في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي
الحمد لله خالق الألسن واللغات واضع الألفاظ للمعاني بحسب ما اقتضته حكمه البالغات، الذي علم آدم الأسماء كلها وأظهر بذلك شرف اللغة وفضلها. والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفصح الخلق لسانا وأعربهم بيانا، وعلى آله وصحبه، أكرم بهم أنصارا وأعوانا.
هذا علم شريف ابتكرت ترتيبه واخترعت تنويعه وتبويبه، وذلك في علوم اللغة وأنواعها وشروط أدائها وسماعها، حاكيت به علوم الحديث في التقاسيم والأنواع، وأتيتُ فيه بعجائب وغرائب حسنة الإبداع. وقد كان كثير ممن تقدم يلم بأشياء من ذلك ويعتني في بيانها بتمهيد المسالك، غير أن هذا المجموع لم يسبقني إليه سابق ولا طرق سبيله طارق؛ وقد سميته بالمزهر في علوم اللغة.
وهذا فهرست أنواعه: النوع الأول معرفة الصحيح الثابت الثاني معرفة ما روي من اللغة ولم يصح ولم يثبت الثالث معرفة المتواتر والآحاد الرابع معرفة المرسل والمنقطع الخامس معرفة الأفراد السادس معرفة من تقبل روايته ومن ترد السابع معرفة طرق الأخذ والتحمل الثامن معرفة المصنوع وهو الموضوع ويذكر فيه المدرج والمسروق
وهذه الأنواع الثمانية راجعة إلى اللغة من حيث الإسناد. التاسع معرفة الفصيح العاشر معرفة الضعيف والمنكر والمتروك الحادي عشر معرفة الرديء المذموم الثاني عشر معرفة المطرد والشاذ الثالث عشر معرفة الحوشي والغرائب والشوارد والنوادر الرابع عشر معرفة المهمل والمستعمل الخامس عشر معرفة المفاريد السادس عشر معرفة مختلف اللغة السابع عشر معرفة تداخل اللغات الثامن عشر معرفة توافق اللغات التاسع عشر معرفة المعرب العشرون معرفة الألفاظ الإسلامية الحادي والعشرون معرفة المولد
وهذه الأنواع الثلاثة عشر راجعة إلى اللغة من حيث الألفاظ. الثاني والعشرون معرفة خصائص اللغة الثالث والعشرون معرفة الاشتقاق الرابع والعشرون معرفة الحقيقة والمجاز الخامس والعشرون معرفة المشترك السادس والعشرون معرفة الأضداد السابع والعشرون معرفة المترادف الثامن والعشرون معرفة الإتباع التاسع والعشرون معرفة الخاص والعام الثلاثون معرفة المطلق والمقيد الحادي والثلاثون معرفة المشجر الثاني والثلاثون معرفة الإبدال الثالث والثلاثون معرفة القلب الرابع والثلاثون معرفة النحت
وهذه الأنواع الثلاثة عشر راجعة إلى اللغة من حيث المعنى. الخامس والثلاثون معرفة الأمثال السادس والثلاثون معرفة الآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوة والأخوات والأذواء والذوات السابع والثلاثون معرفة ما ورد بوجهين بحيث يؤمن فيه التصحيف الثامن والثلاثون معرفة ما ورد بوجهين بحيث إذا قرأه الألثغ لا يعاب التاسع والثلاثون معرفة الملاحن والألغاز وفتيا فقيه العرب
وهذه الأنواع الخمسة راجعة إلى اللغة من حيث لطائفها وملحها. الأربعون معرفة الأشباه والنظائر
وهذا راجع إلى حفظ اللغة وضبط مفاريدها. الحادي والأربعون معرفة آداب اللغوي الثاني الأربعون معرفة كتابة اللغة الثالث والأربعون معرفة التصحيف والتحريف الرابع والأربعون معرفة الطبقات والحفاظ والثقات والضعفاء الخامس والأربعون معرفة الأسماء والكنى والألقاب والأنساب السادس والأربعون معرفة المؤتلف والمختلف السابع والأربعون معرفة المتفق والمفترق الثامن والأربعون معرفة المواليد والوفيات
وهذه الأنواع الثمانية راجعة إلى رجال اللغة ورواتها التاسع والأربعون معرفة الشعر والشعراء الخمسون معرفة أغلاط العرب
وقبل الشروع في الكتاب نصدر بمقالة ذكرها أبو الحسين أحمد بن فارس في أول كتابه فقه اللغة.
قال: اعلم أن لعلم العرب أصلا وفرعا؛ أما الفرع فمعرفة الأسماء والصفات، كقولنا: رجل، وفرس، وطويل، وقصير؛ وهذا هو الذي يبدأ به عند التعلم. وأما الأصل فالقول على موضوع اللغة وأوليتها ومنشئها، ثم على رسوم العرب في مخاطبتها، وما لها من الافتنان تحقيقا ومجازا.
والناس في ذلك رجلان: رجل شغل بالفرع فلا يعرف غيره، وآخر جمع الأمرين معا، وهذه هي الرتبة العليا، لأن بها يعلم خطاب القرآن والسنة، وعليها يعول أهل النظر والفتيا؛ وذلك أن طالب العلم اللغوي يكتفي من أسماء الطويل باسم الطويل، ولا يضيره أن لا يعرف الأشق والأمق، وإن كان في علم ذلك زيادة فضل. وإنما لم يضره خفاء ذلك عليه لأنه لا يكاد يجد منه في كتاب الله تعالى شيئا فيحوج إلى علمه، ويقل مثله أيضا في ألفاظ رسول الله ﷺ، إذ كانت ألفاظه ﷺ هي السهلة العذبة.
ولو أنه لم يعلم توسع العرب في مخاطباتها لعيَّ بكثير من علم محكم الكتاب والسنة. ألا تسمع قول الله جل ثناؤه: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة... } إلى آخر الآية. فَسِرُّ هذه الآية في نظمها لا يكون بمعرفة غريب اللغة والوحشي من الكلام، [ وإنما معرفته بغير ذلك مما لعل كتابنا هذا يأتي على أكثره بعون الله تعالى. ] [1]
والفرق بين معرفة الفروع ومعرفة الأصول أن متوسما بالأدب لو سئل عن الجزم والتسويد في علاج النوق، فتوقف أو عَيّ به أو لم يعرفه، لم ينقصه ذلك عند أهل المعرفة نقصا شائنا، لأن كلام العرب أكثر من أن يحصى.
ولو قيل له: هل تتكلم العرب في النفي بما لا تتكلم به في الإثبات، ثم لم يعلمه لنقصه ذلك [ في شريعة الأدب ] عند أهل الأدب، [ لا أن ذلك يرده عن دينه أو يجره لمأثم. ] كما أن متوسما للنحو لو سئل عن قول القائل:
لَهِنَّكِ من عَبسيةٍ لَوسيمةٌ ** على هَنَواتٍ كاذبٍ مَن يقولُها
فتوقف أو فكر أو استمهل لكان أمره في ذلك عند أهل الفضل هينا، لكن [2] لو قيل له مكان "لهنك" ما أصل القسم، وكم حروفه، [ وما الحروف الخمسة المشبهة بالأفعال التي يكون الاسم بعدها منصوبا وخبره مرفوعا ] فلم يجب لحكم عليه بأنه لم يشامَّ صناعة النحو قط.
فهذا الفصل بين الأمرين.
والذي جمعناه في مؤلفنا هذا مفرق في أصناف العلماء المتقدمين [ رضي الله عنهم وجزاهم عنا أفضل الجزاء. ] [3] وإنما لنا فيه اختصار مبسوط أو بسط مختصر أو شرح مشكل أو جمع متفرق. انتهى.
وبمثل قوله أقول في هذا الكتاب، وهذا حين الشروع بالمقصود بعون الله المعبود.
هامش
في بعض النسخ: وإنما معرفته بمعرفة فنون العرب في مخاطباتها. والزيادة من الصاحبي في فقه اللغة.
في النسخ: ولو سئل ما أصل...، والتصحيح من الأصل.
الزيادات الأربع من الأصل.
=====================
النوع الأول
معرفة الصحيح
ويقال له الثابت والمحفوظ.
وفيه مسائل:
الأولى في حد اللغة وتصريفها
قال أبو الفتح ابن جني في الخصائص: حدُّ اللغةِ أصواتٌ يعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم، ثم قال: وأما تَصْريفها فهي فُعْلة من لَغَوْت أي تكلَّمت وأصلها لغوة ككُرَة وقُلَة وثُبَة، كلّها لاماتها واوات. وقالوا فيها لُغاتٌ ولُغُون كثُبَات وثُبُون. وقيل منها لَغِيَ [1] يَلْغَى إذا هَذَى، قال:
وربّ أسراب حَجِيجٍ كُظَّمِ ** عن اللغا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ
وكذلك اللغو، قال تعالى: { وَإذَا مَرُّوا بِاللغو مَرُّوا كِرَامًا } أي بالباطل، وفي الحديث: من قال في الجمعة صَهْ فقد لَغَا. أي تكلَّم. انتهى كلامُ ابن جني.
وقال إمامُ الحرمين في البرهان: اللغةُ من لَغِي [2] يَلْغَى من باب رَضِي إذا لهِج بالكلام، وقيل من لَغَى يَلْغَى.
وقال الأسنوي في شرح منهاج الأصول: اللغاتُ عبارةٌ عن الألفاظ الموضوعةِ للمعانِي.
الثانية في بيان واضع اللغة أتوقيف هي ووحي أم اصطلاح وتواطؤ
قال أبو الحسين أحمد بن فارس في فقه اللغة: اعلم أن لغة العرب توقيف. ودليل ذلك قوله تعالى { وعلم أدم الأسماء كلها }، فكان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها وهي هذه التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وروى خصيف عن مجاهد قال: علمه اسم كل شيء. وقال غيرهما: إنما علمه أسماء الملائكة. وقال آخرون: علمه أسماء ذريته أجمعين.
قال ابن فارس: والذي نذهب إليه في ذلك ما ذكرناه عن ابن عباس. فإن قال قائل: لو كان ذلك كما تذهب إليه لقال: "ثم عرضهن أو عرضها". فلما قال "عرضهم" علم أن ذلك لأعيان بني آدم أو الملائكة، لأن موضوع الكناية في كلام العرب يقال لما يعقل "عرضهم" ولما لا يعقل "عرضها أو عرضهن"؛ قيل له: إنما قال ذلك - والله أعلم - لأنه جمع ما يَعْقِل وما لا يعقل، فغلَّب ما يعقل وهي سُنَّةٌ من سُنن العرب، وذلك كقوله تعالى: { والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبع } فقال: منهم تغليبًا لمن يَمْشي على رِجْلين وهم بنو آدم.
فإن قال: أفتقولون في قولنا سيف وحُسام وعضب إلى غير ذلك من أوصافه إنه توقيف حتى لا يكون شيء منه مُصْطَلَحًا عليه؟ قيل له: كذلك نقولُ، والدليلُ على صحته إجماعُ العلماءِ على الاحتجاج بلغةِ القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثم احتجاجهُم بأشعارهم. ولو كانت اللغة مُوَاضَعةً واصطلاحًا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأوْلَى منَّا فِي الاحتجاج [ بنا ] لو اصطلحنا على لغةِ اليوم؛ ولا فَرْق.
ولعل ظانًا يظنُّ أن اللغةَ التي دللنا على أنها توقيفٌ إنما جاءت جملةً واحدة وفي زمان واحد، وليس الأمر كذلك. بل وقّف الله عز وجل آدم عليه السلام على ما شاء أن يُعَلِّمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه، وانتشر من ذلك ما شاء الله. ثم عَلّم بعد آدم من الأنبياءِ - صلوات الله عليهم - نبيًّا نبيًّا ما شاء الله أن يُعَلِّمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد ﷺ، فآتاه الله من ذلك ما لم يُؤتِه أحدًا قبلَه تمامًا على ما أحسنه من اللغة المتقدمة. ثم قرّ الأمر قَراره فلا نعلمُ لغةً من بعده حدثَتْ. فإن تعمَّل اليوم لذلك متعمِّل وجدَ من نُقَّاد العلم من يَنْفيه ويَرُدّه. ولقد بلَغنا عن أبي الأسود الدؤلي أن امرءا كلَّمه ببعضِ ما أنكَره أبو الأسود فسأله أبو الأسود عنه فقال: هذه لغةٌ لم تَبْلُغْك فقال له: يا بن أخي إنه لا خيرَ لك فيما لم يَبْلُغْني. فعرَّفَه بلُطْف أن الذي تكلَّم به مُخْتَلَق.
وخَلَّة أخرى: إنه لم يبلغنا أن قومًا من العرب في زمانٍ يقاربُ زماننا أجمعوا على تسميةِ شيء من الأشياءِ مُصْطَلِحِين عليه، فكنا نستدلّ بذلك على اصطلاحٍ قد كان قبلَهم.
وقد كان في الصحابة رضي الله عنهم - وهم البُلَغاءُ والفصحاءُ - من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاءَ به، وما عَلِمناهم اصطلَحوا على اختراعِ لغة أو إحْدَاث لفظةٍ لم تتقدمهم. ومعلوم أن حوادثَ العالَم لا تنقضي إلا بانْقِضَائِه ولا تزولُ إلا بِزَواله، وفي كل ذلك دليلٌ على صحَّة ما ذهَبْنا إليه من هذا الباب. هذا كله كلام ابن فارس، وكان من أهل السنة.
وقال ابن جني في الخصائص - وكان هو وشيخه أبو عليّ الفارسي مُعْتَزِلِيَّيْن -: باب القول على أصل اللغة إلهام هي أم اصطلاح. هذا موضع مُحْوِج إلى فَضْل تأمُّل، غير أن أكثَر أهلِ النظر على أن أصلَ اللغةِ إنما هو تواضعٌ واصطلاح، لا وَحْيٌ ولا توقيفٌ، إلا أن أبا علي رحمه الله قال لي يومًا: هي من عند الله واحتج بقوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماءَ كُلَّها }، وهذا لا يتناول موضعَ الخلاف وذلك أنه قد يجوز أن يكونَ تأويلُه: أَقدَرَ آدَمَ على أَنْ واضَعَ عليها. وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا مَحالة؛ فإذا كان ذلك مُحْتَمَلًا غير مُسْتَنْكَر سقط الاسْتِدلال به. وقد كان أبو علي رحمه الله أيضا قال به في بعض كلامه وهذا أيضا رأي أبي الحسن على أنه لم يمنعْ قولَ مَنْ قال إنها تواضعٌ منه وعلى أنه قد فُسِّر هذا بأن قيل إنه تعالى علَّم آدمَ أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات: العربية والفارسية والسريانية والعِبرانية والرُّومية وغير ذلك من سائر اللغات، فكان آدمُ وولدُه يتكلمون بها ثم إن ولدَه تفرَّقوا في الدنيا وعَلِق كلُّ واحد منهم بلغة من تلك اللغات فغَلَبَتْ عليه واضمحلَّ عنه ما سواها لِبُعْدِ عَهْدهم بها. وإذا كان الخبرُ الصحيحُ قد ورد بهذا وجب تَلقِّيه باعتقاده والانطواء على القول به.
فإن قيل: فاللغةُ فيها أسماءٌ وأفعالٌ وحروف وليس يجوز أن يكون المُعلَّمُ من ذلك الأسماءَ [ وحدَها ] دونَ غيرها مما ليس بأسماء، فكيف خَصَّ الأسماءَ وحدَها؛ قيل: اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماءُ أقوى القُبُل الثلاثة، ولا بد لكل كلامٍ مفيدٍ [ منفرد ] من الاسم، وقد تستغني الجملةُ المستقلةُ عن كل واحد من الفعل والحرف؛ فلما كانت الأسماء من القوّة والأوليَّة في النفس على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها عما هو تال لها ومحمول في الحاجة إليه عليها.
قال: ثم لِنعد [ فَلْنقل ] في الاعتلال لمن قال بأنَّ اللغة لا تكون وحْيًا؛ وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصلَ اللغة لا بدَّ فيه من المُوَاضعة قالوا: وذلك بأن يَجْتَمِعَ حكيمان أو ثلاثةٌ فصاعدًا فيحتاجوا إلى الإبانةِ عن الأشياءِ المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سِمَةً ولفظًا إذا ذُكِرَ عُرِفَ به ما مُسَمَّاه ليمتاز عن غيره وليُغْني بذِكْره عن إحْضَاره إلى مرآة العين فيكون ذلك أقربَ وأخَفَّ وأسهلَ من تَكلُّف إحضاره لبلوغ الغرضِ في إبانة حاله، بل قد يُحْتاج في كثير من الأحوال إلى ذِكْر ما لا يمكن إحضارُه ولا إدْنَاؤُه كالفاني وحال اجتماع الضدَّين على المحلِّ الواحد وكيف يكون ذلك لو جاز وغيرُ هذا مما هو جارٍ في الاستحالة والتَّعَذُّر مَجْراه فكأنهم جاؤوا إلى واحد من بني آدم فأومؤوا إليه وقالوا: إنسان إنسان إنسان، فأيّ وقتٍ سُمِع هذا اللفظ عُلِم أن المراد به هذا الضرْب من المخلوق، وإن أرادوا سِمَةَ عَيْنه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا: يد، عين، رأس، قدَم أو نحو ذلك؛ فمتى سُمعت اللفظة من هذا عرف معْنِيُّهَا وهلمَّ جرًّا فيما سوى ذلك من الأسماء والأفعال والحروف.
ثم لك [ من بعد ذلك ] أن تنقلَ هذه المُواضعة إلى غيرها فتقول: الذي اسمهُ إنسان فليجعل مكانه مَرْد والذي اسمهُ رأس فليجعل مكانه سرّ، وعلى هذا بقيةُ الكلام.
وكذلك لو بُدِئت اللغةُ الفارسيَّة فوقعت المُوَاضعة عليها لجاز أن تُنْقَلَ ويُوَلَّد منها لغاتٌ كثيرة من الرومية والزِّنجية وغيرهما؛ وعلى هذا ما نشاهدُه الآن من اختراع الصُّنَّاع لآلاتِ صنائعهم من الأسماء كالنَّجار والصائغ والحائك والبنَّاء وكذلك الملّاح، قالوا: ولكن لا بد لأوَلها من أن يكون متواضعًا عليه بالمشاهدة والإيماء.
قالوا: والقديمُ [ سبحانه ] لا يجوزُ أن يُوصَف بأن يُوَاضِعَ أحدًا على شيء؛ إذ قد ثبتَ أن المُوَاضَعة لا بدَّ معها من إيماءٍ وإشارةٍ بالجارحةِ نحوُ المُومَأُ إليه والمشار نحوه. قالوا والقديمُ سبحانه لا جارحةَ له فيصحُّ الإيماء والإشارة منه بها، فبطل عندهم أن تَصِحَّ المُوَاضعة على اللغة منه تقدست أسماؤه. [3]
قالوا: ولكن يجوزُ أن يَنْقُلَ اللهُ تعالى اللغة التي قد وقَع التواضعُ بين عبادهِ عليها بأن يقولَ: الذي كنتم تعبِّرون عنه بكذا عَبِّروا عنه بكذا، والذي كنتم تسمُّونه كذا ينبغي أن تسمُّوه كذا. وجوازُ هذا منه سبحانه كجوازِه من عبادِه؛ ومن هذا الذي في الأصوات ما يتعاطاه الناسُ الآن من مخالفة الأشْكال في حروف المُعْجَم كالصورة التي توضع للمُعَمَّيات والتراجم؛ وعلى ذلك أيضا اختلفت أقلامُ ذوي اللغات كما اختلفت ألسنُ الأصوات المرتَّبة على مذاهبهم في المواضعات فهذا قولٌ من الظهور على ما تراه.
إلا أنني سألتُ يومًا بعضَ أهله فقلت: ما تنكر أن تصحّ المواضعة من الله سبحانه وإن لم يكن ذا جارحة بأن يُحدث في جسم من الأجسام - خشبةٍ أو غيرها - إقبالًا على شخص من الأشخاص وتحريكًا لها نحوَه ويُسْمع - في حال تحرك الخشبة نحوَ ذلك الشخص - صَوْتًا يضَعُه اسمًا له ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعاتٍ، مع أنه - عزَّ اسمُه - قادرٌ على أن يُقْنِعَ في تعريفه ذلك بالمرَّة الواحدة فتقومُ الخشبة في هذا الإيماء وهذه الإشارة مقامَ جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة، وكما أن الإنسان أيضا قد يجوزُ إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبةٍ نحو المرادِ المتواضَعِ عليه فيقيمها في ذلك مقامَ يده لو أراد الإيماء بها نحوَه.
فلم يُجب عن هذا بأكثرَ من الاعترافِ بوجوبه ولم يخرج من جهته شيء أصلًا فأحكيه عنه، وهو عندي [ و ] على ما تراه الآن لازمٌ لمن قال بامتناع كون مواضعة القديم تعالى لغةً مُرْتجلة غير ناقلة لسانًا إلى لسان، فاعرف ذلك.
وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدَويِّ الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشَحِيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونَزيب الظبْي ونحو ذلك ثم وُلِّدت اللغاتُ عن ذلك فيما بعد.
وهذا عندي وجهٌ صالح ومذهب مُتَقَبَّل.
واعلم فيما بعد أنني على تَقَادم الوقت دائمُ التَّنْقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدَّواعي والخوالج قويَة التَّجاذب لي مختلفةَ جهاتِ التَّغَول على فكري؛ وذلك أنني [ إذا ] تأملتُ حالَ هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدِّقَّة والإرهاف والرِّقَّة ما يملك عليَّ جانب الفكر حتى يكاد يطمحُ به أمامَ غَلْوَةِ السِّحْرِ فمن ذلك ما نَبَّه عليه أصحابنا ومنه ما حَذَوْتُه على أمثلتهم فعرفت بتَتَابُعه وانْقِياده وبُعْدِ مَرَاميه وآماده صحةَ ما وُفِّقُوا لتقديمه منه ولُطْفِ ما أُسْعِدوا به وفُرِق لهم عنه وانْضَاف إلى ذلك واردُ الأخبار المأثورة بأنها من عند الله تعالى، فَقَويَ في نفسي اعتقادُ كونها توقيفًا من الله سبحانه وأنها وحيٌ.
ثم أَقول في ضد هذا: [ إنه ] كما وقع لأصحابنا ولنا وتَنَبَّهوا وتنبهنا على تأمُّل هذه الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن يكونَ الله تعالى قد خَلق مِنْ قبلنا وإن بَعُدَ مَدَاهُ عَنّا مَنْ كان ألطفَ منا أذهانًا وأسْرَعَ خَوَاطِرَ وأجرأ جنانًا، فأقف بين [ تين ] الخلَّتين حسيرًا وأُكاثرهما فأَنْكَفئ مكثورًا. وإن خطر خاطرٌ فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به.
هذا كله كلامُ ابن جني.
وقال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول وتبعهُ تاج الدين الأرموي في الحاصل وسراج الدين الأرموي في التحصيل ما ملخَّصه: النظر الثاني في الواضع: الألفاظُ إما أن تدل على المعاني بذواتها أو بوَضْع الله إياها أو بوَضْع الناس أو بكَون البعْض بوَضْع الله والباقي بوضع الناس والأول مذهب عباد بن سليمان والثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فُورَك والثالث مذهب أبي هاشم وأما الرابع فإما أن يكونَ الابتداءُ من الناس والتَّتِمَّة من الله وهو مذهب قوم أو الابتداءُ من الله والتتمة من الناس وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني.
والمحققون متوقفون في الكل إلا في مذهب عباد ودليل فسادِه أن اللفظَ لو دلَّ بالذات لفَهِم كلُّ واحد منهم كلَّ اللغات لعدم اختلاف الدلالات الذاتية واللازمُ باطلٌ فالملزوم كذلك.
واحتجَّ عبّاد بأنه لولا الدلالةُ الذاتيَّةُ لكان وضعُ لفظٍ من بين الألفاظ بإزاء معنًى من بين المعاني ترجيحًا بلا مُرَجِّح وهو محال.
وجوابُهُ أن الواضعَ إن كان هو الله فتخصيصُه الألفاظَ بالمعاني كتخصيص العالَم بالإيجاد في وقتٍ من بين سائر الأوقات وإن كان هو الناس فلعلَّه لتعيّن الخَطَران بالبال ودليلُ إمكانِ التوقّف احتمالُ خَلْقِ الله تعالى الألفاظَ وَوَضْعِها بإزاء المعاني وخَلْقِ علومٍ ضروريةٍ في ناس بأن تلك الألفاظَ موضوعةٌ لتلك المعانِي ودليل إمكان الاصطلاح إمكان أن يتولّى واحدٌ أو جمعٌ وضَع الألفاظِ لمعانٍ ثم يُفْهِموها لغيرهم بالإشارة كحال الوالداتِ مع أطفالهن وهذان الدليلان هما.
واحتجّ القائلون بالتوقيف بوجوه:
أولها قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } فالأسماء كلها معلّمة من عند الله بالنَّص وكذا الأفعالُ والحروف لعَدم القائل بالفَصْل ولأن الأفعال والحروف أيضا أسماء لأن الاسم ما كان علامةً والتمييزُ من تَصَرُّفِ النحاة لا منَ اللغة ولأنَّ التكلمَ بالأسماء وحْدَها متعذّر
وثانيها أنه سبحانَه وتعالى ذَمَّ قومًا في إطلاِقهم أسماء غيرَ توقيفيّة في قوله تعالى: { إنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا } وذلك يقتضي كونَ البواقي توقيفية.
وثالثها قوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } والأَلْسنةُ اللُّحْمَانية غيرُ مُرادة لعدم اختلافها ولأن بدائعَ الصُّنْع في غيرها أكثرُ فالمراد هي اللغات.
ورابعها - وهو عقلي - لو كانت اللغاتُ اصطلاحية لاحْتِيج في التخاطب بوَضْعِها إلى اصطلاحٍ آخر من لغةٍ أو كتابةٍ ويعودُ إليه الكلامُ ويلزم إما الدَّور أو التسلسلُ في الأوضاع وهو محال فلا بد من الانتهاءِ إلى التوقيف.
واحتجَّ القائلون بالاصطلاح بوَجْهين:
أحدهما لو كانت اللغاتُ توقيفيةً لتقدَّمت واسطةُ البعثةِ على التوقيف والتقدّمُ باطلٌ وبيانُ الملازمة أنها إذا كانت توقيفيةً فلا بدَّ من واسطة بين الله والبشر وهو النبيُّ لاسْتِحالة خطابِ الله تعالى مع كلِّ أحد وبيانُ بُطْلان التَّقَدُّم قوله تعالى: { ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } وهذا يَقْتَضِي تقدُّمَ اللغة على البعثة.
والثاني لو كانت اللغاتُ توقيفيةً فذلك إما بأن يَخْلُق الله تعالى عِلمًا ضروريًّا في العاقل أنَّه وَضَع الألفاظ لكذا أو في غير العاقل أو بألا يخلقَ علمًا ضروريًا أصلًا والأولُ باطلٌ وإلا لكان العاقلُ عالمًا بالله بالضرورة لأنه إذا كان عالمًا بالضرورة بكَوْن اللهِ وضَع كذا لِكَذا كان علمُه بالله ضروريًّا ولو كان كذلك لبطَلَ التكليفُ والثاني باطلٌ لأن غيرَ العاقل لا يمكنُه إنهاءُ تمام هذه الألفاظ والثالثُ باطل لأن العلمَ بها إذا لم يكن ضروريًا احتيج إلى توقيفٍ آخر ولَزِم التسلسل.
والجواب عن الأولى من حُجَجِ أصحابِ التوقيف: لِمَ لا يَجُوزُ أن يكون المرادُ من تعليم الأسماء الإلهامَ إلى وضْعها ولا يقالُ: التعليمُ إيجادُ العلم فإنا لا نُسَلِّم ذلك بل التعليم فعلٌ يترتب عليه العلم ولأجله يُقال علَّمْتُه فلم يتعلَّم. سلمنا أن التعليمَ إيجاد العلم لكن قد تقرّر في الكلام أن أفعالَ العباد مخلوقةٌ لله تعالى فعلى هذا: العلمُ الحاصل بها مُوجَد للّه. سلَّمناه لكنَّ الأسماءَ هي سِماتُ الأشياء وعلاماتُها مثل أن يعلَّمَ آدَمُ صلاحَ الخيل لِلْعَدْو والجمال للحَمْل والثيران للحَرْث فَلِمَ قلتُم: إن المراد ليس ذلك وتخصيصُ الأَسماءِ بالألفاظ عرفٌ جديد سلمنا أن المرادَ هو الألفاظُ ولكن لِم لا يجوزُ أن تكون هذه الألفاظُ وضَعَها قومٌ آخرون قبل آدمَ وعلَّمها الله آدم
وعن الثانية أنه تعالى ذمَّهم لأنهم سمُّوا الأصنامَ آلهة واعتقدوها كذلك.
وعن الثالثة أن اللسانَ هو الجارحة المخصوصة وهي غيرُ مرادة بالاتفاق والمجازُ الذي ذكرتموه يعارِضُه مَجازاتٌ أخر نحو مخارج الحروف أو القدرة عليها فلم يثبت التَّرجيح.
وعن الرابعة أن الاصطلاح لا يَسْتَدعي تقدُّمَ اصطلاحٍ آخر بدليل تعليم الوالدين الطفلَ دون سابقةِ اصطلاحٍ ثمة.
والجوابُ عن الأولى من حُجَّتَي أصحابِ الاصطلاحِ: لا نُسَلِّمُ توقُّفَ التوقيف على البعثة لجوازِ أن يخلق الله فيهم العلمَ الضروري بأن الألفاظَ وُضِعَت لكذا وكذا.
وعن الثانية: لِمَ لا يجوز أن يخلق الله العلم الضروريَّ في العقلاء أن واضعًا وَضعَ تلك الألفاظ لتلكَ المعاني وعلى هذا لا يكونُ العلم بالله ضروريًا سلَّمناه لكن لِمَ لا يجوز أن يكون الإله معلومَ الوجود بالضرورة لبعض العقلاء قوله: لَبَطَلَ التكليف قُلْنا: بالمعرفة أمَّا بسائر التكاليف فلا. انتهى.
وقال أبو الفتح بن برهان: في كتاب الوصول إلى الأصول: اختلف العلماءُ في اللغة: هل تَثبُتُ توقيفًا أو اصطلاحًا فذهبت المعتزلةُ إلى أن اللغات بأسْرها تثبت اصطلاحًا وذهبت طائفةٌ إلى أنها تثبتُ توقيفًا.
وزعم الأستاذُ أبو إسحاق الإسفرائيني أن القَدْرَ الذي يدْعو به الإنسان غيرَه إلى التَّواضع يَثْبتُ توقيفًا وما عدا ذلك يجوز أن يثبت بكل واحدٍ من الطريقين.
وقال القاضي أبو بكر: يجوز أن يثبت توقيفًا ويجوز أن يثبت اصطلاحًا ويجوز أن يثبت بعضه توقيفًا وبعضه اصطلاحًا والكلّ ممكن.
وعمدة القاضي أن الممْكن هو الذي لو قُدِّر موجودًا لم يعرض لوجوده محال ويعلم أن هذه الوجوه لو قُدِّرَت لم يعرض من وجودها محال فوجب قَطْعُ القول بإمكانها.
وعمدةُ المعتزلة أن اللغات لا تدلُّ على مدلولاتها كالدلالة العقلية ولهذا المعنى يجوزُ اختلافُها ولو ثبتت توقيفًا من جهة الله تعالى لكان ينبغي أن يخلقَ الله العلم بالصِّيغَة ثم يخلق العلْمَ بالمدلول ثم يخلق لنا العلم بجَعْل الصيغة دليلًا على ذلك المدلول ولو خلقَ لنا العلمَ بصفاته لجاز أن يخْلُق لنا العلم بذاته ولو خلق لنا العلم بذاته بطل التكليف وبطلت المحنة.
قلْنا: هذا بناءٌ على أصل فاسد فإنا نقول: يجوز أن يخلق اللهُ لنا العلم بذاته ضرورة وهذه وعمدة الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني: أن القَدْر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع لو ثبتَ اصطلاحًا لافْتَقَرَ إلى اصطلاحٍ آخر يتقدَّمه وهكذا فيتسلسل إلى ما لا نهاية له.
قلنا: هذا باطل فإن الإنسان يمكنه أن يُفْهمَ غيرَه معانيَ الأسامي كالطفل ينشأُ غيرَ عالمٍ بمعاني الألفاظ ثم يتعلَّمها من الأبوين من غير تَقَدُّمِ اصطلاح.
وعمدةُ مَنْ قال: إنها تَثْبتُ توقيفًا قولُه تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } وهذا لا حجَّةَ فيه من جهة القَطْع فإنه عُمُوم والعمُوم ظاهرٌ في الاستغراق وليس بنصّ قال القاضي: أما الجوازُ فثابتٌ من جهة القطع بالدليل الذي قدَّمْتُه وأما كيفيةُ الوقوع فأنا متوقف فإن دلَّ دليل من السَّمْع على ذلك ثبت به.
وقال إمام الحرمين في البرهان: اختلفَ أربابُ الأصول في مأخَذ اللغات فذهب ذاهبون إلى أنها توقيفٌ من الله تعالى وصار صائرون إلى أنها تثبتُ اصطلاحًا وَتَوَاطُؤًا وذهب الأستاذ أبو إسحاق في طائفة من الأصحاب إلى أن القَدْر الذي يُفْهم منه قصدُ التواطؤ لا بدَّ أن يُفْرضَ فيه التوقيف.
والمختارُ عندنا أن العقلَ يجوِّزُ ذلك كلَّه فأما تجويزُ التوقيف فلا حاجةَ إلى تكلُّف دليلٍ فيه ومعناه أن يُثْبِتَ الله تعالى في الصدور علومًا بَدِيهيَّةً بِصَيغٍ مخصوصة بمعاني فتتبَيَّنُ العقلاءُ الصِّيَغَ ومعانيها ومعنى التوقيف فيها أن يلقوا وَضْع الصيغ على حكم الإرادة والاختيار وأما الدليلُ على تجويز وقوعها اصطلاحًا فهو أنه لا يبعدُ أن يحرك الله تعالى نفوسَ العقلاء لذلك ويُعْلِم بعضَهم مرادَ بعض ثم ينشئون على اختيارهم صِيغًا وتقترنُ بما يريدون أحوالٌ لهم وإشارات إلى مسمّيات وهذا غيرُ مُسْتَنْكَر وبهذا المسلك ينطلقُ الطفل على طَوَالِ ترديد المُسْمَع عليه ما يريد تلقينه وإفهامه فإذا ثبت الجوازُ في الوجهين لم يبق لِما تخيَّله الأستاذ وجهٌ والتعويل في التوقيف وفرض الاصطلاح على علوم تَثْبُت في النفوس فإذا لم يمنع ثبوتها لم يبقَ لِمَنْع التوقيف والاصطلاح بعدَها معنى ولا أحد يمنعُ جوازَ ثبوت العلومِ الضرورية على النحو المبَيَّن.
فإن قيل: قد أثْبَتُّمُ الجواز في الوجهين عمومًا فما الذي اتفق عندكم وقوعه قلنا: ليس هذا مما يُتَطَرَّقُ إليه بمسالك العقول فإن وقوعَ الجائز لا يُسْتَدْرك إلا بالسَّمْعِ الْمَحْضِ ولم يَثْبت عندنا سمعٌ قاطع فيما كان من ذلك وليس في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } دليل على أحد الجائزين فإنه لا يمتنعُ أن تكونَ اللغاتُ لم يكن يعلمها فعلَّمه الله تعالى إياها ولا يمتنع أن الله تعالى أثبتَها ابتداء وعلَّمه إياها.
وقال الغزالي في المنخول: قال قائلون: اللغاتُ كلُّها اصطلاحية إذ التَّوقيفُ يَثبت بقولِ الرسول عليه السلام ولا يُفْهم قولُه دون ثبوت اللغة وقال آخرون: هي توقيفية إذ الاصطلاحُ يعْرضُ بعد دعاءِ البعضِ البعضَ بالاصطلاح ولا بدَّ من عبارة يُفْهَم منها قصدُ الاصطلاح.
وقال آخرون ما يُفْهَمُ منه: قصدُ التَّوَاضُع توقيفيّ دون ما عَدَاه ونحنُ نجوّز كونَها اصطلاحية بأن يحرِّكَ اللهُ رأسَ واحدٍ فيفهم آخرُ أنه قصدَ الاصطلاح ويجوز كونُها توقيفية بأن يثبت الربّ تعالى مراسمَ وخطوطًا يفهمُ الناظر فيها العباراتِ ثم يتعلُم البعضُ عن البعضِ وكيف لا يجوزُ في العقل كلُّ واحدٍ منهما ونحن نرى الصبيَّ يتكلمُ بكلمة أبويه ويفهم ذلك من قرائن أحوالهما في حالة صِغَره فإذَنْ الكل جائزٌ.
وأما وقوعُ أحدِ الجائزين فلا يستدرك بالعقل ولا دليل في السمع وقوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } ظاهرٌ في كونه توقيفيًا وليس بقاطع ويُحْتَمل كونُها مصطلحًا عليها من خَلْق الله تعالى قبل آدم. انتهى.
وقال ابن الحاجب في مختصره: الظاهرُ من هذه الأقوال قول أبي الحسن الأشعري.
قال القاضي تاج الدين السبكي في شرح منهاج البيضاوي: مَعْنى قولِ ابن الحاجب القولُ بالوقْفِ عن القَطْع بواحدٍ من هذه الاحتمالات وترجيحُ مذهب الأشعري بغلَبَة الظن قال: وقد كان بعضُ الضُّعفاءِ يقول: إن هذا الذي قاله ابن الحاجب مذهبٌ لم يقلْ به أحدٌ لأن العلماءَ في المسألة بين متوقِّفٍ وقاطع بمقالتِه فالقولُ بالظهور لا قائل به قال: وهذا ضعيف فإن المتوقِّف لعدم قاطع قد يرجّح بالظنّ ثم إن كانت المسألةُ ظنِّية اكتُفي في العمل بها بذلك التَّرجيح وإلا توقف عن العمل بها ثم قال: والإنصافُ أن الأدلةَ ظاهرةٌ فيما قاله الأشعري فالمتوقّف إن توقَّفَ لعدم القَطْعِ فهو مصيب وإن ادَّعى عدمَ الظهور فغيرُ مصيب هذا هو الحقُّ الذي فاه به جماعةٌ من المتأخرين منهم الشيخ تقي الدين بن دَقِيق العِيد في شرح العنوان.
وقال فِي رفع الحاجب: اعلم أن للمسألة مقامَين: أحدُهما الجوازُ فمن قائل: لا يجوزُ أن تكون اللغةُ إلا توقيفًا ومن قائل: لا يجوزُ أن تكون إلا اصطلاحًا والثاني أنه ما الذي وقع على تقدير جوازِ كلٍّ من الأمرين والقول بِتجْويز كل من الأمرين هو رأيُ المحققين ولم أرَ مَن صَرّح عن الأشعري بخلافه والذي أراه أنه إنما تكلم في الوقوع وأنه يجوّز صدور اللغة اصطلاحًا ولو مَنع الجواز لنَقَله عنه القاضي وغيره من محقِّقي كلامِه ولم أرَهم نقلوه عنه بل لم يَذكره القاضي وإمام الحرَمَين وابن القُشَيري والأشعري في مسألة مبدأ اللغات البتَّة وذكر إمامُ الحرَمين الاختلافَ في الجواز ثم قال: إن الوقوعَ لم يَثْبُتْ، وتَبِعه القُشَيري وغيرُه.
تنبيهات
أحدها - إذا قلنا بقول الأشعري إن اللغات توقيفيَّة - ففي الطريق إلى علمها مذاهب حكاها ابن الحاجب وغيره: أحدُها بالوَحْي إلى بعض الأنبياء والثاني بخَلق الأصوات في بعض قال ابن السبكي في رفع الحاجب: والظاهرُ من هذه هو الأول لأنه المعتادُ في عِلْم الله تعالى.
الثاني - قول الإمام الرازي فيما تقدّم: لِمَ لا يجُوزُ أنْ تكونَ هذه الألفاظُ وضَعَها قومٌ آخرون قبلَ آدم قال في رَفْع الحاجب: لسنا ندَّعي أن قبل آدم الجِنّ والبن [4] فذلك لم يَثْبُت عندنا بل قال القاضي في التقريب: جاز تواضُع الملائكةِ المخلوقة قبله، قال ابن القشيري: وقد كانوا قبلَه يتخاطبون ويفهمون.
الثالث - قولُ أهل الاصطلاح: لو كانت اللغات توقيفيةً لتقدَّمت واسطةُ البعْثَة على التوقيف أحسنُ من جواب الإمام عن جواب ابن الحاجب حيث قال: إذا كان آدمُ عليه السلام هو الذي عُلِّمَها اندفع الدور قال في رفع الحاجب: لأنَّ لآدم حالتين: حالة النبوّة وهي الأولى وفيها الوحْيُ الذي من جملته تعليمُ اللغات وعلمها الخلق إذ ذاك ثم بُعِث بعد أن عَلَّمَها قومَه فلم يكن مبعوثًا لهم إلا بعد علمهم اللغات فبُعِث بلسانهم قال: وحاصلُه أن نبوَّته متقدمةٌ على رسالته والتعليمُ متوسّط فهذا وجهُ اندفاع الدَّوْر.
الرابع - قال في رفع الحاجب: الصحيحُ عندي أنه لا فائدة لهذه المسألة وهو ما صحَّحه ابن الأنباري وغيرُه ولذلك قيل: ذِكْرُها في الأصول فضولٌ وقيل: فائدتها النظرُ في جواز قَلْب اللغة فحُكِي عن بعض القائلين بالتَّوْقيف منعُ القَلْب مطلقًا فلا يجوزُ تسمية الثَّوْب فرسًا والفرس ثوبًا وعن القائلين بالاصطلاح تجويزُه وأما المتوقِّفون - قال المازَرِي - فاختلَفوا فذهب بعضُهم إلى التجويز كمذهبِ قائلِ الاصطلاح وأشار أبو القاسم عبد الجليل الصَّابوني إلى المَنْع وجوَّزَ كونَ التوقيف واردًا على أنه وجبَ ألا يقعَ النطقُ إلا بهذه الألفاظ.
قال ابن السبكي والحقُّ عندي - وإليه يشيرُ كلامُ المازَري - أنه لا تَعَلُّقَ لهذا بالأصل السابق فإن التوقيفَ لو تمَّ ليس فيه حجرٌ علينا حتى لا يُنْطَقُ بسِواه فإن فُرِض حجرٌ فهو أمرٌ خارجي والفرعُ حكمُه حكم الأشياءِ قبل وُرودِ الشرائع فإنا لا نعلمُ في الشَّرْع ما يدلُّ عليه وما ذكره الصابوني من الاحتمال مدفوعٌ.
قال المازَرِي: وقد عُلِم أن الفقهاءَ المحقّقين لا يحرِّمون الشيء بمجرد احتمالِ ورود الشرع بتحريمه وإنما يحرِّمونه عند انْتهاضِ دليلِ تحريمه قال: وإن اسْتُنِد في التحريم إلى الاحتياط فهو نظرٌ في المسألة من جهة أخرى وهذا كلّه فيما لا يؤَدِّي قلبهُ إلى فسادِ النظام وتغييرُه إلى اختلاطِ الأحكام فإن أدَّى إلى ذلك - قال المازَري: فلا نختلفُ في تحريم قَلبِه لا لأَجل نفسه بل لأجلِ ما يُؤدِّي إليه قال في شرح المنهاج: إن بناءَ المسألة على هذا الأصل غيرُ صحيح فإن هذا الأصل في أن هذه اللغاتِ الواقعة بين أظْهُرِنا هل هي بالاصطلاح أو التوقيف لا في شخْصٍ خاص اصطلح مع صاحبه على إطلاق لفظِ الثوب على الفرس مثلًا.
وقال الزركشي في البحر: حكى الأستاذ أبو منصور قولًا: إن التوقيف وقعَ في الابتداء على لُغَة واحدة وما سواها من اللغات وقعَ التوقيف عليها بعد الطوفان من الله تعالى في أولاد نوح حين تفرَّقوا في أقطار الأرض قال: وقد رُوي عن ابن عباس: أول من تكلم بالعربية المحضة إسماعيل وأَرادَ به عربيةَ قريش التي نزل بها القرآن وأما عربية قَحْطان وحِمْير فكانت قبلَ إسماعيل عليه السلام.
وقال في شرح الأسماء: قال الجمهور الأعظم من الصحابة والتابعين من المفسرين: إنها كلَّها توقيفٌ من الله تعالى وقال أهلُ التحقيق من أصحابنا: لا بدّ من التوقيف في أصل اللغةِ الواحدة لاسْتِحَالة وقوعِ الاصطلاح على أوَّل اللغات من غيرِ معرفةٍ من المصطلحين بعَينِ ما اصطلحوا عليه وإذا حصلَ التوقيفُ على لغةٍ واحدة جاز أن يكونَ ما بعدَها من اللغات اصطلاحًا وأن يكون تَوقيفًا ولا يُقْطَع بأحدهما إلا بدلالة قال: واختلفوا في لغة العرَب فمَن زعم أن اللغاتِ كلَّها اصطلاحٌ فكذا قوله في لغة العرب ومن قال بالتَّوقيف على اللغةِ الأولى وأجاز الاصطلاحَ فيما سواها من اللغات اختلفوا في لغة العرب فمنهم من قال: هي أول اللغات وكلُّ لغةٍ سواها حدثَتْ بعدها إما توقيفًا أو اصطلاحًا واستدلوا بأن القرآن كلامُ الله وهو عربي وهو دليلٌ على أن لغةَ العربِ أسبقُ اللغات وجودًا.
ومنهم من قال: لغة العرب نوعان: أحدهما - عربيةُ حِمْير وهي التي تكلّموا بها من عَهْد هود ومَنْ قَبله وبقي بعضُها إلى وقتنا. والثانية - العربيةُ المحْضَة التي نزل بها القرآن وأولُ من أُنْطقَ لسانُه بها إسماعيل فعلى هذا القول يكون توقيف إسماعيل على العربية المحْضة يَحْتَمِل أمرين: إما أن يكون اصطلاحًا بينه وبين جُرْهم النازلين عليه بمكة وإما أن يكون توقيفًا من الله تعالى وهو الصواب. انتهى.
ذكر الآثار الواردة في أن الله تعالى علم آدم عليه السلام اللغات
قال وكيع في تفسيره: حدثنا شَريك عن عاصم بن كليب الجرمي عن سعيد ابن معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علّمه كلَّ شيء، علَّمه القَصْعَةَ وَالْقُصَيْعَة والفَسوَة والفُسَيْوَةَ. أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم بلفظ: علَّمه اسمَ الصحْفَة والقدْر وكلَّ شيءٍ حتى الفسوة والفسيّة.
وأخرج وَكِيع عن سعيد بن جُبَير في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علَّمه اسمَ كلِّ شيء حتى البعير والبقرة والشاة.
وأخرج وَكيع وعبد بن حميد في تفسيرهما عن مجاهد في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علَّمه كلَّ شيء ولفظ عبد بن حميد: ما خلقَ اللهُ كله.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم في تفسيرهما من طريق السدّي عمن حدّثه عن ابن عباس في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: عرض عليه أسماءَ ولدِه إنسانًا إنسانًا والدَّوَاب، فقيل: هذا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس.
وأخرج ابن جزيّ في تفسيره من طريق الضَّحاك عن ابن عباس في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: هي هذه الأسماء التي يَتعارف بها الناسُ؛ إنسان ودابة وأرض وسهل وبَحْر وجَبَل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جُبَير في قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: اسم الإنسان واسم الدابة واسم كلِّ شيء.
وأخرج عبد عن قَتَادة فِي قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علم آدم من أسماء خَلْقه ما لم يُعَلِّم الملائكة فسمَّى كلَّ شيء بِاسْمِه وأَلْجَأ كلَّ شيء إلى جنسه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علمه القصعة من القُصَيْعة والفسوة من الفسية.
وأخرج إسحاقُ بن بشر في كتاب المبتدأ وابن عساكر في تاريخ دمشق عن عطاء قال: { يا آدم أنْبئْهُم بأسمائهم } فقال آدم: هذه ناقةٌ جمل بقرة نعجة شاة وفرس وهو من خَلْق ربي فكلُّ شيء سَمَّى آدم فهو اسمُه إلى يوم القيامة وجعل يدعو كلَّ شيء باسمه وهو يمرُّ بين قلت: في هذا فضيلةٌ عظيمة ومَنْقَبَةٌ شريفة لِعلْمِ اللغة.
وأخرج الدَّيلمي في مسند الفردوس عن عطية بن بشر مرفوعًا في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: علَّمه في تلك الأسماء ألْفَ حِرْفَة.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: أسماء ذُرِّيته أجمعين.
وأخرج عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } قال: أَسماء الملائكة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن حميد الشامي قال: علَّم آدمَ أسماءَ النجوم.
وأخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان لغتُه في الجنّة العربيةَ فلما عَصَى سلَبه اللهُ العربية فتكلّم بالسريانية فلما تاب ردَّ الله عليه العربية.
قال عبد الملك بن حبيب: كان اللسانُ الأوّلُ الذي نزل به آدمُ من الجنة عربيًا إلى أن بَعُد العهدُ وطال حرّف وصار سُرْيانيًا وهو منسوب إلى أرض سُورَى أو سوريانة وهي أرضُ الجزيرة بها كان نوح عليه السلام وقومه قبل الغَرَق، قال: وكان يُشَاكِل اللسانَ العربي إلا أنه محرّف وهو كان لسانَ جميع مَنْ في سفينة نوح إلا رجلًا واحدًا يقال له جُرهم فكان لسانه لسانَ العربي الأول، فلما خرجُوا من السفينة تزوّج إرَم بن سام بعض بناته فمنهم صار اللسانُ العربي في ولده عَوْص أبي عاد وعَبيل وجاثر أبي ثمود وجديس، وسُمِّيَت عادٌ باسم جرهم لأنه كان جدَّهم من الأم، وبقي اللسان السرياني في ولد أرْفَخَشْذ بن سام إلى أن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذريته وكان باليمن، فنزل هناك بنو إسماعيل فتعلّم منهم بنو قحطان اللسانَ العربي.
وقال ابن دِحْيَة: العربُ أقسام:
الأول عاربة وعرباء وهم الخلَّص وهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح وهي: عاد وثمود وأُمَيم وعَبيل وطَسْم وجَدِيس وعِمْلِيق وجُرْهم وَوَبار ومنهم تعلَّم إسماعيل عليه السلام العربية.
الثاني المتعربة قال في الصحاح: وهم الذين ليسوا بخُلَّص وهم بنو قحطان.
والثالث المستعربة وهم الذين ليسوا بخلّص أيضا كما في الصحاح.
وقال ابن دريد في الجمهرة: العربُ العاربة سبع قبائل: عاد وثمود وعمليق وطَسْم وجَديس وأُمَيم وجاسم وقد انْقرض أكثرُهم إلا بقايا متفرّقين في القبائل قال: وسُمي يعرب بن قحطان لأنه أولُ من انعدلَ لسانُه من السُّريانية إلى العربية وهذا معنى قول الجوهري في الصحاح: أولُ من تكلَّم بالعربية يعربُ بن قحطان.
وأخرج ابن عساكر في التاريخ بسَنَدٍ رواه عن أنس بن مالك موقوفًا قال: لما حَشرَ الله الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحًا فاجتمعوا ينظرون لماذا حُشِروا له فنادى مُنَادٍ: مَنْ جعل المَغرِب عن يمينه والمشرق عن يساره واقْتَصَد البيتَ الحرام بوَجْهِه فله كلامُ أهلِ السماء فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يَعْرُبُ بن قحطان بن هود أنت هو فكان أولَ من تكلم بالعربية المَبينَة فلم يزل المنادي يُنَادي مَنْ فَعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانًا وانقطع الصوتُ وَتَبَلْبَلَتِ الألسُن فسُمِّيت بابل وكان اللسان يومئذ بابليًا.
وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن بُرَيدة رضي الله عنه في قوله تعالى: { بلِسَانٍ عربي مُبينٍ } قال: بلسان جُرْهم.
وقال محمد بن سلام الجمحي في كتاب طبقات الشعراء: قال يونس بن حبيب: أولُ من تكلم بالعربية إسماعيلُ بن إبراهيم عليهما السلام ثم قال محمد بن سلّام: أخبرني مِسْمَع بن عبد الملك أنه سمع محمد بن عليّ يقول - قال ابن سلّام: لا أدري رَفَعَه أم لا وأظنه قد رفعه - أولُ من تكلَّم بالعربية ونَسِي لسانَ أبيه إسماعيلُ عليه السلام.
وأخرج الحاكم في المستدرك وصحَّحه والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر: أن رسول الله صلى عليه وسلم تلا: { قرآنًا عربيًا لقومٍ يعلمون } ثم قال: أُلْهِمَ إسماعيلُ هذا اللسان العربي إلهامًا.
قال محمد بن سلّام وأخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء قال: العربُ كلُّها ولدُ إسماعيل إلا حِمْير وبقايا جُرْهم وكذلك يروى أن إسماعيل جاوَرهم وأصْهر إليهم ولكنَّ العربيةَ التي عنى محمد بن علي اللسان الذي نزل به القرآن وما تكلّمت به العربُ على عهد النبي، وتلك عربيةٌ أخرى غير كلامنا هذا.
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه: قيل إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل عليه السلام والصحيح المشهور أن العربَ العاربة قبلَ إسماعيل، وهم عاد وثمود وطسم وجَديس وأُمَيم وجُرْهم والعماليق وأمم آخرون لا يعلَمهم إلا الله كانوا قبل الخليل عليه السلام وفي زمانه أيضا، فأما العربُ المستعربة وهم عربُ الحجاز فمن ذرِّية إسماعيل عليه السلام، وأما عربُ اليمن وحِمْيرَ فالمشهورُ أنهم من قَحْطان واسمه مهزَّم؛ قاله ابن مَاكُولا. وذكروا أنهم كانوا أربعةَ إخوة: قحطان وقاحط ومقحط وفالَغ وقَحْطان بن هود، وقيل هود وقيل أخوه وقيل من ذريته، وقيل إن قحطان من سُلالة إسماعيل، حكاه ابن إسحاق وغيره. والجمهور على أن العربَ القحطانية من عرب اليمن وغيرُهم ليسوا من سلالة إسماعيل.
وقال الشيرازي في كتاب الألقاب: أخبرنا أحمد بن سعيد المعداني: أنبأنا محمد بن أحمد بن إسحاق الماسي حدثنا محمد بن جابر حدثنا أبو يوسف يعقوب بن السكِّيت قال: حدثني الأثرم عن أبي عبيدة حدثنا مسمع بن عبد الملك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه عن النبي ﷺ: أول مَن فُتق لسانُه بالعربية المتينة إسماعيلُ عليه السلام وهو ابن أربع عشرة سنة فقال له يونس: صدقت يا أبا سيار هكذا حدثني به أبو جزيّ. هذه طريقةٌ موصولة للحديث السابق من طريق الجُمَحِي.
ذكر إيحاء اللغة إلى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام
قال أبو أحمد الغِطْريف في جُزْئه: حدثنا أبو بكر بن محمد بن أبي شيبة ببغداد، أخبرنا أبو الفضل حاتم بن الليث الجوهري حدثنا حماد بن أبي حمزة اليشكري، حدثنا علي بن الحسين بن واقد، نبأنا أُبي عن عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه عن عمر بن الخطاب أنه قال: يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد دَرَست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظتها. أخرجه ابن عساكر في تاريخه.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من طريق يونس بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ في يوم دَجْن: كيف ترون بواسقها قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمها، قال: كيف ترون قواعدها قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها، قال: كيف ترون جَوْنَها قالوا: ما أحسنه وأشد سواده، قال: كيف ترون رَحَاها استدارت قالوا: نعم ما أحسنها وأشدّ استدارتها، قال: كيف ترون برقها أخفيًّا أم وميضًا أم يشق شقًّا قالوا: بل يشق شقا، فقال: الحياءُ فقال رجل: يا رسول الله ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك، قال: حقّ لي فإنما أُنْزِلَ القرآن عليّ بلسانٍ عربي مبين.
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي رافع قال: قال رسول الله ﷺ: مُثِّلت لي أُمَّتي في الماء والطين وعُلِّمْت الأسماءَ كلَّها كما عُلّم آدمُ الأسماءَ كلها.
المسألة الثالثة: في بيان الحكمة الداعية إلى وضع اللغة
قال الكِيَا الهَرَّاسي في تعليقه في أُصول الفقه: وذلك أن الإنسانَ لمَّا لم يكن مكتفيًا بنفسه في معاشه ومُقِيمات معاشه لم يكن له بدٌّ من أن يسترفد المعاونة من غيره ولهذا اتَّخَذ الناسُ المدن ليجتمعوا ويتعاونوا.
وقيل: إن الإنسان هو المتمدّن بالطبع والتوحُّش دَأْبُ السباع ولهذا المعنى توزَّعَت الصنائع وانْقَسَمَت الحِرَف على الخَلْق فكلُّ واحدٍ قصَر وقتَه على حِرْفة يشتغل بها لأن كلَّ واحد من الخَلْق لا يمكنُه أن يقوم بجُمْلَة مَقَاصِده فحينئذ لا يخْلُو من أن يكونَ محلُّ حاجته حاضرةً عنده أو غائبةً بعيدةً عنه فإن كانت حاضرةً بين يديه أمكنه الإشارة إليها وإن كانت غائبةً فلا بدَّ له من أن يدلَّ على محل حاجاته وعلى مَقْصوده وغَرضه، فوضعوا الكلامَ دلالةً ووجدوا اللسانَ أسرعَ الأعضاءِ حركةً وقبولًا للترداد.
وهذا الكلام إنما هو حرفٌ وصوتٌ، فإن تركه سدًى غفلًا امتدَّ وطال، وإن قطعه تقطَّع. فقطَّعوه وجزّؤوه على حركات أعضاءِ الإنسان التي يخرج منها الصوت وهو من أقصى الرِّئة إلى منتهى الفم، فوجدوه تسعةً وعشرين حرفًا لا تزيد على ذلك. ثم قسَّموها على الحلْق والصَّدْر والشَّفَةِ واللثَّة. ثم رَأَوْا أن الكفاية لا تقعُ بهذه الحروف التي هي تسعةٌ وعشرون حرفًا ولا يحصل له المقصود بإفرادها فركّبوا منها الكلامَ ثُنائيًّا وثلاثيًّا ورباعيًّا وخماسيًّا؛ هذا هو الأصل في التركيب، وما زاد على ذلك يُستَثْقَل. فلم يضعوا كلمةً أصلية زائدة على خمسة أحرف إلا بطريق الإلْحاق والزيادة لحاجة. وكان الأصلُ أن يكون بإزاءِ كل معنى عبارةٌ تدلُ عليه غير أنه لا يمكنُ ذلك لأَن هذه الكلمات متناهيةٌ، وكيف لا تكون متناهية ومَوَارِدها ومَصَادرها متناهية، فدعت الحاجةُ إلى وضع الأسماء المشتَركة فجعلوا عبارةً واحدةً لمسَمَّيَاتٍ عِدَّة كالعين والجَوْن واللون؛ ثم وضعوا بإزاء هذا على نقيضه كلماتٍ لمعنًى واحد، لأن الحاجةَ تدعو إلى تأكيد المعْنى والتحريض والتقرير، فلو كُرّرَ اللفظ الواحد لسَمُجَ ومُجَّ ويقال: الشيء إذا تكرّر تكرَّج والطِّباعُ مجبولةٌ على مُعَاداة المُعَادات؛ فخالفوا بين الألفاظ والمعنى واحد.
ثم هذا ينقسم إلى ألفاظ متواردة وألفاظ مترادفة. فالمتواردة كما تسمَّى الخمرُ عَقارًا وصَهْباءَ وقهوة وسلسالًا، والسبعُ ليثًا وأسدًا وضِرْغامًا. والمترادفة هي التي يُقام لفظٌ مقام لفظٍ لمعانٍ مُتَقَاربة يجمعها معنًى واحد، كما يقال أَصْلَح الفاسِدَ ولمَّ الشَّعَث ورتقَ الفَتقَ وشعبَ الصَّدْع. وهذا أيضا مما يَحْتَاجُ إليه البليغ في بلاغته فيقال خطيبٌ مِصْقَع وشاعر مُفْلِق، فَبِحُسْنِ الألفاظ واختلافها على المعنى الواحد ترصع المعاني في القلوب وتَلْتَصِق بالصدور ويزيد حسنُه وحَلاوته وطَلاوته بضَرْب الأمثلة به والتشبيهات المجازية. وهذا ما يَسْتَعْمِلُه الشعراء والخطباء والمترسِّلون. ثم رأوا أنه يضيقُ نِطاقُ النُّطق عن استعمال الحقيقة في كل اسمٍ فعدَلوا إلى المجاز والاستعارات.
ثم هذه الألفاظ تنقسم إلى مشتركة وإلى عامَّة مطلقة - وتسمى مستغرقة - وإلى ما هو مفرد بإزاء مفرد، وسيأتي ذلك.
وقال الإمام فخر الدين وأتباعه: السببُ في وضع الألفاظ أن الإنسان الواحد وحدَه لا يستقلُّ بجميع حاجاته بل لا بدَّ من التعاون ولا تعاونَ إلا بالتَّعارف ولا تعارفَ إلا بأسباب كحركات أو إشاراتٍ أو نقوش أو ألفاظٍ توضع بإزاء المقاصد، وأَيْسَرُها وأفيدُها وأعمُّها الألفاظ. أمَّا أنها أيسر فِلأَنَّ الحروفَ كيفيَّاتٌ تَعْرِضُ لأصواتٍ عارضة للهواء الخارج بالتّنفس الضروري الممدود من قبل الطبيعة دون تكلف اختياري. وأما أنها أفيدُ فلأَنها موجودةٌ عند الحاجة معدومةٌ عند عَدَمها. وأما أنها أعمُّها فليس يمكن أن يكونَ لكل شيءٍ نَقْشٌ، كذات الله تعالى والعلوم، أو إليه إشارة كالغائبات، ويمكن أن يكونَ لكل شيءٍ لفظٌ. فلما كانت الألفاظُ أيسرَ وأفيدَ وأعمَّ صارت موضوعةً بإزاء المعاني.
المسألة الرابعة: في حد الوضع
قال التاج السبكي في شرح منهاج البيضاوي: الوضع عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أُطلق الأوَّلُ فُهِم منه الثاني. قال: وهذا تعريفٌ سديد، فإنك إذا أطلقت قولك: قام زيد فُهِمَ منه صُدُور القيام منه. قال: فإن قلتَ: مدلولُ قولنا قام زيد صدور قيامه، سواءٌ أطلقنا هذا اللفظ أم لم نُطْلِقه فما وجهُ قولكم بحيث إذا أطلق؟ قلت: الكلامُ قد يخرج عن كونه كلامًا وقد يتغيَّر معناه بالتّقييد، فإنك إذا قلتَ: قام الناس اقتضى إطلاق هذا اللفظ إخبارك بقيام جميعهم، فإذا قلتَ: إن قام الناس خرج عن كونه كلامًا بالكلية فإذا قلتَ: قام الناس إلا زيدا، لم يخرجْ عن كونه كلامًا ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدًا فعلم بهذا أن لإفادة قام الناس الإخبار بقيام جميعهم شرطين: أحدهما ألا تبتدئَه بما يخالِفُه والثاني ألا تختمَه بما يخالفه وله شرطٌ ثالث أيضا وهو أن يكونَ صادرًا عن قَصْد فلا اعتبارَ بكلام النائم والساهي فهذه ثلاثةُ شروط لا بدَّ منها وعلى السامع التنبه لها فوضحَ بهذا أنك لا تستفيدُ قيام الناس من قوله: قام الناس إلا بإطلاق هذا القول فلذلك اشترطنا ما ذكرناه.
فإن قلت: مِنْ أين لنا اشتراطُ ذلك واللفظُ وحدَه كافٍ في ذلك لأن الواضع وضَعَه لذلك قلت: وضْعُ الواضع له معناه أنه جعله مُهَيَّأً لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلّم على الوجه المخصوص والمفيدُ في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظُ كالآلة الموضوعة لذلك.
فإن قلتَ: لو سمعنا قام الناس ولم نَعْلَم مِنْ قائِله هل قصده أم لا وهل ابتدأه أو ختمه بما يغيِّره أو لا هل لنا أن نُخبِر عنه بأنه قال: قام الناس قلت: فيه نظر يحتمل أن يُقال بجوازه لأن الأصل عدمُ الابتداء والختم بما يُغيّره ويحتمل أن يقال: لا يجوز لأن العُمْدة ليس هو اللفظ ولكنَّ الكلام النفساني القائم بذات المتكلم وهو حكمه واللفظ دليل عليه مشروط بشُروط ولم تتحقَّق ويُحْتَمل أن يقال: إن العلم بالقصد لا بدّ منه لأنه شَرْطٌ والشكُّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط والعلم بعدم الابتداء والختم بما يخالفُه لا يُشْتَرَط لأنهما مانعان والشكُّ في المانع لا يقتضي الشك في الحكم لأن الأصلَ عدمه قال: واختار والدي - رحمه الله - أنه لا بدَّ من أن يعلم الثلاثة. انتهى.
المسألة الخامسة
اختلف هل وضَعَ الواضعُ المفرداتِ والمركَّبات الإسناديّة أو المفردات خاصة دون المركبات الإسنادية. فذهب الرازي وابن الحاجب وابن مالك وغيرُهم إلى الثاني وقالوا: ليس المركَّب بموضوع وإلا لتوقَّفَ استعمالُ الجُمل على النَّقْل عن العرب كالمفردات.
ورجَّح القرافي والتاج السبكي في جمع الجوامع وغيرهما من أهل الأصول أنه موضوع لأن العرب حَجَرت في التراكيب كما حَجَرت في المفردات.
وقال ابن إياز [5] في شرح الفصول في قول ابن عبد المعطي [6]: الكلامُ هو اللفظُ المركب المفيد بالوضع، كذا قال الجزولي، وكان شيخي سعد الدين يقول فيه بغير ذلك لأنَّ واضعَ اللغةِ لم يَضَع الجملَ كما وضعَ المفردات بل ترك الجُمل إلى اختيار المتكلِّم، يُبَيِّنُ ذلك لك أن حال الجُمل لو كانت حال المفردات لكان استعمالُ الجمل وفهمُ معانيها متوقفًا على نَقْلها عن العرب كما كانت المفرداتُ كذلك ولوجب على أهل اللغة أن يتتبعوا الجُمل ويودعوها كتبهم كما فعلوا ذلك
المسألة السادسة
قال الإمام فخر الدين الرَّازي وأتباعه: لا يجبُ أن يكون لكلِّ معنى لفظٌ لأنَّ المعانيَ التي يمكن أن تُعْقَل لا تَتَناهى والألفاظ متناهيةٌ لأنَّها مركبّة من الحروف والحروف متناهية والمركَّب من المُتناهي مُتَنَاهٍ والمتناهي لا يَضْبِطُ ما لا يَتَنَاهى وإلا لزم تَناهي المدلولات قالوا: فالمعاني منها ما تكثرُ الحاجةُ إليه فلا يَخْلُو عن الألفاظ لأن الداعيَ إلى وضْع الألفاظ لها حاصلٌ والمانعُ زائل فيجب الوضعُ والتي تَنْدُر الحاجة إليها يجوزُ أن يكون لها ألفاظ وألا يكون.
المسألة السابعة
قالوا أيضا: ليس الغرضُ من الوضع إفادةَ المعاني المفردة بل الغرضُ إفادةُ المركَّبَات والنسب بين المفردات كالفاعليَّة والمفعولية وغيرهما وإلا لَزِم الدَّور وذلك لأنّ إفادةَ الألفاظِ المفردة لمعانيها موقوفةٌ على العِلْم بكونها موضوعةً لتلك المسمّيات والعلم بذلك موقوفٌ على العلم بتلك المسمّيات فيكون العلمُ بالمعاني متقدمًا على العِلْم بالوضع فلو استَفَدْنا العلم بالمعاني من الوَضع لكان العلْمُ بها متأخرًا عن العلم بالوضع وهو دَوْرٌ.
فإنْ قِيلَ: هذا بَعْينِهِ قائمٌ فِي المركَّبَاتِ لأنَّ المركَّبَ لا يفيدُ مدلولَه إلا عند العلم بكونه موضوعًا لذلك المدلول والعلم به يَسْتدعي سبقَ العلم بذلك المدلول فلو استفدنا العلمَ بذلك المدلول من ذلك المركَّب لزِم الدَّوْر.
فالجواب أنَّا لا نُسَلِّم أن إفادةَ المركب لمدلوله تتوقَّفُ على العلم بكوْنه موضوعًا له بل على العلم بكون الألفاظ المفردة موضوعةً للمعاني المفردة حتى إذا تُلِيَت الألفاظ المفردةُ عُلِمَتْ مفردات المعاني منها والتناسبُ بينهما من حركاتِ تلك الألفاظ فظَهرَ الفرق.
المسألة الثامنة
اخْتُلِفَ: هل الألفاظ موضوعةٌ بإزاء الصُوَر الذهنية - أي الصورة التي تَصَوَّرها الواضع في ذِهْنِه عند إرادة الوضع - أو بإزاء الماهيات الخارجية فذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى الثاني وهو المختارُ وذهب الإمام فخر الدين وأتباعه إلى الأول واستدلّوا عليهِ بأن اللفظَ يتغيَّر بحسب تغيُّر الصورة في الذِّهن فإن مَنْ رأَى شَبحًا من بعيد وظَنَّه حَجرًا أطلق عليه لفظ الحجر فإذا دَنا منه وظنَّه شجرًا أطلق عليه لفظ الشجر فإذا دَنَا وظنَّه فرسًا أطلق عليه اسم الفرس فإذا تحقَّق أنه إنسان أطلق عليه لفظَ الإنسان فَبَانَ بهذا أن إطلاقَ اللفظ دائر مع المعاني الذهنيَّة دون الخارجية فدلّ على أن الوضْعَ للمعنى الذهنيّ لا الخارجيّ.
وأجاب صاحب التحصيل عن هذا بأنه إنما دار مع المعاني الذِّهنية لاعْتقاد أنها في الخارج كذلك لا لِمُجرَّد اختلافِها في الذهن.
قال الأسنوي في شرح منهاج الإمام البيضاوي: وهو جواب ظاهر قال: ويظهرُ أن يُقال: إن اللفظ موضوع بإزاءِ المعنى من حيث هو مع قَطْعِ النظر عن كونه ذهنيًّا أو خارجيًّا فإن حصولَ المعنى في الخارج والذّهن من الأوصاف الزائدة على المعنى واللفظُ إنما وُضِعَ للمعنى من غير تقييده بوَصْفٍ زائد ثم إن الموضوعَ له قد لا يُوجد إلا في الذهن فقط كالعلم ونحوه. انتهى.
وقال أبو حيّان في شرح التسهيل: العجبُ ممن يُجيز تركيبًا مَا في لغة من اللغات من غير أن يسمعَ من ذلك التركيب نظائرَ وهل التراكيب العربية إلا كالمفردات اللغوية فكما لا يجوز إحداثُ لفظٍ مفردٍ كذلك لا يجوز في التراكيب لأن جميعَ ذلك أمورٌ وضعية والأمورُ الوضعيةُ تحتاج إلى سماع من أهل ذلك اللسان والفرقُ بين علم النحو وبين علم اللغة أن علمَ النحو موضوعُه أمورٌ كليّة وموضوعُ علم اللغة أشياء جزئية وقد اشتركا معًا في الوضْع. انتهى.
وقال الزركشي في البحر المحيط: لا خِلافَ أن المفرداتِ موضوعةٌ، كوضع لفظ إنسان للحيوان الناطق وكوَضْعِ قام لحدوث القيام في زمن مخصوص وكَوَضْع لعلَّ للترجِّي ونحوها، واختلفوا في المركَّبَات نحو قام زيد وعمرو منطلق فقيل: ليست موضوعة؛ ولهذا لم يتكلم أهلُ اللغة في المركبات ولا في تأليفها وإنما تكلموا في وَضْع المفردات وما ذاك إلا لأن الأمر فيها مَوْكول إلى المتكلِّم بها؛ واختاره فخرُ الدين الرازي وهو ظاهرُ كلام ابن مالك حيث قال: إن دلالة الكلام عقليَّة لا وَضعيَّة، واحتجَّ له في كتاب الفيصل على المفصل بوجهين: أحدهما - أن من لا يَعْرف من الكلام العربي إلا لفظين مفردين صالحين لإسناد أحدهما إلى الآخر فإنه لا يَفْتَقر عند سماعهما مع الإسناد إلى مَعرّف بمعنى الإسناد بل يُدْرِكه ضرورة. وثانيهما - أن الدَّال بالوضع لا بدَّ من إحصائه ومنع الاستئناف فيه كما كان في المفردات والمركَّبات القائمة مقامها فلو كان الكلامُ دالًّا بالوضْع وجب ذلك فيه ولم يكن لنا أن نتكلم بكلام لم نُسْبَق إليه كما لم نَستعمل في المفردات إلا ما سَبَق اسْتِعماله وفي عدم ذلك برهانٌ على أنَّ الكلامَ ليس دالًّا بالوضع. انتهى.
وحكاه ابن إياز عن شيخه قال: ولو كان حال الجمل كحال المفردات في الوضع لكان استعمال الجُمَلِ وفهمُ معانيها متوقفًا على نَقْلِها عن العرب كما كانت المفرداتُ كذلك ولَوَجَبَ على أهل اللغة أن يَتَتَبَّعوا الجُمَل ويُودِعُوها كُتبَهم كما فعلوا ذلك بالمفردات ولأن المركّباتِ دلالتُها على معناها التركيبي بالعقل لا بالوضع فإنَّ مَنْ عرف مسمَّى زيد وعرف مسمَّى قائم وسمع زيد قائم بإعرابه المخصوص فَهِمَ بالضرورة معنى هذا الكلام وهو نِسْبَةُ القيام إلى زيد، نعم يصحّ أن يقالَ: إنها موضوعة باعتبار أنها متوقفة على معرفة مفرداتها التي لا تُستفاد إلا من جهة الوضع ولأَن لِلَّفْظ المركَّب أجزاء مادّية وجزءًا صوريًا وهو التأليفُ بينهما وكذلك لمعناه أجزاءٌ مادّية وجزءٌ صوريّ والأَجزاءُ المادّية من اللفظ تدلُّ على الأَجزاءِ المادية من المعنى والجزءُ الصوريّ منه يدل على الجزء الصوريّ من المعنى بالوضع.
والثاني - أنها موضوعة [7] فوضعت زيد قائم للإسناد دون التَّقوية في مفرداته ولا تَنَافي بين وَضْعها مفردةً للإسناد بدون التَّقوية وَوَضْعها مركَّبة للتَّقوية ولا تختلف باختلاف اللغات فالمضافُ مقدَّم على المضاف إليه في بعض اللغات ومؤخَّر عنه في بَعْض ولو كانت عقليّةً لفهم المعنى واحدًا سواءٌ تقدّم المضافُ على المضاف إليه أو تأخر. وهذا القولُ ظاهرُ كلام ابنِ الحاجب حيث قال: أقسامُها مفرد ومركب. قال القَرَافي: وهو الصحيح. وعزَاه غيرُه للجمهور بدليل أنها حَجَرت في التَّراكيب كما حَجَرت في المفردات فقالت: من قال: إن قائم زيدًا ليس من كلامنا ومن قال: إن زيدًا قائم فهو من كلامنا ومن قال: في الدار رجلٌ فهو من كلامنا ومن قال: رجل في الدار فليس من كلامنا إلى ما لا نهاية له في تراكيب الكلام وذلك يدلّ على تَعَرُّضِهَا بالوضعِ للمركبات.
قال الزَّرْكَشِيّ: والحقُّ أن العربَ إنما وَضَعَتْ أنواعَ المرَكَّبَاتِ أما جُزئيات الأنواع فلا فَوَضَعَتْ باب الفاعل لإسْناد كلِّ فعلٍ إلى مَنْ صَدَرَ منه أما الفاعلُ المخصوص فلا وكذلك باب إن وأخواتها أما اسمُها المخصوصُ فلا وكذلك سائر أنواعِ التراكيب وأحالت المعنى على اختيار المتكلم فإنْ أراد القائلِ بِوَضْع المركّبات هذا المعنى فصحيح وإلا فممنوع قال: ولم أر لهم كلامًا في المثنى والمجموع والظاهرُ أنهما موضوعان لأنهما مفردان وهو الذي يقتضيه حدُّهم للمفرد ولهذا عامَلُوا جُمُوعَ التكسير معاملةَ المفردِ في الأحكام لكنْ صَرَّح ابن مالك في كلامه على حدِّهما بأنهما غيرُ موضوعين ويبعدُ أن يقالَ: فرَّعه على رأيهِ في عدم وضْعِ المركّبات لأنه لا تركيب فيها لا سيما أن المركّب في الحقيقة إنما هو الإسنادُ وكذا القولُ في أسماء الجُموع والأجناس مما يدلُّ على متعدد والقول بعدم وضْعه عجيب لأن أكثره سماعيّ وقد صرَّح ابن مالك بأنَّ شَفْعًا ونحوه مما يدلّ على الاثنين موضوع.
وقال الجويني: الظاهرُ أن التثنية وُضِعَ لفظُها بعد الجمع لِمَسِيس الحاجة إلى الجمع كثيرا؛ ولهذا لم يُوجد في سائر اللغات تثنية، والجمع موجود في كل لغة، وَمِنْ ثمَّ قال بعضهم: أقلُّ الجمع اثنان كأَن الواضع قال: الشيءُ إما واحدٌ وإما كثير لا غيرُ، فجعل الاثنين في حدِّ الكثرة. انتهى.
المسألة التاسعة
قال الإمام عضد الدين الإيجي في رسالة له في الوضع: اللفظ قد يوضع لشخصٍ بعينه وقد يُوضع له باعتبار أمرٍ عام وذلك بأن يُعْقل أمرٌ مشتَرَك بين مشخصات ثم يُقال: هذا اللفظ موضوع لكلِّ واحدٍ من هذه المشخصات بخصوصه بحيث لا يُفاد ولا يُفْهم به إلا واحد بخصوصه دون القَدْر المشترك فتعقل ذلك المشترك آلة للوضع لا أنه الموضوع له فالوضع كلِّي والموضوعُ له مشخّص وذلك مثلُ اسم الإشارة فإنَّ هذا مثلًا موضوعُه ومسمّاه المشارُ إليه المشخّص بحيث لا يَقْبَلُ الشركة وما هو من هذا القبيل لا يُفيدُ التشخُّص إلا بقرينة تفيدُ تعيينه لاسْتواءِ نسبة الوضع إلى المسّميات.
قال: ثم اللفظُ مدلوله إما كلّي أو مشخّص والأول إما ذاتٌ وهو اسم الجنس أو حدَث وهو المصدر أو نسبة بينهما وذلك إما أن يكون يُعْتَبَر من طَرَفِ الذات وهو المشتقّ أو من طَرَف الحدَث وهو الفِعْل والثاني العلم فالوَضعُ إما كلي أو مشخّص والأول مدلولُه إما معنى في غيره يتعيَّنُ بانضمام غيره إليه وهو الحرف أولًا فالقرينةُ إن كانت في نحو الخطاب فالضميرُ وإن كانت في غيره فإما حسيَّة وهو اسمُ الإشارة أو عقليَّة وهو الموصول فالثلاثة مشتركة فإن مدلولَها ليس معاني في غيرها وإن كانت تتحصَّل بالغير فهي أسماء.
المسألة العاشرة
نقلَ أهلُ أُصول الفِقْه عن عبّاد بن سليمان الصيمري من المعتزلة أنه ذهبَ إلى أنَّ بين اللفظِ ومدلولهِ مناسبةً طبيعيةً حاملةً للواضع على أن يضعَ قال: وإلا لكانَ تخصيصُ الاسمِ المُعيّنِ بالمسمَّى المُعيَّن ترجيحًا من غير مُرَجِّح وكان بعضُ مَنْ يرَى رأْيَه يقول: إنه يعرفُ مناسبةَ الألفاظِ لمعانيها فَسُئِل ما مُسَمَّى اذغاغ وهو بالفارسية الحجر فقال: أجدُ فيه يُبْسًا شديدا، وأراه الحجر. وأنكَر الجمهور هذه المقالة وقال: لو ثبتَ ما قالَه لاهْتَدَى كلُّ إنسان إلى كل لغةٍ ولما صحَّ وضعُ اللفظِ للضدين كالقَرْءِ للحيض والطهر والجَوْن للأَبيض والأسود؛ وأجابوا عن دليله بأنَّ التخصيص بإرادة الواضع المختار خصوصًا إذا قلنا: الواضعُ هو الله تعالى فإن ذلك كتخصيصه وجود العالَم بوقت دون وقت وأما أهل اللغة والعربية فقد كادوا يُطْبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني لكن الفرقَ بين مذهبهم ومذهب عبّاد أن عبَّادًا يراها ذاتية موجبة بخلافهم وهذا كما تقول المعتزلة بمراعاة الأصْلح في أفعالِ الله تعالى وُجوبًا وأهل السنة لا يقولون بذلك مع قولهم إنه تعالى يفعل الأصْلَح لكن فضلًا منه ومَنًَّا لا وجوبًا ولو شاءَ لم يفعله.
وقد عقد ابن جني في الخصائص بابًا لمناسبة الألفاظ للمعاني وقال: هذا موضع شريف نبه عليه الخليل وسيبويه وَتَلَقَّتْه الجماعة بالقبول؛ قال الخليل: كأنهم تَوَهَّموا في صوت الجُنْدُب استطالةً فقالوا: صَرّ، وفي صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صرصر. وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفَعَلان: إنها تأتي للاضطراب والحرَكة، نحو النَّقَزَان والغَليان والغَثيان، فقابلوا بِتَوَالي حركاتِ الأمثالِ تواليَ حركات الأفعال.
قال ابن جني: وقد وجدتُ أشياء كثيرة من هذا النَّمَط، من ذلك المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقة والقرقرة، والفعَلى تأتي للسرعة نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقعة والقرقرة، والفَعلى إنما تأتي للسرعة نحو البَشَكى والجَمَزى والوَلقى.
ومن ذلك باب اسْتفعل جعلوه للطَّلب لما فيه من تَقَدُّم حروفٍ زائدة على الأصول كما يتقدَّم الطلبُ الفعل وجعلوا الأفعالَ الواقعة عن غير طلب إنما تفجأُ حروفها الأصول أو ما ضارع [ بالصيغة ] الأصول؛ [ فالأصولُ نحو قولهم: طعِم ووهَب ودخل وخرج وصعِد ونزل فهذا إخبار بأصولٍ فاجأت عن أفعال وَقعت ولم يكن معها دلالة تدلّ على طلبٍ لها ولا إعمال فيها وكذلك ما تقدَّمت الزيادةُ فيه على سَمْت الأصل نحو أحسن وأكرم وأعطى وأولى فهذا من طريق الصيغة بوزن الأصل في نحو دَحْرج وسَرْهف... ]
وكذلك جعلوا تكرير العين نحو فرَّح وبَشَّر فجعلوا قوّة اللفظِ لقوّة المعنى وخصُّوا بذلك العين لأنها أقْوَى من الفاء واللام إذ هي واسطة لهما ومكنوفةٌ بهما فصارا كأنهما سِيَاج لها ومَبْذولان للعَوارِض دونها ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها.
[ فأما مقابلةُ الألفاظ بما يُشاكل أصواتها من الأحداث فبابٌ عظيم واسع ونَهْج مُتْلَئِبّ عند عَارِفيه مَأمُوم وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سَمت الأحداث المعبّر بها عنها فَيَعدِلونها بها ويَحتذُونها عليها وذلك أكثرُ مما نقدّره وأضعافُ ما نستشعره من ذلك قولهم: خَضَم وقضِم ف ] الخَضْم لأكل الرَّطْب [ كالبِطّيخِ والقِثَّاء وما كان من نحوها من المأكول الرطب ] والقضْمُ لأكل اليابس [ نحو قَضَمَت الدَّابة شعيرها ونحو ذلك. وفي الخبر: قد يُدْرَكُ الخَضْم بالقَضْم أي قد يُدرك الرخاء بالشدة واللّين بالشَّظَف وعليه قول أبي الدَّرْداء: يَخْضَمون ونقضَم والموعد الله ] فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب والقاف لصلابتها لليابس [ حَذْوًا لمسموع الأصوات على مَحْسوس الأحْداث ] و [ من ذلك قولهم ] النَّضْح للماء ونحوه، والنَّضْخ أقوى منه قال اللهُ سُبْحَانه: { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضّاخَتَانِ } فجعلوا الحاء لرقتها للماءِ الخفيف والخاءَ لِغَلظها لما هو أقوى [ منه ]؛ ومن ذلك القدّ طولًا والقطّ عرضًا لأن الطاءَ أخفض للصوت وأسرعُ قطعًا له من الدَّال [ المستطيلة ]؛ فجعلوا [ الطاء للمناجزة ] لِقَطْع العَرض لِقُرْبِه وسرعته، والدال الماطلة لما طال من الأثر، وهو قَطْعُهُ طولًا.
قال: وهذا الباب واسعٌ جدًا لا يمكنُ اسْتِقْصَاؤُه.
قُلت: ومِنْ أَمْثِلة ذلك ما في الجمهرة: الخَنَنَ في الكلام أشدُّ من الغَنَن، والخُنّة أشدّ من الغُنَّة، والأنِيتُ أشدّ من الأنِين، والرَّنين أشدّ من الحِنين.
وفي الإبدال لابن السكيت: يقال القَبْصة أصغرُ من القَبْضة، قال في الجمهرة: القَبْصُ الأخذُ بأطراف الأنامل، والقَبْضُ الأخذ بالكفِّ كلّها.
وفي الغريب المصنف عن أبي عمرو: هذا صَوْغُ هذا إذا كان على قَدْره، وهذا سَوْغُ هذا إذا وُلِدَ بعد ذاك على أَثره، ويقال نَقَبَ على قومه ينقُب نِقابةً من النَّقيب وهو العَرِيف، ونكَب عليهم ينكب نكابة وهو المَنكِب وهو عون العريف.
وقال الكسائي: القَضْمُ للفرس والخَضْمُ للإنسان. وقال غيرُه: القَضْم بأطراف الأسنان والخَضْم بأقْصى الأَضراس.
وقال أبو عمرو: النَّضْح بالضاد المعجمة: الشرب دون الرِّيّ، والنَّصْح بالصاد المهملة الشُّرْب حتى يَرْوَى، والنَّشْح بالشين المعجمة دون النَّضْح بالضاد المعجمة.
وقال الأَصمعي: من أصوات الخيل الشخِيرُ والنَّخِيرُ والكَريرُ، فالأوَّل من الفم والثاني من المَنْخَرين والثالث من الصَّدر.
وقال الأصمعي: الهَتْل من المطر أصغرُ من الهَطْل.
وفي الجمهرة: العَطْعَطَةُ بإهمال العين تتابعُ الأصوات في الحرب وغيرها، والغَطْغَطة بالإعجام: صوتُ غَلَيَان القِدْر وما أشبهه، والجَمْجَمَة بالجيم: أن يُخْفِي الرجلُ في صدره شيئا ولا يُبْدِيه، والحَمْحَمَةُ بالحاء أن يردِّد الفرسُ صوتَه ولا يَصْهَلِ، والدَّحْدَاح بالدال الرجل القصير، والرَّحْرَاح بالراء الإناء القصير الواسع، والجَفْجَفَةُ بالجيم هَزِيز المَوْكِب وحَفِيفُه في السير، والحَفْحَفَةُ بالحاء حفيفُ جَنَاحي الطائر، ورجل دَحْدَح بفتح الدالين وإهمال الحاءين قصير، ورجل دُخْدُخ بضم الدَّالين وإعجام الخاءين قصيرٌ ضخْم، والجَرْجَرَة بالجيم صوتُ جَرْعِ الماء في جَوف الشَّارب، والخَرْخَرة بالخاء صوتُ تردُّد النَّفَس في الصدْر وصوت جَرْي الماء في مضيق، والدَّرْدَرَة صوت الماء في بطون الأودية وغيرها إذا تدافع فَسَمِعْتَ له صوتًا، والغَرْغَرَة صوتُ ترديد الماء في الحَلْق من غير مَجّ ولا إسَاغة، والقَرْقَرَة صوتُ الشراب في الحلق، والهَرْهَرَةُ صوت تَرْدِيد الأسد زئيرَه، والكَهْكَهَة صوتُ تردِيد البعير هَدِيره، والقَهْقَهَةُ حكاية استِغْرَاب الضحك، والوَعْوَعَةُ صوت نُبَاح الكلب إذا رَدَّده، والوَقْوَقَةُ اختلاطُ [ أصوات ] الطير، والوَكْوَكَةٌُ هديرُ الحمام، والزَّعْزَعَةُ بالزاي اضطرابُ الأشياء بالريح، والرَّعْرَعَةُ بالراء اضطرابُ الماء الصافي والشراب على وجه الأرض، والزَّغْزَغَةُ بالزاي وإعجام الغين اضطراب الإنسان في خِفّة ونَزَق، والكَرْكَرَة بالكاف الضحك، والقَرْقَرَة بالقاف حكاية الضحك إذا اسْتَغْرَب الرجلُ فيه، والرَّفْرَفَة بالراء صوت أَجنِحة الطائر إذا حَام ولم يَبْرح، والزَّفْزَفَة بالزاي صوتُ حفيف الريح الشديدة الهبوب وسَمِعْتُ زفزفةَ الموكِب إذا سمعت هَزيزِه، والسَّغْسَغَةُ بإهمال السين تحريك الشيء من موضعه لِيُقْلَعَ مثل الوَتَدِ وما أشبهه ومثل السن، والشَّغْشَغَةُ بالإعجام تحريك الشيء في موضعه ليتَمكَّن يقال شَغْشَغ السِّنان في الطَّعْنة إذا حرَّكه ليتمكّن، والوَسْوَسَةُ بالسين حركة الشيء كالحَلْي والوَشْوَشة بالإعجام حركة القوم وهَمْسُ بعضِهم إلى بعض.
فانظر إلى بديع مناسبةِ الألفاظ لمعانيها وكيف فَاوَتَت العربُ في هذه الألفاظ المُقْتَرنة المتقاربة في المعاني، فجعلت الحرفَ الأضْعف فيها والألْين والأخْفَى والأسْهل والأهْمس لِمَا هو أدْنى وأقلّ وأخفّ عملًا أو صوتًا، وجعلت الحرفَ الأقْوى والأشدّ والأظهر والأجهر لِمَا هو أقوى عملًا وأعظم حِسًّا، ومن ذلك المدّ والمطّ فإنَّ فعْلَ المطّ أقوى لأنه مدٌّ وزيادةُ جَذْب فناسَب الطاء التي هي أَعلى من الدال.
قال ابن دريد: المدُّ والمتُّ والمطُّ متقاربةٌ في المعنى. ومن ذلك الجُفّ بالجيم: وعاءُ الطَّلْعة إذا جَفت، والخُفُّ بالخاء: الملبوس وخفُّ البعير والنعامة، ولا شكّ أن الثلاثة أقوى وأجلَد من وعاءِ الطَّلعة فخُصَّت بالحاءِ التي هي أعلى من الجيم.
وفي ديوان الأدب للفارابي: الشازِب: الضَّامر من الإبل وغيرها. والشاصب: أشد ضُمْرًا من الشازب.
وفيه قال الأصمعي: ما كان من الرياح من نفخ فهو برد وما كان من لفح فهو حَرٌّ.
وفي فقه اللغة للثعالبي: إذا انْحَسَرَ الشَّعرُ عن مقَدَّم الرأسِ فهو أَجْلَحُ فإن بلغ الانحسارُ نصف رأسِه فهوَ أَجْلَى وأَجْلَه.
وفيه: النَّقْشُ في الحائط والرَّقْشُ في القِرْطاس والوَشْمُ في اليد والوَسْمُ في الجِلْدِ والرَّشْمُ على الحِنْطَة والشَّعير والوَشْيُ في الثوب.
وفيه: الدُّبُر يقال له الاسْت، والشّعرُ الذي حوله يقال له الاسْبُ.
وفيه: الحَوَص ضِيقُ العينين، والخَوَص غُؤُورُهُما مع الضِّيق. وفيه: اللَّسْب من العقرب واللسع من الحية. وفيه: وسَخُ الأُذنِ أُفّ ووسَخ الأظفار تُفٌّ. وفيه: اللِّثَامُ: النِّقاب على حَرْف الشَّفة، واللغامُ على طرف الأنف.
وفيه: الضَّرْب بالرَّاحة على مُقَدَّم الرأس صَقْعٌ، وعلى القَفَا صَفْعٌ، وعلى الخَدِّ بِبَسْطِ الكَفِّ لَطْمٌ، وبقَبْضِ الكَفِّ لَكْم، وبِكلْتَا اليَدَيْنِ لَدْمٌ، وعلى الجَنْبِ بالإصْبَعِ وَخْزٌ، وعلى الصدْر والجَنْبِ وَكْزٌ ولَكْزٌ، وعلى الحَنَكِ والذَّقَنِ وَهْزٌ ولهْزٌ.
وفيه يُقَالُ: خَذَفَه بالحَصى وحَذَفَه بالعصا وقَذَفَه بالحجر.
وفيه: إذا أخرجَ المكْروبُ أو المريضُ صوتًا رَقِيقًا فهو الرَّنين فإنْ أخْفَاهُ فهو الهَنِينُ فإنْ أَظْهَرَه فخرج خافيًا فهو الحَنِينُ فإن زاد فيه فهو الأنين فإن زاد في رَفعه فهو الخَنِين.
فانْظُرْ إلى هذه الفُروق وأشباهها باختلاف الحرف بحسب القوَّة والضَّعف. وذلك في اللغة كثيرٌ جدًا وفيما أوردناه كفاية.
المسألة الحادية عشرة
قال ابن جني: الصواب - وهو رأي أبي الحسن الأَخفش - سواءٌ قلنا بالتوقيف أم بالاصطلاح أن اللغة لم تُوضع كلّها في وقت واحد بل وقعت متلاحقةً متتابعة.
قال الأخفش: اختلافُ لغاتِ العرب إنما جاءَ من قِبَل أنَّ أول ما وُضِع منها وُضِعَ على خلاف وإن كان كله مسوقًا على صحة وقياس ثم أَحدثوا من بعدُ أشياء كثيرة للحاجة إليها غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل مختلفا.
قال: ويجوز أن يكونَ الموضوعُ الأولُ ضَرْبًا واحدًا ثم رأى مَنْ جاءَ [ من ] بعد أن خالف قياسَ الأولِ إلى قياسٍ ثانٍ جارٍ في الصحة مَجْرَى الأوَّل.
قالَ: وأما أي الأجناس الثلاثة - الاسم والفعل والحرف - وُضِع قبلُ فلا يُدْرى ذلك ويحتمل في كل من الثلاثة أنه وُضِع قبل، وبه صرح أبو علي.
قال: وكان الأخفش يذهب إلى أن ما غُيِّر لكثرة استعماله إنما تصوَّرَتهُ العربُ قبل وضْعِه وعَلِمَت أنه لا بدَّ من كثرة استعمالهما إياه فابتدؤوا بتغييره عِلْمًا [ منهم ] بأنه لا بدَّ من كثرة الداعية إلى تغييره.
قال: ويجوزُ أن تكون كانت قديمة معربة فلما كثرت غُيِّرت فيما بعدُ.
قال: والمقُول عندي هو الأول لأنه أدلّ على حِكمتها وأشهدُ لها بعِلْمِها بمصاير أمْرِها فتركوا بعضَ الكلام مبنيًّا غير معرب نحو أمسِ [ وهؤلاء ] وأينَ وكيفَ وكم وإذ وحيثُ، عِلْمًا بأنهم سيستكْثِرُون منها فيما بعد فيجبُ لذلك تغييرها.
المسألة الثانية عشرة
في الطريق إلى معرفة اللغة: قال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول وأتباعه: الطريقُ إلى معرفة اللغة إما النقلُ المحْضُ كأكثرِ اللغة، أو استنباطُ العقل من النَّقْل كما إذا نُقِلَ إلينا أنَّ الجمع المعرَّف يدخله الاستثناء ونقل إلينا أن الاستثناءَ إخراجُ ما يتناوله اللفظ، فحينئذ يستدلُّ بهذين النَّقْلين على أن صِيَغ الجمع للعموم. وأما العقل الصِّرف فلا مجالَ له في ذلك.
قال: والنقلُ المحضُ إما تواترٌ أو آحاد.
قلت: وسيأتي بَسْطُ الكلام فيهما في النوع الثالث.
ولم يذكر ابن الحاجب في مختصره ولا الآمدي في الأحكام سوى الطريق الأول وهو النقل المَحْضُ: إما تواترًا وهو ما لا يَقْبَل التشكيك كالسماء والأرض والحرِّ والبَرْدِ ونحوها وإما آحادًا كالقُرْءِ ونحوه من الألفاظ العربية.
قال الإمام فخر الدين والآمدي: وأكثرُ ألفاظ القرآن من الأول أي المتواتر.
وقال ابن فارس في فقه اللغة: باب القول في مأْخذ اللغة: تُؤخَذ اللغة اعتيادًا كالصبيِّ العربي يسمعُ أبويه أو غيرهما فهو يأخذ اللغةَ عنهم على ممرِّ الأوقات وتؤخذ تلقُّنًا من مُلَقِّن وتؤخذُ سماعًا من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة ويُتَّقَى المظنون.
وستأتي بقيةُ كلامه في نوعِ مَنْ تُقْبَل روايته ومن تُرَدُّ وكذا كلامُ ابن الأنباري في ذلك. ويؤْخذ من كلامهما أن ضابط الصحيح من اللغة ما اتَّصل سَنَدُه بنَقْل العَدْل الضابط عن مِثله إلى منتهاه، على حد الصحيح من الحديث.
وقال الزركشي في البحر المحيط: قال أبو الفضل بن عبدان في شرائط الأحكام وتبعه الجيلي في الإعجاز: لا تلزم اللغة إلا بخمس شرائط:
أحدها ثبوت ذلك عن العرب بسنَدٍ صحيح يُوجِبُ العملَ.
الثاني عدالةُ الناقلين كما تُعْتَبَرُ عدالتُهم في الشَّرعيات.
الثالث أن يكون النقلُ عَمّن قولُه حجة في أصل اللغة كالعرب العاربة مثل قحطان ومعدّ وعدنان؛ فأما إذا نقلوا عمَّن بعدهم بعد فَسَادِ لسانهم واختلاف المولّدين فلا.
قال الزركشي: ووقع في كلام الزمخشري وغيره الاستشهادُ بشِعْر أبي تمام، بل في الإيضاح للفارسي، ووجّه بأن الاستشهاد بتقرير النقَلة كلامَهم وأنه لم يخرج عن قوانين العرب. وقال ابن جنّي: يُسْتَشْهَدُ بشِعر المولَّدين في المعاني كما يُستَشْهد بشِعر العرب في الألفاظ.
والرابع أن يكون الناقل قد سمع منهم حِسًّا، وأمَّا بغيره فلا.
الخامس أن يسمع من الناقل حسًّا. انتهى.
وقال ابن جني في الخصائص: مَنْ قال إن اللغة لا تُعْرَف إلا نقلًا فقد أخطأ فإنها قد تُعَلمُ بالقرائن أيضا فإن الرجل إذا سمع قول الشاعر:
قومٌ إذا الشرُّ أَبْدَى نَاجِذيه لهم ** طارُوا إليه زَرَافات وَوُحْدَانا
يعلم أن الزرافات بمعنى الجماعات.
وقال عبد اللطيف البغدادي في شرح الخطب النباتية: اعلم أن اللغوي شَأنُه أن يَنْقُل ما نطقت به العربُ ولا يتعدّاه، وأما النحوي فشأنُه أن يتصرّف فيما ينْقُله اللغوي ويقيس عليه؛ ومِثَالُهما المحدِّث والفقيه فشأنُ المحدّث نقلُ الحديث برُمَّته ثم إن الفقيهَ يتلقَّاه ويتصرَّفُ فيه ويبسط فيه عِلَله ويقيسُ عليه الأمثال والأشباه. قال أبو علي فيما حكاه ابن جنّي: يجوزُ لنا أن نقيس منثورنا على منثورهم وشعرَنا على شعرهم.
المسألة الثالثة عشرة: في أن اللغة هل تثبت بالقياس
قال الكِيَا الهرَّاسي في تعليقه الذي استقرّ عليه آراء المحققين من الأصوليين: إن اللغة لا تَثْبت قياسا ولا يجري القياس فيها.
وقال كثيرٌ من الفقهاء: القياسُ يجري في اللغة وعُزِي هذا إلى الشافعيّ رضي الله عنه ولم يدُل عليه نصُّه إنما دلَّت عليه مسائلُه؛ فنُصدِّر المسألة بتصويرها فنقول: أما أسماء الأعلام الجامدة والألقاب المحضة فلا يجري القياسُ فيها لأنه لا يُفيد وصفًا للمُسَمَّى وإنما وُضِعَت لمجرَّد التعيين والتّعريف ولو قَلَبْتَ فَسَمَّيْت زيدًا بعمرو وعكسه لصحّ إذ كلُّ اسمٍ منها لم يختص بمن سُمِّي به لمعنًى حتى لا يجوزَ أن يُعْدَل به إلى غيره فليست هذه الصورةُ من محلّ الخلاف. ولا يجوزُ أيضا أن يكونَ محلّ الخلاف المصادر التي يُقال هي مشتَقةٌ من الأفعال نحو ضرب ضربًا فهو ضارب وقتل قَتْلًا فهو قاتل فهذا ليس بقياس بل هو معلومٌ ضرورة من لغتهم ونُطْقِهم به على هذا الوجه ولكنّ محلّ الخلاف الأسماءُ المشتقَّة من المعاني كما يُقال في الخمر إنه مشتقٌّ من المُخَامرة أو التَّخْمير فإذا سُمِّي خَمْرًا من هذا الاشتقاق كان ما وُجِد فيه ذلك خمرًا كالنبيذ وغيره.
قال: وهذا عندنا باطلٌ، والدليل عليه أن إجراءَ القياس في اللغة لا يخلُو إما أن يُعْلَمَ عقلًا أو نقلًا أما العقلُ فلا مجالَ له في ذلك لأنه يجوزُ أن يكونَ واضعُ اللغة قد قصدَ بهذا الاسم أن يختصّ بما سُمِّي به ويجوز أن يكُونَ لم يقصد الاختصاص بل يُسمّى به كلّ ما في معناه وإذا كان الأمران جائزين في العقل لم يرجَّح أحدُهما على الآخر من غير مرجّح. وإن كان بطريق النقل فالنقل إما تَوَاتُر أو آحاد. أما التواتر فلا مَطْمع فيه إذْ لو كان لَعَلِمْناه ولكان مُخَالِفُه مكابرًا وأما الآحادُ فظنٌّ وتخمين لا يستندُ إلى أصلٍ مَقطوع به.
فإن قيل: فالأقيسةُ الشرعيةُ كلُّها مظنونةٌ ويُعْمَل بها.
قلنا: تلك مستندة إلى سَمْعيّ مقطوعٍ به في وجوب العمل وهو إجماعُ الصحابة وليس في قياس اللغة شيءٌ من ذلك.
فإن قيل: فالمعنى الظاهرُ في موضع الاشتقاق أصلٌ يُقاس عليه فكلُّ محَلٍّ يوجدُ فيه ذلك المعنى ينبغي أن يَجْري عليه ذلك الاسم.
قلنا: قد بيَّنا أن ذلك ظنٌّ وتخمينٌ لا يَسْتَنِدُ العملُ به إلى أصلٍ مَقْطوع به فكيف يقاسُ عليه وقال أبو الفتح بن برهان في كتاب الوصول إلى الأُصول: لا يجوزُ إجراءُ القياس في الأسامي اللغوية المشتقّة خلافًا للقاضي وابن شُرَيح وطوائفَ من الفقهاء فإنهم أثبتوا الأسَامِي بالقياس وقالوا: النبيذُ يسمَّى خمرًا لأن فيه شدة مُطْرِبة فهو كعصير العنب. واللِّوَاط يسمى زنًا لأنه وَطْء في فرج مُشتهى طبعًا محرّمٍ قطعًا فكان زنًا كالوَطْءِ في القُبل.
وذَكَرَ الدليل على ردّه كما تقدم في كلام الكِيَا الهرّاسِي في تعليقه سواء.
ثم قال: وعمدةُ الخَصْم أن العرب وَضعت اسمَ الفرس للحيوان الذي كان في زمانهم موجودًا ثم انقَرضَ وحدَث حيوانٌ آخرُ فسمِّي بذلك بطريق الإلحاق والقياس. قلنا: هذا ليس بصحيح بل العرب وضعت هذا الاسم للجنس، والجنس لا ينقرض.
قالوا: إذا جاز إجراءُ القياسِ في الأحكام الشَّرعية عند فَهْم المعنى جاز إجراءُ القياس في الأسَامِي اللغوية عند فَهْم المعنى. قلنا: هذا باطلٌ فإن القياس الشَّرعي إنما جاز إثباتُ الأحكام به بالإجماع المتَّفَق عليه وليس فيما تنَازعْنَا فيه إجماع وليس المقصودُ من إثبات الاسم اللغوي إثباتَ الحكم فإن القياسَ يجري في الأسامي اللغوية قبل الشَّرع على رأي مُثْبتي القياس في اللغة ولأن المعنى في القياس الشَّرعي مطَّرِد وفي القياس اللغوي غيرُ مطَّرد فإن البَنْج لا يسمّى خمرًا وإن كان يخامِرُ العقل والدار لا تسَمَّى قارُورة وإن كانت الأشياء تستقرّ فيها والغرابُ لا يسمى أَبْلَق وإن اجتمع فيه السوادُ والبياض فليس القياسُ الشرعي كالقياس اللغوي في المعنى وإن تمسّكوا بأنَّ القياسَ يجري في المصادر نحو ضرب يضرِب ضربًا وأكل يأكل أكلًا فلسنا نسلّم أن [ اللغة ] تثبت بالقياس وإنما تثبتُ نقلًا عن العرب.
وقال إمامُ الحرَمين في البرهان: ذهب بعضُ أصحابنا في طوائف من الفِرَق إلى أن اللغةَ لا يمتنعُ إثباتها قياسًا وإنما قالوا ذلك في الأسماء المشتقّةِ كالخمر فإنها من التخمير أو المخامرة فقال هؤلاء: إن خَصّصَت العربُ في الوضع اسم الخمر بالخمر النيئة العتيقة يجوزُ تسميةُ النبيذ المشتدّ خمرًا لمشاركتِه الخمر النيئة فيما منه اشتقاقُ الاسم.
والذي نرتضيه أن ذلك باطلٌ لِعلْمنا أن العربَ لا تلتزم طردَ الاشتقاق وأقربُ مُمَالٍ إليه أن الخمرَ ليس في معناها الإطراب وإنما هي المخامرة أو التخمير فلو ساغ الاستمساكُ بالاشتقاق لكان كلُّ ما يَخْمِر العقل أو يُخامره ولا يُطْربُ خمرًا وليس الأمر كذلك والقولُ الضابطُ فيه أن الذي يدّعي ذلك إن كان يزعمُ أن العربَ أرادته ولم تَبُح به فهو متحكّم من غير تثبّت وتوقيف فإن اللغاتِ على خلاف ذلك ولم يصح فيها ادّعاءُ نَقْل وإن كان يزعمُ أن العربَ لم تَعْن ذلك فَيُلْحِق فإلحاق شيءٍ بلسانها - وهي لم تُرِده - محال. والقياسُ في حكم من يبتدئُ وضع صيغة.
فإن قيل: الأقيسة الحكمية يدور فيها هذا التقسيم. قلنا: أَجَل ولكنْ ثَبَتَ قاطعٌ سمعيّ على أنها متعلَّق الأحكام. فإن نقلتم قاطعًا من أهل اللسان اتَّبَعْنَاه. ثم السرُّ فيه أن الإجماع انعقَد على وجوب العمل عند قيام ظنون القائسين فلم تكن الظنونُ موجبةً علمًا ولا عملًا وليس في اللغات عَمل. وإن كنتم تظنون شيئا فلا نمنعكم من الظن ولكن لا يسوغُ الحكمُ بالظن المجرّد. فإن تعلّق هؤلاء بالأسماء المشتقَّة من الأفعال كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري على قضيَّةٍ واحدة فقد ثبت في هذه الفنون من طريق النقل اطّرادُ القياس فاتَّبعناه ولا يجري هذا في محلّ النزاع.
قال الغزالي في المنخول: اختلفوا في أن اللغات هل تثبتُ قياسًا ووجهُ تنقيح محلّ النزاع أن صوغَ التصاريف على القياس ثابتٌ في كل مصدر نُقِل بالاتّفاق وهو في حكم المنقول وتبديلُ العبارات ممتنعٌ بالاتّفاق كتسمية الفرس دارًا وتسميةِ الدار فرسًا ومحلُّ النزاع القياسُ على عبارة تشير إلى معنى وهو حائدٌ عن منهج القياس كقولهم للخمر خمرًا لأنه يُخامر العقل أو يَخْمِرُه فهل تسمَّى الأشربة المخامِرة للعقل خمرًا وكذا قولهم للبعير إذا استحقَّ الحمل فهو حِقّ.
وجوَّز الأستاذُ أبو إسحاق مثلَ هذا القياس. والمختار مَنْعه لنا؛ إن كان إثبات هذا القياس مظنونًا فلا يُقبل إذ ليس هذا في مَظِنّة وجوبِ عمل وإن كان معلومًا فأثْبتوا مستنده ولا نَقْل من أهل اللغة في جواز ذلك ولا من الشارع ومسلكُ العقل ضروريّة ونظريّة منحسم في الأسامي واللغات وإن قاسوا على القياس في الشرع فَتَحكُّم لأن مستند ذلك التأسّي بالصحابة فما مستندُ هذا القياس ثم أطبقوا على أن البَنْج لا يسمَّى خمرًا مع كونه مخَمِّرًا فإن سَمّوه فليسمُّوا الدار قارورة لمشاركتها القارورة في هذا المعنى وهذا محال.
المسألة الرابعة عشرة: في سعة اللغة
قال بعض الفقهاء: كلامُ العرب لا يحيطُ به إلا نبيٌّ.
قال ابن فارس: وهذا كلام حَرِيٌّ أن يكونَ صحيحًا وما بَلَغَنا أن أحدًا ممنْ مَضَى ادَّعى حفظَ اللغة كلِّها. فأما الكتابُ المنسوب إلى الخليل وما في خاتمته من قوله: هذا آخرُ كلام العرب فقد كان الخليلُ أورعَ وأتقى لله تعالى من أن يقول ذلك.
وقد سمعت علي بن محمد بن مِهْرُوَيه يقول: سمعت هارون بن هزاري يقول: سمعت سفيان بن عُيَيْنة يقول: مَن أحبَّ أن ينظرَ إلى رجلٍ خُلِقَ من الذَّهب والمِسك فليَنْظُر إلى الخليل بن أحمد.
وأخبرني أبو داود سليمان بن يزيد عن ذلَل المَصاحفي عن النَّضْر بن شُمَيل قال: كنا نُمَيِّل بين ابن عَوْنٍ والخليل بن أحمد أيهما نُقدّم في الزهد والعبادة فلا نَدْري أيهما نقدّم.
قال: وسمعتُ النضر بن شُمَيل يقول: ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بالسُّنَّة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد.
قال: وسمعتُ النضر يقول: أُكِلَت الدنيا بأدَب الخليل وكُتُبِه وهو في خُصّ لا يُشْعَر به.
قال ابن فارس: فهذا مكان الخليل من الدِّين، أَفَتُرَاه يُقْدِم على أن يقول: هذا آخرُ كلام العرب؟ ثم إن في الكتابِ المَوْسُوم به من الإخلال ما لا خفاءَ به على علماء اللغة، ومَنْ نظر في سائرِ الأصناف الصحيحة عَلِم صحَّةَ ما قُلْناه. انتهى كلام ابن فارس.
وهذا الذي نَقَله عن بعض الفقهاءِ نصَّ عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه فقال في أوائل الرسالة: لسانُ العرب أوسعُ الألسنة مذهبًا وأكثرُها ألفاظًا ولا نعلمُ أن يحيط بجميع عِلْمِه إنسان غير نبيّ ولكنه لا يذهبُ منه شيء على عامتها حتى لا يكونَ موجودًا فيها مَنْ يعرِفه والعلمُ به عند العرب كالعِلم بالسّنة عند أهلِ الفقه لا يعلمُ رجلٌ جميعَ السنن فلم يذهب منها عليه شيء وإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن. وإذا فرّق عِلْم كلِّ واحد منهم ذهب عليه الشيءُ منها ثم ما ذهب منها عليه موجودٌ عند غيره وهم في العلم طبقاتٌ منهم الجامعُ لأكْثَره وإن ذهب عليه بعضُه ومنهم الجامعُ لأقلَّ مما جمع غيرُه وليس قليلُ ما ذهب من السُّنن على مَنْ جمع أكثرَها دليلًا على أن يطلبَ عِلمه عند غير أهل طبقته من أهلِ العلم بل يَطلبُ عند نُظرائه ما ذهب عليه حتى يُؤتى على جميع سنن رسول الله ﷺ بأبي هو وأمي فتفرَّد جملة العلماء بجملتها وهم درجات فيما وعوا منها وهذا لسانُ العرب عند خاصتِها وعامتها لا يذهبُ منه شيءٌ عليها ولا يُطْلبُ عند غيرها ولا يعلمُه إلا من قبله منها ولا يَشْرَكها فيه إلا من اتَّبعها وقبِله منها فهو من أهل لسانها وعِلْمُ أكثر اللسان في أكثر العرب أعمُّ من عِلْم أكثر السنن في العلماءِ. هذا نص الشافعي بحُروفِه.
وقال ابن فارس في موضع آخر: باب القول على أن لغة العرب لم تنته إلينا بكلّيتها وأن الذي جاءنا عن العرب قليل من كثير وأن كثيرا من الكلام ذهب بِذهَاب أهله.
ذهب علماؤُنا أو أكثرُهم إلى أنَّ الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلُّ ولو جاءَنا جميعُ ما قالوه لجاءنا شعرٌ كثيرٌ وكلامٌ كثير، وأَحْرِ بهذا القول أن يكونَ صحيحًا لأنَّا نرى علماء اللغة يختلفون في كثيرٍ مما قالَتْه العربُ فلا يكادُ واحدٌ منهم يُخبرُ عن حقيقةِ ما خُولف فيه بل يسلك طريقَ الاحتمال والإمكان. ألا ترى أنَّا نسألهم عن حقيقةِ قَوْل العرب في الإغراء: كَذَبك كذا. وعما جاءَ في الحديث من قَوْله: كَذَب عليكم الحجُّ. وكَذَبك العسَلُ. وعن قول القائل:
[ كذَبْتُ عليكم أَوْعِدُوني وعَلّلوا ** بِيَ الأرضَ والأقوامَ قِرْدانَ مَوْظَبا.
وعن قول الآخر: ]
كَذَبَ العَتِيقُ وماءُ شَنٍّ بارِدٌ ** إن كُنتِ سائِلتي غَبُ وقًا فاذْهبي
ونحن نعلم أن قول كذب يَبْعُدُ ظاهره عن باب الإغراء. وكذلك قولهم: عَنْكَ في الأرض، وعَنْكَ شيئا. وقول الأفْوَه:
عنكُم في الأرض إنَّا مَذْحِجٌ ** ورُوَيدًا يَفْضَح الليلَ النهارُ
ومن ذلك قولهم: أَعْمَدُ من سيِّدٍ قَتَله قومُه. أي هل زاد على هذا. فهذا من مُشْكِلِ الكلام الذي لم يُفَسَّر بعدُ وقال ابن مَيّادة:
وأعْمَدُ من قومٍ كَفَاهم أخُوهُمُ ** صِدامَ الأَعادي حين فُلَّتْ نُيوبُها
قال الخليل وغيره: معناه هل زدنا على أن كفينا [ إخواننا ]ز
وقال أبو ذؤيب:
صَخِبُ الشَّوَارِبِ لا يزالُ كأنَّه ** عبدٌ لآلِ أبي رَبيعةَ مُسْبَعُ
فقوله مسبع ما فُسِّر حتى الآنَ تَفْسيرًا شافيًا.
ومن هذا الباب قولهم: يا عِيد ما لَك، ويا هَيْء ما لك، ويا شيءَ ما لك. ولم يُفَسِّروا قولهم: صَهْ، وَوَيْهَك، وإنيهْ، ولا قول القائل: بخاي بِكَ الحَقْ يَهْتِفون وحَيَّ هَلْ[8] ويقولون: خاءِ بكما وخاء بكم.
فأما الزَّجْرُ والدُّعاءُ الذي لا يُفهَمُ موضوعُه فكثيرٌ كقولهم: حيَّ وحيَّ هَلا وبعَيْنٍ ما أَرَيَنَّك، في مَوْضعِ اعْجل. وهَجْ وهَجَا ودَعْ وَدَعًا ولَعًا للعاثر، يدعون له.
ويُروى عن النبيّ ﷺ أنه قال: لا تَقولوا دَعْدَعْ ولا لَعْلَعْ ولكن قولوا اللهمَّ ارْفَع وَانْفَعْ. فلولا أن للكلمتين معنًى مفهومًا عند القومِ ما كَرِههما ﷺ.
وقولهم في الزَّجْرِ: أخِّرْ وَأَخِّرِي وهَأْهَأْ وهَلا وهَابْ وَأَرْحِبْ وَأرْحِبي وَعَدْعَدْ وعاجِ وياعاطِ وِيَعَاطِ وإجِدْ واجْدَمْ وجِدِحْ. لا نعلم أحدًا فسَّر هذا. وهو باب يكثرُ ويُصَحِّحُ ما قلناه.
ومن المشتَبَه الذي لا يقالُ فيه اليومَ إلا بالتّقريب والاحتمال وما هو بغريب اللفظ لكنَّ الوقوف على كُنهه مُعتَاصٌ قولنا: الحِين والزمانُ والدهرُ والأوَان وبضع سنين والغِنَى والفَقْر والشريف والكريم واللئيم والسّفِيه والسِّفْلة وما أشبه ذلك مما يطول ولا وجه فيه غير التقريب والاحتمال وإلا فإن تحديدَه حتى لا يجوزَ غيرُه بعيد.
وقد كان لذلك كلِّه ناس يعرفونه وكذلك يعلمون معنى ما نَسْتَغْرِبه اليوم نحن من قولنا عُبْسور في الناقة وعَيْسَجُور وامرأة ضِناك وفرس أشقُّ أمَقُّ خِبَقُّ، ذهب هذا كله بذهاب أهله ولم يبق عندنا إلا الرَّسمُ الذي نراه.
قال: وعلماء هذه الشريعة وإن كانوا اقتصروا من علم هذا على معرفة رَسْمِه دون عِلْم حقائقه فقد اعتاضوا عنه دَقيقَ الكلام في أصول الدِّين وفروعه من الفقه والفرائض ومن دقيق النحو وجليله ومن عِلْم العَرُوض الذي يُربأْ بحُسْنِه ودقَّته واستقامته على كل ما تبجَّح به الناسبون أنفسهم إلى الفلسفة. ولكلّ زمانٍ علم وأشرف العلوم علوم زماننا هذا ولله الحمد. هذا كلُّه كلام ابن فارس.
المسألة الخامسة عشرة: في عدة أبنية الكلام
قال ابن دريد في الجمهرة: إذا أردت أن تُؤَلِّف بناءً ثُنائيًّا أو ثلاثيًّا أو رُباعيًّا أو خُماسيًّا فخذْ من كل جنس من أجناس الحروف المتباعدة ثم أَدِرْ دَارَةً فوّقع ثلاثة أحرف حَواليها ثم فُكَّها من عند كل حرفٍ يمنة ويسرة حتى تُفَكّ الأحرفُ الثلاثة فيخرج من الثلاثي
ستة أبنية [ ثلاثية ] وتسعة أبنية ثنائية - وهذه هي الصورة: [9]
ب ∆ ج د
فإذا فعلت ذلك استقصيتَ من كلام العرب ما تكلَّموا به وما رغبوا عنه.
قال: وأنا مفسر لك ما يرتفع من الأبنية الثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية إن شاء الله تعالى بضَرْبٍ من الحِساب واضح.
فإذا أردت أن تستقصي من كلام العرب ما كان على حرفين مما تكلموا به أو رغبوا عنه مما يَأتَلف أو لا يأتلف مثل: كم وقد وعن وأخواتها فانظر إلى الحروف المعجمة وهي ثمانيةٌ وعشرون حرفًا فاضْرب بعضها في بعض تبلغ سبعمائة وأربعة وثمانين حَرْفًا ولا يكون الحرف الواحد كلمة. فإذا أزوجتهن [10] حرفين حرفين صِرْن ثلاثمائة واثنتين وتسعين بناءً مثل دم وما أشبهه، فإذا قَلَبْتَهُ عاد إلى سبعمائة وأربعة وثمانين بناء، منها ثمانية وعشرون [ بناء ] مشتَبهة الحرفين مثل هه - قلْبُه وغير قَلبه [ لفظٌ ] واحد - ومنها مائة وخمسون بناء ثنائية ممزوجة بهذه الأحرف الثلاثة [ المعتلة ] الياء والواو والهمزة، ويجمعها خمسة وسبعون بناءً ثنائيًا قبل القلب، ومنها ستة أبنية معتلّة يَجْمَعُها ثلاثة أبنية قبل القلْب، ومنها ثلاثة أبنية مضاعفة وخمسة وعشرون بناء ثنائيًا صحاحًا مضاعفة. فافهم فقد بيَّنت لك عِدّة ما يخرج من الثنائي مما تكلَّموا به ورغبوا عنه.
وإذا أردت أن تؤلّف الثلاثي فاضرب ثلاثة أحرف معتَلات في التسعة الثنائية المعتلة فتصير سبعة وعشرين بناء ثلاثية معتلات كلها. وتضرب الثلاثة المعتلات أيضا في مائة وخمسين بناء ثنائيًا حرف منها صحيح وحرف منها معتل فتصير أربعمائة وخمسين بناء ثلاثيًا حرفان منها معتلّان وحرف صحيح، وتضرب الثلاثة المعتلات في ستمائة بناء صحيحة الحرفين فتصير ألفًا وثمانمائة بناء ثلاثي حرفان منها صحيحان وحرف معتل. وتضرب خمسة وعشرين حرفًا صحيحًا في ستمائة بناء ثنائي صحاح الحروف فتصير خمسة عشر ألفًا وستمائة [ وخمسة ] وعشرين بناء ثلاثيًا. فهذا أكثرُ ما يخرج من البناء الثلاثي.
فإذا أردت أن تؤلِّف الرباعي فعلى القياس تضرب الثلاثة المعتلات في السبعة والعشرين بناء ثلاثيًا، ثم تضرب في أربعمائة وخمسين، ثم في الألف والثمانمائة، ثم تضرب الخمسة والعشرين الصحاح في الخمسة عشر ألف بناء ثلاثي صحاح الحروف [ مضاعفة ]؛ فما بَلَغ فهو عدد الأبنية الرباعية. وكذلك سبيل الخماسي الصحيح؛ فأما السداسي فلا يكون إلا بالزوائد. انتهى.
وذكر حمزة الأصبهاني في كتاب الموازنة فيما نقله عنه المؤرخون قال: ذَكَر الخليل في كتاب العين أن مبلغ عدد أبنية كلام العرب المُسْتَعمَل والمهمل على مراتبها الأربع من الثنائيّ والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرار اثنا عشر ألف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة آلاف وأربعمائة واثنا عشر: الثنائي سَبعِمائة وستة وخمسون، والثلاثي تسعة آلاف ألف وستمائة وخمسون، والرباعي أربعمائة مائة ألف وواحد وتسعون ألفًا وأربعمائة، والخماسي أحد عشر ألف ألف وسبعمائة ألف وثلاثة وتسعون ألفًا وسِتمائة. [11]
وقال أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي في مختصر كتاب العَين: عدّةُ مُسْتَعْمَلِ الكلام كلِّه ومُهمَلِه ستةُ آلاف ألف وسِتِّمائة ألف وتسعةٌ وخمسون ألفًا وأربعمائة، المستعملُ منها خمسةُ آلاف وسِتمائة وعشرون والمهملُ ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وتسعون ألفًا وسبعمائة وثمانون، عِدَّةُ الصحيح منه ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وخمسون ألفًا وأربعمائة والمعتلَّ ستة آلاف. المستعملُ من الصحيح ثلاثة آلاف وتسعمائة وأربعة وأربعون والمهملُ منه ستة آلاف ألف وتسعة وثمانون ألفًا وأربعمائة وستة وخمسون المستعمل من المعتل ألف وستمائة وستة وسبعون والمهملُ منه أربعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وعشرون. عدّة الثنائيّ سبعمائة وخمسون والمستعملُ منه أربعمائة وتسعة وثمانون والمهملُ مائتان وواحد وستون الصحيح منه ستّمائة والمعتل مائة وخمسون المستعمل من الصحيح أربعمائة وثلاثة والمهمل مائة وسبعة وتسعون والمستعمل من المعتل ستة وثمانون والمهملُ أربعة وستون. وعدّة الثلاثي تسعة عشر ألفًا وستمائة وخمسون المستعمل منه أربعة آلاف ومائتان وتسعة وستون والمهملُ خمسة عشر ألفًا وثلاثمائة وواحد وثمانون. الصحيح منه ثلاثة عشر ألفًا وثمانمائة والمعتلُّ سوى اللفيف خمسة آلاف وأربعمائة واللَّفيفُ أربعمائة وخمسون. المستعمل من الصحيح ألفان وستمائة وتسعة وسبعون والمهملُ أحد عشر ألفًا ومائة وواحد وعشرون. والمستعملُ من المعتل سوى اللفيف ألف وأربعمائة وأربعة وثلاثون والمهملُ ثلاثة آلاف وتسعمائة وستة وستون. والمستعملُ من اللفيف مائة وستة وخمسون والمهملُ مائتان وأربعة وتسعون. وعدّة الرباعيّ ثلاثمائة ألف وثلاثة آلاف وأربعمائة المستعمل ثمانمائة وعشرون والمهملُ ثلاثمائة ألف وألفان وخمسائة وثمانون. وعدَّة الخماسيّ ستة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفًا وستمائة المستعمل منه اثنان وأربعون والمهملُ ستة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفًا وخمسمائة وثمانية وخمسون.
قال الزبيدي وهذا العددُ من الرباعي والخماسي على الخمسة والعشرين حرفًا من حروف المعجم خاصة دون الهمزة وغيرها وعلى ألا يتكرر في الرباعي والخماسيّ حرف من نَفْس الكلمة.
قال: وعدة الثنائي الخفيف والضربين من المضاعف على نحو ما ألحقناه في الكتاب: ألفا حرف ومائتا حرف وخمسة وسبعون حرفًا المستعملُ من ذلك ألف حرف وثمانمائة وخمسة وعشرون والمعتل أربعمائة وخمسون المستعملُ من الصحيح تسعة وخمسون والمهمل ألف وسبعمائة وستة وستون والمستعملُ من المعتل ثلاثة وأربعون والمهمل أربعمائة وسبعة.
المسألة السادسة عشرة
أول من صنف في جمع اللغة الخليل بن أحمد: ألف في ذلك كتاب العَين المشهور. قال الإمام فخر الدين في المحصول: أصلُ الكُتب المصنفة في اللغة كتابُ العين، وقد أَطْبَق الجمهور من أهل اللغة على القَدْح فيه. وقال السِّيرافِي في طبقات النحاة في ترجمة الخليل: عملَ أوَّل كتاب العين المعروف المشهور الذي به يتهيّأ ضبطُ اللغة وهذه العبارةُ من السِّيرافي صريحةٌ في أن الخليلَ لم يُكَمِّلْ كتابَ العين وهو الظَّاهرُ لما سيأتي من نَقْل كلام الناس في الطَّعْن فيه بل أكثرُ الناس أنْكَرُوا كونَه من تصنيف الخليل.
قال بعضهم: ليس كتابُ العين للخليل وإنما هو لِلَّيث بن نَصْر بن سيّار الخُرَاساني.
وقال الأزهري: كان الليثُ رجلًا صالحًا عمِل كتاب العين ونسبَه إلى الخليل ليَنْفُق كتابُهُ باسمِه ويَرْغب فيه [ من حوله ].
وقال بعضهم: عَمِلَ الخليلُ من كتاب العين قطعةً من أوَّله إلى حرف الغين وكَمَّله الليث ولهذا لا يُشْبِهُ أولَه آخرُه.
وقال ابن المعتز: كان الخليلُ منقطعًا إلى اللَّيْث فلما صنَّف كتابه العين خصَّه به فحظِيَ عنده جدا ووقع منه مَوْقِعًا عظيمًا ووهَبَ له مائة ألف [ درهم ] وأقبل على حِفْظِه ومُلازَمَتِهِ فحفظ منه النصف [ وكانت تحته ابنة عمه ] واتفق أنه اشترى جارية نفيسةً فَغَارَت ابنةُ عمه وقالت: والله لأغيظنَّه وإن غِظْتُه في المال لا يُبَالي ولكني أراهُ مُكِبًّا ليلَه ونهارَه على هذا الكتاب والله لأفجَعَّنه به فأحْرَقتْهُ فلما عَلِمَ اشتدَّ أسفُه ولم يكن عند غيرِه منه نسخةٌ وكان الخليلُ قد مات فأمْلَى النِّصْفَ من حِفْظه وجمع علماءَ عصره وأمرهم أن يُكَمِّلُوه على نَمَطه وقال لهم: مَثِّلوا واجتهدوا فعملوا هذا التَّصْنيف الذي بأيْدِي الناس. أَوْرَدَ ذلك ياقوت الحموي في معجم الأدباء.
وقال أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي في كتاب مراتب النحويين: أبْدَعَ الخليلُ بَدائع لم يُسْبَق إليها، فمن ذلك تأليفُه كلامَ العرب على الحروف في كتابه المُسمَّى كتابَ العين فإنه هو الذي رتب أبوابه وتوفي من قبل أن يحشوه.
أخبرنا محمد بن يحيى قال: سمعت أحمد بن يحيى ثعْلَبَ يقول: إنما وقَع الغلطُ في كتاب العين لأَنَّ الخليلَ رسمَهُ ولم يَحْشه ولو كان هو حَشاه ما بقيَ فيه شيءٌ لأَن الخليل رجلٌ لم يُرَ مثلُه وقد حشا الكتاب أيضا قومٌ علماء إلا أنه لم يُؤخذ منهم روايةً وإنما وُجد بنقل الورَّاقين فاختلَّ الكتابُ لهذه الجهة.
وقال محمد بن عبد الواحد الزاهد: قال: حدثني فتًى قَدِمَ علينا من خُراسان وكان يقرأ عليَّ كتاب العين قال: أخبرني أبي عن إسحاق بن راهَويْه قال: كان الليثُ صاحبُ الخليل بن أحمد رجلًا صالحًا وكان الخليلُ عَمِل من كتاب العين باب العين وحدَه وأحبَّ الليثُ أن يَنْفُق سوقُ الخليل فصنَّف باقي الكتاب وسمَّى نفسه الخليل وقال لي مرّةً أخرى: فسمَّى لسانه الخليل من حبِّه للخليل بن أحمد. فهو إذا قالَ في الكتاب: قال الخليل بن أحمد: فهو الخليل. وإذا قال: وقال الخليلُ مطلقًا فهو يحكي عن نفسه فكلُّ ما في الكتاب من خَلل فإنه منه لا من الخليل. انتهى.
وقال النووي في تحرير التنبيه: كتابُ العين المنسوبُ إلى الخليل إنما هو من جَمْع الليثِ عن الخليل.
ذكر قدح الناس في كتاب العين
تقدَّمَ في كلام الإمام فخر الدين أنَّ الجمهورَ من أهل اللغة أَطْبَقُوا على القَدْح فيه وتقدَّم كلامُ ابن فارس في ذلك في المسألة الرابعة عشرة.
وقال ابن جني في الخصائص: أما كتابُ العين ففيه من التَّخْلِيط والخَلَل والفَساد ما لا يَجُوزُ أن يُحْمَل على أصْغَر أتباع الخليل فَضْلًا عن نفسه ولا محالة أن هذا التَّخْليط لَحِق هذا الكتابَ من قِبَل غيره فإن كان للخليل فيه عَمَلٌ فلعلَّه أوْمَأ إلى عمل هذا الكتاب إيماءً ولم يَلِه بنفسه ولا قرَّره ولا حرَّره ويدلُّ على أنه كان نحَا نحْوَه أنني أجدُ فيه معاني غامضة ونَزَوَات للفكر لطيفة وصيغةً في بعض الأحوال مستحكمة وذاكرتُ به يومًا أبا عليّ فرأيتُه مُنْكِرًا له فقلت له: إن تصنيفَه مُنْساق متوجّه وليس فيه التعسُّف الذي في كتاب الجمهرة فقال: الآن إذا صنَّف إنسان لغة بالتركية تصنيفًا جيدًا يؤخذ به في العربية أو كلامًا هذا نحوه. انتهى.
وقال أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي اللغوي مؤلّف مختصر العين في أول كتابه - اسْتِدْرَاكُ الغَلَطِ الواقع في كتاب العَين - وهو مجلَّد لطيف يخاطب بعضَ إخوانه: وصل إلينا أَيَّدَكَ الله كتابَك تذكُرُ فيه ما أُولع به قومٌ من ضَعَفَة أهل النَّظر من التحامل علينا والتسرّع بالقول فينا بما نسبُوه إلينا من الاعتراض على الخليل بن أحمد في كتابه والتَّخْطِئَة له في كثير من فُضُوله وقلت: إنهم قد استمالوا جماعةً من الحشوية إلى مذهبهم وعَدَلوا بهم إلى مقالتهم بما لبّسوا به وشنَّعوا القول فيه وسألتَ أن أَحْسم ما نَجَم من إفْكِهِم وأرد ما نَدَر من وقد كنتَ - أَيَّدَك الله في صحَّة تمييزك وعظيم النعمة عليك - في نظرك جديرًا ألا تُعرِّج على قوم هم بالحال التي ذَكرتَ وأن يقعَ لهم العذرُ لديك بوجوه جَمَّة منها: تخلّفهم في النظر وقلةُ مطالعتهم للكتب وجهلُهم بحُدُودِ الأدب مع أن العلَّة المُوجبة لمقالتهم والباعثةَ لتسرُّعِهم علةُ الحسد الذي لا يُدَاوى سَقَمه ولا يُؤْسَى جرحه فقد قال الحكيم: كلُّ العَداوات قد تُرجى إفاقتها إلا عداوةَ مَنْ عاداك من حَسدِ أوليسَ من العجب العجيب والنادِر الغريب أن يَتوهَّم علينا مَنْ به مُسْكَة من نظَرٍ أو رمَق من فَهْم تخطئةَ الخليل في شيءٍ من نظرِه والاعتراضَ عليه فيما دقَّ أو جلّ من مذهبه والخليلُ بنُ أحمد أَوْحَدُ العصر وقريعُ الدَّهر وجِهْبِذ الأُمة وأستاذُ أهل الفِطْنَة الذي لم يُرَ نظيرُه ولا عُرِف في الدنيا عديلُه وهو الذي بَسط النحوَ ومَدَّ أطنابَه وسبَّب عِلَلَه وفَتَقَ معانيه وأوضحَ الحِجاج فيه حتى بلغ أَقْصى حدودِه وانتهى إلى أبعدِ غاياته ثم لم يرضَ أن يؤلِّفَ فيه حرفًا أو يَرْسُمَ منه رَسْمًا نَزَاهَةً بنفسه وتَرَفُّعًا بقَدْرِه إذ كان قد تقدّم إلى القول عليه والتأليف فيه فَكَرِهَ أن يكونَ لمن تقدّمه تاليًا وعلى نظَرِ مَن سَبَقهُ مُحْتَذِيًا واكتفى في ذلك بما أَوْحَى إلى سيبويه من عِلْمِه ولقَّنه من دقائقِ نَظره ونتائج فِكره ولطائفَ حكمته فحَمل سيبويه ذلك عنه وتقلّده وألفَّ فيه الكتاب الذي أعجَزَ من تقدَّم قبلَه كما امتنع على من تأخَّرَ بعده.
ثم ألف على مذهب الاخْتراع وسبيل الإبداعِ كتابي الفرش والمثال في العَروض فحصرَ بذلك جميعَ أوزانِ الشعر وضمَّ كلَّ شيءٍ منه إلى حيِّزه وأَلْحَقَه بشَكْله وأقام ذلك عن دوائرَ أَعْجَزَتِ الأذهان وبَهَرَتِ الفِطَن وغمرتِ الألباب وكذلك ألَّف كتاب المُوسيقى فَزَمَّ فيه أصناف النَّغَم وحَصَر به أنواع اللحون وحدَّد ذلك كلّه ولخّصه وذكر مَبَالغ أقسامه ونهاياتِ أعداده فصار الكتابُ عِبرةً للمُعتبرين وآيةً للمتوسِّمين.
ولما صنعَ إسحاق بن إبراهيم كتابَه في النَّغم واللّحون عَرضه على إبراهيم بن المهدي فقال له: لقد أحسنتَ يا أبا محمد وكثيرا ما تُحْسِنُ فقال إسحاق: بل أحسنَ الخليلُ لأَنه جعلَ السبيلَ إلى الإحسان فقال إبراهيم: ما أحسن هذا الكلام فمِمَّنْ أخَذْتَهُ قال: من ابن مُقْبِل إذ سمع حمامةً فاهْتاج فقال: ولو قَبْلَ مَبْكاها بكيتُ صبابةً إذًا لشَفيت النفسَ قبل التندُّم ولكن بكَتْ قبلي فهاج ليَ البُكا بُكاها فقلت: الفضلُ للمتقدِّم ثم ذهب بعد - في حَصْر جمع الكلام - مذهبَهُ من الإحاطة التي لم يتعاطاها غيرُه ولا تعرّضها أحدٌ سواه فثقَّف الكلام وزمَّ جميعه وبيّن قيامَ الأبنية من حروف المُعْجم وتعاقب الحروف لها بنظَرٍ لم يُتَقَدَّم فيه وإبْداعٍ لم يُسْبَق إليه ورَسَمَ في ذلك رُسُومًا أكملَ قياسها وأعطى الفائدةَ بها فكان هذا قدرَه في العِلم ومبلغَه من النفاذ والفَهْم حتى قال بعضُ أهل العلم: إنه لا يجوزُ على الصِّراط بعد الأنبياءِ عليهم السلام أحدٌ أدقُّ ذِهْنًا من الخليل ولو أن الطاعنَ علينا يتصفّحُ صَدْر كتابُنا المختصر من كتاب العين لَعَلِمَ أنَّا نَزَّهْنا الخليل عن نِسْبَة المُحال إليه ونَفَيْنا عنه من القَوْل ما لا يليقُ به ولم نَعْدُ في ذلك ما كان عليه أهلُ العلم وحذَّاق أهل النظر.
وذلك أنَّا قلنا في صَدْر الكتاب: ونحن نَرْبأُ بالخليل عن نِسْبَة الخَلَل إليه أو التعرّض للمقاومة له بل نقول: إن الكتاب لا يصحّ له ولا يثبتُ عنه وأكثرُ الظن فيه أن الخليل سَبَّب أصله وثقَّف كلام العرب ثم هلَك قبل كَماله فتعاطى إتمامَه من لا يقومُ في ذلك مقامه فكان ذلك سببَ الخَللِ الواقع فيه والخطأِ الموجود فيه.
هذا لفظُنا نصًّا وقد وافقْنا بذلك مقالةَ أبي العباس أحمد بن يحيى ثَعْلب قبل أن نُطالِعَها أو نسمعَ بها حتى ألفيناها بخطّ الصولي في ذكر فضائل الخليل.
قال الصولي: سمعتُ أبا العباس ثعلبًا يقول: إنما وقع الغلطُ في كتاب العين لأنَّ الخليل رسَمهُ ولم يحشه ولو أن الخليل هو حشاه ما بقّى فيه شيئا لأن الخليلَ رجلٌ لم يُرَ مثلُه.
قال: وقد حَشَا الكتاب قومٌ علماء إلا أنه لم يُؤْخذ عنهم رواية إنما وُجد بنقل الورَّاقين فلذلك اختل الكتاب.
ومن الدليل على ما ذكره أبو العبّاس من زيادات الناس فيه اختلافُ نُسَخِه واضطرابُ رواياته، إلى ما وقع فيه من الحكايات عن المتأخِّرِين والاستشهاد بالمرذول من أشعار المُحْدَثين. فهذا كتابُ ابن مُنذر بن سعيد القاضي الذي كتبه بالقَيْروَان وقابلَه بمصر بكتابِ ابن وَلّاد وكتابُ ابن ثابت المُنتسَخ بمكة قد طالعناهما فألفينا في كثير من أبوابهما: أخبرنا المسعريّ عن أبي عُبيد، وفي بعضها: قال ابن الأعرابي وقال الأصمعي؛ هل يجوزُ أن يكون الخليل يروي عن الأصمعي وابن الأعرابي أو أبي عُبيد فضلًا عن المسعري؟ وكيف يروي الخليل عن أبي عبيد وقد توفي الخليل سنة سبعين ومائة وفي بعض الروايات سنة خمس وسبعين ومائة وأبو عبيد يومئذ ابن ست عشرة سنة، وعلى الرواية الأخرى ابن إحدى وعشرين سنة لأنَّ مَوْلد أبي عبيد سنة أربع وخمسين ومائة ووفاتَه سنة أربع وعشرين ومائتين. ولا يجوز أن يُسْمَع عن المسعري عِلُم أبي عُبيد إلا بعد مَوْتِه؛ وكذلك كان سماعُ الخُشَني منه سنة سبع وأربعين ومائتين، فكيف يُسْمَع الموتى في حالِ مَوْتهم أو يَنْقُلُون عمّن وُلِد مِن بعدهم؟
وحدثنا إسماعيل بن القاسم البغدادي - وهو أبو عليّ القالي - قال: لما وَرَدَ كتابُ العَين من بلد خُراسان في زمن أبي حاتم أنكره أبو حاتم وأصحابه أشدّ الإنكار ودفعَهُ بأبْلَغِ الدَّفع. وكيف لا ينكِرُهُ أبو حاتم على أن يكون بريئًا من الخَلَل سليمًا من الزَّلل. وقد غَبر أصحابُ الخليل بعدُ مدةً طويلة لا يعرفون هذا الكتابَ ولا يَسمعون به؛ منهم النَّضر بن شُميل ومُؤَرِّج ونصر بن علي وأبو الحسن الأخفش وأمثالهم، ولو أن الخليل ألَّف الكتاب لَحَمَله هؤلاءِ عنه وكانوا أَوْلَى بذلك من رجلٍ مجهول الحال غير مشهور في العلم انفرَدَ به وتوحَّدَ بالنقل له. ثم دَرَجَ أصحابُ الخليل فتوفي النضر بن شُمَيل سنة ثلاث ومائتين والأخفش سنة خمس عشرة ومائتين ومؤَرّج سنة خمس وتسعين [ ومائة ] ومضت بعدُ مدة طويلة ثم ظهر الكتابُ بأخَرَةٍ في زمان أبي حاتم وفي حال رياسته وذلك فيما قارب الخمسين والمائتين لأن أبا حاتم تُوُفِّي سنة خمس وخمسين ومائتين، فلم يلتفت أحدٌ من العلماءِ إليه يومئذ ولا استجازوا روايةَ حرفٍ منه، ولو صحَّ الكتابُ عن الخليل لبدر الأصمعي واليَزيدي وابن الأعرابي وأشباههم إلى تزيين كُتُبهم وتَحْلِيَة علمهم بالحكاية عن الخليل والنَّقْلِ لِعِلْمِه وكذلك مَنْ بعدهم كأبي حاتم وأبي عُبيد ويعقوب وغيرهم من المصنفين فما عَلِمنا أحدًا منهم نَقَلَ في كتابه عن الخليل من اللغة حَرْفًا.
ومن الدليل على صحّة ما ذكرناه أن جميعَ ما وَقَع فيه من معاني النحو إنما هو على مذهب الكوفيين وبخلاف مذهب البصريين فمن ذلك ما بُدِئَ الكتابُ به وبُني عليه من ذكر مَخارج الحروف في تقديمها وتأخيرها وهو على خلاف ما ذكره سيبيويه عن الخليل في كتابه وسيبويه حاملٌ علمَ الخليل وأوْثَقُ الناس في الحكاية عنه ولم يكن لِيَخْتَلِف قولُه ولا لِيتناقَض مذهبُه ولسنا نريدُ تقديم حرفِ العين خاصة للوَجْه الذي اعتلَّ به ولكن تقديمَ غير ذلك من الحروف وتأخيرها. وكذلك ما مضى عليه الكتابُ كلُّه من إدْخال الرُّباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف وهو مذهبُ الكوفيين خاصة. وعلى ذلك استمرَّ الكتابُ من أوّله إلى آخره إلى ما سنذكره من نحو هذا.
ولو أن الكتاب للخليل لما أَعْجَزَه ولا أشْكل عليه تثقيفُ الثنائيّ الخفيف من الصحيح والمعتل والثنائي المضاعف من المعتل والثلاثي المعتل بعِلّتين ولما جعل ذلك كله في باب سمَّاه: اللفيف فأدْخَلَ بعضَه في بعض وخَلَط فيه خَلْطًا لا ينفصلُ منه شيءٌ عما هو بخلافه ولوَضع الثُّلاثي المعتل على أقسامه الثلاثة لِيسْتَبينَ معتلُّ الياءِ من معتل الواو والهمزة ولما خلَط الرباعيّ والخماسي من أولهما إلى آخرهما.
ونحن على قَدْرنا قد هذَّبْنا جميعَ ذلك في كتابنا المختصَر منه وجَعَلْنا لكلِّ شيءٍ منه بابًا يحصُره وعددًا يجمعه. وكان الخليلُ أَوْلَى بذلك وأَجْدَر ولم نحْكِ فيه عن الخليل حَرْفًا ولا نَسَبْنا ما وقع في الكتاب عنه توخِّيًا للحق وقصْدًا إلى الصدق وأنا ذَاكِرٌ الآنَ من الخطأ الواقع في كتاب العين ما لا يذهب على َمنْ شَدَا شيئا من النَّحو أو طالَع بابًا من الاشتقاق والتّصريف ليقومَ لنا العُذْر فيما نَزَّهْنا الخليل عنه.
انتهى كلام الزبيدي في صَدْر كتاب الاستدراك.
قلت: وقد طالعته إلى آخره فرأيت وجهَ التَّخْطِئَة فيما خُطّئ فيه غالبُه من جهة التصريف والاشتقاق كَذِكْرِ حرفٍ مَزِيدٍ في مادّة أصلية أو مادةٍ ثلاثية في مادة رباعية ونحو ذلك وبعضُه ادّعى فيه التصحيف وأما أنه يُخَطأ في لفظة من حيث اللغة بأن يقال: هذه اللفظة كذبٌ أو لا تُعرف فمعاذَ الله لم يقع ذلك.
وحينئذ لا قَدْح في كتاب العين لأن الأولَ الإنكارُ فيه راجعٌ إلى الترتيب والوضْع في التأليف وهذا أمْرٌ هَيّن لأنَّ حاصله أن يقال: الأَوْلَى نقلُ هذه اللفظة من هذا الباب وإيرادُها في هذا الباب وهذا أمرٌ سَهلٌ وإن كان مقامُ الخليل يُنزَّه عن ارتكاب مثل ذلك إلا أنه لا يمنعُ الوثوقَ بالكتاب والاعتمادَ عليه في نقل اللغة. والثاني إن سُلِّم فيه ما ادّعى من التصحيف يقال فيه ما قالته الأئمة: ومَنْ ذا الذي سَلِمَ من التصحيف كما سيأتي في النوع الثالث والأربعين مع أنه قليل جدًا وحينئذ يزول الإشكال الذي يأتي نَقْله عن الإمام فخر الدين في النوع الثالث.
فائدة
ممن ألَّف أيضا الاستدراك على العين أبو طالب المُفَضَّل بن سَلَمَة بن عاصم الكُوفيّ من تلامذة ثعلب. قال أبو الطيب اللغوي: ردَّ أشياء من كتاب العين أكثرُها غيرُ مَردود. وأبو طالب هذا متقدِّم الوفاة على الزبيدي.
فائدة
قال أبو الحسن الشَّاري في فهرسته: كان شيخُنا أبو ذرّ يقول: المختصرات التي فُضِّلَت على الأمَّهات أربعة: مختصر العين للزَّبيدي ومختصر الزَّاهر للزَّجاجي ومختصر سيرة ابن إسحاق لابن هشام ومختصر الواضحة للفضل بن سلمة.
قال الشاري: وقد لهج الناسُ كثيرا بمختصر العين للزبيدي فاستعملوه وفضلوه على كتاب العين لكونه حذف ما أورده مؤلف كتاب العين من الشواهد المختلقة والحروف المصحّفة والأبنية المختلّة وفضَّلوه أيضا على سائر ما أُلِّف على حروف المعجم من كتب اللغة مثل جمهرة ابن دريد وكتب كُراع لأجل صِغَر حجمه وأَلْحَق به بعضهم ما زاده أبو علي البغدادي في البارع على كتاب العين فكَثُرَت الفائدة.
قال: ومذهبي ومذهب شيخي أبي ذرّ الخُشَني وأبي الحسن بن خَرُوف أن الزبيدي أخلَّ بكتاب العين كثيرا لحذفه شواهدَ القرآن والحديث وصحيح أشعار العرب منه.
ولما عَلِمَ ذلك من مُخْتَصَر العين الإمام أبو غالب تَمّام بن غالب المعروف بابن التَّيَّاني عمل كتابه العظيم الفائدة الذي سمَّاه بفَتْح العين وأتى فيه بما في العين من صحيح اللغة الذي لا اختِلاف فيه على وجهه دون إخْلالٍ بشيء من شواهد القرآن والحديث وصحيحِ أشعار العرب وطرَح ما فيه من الشواهد المختلقة والحروف المُصَحَّفة والأبنية المختلّة ثم زاد فيه ما زاده ابن دريد في الجمهرة فصار هذا الديوانُ محتويًا على الكتابين جميعًا وكانت الفائدةُ فيه فَصْلَ كتاب العين من الجمهرة وسِياقه بلفظه لِينْسب ما يحكى منه إلى الخليل إلا أن هذا الديوان قليلُ الوجود لم يعرّج الناسُ على نَسْخه بل مالوا إلى جمهرة ابن دريد ومُحكم ابن سيده وجامع ابن القَزَّاز وصِحَاح الجوهري ومُجْمَل ابن فارس وأفعال ابن القُوطيّة وابن طريف ولم يعرّجوا أيضا على بارع أبي عليّ البغدادي ومُوعَبُ أبي غالب بن التَّيَّاني المذكور وهما من أصحِّ ما أُلِّف في اللغة على حروف المعجم والكتُب التي مالوا إلى الاعتناءِ بها قد تكلَّم العلماءُ فيها إلا أن الجمْهرة لابنِ دريد أثنى عليه كثيرٌ من العلماءِ ويوجد منه النُّسَخُ الصحيحةُ المروِيَّة عن أكابر العلماء.
وقال بعضهم: إنه من أحسن الكتب المؤلَّفة على الحروف وأصحّها لغة وقد آخذه أبو علي الفارسي النحوي وأبو عليّ البَغدادي القَالِي وأبو سعيد السِّيرافي النحوي وغيرهم من الأئمة.
وأما كتاب العين المنسوب إلى الخليل فهو أصلٌ في معناه وهو الذي نهج طريقةَ تأليف اللغة على الحروف وقديمًا اعتَنى به العلماء وقبِلَه الجهَابذة فكان المبرد يَرْفع مِن قدره ورواه أبو محمد بن دَرَسْتويه وله كتاب في الردِّ على المفضَّل ابن سلمة فيما نسبَه من الخلَل إليه ويكادُ لا يوجدُ لأبي إسحاق الزجاجي حكايةٌ في اللغة إلا منه وقد تكلَّم الناس فيه بما هو مشهور. وأصح كتاب وضع في اللغة على الحروف بارع أبي علي البغدادي وموعب ابن التياني. انتهى.
فائدة
ترتيب كتاب العين ليس على التَّرتيب المعهود الآن في الحروف، وقد أكْثرَ الأدباءُ من نَظْم الأبيات في بيان ترتيبه؛ من ذلك قول أبي الفرج سلمة بن عبد الله [ بن دلان ] المعَافِري الجزيري:
يا سائلي عن حروف العين دونكَهَا ** في رتبة ضمَّها وزنٌ وإحْصاء
العين والحاء ثم الهاءُ والخاء ** والغين والقاف ثم الكاف أكْفاءُ
والجيم والشين ثم الضادُ يتبعها ** صاد وسين وزاي بَعْدها طاء
والدّال والتاء ثم الطاءُ متَّصِل ** بالظاءِ ذال وثاء بعدها راءُ
واللام والنون ثم الفاء والباء ** والميم والواو والمهموز والياء
قال أبو طالب المفضَّل بن سَلَمة الكوفي: ذكر صاحبُ العين أنه بدأ كتابَه بحرف العين لأنها أَقْصى الحروف مَخْرجًا. قال: والذي ذكره ِسيبَويْه أن الهمزةَ أَقْصى الحروف مخرجًا. قال: ولو قال بدأتُ بالعين لأنها أكثرُ في الكلام وأشدُّ اختلاطًا بالحروف لكان أولى.
وقال ابن كَيْسان: سمعتُ مَنْ يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبْدَأْ بالهمزة لأنها يلحقها النقصُ والتغييرُ والحذفُ ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداءِ كلمة ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مُبْدَلَةً ولا بالهاءِ لأنها مهموسة خفيَّة لا صوتَ لها فنزلتُ إلى الحيِّز الثاني وفيه العين والحاء فوجَدْت العين أنْصَعَ الحرفين فابتدأت به ليكون أحسنَ في التأليف وليس العلْمُ بتقدّم شيءٍ على شيء لأنه كلَّه مما يُحتاج إلى معرفته فبأيّ بدأت كان حَسنًا وأولاها بالتقديم أكثرُها تصرُّفًا. انتهى.
وقال أبو العباس أحمد بن ولّاد في كتاب المقصور والممدود: لعلَّ بعضَ مَنْ يقرأ كتابنا يُنْكِرُ ابتداءنا فيه بالألف على سائر حروف المعجم لأنها حرفٌ معتل ولأن الخليل تَرَك الابتداءَ به في كتاب العين لأنَّ كتاب العين لا يمكن طالب الحرفِ منه أن يَعلَمَ مَوْضعه من الكتاب من غير أن يقرأه إلا أن يكونَ قد نظر في التصريف وعرفَ الزائد والأصلي والمعتلَّ والصحيح والثلاثيّ والرباعيّ والخماسيّ ومراتبَ الحروف من الحَلْق واللّسان والشَّفَة وتصريفَ الكلمة على ما يمكنُ من وُجوهِ تصريفها في اللفظ على وجوه الحركات وإلحاقها ما تحتمل من الزائد ومواضع الزوائد بعد تصريفها بلا زيادةٍ. ويحتاجُ مع هذا إلى أن يعلمَ الطريقَ التي وصلَ الخليل منها إلى حَصْر كلام العرب فإذا عرفَ هذه الأشياءَ عرفَ مَوْضع ما يطلُبُ من كتاب العين. قال: وكتابُنا قَصَدْنا فيه التقريب على طالب الحَرْفَ وأن يستويَ في العلم منه بموضعه العالِم والمتعلّم. انتهى.
تذنيب
قال تاج الدين أحمد بن مكتوم في تذكرته: سُئل بعضُهم لِم سمي كتابُ الجيم - تصنيف أبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني - بهذا الاسم فقال: لأن أوله حرف الجيم كما سمي كتاب العين لأن أولَه حرفُ العين قال: فاستحسنَّا ذلك ثم وقفنا على نسخةٍ من كتاب الجيم فلم نجده مبدوءًا بالجيم.
فائدة
روى أبو علي الغساني كتاب العين عن الحافظ أبي عمر بن عبد البر عن عبد الوارث بن سفيان عن القاضي مُنذر بن سعيد عن أبي العبّاس أحمد بن محمد بن ولّاد النحوي عن أبيه عن أبي الحسن علي بن مهدي عن أبي معاذ عبد الجبار بن يزيد عن الليث بن المظفر بن نصر بن سيار عن الخليل.
فرع
ومن مشاهير كتب اللغة التي نَسَجَت على مِنْوَال العين كتاب الجمهرة لأبي بكر بن دريد.
قال في خطبته: قد ألَّف [ أبو عبد الرحمن ] الخليلُ بنُ أحمد [ الفَرْهُودِي رضوان الله عليه ] كتابَ العين فأَتْعَبَ مَنْ تَصَدَّى لغَايته وعَنَّى من سَما إلى نهايته فالمُنْصِفُ له بالغَلب مُعْترف والمُعَاند متكلِّف وكلُّ مَنْ بَعْدَه له تَبَع أقرَّ بذلك أم جَحَد ولكنَّه رحمه الله - ألَّف كتابَه مُشاكِلًا لِثُقُوب فَهْمِه وذَكَاءِ فِطْنَتِه وحِدَّةِ أذهان أهل دَهْرِه. وأمْلينا هذا الكتاب والنَّقْص في الناس فاشٍ والعَجْزُ لهم شامل إلا خصائص كَدَرَارِيِّ النُّجوم في أَطْرَافِ الأُفق فسهَّلنا وَعْرَه ووطَّأْنا شَأْزَه وأَجْرَيْنَاه على تأليف الحروف المُعْجمة إذ كانت بالقلوب أَعْلَق وفي الأَسْماع أَنْفَذ وكان عِلْمُ العامَّة بها كعلم الخاصة وسَمَّيْناه كتاب الجمهرة لأنا اخْتَرْنا له الجمهور من كلام العرب وأَرْجَأْنا الوَحْشِيّ المستنكر. انتهى.
وقال ابن جني في الخصائص: وأما كتابُ الجمهرة ففيه أيضا من اضطراب التَّصْنيف وفسادِ التَّصْريف مما أَعْذِرُ واضعَه فيه لبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر ولمَّا كتبتُه وقعتُ في مَتونه وحواشيه جميعًا من التنبيه على هذه المواضع ما اسْتَحْيَيْت من كَثْرَته ثم إنه لما طال عليّ أوْمَأْتُ إلى بعضه وضربتُ البَتَّةَ عن بعضه.
قلت: مقصودُه الفسادُ من حيث أبنية التصريف وذكرُ الموادّ في غير محالّها كما تقدم في العين ولهذا قال: أعذر واضعَه فيه لِبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر يعني أن ابنَ دريد قصيرُ الباع في التصريف وإن كان طويلَ الباعِ في اللغة. وكان ابن جني في التصريف إمامًا لا يشُقُّ غبارُه فلذا قال ذلك.
وقال الأزهري: ممن ألَّف الكتبَ في زماننا فَرُمِي بافتعالِ العربيةِ وتوليد الألفاظ أبو بكر بن دريد، وقد سألتُ عنه إبراهيمَ بن محمد عرفة - يعني - نِفْطَويه فلم يَعْبَأْ به ولم يُوَثِّقْه في روايته.
قلت: معاذَ الله! هو بَريءٌ مما رُمِي به، وَمَنْ طالَع الجمهرة رأى تحرِّيه في روايته. وسَأَذْكرُ منها في هذا الكتاب ما يُعْرَفُ منه ذلك. ولا يُقْبل فيه طعنُ نِفْطَويه لأنه كانَ بينهما مُنافرةٌ عظيمةٌ بحيث أن ابن دريد هجاه بقَوْله:
لَوْ أُنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى نِفْطَويْه ** لكان ذاك الوَحْيُ سُخْطًا عَلَيه
وشَاعِرٍ يُدْعَى بِنصْفِ اسْمِه ** مُسْتَأْهلٌ للصَّفْعِ في أَخْدَعَيْه
أَحْرَقَهُ اللهُ بنِصفِ اسْمِه ** وَصَيَّرَ الباقي صُرَاخًا عَلَيْه
وهجا هو ابنَ دريد بقوله:
ابن دريد بَقَرَه ** وفيه عِيّ وَشَرَه
وَيَدَّعِي مِنْ حُمْقِه ** وَضْعَ كِتَابِ الْجَمْهَرَه
وهو كتابُ العين إلا أَنَّهُ قدْ غَيَّرَه
وقد تقرر في علم الحديث أن كلامَ الأقران في بعضهم لا يقدح.
وقال بعضهم: أمْلَى ابن دريد الجمهرَة في فارس ثم أَمْلاها بالبصرة وببَغْداد مِنْ حِفْظه ولم يستَعِنْ عليها بالنظر في شيءٍ من الكُتُب إلا في الهَمزةِ واللفيف؛ فلذلك تختلف النسخ، والنُّسْخَة المعوَّل عليها هي الأخيرة وآخرُ ما صحَّ نسخة عبيد الله بن أحمد جَخْجَخْ لأنه كتبها من عِدَّةِ نسخ وقَرَأَها عليه.
قلت: ظَفِرْتُ بنسخة منها بخطِّ أبي النمر أحمد بن عبد الرحمن بن قابوس الطرابلسي اللغوي وقد قرأها على ابن خالويه بروايته لها عن ابن دريد وكتب عليها حواشي من استدراك ابن خالويه على مواضع منها ونبَّه على بعض أوهامٍ وتصحيفات.
وقال بعضهم: كان لأبي عليّ القالي نسخةٌ من الجمهرة بخطِّ مؤلفها وكان قد أُعْطِي بها ثلاثمائة مثقال فأبى فاشتدَّت به الحاجةُ فباعها بأربعين مثقالًا وكتبَ عليها هذه الأبيات:
أَنِسْتُ بها عشرين عامًا وبعتُها ** وقد طال وَجْدِي بعدَها وحَنيني
وما كان ظنِّي أنني سأبيعها ** ولو خَلَّدَتْني في السجون دُيوني
ولكن لِعَجْزٍ وافتقارٍ وصِبْيَة ** صغارٍ عليهم تستهلّ شؤوني
فقلت ولم أملك سوابقَ عَبْرتي ** مقالةَ مكوى الفؤاد حَزين
وقد تُخْرِجُ الحاجاتُ يا أم مالك ** كرائمَ من ربٍّ بِهِنَّ ضَنِين
قال: فأَرْسَلها الذي اشتراها وأرسل معها أربعين دينارًا أُخْرى رحمهم الله.
وجدت هذه الحكاية مكتوبةً بخطّ القاضي مجد الدين الفيروزابادي صاحبِالقاموس على ظَهْرِ نسخة من العُبَاب للصَّغاني، ونقلها من خَطِّه تلميذُه أبو حامد محمد بن الضياءِ الحنفي، ونقلتُها من خطِّه.
وقد اختصر الجمهرة الصاحب إسماعيل بن عباد في كتاب سماه الجوهرة، وفي آخره يقول:
لما فَرَغْنا من نِظَامِ الجَوْهره ** أعورت العين ومات الجَمْهَرَه
ووقف التَّصنيف عند القَنْطره
وألَّفَ أتباعُ الخليل وأتباعُ أتباعه وهلّم جَرًّا كُتُبًا شتى في اللغة ما بين مُطَوَّلٍ ومختَصر وعامٍّ في أنْواع اللغة وخاص بنوع منها كالأجناس للأصمعي والنوادر واللغات لأبي زيد والنوادر للكسائي والنوادر واللغات للفرَّاءِ واللغات لأبي عبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى والجيم والنوادر والغريب لأبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني والغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام والنوادر لابن الأعرابي والبَارِع للمفضّل بن سلمة واليواقيت لأبي عمر الزاهد غلام ثعلب. والمنضد لكُراع والتهذيب للأزهري والمُجْمَل لابنِ فارس وديوان الأدب للفارابي والمحيط للصاحب ابن عبَّاد والجامع للقزَّاز وغير ذلك مما لا يُحْصى حتى حُكِي عن الصاحب ابن عبّاد أن بعضَ الملوك أرسل إليه يسألهُ القدومَ عليه فقال له في الجواب: أحتاجُ إلى ستين جمَلًا أنقل عليها كتبَ اللغة التي عندي وقد ذهب جلُّ الكتب في الفِتَنِ الكائنة من التَّتار وغيرهم بحيث إن الكتبَ الموجودة الآن في اللغة من تصانيف المتقدّمين والمتأخرين لا تجيء حِمْل جملٍ واحدٍ وغالبُ هذه الكتب لم يَلتزم فيها مؤلّفوها الصحيحَ بل جمعُوا فيها ما صحَّ وغيرَه وينبِّهون على ما لم يثبت غالبًا.
وأولُ مِن التزمَ الصحيح مقتصرًا عليه الإمامُ أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري ولهذا سمَّى كتابه بالصحاح وقال في خطبته: قد أوْدَعْتُ هذا الكتاب ما صحَّ عندي من هذه اللغة التي شرَّف الله منزلتَها وجعل عِلْم الدِّين والدنيا مَنُوطًا بمعرفتها على ترتيبٍ لم أُسْبَق إليه وتهذيبٍ لم أُغلبْ عليه بعد تحصيلها بالعراق روايةً وإتقانها دِراية ومُشافهتي بها العربَ العاربة في ديارهم بالبادية ولم آل في ذلك نُصْحًا ولا ادَّخَرتُ وسعًا.
قال أبو زكريا الخطيب التبريزي اللغوي: يقال كتاب الصحاح بالكسر وهو المشهور وهو جمع صحيح كظريف وظراف، ويقال الصحاح بالفتح وهو مفرد نعت كصحيح. وقد جاءَ فَعال بفتح الفاءِ لغةً في فعيل كصحيح وصَحاح وشحيح وشَحاح وبريءٍ وبَراءٍ. قال: وكتاب الصحاح هذا كتاب حسن الترتيب سهل المطلبِ لِما يُراد منه وقد أتى بأشياءَ حسنة وتفاسير مشكلات من اللغة إلا أنه مع ذلك فيه تصحيفٌ لا يُشَكُّ في أنه من المصنف لا من الناسخ لأنَّ الكِتاب مبنيٌّ على الحروف قال: ولا تخلو هذه الكتبُ الكِبار من سهْوٍ يقعُ فيها أو غلطٍ. [ وقد رد على أبي عبيد في الغريب مواضع كثيرة منه ] غير أن القليل من الغلط الذي يقع في الكُتب إلى جنبِ الكثير الذي اجتهدوا فيه وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه معفو عنه. هذا كلام الخطيب أبي زكريا.
وقال أبو منصور عبد الملك بن أحمد بن إسماعيل الثعالبي اللغوي في كتابه يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر: كان الجوهري من أعاجيبِ الزمان وهو إمام في اللغة وله كتاب الصحاح وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوسٍ النيسابوري:
هذا كتابُ الصحاح سيّدُ ما ** صُنِّف قبل الصحاح في الأدبِ
تَشْمَلُ أبوابهُ وَتَجْمَعُ ما ** فُرِّق في غيره من الكُتُبِ
وقال ابن برِّي: الجوهري أنحَى اللغويين.
وقال ياقوت الحموي في معجم الأدباء: كتاب الصحاح هو الذي بأيْدي الناس اليوم وعليه اعتمادُهم أحْسنَ الجوهري تصنيفَه وجوَّدَ تأليفَه؛ هذا مع تصحيف فيه في عدّة مواضع تَتَبَّعَهَا عليه المحققون. وقيل: إن سببه أنه لما صنَّفَهُ سُمِع عليه إلى باب الضاد المعجمة وعَرَضَ له وسْوَسَة فألْقى نفسه من سَطْحٍ فمات وبقي سائر الكتاب مسوَّدة غيرَ مُنَقَّح ولا مبيَّض فبيَّضَه تلميذُه إبراهيم بن صالح الورَّاق فَغَلِطَ فيه في مواضع [ غلطًا فاحشًا ]؛ وكان وفاة الجوهري في حدود الأربعمائة.
وقد ألَّف الإمام أبو محمد عبد الله بن برِّي الحواشي على الصحاح وصَلَ فيها إلى أثناء حرف الشين فأكملها الشيخ عبد الله بن محمد البسطي.
وألَّف الإمام رضيّ الدين [ حسن بن محمد ] الصغاني التكملة على الصحاح ذَكَرَ فيها ما فاته من اللغة وهي أكبرُ حجمًا منه وكان في عَصْر صاحب الصحاح ابن فارس فالتزم أن يذكرَ في مُجْمَله الصحيح.
قال في أوله: قد ذَكرنا الواضحَ من كلام العرب والصحيحَ منه دون الوَحْشيّ المُسْتَنْكر ولم نألُ في اجتباءِ المشهور الدَّالِّ على غُرَر وتفسير حديث أو شعر والمقصودُ في كتابنا هذا من أوّله إلى آخره التقريبُ والإبانةُ عما ائْتَلف من حروف العربية فكان كلامًا وذِكْرُ ما صحَّ من ذلك سماعًا أو من كتابٍ لا يشكُّ في صحَّةِ نَسَبه لأنَّ مَنْ عَلِم أن الله تعالى عند مَقَالِ كلِّ قائل فهو حَرِيٌّ بالتَّحَرُّج من تطويل المؤلَّفات وتكثيرها بمُسْتَنْكَرِ الأقاويل وشنيع الحكايات وبُنَيَّات الطُّرُق فقد كان يُقال: مَنْ تتبَّع غرائبَ الأحاديث كَذَب ونحن نعوذ بالله من ذلك.
وقال في آخر المجمل: قد توخَّيْتُ فيه الاختصارَ وآثرتُ فيه الإيجازَ واقتصرتُ على ما صحَّ عندي سماعًا ومن كتابٍ صحيح النسب مشهورٍ ولولا توخِّي ما لم أشككّ فيه من كلام العرب لَوَجَدْتُ مقالًا.
وأعظمُ كتابٍ أُلِّفَ في اللغة بعد عَصْرِ الصحاح كتابُ المُحْكَم والمحيط الأعظم لأبي الحسن علي بن سِيدَه الأندلسي الضَّرير ثم كتابُ العُباب للرضي الصَّغاني ووصل فيه إلى فصل بكم حتى قال القائل:
إن الصغاني الذي ** حاز العلوم والحكم
كان قُصَارى أَمْرِه ** أن انتهى إلى بكم
ثم كتابُ القاموس للإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي شيخ شيوخنا. ولم يصل واحدٌ من هذه الثلاثة في كَثرَة التَّدَاول إلى ما وصل إليه الصحاح ولا نقصت رتبةُ الصحاح ولا شُهْرَته بوجود هذه وذلك لالتزامه ما صحَّ فهو في كُتب اللغة نظيرُ صحيح البخاري في كتب الحديث. وليس المَدَارُ في الاعتماد على كَثَرة الجمع بل على شرْط الصحة.
قال صاحبُ القاموس في خُطْبته: وكنتُ بُرْهَةً من الدَّهْر أَلتْمسُ كتابًا جامعًا [ صحيحًا ] بسيطًا ومُصَنَّفًا على الفُصُح والشوَارد مُحيطًا ولما أعياني الطلاب شرعتُ في كتابي الموسوم باللامع المُعْلَم العُجَاب الجامعِ بين المُحْكَم والعُبَاب فهما غُرَّتا الكُتب المصنفة في هذا الباب ونَيِّرَا بَرَاقِع الفضل والآداب وضَمَمْتُ إليهما زيادات امْتَلأَ بها الوطِاب واعْتَلَى منها الخِطَاب ففاقَ كلَّ مؤلف [ في هذا الفن ] هذا الكتابُ، غيرَ أني خَمَّنْتُه في ستين سِفْرًا يُعْجز تحصيلُه الطُّلاب وسُئِلْتُ تقديم كتاب وجيز على ذلك النظام وعَمَلٍ مُفَرَّغ في قالَبِ الإيجاز والإحكام مع التزام إتمام المعاني وإبرام المباني فصرفت صوبَ هذا القصد عِناني وألَّفتُ هذا الكتاب محذوفَ الشواهد مطروحَ الزوائد مُعْرِبًا عن الفُصُحِ والشَّوارد وجعلت [ بتوفيق الله ] زُفَرًَا في زِفْر ولَخَّصتُ كلَّ ثلاثين سِفرًا في سِفْر ثم قال: ولما رأيت إقْبالَ الناس على صحاح الجوهري وهو جدير بذلك غيرَ أنه فاتَه ثلثا اللغة أو أكثر إما بإهمال المادة أو بترك المعاني الغريبة النَّادّة أردتُ أن يظهر [ للناظر ] بادئَ بدءٍ فَضْلَ كتابي عليه ونَبَّهْت فيه على أشياء ركب الجوهري [ رحمه الله ] فيها خلاف الصواب غير طاعنٍ فيه ولا قاصد بذلك [ تنديدا له ] وإزراءً عليه [ وَغضًّا منه بل استيضاحًا للصواب واسْتِرْباحًا للثواب وتحرّزًا وحذارًا من أن ينمى إليّ التصحيف أو يُعْزَى إليّ الغلط والتحريف. ] واخْتَصَصْتُ كتابَ الجوهري من [ بين ] الكتب اللغوية مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة والأغلاط الفاضحة لِتَدَاوُله واشتهارِه بخصوصه واعتماد المدرسين على نُقُوله ونصوصه. انتهى.
وفي القاموس يقولُ بعضُ الأُدبَاء:
مذ مدَّ مجدُ الدين في أيامه ** من بعض بحر علومه القاموسا
ذهبت صحاح الجوهري كأنها ** سحر المدائن حين القى موسى
قلت: ومع كَثرةِ ما في القاموس من الجمع للنَّوادّ والشوارد فقد فاته أشياءُ ظفِرتُ بها في أثناء مطالعتي لكُتُب اللغة حتى هَمَمْتُ أن أجْمَعَها في جُزءِ مُذَيِّلًا عليه.
وهذا آخر الكلام في هذا النوع ونشرعُ بعده إن شاء الله تعالى في بقية الأنواع.
هامش
هكذا في الخصائص واللسان. لكن في المطبوعة: لغا.
في جميع النسخ: لغا، وفي القاموس: لغي به كرضي، لغا: لهج به. فالفعل من باب دعا وسعى ورضى.
في النسخ: سبحانه، والتصحيح من فقه اللغة.
في البداية والنهاية: قال كثير من علماء التفسير: خلقت الجن قبل آدم وكان قبلهم في الأرض الحِنّ والبن، فسلط الله الجن عليهم فقتلوهم...
ط: ابن إيار.
في النسخ: قول ابن معط.
مقابل قوله السابق "فقيل ليست موضوعة" بعد قوله فاختلفوا في المركبات...
هذه رواية اللسان، وفي النسخ: بخابك، وفي الصاحبي: بخائبك. وصدر البيت: إذا ما شحطن الحاديين سمعتهم
الصورة دائرة في الجمهرة
في الجمهرة: زوجتهن.
في كشف الظنون: الثنائي 956 والثلاثة 19650 وهو أقرب إلى مجموع العدد المذكور.
============
النوع الثاني
معرفة ما روي من اللغة ولم يصح ولم يثبت
هذا النوع يقابلُ النوعَ الأولَ الذي هو الصحيح الثابتُ. والسبب في عدم ثبوت هذا النوع عدمُ اتصال سَنَدِه لسقوطِ راوٍ منه أو جهالته أو عدم الوثوق بروايته لفَقْدِ شَرْطِ القَبول فيه كما سيأتي بيانُه في نوع مَنْ تُقْبَلُ روايته ومَنْ تُرَدُّ أو للشكِّ في سَمَاعه.
وأمثلة هذا النوع كثيرةٌ منها ما في الجمهرة لابن دريد: قال: زَعموا أن الشَّطْشاط: طائر وليس بثبت.
وفيها: في بعض اللغات: ثَبَطَت شفةُ الإنسان ثَبْطًَا إذا ورِمت وليس بثَبْت.
وفيها: استعمل ضَبَجَ ضبجًا إذا ألقى نفسه بالأرض من كلال أو ضرب وليس بثبت.
وفيها: الجَبْجَاب: الماء الكثير وكذلك ماءٌ جُبَاجب وليس بثبت.
وفيها: الرُفَف: الرقَّة في الثوب وغيره وليس بثبت.
وفيها: بتأ َيَبْتَأُ بَتأً: إذا أقام بالمكان وليس بثبت.
وفيها: هَتأَ الشيء يَهْتَوُه إذا كسره وَطْأً برجله زعموا وليس يثبت.
وفيها: الخَثْوَاء: المسترخيةُ أسفل البطن من النساء امرأة خثواء ورجل أخثى وليس بثبت.
وفيها: ناقة رَجَّاء ممدود زعموا إذا كانت مرتجة السنام ولا أدري ما صحّته.
وفيها: الدَّنْحَبَة: الخِيانة وليس بثبت.
وفيها: ذكر بعضُ أهل اللغة أن الكَسْحَبَة: مَشْيُ الخائف المُخْفِي نفسه وليس بثبت.
وفيها: الحَبْشَقة والحُبْشُوقة: دُويّبة وليس بثبت.
وفيها: كَنْحَب قالوا: نبت وليس بثبت.
وفيها: يقال: زَلْدَبْتُ اللُّقمة إذا ابتلعتُها وليس بثبت.
وفيها: يقال: رجل بُرْزُل: إذا كان ضخمًا وليس بثبت.
وفيها: القَهْبَسَة: الأتانُ الغليظةُ وليس بثبت.
وفيها: القُشْلُب والقِشْلِب قالوا: نبت وليس بثبت.
وفيها: العَضْبَل: الصُّلب وليس بثبت.
وفيها: الهَنْقب: القصير وليس بثبت.
وفيها حَثْرَفْتُ الشيء: زعزعته وليس بثبت.
الثُّخْروط: نبت زعموا وليس بثبت.
وفيها: العَنْطث زعموا: نبت وليس بثبت.
وفيها: القَنطَثَة زعموا العَدْوُ بفَزَع وليس بثبت.
وفيها: السَّحْجَلَةُ زعموا صَقْلُك الشيء وليس بثبت.
وفيها: سَبّود ذكر بعض أهل اللغة أنه الشَّعر وليس بثبت.
وفيها: جَزالاء بمعنى الجزل وليس بثبت قال: وجاء أيضا مِمّا لا يُعْرَف قِصَاصَاء بمعنى القِصاص وزعموا أن أعرابيًّا وقف على بعض الأمراءِ بالعراق فقال: القِصَاصاء أصلحك الله أي خُذْلِي بالقِصَاص.
وفيها: في بعض اللغات حُسُن الشيء وحَسَن وصَلَح وصُلح وليس بثبت وفيها: زعم قومٌ من أهل اللغة أن القِشْبَة: ولدُ القِرْد ولا أدري ما صِحَّته.
وفيها: العلب زعموا الذي لأُمه زوج ولا أعرف ما صحّة ذلك وفيها: الهَبَق نبت زعموا ولا أدري ما صحّته.
وفيها: اللَّقْعُ: الضربُ وليس بثبت.
وفيها: القَلْس: حبل من ليفٍ أو خُوص ولا أدري ما صحَّتُه.
وفيها: ما ذكر أبو مالك أنه سمع من العرب حِمْلاق وحُمْلاق وليس الضم بثبتَ وفيها: يقال تَفَكَّن القوم إذا تندّموا وتفكهنُوا وليس بثبت فأما تفكَّهوا تعجَّبوا فصحيح وكذلك فسِّر في التنزيل قوله تعالى: { فَظلْتُم تَفَكَّهُونَ } أي تَعْجَبون وتميم تقول: وتَفَكَّنُونَ: تندمون وفيها: يقال إن الكُلام بضم الكاف: أرضٌ غليظة وما أدري ما صحَّته.
وفيها: الهَرْوُ لا أصل له في العربية إلا أن أبا مالك جاء بحرفٍ أنْكَرَه أهلُ اللغة قال: هَرَوْتُ اللحم أنضجته وإنما هو هَرَأْتُه.
وفيها: خَذَعْرَب: اسمٌ جاء به أبو مالك ولا أدري ما صحَّته.
وفيها: عذَج الماء يعذِجه عذْجًا جرَعه ولا أَدري ما صِحَّتها.
وفيها: البَيْظُ: زعموا مستعمل وهو ماء الفَحْل ولا أدري ما صِحَّته.
وفيها: زعموا أن المِنْطَبَة: مِصْفَاة يصفَّى بها الخمر ولا أدري ما صحَّته.
وفيها: قال قوم: الوَقْواق: طائرٌ بَعيْنه وليس بثَبْت.
وفيها: كرى: نجم زَعموا من الأنواء وقالوا: هو النسر الواقع لغة يمانية وليس بثبت.
وفيها يقال: طِفْل بيِّن الطُّفولة وقال قوم: الطَّفَالة وليس بثبت وصارم بيِّن الصَّرامة وحازم بيِّن الحزَامة وقال قوم: الصُّرومة والحُزُومة وليس بثبت.
وفيها: الطائر الذي يسمى اللَّقْلق ما أدري ما صِحَّته.
وفيها: الغُنْبُول والغُنْبُول: طائر وليس بثبت.
وفيها: البَغْز أَصْلُ بنْيَة البَاغِز وهو المُقْدِم على الفجور زعموا ولا أُحقِّه.
وفيها: البَاغِز: موضع تُنْسَب إليه الأكسِية والثياب ولا أعرف صحَّته ما هو.
وفيها: قد اختُلف في المثل الذي يقال: الكِرابَ على البقر فقالوا: إنما هو الكلابُ على البقر ولا أدري ما صحَّته.
وفيها زعم قوم أنَّ بعض العرب يقولون في الأخِ والأُخت أخٌّْ وأخَة ذكره ابن الكلبي ولا أدري ما صحَّةُ ذلك.
وفيها: الخَلاة: الأرض الكثيرة الشجر بغير هَمْزٍ وليس بثبت.
وفيها: الخِضَاء: تفتُّت الشيء الرَّطْب وانْشِدَاخُه خاصة وليس بثبت.
وفيها: العَشْجَب: الرجل المُسْتَرخي وقالوا: الخبول من جُنون أو نحوه وليس بثبت.
وفيها: الفَظِيظُ: زعم قوم أنه ماء الفَحْل أو ماء المرأة وليس بثبت.
وفيها: الخُعْخُع: ضربٌ من النبت وليس بثبت.
وقال: زعم قومٌ من أهل اللغة أن الحرَّ - يعني خلاف البَرْد - يُجْمَعُ أَحَارِر ولا أعْرَف ما وقال: المُحَاح في بعض اللغات: الجوع ولا أدري ما صحته.
وقال: قال بعض أهل اللغة: العَلُّ مثل الزِّير: الذي يُحِبُّ حديث النساء ولا أدري ما صحته.
وقال: ذكر قوم أن الوَحْوح ضربٌ من الطير ولا أدري ما صحَّته.
وقال: الزُّغْزُغ: ضربٌ من الطير زعموا ولا أعرف ما صحَّته.
وقال ابن دريد: قال أبو حاتم: الأَتانُ: مَقَامُ المُسْتَقِي على فَمِ الرَّكِيَّة فسألت عبد الرحمن فقال: الإتان بكسر الألف، قال ابن دريد: والكفُّ عنها أحبُّ إليّ لاختلافهما.
وقال: سمعت عبد الرحمن بن أخي الأصمعي يقول: أرض جِلْحِظاء - الظاء معجمة والحاء غير معجمة - وهي الصُّلْبَة التي لا شَجَرَ بها وخالفه أصحابُنا فقالوا: الجِلْخِطَاء بالخاء معجمة فسألته فقال: هذا رأيتُه في كتاب عمِّي قال ابن دريد: وأنا أَوْجَل من هذا الحَرْف وأخافُ ألا يكون سَمِعه.
وقال سيبويه: جِلْخِطاء بالجيم والخاء والطاء فلا أدري ما أقولُ فيه.
وقال: زعم قومٌ من أهل اللغة أن الضُّؤْضُؤ هذا الطائر الذي يسمى الأَخْيَل ولا أدري ما صحَّته.
وقال: الجُمُّ زعموا: صَدف من صدَف البحر ولا أعرفُ حقيقته.
وقال: الحَوْبَجَة زعموا: وَرَمٌ يصيب الإنسان في جَسده لغة يمانية لا أدري ما صِحَّته.
وقال: يقال للقناة التي يجري فيها الماءُ في باطن الأرض إرْدبّ ولا أدري ما صحَّته.
وقال: البَيْقَرَان: نَبْتٌ ذكره أبو مالك ولا أدري ما صحَّته.
وقال ابن دريد قال بعض أهل اللغة: تُسمى الفَأْرة غُفَّة لأنها قُوتُ السنَّوْر وأنشد هذا البيت عن يونس لا أدري ما صحَّته: يديرُ النَّهَار بحَشْر له كما عَالَج الغُفَّة الخَيْطَل النهار: وَلَدُ الحُبَارى والخَيْطل: السِّنَّوْر والحَشْر: سهم صغير.
وقال أبو عبيد في الغريب المصنف: قال الأموي: المنيّ والمذيّ والوديّ ومشدَّادات الياء والصواب عندنا قول غيره أن المنيَّ وحده بالتشديد والآخران مخففان.
وفي الصحاح: البُصْع الجمع سمعتُه من بعض النَّحويين ولا أدري ما صحَّتُه.
والنحيجة: زبد رقيق ويقال: النَّجيحة بتقديم الجيم ولا أدري ما صحته.
وفي الصحاح يقول: في فلان تَيْسِيَّةٌ وناس يقولون تَيْسُوسِيَّة وكَيفُوفِيّة ولا أدري ما صحتهما.
وفي التهذيب للأزهري: قال الليث: أَسَد قَصْقَاص نعْتٌ له في صوته وحيَّة قَصْقاص نعتٌْ لها في خُبْثِها قال الأزهري: وهذا الذي في نَعْت الأسد والحيَّة لا أعرِفه وأنا بريء من عُهْدته.
وفي الصحاح: يقال: وَرضَت الدَّجاجة إذا كانت مرخمة على البيض ثم قامت فذرقت بمَرَّةٍ واحدة ذرقًا كثيرا قال الأزهري في التهذيب بعد أن حكَى هذه المقالة عن الليث وزاد وكذلك التَّوْريض في كلِّ شيء: هذا الحرفُ عندي مريب والذي يصحُّ فيه التَّوْريص بالصاد.
أخبرني المنذريّ عن ثعلب عن سلمة عن الفراء ورَّص الشيخ بالصاد إذا استرخى حِتَار خَوْرَانِه فأبدى.
وحُكي عن ابن الأعرابي نحوه قال: أَوْرَص ووَرَّص إذا رمى بغطائه قال الأزهريّ: فهذا هو الصحيح ولا أعرف الحرف بالضاد.
وفي الصحاح: الضِّفة بالكسر: جانب النهر ونقله الأزهري في التهذيب عن اللَّيث ثم قال: لم أَسْمع ضِفَّة لغير اللَّيث والمعروف الضَّفة والضِّيفُ الجانب النهر.
وفي الصحاح: زَبَق شعره يزِبقُهُ زبقًا: نتفه قال أبو زكريا التَّبريزي قال أبو سهل: هكذا رواه أبو عبيد في الغريب المصنف عن أبي زيد بالباء.
وأخبرنا أبو أُسامة عن أبي منصور الأزهري عن أبي بكر الإيادي عن ابن حمدويه قال: الصواب زَنقه بالنون يزنقه ومنه زنق ما تحت إبطِه من الشَّعر إذا نَتَفَه قال: وأما زَبقه بالباء فمعناه حبَسه.
والزابوقاء: الحبس.
وقال أبو أُسامة يصحِّح قولَ ابن حمدويه أن الأصمعي قال: زَلَقَ رأسه إذا حلقه باللام والنون تُبْدَلُ من اللام في مواضع كثيرة فكأن زنقه بالنون بمعنى زَلَقه باللام.
وفي العين: احْوَنْصَل الطائر إذا ثَنَى عُنقُه وأخرج حَوْصَلَته.
قال الزبيدي في كتاب الاستدراك: احْوَنْصَلَ مُنْكَرَةٌ ولا أعلم شيئا على مثال أفونعل من الأفعال.
وفي العَين: التُّحْفة مُبَدلة من الواو وفلان يتوحَّف.
قال الزبيدي: ليست التاء في التحفة مبدلة من الواو لوجودها في التصاريف.
وقوله: يتوحَّف منكَر عندي.
وقال ابن القوطية: في كتاب الأفعال: أَنْهَبْتُ الشيءَ: جعلته نهبًا يغار عليه ونَهَبْتُه لغة ذكرها قُطْرب وهو غير ثِقَة. انتهى.
وفي المجمل لابن فارس: الحَتْرُ: ذكر الثعالب وفيه نظر.
وقال: العِلَّوش: الذئب وفيه نظر لأن الشين لا تكون بعد اللام.
وقال: الوَلّاس: الذئب فيما يقال وفيه نظر.
وقال: يقولون: القَلْخ: الحمار والقلخ: الفَحْل إذا هاج وفيهما نظر.
وقال: يقال: نَأَتَ الرجل: إذا اجتهد وفيه نظر وقال: رجل أَنْبَس: كريه الوجهِ وفيهِ نظر وقال: يقال النَّسْك: المكان الذي تألفهُ وفيه نظر وقال: يقال شيء وافلٌ أي وافر وفيه نظر.
وقال يقال: المَعْفِس: المَفْصِل من المفاصل وفي هذه الكلمة نظر.
وقال: يقال إن غُنَجَة معرفة بلا ألف ولام: القُنفذ لا تنصرف وفيه نظر.
وقال: عَمَشْتُ الرجل بالعصا: ضربتُه وفيه نظر.
وقال: العتار قرحة لا تجفّ وفي ذلك نظر.
وقال يقال: إن العَاذِرَة المرأة المستحاضة.
وقال: حَكى بعض مَنْ في قوله نظَر أن الاعْتِذَال: الاعتزام على الشيء يقال: اعتذل على الأمر إذا اعتزم عليه.
وقال يقال: عَرَّز عني أَمْرَه: أي أخفاه واعْتَرَز: أي انقبص وفيه نظر.
وقال: قال ابن دريد: القَزَب: الصَّلابة والشدة قَزِبَ الشيء: صلب لغة يمانية.
قال: ولولا حُسْنُ الظنّ بأهل العلم لتُرك كثير مما حكاه ابن دريد.
==========
النوع الثالث
معرفة المتواتر والآحاد
قال الكمال أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري في كتابه لمع الأدلة في أصول النحو:
اعلم أن النقل ينقسم إلى قسمين: تواتر وآحاد. فأما التواترُ فلغةُ القرآن وما تواترَ من السنة وكلام العرب وهذا القسم دليل قطعيّ من أدلة النحو يفيدُ العلم واختلفَ العلماء في ذلك العلم فذهب الأَكْثرون إلى أنه ضروريّ واستدلّوا على ذلك بأن العلم الضروريَّ هو الذي بينه وبين مَدْلولِه ارتباطٌ معقول كالعلم الحاصل من الحواسِّ الخمسِ: السمع والبَصر والشمّ والذَّوْق واللَّمْس وهذا موجود في خَبر التواتر فكان ضروريًّا.
وذهب آخرون إلى أنه نظريّ واستدلُّوا على ذلك بأن بينَه وبين النَّظَر ارتباطًا لأنه يُشْتَرط في حصوله نقلُ جماعةٍ يستحيلُ عليهم الاتفاقُ على الكذب دونَ غيرهم فلما اتَّفَقوا عُلِمَ أنه صِدْق.
وزعمت طائفةٌ قليلة أنه لا يُفْضِي إلى عِلْمٍ البتَّة وتمسكت بشُبْهَة ضعيفةٍ وهي أن العلمَ لا يَحْصُلُ بنَقْلِ كلِّ واحد منهم فكذلك بنَقْلِ جماعتهم وهذه شُبْهَةٌ ظاهرةُ الفسادِ فإنه يَثْبُت للجماعة ما لا يثبُت للواحد فإن الواحدَ لو رَامَ حَمْل حِمْلٍ ثقيل لم يُمْكِنْه ذلك ولو اجتَمَع على حَمْله جماعةُ لأمكن ذلك فكذلك هاهنا.
وأما الآحاد فما تَفَرَّد بنَقْلِه بعضُ أهل اللغة ولم يُوجَدْ فيه شرطُ التواتر وهو دليلٌ مأخوذٌ به. واختَلفوا في إفادته: فذهب الأكثرون إلى أنه يفيدُ الظنَّ وزعم بعضُهم أنه يفيدُ العلم وليس بصحيح لتَطَرُّق الاحتمال فيه وزعم بعضُهم أنه إن اتصلت به القرائنُ أَفاد العلمَ ضرورةً كخبر التَّواتر لوجودِ القرائن.
ثم قال: واعلم أن أكثرَ العلماء ذهبوا إلى أن شرط التواتر أن يبلغَ عدد النقلة إلى حدٍّ لا يجوزُ على مثلهم الاتفاقُ على الكذب كَنَقلة لغةِ القرآن وما تواترَ من السنة وكلام العرب فإنهم انْتَهَوْا إلى حدٍّ يستحيل على مثلِهم الاتفاقُ على الكذب.
وذهب قومٌ إلى أن شَرْطَهُ أن يبلغوا سبعين. وذهب آخرون إلى أن شَرْطَه أن يبلغوا أربعين. وذهب آخرون إلى أن شَرْطه أن يبلغوا اثني عشر. وذهب آخرون إلى أن شَرْطه أن يبلغوا خمسة. والصحيح هو الأول. وأما تعيينُ تلك الأعداد فإنما اعتمدُوا فيها على قِصَص ليس بينها وبين حصول العلم بأخبار التواتر مُناسبةٌ وإنما اتَّفَق وجودها مع هذه الأعداد فلا يكون فيها حجةٌ. انتهى ما ذكره ابن الأنباري.
وقال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب المحصول: الطريقُ إلى معرفة اللغة النقلُ المحض وهو إما تواتر أو آحاد وعلى كل منهما إشكالات:
أما التواتر فالإشكال عليه من وجوه:
أحدُها - أنَّا نجدُ الناسَ مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثرُ الألفاظِ تداوُلًا ودَوَرَانًا على ألْسِنَة المسلمين اختلافًا شديدًا لا يمكنُ فيه القَطْعُ بما هو الحقُّ كلَفْظة الله فإن بعضَهم زعم أنها عِبْرية، وقال قوم سُرْيانية، والذين جعلوها عربية اختلفوا هل هي مشتقة أولا، والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافًا شديدًا؛ ومن تأمَّل أدلَّتهم في ذلك علم أنها مُتعَارِضة وأنَّ شيئا منها لا يُفيد الظنَّ الغالب فَضْلًا عن اليقين.
وكذلك اختلفوا في لفظ الإيمان والكفر والصلاة والزكاة؛ فإذا كان هذا الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إليها ماسة جدا، فما ظنك بسائر الألفاظ؟ وإذا كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذر.
وأُجيب عنه بأنه وإن لم يُمْكِن دَعْوى التواتر في معانيها على سبيل التَّفصيل فإنَّا نعلمُ معانَيها في الجملة فنعلم أنهم يطلقون لفظة الله على الإله المعبود بحقّ وإن كنا لا نعلمُ مُسَمَّى هذا اللفظ أَذَاته أم كونه معبودًا أم كونه قادرًا على الاختراع أم كونه مَلْجَأ للخَلْق أم كونه بحيث تتحيَّر العقول في إدْراكه إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ وكذا القولُ في سائر الألفاظ.
الإشكال الثاني - أن من شَرْط التواتر استواءَ الطَّرَفين والواسطة فهَبْ أنَّا علمنا حصولَ شَرْط التَّواتر في حُفَّاظ اللفة والنحو والتصريف في زماننا فكيف نعلمُ حصولها في سائر الأزمنة وإذا جهلنا شَرْط التواتر جهلنا التواتر ضرورة لأن الجهلَ بالشرط يوجب الجهلَ بالمشروط.
فإن قيل: الطريق إليه أَمْران:
أحدهما - أن الذين شاهَدْناهم أخبرونا أن الذين أخبرُوهم بهذه اللغات كانوا موصوفين بالصفاتِ المُعتَبَرَةِ في التواتر وأن الذين أخبروا مَنْ أَخْبَروهم كانوا كذلك إلى أن يتَّصل النَّقْل بزمان الرسول ﷺ.
والآخرُ - أن هذه لو لم تكن موضوعة لهذه اللغات ثم وضَعَها واضعٌ لهذه المعاني لاشتهَر ذلك وعُرِف فإن ذلك مما تَتَوَفَّر الدَّواعي على نَقْلِه.
قلنا: أما الأول فغيرُ صحيح لأنَّ كلَّ واحد منَّا حين سمع لغةً مخصوصة من إنسانٍ فإنه لم يسمع منه أنه سَمِعه من أهل التواتر وهكذا بل تحرير هذه الدعوى على هذا الوجه مما لا يَفْهمه كثيرٌ من الأدباء فكيف يُدَّعى عليهم أنهم علموه بالضرورة بل الغايةُ القصوى في راوي اللغة أن يسنده إلى كتاب صحيح أو إلى أُسْتاذٍ مُتْقن ومعلومٌ أن ذلك لا يفيدُ اليقين.
وأما الثاني فضعيفٌ أيضا لأن ذلك الاشتهارَ إنما يَجبُ في الأمور المهمَّة وتغييرُ اللفظةِ الواحدة ليس من المهمّات العظيمة حتى يُشْتهر ويُنْقل وأيضا فهو منقوض بالكلمات الفاسدة والإعرابات المعوجة الجارية في زماننا، مع أن تغيرها ومغيرها غير معلوم.
الثالث - إنه قد اشتهر بل بلغ مَبْلغَ التواتر أن هذه اللغاتِ إنما أُخِذَت عن جمع مخصوص كالخليل وأبي عمرو والأصمعي وأَقْرَانهم؛ ولا شكَّ أنَّ هؤلاء ما كانوا مَعْصومين ولا بالِغين حدَّ التواتر، وإذا كان كذلك لم يحصل القَطْع واليقينُ بقولهم.
أقصى ما في الباب أن يقال: نعلم قطعا أن هذه اللغات بأسرها غير منقولة على سبيل الكذب، ويقطع بأن فيها ما هو صدقٌ قطعًا؛ لكن كل لفظة عيناها فإنا لا يمكننا القطعُ بأنها من قبيل ما نُقل صدقًا وحينئذ لا يبقى القطع في لفظِ معين أصلا؛ وهذا هو الإشكال على مَن ادعى التواتر في نقل اللغات.
وأما الآحاد فالإشكالُ عليه من جهةِ أن الرواة له مَجْروحون ليسوا سالمين عن القَدْح بيانُه أن أصلَ الكتب المصنفة في النحو واللغة كتابُ سيبويه وكتابُ العين أما كتاب سيبويه فَقَدْحُ الكوفيين فيه وفي صاحبه أظهرُ من الشمس وأيضا فالمبرد كان من أجلِّ البصْريين وهو أَفْرَد كتابًا في القَدْح فيه وأما كتابُ العين فقد أطبَق الجمهور من أهل اللغة على القَدْح فيه وأيضا فإن ابنَ جني أورد بابًا في كتاب الخصائص في قَدْح أكابر الأدباءِ بعضهم في بعض وتكذيبِ بعضهم بعضًا وأورد بابًا آخر في أن لغة أهل الوَبر أصحُّ من لغة أهل المَدر وغرضُه من ذلك القَدْحُ في الكوفيين وأورد بابًا آخر في كلماتٍ من الغريب لا يُعلم أحدٌ أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي وروي عن رُؤْبة وأبيه أنهما كانا يَرْتجلان ألفاظًا لم يَسْمَعاها ولا سُبِقا إليها وعلى ذلك قال المازني: ما قِيس على كلام العرب فهو من كلامهم. وأيضا فالأصمعي كان منسوبًا إلى الخَلاعة ومشهورًا بأنه كان يَزِيد في اللغة ما لم يكن منها. والعَجَبُ من الأصوليين أنهم أقاموا الدلائل على خَبَر الواحد أنه حجّةٌ في الشرع ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة وكان هذا أَوْلى وكانوا من الواجب عليهم أن يَبْحَثوا عن أحوال اللغات والنّحو وأن يفحصوا عن جَرْحهم وتعديلهم كما فعلوا ذلك في رُواة الأخبار لكنهم تركوا ذلك بالكلية مع شدةِ الحاجةِ إليه فإن اللغة والنحو يجريان مَجْرَى الأصل للاستدلال بالنصوص.
ثم قال الإمام: والجواب عن الإشكلالات كلّها أن اللغةَ والنّحو والتصريف تنقسم إلى قسمين:
قسم منه متواتر والعلمُ الضروريّ حاصلٌ بأنه كان في الأزمنة الماضية موضوعًا لهذه المعاني؛ فإنا نجد أنفسنا جازمة بأن السماء والأرض كانتا مُسْتعَملَتين في زَمَنه ﷺ في معناهما المعروف وكذلك الماء والهواء والنار وأمثالها، وكذلك لم يَزَل الفاعلُ مرفوعًا والمفعولُ منصوبًا والمضافُ إليه مجرورًا.
وقسم منه مظنون وهو الألفاظ الغريبة، والطريق إلى معرفتها الآحاد.
وأكثرُ ألفاظِ القرآن ونحوه وتصريفِه من القسم الأول، والثاني فيه قليلٌ جدا فلا يُتَمَسَّك به في القَطْعيات ويُتَمَسَّك به في الظنيات.
هذا كله كلام الإمام فخر الدين، وقد تابعهُ عليه صاحبُ الحاصل فأوردَه برُمَّته ولم يتعقّب منهُ حرفًا.
وتعقَّب الأصبهاني في شرح المحصول بعضَه فقال: أما قوله: وأورد ابن جني بابا في كلمات من الغريب لم يأت بها إلا الباهلي. فاعلمْ أن هذا القدر وهو انفرادُ شخصٍ بنَقْل شيَء من اللغة العربية لا يقدَح في عدالته ولا يلزمُ من نَقْل الغريب أن يكون كاذبًا في نَقْله ولا قصدَ ابن جني ذلك.
وأما قول المازني: ما قِيس... إلى آخره، فإنه ليس بكذبٍ ولا تجويز لِلْكذِب لجوازِ أن يرى القياس في اللغات أو يحمل كلامه على هذه القاعدة وأمثالها، وهي أن الفاعل في كلام العرب مرفوع، فكل ما كان في معنى الفاعل فهو مرفوع.
وأما قوله: إن الأصوليين لم يقيموا... إلى آخره فضعيف جدًا؛ وذلك أن الدليلَ الدالَّ على أن خبرَ الواحد حجةٌ في الشرع يمكن التمسّك به في نَقْل اللغة آحادًا إذا وُجدت الشرائط المعتبرة في خبر الواحد فلعلهم أهملوا ذلك اكْتِفاءً منهم بالأدلة الدَّالة على أنه حجةٌ في الشرع.
وأما قوله: كان الواجب أن يبحثوا عن حال الرُّواة... إلى آخره فهذا حق فقد كان الواجب أن يُفْعَل ذلك ولا وجْه لإهماله مع احتمال كذب من لم تُعْلَم عدالتُه.
وقال القرافي في شرح المحصول في هذا الأخير: إنما أهملوا ذلك لأن الدواعي متوفرة على الكذب في الحديث لأسبابه المعروفة الحامل للواضعين على الوضع، وأما اللغة فالدواعي إلى الكذب عليها في غاية الضعف، وكذلك كتب الفقه لا تكاد تجد فروعا موضوعة على الشافعي أو مالك أو غيرهما، وكذلك جَمَع الناس من السنة موضوعات كثيرة وجدوها ولم يجدوا من اللغة وفروع الفقه مثل ذلك ولا قريبا منه. ولما كان الكذب والخطأ في اللغة وغيرها في غاية الندرة اكتفى العلماءُ فيها بالاعتماد على الكتب المشهورة المُتَدَاولَة فَإنَّ شُهْرَتها وتداولها يَمْنَعُ من ذلك مع ضعف الداعية له فهذا هو الفرق. انتهى.
وأقول: بل الجوابُ الحقُّ عن هذا أن أهلَ اللغة والأخبار لم يُهْمِلُوا البحثَ عن أحوال اللغات وَرُوَاتها جَرْحًا وتعديلًا؛ بل فحصوا عن ذلك وبينوه كما بيّنوا ذلك في رُواة الأخبار ومَنْ طالَعَ الكتبَ المؤلفة في طبقات اللغويين والنُّحاة وأخبارِهم وجدَ ذلك.
وقد ألَّف أبو الطيب اللغوي كتابَ مراتب النحويين بيَّن فيه ذلك وميز أهل الصدق من أهل الكذب والوضع، وسيمرُّ بك في هذا الكتاب كثيرٌ من ذلك في نَوْع الموضوع ونَوْع معرفة الطبقات والثِّقات والضعفاءِ وغيرها من الأنواع.
وأما قول الإمام في القَدْح في كتاب العين فقد قدمت الجوابَ عنه في أواخر النوع الأول.
وفي الملخص في أُصول الفقه للقاضي عبد الوهاب المالكي: في ثبوت اللغة بأخبار الآحاد طريقان لأصحابنا: أحدُهما - أن اللغة تَثْبُتُ به لأنَّ الدليل إذا دلَّ على وجوب العمل به في الشرع كان في ثبوت اللغة واجبًا لأن إثْبَاتهَا إنما يُراد للعمل في الشرع. والثاني - لا تثبت لغةٌ بإخبار الآحاد.
وهذه أمثلةٌ من المتواتر مما تواتَر على أَلْسِنَةِ الناس من زمن العرب إلى اليوم وليس هو في القرآن من ذلك: أسماء الأيام والشهور والربيع والخريف والقَمْح والشعير والأرز والحَِمِّص والسِّمْسِم والسُّمَّاق والقَرْع والبِطِّيخ والمِشْمِش والتّفاح والكُمَّثْرَى والعُنَّاب والنَّبقْ والخَوْخ والبَلَح والبُسْر والخِيار والخَسُّ والنَّعْنَع، قال ابن دريد: الظاهر أنه عربي. والكُرَّاث والخَشْخَاش، قال الخليل: هو عربي صحيح. والخِرْبِز قال فيِ القاموس: [ الخربز بالكسر البطيخ ] عربي صحيح، وقيل: أصلُه فارسي. والزبد والسمن والعَسَل والدِّبْس والخَلّ والخُبْز والجُبْن والدَّقيق والنُّخَالة والدَّجاج والإوَزّ والنَّعام والحَمام والقُمْرِيّ والعَنْدَليب والكَرَوان والوَرَشان والوَطْوَاط والخُطَّاف والعُصْفُور والحِدَأَة وابن عِرْس والفَأْرَة والهِرَّة والعَقْرَب والخُنْفَسَاءُ والوَزغ والسَّرَطَان والضّفْدع والضَّبُعْ والفَهدْ والنَّمِر والثَّعْلَب والأرْنب والغَزَال والظّبْي والدُّب، قال ابن دريد: عربي صحيح. والزَّرَافة والسِّدْر والحِنَّاء والفَاغِية والزَّعْفَرَان. قال ابن دريد: عربي معروف. قال: والعُصْفُر عربي معروف تكلَّمت به العرب قديمًا. والزَّهرة وعُطَارد. قال ابن دريد: عربي فصيح. والشَّمَع والعَرُوس والقَمِيص والكُمّ والعِمامة والفَرْوَة والكَتَّان والمِنديل وفَصّ الخاتم والإزَار والمِئْزر والنَّعْل والقَوْس والنُّشَّاب والرُّمح والسَّيف والدِّرع والبَيْضَة والكلاب والخَيْزُرَان وَالقِنَّب ورَزَّة الباب والمَكْسُ والوَخشُ بمعنى الرُّذَال والرَّديء والصُّدَاع والإسهال والرَّمد واليَرَقان والاستسقاء والحُمَّى والوَبَاء والطَّاعون والجُدَري والحَصْبَة والجَرَب والجَذَام والدرَّة والرَّصَاص. قال ابن دريد: عربي صحيح. والبَلاط والمِدْمَاك ورَفّ البيت والدَّرْب وَالبِرْدَعَة والفأس والدَّلْو والقِدْر والرَّحى والعُكَّة والكُرّ والإرْدَبُّ. قال الأَخطل:
وَالخُبْزُ كالعَنْبَرِ الهِنْدِيّ عِنْدَهُم ** والقَمْحُ سَبْعُونَ إرْدَبًّا بِدينَارِ
والزَّبَرْجَد، قال في الجمهرة: عربي معروف. فكلُّ هذه الألفاظ عربيةٌ صحيحة متواتِرةٌ على أَلْسنَةِ الخلق من زَمن العرب إلى وقتنا هذا.
وثَمَّ ألفاظ شائعة على الألْسنة لكنها أعجمية الأصل تأتي في نوع المُعَرَّب.
وقال الثعالبي في فقه اللغة: فصل في سياقِه أسماء فارسيَّتُها مَنْسِيَّة وعربيتها مَحْكِيَّة مُسْتعمَلة:
الكَفُّ السَّاق الفَرّاشُ البزَّازُ الوزَّان الكَيَّال المسَّاحُ البَيَّاع الدَّلّال الصَّرَّاف البَقَّال [ الجمَّال ] الحمَّال القَصَّاب الفَصَّاد البَيْطَار الرَّائِض الطَّرَّاز الخَرَّاطُ الخيَّاط القَزَّاز الأَمِير الخليفَةُ الوزيرُ الحاجِبُ القاضي صاحبُ البريد صاحبُ الخبَر الوَكيل السَّقَّاء السَّاقي الشَّرَاب الدَّخْل الخَرْج الحَلال الحَرَام البَرَكة [ البِرْكة ] العِدَّة الصَّوابُ الخَطَأُ الغَلَط الوَسْوَسَةُ الحَسَدُ الكَسَادُ العَارِيَّةُ النَّصِيحة [ الفَضِيحة ] الصُّورة الطَّبيعة [ الند ] العادة الَبَخور الغَالية الخَلوق الحِنَّاء اللَّخْلَخة الجُبَّةُ [ الجثَّة ] المِقنَعَة الدُّرَّاعة الإزَار المُضَرَّبةُ اللِّحاف المِخَدّة [ النَّعْل ] الفَاخِتة القُمْرِي [ اللَّقلق ] الخطُّ القَلَم المِدَاد الحِبْر الكِتاب الصُّندوق الحُقَّة الرَّبْعَة [ المُقَدّمة ] السَّفَطُ الخُرْجُ السُّفْرَةُ اللَّهْوُ القِمَار الجَفَاء الوَفَاء الكُرْسيُّ القَنَص المِشْجَبُ الدَّوَاةُ المِرْفع القِنِّينَة الفَتيلة الكَلْبَتَانِ القُفْل الحَلْقة المِنْقلَة المِجْمَرَة المِزْرَاق الحَرْبَة الدَّبُّوس [ المِنْجَنِيق العَرَادة ] الرِّكاب العَلَم الطَّبْلُ اللِّوَاءُ الغَاشِيَة [ النصْلُ القُطري ] الجُلُّ البُرْقُع الشِّكالُ العِنَان الجَنِيبَة الغِذَاء الحَلْوَاء القَطَائف القَلِيَّةُ الهَرِيسَةُ العَصِيدَةُ المُزَوَّرَةُ الفَتِيتُ [ النُّقْل ] النِّطع [ العِلْم الطِّرَاز ] الرِّدَاء الفَلك المَشْرِق المَغْرِب الطَّالِع الشَّمَالُ الجَنُوب الصَّبَا الدُّبُور الأَبْلَه الأحْمَقُ النَّبيل اللَّطيف الظَّرِيف الجَلّاد السَّيَّاف العَاشِق [ الجَلّاب ]. هذا كلُّه كلام الثعالبي.
قد توقَّف ابن دريد في النَّدِّ، فقال في الجمهرة: المستعمل من هذا الطِّيب لا أحسبه عربيًا صحيحًا، وتوقَّف صاحب الصحاح في الدَّبُّوس فقال: بعد أن أنشد قول لقيط بن زُرَارة "لو سمعوا وقع الدبابيس": واحدها دبوس أراه مُعَرّبًا.
=========
النوع الرابع
معرفة المرسل والمنقطع
قال الكمال بن الأنباري في لمع الأدلة: المرسل هو الذي انقطع سنَدُه نحو أن يَرْويَ ابن دريد عن أبي زيد وهو غيرُ مقبول لأن العَدالة شرطٌ في قبول النَّقْل وانقطاعُ سَنَد النَّقْل يوجب الجَهْل بالعَدَالة فإن من لم يُذْكَر لا يُعرف عدالته وذهب بعضُهم إلى قَبُول المُرَسل لإن الإرسال صدَر ممن لو أُسند لقُبِل ولم يُتّهم في إسناده فكذلك في إرساله لأن التهمة لو تطرَّقت إلى إرساله لتطَرَّقت إلى إسناده وإذا لم يتهم في إسناده فكذلك في إرساله. قلنا: هذا اعتبار فاسد لأن المسند قد صُرِّح فيه باسم الناقل فأمكن الوقوف على حقيقة حاله بخلاف المرسل فبانَ بهذا أنه لا يلزم من قبول المُسْند قبولُ المرسل انتهى ما ذكره ابن الأنباري.
ومن أمثلة ذلك ما في الجمهرة لابن دريد: يقال فَسَأْتُ الثوبَ أفسؤه فسْأً إذا مَدَدتُه حتى يتفزَّر. وأخبر الأصمعي عن يونس قال: رآني أعرابي محتبيًا بطيلسان فقال: علام تفسؤه - ابن دريد لم يُدْرِك الأصمعي.
وقال ابن دريد في أماليه: أخبرنا الأشْنانْدَاني عن التَّوزي عن أبي عُبيدة قال: اجتمع عند يزيد بن معاوية أبو زُبَيد الطائي وجَميل بن مَعْمر العُذْري والأخطل التَّغْلبي فقال [ لهم ]: أيكم يصفُ [ لي ] الأسدَ [ صفة ] في غير شِعْر فقال أبو زُبَيد: أنا يا أمير المؤمنين، لونه وَرْد وزئير رَعْد - وقال مرة أخرى: زَغْد - ووثْبُه شَدّ وأَخْذه جِدّ وهَوْلُه شَدِيد وشرُّه عَتِيد ونَابُه حَدِيد وأنفُه أَخْثَم وخدّه أَدْرم ومِشْفَرُه أَدْلَم وكفَّاه عُرَاضَتان ووجْنَتاه ناتِئتان وعيناه وقَّادَتان وكأنهما لَمْحٌ بارق أو نجمٌ طارق إذا استقبلتَه قلتَ أَفْدَع وإذا استعرضتَه قلت أَكْوَع وإذا استدبرتَه قلت أَصْمَع بَصِير إذا استغْضَى هَمُوس إذا مَشَى إذا قَفَّى كَمَشَ وإذا جَرى طَمَش بَرَاثِينُه شَثنَة ومَفَاصِله مُتْرَصَة مُصْعِقٌ لقَلْبِ الجَبَان مُرَوِّع لماضي الجَنَان إذا قاسَمَ ظَلَم وإن كابَر دَهَمَ وإن نازل غَشَم ثم أنشأ يقول:
خُبَعْثِنٌ أَشْوَسُ ذو تَهَكُّمِ ** مُشْتَبِك الأنياب ذو تَبَرْطُمِ
وذُو أَهَاويلَ وذو تَجَهُّم ** ساطٍ على اللَّيث الهِزَبْر الضَّيْغَم
وعينُه مثل الشهاب المضرم ** وهامسه كالحجر المُلَمْلَم [1]
فقال: حسبك يا أبا زُبيد. ثم قال: قُلْ يا جميل فقال: يا أميرَ المؤمنين، وجهُه فَدْغم وشَدْقُه شَدْقَم ولُغْدُه مُعْرَنْزِم مُقَدَّمَه كثيف ومُؤَخَّرُه لطيف ووثْبُه خفيف وأخْذه عنيف عَبْل الذراع شديد النُّخَاع مُرْدٍ للسباع مُصْعِق الزَّئير شديد المَرِير أَهْرَت الشِّدْقين مُتْرَص الحَصِيرين يركب الأهوال ويَهتِصر الأبطال ويمنع الأشبال ما إن يزال جاثمًا في خِيس أو رابضًا على فَرِيس أو ذَا وَلْغٍ ونَهِيس، ثم قال:
ليْثُ عَرِينٍ صَيْغَمٌ غَضَنْفَرُ ** مُداخَلٌ في خَلْقِه مُضَبَّر
يُخَافُ من أنْيابه ويُذْعَرُ ** ما إن يزالُ قائمًا يُزَمْجِر
له على كلِّ السباع مَفْخَرُ ** قُضاقِض شَنْن البَنَان قَسْوَر
فقال: حسبُك يا بن مَعْمر، ثم قال: قلْ يا أخطل فقال: ضَيْغَمٌ ضِرغام غَشَمْشَم هَمْهَام على الأهوَال مِقْدَام وللأقران هَضَّام رِئْبال عَنْبس جَريء دلَهْمَس ذو صَدْر مُفَرْدَس ظلوم أَهْوَس لَيْث كَرَوَّس، ثم قال:
شَرَنْبَتُ الكَفَّيْن حامي أشْبُل ** إذا لَقَاه بَطَلٌ لم يَنْكَل
قُضَاقِضٌ جَهْمٌ شديد المَفْصِلَ ** مُضَبَّر الساعد ذو تَعَثْكُلِ
مُلَمْلَم الهامة كَمْشُ الأرجل ** ذو لِبَدٍ يغتال في تمهّلِ
أنيابُه في فِيه مثلُ الأَنْصُل ** وَعَيْنُهُ مثل الشِّهابِ المُشْعَل
فقال له: حسبُك وأَمَرَ لهم بجوائز.
هذا منقطع، أبو عبيدة لم يدرك يزيد.
هامش
في النسخ: المثلم، وهذه رواية الأمالي.
==========
النوع الخامس
معرفة الأفراد
وهو ما انْفَرَدَ بروايته واحدٌ من أهل اللغة ولم ينقله أحدٌ غيره وحكْمُه القبول إن كان المنفرّد به من أهل الضبط والإتقان كأبي زيد والخليل والأصمعي وأبي حاتم وأبي عبيدة وأضرابهم. وشرْطُه ألا يخالفه فيه من هو أكثر عددًا منه. وهذه نبذةٌ من أمثلته:
فمن أفراد أبي زيد الأوسي الأنصاري - قال في الجمهرة: المَنْشَبة: المال هكذا قال أبو زيد ولم يقله غيرُه.
وفيها: رجل ثَطّ ولا يقال أَثَطّ قال أبو حاتم: قال أبو زيد مرةً أَثَطّ. فقلت له: أتقول: أثط فقال: سمعتها والثَّطَط: خفَّة اللِّحية من العارضين.
وفي الصحاح: البِدَاوة: الإقامةُ في البادية يُفْتَح ويكسر، قال ثعلب: لا أعرف البَداوة بالفتح إلا عن أبي زيد وحْدَه.
ومن أفراد الخليل - قال في الجمهرة: الرَّتُّ الجمع رُتُوت وهي الخنازير الذكور ولم يجئ به غيرُ الخليل وقال: الحُضَض والحُضُض: دواءٌ معروف وذكروا أنَّ الحليل كان يقول الحُضُظ بالضاد والظاءِ ولم يعْرِفه أصحابُنا. وقال: يوم بُعَاث سمعناه من علمائنا بالعين وضمّ الباء، وذُكِرَ عن الخليل بغَين معجمة ولم يُسْمَع من غيره.
ومن أفراد يونس بن حبيب الضبي - قال في الجمهرة: الصِّنْتِيت بمعنى الصِّنْدِيد هكذا يقول يونس ولم يقلْه غيره.
ومن أفراد أبي الحسن الكسائي - قال ثعلب في أماليه: قال الكسائي: سمعت لجَبَة ولَجَبَات وَلجِبَة ولَجبَات فجاءَ بها على القياس ولم يحكها غيره.
وقال القالي في كتاب المقصور والممدود: السَّبَأُ على وزن جبل مقصور مهموز: الحمْرُ عن الكسائي ولم يَرْوِ هذا غيرُه.
ومن أفراد أبي صاعد: قال ابن السكِّيت في إصلاح المنطق والخطيب التبريزي في تهذيبه: يقال: لم يعطهم بَازِلة أي لم يعطهم شيئا وعن ابن الأنباري وحده بَارِلة بالراء والصوابُ بالزاي وقال الأصمعي: لم يجئ ببارلة غير أبي صاعد الكلابي ولم يَدْر ما هي حتى قلت له: أهي من بُرَائل الديك فقال: أَخْلق بها.
ومن أفراد أبي الخطاب الأخفش الكبير في الجمهرة: الجُثّ: ما ارتَفع من الأرض حتى يكون له شخص، مثل الأكيمة الصغيرة ونحوها، قال الشاعر:
وأَوْفَى على جُثٍّ ولِلَّيْلِ طُرَّةٌ ** على الأُفْق لم يَهْتِكْ جوانبَها الفَجْرُ
قال: وأحسب أن جثة الإنسان من هذا اشتقاقها، وقال قوم من أهل اللغة: لا نُسمى جُثَّة إلا أن يكون قاعدًا أو نائمًا، فأما القائم فلا يقال جثته إنما يقال قِمته، وزعموا أن أبا الخطاب الأخفش كان يقول: لا أقول جثة الرجل إلا لشخصه على سَرْج أو رَحْل ويكون معتمًّا؛ ولم يُسْمَع من غيره.
وفيها: ذُكِر عن أبي الخطاب الأخفش أنه قال: الخَفْخُوف: طائر. وما أدري ما صحَّته ولم يذكره أحدٌ من أصحابنا غيره.
ومن أفراد جمال الدين أبي مالك في الجمهرة قال أبو مالك: الجَمْش: الصَّوْت لم يجئ به غيره.
وفيها: قال أبو مالك جارية لَعَّة: خفيفة مليحة لم يجئ بها غيره والمعروف أن لَعَّ أُمِيت وأُلحق بالرباعي.
وفيها: حكى أبو مالك: الحُضْحُض: ضَرْب من النبت ولم يجئ به غيره.
وفيها: حكى عن أبي مالك أنه قال: الرَّطْرَاط: الماءُ الذي أَسْأَرَتْه الإبل في الحياض ولم يعرفه أصحابنا.
وفيها: أحسب أن أبا مالك قال: واحد الجناجين جُنْجُون وهذا شيء لا يُعْرَف والمعروف جِنْجِن وهي عِظام الصدر.
وفيها: ذكر أبو مالك: أنه سمع طعام بَرِيك في معنى مبارك [ فيه ].
وفيها: قال أبو مالك: الشِّنْقَاب: طائر ولم يجئ به غيره فإن كان هذا صحيحًا فإن اشتقاقه من الشَّقْب وهو صَدْعٌ ضَيِّق في الجبل والألف والنون زائدتان.
وفيها: قال أبو مالك: البُصْم: للْفَوْت بين الخِنْصر والبِنْصر ولم يجئ به غيره.
ومن أفراد أبي عبيدة - قال ابن دريد: قال أبو عبيدة: الدَّأْدَاء: ما استوى من الأرض ولم يجئ به غيره وقال: يوم الأرْبِعاء بكسر الباء وزعم قوم أنهم سمعوا الأربَعَاء بفتح الباء وأخبرنا أبو عثمان الأشْنَانْدَاني عن التَّوّزيّ عن أبي عبيدة الأَربُعَاء بالضم وزعم أنهم فصيحة.
ومن أفراد أبي زكريا الفراء - قال أبو عبيد في الغريب المصنف: قال الفراء: الثَّأْدَاء والدَّأْثاء: الأَمَة والسَّحَنَاء: الهيئة على فَعلاء بفتح العين ولم أسمع أحدًا يقول ذلك غيرُه والمعروف عندنا بجزم العين.
وفي الصحاح المَوْضَع بفتح الضاد لغة في الموضِع سمعها الفراء.
وفي شرح المقصورة لابن خالويه: الجَهَام: السَّحاب الذي قد هَرَاق ماءه ومثله الهِفّ والجُِلْب والسَّيّق والصُّرَّاد والنَّجْو والنِّجَاء والجَفْل والزِّعْبَج ذكره الفراء قال أبو عبيد: وأنا أنكر أن يكون الزعبج من كلام العرب والفراء عندي ثقة. انتهى.
ومن أفراد الأصمعي - قال فِي الجمهرة قال الأصمعي: سمعتُ العرب تقول: هم يَحْلُبون ويَحلِبون ولم يقل هذا غيرُ الأصمعي وقال: أرض قِرْواح وقِرْياح وقِرْحِيَاء ممدودة: قفراء ملساء قِرْحِياء لم يجئ به غيره.
وفي كتاب "ليس" لابن خالويه: لم يقل أحد من أصحاب اللغة قرياح وقِرْحِياء إلا الأصمعي قال في الجمهرة: ويقال: هسَّ الشيء إذا فتَّه وكسره والهسيس مثل الفَتُوت كذا قال الأصمعي وحدَه.
وفي الصحاح - قال الأصمعي: ما سَمِعْنا العام قابّة: أي صوت رَعْد. قال ابن السكِّيت: ولم يَرْو هذا الحرفَ أحدٌ غيره والناسُ على خلافه إنما يُقال: ما أصابتنا العام قابّة أي قَطْرة.
ومن أفراد أبي حاتم - في الجمهرة: كان أبو حاتم يقول: سمعتُ بعضَ مَنْ أثقُ به يقول: الكَيْكَة: البَيْضَة ولم يسمع من غيره.
ومن أفراد أبي عثمان الأشْنانداني: ذبيت شُفَتُه كما يقال ذَبّت بمعنى ذبلت من العَطَش ولم أسمعها من غيره. فإن كان هذا صحيحه منه اشتقاق ذُبْيان.
وفيها: يقال مُدْعَنْكر إذا تدرّأ بالسُّوء والفُحْش قال الشاعر:
قد ادْعَنْكَرت بالسُّوء والفُحْشِ والأَذى ** أُسَيْمَاء كادْعِنْكار سَيْلٍ على عمرو
قال ابن دريد: هذا البيتُ لم يعرفْه البَصريون وزعم أبو عثمان أنه سمعه ببغداد ولا أدري ما صحَّته.
أفراد جماعة
قال أبو عليّ القالي في أماليه قال أبو المياس: الفِجْرِم: الجَوْز قال: ولم أجد هذه الكلمة في كتب اللغويين ولا سمعتُها من أحد من أشياخنا غيره.
قال: وقال أبو نصر: الكَتيفة: بيضة الحديد ولا أعرف هذه الكلمة عن غيره.
قال: قولُ ذي الرمة:
ما بالُ عَيْنِك منها الماءُ يَنْسَكِبُ ** كأنه مِن كُلَى مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ
قال الأُمَوي: السَّرَب الخُرَز، وهو شاذ لم يَقُلْه أحدٌ غيرُه.
وقال أبو بكر بن الأنباري: الطَّخاء: الغيم الكثيف، ولم أسمع ذلك إلا منه، والذي عليه عامة اللغويين أن الطخاء الغيم الذي ليس بكثيف.
وفي أمالي ثعلب: قال أبو الحسن الطوسي: إن المشايخ كانوا يقولون: كل ما رأيتَه بعينك فهو عَوَج بالفتح وما لم تر بعينك يقال فيه عِوَج بالكسر وحكى عن أبي عمرو أنه قال في مصدر عَوِج عَوجًا بالفتح ويقال في الدِّين عِوَج وفي العصا والحائط عَوَج إلا أن تقول عَوِج عَوجًا حينئذ نفتح ولم يقل هذا غيرُ أبي عمرو من علمائنا وهو الثِّقة.
وفيها: يقال: ثوب شَبَارِق ومُشَبْرَق أي خَلَق وحكى أبو صفوان ثوب شَمَارق بالميم ومُشَمْرق ولم يعرفه أصحابُنا.
وفي شرح المقامات لأبي جعفر النحاس: حكى الأَخفش سعيد بن مسعدة: ناقةٌ بِلِزٌ للضخمة ولم يَحْكِه غيره.
وفي تهذيب التبريزي يقال: ما أصابتنا العام قطرة وقَابَّة بمعنى واحدة.
وقال الأصمعي: ما سمعنا لها العام رعدة وقَابَّة يُذْهب به إلى القَبِيب أي الصوت ولم يَرْوِ أحدٌ هذا الحرفَ غيره والناسُ على خلافه.
وفي المحكم: حكى القشيري عن أبي زيد جَنَقُونا بالمَنْجَنيق أي رَمَوْنا به لم أرها لغيره.
وفي كتاب العين التَّاسوعاء: اليوم التاسع من المحرّم.
وقال أبو بكر الزبيدي في كتاب الاستدراك على العَين: لم أسمع بالتَّاسوعاء وأهلُ العلم مختلفون في عاشوراء فمنهم من قال: إنه اليوم العاشر من المحرّم ومنهم من قال: إنه اليوم التاسع.
وقال القالي في كتاب المقصور والممدود قال اللحياني: يقال قعد فلان الأُرْبُعاء والأُبُعَاوى أي مُتَرَبِّعًا وهو نادر لم يأت به أحدٌ غيره.
فائدة - قد يُتَابَع المنفرد على روايته فيقوَى قال في الجمهرة: فلان مُزَخْلِبٌ إذا كان يَهْزَأُ بالناس هذا عن أبي مالك وذكر أيضا عن مَكْوَزة الأعرابي.
وقال ابن فارس في المُجْمَل: مَقَوْتُ السيفَ جَلَوْته، وكذلك المرآة؛ جاء بهما يونس وأبو الخطاب.
--فائدة
قال الجوهري في الصحاح: سائرُ الناس جميعُهم.
قال ابن الصلاح في مشكلات الوسيط: قال الأزهري في تهذيبه: أهلُ اللغة اتَّفقوا على أن معنى سائر الباقي ولا الْتِفات إلى قول الجوهري فإنه ممَّن لا يُقْبَل ما يَنْفَرِد به. انتهى.
وقد انتصر للجوهري بأنه لم ينفرد به، فقد قال الجواليقي في شرح أدب الكتاب: إن سائر الناس بمعنى الجميع، وقال ابن دريد: سائر الناس يقع على مُعْظَمِه وجُلِّه.
وقال ابن بري: يدلُّ على صحة قول الجوهري قول مضرّس:
فما حسنٌ أن يعذرَ المرءُ نفسَه ** وليس له من سائرِ الناسِ عاذرُ
في شواهد أُخَر.
فائدة
قال الجوهريُّ أيضا: تقولُ كان ذلك عامَ كذا وهلمَّ جرًّا إلى اليوم ذكر مثلَه الصَّغاني في عُبَابه وكذر ابن الأنباري هلمَّ جرًّا في كتاب الزاهر وبَسط القولَ فيه. قال الشيخ جمال الدين بن هشام في تأليف له: عندي توقّف في كون هذا التركيب عربيًا محضًا لأنَّ أئمةَ اللغةِ المعتمَد عليهم لم يتعرَّضوا له حتى صاحب المُحْكم مع كَثرة استيعابه وتتبّعه وإنما ذكره صاحب الصحاح. وقال الشيخ تقي الدين بن الصلاح في شرح مشكلات الوسيط: إنه لا يقبل ما تفرَّد به وكان علَّة ذلك ما ذكره في أوّل كتابه من أنه يَنْقُل من العرب الذين سمع منهم فإنَّ زمانَه كانت اللغة فيه قد فسدت وأما صاحب العُباب فإنه قلَّد صاحب الصحاح فنسَخ كلامه وأما ابن الأنباريِّ فليس كتابُه موضوعًا لتفسير الألفاظ المسموعة من العرب بل وضْعه أن يتكلم على ما يجري في محاورات الناس ولم يصرّح بأنه عربي هو ولا غيره من النُّحاة. انتهى.
وفي المحكم في مصنف ابن أبي شيبة عن جابر بن سمرة أنه ﷺ في جِنَازة ابن الدَّحْدَاح ركب فرسًا وهو يَتَقَوْقَس به [ ونحن حوله]. فسَّرَه أصحابُ الحديث أنه ضَرْبٌ من عَدْوِ الخيل، وبه سمّي المُقَوْقِس صاحبُ مصر. قال: ولم يذكر أحدٌ من أهل اللغة هذه الكلمة فيما انتهى إلينا.
==========
النوع السادس
معرفة من تقبل روايته ومن ترد
فيه مسائل:
الأولى
قال ابن فارس في فقه اللغة: تؤخذ اللغة سَمَاعًا من الرُّوَاة الثقاتِ ذوي الصِّدق والأمانة ويُتَّقَى المظنون فحدثنا علي بن إبراهيم عن المَعْدَاني عن أبيه عن معروف بن حسان عن الليث عن الخليل قال: إن النَّحَارير ربما أَدْخَلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادةَ اللَّبْسِ والتَّعْنيت. قال ابن فارس: فَلْيَتَحَرَّ آخذُ اللغةِ أهل الأمانة والصِّدْق والثِّقة والعَدالة فقد بلغنا من أمر بعض مَشْيَخة بَغْداد ما بَلَغَنا.
وقال الكمال بن الأنباري: في لُمَع الأدلّة في أُصول النحو: يُشْتَرط أن يكونَ ناقلُ اللغةِ عَدْلًا رَجلًا كان أو امرأة حرًّا كان أو عبدًا كما يُشْترط في نقل الحديث لأن بها معرفةَ تفسيره وتأويله فاشْتُرِطَ في نقلها ما اشتُرِط في نقله وإن لم تكن في الفضيلة من شكله فإن كان ناقُل اللغة فاسقًا لم يقَبل نقله.
الثانية
قال ابن الأنباري: يُقْبل نقْل العَدْل الواحد ولا يُشْترط أن يُوافِقَه غيرُه في النَّقل لأن الموافقة لا يخلو إما أن تُشْترط لحصول العلم أو لغَلبة الظَّن: بطل أن يُقال لِحُصُول العلم لأنه لا يحصلُ العلمُ بنَقْل اثنين فوجب أن يكونَ لغَلَبة الظنّ، وإذا كان لغَلَبة الظنَّ فقد حصلَ غلبةُ الظنّ بخبَرِ الواحد من غير مُوافقة وزعم بعضُهم أنه لا بد من نَقْل اثنين كالشهادة وهذا ليس بصحيح لأن النَّقْل مَبْنَاه على المُسَاهلة بخلاف الشهادة ولهذا يُسْمع من النساءِ على الانفراد مطلقًا ومن العبيد ويُقبل فيه العَنْعَنَة ولا يشترط فيه الدعوى وكلُّ ذلك معدوم في الشهادة فلا يُقاسُ أحدُهما بالآخر. انتهى.
ومن أمثلة ما رُويَ في هذا الفنّ عن النساء والعبيد: قال أبو زيد في نوادره: قلت لأعرابية بالعيون ابنة مائة سنة: ما لك لا تأتين أهل الزققة فقالت: إني أَخْزى أن أمشي في الزقاق؛ أي أستحي.
وقال أبو زيد: زعموا أن امرأةً قالت لابنتها: احفظي بيتك ممن لا تنشرين؛ أي لا تَعْرِفين.
وفي الجهمرة: قال عبد الرحمن عن عمه قال: سمعتُ أعرابيّة تقول لابنتها: همِّمي أصابعك في رأسي؛ أي حرِّكي أصابعك فيه.
وفي الجمهرة: المنيئة: الدِّباغ يُدْبغ به الأديم، والنَّفْس: كفٌّ من الدباغ:، قال الأصمعي: جاءت جاريةٌ من العرب إلى قوم منهم فقالت: تقول لكم مولاتي: أعطوني نَفْسًا أو نَفْسَين أمْعَس به مَنيئتي فإني أَفِدَة، أي مُسْتَعجلة.
وفيها: قال أبو حاتم: قلتُ لأم الهيثم: ما الوغد فقالت: الضعيف، فقلت: إنك قلت مرة الوغد: العبد، فقالت: ومن أَوغد منه.
وفي الغريب المصنف: قال الأصمعي أخبرني أبو عمرو بن العَلاء قال: قال لي ذو الرمة: ما رأيت أفصح من أمَة بني فلان قلت لها: كيف كان مطركم فقالت: غِثْنا ما شِئْنا.
الثالثة
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه: اعْتُمِد في العربية على أشعار العرب وهم كفار لبُعْدِ التَّدليس فيها كما اعتمد في الطب وهو في الأصل مأخوذ عن قوم كفار لذلك. انتهى.
ويُؤخذ من هذا أن العربي الذي يُحْتَجُّ بقوله لا يشترط فيه العَدَالة، بخلافِ رَاوي الأشعار واللغات. وكذلك لم يشترطوا في العربي الذي يُحتجّ بقوله البلوغ فأخذوا عن الصبيان.
وقال ابن دريد في أماليه: أخبرنا عبدُ الرحمن عن عمّه الأصمعي قال: سمعتُ صِبْية بحِمَى ضَرِيّة يتراجزون فوقفتُ وصدُّوني عن حاجتي وأقبلتُ أكتب ما أسمعُ إذ أقبل شيخٌ فقال: أتكتبُ كلامَ هؤلاء الأقزام الأدناع؟
وكذلك لم أرَهم توقوا أشعار المجانين من العرب بل رووها واحتجوا بها، وكتبُ أئمة اللغة مشحونة بالاستشهاد بأشعار قيس بن ذريح مجنون ليلى، لكن قال أبو محمد بن المعلى الأزدي في كتاب الترقيص: أخبرنا أبو حفص قال أخبرنا أبو بكر الثعلبي عن أبي حاتم قال: قال أبو العلاء العماني الحارثي: لرجل يرقّص ابنته:
محكوكة العينين معطاء القفا ** كأنما قدت على متن الصفا
تمشي على متن شِراك أعْجَفَا ** كأنما تَنشر فيه مُصحفا
فقلت لأبي العلاء: ما معنى قول هذا الرجل؟ قال: لا أدري، قلت: إن لنا علماء بالعربية لا يخفى عليهم ذلك، قال: فأْتهم، فأتيت أبا عبيدة فسألته عن ذلك فقال: ما أَطْلَعَني الله على عِلْم الغيب، فلقيتُ الأصمعي فسألتُه عن ذلك فقال: أنا أحسب أن شاعرها لو سئل عنه لم يَدْرِ ما هو، فلقيتُ أبا زيد فسألتهُ عنه فقال: هذا المرقص اسمه المجنون بن جندب وكان مجنونًا ولا يَعْرِف كلامَ المجانين إلا مجنون، أسألتَ عنه أحدا؟ قلت: نعم فلم يعرفه أحدٌ منهم.
الرابعة
قال ابن الأنباري: نقل أهل الأهواء مقبول في اللغة وغيرها، إلا أن يكونوا ممن يتدينون بالكذب كالخطابية من الرافضة، وذلك لأن المُبْتدع إذا لم تكن بدعتُه حاملةً له على الكذب فالظاهر صدقه.
الخامسة
قال الكمال بن الأنباري: المجهولُ الذي لم يُعْرف ناقله نحوُ أن يقول أبو بكر بن الأنباري: حدثني رجلٌ عن ابن الأعرابي غيرُ مقبول لأن الجهلَ بالناقل يُوجب الجهلَ بالعَدالة وذهب بعضُهم إلى قبوله وهو القائل بقبول المُرسَل قال: لأنه نَقْلٌ صدَر ممن لا يُتَّهم في نَقْله لأن التهمة لو تطرَّقت إلى نَقْله عن المجهول لتطرّقت إلى نَقْله عن المعروف. وهذا ليس بصحيح لأن النقل عن المجهول لم يصرَّح فيه باسم الناقل فلم يمكن الوقوفُ على حقيقة حَاله بخلاف ما إذا صُرّح باسم الناقل. فَبان بهذا أنه لا يلزم من قبول المعروف قبولُ المجهول هذا كلامُ ابن الأنباري في اللُّمع. وذكر في الإنصاف أنه لا يحتجّ بشعر لا يُعرَف قائلُه يعني خوفًا من أن يكون لمولّد فإنه أورد احتجاج الكوفيين على ذلك.
وذكر ابن هشام في تعليقه على الألفية مثله، فإنه أورد الشعر الذي استدل به الكوفيون على جواز مد المقصور للضرورة وهو قوله:
قد علمت أخت بني السِّعْلاء ** وعلمت ذاك مع الجزاء
أن نعم مأكول على الخَوَاءِ ** يا لَك من تَمْرٍ ومن شِيشَاءِ
يَنْشَبُ في المَسْعَل واللَّهَاءِ
وقال: الجواب عندنا أنه لا يُعلَم قائله فلا حجّة فيه؛ لكن ذكر في شرح الشواهد ما يُخَالفه فإنه قال: طعن عبد الواحد الطرّاح صاحب كتاب بغية الآمل في الاستشهاد بقوله: لا تكثرن إني عسِيتُ صائما وقال: هو بيتٌ مجهول لم يَنسبْه الشرَّاح إلى أحد فسقط الاحتجاج به.
قال ابن هشام: ولو صحَّ ما قاله لسقَطَ الاحتجاج بخمسين بيتًا من كتاب سيبويه فإن فيه ألف بيت قد عُرِف قائلوها، وخمسين مجهولة القائلين.
ومن أمثلة المجهولِ ناقله: قال أبو علي القالي في أماليه: أخبرَنا بعض أصحابنا عن أحمد بن يحيى أنه قال: حكي لنا عن الأصمعي أنه قيل له: إن أبا عبيدة يحكي وَقَع في رُوعي ووقع في جَخِيفي فقال: أما الرُّوع فنعم وأما الجَخيف فلا.
السادسة
التعديل على الإبهام: نحو أخبرني الثقةُ هل يُقبل فيه خلاف بين العلماء وقد استعمل ذلك سيبويه كثيرا في كتابه يَعني به الخليل وغيره وذكر المرْزُباني عن أبي زيد قال: كلُّ ما قال سيبويه في كتابه أخبرني الثقة فأنا أخبرته.
وذكر أبو الطيّب اللغوي في كتاب مراتب النحويين: قال أبو حاتم عن أبي زيد: كان سيبويه يأتي مَجْلسي وله ذُؤَابتان فإذا سمعته يقول: وحدثني مَن أثقُ بعربيته فإنما يريدُني.
وقال ثعلب في أماليه: كان يونس يقول: حدثني الثقة عن العرب، فقيل له: من الثقة؟ قال: أبو زيد، قيل له: فلم لا تسميه؟ قال: هو حي بعدُ فأنا لا أسميه.
السابعة
إذا قال: أخبرني فلان وفلان وهما عدلان احتج به؛ فإن جهل عدالة أحدهما أو قال فلان أو غيره لم يحتجّ.
مثال ذلك قال في الجمهرة: قال الأصمعي قال ابن دريد أحسبه يرويه عن يونس قال: سألتُ بعضَ العرب عن السَّبَخَة النَّشَّاشة فوصفَها لي ثم ظنَّ أني لم أفهم فقال: التي لا يجفّ ثراها ولا يَنْبُتُ مَرْعاها.
وقال في موضع آخرَ: أحسبه عن أبي مَهْدِيّة أو عن يونس وقال: أنشد الأصمعي عن أبي عمرو أو عن يونس:
عَدَانِي أن أزورَكِ أمَّ بَكْر ** دَيَاوِينٌ تَشَقَّقُ بالمِدَاد
يريد تشقيق الكلام، والدياوين جمع ديوان في لغة، وجمعوا على هذه اللغة ديباجًا على ديابيج.
وقال أبو علي القالي في أماليه: أنشدنا أبو بكر بن دريد قال أنشدنا أبو حاتم أو عبد الرحمن عن الأصمعي - الشك من أبي علي:
اقْرَأ على الوَشَل السَّلامَ وقُل له: ** كلُّ المَشَاربِ مُذْ هَجِرتَ ذَمِيمُ
سَقْيًا لِظلِّك بالعَشِيّ وبالضُّحَى ** ولِبَرْدِ مائكَ والمِيَاهُ حَمِيم
فرع
إذا سُئل العربي أو الشيخ عن معنى لفظٍ فأجاب بالفعل لا بالقول يكفي. قال في الجمهرة: ذكر الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: سألتُ ذا الرمة عن النَّضْنَاض فلم يزدني على أن حرّك لسانه في فيه. انتهى. قال ابن دريد يقال: نَضنَضَ الحيةُ [1] لسانه في فيه إذا حرَّكه وبه سمى الحية نَضْنَاضًا.
وقال الزجاجي في شرح أدب الكاتب: سُئل رُؤْبَة عن الشَّنَبِ فأراهم حبَّة رُمّان.
وقال القالي في أماليه: سُئل الأصمعي عن العارِضَين من اللحية، فوضَع يدَه على ما فوق العوارض من الأسنان.
هامش
الحية تذكر وتؤنث.
==========
النوع السابع
معرفة طرق الأخذ والتحمل
هي ستة:
أحدها - السماع من لفظ الشيخ أو العربي.
قال ابن فارس: تُؤْخَذ اللغة اعتيادًا كالصبيّ العربي يَسْمَعُ أبَوَيه وغيرَهما فهو يأخذُ اللغة عنهم على ممرِّ الأوقات، وتُؤْخَذ تَلَقُّنًا من مُلَقِّن، وتُؤْخذ سَماعًا من الرُّواة الثِّقَاتِ؛ وللمُتَحَمِّل بهذه الطرق عند الأداء والراوية صِيَغ: أَعْلاها أن يقولَ أَمْلَى عليّ فلانٌ أو أَمَلّ على فلان.
قال أبو علي القالي في أماليه: أَمْلى علينا أبو بكر بن دريد قال أنشدنا أبو حاتم عن أبي عبيدة لِخِرْنق بنت هَفَّان تَرْثي زوجَها عمرو بن مَرْثد وابنَها عَلْقَمَة بن عمرو وأخويه حَسَّانًا وشُرَحْبيل:
لا يَبْعَدَنْ قومي الذين همُ ** سمُّ العُداة وآفَةُ الجُزر
النازلون بكل مُعْتَرَك ** والطيِّبون مَعَاقِد الأُزر
قال: وأمْلى علينا أبو العهد صاحب الزجاج قال: أنشدنا أبو خليفة الفضل بن الحُباب الجُمَحي قال: أنشدنا أبو عثمان المازني للفرزدق:
لا خيرَ في حُبّ من تُرْجَى نَوَافِلُه ** فاسْتَمْطِرُوا من قريش كلَّ مُنْخَدِع
تَخَال فيه إذا ما جئته بَلَهًا ** في ماله وهْو وَافي العَقْلِ والوَرَع
قال القالي: أولُ كلمة سمعتها من أبي بكر بن دريد دخلتُ عليه وهو يُملي على الناس: العربُ تقول: هذا أَعْلَق من هذا أي أمرّ منه وأنشدنا:
نَهارُ شَراحيلَ بن طَوْدٍ يَرِيبني ** ولَيْلُ أبي لَيْلَى أَمَرُّ وأَعْلَقُ
أي أشدُّ مرارة.
ويلي ذلك سمعت: قال ثعلب في أماليه: حدثنا مَسلمة قال سمعت الفراء يحكي عن الكِسَائي أنه سمع اسْقِني شَرْبَة ما يا هذا يريد شربة ماء فقصر وأخْرجه على لفظ من التي للاستفهام وهذا إذا مضى فإذا وقف قال: شربة ماء.
وقال أبو حاتم سمع أبا زيد مائة مرة أو أكثر يقول: بَصَّصَ الجِر وبالياء إذا فتح عينيه، كذا في نوادر أبي زيد.
قال القالي: حدثني أبو بكر بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال سمعت أم الهيثم تقول: شِيرَة وأنشدَتْ:
إذا لم يكن فيكُنَّ ظِلٌّ ولا جَنًى ** فأبْعَدَكُنَّ الله من شِيرَاتِ
فقلتُ: يا أمَّ الهيثم صغِّريها. فقالت: شُيَيْرة.
وقال القالي حدثنا أبو بكر بن دريد حدثنا عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال: سمعتُ أعرابيًا يدعو لرجل فقال: جنَّبك الله الأمَرَّين وكفاك شرَّ الأجوفين وأذاقك البردين. قال القالي: الأمَرَّان: الفَقْر والعُري، والأجوفان: البَطْن والفرج، والبردان: برد الغنى وبرد العافية.
وقال القالي: حدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: سمعتُ أعرابيًّا من غَنِّيٍ يذكر مطرًا صاب بلادَهم في غِبِّ جَدْب فقال: تَدَارَكَ رَبُّكَ خَلْقَه وقد كَلِبت الأَمْحَال وَتَقَاصَرَت الآمال وَعَكَفَ اليَاس وكُظِمَت الأَنفاس وأصبحَ الماشي مُصْرِمًا والمُتْرب مُعْدِمًا وجُفِيت الحَلائِل وامْتُهنَت العقَائل فأَنْشَأَ سحابًا رُكامًا كَنْهورًا سَجَّامًا بُرُوقُه متألِّقَةٌ ورُعُوده مُتَقَعْقِعَة فَسَحَّ سَاجيًا راكِدًا ثلاثًا غير ذي فُواق ثم أمَرَ ربُّكَ الشَّمَالَ فَطَحَرَت رُكامه وفَرَّقَتْ جَهَامه فَانْقَشَع محمودًا وقد أَحْيَا وأَغْنى وجادَ فأَرْوى فالحمدُ لله الذي لا تُكَتُّ نِعَمه ولا نَنْفَدُ قِسَمُه ولا يَخِيبُ سَائِلُه ولا يَنْزُر نَائِله.
صاب: جاد. كَلِبت: اشتدَّت. كُظِمَتْ: رُدَّتْ إلى الأجواف. الماشي: صاحبُ الماشية. مُصْرمًا: مُقِلًّا. المُتْربُ: الغَنيُّ الذي له مالٌ مثل التراب. امْتُهِنَتْ: استُخْدِمت. العقَائل: الكرائم. الكَنَهْوَر: القِطَع كأنها الجبال واحدتها كَنَهْوَرة. سجَّام: صبَّاب. متألقة: لامِعَة. سحَّ: صبَّ. ساجيًا: ساكنًا. طَحَرَت: اذْهَبَتْ. الرُّكام: ما تَرَاكم منه. الجَهَام: السحاب الذي هَرَاق ماءه. تُكَتُّ: تُحصَى. يَنْزُزُ: بَقلُّ
ويلي ذلك أن يقول: حدثني فلان وحدثنا فلان ويستحسن حدثني إذا حدث وهو وحده، وحدثنا إذا حدث وهو مع غيره.
وقال ثعلب في أماليه: حدثنا ابن الأعرابي قال حدثني شيخٌ عن محمد بن سعيد الأمويّ عن عبد الملك بن عمير قال: كنتُ عند الحجّاج بن يوسف فقال لرجل من أهل الشأم: هل أصابك مطرٌ قال نعم أصابني مطر أسَال الآكام وأدْحض التلاع وخرق الرَّجْع فجئتك في مثل مَجَرِّ الضَّبع.
ثم سأل رجلًا من أهل الحجاز: هل أصابك مطر قال: نعم سقتني الأَسْمِية فغيبت الشِّفَار وأُطْفئت النار وتَشَكَّت النساء وتظالمت المِعْزى واحتلبت الدَّرَّة بالجرّة.
ثم سأل رجلًا من أهل فارس فقال: نعم ولا أحسِنُ كما قال هؤلاء، إلا أني لم أزل في ماءٍ وطين حتى وصلت إليك.
وقال حدثني أبو بكر الأنباري عن أبي العباس عن ابن الأعرابي قال: يقال: لَحَن الرجل يَلْحَن لَحْنًا فهو لاحِن: إذا أَخْطَأَ، ولَحِنَ يَلْحَن لَحَنًا فهو لَحِن: أصاب وفطن.
وقال ثعلب في أماليه: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب حدثنا أبو العالية قال: قلت للغنوي: ما كان لك بنَجْد قال: ساحات فِيح وعين هُزَاهِز واسعة مُرْتَكَض المحبر قلت: فما أَخْرَجَك عنها قال: إن بني عامر جعلوني على حِنْدِيرة أعينهم يريدون أن يحفظوا دَمِيَّةْ أي يقتلوني سرًا.
وقال: حدثنا عمر بن شيبة حدثنا إبراهيم حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت حدثنا محمد بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أول مَن قال: أما بعد كعب بن لؤي وهو أول مَن سمَّى يوم الجُمُعة الجمعة وكان يقال له العَرُوبة.
وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدثنا الحسن بن عُلَيل العَنزي قال حدثني مسعود بن بِشْر عن وهب بن جرير عن الوليد بن يسارٍ الخزاعي قال: قال عمرو بن معد يكرِب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين أأَبْرَامٌ بنو مَخْزُوم قال: وما ذاك قال: تضيَّفْتُ خالد بن الوليد فأتى بقَوْسِ وثَوْرٍ وكَعْبٍ. قال: إن في ذلك لَشَبْعَة. قلت: لِيَ أو لَكَ قال: لي ولك قال: حِلًّا يا أمير المؤمنين فيما تَقُول وإني لآكُلُ الجَذَع عن الإبل أَنْتَقِيه عَظْمًا عظمًا وأشرب التِّبْن من اللبن رثيئة وصَريفًا.
قال القالي: القَوْس: البقيَّة من التمر تبقى في الجُلَّة والثَّوْر: القطعة [ العظيمة ] من الأقِط والكَعْب: القطعة من السمن والعرب تقول: حلًّا في الأمر تَكْرَهُه بمعنى كَلّا والتِّبْن: أعظمُ الأقداح.
وقال القالي حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدثني أبي عن أحمد بن عبيد أنه قال: أحجم المرء عن الأمر، وأحجم إذا أقدم.
وقال القالي: حدثني أبو عمر الزاهد حدثنا أبو العباس ثعلب عن ابن الأعرابي: قال: العرب تقول ماء قَرَاح وخبَز قَفَار لا أدم معه وسويق جافّ وهو الذي لم يلَتّ بسمن ولا زيت وحنظل مُبَسَّل وهو أن يُؤكَل وحدَه.
وقال: حدثني غيرُ واحدٍ عن أصحاب أبي العباس ثعلب عنه أنه قال: كلُّ شيء يعزُّ حين ينزر إلا العلم فإنه يعزُّ حين يغزر.
وقال القالي: حدثنا أبو بكر بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن رواية كثير قال: كنت مع جرير وهو يريد الشأم [ فطرب ] فقال: أنشدني لأخي [ بني ] مُلَيح - يعني كثيرا - فأنشدتُه حتى انتهيت إلى قولهِ:
وأَدْنَيْتِني حتى إذا ما اسْتَبَيْتني ** بقولٍ يُحِلُّ العُصْمَ سَهْلَ الأَباطحِ
تولَّيْتِ عني حين لا لِيَ مَذْهَبٌ ** وغادرتِ ما غادَرْتِ بين الجوانِح
فقال: لولا أنه لا يَحْسن لشيخ مثلي النَّخِير لَنَخَرْتُ حتى يَسْمَع هشامٌ على سريره.
ويلي ذلك أخبرني فلان وأخبرنا فلان، ويُستحسن الإفراد حالَة الإفراد، والجمع حالة الجمع كما تقدم.
قال ثعلب في أماليه: أخبرنا أبو المنهال قال أخبرنا أبو زيد قال: السانح الذي يليك مَيَامِنه إذا مرَّ من طير أو ظبيٍ أو غيره والبَارِح الذي يليك مَيَاسِره إذا مرَّ بك وإن استقبلك فهو ناطِح وإن استدبرك استدبارًا فهو قَعِيد وإمرَّ مُعْتَرضًا قريبًا فهو الذابح وأنشد للخطيم:
بَرِيحًا وشرُّ الطيْر ما كان بارحًا ** بشَؤمِي يديه والشَّواحج بالفجر
يريد وشرها الشواحج بالفجر يريد الغِرْبان وقال في مصارد هذه الجواري وهي تمر به فيزجرها وكلها عندهم طائر في موضع الزجر وإن كان ظبيًا أو غيره: سَنَح يسْنَح سُنوحًا وسَنْحًا وبَرَح يبرُح بروحًا وبرحًا ونطح ينطح نَطْحًا وقَعِد الطائر مكسورة العين يقعد قعْدًا وذبح يذبح ذبحًا قال أبو زيد: وإنما قال الحظيم: بَرِيحًا على لَفْظِ سنيح وذبيح وقَعِيد.
ويلي ذلك أن يقول: قال لي فلان.
قال ثعلب في أماليه: قال لي يعقوب: قال لي ابن الكلبي: بيوتُ العرب ستةٌ: قُبَّة من أَدَمَ ومِظلَّة من شعر وخباءٌ من صوف وبجَادَ من وَبَر وخَيْمَة من شَجَر وأُقْنة من حجر.
ويلي ذلك أن يقول: قال فلان، بدون لي.
قال ثعلب في أماليه: قال أبو المنهال: قال أبو زيد: لستُ أقولُ: قالت العربُ إلا إذا سمعتُه من هؤلاء: بكر بن هوازن وبني كلاب وبني هلال أو من عالية السافلة أو سافلة العالية، وإلا لم أقل: قالت العرب.
قال: وعرضتُ قوله على الأخفش صاحب الخليل وسيبويه في النحو فجعل يقول: قال يونس: حدثني الثقة عن العرب، قلت له: من الثقة؟ قال: أبو زيد، فقلت له: فما لك لا تسميه قال: هو حي بعدُ فأنا لا أسميه.
وقال ثعلب: قال أبو نصر: قال الأصمعي: أشدُّ الناس الأعجف الضَّخم وأخبثُ الأفاعي أفاعي الجَدْب وأخبث الحيّات حيات الرِّمْت وأشد المواطئ الحصى على الصَّفا وأخبث الذئاب ذِئاب الغَضَى.
وقال القالي: حدثنا أبو محمد قال: قرأت على عليّ بن المهدي عن الزجاج عن الليث قال: قال الحليل: الجُعْسُوس: القبيح الئيم الخُلُق والخَلْق.
ونحو ذلك أو مثله أن يقول زعم فلان.
قال القالي في أماليه: قرأت على أبي عمر المطرّز حدثنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال: زعم الثقفي عثمان بن حفص أن خلفا الأحمر أخبره عن مروان بن أبي حفصة أن هذا الشعر لابن الدمينة الثقفي:
ما بَالُ من أَسْعَى لأجْبُرَ عَظْمَه ** حِفَاظًا ويَنْوي من سَفَاهَتِه كَسري
الأبيات...
وقال ثعلب في أماليه: حدثنا عمر بن شيبة حدثني محمد بن سلّام قال زعم يونس بن حبيب النحوي قال: صنع رجلٌ لأعرابي ثَرِيدة ثم قال له: لا تسقعها ولا تشرمها ولا تَقْعرها قال: فمن أين آكل لا أبالك قال ثعلب: تصقعها: تأكلُ من أعلاها وتَشْرمها: تخرقها وتَقْعرها تأكلُ من أسفلها قال ثعلب: وفي غير هذا الحديث: فمن أين آكل قال: كلْ من جَوانبها.
قال القالي: أخبرنا الغالبي عن أبي الحسن بن كيسان عن أبي العباس أحمد ابن يحيى قال: زعم الأصمعي أن الغَرْز لغة أهل البحرين وأن الغَرَز بالفتح اللغة العليا.
ويلي ذلك أن يقول عن فلان.
قال ثعلب في أماليه: قال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: قاتل الله أَمَّة بني فلان، سألتها عن المطر فقالت: غِثْنا ما شئنا.
وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر بن دريد حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: لقيتُ أعرابيًّا بمكة فقلت: مِمَّنْ أنت قال: أسدي. قلت: ومِن أيّهم قال نمري، قلت: من أيِّ البلاد قال: مِن عمان، قلت: فأنى لك هذه الفصاحة قال: إنَّا سكَنَّا أرضًا لا نَسْمَعُ فيها ناجخة التَّيار قلت: صِفْ لي أرضَك قال: سِيفٌ أفيح وفضاء ضَحْضَحْ وجَبل صَرْدَح ورمل أَصْبَح قلت: فما مالُك قال: النخل قلت: فأينَ أنتَ من الإبل قال: إن النَّخل حِمْلُها غذاء وسَعفها ضياء وجِذْعها بناء وكَرَبها صلاء وليفها رِشاء وخوصها وِعاء. قال القالي: الناجخة: الصوت والتيار: الموج والسِّيف: شاطئ البحر. وأفيح: واسع والفضاء الواسع من الأرض والضَّحْضَح: الصحراء والصَّرْدح: الصلب والأصبح: الذي يعلو بياضه حُمرة والرشاء: الحبل والقَرْو: وعاء من جذع النخل ينبذ فيه.
ومثل عن إن فلانا قال.
قال القالي في أماليه: حدثني أبو عمر الزاهد عن أبي العباس - يعني ثعلبًا - عن ابن الأعرابي أن غُلَيِّمًا من بني دُبَيْر أنشده:
يا بنَ الكِرام حَسَبًا ونَائلا ** حَقًّا ولا أقولُ ذاك باطلا
إليك أشكو الدَّهْرَ والزَّلازلا ** وكلَّ عامٍ نَقَّحَ الحَمَائلا
قال القالي: التنقيح: القَشر. قال: قشروا حمائلَ السيوف فباعوها لشدَّة زمانهم.
وقال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري رحمه الله أن أبا عثمان أنشدهم من التَّوَّزيَّ عن أبي عبيدة لأِعرابيٍّ طلَّق امرأته ثم ندم فقال:
نَدِمْتُ وما تُغْنِي الندامةُ بَعْدَما ** خرجنَ ثلاثٌ ما لهنَّ رُجُوع
ثلاث يُحَرِّمْنَ الحلال على الفتى ** ويَصْدَ عْنَ شَمْلَ الدار وهو جَمِيعُ
ومن غريب الرواية ما ذكره أبو العباس ثعلب في أماليه قال: الذي أحقه عن عبد الله بن شبيب أكثر وهمي، قال أخبرنا الزبير بن بكار عن يعقوب بن محمد عن إسحاق بن عبد الله قال: بينما امرأةٌ تَرْمي حَصَى الجِمار إذ جاءت حصاة فصكَّت يدها فَوَلْوَلَتْ وأَلْقَت الحصى، فقال لها عمر بن أبي ربيعة: تَعُودين صاغرة فتأخذين الحصى، فقالت: أنا والله يا عمر:
من اللاءِ لم يحججنَ يبْغِين حِسْبة ** ولكن لِيَقْتُلْنَ البريءَ المغَفَّلا
فقال: صانَ الله هذا الوجه عن النار.
ويقال في الشعر أنشدنا وأنشدني على ما تقدم.
قال القالي في أماليه: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري رحمه الله قال: أنشدنا أبو العباس بن مروان الخطيب لخالد الكاتب قال: وسمعت شعر خالد من خالد:
رَاعَى النجومَ فقد كادت تُكَلِّمُه ** وانْهَلَّ بَعْدَ دُموعٍ يَا لَهَا دَمُهُ
أَشْفَى عَلَى سَقَمٍ يُشْفَي الرَّقيبُ به لالو كان أَسْقَمَه مَنْ كان يَرْحَمُهُ
يَا مَنْ تَجَاهَلَ عَمَّا كَانَ يَعْلَمُهُ ** عَمْدًا وباحَ بِسِرٍّ كان يَكْتُمُهُ
هذا خَلِيلُك نِضْوًا لا حراكَ بهِ ** لم يَبْقَ من جسمه إلا تَوَهُّمُه
قال القالي: أنشدنا أبو بكر بن دريد قال أنشدني عبد الرحمن عن عمه [ الأصمعي ] قال أنشدتني عِشْرقَةُ المحاربية - وهي عجوز حَيْزَبون زَوْلَةٌ:
فما لَبسَ العُشَّاق من حُلَل الهَوَى ** ولا خَلَعُوا إلا الثِّيَابَ التي أُبْلي
ولا شربوا كأسا من الحب مُرّةً ** ولا حُلوةً إلا شرابُهم فَضلِي
جَرَيْتُ مع العُشَّاقِ في حَلْبَةِ الهَوَى ** فَفُقْتُهُمُ سَبْقًا وجئتُ على رِسْلِي
وقال القالي وأنشدني أبو عمرو [ الزاهد ] عن أبي العباس عن ابن الأعرابي:
لقد عَلِمَتْ سَمْراءُ أنَّ حديثَهَا ** نَجِيعٌ كما ماءُ السماءِ نَجِيعُ
إذا أمَرَتْني العَاذِلات بَصَرْمها ** أَبَتْ كَبِدٌ عما يَقُلْنَ صَدِيع
وكيف أُطِيعُ العاذِلاتِ وحُبُّها ** يُؤرِّقني والعاذِلاتُ هُجوع
قال القالي: أنشد ابن الأعرابي البيتين الأولين وأنشدنا أبو بكر بالإسناد الذي تقدم عن الأصمعي عن عشرقة البيت الثاني والثالث.
وقال ثعلب في أماليه: أنشدنا عبد الله بن شبيب قال: أنشدني ابن عائشة لأبي عبيد الله بن زياد الحارثي:
لا يَبْلُغُ المجدَ أقوامٌ وإن كَرُموا ** حتى يَذِلُّوا وإن عَزُّوا لأقوام
ويُشْتَمُوا فَترَى الألْوَانَ مُسْفِرَةً ** لا عَفْوَ ذلٍّ ولكن عَفْوَ أَحْلامَ
وقال الزجاجي في شرح أدب الكاتب: أنشدنا أبو بكر بن دريد: قال أنشدنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه، قال أنشدني أعرابي من بني تميم ثم من بني حنظلة لنفسه:
مَنْ تصدَّى لأخيه بالغِنى فهو أخُوه
يكرم المرء وإن أم لق أقْصَاه بَنُوه
لو رأى الناسُ نبيًا سائلًا ما وصَلُوه
وهم لو طمعوا في زَادِ كَلْب أكلوه
لا تراني آخرَ الدَّهْرِ بتسآل أفُوه
إن من يَسأل سوى الرحمن يكْثر حارمُوه
والذي قام بأرْزا قِ الورى طرًّا سلُوه
وعن الناس بفضل الله فاغنوا واحْمَدوه
تلْبَسوا أثوابَ عزّ فاسْمَعُوا قولي وَعُوه
أنتَ ما اسْتَغْنَيتَ عن صا حِبَك الدَّهْرَ أخوه
فإذا احتجتَ إليه ساعة مجَّك فُوه
اهْنأ المعروف ما لم تُبْتَذَلْ فيه الوُجُوه
إنما يَصْطَنِع المع روفَ في الناس ذَوُوه
وقد يستعمل في الشعر "حدثنا" و"سمعت" ونحوهما.
قال القالي: حدثنا أبو عبد الله [ إبراهيم بن محمد الأزدي المعروف بنفطويه ] قال: حدثنا أحمد بن يحيى: قال حدثنا عبد الله بن شبيب عن ابن مِقَمَّة عن أمه قالت: سمعتُ مَعْبدًا بالأخْشَبَيْن وهو يُغَنِّي:
ليس بين الحياةِ والموتِ إلا ** أن يَرُدُّوا جِمَالَهُمْ فَتُزَمّا
ولقد قلتُ مُخْفِيًا لِغَرِيضٍ: ** هل ترى ذلك الغَزالَ الأجَمَّا
هل تَرى فوقَه من الناس شخصا ** أحسنَ اليومَ صورةً وأتَمّا
إن تُنيلي أعِشْ بخيرٍ وإن لم ** تَبْدُ لِي الوُدَّ مُتُّ بالهمِّ غَمَّا
ثانيها - القراءة على الشيخ. ويقول عند الرواية: قرأت على فلان.
قال القالي في أماليه: قرأت على أبي بكر محمد بن أبي الأزهر قال: حدثني حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: حدثني أبي قال: قيل لعَقِيل بن عُلّفة وأراد سفرًا أين غَيْرتك على مَنْ تُخَلِّف مِنْ أهلك قال: أُخَلِّف معهم الحافِظِين: الجوعَ والعُرْيَ، أُجيعُهنَّ فلا يَمْرَحْن وأُعْرِيهن فلا يبْرَحن.
وقال: قرأت على أبي بكر محمد بن أبي الأزهر وقال حدثنا الشونيزي قال: حدثنا محمد بن الحسن المخزومي عن رجل من الأنصار نسي اسمَه قال: جاء حسان بن ثابت إلى النابغة فوجدَ الخنساءَ حين قامت من عنده فأنشد قوله:
أولاد جَفْنة حَولَ قبر أبيهم ** قبر ابن مارية الكريم المُفْضِل
يَسْقُونَ مَنْ ورَدَ البَريصَ عليهم ** بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ
يُغْشَوْن حتى لا تَهِرُّ كِلابهم ** لا يسألون عن السَّواد المُقْبلِ
الأبيات... فقال: إنك لشاعر وإن أُختَ بني سليم لَبَكَّاءَةٌ.
وقال القالي قرأت على أبي عمر الزاهد قال: حدثنا أبو العباس ثعلب عن ابن الأعرابي قال: الطاية والتاية والغاية والرَّاية والآية؛ فالطايةُ: السَّطْحُ الذي ينام عليه. والتَّاية: أن تَجْمَعَ بين رؤوس ثلاث شجرات أو شجرتين فَتُلْقى عليها ثوبًا فيستظلُّ به. والغاية: أقصى الشيء وتكون من الطير التي تُغَيي على رأسك أي ترفرف. والآية: العلامة.
وقال القالي: قرأت على أبي عمر الزاهد: قال حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال يقال: علَّ في المرض يَعِلُّ أي اعتلَّ وعلَّ في الشراب يَعِلُّ وَيعُلّ عَلًّا.
وقال القالي قرأت على أبي بكر بن دريد قال: قرأت على أبي حاتم والرياشي عن أبي زيد قال راجز من قيس:
بئس الغِدَاءُ للغلام الشاحبِ ** كَبْدَاء حُطَّتْ من صَفا الكَواكبِ
أدارها النَّقَّاش كلَّ جانبِ ** حتى اسْتَوَتْ مُشْرِقة المَناكب
يعني رحًى.
قال: وقرأت على أبي عمر عن أبي العباس عن ابن الأعرابي في صفة البعوض:
مِثْلُ السَّفاةِ دائمٌ طَنِينها ** رُكِّبَ في خُرْطُومها سِكِّينها
ويستعمل في ذلك أخبرنا.
رأيت القالي في أماليه يذكر في الرواية عن ابن دريد حدثنا، لأنه أخذ عنه إملاء، ويذكر عن أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش تارة أمْلى عليَّ فيما سمعه إملاءً عليه، وتارة أخبرنا فيما قرأه عليه وتارة قرئ عليه وأنا أسمع وقد يستعمل فيه حدثنا.
قال الترميسي في نكت الحماسة: حدثنا أبو العباس محمد بن العباس بن أحمد بن الفرات قراءة عليه: قال قرأت على أبي الخطاب العباس بن أحمد حدثنا أبو أحمد محمد بن موسى بن حماد اليزيدي: أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة أنبأنا عمر بن محمد بن عبد الرزاق بن الأقيصر قال: كان هريم بن مِرْداس أخو عباس بن مِرْداس يجاور إلى خراعة فذكر قصة وشعرًا.
فرع
ويجوز في القراءة والتَّحْديث تقديمُ المَتْن أو بعضِه على السَّند.
قال القالي في أماليه: قرأت على أبي عبد الله نِفْطَوَيه قال عثمان بن إبراهيم الخاطبي - فقال لي بعد أن قرأتُ قطعةً من الخبرَ فتبَيَّنه: حدثنا بها الخبر أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكَّار قال حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن عثمان بن إبراهيم الخاطبي قال: أتيت عمر بن أبي ربيعة فذَكر قِصَّةً طويلة وشعرًا وأشعارًا وقد كانت الأئمةُ قديمًا يتصدَّوْن لقراءة أشعار العربِ.
أخرج الخطيب البغدادي عن ابن عبد الحكم قال: كان أصحاب الأدَب يأتون الشافعي فيقرؤون عليه الشعرَ فيفسره وكان يحفظ عشرةَ آلاف بيت من شعرِ هُذَيل بإعرابها وغَرِيبها ومَعَانيها.
وقال السَّاجي: سمعتُ جعفر بن محمد الخوارزمي يحدِّث عن أبي عثمان المازني عن الأصمعي قال: قرأتُ شعرَ الشَّنفَرى عن الشافعي بمكة.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال: قلت لعمِّي: عَلَى مَنْ قرأتَ شِعْرَ هُذَيل قال: على رَجُلٍ من آلِ المطلب يقال له ابن إدْريس.
وقال ابن دريد في أماليه: أخبرنا أبو حاتم قال: جئت أبا عُبَيدة يومًا ومعي شعرُ عُرْوة بن الوَرْد فقال لي: ما مَعَك فقلت: شعر عروة. فقال: فارغٌ حَملَ شِعْر فقير ليقرأه على فَقِير.
وقال القالي: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: جلس كاملٌ المَوْصِليّ في المسجد الجامع يُقْرِئ الشعر فصَعِد مَخْلَدٌ الموصلي المنارَة وصَاح:
تأهّبوا للحَدَثِ النَّازلِ ** قد قُرِئ الشِّعْرُ على كامِل.
... في أبيات أُخر.
ثالثها - السماع على الشيخ بقراءة غيره. ويقول عند الرواية: قُرئ على فلان وأنا أسمع.
قال القالي: قرأتُ على أبي بكر بن الأنباري في كتابه وقرئ عليه في المعاني الكبير ليعقوب بن السكّيت وأنا أسمع فذكر أبياتًا وقال أنشدني أبو بكر بنُ الأنباري قال: قُرِئ على أبي العباس [ أحمد بن يحيى ] لأبي حيّةَ النُّمَيْرِي وأنا أسْمع:
وخَبَّرَكِ الوَاشُون أن لَنْ أُحبَّكم ** بَلَى وسُتُورِ اللهِ ذَاتِ المَحَارمِ
الأبيات.
وقال القالي: قُرِئ على أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش وأنا أسمع وذكر أنه قرأ جميعَ ما جاء عن أبي مُحَلِّم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين فذكر أبو جعفر أنه سَمِع ذلك مع أبيه من أبي محلّم قال أنشدني أبو محلم لخِنَّوْص أحد بني سعد:
ألا عائذٌ بالله من سَرَفِ الغِنَى ** ومن رَغبْة يومًا إلى غير مَرْغَب.
الأبيات.
وبهذا الإسناد عن أبي محلّم قال: أنشدني مَكْوَزَة وأبو مَحْضَة وجماعة من ربيعة لسَيَّار بن هُبَيرة يُعَاتب خالدًا أو زيادًا أخويه ويمدح أخاه مُنَخِّلًا:
تَنَاس هَوى أسماء إما نَأيْتَها ** وكيف تَناسِيك الذي لَسْت نَاسِيا.
القصيدة بطولها.
ويستعمل في ذلك أيضا أخبرنا قراءة عليه وأنا أسمع وأخبرني فيما قرئ عليه وأنا أسمع، وقد يستعمل في ذلك حدثنا.
رأيت الترميسي في شرح نكت الحماسة يقول: حدثنا فلان فيما قُرئ عليه وأنا أسمع والترميسي هذا متقدمٌ أخذَ عن أبي سعيد السِّيرافي وأبي أحمد العسكري وطبقتهما.
رابعًا - الإجازة وذلك في رواية الكتب والأشعار المدونة.
قال ابن الأنباري: الصحيحُ جوازُها لأن النبيِّ ﷺ كتب كُ