضون وقال تعالى: { كلٌّ في فَلَكٍ يسبَحون }.

 

قال: ومن سنن العرب المُحاذاة وذلك أن تجعل كلامًا ما بِحذاء كلام فيُؤْتى به على وزنه لفظًا وإن كانا مختَلِفَين فيقولون: الغَدَايا والعَشايا. فقالوا: الغَدَيا لانضمامها إلى العَشايا. ومثلُه قولهم: أعوذُ بك من السامَّةِ واللامّة. فالسامَّة من قولك: سمَّت النعمة إذا خصَّتْ واللّامّة أصلها من ألمَّت لكن لما قُرِنت بالسامَّة جُعِلتْ في وزنها.

 

قال: وذكر بعضُ أهل العلم أن من هذا الباب كتابة المصحف كتبوا: " والليل إذا سَجَى " بالياء وهو من ذوات الواو لمَّا قُرِن بغيره ممَّا يُكْتَب بالياء.

 

قال: ومن هذا الباب قوله تعالى: { ولو شاء اللهُ لسلَّطَهم عليكم } فاللام التي في { لَسَلَّطَهُمْ } جوابُ لو. ثم قال: { فَلقَاتَلُوكُم } فهذه حُوذِيتْ بتلك اللام وإلا فالمعنى لسلَّطهم عليكم فقاتلوكم.

 

ومثلُه: { لأُعَذِّبَنَّه عذابًا شديدًا أو لأذْبَحَنَّه } فهما لاما قَسَمٍ ثم قال: { أو لَيَأْتيني } فليس ذا موضعَ قسم لأنه عُذْر للهُدْهد فلم يكن ليُقْسِمَ على الهدهد أن يأتيَ بُعذْر لكنّه لما جاء به على أثر ما يجوز فيه القسم أجْراه مَجْراه فكذا باب المحاذاة.

 

قال: ومن الباب وزَنْتُه فاتَّزَن وكِلْته فاكْتال أي استوفاه كَيْلًا ووَزْنًا ومنه قوله تعالى: { فما لكم عليهنّ من عِدَّةٍ تعتدُّونها } أي تستوفونها لأنها حقّ للأزواج على النساء.

 

قال: ومن هذا الباب الجزاءُ عن الفِعْل بمثل لفظه نحو: { إنما نَحْن مُستهزئون اللهُ يستهزئ بهم } أي يجازيهم جزاء الاستهزاء { مَكرُوا ومَكَرَ الله }. { فَيَسْخَرُون منهم سَخِر اللهُ منهم }. { ونَسُوا الله فنَسيهم }. { وجزاءُ سيِّئةٍ سيئةٌ مثلُها }.

 

ومثلُ هذا في شعر العرب قول القائل:

 

ألا لا يَجْهلن أحدٌ علينا ** فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا

 

انتهى ما ذكره ابن فارس.

 

ومن نظائر الغَدَايا والعشايا ما في الجمهرة تقول العربُ للرجل إذا قدم من سفَر: أوْبَةً وطَوْبة أي أُبْتَ إلى عيش طيِّب ومآبٍ طيّب والأصل طيبَة فقالوه بالواو لمحاذاة أوبة. وقال ابن خالويه إنما قالوا: طَوْبة لأنهم أزْوَجوا به أوْبة.

 

وفي ديوان الأدب: يقال: بِفيهِ البَرَى وحُمّى خَيْبَرَى وشرُّ ما يُرَى فإنّه خَيْسَرى يعني الخسران وهو على الازدواج.

 

وفيه: يقال أخذني من ذلك ما قَدُم وما حَدُث لا يُضَمّ حدَث في شيء من الكلام إلا في هذا الموضع وذلك لمكان قدم على الازدواج.

 

وفي أمالي القالي: قال أبو عبيدة: يقال خيرُ المال سِكَّةٌ مأبُورة أو مُهْرة مأْمُورة أي كثيرةُ الولد وكان ينبغي أن يقال: مُؤْمَرة ولكنه اتبع مَأْبورة. والسكة: السطر من النَّخْل.

 

وفي الصحاح: قال الفراء يقال: هَنأني الطعام ومَرأني إذا أتبعوها هَنأني قالوها بغير ألف فإذا أفردوها قالوا: أمرأني.

 

وفيه: يقال له عندي ما ساءه وناءه قال بعضهم: أراد ساءه وأناءه وإنما قال ناءه - وهو لا يتعدّى - لأجل ساءه ليزْدَوِج الكلام كما يقال: إني لآتيه بالغَدَايا والعشايا والغَداةُ لا تجمع على غدايا.

 

وفيه: جمعوا الباب على أبوبة للازدواج قال: * هَتَّاكِ أخْبِيَةٍ ولّاج أبْوبِة * ولو أفرده لم يجز.

 

وفيه يقال: تَعْسًا له ونَكْسًا. وإنما هو نُكس بالضم وإنما فُتح هنا للازدواج.

 

وقال الفراء: إذا قالوا: النجس مع الرجس أتْبَعوه إياه فقالوا: رِجْس نِجْس، بالكسر، وإذا أفردوه قالوا: نَجس بالفتح: قال تعالى: { إنما المشْركون نَجَس }.

 

وفي الصحاح يقال: لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ تزْويجًا للكلام والأصلُ ولا ائتليت وهو افتعلت من قولك: ما ألوت هذا: أي ما استطعته، أي ولا استطعت.

 

قال ابن فارس: ومن سنن العرب الاقتصارُ على ذكر بعض الشيء وهم يُريدونه كلَّه فيقولون: قَعد على صَدْر رَاحلِته ومضى. ويقول قائلهم: * الواطِئِين على صُدُور نعالهم *

 

ومن هذا الباب: { ويَبْقَى وجْهُ رَبِّك }. { ويُحَذِّرُكم اللهُ نفسَه } أي إياه. وتواضعت سورُ المدينة.

 

قال: وقد جاء القرآن بجميع هذه السنن لتكون حجة الله عليهم آكد ولئلا يقولوا: إنما عجزنا عن الإتيان بمثله لأنه بغير لُغَتِنا وبغير السنن التي نستنّها فأنزله جلَّ ثناؤه بالحروفِ التي يعرفونها وبالسنن التي يسلكونها في أشعارهم ومخاطباتهم ليكون عجزُهم عن الإتيان بمثله أظْهر وأشعر. انتهى.

 

وقال الفارابي في ديوان الأدب: هذا اللسانُ كلامُ أهل الجنة وهو المُنَزَّه من بين الألسنةِ من كلِّ نقيصة والمعلى من كلّ خسيسة والمهذَّب مما يُسْتَهجن أو يُسْتَشْنع فبنى مباني باينَ بها جميع اللغات من إعراب أوْجده الله له وتأليف بين حركة وسكون حلّاه به فلم يجمع بين ساكنين أو متحرِّكين متضادّين ولم يلاقِ بين حرفين لا يأْتلفان ولا يعذب النطق بهما أو يشنع ذلك منهما في جَرْس النغمة وحسّ السمع كالغَيْن مع الحاء والقاف مع الكاف والحرف المُطْبَق مع غير المطبق مثل تاء الافتعال مع الصاد والضاد في أخوات لهما والواو الساكنة مع الكسرة قبلها والياء الساكنة مع الضمّة قبلها في خلالٍ كثيرة من هذا الشكل لا تُحْصى.

 

وقال في موضع آخر: العربُ تَميل عن الذي يُلْزِم كلامها الجفاء إلى ما يُلين حواشيه ويُرِقّها وقد نزّه الله لسانَها عما يجفيه فلم يجعل في مباني كلامها جيمًا تُجاورها قاف متقدّمة ولا متأخرة أو تجامعها في كلمة صاد أو كاف إلا ما كان أعجميًا أُعرب وذلك لجُسْأة هذا اللفظ ومباينته ما أسَّس اللهُ عليه كلام العرب من الرَّونق والعُذوبة وهذه علة أبواب الإدغام وإدخالُ بعضِ الحروف في بعض وكذلك الأمثلة والموازين اختِير منها ما فيه طِيبُ اللفظ وأُهْمِل منها ما يجفُو اللسانُ عن النطقِ به أوّلا مكرَهًا كالحرْفِ الذي يُبْتدأ به لا يكون إلا متحرّكًا والشيء الذي تتوالى فيه أربعُ حركات أو نحو ذلك يسكّن بعضها.

فائدة جليلة

 

قال الزمخشري في ربيع الأبرار قالوا: لم تكن الكُنَى لشيءٍ من الأمم إلا للعرب وهي من مفاخرها والكُنية إعظام وما كان يُؤْهَل لها إلا ذو الشرف من قومهم قال:

 

أكْنيه حين أُناديه لأكْرِمَه ** ولا ألقّبه والسوءة اللَّقب

 

والذي دعاهم إلى التكنية الإجلال عن التصريح بالاسم بالكناية عنه. ونظيرهُ العدولُ عن فعلٍ إلى فعل في نحو قوله: { وغِيضَ الماءُ وقُضِي الأمر }.

 

ومعنى كَنَيْتُه بكذا: سمَّيتُه به على قَصْد الإخفاء والتورية. ثم ترقَّوْا عن الكُنَى إلى الألقاب الحسنة فقلَّ من المشاهير في الجاهلية والإسلام مَنْ ليس له لقب إلا أن ذلك ليس خاصًا بالعرب فلم تزل الألقابُ في الأمم كلِّها من العرب والعجم.

خاتمة

 

قال المطرّزي في شرح المقامات: كان يقال: اختصَّ اللهُ العرب بأربع: العمائمُ تيجانها والحِبا حِيطانها والسيوف سِيجانها والشعر ديوانها.

 

قال: وإنما قيل: الشعرُ ديوان العرب لأنهم كانوا يرجعون إليه عند اختلافهم في الأنساب والحروب، ولأنه مستودعُ علومهم وحافظُ آدابهم ومعدنُ أخبارهم. ولهذا قيل:

 

الشعرُ يحفظ ما أودى الزمانُ به ** والشعرُ أفخر ما يُنْبي عن الكرم

 

لولا مقال زهير في قصائده ** ما كنت تعرف جودًا كان في هَرِم

 

وأخرج ابن النجار في تاريخه من طريق إبراهيم بن المنذر قال: حدثني أبو سعيد المكي عمَّن حدّثه عن ابن عباس: أنه دخل على معاوية وعنده عمرو بن العاص فقال عمرو: إنَّ قريشًا تزعمُ أنك أعلمُها فلم سمِّيَت قريشٌ قريشًا قال: بأمرٍ بيِّنٍ قال: فسِّرْه لنا. ففسَّرَه قال: هل قال أحدٌ فيه شعرًا قال: نعم قال: سمِّيت قريش بدابّة في البحر. وقد قال المشمرج بن عمرو الحميري:

 

وقريش هي التي تسكن البحـر بها سميت قريش قريشا

 

تأكل الغثَّ والسمين ولا تـتركُ فيه لذي الجناحين ريشا

 

هكذا في البلاد حيّ قريش ** يأكلون البلادَ أكلًا كميشا

 

ولهم آخرُ الزمان نبيّ ** يكثر القَتْل فيهم والخموشا

 

تملأُ الأرض خيلُه ورجالٌ ** يحشرون المطيّ حشرًا كشيشا

 

وأخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن أبي ريحانة العامري قال: قال معاوية لابنِ عباس: لِمَ سُمِّيتْ قريشٌ قريشًا قال: بِدابةٍ تكون في البحر من أعْظم دوابِّه يقال لها القِرْش لا تمرُّ بشيء من الغثِّ والسمين إلا أكلَتْه قال: فأنشدني في ذلك شيئا، فأنشده شعرَ الحميري فذكر الأبيات.

 

 

 

 

========

النوع الثالث والعشرون

معرفة الاشتقاق

 

 

 

 

قال ابن فارس في فقه اللغة: باب القول على لغة العرب هل لها قياس وهل يشتق بعضُ الكلام من بعض:

 

أجمع أهل اللغة - إلا من شذَّ منهم - أن للغةِ العرب قياسًا وأنّ العرب تشتقُّ بعض الكلام من بعض، واسم الجنِّ مشتقٌّ من الاجْتِنان وأن الجيم والنون تَدُلّان أبدًا على الستر؛ تقول العرب للدِّرْع جُنَّة، وأجَنَّه الليلُ، وهذا جَنين أي هو في بَطْن أمِّه. وأن الإنس من الظهور يقولون: آَنسْتُ الشيء: أبْصَرْتُه. وعلى هذا سائرُ كلام العرب عَلِم ذلك مَن عَلِم وجَهِله من جهل.

 

قال: وهذا مبنيٌّ أيضا على ما تقدَّم من أن اللغة توقيف، فإنّ الذي وَقَّفَنا على أن الاجتِنان: الستر هو الذي وقّفنا على أن الجنَّ مشتقٌّ منه. وليس لنا اليوم أن نخترع ولا أن نقول غيرَ ما قالوه ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه لأن في ذلك فساد اللغة وبُطلانَ حقائقها.

 

قال: ونكتةُ الباب أن اللغة لا تُؤْخذ قياسًا نقيسه الآن نحن. انتهى كلام ابن فارس.

 

وقال ابن دحية في التنوير: الاشتقاقُ من أغْرَب كلام العرب وهو ثابت عن الله تعالى بنَقْل العُدول عن رسول الله $ لأنه أُوتي جَوامعَ الكَلِم وهي جمعُ المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة. فمن ذلك قوله فيما صح عنه: يقولُ الله: أنا الرحمن خلقتُ الرُّحم وشققت لها من اسمي. وغير ذلك من الأحاديث.

 

وقال في شرح التسهيل: الاشتقاقُ أخْذُ صيغةٍ من أخرى مع اتفاقهما معنًى ومادةً أصلية وهيئةً تركيب لها لَيدلّ بالثانية على معنى الأصل بزيادة مفيدة لأجلها اختلفا حروفًا أو هيئة كضارب من ضرب وحَذِرٌ من حَذِر.

 

وطريقُ معرفته تقليبُ تصاريفِ الكلمة حتى يرجع منها إلى صيغة هي أصل الصِّيغ دلالة اطراد أو حروفًا غالبًا كضرب فإنه دال على مُطلق الضرب فقط أما ضارب ومضروب ويَضْرب واضْرِب فكلُّها أكثرُ دلالة وأكثرُ حروفًا وضرَب الماضي مساوٍ حروفًا وأكثرُ دلالة وكلها مشتركة في (ض ر ب) وفي هيئة تركيبها وهذا هو الاشتقاق الأصْغر المحتجُّ به.

 

وأما الأكبرُ فيحفظ فيه المادّةُ دون الهيئة فيجعل (ق و ل) و (و ل ق) و (و ق ل) و (ل ق و) وتقاليبها الستة بمعنى الخفة والسرعة. وهذا مما ابتدعه الإمامُ أبو الفتح ابن جني، وكان شيخه أبو علي الفارسي يأنس به يسيرًا، وليس معتَمدًا في اللغة ولا يصحّ أن يُستنبط به اشتقاق في لغة العرب وإنما جعله أبو الفتح بيانًا لقوة ساعده وردّه المختلفات إلى قَدْرٍ مشترك مع اعترافه وعِلْمِه بأنه ليس هو موضوع تلك الصيغ وأن تراكيبها تفيد أجناسًا من المعاني مغايرةً للقدر المشترك. وسببُ إهمال العرب وعدمِ التفات المتقدمين إلى معانيه أن الحروف قليلةٌ وأنواع المعاني المتفاهمة لا تكادُ تتناهى فخصوا كل تركيب بنوعٍ منها ليفيدوا بالتراكيب والهيئات أنواعًا كثيرة/ ولو اقتصروا على تغاير المواد حتى لا يدلوا على معنى الإكرام والتعظيم إلا بما ليس فيه من حروف الإيلام والضرب لمنافاتهما لهما لضاق الأمر جدًا ولاحْتاجوا إلى ألوف حروفٍ لا يجدونها بل فرّقوا بين مُعتِق ومُعتَق بحركةٍ واحدة حصل بها تمييز بين ضدين.

 

هذا وما فعلوهُ أخْصر وأنسب وأخفّ ولسنا نقولُ: إن اللغةَ أيضا اصطلاحيةٌ؛ بل المرادُ بيان أنها وقعت بالحكمة كيف فرضت ففي اعتبار المادة دون هيئة التركيب من فساد اللغة ما بيّنت لك ولا يُنْكَر مع ذلك أن يكونَ بين التراكيب المتّحدة المادّة معنى مشترَكٌ بينها هو جنسٌ لأنواع موضوعاتها ولكن التحيُّل على ذلك في جميع موادّ التركيبات كطلبٍ لعنقْاء مُغرب ولم تُحْمل الأوضاعُ البشريّة إلا على فهوم قريبةٍ غير غامضة على البديهة فلذلك إن الاشتقاقات البعيدة جدًا لا يقبلُها المحققون.

 

واختلفوا في الاشتقاق الأصغر؛ فقال سيبويه والخليل وأبو عمرو وأبو الخطاب وعيسى بن عمر والأصمعي وأبو زيد وابن الأعرابي والشيباني وطائفة: بعضُ الكَلِم مشتقٌّ وبعضُه غيرُ مشتقّ.

 

وقالت طائفة من المتأخرين اللغويين: كل الكلم مشتق، ونُسِب ذلك إلى سيبويه والزجاج. وقالت طائفة من النظار: الكلم كلُّه أصلٌ والقول الأوسط تخليط لا يعدُّ قولًا لأنه لو كان كل منها فرعًا للآخر لدار أو تسلسل وكلاهما محال بل يلزم الدَّور عينًا لأنه يثبت لكلّ منها أنه فرْع وبعضُ ما هو فرعٌ لا بدَّ أنه أصل ضرورة أن المشتقَّ كلَّه راجع إليه أيضا. لا يقال: هو أصلٌ وفرع بوجهين لأن الشرط اتحادُ المعنى والمادة وهيئة التركيب مع أن كلًّا منها مفرَّع عن الآخر بذلك المعنى.

 

ثم التغييرات بين الأصل المشتقّ منه والفرع المشتق خمسة عشر:

 

الأول - زيادة حركة، كعلم وعلم.

 

الثاني - زيادة مادة كطالب وطلب.

 

الثالث - زيادتهما كضارب وضرب.

 

الرابع - نقصان حركة كالفرس من الفرس.

 

الخامس - نقصان مادة كثبت وثبات.

 

السادس - نقصانهما كنَزَا ونزوان.

 

السابع - نقصان حركة وزيادة مادة كغضبى وغضب.

 

الثامن - نقص مادة وزيادة حركة كحرم وحرمان.

 

التاسع - زيادتهما مع نقصانهما كاسْتَنْوقَ من الناقة.

 

العاشر - تغاير الحركتين كبَطِر بَطَرًا.

 

الحادي عشر - نقصان حركة وزيادة أخرى وحرف كاضْرِب من الضرب.

 

الثاني عشر - نقصان مادة وزيادة أخرى كراضع من الرضاعة.

 

الثالث عشر - نَقْص مادة بزيادة أخرى وحركة كخاف من الخوف لأن الفاء ساكنة في خوف لعدم التركيب.

 

الرابع عشر - نقصان حركة وحرف وزيادة حركة فقط كعِدْ من الوَعْد فيه نقصان الواو وحركتها وزيادة كسرة.

 

الخامس عشر - نقصان حركة وحرف وزيادة حرف كفاخَر من الفخار نقصت ألف وزادت ألف وفتحة.

 

وإذا تردّدت الكلمةُ بين أَصْلين في الاشتقاق طلب الترجيح وله وجوه:

 

أحدها - الأمكنية كمَهْدَد علمًا من الهد أو المهد فيرد إلى المهد لأن باب كرم أمْكنُ وأوسع وأفصحُ وأخفّ من باب كرّ فيرجح بالأمكنية.

 

الثاني - كون أحد الأصلين أشرف لأنه أحقّ بالوضْع له والنفوس أذكر له وأقبل كدَوَران كلمة الله - فيمن اشتقّها - بين الاشتِقاق من أَلِه أو لوه أو وَلِه فيقال: من أله أشرف وأقرب.

 

الثالث - كونه أظهر وأوضح كالإقبال والقبل.

 

الرابع - كونه أخصّ فيرجّح على الأعم كالفضل والفضيلة وقيل عكسه.

 

الخامس - كونه أسهل وأحسن تصرفًا كاشتقاق المعارضة من العرض بمعنى الظهور أو من العُرْض وهو الناحية فمن الظهور أولى.

 

السادس - كونه أَقْرب والآخر أبعد كالعُقار يردّ إلى عَقْر الفهم لا إلى أنها تسكر فتعقر صاحبها.

 

السابع - كونه أليق كالهِدَاية بمعنى الدلالة لا بمعنى التقدّم من الهَوَادي بمعنى المتقدّمات.

 

التاسع - كونه جوهرًا والآخر عرَضًا لا يصلح للمصدرية ولا شأنه أن يشتقَّ منه فإن الردَّ إلى الجوهر حينئذ أولى لأنه الأسبق فإن كان مصدرًا تعيّن الردُّ إليه لأن اشتقاق العرب من الجواهر قليلٌ جدًا والأكثر من المصادر ومن الاشتقاق من الجواهر قولهم: استَحْجَر الطين واستَنْوق الجمل.

فوائد

 

الأولى - قال في شرح التسهيل: الأعلام غالبُها منقولٌ بخلاف أسماء الأجناس فلذلك قلّ أن يُشتقّ اسمُ جنس لأنه أصل مُرْتَجَل. قال بعضهم: فإن صحّ فيه اشتقاقٌ حمل عليه قيل: ومنه غُرَاب من الاغتراب وجراد من الجَرْد.

 

وقال في الارتشاف: الأصل في الاشتقاق أن يكونَ من المصادر وأصدقُ ما يكون في الأفعال المزيدة والصفات منها وأسماء المصادر والزّمان والمكان ويغلبُ في العَلَم ويقلّ في أسماء الأجناس كغُراب يمكن أن يُشتق من الاغتراب وجراد من الجَرْد.

 

الثانية - قال في شرح التسهيل أيضا: التصريفُ أعمُّ من الاشتقاق لأن بناء مثل قردد من الضرب يسمى تصريفًا ولا يسمى اشتقاقًا لأنه خاص بما بنَتْه العرَب.

 

الثالثة - أَفْرَد الاشتقاق بالتأليف جماعةٌ من المتقدّمين منهم الأصمعي وقُطْرب وأبو الحسن الأخفش وأبو نصر الباهلي والمفضّل بن سلمة والمبرد وابن دريد والزجاج وابن السراج والرماني والنحاس وابن خالويه.

 

الرابعة - قال الجواليقي في المعرب: قال ابن السراج في رسالته في الاشتقاق: مما ينبغي أن يُحْذَر كلّ الحذَر أن يشتق من لغة العرب لشيء من لغة العَجَمِ قال: فيكونُ بمنزلةِ مَن ادَّعى أن الطيرَ وَلَد الحوت.

 

الخامسة - في مثال من الاشتقاق الأكبر: مما ذكره الزجاج في كتابه قال: قولهُم: شجَرتُ فلانًا بالرّمح تأويله جعلته فيه كالغُصْن في الشجرة وقولهم: للحلقوم وما يتصل به شَجْر لأنه مع ما يتصل به كأغصان الشجرة وتشاجر القوم إنما تأويلُه اختلفوا كاختلاف أغصان الشجرة وكل ما تفرّع من هذا الباب فأصله الشجرة.

 

ويروى عن شيبة بن عثمان قال: أتيتُ النبي ﷺ يوم حُنين فإذا العباس آخذ بلجام بَغْلَته قد شجَرَها.

 

قال أبو نصر صاحب الأصمعي: معنى قوله: قد شجرها أي رفع رأسها إلى فوق. يقال: شجرَتُ أغصان الشجرة إذا تدلّت فرفعتُها. والشِّجار مَرْكب يُتَّخذ للشيخ الكبير ومَنْ مَنَعَته العِلّة من الحركة ولم يؤمَن عليه السقوط تشبيهًا بالشجرة الملتفّة والنخل يسمى الشجر. قال الشاعر:

 

وأخبث طَلْع طلعكنّ لأهله ** وأنكر ما خيرت من شَجَرات

 

والمرعى يقال له الشجر لاختلاف نَبته وشجر الأمر إذا اختلط وشجَرني عن الأمر كذا وكذا معناه صَرَفني وتأويله أنه اختلَف رأيي كاختلاف الشجر والباب واحد وكذلك شجر بينهم فلان أي اختلف بينهم وقد شجر بينهم أمرٌ أي وقع بينهم. انتهى.

 

وفي قوله: والنخلُ يسمى الشجر فائدة لطيفة فإني رأيت في كتاب عمل من طب لمن حب للشيخ بدر الدين الزركشي بخطّه: إن النخلة لا تسمى شجرة وأن قوله ﷺ فيها: إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها. الحديث على سبيل الاستعارة لإرادة الإلغاز، وما ذكره الزجاجي يرده ويمشي الحديث على الحقيقة.

فائدة

 

قال ابن فارس في المجمل: اشتَبه عليّ اشتقاقُ قولهم: "لا أبالي به" غاية الاشتباه غيرَ أني قرأت في شعر ليلى الأخيلية:

 

تبالي رواياهم هبالة بعد ما ** ورَدْن وحول الماء بالجمّ يرتمي

 

وقالوا في تفسير التبالي: المبادرة بالاستقاء يقال تبالى القوم: إذا تبادروا الماء فاستقوه وذلك عند قلة الماء. وقال بعضهم تبالى القوم. وذلك إذا قلّ الماء ونزح استقى هذا شيئا وينتظر الآخر حتى يَجُمّ الماء فيستقي فإن كانَ هذا هكذا فلعلّ قولهم لا أبالي به: أي لا أبادر إلى اقتنائه والانتظار به بل أنبذه ولا أعتدّ به.

فائدة

 

قال ابن دريد: قال أبو عثمان: سمعتُ الأخفش يقول: اشتقاقُ الدُّكان من الدَّكْدَك وهي أرضٌ فيها غلظ وانبساط ومنه اشتقاق ناقة دَكَّاء إذا كانت مفترشة السَّنام في ظهرها أو مجْبُوبَته.

لطيفة

 

قال أبو عبد الله محمد بن المعلى الأزدي في كتاب الترقيص: حدثني هارون بن زكريا عن البلعيّ عن أبي حاتم قال: سألت الأصمعي لِمَ سُمِّيت مِنًى منى قال: لا أدْري. فلقيت أبا عبيدة فسألته فقال: لم أكن مع آدم حين علَّمه الله الأسماء فأسأله عن اشتقاق الأسماء فأتيت أبا زيد فسألته. فقال: سمِّيت منى لما يُمْنى فيها من الدماء.

 

وقال ابن خالويه في شرح الدريدية: سمعتُ ابنَ دريد يقول: سألت أبا حاتم عن ثَادِق اسم فرس من أي شيء اشتقّ فقال: لا أدري فسألت الرياشي عنه فقال: يا معشر الصِّبيان إنكم لتتعمقَّون في العلم فسألت أبا عثمان الأشنانداني عنه فقال: يُقال: ثَدَق المطر إذا سال وانصبَّ فهو ثادِق فاشتقاقُه من هذا.

فائدة

 

قال أبو بكر الزبيدي في طبقات النحويين: سُئِل أبو عمرو بن العلاء عن اشتقاق الخيل فلم يعرف فمرَّ أعرابي مُحرِم فأراد السائلُ سؤالَ الأعرابي فقال له أبو عمرو: دعْني فإني ألطفُ بسُؤَاله وأعرف فسأله. فقال الأعرابي: استفاد الاسمَ من فِعْل السير فلم يعرف مَنْ حَضَر ما أراد الأعرابيُّ، فسألوا أبا عمرو عن ذلك فقال: ذهبَ إلى الخُيَلاء التي في الخيل والعُجْب، ألا تراها تمشي العَرضْنَة خيلاء وتكبّرًا.

فائدة

 

قال حمزة بن الحسن الأصبهاني في كتاب الموازنة: كان الزجاج يزعُم أن كل لفظتين اتفقتا ببعض الحروف وإن نَقَصت حروفُ إحداهما عن حروف الأخرى فإنّ إحداهما مشتقةٌ من الأخرى فتقول: الرحل مشتق من الرحيل والثور إنما سُمّي ثورًا لأنه يُثير الأرض والثوب إنما سُمِّي ثوبًا لأنه ثاب لباسًا بعد أن كان غزلًا حسيبه الله، كذا قال.

 

قال: وزعم أن القَرْنان إنما سُمّي قَرْنانًا لأنه مُطيق لفجور امرأته كالثور القَرْنان أي المُطيق لحَمْل قرونه. وفي القرآن: { وما كُنَّا له مُقْرِنين } أي مُطيقين.

 

قال: وحكى يحيى بن علي بن يحيى المنجم أنه سأله بحَضْرة عبد الله بن أحمد بن حمدون النديم: من أيّ شيء اشتُقّ الجِرْجير فقال: لأن الريح تجرجره. قال: وما معنى تُجرجره قال: تجرره. قال: ومِنْ هذا قيل للحبل الجرير لأنه يجرّ على الأرض. قال: والجرّة لِمَ سميت جرّة قال: لأنها تجرّ على الأرض. فقال: لو جُرّت على الأرض لانكسرت قال: فالمجرَّة لم سميت مجرة قال: لأن الله جرَّها في السماء جرًّا. قال فالجُرْجور الذي هو اسم المائة من الإبل. لِمَ سُميت به فقال: لأنها تجر بالأزمّة. وتُقاد قال: فالفصيل المجَرّ الذي شُق طرفُ لسانه لئلا يرضع أمّه ما قولك فيه قال: لأنهم جرّوا لسانه حتى قطعوه. قال: فإن جروا أذنه فقطعوها تُسمّيه مُجَرًّا قال: لا يجوز ذلك فقال يحيى بن علي: قد نَقَضْتُ العلّة التي أتيتَ بها على نفسك. ومن لم يدر أن هذا مناقضة فلا حسّ له. انتهى.

 

===========

النوع الرابع والعشرون

معرفة الحقيقة والمجاز

 

 

 

 

قال ابن فارس في فقه اللغة: الحقيقة من قَوْلنا: حقَّ الشيء إذا وَجَب واشتقاقُه من الشيء المحقق وهو المحكم يقال: ثَوبٌ محقّقُ النَّسج: أي مُحْكَمُه فالحقيقةُ: الكلامُ الموضوعُ موضعه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل ولا تقديم فيه ولا تأخير كقول القائل: أحمد الله على نِعَمه وإحسانه وهذا أكثر الكلام وأكثَرُ آي القرآن وشعرُ العرب على هذا.

 

وأما المجاز فمأخوذٌ من جازَ يجوز إذا استَنَّ ماضيًا تقول: جاز بنا فلان وجاز علينا فارسٌ هذا هو الأصل ثم تقول: يجوز أن تفعل كذا: أي يَنْفُذ ولا يُردّ ولا يُمْنع.

 

وتقول: عندنا دراهم وَضَح وازنة وأخرى تجوزُ جَواز الوازِنة: أي إن هذه وإن لم تكن وازِنة فهي تجوز مجازَها وجوازها لقُرْبها منها.

 

فهذا تأويلُ قولنا مجاز يعني أن الكلام الحقيقي يمضي لسَنَنه لا يُعترَض عليه وقد يكون غيره يجوزُ جوازَه لقُربه منه إلا أن فيه من تشبيهٍ واستعارةٍ وكفٍّ ما ليس في الأول وذلك كقولنا: عطاء فلان مزْنٌ واكِف فهذا تشبيه وقد جاز مجاز قوله: عطاؤُه كثيرٌ وافٍ.

 

ومن هذا قوله تعالى: { سَنَسِمُه عَلَى الخُرْطُومِ } فهذا استعارة. [1]

 

وقال ابن جني في الخصائص: الحقيقية ما أُقِرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة والمجازُ: ما كان بضدّ ذلك وإنما يقع المجازُ ويُعْدَل إليه عن الحقيقة لمعانٍ ثلاثة: وهي الاتساع والتوكيد والتشبيه فإن عُدِمت الثلاثة تعيَّنت الحقيقة فمن ذلك قوله $ في الفرس: هو بحر فالمعاني الثلاثة موجودة فيه: أما الاتساع فلأنه زاد في أسماء الفرس - التي هي: فرَس وطِرْف وجَواد ونحوها - البحر حتى إنه إن احتِيج إليه في شعر أو سجع أو اتِّساع استعمل استعمال بقية تلك الأسماء لكن لا يفضي إلى ذلك إلا بقرينة تُسْقِط الشبهة وذلك كأن يقول الشاعر: عَلوت مطا جوادك يوم يوم وقد ثمد الجياد فكان بحرا وكأن يقول الساجع: فرسك هذا إذا سما بغُرَّته كان فجرًا وإذا جرى إلى غايته كان بحرًا فإن عَرِي من دليل فلا لئلا يكون إلباسًا وإلغازًا. وأما التوكيد فلأنه شبّه العَرَض بالجوْهر وهو أثبت في النفوس منه. وكذلك قوله تعالى: وأدْخَلْناهُ في رحمتِنا هو مجاز وفيه المعاني الثلاثة: أما السعة فلأنه كأنه زاد في اسم الجهات والمحالّ اسمًا هو الرحمة. وأما التشبيه فلأنه شبَّه الرحمة - وإن لم يصح دخولها - بما يجوزُ دخولهُ فلذلك وضعَها موضعه. وأما التوكيد فلأنه أخْبر عن المعنى بما يُخْبرَ به عن الذات.

 

وجميعُ أنواع الاستعارات داخلةٌ تحت المجاز كقوله:

 

غَمْر الرِّداءِ إذا تَبَسَّم ضاحكًا ** غَلِقَت لضَحْكَتِه رِقَابُ المالِ

 

وقوله:

 

ووجه كأنَّ الشمس حَلَّت رِدَاءها ** عليه نقي الخدّ لم يَتَخَدّد

 

جعل للشمس رداء استعارة للنور لأنه أبلغ. وكذلك قولك: "بنيتُ لك في قلبي بيتًا" مجاز واستعارة لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه، بخلاف قولك: "بنيت دارًا" فإنه حقيقة لا مجازَ فيه ولا استعارة وإنما المجاز في الفعل الواصل إليه.

 

قال: ومن المجاز في اللغة أبوابُ الحذف والزيادات والتقديم والتأخير والحَمْل على المعنى والتحريف: نحو { واسأل القرية } ووجه الاتساع فيه أنه استعمل لفظ السؤال مع ما لا يصح في الحقيقة سؤاله والتشبيه أنها شُبّهت بمن يصحّ سؤاله لِمَا كان بها والتوكيد أنه في ظاهر اللفظ أحالَ بالسؤال على مَنْ ليس من عادته الإجابة فكأنهم ضمنوا لأبيهم أنه إن سأل الجمادات والجِمَال أَنبأتْهُ بصحةِ قولهم وهذا تناهٍ في تصحيح الخبر.

 

قال: واعلم أن أكثر اللغة مع تأمّله مجاز لا حقيقة ألا ترى أن نحو قام زيد معناه كان من القيام أي هذا الجنس من الفعل ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام وكيف يكون ذلك وهو جنسٌ والجنسُ يُطْلَق على جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع الآتي من الكائنات من كلّ مَنْ وُجِدَ منه القيام ومعلوم أنه لا يجتمعُ لإنسان واحد في وقتٍ واحد ولا في أوقاتٍ القيامُ كلُّه الداخل تحت الوهم هذا محال فحينئذ قام زيد مجاز لا حقيقة على وضع الكلِّ موضع البعض للاتساع والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير ويدلُّ على انتظام ذلك لجميع جنسِه أنك تقولهُ في جميع أجزاء ذلك الفعل فتقول: قمتُ قومة وقومتين وقيامًا حسنًا وقيامًا قبيحًا، فإعمالُك إياه في جميع أجزائه يدل على أنه موضوعٌ عندهم على صَلاحه لتناول جميعها، وكذلك التأكيد في قوله: لعمري لقد أَحْبَبْتُك الحبّ كلّه وقوله: * يَظُنّان كلَّ الظَّنّ أنْ لا تَلاقِيَا * يدلان على ذلك.

 

قال لي أبو علي: قولنا: قام زيد بمنزلة قولنا: خرجتُ فإذا الأسد ومعناه أن قولهم: خرجت فإذا الأسد تعريفه هنا تعريف الجنس كقولك: الأسد أشدُّ من الذئب. وأنت لا تُريد أنك خرجتَ وجميعُ الأُسْد التي يتناولها الوَهْم على الباب. هذا محال وإنما أردتَ: فإذا واحد من هذا الجنس بالباب فوضعتَ لفظ الجماعة على الواحد مجازًا لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه:

 

أما الاتساع فلأنك وضعتَ اللفظ المعتادَ للجماعة على الواحد. وأما التوكيد فلأنك نَظَمْت قدرَ ذلك الواحد بأن جئتَ بلفظه على اللفظ المعتاد للجماعة.

 

وأما التشبيه فلأنك شبَّهتَ الواحد بالجماعة لأن كلَّ واحد منها مثلُه في كونه أسدًا وإذا كان كذلك فمثلُه: قعد زيد وانطلق وجاء الليل وانصرم النهار. وكذلك ضربت زيدًا مجازًا أيضا من جهة أخرى سوى التجوّز في الفعل وذلك لأن المضروب بعضُه لا جميعُه وحقيقة الفعل ضرب جميعه ولهذا يؤتى عند الاستظهار ببدل البعض نحو ضربت زيدًا رأسَه.

 

وفي البدل أيضا تجوُّز لأنه قد يكون المضروب بعضَ رأسه لا كلَّ الرأس.

 

قال: ووقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليلًا على شيوع المجاز فيها. انتهى كلامُ ابن جني ملخصًا.

فصل

 

قال الإمام فخر الدين وأتباعه: جهات المجاز يحضرنا منها اثنا عشر وجها:

 

أحدها: التجوُّز بلفظ السبب عن المسبّب ثم الأسباب أربعة: القابل كقولهم: سال الوادي. والصورى كقولهم لليد: إنها قدرة والفاعل كقولهم: نزل السحاب أي المطر والغائي كتسميتهم العِنَب بالخمر.

 

الثاني - بلفظ المسبب عن السبب كتسميتهم المرض الشديد بالموت.

 

الثالث - المشابهة كالأسد للشجاع.

 

الرابع - المضادّة كالسّيئة للجزاء.

 

الخامس والسادس - اسم الكلّ للجزء كالعام للخاص واسم الجزء للكلّ كالأسود للزّنجي.

 

السابع - اسمُ الفعل على القوة كقولنا للخَمْرة في الدن: إنها مُسْكِرة.

 

الثامن - المشتق بعد زوال المصدر.

 

التاسع - المجاورة كالرَّاوِية للقِرْبة.

 

العاشر - المجاز العرفي وهو إطلاق الحقيقة على ما هُجِر عُرْفًا كالدابَّة للحِمَار.

 

الحادي عشر - الزيادة والنقصان كقوله: { ليس كَمِثْلِه شيءٌ } { واسْأَل القَرْية }.

 

الثاني عشر - اسم المتعلق على المتعلّق به كالمخلوق بالخَلْق.

 

قالوا: ولا يدخل المجاز بالذات إلا على أسماء الأجناس أما الحَرْف فلا يفيد وحده بل إنْ قُرِن بالملائم كان حقيقةً وإلا كان مجازًا في التركيب وأما الفعل فإنه يدلّ على المصدر واستناده إلى موضوع. والمجاز في الإسناد عقلي وفي المصدر يستتبع تجوّز العقل فلا يكون بالذات.

 

وأما الأسماء فالأعلام منها لم تُنْقل بعلاقة فلا مجاز فيها والمشتقات تَتْبع الأصول فلم يبق إلا أسماءُ الأجناس.

 

قالوا: والمجازُ إما لأجل اللفظ أو المعنى أو لأجلهما فالذي لأجل اللفظ إما لأَجْل جَوْهره بأن تكون الحقيقة ثقيلة على اللسان إما لِثِقل الوزن أو تنافر التركيب أو ثقل الحروف أو عوارضه بأن يكون المجازُ صالحًا لأصْناف البديع دون الحقيقة.

 

والذي لأجل المعنى إما لعظَمةٍ في المجاز أو حقارة في الحقيقة أو لبيان في المجاز أو لِلُطف فيه: أما العظمة فكالمجلس وأما الحقارة فكقضاء الحاجة بدلًا عن التغوُّط وأما زيادة البيان فإما لتَقْويةِ حال المذكور كالأسد للشجاع أو للذّكر وهو المجاز في التأكيد.

 

وأما التلطيف فنقولُ: إنه لا شوقَ إلى الشيء مع كمال العلم به ولا كمالِ الجهل به بل إذا عُلم من وجهٍ شَوَّق ذلك الوجهُ إلى الآخر فتتعاقب الآلام واللذات ويكونُ الشعورُ بتلك اللذات أتمّ وعند هذا فالتعبيرُ بالحقيقة يفيدُ العلم والتعبير بلوازم الشيء الذي هو المجاز لا يفيدُ العلم بالتمام فيحص دَغْدَغة نَفْسانية فكان المجاز آكَدَ وألطف. انتهى.

 

وذكر القاضي تاج الدين السبكي في شرح منهاج الأصول: أن المجاز يدخُل في الأعلام التي تُلْمَح فيها الصفة كالأسْوَد والحرث ونقَله عن الغزالي فيُسْتَثنى هذا مما تَقَّدّم.

تنبيه

 

قال الإمام وأتباعه: المجازُ خلافُ الأصل لأنه يتوقَّف على الوضع الأول والمناسبة والنقل وهي أمورٌ ثلاثة. والحقيقة على الوضع وهو أحدُ الثلاثة فكان أكثر ولأن المجاز لو ساوى الحقيقة لكانت النصوص كُلُّها مجملة بل المخاطبات. فكان لا يحصلُ الفهمُ إلا بعد الاستفهام. وليس كذلك ولأن لكل مجاز حقيقةً ولا عكس يدلُّ عليه أن المجاز هو المنقول إلى معنى ثان لمناسبة شاملة والثاني له أول وذلك الأوّل لا يجب فيه المناسبة.

 

قال القاضي تاج الدين السبكي في شرح المنهاج: الأصلُ تارة يُطْلَق ويُرادُ به الغالب وتارة يرادُ به الدليل فقولهم: المجازُ خلافُ الأصل إما بمعنى خلاف الغالب والخلاف في ذلك مع ابن جنيّ حيث ادّعى أن المجاز غالب على اللغات أو بالمعنى الثاني والفرض أن الأصل الحقيقة والمجازُ خلاف الأصل فإذا دار اللفظ بين احتمال المجاز واحتمال الحقيقة فاحتمالُ الحقيقة أرجح.

فصل

 

قال القاضي عبد الوهاب في كتاب الملخص: اعلم أنّ الفرق بين الحقيقة والمجاز لا يُعْلم من جهة العقل ولا السمع ولا يُعلم إلا بالرجوع إلى أهل اللغة والدليل على ذلك أن العقلَ متقدّم على وَضْع اللغة فإذا لم يكن فيه دليل على أنهم وضعوا الاسم لمسمًّى مخصوص امتنع أن يُعْلم به أنهم نقلوه إلى غيره لأن ذلك فرعُ العلم بوضعه وكذلك السمع إنما يَرِد بعد تقرّر اللغة وحصول المواظبة وتمهيد التخاطب واستمرار الاستعمال وإقرار بعض الأسماء فيما وُضع له واستعمال بعضها في غير ما وُضِع له فيمتنع لذلك أن يُقال إنه يعلم به أن استعمال أهل اللغة لبعض الكلام هو في غير ما وُضع له لامتناع أن يُعلم الشيء بما يتأخر عنه.

 

قال: فمن وجوه الفرق بين الحقيقة والمجاز أن يُوقِفنا أهلُ اللغة على أنه مجاز ومستعمل في غير ما وُضع له كما وَقَفونا في استعمال أسد وشجاع وحمار في القويّ والبليد وهذا من أقوى الطرق في ذلك.

 

ومنها: أنْ تكون الكلمةُ تصرَّف بتثنية وجمع واشتقاق وتعلَّق بمعلوم ثم تجدها مستعملةً في موضع لا يثبت ذلك فيه فيُعْلم بذلك أنها مجاز مثل لفظة أمْر فإنها حقيقةٌ في القول لتصرفها بالتثنية والجمع والاشتقاق تقول: هذان أمران وهذه أوامر الله وأوامر رسوله وأمَر يأمر أمرًا فهو آمر. ويكون لها تعلّق بآمر ومَأْمور به ثم تجدها مستعملةً في الحال والأفعال والشأن عاريةً من هذه الأحكام فيُعْلم أنها فيه مجاز مثلٌ: { وما أَمْرُ فِرْعَوْنَ برَشيد } يريدُ جملة أفعاله وشأنه.

 

ومنها: أن تطَّرد الكلمةُ في موضع ولا تطَّرد في موضع آخر من غير مانع فيستدلّ بذلك على كونها مجازًا وذلك لأن الحقيقة إذا وُضِعت لإفادة شيء وجب اطرّادها وإلا كان ذلك ناقضًا للغة فصار امتناع الاطّراد مع إمكانه دالًا على انتقال الحقيقة إلى المجاز وذلك كتسمية الجدّ أبًا فإنه لا يطّرد وكذا تَسْمية ابن الابن ابنًا.

 

قال: ومنها ما ذكره القاضي أبو بكر من أن تقوية الكلام بالتأكيد من علامات الحقيقة دون المجاز لأن أهل اللغة لا يقوّون المجاز بالتأكيد فلا يقولون أراد الجدارُ إرادة ولا قالت الشمس قولًا كطلعت طلوعًا وكذلك ورد الكلام في الشرع لأنه على طريق اللغة قال تعالى: { وكلَّمَ الله مُوسَى تكليمًا } فتأكيدُه بالمصدر يفيد الحقيقةَ وأنه أسمعه كلامه وكلّمه بنفسه لا كلامًا قام بغيره. انتهى ما ذكره القاضي عبد الوهاب.

 

وقال الإمام وأتباعه: الفرقُ بين الحقيقة والمجاز إما أن يقعَ بالتنصيص أو بالاستدلال.

 

أمَّا التَّنصيصُ فمن وجهين: أحدهما - أن يقول الواضِعُ: هذا حقيقةٌ وذاك مجاز أو يقول ذلك أئمةُ اللغة قال الصفي الهندي: لأن الظاهرَ أنهم لم يقولوا ذلك إلا عن ثقة. والثاني - أن يقول الواضعُ هذا حقيقة أو هذا مجاز فيثبت بهذا أحدهما وهو ما نصّ عليه.

 

وأما الاستدلال فبالعلامات فمن علامات الحقيقة تبادرُ الذهن إلى فَهم المعنى والعَراء عن القرينة أي إذا سمعنا أهل اللغة يعبِّرون عن معنى واحد بعبارتين ويستعملون إحداهما بقرينة دون الأخرى فنعرفُ أن اللفظَ حقيقةٌ في المستعملة بدون القرينة لأنه لولا استقرار أنفسهم على تعيّن ذلك اللفظ لذلك المعنى بالوضع لم يقتصروا عادة.

 

ومنْ علامات المجاز: إطلاقُ اللفظ على ما يستحيل تَعَلُّقه به واستعمال اللفظ في المعنى المنسي كاستعمال لفظ الدابَّة في الحمار فإنه موضوع في اللغة لكل ما يدبّ على الأرض.

 

وفي تعليق أَلِكْيَا: قد ذكر القاضي أبو بكر فروقًا بين الحقيقة والمجاز فمن ذلك أن الحقيقة يُقاسُ عليها والمجازُ لا يقاسُ عليه فإنَّ من وجد منه الضَّرب يقال: ضرب يضرب فهو ضارب فيُطْلَق هذا الاسم على كل ضارب إذ هو حقيقةٌْ فيُطْلَق ذلك على من كان في زَمَن واضِع اللغة وعلى مَنْ يأتي بعدَه ولا يُقال: اسأل البساط واسأل الحصير واسأل الثوب بمعنى صَاحبه قياسًا على { واسأل القَرْيةَ }.

 

الثاني - إنّ الحقيقة يشتق منها النعوت يقال أمر يأمر فهو آمر والمجازُ لا يشتق منه النعوت والتفريعات.

 

الثالث - إنَّ الحقيقة والمجاز يفترقان في الجمع فإن جمع أمْر الذي هو ضدّ للنهي أوَامر وجمع الأمر الذي هو بمعنى القَصْد والشأن أمور.

فوائد

 

الأولى - قال ابن برهان في كتابه في الأصول: اللغة مشتملة على الحقيقة والمجاز وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني: لا مجازَ في لغة العرب.

 

وعُمْدَتنا في ذلك النقلُ المتواتر عن العرب لأنهم يقولون: استوى فلان على مَتْن الطريق ولا مَتْنَ لها وفلان على جناح السفر ولا جناح للسفر وشابَتْ لمَّةُ الليل وقامت الحَرْبُ على ساق؛ وهذه كلُّها مجازات ومنكرُ المجاز في اللغة جاحدٌ للضرورة ومبطل محاسن لغةِ العرب.

 

قال امرؤ القيس:

 

فقلتُ له لمّا تَمَطَّى بصُلبه ** وأردَف أعجازًا وناء بِكَلْكَلِ

 

وليس لليلٍ صُلْب ولا أرْداف. وكذلك سموا الرجل الشجاع أسدًا والكريم والعالم بحرًا والبليد حمارًا لمقابلة ما بينه وبين الحمار في معنى البلادة والحمارُ حقيقةٌ في البهيمة المعلومة. وكذلك الأسدُ حقيقة في البهيمة ولكنه نُقل إلى هذه المستعارات تجوّزًا.

 

وعمدة الأستاذ أن حدَّ المجاز عند مُثْبتيه أنه كلُّ كلام تجوّزَ به عن موضوعه الأصلي إلى غير موضوعه الأصلي لنوع مقارنةٍ بينهما في الذات أو في المعنى: أما المقارنة في المعنى فكَوَصْف الشجاعة والبلادة وأما في الذات فكتسمية المطر سماءً وتسمية الفَضلة غائطًا وعَذِرَة والعَذِرَة: فناء الدار والغائط: الموضع المطمئن من الأرض كانوا يرتادونه عند قضاء الحاجة فلما كَثُر ذلك نُقِل الاسمُ إلى الفَضْلة وهذا يستدعي منقولًا عنه متقدّمًا ومنقولًا إليه متأخرًا وليس في لغة العرب تقديمٌ وتأخير بل كلُّ زمان قُدِّر أن العرب قد نطقَتْ فيه بالحقيقة فقد نطقت فيه بالمجاز لأن الأسماء لا تدلّ على مدلولاتها لذاتها إذ لا مُناسبة بين الاسمِ والمسمَّى ولذلك يجوز اختلافها باختلاف الأمم ويجوز تغييرها والثوب يسمى في لغة العرب باسم وفي لغة العَجَم باسم آخر ولو سمّي الثوب فرسًا والفرس ثوبًا ما كان ذلك مستحيلًا بخلاف الأدلة العقلية فإنها تدلُّ لذواتها ولا يجوزُ اختلافها أما اللغة فإنها تدلُّ بوضعٍ واصطلاح والعرب نطقَتْ بالحقيقة والمجاز على وجهٍ واحدٍ فجعلُ هذا حقيقة وهذا مجازًا ضربٌ من التحكم فإن اسمَ السبع وضع للأسد كما وضع للرجل الشجاع.

 

وطريق الجواب عن هذا أنا نسلّم له أن الحقيقةَ لا بدَّ من تقديمها على المجاز فإن المجاز لا يُعْقل إلا إذا كانت الحقيقة موجودةً ولكن التاريخَ مجهولٌ عندنا والجهلُ بالتاريخ لا يدلُّ على عدم التقديم والتأخير.

 

وأما قوله: إنَّ العربَ وضعت الحقيقة والمجاز وضعًا واحدًا فباطلٌ بل العربُ ما وَضعت الأسد اسمًا لعين الرجل الشجاع بل اسم العَين في حقّ الرجل هو الإنسانُ ولكن العربَ سمَّت الإنسانَ أسدًا لمشابهته الأسد في معنى الشجاعة فإذًا ثبت أن الأسامي في لغة العرب انقسمت انقسامًا معقولًا إلى هذين النوعين فسمَّيْنا أحدَهما حقيقة والآخر مجازًا فإنْ أنكَرَ المعنى فقد جحد الضرورة وإن اعترف به ونازع في التسمية فلا مشاحّة في الأسامي بعد الاعتراف بالمعاني ولهذا لا يفهَم من مُطْلَق اسم الحمار إلا البهيمة وإنما ينصرف إلى الرجل بقرينة ولو كان حقيقة فيهما لتناولهما تناولًا واحدًا. انتهى.

 

وقال إمام الحرمين في التلخيص والغزالي في المنخول: الظنّ بالأستاذ أنه لا يصح عنه هذا القول.

 

وقال التاج السبكي في شرح منهاج الأصول: نقلت من خط ابن الصلاح أن أبا القاسم بن كج حكى عن أبي علي الفارسي إنكارَ المجاز كما هو المحكي عن الأستاذ.

 

قلت: هذا لا يصحُّ أيضا فإن ابنَ جني تلميذُ الفارسي وهو أعلم الناس بمذهبه ولم يحكِ عنه ذلك بل حكى عنه ما يدلُّ على إثباته.

 

قال ابن السبكي: وليس مرادُ مَنْ أنكرَ المجازَ في اللغة أن العربَ لم تَنْطق بمثل قولك للشجاع إنه أسدٌ فإن ذلك مُكابرةٌ وعنادٌ ولكن هو دائرٌ بين أمرين إما أن يَدَّعي أنَّ جميع الألفاظ حقائق ويكتفي في الحقيقة بالاستعمال وإن لم يكن بأصْل الوضع وهذا مسلّم ويعود البحثُ لفظيًا، وإن أراد استواءَ الكلِّ في أصل الوضع قال القاضي في مختصر التقريب: فهذه مُرَاغَمَةٌ للحقائق فإنا نعلمُ أن العرب ما وضعت اسم الحمار للبليد.

 

الثانية - قال الإمام وأتباعه: اللفظُ يجوز خلوّه عن الوصفين فيكون لا حقيقة ولا مجازًا لغويًّا فمن ذلك اللفظُ في أول الوَضع قبل استعماله فيما وُضع له أو في غيره ليس بحقيقة ولا مجاز لأنَّ شرط تحقق كلّ واحد من الحقيقة والمجاز الاستعمالُ فحيث انْتَفَى الاستعمال انتفيا ومنه الأعلام المتجدِّدة بالنسبة إلى مسمّياتها فإنها أيضا ليست بحقيقةٍ لأن مستعمِلَها لم يستَعْمِلها فيما وُضعت له أولًا بل إما أنه اختَرعها من غير سَبْق وَضع كما في الأعلام المُرْتجلة أو نقلها عما وُضعتْ له كالمنقولة وليست بمجازٍ لأنها لم تنقل لعلاقة.

 

قال القاضي تاج الدين السبكي: وقد ظهر أنَّ المراد بالأعلام هنا الأعلامُ المتجدّدة دون الموضوعة بوَضع أهل اللغة فإنها حقائق لغوية كأسماء الأجناس وقد ألحق بعضُهم بذلك اللفظ المستعمل في المشاكلة نحو: { وجزاءُ سيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلها }. فذكر أنه واسطةٌ بين الحقيقة والمجاز وهو ممنوعٌ كما بيَّنْتُه في الإتقان وغيره.

 

الثالثة - قد يجتمع الوصفان في لفظٍ واحد فيكون حقيقةً ومجازًا إمَّا بالنسبة إلى مَعْنيين وهو ظاهر وإما بالنسبة إلى معنى واحد وذلك من وَضْعين كاللفظ الموضوع في اللغة لمَعْنًى وفي الشرع أو العرف لمعنًى آخر فيكون استعماله في أحد المعنيين حقيقةً بالنسبة إلى ذلك الوَضع مجازًا بالنسبة إلى الوَضع الآخر.

 

قال الإمام وأتْبَاعُه: ومن هذا يُعرف أن الحقيقة قد تصيرُ مجازًا وبالعكس فالحقيقةُ متى قلَّ استعمالها صارت مجازًا عُرْفًا والمجاز متى كثرَ استعمالهُ صار حقيقة عُرْفًا وأما بالنسبة إلى معنى واحد من وَضْع واحد فمحال لاسْتحالة الجمع بين النفي والإثبات.

 

الرابعة - قال أهل الأصول: اللفظُ والمعنى إما أن يتّحدا فهو المُفْرَد كلفظة الله فإنها واحدة ومَدْلولها واحد ويسمّى هذا بالمفرد لانفراد لفظه بمعناه أو يتعَدَّدا فهي الألفاظ المتباينة كالإنسان والفرس وغير ذلك من الألفاظ المختلفة الموضوعة لمعانٍ مختلفة وحينئذ إما أن يمتنع اجتماعُهما كالسَّواد والبياض وتسمَّى المُتباينة المُتَفاضلة أو لا يمتنع كالاسم والصّفة نحو السيف والصارم أو الصفة وصفة الصفة كالناطق والفصيح وتسمى المتباينة المتواصلة أو يتعدّد اللفظ والمعنى واحدٌ فهو الألفاظ المُترادفة أو يتّحد اللفظ ويتعدَّد المعنى فإن كان قد وُضع للكل فهو المشترك وإلا فإن وُضع لمعنًى ثم نُقل إلى غيره لا لِعلاقةٍ فهو المُرْتجل أو لعلاقة فإن اشتهر في الثاني كالصَّلاة سُمِّي بالنسبة إلى الأول منقولًا عنه وإلى الثاني منقولًا إليه وإن لم يشتهر في الثاني كالأسد فهو حقيقة بالنسبة إلى الأول مجازٌ بالنسبة إلى الثاني.

 

 

هامش

قال في اللسان: فسره ثعلب فقال: يعني الوجه، قال ابن سيده: وعندي أنه الأنف. وما يسمى مجازا عند المتأخرين هو حقيقة عند المحققين، فهو من أساليب العرب، وما يفرق بين الحقيقتين سياق الكلام. وصرح بنفي المجاز أبو إسحاق الإسفراييني وأبو علي الفارسي وابن تيمية في مجموع الفتاوى وابن القيم في الصواعق المرسلة. ينظر

 

 

 

 

=============

النوع الخامس والعشرون

معرفة المشترك

 

 

 

 

قال ابن فارس في فقه اللغة: باب الأسماء كيف تقع على المسميات:

 

يسمَّى الشيئان المختلفان بالاسمين المختَلِفين وذلك أكثرُ الكلام كرجلٍ وفرس وتسمَّى الأشياءُ الكثيرة بالاسم الواحد نحو عين الماء وعين المال وعين السحاب ويسمى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة نحو السيف والمُهَنَّد والحسام. انتهى.

 

والقسم الثاني مما ذكره هو المشتَرك الذي نحنُ فيه. وقد حدَّه أهل الأصول بأنه اللفظُ الواحدُ الدالُّ على معنيين مختلفين فأكثر دلالةً على السواء عند أهل تلك اللغة واختلف الناسُ فيه فالأكثرون على أنه مُمْكِنُ الوقوع لجواز أن يقعَ إما من وَاضِعَيْن بأنْ يضعَ أحدُهما لفظًا لمعنًى ثم يضعُه الآخرُ لمعنًى آخر ويَشْتَهِر ذلك اللفظ بين الطائفتين في إفادته المعنيين وهذا على أنَّ اللغات غيرُ توقيفية وإما مِنْ واضعٍ واحدٍ لغرض الإبهام على السامع حيثُ يكونُ التصريح سببًا للمَفْسدة كما رُوي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه - وقد سأله رجلٌ عن النبي ﷺ وقت ذهابِهما إلى الغار: مَنْ هَذا قال: هذا رجلٌ يَهْديني السبيلَ.

 

والأكثرون أيضا على أنه وَاقعٌ لنَقْلِ أهلِ اللغة ذلك في كثير من الألفاظ ومن الناس من أوْجب وقوعَه - قال: لأن المعانيَ غيرَ متناهيةٍ والألفاظ متناهية فإذا وُزِّع لزِم الاشتراك.

 

وذهب بعضهُم إلى أن الاشتراك أغْلبُ - قال: لأن الحروفَ بأسْرِها مشتركة بشهادة النُّحَاة والأفعال الماضية مشتركةٌ بين الخبَر والدُّعاء والمضارعَ كذلك وهو أيضا مشْتَرَكٌ بين الحال والاستقبال والأسماء كثيرٌ فيها الاشتراك فإذا ضَمَمْناها إلى قسمي الحروف والأفعال كان الاشتراكُ أغلبَ. ورُدَّ بأن أغلبَ الألفاظ الأسماء والاشتراكُ فيها قليلٌ بالاستقراء ولا حلافَ أنَّ الاشتراك على خلاف الأصل.

ذكر أمثلة من هذا النوع

 

في الجمهرة: العمُّ: أخو الأب والعمُّ: الجمعُ الكثير قال الراجز:

 

يا عامر بن مالك يا عَمَّا ** أَفْنَيْتَ عمّا وجبرتَ عَمّا

 

فالعمُّ الأولُ أراد به يا عمَّاه والعمُّ الثاني أراد به أفنيت قومًا وجبرت آخرين.

 

وفيها: يقال مَشَى يَمْشِي من المَشْي ومَشَى إذا كَثُرت ماشيته وكذا أمْشَى لغتان فصيحتان. قال: وفي التنزيل: { أَنِ امْشُواْ وَاصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ }. كأنه دعا لهم بالنَّمَاء. والله أعلم.

 

وفيها: للنَّوَى مواضع النَّوى: الدار والنَّوى: النيَّة والنَّوى: البُعْد.

 

وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن يونس قال: كنتُ عند أبي عمرو بن العلاء فجاءه شُبَيل بن عُرْوة الضبعي فقام إليه أبو عمرو فألقى إليه لُبْدة بغلته فجلس عليها ثم أقبل عليه يحدّثه فقال له شبيل: يا أبا عمرو سألتُ رُؤْبتكم هذا عن اشتقاق اسمه فما عرفه قال يونس: فلما ذكر رُؤْبَة لم أملك نفسي فرجعت إليه ثم قلت له: لعلّك تظن أن معدَّ بن عدنان أفصحُ من رُؤْبة وأبيه فأنا غلام رؤبة فما الرُّوَبة والرُّوبة والرُّوبة والرُّؤبة والرُّؤْبَة فلم يُحِرْ جوابًا وقام مُغْضبًا فأقبل عليَّ أبو عمرو وقال: هذا رجلٌ شريف يَقْصد مجالسنا ويقضي حقوقنا وقد أسأت فيما واجهتَه به فقلتُ له: لم أمْلك نفسي عند ذكْر رُؤبة. ثم فسَّر لنا يونسُ فقال: الرُّوْبة: خَميرة اللَّبن والرُّوبة: قِطْعة من الليل وفلان لا يقوم بِرُوبة أهْله: أي بما أسندوا إليه من أمورهم والرُّوبة: جِمَام مَاءِ الفَحْل. والرُّؤْبَة مهموزة: القِطعة تُدْخِلها في الإناء تَشْعَبُ بها الإناء.

 

وقال ابن دريد في الجمهرة: قال أبو حاتم: قال الأصمعي: أخبرني يونس، فذكر مثله.

 

وقال ابن خالويه في شرح الفصيح: قال ابن دريد حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي عن يونس أن رجلًا قال لرؤبة: لم سمَّاك أبوك رُؤْبة فقال: والله ما أدري أَبِرُوبَة الليل أم برُوبةَ الخمير أم بِرُوبة اللبن أم برُوبة الفرس فروبة اللبن: رغْوته وروبة الليل: مُعظمه وروبة الخمير: زيادته وروبة الفرس: قِيل طَرقه في جِماعه وقيل عَرَقه وهذا كلُّه غيرُ مهموز فأما رُؤْبَة بالهمزة فقطعةٌ من خشب يُرْأَبُ بها القدح أي تُصْلحه بها.

 

وفي الصحاح: الأرض المعروفة وكلُّ ما سَفَل فهو أرض والأرْضُ: أسفل قوائم الدابة والأرْضُ: النَّفْضَة والرِّعْدة. قال ابن عباسٍ في يوم زَلْزَلة: أزُلْزِلت الأرْضُ أم بي أرْضٌ؟ والأرْضُ: الزُّكام، والأرْضُ: مصدر أُرِضَت الخشبةٌ تُؤْرَضُ أَرْضًَا فهي مأْروضة إذا أكلَتْها الأَرَضَة.

 

وفي الجمهرة: الهِلالُ: هلال السماء وهلال الصيد: وهو شبيه بالهلال يُعَرْقَب به حمارُ الوحش وهلال النَّعل: وهو الذُّؤَابة والهلال: القِطْعة من الغبار وهلال الإصبع: المطيف بالظفر والهلال: قطعةُ رَحَى والهلال: الحيَّة إذا سلخت والهلالُ: باقي الماء في الحوض والهلال: الجملُ الذي قد أكثر الضِّراب حتى هَزل.

 

وفي كتاب ليس لابن خالويه: الإوَزْ جمع إوَزَّة لهذا الطائر ورجل إوَزّ غليظ وفرس إوَزّ أي مُوَثَّق غليظ.

 

وفي شرح الفصيح لابن درستويه: قال الخليل رجل إوزّ وامرأة إوزّة: أي غليظة لحِيمَة في غير طول، ولا تُحذف ألفها، يعني لا يقال في الوصف وزّ ولا وَزّة.

 

ومن الألفاظ المشتركة في معانٍ كثيرة: لفظ العَين. قال الأصمعي في كتاب الأجناس: العَين: النَّقْد من الدراهم والدنانير ليس بعرض والعين: مطر أيام لا يُقْلِع يقال: أصاب أرض بني فلان عَيْن والعينُ: عينُ الإنسان التي يَنْظُرُ بها والعَين: عَيْنُ البئر وهو مخرج مائها. والعين: القناةَ التي تعمل حتى يظهر ماؤها. والعين: الفوّارة التي تفور من غَيْر عَمل. والعين: ما عن يمين القِبْلة قِبْلة أهل العراق ويقال: نشأت السماءُ من العين. والعين عين الميزان وهو ألا يَسْتوي والعين: عين الدابة والرجل وهو الرجل نفسه أو الدابة نفسها أو المتاع نفسه يقال: لا أقْبَلُ منك إلا درهمًا بعينه أي لا أقبل بدلًا وهو قول العرب: لا أتْبَعُ أثرًا بعد عَيْن والعين: عَيْن الجيش الذي يَنْظُر لهم والعين: عينُ الرُّكْبة وهي النُّقرة التي عن يمين الرضفة وشمالها وهي المشاشة التي على رأس الرُّكبة والعين: عين النفس أن يَعِين الرَّجلُ الرجلَ ينظرُ إليه فيصيبه بعَيْنٍ. والعين: السَّحابة التي تَنْشَأ من القبلة قِبلة أهل العراق والعين: عين اللصوص. انتهى.

 

وقال أبو عبد الله بن محمد بن المعلى الأزدي في كتاب الترقيص: للعَيْن في كلام العرب مواضع كثيرة فالعين لكل ذي رُوح يُبْصر بها والعين: عَيْنُ الرُّكبة والعين: عَينُ الميزان والعَين: عين الكتابة والعين التي تصيب الإنسان وفي الحديث: العين حقٌّ والعين: عين الماء والعَين: عَيْنُ الشمس والعين: اسمٌ من أسماء الذهب ويقال للفضة الوَرِق والعين: النَّقد والدّين النسيئة والعين: مَطَرٌ يجيء ولا يُقلع أيامًا. والعين: نَفْس الشيء يقال: هذا درهمي بعينه والعين من العِينَة: أخذ بعَيْنٍ وبِعِينةٍ وهو الربا والعَين: مصدر من عَانه إذا أصابه بعَين. والعَين: موضع وربما قيل بلا ألف ولام. ورأس عَين موضع آخر. والعَين: فَم القربة والمَزَادة والعَين عين القُوباء ويقال: دَوَاء القُوباء بَخْص عينها.

 

وقال ابن خالويه في شرح الدريدية: العين تنقسم ثلاثين قسمًا وذكر منها: العَين: خيار كل شيء ولم يذكر الباقي.

 

وقال الفارابيّ في ديوان الأدب في ذكر معاني العين: العَين: عين الرُّكبة. والعين: عَيْن الماء والعين: الدَّيْدَبان. والعَين: عينُ الشمس والعين: حرف من حروف المعجم وعين الشيء: خياره وعَين الشيء: نَفْسه. ويقال لقيته أول عيْن أي أول شيء ويقال: ما بها عَيْن: أي أحد. انتهى.

 

وفي تهذيب الإصلاح للتبزيزي: عَين المتاع: خِياره والعَين: عين الرَّكيَّة وعَينُ الرُّكبةِ وفي الميزان عَينٌ: إذا رَجَحَت إحدى كِفّتيه على الأخرى. والعيْن: عينُ الشمْس وعَيْنُ القَوْس التي يقع فيها البندق. والعين: القوم يكون أبوهم واحدًا وأمهم واحدة.

 

وفي المجمل: العين عين الإنسان وكلّ ذي بَصر. ولقيتُه عَينَ عُنَّةٍ: أي عيانًا. وفعل ذلك عَمَدَ عَيْنٍ إذا تعمَّده. وهذا عَبْدُ عَيْنٍ: أي يخدمُك ما دُمْت تراه فإذا غبتَ فلا. والعَين: المُتَجَسِّس للخَبر. وبلد قليل العَين: أي الناس. والعين: للشمس. والعين: الثقب للمزادة. وأعيان القوم: أشرافهم. والأعيان: الإخوة بنو أب وأم ويقال: إن أولاد الرجل من الحرائر بنو أعيان. والعَين: المال النَّاض. ونفس الشيء: عَيْنه. والعَين: الميل في الميزان. وعيون البقر: جنْسٌ من العنب يكون بالشام. ورأي عين: بلدة. وعين الركبة: النقرة التي تكون فيها. وأسود العين: جبل.

 

ثم راجعت تذكرتي فوجدتُ فيها العَينَ في اللغة تُطلق على أشياء كثيرة، قسَّمها بعضُ المتأخرين تقسيمًا حسنًا: فقال: ما يطلق عليه العين ينقسم قسمين أحدهما أن يرجع إلى العين الناظرة والثاني ليس كذلك فالأول على قسمين: أحدُهما بوجه الاشْتِقاق والثاني بوجه التشبيه فأما الذي بوَجْه الاشتقاق فعلى قسمين: مصدر وغير مصدر فالمصدر ثلاثة ألفاظ: العين: الإصابةُ بالعين والعين: أن تضرب الرجل في عَينه. والعين: المعاينة. وغير المصدر ثلاثة ألفاظ أيضا: العين: أهل الدار لأنهم يُعاينون. والعين: المال الحاضر. والعين: الشيء الحاضر. وأما الراجع إلى التشبيه فستة معان: العين الجاسُوس تشبيهًا بالعين لأنه يطلع على الأمور الغائبة. وعين الشيء: خِياره. والعين: الرَّبيئة وهو الذي يرقب القوم. وعَيْن القوم: سيّدهم والعين: وَاحِدُ الأعيان وهم الإخْوَةُ الأشِقَّاء والعين: الحرّ كلُّ هذه مشبهةٌ بالعين لشَرَفِها. وأما ما لا يرجع إلى ذلك فعشرة معان: العين: الدينار وعليه يتخرّج اللغز:

 

ما غلامٌ له ثمانون عَيْنًا ** زاهرات كأنهن الدرَاري

 

ثم شاةٌ جادت بعنز وديك ** في ليالي الشتاء والأزهار

 

والعين: اعْوِجِاج في الميزان. والعين: عين القِبْلة. والعين: سَحَابة تأْتي من ناحية القبلة. والعين: مَطَرُ أيام كثيرة لا يُقْلِع. والعين: طَائر. والعَين: عينُ الرُّكْبَةِ وهي نُقْرة في مقدمها. والعين: عَيْنُ الشمس. والعين من عيون الماء. وعين كل شيء ذاته، تقول أخذ كتابي بعينه. انتهى. حرر ذلك الشيخ تاج الدين بن مكتوم في قيد الأوابد.

 

ونقل عن الخليل معنى آخر زائد على ما تقدم وهو أنها تطلق على سنام الإبل، وأشد قول معن بن زائدة:

 

ألا ربَّ عينٍ قد ذَبَحْت لطارقٍ ** فأَطعمتُهُ من عَيْنهِ وأطَايِبه

 

وفي كتاب مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي: الخَال له معان فيطلق على أخي الأم والمكان الخالي والعَصْر الماضي والدابة والخيلاء والشَّامَة في الوجه والمَنخُوب الضعيف وضَرْب من بُرُود اليمن والسِّحاب والمُخَالاة والجبَل الأسْود وثوب يُسْتَر به الميت والرجل الحسن القيام على ماله والبَعِير الضَّخْم والظنَّ والتَّوَهُّم والرّجل المتكبّر والرجل الجواد والأكمة الصَّغِيرة والرَّجل المنفرد والمُبَرِّئ والذي يَجزُّ الخَلَى.

 

وقال أبو الطيب أخبرني محمد بن يحيى قال أنشدني عمر بن عبد الله العَتَكي قال: أنشدني أبو الفضل جعفر بن سليمان النوفلي عن الحِرْمازي للخليل ثلاثة أبيات على قافيةٍ واحدة يستوي لفظُها ويختلف معناها:

 

يا ويحَ قلبي من دَوَاعي الهَوى ** إذْ رَحَل الجيرانُ عند الغُروبْ

 

أتبعتُهم طَرْفي وقد أَزْمَعُوا ** ودمعُ عينيَّ كفَيْضِ الغُروبْ

 

كانُواْ وفيهم طَفْلة حَرَّة ** تفترّ عن مِثْل أقاحي الغُرُوبْ

 

فالغُرُوب الأول: غُروب الشمس والثاني جمع غَرْب: وهو الدَّلْو العظيمة المملوءة والثالث جمع غرب: وهي الوِهَاد المنخفضة.

 

وأنشد سلامة الأنباري في شرح المقامات:

 

لقد رأيت هذريًا جَلْسا ** يقود من بطن قديد جَلْسا

 

ثم رقى من بعد ذاك جَلْسا ** يشرب فيه لبنًا وجَلْسا

 

مع رفْقَةٍ لا يشربون جَلْسا ** ولا يؤمّون لهمْ جَلْسا

 

جَلْس الأول: رجل طويل، والثاني: جَبَل عال، والثالث: جبل، والرابع عسل، والخامس: خمر، والسادس: نجد.

 

قال القالي في أماليه: في الفرس من أسماء الطير عدّة: الهامَةُ: العَظْمُ الذي في أعلى رأسه والفَرْخُ وهو الدماغ والنَّعامة: الجِلْدَةُ التي تُغَطِّي الدماغ والعُصفور: العظمُ الذي تنبتُ عليه النَّاصية والذُّبابة: النُّكْتَةُ الصغيرةُ التي في إنسان العين فيها البصرُ. والصُّرَدان: عِرْقان تحت لسانه. والسَّمَامَةُ: الدائرةُ التي في صَفْحَةِ العنق. والقَطَاةُ: مَقْعَد الرِّدْف [ خَلْفَ الفارس ]. والغُرَابان: رأسا الوركين فوق الذَّنَب. والحمَامة: القَصُّ. والنَّسر: كالنَّوَى والحصى الصِّغَار يكون في الحافر ممَّا يلي الأرض. والصَّقْران: الدائرتان في مؤخر اللبد دون الحجبتين. واليَعْسُوب: الغُرَّة على قَصَبة الأنف. والنَّاهِض: [ اللحم الذي يلي العَضُدين من أعلاهما المجتمع ]. والخَرَب: الهَزْمَة التي بين الحَجَبَة والقُصْرَى في الوَرِك. والفَرَاش: العِظَام الرِّقاق في أعلى الخياشيم. والسِّحَاءَة: كل ما رقّ وهشّ من العظام التي تكون في الخياشيم وفي رؤوس الكتفين. [ والزّرّق: وهو في الشية: الشعرات البيض في اليد أو الرجل. والدُّخَّل: وهو لحم الفخذين. ]

 

وفي شرح الكامل لأبي إسحاق البطليوسي قال الأصمعي: كنتُ ممن شهد الرشيد حين ركب سنة خمس وثمانين ومائة إلى حضور الميدان وشهود الحلْبَة فقال: يا أَصْمَعي قد قيل إن في الفرس عشرين اسمًا من أسماء الطير. قلت: نعم يا أمير المؤمنين وأنشدك شعرًا جامعًا لها من قول جرير:

 

وأقبّ كالسِّرْحانِ تمّ له ** ما بين هَامَته إلى النَّسر

 

رَحُبَتْ نَعَامَتُه وَوُفِّر لحمُه ** وتمكّن الصُّرَدَان في النَّحْر

 

وَأَنافَ بالعُصْفور من سَعَفٍ ** هامٌ أشم موثَّق الجَِذر

 

وازْدَان بالدِّيكين صُلْصُله ** ونَبَتْ دَجَاجته عن الصَّدْرِ

 

والنَّاهضان أُمرّ جَلْزهما ** وكأنما عُثِما على كَسْرٍ

 

مُسْحَنْفِر الجنبين مُلْتئم ** ما بين شيمته إلى الغرّ

 

وسما الغُرَاب لموقعَيْه معًا ** فأبينَ بينهما على قَدْر

 

واكتَنَّ دون قبيحه خُطَّافه ** ونأت سَمامَتُه عن الصَّقْر

 

وتقدّمت عنه القَطَاةُ له ** فنأت بموقعها عن الحر

 

وسما على نِقْوَيه دون حِدَاته ** خَرَبان بينهما مدى الشِّبر

 

يدع الرَّضيم إذا جرى فلَقًا ** بتَوَائمٍ كمواسمٍ سُمْر

 

رُكّبنَ في مَحْض الشَّوَى سَبِط ** كَفْتِ الوثوب مُشَدَّد الأَسْر

 

ورأيت لهذه الأبيات شرحًا في كراسة فسر فيها الأسماء كما تقدّم في كلام القالي.

 

وقال: العُصْفور في الفرس في ثلاثة مواضع: أحدها: أصل مَنْبت النَّاصية والثاني: عظم ناتئ في كل جبين. والثالث: الغُرّة التي دقَّت وطالت ولم تجاوز العينين ولم تستَدِر كالقرحة. والديكان: العظمان الناتئان خلف الأذن وهما الخُشَشَاوان. والدّجاجة: اللحمة التي تغشى الزَّور ما بين مُلْتَقى ثدي الفَرَس. والناهِضُ: لحم المنكبين وهو اسم لفَرْخِ القطاة. والغُرّة: عضلة الساق وهو من أسماء الرخَمة. قال والسمَانى: موضع في الفرس لا أَحْفظه.

 

وفي الصحاح: الخَرَب: ذكر الحبارى، والجمع خِرْبان وبه تمَّت العشرون بدون السمانى.

 

ثم رأيت في أمالي أبي القاسم الزجاجي ما نصه: قال أبو عبد الله الكرماني: لا يُعَدُّ من أسماء الطير في خَلْق الفَرَس إلا ما أذكره لك: الصُّرَدَانِ: عِرْقان يَكْتَنِفَانِ اللسان ويقال بياض في الظهر والذُّبَاب: إنسان العين. والدِّيك: ما انْثَنَى من لحيه. والنَّعَامَة والسَّحَاة: في الدماغ كأنه غِرْقئ البيض ويقال: هو ما خَلْفَ قَوْنَسه من هَامتِه. واليَعْسُوب: الغُرَّة الدقيقة المستطيلة. والهامة: مُؤخر الدماغ ويقال: أُمُّ الدماغ. والعُصْفُور: مَنْبت الناصية وقَوْنَسه. والعُصْفور: عظَمٌ ناتئ في كل جَبِين. وإذا سالت الغُرَّة فدقَّت فلم تجاوز العينين فهي العصْفور. والصُّلْصُل: مؤخر النَّاصِية. والْحِدَأَة: أصلُ الأُذُن. والْخَرَب: السَّواد يكون في الأذن من ظاهرها. ويقال متون العرنين. والسَّمَامَةُ: الدَّائرةُ التي في العنق. والخُطَّافُ: دائرةٌ عند المركض. والقَطَاةُ: مَقْعَد الرِّدْف. والغُرَاب: طَرَف الوَرِك من ظهر ظاهره. والرَّخَمَة: عضَلَة الساق. والناهض: طرف القنب. ويقال الكَتَد. والنَّسْر: باطنُ الحافر فيه كالحصى. والسَّاق والرِّجل معروفان. والفَرَاشة: عظام الجمجمة. والأصقع: الناصية البيضاء. والعُقابان: الحدقتان. والجردان: هفافا الأذن. والصَّقْرَان: موضع السوط من الخاصرتين. والكُرْسوع: رأس الذراع مما يلي الوَظيف. والسَّعْدانة: ما انجرَد من ظهر ذراعي الفرس بمنزلة الحماس من الساق. والزّرّق: شعرات بيض تَنْبُتُ في اليد أو الرجل. ويقال: الزَّرَق يكون دوين أشعره. وقال آخر: بل الزرق: بياض لا يطيف بالعظم كله ولكنه وضَح. والوَرشان: حِمْلاق العين الأعلى، وقال غيره: الصلصلة ناصية الفرس، والصلصلة الفاختة. انتهى.

 

ومن المشترك بالنسبة إلى لغتين: قال في الغرب المصنف قال أبو زيد: الألْفَتُ في كلام قيس: الأحْمق. والألْفت في كلام تميم: الأعسر. وقال الأصمعي: السَّلِيط عند عامة العرب: الزيت. وعند أهل اليمن: دُهْن السمسم.

فائدة

 

من غريب الألفاظ المشتركة لفظة كذب قال خداش بن زهير العامري - جاهلي:

 

كذَبْتُ عليكم أوْعِدُوني وعَلِّلُوا ** بي الأرضَ والأقْوَام قِرْدَان مَوْظبا

 

قال أبو زيد في النوادر: معنى كذبت عليكم: أي عليكم بي.

 

وتجيءُ كَذَب في الحديث والشعر. قال عمر: كَذَب عليكم الحجُّ. فرفع الحج بكذب والمعنى عليكم الحجّ، أي حجّوا.

 

ونظر أعرابيّ إلى رجل يَعْلِف بعيرًا فقال: كذَبَ عَلَيْكَ البَزْرُ والنَّوَى.

 

وفي الحديث: ثلاثة أسفار كذَبْنَ عليكم. انتهى.

 

وفي تعليق النجيرمي بخطِّه قال عيسى بن عمر: مرَّ بي أعْرابي وأنا أعلف بَعيرًا لي فقال: كذَبَ عليك البَزْرُ والنَّوَى.

 

قال الأصمعي: تقول العرب هذه الكلمة إذا أراد أحدهم الشيء قال: كذب عليك كذا: يُريد عليك بكذا.

 

وقال التبريزي في تهذيبه في قول الشاعر:

 

وذُبْيَانِيَّة وصَّتْ بَنِيها ** بأنْ كَذَب القَراطِفُ والقُروفُ

 

قوله "بأن كَذَب القَراطِف والقروف" هذا الكلام لفظي الخبر ومعناه الإغراء تقول: كذب عليك كذا، أي عليك به. وفي حديث عمر: أن عمرو بن معد يكرب شكى إليه المعَص فقال: كذَبَ عَليك العَسَلُ.

 

وقال ابن خالويه في شرح الدريدية في قوله: * كذَب العَتِيقُ وَماءُ شَنٍّ بَارِدٌ * هذا إغراء، أي عليك العتيق والماء البارد، ولكنه كذا جاء عنهم بالرفع لأنه فاعل كذب والعرب تقول: كَذَب عليك العسل، أي الزمْ العَدْو وسرعةَ السير والمشي.

 

وفي الحديث: كذب عليكُمُ الحجُّ وكذب عليكم العُمْرة وكذب عليكم الجهادُ، ثلاثةُ أسفار كذَبْنَ عليكم.

 

وقال التبريزي في موضع آخر من تهذيبه: تقول للرجل إذا أمرته بالشيء وأغريته به: كذب عليك كذا وكذا أي عليك به وهي كلمةٌ نادرة جاءت على غيرِ القياس. قال عمر: يا أيها الناس كذَب عليكم الحجّ أي عليكم بالحج ويقال: كَذَب عليكم الحجّ والحج بالنصب والرفع لغتان النصب على الإغراء والرفع على معنى وجب عليكم وأمْكنَكم أنشد الأصمعي للأسود بن يعفر: * كذبت عليك لا تزال تقوفني * أي عليك بي فاتبعني.

فائدة

 

قال ابن درستويه في شرح الفصيح - وقد ذكر لفظه وَجَد واختلاف معانيها - هذه اللفظة من أقْوى حُجَج من يزعمُ أن من كلام العرب ما يتَّفِقُ لفظه ويختلف معناه لأن سيبويه ذكره في أول كتابه وجعله من الأصول المتقدمة فظنَّ من لم يتأمل المعاني ولم يتحقق الحقائق أن هذا لفظٌ واحد قد جاء لمعانٍ مختلفة وإنما هذه المعاني كلُّها شيءٌ واحد وهو إصابةُ الشيء خيرًا كان أو شرًا ولكن فرّقوا بين المصادر لأن المفعولات كانت مختلفة فجعل الفَرْق في المصادر بأنها أيضا مفعولة والمصادرُ كثيرة التصاريف جدًا وأمثلتُها كثيرة مختلفة وقياسُها غامضٌ وعلِلها خفيّة والمفتِّشُون عنها قليلون والصبرُ عليها معدوم فلذلك توهَّم أهلُ اللغة أنها تأتي على غير قياس لأنهم لم يضبطوا قياسها ولم يَقِفوا على غَوْرها.

فائدة

 

قال ابن درستويه في شرح الفصيح: لا يكون فعَل وأفْعَل بمعنى واحد كما لم يكونا على بناء واحد إلا أن يجيء ذلك في لغتين مختلفتين فأما من لغة واحدة فمحالٌ أن يختلف اللفظان والمعنى واحد كما يظنُّ كثير من اللغويين والنحويين وإنما سمعُوا العرب تتكلمُ بذلك على طِباعها وما في نفوسها من معانيها المختلفة وعلى ما جرت به عادتُها وتعارفُها ولم يعرف السامعون لذلك العلة فيه والفروق فظنُّوا أنهما بمعنى واحد وتأوَّلُوا على العربِ هذا التأويلَ من ذات أنفسهم فإن كانوا قد صدَقوا في رواية ذلك عن العرب فقد أخطؤوا عليهم في تأويلهم ما لا يجوزُ في الحكمة وليس يجيء شيء من هذا الباب إلا على لغتين متباينتين كما بيّنا أو يكون على معنَيَيْن مختلفين أو تشبيه شيء بشيء على ما شرحناه في كتابنا الذي ألّفناه في افتراقِ معنى فعل وأفعل.

 

ومن هاهنا يجبُ أن يتعرّف ذلك وأن قول ثعلب: وقَفَت الدَّابة ووقفتُ أنا ووقَفْت وقفًا للمساكين لا يجوزُ أن يكونَ الفعلُ اللازمُ من هذا النحو والمجاوز على لفظ واحد في النظر والقياس لما في ذلك من الإلباس وليس إدخالُ الإلباسِ في الكلام من الحِكْمة والصوابِ وواضعُ اللغة - عز وجل - حكيمٌ عليمٌ وإنما اللغةُ موضوعةٌ للإبانة عن المعاني فلو جاز وضعُ لفظ واحدٍ للدلالة على مَعْنَيْين مختلفين أو أحدُهما ضدٌّ للآخر لما كان ذلك إبانةً بل تَعْمِيَةً وتغْطية ولكن قد يجيءُ الشيءُ النادرُ من هذا لِعللٍ كما يجيء فَعلَ وأفعل فيتوهَّمُ من لا يعرفُ العِلل أنهما لمعنيين مختلفين وإن اتفق اللفظان والسماعُ في ذلك صحيحٌ من العرب فالتأويلُ عليهم خطأٌ وإنما يجيءٌ ذلك في لغتين متباينتين أو لحذْفٍ واختصارٍ وقَع في الكلام حتى اشتبه اللفظان وخَفِي سببُ ذلك على السامع وتأوَّل فيه الخطأ وذلك أن الفعل الذي لا يتعدَّى فاعله إذا احْتِيجَ إلى تعديته لم تَجُزْ تعدِيَتُه على لَفْظه الذي هو عليه حتى يُغيَّر إلى لفظٍ آخر بأن يزاد في أوَّله الهمزة أو يوصل به حَرْف جرّ بعد تمامَه ليستدلَّ السامعُ على اختلافِ المعنيين إلا أنه ربما كثُرَ استعمالُ بعضِ هذا الباب في كلام العرَب حتى يُحاولوا تخفيفه فيحذفوا حرفَ الجرّ منه فيعرف بطول العادة وكثْرَةِ الاستعمال وثبوتِ المفعول وإعرابه فيه خاليًا عن الجار المحذوف أو يُشَبَّه الفعل بفعلٍ آخر متَعدٍّ على غير لفظه فيجري مَجْراه لاتِّفاقهما في المعنى كقولهم: حبَست الدابة وحبستُ مالًا على المساكين.

 

وقد استقصينا شرح ذلك كله في كتاب فعلت وأفعلت بحُجَجه ورواية أقاويل العلماء فيه وذِكْر عِلَلِه والقياس فيه. اهـ.

 

وقال في موضع آخر: أهلُ اللغة أو عامتُهم يزعمون أن فعل وأفعل بهمزة وبغير همزة قد يجيئان لمعنًى واحد وأن قولهم: دِير بي وأُدِير بي من ذلك. وهو قول فاسد في القياس والعقل مخالفٌ للحكمة والصواب ولا يجوز أن يكون لفظان مختلفان لمعنًى واحد إلا أن يجيء أحدُهما في لغة قومٍ والآخر في لغة غيرهم كما يجيء في لغة العرب والعَجم أو في لغة روميَّة ولغة هنديّة.

 

وقد ذكر ثعلب أن أُدِير بي لغة فأصاب في ذلك وخالف من يَزْعُم أن فَعَلْت وأفْعَلت بمعنى واحد والأصل في هذا قد دُرْت وهو الفعل اللازم ثم يُنْقل إما بالباء وإما بالألف فيقال: قد دِير بي أو أدَرْت فهذا القياس. ثم جيء بالباء مع الألف فقيل: قد أُدِير بي. كما قيل قد أُسْرِي بي على لغة من قال أسْرى [1] في معنى سَرى لأن إدخال الألف في أول الفعل والباء في آخره للنّقْل خطأ إلا أن يكون قد نقل مرتين إحداهما بالألف والأخرى بالباء. اهـ.

 

 

هامش

قال في اللسان: أسريت بالألف لغة أهل الحجاز، وجاء القرآن العزيز بهما جميعا.

 

 

 

 

==========

النوع السادس والعشرون

معرفة الأضداد

 

 

 

 

هو نوع من المشترك.

 

قال أهلُ الأصول: مَفْهُوما اللفظ المشترك إما أن يَتَباينا بأن لا يُمْكِن اجتماعُهما في الصِّدق على شيء واحد كالحيْض والطُّهْر فإنهما مدلولا القُرْء ولا يجوز اجتماعهما لواحدٍ في زمن واحد. أو يتواصلا فإمّا أن يكونَ أحدُهما جزءًا من الآخر كالممكن العام للخاص أو صفةً كالأسود لذي السواد فيمن سمّي به.

 

وذكر صاحب الحاصل: أن النقيضين لا يُوضع لهما لفظٌ واحدٌ لأنّ المشتركَ يجبُ فيه إفادة التردُّدِ بين معنييه والتردُّد في النقيضين حاصل بالذات لا من اللفظ.

 

وقال غيره: يجوز أن يُوضع لهما لفظٌ واحد من قبيلتين.

 

وقال ألِكْيا في تعليقه: المُشْترك يقعُ على شيئين ضدين وعلى مختلفين غير ضدين فما يقع على الضدين كالجَوْن وجلَلَ وما يقع على مختلفين غير ضدين كالعين.

 

وقال ابن فارس في فقه اللغة: من سُننِ العربِ في الأسماء أن يُسَمُّوا المتضادَّين باسمٍ واحد نحو الجَوْن للأسود والجَوْن للأبيض. قال: وأنكرَ ناسٌ هذا المذهَب وأن العربَ تأتي باسمٍ واحدٍ لشيءٍ وضدّه وهذا ليس بشيء وذلك أنّ الذين رَوَوا أن العربَ تسمِّي السيفَ مُهنََّدًا والفرسَ طِرْفًا هم الذين روَوا أن العربَ تسمِّي المتضادَّين باسمٍ واحد. قال: وقد جرَّدْنا في هذا كتابًا ذَكرْنا فيه ما احتَجُّوا به وذكرنا ردَّ ذلك ونَقْضَه [ فلذلك لم نكرره ].

 

وقال المبرد في كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه:

 

من كلام العرب اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين واختلاف اللفظين والمعنى واحد واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين فأما اختلافُ اللفظين لاختلاف المعنيين فقولك: ذَهَب وجاء وقام وقعد ورجل وفرس ويَدٌ ورِجل.

 

وأما اختلافُ اللفظين والمعنى واحد فقولك: ظَنَنت وحسبْتُ وقعَدت وجلست وذِرَاع وسَاعِد وأنف ومَرْسن.

 

وأما اتفاق اللفظين واختلافُ المعنيين فقولك: وَجدت شيئا إذا أردت وِجْدان الضَّالة ووجَدْت على الرجل من المَوْجدَة ووجدْتُ زيدًا كريمًا أي علمت. وكذلك ضربتُ زيدًا وضربتُ مَثلًا وضربتُ في الأرض إذا أبعدت وكذلك العين عينُ المال والعين التي يُبصر بها وعينُ الماء والعينُ من السحاب الذي يأتي من قِبَل القِبلة وعين الشيء إذا أردتَ حقيقته وعين الميزان.

 

وهذا الضَّرب كثيرٌ جدًا ومنه ما يقعُ على شيئين متضادين كقولهم: جَلَل للكبير والصغير وللعظيم أيضا والجَوْن للأسود والأبيض وهو في الأسود أكثرُ والقوي للقوي والضعيف والرجاء للرغبة والخوف وهو أيضا كثير. انتهى.

 

وقال ابن فارس في فقه اللغة: بابُ أجناس الكلام في الاتفاق والافتراق:

 

يكونُ ذلك على وجوه: فمنه اختلافُ اللفظ والمعنى وهو الأكثرُ والأشهر مثل رجل وفرس وسيف ورمح.

 

ومنه اختلافُ اللفظِ واتّفاقُ المعنى كقولنا: سيفٌ وعَضْب وليثٌ وأسد على مذهبنا في أنّ كلَّ واحدٍ منها فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة.

 

ومنه اتفاقُ اللفظ واختلافُ المعنى كقولنا: عينُ الماء وعين المال وعين الرَّكبَة وعين الميزان.

 

ومنه قَضَى بمعنى حتَم وقضَى بمعنى أمَر وقضَى بمعنى أعْلَم وقضى بمعنى صنَع وقضى بمعنى فرَغ وهذه وإن اختلفت ألفاظها فالأصل واحد.

 

ومنه اتفاقُ اللفظين وتضادُّ المعنى وقد مضى الكلام عليه.

 

ومنه تقاربُ اللفظين والمعنيين كالحَزْم والحَزْن فالحزم من الأرض أرفع من الحَزْن وكالخَضْمِ وهو بالفم كلّه والقَضْم وهو بأطراف الأسنان.

 

ومنه اختلافُ اللفظين وتقارب المعنَيَيْن كقولنا: مدحَه إذا كان حيًّا وأبَّنه إذا كان ميّتًا.

 

ومنه تقارب اللفظين واختلاف المعنيين وذلك قولنا: حَرِج إذا وقع في الحَرَج وتحرَّجَ إذا تباعد من الحرج.

 

وكذلك أثِم وتَأثَّم وفَزِع إذا أتاه الفَزَع وفُزِّعَ عن قَلْبه إذا نُحِّي عنه الفزَع. انتهى.

 

وقال أبو عبيد في الغريب المصنف: باب الأضداد:

 

سمعت أبا زيد سعيد بن أوس الأنصاري يقول: النَّاهِل في كلام العرب: العَطْشان والناهل: الذي قد شرِب حتى رَوي والسُّدْفة في لغة تميم: الظلمة والسُّدْفة في لغةِ قيس: الضوء. وبعضهم يجعلُ السُّدْفة اختلاطُ الضوء والظلمة معًا. كوقتِ ما بين صلاة الفجر إلى الإسفار.

 

وقال أبو زيد: طلَعتَ على القوم أطلع طلوعًا إذا غبتَ عنهم حتى لا يروك وطلَعت عليهم إذا أقبلتَ عليهم حتى يَرَوْك.

 

وقال: لَمَقت الشيء ألْمُقهُ لَمْقًا إذا كتبتُه في لغة بني عقيل وسائر قيس يقولون: لَمَقته: مَحَوْته.

 

وقال: اجْلَعَبَّ الرجل إذا اضطجع ساقطًا واجلعَبَّت الإبل إذا مضت حادَّةً وبعت الشيء إذا بعتَه [ من ] غيرك. وبعتَه: اشتريتَه. وشريت: بعت. واشتريت وشعَبْت الشيء أصلحته وشَعَبته شَقَقتُهُ. وشَعُوب منه. وهي المنيّة لأنها تفرِّق. والهاجد: المصلّي بالليل والهاجد النائم.

 

وقال الأصمعي الجَوْن: الأسود والجَوْنُ: الأبيض والمشِيح: الجادّ والمشيح: الحذر والجَلَل: الشيء الصغير والجلَلَ: العظيم والصَّارِخ: المستغيث. والصارخ: المُغِيث. والإهْماد: السرعة في السير والإهماد: الإقامة.

 

وقال أبو عبيد: التِّلاع: مجاري الماء من أعالي الوادي والتِّلاع: ما انهبط من الأرض. وأخَلفْتُ الرجل في موعده. وأخلفته: وافقتُ منه خُلْفًا. والصّريم: الصبح. والصَّريم: الليل. وعطاء بَثرٌ: كثير. والبَثْر: القليل أيضا. والظّنُّ: يقينٌ وشكّ. والرَّهْوة: الارتفاع والرَّهوة: الانحدار. ووراء تكون خَلْف وقدّام وكذلك دون فيهما. وفرّع الرجل في الجبل: صَعِد. وفرّع: انحدر. ورَتَوْتُ الشيء: شددته وأرْخيته.

 

وقال الكسائي: أفَدْتُ المال: أعطيتهُ غيري وأفَدْتُه: استفَدْتُه وأودعتُه مالًا إذا دفعتُه إليه يكون وديعةً عنده وأودعتَه إذا سألك أن تقبلَ وديعته فقبلتها. وغَبِيت الكلام وغَبِي عني.

 

وقال الأمويّ: ليلةٌ غاضِيةٌ: شديدة الظلمة، ونارٌ غاضِية: عظيمة.

 

وقال غيرُ واحد: الحيّ خلوف: غُيَّب، والخُلوف: المتخلِّفون.

 

وقال الأحمر: أشْكَيْتُ الرجلَ: أتيتُ إليه ما يَشكُوني فيه وأشْكَيْتُه إذا رجَعْتُ له من شكايته إلى ما يحبّ. وسوَاء الشيء: غيرُه وسواؤُه: نَفْسُه ووَسَطه. وأطْلَبْتُ الرجل: أعطيتُه ما طلَب. وأطْلبتُه: ألْجأتُه إلى أن يطلب. وأسررْتُ الشيءَ: أخفيتُه وأعلنته. وبه فُسِّر قوله تعالى: { وَأَسَرُّواْ النَّدَامةَ لمَّا رَأواْ العَذَابَ }: أي أظهروها. والخشِيبُ: السيف الذي لم يحكم عمله والخَشِيب: الصقيل وتهيَّبتُ الشيء وتهيَّبني سواء. والأقْراء: الحيض. والأقراء: الأطهار. والخناذِيذ: الخِصْيان والفُحُولة. وأخفَيْت الشيء: أظْهرته وكتمتهُ. وشِمْتُ السيف: أغمدتُه وسَلَلْتُه. انتهى ما أورده أبو عبيد في هذا الباب.

 

وقال ابن دريد في الجمهرة: البَكّ: التفريق، والبَكّ: الازدحام كأنه من الأضْدَاد.

 

قال: وللشّرَاشِر موضوعان: يقال ألْقى عليه شِرَاشِرَه إذا حماه وحَفِظه، وألقى عليه شَرَاشِره إذا ألْقَى عليه ثقله.

 

قال: وسوى الرجل: غيره وسوَى الرَّجل: الرجلُ بعَيْنِه. يقال: هذا سوى فلان أي فلان بعينه بكسر السين قال حسان بن ثابت: أتانا فلم نَعْدِل سِوَاه بغَيْرهِ نبيّ أتى من عند ذي العَرْش هاديا قال: والغابِرُ الماضي والغابِر: الباقي هكذا قال بعضُ أهل اللغة وكأنه عندهم من الأضداد.

 

وقال أبو زيد في نوادره: البَسْلُ: الحرام والبَسْل أيضا: الحلال وهذا الحرف من الأضداد.

 

وفي أمالي القالي: الجَادي: السائل والمعطي وهو من الأضداد.

 

وفي ديوان الأدب للفارابي: المُغَلَّب: المغلوب كثيرا والمُغلَّب: المَرْمِيُّ بالغلبة وهذا الحرف من الأضداد. وناء: نَهضَ في ثقل وناءَ: سقط من الأضداد. ووَلّى: إذا أقبل: وولَّى إذا أدْبر من الأضداد. والبَيْن: القطع والبَيْنُ: الوَصْل من الأضداد. وأكْرى: زادَ وأكْرى: نقص من الأضداد. والمعبَّد: المُذلَّل والمعبَّد: المُكْرَم من الأضداد. ويقال عزّ عليّ أن تفعل كذا أي اشتدّ وعزَّ أي ضَعُف من الأضداد. والضَّمْدُ: رَطْب الشجر ويابسه والضَّمْد: صَالِحة الغنم وطَالِحتُها والنَّبَل: الكبار والنَبَل: الصغار من الأضداد. والصريخُ: صوتُ المُسْتَصْرخ والصريخُ: المغيث وهو من الأضداد. والشفّ: الربح والشف أيضا: النقصان من الأضداد. ونصَل الخِضَابُ من اللِّحية: سقط منها ونصَلَ السَّهْم فيه: ثبت فلم يخرج من الأضداد. وغَرْض القربة ملؤها وكذا غَرْضُ الحَوْض والغَرْضُ أيضا: النُّقْصان عن المَلْءِ من الأضْداد. وأفْزَعْتُ القوم: أنزلت بهم فَزَعًا وأفزعتهم: إذا نزلوا إليك فأغَثْتَهم من الأضداد.

 

وفي القاموس: الحَوْزُ: السَّوْقُ اللَّيِّن والشديد ضدّ.

 

وفي الصحاح: الرَّسُّ: الإصلاح بين الناس والإفساد أيضا من الأضداد. وعَسْعَس الليلُ: إذا أقبلَ بظلامه وعَسْعَس أدْبر وتقول: أمرست الحبل إذا أعَدْتُه إلى مَجْرَاهُ وأمْرَسْتُه إذا أنْشَبْتُه بين البَكَرَةِ والقَعْوِ وهو من الأضداد. والأشْراط: الأرْذال والأشراط أيضا: الأشرافُ من الأضداد. والغابِر: الباقي: والغابرُ: الماضي وهو من الأضداد. وفلان قِفْوتي أي خِيرتي ممن أُوثره وفلان قفوتي أي تُهمَتي كأنه من الأضداد. والمُكلِّل: الجادُّ يقال: حمل فكلَّلَ أي مضى قدمًا ولم يُحْجِم وقد يكون كلَّلَ بمعنى جَبُن يقال: حمل فما كلَّلَ أي فما كذب وما جَبُن كأنه من الأضداد. ونصلَ السَّهمُ: إذا خرج من النَّصل ومنه قولهم: رماه بأفوق ناصل ويقال أيضا نصل السهمُ: إذا ثبتَ نصلُه في الشيء فلم يخرج وهو من الأضداد. ونصَّلْت السهم تَنْصيلًا نزعتُ نَصْله وكذلك إذا ركبتَ عليه النَّصْل وهو من الأضداد.

 

وقال ثعلب في كتاب مجاز الكلام وتصاريفه: من الأضْداد مَفازة مَفْعَلة من فَوْز الرجل إذا مات ومَفازة من الفوز على جنس التفاؤل كالسليم والمُنَّةُ: القوّة والضَّعف. والساجد: المُنْحَني والمنتصب. والمتظلِّم: الذي يشكو ظُلامته والظالم. والزُّبْية: المكان المرتفع وحفرةُ الأسد. وعَفَا: دَرَس وكَثُر. وقِسط: جارَ وعدَل. والمسجور: المملوء والفارغ. ورَجَوْت: أمَّلت وخِفت. والقَنِيصُ: الصائد والصيد والغَريم: المُطالِب والمُطالَب.

 

وفي أدب الكاتب لابن قتيبة: من ذلك فَوْق تكونُ فوق وتكون بمعنى دون ومنه قوله تعالى: وفي نوادر ابن الأعرابي: من ذلك: القَشِيب: الجديدُ والخَلَق. والزَّوْج: الذكرُ والأنثى. ويقال: جُزْتُك وجُزْتُ بك ومَرَرْتُك ومررتُ بك. وفي كتابِ المقصور والممدود للأندلسي: الشَّرَى: رُذال المال وأيضا خِياره من الأضْداد جمع شراة.

 

وفي المجمل لابن فارس: المجانيق: الإبل الضمّر ويقال: هي السمان وإنها من الأضداد.

 

وفيه حكى ابن دريد: تَظَاهَر القومُ: إذا تَدَابرُوا فكأنه من الأضداد.

 

وفيه: العَقُوق: الحامل وكان بعضُهم يقول: إن العَقُوق: الحائلُ أيضا وذهب إلى أنه من الأضْداد.

 

وفي كتاب المشاكهة في اللغة للأزدي: يقال: حبلٌ متين من الأضداد يقال ذلك للقويِّ والضعيف.

 

وفي الأفْعال لابن القوطية: أقْنَع: رفع رأسه وأقْنعَ أيضا: نكس رأسه من الأضداد. وظَنَنْتُ الشيء ظنًا: تيقَّنته وأيضا شككتُ فيه من الأضداد. وأشجذَ المطرُ: أقلع ودام من الأضداد.

 

وفي القاموس: أكْعَتَ: انطلق مسرعًا وقَعَد ضد. وقَعثَ له العطيةَ: أجزَلها وقَعَثَ له قَعْثةً: أعطاه قليلًا ضدٌّ. والسَّبْح: النَّوم والسكون والتَّقلب والانتشارُ في الأرض ضد. والشَّحْشَح من الأرض: ما لا يَسيلُ إلا من مطرٍ كثير والذي يسيل من أدْنى مطر ضد. وكَشَح الشيءَ: جمعه وفرَّقه ضد. والمَسْح: أن يخلق الله الشيء مُباركًا أو ملعونًا ضد. والنَّجادة: السخاء والبخل ضد. ونشَح نَشْحًا ونشُوحًا: شرب دون الرِّيِّ أو حتى امتلأ ضد. وأسِد: دَهِش وصار كالأسد ضد. وأفِد: أسرع وأبْطأ ضد. وأسْوَدَ: ولَد غلامًا أسْود أو غلامًا سَيّدًا ضد. والعِرْبَدُّ: حيةٌ تَنْفُخُ ولا تُؤْذي وحية حمراء خَبيثة ضد. وغَمِدت الرَّكيَّة: كثُر ماؤُها وقلّ ضد. وقَعَد قامَ ضِدٌّ. والقُعْدُد: القريبُ الآباء من الجَدِّ الأكبر والقُعْدُد: البعيدُ الآباء منه ضد. والمَصْدُ: شدة البرد والحرّ ضد. وأنْشد الضالة: عرَّفها واسْتَرْشَد عنها ضد. والنَّكْدُ: الغزيرات اللبن من الإبل والتي لا لبَن لها ضد. والمُخاوذة: المخالفة والموافقة ضد. والأْزرُ: القوَّة والضعف ضد. وثَأْثَأ الإبل: أرْواها وعطَّشها ضد. وثأثأت الإبلُ: رَويت وعطِشتْ ضد. وجَفا الباب: أغْلقه وفتحه ضد. ودَرَأْتُه: دافعتُه ولايَنْتُه ضد. والحَوْشَبُ: الضامرُ والمنتفخ الجَنْبيْن ضد. وخشَبَه يخشِبُه: خلطه وانْتقاه ضد. والسَّاقِبُ: القريب والبعيد ضد. والطَّرَب: الفرح والحزن ضد. والعَجْباءُ: التي يُتَعجَّب من حسنها أو من قبحها ضد. والإعراب: الفُحْشُ وقبيحُ الكلام والدَّرْءُ عن القبيح ضد. والتَّغْرِيب: أن يأتي بِبَنين بيضٍ وبنينَ سُودٍ ضد. وقرْضَبَ اللحم في البُرْمَة جمعه والشيء فرَّقه ضد. وأنْجَبَ: جاء بولدٍ جبان وشجاع ضدّ. والهَلُوبُ: المُتقرِّبة من زوجها والمُتَجنِّبة منه ضد.

فائدة

 

قال ابن درستويه في شرح الفصيح: النَّوء: الارتفاع بمشقّة وثِقَل ومنه قيل للكوكب قد ناءَ إذا طلع وزعم قومٌ من اللغويين أن النَّوْء السقوط أيضا وأنه من الأضداد وقد أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا في إبطال الأضداد. انتهى.

 

فاستفدنا من هذا أن ابن درستويه ممن ذهبَ إلى إنكار الأضداد وأن له في ذلك تأليفًا.

تنبيه

 

قال في الجمهرة: الشَّعْب: الافتراق والشَّعْب: الاجتماع وليس من الأضداد وإنما هي لغة لقوم فأفاد بهذا أنَّ شرط الأضداد أن يكون استعمالُ اللفظ في المعنيين في لغةٍ واحدة.

 

وقال الأزدي في كتاب الترقيص: أخبرنا أبو بكر بن دريد: حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: خرج رجلٌ من بني كلاب أو من سائر بني عامر بن صَعْصعة إلى ذي جَدَنٍ فأُطلع إلى سَطْح والملكُ عليه فلما رآه الملك اختبره فقال له: ثِبْ أي اقعد. فقال: لِيَعْلم الملكُ أنِّي سامعٌ مطيع ثم وثب من السَّطْح فقال الملك: ما شأنُه فقالوا له: أبيتَ اللَّعْن إن الوثب في كلام نزار الطَّمْر. فقال الملك: ليست عربيتُنا كعربيتهم من ظفر حَمَّر. أي من أراد أن يقيم بظَفَار فليتكلم بالحمْيريَّة.

 

وقال القالي في أماليه: الصَّرِيم: الصبح سُمِّي بذلك لأنه انْصَرَم عن اللَّيْلِ والصَّرِيم الليل لأنه انصرَم عن النهار وليس هو عندنا ضدًا. وقال: النُّطْفة: الماءُ تقع على القليل منه والكثير وليس بضدّ.

فائدة

 

ألَّف في الأضداد جماعةٌ من أئمةِ اللغة منهم قطرب والتوّزي وأبو بكر بن الأنباري وأبو البركات بن الأنباري وابن الدهان والصغاني.

 

قال أبو بكر بن الأنباري في أول كتابه: هذا كتابُ ذكر الحروف التي تُوقِعها العرب على المعاني المتضادّة فيكون الحرفُ منها مؤدّيًا عن معنيين مختلفين.

 

ويظنُّ أهلُ البدع والزَّيْغ والازدراء بالعرب أن ذلك كان منهم لِنُقْصانِ حكمتهم وقلَّةِ بلاغتهم وكثرة الالتباس في محاوراتهم عند اتصال مخاطباتهم فيسألون عن ذلك ويحتجون بأن الاسم مُنْبئٌُ عن المعنى الذي تحته ودالٌ عليه وموضحٌ تأويله فإذا اعتور اللفظةَ الواحدة معنيان مختلفان لم يَعْرِف المخاطَبُ أيُّهما أراد المخاطِب وبطل بذلك معنى تعليق الاسم على هذا المسمَّى فأجيبوا عن هذا الذي ظنوه وسألوا عنه بضروب من الأجوبة:

 

أحدها - أن كلامَ العرب يُصَحِّحُ بعضهُ بعضًا ويرتبطُ أوَّلُه بآخره ولا يُعْرَف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه واستكمال جميع حروفه فجاز وقوعُ اللفظة الواحدة على المعنيين المتضادين لأنها تتقدمها ويأتي بعدها ما يدلُّ على خُصُوصيَّة أحد المعنيين دون الآخر فلا يُراد بها في حال التكلم والإخبار إلا معنًى واحد فمن ذلك قولُ الشاعر:

 

كلُّ شيء ما خَلا الموت جَلَلْ ** والفتى يَسْعَى ويُلْهيه الأمَل

 

فدلّ ما تقدم قبل جَلل وتأخر بعده على أن معناه كلُّ شيء ما خلا الموت يسيرٌ ولا يتوهَّم ذو عقل وتمييز أن الجلَلَ هنا معناه عظيم وقال الآخر:

 

يا خَوْلَ يا خَوْلَ لا يَطمع بك الأملُ ** فقد يكذِّب ظنَّ الآمِلِ الأجَلُ

 

يا خَوْل كيف يذوق الغمض معترِف ** بالموت والموتُ فيما بعده جَلَلُ

 

فدلَّ ما مضى من الكلام على أنَّ جَلَلًا معناه يسير. وقال الآخر:

 

قومي هُمُ قتلوا أُمَيْمَ أخي ** فإذا رميتُ يصيبني سهمي

 

فلئن عفوتُ لأعفونْ جَللًا ** ولئن سَطَوْتُ لأُوهِنَنْ عَظْمي

 

فدلَّ الكلام على أنه أراد: فلئِنْ عفَوْتُ لأعفونّ عفوًا عظيمًا لأنّ الإنسان لا يفخرُ بصَفْحه عن ذنب حقير يسير. فلما كان اللَّبس في هَذين زائلًا عن جميع السامعين لم يُنكَر وقوع الكلمة على معنيين مختلفين في كلامين مختلفي اللفظين. وقال تعالى: { الذين يظنُّون أنهم مُلاقُو ربهم } أراد الذين يتيقَّنون ذلك فلم يذهب وهمُ عاقلٍ إلى أن الله تعالى يمدحُ قومًا بالشك في لقائه. وقال تعالى حاكيًا عن يونس: { وذَا النُّونِ إذْ ذَهب مُغاضِبًا فظنّ أن لن نَقْدِر عليه } أراد رَجا ذلك وطَمِع فيه. ولا يقول مسلم: تَيَقَّن يونس أن الله لا يقدر عليه.

 

ومجرى حروف الأضداد مجرى الحروف التي تقع على المعاني المختلفة وإن لم تكن متضادة فلا يُعْرف المعنى المقصود منها إلا بما يتقدَّمُ الحروفَ ويتأخرُ بعده مما يوضح تأويلَه كقولك: حَملٌ للواحد من الضأن وحَمَل اسم رجل لا يُعْرَفُ أحدُ المعنيين إلا بما وصفنا.

 

وكذلك غسَقَ يقع على معنيين مختلفين: أحدُهما أظْلم من غسق الليل والآخر سال من الغَسَاق وهو ما يَغْسِق من صديد أهل النار وفي ألفاظٍ كثيرةٍ يطولُ إحصاؤها تُصْحبها العرب من الكلام ما يدلُّ على المعنى المخصوص منها وهذا الضرب من الألفاظ هو القليلُ الظريفُ في كلام العرب.

 

وأكثرُ كلامهم يأتي على ضربين آخرين:

 

أحدهما - أن يقع اللفظان المختلفان على المعنيين المختلفين كقولك: الرجل والمرأة والجمل والناقة واليوم والليلة وقام وقعد وتكلم وسكت وهذا هو الكثير الذي لا يُحاط به.

 

والضرب الآخر - أن يقعَ اللفظان المختلفان على المعنى الواحد كقولك البُرُّ والحنْطة والعَيْر والحمار والذئب والسيِّد وجلس وقعد وذهب ومضى.

 

وقال أبو العباس عن ابن الأعرابي: كلُّ حرْفين أوقَعَتْهُما العربُ على معنى واحد في كلِّ واحد منهما معنًى ليس في صاحبه ربما عرفناه فأخْبَرْنا به وربما غمض علينا فلم نلزم العرب جهله.

 

وقال: الأسماء كلّها لعلّةٍ خصَّت العربُ ما خصَّت منها من العلل ما نعلمه ومنها ما نجهَلُه، [ قال أبو بكر يذهب ابن الأعرابي ] إلى أن مكة سمِّيت مكة لجذْبِ الناس إليها والبصرة سمِّيت البصرة للحجارة البيض الرِّخْوة بها والكوفة سمِّيت الكوفة لازْدِحام الناس بها من قولهم: تكوّف الرمل تكوُّفًا: إذا ركب بعضُه بعضًا والإنسان سمِّي إنسانًا لنِسْيانِه والبهيمة سمِّيت بهيمة لأنها أُبهِمَت عن العَقْل والتمييز من قولهم: أمر مُبْهَم إذا كان لا يُعرَف بابه [ ويقال للشجاع بهمة لأن مُقاتله لا يدري من أي وجه يوقع الحيلة عليه ].

 

فإن قال قائل: لأي علّة سمّي الرجلُ رجلًا والمرأةُ امرأة والمَوْصِلُ الموصل ودَعْد دَعْدًا قلنا: لِعللٍ علِمَتْها العربُ وجَهِلْناها أو بعضَها فلم تَزُل عن العرب حكمةُ العلم بما لحقَنا من غموض العلة وصعوبة الاستخراج علينا.

 

وقال قطربٌ: إنما أوْقَعت العربُ اللفظتين على المعنى الواحد ليدلُّوا على اتَّسَاعهم في كلامهم كما زَاحفوا في أجزاءِ الشعر ليدلّوا على أن الكلامَ واسعٌ عندهم وأن مذاهبَه لا تضيقُ عليهم عند الخطاب والإطالة والإطناب، [ وقولُ ابن الأعرابي هو الذي نذهب إليه للحجة التي دللنا عليها والبرهان الذي أقمناه فيه ].

 

وقال آخرون: إذا وقع الحرفُ على معنيين متضادّين فالأصلُ لمعنى واحد ثمَّ تداخل [ الاثنان ] على جهة الاتساع فمن ذلك الصَّريمُ يقال للَّيل صريم وللنَّهار صريم لأنّ الليل يَنْصَرِمُ من النهار والنهارَ ينصرم من الليل فأصلُ المعنيين من باب واحد وهو القَطْع وكذلك الصارخُ: المُغِيث والصَّارِخُ المستغيث سمِّيا بذلك لأنَّ المغيثَ يصرخ بالإغاثة والمستغيث يصرخُ بالاستغاثة فأصلهما من باب واحد.

 

وكذلك السُّدفة: الظلمة والسدفة الضَّوء سمِّيا بذلك لأن أصلَ السدفة الستر فكأنَّ النهار إذا أقبل ستر ضوْؤه ظلمةَ الليل وكأنَّ الليلَ إذا أقبل سترت ظلمتُه ضوء النهار.

 

وقال آخرون: إذا وقع الحرف على معنيين متضادّين فمحال أن يكون العربي أوقعَه عليهما بمساواة منه بينهما ولكنّ أحدَ المعنيين لحيٍّ من العرب والمعنى الآخر لحيٍّ غيره ثم سَمِع بعضُهم لغةَ بعض فأخذ هؤلاء عن هؤلاءِ وهؤلاء عن هؤلاء. قالوا: فالجوْنُ الأبيض في لغة حيٍّ من العرب والجوْن الأسود في لغة حيّ آخر ثم أخذ أحدُ الفريقين من الآخر كما قالت قريش: حَسِب يَحْسِبُ. وأخبرنا أبو العباس عن سلمة عن الفراء قال: قال الكسائي: أخذوا يَحْسِب بكسر السين في المستقبل عن قوم من العرب يقولون: حسَب يحسِب فكأنَّ حَسِب من لُغتهم في أنفسهم ويَحْسِب لغة لغيرهم سَمِعوها منهم فتكلَّموا بها ولم يقَعْ أصل البناء على فعِل يَفْعِل.

 

وقال الفراء: قوَّى هذا الذي ذكره الكسائي عندي أني سمعتُ بعضَ العرب يقول: فَضِل يفضُل.

 

قال أبو بكر يذهبُ - الفراء - إلى أن يَفْعُل لا يكون مستقبلًا لفعِل وأن أصل يَفْضُل من لغة قوم يقولون فضَل يَفْضُل فأخذ هؤلاء ضمّ المستقبل عنهم.

 

وقال الفراء: الذين يقولون: مِتَّ أمُوت ودِمت أدوم. أخذوا الماضي من لُغة الذين يقولون: مت أمَات ودمت أدامُ لأن فَعِل لا يكون مستقبله يفعُل.

 

قال أبو بكر: فهذا قولٌ ظريف حسن. انتهى.

 

============

النوع السابع والعشرون

معرفة المترادف

 

 

 

 

قال الإمام فخر الدين: هو الألفاظ المفردةُ الدالة على شيء واحد باعتبارٍ واحد قال: واحترزنا بالإفراد عن الاسم والحدِّ فليسا مُترادفين وبوَحْدة الاعتبار عن المتباينين كالسيف والصارم فإنهما دَلّا على شيءٍ واحد لكنْ باعتبارين: أحدُهما على الذَّات والآخر على الصفة والفرقُ بينه وبين التوكيد أنَّ أحد المترادفين يُفيدُ ما أفاده الآخر كالإنسان والبشر وفي التوكيد يُفيد الثاني تقويةَ الأوّل والفرقُ بينه وبين التابع أن التابع وحدَه لا يفيد شيئا كقولنا: عَطْشان نطْشان قال: ومن الناس من أنْكره وزعم أن كلَّ ما يُظن من المترادفات فهو من المُتباينات إما لأن أحدَهما اسمُ الذات والآخر اسمُ الصفة أو صفةُ الصفة. قال: والكلامُ معهم إما في الجواز ولا شكَّ فيه أو في الوقوع إما من لغتين وهو أيضا معلوم بالضرورة أو من لغةٍ واحدة كالحِنْطَة والبُرِّ والقَمْح وتعسّفات الاشتقاقيين لا يشهد لها شُبْهةٌ فضلًا عن حُجَّة. انتهى.

 

وقال التاج السبكي في شرح المنهاج: ذهب بعضُ الناس إلى إنكار المترادف في اللغة العربية وزعم أن كلَّ ما يُظن من المترادفات فهو من المتباينات التي تتباينُ بالصفات كما في الإنسان والبشر فإن الأول موضوع له باعتبار النسيان أو باعتبار أنه يُؤْنِس والثاني باعتبار أنه بادي البشرة. وكذا الخَنْدَرِيس العُقار فإنّ الأول باعتبار العتق والثاني باعتبار عَقْر الدَّنِّ لِشدَّتها وتكلَّف لأكثر المترادفات بمثلِ هذا المقال العجيب.

 

قال التاج: وقد اختارَ هذا المذهبَ أبو الحسين أحمد بن فارس في كتابه الذي ألَّفه في فقه اللغة والعربية وسنن العرب وكلامها ونقلَه عن شيخه أبي العباس ثعلب. قال: وهذا الكتابُ كَتب منه [[ابن الصلاح] نكتًا منها هذه وعلقتُ أنا ذلك من خطِّ ابن الصلاح. انتهى.

 

قلت: قد رأيتُ نسخةً من هذا الكتاب مقروءةً على المصنف وعليها خطُّه وقد نقلتُ غالبَ ما فيه في هذا الكتاب.

 

وعبارتُه في هذه المسألة: يُسَمّى الشيء الواحدُ بالأسماء المختلفة نحو السيف والمُهَنَّد والحُسام. والذي نقوله في هذا أن الاسم واحدٌ وهو السيفُ وما بعده من الألقاب صفاتٌ ومذهُبنا أن كلَّ صفةٍ منها فمعناها غيرُ معنى الأخْرى. وقد خالف في ذلك قوم فزعموا أنها وإن اختلفت ألفاظُها فإنها ترجع إلى معنى واحد وذلك قولنا: سيفٌ وعَضْب وحُسام.

 

وقال آخرون: ليس منها اسمٌ ولا صفةٌ إلا ومعناه غيرُ معنى الآخر. قالوا: وكذلك الأفعالُ نحو مضى وذَهب وانْطَلق وقعَد وجلَس ورَقد ونام وهجع قالوا: ففي قعد معنى ليس في جلس وكذلك القول فيما سواه وبهذا نقول وهو مذهب شيخنا أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب.

 

واحتجَّ أصحابُ المقالة الأولى بأنه لو كان لكل لفظةٍ معنى غيرُ معنى الأخرى لما أمكنَ أن نعبِّر عن شيء بغير عبارة وذلك أنا نقول في { لا ريب فيه }: لا شكَّ فيه فلو كان الريبُ غيرَ الشك لكانت العبارةُ عن معنى الريب بالشك خطأ فلما عُبِّرَ بهذا عن هذا عُلم أن المعنى واحد. قالوا: وإنما يأتى الشاعرُ بالاسمين المختلفين للمعنى الواحد في مكان واحد تأكيدًا ومبالغةً كقوله: * وهند أتى من دونها النَّأْي والبعد * قالوا: فالنَّأْيُ هو البعد. ونحن نقول: إن في قعد معنًى ليس في جلس ألا ترى أنا نقول: قام ثم قعد وأخذه المقيم والمقعد وقعدت المرأة عن الحيض وتقول لناسٍ من الخوارج قَعَد ثم تقول كان مضطجعًا فجلس فيكون القعودُ عن قيام والجلوسُ عن حالة هي دون الجلوس لأن الجَلْس المرتفع والجلوسُ ارتفاعٌ عما هو دونه وعلى هذا يجري الباب كلُّه.

 

وأما قولُهم: إن المعنيين لو اختلفا لما جاز أن يعبَّر عن الشيء بالشيء فإنا نقول: إنما عُبِّر عنه من طريق المُشاكلة ولسنا نقول: إن اللفظتين مختلفتان فيلزمنا ما قالوه وإنما نقولُ: إن في كل واحدةٍ منها معنًى ليس في الأخْرى. انتهى كلام ابنِ فارس.

 

وقال العلامة عز الدين بن جماعة في شرح جمع الجوامع: حكى الشيخ القاضي أبو بكر بن العربي بسنده عن أبي علي الفارسي قال: كنتُ بمجلس سيف الدولة بحلَب وبالحضرة جماعة من أهل اللغة وفيهم ابن خالويه فقال ابن خالويه: أحفظ للسيفِ خمسين اسمًا، فتبسّم أبو علي وقال: ما أحفظ له إلا اسمًا واحدًا وهو السيف. قال ابن خالويه: فأين المُهَنَّد والصَّارِم وكذا وكذا؟ فقال أبو علي: هذه صفات؛ وكأن الشيخ لا يفرق بين الاسم والصفة.

 

وقال الشيخ عز الدين: والحاصلُ أنّ من جَعَلها مترادفةً انظر إلى اتحادِ دلالتها على الذاتِ ومن يمنع ينظر إلى اختصاص بعضها بمزيدِ معنى فهي تُشْبه المترادفة في الذات والمتباينة في الصفات. قال بعض المتأخرين: وينبغي أن يكون هذا قسمًا آخر وسماه المتكافئة. قال: وأسماءُ الله تعالى وأسماءُ رسول الله ﷺ من هذا النوع فإنك إذا قلت: إن الله غفور رحيم قدير تطلقها دالةً على الموصوف بهذه الصفات. قال الأصفهاني: وينبغي أن يُحمل كلامُ من مَنع على مَنْعه في لغةٍ واحدة، فأما في لغتين فلا يُنْكِرُه عاقلٌ.

فوائد

 

الأولى - قال أهلُ الأصول: لِوُقُوعِ الألْفاظ المترادفة سببان:

 

أحدهما: أن يكون من واضِعَين وهو الأكثر بأن تَضع إحدى القبيلتين أحدَ الاسمين والأخرى الاسمَ الآخر للمُسَمَّى الواحد من غير أن تشعرَ إحداهما بالأخرى ثم يَشتَهر الوضعان ويخفى الواضعان أو يلتبس وَضْع أحدهما بوضع الآخر وهذا مبنيٌّ على كون اللغاتِ اصطلاحية.

 

والثاني: أن يكون من واضع واحد وهو الأقل وله فوائد: منها: أن تكثر الوسائل - أي الطرق - إلى الإخْبارِ عما في النفس فإنه ربما نسي أحد اللفظين أو عسر عليه النطقُ به وقد كان بعضُ الأذكياء في الزمن السالف ألْثَغ فلم يُحْفظ عنه أنه نطَق ومنها: التوسُّع في سلوك طرُقِ الفصاحة وأساليب البلاغة في النَّظم والنثر وذلك لأن اللفظ الواحدَ قد يتأتَّى باستعماله مع لفظ آخر السَّجْعُ والقافيةُ والتَّجْنِيسُ والتَّرصِيعُ وغير ذلك من أصناف البديع ولا يتأتَّى ذلك باستعمال مُرادفه مع ذلك اللفظ.

 

الثانية: ذهب بعض الناس إلى أن الترادفَ على خِلاف الأصْل والأصلُ هو التباينُ وبه جزَم البيضاوي في مِنهاجه.

 

الثالثة: قال الإمام: قد يكونُ أحدُ المترادِفين أجْلَى من الآخر فيكون شرحًا للآخر الخفيِّ وقد ينعكس الحالُ بالنسبة إلى قومٍ دون آخرين. قال: وزعم كثيرٌ من المتكلّمين أن التحديداتِ كلَّها كذلك لأنها تبديلُ اللَّفط الخفيِّ بلفظٍ أجلى منه قال: ولعلّ ذلك يصحُّ في البسائط دون المركبات.

 

الرابعة: قال ألكِيَا في تعليقه في الأصول: الألفاظُ التي بمعنى واحد تنقسم إلى ألفاظٍ متواردة وألفاظ مترادِفة فالمتواردة كما تسمى الخمر عَقَارًا وصَهْباء وقَهْوَة والسبع أسدًا ولَيْثًا وضِرْغامًا. والمترادفةُ هي التي يُقام لفظ مقام لفظٍ لمعانٍ متقاربة يجمعُها معنًى واحد كما يقال: أصلحَ الفاسد ولمّ الشعث ورتَقَ الفَتْق وشَعَبَ الصَّدع. انتهى.

 

وهذا تقسيم غريب.

 

الخامسة: ممن ألّف في المترادف العلامة مجد الدين الفيروزأبادي صاحب القاموس ألّف فيه كتابًا سمّاهُ الروض المَسْلُوف فيما له اسمان إلى ألوف.

 

وأفرد خلْقٌ من الأئمة كتبًا في أسماء أشياء مخصوصة فألف ابن خالويه كتابًا في أسماء الأسد وكتابًا في أسماء الحيَّة.

ذكر أمثلة من ذلك

 

العَسل له ثمانون اسمًا أوردها صاحب القاموس في كتابه الذي سماه ترقيق الأسل لتصفيق العسل.

 

وهي هذه: العَسَل والضَّرْب والضَّرَبَة والضَّرِيب والشَّوْب والذَّوْب والحَمِيت والتَّحْمُوت والجلْس والوَرْس والأرْيُ والإذوَاب واللّوْمَة واللِّئْم والنَّسِيل والنَّسِيلَة والطَّرْم والطِّرم والطرام والطِّرْيَم والدستفشار والمُسْتَفْشَار والشَّهْد والشُّهْد والمِحْرَان والعُفَافَة والعُنْفُوان والماذِيّ والماذِية والطُّن والطَّنّ والبِلِّة والبَلَّة والسَّنُّوت والسِّنَّوْت والسنوة والشَّراب والغَرَب والأَسُّ والصَّبِيب والمَزْجُ والمِزْج ولُعَابُ النَّحْلِ والرُّضَاب ورُضاب النَّحْل وجَنى النحل ورِيْقُ النحل وقَيءُ الزنابير والشَّوْر والسَّلْوى ومُجاج النَّحْل والثَّوَابُ والحافِظُ والأمين والضَّحْل والشِّفاء واليمانيَّة واللَّوَاص والسَّلِيق والكُرْسُفِي واليَعْقِيد والسُّلْوانة والسُّلْوَان والرَّخْفُ والجَنَى والسُّلاف والسُّلافَة والسَّرو والشرو والصميم والجُثُّ والصَّهْباء والخِيم والخُوُّ والضج والسَّدَى والرَّحِيق والرُّحَاق والصَّمُوت والمَجُّ والمجلب والحَلَب والعِكْبِرُ والنَّحل والأصبهانية.

 

قلت: ما اسْتَوْفى أحدٌ مثلَ هذا الاستيفاء ومع ذلك فقد فاتَه بعضُ الألفاظ: أنشد القالي في أماليه: * ولَذٍّ كطَعْمِ الصرْخَدِيِّ تَرَكْتُه * وقال: الصَّرْخَدي: العسل، كذا قاله أبو المياس، وقال ابن دريد: الصَّرْخَدِي: الخمر. وفي أمالي الزجاج من أسامي العسل: السعَابِيب.

 

ومن أسماء السيف كما ذكر ابن خالويه في شرح الدريدية: الصَّارِم والرِّدَاء والخليل والقَضِيب والصَّفِيحة والمُفَقَّر والصَّمْصَامة والمَأْثُور والمِقْضَب والكَهام والأنِيث والمِعْضَد والجُرَازُ واللَّدْن والفُطَار وذُو الكَريهة والمَشْرَفيّ والقُسَاسِيّ والعَضْب والحُسام والمُذَكَّر والهُذام والهَذُوم والمُنْصَل والهَذَّاذ والهَذْهَاذِ والهُذَاهِذ والمِخْصَل والمِهْذَم والقاضِب والمُصَمِّم والمُطَبِّق والضَّرِيبة والهِنْدُوَاني والمُهَنَّد والصَّقيل والأبْيض والغَمْر والعَقِيقة والمتين وهو الذي لا يقطع والهِنْدِكيّ أيضا في شعر كثير.

 

وفي أمالي القالي: الكِركِرَة والكَلْكَل والبَرْك والبِرْكة والجَوشن والجَوش والجُؤْشوش والمِحْزَم قال: ويقال أخذه بأجْمَعِه وأجْمُعه وبحذَافِيره وجَذَاميره وجَزامِيره وجَرَامِيزه وبرَبَّانِه وبرُبَّانه وبِصنَايَتِه وبسَنايَتِه وبِجَلْمَتِه وبِزَغْبَرهِ وبزِغْبِرِه وبِزَوْبَرِه وبزَأبرَه وبصُبْرَتِه وبأصْبَاره وبزَأْبِجِه وبزَأْمَجه وبأصِيلته وبِظَلِيفته وبأزْمَله كله أخذه جميعًا.

 

وفي أمالي الزجاجي قال أخبرنا نفْطويه عن ابنِ الأعرابي قال يقال: للعَمامة هي العَمامة والمشْوَذ والسِّبّ والمقعطة والعِصَابة والعِصَاب والتّاج والمِكْوَرة.

 

وذكر أيضا أنه يقال: جاء الرجل مُتَخَتّمًا أي مُتعمِّمًا أحسن تختيمة أي تعميمة، هذا حرف حكاه ابن الأعرابي.

 

وقال ابن السكيت: العرب تقول: لأُقيمنَّ مَيلك وجَنَفَك ودَرْأك وصَغَاك وصدَعك وقَذَلك وضِلَعك كلُّه بمعنى واحد.

 

وفي أمالي ثعلب: يقال: ثوب خَلَق وأخْلاق وسَمَل وأسْمال ومَزِق وشَبَارِق وطرائق وطرائد ومَشْق وهِبَب وأهباب ومُشَبْرَق وشمارق وخِبَب وأخْباب وخَبَائِب وقَبائل وَرعابِيل وَذَعالِيب وشماطيط وشَرَاذِم ورُدُم وهِدْم وأهْدَام وأطْمَار بمعنى.

 

وفي أمالي ثعلب يقال: أزَم فلان وأطْرق وأسكت وألْزم وقَرْسَم وبَلدَم وأسْبَط بمعنى أزم.

 

قال ثعلب: وأغرب ما فيه بضكت.

 

يقال: فعلت ذلك من أجْلِك وإجْلك وأجْلكَ وإجْلالك وجَلالِك وجَلَلك وجَرَّاك، بمعنًى.

 

يقال: وقع ذلك في روعي وخَلَدي ووَهْمي بمعنى واحد.

 

وفي أمالي القالي: النَّفْنَف واللوح والسُّكاك والسُّكاكة والسَّحاح والكبد والسَّهى: الهواءُ بين السماءِ والأرض.

 

قال: والشَّرْخُ والسِّنْحُ والنُّجار والنِّجار والنَّجْر والسِّنْخُ بالخاء والسِّنج بالجيم والأُرُوم والأُرُومَة والبُنْكُ والعُنْصُر والضِّئْضِئُ والبُؤْبُؤُ والعِرْق والنُّحاسُ والنَّحاس والعِيصُ والأُسُّ والإسُّ والأصُّ والجِذْم والإرْثُ والسِّرُّ والمرَكَّبُ والمنْبِت والكِرْس والقَنْسُ والجِنْثُ والحِنْجُ والبِنْج والعِكْر والمِزرُ والجذْر والجَذْر والجُرْثُومة والنِّصَاب والمَنْصِب والمَحْتِد والمَحْكد والمَحْفِد والطِّخْس والإرْسُ والقِرْقُ والضَّنْء. هذه الألفاظ كلها معناها الأصل.

 

وزاد ثعلب في أماليه: الأُسْطُمّة والصُّيَّابة والصوَّابة والرَّباوة والرَّبا.

 

وفي أمالي ثعلب يقال: سُويداء قلبه وحبَّة قلبه وسواد قَلْبه وسَوَادة قَلْبهِ وجُلْجُلان قلبه وسَوْداء قلبه، بمعنى.

 

يقال: ضربه فهوَّره وجَوّره وقطّله وقَعْطَله وجَرْعَبه وبَرْكَعه وجَعْفَلَه وبَرْتَعه إذا صَرَعه.

 

يقال: نزلت بسَحْسحه وعَقْوته وعَرْصَته وعَذِرَته وساحَتِه وعَقاتِه وعُقاره وعِرَاقه وعرقاته وحراء وقصاء.

 

وقال القالي في أماليه: حدثني أبو بكر بن دريد رحمه الله قال حدثني أبو عبد الله محمد بن الحسين قال حدثنا المازني قال: سمعتُ أبا سِرَار الغنَوي يقرأ: { وإذ قَتَلْتُم نَسَمَةً فادَّارَأْتُم فيها } فقلت له: إنما هي نفسًا، فقال: النَّسمة والنَّفْس واحد.

 

وفي الجمهرة: قال أبو زيد: قلت لأعرابيٍّ ما المحبَنْطئ؟ قال: المتكاكئ. قلت: ما المتكأكئ؟ قال: المتآزف. قلت: ما المتآزف؟ [1] قال: أنت أحمق.

 

 

هامش

المحبنطئ: رجل حبنطأ: سمين ضخم البطن، ويقال هو الممتلئ غيظا. المتكأكئ: القصير. المتآزف: القصير للتداني.

 

 

 

 

============

النوع الثامن والعشرون

معرفة الإتباع

 

 

 

 

قال ابن فارس في فقه اللغة: للعرب الإتباعُ، وهو أن تُتْبَع الكلمةُ الكلمةَ على وزْنِها أو رَويِّها إشباعًا وتأكيدًا. ورُوِي أنه بعضَ العرب سُئِل عن ذلك فقال: هو شيءٌ نَتِدُ به كلامنا. وذلك قولهم: ساغِبٌ لاغِب وهو خَبٌّ ضَب وخَرابٌ يَباب. وقد شاركت العَجَمُ العربَ في هذا الباب. انتهى.

 

وقد ألّف ابن فارس المذكور تأليفًا مستقلًّا في هذا النوع وقد رأيتُه مرتَّبًا على حروفِ المُعْجَم وفاته أكثرُ مما ذكرَه وقد اختصرتُ تأليفَه وزدتُ عليه ما فاتَه في تأليف لطيفٍ سميتُه الإلماع في الاتباع.

 

وقال ابن فارس في خطبة تأليفه المذكور: هذا كتاب الإتباع والمزاوجة، وكلاهما على وجهين: أحدهما أن تكونَ كلمتان مُتَواليتان على رَوِيٍّ واحد. والوجهُ الآخرُ أن يختلف الرَّوِيَّانِ. ثم يكون بعد ذلك على وجهين: أحدهما - أن تكونَ الكلمةُ الثانيةُ ذات معنى. والثاني - أن تكونَ الثانية غيرَ واضحةِ المعنى ولا بيِّنة الاشتقاق إلا أنها كالإتْبَاعِ لما قَبْلها. انتهى.

 

وقال أبو عبيد في غريب الحديث: في قوله ﷺ في الشُّبْرم إنه حارٌّ يارٌّ.

 

قال الكسائي: حارٌّ من الحرارة ويارٌّ إتباع كقولهم: عطْشان نَطْشان وجائِع نائع وحَسَن بَسن، ومثلُه كثيرٌ في الكلام وإنما سُمِّي إتباعًا لأنّ الكلمةَ الثانية إنما هي تابعةُ للأولى على وجْه التوكيد لها وليس يتكلم بالثانية منفردةً فلهذا قِيل إتْباع.

 

قال: وأما حديثُ آدم عليه السلام [ أنه استحرم ] حين قُتِل ابُنه فمكث مائة سنةٍ لا يضحَك ثم قيل له: حيَّاك الله وبيَّاك. قال: وما بيَّاك قيل: أضْحَكك. فإن بعضَ الناس يقول في بيَّاك إنه إتْباع وهو عندي على ما جاء تفسيره في الحديث إنه ليس بإتباع وذلك أن الإتباع لا يكادُ يكونُ بالواو وهذا بالواو.

 

ومن ذلك قول العباس في زمزم: هي لشارب حِلّ وبِلّ، فيقال إنه أيضا اتباع وليس هو عندي كذلك لمكان الواو.

 

وأخبرني الأصمعي عن المعتمر بن سليمان أنه قال: بلّ هو مُباح بلغة حمير. قال: ويُقال: بلّ: شفاء من قولهم: قد بلّ الرجل من مَرَضه وأبلّ إذا برأ. انتهى كلام أبي عبيد.

 

وقال التاج السبكي في شرح منهاج البيضاوي: ظنّ بعضُ الناس أن التابعَ من قبيل المترادِف لشَبَهه به والحقُّ الفرق بينهما فإن المترادفين يفيدان فائدةً واحدة من غيرِ تَفاوت والتابعُ لا يفيد وحْدَه شيئا بل شرط كونه مفيدًا تقدّم الأول عليه كذا قاله الإمام فخر الدين الرازي.

 

وقال الآمدي: التابعُ لا يفيد معنًى أصلًا ولهذا قال ابن دريد: سألتُ أبا حاتم عن معنى قولهم بسن فقال: لا أدري ما هو.

 

قال السبكي: والتحقيقُ أن التابع يفيد التَّقوية فإن العرب لا تضعه سُدًى وجَهْلُ أبي حاتم بمعناه لا يضرّ بل مقتضى: قوله إنه لا يدْري معناه أن له معنى وهو لا يَعْرِفه.

 

قال: والفرق بينه وبين التأكيد أن التأكيد يفيدُ من التقوية نَفْيَ احتمال المجاز: وأيضا فالتابعُ من شرطه أن يكون على زِنة المتبوع والتأكيد لا يكون كذلك.

 

وقال القالي في أماليه: الإتباعُ على ضربين: ضرب يكون فيه الثاني بمعنى الأول فيُؤْتى به توكيدًا لأنّ لفظَه مخالفٌ للأول وضرب فيه معنى الثاني غير معنى الأوّل فمن الأول قولهم: رجل قَسِيم وسيم وكلاهما بمعنى الجميل. وضَئِيل بئيل فالبَئيل بمعنى الضَّئيل وجديد قَشِيب والقشيب: هو الجديد ومُضِيع مُسِيع والإساعة هي الإضاعة وشيطان لَيْطان: أي لَصُوق لازم للشرّ من قولهم: لاطَ حبُّه بقلبي أي لَصِق. وعَطْشان نَطْشان: أي قَلِق. وأسْوَان أتْوان: أي حزين متردّد يَذْهب ويجيء من شدّة الحزن.

 

وقال ثَعْلَبُ في أماليه: قال ابن الأعرابي: سألتُ العرب أي شيء معنى شيطان ليْطان فقالوا: شيء نَتِد به كلامنا: نشدّه.

 

وقال القالي في أماليه في قولهم حَسَنٌ بَسَنٌ يجوز أن تكون النون في بَسنٍ زائدة كما زادوها في قولهم امرأة خَلْبَن وهي الخَلّابة. وناقة عَلْجَن من التَّعَلّج وهو الغِلَظ [ وامرأة سِمْعنّة نِظْرنّة وسُمْعنّة نُظْرنّة إذا كانت كثيرة النظر والاستماع ] فكأن الأصل في بَسَنِ بسّا وبسٌّ مصدر بَسَسْت السويق أبُسُّه بسًا. [ فهو مَبْسوس إذا لتّته بسمن أو زيت ليكمل طِيبُه ] فوُضِع البَسَّ في موضع المبسوس [ وهو المصدر ] كقولهم هذا درهمٌ ضَرْب الأمير أي مَضْرُوبه. ثم حُذِفت إحْدى السِّينين تخفيفًا وزيد فيه النونُ وبُني على مثال حَسَن فمعناه حَسن كامل الحُسْن قال: وأحْسَنُ من هذا المذهب الذي ذكرناه أن تكون النون بدلًا من حَرْف التضعيف لأن حروف التضعيف تبدل منها الياء مثل تظنّيت وتقصّيت لأنّ الياء والنون كلاهما من حروف الزيادة ومن حروف البدل وآثروا هنا النون على الياء لأجل الإتباع إذ مذهبُهم فيه أن يكون أواخرُ الكلم على لَفْظٍ واحد مثل القوافي والسَّجع ولتكون مثل حسن وقولهم: حَسَن قَسَنٌ فَعُمِل فيه ما عمل في بسَن على ما ذكرنا والقسُّ تَتَبُّع الشيء وطلبه وتطلبه فكأنه حَسَنٌ مَقْسُوس أي مَتْبُوع مطلوب. انتهى.

ذكر أمثلة من الإتباع

 

قال ابن دريد في الجمهرة: باب جمهرة من الإتباع:

 

يقال: هذا جائِع نائِع والنَّائع المُتمايل. قال: مُتأوِّد مثل القضيب النَّائع. وعَطْشان نَطْشان من قولهم: ما به نَطيش أي حركة. وحَسَن بَسَن. قال ابن دريد: سألت أبا حاتم عن بَسَن فقال: لا أدري ما هو، ومليح قَزِيح من القزْح وهو الأبْزار. وقَبِيح شَقيح من شَقَّحِ البُسْرُ إذا تغيَّرت خُضْرَته ليحمرّ أو ليصفر وهو أقبح ما يكون حينئذ. وشَحِيح بَحيح بالباء من البحّة ونَحيح بالنون من نحَّ بحمله. وخَبيث نَبيث كأنه يَنْبُثُ شَرَّه أي يستخرجه. وشَيطان لَيْطان. وخَزْيان سَوْآنُ. وعَيٌّ شوِيّ من شَوي المال أي رديئه. وسَيْغٌ لَيْغ وسائِغٌ لائغ. وهو الذي يَسُوغ سهلًا في الحَلْق. وحارٌّ يَارٌّ وحَرَّانٌ يَرَّان وكَثِير بَثِير وبَذِير عَفِير يوصف به الكثرة. وحقيرٌ نَقِير. وتقول العرب: اشتبكت الوَبْرة والأرْنَب فقالت الوبرة للأرْنب: أرَانِ أرَانْ عَجُز وكتفان وسائرك أُكْلَتان فقالت الأرنبُ للوبرة: وَبْر وَبْر عَجُز وصدر وسائرك حَقِرٌْ نَقِرٌ وضَئِيل بَئِيل وخَضِر مَضِر. وعِفْريت نِفْريت وعِفْرِيَةٌ نِفْرِية وفَقِهِ نَقِه وكَزّ لَزٌّ وواحد قاحِد وقالوا فارد ومائِق دائق وحائِرَ بائر وسَمِج لَمِج وشَقِيح لَقِيح فهذه الحروف إتباع لا تفرد. وتجيء أشياء يمكن أن تُفرد نحو قولهم: غَنيّ مَلي وفَقِير وَقير. والوَقْرُ: هَزْمَةٌ في العظم. وجَديد قشيب. وخائب هائب. وما لَه عالَ ولا مالَ. ولا بارك الله فيه ولا دارَك. وعَرِيض أرِيض. والأريض: الحَسَن. وثَقِفٌ لَقِف أي جيّد الالْتفاف. وخَفِيف ذَفِيف: أي سريع. فأما قولهم: حِلّ وبِلّ. فالبِلّ: المباح - زعموا. وقولهم: حيّاك الله وبيّاك فبيّاك: أضحكك - زعموا وقال قوم: قرّبك وأنشدوا:

 

لما تَبَيَّيْنَا أبا تميم ** أعطى عطاء الماجِدِ الكريم

 

وقال في موضع آخر من الجمهرة: وأما قولهم: حِلّ وبِلّ فقال قومٌ من أهل اللغة: بلّ إتباع. وقال قوم: بل - البلّ: المباح لغة يمانية زاد ابن خالويه وقيل: بل شفاء.

 

وعقد أبو عبيد في الغريب المصنف بابًا للإتباع فمما ذكر فيه: عَييٌّ شَييٌّ وبعضهم يقول شَوِيٌّ وما أعياه وأشياه وأشواه وجاء بالغيّ والشّي. وأحْمقُ فاكٌّ تاكٌّ وضالّ تال. وجاء بالضَّلالة والتَّلالة وهو أسْوان أتْوان. أي حزين وسَلِيخ مَلِيخ أي لا طَعْمَ له وما لَه ثل وغل. يدعو عليه وما لَه عافطة ولا نافِطة. فالعافطة: العَنْز تعفط: تَضْرط والنافِطة اتْباع. وحَظِيَتْ المرأة عند زوجها وَبظيت. ورجل حاذِقٌ باذِق. وشيء تافِهٌ نافِهٌ أي حَقِير. ورجل سَهْدٌ مَهْدٌ أي حسن. وما به حَبَضٌ ولا نَبض أي ما يتحرّك. ورطب صَقِرٌ مَقِرٌ أي له صَقر وهو عَسَله. وما له حَمٌ ولارَمٌ ولا حُمٌ ولا رُمٌ أي ماله شيء. وما له سَبَد ولا لَبَد وهو أشِر أفرٌ وأشْران أفْران وإنه لَهذِرٌ مَذِر وعين حَدْرَة بَدْرة. أي عظيمة ورجل سَدْمان نَدْمان. وخازِباز صوت الذباب. ويقال: حَسَنٌ بَسَنٌ قَسَنٌ ولا بارك الله فيه ولا تارَك ولا دارَك. انتهى.

 

وقد استفيد من المثالين الأخيرين أن الإتباع قد يأتي بلفْظين بعد المتبع كما يأتي بَلْفظٍ واحد.

 

وفي الجمهرة أيضا يقولون: شَغِب جَغِبُ وجَغِب إتباع لا يُفْرَد ولَحْمُه حظَا بظا إذا كان كثيرا ولا يفرد بَظَا. هكذا يقول الأصمعي. ووقع فلان في حيْصَ بَيْص وفي حِيصَ بِيْصَ ولا يُفْرَد إذا وقع في ضيق أو فيما لا يتخلّص منه. وجيء به من حَوْث بوْث بتثليث حركة الثاء أي من حيثُ كان. وجاء فلان بحَوث وبوْث أي بالشيء الكثير ويوم عَكّ أكّ وعَكِيك أكِيك: شَديدُ الحرّ وتركهم هَتًّا بتًّا: كسرهم.

 

وفي كتاب إلماع الإتباع لابن فارس: رجل خَيّاب تيّاب وإنه لمجرّب مُدَرّب وخائب لائِب وطَبٌّ لَبّ أي حاذِق وحَرِب جَرِب مُتَوجّع وامرأة خَفُوت لَفُوت ساكنة وفرس صَلَتان فَلَتان نشيط وأحمق هَفات لفات خفيف وتركت خيلُنا أرض بني فلان حَوْثًا بَوْثًا أثارتها. وهو سَمِيج لمِيج وسمهج لمهج أي حُلْوٌ دَسْم وما لي فيه حَوْجاء ولا لَوْجاء ورجلٌ خلاجة ولاجة وفرس غَوْج مَوْجٌ: وَاسِع الخَطْو وشيء خَالِد تَالِد وشيء شَذّ فذّ بذّ ورأس زَعِر مَعِر: قليل الشعر وهو عَزِيز مَزِيز وهُمَزة لُمزة وجاء بالمال من حسه وبسّه ورجل ناعِس واعس وأعْمَش أرْمَش ولا مَحيص عنه ولا مَقِيص ولحم غَرِيض أنِيض وهو غَضّ بَضّ ند وكَثُر الهِياط والمِياط أي العلاج وشائع ذائع وهَائع لائع وهاعٍ لاعٍ: جَبان وصمعة لمعة ذكيّ وأفّ وتُفّ وضعيف نَعِيف وطلق ذلق وسنامٌ سامك تامِكٌ أي مرتفع وهو نذل رذْل وحَشْل فَسْل: دُون وذهب الضَّلال والألال وناقة حَائِل مائل وعَلْجَم خَلْجَم للطَّويل الضَّخْم وخِيم بالمكان ورِيم ورجل عَيْمان أيْمان: فاقدُ الصبر ورجل مهين وهين وزَمِن ضَمِن وخازن مازِن وهيِّن ليّن وحَزْن شَزْن: وَعْر صَعْب.

 

وفي تذكرة الشيخ تاج الدين بن مكتوم بخطه: رجل حقرت نقرت ودَعِب لَعِب وخَصِيٌّ بَصِيّ وفَدْم سَدْم وعَوِز لَوِز وَطَبِنٌ تَبنٌ ومُخْرنْطم مبرنطم وهُلَعة بُلعة وهشّ بَشّ وشديد أديد وأعطيت المال سَهْوًا رَهْوًا وخاشَ ماشَ وهو المتاع.

 

وفي أمالي ثعلب: قال اللحياني يقال: مليةٌ سليةٌ وعَابِس كابس ورَغْمًا دَغْمًا شِنَّغْمًا وإنه لفظّ بَظّ. وهو لك أبدًا سَمْدًا سَرْمدًا وإنه لشَكِسٌ لَكِس، [ شكس أي سيِّئ الخلق، ولكس ] أي عسير. ويقال للخبّ الخبيث: إنه لسَمَلَّع هَمَلّع وهو من نعت الذئب وله من فَرَقَه كَصِص وأصِيص أي انقباض وذُعْر وإنه لأحْمَق بِلْغٌ مِلْغ وإنه لَمِعفِتٌ مِلْفِت إذا كان يَعْفِت في كل شيء ويَلْفِته أي يدقه وَيكْسره. وإنه لسَغِلٌ وغِلٌ وما عنده تعريج على أصحابه ولا تَعْويج أي إقامة. ويقال: حارٌّ جارٌّ يارٌّ إتباع ويقال: إنه لتاكٌّ فاكٌّ ماجّ لا ينبعثُ من الكِبَر يعني البعير وقد يوصف به الرجل. ويقال: رجل صَيِّر شَيِّرٌ إذا كان حسن الصورة حسن الثياب.

 

وفي أمالي القالي: يقولون شَقِيح لَقِيح. وكثيرٌ بذير. كثير بَجير. ووَحِيد قَحِيد. وواحد قاحد. ولحِزٌ لَصِبٌ. فاللحز: البخيل واللصَب: الذي لزم ما عنده. ووتِحٌ شقِن. ووتِيحٌ شقِين أي قليلٌ. وخاسِر دَامِر. وخاسِر دَابر. وخسِر دَمِر. وخَسِر دَبِر. وفَدْم لَدْم أي بليد. ورطب ثعد معد أي ليّن. وجاؤوا أجمعين. فيقولون: أجمعون أكتعون أبْصعون. وضيِّقٌ ليِّقٌ. وضيِّقٌ عيِّق. وسِبَحْل رِبحْل. أي ضخم. وأشقَّ أمق أي طويل.

 

وفي ديوان الأدب للفارابي: أُذُن حَشْرة مَشْرةٌ: لطيفة حسنة ورجل قَشِب خشب إذا كان لا خير فيه إتباع له. وذهب دمُه خضِرًا مَضِرًا إتباع له أي باطلًا. ويقال: أحمق بِلْغٌ مِلْغ إتباع قال رؤبة: * والمِلْغُ يَلْكَى بالكلام الأملغ * فأفرد الملغ. فدل على أنه ليس باتباع. ويقال: ذهبت أبله شَذر مَذَر بَذر إذا تفرّقت في كل وَجْه وكذا تفرّقت إبلهُ شَغر بَغر ومذر اتباعٌ له ومكان عمير بجِير إتباع له.

 

وفي الصحاح: فلان في صَنْعَته حاذِق باذق وهو اتباع له ورجل وَعِقٌ لَعِق اتباع: أي حريص.

 

وفي الجمهرة: عَجُوز شهلة كهْلة إتباع له لا يُفْرد.

 

وفي مختصر العين: رجل كِفِرّين عِفِرّين أي خبيث.

 

وفي الصحاح: إنه لجَوّاس عوّاس أي طلّاب بالليل ورجل أخْرس أضرس اتباع له. وشيءٌ عريض أريض إتباع له وبعضهم يُفْرده. ورجل كَظّ لظّ أي عَسِر متشدّد ومكان بَلْقَع سَلْقع وبلاقِع سَلاقِع وهي الأراضي القِفار التي لا شيء بها قيل هو سلقع إتباع لبَلقع لا يُفْرَد. وقيل هو المكان الحزن وضائع سائع. ورجل مِضْياع مسْياع للمال. ومُضيع مُسِيع. وناقة مسياع مرياع تذهب في المرْعَى وترجع بنفسها. وشفَةٌ باثعة كاثِعة. أي ممتئلة محمرة من الدَّم. ورجل حَطيء نطيء: رذْل.

فائدة

 

قال ابن الدهان في الغرة في باب التوكيد: منه قسم يسمى الإتباع نحو عَطْشان نطْشان وهو داخلٌ في حكم التوكيد عند الأكثر والدليلُ على ذلك كونه توكيدًا للأول غيرَ مبيّن معنى بنفسه عن نفسه كأكتع وأبْصع مع أجمع فكما لا يُنْطق بأكتع بغير أجمع فكذلك هذه الألفاظ مع ما قبلها ولهذا المعنى كررت بعض حروفها في مثل حَسَن بَسن كما فعل بأكتع مع أجمع ومنْ جعلها قسمًا على حِدَة حُجّته مفارقتها أكتع لجريانها على المعرفة والنكرة بخلاف تلك وأنها غيرُ مفتقرة إلى تأكيد قبلها بخلاف أكتع.

 

قال: والذي عندي أن هذه الألفاظ تدخل في باب التأكيد بالتكرار نحو رأيت زيدًا زيدًا ورأيت رجلًا رجلًا وإنما غُيِّر منها حرف واحد لما يجيئون في أكثر كلامهم بالتكرار ويدلُّ على ذلك أنه إنما كرر في أجمع وأكتع العين وهنا كُررت العين واللام نحو حَسَن بسن وشيطان ليْطان وقال قوم: هذه الألفاظُ تسمى تأكيدًا وإتباعًا.

 

وزعم قوم: أن التأكيد غير الإتباع واخُتِلف في الفرق فقال قوم: الإتباع منها ما لم يحسن فيه واو نحو حَسن بَسَن وقَبِيح شَقِيح والتأكيد يحسنُ فيه الواو نحو حِلّ وبِلّ.

 

وقال قوم: الإتباع للكلمة التي يختص بها معنى ينفرد بها من غير حاجة إلى متبوع.==قلت المدون يليه الجزء الثاني ان شاء الله==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج3.كتاب المزهر في معرفة اللغة للسيوطي الجزء الثالث والاخير{من النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي الي الخاتمة}

  النوع الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي  أول ما يلزمه الإخلاص وتصحيح النية لقوله ﷺ: « الأعمال بالنيات » ثم التحري في الأخذ عن الثقات لق...